(جـ) ومما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ الزكاة من الأموال كلها، ظاهرة أو باطنة: ما رواه أبو عبيد والترمذي والدارقطني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عمر ساعيًا على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله. فقال: قد عجلتُ لرسول الله صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (صدق عمي؛ قد تعجلنا منه صدقة سنتين) (الأموال ص599، والحديث قد ورد من عدة طرق لم تخل من ضعف ولكن يقوي بعضها بعضًا. انظر فتح الباري: 3/214، وقد استدل الفقهاء بالحديث على جواز تعجيل الزكاة).
والمعروف أن العباس كان تاجرًا، ولم يكن ماله زرعًا وماشية.
( د ) وقد ورد حديث مشابه لذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث سعاته لجمع الزكاة فقال بعض اللامزين: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب، فخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكذب عن اثنين: عن العباس وخالد، وصدق على ابن جميل ومما قاله: (إنهم يظلمون خالدًا؛ إن خالدًا احتبس أدراعه وأعتُده في سبيل الله. وأما العباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي عليه ومثلها معها) وفي رواية: (فهي على ومثلها معها) (الأموال ص592-593، والحديث رواه أحمد والشيخان - نيل الأوطار: 4/149).
(هـ) يؤيد ذلك ما رواه أبو داود وغيره من حديث عليّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هاتوا ربع العشور، من كل أربعين درهمًا درهم) .. الحديث (انظر: معالم السنن: 2/188، 189 وتعليق ابن القيم على هذا الحديث في تهذيب سنن أبي داود. مع المصدر نفسه).
فقوله: (هاتوا) يدل على طلب الزكاة من النقود، وإعطائها للإمام.
( و ) وقد وردت الروايات الكثيرة: أن أبا بكر وعمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، كانوا يأخذون الزكاة من العطاء، وهي رواتب الجنود ومن في حكمهم من المرتبين في الديوان.(2/214)
كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا أعطى إنسانًا العطاء، سأله: هل لك مال؟ فإن قال: نعم، زكَّى ماله من عطائه، وإلا سلم له عطاءه.
وكان ابن مسعود يزكي أعطياتهم من كل ألف خمسة وعشرين (إذ كان مذهبه عدم اشتراط الحول في المال المستفاد)، كما بينا ذلك من قبل.
وكان عمر إذا خرج العطاء جمع أموال التجار، فحسب عاجلها وآجلها، ثم يأخذ الزكاة من الشاهد والغائب (مصنف ابن أبي شيبة: 4/44).
وعن قدامة قال: كنت إذا جئت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أقبض عطائي سألني: هل عندك من مال وجبت فيه الزكاة؟ فإن قلت: نعم، أخذ من عطائي زكاة ذلك المال، وإن قلت: لا، دفع إلىَّ عطائي (الأم للشافعي: 2/14 - طبع بولاق (الأولى).
( ز ) كما أن الفتاوى التي رويت عن ابن عمر وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- في وجوب دفع الزكاة إلى الأمراء وإن ظلموا، لم تفرق بين مال ظاهر ومال باطن.
رأي أبي عبيد ومناقشته:
وقد ذكر بعض العلماء دليلاً فرَّق به بين المالين: وذلك هو السنة العملية؛ إذ لم يصلنا نقل متواتر أو مشهور، يدل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث عماله ليأخذوا حصة بيت المال من هذه الأموال نقودًا كانت أو عروض تجارة، ويرسلوا بها إليه، أو يوزعوها على المستحقين بتفويض منه، كما صنع في الأموال الظاهرة الأخرى.
ولهذا ذهب من ذهب من الأئمة إلى جواز دفع صدقة هذا المال الباطن إلى السلطان أو تفريقها بنفسه، بشرط أن يتقي الله ويضعها مواضعها، ولا يحابي بها أحدًا، أي الأمرين فعله صاحبه كان مؤديًا للفرض الذي عليه.
قال أبو عبيد: "وهذا عندنا هو قول أهل السنة والعلم من أهل الحجاز والعراق وغيرهم في الصامت (الذهب والفضة والعروض) لأن المسلمين مؤتمنون عليه، كما ائتمنوا على الصلاة.(2/215)
"وأما المواشي والحب والثمار فلا يليها إلا الأئمة. وليس لربها أن يغيبها عنهم، وإن هو فرَّقها ووضعها مواضعها فليست قاضية عنه، وعليه إعادتها إليهم؛ فرَّقت بين ذلك السنة والآثار.
"ألا ترى أن أبا بكر الصديق إنما قاتل أهل الردَّة في المهاجرين والأنصار على منع صدقة المواشي، ولم يفعل ذلك في الذهب والفضة"؟ (الأموال ص573).
ثم ذكر أبو عبيد جملة آثار استدل بها على أن الأفراد هم الذين يتولون إخراج زكاة مالهم الباطن بأنفسهم.
والمتأمل في هذه الآثار التي ذكرها أبو عبيد في جواز تفريق الشخص زكاة ماله الباطن بنفسه وعدم دفعها إلى السلطان، يجدها في الحقيقة استثناء من الأصل، دفعهم إلى الإفتاء به ما رأوا من انحراف بعض الحكام عن سنة الرسول وخلفائه الراشدين، ولهذا لم يظهر هذا القول إلا بعد الفتن السياسية التي خيم ظلامها على المجتمع الإسلامي، منذ عملت الدسائس اليهودية عملها - بقيادة ابن سبأ وأمثاله - حتى قُتل عثمان رضي الله عنه.
فقد روى أبو عبيد بسنده عن ابن سيرين قال (الأموال ص567 وما بعدها). "كانت الصدقة ترفع - أو قال تدفع - إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن أمر به، وإلى أبي بكر أو من أمر به، وإلى عمر أو من أمر به، وإلى عثمان أو من أمر به، فلما قُتِل عثمان اختلفوا: فكان منهم مَن يدفعها، ومنهم من يقسمها، وكان ممن يدفعها إليهم ابن عمر".
وهذا هو المشهور عن ابن عمر الذي قال: (ما أقاموا الصلاة فادفعوها إليهم). وبعض الروايات عنه لم تقيد بهذا القيد، بل قال لمن استفتاه في زكاته: (ادفعها إلى الأمراء وإن توزعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم)، وقال لآخر: (ادفعها إليهم. وإن اتخذوا بها ثيابًا وطيبًا).(2/216)
ولكن بعض الروايات أفاد أنه رجع عن قوله هذا، وقال: ضعوها في مواضعها (المرجع السابق). وناقشه صديق له فقال: ما ترى في الزكاة؟ فإن هؤلاء لا يضعونها مواضعها؟ فقال ابن عمر: ادفعها إليهم. فقال الرجل: أرأيت لو أخروا الصلاة عن وقتها؛ أكنت تصلي معهم؟ قال: لا. قال: فهل الصلاة إلا مثل الزكاة؟ فقال ابن عمر: لبّسوا علينا لبَّس الله عليهم)! (المرجع نفسه). وهذا يُعد تسليمًا بوجهة نظر الرجل.
وكذلك جاء عن إبراهيم النخفي والحسن البصري قالا: "ضعها مواضعها واخفها" (نفس المرجع). أي عن الولاة.
وعن ميمون بن مهران قال: اجعلها صررًا، ثم اجعلها فيمن تعرف، ولا يأتي عليك الشهر حتى تفرقها.
وعن أبي يحيى الكندي قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة، فقال: ادفعها إلى ولاة الأمر. فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر، وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا !! فقال: ضعها حيث أمرك الله. سألتني على رؤوس الأشهاد، فلم أكن لأخبرك (الأموال - المرجع السباق).
فهذه الآثار والفتاوى -وهي التي استند إليها أبو عبيد- قد دلت على ما قلناه: أنها صدرت إبان سخط الضمير الإسلامي على بعض ولاة الحكم الأموي، وانحراف كثير منهم عن النهج الذي جربه الناس في عهد الراشدين.
على أنه إذا صحت التفرقة بين المالين في السنة النبوية، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يرسل سعاته لأخذ الزكاة من المال الباطن أو الصامت - كما يسمى - فإن ذلك كان لسببين:
1- أن الناس كانوا يأتون بها طائعين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدافع الإيمان والرغبة في أداء الواجب إرضاءً لله تعالى.
2- وأن حصر هذا النوع من المال كان غير ممكن إلا لأصحابه، فتركت زكاته وإخراجها لذممهم وضمائرهم التي أحياها الإسلام.(2/217)
وكذلك استمر الأمر في عهد الخليفة الأول أبي بكر -رضي الله عنه- . أما في خلافة عمر بن الخطاب، فقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، واقتضاه ذلك أن ينظم الشئون المالية، ويدوِّن الدواوين، ويقيم نظامًا رائعًا للتكافل الاجتماعي، حتى فرض لكل مولود في المجتمع الإسلامي راتبًا. وحتى شمل ذلك التكافل أهل الذمة مع المسلمين، ومثل هذا النظام يحتاج - ولا شك - إلى تمويل ضخم، وموارد غزيرة.
فلا عجب إذا رأينا عمر -رضي الله عنه- يكلف عماله أن يجمعوا الزكاة من الأموال كلها ظاهرة وباطنة، ولا يتركوها في الباطنة لأصحابها يقدمونها بأيديهم مختارين. وكل هذا تعزيز لميزانية التكافل، وتقوية لبيت مال المسلمين.
وضع عمر لذلك نظام المحصلين المعروفين باسم "العاشرين". وإنما سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يأخذون العُشر من تجار أهل الحرب (مثلما كانوا يأخذون من تجار المسلمين) ويأخذون نصف العُشر من تجار أهل الذمة (وفق ما صالحهم عليه عمر) ويأخذون ربع العُشر من تجار المسلمين (وهو مقدار الواجب في زكاة التجارة). وذلك وفق تعليمات عمر لهم (انظر: الأموال ص531 وما بعدها). فأخذهم يدور على "العُشر" ونصفه وربعه.
واعتبر العلماء عمل الفاروق -رضي الله عنه- رفقًا بأصحاب الأموال الباطنة الذين بعدت ديارهم عن حاضرة الخلافة الإسلامية؛ إذ يشق عليهم أن يحملوا زكاة أموالهم إلى دار الخلافة، فأقام لهم العاشرين لجمعها.
وقد استمرت الزكاة تُجمع بواسطة الإمام ونوابه من الأموال الظاهرة والباطنة، وإن اختلفت طريقة عمر عن طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخليفته أبي بكر، وبالنظر للأموال الباطنة، لاتساع رقعة الدولة.(2/218)
فلما جاء عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كانت موارد بيت المال من الفيء والغنائم والخراج والجزية والعشور والصدقات قد بلغت أرقامًا هائلة، بعد ما أفاء الله عليهم من الفتوح، وأفاض عليهم من الثروات، فرأى عثمان أن يجمع الزكاة من الأموال الظاهرة فحسب، وأما الأموال الباطنة فيدع أمرها إلى أربابها يؤدون - تحت مسئوليتهم - زكاتها بأنفسهم، ثقة منه بأمانة الناس ودينهم، وإشفاقًا عليهم من عنت التحصيل والتفتيش، وتوفيرًا لنفقات الجباية والتوزيع. وكان ذلك اجتهادًا منه -رضي الله عنه-، وإن أدى ذلك - فيما بعد - إلى إهمال كثير من الناس للزكاة في أموالهم الباطنة، لما رقّ دينهم، وقلَّ يقينهم.
وقد فسَّر بعض الفقهاء ذلك بأن أمير المؤمنين عثمان أناب عنه أصحاب الأموال الباطنة في أداء زكاتها. وفي هذا يقول الكاساني في "البدائع":
"كان يأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى زمن عثمان -رضي الله عنه- فلما كثرت الأموال في زمانه رأي المصلحة في أن يفوِّض الأداء إلى أربابها، بإجماع الصحابة، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام. ألا ترى أنه قال: (من كان عليه دين فليؤده وليزك ما بقي من ماله) فهذا توكيل لأرباب الأموال بإخراج الزكاة، فلا يبطل حق الإمام. لهذا قال أصحابنا: إن الإمام إذا علم من أهل بلد أنهم يتركون أداء الزكاة فإنه يطالبهم بها" (بدائع الصنائع: 2/7).
ومن هذا يتبين أن الأصل العام هو: أن الإمام هو الذي يجمع الزكوات من الأموال الظاهرة والأموال الباطنة، وأنه لما صعب جمعها من الأموال الباطنة في عهد عثمان، وكانت أموال بيت المال بكل أقسامه مكدسة فيه تركها لأربابها يؤدونها بالنيابة عنه، فإذا أخلوا بواجب النيابة ولم يؤدوا حق الله في مالهم، تولى الإمام الجمع بنفسه، كما هو الأصل.
من يتولى أمر الزكاة في عصرنا؟(2/219)
تعرض لهذه المسألة شيوخنا الأجلاء: عبد الوهاب خلاف، وعبد الرحمن حسن، ومحمد أبو زهرة - رحمهم الله - وذلك في محاضرتهم عن الزكاة بدمشق سنة 1982، التي نظمتها الجامعة العربية. قالوا:
قد تعين الآن أن يتولى ولي الأمر جمع الزكاة من كل الأموال الظاهرة والباطنة، لسببين:
أولهما: أن الناس تركوا أداء الزكاة في كل الأموال ظاهرها وباطنها؛ فلم يقوموا بحق الوكالة التي أعطاها لهم الإمام عثمان بن عفان ومن جاء بعده من الأمراء والولاة، وقد قرر الفقهاء أن ولي الأمر إن علم أن أهل جهة لا يؤدون الزكاة، أخذها منهم قهرًا، لا فرق في ذلك بين مال باطن ومال ظاهر، وعلى ذلك فقد زالت الوكالة، ووجب الأخذ بالأصل، والسير على ما قرره الفقهاء.
ثانيهما: أن الأموال صارت كلها ظاهرة تقريبًا؛ فالمنقولات التجارية تحصى كل عام إيراداتها، ولكل تاجر صغير أو كبير سجل تجاري تحصى فيه أمواله، وتعرف فيه الخسارة والأرباح، فالطرق التي تعرف بها الأرباح لتفرض عليها ضرائب الحكومة تعرف أيضًا لتفرض على رأس المال وعليها فريضة الزكاة، التي هي حق الله وحق السائل والمحروم. أما النقود، فأكثرها مودع بالمصارف وما يشبهها. وعلمها بهذه الطريقة سهل ميسور والذين يودعون نقودهم بطون الأرض ليسوا في الحقيقة من أهل اليسار الفاحش، وعددهم يقل الآن شيئًا فشيئًا. فليُترك أمر هؤلاء إلى دينهم.(2/220)
"ولقد قرر الفقهاء في حال الخضوع لقرار الإمام عثمان -رضي الله عنه- : أنه في حال ظهور الأموال الباطنة، يؤخذ منها الزكاة بعمال الإمام، ولذلك كان عمل العاشرين قائمًا مع الأخذ بقرار عثمان؛ لأنهم كانوا يأخذون الزكاة عند انتقال النقود وعروض التجارة من بلد إلى بلد، إذ بذلك كانت تعتبر ظاهرة لا باطنة، فكانوا يأخذونها عند الانتقال، إلا إذا أقام الممول الدليل على أنه أعطاها للفقراء، أو أعطاها لعاشر آخر في هذا العام" (حلقة الدراسات الاجتماعية للجامعة العربية - الدورة الثالثة - بحث "الزكاة").
وهذا الكلام من الوضوح وقوة الدليل بحيث لا يحتاج إلى تعليق.
ومن هنا يجب على كل حكومة إسلامية أن تنشئ "مؤسسة" أو "إدارة" خاصة تتولى شئون الزكاة تحصيلاً وتوزيعًا، فتأخذها من حيث أمر الله، وتصرفها حيث أمر الله، كما وضحنا ذلك في مصرف "العاملين عليها" في باب "مصارف الزكاة".
ولكني أرى أن تُترك نسبة معينة من الزكاة الواجبة كالربع أو الثلث، لضمائر أرباب المال يوزعونها بمعرفتهم واختيارهم على المستورين من أقاربهم وجيرانهم، قياسًا على أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للخارصين أن يدعوا الثلث أو الربع لأرباب المال، ليصرفوا زكاته بأنفسهم على أحد التفسيرين. وبذلك نكون قد أخذنا بخير ما في الطريقتين، وجمعنا بين الحسنيين وراعينا الاعتبارات التي ذكرها الحنابلة في استحباب تفرقة المالك لزكاته بنفسه.
وهذا كله بالنظر إلى الحكومة الإسلامية، وهي التي تلتزم الإسلام أساسًا لحكمها، ودستورًا لدولتها، ومنهاجًا لجميع شئونها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإن خالفت حكم الشرع في بعض الأحكام الجزئية كما سنبين ذلك قريبًا.(2/221)
أما الحكومة التي ترفض الإسلام أساسًا للدولة، ودستورًا للحكم، وتحكم بغير ما أنزل الله، مما تستورده من مذاهب الغرب أو الشرق. فهذه لا يجوز لها أن تأخذ الزكاة، وإلا استحقت وعيد الله تعالى إذ قال: (أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلكَ مِنكُمْ إلا خزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أشَدِّ العَذَابِ، ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85).
أقوال المذاهب فيمن كتم الزكاة أو امتنع منها أو ادعى أداءها
ومما يؤكد مسئولية الدولة عن الزكاة: ما قرره فقهاء المذاهب الإسلامية كافة من عقوبة الممتنع عن الزكاة، وأخذها منه بالقهر إن لم يدفعها طوعًا واختيارًا. وما فصَّله بعضهم من القول فيما إذا ادعى عدم ملك النصاب أو سقط الزكاة عنه أو نحو ذلك.
عند الحنفية:
فعند الحنفية: من طلب منه العاشر زكاة ماله - إذا مرّ به عليه - فقال: لم يتم له حوْل، أو قال: علىَّ دَيْن محيط أو منقص للنصاب، أو قال: أديتُ إلى عاشر آخر، وكان هناك عاشر آخر محقق، طلب منه اليمين، فإذا حلف صدّق. وفي رواية: اشتراط أن يخرج براءة خطية بالدفع إلى عاشر آخر، وردوا هذه الرواية بأن الخط يشبه الخط (ثبت في عصرنا أن الخطوط - وإن كانت تتشابه في الظاهر - تتمايز في الواقع، فكل كاتب له خطه الذي يميزه، ولذلك دلائل وأمارات يعرفها أهل الاختصاص من خبراء الخطوط. والأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن، وقد أصبح اعتماد الكتابة والخط في عصرنا أمرًا لا بد منه. كما أن السلطات تمنح موظفيها أختامًا معتمدة. وللمزورين عقوبات صارمة). وقد يُزوَّر. وقد لا يأخذ البراءة غفلة منه، وقد تضيع بعد الأخذ، فلا يمكن أن تجعل حكمًا، فيعتبر قوله مع يمينه.
وإذا حلف وظهر كذبه - ولو بعد سنين - أخذت منه الزكاة؛ لأن حق الأخذ ثابت، فلا يبطل باليمين الكاذبة.(2/222)
ولو قال للعاشر إذا طلب منه الزكاة: قد أديتها بنفسي إلى الفقراء في البلد، وحلف على ذلك صدَّق. إلا في زكاة الأنعام؛ لأن حق الأخذ فيها للسلطان، فلا يملك إبطاله. وكذلك الأموال الباطنة إذا أخرجها من البلد؛ لأنها بإخراجها التحقت بالأموال الظاهرة، فكان الأخذ فيها للإمام أو مَن ينوب عنه (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 2/42-43- طبع الميمنية).
ومثل ذلك الخارج من الأرض من زرع وثمر، فهو من الأموال الظاهرة (يلاحظ أن أكثر الحنفية ينظرون إلى العُسر كأنه شيء غير الزكاة، لأنه ليس بعبادة محضة وفيه معنى مؤنة الأرض أي أجرتها، ولا يشترط فيه حولان الحول اتفاقًا، ولا النصاب عند أبي حنيفة ولهذا يؤخذ من التركة ولو لم يوصي به، ويجب مع الدين، وفي أرض الصغير والمجنون والوقف، ولهذا قالوا: إن تسميته زكاة مجاز. وبعضهم قال: هو زكاة على قول الصاحبين فقط، ورد ذلك المحقق ابن الهمام وقال: لا شك أنه زكاة، كما ذكرنا ذلك في زكاة الثروة الزراعية ص367 والصحيح ما أدناه غير مرة: أن الزكاة: كلها ليست عبادة محضة، ولذا تجرى فيها النيابة، وتؤخذ قهرًا. وتجب - على المختار - في مال الصبي والمجنون ... إلخ). ولذا كان للإمام أخذ العُشر منه جبرًا. ويسقط الفرض عن صاحب الأرض، كما لو أدى بنفسه، إلا أنهم قالوا: إذا أدى بنفسه يثاب ثواب العبادة، وإذا أخذه الإمام يكون له ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى (المصدر السابق ص54).
عند المالكية:
من امتنع عن أداء الزكاة أخذت منه كرهًا، إذا كان له مال ظاهر، وعزِّر. فإن لم يكن له مال ظاهر. وكان معروفًا بالمال، فإنه يُحبس حتى يظهر ماله، فإن ظهر بعضه، واتهم في إخفاء غيره. فقال مالك: يصدق ولا يحلف: أنه ما أخفى، وإن اتهم. وأخطأ مَن يحلَّف الناس.(2/223)
وإن لم يمكن أخذها منه إلا بقتال قاتله الإمام، ولا يقصد قتله، فإن اتفق أنه قتل أحدًا قُتل به، وإن قتله أحد كان هدرًا (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/503).
عند الشافعية:
وعند الشافعية قال صاحب "المهذب": "من وجبت عليه الزكاة وامتنع من أدائها نظرت:
"فإن كان جاحدًا لوجوبها فقد كفر، وقتل بكفره، كما يُقتل المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله -تعالى- ضرورة، فمن جحد وجوبها، فقد كذَّب اللَّه، وكذب رسوله، فحكم بكفره.
"وإن منعها بخلاً بها أخذِت منه وعُزِّر.
"وقال الشافعي في القديم: تؤخذ الزكاة وشطر ماله، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد فيها شيء) (الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقد تقدم الكلام عليه في الباب الأول ص94، 95. وقد رواه الحاكم أيضًا في المستدرك: 1/398 وصحح إسناده ووافقه الذهبي، وقال يحيى بن معين: إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة، وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال: ما أدري وجهه، وسئل عن إسناده فقال: صالح الإسناد، وقال أبو حاتم: بهز لا يُحتج به، وقال ابن حبان: لولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وقال ابن حزم: غير مشهور بالعدالة، وقال ابن الطلاع: مجهول؛ وتعقبا بأنه قد وثقه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا، وقال الذهبي: ما تركه عالم قط، وإنما توقفوا في الاحتجاج به. وقد تُكلمِ فيه أنه كان يلعب بالشطرنج. قال ابن القطان: وليس ذلك بضائر له. فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة، وقال البخاري: يختلفون فيه، وقال ابن كثير: الأكثر لا يحتجون به، وقال الحاكم: حديثه صحيح، وقد حسَّن له الترمذي عدة أحاديث، ووثقه واحتج به أحمد، وإسحاق، والبخاري خارج الصحيح، وعلق له، وروى عن أبي داود أنه حجة عنده.(2/224)
انظر نيل الأوطار: 4/122- طبع العثمانية وتهذيب التهذيب: 1/498-499 ترجمة (924). وميزان الاعتدال: 1/353-354 ترجمة (1324). والصحيح هو الأول.
"وإن امتنع (أي مَن بخل بالزكاة) بمنعة، قاتلهم الإمام؛ لأن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قاتل مانعي الزكاة" أ هـ. (انظر: المهذب وشرحه "المجموع" :5/331-332).
الإجماع على تأديب الممتنع وأخذها منه قهرًا:
والحكم الأول - وهو الحكم بكفر من منع الزكاة جاحدًا لوجوبها، وقتله مرتدًا - مجمع عليه، بشرط ألا يكون ممن يعذر مثله كأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن أمصار المسلمين. كما ذكرنا في الباب الأول. وكذلك الحكم الثاني، وهو أخذ الزكاة قهرًا ممن وجبت عليه وامتنع من أدائها بخلاً بها. وكذلك تعزيره وتأديبه بالحبس ونحوه (انظر: البحر الزخار: 2/190).
عقوبة الممتنع بمصادرة نصف ماله وما فيه من خلاف:
وإنما الخلاف في عقوبة الممتنع بأخذ شطر ماله، وعبارة أخرى: مصادرة نصف ماله، تأديبًا له، وزجرًا لأمثاله. كما نطق به حديث بهز بن حكيم، وقال به الشافعي في التقديم وإسحاق، وروى عن أحمد والأوزاعي، ورجحه بعض الحنابلة - كما سيأتي - محتجًا بهذا الحديث الصريح.
والقول الجديد للشافعي، وهو قول الجمهور: أنه لا يؤخذ منه إلا قدر الزكاة.
( أ ) لحديث: (ليس في المال حق سوى الزكاة) (سيأتي تخريجه).
( ب ) ولأنها عبادة فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله، كسائر العبادات.
(جـ) ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر -رضي الله عنه- والصحابة متوافرون. ولم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولاً بذلك (السنن الكبرى: 4/605).
أما حديث بَهْز فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: ولا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر إبل الغال لصدقته، ولو ثبت قلنا به (المرجع السابق).(2/225)
وأيَّد البيهقي قول الشافعي بأن بهزًا لم يخرج له الشيخان (نفس المرجع). وهذا لا يكفي لتضعيف حديثه. فكم من حديث صحيح لم يخرجاه، ومنه ما احتج به البيهقي وغيره من الأئمة.
ثم قال البيهقي: وقد كان تضعيف الغرامة على من سرق في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخًا، واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته، فلم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك القصة: أنه أضعف الغرامة بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط، فيحتمل أن يكون هذا من ذاك (نفس المرجع السابق).
وقال المارودي: وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ليس في المال حق سوى الزكاة) ما يصرف هذا الحديث عن ظاهره من الإيجاب إلى الزجر والإرهاب، كما قال: (من قتل عبده قتلناه) (رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن غريب وفي إسناده ضعف؛ لأنه من رواية الحسن عن سمرة وبظاهره قال بعض العلماء. (نيل الأوطار: 7/15- طبع الحلبي). وإن كان لا يُقتل بعبده (الأحكام السلطانية ص121).
وقال النووي في "الروضة":
الحديث الوارد في سنن أبي داود وغيره "بأخذ شطر ماله" ضعفه الشافعي -رحمة الله عليه- ونقل أيضًا عن أهل العلم بالحديث أنهم لا يثبتونه. وهذا الجواب هو المختار. وأما جواب من أجاب من أصحابنا بأنه منسوخ فضعيف، فإن النسخ يحتاج إلى دليل، ولا قدرة لهم عليه هنا (الروضة: 2/209).
وكذا قال في المجموع: أجاب الأصحاب عن حديث بهز بأنه منسوخ، وأنه كان حين كانت العقوبة بالمال. قال: وهذا الجواب ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن ما ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف.
والثاني: أن النسخ إنما يُصار إليه إذا علم التاريخ، وليس هنا علم بذلك.
والجواب الصحيح: تضعيف الحديث (المجموع: 5/334).
مناقشة وترجيح:(2/226)
والذي نراه أن حديث بَهْز بن حكيم ليس فيه مطعن معتبر، وهو - كما قلنا من قبل (راجع ص94). وما بعدها. - يتضمن عقوبة تعزيرية مفوضة إلى رأي الإمام وتقديره. وهو يدخل فيما ذكرناه غير مرة من الأحاديث التي ترد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوصف الإمامة والرياسة، كما ذكر القرافي والدهلوي وغيرهما (انظر: ص251-253 من هذا الكتاب).
وقد سبق هذا الحديث ما تفرضه التشريعات الحديثة من عقوبات مالية رادعة للمتهربين من دفع ما عليهم من الضرائب.
والذين ردوا حديث بهز استندوا إلى أحد أمور ثلاثة:
1- بعضهم استند إلى معارضة الحديث لما ثبت أنه لا حق في المال سوى الزكاة. وقد روى في ذلك حديث مرفوع (انظر: البحر الزخار: 2/190، والمغني: 2/573، والأحكام السلطانية للماوردي ص121).
2- وبعضهم استند إلى أنه نوع من العقوبة بالمال، وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ.
3- وبعضهم استند إلى أن الحديث ضعيف، لضعف بهز راويه، وعلى هذا عول النووي.
فأما الأمر الأول، فسنبين في باب مستقل أن في المال حقوقًا سوى الزكاة، كما جاءت بذلك الآيات الكريمة، وصحت به الأحاديث الصريحة. فلا تعارض إذن بين حديث بهز وغيره.
وأما الثاني، فالصحيح أن العقوبة بالمال لم تُنسخ، وقد ذكر المحقق ابن القيم في "الطرق الحكمية" خمس عشرة قضية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولخلفائه الراشدين، تحققت فيها العقوبة بالمال (انظر: الطرق الحكمية -صلى الله عليه وسلم-287- طبع المدني).
وأما تضعيف الحديث، فالذي يبدوا أنه ليس تضعيف سند، بل هو نوع من الإعلال بسبب موضوع الحديث. فهو مبني على الأمرين السابقين. ولهذا نجدهم أو بعضهم ضعفوا بهزًا بسبب هذا الحدث، ولم يُضعفوا الحديث بسبب بهز، كما هو المتبع. قال ابن حبان: لولا هذا الحديث لأدخلت بهزًا في الثقات!(2/227)
قال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود بعد أن نقل كلام الأئمة في بهْز، وتصحيح أحمد وإسحاق وابن المديني لحديثه: وليس لمن رد هذا الحديث حُجَّة، ودعوى نسخه دعوى باطلة، إذ هي دعوى ما لا دليل عليه، وفي ثبوتشرعيةالعقوبات المالية عدة أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت نسخها بحجة، وعمل بها الخلفاء بعده. وأما معارضته بحديث البراء في قصة ناقته، ففي غاية الضعف، فإن العقوبة إنما تسوغ إذا كان المعاقب متعديًا بمنع واجب أو ارتكاب محظور. وأما ما تولد من غير جنايته وقصده، فلا يسوغ أحد عقوبته عليه. وقول من حمل ذلك على سبيل الوعيد دون الحقيقة، في غاية الفساد، يُنزه عن مثله كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقول ابن حبان: لولا حديثه هذا لأدخلناه في الثقات، كلام ساقط جدًا، فإنه إذا لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا لأدخلناه في الثقات، كلام ساقط جدًا، فإنه إذا لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدّ لضعفه، كان هذا دورًا باطلاً. وليس في روايته لهذا ما يوجب ضعفه؛ فإنه لم يخالف فيه الثقات (تهذيب السنن مع مختصر المنذري والمعالم: 2/194).
والغريب أن كثيرًا من أصحاب الكتب المعتمدة في الفقه، كالشيرازي في "المهذب" والماوردي في "الأحكام السلطانية" وابن قدامة في "المغني" وغيرهم ردوا حديث بهزْ الصحيح أو المختلف على الأقل في صحته بحديث لا قيمة له من الناحية العلمية، وهو حديث: (ليس في المال حق سوى الزكاة).
ولهذا ينبغي معرفة درجة الأحاديث وقيمتها من مصادرها ومن أهلها.. (وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 14).
عند الحنابلة:(2/228)
وعند الحنابلة مثل ما عند الشافعية. قال ابن قدامة بعد أن بين ردة مانع الزكاة جحدًا وتكذيبًا: وإن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره. ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم، وكذلك إن غلّ ماله وكتمه، حتى لا يأخذ الإمام زكاته، فظهر عليه.
وقال إسحاق بن راهوية، وأبو بكر عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله. لما روي بهز بن حكيم.
فإن كان خارجًا عن قبضة الإمام قاتله. لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قاتلوا مانعيها. فإن ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة أيضًا، ولم تُسب ذريته لأن الجناية من غيرهم. ولأن المانع لا يسبي فذريته أولى. وإلا قُتِل، ولم يُحكم بكفره.
وعن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها. فروى الميموني عنه: إذا منعوا الزكاة - كما منعوا أبا بكر - وقاتلوا عليها. لم يورثوا. ولم يصل عليهم. قال عبد الله بن مسعود: ما تارك الزكاة بمسلم.
ووجه ذلك؛ ما روى: أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما قاتلهم وعضتهم الحرب، قالوا: نؤديها. قال: لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) ولم يُنقل إنكار ذلك عن أحد من الصحابة، فدل على كفرهم.(2/229)
ووجه الأول: أن عمر وغيره من الصحابة، امتنعوا من القتال في بدء الأمر، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه. ثم اتفقوا على القتال، وبقي الكفر على أصل النفي، ولأن الزكاة فرع من فروع الدين، فلم يكفر تاركه بمجرد تركه كالحج. وإذا لم يكفر بتركه لم يكفر بالقتال عليه كأهل البغي. وأما الذين قال لهم أبو بكر هذا القول، فيُحتمل أنهم جحدوا وجوبها، ولأن هذه قضية في عين (أي في حالة معينة) فلا يُتحقق من الذين قال لهم أبو بكر هذا القول؟ فيحتمل أنهم كانوا مرتدين، ويحتمل أنهم جحدوا وجوب الزكاة، ويحتمل غير ذلك، فلا يجوز الحكم به في محل النزاع، ويحتمل أن أبا بكر قال ذلك، لأنهم ارتكبوا كبائر وماتوا من غير توبة، فحكم لهم بالنار ظاهرًا. كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرًا، والأمر إلى الله تعالى في الجميع، ولم يحكم عليهم بالتخليد، ولا يلزم من الحكم بالنار الحكم بالتخليد، بعد أن أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قومًا من أمته يدخلون النار، ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة" اهـ (انظر: المغني: 2/573-575).
عند الزيدية:
وفي الأزهار وشرحه للزيدية: إذا ادعى رب المال أن الزكاة ساقطة عنه، وأنه لا يملك النصاب فالقول قوله، ولكن يجب على الإمام أو من يلي من جهته أن يحلفه عند التهمة - أي بالشك في صدقه - وهذا إذا لم تكن عدالته ظاهرة، فأما إذا كان ظاهر العدالة فإنه لا يُحلَّف (شرح الأزهار وحواشيه: 1/530، وانظر: البحر: 2/190-191).
أما إذا أقر رب المال بوجوب الزكاة، لكن ادعى أنه قد فرقها - قبل مطالبة الإمام - في مستحقها، ولم يتحقق المصدق ذلك، فعلى مدعي التفريق أن يقيم البينة على ذلك؛ لأن الأصل عدم الإخراج - وعلى أن التفريق وقع قبل طلب الإمام. فإن أقام البينة على الوجوب جميعًا. وإلا أخذها منه المصدق، وليس له أن يقبل قوله، ولو كان ظاهر العدالة (المرجع السابق).
دفع الزكاة إلى السلطان الجائر(2/230)
ومما يتمم ما سبق ما ذكره العلماء في حكم دفع الزكاة إلى السلطان الجائر، واختلافهم فيه على ثلاثة أقوال:
1- الجواز مطلقًا. 2- المنع مطلقًا. 3- التفصيل.
رأى المجوزين:
أما المجوزون فاحتجوا لمذهبهم في جواز الدفع إلى الظلمة بجملة أحاديث صريحة منها ما ذكره في "المنتقي" (انظر: نيل الأوطار: 4/164-165).
( أ ) عن أنس: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك فقد برئتُ منها إلى الله ورسوله؟ قال: (نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئتَ منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها) (رواه أحمد، كما في نيل الأوطار: 4/155- طبع العثمانية).
( ب ) وعن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها) قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟. قال: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) (متفق عليه - المرجع السابق).
(جـ) وعن وائل بن حجر قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألوننا حقهم؟ فقال: (اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم) (رواه مسلم والترمذي وصححه - المرجع نفسه).
ولهذه الأحاديث مغزى ذو أهمية، وهو أن الدولة الإسلامية في حاجة دائمة إلى مال تقيم به التكافل الاجتماعي، وتحقق به كل مصلحة عامة تعلو بها كلمة الإسلام، فإذا كف الأفراد أيديهم عن مد الدولة بالمال اللازم، لجور بعض الحاكمين، اختل ميزان الدولة، واضطرب حبل الأمة، وطمع فيها أعداؤها المتربصون، فكان لا بد من طاعتها بأداء ما تطلب من الزكاة. وهذا لا ينافي مقاومة الظلم بكل سبيل شرعها الإسلام.
فعلى الأفراد المسلمين أن يقدموا ما يُطلب منهم من الحقوق المالية، وعليهم مع ذلك المناصحة لولاة الأمر، قيامًا بواجب النصيحة في الدين، والتواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(2/231)
ويبقى هنا حق الجماعة المسلمة، بل واجبها في خلع يد الطاعة إذا رأوا كفرًا بواحًا عندهم فيه من الله برهان.
كما يبقى حق الفرد المسلم، بل واجبه في التمرد على كل أمر مباشر يصدر إليه بمعصية صريحة، كما جاء في الحديث الصحيح: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (رواه الجماعة عن ابن عمر، كما في الجامع الصغير).
رأي المانعين مطلقًا وأدلتهم:
وأما رأي المانعين منعًا مطلقًا من دفع الزكاة إلى حكام الجور، فهو أحد قولي الشافعي، وحكاه المهدي في البحر عن العترة: أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الظلمة ولا يجزيء، واستدلوا بقوله تعالى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
ورد عليهم الشوكاني بأن عموم هذه الآية - على تسليم صحة الاستدلال بها على محل النزاع - مخصص بالأحاديث المذكورة في الباب (نيل الأوطار: 4/165).
رأي القائلين بالتفصيل:
وذهب بعض الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن لرب المال دفع الزكاة إلى الساعي والوالي - ولو كان فاسقًا - إذا كان يضعها مواضعها ويصرفها حيث أمر الله. وإن لم يكن يضعها مواضعها ويصرفها إلى مستحقيها حرم دفعها إليه، ويجب كتمها إذن (نيل الأوطار - المرجع السابق). بل قال الماوردي من الشافعية في مثل هذا الوالي: إذا أخذ الزكاة من أربابها طوعًا أو جبرًا، لم يجزهم عن حق الله -تعالى- في أموالهم ولزمهم إخراجها بأنفسهم إلى مستحقيها (الأحكام السلطانية للماوردي ص117- طبع المطبعة المحمودية التجارية بمصر).
وعند المالكية:(2/232)
ذكر الدردير في الشرح الكبير (الجزء الأول ص502). على مختصر "خليل": أن من دفعها لجائر معروف بالجور في صرفها وجار بالفعل، لم تجزه. والواجب جحدها والهرب بها ما أمكن، فإن لم يجر، بأن دفعها لمستحقها أجزأت، وأما إذا كان عدلاً في صرفها وأخذها، جائرًا في غيرها، فقال الدردير: يجب الدفع إليه. ونقل الدسوقي في حاشيته: أنه ليس كذلك، بل هو مكروه (حاشية الدسوقي: 1/504).
وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة: "لا خلاف أنها تُدفع للإمام العدل اختيارًا، وغير العدل لا تُدفع إليه إلا أن يطلبها، ولا يمكن إخفاؤها عنه، ومن أمكنه أن يفرقها دونه لم يجز له دفعها إليه. ورواه ابن القاسم وابن نافع: إن كان يحلفه عليها أجزأه دفعها إليه. ورأى أشهب: إذا أكره عليها أنها تجزئه، واستحب إعادتها. ودفعها ابن عبد الحكم إلى وإلى المدينة، وقال ابن رشد: اختلف في إجزاء دفعها لمن لا يعدل فيها ولا يضعها مواضعها، فمذهب المدونة وأصبغ وابن وهب وأحد قولي ابن القاسم في سماع يحيى: الإجزاء، والقول الثاني لابن القاسم في السماع: عدم الإجزاء. والمشهور: إجزاؤها إن أكره، والله حسيب من ظلم، ولكن لا تجزيء إلا بتسميتها زكاة، وأخذه برسمها" اهـ (شرح الرسالة: 1/340-341).
يعني أنها إذا أخذت باسم المكس أو الضريبة أو نحو ذلك لا يجزيء عند أهل المذهب جميعًا.
وعند الحنفية:
إذا أخذ البغاة وسلاطين الجور زكاة الأموال الظاهرة، أو الخراج، فصرفوا المأخوذ في محله، فلا إعادة على أربابها. وإن لم يصرفوه في محله ويضعوه في موضعه المشروع، فعليهم - فيما بينهم وبين الله - إعادة الزكاة، لا الخراج، لأنهم مصارفه، فهو حق المقاتلة، وهم يقاتلون أهل الحرب.
واختلف في الأموال الباطنة، فأفتى بعضهم بعدم الإجزاء؛ لأنه ليس للظالم ولاية أخذ الزكاة منها. ولهذا لا يصح الدفع إليه، لانعدام الاختيار الصحيح.(2/233)
وفي المبسوط: الأصح الصحة إذا نوى بالدفع إلى الظلمة التصدق عليهم؛ لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء(الدر المختار وحاشيته: 2/26-27، والحق أن هؤلاء يعتبرون غارمين مدينين بما عليهم من حقوق الناس وأموالهم، وقد ذكرنا في مصرف "الغارمين" اشتراط أن يكون دينه في غير معصية ولا سرف، ولم يتحقق هنا هذا الشرط).
عند الحنابلة:
وأما عند الحنابلة فقال ابن قدامة في المغني: "إذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها، وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها، سواء عدل فيها أو جار، وسواء أخذها قهرًا، أو دفعها إليه اختيارًا.
قال أبو صالح: سألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر، وجابرًا وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة، فقلت: هذا السلطان يصنع ما ترون، أفأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم.
وقال إبراهيم: يجزيء عنك ما أخذ العشَّارون.
وعن سلمة بن الأكوع: أنه دفع صدقته إلى نجدة (الخارجي).
وعن ابن عمر: أنه سئل عن مصدَّق ابن الزبير ومصدِّق نجدة؟ فقال: إلى أيهما دفعت أجزأ عنك.
وبهذا قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه (أي ما نفذ فيه حكمهم من البلاد)، وقالوا: إذا مرّ على الخوارج فعشروه لا يجزيء عن زكاته.
وقال أبو عبيد في الخوارج يأخذون الزكاة: على مَن أخذوا منه الإعادة؛ لأنهم ليسوا بأئمة، فأشبهوا قُطّاع الطرق.
قال ابن قدامة: ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه، فيكون إجماعًا، ولأنه دفعها إلى أهل الولاية، فأشبه دفعها إلى أهل البغي." (المغني: 2/644-645- طبع المنار (الثالثة).
وكذلك ذكر في مطالب أولى النهي: "أن المذهب لا يختلف في جواز دفعها إلى الإمام، عدلاً كان أو جائرًا، ظاهرًا كان المال أو باطنًا. مستدلاً بما جاء عن الصحابة في ذلك. قال أحمد: كانوا يدفعون الزكاة إلى الأمراء، وهؤلاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرون بدفعها، وقد علموا فيم ينفقونها، فما أقول أنا"؟! (مطلب أولي النهي: 2/120).
موازنة وترجيح:(2/234)
الذي أراه في هذه المسائل هو صحة الدفع إلى الظلمة إذا أخذوا ما أخذوه بعنوان الزكاة، ولا يُكلَّف المسلم الإعادة في أي صورة من الصور، فإذا لم يأخذوه باسم الزكاة لم يجزئه، كما قال المالكية وغيرهم، وسنعود إلى ذلك في باب " الزكاة والضريبة".
أما هل يدفع إلى الظالم أو لا؟، فإني أختار الدفع إليه إذا كان يوصلها إلى مستحقيها، ويصرفها في مصارفها الشرعية، وإن جار في بعض الأمور الأخرى.
فإن كان لا يضعها في مواضعها فلا يدفعها إليه إلا إن طالب بها، فلا يسعه الامتناع، عملاً بالأحاديث التي سقناها من قبل، وبفتاوى الصحابة المتكررة في دفع الزكاة إلى الأمراء وإن ظلموا.
التزام الحاكم للإسلام شرط
والذي لا ريب فيه أن هؤلاء الأمراء الذين أفتى الصحابة بدفع الزكاة إليهم إنما هم قوم مسلمون آمنوا بالإسلام والتزموه، وارتضوه حكمًا بل جاهدوا في سبيله، وفتحوا الفتوح باسمه وتحت رايته. وإن حادوا في بعض أحكامهم عنه، إيثارًا للدنيا أو اتباعًا للهوى.
فهؤلاء تُدفع إليهم الزكاة وسائر الحقوق المالية، كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة التي استدل بها الجمهور.
وهؤلاء غير كثير من حكام عصرنا الذين قطعوا صلتهم بالإسلام، واتخذوه وراءهم ظهريًا، واتخذوا هذا القرآن مهجورًا، بل إن منهم مَن أصبح حربًا على الإسلام وأهله ودعاته، فهؤلاء لا يجوز أن يُعَانوا بمال الزكاة على نشر كفرهم وإلحادهم وإفسادهم في الأرض، فالتزام الحاكم للإسلام شرط في جواز دفع الزكاة إليه.
ولقد اتفق جمهور الفقهاء على أن ابن السبيل المسافر في معصية لا يُعطي من مال الزكاة حتى يتوب، وكذلك الغارم في معصية، إذ لا يجوز أن يعانا من مال الله على معصية الله.
فكيف بحاكم يأخذ مال الله ليصد عن سبيل الله، ويعطل شريعة الله، ويؤذي كل مَن دعا إلى حكم اللَّه؟(2/235)
ويعجبني هنا ما قاله المصلح العلاَّمة السيد رشيد رضا - رحمه الله - في تفسير المنار قال: وإمام المسلمين في دار الإسلام هو الذي تؤدي له صدقات الزكاة، وهو صاحب الحق بجمعها وصرفها لمستحقيها، ويجب عليه أن يقاتل الذين يمتنعون عن أدائها إليه.
"ولكن أكثر المسلمين لم يبق لهم في هذا العصر حكومات إسلامية تقيم الإسلام بالدعوة إليه، والدفاع عنه، والجهاد الذي يوجبه وجوبًا عينيًا أو كفائيًا، وتقيم حدوده، وتأخذ الصدقات المفروضة كما فرضها، وتضعها في مصارفها التي حددها، بل سقط أكثرهم تحت سلطة دول الإفرنج، وبعضهم تحت سلطة حكومات مرتدة عنه أو ملحدة فيه (أصبح هذا النوع هو الأعم الأغلب على الحكومات في كثير من بلاد المسلمين اليوم، فقد تحررت من سلطان دول الإفرنج لتقع في سلطة العلمانيين واللادينيين). ولبعض الخاضعين لدول الإفرنج رؤساء من المسلمين الجغرافيين، اتخذهم الإفرنج آلات لإخضاع الشعوب لهم باسم الإسلام حتى فيما يهدمون به الإسلام، ويتصرفون بنفوذهم وأمرهم في مصالح المسلمين وأموالهم الخاصة بهم فيما له صفة دينية من صدقات الزكاة والأوقاف وغيرها. فأمثال هذه الحكومات لا يجوز دفع شيء من الزكاة لها مهما يكن لقب رئيسها ودينه الرسمي.
"وأما بقايا الحكومات الإسلامية التي يدين أئمتها ورؤساؤها بالإسلام، ولا سلطان عليهم للأجانب في بيت مال المسلمين، فهي التي يجب أداء الزكاة الظاهرة لأئمتها. وكذا الباطنة - كالنقدين - إذا طلبوها، وإن كانوا جائرين في بعض أحكامهم كما قال الفقهاء، وتبرأ ذمة من أداها إليهم، وإن لم يضعوها في مصارفها المنصوصة - في الآية الحكيمة - بالعدل.(2/236)
"والذي نص عليه المحققون - كما في شرح المهذب وغيره - أن الإمام أو السلطان إذا كان جائرًا لا يضع الصدقات في مصارفها الشرعية، فالأفضل لمن وجبت عليه أن يؤديها لمستحقيها بنفسه إذا لم يطلبها الإمام أو العامل من قِبَلِه" (تفسير المنار: 10/595،596- الطبعة الثانية)
الفصل الأول
علاقة الدولة بالزكاة
فهرس
من يتولى أمر الزكاة في عصرنا؟
أقوال المذاهب فيمن كتم الزكاة أو امتنع منها أو ادعى أداءها
عند الحنفية
عند المالكية
عند الشافعية
الإجماع على تأديب الممتنع وأخذها منه قهرًا
عقوبة الممتنع بمصادرة نصف ماله وما فيه من خلاف
مناقشة وترجيح
عند الحنابلة
عند الزيدية
دفع الزكاة إلى السلطان الجائر
رأى المجوزين
رأي المانعين مطلقًا وأدلتهم
رأي القائلين بالتفصيل
التزام الحاكم للإسلام شرط
مسئولية الدولة عن شئون الزكاة
دلالة القرآن على ذلك
الأحاديث النبوية
السُنَّة العملية للنبي والخلفاء الراشدين
فتاوى الصحابة
من أسرار هذا التشريع
بيت مال الزكاة
الأموال الظاهرة والأموال الباطنة ومن يلي زكاتها
رأي الحنفية
رأي المالكية
الشافعية
الحنابلة
رأي الزيدية
رأي الإباضية
رأي الشعبي والباقر وأبي رزين والأوزاعي
موازنة وترجيح
رأي أبي عبيد ومناقشته
مسئولية الدولة عن شئون الزكاة
الزكاة - كما تبين لنا - حق ثابت مقرر (فَرِيضَةً مِّنَ الله)، ولكنه - في الأصل - ليس حقًا موكولاً للأفراد، يؤديه منهم من يرجو الله والدار الآخرة، ويدعه من ضعف يقينه بالآخرة، وقلَّ نصيبه من خشية الله، وغلب حب المال في قلبه على حب الله.
كلا؛ إنها ليست إحسانًا فرديًا، وإنما هي تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة، ويتولاه جهاز إداري منظم، يقوم على هذه الفريضة الفذة، جباية ممن تجب عليهم، وصرفًا إلى من تجب لهم.
دلالة القرآن على ذلك:(2/237)
وأبرز دليل على ذلك: أن الله -تعالى- ذكر هؤلاء القائمين على أمر الزكاة جمعًا وتفريقًا، وسماهم (العَامِلينَ عَلَيْهَا)، وجعل لهم سهمًا في أموال الزكاة نفسها، ولم يحوجهم إلى أخذ رواتبهم من باب آخر، تأمينًا لمعاشهم، وضمانًا لحسن قيامهم بعملهم، قال تعالى: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالَمسَاكِين وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَريضَةً مِّنَ اللَّهِ، واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60).
وليس بعد هذا النص الصريح في كتاب الله مجال لترخص مترخص، أو تأول متأول، أو زعم زاعم، وخاصة بعد أن جعلت الآية هذه الأصناف وتحديدها (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ)، ومن ذا الذي يجرؤ على تعطيل فريضة فرضها الله؟!
وقال -تعالى- في نفس السورة التي ذكر فيها مصارف الزكاة: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) (التوبة: 103).
وقد ذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف إلى أن المراد بالصدقة في هذه الآية الزكاة، كما بيَّنا ذلك في الباب الأول.
وأظهر دليل على ذلك: أن مانعي الزكاة في عهد أبي بكر تعلقوا بهذه الآية، وأنها تدل على أن الذي يأخذ الزكاة هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه يعطيهم بدلها الصلاة عليهم، ولم يرد عليهم أحد من الصحابة بأن الآية في غير الزكاة الواجبة، وكذلك كان موقف أئمة الإسلام من بعدهم في رد شبهتهم. وكل ما قالوه: أن الخطاب في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يلي أمر المسلمين من بعده، حسبما فصَّلناه من قبل.
الأحاديث النبوية:
هذا ما جاء في كتاب الله. أما السنة النبوية:(2/238)
ففي حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذًا إلى اليمن قال له: (أعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) (رواه الجماعة عن ابن عباس).
وشاهدنا من هذا الحديث هو قوله -عليه السلام- في تلك الصدقة المفروضة: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فبين الحديث أن الشأن فيها أن يأخذها آخذ ويردها راد، لا أن تُترك لاختيار من وجبت عليه.
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، إما بنفسه، وإما بنائبه، فمن امتنع منهم أخذت منه قهرًا" (فتح الباري للحافظ ابن حجر: 3/23 في شرح حديث وصية معاذ من صحيح البخاري كتاب الزكاة: باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد إلى الفقراء حيث كانوا). ونقلها الشوكاني بنصها في نيل الأوطار (نيل الأوطار: 4/124 - طبع مصطفى الحلبي (الثانية).
وقد جاءت أحاديث كثيرة في توجيه هؤلاء العاملين على الزكاة. وكانوا يسمون السعاة أو المصدقين وقد ذكرنا شيئًا من ذلك في مصرف "العاملين عليها" من الباب السابق. كما جاءت أحاديث كثيرة أخرى في بيان واجب المكلفين بالزكاة نحو هؤلاء المصدقين، سنذكر أهمها قريبًا.
السُنَّة العملية للنبي والخلفاء الراشدين:
وهذا الذي جاءت به السنة القولية، أكدته السنَّة العملية والواقع التاريخي الذي جرى عليه العمل في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- . والخلفاء الراشدين من بعده.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" عند تخريج ما ذكره الإمام الرافعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده كانوا يبعثون السعاة لأخذ الزكاة: هذا مشهور.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة: بعث عمر على الصدقة.(2/239)
وفيهما عن أبي حميد: استعمل (استعمله: جعله عاملاً على الزكاة أو غيرها، أي واليًا على شئونها). رجلاً من الأزد يقال له "ابن اللتيبة".
وفيهما عن عمر: أنه استعمل ابن السعدي.
وعن أبي داود: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا مسعود ساعيًا.
وفي مسند أحمد: أنه بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقًا.
وفيه: أنه بعث عقبة بن عامر ساعيًا.
وفيه من حديث قرة بن دعموص: بعث الضحاك بن قيس ساعيًا.
وفي المستدرك: أنه بعث قيس بن سعد ساعيًا.
وفيه من حديث عبادة بن الصامت: أنه -صلى الله عليه وسلم- بعثه على أهل الصدقات. وبعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ساعيًا.
وروى البيهقي عن الشافعي: أن أبا بكر وعمر كانا يبعثان على الصدقة. وقد أخرجه الشافعي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري بهذا، وزاد: ولا يؤخرون أخذها في كل عام.
وقال في القديم: وروى عن عمر: أنه أخَّرها عام الرمادة، ثم بعث مصدقًا فأخذ عقالين (العقال: يراد به هنا زكاة العام). عقالين.
وفي الطبقات لابن سعد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث المصدقين إلى العرب في هلال المحرم سنة تسع. وهو في مغازي الواقدي بأسانيده مفسرًا (انظر: التلخيص: 2/159، 160- طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة).
وذكر ابن سعد أسماء هؤلاء المصدقين وأسماء القبائل التي بعثوا إليها. فبعث عيينة بن حِصن إلى بني تميم يصدقهم.
وبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار يصدقهم. ويقال: كعب بن مالك.
وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سُليم ومُزَينة.
وبعث رافع بن مكيث إلى جُهينة.
وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.
وبعث الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب.
وبعث بُسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب.
وبعث ابن اللتيبة الأزدي إلى بني ذبيان.
وبعث رجلاً من سعد هُذَيم على صدقاتهم.
قال ابن سعد: وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدقيه أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم (طبقات ابن سعد: 2/160- طبع بيروت).(2/240)
وذكر ابن إسحاق جماعة آخرين بعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قبائل وأقاليم أخرى من جزيرة العرب.
فبعث المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، فخرج عليه العَنسيّ وهو بها.
وبعث زياد بن لَبِيد إلى حضرموت.
وبعث عدي بن حاتم إلى طي وبني أسد.
وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة.
وفرَّق صدقات بني سعد على رجلين: فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية.
وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين.
وبعث عليًا إلى نجران، ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم (زاد المعاد: 2/472).
وفي التراتيب الإدارية للكتاني نقل عن ابن حزم في جوامع السير، وعن ابن إسحاق والكلاعي في السيرة، وعن ابن حجر في الإصابة جملة من أسماء الصحابة الذين استعملهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ولاية الصدقات أو كتابتها.
قال ابن حزم في كتابه "جوامع السير": كان كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصدقات الزبير بن العوام، فإن غاب أو اعتذر كتب جهم بن الصلت وحذيفة بن اليمان (التراتيب الإدارية ص 398).(2/241)
وقال (المرجع السباق ص 396-398): ترجم في الإصابة للأرقم بن أبي الأرقم الزهري فذكر: أن الطبراني خرج: أنه -عليه السلام- استعمله على السعاية. وترجم فيها أيضًا كافية بن سبع الأسدي فنقل عن الواقدي: أن المصطفى -عليه السلام- استعمله على صدقات قومه. وترجم أيضًا لحذيفة بن اليمان الأزدي، فنقل عن ابن سعد: أنه -عليه السلام- بعثه مصدقًا على الأزد، وترجم في الإصابة أيضًا لكهل بن مالك الهذلي فذكر أن المصطفى -عليه السلام- استعمله على صدقات هذيل، وترجم فيها أيضًا لخالد بن البرصاء، فذكر أن أبا داود والنسائي أخرجا من طريق معمر عن الزهري عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا جهم بن حذيفة مصدَّقًا، وترجم لخالد بن سعيد بن العاص الأموي أن المصطفى -عليه السلام- استعمله على صدقات مذحج. وترجم أيضًا لخزيمة بن عاصم العكلي فذكر أن ابن قانع روى من طريق سيف بن عمر عن الميسر بن عبد الله بن عدس أن عدسًا وخزيمة وفدا علي النبي -صلى الله عليه وسلم- فولى خزيمة على الأحلاف، وكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله لخزيمة بن عاصم: إني بعثتك ساعيًا على قومك فلا يُضاموا ولا يُظلموا" ذكره الرشاطي، وقال: أهمله أبو عمر، وترجم أيضًا لسهم بن منجاب التميمي فنقل عن الطبري أنه كان من عمال النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني تميم فمات المصطفى -عليه السلام- وهو على ذلك، وترجم لعكرمة بن أبي جهل، فنقل عن الطبري: أن النبي -عليه السلام- استعمله علي صدقات هوازن عام وفاته، وترجم لمالك بن نويرة فذكر أنه كان من أرداف الملوك وأنه -صلى الله عليه وسلم- استعمله على صدقات قومه، وترجم لمتمم بن نويرة التميمي فقال: بعثه -عليه السلام- على صدقات بني تميم، وفي ترجمة مرداس بن مالك الغنوي أنه -عليه السلام- ولاه صدقة قومه" أهـ.(2/242)
وبهذا يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غطى الجزيرة -تقريبًا- بسعاته، ومصدِّقيه ليتولوا هذه الفريضة من أهلها، ويوزعوها على مستحقيها.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يزوَّدهم - كما ذكرنا من قبل - بالنصائح، والتعليمات اللازمة لهم في معاملة أرباب الأموال، ويوصي دائمًا بالرفق بهم، والتيسير عليهم دون تهاون في حق الله.
كما كان يُحذِّر هؤلاء السعاة أشد التحذير من تناول شيء من المال العام بغير حق مهما يكن قليلاً. وكان يحاسب بعضهم أحيانًا. كما قيل: إن ابن اللتيبة لما قدم حاسبه [عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن اللتيبة - رجلاً من الأزد - على الصدقة، فجاء بالمال فدفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هذا لكم، وهذههدية أهديت إلىّ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فتنظر أيهدي إليك أم لا" ؟! (رواه الشيخان واللفظ لمسلم)].
قال ابن القيم: وكان في هذا حُجَّة على محاسبة العمال (الولاة) والأمناء، فإن ظهرت خيانتهم عزلهم وولى أمينًا (زاد المعاد، والمرجع السابق).
وهذا كله يدلنا بوضوح على أن أمر الزكاة كان منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من شئون الدولة واختصاصها. ولهذا حرص الرسول -عليه السلام- أن يعين لكل قوم أو قبيلة يدخلون في الإسلام مصدَّقًا يأخذ من أغنيائهم الزكاة، ويفرقها على مستحقيها. وكذلك خلفاؤه من بعده.
ولهذا قال العلماء: "يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة؛ ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ.." (المجموع: 6/167، والروضة: 2/210).(2/243)
أما أرباب الأموال من أفراد الشعب، فيجب عليهم أن يساعدوا هؤلاء السعاة على أداء مهمتهم، ويؤدوا إليهم ما وجب عليهم ولا يكتموهم شيئًا من أموال زكاتهم. هذا ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما أمر به أصحابه.
عن جرير بن عبد الله قال "جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنِّ أناسًا من المصدِّقين (جباة الصدقة) يأتوننا فيظلموننا ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أرضوا مُصدِّقيكم) (رواه مسلم في صحيحه).
وعن جابر بن عتيك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها، فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم) (رواه أبو داود كما في نيل الأوطار: 4/155- طبع العثمانية، وقال المناوي في الفيض: "لا ريب أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل ظالمًا قط، بل كانت سعاته على غاية من تحرى العدل؛ كيف ومنهم علىّ وعمر ومعاذ؟ ومعاذ الله أن يولي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ظالمًا! فالمعنى: سيأتيكم عمالي يطلبون منكم الزكاة، والنفس مجبولة على حب المال، فتبغضونهم وتزعمون أنهم ظالمون، وليسوا بذلك، فقوله: "إن ظلموا" مبني على هذا الزعم. ويدل على ذلك لفظ "إن" الشرطية، وهي تدل على الفرض والتقدير، لا على الحقيقة.
وقال المظهري: لما عم الحكم جميع الأزمنة قال: كيفما يأخذون الزكاة لا تمنعوهم وإن ظلموكم، فإن مخالفتهم مخالفة للسلطان؛ لأنهم مأمورون من جهته، ومخالفة السلطان تؤدي إلى الفتنة وثورانها.(2/244)
ورد المناوي هذا القول بأن العلة لو كانت هي المخالفة جاز كتمان المال، لكنه لم يجز، لقوله في حديث: "نكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال: لا "أما سعادة غيرنا (كذا ولعل الصواب: غيره) أي النبي -صلى الله عليه وسلم- فإغضاب ظالمهم واجب وإرضاؤه فيما يرومه بالجور حرام". (انتهى من فيض القدير: 1/475).
وعن أنس -رضي الله عنه- : أن رجلاً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك فقد برئتُ منها إلى الله ورسوله؟ قال: (نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، ولك أجرها، وإثمها على من بدَّلها) (نسبة في المتقى إلى أحمد (نيل الأوطار المرجع السابق). (15- فقه الزكاة/2).
فتاوى الصحابة:
وعن سهل بن أبي صالح عن أبيه قال: "اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري أن أقسمها، أو أدفعها إلى السلطان؟. فأمروني جميعًا أن أدفعها إلى السلطان، ما اختلف عليَّ منهم أحد".
وفي رواية: "فقلت لهم: هذا السلطان يفعل ما ترون (كان هذا في عهد بني أمية) فأدفع إليهم زكاتي؟! فقالوا كلهم: نعم فادفعها". (رواها الإمام سعيد بن منصور في مسنده) (كما قال النووي في المجمع).
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- ما قال: (ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه، ومن أثم فعليها).
وعن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: (ادفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر) قال النووي: رواهما البيهقي بإسناد صحيح أو حسن (هذه الأحاديث والآثار كلها ذكرها الإمام النووي في "المجموع": 6/162-164).
وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لمولى له - وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟
قال: منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان.
قال: وفيم أنت من ذلك؟! (أنكر عليه أن يفرقها بنفسه).
فقال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون بها النساء !!(2/245)
فقال: ادفعها إليهم؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن ندفعها إليهم" (رواه البيهقي في السنن الكبير) (المرجع السابق).
هذه الأحاديث الصريحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الفتاوى الحاسمة من صحابته الكرام، تجعلنا ندرك، بل نوقن: أن الأصل في شريعة الإسلام أن تتولى الحكومة المسلمة أمر الزكاة فتجبيها من أربابها، وتصرفها على مستحقيها، وأن على الأمة أن تعاون أولياء الأمر في ذلك، إقرارًا للنظام، وإرساءً لدعائم الإسلام، وتقوية لبيت مال المسلمين.
من أسرار هذا التشريع
"وربما قال قائل: إن الشأن في الأديان أن توقظ الضمائر، وتحيى القلوب، وتضع أمام أبصار الناس مثلاً أعلى، ثم تحاول أن تقودهم بزمام الشوق إلى مثوبة الله، أو تسوقهم بسوط الخشية من عقابه، تاركة لأصحاب السلطان أن يحددوا وينظموا ويطالبوا ويعاقبوا، فهذا من شأن السلطة السياسية، وليس من مهمة التوجيه الديني!
والجواب: أن هذا قد يصح في أديان أخرى، ولكن لا يصح أبدًا في الإسلام، فإنه عقيدة ونظام، وخلق وقانون، وقرآن وسلطان.
ليس الإنسان مشطورًا في الإسلام: شطر منه للدين وشطر آخر للدنيا، وليست الحياة مقسومة: بعضها لقيصر وبعضها لله. وإنما الحياة كلها والإنسان كله، والكون كله لله الواحد القهار.
جاء الإسلام رسالة شاملة هادية، فجعلت من هدفها تحرير الفرد وتكريمه، وترقية المجتمع وإسعاده، وتوجيه الشعوب والحكومات إلى الحق والخير، ودعوة البشرية كلها إلى الله: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله.
وفي هذا الإطار جاء نظام الزكاة فلم تُجعل من شئون الفرد، بل من وظيفة الحكومة الإسلامية، فوكل الإسلام جبايتها وتوزيعها على مستحقيها إلى الدولة لا إلى ضمائر الأفراد وحدها، وذلك لجملة أسباب لا يحسن بشريعة الإسلام أن تهملها:(2/246)
أولاً: إن كثيرًا من الأفراد قد تموت ضمائرهم أو يصيبها السقم والهزال فلا ضمان للفقير إذا ترك حقه لمثل هؤلاء.
ثانياً: في أخذ الفقير حقه من الحكومة لا من الشخص الغني، حفظ لكرامته وصيانة لماء وجهه أن يراق بالسؤال، ورعاية لمشاعره أن يجرحها المن أو الأذى.
ثالثًا: إن ترك هذا الأمر للأفراد يجعل التوزيع فوضى، فقد ينتبه أكثر من غني لإعطاء فقير واحد، على حين يُغفل عن آخر، فلا يفطن له أحد، وربما كان أشد فقرًا.
رابعًا: إن صرف الزكاة ليس مقصورًا على الأفراد من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل؛ فمن الجهات التي تُصرف فيها الزكاة مصالح عامة للمسلمين، لا يقدرها الأفراد، وإنما يقدرها أولو الأمر وأهل الشورى في الجماعة المسلمة، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، وإعداد العدة والعدد للجهاد في سبيل الله، وتجهيز الدعاة لتبليغ رسالة الإسلام في العالمين.
خامسًا: إن الإسلام دين ودولة، وقرآن وسلطان. ولا بد لهذا السلطان وتلك الدولة من مال تقيم به نظامها، وتنفذ به مشروعاتها. ولا بد لهذا المال من موارد، والزكاة مورد هام دائم لبيت المال في الإسلام" (من كتبانا "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام" ص 94-95).
بيت مال الزكاة
ومن هنا نعلم أن الأساس في النظام الإسلامي أن يكون للزكاة ميزانية خاصة، وحصيلة قائمة بذاتها، ينفق منها على مصارفها الخاصة المحددة، وهي مصارف إنسانية وإسلامية خالصة، ولا تُضم إلى ميزانية الدولة العامة الكبيرة التي تتسع لمشروعات مختلفة، وتُصرف في مصارف شتَّى.(2/247)
ولقد أشارت آية مصارف الزكاة من سورة التوبة إلى هذا المبدأ حين قررت أن العاملين عليها يأخذون مرتباتهم منها. فمعنى هذا أن يكون لها ميزانية مستقلة، يُنفق على إدارتها منها، كما بينا ذلك في مصارف الزكاة. وذلك ما فهمه المسلمون منذ أقدم العصور. فقد جعلوا للزكاة بيت مال قائمًا بذاته. إذ قسموا بيوت المال في الدولة الإسلامية إلى أربعة أقسام، فصلها فقهاء الحنفية في كتبهم.
أولها: بيت المال الخاص بالصدقات، وفيه مثل زكاة الأنعام السائمة، وعشور الأراضي، وما يأخذه العاشر من تجار المسلمين المارين عليه.
الثاني: بيت المال الخاص بحصيلة الجزية والخراج.
الثالث: بيت المال الخاص بالغنائم، والركاز (عند من يقول: إنه ليس من الزكاة، ولا يُصرف في مصارفها).
الرابع: بيت المال الخاص بالضوائع، وهي الأموال التي لا يُعرف لها مالك، ومنها التركات التي لا وارث لها، أو لها وارث لا يرد عليه كأحد الزوجين، ودية المقتول الذي لا ولي له، واللقطات التي لم يُعرف لها صاحب (انظر المبسوط: 3/18، والبدائع: 2/68، 69، والدر المختار وحاشية رد المحتار عليه: 2/59، 60).
الأموال الظاهرة والأموال الباطنة ومن يلي زكاتها
قسم الفقهاء الأموال التي تجب فيها الزكاة إلى ظاهرة وباطنة: فالظاهرة هي التي يمكن لغير مالكها معرفتها وإحصاؤها، وتشمل الحاصلات الزراعية من حبوب وثمار، والثروة الحيوانية من إبل وبقر وغنم.
والأموال الباطنة هي النقود وما في حكمها، وعروض التجارة. واختلفوا في زكاة الفطر، فألحقها بعضهم بالظاهرة وبعضهم بالباطنة.(2/248)
فأما القسم الأول - وهو المال الظاهر - فقد اتفقوا - تقريبًا - على أن ولاية جبايته وتفريقه على مستحقيه لولى الأمر في المسلمين، وليس من شأن الأفراد، ولا يُترك لذممهم وضمائرهم وتقديرهم الشخصي، وهو الذي تواترت الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث رسله وعماله لتحصيل الواجب عليهم فيه، وهو الذي يُجبر المسلمون على أدائه للدولة، ويُجاهدون على منعه (انظر: الأموال: ص531). ولهذا قال أبو بكر في شأن قبائل العرب التي أبت أن تدفع إليه الزكاة التي كانوا يدفعونها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه) وهذا كان في الأموال الظاهرة، وبخاصة الأنعام.
أما القسم الثاني - وهو الأموال الباطنة من نقود وعروض تجارة - فقد اتفقوا على أن للإمام أن يتولى أخذها، ويقوم بتوزيعها على أهلها؛ ولكن هل يجب عليه ذلك؟ وهل له أن يُجبر الناس على دفعها إليه وإلى موظفيه؟ وأن يقاتلهم على ذلك، كما فعل أبو بكر؟
هذا ما اختلف فيه الفقهاء، وفيما يلي أهم أقوال المذاهب في ولاية الزكاة:
رأي الحنفية:
فعند الحنفية: ولاية الأموال الظاهرة إلى الإمام، لا إلى الملاك، لآية (خُذْ مِنْ أمْوَالِهٍمْ صَدَقَةً) (التوبة: 103). ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها. ولأن ما للإمام قبضة بحكم الولاية، لا يجوز دفعه إلى المولىَّ عليه، كما في ولي اليتيم (انظر: المغني: 2/643- طبع المنار).
وأما الأموال الباطنة فهي مفوضة إلى أربابها، وقد كانت في الأصل للإمام، ثم ترك أداؤها إليهم منذ عهد عثمان -رضي الله عنه-، حيث رأي المصلحة في ذلك، ووافقه الصحابة - كما سيأتي - فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام، وإن لم يُبطل ذلك حقه في أخذها. ولهذا قالوا: لو علم السلطان من أهل بلدة أنهم لا يؤدون زكاة الأموال الباطنة، فإنه يطالبهم بها، وإلا فلا، لمخالفته الإجماع (حاشية ابن عابدين: 2/5).(2/249)
وأموال التجارة في مواضعها من الأموال الباطنة، فإذا كانت منقولة من إقليم إلى إقليم ومرّ بها التاجر على العاشر فقد التحقت بالظاهرة، ووجب دفعها إليه. والعاشر هو من نصبه الإمام على الطريق للمسافرين ليأخذ الصدقات وغيرها من التجار المارين بأموالهم عليه. قالوا: وما ورد من ذم العشَّار محمول على الآخذ ظلمًا (المرجع السابق ص41-42).
رأي المالكية:
وقال المالكية: تدفع الزكاة وجوبًا للإمام العدل في أخذها وصرفها، وإن كان جائرًا في غيرهما، سواء أكانت ماشية أم حرثًا أو عينًا (نقدًا) فإن طلبها العدل فادعي إخراجها لم يُصدق.
وهل الدفع لمثل هذا الإمام واجب أو جائز فقط؟
ذكر الدردير في شرحه الكبير أنه واجب. واعترضه الدسوقي في حاشيته بأنه مكروه، كما في التوضيح وغيره.
وإنما الواجب اتفاقًا هو الدفع إلى العدل في الأخذ والصرف وفي غيرهما (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/503-504).
وقال القرطبي: "إذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف، لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض (النقد) ولا غيره، وقد قيل: إن زكاة الناض على أربابه، وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف، فلا يفرق عليهم إلا الإمام" (تفسير القرطبي: 8/177).
الشافعية:
وعند الشافعية: للمالك أن يفرق زكاته بنفسه في الأموال الباطنة، وهي: الذهب والفضة وعروض التجارة، وزكاة الفطر (وفيها وجه أنها من الأموال الظاهرة).
وأما الأموال الظاهرة والغلات الزراعية والمعادن، ففي جواز تفريقها بنفسه قولان، أظهرهما وهو الجديد: يجوز، والقديم: لا يجوز، بل يجب صرفها إلى الإمام إن كان عادلاً، فإن كان جائرًا فوجهان، أحدهما: يجوز ولا يجب، وأصحهما: يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله.(2/250)
قالوا: ولو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف، بذلاً للطاعة، فإن امتنعوا قاتلهم الإمام، وإن أجابوا إلى إخراجها بأنفسهم، فإن لم يطلبها الإمام ولم يأت الساعي، أخّرها رب المال ما دام يرجو مجيء الساعي، فإذا أيس فرق بنفسه.
وأما الأموال الباطنة فقال الماوردي: ليس للولاة نظر في زكاتها، وأربابها أحق بها، فإن بذلوها طوعًا قبلها الوالي، فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها بنفسه فهل له أن يقول: إما أن يدفع بنفسك، وإما أن تدفع إلىَّ حتى أفرِّق؟ فيه وجهان يجريان في المطالبة بالنذور والكفارات.
قال النووي: "الأصح وجوب هذا القول إزالة للمنكر" (الروضة: 2/205-206).
الحنابلة:
وعند الحنابلة: لا يجب دفعها إلى الإمام، ولكن له أخذها، ولا يختلف المذهب -كما قال في المغني- أن دفعها إلى الإمام جائز، سواء أكان عادلاً أو غير عادل، وسواء أكانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. ويبرأ بدفعها إليه، سواء تلفت في يد الإمام أو لم تتلف، صرفها في مصارفها أو لم يصرفها، لما جاء ذلك عن الصحابة. ولأن الإمام نائب عنهم شرعًا، فبريء بدفعها، لما جاء ذلك عن الصحابة. ولأن الإمام نائب عنهم شرعًا، فبريء بدفعها إليه، كولي اليتيم إذا قبضها له، ولا يختلف المذهب أيضًا في أن صاحب المال يجوز أن يُفرقها بنفسه.
وإنما الخلاف في المذهب: أيُّ ذلك أحب وأفضل: أن يفرقها المالك بنفسه، إذا لم يطلبها الإمام، أم يدفعها إلى الإمام العادل ليقوم بصرفها في محلها؟
قال ابن قدامة في "المغني":
"يُستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء أكانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. قال الإمام أحمد: أعجب إلى أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز.
وقال الحسن ومكحول وسعيد بن جبير وميمون بن مِهران: يضعها رب المال في موضعها.(2/251)
وقال الثوري: احلف لهم واكذبهم ولا تعطهم شيئًا إذا لم يضعوها مواضعها، وقال: لا تعطهم.
وقال عطاء: أعطهم إذا وضعوها مواضعها. فمفهومه: أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك.
وقال الشعبي وأبو جعفر. إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها.
(ويلاحظ أن هذه الأقوال في الولاة الجائرين فلا تؤيد ما قاله صاحب المغني).
قال: وقد روى عن أحمد أنه قال: أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى السلطان، وأما زكاة الأموال - كالمواشي- فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين.
فظاهر هذا: أنه استحب دفع العُشر خاصة إلى الأئمة، وذلك لأن العُشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض، فهو كالخراج، يتولاه الأئمة، بخلاف سائر الزكاة.
قال: والذي رأيت في الجامع قال: أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها إلى السلطان.
ثم قال أبو عبد الله - يعني الإمام أحمد - قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور؟! قال: ادفعها إليهم.
وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل، وهو قول أصحاب الشافعي.
ثم ذكر ابن قدامة قول من يوجب دفعها إلى الإمام في كل الأموال، وقول من يوجب ذلك في الأموال الظاهرة كمالك وأبي حنيفة وأبي عبيد، مستدلين بما ذكرناه من قبل بآية: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ) (التوبة: 103). ومقاتلة أبي بكر والصحابة عليها...إلخ.
ورد عليهم بقوله: ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأنه أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الأخر، والآية تدل على أن للإمام أخذها، ولا خلاف فيه، ومطالبة أبي بكر بها؛ لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها؛ لأن ذلك مختلف في إجزائه، فلا تجوز المقاتلة من أجله، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها فإذا دفعها إليهم جاز؛ لأنهم أهل رشد، بخلاف اليتيم.(2/252)
وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه، فلأنه إيصال الحق إلى مستحقيه، مع توفير أجر العمالة، وصيانة حقهم من خطر الخيانة، ومباشرة تفريج كربة مستحقها، وإغنائه بها، مع إعطائها للأولى من محاويج أقاربه وذوي رحمه، وصلة رحمه بها، فكان أفضل، كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل.
قال ابن قدامة: فإن قيل: فالكلام في الإمام العادل؛ إذ الخيانة مأمونة في حقه.
قلنا: الإمام لا يتولى ذلك بنفسه، بل يفوضه إلى سعاته، ولا تؤمن منهم الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق - الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه - شيء منها. وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته (انظر: المغني: 2/641-644- طبع المنار (الثالثة).
رأي الزيدية:
وعند الزيدية: أن ولاية الزكاة إلى الإمام ظاهرة وباطنة، ولا ولاية لرب المال فيها مع وجود الإمام العادل. وفسروا الظاهرة بزكاة المواشي والثمار ومثلها الفطرة والخراج والخمس ونحوها. والباطنة زكاة النقدين وما في حكمها كالسبائك وأموال التجارة. وهذا بشرط مطالبته بها.
واستدلوا بآية: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ) (التوبة: 103). وبحديث: تؤخذ من أغنيائهم ونحوه، وببعثه -صلى الله عليه وسلم- للسعاة. وبفعل الخلفاء. وهذا بخلاف الكفَّارات والنذور والمظالم فلا ولاية للإمام عليها، وإنما هي من شأن الأفراد، إلا أن يتقاعدوا عن إخراجها فيلزمهم الإمام بذلك.
والفرق: أن الزكاة ونحوها وجبت بإيجاب الله تعالى. بخلاف الكفَّارات ونحوها فإنها وجبت بسبب من المكلف.
وإذا ثبت أن أمر الزكاة إلى الإمام، فمن أخرج زكاته إلى غير الإمام بعد أن وقع الطلب من الإمام لم يجزه التي أخرجها ولزمه إعادته، ولو كان حال الإخراج جاهلاً بأن أمرها إلى الإمام أو بمطالبته بها؛ لأن جهله بالواجب لا يكون عذرًا في الإخلال به.(2/253)
واعترض بعضهم بأن الذي لا يُعذر بجهله هو الواجب المجمع عليه أما المختلف فيه فالجهل فيه كالاجتهاد، له وجه. وفي كون ولاية الزكاة إلى الإمام في الأموال كلها خلاف، ومقتضى هذا أن تجزئه مع الجهل بالحكم.
ورد على هذا بأن الخلاف المذكور إنما هو عدم الطلب من الإمام، فأما مع مطالبته فأمرها إليه بالإجماع، وتسليمها إليه لازم (شرح الأزهار وحواشيه: 1/527-529).
فإن لم يكن في الزمان إمام، أو كان موجودًا، لكن رب المال في غير جهة ولايته، فرَّقها المالك المرشد في مستحقها (والمرشد هو البالغ العاقل) وغير المرشد كالصبي والمجنون ومن في حكمهما - كالمغمي عليه والمفقود - يخرجها وليه بالنية (شرح الأزهار: 1/534-535).
رأي الإباضية:
وعند الإباضية: أمر الزكاة - إذا كان الإمام ظاهرًا - إلى الإمام، ولا يقسم غني زكاته بنفسه، وإن فعل أعادها، وتجزئه إن أمره الإمام بتفريقها، كذلك نائب الإمام وعامله.
وعندهم قول بإجزائها إذا أعطاها بغير أمر الإمام وأجاز فعله، وقول آخر بأنها تجزئه مطلقًا، إلا إن طالبه بها، فإنه يعيدها له، ولو طالبه بعد علمه بأنه قد أعطاها.
واستدل لهذا القول الأخير بأن ابن مسعود -رضي الله عنه- طلب الزكاة من زوجته، فلولا جواز إعطائها إذا أعطيت بغير إذن الإمام لم يطلبها.
وأما قولها: لا، حتى أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنما امتنعت مخافة ألا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها وبنيها زكاتها.(2/254)
واستدل من أوجب إعطاءها للإمام بقول أبي بكر -رضي الله عنه- : (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه). فأباح قتالهم بل اعتقده فريضة واجبة على منعهم الزكاة منه، فشمل ما لو منعوها لكونهم قد أعطوها في أهلها، أو لكونهم أرادوا أن يعطوها لأهلها بأنفسهم، أو لكونهم لا يعطونها مطلقًا، إنكارًا لها، وهو الواقع في نفس الأمر إذ قالوا: لا نجعل في أموالنا شركاء، وارتدوا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سببه، ولفظه هنا علق فيه القتال على المنع عمومًا (شرح النيل: 2/137-138).
رأي الشعبي والباقر وأبي رزين والأوزاعي:
وممن قال بدفعها إلى الإمام: الشعبي، ومحمد بن علي - الباقر - وأبو رزين، والأوزاعي؛ لأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهرًا وباطنًا، ودفعه إلى الفقير لا يبرئه باطنًا؛ لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف، وتزول عنه التهمة. وكان ابن عمر يدفع زكاته لمن جاءه من سعاة ابن الزبير، أو نجدة الحروري، وقد روى عن سهيل عن أبي صالح قال: أتيتُ سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال، وأريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فما تأمرني؟ فقال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر، فقال مثل ذلك، فأتيت أبا هريرة، فقال مثل ذلك، فأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك. ويروى نحوه عن عائشة -رضي الله عنها- (انظر: المغني: 2/642-643- طبع المنار (الثالثة).
موازنة وترجيح:
قبل أن أرجح وأختار ما أراه بعد هذه النقول من الأقوال والمذاهب، أود أن أشير إلى أن فقهاء المذاهب جميعًا - رغم اختلافهم على تفصيلات كثيرة - كالمتفقين على أمرين أساسيين:
الأول: أن من حق الإمام أن يطالب الرعية بالزكاة. في أي نوع من أنواع المال، ظاهر أو باطن، وخاصة إذا علم من حال أهل بلد أنهم يتهاونون في إيتاء الزكاة، كما أمر الله، وهذا ما أكده علماء الحنفية.(2/255)
ولهذا قال بعض الفقهاء: إن الخلاف في كون أمر الزكاة إلى الإمام إنما هو مع عدم الطلب منه، فأما مع مطالبته، فأمرها إليه بالإجماع (انظر: شرح الأزهار: 1/529).
وحتى لو قلنا بثبوت الخلاف، فإن مطالبته وإلزامه بها ترفع الخلاف، لأن حكم الإمام في أمر اجتهادي وتبنيه له يرفع الخلاف فيه كقضاء القاضي (انظر: البحر: 2/190).
الثاني: وهذا أمر قطعي لا ريب فيه ولا خلاف: أن الإمام أو ولي الأمر إذا أهمل أمر الزكاة ولم يطالب بها، لم تسقط التبعة عن أرباب المال، بل تبقى في أعناقهم، ولا تطيب لهم بحال، ويجب عليهم أداؤها بأنفسهم إلى مستحقيها؛ لأنه عبادة وفريضة دينية لازمة، بل لو اجترأ حاكم ما أن يقول: قد أعفيتكم منها، أو أسقطتها عنكم - في الأموال المجمع عليها - لكان قوله باطلاً وكلامه هدرًا، وظل كل مسلم مسئولاً عن إخراجها إلى أهلها.
وإذا ثبتت هاتان الحقيقتان باتفاق، فقد بقي هنا أمر اختلفوا فيه؛ وهو ما يتعلق بالأموال الباطنة، وهل ولايتها إلى الإمام أم إلى الأفراد.
والذي أراه أن النصوص والأدلة الشرعية، التي جعلت الزكاة من شئون الإمام أو الحكومة المسلمة، لم تفرق بين مال ظاهر ومال باطن، وأن الواجب على الحكومة المسلمة - متى وجدت - أن تتولى أمر الزكاة، تحصيلاً وتوزيعًا. هذا هو الأصل في تلك الفريضة، كما يتبين ذلك فيما يلي:(2/256)
( أ ) قال الإمام الرازي في تفسيره لآية: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) (التوبة: 60). "دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام ومَن يلي من قِبَله، والدليل عليه: أن الله -تعالى- جعل للعاملين سهمًا فيها، وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات، فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات، وتأكد هذا النص بقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) (التوبة: 103). فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يُعرف بدليل آخر. ويمكن أن يُتمسك في إثباته بقوله تعالى: (وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: 19). فإذا كان ذلك الحق حقًا للسائل والمحروم، وجب أن يجوز دفعه إليه ابتداء" (التفسير الكبير للرازي: 16/114).
على أن هذه الآية التي ذكرها الرازي لا تصلح مُتَمَسَّكًا؛ لأن حق السائل والمحروم ثابت أيضًا في الأموال الظاهرة بلا شك، ومع ذلك دلت الدلائل على أنها من شأن الإمام لا من شئون الأفراد، كما بين هو نفسه.
( ب ) وقال المحقق الحنفي الشهير كمال الدين بن الهمام: إن ظاهر قوله تعالى: (خّذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ... الآية، يوجب حق أخذ الزكاة مطلقًا للإمام (يعني: في الأموال الظاهرة والباطنة). وعلى هذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخليفتان من بعده. فلما ولى عثمان، وظهر تغير الناس، كره أن يفتش السعاة على الناس مستور أموالهم، ففوض الدفع إلى الملاك نيابة عنه، ولم يختلف الصحابة عليه في ذلك. وهذا لا يُسقط طلب الإمام أصلاً. ولذا لو علم أن أهل بلد لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها (فتح القدير لابن الهمام: 1/487- طبع بولاق).(2/257)
(جـ) ومما يدل على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ الزكاة من الأموال كلها، ظاهرة أو باطنة: ما رواه أبو عبيد والترمذي والدارقطني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عمر ساعيًا على الصدقة، فأتى العباس يسأله صدقة ماله. فقال: قد عجلتُ لرسول الله صدقة سنتين، فرفعه عمر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (صدق عمي؛ قد تعجلنا منه صدقة سنتين) (الأموال ص599، والحديث قد ورد من عدة طرق لم تخل من ضعف ولكن يقوي بعضها بعضًا. انظر فتح الباري: 3/214، وقد استدل الفقهاء بالحديث على جواز تعجيل الزكاة).
والمعروف أن العباس كان تاجرًا، ولم يكن ماله زرعًا وماشية.
( د ) وقد ورد حديث مشابه لذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث سعاته لجمع الزكاة فقال بعض اللامزين: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس بن عبد المطلب، فخطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكذب عن اثنين: عن العباس وخالد، وصدق على ابن جميل ومما قاله: (إنهم يظلمون خالدًا؛ إن خالدًا احتبس أدراعه وأعتُده في سبيل الله. وأما العباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهي عليه ومثلها معها) وفي رواية: (فهي على ومثلها معها) (الأموال ص592-593، والحديث رواه أحمد والشيخان - نيل الأوطار: 4/149).
(هـ) يؤيد ذلك ما رواه أبو داود وغيره من حديث عليّ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (هاتوا ربع العشور، من كل أربعين درهمًا درهم) .. الحديث (انظر: معالم السنن: 2/188، 189 وتعليق ابن القيم على هذا الحديث في تهذيب سنن أبي داود. مع المصدر نفسه).
فقوله: (هاتوا) يدل على طلب الزكاة من النقود، وإعطائها للإمام.
( و ) وقد وردت الروايات الكثيرة: أن أبا بكر وعمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز وغيرهم، كانوا يأخذون الزكاة من العطاء، وهي رواتب الجنود ومن في حكمهم من المرتبين في الديوان.(2/258)
كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا أعطى إنسانًا العطاء، سأله: هل لك مال؟ فإن قال: نعم، زكَّى ماله من عطائه، وإلا سلم له عطاءه.
وكان ابن مسعود يزكي أعطياتهم من كل ألف خمسة وعشرين (إذ كان مذهبه عدم اشتراط الحول في المال المستفاد)، كما بينا ذلك من قبل.
وكان عمر إذا خرج العطاء جمع أموال التجار، فحسب عاجلها وآجلها، ثم يأخذ الزكاة من الشاهد والغائب (مصنف ابن أبي شيبة: 4/44).
وعن قدامة قال: كنت إذا جئت عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أقبض عطائي سألني: هل عندك من مال وجبت فيه الزكاة؟ فإن قلت: نعم، أخذ من عطائي زكاة ذلك المال، وإن قلت: لا، دفع إلىَّ عطائي (الأم للشافعي: 2/14 - طبع بولاق (الأولى).
( ز ) كما أن الفتاوى التي رويت عن ابن عمر وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- في وجوب دفع الزكاة إلى الأمراء وإن ظلموا، لم تفرق بين مال ظاهر ومال باطن.
رأي أبي عبيد ومناقشته:
وقد ذكر بعض العلماء دليلاً فرَّق به بين المالين: وذلك هو السنة العملية؛ إذ لم يصلنا نقل متواتر أو مشهور، يدل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث عماله ليأخذوا حصة بيت المال من هذه الأموال نقودًا كانت أو عروض تجارة، ويرسلوا بها إليه، أو يوزعوها على المستحقين بتفويض منه، كما صنع في الأموال الظاهرة الأخرى.
ولهذا ذهب من ذهب من الأئمة إلى جواز دفع صدقة هذا المال الباطن إلى السلطان أو تفريقها بنفسه، بشرط أن يتقي الله ويضعها مواضعها، ولا يحابي بها أحدًا، أي الأمرين فعله صاحبه كان مؤديًا للفرض الذي عليه.
قال أبو عبيد: "وهذا عندنا هو قول أهل السنة والعلم من أهل الحجاز والعراق وغيرهم في الصامت (الذهب والفضة والعروض) لأن المسلمين مؤتمنون عليه، كما ائتمنوا على الصلاة.(2/259)
"وأما المواشي والحب والثمار فلا يليها إلا الأئمة. وليس لربها أن يغيبها عنهم، وإن هو فرَّقها ووضعها مواضعها فليست قاضية عنه، وعليه إعادتها إليهم؛ فرَّقت بين ذلك السنة والآثار.
"ألا ترى أن أبا بكر الصديق إنما قاتل أهل الردَّة في المهاجرين والأنصار على منع صدقة المواشي، ولم يفعل ذلك في الذهب والفضة"؟ (الأموال ص573).
ثم ذكر أبو عبيد جملة آثار استدل بها على أن الأفراد هم الذين يتولون إخراج زكاة مالهم الباطن بأنفسهم.
والمتأمل في هذه الآثار التي ذكرها أبو عبيد في جواز تفريق الشخص زكاة ماله الباطن بنفسه وعدم دفعها إلى السلطان، يجدها في الحقيقة استثناء من الأصل، دفعهم إلى الإفتاء به ما رأوا من انحراف بعض الحكام عن سنة الرسول وخلفائه الراشدين، ولهذا لم يظهر هذا القول إلا بعد الفتن السياسية التي خيم ظلامها على المجتمع الإسلامي، منذ عملت الدسائس اليهودية عملها - بقيادة ابن سبأ وأمثاله - حتى قُتل عثمان رضي الله عنه.
فقد روى أبو عبيد بسنده عن ابن سيرين قال (الأموال ص567 وما بعدها). "كانت الصدقة ترفع - أو قال تدفع - إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو مَن أمر به، وإلى أبي بكر أو من أمر به، وإلى عمر أو من أمر به، وإلى عثمان أو من أمر به، فلما قُتِل عثمان اختلفوا: فكان منهم مَن يدفعها، ومنهم من يقسمها، وكان ممن يدفعها إليهم ابن عمر".
وهذا هو المشهور عن ابن عمر الذي قال: (ما أقاموا الصلاة فادفعوها إليهم). وبعض الروايات عنه لم تقيد بهذا القيد، بل قال لمن استفتاه في زكاته: (ادفعها إلى الأمراء وإن توزعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم)، وقال لآخر: (ادفعها إليهم. وإن اتخذوا بها ثيابًا وطيبًا).(2/260)
ولكن بعض الروايات أفاد أنه رجع عن قوله هذا، وقال: ضعوها في مواضعها (المرجع السابق). وناقشه صديق له فقال: ما ترى في الزكاة؟ فإن هؤلاء لا يضعونها مواضعها؟ فقال ابن عمر: ادفعها إليهم. فقال الرجل: أرأيت لو أخروا الصلاة عن وقتها؛ أكنت تصلي معهم؟ قال: لا. قال: فهل الصلاة إلا مثل الزكاة؟ فقال ابن عمر: لبّسوا علينا لبَّس الله عليهم)! (المرجع نفسه). وهذا يُعد تسليمًا بوجهة نظر الرجل.
وكذلك جاء عن إبراهيم النخفي والحسن البصري قالا: "ضعها مواضعها واخفها" (نفس المرجع). أي عن الولاة.
وعن ميمون بن مهران قال: اجعلها صررًا، ثم اجعلها فيمن تعرف، ولا يأتي عليك الشهر حتى تفرقها.
وعن أبي يحيى الكندي قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة، فقال: ادفعها إلى ولاة الأمر. فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنك أمرتني أن أدفعها إلى ولاة الأمر، وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا !! فقال: ضعها حيث أمرك الله. سألتني على رؤوس الأشهاد، فلم أكن لأخبرك (الأموال - المرجع السباق).
فهذه الآثار والفتاوى -وهي التي استند إليها أبو عبيد- قد دلت على ما قلناه: أنها صدرت إبان سخط الضمير الإسلامي على بعض ولاة الحكم الأموي، وانحراف كثير منهم عن النهج الذي جربه الناس في عهد الراشدين.
على أنه إذا صحت التفرقة بين المالين في السنة النبوية، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يرسل سعاته لأخذ الزكاة من المال الباطن أو الصامت - كما يسمى - فإن ذلك كان لسببين:
1- أن الناس كانوا يأتون بها طائعين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدافع الإيمان والرغبة في أداء الواجب إرضاءً لله تعالى.
2- وأن حصر هذا النوع من المال كان غير ممكن إلا لأصحابه، فتركت زكاته وإخراجها لذممهم وضمائرهم التي أحياها الإسلام.(2/261)
وكذلك استمر الأمر في عهد الخليفة الأول أبي بكر -رضي الله عنه- . أما في خلافة عمر بن الخطاب، فقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، واقتضاه ذلك أن ينظم الشئون المالية، ويدوِّن الدواوين، ويقيم نظامًا رائعًا للتكافل الاجتماعي، حتى فرض لكل مولود في المجتمع الإسلامي راتبًا. وحتى شمل ذلك التكافل أهل الذمة مع المسلمين، ومثل هذا النظام يحتاج - ولا شك - إلى تمويل ضخم، وموارد غزيرة.
فلا عجب إذا رأينا عمر -رضي الله عنه- يكلف عماله أن يجمعوا الزكاة من الأموال كلها ظاهرة وباطنة، ولا يتركوها في الباطنة لأصحابها يقدمونها بأيديهم مختارين. وكل هذا تعزيز لميزانية التكافل، وتقوية لبيت مال المسلمين.
وضع عمر لذلك نظام المحصلين المعروفين باسم "العاشرين". وإنما سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يأخذون العُشر من تجار أهل الحرب (مثلما كانوا يأخذون من تجار المسلمين) ويأخذون نصف العُشر من تجار أهل الذمة (وفق ما صالحهم عليه عمر) ويأخذون ربع العُشر من تجار المسلمين (وهو مقدار الواجب في زكاة التجارة). وذلك وفق تعليمات عمر لهم (انظر: الأموال ص531 وما بعدها). فأخذهم يدور على "العُشر" ونصفه وربعه.
واعتبر العلماء عمل الفاروق -رضي الله عنه- رفقًا بأصحاب الأموال الباطنة الذين بعدت ديارهم عن حاضرة الخلافة الإسلامية؛ إذ يشق عليهم أن يحملوا زكاة أموالهم إلى دار الخلافة، فأقام لهم العاشرين لجمعها.
وقد استمرت الزكاة تُجمع بواسطة الإمام ونوابه من الأموال الظاهرة والباطنة، وإن اختلفت طريقة عمر عن طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخليفته أبي بكر، وبالنظر للأموال الباطنة، لاتساع رقعة الدولة.(2/262)
فلما جاء عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كانت موارد بيت المال من الفيء والغنائم والخراج والجزية والعشور والصدقات قد بلغت أرقامًا هائلة، بعد ما أفاء الله عليهم من الفتوح، وأفاض عليهم من الثروات، فرأى عثمان أن يجمع الزكاة من الأموال الظاهرة فحسب، وأما الأموال الباطنة فيدع أمرها إلى أربابها يؤدون - تحت مسئوليتهم - زكاتها بأنفسهم، ثقة منه بأمانة الناس ودينهم، وإشفاقًا عليهم من عنت التحصيل والتفتيش، وتوفيرًا لنفقات الجباية والتوزيع. وكان ذلك اجتهادًا منه -رضي الله عنه-، وإن أدى ذلك - فيما بعد - إلى إهمال كثير من الناس للزكاة في أموالهم الباطنة، لما رقّ دينهم، وقلَّ يقينهم.
وقد فسَّر بعض الفقهاء ذلك بأن أمير المؤمنين عثمان أناب عنه أصحاب الأموال الباطنة في أداء زكاتها. وفي هذا يقول الكاساني في "البدائع":
"كان يأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- إلى زمن عثمان -رضي الله عنه- فلما كثرت الأموال في زمانه رأي المصلحة في أن يفوِّض الأداء إلى أربابها، بإجماع الصحابة، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام. ألا ترى أنه قال: (من كان عليه دين فليؤده وليزك ما بقي من ماله) فهذا توكيل لأرباب الأموال بإخراج الزكاة، فلا يبطل حق الإمام. لهذا قال أصحابنا: إن الإمام إذا علم من أهل بلد أنهم يتركون أداء الزكاة فإنه يطالبهم بها" (بدائع الصنائع: 2/7).
ومن هذا يتبين أن الأصل العام هو: أن الإمام هو الذي يجمع الزكوات من الأموال الظاهرة والأموال الباطنة، وأنه لما صعب جمعها من الأموال الباطنة في عهد عثمان، وكانت أموال بيت المال بكل أقسامه مكدسة فيه تركها لأربابها يؤدونها بالنيابة عنه، فإذا أخلوا بواجب النيابة ولم يؤدوا حق الله في مالهم، تولى الإمام الجمع بنفسه، كما هو الأصل.
من يتولى أمر الزكاة في عصرنا؟(2/263)
تعرض لهذه المسألة شيوخنا الأجلاء: عبد الوهاب خلاف، وعبد الرحمن حسن، ومحمد أبو زهرة - رحمهم الله - وذلك في محاضرتهم عن الزكاة بدمشق سنة 1982، التي نظمتها الجامعة العربية. قالوا:
قد تعين الآن أن يتولى ولي الأمر جمع الزكاة من كل الأموال الظاهرة والباطنة، لسببين:
أولهما: أن الناس تركوا أداء الزكاة في كل الأموال ظاهرها وباطنها؛ فلم يقوموا بحق الوكالة التي أعطاها لهم الإمام عثمان بن عفان ومن جاء بعده من الأمراء والولاة، وقد قرر الفقهاء أن ولي الأمر إن علم أن أهل جهة لا يؤدون الزكاة، أخذها منهم قهرًا، لا فرق في ذلك بين مال باطن ومال ظاهر، وعلى ذلك فقد زالت الوكالة، ووجب الأخذ بالأصل، والسير على ما قرره الفقهاء.
ثانيهما: أن الأموال صارت كلها ظاهرة تقريبًا؛ فالمنقولات التجارية تحصى كل عام إيراداتها، ولكل تاجر صغير أو كبير سجل تجاري تحصى فيه أمواله، وتعرف فيه الخسارة والأرباح، فالطرق التي تعرف بها الأرباح لتفرض عليها ضرائب الحكومة تعرف أيضًا لتفرض على رأس المال وعليها فريضة الزكاة، التي هي حق الله وحق السائل والمحروم. أما النقود، فأكثرها مودع بالمصارف وما يشبهها. وعلمها بهذه الطريقة سهل ميسور والذين يودعون نقودهم بطون الأرض ليسوا في الحقيقة من أهل اليسار الفاحش، وعددهم يقل الآن شيئًا فشيئًا. فليُترك أمر هؤلاء إلى دينهم.(2/264)
"ولقد قرر الفقهاء في حال الخضوع لقرار الإمام عثمان -رضي الله عنه- : أنه في حال ظهور الأموال الباطنة، يؤخذ منها الزكاة بعمال الإمام، ولذلك كان عمل العاشرين قائمًا مع الأخذ بقرار عثمان؛ لأنهم كانوا يأخذون الزكاة عند انتقال النقود وعروض التجارة من بلد إلى بلد، إذ بذلك كانت تعتبر ظاهرة لا باطنة، فكانوا يأخذونها عند الانتقال، إلا إذا أقام الممول الدليل على أنه أعطاها للفقراء، أو أعطاها لعاشر آخر في هذا العام" (حلقة الدراسات الاجتماعية للجامعة العربية - الدورة الثالثة - بحث "الزكاة").
وهذا الكلام من الوضوح وقوة الدليل بحيث لا يحتاج إلى تعليق.
ومن هنا يجب على كل حكومة إسلامية أن تنشئ "مؤسسة" أو "إدارة" خاصة تتولى شئون الزكاة تحصيلاً وتوزيعًا، فتأخذها من حيث أمر الله، وتصرفها حيث أمر الله، كما وضحنا ذلك في مصرف "العاملين عليها" في باب "مصارف الزكاة".
ولكني أرى أن تُترك نسبة معينة من الزكاة الواجبة كالربع أو الثلث، لضمائر أرباب المال يوزعونها بمعرفتهم واختيارهم على المستورين من أقاربهم وجيرانهم، قياسًا على أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للخارصين أن يدعوا الثلث أو الربع لأرباب المال، ليصرفوا زكاته بأنفسهم على أحد التفسيرين. وبذلك نكون قد أخذنا بخير ما في الطريقتين، وجمعنا بين الحسنيين وراعينا الاعتبارات التي ذكرها الحنابلة في استحباب تفرقة المالك لزكاته بنفسه.
وهذا كله بالنظر إلى الحكومة الإسلامية، وهي التي تلتزم الإسلام أساسًا لحكمها، ودستورًا لدولتها، ومنهاجًا لجميع شئونها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإن خالفت حكم الشرع في بعض الأحكام الجزئية كما سنبين ذلك قريبًا.(2/265)
أما الحكومة التي ترفض الإسلام أساسًا للدولة، ودستورًا للحكم، وتحكم بغير ما أنزل الله، مما تستورده من مذاهب الغرب أو الشرق. فهذه لا يجوز لها أن تأخذ الزكاة، وإلا استحقت وعيد الله تعالى إذ قال: (أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلكَ مِنكُمْ إلا خزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أشَدِّ العَذَابِ، ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85).
أقوال المذاهب فيمن كتم الزكاة أو امتنع منها أو ادعى أداءها
ومما يؤكد مسئولية الدولة عن الزكاة: ما قرره فقهاء المذاهب الإسلامية كافة من عقوبة الممتنع عن الزكاة، وأخذها منه بالقهر إن لم يدفعها طوعًا واختيارًا. وما فصَّله بعضهم من القول فيما إذا ادعى عدم ملك النصاب أو سقط الزكاة عنه أو نحو ذلك.
عند الحنفية:
فعند الحنفية: من طلب منه العاشر زكاة ماله - إذا مرّ به عليه - فقال: لم يتم له حوْل، أو قال: علىَّ دَيْن محيط أو منقص للنصاب، أو قال: أديتُ إلى عاشر آخر، وكان هناك عاشر آخر محقق، طلب منه اليمين، فإذا حلف صدّق. وفي رواية: اشتراط أن يخرج براءة خطية بالدفع إلى عاشر آخر، وردوا هذه الرواية بأن الخط يشبه الخط (ثبت في عصرنا أن الخطوط - وإن كانت تتشابه في الظاهر - تتمايز في الواقع، فكل كاتب له خطه الذي يميزه، ولذلك دلائل وأمارات يعرفها أهل الاختصاص من خبراء الخطوط. والأحكام الشرعية مبنية على غلبة الظن، وقد أصبح اعتماد الكتابة والخط في عصرنا أمرًا لا بد منه. كما أن السلطات تمنح موظفيها أختامًا معتمدة. وللمزورين عقوبات صارمة). وقد يُزوَّر. وقد لا يأخذ البراءة غفلة منه، وقد تضيع بعد الأخذ، فلا يمكن أن تجعل حكمًا، فيعتبر قوله مع يمينه.
وإذا حلف وظهر كذبه - ولو بعد سنين - أخذت منه الزكاة؛ لأن حق الأخذ ثابت، فلا يبطل باليمين الكاذبة.(2/266)
ولو قال للعاشر إذا طلب منه الزكاة: قد أديتها بنفسي إلى الفقراء في البلد، وحلف على ذلك صدَّق. إلا في زكاة الأنعام؛ لأن حق الأخذ فيها للسلطان، فلا يملك إبطاله. وكذلك الأموال الباطنة إذا أخرجها من البلد؛ لأنها بإخراجها التحقت بالأموال الظاهرة، فكان الأخذ فيها للإمام أو مَن ينوب عنه (الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 2/42-43- طبع الميمنية).
ومثل ذلك الخارج من الأرض من زرع وثمر، فهو من الأموال الظاهرة (يلاحظ أن أكثر الحنفية ينظرون إلى العُسر كأنه شيء غير الزكاة، لأنه ليس بعبادة محضة وفيه معنى مؤنة الأرض أي أجرتها، ولا يشترط فيه حولان الحول اتفاقًا، ولا النصاب عند أبي حنيفة ولهذا يؤخذ من التركة ولو لم يوصي به، ويجب مع الدين، وفي أرض الصغير والمجنون والوقف، ولهذا قالوا: إن تسميته زكاة مجاز. وبعضهم قال: هو زكاة على قول الصاحبين فقط، ورد ذلك المحقق ابن الهمام وقال: لا شك أنه زكاة، كما ذكرنا ذلك في زكاة الثروة الزراعية ص367 والصحيح ما أدناه غير مرة: أن الزكاة: كلها ليست عبادة محضة، ولذا تجرى فيها النيابة، وتؤخذ قهرًا. وتجب - على المختار - في مال الصبي والمجنون ... إلخ). ولذا كان للإمام أخذ العُشر منه جبرًا. ويسقط الفرض عن صاحب الأرض، كما لو أدى بنفسه، إلا أنهم قالوا: إذا أدى بنفسه يثاب ثواب العبادة، وإذا أخذه الإمام يكون له ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى (المصدر السابق ص54).
عند المالكية:
من امتنع عن أداء الزكاة أخذت منه كرهًا، إذا كان له مال ظاهر، وعزِّر. فإن لم يكن له مال ظاهر. وكان معروفًا بالمال، فإنه يُحبس حتى يظهر ماله، فإن ظهر بعضه، واتهم في إخفاء غيره. فقال مالك: يصدق ولا يحلف: أنه ما أخفى، وإن اتهم. وأخطأ مَن يحلَّف الناس.(2/267)
وإن لم يمكن أخذها منه إلا بقتال قاتله الإمام، ولا يقصد قتله، فإن اتفق أنه قتل أحدًا قُتل به، وإن قتله أحد كان هدرًا (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/503).
عند الشافعية:
وعند الشافعية قال صاحب "المهذب": "من وجبت عليه الزكاة وامتنع من أدائها نظرت:
"فإن كان جاحدًا لوجوبها فقد كفر، وقتل بكفره، كما يُقتل المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله -تعالى- ضرورة، فمن جحد وجوبها، فقد كذَّب اللَّه، وكذب رسوله، فحكم بكفره.
"وإن منعها بخلاً بها أخذِت منه وعُزِّر.
"وقال الشافعي في القديم: تؤخذ الزكاة وشطر ماله، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد فيها شيء) (الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقد تقدم الكلام عليه في الباب الأول ص94، 95. وقد رواه الحاكم أيضًا في المستدرك: 1/398 وصحح إسناده ووافقه الذهبي، وقال يحيى بن معين: إسناده صحيح إذا كان من دون بهز ثقة، وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال: ما أدري وجهه، وسئل عن إسناده فقال: صالح الإسناد، وقال أبو حاتم: بهز لا يُحتج به، وقال ابن حبان: لولا هذا الحديث لأدخلته في الثقات، وقال ابن حزم: غير مشهور بالعدالة، وقال ابن الطلاع: مجهول؛ وتعقبا بأنه قد وثقه جماعة من الأئمة، وقال ابن عدي: لم أر له حديثًا منكرًا، وقال الذهبي: ما تركه عالم قط، وإنما توقفوا في الاحتجاج به. وقد تُكلمِ فيه أنه كان يلعب بالشطرنج. قال ابن القطان: وليس ذلك بضائر له. فإن استباحته مسألة فقهية مشتهرة، وقال البخاري: يختلفون فيه، وقال ابن كثير: الأكثر لا يحتجون به، وقال الحاكم: حديثه صحيح، وقد حسَّن له الترمذي عدة أحاديث، ووثقه واحتج به أحمد، وإسحاق، والبخاري خارج الصحيح، وعلق له، وروى عن أبي داود أنه حجة عنده.(2/268)
انظر نيل الأوطار: 4/122- طبع العثمانية وتهذيب التهذيب: 1/498-499 ترجمة (924). وميزان الاعتدال: 1/353-354 ترجمة (1324). والصحيح هو الأول.
"وإن امتنع (أي مَن بخل بالزكاة) بمنعة، قاتلهم الإمام؛ لأن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قاتل مانعي الزكاة" أ هـ. (انظر: المهذب وشرحه "المجموع" :5/331-332).
الإجماع على تأديب الممتنع وأخذها منه قهرًا:
والحكم الأول - وهو الحكم بكفر من منع الزكاة جاحدًا لوجوبها، وقتله مرتدًا - مجمع عليه، بشرط ألا يكون ممن يعذر مثله كأن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن أمصار المسلمين. كما ذكرنا في الباب الأول. وكذلك الحكم الثاني، وهو أخذ الزكاة قهرًا ممن وجبت عليه وامتنع من أدائها بخلاً بها. وكذلك تعزيره وتأديبه بالحبس ونحوه (انظر: البحر الزخار: 2/190).
عقوبة الممتنع بمصادرة نصف ماله وما فيه من خلاف:
وإنما الخلاف في عقوبة الممتنع بأخذ شطر ماله، وعبارة أخرى: مصادرة نصف ماله، تأديبًا له، وزجرًا لأمثاله. كما نطق به حديث بهز بن حكيم، وقال به الشافعي في التقديم وإسحاق، وروى عن أحمد والأوزاعي، ورجحه بعض الحنابلة - كما سيأتي - محتجًا بهذا الحديث الصريح.
والقول الجديد للشافعي، وهو قول الجمهور: أنه لا يؤخذ منه إلا قدر الزكاة.
( أ ) لحديث: (ليس في المال حق سوى الزكاة) (سيأتي تخريجه).
( ب ) ولأنها عبادة فلا يجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله، كسائر العبادات.
(جـ) ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر -رضي الله عنه- والصحابة متوافرون. ولم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولاً بذلك (السنن الكبرى: 4/605).
أما حديث بَهْز فنقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: ولا يثبت أهل العلم بالحديث أن تؤخذ الصدقة وشطر إبل الغال لصدقته، ولو ثبت قلنا به (المرجع السابق).(2/269)
وأيَّد البيهقي قول الشافعي بأن بهزًا لم يخرج له الشيخان (نفس المرجع). وهذا لا يكفي لتضعيف حديثه. فكم من حديث صحيح لم يخرجاه، ومنه ما احتج به البيهقي وغيره من الأئمة.
ثم قال البيهقي: وقد كان تضعيف الغرامة على من سرق في ابتداء الإسلام ثم صار منسوخًا، واستدل الشافعي على نسخه بحديث البراء بن عازب فيما أفسدت ناقته، فلم ينقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك القصة: أنه أضعف الغرامة بل نقل فيها حكمه بالضمان فقط، فيحتمل أن يكون هذا من ذاك (نفس المرجع السابق).
وقال المارودي: وفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (ليس في المال حق سوى الزكاة) ما يصرف هذا الحديث عن ظاهره من الإيجاب إلى الزجر والإرهاب، كما قال: (من قتل عبده قتلناه) (رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن غريب وفي إسناده ضعف؛ لأنه من رواية الحسن عن سمرة وبظاهره قال بعض العلماء. (نيل الأوطار: 7/15- طبع الحلبي). وإن كان لا يُقتل بعبده (الأحكام السلطانية ص121).
وقال النووي في "الروضة":
الحديث الوارد في سنن أبي داود وغيره "بأخذ شطر ماله" ضعفه الشافعي -رحمة الله عليه- ونقل أيضًا عن أهل العلم بالحديث أنهم لا يثبتونه. وهذا الجواب هو المختار. وأما جواب من أجاب من أصحابنا بأنه منسوخ فضعيف، فإن النسخ يحتاج إلى دليل، ولا قدرة لهم عليه هنا (الروضة: 2/209).
وكذا قال في المجموع: أجاب الأصحاب عن حديث بهز بأنه منسوخ، وأنه كان حين كانت العقوبة بالمال. قال: وهذا الجواب ضعيف لوجهين:
أحدهما: أن ما ادعوه من كون العقوبة كانت بالأموال في أول الإسلام ليس بثابت ولا معروف.
والثاني: أن النسخ إنما يُصار إليه إذا علم التاريخ، وليس هنا علم بذلك.
والجواب الصحيح: تضعيف الحديث (المجموع: 5/334).
مناقشة وترجيح:(2/270)
والذي نراه أن حديث بَهْز بن حكيم ليس فيه مطعن معتبر، وهو - كما قلنا من قبل (راجع ص94). وما بعدها. - يتضمن عقوبة تعزيرية مفوضة إلى رأي الإمام وتقديره. وهو يدخل فيما ذكرناه غير مرة من الأحاديث التي ترد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بوصف الإمامة والرياسة، كما ذكر القرافي والدهلوي وغيرهما (انظر: ص251-253 من هذا الكتاب).
وقد سبق هذا الحديث ما تفرضه التشريعات الحديثة من عقوبات مالية رادعة للمتهربين من دفع ما عليهم من الضرائب.
والذين ردوا حديث بهز استندوا إلى أحد أمور ثلاثة:
1- بعضهم استند إلى معارضة الحديث لما ثبت أنه لا حق في المال سوى الزكاة. وقد روى في ذلك حديث مرفوع (انظر: البحر الزخار: 2/190، والمغني: 2/573، والأحكام السلطانية للماوردي ص121).
2- وبعضهم استند إلى أنه نوع من العقوبة بالمال، وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ.
3- وبعضهم استند إلى أن الحديث ضعيف، لضعف بهز راويه، وعلى هذا عول النووي.
فأما الأمر الأول، فسنبين في باب مستقل أن في المال حقوقًا سوى الزكاة، كما جاءت بذلك الآيات الكريمة، وصحت به الأحاديث الصريحة. فلا تعارض إذن بين حديث بهز وغيره.
وأما الثاني، فالصحيح أن العقوبة بالمال لم تُنسخ، وقد ذكر المحقق ابن القيم في "الطرق الحكمية" خمس عشرة قضية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولخلفائه الراشدين، تحققت فيها العقوبة بالمال (انظر: الطرق الحكمية -صلى الله عليه وسلم-287- طبع المدني).
وأما تضعيف الحديث، فالذي يبدوا أنه ليس تضعيف سند، بل هو نوع من الإعلال بسبب موضوع الحديث. فهو مبني على الأمرين السابقين. ولهذا نجدهم أو بعضهم ضعفوا بهزًا بسبب هذا الحدث، ولم يُضعفوا الحديث بسبب بهز، كما هو المتبع. قال ابن حبان: لولا هذا الحديث لأدخلت بهزًا في الثقات!(2/271)
قال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود بعد أن نقل كلام الأئمة في بهْز، وتصحيح أحمد وإسحاق وابن المديني لحديثه: وليس لمن رد هذا الحديث حُجَّة، ودعوى نسخه دعوى باطلة، إذ هي دعوى ما لا دليل عليه، وفي ثبوتشرعيةالعقوبات المالية عدة أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت نسخها بحجة، وعمل بها الخلفاء بعده. وأما معارضته بحديث البراء في قصة ناقته، ففي غاية الضعف، فإن العقوبة إنما تسوغ إذا كان المعاقب متعديًا بمنع واجب أو ارتكاب محظور. وأما ما تولد من غير جنايته وقصده، فلا يسوغ أحد عقوبته عليه. وقول من حمل ذلك على سبيل الوعيد دون الحقيقة، في غاية الفساد، يُنزه عن مثله كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقول ابن حبان: لولا حديثه هذا لأدخلناه في الثقات، كلام ساقط جدًا، فإنه إذا لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا لأدخلناه في الثقات، كلام ساقط جدًا، فإنه إذا لم يكن لضعفه سبب إلا روايته هذا الحديث، وهذا الحديث إنما رُدّ لضعفه، كان هذا دورًا باطلاً. وليس في روايته لهذا ما يوجب ضعفه؛ فإنه لم يخالف فيه الثقات (تهذيب السنن مع مختصر المنذري والمعالم: 2/194).
والغريب أن كثيرًا من أصحاب الكتب المعتمدة في الفقه، كالشيرازي في "المهذب" والماوردي في "الأحكام السلطانية" وابن قدامة في "المغني" وغيرهم ردوا حديث بهزْ الصحيح أو المختلف على الأقل في صحته بحديث لا قيمة له من الناحية العلمية، وهو حديث: (ليس في المال حق سوى الزكاة).
ولهذا ينبغي معرفة درجة الأحاديث وقيمتها من مصادرها ومن أهلها.. (وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر: 14).
عند الحنابلة:(2/272)
وعند الحنابلة مثل ما عند الشافعية. قال ابن قدامة بعد أن بين ردة مانع الزكاة جحدًا وتكذيبًا: وإن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره. ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم، وكذلك إن غلّ ماله وكتمه، حتى لا يأخذ الإمام زكاته، فظهر عليه.
وقال إسحاق بن راهوية، وأبو بكر عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله. لما روي بهز بن حكيم.
فإن كان خارجًا عن قبضة الإمام قاتله. لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قاتلوا مانعيها. فإن ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة أيضًا، ولم تُسب ذريته لأن الجناية من غيرهم. ولأن المانع لا يسبي فذريته أولى. وإلا قُتِل، ولم يُحكم بكفره.
وعن أحمد ما يدل على أنه يكفر بقتاله عليها. فروى الميموني عنه: إذا منعوا الزكاة - كما منعوا أبا بكر - وقاتلوا عليها. لم يورثوا. ولم يصل عليهم. قال عبد الله بن مسعود: ما تارك الزكاة بمسلم.
ووجه ذلك؛ ما روى: أن أبا بكر -رضي الله عنه- لما قاتلهم وعضتهم الحرب، قالوا: نؤديها. قال: لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) ولم يُنقل إنكار ذلك عن أحد من الصحابة، فدل على كفرهم.(2/273)
ووجه الأول: أن عمر وغيره من الصحابة، امتنعوا من القتال في بدء الأمر، ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه. ثم اتفقوا على القتال، وبقي الكفر على أصل النفي، ولأن الزكاة فرع من فروع الدين، فلم يكفر تاركه بمجرد تركه كالحج. وإذا لم يكفر بتركه لم يكفر بالقتال عليه كأهل البغي. وأما الذين قال لهم أبو بكر هذا القول، فيُحتمل أنهم جحدوا وجوبها، ولأن هذه قضية في عين (أي في حالة معينة) فلا يُتحقق من الذين قال لهم أبو بكر هذا القول؟ فيحتمل أنهم كانوا مرتدين، ويحتمل أنهم جحدوا وجوب الزكاة، ويحتمل غير ذلك، فلا يجوز الحكم به في محل النزاع، ويحتمل أن أبا بكر قال ذلك، لأنهم ارتكبوا كبائر وماتوا من غير توبة، فحكم لهم بالنار ظاهرًا. كما حكم لقتلى المجاهدين بالجنة ظاهرًا، والأمر إلى الله تعالى في الجميع، ولم يحكم عليهم بالتخليد، ولا يلزم من الحكم بالنار الحكم بالتخليد، بعد أن أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن قومًا من أمته يدخلون النار، ثم يخرجهم الله تعالى منها ويدخلهم الجنة" اهـ (انظر: المغني: 2/573-575).
عند الزيدية:
وفي الأزهار وشرحه للزيدية: إذا ادعى رب المال أن الزكاة ساقطة عنه، وأنه لا يملك النصاب فالقول قوله، ولكن يجب على الإمام أو من يلي من جهته أن يحلفه عند التهمة - أي بالشك في صدقه - وهذا إذا لم تكن عدالته ظاهرة، فأما إذا كان ظاهر العدالة فإنه لا يُحلَّف (شرح الأزهار وحواشيه: 1/530، وانظر: البحر: 2/190-191).
أما إذا أقر رب المال بوجوب الزكاة، لكن ادعى أنه قد فرقها - قبل مطالبة الإمام - في مستحقها، ولم يتحقق المصدق ذلك، فعلى مدعي التفريق أن يقيم البينة على ذلك؛ لأن الأصل عدم الإخراج - وعلى أن التفريق وقع قبل طلب الإمام. فإن أقام البينة على الوجوب جميعًا. وإلا أخذها منه المصدق، وليس له أن يقبل قوله، ولو كان ظاهر العدالة (المرجع السابق).
دفع الزكاة إلى السلطان الجائر(2/274)
ومما يتمم ما سبق ما ذكره العلماء في حكم دفع الزكاة إلى السلطان الجائر، واختلافهم فيه على ثلاثة أقوال:
1- الجواز مطلقًا. 2- المنع مطلقًا. 3- التفصيل.
رأى المجوزين:
أما المجوزون فاحتجوا لمذهبهم في جواز الدفع إلى الظلمة بجملة أحاديث صريحة منها ما ذكره في "المنتقي" (انظر: نيل الأوطار: 4/164-165).
( أ ) عن أنس: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك فقد برئتُ منها إلى الله ورسوله؟ قال: (نعم، إذا أديتها إلى رسولي فقد برئتَ منها إلى الله ورسوله، فلك أجرها، وإثمها على من بدلها) (رواه أحمد، كما في نيل الأوطار: 4/155- طبع العثمانية).
( ب ) وعن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها) قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟. قال: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) (متفق عليه - المرجع السابق).
(جـ) وعن وائل بن حجر قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجل يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقنا ويسألوننا حقهم؟ فقال: (اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم) (رواه مسلم والترمذي وصححه - المرجع نفسه).
ولهذه الأحاديث مغزى ذو أهمية، وهو أن الدولة الإسلامية في حاجة دائمة إلى مال تقيم به التكافل الاجتماعي، وتحقق به كل مصلحة عامة تعلو بها كلمة الإسلام، فإذا كف الأفراد أيديهم عن مد الدولة بالمال اللازم، لجور بعض الحاكمين، اختل ميزان الدولة، واضطرب حبل الأمة، وطمع فيها أعداؤها المتربصون، فكان لا بد من طاعتها بأداء ما تطلب من الزكاة. وهذا لا ينافي مقاومة الظلم بكل سبيل شرعها الإسلام.
فعلى الأفراد المسلمين أن يقدموا ما يُطلب منهم من الحقوق المالية، وعليهم مع ذلك المناصحة لولاة الأمر، قيامًا بواجب النصيحة في الدين، والتواصي بالحق والصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(2/275)
ويبقى هنا حق الجماعة المسلمة، بل واجبها في خلع يد الطاعة إذا رأوا كفرًا بواحًا عندهم فيه من الله برهان.
كما يبقى حق الفرد المسلم، بل واجبه في التمرد على كل أمر مباشر يصدر إليه بمعصية صريحة، كما جاء في الحديث الصحيح: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (رواه الجماعة عن ابن عمر، كما في الجامع الصغير).
رأي المانعين مطلقًا وأدلتهم:
وأما رأي المانعين منعًا مطلقًا من دفع الزكاة إلى حكام الجور، فهو أحد قولي الشافعي، وحكاه المهدي في البحر عن العترة: أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى الظلمة ولا يجزيء، واستدلوا بقوله تعالى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة: 124).
ورد عليهم الشوكاني بأن عموم هذه الآية - على تسليم صحة الاستدلال بها على محل النزاع - مخصص بالأحاديث المذكورة في الباب (نيل الأوطار: 4/165).
رأي القائلين بالتفصيل:
وذهب بعض الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن لرب المال دفع الزكاة إلى الساعي والوالي - ولو كان فاسقًا - إذا كان يضعها مواضعها ويصرفها حيث أمر الله. وإن لم يكن يضعها مواضعها ويصرفها إلى مستحقيها حرم دفعها إليه، ويجب كتمها إذن (نيل الأوطار - المرجع السابق). بل قال الماوردي من الشافعية في مثل هذا الوالي: إذا أخذ الزكاة من أربابها طوعًا أو جبرًا، لم يجزهم عن حق الله -تعالى- في أموالهم ولزمهم إخراجها بأنفسهم إلى مستحقيها (الأحكام السلطانية للماوردي ص117- طبع المطبعة المحمودية التجارية بمصر).
وعند المالكية:(2/276)
ذكر الدردير في الشرح الكبير (الجزء الأول ص502). على مختصر "خليل": أن من دفعها لجائر معروف بالجور في صرفها وجار بالفعل، لم تجزه. والواجب جحدها والهرب بها ما أمكن، فإن لم يجر، بأن دفعها لمستحقها أجزأت، وأما إذا كان عدلاً في صرفها وأخذها، جائرًا في غيرها، فقال الدردير: يجب الدفع إليه. ونقل الدسوقي في حاشيته: أنه ليس كذلك، بل هو مكروه (حاشية الدسوقي: 1/504).
وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة: "لا خلاف أنها تُدفع للإمام العدل اختيارًا، وغير العدل لا تُدفع إليه إلا أن يطلبها، ولا يمكن إخفاؤها عنه، ومن أمكنه أن يفرقها دونه لم يجز له دفعها إليه. ورواه ابن القاسم وابن نافع: إن كان يحلفه عليها أجزأه دفعها إليه. ورأى أشهب: إذا أكره عليها أنها تجزئه، واستحب إعادتها. ودفعها ابن عبد الحكم إلى وإلى المدينة، وقال ابن رشد: اختلف في إجزاء دفعها لمن لا يعدل فيها ولا يضعها مواضعها، فمذهب المدونة وأصبغ وابن وهب وأحد قولي ابن القاسم في سماع يحيى: الإجزاء، والقول الثاني لابن القاسم في السماع: عدم الإجزاء. والمشهور: إجزاؤها إن أكره، والله حسيب من ظلم، ولكن لا تجزيء إلا بتسميتها زكاة، وأخذه برسمها" اهـ (شرح الرسالة: 1/340-341).
يعني أنها إذا أخذت باسم المكس أو الضريبة أو نحو ذلك لا يجزيء عند أهل المذهب جميعًا.
وعند الحنفية:
إذا أخذ البغاة وسلاطين الجور زكاة الأموال الظاهرة، أو الخراج، فصرفوا المأخوذ في محله، فلا إعادة على أربابها. وإن لم يصرفوه في محله ويضعوه في موضعه المشروع، فعليهم - فيما بينهم وبين الله - إعادة الزكاة، لا الخراج، لأنهم مصارفه، فهو حق المقاتلة، وهم يقاتلون أهل الحرب.
واختلف في الأموال الباطنة، فأفتى بعضهم بعدم الإجزاء؛ لأنه ليس للظالم ولاية أخذ الزكاة منها. ولهذا لا يصح الدفع إليه، لانعدام الاختيار الصحيح.(2/277)
وفي المبسوط: الأصح الصحة إذا نوى بالدفع إلى الظلمة التصدق عليهم؛ لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء(الدر المختار وحاشيته: 2/26-27، والحق أن هؤلاء يعتبرون غارمين مدينين بما عليهم من حقوق الناس وأموالهم، وقد ذكرنا في مصرف "الغارمين" اشتراط أن يكون دينه في غير معصية ولا سرف، ولم يتحقق هنا هذا الشرط).
عند الحنابلة:
وأما عند الحنابلة فقال ابن قدامة في المغني: "إذا أخذ الخوارج والبغاة الزكاة أجزأت عن صاحبها، وكذلك كل من أخذها من السلاطين أجزأت عن صاحبها، سواء عدل فيها أو جار، وسواء أخذها قهرًا، أو دفعها إليه اختيارًا.
قال أبو صالح: سألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر، وجابرًا وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة، فقلت: هذا السلطان يصنع ما ترون، أفأدفع إليهم زكاتي؟ فقالوا كلهم: نعم.
وقال إبراهيم: يجزيء عنك ما أخذ العشَّارون.
وعن سلمة بن الأكوع: أنه دفع صدقته إلى نجدة (الخارجي).
وعن ابن عمر: أنه سئل عن مصدَّق ابن الزبير ومصدِّق نجدة؟ فقال: إلى أيهما دفعت أجزأ عنك.
وبهذا قال أصحاب الرأي فيما غلبوا عليه (أي ما نفذ فيه حكمهم من البلاد)، وقالوا: إذا مرّ على الخوارج فعشروه لا يجزيء عن زكاته.
وقال أبو عبيد في الخوارج يأخذون الزكاة: على مَن أخذوا منه الإعادة؛ لأنهم ليسوا بأئمة، فأشبهوا قُطّاع الطرق.
قال ابن قدامة: ولنا قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه، فيكون إجماعًا، ولأنه دفعها إلى أهل الولاية، فأشبه دفعها إلى أهل البغي." (المغني: 2/644-645- طبع المنار (الثالثة).
وكذلك ذكر في مطالب أولى النهي: "أن المذهب لا يختلف في جواز دفعها إلى الإمام، عدلاً كان أو جائرًا، ظاهرًا كان المال أو باطنًا. مستدلاً بما جاء عن الصحابة في ذلك. قال أحمد: كانوا يدفعون الزكاة إلى الأمراء، وهؤلاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرون بدفعها، وقد علموا فيم ينفقونها، فما أقول أنا"؟! (مطلب أولي النهي: 2/120).
موازنة وترجيح:(2/278)
الذي أراه في هذه المسائل هو صحة الدفع إلى الظلمة إذا أخذوا ما أخذوه بعنوان الزكاة، ولا يُكلَّف المسلم الإعادة في أي صورة من الصور، فإذا لم يأخذوه باسم الزكاة لم يجزئه، كما قال المالكية وغيرهم، وسنعود إلى ذلك في باب " الزكاة والضريبة".
أما هل يدفع إلى الظالم أو لا؟، فإني أختار الدفع إليه إذا كان يوصلها إلى مستحقيها، ويصرفها في مصارفها الشرعية، وإن جار في بعض الأمور الأخرى.
فإن كان لا يضعها في مواضعها فلا يدفعها إليه إلا إن طالب بها، فلا يسعه الامتناع، عملاً بالأحاديث التي سقناها من قبل، وبفتاوى الصحابة المتكررة في دفع الزكاة إلى الأمراء وإن ظلموا.
التزام الحاكم للإسلام شرط
والذي لا ريب فيه أن هؤلاء الأمراء الذين أفتى الصحابة بدفع الزكاة إليهم إنما هم قوم مسلمون آمنوا بالإسلام والتزموه، وارتضوه حكمًا بل جاهدوا في سبيله، وفتحوا الفتوح باسمه وتحت رايته. وإن حادوا في بعض أحكامهم عنه، إيثارًا للدنيا أو اتباعًا للهوى.
فهؤلاء تُدفع إليهم الزكاة وسائر الحقوق المالية، كما صرحت بذلك الأحاديث الصحيحة التي استدل بها الجمهور.
وهؤلاء غير كثير من حكام عصرنا الذين قطعوا صلتهم بالإسلام، واتخذوه وراءهم ظهريًا، واتخذوا هذا القرآن مهجورًا، بل إن منهم مَن أصبح حربًا على الإسلام وأهله ودعاته، فهؤلاء لا يجوز أن يُعَانوا بمال الزكاة على نشر كفرهم وإلحادهم وإفسادهم في الأرض، فالتزام الحاكم للإسلام شرط في جواز دفع الزكاة إليه.
ولقد اتفق جمهور الفقهاء على أن ابن السبيل المسافر في معصية لا يُعطي من مال الزكاة حتى يتوب، وكذلك الغارم في معصية، إذ لا يجوز أن يعانا من مال الله على معصية الله.
فكيف بحاكم يأخذ مال الله ليصد عن سبيل الله، ويعطل شريعة الله، ويؤذي كل مَن دعا إلى حكم اللَّه؟(2/279)
ويعجبني هنا ما قاله المصلح العلاَّمة السيد رشيد رضا - رحمه الله - في تفسير المنار قال: وإمام المسلمين في دار الإسلام هو الذي تؤدي له صدقات الزكاة، وهو صاحب الحق بجمعها وصرفها لمستحقيها، ويجب عليه أن يقاتل الذين يمتنعون عن أدائها إليه.
"ولكن أكثر المسلمين لم يبق لهم في هذا العصر حكومات إسلامية تقيم الإسلام بالدعوة إليه، والدفاع عنه، والجهاد الذي يوجبه وجوبًا عينيًا أو كفائيًا، وتقيم حدوده، وتأخذ الصدقات المفروضة كما فرضها، وتضعها في مصارفها التي حددها، بل سقط أكثرهم تحت سلطة دول الإفرنج، وبعضهم تحت سلطة حكومات مرتدة عنه أو ملحدة فيه (أصبح هذا النوع هو الأعم الأغلب على الحكومات في كثير من بلاد المسلمين اليوم، فقد تحررت من سلطان دول الإفرنج لتقع في سلطة العلمانيين واللادينيين). ولبعض الخاضعين لدول الإفرنج رؤساء من المسلمين الجغرافيين، اتخذهم الإفرنج آلات لإخضاع الشعوب لهم باسم الإسلام حتى فيما يهدمون به الإسلام، ويتصرفون بنفوذهم وأمرهم في مصالح المسلمين وأموالهم الخاصة بهم فيما له صفة دينية من صدقات الزكاة والأوقاف وغيرها. فأمثال هذه الحكومات لا يجوز دفع شيء من الزكاة لها مهما يكن لقب رئيسها ودينه الرسمي.
"وأما بقايا الحكومات الإسلامية التي يدين أئمتها ورؤساؤها بالإسلام، ولا سلطان عليهم للأجانب في بيت مال المسلمين، فهي التي يجب أداء الزكاة الظاهرة لأئمتها. وكذا الباطنة - كالنقدين - إذا طلبوها، وإن كانوا جائرين في بعض أحكامهم كما قال الفقهاء، وتبرأ ذمة من أداها إليهم، وإن لم يضعوها في مصارفها المنصوصة - في الآية الحكيمة - بالعدل.(2/280)
"والذي نص عليه المحققون - كما في شرح المهذب وغيره - أن الإمام أو السلطان إذا كان جائرًا لا يضع الصدقات في مصارفها الشرعية، فالأفضل لمن وجبت عليه أن يؤديها لمستحقيها بنفسه إذا لم يطلبها الإمام أو العامل من قِبَلِه" (تفسير المنار: 10/595،596- الطبعة الثانية)
الفصل الثالث
دفع القيمة في الزكاة
فهرس
أدلة المجوِّزين
موازنة وترجيح
اختلاف الفقهاء في دفع القيمة
سبب الخلاف
أدلة المانعين من إخراج القيمة
اختلاف الفقهاء في دفع القيمة
إذا وجب على رب المال شاة في غنمه. أو ناقة في إبله، أو إردب في قمحه، أو قنطار في ثمره وفاكهته، فهل يتحتم عليه أن يخرج هذه الأشياء عينها، أم يُخيَّر بينها وبين أداء قيمتها بالنقود مثلاً، فإذا أخرج القيمة أجزأته وصحت زكاته؟
اختلف في ذلك الفقهاء على أقوال: فمنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يجيزه بلا كراهة، ومنهم من يجيزه مع الكراهة، ومنهم من يجيز في بعض الصور دون بعض.
وأكثر المتشددين في منع إخراج القيمة هم الشافعية والظاهرية، ويقابلهم الحنفية، فهم يجيزون إخراجها في كل حال، وعند المالكية والحنابلة روايات وأقوال.
ففي مختصر "خليل". أن دفع القيمة لا يجزيء، وقد تبع فيه ابن الحاجب وابن بشير، وقد اعترضه في "التوضيح" بأنه خلاف ما في المدونة، ونصه المشهور في إعطاء القيمة: أنه مكروه لا محرم (قال في المدونة: "ولا يعطي مما لزمه من الزكاة العين عرضًا أو طعامًا، ويكره للرجل اشتراء صدقته" أهـ، فجعله من شراء الصدقة، وأنه مكروه، ومثله لابن عبد السلام.
قال الباجي: ظاهر المدونة وغيرها: أنه من باب شراء الصدقة، والمشهور فيه أنه مكروه لا محرم.(2/281)
وقد قال بعض المالكية: ظاهر كلامهم: أن ما في التوضيح وابن عبد السلام هو الراجح، ويدل له اختيار ابن رشد له حيث قال: الإجزاء أظهر الأموال، وصوبه ابن يونس أيضًا، وهناك تفصيل في إخراج القيمة انفرد به بعض المالكية، وذكره الدردير وهو: أن إخراج العين "النقود" عن الحرث أو الماشية يجزيء مع الكراهة، وأما إخراج العرض عنهما أو عن العين، أو إخراج الحرث أو الماشية عن العين، أو الحرث عن الماشية أو عكسه فلا يجزيء. انظر الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 1/502).
وفي شرح الرسالة لابن ناجي (الجزء الأول ص340) . قول لأشهب وابن القاسم بأن إخراج القيمة مطلقًا جائز، وقيل بعكسه.
وفي المدونة: من جبره المصدَّق على أخذ ثمن الصدقة رجوت أن تجزيه. قال الشيوخ: لأنه حاكم، وحكم الحاكم يرفع الخلاف (انظر: شرح الرسالة لزروق: 1/340).
وأما عند الحنابلة فذكر في "المغني": أن ظاهر مذهب أحمد: أنه لا يجزيء إخراج القيمة في شيء، من الزكوات، لا زكاة الفطر، ولا زكاة المال، لأنه خلاف السنة.
وروي عن أحمد القول بالجواز فيما عدا الفطرة، وقال أبو داود: سئل أحمد عن رجل باع ثمرة نخله؟ قال: عشره على الذي باعه. قيل له: فيخرج ثمرًا أو ثمنه؟ قال: إن شاء أخرج ثمرًا، وإن شاء أخرج من الثمن، وهذا دليل على جواز إخراج القيم (المغني: 3/65- طبع المنار (الثانية).
أما زكاة الفطر، فقد شدد فيها، ولم يجز إعطاء القيمة، وأنكر على من احتج بفعل عمر بن عبد العزيز (المصدر السابق). كما سنبين ذلك في الباب السابع.
سبب الخلاف
والسبب الأول لهذا النزاع يرجع إلى اختلاف زوايا النظر إلى حقيقة الزكاة: هل هي عبادة وقربة لله تعالى أم حق مرتب في مال الأغنياء للفقراء؟ وبتعبيرنا: ضريبة مالية مفروضة على مالك النصاب؟(2/282)
والحق أن الزكاة -كما ذكرنا في غير موضع- تحمل المعنيين، ولكن بعض الفقهاء كالشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وبعض المالكية، وكذلك الظاهرية، غلبوا معنى العبادة والقربة في الزكاة، فحتموا على المالك إخراج العين التي جاء بها النص، ولم يجوزوا له إخراج القيمة.
وغلب أبو حنيفة وأصحابه وآخرون من الأئمة الجانب الآخر: أنها حق مالي قصد به سد خلة الفقراء، فجوزوا إخراج القيمة (انظر البحر: 2/144، 170، 171، وفقه الإمام جعفر: 2/70-71).
أدلة المانعين من إخراج القيمة
استند المانعون إلى أدلة متفرقة - من النظر والأثر - نجمع شتاتها ونرتبها فيما يلي:
1- قال إمام الحرمين الجويني -وهو شافعي-: المعتمد في الدليل لأصحابنا: أن الزكاة قُربة لله تعالى، وكل ما كان كذلك فسبيله أن يتبع فيه أمر الله تعالى، ولو قال إنسان لوكيله: اشتر ثوبًا، وعلم الوكيل أن غرضه التجارة، ووجد سلعة هي أنفع لموكله، لم يكن له مخالفته، وإن رآه أنفع، فما يجب لله تعالى بأمره أولى بالاتباع.
وكما لا يجوز في الصلاة إقامة السجود على الخد والذقن، مقام السجود على الجبهة والأنف، والتعليل فيه بمعنى الخضوع؛ لأن ذلك مخالفة للنص، وخروج على معنى التعبد. كذلك لا يجوز في الزكاة إخراج قيمة الشاة أو البعير، أو الحب أو الثمر المنصوص على وجوبه؛ لأن ذلك خروج على النص، وعلى معنى التعبد، والزكاة أخت الصلاة (المجموع للنووي: 5/43).
وبيان ذلك: أن الله سبحانه أمر بإيتاء الزكاة في كتابه أمرًا مجملاً بمثل قوله: (وآتوا الزَّكَاةَ)، وجاءت السنة ففصلت ما أجمله القرآن، وبينت المقادير المطلوبة بمثل قوله -صلى الله عليه وسلم- : (في كل أربعين شاة شاة)، (في كل خمسة من الإبل شاة) إلخ، فصار كأن الله تعالى قال: "وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة" فتكون الزكاة حقًا للفقير بهذا النص، فلا يجوز الاشتغال بالتعليل لإبطال حقه من العين.(2/283)
2- يؤكد هذا المعنى أمر آخر ذكره القاضي أبو بكر بن العربي المالكي وهو: أن التكليف والابتلاء بإخراج الزكاة ليس بنقص الأموال فقط - كما فهم أبو حنيفة - فإن هذا ذهول عن التوفية لحق التكليف في تعيين الناقص، وهو يوازي التكليف في قدر الناقص، فإن المالك يريد أن يبقى ملكه بحاله، ويخرج من غيره عنه، فإذا مالت نفسه إلى ذلك وعلقت به، كان التكليف قطع تلك العلاقة التي هي بين القلب وبين ذلك الجزء من المال، فوجب إخراج ذلك الجزء بعينه (أحكام القرآن القسم الثاني ص945) .
3- ومعنى ثالث، وهو: أن الزكاة وجبت لدفع حاجة الفقير، شكرًا لله على نعمة المال، والحاجات متنوعة، فينبغي أن يتنوع الواجب؛ ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تُدفع به حاجته، ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه به (انظر المغني: 3/66).
4- وبعد ذلك قد روى أبو داود وابن ماجه (ذكره في "المنتقي"، وقال الشوكاني: صححه الحاكم على شرطهما، وفي إسناده عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه؛ لأنه ولد بعد موته أو في سنة موته أو بعد موته بسنة (نيل الأوطار: 4/152- طبع العثمانية). أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر)، وهو نص يجب الوقوف عنده، فلا يجوز تجاوزه إلى أخذ القيمة، لأنه في هذه الحال سيأخذ من الحب شيئًا غير الحب، ومن الغنم شيئًا غير الشاة .... إلخ، وهو خلاف ما أمر به الحديث.
أدلة المجوِّزين
أما الذين أجازوا إخراج القيمة بدلاً عن العين، من الحنفية ومن وافقهم من الفقهاء، فشرحوا وجهة مذهبهم وبينوا مستندهم من العقل والنقل، بما نذكره فيما يلي:
1- إن الله تعالى يقول: (خُذْ مِنْ أموالهم صدقةً) (التوبة: 103)، فهو تنصيص على أن المأخوذ مال، والقيمة مال، فأشبهت المنصوص عليه.(2/284)
أما بيان النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أجمله القرآن بمثل: (في كل أربعين شاة شاة) فهو للتيسير على أرباب المواشي، لا لتقييد الواجب به؛ فإن أرباب المواشي تعز فيهم النقود، والأداء مما عندهم أيسر عليهم (المبسوط: 2/157).
2- وقد روى البيهقي بسنده، والبخاري معلقًا عن طاوس قال: قال معاذ باليمن: ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة.
وفي رواية: "ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير" (السنن الكبرى للبيهقي: 4/113).
وذلك أن أهل اليمن كانوا مشهورين بصناعة الثياب ونسجها، فدفعها أيسر عليهم، على حين كان أهل المدينة في حاجة إليها، وقد كانت أموال الزكاة تفضل عن أهل اليمن فيبعث بها معاذ إلى المدينة عاصمة الخلافة، وقول معاذ الذي اشتهر فرواه طاوس فقيه اليمن وإمامها في عصر التابعين - يدلنا على أنه لم يفهم من الحديث الآخر الذي أمره فيه الرسول بأخذ الجنس: (خذ الحب من الحب والشاة من الغنم...) أنه إلزام بأخذ العين، ولكن لأنه هو الذي يطالب به أرباب الأموال، والقيمة إنما تؤخذ باختيارهم، وإنما عين تلك الأجناس في الزكاة تسهيلاً على أرباب الأموال؛ لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي عنده، كما جاء في بعض الآثار: أنه -عليه السلام- جعل في الدية على أهل الحلل حللاً (الجوهر النقي لابن التركماني المطبوع مع السنن الكبرى: 4/113).
3- وروى أحمد والبيهقي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أبصر ناقة مسنة في إبل الصدقة فغضب وقال: قاتل الله صاحب هذه الناقة" !! (يعني الساعي الذي أخذها) فقال: يا رسول الله، إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الصدقة. قال: (فنعم إذن)، وهذا الحديث صالح للاحتجاج به من حيث السند (انظر المصدر السابق)، ومن حيث الدلالة، فإن أخذ الناقة ببعيرين إنما يكون باعتبار القيمة.(2/285)
4- إن المقصود من الزكاة إغناء الفقير وسد خلة المحتاج، وإقامة المصالح العامة للملة والأمة التي بها تعلو كلمة الله، وهذا يحصل بأداء القيمة كما يحصل بأداء الشاة، وربما يكون تحقيق ذلك بأداء القيمة أظهر وأيسر، ومهما تتنوع الحاجات فالقيمة قادرة على دفعها.
5- ثم إنه يجوز بالإجماع العدول عن العين إلى الجنس، بأن يخرج زكاة غنمه شاة من غير غنمه، وأن يخرج عُشر أرضه حبًا من غير زرعه، فجاز العدول أيضًا من جنس إلى جنس.
وفي هذا رد على القاضي ابن العربي الذي رأى أن للشارع قصدًا في تعيين الجزء الواجب إخراجه من المال لقطع العلاقة بين قلب المالك وبين ذلك الجزء المعين من ماله، ولو كان ذلك مقصودًا للشارع ما جاز له بالإجماع أن يعدل عن هذا الجزء من ماله ويخرج مثله من جنسه من مال آخر لأي مخلوق من الناس.
6- روى سعيد بن منصور في سننه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب يأخذ العروض في الصدقة من الدراهم (المغني: 3/65).
موازنة وترجيح
أعتقد أننا بعد التأمل في أدلة الفريقين يتبين لنا رجحان ما ذهب إليه الحنفية في هذا المقام، تسندهم في ذلك الأخبار والآثار، كما يسندهم النظر والاعتبار.
والحقيقة أن تغليب جانب العبادة في الزكاة، وقياسها على الصلاة في التقيد بما ورد من نصفيما يؤخذ - لا يتفق هو وطبيعة الزكاة التي رجح فيها من خالفوا الحنفية أنفسهم الجانب الآخر:أنها حق مالي وعبادة متميزة، فأوجبوها في مال الصبي والمجنون، حيث تسقط عنه الصلاة، وكان أولى بهم أن يذكروا هنا ما قالوه هناك، وردوا به على الحنفية الذين أسقطوا الزكاة من غير المكلفين، قياسًا على الصلاة.(2/286)
والواقع أن رأي الحنفية أليق بعصرنا وأهون على الناس، وأيسر في الحساب وخاصة إذا كانت هناك إدارة أو مؤسسة تتولى جمع الزكاة وتفريقها، فإن أخذ العين يؤدي إلى زيادة نفقات الجباية بسبب ما يحتاجه نقل الأشياء العينية من مواطنها إلى إدارة التحصيل، وحراستها، والمحافظة عليها من التلف، وتهيئة طعامها وشرابها وحظائرها إذا كانت من الأنعام من مؤنة وكلف كثيرة. مما ينافي مبدأ "الاقتصاد" في الجباية.
وقد روى هذا الرأي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وإليه ذهب سفيان الثوري، وروي عن أحمد مثل قولهم في غير زكاة الفطر (المغني: 3/65). قال النووي: وهو الظاهر من مذهب البخاري في صحيحه (المجموع: 5/429).
وقال ابن رشد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية، مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل (فتح الباري: 3/200).
وذلك أن البخاري عقد بابًا لأخذ العروض في الزكاة (وهو أخذ بالقيمة) مستدلاً بأثر معاذ الذي رواه عنه طاوس، حيث طلب أن يأخذ منهم الثياب في الصدقة مكان الذرة والشعير، فإن ذلك أهون عليهم وخير لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة (ذكر البخاري أثر طاوس معلقًا بصيغة الجزم، وهذا دليل على صحته عنده، وقد كان طاوس -وهو إمام اليمن وفقيهها في عصر التابعين- عالمًا بأخبار معاذ باليمن وإيراد البخاري لأثره في معرض الاحتجاج به يقتضي قوته عنده (الفتح: 3/200).
كما استدل بأحاديث أخرى منها ما جاء في كتاب أبي بكر في صدقة الماشية إذ جاء فيه: (ومن بلغت صدقته بنت مخاض (وليست عنده) وعنده بنت لبون فإنها تُقبل منه، ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين) وأخذ سن بدل سن، ومع إعطاء قيمة الفرق دراهم أو شياهًا يدل على أن أخذ العين ليس مطلوبًا بالذات، ولكن للتيسير على أرباب الأموال.
أما ابن حزم فرد الاستدلال بحديث طاوس زاعمًا أنه لا تقوم به حجّة لوجوه ذكرها.(2/287)
أولها: أنه مرسل، لأن طاوسًا لم يدرك معاذًا، ولا ولد إلا بعد موت معاذ.
الثاني: أنه لو صح لما كانت فيه حجّة؛ لأنه ليس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام.
الثالث: أنه ليس فيه أنه قال ذلك في الزكاة، وقد يمكن - لو صح - أن يكون قاله لأهل الجزية، وكان يأخذ منهم الذرة والشعير والعرض مكان الجزية.
الرابع: أن الدليل على بطلان هذا الخبر ما فيه من قول معاذ: "خير لأهل المدينة" وحاشا لله أن يقول معاذ هذا، فيجعل ما لم يوجبه الله -تعالى- خيرًا مما أوجبه (المحلي: 6/312- طبع الإمام).
والحق أن هذه الوجوه ضعيفة:
فطاوس -وإن لم يلق معاذًا- عالم بأمره خبير بسيرته، كما قال الشافعي، وقد كان طاوس إمام اليمن في عصر التابعين، فهو على دراية بأحوال معاذ وأخباره، والعهد قريب.
وعمل معاذ في اليمن وأخذه القيمة دليل على أنه لا يجد في ذلك معارضة لسُنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الذي جعل اجتهاده في المرتبة الثالثة بعد القرآن والسنة، وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه يدل على موافقتهم الضمنية على هذا الحكم.
أما احتمال أن يكون هذا الخبر في الجزية فهو ضعيف، بل باطل كما قال العلامة أحمد شاكر في تعليقه علي المحلي، فإنه في رواية يحيى بن آدم: "مكان الصدقة".
وأما الوجه الرابع فهو تعسف وتحامل من ابن حزم، فإن معنى: "خير لكم" في الخبر: "أنفع لكم" لحاجتهم إلى الثياب أكثر من الذرة والشعير، وهذا أمر واقع لا نزاع فيه. أما قوله: "لم يوجبه الله".... إلخ فهذا هو موضوع النزاع، فلا يجوز الاحتجاج بنفس الدعوى، وأخذ القيمة حينئذ يكون مما أوجبه الله تعالى في شرعه.(2/288)
وذهب ابن تيمية مذهبًا وسطًا بين الفريقين المتنازعين، قال فيه: "الأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة، ولا مصلحة راجحة، ممنوع منه، ولهذا قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- الجبران بشاتين أو عشرين درهمًا، ولم يعدل إلى القيمة، ولأنه متى جوز إخراج القيمة مطلقًا، فقد يعدل المالك إلى أنواع رديئة، وقد يقع في التقويم ضرر، ولأن الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه، وأما إخراج القيمة للحاجة أو للمصلحة، أو العدل، فلا بأس به: مثل أن يبيع ثمر بستانه أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عُشر الدراهم يجزئه، ولا يُكلف أن يشتري ثمرًا أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك.
ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يُكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة.
ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع، فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أنها أنفع للفقراء، كما نُقل عن معاذ بن جبل أنه كان يقول لأهل اليمن: "ائتوني بخميس أو لبيس، أيسر عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار"، وهذا قد قيل: إنه قاله في الزكاة، وقيل في الجزية" اهـ-(مجموع فتاوى ابن تيمية: 25/82-83- طبع السعودية).
وهذا قريب مما اخترناه، والحاجة والمصلحة في عصرنا تقتضي جواز أخذ القيمة ما لم يكن في ذلك ضرر بالفقراء أو أرباب المال.
الفصل الرابع
نقل الزكاة إلى غير بلد المال
فهرس
جواز النقل باجتهاد الإمام
جواز نقل الأفراد زكاتهم لحاجة ومصلحة
تمهيد
جواز نقل الزكاة من بلد إذا استغنى أهله إجماعًا
آراء المذاهب في النقل عند عدم الاستغناء
للإسلام في إنفاق حصيلة الزكاة سياسة حكيمة عادلة، تتفق هي وأحدث ما ارتقى إليه تطور الأنظمة الإدارية والسياسية والمالية في عصرنا، الذي يخيل لبعض الناس أن كل ما يأتي به من النظم والتشريعات جديد مبتكر.(2/289)
فقد عرف الناس في عصور الجاهلية وفي عهود الظلام في أوروبا وغيرها، كيف كانت تجبي الضرائب والمكوس من الفلاحين والصناع والمحترفين والتجار وغيرهم ممن يكسب رزقه بكد اليمين، وعرق الجبين، وسهر الليل، وتعب النهار، لتذهب هذه الأموال - الممزوجة بالعرق والدم والدمع - إلى الإمبراطور أو الملك أو الأمير أو السلطان، في عاصمته الزاهية، فينفقها في توطيد عرشه، ومظاهر أبهته، والإغداق على من حوله من الحراس والأنصار والأتباع، فإن بقي فضل فلتوسيع العاصمة وتجميلها واسترضاء أهلها، فإن فضل شيء فلأقرب المدن إلى جنابه العالي!! وهو في ذلك كله غافل عن تلك القرى الكادحة المتعبة، والديار العاملة النائية، التي منها جبيت هذه المكوس، وأخذت هذه الأموال (من كتابنا "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام" ص114).
فلما جاء الإسلام وأمر المسلمين بإيتاء الزكاة، كما أمر ولي الأمر بأخذها، جعل من سياسته: أن توزع في الإقليم الذي تُجبى منه، وهذا متفق عليه في شأن المواشي والزروع والثمار، فإن الزكاة تفرق حيث يوجد المال، واتفقوا أيضًا على أن زكاة الفطر توزع حيث يقيم الشخص الذي وجبت عليه.
واختلفوا في النقود ونحوها، هل توزع حيث يوجد المال أو حيث يوجد المالك؟ (انظر حاشية الدسوقي: 1/500)، والأشهر الذي عليه الأكثرون: أنها تتبع المال لا المالك.
والدليل على هذه السياسة هو سنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، فحين وجه -صلى الله عليه وسلم- سعاته وولاته إلى الأقاليم والبلدان لجمع الزكاة، أمرهم أن يأخذوها من أغنياء البلد، ثم يردوها على فقرائه.
ولقد مرّ بنا حديث معاذ - المتفق على صحته -أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله إلى اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم.(2/290)
وكذلك نفَّذ معاذ وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ففرّق زكاة أهل اليمن في المستحقين من أهل اليمن، بل فرّق زكاة كل إقليم في المحتاجين منه خاصة، وكتب بذلك لهم كتابًا كان فيه: من انتقل من مخلاف (قال ابن الأثير في النهاية: المخلاف في اليمن كالرستاق في العراق. يعني: أنه اسم لإقليم إداري كالمحافظة). عشيرته (يعني: الذي فيه أرضه وماله) فصدقته وعشره في مخلاف عشيرته (رواه عنه طاوس بإسناد صحيح أخرجه سعيد بن منصور وأخرج نحوه الأثرم كما في نيل الأوطار: 2/161).
وعن أبي جحيفة قال: قدم علينا مصدِّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا، فكنت غلامًا يتيمًا، فأعطاني منها قلوصًا (ناقة) (رواه الترمذي وقال: حديث حسن (المصدر السابق).
وفي الصحيح: أن أعرابيًا سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدة أسئلة منها: بالله الذي أرسلك: آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال: (نعم).
وروى أبو عبيد عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال في وصيته: أوصى الخليفة من بعدي بكذا، وأوصيه بكذا، وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام: أن يأخذ من حواشي أموالهم فيردها في فقرائهم (الأموال ص595).
وكذلك كان العمل في حياة عمر: أن يفرِّق المال حيث جُمِع، ويعود السعادة إلى المدينة لا يحملون شيئًا غير أحلاسهم التي يتلفعون بها، أو عصيهم التي يتوكأون عليها:
فعن سعيد بن المسيب: أن عمر بعث معاذًا ساعيًا على بني كلاب، أو على بني سعد بن ذبيان، فقسم فيهم حتى لم يدع شيئًا، حتى جاء بحلسه الذي خرج به على رقبته (الأموال ص596) .
وقال سعد من أصحاب يعلى بن أمية، وممن استعملهم عمر في الزكاة: كنا نخرج لنأخذ الصدقة فما نرجع إلا بسياطنا (المرجع السابق في 596).(2/291)
وسئل عمر عما يؤخذ من صدقات الأعراب: كيف نصنع بها؟ فقال عمر: والله لأردن عليهم الصدقة، حتى تروح على أحدهم مائة ناقة أو مائة بعير (المصنف: 3/205- طبع حيدر آباد).
هذا إلى أن نقل الزكاة من بلد مع حاجة فقرائه، مخل بالحكمة التي فرضت لأجلها، ولذا قال في "المغني": ولأن المقصود بالزكاة إغناء الفقراء بها، فإذا أبحنا نقلها أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين (المغني: 2/672).
وعلى هذا النهج الذي اختطه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون سار أئمة العدل من الحكام، وأئمة الفتوى من فقهاء الصحابة والتابعين.
فعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه ولىَّ عاملاً على الصدقة - من قِبَل زياد بن أبيه أو بعض الأمراء في عهد بني أمية - فلما رجع قال له: أين المال؟
قال: وللمال أرسلتني؟! أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضعناه حيث كنا نضعه (رواه أبو داود وابن ماجه. انظر نيل الأوطار: 4/161).
وولى محمد بن يوسف الثقفي طاوسًا - فقيه اليمن - عاملاً للصدقة على مخلاف (إقليم) فكان يأخذ الصدقة من الأغنياء فيضعها في الفقراء، فلما فرغ قال له: ارفع حسابك، فقال: ما لي حساب: كنت آخذ من الغني فأعطيه المسكين (الأموال ص595).
وعن فرقد السبخي قال: حملت زكاة مالي لأقسمها بمكة، فلقيت سعيد بن جبير فقال: ارددها فاقسمها في بلدك (المرجع السابق).
وعن سفيان الثوري: أن زكاة حملت من الري إلى الكوفة فردها عمر بن عبد العزيز إلى الري (المرجع نفسه).
قال أبو عبيد: والعلماء اليوم مجمعون على هذه الآثار كلها: أن أهل كل بلد من البلدان أو ماء من المياه (بالنظر للبادية) أحق بصدقتهم ما دام فيهم من ذوي الحاجة واحد فما فوق ذلك، وإن أتى ذلك على جميع صدقتها، حتى يرجع الساعي ولا شيء معه منها.(2/292)
واستدل أبو عبيد بما ذكرناه آنفًا من خبر معاذ الذي عاد بحلسه الذي خرج به على رقبته، وخبر سعيد الذي قال: كنا نخرج لنأخذ الصدقة فما نرجع إلا بسياطنا، وبما سنذكر قريبًا من مراجعة عمر ومعاذ حين أرسل إليه بعض ما فضل من صدقات أهل اليمن.
قال أبو عبيد: فكل هذه الأحاديث تثبت أن كل قوم أولى بصدقتهم حتى يستغنوا عنها، ونرى استحقاقهم ذلك دون غيرهم إنما جاءت به السنة لحرمة الجوار، وقرب دارهم من دار الأغنياء (نفس المرجع).
فإن جهل المصدِّق فحمل الصدقة من بلد إلى آخر سواه وبأهلها فقر إليها، ردها الإمام إليهم، كما فعل عمر بن عبد العزيز، وكما أفتى به سعيد بن جبير (نفس المرجع).
إلا أن إبراهيم (النخعي) والحسن (البصري) رخصا في الرجل يؤثر بها قرابته.
قال أبو عبيد: وإنما يجوز هذا للإنسان في خاصته وماله، فأما صدقات العوام (جمهور الأمة) التي تليها الأئمة (أو لو الأمر) فلا.
ومثل قولهما حديث أبي العالية: أنه كان يحمل زكاته إلى المدينة.
قال أبو عبيد: ولا نراه خصَّ بها إلا أقاربه أو مواليه (الأموال ص598)
جواز نقل الزكاة من بلد إذا استغنى أهله إجماعًا
وإذا كان الأصل المتفق عليه أن الزكاة تفرّق في بلد المال الذي وجبت فيه الزكاة فإن من المتفق عليه كذلك أن أهل البلد إذا استغنوا عن الزكاة كلها أو بعضها، لانعدام الأصناف المستحقة أو لقلة عددها وكثرة مال الزكاة - جاز نقلها إلى غيرهم: إما إلى الإمام ليتصرف فيها حسب الحاجة أو إلى أقرب البلاد إليهم.(2/293)
روى أبو عبيد: أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند (الجند موضع باليمن). إذ بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن حتى مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، ثم قدم على عمر، فرده على ما كان عليه، فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس، فأنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيًا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحدًا يأخذه مني - فلما كان العام الثاني بعث إليه شطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك، فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك، فقال معاذ: ما وجدتُ أحدًا يأخذ مني شيئًا (نفس المرجع ص596، وراجع تعليقنا على هذه القصة في خاتمة كتابنا "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام").
إن إنكار عمر على معاذ في أول الأمر، ثم مراجعته له مرة ومرة ومرة، دليل على أن الأصل في الزكاة تفريقها في بلدها، وإقرار عمر صنيع معاذ بعد مراجعته دليل على جواز نقل الزكاة إذا لم يوجد من يستحقها في بلدها.
آراء المذاهب في النقل عند عدم الاستغناء
أما النقل عند عدم استغناء أهل البلد فاختلفوا فيه.
وقد تشدد بعض المذاهب فلم يجز النقل إلى بلد آخر أو إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، ولو كان ذلك لحاجة.(2/294)
قال الشافعية: لا يجوز نقل الزكاة من بلد إلى غيره، ويجب صرفها إليه، وكذلك عند الحنابلة، فإذا نقلها مع وجودهم أثم، وأجزأته؛ لأنه دفع الحق إلى مستحقه فيبرأ كالدين، وقال بعضهم: لا تجزئه لمخالفة النص (الأحكام السلطانية للماوردي ص119-120 - طبع المطبعة المحمودية التجارية بمصر، وشرح الغاية: 2/228، وقال القاري في "شرح المشكاة" نقلاً عن الطيبي: واتفقوا على أنه إذا نقلت وأديت يسقط الفرض، إلا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- فإنه رد صدقة نقلت من خراسان إلى الشام إلى مكانها. قال القاري: وفيه أن فعله هذا لا يدل على مخالفته للإجماع، بل فعله إظهارًا لكمال العدل، وقطعًا للأطماع. (انظر: المرقاة: 4/118-119).
أما الحنفية فقالوا: يكره نقلها إلا أن ينقلها إلى قرابة محتاجين؛ لما في ذلك من صلة الرحم، أو إلى فرد أو جماعة هم أمس حاجة من أهل بلده، أو كان نقلها أصلح للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، لأن فقراء المسلمين الذين في دار الإسلام أفضل وأولى بالمعونة من فقراء دار الحرب، أو إلى عالم أو طالب علم، لما فيه من إعانته على رسالته، أو كان نقلها إلى من هو أورع أو أصلح أو أنفع للمسلمين، أو كانت الزكاة معجلة قبل تمام الحول؛ فإنه في هذه الصور جميعها لا يُكره له النقل (الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 2/93-94).
وعند المالكية: يجب تفرقة الزكاة بموضع الوجوب أو قربه -وهو ما دون مسافة القصر- لأنه في حكم موضع الوجوب.
فإن لم يكن بمحل الوجوب أو قربه مستحق، فإنها تُنقل كلها وجوبًا لمحل فيه مستحق، ولو على مسافة القصر، وإن كان في محل الوجوب أو قربه مستحق تعين تفرقتها في محل الوجوب أو قربه، ولا يجوز نقلها لمسافة القصر إلا أن يكون المنقول إليهم أعدم (أحوج وأفقر) فيندب نقل أكثرها لهم، فإن نقلها كلها أو فرقها كلها بمحل الوجوب أجزأت.
فأما إن نقلها إلى غير أعدم وأحوج فذلك له صورتان:(2/295)
الأولى: أن ينقلها إلى مساوٍ في الحاجة لمن هو في موضع الوجوب، فهذا لا يجوز، وتجزيء الزكاة، أي ليس عليه إعادتها.
والثانية: أن ينقلها إلى من هو أقل حاجة، ففيها قولان: ما نص عليه "خليل" في مختصره أنها لا تجزيء، والثاني ما نقله ابن رشد والكافي وهو الإجزاء؛ لأنها لم تخرج عن مصارفها (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/501).
وعند الزيدية: يكره صرف زكاة بلد في غير فقرائه، مع وجود الفقراء فيه، بل الأولى فقراء البلد إذا وجدوا، وسواء في ذلك رب المال والإمام. قالوا: والكراهة عندنا ضد الاستحباب، فلو صرف في غير فقراء البلد أجزأه وكره. ما لم ينقلها لتحقيق غرض أفضل - كقريب مستحق أو طالب علم، أو من هو أشد حاجة - فلا يكره، بل يكون أفضل (شرح الأزهار: 1/547-548).
وعند الإباضية: هل يفرق الإمام في فقراء كل بلد أخذها منه الثلث أو النصف، ويأخذ الباقي لإعزاز دولة الإسلام؟ قولان.
قالوا: وإن احتاج إلى جميعها أخذه، ويعطيهم من قابل ما يصلح، وإن لم يحتج فرقها كلها، وإذا اكتفى أهل قرية فأقرب القرى إليها (شرح النيل: 2/138).
جواز النقل باجتهاد الإمام
والذي يلوح لي -بعد ما ذكرناه من الأحاديث والآثار والأقوال- أن الأصل في الزكاة أن تُفرق حيث جمعت، رعاية لحرمة الجوار، وتنظيمًا لمحاربة الفقر ومطاردته، وتدريبًا لكل إقليم على الاكتفاء الذاتي، وعلاج مشاكله في داخله، ولأن فقراء البلد قد تعلقت أنظارهم وقلوبهم بهذا المال، فكان حقهم فيه مقدّمًا على حق غيرهم.
ومع ذلك كله لا أرى مانعًا من الخروج على هذا الأصل، إذا رأى الإمام العادل -بمشورة أهل الشورى- في ذلك مصلحة للمسلمين وخيرًا للإسلام.
ويعجبني ما قاله الإمام مالك في هذا: لا يجوز نقل الزكاة إلا أن يقع بأهل بلد حاجة فينقلها الإمام إليهم على سبيل النظر والاجتهاد (تفسير القرطبي: 8/175).
وقال ابن القاسم من أصحابه: إن نقل بعضها لضرورة رأيته صوابًا (المرجع السابق).(2/296)
وروى عن سحنون أنه قال: ولو بلغ الإمام أن في بعض البلاد حاجة شديدة جاز له نقل بعض الصدقة المستحقة لغيره إليه، فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج، (والمسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه) (نفس المرجع).
وذكر في المدونة عن مالك: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص وهو بمصر، عام الرمادة (وهو عام المجاعة): يا غوثاه يا غوثاه للعرب!! جهِّز إلى عيرًا يكون أولهما عندي وآخرها عندك، تحمل الدقيق في العباء (الثياب) فكان عمر يقسم ذلك بينهم على ما يرى، ويوكل على ذلك رجالاً، ويأمرهم بحضور نحر الإبل، ويقول: إن العرب تحب الإبل، فأخاف أن يستحيوها، فلينحروها، وليأتدموا بلحومها وشحومها وليلبسوا العباء الذي أتى فيها الدقيق (المدونة الكبرى: 1/246، وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك بأطول مما في المدونة وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي: 1/405-406).
وهكذا تتكافل الأقاليم والأقطار الإسلامية في ساعة العسرة، ويكمل بعضها بعضًا.
ومما يؤيد ذلك ما يأتي:
أولاً: أن أي بلد أو إقليم في الدولة الإسلامية الواسعة ليس جزءًا مستقلاً كل الاستقلال، ولا ولاية منفصلة عن سائر الولايات، ولكنها ترتبط بالحكومة المركزية، وبسائر المسلمين - ارتباط الجزء بالكل، والفرد بالأسرة، والعضو بسائر الجسد، وهذه الوحدة والترابط والتكافل الذي يفرضه الإسلام، لا يستقيم معه أن يُترك كل بلد وشأنه في عزلة عن البلاد الأخرى، وعن عاصمة الإسلام، فإذا نزلت نازلة كمجاعة أو حريق أو وباء ببلد، كان أهله أحوج إلى العون، وإسعافهم ألزم من ذوي الحاجة في بلد الزكاة.(2/297)
ثانيًا: أن هناك مصارف مثل تأليف القلوب على الإسلام والولاء لدولته، ومثل "سبيل الله" فقد اخترنا أنه يشمل الجهاد وما في حكمه من كل عمل يعود على الإسلام بالنصر وعلو الكلمة، ومثل ذلك إنما يكون غالبًا من شأن الإمام، وبتعبير عصرنا من شأن الحكومة المركزية، حتى لو قصرنا مدلول "سبيل الله" على "الجهاد" فإنه في عصرنا ليس من شأن الأفراد ولا الإدارات المحلية، بل هو من "شئون الدولة العليا".
ومن هنا يتحتم أن يكون للحكومة المركزية مورد تنفق منه على هذه الأمور التي تفرضها مصلحة الإسلام ومنفعة المسلمين، فإن كان لديها من الموارد ما يغنيها عن الزكاة، فبها ونعمت، وإلا، فللإمام أن يطلب من زكوات الأقاليم ما يسد تلك الثغرات، ومن هنا ذكر القرطبي قولاً لبعض العلماء في هذه المسألة، وهو: أن سهم الفقراء والمساكين، يقسم في موضع المال، أما سائر السهام فتنقل باجتهاد الإمام (تفسير القرطبي: 8/176).
وهذا من الأمور الاجتهادية التي يجب أن يؤخذ فيها برأي أهل الشورى، كما كان يفعل الخلفاء الراشدون، ولذا لا تخضع لتحديد ثابت، ولا يعتبر أخذها أمرًا لازمًا مطردًا في كل عام.
وهذا يفسر لنا ما جاء عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى عماله: (أن ضعوا شطر الصدقة - قال أبو عبيد: أي في مواضعها - وابعثوا إليَّ بشطرها) ثم كتب في العام المقبل: (أن ضعوها كلها) (الأموال ص594) . يعني في مواضعها.
وقد ذكرنا أنه رد زكاة حملت من الري إلى الكوفة.
وليس في هذا -فيما أرى- اختلاف ولا تناقض، وإنما فعل ذلك حسب المصلحة والحاجة.
ولهذا قال ابن تيمية: وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي، ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية (الاختيارات ص59).
ثالثًا: أن مما اشتُهر حتى صار يقينًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستدعى الصدقات من الأعراب إلى المدينة ويصرفها في فقراء المهاجرين والأنصار:(2/298)
أخرج النسائي من حديث عبد الله بن هلال الثقفي قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كدتُ أن أقتل بعدل عناق أو شاة من الصدقة، فقال -صلى الله عليه وسلم- : (لولا أنها تعطى فقراء المهاجرين ما أخذتها).
ومثل ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال لقبيصة بن المخارق في الحملة: (أقم حتى تأتينا الصدقة؛ فإما أن نعينك عليها وإما أن نحملها عنك) فرأى إعطاءه إياها من صدقات الحجاز، وهو من أهل نجد، ورأى حملها من أهل نجد إلى أهل الحجاز (الأموال ص600) .
وكذلك حديث عدي بن حاتم حين حمل صدقات قومه بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر في أيام الرِدَّة (الأموال ص900).
ومثله حديث عمر حين قال لابن أبي ذباب وقد بعثه في عام الرمادة - بعد المجاعة -: (اعقل عليهم عقالين (العقال صدقة العام) فاقسم فيهم أحدهما وائتني بالآخر) (المرجع السابق).
وكذلك حديث معاذ حين قال لأهل اليمن: ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة (نفس المرجع).
قال أبو عبيد: وليس لهذه الأشياء محمل إلا أن تكون فضلاً عن حاجتهم، وبعد استغنائهم عنها، كالذي ذكرناه عن عمر ومعاذ (المرجع نفسه).
وأقول: ليس بلازم أن يستغنوا عنها استغناءً مطلقًا، فالاستغناء مراتب بعضها دون بعض.
والحاجات أيضًا تختلف، وللإمام النظر فيمن تشتد حاجته، وتجب المبادرة بمعونته، ومن تقبل حاله التأخير والصبر إلى حين، كما أن هناك من المصالح العاجلة، والنوازل الطارئة ما لا يحتمل التسويف.
على أنه ينبغي أن يكون المنقول جزءًا من الزكاة لا كلها، ونقل الكل لا يجوز إلا عند الاستغناء المطلق عنها. كما في خبر عمر ومعاذ.
ومما يجب التنبيه عليه: أن الشافعية، وهم أكثر المذاهب الأربعة تشددًا في جواز النقل يقصرون هذا التشدد على صاحب المال إن فرق بنفسه. أما الإمام والساعي على الصدقات فلهما جواز النقل على الصحيح.(2/299)
قال صاحب "المهذب" من الشافعية: "إن كان الإمام أذن للساعي في تفريقها فرَّقها، وإن لم يأذن له حملها إلى الإمام" (المجموع: 6/173).
وقال النووي في شرحه: "واعلم أن عبارة المصنف (المذكورة) تقتضي الجزم بجواز نقل الزكاة للإمام والساعي، وأن الخلاف المشهور في نقل الزكاة إنما هو في نقل رب المال خاصة...".
ورجح هذا الرافعي. قال: "وهذا الذي رجحه هو الراجح الذي تقتضيه الأحاديث" (المرجع السابق ص175).
جواز نقل الأفراد زكاتهم لحاجة ومصلحة
وإذا كان للإمام أن يجتهد في نقل الزكاة من بلد إلى غيره لمصلحة إسلامية معتبرة، فإن للفرد المسلم الذي وجبت عليه الزكاة أن ينقلها أيضًا لحاجة أو لمصلحة معتبرة أيضًا، إذا كان هو الذي يتولى إخراجها بنفسه. كما هو حاصل الآن.
وذلك مثل الاعتبارات التي ذكرها الحنفية في جواز النقل. كأن تنقل إلى أقارب محتاجين، أو إلى من هو أشد حاجة وأكثر فاقة، أو إلى من هو أنفع للمسلمين وأولى بالمعونة، أو إلى مشروع إسلامي في بلد آخر. يترتب عليه خير كبير للمسلمين، قد لا يوجد مثله في البلد الذي يكون فيه المال، أو نحو ذلك من الحكم والمصالح التي يطمئن إليها قلب المسلم الحريص على دينه، ومرضاة ربه.
الفصل الخامس
تعجيل الزكاة وتأخيرها
فهرس
هلاك المال
إذا أخرج الزكاة فضاعت
هلاك المال بعد الوجوب وقبل الإخراج
سبب الاختلاف في المسألتين
هل تسقط الزكاة بالتقادم؟
هل تسقط الزكاة بالموت؟
منزلة دين الزكاة من سائر الديون
وجوب الزكاة على الفور
المبادرة إلى إخراجها
تقديم أداء الزكاة قبل موعدها
حُجَّة المانعين
حجة المجوِّزين
هل للتعجيل حد ؟
هل يجوز تأخير الزكاة ؟
تأخير الزكاة لغير حاجة
وجوب الزكاة على الفور(2/300)
المشهور عند الحنفية أنها تجب وجوبًا موسعًا، ولصاحب المال تأخيرها ما لم يُطالب؛ لأن الأمر بأدائها مطلق، فلا يتعين الزمن الأول لأدائها دون غيره، كما لا يتعين مكان دون مكان. هذا ما ذهب إليه أبو بكر الرازي الجصاص.
أما الكرخي من أئمة الحنفية، فقال: هي واجبة على الفور؛ لأن الأمر يقتضي الفورية، وحتى إن كان لا يقتضي الفورية ولا التراخي، فالوجه المختار -كما قال المحقق ابن الهمام- أن الأمر بالصرف إلى الفقير معه قرينة الفور، وهي أنه لدفع حاجته، وهي معجلة، فمتى لم تجب على الفور لم يحصل المقصود من الإيجاب على وجه التمام (فتح القدير: 1/482-483، ورد المحتار: 2/13-14).
وهذا القول هو الصواب، وهو الذي عليه مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء.
وذلك كما قال ابن قدامة: أن الأمر يقتضي الفورية على الصحيح - كما في الأصول - ولذلك يستحق المؤخر للامتثال العقاب، ومن ثمَّ أخرج الله تعالى إبليس، وسخط عليه، ووبخه بامتناعه عن السجود، ولو أن رجلاً أمر عبده أن يسقيه فأخر ذلك لاستحق العقوبة، ولأن جواز التأخير ينافي الوجوب، لكون الواجب ما يُعاقب على تركه، ولو جاز التأخير لجاز إلى غير غاية فتنتفي العقوبة بالترك.
ولو سلَّمنا أن مطلق الأمر لا يقتضي الفور لاقتضاه في مسألتنا؛ إذ لو جاز التأخير ههنا لأخَّره بمقتضى طبعه، ثقة منه بأنه لا يأثم بالتأخير، فيسقط عنه بالموت، أو بتلف ماله، أو بعجزه عن الأداء، فيتضرر الفقراء والمستحقون للزكاة.
ولأن ههنا قرينة تقتضي الفور، وهي أن الزكاة وجبت لحاجة الفقراء، وهي ناجزة، فيجب أن يكون الوجوب ناجزًا، ولأنها عبادة تتكرر، فلم يجز تأخيرها إلى وقت وجوب مثلها كالصلاة والصوم.(2/301)
وهذا كله ما لم يخش ضررًا، فإن خشي في إخراجها ضررًا في نفسه أو مال له سواها فله تأخيرها. لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (لا ضرر ولا ضرار) (رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس، وابن ماجه أيضًا عن عبادة بن الصامت، ورواه الحاكم والدارقطني عن أبي سعيد وحسنه النووي في الأربعين والأذكار، قال: ورواه مالك مرسلاً من طرق يقوي بعضها بعضًا، وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وقال العلائي: له شواهد ينتهي مجموعها إلى درجة الصحة أو الحسن المحتج به، وقال الشيخ أحمد شاكر في تخريج الحديث (2897) من المسند: إسناده ضعيف، ومعناه صحيح ثابت بإسناد صحيح عند ابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت.
والفرق بين الضرر والضرار: أن الضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه، والأول إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا، والثاني إلحاقها به على وجه المقابلة، انظر الكلام على هذا الحديث في جامع العلوم والحكم لابن رجب، والمبين المعين لفهم الأربعين للقاري ص180-185، وفيض القدير للمناوي: 6/431-432)، ولأنه إذا جاز تأخير قضاء دين الآدمي لذلك، فتأخير الزكاة أولى" أهـ (المغني لابن قدامة: 2/864-865).
المبادرة إلى إخراجها
والمبادرة إلى الطاعات، والمسارعة إلى أدائها -بصفة عامة- مما دعا إليه الإسلام ورغب فيه. قال تعالى: (فاستبقوا الخيرات) (البقرة: 148، والمائدة: 48)، وقال سبحانه: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) (آل عمران: 133).
وإذا كان هذا محمودًا في كل الصالحات، ففي الزكاة ونحوها من الحقوق المالية أكثر حمدًا؛ خشية أن يغلب الشح، أو يمنع الهوى، أو تعرض العوارض المختلفة، فتضيع حقوق الفقراء، ولهذا قال العلماء: إن الخير ينبغي أن يُبادر به؛ فإن الآفات تعرض، والموانع تمنع، والموت لا يؤمن، والتسويف غير محمود، والمبادرة أخلص للذمة، وأنفى للحاجة، وأبعد عن المطل المذموم، وأرضى للرب تعالى، وأمحى للذنب (نيل الأوطار: 4/148- طبع العثمانية).(2/302)
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما خالطت الصدقة مالاً قط إلا أهلكته).
رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد قال: (يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال) (المرجع السابق ص148).
وإذا كانت المبادرة إلى إخراجها أمرًا محمودًا، فهل يجوز تعجيلها وتقديمها عن الموعد المحدد لها كإخراجها قبل الحول أو الحصاد؟
هذا ما اختلف فيه الفقهاء كما سنرى.
تقديم أداء الزكاة قبل موعدها
الأموال الزكوية قسمان: قسم يُشترط له الحول كالماشية السائمة والنقود وسلع التجارة، وقسم لا يُشترط له الحول كالزروع والثمار.
فأما القسم الأول فأكثر الفقهاء على أنه: متى وجد سبب وجوب الزكاة -وهو النصاب الكامل- جاز تقديم الزكاة قبل حلول الحول، بل يجوز تعجيلها لحولين أو أكثر. بخلاف ما إذا عجَّلها قبل مِلك النصاب فلا يجوز.
وبهذا قال الحسن وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد (المغني: 2/630).
وقال ربيعة ومالك وداود: لا يجوز تقديم الزكاة قبل حلول الحول، سواء قدَّمها قبل ملك النصاب أو بعده (المغني: المرجع نفسه، وقال ابن رشد في بداية المجتهد: 1/266 وسبب الخلاف: هل هي عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال: عبادة، وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت، ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة، أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع، وقد احتج الشافعي بحديث علي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "استسلف صدقة العابس قبل محلها").(2/303)
وجوز بعض المالكية تقديمها بزمن يسير، في زكاة النقود، ومنها عروض التاجر المدير، وديونه المرجوة الحاصلة من البيع لا من القرض، وكذلك الماشية التي لا ساعي لها، فتجزيء الزكاة حينئذ مع كراهة التقديم، بخلاف زكاة الزرع والثمر، وعروض التاجر المحتكر، ودين المدير من قرض فلا تجزيء، وكذلك التي لها ساع إذا قدم إخراجها قبل الحول بغير الساعي، وأما إذا دفعت للساعي قبل الحول بزمن يسير فإنها تجزيء.
واختلفوا في تحديد الزمن اليسير الذي يُغتفر فيه التقديم من يوم ويومين إلى شهر وشهرين، والمعتمد هو الشهر، فلا يجزيء التقديم بأكثر منه.
ويجوز التقديم بلا كراهة، إذا كانت الزكاة ستنقل من موضع الوجوب إلى فقير أشد حاجة، لتصل إلى مستحقها عند الحول، بل هذا التقديم واجب كما صرح بعض المالكية حتى لو تلفت الزكاة أو ضاعت بعد هذا التقديم، فإنها تجزيه ولا يضمنها؛ لأنها زكاة وقعت موقعها، حيث صار هذا الوقت في حكم وقت وجوبها، وليس عليه أن يخرج عن الباقي، بخلاف التقديم في الصور السابقة، فإنه يخرج عن الباقي إن بلغ نصابًا (انظر الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي عليه: 1/502).
حُجَّة المانعين:
وحجة المانعين: أن الحول أحد شرطي الزكاة - كالنصاب - فلم يجز تقديمها عليه؛ كما لم يجز تقديمها قبل ملك النصاب اتفاقًا، ولأن الشرع وقت للزكاة وقتًا وهو الحول فلم يجز تقديمها عليه كالصلاة (المغني، المرجع السابق).
حجة المجوِّزين:
واستدل المجوزون لتعجيل الزكاة بما روي أبو داود وغيره عن عليّ: أن العباس سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك (رواه الخمسة إلا النسائي كما رواه الحاكم والدارقطني والبيهقي ورجح الدارقطني وأبو داود إرساله، وتعضده أحاديث أخرى. انظر نيل الأوطار: 4/159، 160، والمجموع: 6/145-146).(2/304)
وفي سند الحديث كلام، ولكن يشهد له ما أخرجه البيهقي عن عليّ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدافع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن خالد والعباس، وكان مما قاله: (إنَّا كنا احتجنا، فاستسلفنا العباس صدقة عامين) (السنن الكبرى: 4/111، وأخرج أبو داود الطيالسي من حديث أبي رافع: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: "إنَّا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول. (نيل الأوطار المرجع السابق)، وقد جاءت هذه القصة في الصحيح من حديث أبي هريرة، وفيها: (وأما العباس فهي علي ومثلها معها، ثم قال: يا عمر، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه)؟ (المرجع نفسه، والقصة في صحيح مسلم).
قال أبو عبيد في رواية: (فهي علي ومثلها معها) يقال: كان تسلف منه صدقة عامين: ذلك العام، والذي قبله (قال الشوكاني: ومما يرجح أن المراد ذلك: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لو أراد أن يتحمل ما عليه لأجل امتناعه لكفاه أن يتحمل مثلها من غير زيادة، وأيضًا الحمل على الامتناع فيه سوء ظن بالعباس: (نيل الأوطار المرجع السابق).
واستدلوا من جهة النظر والقياس بأن هذا تعجيل لمال وُجِد سبب وجوبه قبل وجوبه، وذلك جائز، كتعجيل قضاء الدين قبل حلول أجله، وكأداء كفارة اليمين بعد الحلف وقبل الحنث، وكفارة القتل بعد الجرح قبل زهوق الروح، وهو مسلم وجائز عند مالك (المغني: 2/630).
وأما قولهم: إن الحول أحد شرطي الزكاة، فلم يجز تقديمها عليه كالنصاب فغير مسلم؛ لأن تقديمها قبل ملك النصاب، تقديم لها على سببها فأشبه تقديم كفارة اليمين على الحلف وكفارة القتل على الجرح، ولأنه هنا يكون قد قدمها على الشرطين، وفي الصورة الأولى قدمها على أحدهما وهو الحول فافترقا (المرجع السابق).(2/305)
وأما قولهم: إن للزكاة وقتًا، فنقول ما قاله الإمام الخطابي: إن الوقت إذا دخل في الشيء رفقًا بالإنسان، فإن له أن يسوغ من حقه ويترك الارتفاق به، كمن عجل حقًا مؤجلاً لآدمي وكمن أدى زكاة غائب عنه، وإن كان على غير يقين من وجوبها عليه؛ لأن من الجائز أن يكون ذلك المال تالفًا في ذلك الوقت (معالم السنن: 2/224).
وأما الصلاة والصيام فتعبد محض، والتوقيت فيهما غير معقول المعنى، وإنما هو التكليف والابتلاء، فيجب أن يقتصر عليه.
وإن عجل زكاة نصاب في ملكه وما ينتج عنه أو يربحه فيه، أجزأه عن النصاب دون الزيادة عند الشافعي وأحمد؛ لأنه عجل زكاة مال ليس في ملكه فلا يجوز.
وعند أبي حنيفة: يجزئه؛ لأنه تابع لما هو مالكه، فيأخذ حكمه (المغني: 2/631).
والقسم الثاني من الأموال التي تجب فيها الزكاة ما لا يُشترط له الحول كالزروع والثمر والمعدن والركاز، وهذا لا يجوز فيه تعجيل الزكاة، وأجاز بعض الشافعية تعجيل العُشر، والأرجح أنه لا يجوز، لأن العٌشر يجب بسبب واحد وهو إدراك الثمرة وانعقاد الحب، فإذا عجله قدمه على سببه، فلم يجز كما لو قدم زكاة المال على النصاب (انظر المجموع: 6/160).
واشترط بعض الحنابلة في تعجيل العُشر أن يكون ذلك بعد نبات الزرع وطلوع الطلع في النخل ونحو ذلك.
هل للتعجيل حد ؟
وإذا كان التعجيل جائزًا فهل له حد من السنين؟ أم هو جائز إلى غير حد؟
أجاز الحنفية وغيرهم للمالك أن يعجل زكاته لما أراد من السنين بدون قيد. حتى قالوا: لو كان له ثلاثمائة درهم، فدفع منها مائة درهم عن المائتين زكاة لعشرين سنة مستقبلة جاز؛ لوجود السبب وهو ملك النصاب النامي. بخلاف العُشر فلا يجوز تعجيله قبل نبات الزرع وخروج الثمرة، وبالأولى قبل الزراعة أو الغرس، لعدم وجود سبب الوجوب، كما لو عجل زكاة المال قبل مِلك النصاب (حاشية ابن عابدين: 2/29-30، وانظر البحر الزخار: 2/188).(2/306)
هذا وترك التعجيل وإخراج الزكاة في حينها أولى وأفضل، خروجًا من الخلاف، وضبطًا للموارد المالية السنوية للدولة، إلا إذا عرضت حاجة تقتضي ذلك، كحاجة بيت المال إلى زيادة في الموارد لجهاد مفروض، أو لكفاية الفقراء، فله أن يستسلف أرباب المال أو بعضهم، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عمه العباس.
وينبغي ألا يزيد التعجيل ولا الاستسلاف على حولين، اقتصارًا على ما ورد به النص.
هل يجوز تأخير الزكاة ؟
وإذا أجزنا تعجيل الزكاة لحاجة أو مصلحة فإن تأخيرها عن وقت إخراجها الواجب لا يجوز إلا لحاجة داعية، أو مصلحة معتبرة تقتضي ذلك. مثل أن يؤخرها ليدفعها إلى فقير غائب هو أشد حاجة من غيره من الفقراء الحاضرين، ومثل ذلك تأخيرها إلى قريب ذي حاجة؛ لما له من الحق المؤكد، وما فيها من الجر المضاعف.
وله أن يؤخرها لعذر مالي حلَ به، فأحوجه إلى مال الزكاة، فلا بأس أن ينفقه ويبقى دينًا في عنقه، وعليه الأداء في أول فرصة تسنح له.
قال شمس الدين الرملي: وله تأخيرها لانتظار أحوج أو أصلح أو قريب أو جار؛ لأنه تأخير لغرض ظاهر وهو حيازة الفضيلة، وكذلك ليتروى حيث تردد في استحقاق الحاضرين، ويضمن إن تلف المال في مدة التأخير. لحصول الإمكان، وإنما أخر لغرض نفسه، فيتقيد جوازه بشرط سلامة العاقبة، ولو تضرر الحاضر بالجزع حرم التأخير مطلقًا؛ إذ دفع ضرره فرض، فلا يجوز تركه لحيازة فضيلة (نهاية المحتاج: 2/134).(2/307)
واشترط ابن قدامة في جواز التأخير لحاجة أن يكون شيئًا يسيرًا، فأما إن كان كثيرًا فلا يجوز، ونقل عن أحمد قوله: لا يجرى على أقاربه من الزكاة في كل شهر. يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئًا، فأما إن عجلها فدفعها إليهم، أو إلى غيرهم، متفرقة أو مجموعة جاز؛ لأنه لم يؤخرها عن وقتها، وكذلك إن كان عنده مالان أو أموال زكاتها واحدة، وتختلف أحوالها، مثل أن يكون عنده نصاب، وقد استفاد في أثناء الحول من جنسه دون النصاب، لم يجز تأخير الزكاة ليجمعها كلها؛ لأنه يمكنه جمعها، بتعجيلها في أول واجب منها (المغني: 2/685).
وكذلك صرح بعض المالكية: أن تفريق الزكاة واجب على الفور، وأما بقاؤها عند رب المال، وكلما جاءه مستحق أعطاه منها، على مدار العام، فلا يجوز (حاشية الدسوقي: 1/500).
وللإمام أو من ينوب عنه من الموظفين المسئولين، في جمع الزكاة أن يؤخر أخذها من أربابها لمصلحة كأن أصابهم قحط نقص الأموال والثمرات.
واحتج الإمام أحمد على جواز ذلك بحديث عمر: أنهم احتاجوا عامًا فلم يأخذ منهم الصدقة فيه وأخذها منهم في السنة الأخرى (انظر: مطالب أولي النهي: 2/116).
وقد ذكر أبو عبيد عن ابن أبي ذباب. أن عمر أخر الصدقة عام الرمادة (وكان عام مجاعة) فلما أحيا الناس (أي نزل عليهم الحيا: وهو المطر) بعثني فقال: اعقل فيهم عقالين، فاقسم فيهم عقالاً وائتني بالآخر (الأموال ص374)، والعقال: صدقة العام.
وكان ذلك من حكمة عمر -رضي الله عنه- وحسن سياسته ورفقه بالرعية، فأخر الزكاة عن الممولين في عام المجاعة، كما درأ القطع عن السراق في مثل هذا العام فقال: (لا قطع في عام سنة) (المرجع السابق ص559)، والسنة: القحط.(2/308)
وفي حديث أبي هريرة المتقدم في تعجيل الزكاة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال معتذرًا عن تأخير العباس لصدقته: (هي عليَّ ومثلها معها). قال أبو عبيد: أرى -والله أعلم- أنه أخَّر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس، وللإمام أن يؤخر على وجه النظر ثم يأخذه (نيل الأوطار: 4/159).
تأخير الزكاة لغير حاجة
أما تأخير الزكاة بغير عذر، ولغير حاجة، فلا يجوز، ويأثم بهذا التأخير، ويتحمل تبعته حيث تبين أنها واجبة على الفور.
وفي ذلك يقول صاحب "المهذب من الشافعية: "من وجبت عليه الزكاة لم يجز له تأخيرها؛ لأنه حق يجب صرفه إلى الآدمي، توجهت المطالبة بالدفع إليه، فلم يجز له التأخير، كالوديعة إذا طالب بها صاحبها، فإن أخّرها، وهو قادر على أدائها، ضمنها؛ لأنه أخّر ما يجب عليه، مع إمكان الأداء فضمنه، كالوديعة" (المجموع: 5/331).
وفي كتب الحنفية: أن تأخير الزكاة من غير ضرورة، تُرَد به شهادة من أخرها، ويلزمه الإثم، كما صرح به الكرخي وغيره، وهو عين ما ذكره الإمام أبو جعفر الطحاوي عن أبي حنيفة: أنه يكره، فإن كراهة التحريم هي المحمل عند إطلاق اسمها قالوا: وقد ثبت عن أئمتنا الثلاثة وجوب فوريتها يعنون: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمد بن الحسن.
قالوا: والظاهر أنه يأثم بالتأخير ولو قلّ، كيوم أو يومين؛ لأنهم فسروا الفور بأول أوقات الإمكان، وقد يقال: المراد ألا يؤخر إلى العام القابل، لما في "البدائع": عن "المنتقى" إذ لم يؤد حتى مضى حولان فقد أساء وأثم (الدر المختار وحاشيته: 2/14).
وعندي: أنه لا ينبغي العدول عن ظاهر ما جاء عن فقهاء المذهب، وإن كان التسامح في يوم أو يومين، بل أيام، أمرًا ممكنًا، جريًا على قاعدة اليُسر ورفع الحرج. أما التسامح في شهر وشهرين، بل أكثر، إلى ما دون العام. كما يُفهم من نقل "البدائع"، فلا يصح اعتباره، حتى لا يتهاون الناس في الفورية الواجبة.
إذا أخرج الزكاة فضاعت(2/309)
يحدث أحيانًا أن يخرج رب المال زكاته، فتضيع بسبب ما، كأن تُسرق أو تحترق أو نحو ذلك، وقد اختلفت أنظار الفقهاء في هذه المسألة، ولخصها ابن رشد تلخيصًا جيدًا فقال:
"إذا أخرج الزكاة فضاعت، فإن قومًا قالوا: تجزيء عنه، وقوم قالوا: هو لها ضامن حتى يضعها (أي في موضعها)، وقوم فرقوا بين أن يخرجها بعد أن أمكنه إخراجها، وبين أن يخرجها أول زمان الوجوب والإمكان، فقال بعضهم: إن أخرجها بعد أيام من الإمكان والوجوب، ضمن، وإن أخرجها في أول الوجوب ولم يقع منه تفريط لم يضمن، وهو مشهور مذهب مالك.
وقوم قالوا: إن فرط ضمن، وإن لم يفرط زكَّى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي.
وقال قوم: بل يُعدّ الذاهب من الجميع ويبقى المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال. مثل الشريكين، يذهب بعض المال المشترك بينهما، ويبقيان شريكين على تلك النسبة في الباقي.
فيتحصل في المسألة خمسة أقوال:
1- قول: إنه لا يضمن بإطلاق.
2- وقول: إنه يضمن بإطلاق.
3- وقول: إن فرَّط ضمن، وإن لم يفرِّط لم يضمن.
4- وقول: إن فرَّط ضمن، وإن لم يفرِّط زكَّى ما بقي.
5- والقول الخامس: يكونان شريكين في الباقي اهـ (بداية المجتهد: 1/240 - طبع الاستقامة).
هلاك المال بعد الوجوب وقبل الإخراج
وعرض ابن رشد أيضًا لمسألة أخرى وهي هلاك بعض المال بعد وجوب الزكاة وقبل إخراجها فقال:
"إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب، وقبل التمكن من إخراج الزكاة، فقوم قالوا: يُزكّي ما بقي، وقوم قالوا: حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين، يضيع بعض مالهما".
سبب الاختلاف في المسألتين
قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم: تشبيه الزكاة بالديون - أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة لا بعين المال، أو تشبيهها بالحقوق التي تتعلق بعين المال، لا بذمة الذي يده على المال، كالأمناء وغيرهم.
فمن شبه مالكي الزكاة بالأمناء قال: إذا أخرج فهلك المخرج، فلا شيء عليه.(2/310)
ومن شبههم بالغرماء قال: يضمنون.
ومن فرق بين التفريط ولا تفريط، ألحقهم بالأمناء من جميع الوجوه، إذ كان الأمين يضمن إذا فرط.
وأما من قال: إذا لم يُفرط زكي ما بقي، فإنه شبه من هلك بعض ماله بعد الإخراج، بمن ذهب بعض ماله قبل وجوب الزكاة فيه، كما أنه إذا وجبت الزكاة عليه فإنما يزكي الموجود فقط، كذلك هذا، إنما يزكي الموجود من ماله فقط.
وسبب الاختلاف: هو تردد شبه المالك بين الغريم والأمين، والشريك، ومن هلك بعض ماله قبل الوجوب.
وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن من الإخراج، فلم يخرج حتى ذهب بعض المال، فإنهم متفقون -فيما أحسب- أنه ضامن، إلا في الماشية عند من رأى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول، وهو مذهب مالك. اهـ (بداية المجتهد: 1/240-241- طبع الاستقامة، وانظر المحلي: 6/363، والدر المختار بحاشية ابن عابدين: 2/79-80).
هل تسقط الزكاة بالتقادم؟
إذا أخر الزكاة لعذر أو لغير عذر، فمرّ عليه عام أو عدة أعوام دون أدائها وإيتائها أهلها، فهل تسقط بمضي السنين؟
والجواب: أنها حق أوجبه الله للفقراء والمساكين وسائر المستحقين.
فمن مقتضى ذلك ألا تسقط -وقد وجبت ولزمت- بمرور عام أو أكثر؛ لأن مضي الزمن لا يسقط الحق الثابت.
وفي هذا يقول الإمام النووي: إذا مضت عليه سنون ولم يؤد زكاتها لزمه إخراج الزكاة عن جميعها سواء علم وجوب الزكاة أم لا، وسواء أكان في دار الإسلام أم في دار الحرب. هذا مذهبنا.
قال ابن المنذر: لو غلب أهل البغي على بلد، ولم يؤد أهل ذلك البلد الزكاة أعوامًا، ثم ظفر بهم الإمام أخذ منهم زكاة الماضي، في قول مالك والشافعي وأبي ثور، وقال أصحاب الرأي: لا زكاة عليهم لما مضى، وقالوا: لو أسلم قوم في دار الحرب وأقاموا سنين، ثم خرجوا إلى دار الإسلام لا زكاة عليهم لما مضي (المجموع: 5/337).(2/311)
ويقول أبو محمد ابن حزم (المحلي: 6/87). من اجتمع في ماله زكاتان فصاعدًا وهو حي تؤدي كلها لكل سنة على عدد ما وجب عليه في كل عام، وسواء أكان ذلك لهروبه بماله، أو لتأخر الساعي (محصل الزكاة من قبل الدولة) أو لجهله، أو لغير ذلك، وسواء في ذلك العين (النقود) والحرث والماشية، وسواء أتت الزكاة على جميع ماله أو لم تأت، وسواء رجع ماله بعد أخذ الزكاة منه إلى ما لا زكاة فيه أو لم يرجع، ولا يأخذ الغرماء شيئًا حتى تستوفي الزكاة (هذا مبني على القول الصحيح: أن الزكاة تجب في الذمة لا في عين المال فإذا كانت في الذمة فحال على ماله حولان لم يؤد زكاتهما وجب عليه أداؤها لما مضى، ولا تنقص عنه الزكاة في الحول الثاني، وكذلك إن كان أكثر من النصاب لم تنقص الزكاة، وإن مضى عليه أحوال، فلو كان عنده أربعون شاة مضى عليها أحوال لم يؤد زكاتها وجب عليه ثلاث شياه، وإن كانت مائة دينار فعليه سبعة دنانير ونصف؛ لأن الزكاة وجبت في ذمته فلم يؤثر في تنقيص النصاب، ولكن إن لم يكن له مال آخر يؤدي الزكاة منه، احتمل أن تسقط الزكاة في قدرها؛ لأن الدين يمنع وجوب الزكاة (انظر المغني: 2/679-680).
فإذا كانت الضريبة تسقط بالتقادم ومرور سنوات تقل أو تكثر -حسب تحديد القانون- فإن الزكاة تظل دينًا في عنق المسلم، لا تبرأ ذمته، ولا يصح إسلامه، ولا يصدق إيمانه، إلا بأدائها وإن تكاثرت الأعوام.
هل تسقط الزكاة بالموت؟(2/312)
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الزكاة لا تسقط بموت رب المال، بل تخرج من تركته، وإن لم يوص بها. هذا قول عطاء والحسن والزهري وقتادة ومالك (في كتب المالكية: أن الزكاة: تارة تخرج من رأس المال، وتارة تخرج من الثلث، أي من تركة الميت، فإن أوصى بها فمن الثلث، وإن اعترف بحلولها وأوصى بإخراجها فمن رأس المال. (حاشية الدسوقي: 1/502)، وفي شرح الرسالة لزروق: 2/172 في زكاة عامة يموت قبل التمكن من إخراجها فإنها من رأس ماله لتعينها، وانظر بداية المجتهد: 1/241- طبع الاستقامة)، والشافعي (قال النووي: إذا وجبت الزكاة وتمكن من أدائها ثم مات لم تسقط بموته عندنا، بل يجب إخراجها من ماله عندنا. انظر المجموع: 5/335).
وأحمد وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر (المغني: 2/683-684)، وهو مذهب الزيدية (الأزهار وشرحه: 1/463، والبحر: 2/144).
وقال الأوزاعي والليث: تؤخذ من الثلث مقدمة على الوصايا، ولا يجاوز الثلث.
وقال ابن سيرين والشعبي والنخغي وحماد بن سليمان والثوري وغيرهم: لا تخرج إلا أن يكون أوصى بها، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه: أنها تسقط بموت المكلف، إلا أن يوصي بها، وتخرج من الثلث، ويزاحم بها أصحاب الوصايا، وإذا لم يوص بها سقطت، ولا يلزم الورثة إخراجها، وإن أخرجوها فصدقة تطوع؛ لأنها عبادة من شرطها النية، فسقطت بموت من هي عليه كالصلاة والصوم (هذا قول أبي حنيفة في زكاة الذهب والفضة. أما الزرع والماشية فقد اختلفت عنه الرواية فيهما: أتسقط أم تؤخذ بعد موته؟ انظر المحلي: 6/88-89، والمجموع: 5/335-336).
ومعنى هذا: أن الحنفية يقولون: مات آثمًا بترك هذه الفريضة، ولا سبيل إلى إسقاطها عنه بعد موته كتارك الصلاة والصيام، ولهذا قال بعض الحنفية: إذا أخَّر الزكاة حتى مرض يؤدي سرًا من الورثة (ذكره في رد المحتار: 2/14 نقلاً عن الفتح).(2/313)
والصحيح هو القول الأول، فإن الزكاة -كما قال ابن قدامة- حق واجب تصح الوصية به، فلم تسقط بالموت كدين الآدمي، ولأنها حق مالي واجب، فلم يسقط بموت من هو عليه كالدين، وتفارق الصوم والصلاة، فإنهما عبادتان بدنيتان، لا تصح الوصية بهما، ولا النيابة فيهما (المغني لابن قدامة: 2/683-684، والمجموع: 5/336).
على أنه قد ورد في الصحيح: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) مع أن الصيام عبادة بدنية شخصية، وجازت فيه النيابة بعد الموت، فضلاً من الله ورحمة، فأولى بذلك الزكاة، وهي حق مالي كما قدمنا.
منزلة دين الزكاة من سائر الديون
قال صاحب "المهذب" من الشافعية (المجموع: 6/231)، ومن وجبت عليه الزكاة، وتمكن من أدائها فلم يفعل حتى مات، وجب قضاء ذلك من تركته؛ لأنه حق مالي لزمه في حال الحياة، فلم يسقط بالموت كدين الآدمي، فإن اجتمعت الزكاة ودين الآدمي ولم يتسع المال للجميع، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: يُقدم دين الآدمي؛ لأن مبناه على التشديد والتأكيد، وحق الله تعالى مبني على التخفيف.
والثاني: تُقدم الزكاة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحج: (فدين الله أحق أن يُقضى) (الحديث في الصحيحين من رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- في الصوم. المصدر السابق).
الثالث: يقسم بينهما؛ لأنهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء.
والقول بتقديم الزكاة على غيرها من ديون العباد هو قول الظاهرية، وقد نصره أبو محمد ابن حزم، وعضده بالأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة، قال: فلو مات الذي وجبت عليه الزكاة سنة أو سنتين، فإنها من رأس ماله، أقرّبها، أو قامت عليه بينة، ورثه ولده أو كلالة (الكلالة: من ورثه غير ولده ووالده). لا حق للغرماء ولا للوصية ولا للورثة، حتى تستوفي (يعني الزكاة) كلها سواء في ذلك: العين والماشية والزرع.(2/314)
وناقش ابن حزم الحنفية وغيرهم ممن أسقطوا الزكاة بموت رب المال، ونسب إليهم غاية الخطأ؛ لأنهم أسقطوا - بموت المرء - دينًا لله تعالى وجب عليه في حياته، بلا برهان أكثر من أن قالوا: لو كان ذلك لما شاء إنسان أن لا يورث ورثته شيئًا إلا أمكنه.
قال: فما تقولون في إنسان أكثر من إتلاف أموال الناس ليكون ذلك دينًا عليه ولا يرث ورثته شيئًا، ولو أنها ديون يهودي أو نصراني في خمور أهرقها لهم؟ فمن قولهم: أنها كلها من رأس ماله سواء ورث ورثته أم لم يرثوا، فنقضوا علتهم بأوحش نقض، وأسقطوا حق الله -تعالى- الذي جعله للفقراء والمساكين من المسلمين والغارمين منهم، وفي الرقاب منهم، وفي سبيله تعالى، وابن السبيل فريضة من الله تعالى - وأوجبوا ديون الآدميين، وأطعموا الورثة الحرام.
والعجب كله من إيجابهم الصلاة بعد خروج وقتها على العامد لتركها، وإسقاطهم الزكاة -ووقتها قائم- عن المتعمد لتركها !!
قال أبو محمد: ويبين صحة قولنا وبطلان قول المخالفين قول الله -عزَّ وجلَّ- في المواريث: (من بعدِ وصيَّةٍ يُوصى بها أو دين) (النساء: 11)، فعم -عز وجل- الديون كلها، والزكاة دين قائم لله -تعالى-، وللمساكين والفقراء والغارمين، وسائر من فرضها تعالى لهم في نص القرآن.
ثم روى ابن حزم بإسناده الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه ورواه سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ فقال: (لو كان على أمك دين، أكنت قاضيه عنها)؟ قال: نعم. قال: (فدين الله أحق أن يُقضى).
وفي رواية عن ابن عباس - من طريق ابن جبير - أنه -عليه السلام- قال: (فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء).
قال: فهؤلاء عطاء وسعيد بن جبير ومجاهد يروونه عن ابن عباس، فقال هؤلاء بآرائهم: بل دين الله -تعالى- ساقط، ودين الناس أحق أن يُقضى! والناس أحق بالوفاء"!! اهـ (المحلي: 6/89-91).(2/315)
وإذا غضضنا الطرف عن عنف ابن حزم في الهجوم، وأسلوبه في مناقشة الخصوم (بعض الناس يرى إسقاط الاستفادة من ابن حزم نهائيًا من أجل عنفه وطريقته في مهاجمة المذاهب وأتباعها، ونحن - وإن كنا ننكر ذلك على ابن حزم - نرى الانتفاع بما يورده من أفكار واعتبارات، فلنا فقهه، وعليه عنفه، ولكل امرئ ما نوى، وحسابه على الله، وكل واحد يؤخذ من كلامه ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم)، والتفتنا فقط إلى ما استدل به من القرآن والحديث، فالذي يتأكد لنا أن الزكاة حق أصيل ثابت، لا يسقطه تقادم ولا موت، وأنها تؤخذ من التركة وتُقدَّم على كل حق وكل دين سواها، وبذلك يكون الإسلام قد سبق التشريعات المالية الحديثة التي قررت للحكومة حق امتياز على أموال المدينين بالضريبة، تسبق به غيرها من دائني الممول المتأخر عن السداد (مبادئ النظرية العامة للضريبة للدكتور عبد الحكيم الرفاعي، وحسين خلاف ص143) .
الفصل السادس
مباحث متفرقة حول أداء الزكاة
فهرس
إظهار إخراج الزكاة
هل يخبر الفقير بأنها زكاة؟
إسقاط الدَين عن المعسر هل يحسب زكاة؟
هل تغني الإباحة عن التمليك؟
الاحتيال لإسقاط الزكاة
اختلاف الفقهاء
المالكية يحرمون الحيل ويبطلون أثرها
الحنابلة كالمالكية
الزيدية يحرمون الحيل
ما يقوله آخذ الزكاة ومعطيها
التوكيل في إخراج الزكاة
الاحتيال لإسقاط الزكاة
هل يجوز التهرب أو الفرار من الزكاة؟ وبعبارة أخرى: هل يجوز الاحتيال لإسقاط الزكاة عمن وجبت عليه؟
اختلاف الفقهاء:
ذكر ابن تيمية في "القواعد النورانية" أن أبا حنيفة يجِّوز الاحتيال لإسقاط الزكاة، قال: واختلف أصحابه: هل هو مكروه أم لا، فكرهه محمد، ولم يكرهه أبو يوسف.
قال: وحرم مالك الاحتيال لإسقاطها، وأوجبها مع الحيلة، وكره الشافعي الحيلة في إسقاطها.(2/316)
وأما أحمد فقوله في الاحتيال كقول مالك: يحرم الاحتيال لسقوطها ويوجبها مع الحيلة، كما دلت عليه سورة (ن). (يقصد قصة أصحاب الجنة، كما سيأتي ذلك في كلام ابن قدامة)، وغيرها من الدلائل (القواعد النورانية ص 89).
وما ذكره ابن تيمية عن أبى يوسف يخالف ما صرح به في كتابه "الخراج" حيث قال ما نصه بالحرف: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر منع الصدقة، ولا إخراجها من ملكه إلى ملك جماعة غيره، ليفرقها بذلك، فتبطل عنه الصدقة، بأن يصير لكل واحد منهم من الإبل والبقر والغنم ما لا تجب فيه الصدقة، ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه ولا سبب " (الخراج لأبى يوسف ص 8).
وهذا الكلام واضح الدلالة على أن الإمام أبا يوسف يحرم الاحتيال لإسقاط الزكاة وإبطالها بأي وجه أو سبب.
فلعل الذي ذكره ابن تيمية واشتهر عن أبى يوسف: أن الحيل تنفذ قضاء، وإن كانت لا تجوز ديانة.
والمنصوص في كتب الحنفية: أن بعض الحيل يكره وبعضها لا يكره.
فقد قالوا: يكره أن يحتال في صرف الزكاة إلى والديه المعسرين بأن تصدق بها على فقير ثم صرفها الفقير إليهما، وهى شهيرة مذكورة في غالب الكتب.
وحين ذكروا: أن الزكاة لا تصرف لبناء مسجد، ولا إلى كفن ميت وقضاء دينه ونحو ذلك، قالوا: والحيلة في الدفع إلى هذه الأشياء مع صحة الزكاة أن يتصدق على الفقير، ثم يأمره بفعل هذه الأشياء، ويكون له ثواب الزكاة، وللفقير ثواب هذه القرب، كما قالوا هنا: إن للفقير أن يخالف أمره إن شاء؛ لأنه مقتضى صحة التمليك، والظاهر أنه لا شبهة فيه؛ لأنه ملكه إياه عن زكاة ماله وشرط عليه شرطًا فاسدًا، والهبة والصدقة لا يفسدان بالشرط الفاسد (الدر المختار وحاشيته: 2/69).
ولكن يلاحظ أن هذه الحيل - ما يكره منها وما لا يكره - في صرف الزكاة. أما في إسقاط الزكاة عن مالك النصاب، فلم أجد في كتب الحنفية التي راجعتها من صرح بجوازه.
المالكية يحرمون الحيل ويبطلون أثرها:(2/317)
وعند المالكية: لا تجوز الحيل ديانة ولا تنفذ قضاء.
ولهذا قالوا: من كان عنده نصاب من مال تجب فيه الزكاة، كالماشية مثلاً، فأبدله كله أو بعضه بعد الحول أو قبله بقليل، كشهر، بماشية أخرى من نوعها كأن أبدل خمسة من الإبل بأربعة، أو من غير نوعها، كأن يبدل الإبل بغنم أو عكسه، سواء أكانت الأخرى نصابًا أم أقل من نصاب، أو أبدلها بعروض أو نقود، أو ذبح ماشيته، أو نحو ذلك، وعلم أنه فعل ذلك فرارًا من الزكاة، وتهربًا من وجوبها - ويعرف ذلك بإقراره، أو بقرائن الأحوال، فإن ذلك الإبدال أو غيره من التصرفات لا يسقط عنه زكاة المال المبدل، بل يؤخذ بزكاته معاملة له بنقيض قصده، ولا يؤخذ بزكاة البدل وإن كانت زكاته أكثر؛ لأن البدل لم تجب فيه زكاة لعدم مرور الحول عليه.
وذلك لما تقرر في المذهب: أن الحيل لا تفيد في العبادات ولا في المعاملات.
قالوا: ولا يكون فارًا إلا إذا كان مالكًا للنصاب.
قالوا: ومن الحيل الباطلة: أن يهب ماله أو بعضه لولده أو لعبده قرب الحول ليأتي عليه الحول ولا زكاة عليه، ثم يعتصره أو ينتزعه منه، ليكون - بزعمه - ابتداء ملكه، وقد يقع ذلك للزوج مع زوجته ثم يقول لها: ردى إلى ما وهبته لك، بقصد إسقاط الزكاة عنه! فتؤخذ منه ويجب إخراجها (انظر: بلغة السالك وحاشيته: 1/210).
الحنابلة كالمالكية:
وقال ابن قدامة في "المغنى": " قد ذكرنا أن إبدال النصاب بغير جنسه يقطع الحول، ويستأنف حولاً آخر، فإن فعل هذا فرارًا من الزكاة لم تسقط عنه، سواء أكان البدل ماشية أو غيرها من النصب، وكذا لو أتلف جزءًا من النصاب قصدًا للتنقيص لتسقط عنه الزكاة لم تسقط، وتؤخذ الزكاة منه في آخر الحول، إذا كان إبداله وإتلافه قرب الوجوب، ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة؛ لأن ذلك ليس بمظنة الفرار.
" وبما ذكرناه قال مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق وأبو عبيد.(2/318)
" وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط عنه الزكاة؛ لأنه نقص قبل تمام حوله، فلم تجب فيه الزكاة، كما لو أتلف لحاجته.
قال ابن قدامة: ولنا قول الله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم).(القلم: 17 - 20). فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرارهم من الصدقة، ولأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه (يعنى الفقراء والمستحقين). فلم يسقط، كما لو طلق امرأته في مرض موته، ولأنه لما قصد قصدًا فاسدًا، اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده، كمن قتل مورثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان (المغنى المطبوع مع الشرح الكبير: 2: 534 - 532)، وهذا بخلاف ما إذا أتلف بعض ماله لحاجته، فإنه لم يقصد قصدًا فاسدًا فلا يستحق العقاب.
الزيدية يحرمون الحيل:
وعند الزيدية في ذلك بعض تفصيل، حيث قالوا: لا يجوز التحيل لإسقاط الزكاة، وفى ذلك صورتان: إحداهما قبل الوجوب (وبتعبير أدق: قبل حصول الشرط وهو الحول)، والثانية: بعده.
أما قبل الوجوب، فنحو أن يملك نصابًا من نقد، فإذا قرب حولان الحول عليه، اشترى به شيئًا لا تجب فيه الزكاة كالطعام، قصدًا للحيلة في إسقاطها. فذلك لا يجوز، فإن فعل أثم وسقطت.
ومن فقهائهم من قال: إنه مباح.
وأما الصورة التي بعد الوجوب، فنحو أن يصرفها إلى الفقير ويشرط عليه الرد إليه ويقارن الشرط العقد نحو أن يقول: قد صرفت إليك هذا عن زكاتي، على أن ترده على، فإن هذه الصورة لا تجوز ولا تجزئ، بلا خلاف في المذهب.
فإن تقدم الشرط نحو أن تقع مواطأة - قبل الصرف - على الرد، ثم صرفها إليه من غير شرط مما تواطآ عليه، فالمذهب أن ذلك لا يجوز ولا يجزئ، وقال بعضهم تجزئ مع الكراهة التحريمية.(2/319)
ووجه المذاهب: أنه يؤدى إلى إسقاط حق الفقراء، وقد جعل الله ذلك لهم، ففيه إبطال ما شرعه الله وأراده، وكل حيلة توصل بها إلى مخالفة مقصود الشارع فهي حرام ويبطل أثرها (شرح الأزهار وحواشيه: 1/539-540).
وكما منعوا التحيل لإسقاطها منعوا التحيل لأخذها أيضًا. قالوا: لا يجوز لمن لا تحل له الزكاة أن يتحيل ليحل له أخذها.
والتحيل لأخذها له صورتان:
إحداها: أن يقبض الفقير الزكاة تحيلاً ليأخذها من لا تحل له من هاشمي أو غنى أو ولد أو والد أو غيرهم ممن ليسوا من أهل الزكاة، فلا يجوز ذلك ولا تجزئ الزكاة، ويجب ردها.
واستثنوا من ذلك ما إذا أخذها لهاشمي فقير ونحو ذلك، فإن ذلك جائز وإن تقدمت مواطأة.
والصورة الثانية: تختص بمن لا تحل له الزكاة لأجل غناه، وهو أن يتحيل بإخراج ما يملكه إلى ملك غيره ليصير فقيرًا، فيحل له أخذها، فالمذهب: أن ذلك لا يجوز، وقيده بعضهم بما إذا فعل ذلك للمكاثرة لا ليأخذ ما يكفيه إلى وقت الدخل، فهو يجوز (شرح الأزهار: 1/540 - 541).
والخلاصة: أنه إذا قصد بالحيلة وجه الله تعالى، ومطابقة مقاصد الشرع، والميل عن الحرام، جازت، وإن قصد بها مخالفة مقصود الشرع لم تجز، ولو أجزناها مطلقًا لم يبق محرم إلا حل (حواشي الأزهار: 1/539، وانظر: البحر: 1/187).
وفى حواشي الأزهار عن الشوكاني قال: " الذي لا محيص عنه اطراح كل حيلة تحلل ما حرم الله، أو تحرم ما حلل، وتصحيحها ليس من الشريعة في ورد ولا صدر" (المرجع السابق ص 240).
ما يقوله آخذ الزكاة ومعطيها
ونرى الجانب الروحي الذي تمتاز به الزكاة عن الضرائب الوضعية في مظاهر عدة، نظرًا لما لها من صفة العبادة في نظام الإسلام.(2/320)
منها: أن جابي الزكاة مأمور أن يدعو لأهلها عند دفعها له، ترغيبًا لهم في المسارعة وإشعارًا برابطة الأخوة بين الآخذ والمعطى، وتمييزًا للمسلمين عن غيرهم من أهل الملل والديانات ودافعي المكوس الجائرة، وهذا امتثال لقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم). (التوبة: 103).
ومعنى "صل عليهم" ادع لهم، وقد بين الله تعالى أثر هذا الدعاء في أنفس دافعي الصدقات، وهو السكينة والطمأنينة والأمن والتثبت، وقد روى عبد الله بن أبى أوفى: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبى أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبى أوفى ) (قال في المنتقى: متفق عليه. نيل الأوطار: 4/153).
وهذا الدعاء غير مقيد بصيغة معينة، وقال الإمام الشافعي: أحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورًا، وبارك فيما أبقيت (الروضة للنووي: 2/211).
وقد روى النَّسائي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لرجل بعث بناقة حسناء فقال: (اللهم بارك فيه وفى إبله) (سنن النسائي: كتاب الزكاة: 5/30).
وهل هذا الدعاء واجب أو مستحب؟ ظاهر الأمر في الآية يفيد الوجوب، وهو قول الظاهرية وبعض الشافعية، وقال الجمهور: لو كان واجبًا لعلمه النبي -صلى الله عليه وسلم- لسعاته وولاته كمعاذ وغيره، غير أن ذلك لم ينقل (انظر: نيل الأوطار: 4/153).
وهذا الاعتراض مردود: لجواز اكتفائه -صلى الله عليه وسلم- بالآية، التي لا تخفى على مثل معاذ رضى الله عنه.
وقالوا أيضًا: إن سائر ما يأخذه الإمام من الديون والكفارات وغيرها لا يجب عليه فيها الدعاء، وكذلك الزكاة (المرجع السابق)، وهذا أيضًا لا حجة فيه! لثبوت الأمر في الزكاة بصريح الآية دون غيرها، وهذا لما لها من عظيم المنزلة في الدين، ولأنها حق لازم دوري، فحسن الترغيب فيه، والتثبيت عليه.(2/321)
وأما جعل الوجوب خاصًا به -صلى الله عليه وسلم- لكون صلاته سكنًا لهم بخلاف غيره فهذا تثبيت للشبهة التي تعلق بذيلها المانعون للزكاة في عهد أبى بكر، ولم يقبلها منهم أحد من الصحابة، وكيف نجعل أول الآية عامًا وآخرها خاصًا بالرسول؟ فالأرجح أن يبقى الأمر أصل صيغته مفيدًا للوجوب، وهذا يوافق طبيعة الزكاة الخاصة، ونظرة الإسلام إليها، وما يميزها عن الضرائب التي يفرضها البشر.
ومنها: أن دافع الزكاة مطالب أن يكون طيب النفس بها، داعيًا الله أن يتقبلها منه، وأن يجعلها مغنمًا له، لا مغرمًا عليه، هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها، أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنمًا ولا تجعلها مغرمًا) (الحديث رواه ابن ماجة جـ1 رقم (1797)، ورواه عبد الرزاق في جامعه، كما أشار السيوطي في الجامع الكبير، من حديث أبى هريرة، ورمز له بعلامة الضعف، وقال المناوي في الفيض (1/290): والحديث ليس بشديد الضعف، كما وهم. قال في الأصل: وضعف، وذلك لأن فيه سويد بن سعيد. قال أحمد: متروك، وانظر: نيل الأوطار: 4/152 - 153).
معنى الحديث أن على المكلف إذا أعطى الزكاة - للفقير المستحق أو للعامل عليها من قبل الإمام- ألا يهمل هذا الدعاء ليتم له ثوابها، ومعنى الدعاء: اللهم طيب نفسي بها، حتى أرى إخراجها مغنمًا وربحًا لي في ديني ودنياي وآخرتي، ولا أراها غرامة أغرمها وأخرجها وأنا كاره.
وقد روى في حديث رواه الترمذي عن على مرفوعًا: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وعد منها: إذا اتخذت الأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا) (إسناده ضعيف كما في نيل الأوطار)، وإذا سأل المسلم ربه ألا يجعل زكاته مغرمًا، فهو يجنب نفسه وأمته أسباب البلاء.(2/322)
وهذا بناء على فعل "أعطيتم" مبنى للفاعل، وهذا المشهور، ويجوز بناءه للمفعول كما قال المناوي. فيكون الخطاب للمستحقين. أي إذا أعطيتم -أيها المستحقون- فلا تتركوا مكافأة المزكي على إحسانه بأن تقولوا: اللهم اجعله له مغنمًا، ولا تجعلها عليه مغرمًا (قال في الفيض (1/290): فيه أنه يندب قوله ذلك وإن لم يذكروه؛ لأنه من الفضائل وقد دخل تحت أصل كلى وهو طلب الدعاء له)، ومثل ذلك وكيل المستحقين وهو الإمام أو نائبه، وهو المفهوم من قوله تعالى: (وصل عليهم).
التوكيل في إخراج الزكاة
ولا يلزم المسلم أن يخرج زكاته بنفسه، بل أن يوكل عنه مسلمًا ثقة يخرجها نيابة عنه، والمراد بالثقة من يطمئن إلى أمانته في إخراجها إلى مستحقها؛ لأن غير الثقة لا يؤمن عليها، واشترط بعض الفقهاء أن يكون الوكيل مسلمًا؛ لأن الزكاة عبادة، وغير المسلم ليس من أهلها، وقال آخرون: يجوز توكيل الذمي في إخراج الزكاة إذا نوى الموكل، وكفت نيته (انظر: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 1/498).
والذي أراه ألا يلجأ المسلم إلى توكيل غير المسلم؛ إلا لحاجة، بشرط أن يكون ثقة يطمئن إلى تنفيذه رغبة موكله.
وذهب بعض المالكية إلى أن استنابة المالك من يؤدى الزكاة منه أمر مستحب بعدًا عن الرياء، وخوفًا عليه من أنه إذا تولى تفرقتها بنفسه يقصد حمد الناس، وثناءهم عليه.
وقد تجب الاستنابة إن علم من نفسه ذلك، ولم يكن مجرد خوف، وكذلك إذا جهل من يستحق الزكاة، فعليه أن يوكل من يضعها في موضعها ويعطيها أهلها (المرجع السابق).
إظهار إخراج الزكاة
قال الإمام النووي:
الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها ليراه غيره، فيعمل عمله، ولئلا يساء الظن به، وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب إظهارها، وإنما يستحب الإخفاء في نوافل الصلاة والصوم (المجموع: 6/233، انظر: فقه الإمام جعفر: 2/96، حيث قال في رواية: "الإعلان أفضل من الإسرار ".(2/323)
وذلك أن الزكاة من شعائر الإسلام التي في إظهارها وتعظيمها والمعالنة بها تقوية للدين وتأكيد لشخصية المسلمين، ويجب أن يكون الحرص على هذه المعاني الكريمة رائد المزكي، لا مراءاة الناس التي تفسد النية، وتلوث العمل، وتحبط الأجر عند الله.
أما الحرص على إظهار شعائر الإسلام وتعظيمها وتحبيبها إلى الناس، فهذا من دلائل الإيمان، وأمارات التقوى. قال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). (الحج: 32).
ولعل هذا هو المراد بالاختيال الذي يحبه الله في الصدقة الذي جاء به الحديث النبوي: (والاختيال الذي يحبه الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة) (رواه النسائي في السنن، كتاب الزكاة: 5/79)، وأصل ذلك قوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي). (البقرة: 271).
هل يخبر الفقير بأنها زكاة؟
إذا لم تكن الحكومة المسلمة هي التي تتولى أمر الزكاة جباية وتوزيعًا، وكان الأفراد هم الذين يقومون بصرفها على مستحقيها -كما هو الشأن في معظم البلاد الإسلامية اليوم- فالأولى لمن يخرج الزكاة: ألا يخبر الفقير أن ما يعطيه إياه زكاة فقد يؤذى الآخذ ذلك القول -وخاصة إذا كان من المستورين الذين يتعففون عن أخذ الصدقات- ولا حاجة إليه.
قال في "المغنى": "وإذا دفع الزكاة إلى من يظنه فقيرًا، لم يحتج إلى إعلامه أنه زكاة، قال الحسن: أتريد أن تقرعه؟! لا تخبره.
وقال أحمد بن الحسن: قلت لأحمد: يدفع الرجل الزكاة إلى الرجل فيقول: هذا من الزكاة أو يسكت؟
قال: "ولم يبكته بهذا القول؟! يعطيه ويسكت. ما حاجته إلى أن يقرعه"؟! (المغنى: 2/647).
بل قال بعض المالكية: يكره، لما فيه من كسر قلب الفقير (بلغة السالك وحاشية الصاوي: 1/335).(2/324)
وعند الجعفرية مثلما عند أهل السنة في ذلك: أنه لا يجب إعلام الفقير بالزكاة حين الدفع إليه ولا بعده. قال أبو بصير: قلت للإمام الباقر(عليه السلام): الرجل من أصحابنا يستحي أن يأخذ الزكاة، فأعطيه منها، ولا أسمى أنها من الزكاة؟ قال: أعطيه ولا تسم، ولا تذل المؤمن (انظر: فقه الإمام جعفر الصادق: 2/88).
إسقاط الدَين عن المعسر هل يحسب زكاة؟
قال الإمام النووي: إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله عن زكاته وقال له: جعلته عن زكاتي، فوجهان (في مذهب الشافعي). أصحهما لا يجزئه، وهو مذهب أبى حنيفة وأحمد؛ لأن الزكاة في ذمته، فلا تبرأ إلا بإقباضها، والثاني: يجزئه، وهو مذهب الحسن البصري وعطاء؛ لأنه لو دفعه إليه، ثم أخذه منه جاز، فكذا إذا لم يقبضه، كما لو كانت عنده دراهم وديعة ودفعها عن الزكاة، فإنه يجزئه سواء قبضها أم لا. أما إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه، فلا يصح الدفع إليه، ولا نويا ذلك ولم يشرطاه جاز بالاتفاق، وأجزأه عن الزكاة، وإذا رده إليه عن الدين برئ منه، ولو قال المدين: ادفع إلى زكاتك حتى أقضيك دينك، ففعل، أجزأه عن الزكاة، وملكه القبض، ولا يلزمه دفعه إليه عن دينه، فإن دفعه أجزأه (المجموع: 6/210 - 211).
ما ذكره النووي عن الحسن هنا نقله عنه أبو عبيد: أنه كان لا يرى بذلك بأسًا، إذا كان ذلك من قرض. قال: "فأما بيوعكم هذه فلا". أي إذا كان الدين ثمنًا لسلعة، كما هو الشأن في ديون التجار، فلا يراه الحسن مجزئًا، وهو تقييد حسن.
أما أبو عبيد فشدد في ذلك ولم يره مجزئًا بحال، ونقله عن سفيان الثوري، ورأى في ذلك مخالفة للسنة، كما خشي أن يكون صاحب الدين إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين الذي قد يئس منه، فيجعله ردءًا لماله يقيه به، ولا يقبل الله إلا ما كان له خالصًا (الأموال ص 595 - 596 - طبع دار الشرق).(2/325)
وقال ابن حزم: من كان له دين على بعض أهل الصدقات، فتصدق عليه بدينه قبله، ونوى بذلك أنه من الزكاة، أجزأه ذلك، وكذلك لو تصدق بذلك الدين على من يستحقه، وأحاله به على من هو له عنده، ونوى بذلك الزكاة، فإنه يجزئه.
برهان ذلك: أنه مأمور بالصدقة الواجبة، وبأن يتصدق على أهل الصدقات من زكاته الواجبة بما عليه منها، فإذا كان إبراؤه من الدين يسمى صدقة، فقد أجزأه.
واستدل ابن حزم بحديث أبى سعيد الخدري في صحيح مسلم قال: أصيب رجل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (تصدقوا عليه) قال: وهو قول عطاء بن أبى رباح وغيره (المحلى: 6/105 - 106).
وهو مذهب الجعفرية أيضًا. فقد سأل رجل جعفرًا الصادق قائلاً: لي دين على قوم قد طال حبسه عندهم، لا يقدرون على قضائه، وهم مستوجبون للزكاة: هل لي أن أدعه، فأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال: نعم (فقه الإمام جعفر: 2/91).
وعندي أن هذا القول أرجح، ما دام الفقير هو المنتفع في النهاية بالزكاة بقضاء حاجة من حوائجه الأصلية وهى وفاء دينه، وقد سمى القرآن الكريم حط الدَين عن المعسر صدقة في قوله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم، إن كنتم تعلمون). (البقرة: 280).
فهذا تصدق على المدين المعسر، وإن لم يكن فيه إقباض ولا تمليك، والأعمال بمقاصدها، لا بصورتها، وهذا بشرط أن يكون عاجزًا عن الوفاء، وأن يبرئه من دينه، ويعلمه بذلك، فمثل هذا المدين العاجز، إن لم يكن من الفقراء والمساكين، فهو قطعًا من الغارمين، فهو من أهل الزكاة، والإبراء بمنزلة الإقباض، وهو يحقق للمدين حاجة نفسية، بإزاحة ثقل الدين عن كاهله فينزاح عنه هم الليل، وذل النهار، وخوف المطالبة والحبس، فضلاً عن عقوبة الآخرة.(2/326)
غير أن ما قاله الحسن من تقييد ذلك بدين القرض لا ديون التجارات، أمر ينبغي اعتباره، خشية استرسال التجار في البيع بالدين رغبة في مزيد من الربح، فإذا أعياهم اقتضاء الدين احتسبوه من الزكاة، وفيه ما فيه.
هل تغني الإباحة عن التمليك؟
عرض بعض الفقهاء هنا لمسألة، وهى ما إذا أطعم يتيمًا أو ضيفًا فقيرًا بنية الزكاة: هل يجوز احتساب ما أكله من الطعام زكاة إذا نوى ذلك، باعتبار أنه أباحه لهم؟
نص الحنفية وغيرهم على أن لا يجزئ عن الزكاة؛ لأنه لا بد من تمليك، والإطعام ليس بتمليك، وإنما هو إباحة.
لكن قالوا: إذا دفع إليه المطعوم ناويًا يجزئه، كما لو كساه؛ لأنه بالدفع إلى الفقير بنية الزكاة يملكه، فيصير آكلاً من ملكه، بخلاف ما لو أطعمه معه (الدر المختار وحاشيته: 2/3).
وأجاز بعض الزيدية احتساب ما يقدمه لضيوفه الفقراء من الزكاة بشروط:
1- أن ينوى الزكاة.
2- أن تكون عين الطعام باقية كالتمر والزبيب.
3- أن يصير إلى كل واحد ما له قيمة ولا يتسامح بمثله.
4- أن يقبضه الفقير أو يخلى بينه وبينه مع علمه بذلك.
5- أن يعلم الفقير أنه زكاة؛ لئلا يعتقد مجازاته، ورد الجميل بمثله (شرح الأزهار وحواشيه ص 542).
الباب السادس
أهداف الزكاة وآثارها في حياة الفرد والمجتمع
فهرس
أهدافُ الزكاة وآثارها في حياة المجتمع
تمهيد
أهداف الزكاة وآثارها في حياة الفرد
تمهيد
ظل علماء المالية والضريبة زمنًا طويلاً وهم ينأون بالضريبة أن تكون لها أهداف إنسانية أو اجتماعية أو اقتصادية، خشية أن يؤثر ذلك على هدفها الأول عندهم وهو وفرة الحصيلة، وغزارة المال الذي يتدفق على الخزانة من وراء جبايتها، وعُرف هذا الاتجاه باسم "مذهب الحياد الضريبي".(2/327)
وأخيرًا بعد تطور الأفكار، وتقلب الأحوال، واشتعال الثورات، اضطروا أن يرفضوا تلك الفكرة التقليدية، وأن ينادوا باستخدام الضريبة، لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية معينة، كتقليل الفوارق بين الطبقات، وإعادة التوازن الاقتصادي في المجتمع، إلى غير ذلك من الأهداف.
أما الزكاة في الإسلام فكان لها شأن آخر.
إن الإسلام جعلها ركنًا من أركانه، وشعيرة من شعائره، وعبادة من عباداته، يؤديها المسلم بوصفها فريضة دينية مقدسة امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته، طيبة بها نفسه، خالصة بها نيته، حتى تحوز القبول عند الله تعالى: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) (مر تخريجه).
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة). (البينة: 5).
فالزكاة -في المقام الأول- يقوم بها المسلم بوصفها جزءًا من التكليف الإلهي للإنسان الذي استخلفه الله في هذه الأرض، ليعبده تعالى، ويعمرها بالحق والعدل، ليجنى ثمرته في دار أخرى، فهو يعد ويصقل ويصهر في بوتقة التكاليف والابتلاء في هذه ليصلح للخلود والنعيم في الدار الباقية الأخرى، فإذا طهرت نفسه وزكا قلبه بالتزام حدود الله وإقامة واجباته، كان أهلاً لنعيم الحياة الآخرة وجوار الله في جنته، وكان من (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون). (النحل: 32).
ولهذا المعنى قرن القرآن بين الصلاة والزكاة في ثمانية وعشرين موضعًا منه، وقرنت بينهما السنة في عشرات المواضع، وعرف في الإسلام أن الزكاة أخت الصلاة، لا تجوز التفرقة بينهما وقد جمعهما الله، ولهذا قال أبو بكر لمن تردد من الصحابة في قتال من أقاموا الصلاة، وامتنعوا من أداء الزكاة: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة).(2/328)
ومن ثم تذكر أحكام "الزكاة" في كتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه في قسم "العبادات" تالية لأحكام الصلاة (هذا هو الغالب في كتب الفقه، وقليل منها يذكر الصوم بعد الصلاة على أساس أنهما عبادتان بدنيتان: أي أن كلتيهما تؤدى بجهد بدني ومشقة جسيمة. أما الزكاة فهي عبادة مالية، والحج عبادة بدنية ومالية معًا). اقتداء بالكتاب والسنة.
ومع وضوح معنى العبادة في الزكاة، فإن هناك أهدافًا إنسانية جليلة، ومثلاً أخلاقية رفيعة، وقيمًا روحية عليا، كان الإسلام يقصد إلى تحقيقها وتثبيتها من وراء فريضة الزكاة، كما نبهت على ذلك الآيات والأحاديث، وكما التفت إلى ذلك كثير من محققي علماء الإسلام.
وحين طبق المسلمون في العصور الأولى شريعة الزكاة، كما أمر الله ورسوله تحققت هذه الأهداف الجليلة، وبرزت آثارها في حياة الفرد المسلم، والمجتمع الإسلامي، ماثلة للعيان.
وهذه الأهداف ليست مادية فحسب، ولا معنوية فحسب، بل تشمل الجانبين المادي والمعنوي، وتعنى بالأهداف الروحية والأخلاقية عنايتها بالأهداف الاقتصادية والمالية.
فهذه الأهداف ليست فردية فقط، ولا اجتماعية فقط، بل منها ما يعود على الفرد، سواء أكان معطيًا للزكاة أم آخذًا لها، ومنها ما يعود على المجتمع المسلم، وتحقيق أمنه، ونشر رسالته، وحل مشكلاته.
ويشتمل هذا الباب على فصلين أساسيين:
الأول: يبحث في أهداف الزكاة وآثارها في حياة الفرد المسلم.
والثاني: يبحث في أهداف الزكاة وآثارها في حياة المجتمع المسلم.
الفصل الأول
أهداف الزكاة وآثارها في حياة الفرد
فهرس
تابع المبحث الأول: هدف الزكاة وأثرها في المعطي
الزكاة تطهير للمال
الزكاة لا تطهر المال الحرام
الزكاة نماء للمال
المبحث الثاني: هدف الزكاة وأثرها في الآخذ
الزكاة تحرير لآخذها من ذي الحاجة
الزكاة تطهير من الحسد والبغضاء
تمهيد
المبحث الأول: هدف الزكاة وأثرها في المعطي
الزكاة تطهير من الشح
الزكاة تدريب على الإنفاق والبذل(2/329)
تخلق بأخلاق الله
الزكاة شكر لنعمة الله
علاج للقلب من حب الدنيا
الزكاة منمية لشخصية الغني
الزكاة مجلبة للمحبة
يضم هذا الفصل مبحثين:
الأول: عن أهداف الزكاة بالنسبة للمعطى، وهو الغنى الذي وجبت عليه.
والثاني: عن أهداف الزكاة بالنظر لآخذها والمنتفع بها، وهو الذي تصرف له من ذوى الحاجات. أما الذي تصرف له الزكاة ممن يحتاج إليه المسلمون كالمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والغازي في سبيل الله، والعامل عليها فيندرجون تحت أهداف الزكاة بالنظر للمجتمع.
المبحث الأول
هدف الزكاة وأثرها في المعطي
ليس هدف الإسلام من الزكاة جمع المال، ولا إغناء الخزانة فحسب، وليس هدفه منها مساعدة الضعفاء وذوى الحاجة وإقالة عثرتهم فحسب، بل هدفه الأول أن يعلو بالإنسان على المادة، ويكون سيدًا لها لا عبدًا، ومن هنا اهتمت أهداف الزكاة بالمعطى اهتمامها بالآخذ تمامًا، وهنا تتميز فريضة الزكاة عن الضرائب الوضعية التي لا تكاد تنظر إلى المعطى إلا باعتباره موردًا أو ممولاً لخزانتها.
ولقد عبر القرآن الكريم عن هدف الزكاة بالنظر للأغنياء الذين تؤخذ منهم فأجمل ذلك في كلمتين من عدة أحرف، ولكنهما تتضمنان الكثير من أسرار الزكاة وأهدافها الكبيرة، وهاتان الكلمتان هما: التطهير، والتزكية، اللتان وردت بهما الآية الكريمة: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها). (التوبة: 103)، وهما يشملان كل تطهير وتزكية، سواء أكانا ماديين أم معنويين. لروح الغنى ونفسه، أو لماله وثروته، مما سنفصله في الفقرات التالية:
الزكاة تطهير من الشح
الزكاة التي يؤديها المسلم امتثالاً لأمر الله وابتغاء مرضاته، إنما هي تطهير له من أرجاس الذنوب بعامة، ومن رجس الشح بخاصة.(2/330)
ذلك الشح الذميم الذي أحضرته الأنفس وابتلى به الإنسان؛ فقد شاء الله أن يغرس في حنايا الإنسان مجموعة من الدوافع النفسية أو الغرائز، تسوقه سوقًا إلى السعي في الأرض وعمارتها، فكان منها حب التملك، وحب الذات، وحب البقاء، وكان من آثارها هذه الغرائز أو النوازع شح الإنسان بما في يده، وحبه الاستئثار بالخيرات والمنافع دون الناس: (وكان الإنسان قتورًا). (الإسراء: 100). (وأحضرت الأنفس الشح). (النساء: 128). فكان لا بد للإنسان الراقي أو الإنسان المؤمن أن يستعلي على نوازع الأثرة والأنانية في نفسه، وأن ينتصر على نزعة الشح ببواعث الإيمان، ولا فلاح له في دنياه أو آخرته إلا بالانتصار على هذا الشح المقيت.
الشح آفة خطرة على الفرد والمجتمع؛ إنها قد تدفع من اتصف بها إلى الدم فيسفكه، وإلى الشرف فيدوسه، وإلى الدين فيبيعه، وإلى الوطن فيخونه، ولذا روى عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه جعله أحد المهلكات فقال: (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) (رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر بإسناد ضعيف، كما في التيسير: 1/570، (ورواه أيضًا أبو الشيخ في التوبيخ، والبزار وأبو نعيم والطبراني في الأوسط والبيهقي عن أنس، وضعفه العراقي، كما في "الفيض": 3/306، ولكن حسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير)، وقال تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). (الحشر: 9، والتغابن: 16). كررها في القرآن مرتين، قصر فيها الفلاح على من وقى هذا الداء الفتاك، وخطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: (إياكم والشح؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالشح. أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا) (أخرجه أبو داود والنسائي. انظر: مختصر المنذري: 2/ 263).
فالزكاة بهذا المعنى طهرة: أي تطهر صاحبها من خبث البخل المهلك، وإنما طهارته بقدر بذله، وفرحه بإخراجه، واستبشاره بمصرفه إلى الله تعالى.(2/331)
والزكاة كما تحقق معنى التطهير للنفس، تحقق معنى التحرير لها، تحررها من ذل التعلق بالمال والخضوع له، ومن تعاسة العبودية للدينار والدرهم، فإن الإسلام يحرص على أن يكون المسلم عبدًا لله وحده، متحررًا من الخضوع لأي شئ سواه، سيدًا لكل ما في هذا الكون من عناصر وأشياء.
وأي تعاسة أعظم من أن يجعل الله الإنسان في الأرض خليفة وسيدًا، فإذا هو يعبد نفسه لما عليها من مادة ومال؟!
أي تعاسة أعظم من أن يصبح جمع المال هدف الإنسان، وأكبر همه، ومبلغ علمه، ومحور حياته، وقد خلق لرسالة أكبر، وهدف أسمى؟!
ولا غرو أن جاء النور من مشكاة النبوة يحذر من هذه التعاسة، التي هي من لوازم العبودية لغير الله تعالى: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) (رواه البخاري في كتاب الجهاد، وكتاب الرقاق، وابن ماجة في الزهد)..
الزكاة تدريب على الإنفاق والبذل
وكما أن الزكاة تطهير لنفس المسلم من الشح، هي أيضًا تدريب له على خلق البذل والإعطاء والإنفاق.
فمما لا خلاف فيه بين علماء التربية والأخلاق أن للعادة أثرها العميق في خلق الإنسان وسلوكه وتوجيهه ولهذا قيل: "العادة طبيعة ثانية"، ومعنى ذلك أن للعادة من القوة والسلطان ما يقرب من "الطبيعة الأولى" التي ولد عليها الإنسان.
والمسلم الذي يتعود الإنفاق، وإخراج زكاة زرعه كلما حصد، وزكاة دخله كلما ورد، وزكاة ماشيته ونقوده وقيم أعيانه التجارية كلما حال عليها الحول، ويخرج زكاة فطره كل عيد من أعياد الفطر، هذا المسلم يصبح الإعطاء والإنفاق صفة أصيلة من صفاته، وخلقًا عريقًا من أخلاقه.(2/332)
ومن ثم كان هذا الخلق من أوصاف المؤمنين المتقين في نظر القرآن. فإذا فتح الإنسان المصحف الشريف وتلا فاتحة الكتاب، ثم اتجه إلى الصفحة التالية، ليقرأ طليعة سورة البقرة، وجد فيها بيانًا لصفات المتقين، الذين ينتفعون بهدى الكتاب العزيز: (آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون). (البقرة: 1 - 3).
وقبل ذلك لم يغفل القرآن المكي هذا الخلق من أخلاق المؤمنين: ففي سورة الشورى المكية: (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون). (الشورى: 36 - 38).
وقد اختلف المفسرون في تحديد المراد من ذلك. فقيل: الزكاة المفروضة -ويروى هذا عن ابن عباس- لقرن الإنفاق بإقامة الصلاة، وقيل: صدقة التطوع -وروى عن الضحاك- نظرًا إلى أن الزكاة لا تأتى إلا بلفظها المختص بها، وقيل: هو النفقة على الأهل والعيال.
وقيل: هو عام يشمل ذلك كله (انظر القرطبي: 1/179)، وهذا هو الصحيح الذي ينبغي أن تفهم الآيات في ضوئه، فالأمر أوسع وأعم من الزكاة الفريضة، أو صدقة التطوع، أو النفقة على الأهل. إنه خلق من أخلاق المؤمنين (الذين ينقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية). (البقرة: 274)، و(الذين ينفقون في السراء والضراء). (آل عمران: 134).
(الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار). (آل عمران: 17).
ومما يدل على ذلك ما جاء في القرآن المكي من أوصاف المتقين: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم، إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفى أموالهم حق للسائل والمحروم). (الذاريات: 15 - 19).(2/333)
(إن الإنسان خلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم). (المعارج: 19 - 25).
وبعد ذلك إن الذي يعتاد الإنفاق مما بيده لغيره، والبذل من ملكه مواساة لإخوانه، ومساهمة في مصالح أمته، يبعد أشد البعد أن يعتدي على مال غيره ناهبًا أو سارقًا؛ فإنه ليصعب على من يعطى من ماله ابتغاء رضا الله، أن يأخذ ما ليس له، ليجلب على نفسه سخط الله.
ومن أوائل ما أنزل من القرآن في مكة سورة الليل، وفيها يقسم الله تعالى فيقول: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغنى عنه ماله إذا تردى إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى فأنذرتكم نارًا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى). (سورة الليل كاملة).
تضمنت السورة الكريمة صنفين من الناس:
صنف أثنى الله عليه ويسره لليسرى لأنه : (أعطى واتقى وصدق بالحسنى). فالإعطاء صفة من صفاته الأساسية بجانب التقوى والتصديق بالحسنى، وأطلق القرآن وصفه بالإعطاء، ولم يقل ماذا أعطى؟ ولا من أعطى؟ ولا نوع ما أعطى؛ لأن المقصود أن نفسه نفس كريمة معطية باذلة لا لئيمة مانعة فالنفس المعطية هي النافعة المحسنة، التي طبعها الإحسان وإعطاء الخير، فتعطى خيرها لنفسها ولغيرها، فهي بمنزلة العين التي ينتفع الناس بشربهم منها وسقى دوابهم وأنعامهم وزرعهم، فهم ينتفعون بها كيف شاءوا، فهي ميسرة لذلك، وهكذا الرجل المبارك ميسر للنفع حيث حل، فجزاء هذا أن يسره الله لليسرى، كما كانت نفسه ميسرة للعطاء.(2/334)
وصنف مقابل لهذا ذمه الله ويسره للعسرى؛ لأنه (بخل واستغنى وكذب بالحسنى). فهذا هو الصنف الشحيح اللئيم الذي بخل بماله، وظن نفسه مستغنيًا عن الله وعن الناس، وكذب بما وعد الله من حسن العاقبة للمؤمنين الصادقين. لهذا أنذره الله: (نارًا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى). مثل هذا الذي كذب بالحسنى، وتولى عن الإعطاء والتقوى.
(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى).
لقد كانت هذه السورة المبكرة من سور القرآن المكي بما اشتملت عليه من هذين النموذجين -مشيرة إلى الاتجاه الذي يسير فيه الإسلام نحو المال ونحو الأغنياء، وموضحة النموذج الخلقي الذي ينشده الإسلام ويرضاه الله تعالى.
تخلق بأخلاق الله
والإنسان إذا تطهر من الشح والبخل، واعتاد البذل والإنفاق، ارتقى من حضيض الشح الإنساني: (وكان الإنسان قتورًا). (الإسراء: 100)، واقتربمن أفق الكمالات "الربانية"، فإن من صفات الحق تبارك وتعالى إفاضة الخير والرحمة والجود والإحسان دون نفع يعود عليه تعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفات بقدر الطاقة البشرية تخلق بأخلاق الله، وذلك منتهى كمالات الإنسانية.(2/335)
قال الإمام الرازي (التفسير الكبير: 16/101): "إن النفس الناطقة -يعنى تلك التي صار بها الإنسان إنسانًا- لها قوتان: نظرية وعملية؛ فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة، ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال، وهو اتصافه بكونه محسنًا إلى الخلق، ساعيًا في إيصال الخيرات إليهم، رافعًا للآفات عنهم- ولهذا السر قال -عليه السلام- (بحثت عنه في مظانه فلم أجد له أصلاً، ولا من تكلم عليه: (تخلقوا بأخلاق الله) ا هـ (ومما يقرب من هذا المعنى ما قاله أيضًا من أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء؛ فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام، ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفه الحق، والاستغناء بالشيء صفة الخلق، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالاً كثيرة فقد رزقه نصيبًا وافرًا من باب الاستغناء بالشيء. فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء إلى المقام الذي هو أعلى منه وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء).
ومن آثار هذا الخلق وذلك الروح الذي نماه الإسلام في نفوس المسلمين عن طريق الزكاة، أعنى خلق البذل وروح البر: تلك الصدقات الجارية التي خلفها المسلمون الخيرون لمن بعدهم ينتفعون بها، والتي تتمثل واضحة في نظام "الوقف الخيري" وما ضرب فيه الواقفون المسلمون من أمثلة فريدة في صدق عاطفة الخير، وأصالة روح البر في حناياهم، واتساع هذه الروح لمختلف الحاجات، وشتى المحتاجين إلى المعونة المادية أو المعنوية، من كل الأجناس والطبقات، بل من غير الإنسان في بعض الأحيان (انظر نماذج من هذا الوقف في كتابنا "الإيمان والحياة" فصل: "الرحمة" ص291 - ص293).
الزكاة شكر لنعمة الله(2/336)
ومن المعلوم الذي تنادى به العقول، وتقره الفطر، وتدعو إليه الأخلاق وتحث عليه الأديان والشرائع: أن الاعتراف بالجميل، وشكر النعمة، أمر لازم.
والزكاة توقظ في نفس معطيها معنى الشكر لله تعالى، والاعتراف بفضله عليه وإحسانه إليه، فإن لله عز وجل -كما قال الإمام الغزالي- على عبده نعمة في نفسه وفى ماله. فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن، والمالية شكر لنعمة المال، وما أخس من ينظر إلى الفقير، وقد ضيق عليه الرزق وأحرج إليه، ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدى شكر الله تعالى على إعفائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله " (الإحياء: 1/193 - طبع الحلبي).
ومن الإيحاءات العميقة لهذا المعنى في أفكار المسلمين ومشاعرهم -معنى أن الزكاة مقابل النعمة - أن كل نعمة يجب أن تقابل بزكاة من الإنسان، سواء أكانت النعمة مادية أم معنوية، ولهذا شرع بين المسلمين أن يقولوا: زك عن عافيتك. زك عن بصرك، ونور عينيك. زك عن علمك. زك عن نجابة أولادك... وهكذا، وهو إيحاء نبيل جميل وقد روى في الحديث: (لكل شيء زكاة) (رواه ابن ماجة عن أبى هريرة، والطبراني عن سهل بن سعد، ورمز له السيوطي بعلامة الضعف، وأشار إلى ضعفه المنذري في الترغيب).
علاج للقلب من حب الدنيا
والزكاة من وجه آخر - تنبيه للقلب على واجبه نحو ربه ونحو الآخرة، وعلاج له من الاستغراق في حب الدنيا، وحب المال؛ فإن الاستغراق في حبه -كما قال الرازي- يذهل النفس عن حب الله، وعن التأهب للآخرة، فاقتضت حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده، ليصير ذلك الإخراج كسرًا من شدة الميل إلى المال، ومنعًا من انصراف النفس بالكلية إليه، وتنبيهًا له على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال، وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى. فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب (في التفسير نفسه ص 101).(2/337)
ويوضح الرازي (المرجع السابق). السر في استيلاء حب المال على القلب الإنساني فيقول: "إن كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة؛ وتزايد المال يوجب تزايد القدرة، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة، وتزايد اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سببًا لحصول هذه اللذات المتزايدة؛ وبهذا الطريق تسير المسألة مسألة الدور؛ لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال -وذلك يوجب ازدياد القدرة، وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال- ولما صارت المسألة مسألة الدور لم يظهر لها مقطع ولا آخر، فأثبت الشرع لها مقطعًا وآخرًا، وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى؛ ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له، ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه". ا هـ.
ومعنى هذا: أن الله لا يحب لعبده المؤمن أن يسير في حلقة مفرغة لا يعرف لها طرفًا تنتهي عنده: حلقة قوامها جمع المال، والحرص عليه، والانهماك في طلبه، وإنما يحب أن يذكره بأن المال وسيلة لا غاية، وأن يقول له: عند هذا المكان من الحلقة قف، لتنفق وتتصدق وتخرج حق الله، وحق الفقير، وحق الجماعة.
إن الله أباح للمسلم جمع المال، وأباح له طيبات الدنيا، ولكنه لم يرض ذلك له مهمة وغاية في الحياة، إنه خلق لغاية أسمى، ولدار أبقى. إن الدنيا خلقت له، وأما هو فخلق للآخرة ولعبادة الله، وما الدنيا إلا طريق للآخرة، ولا بأس أن يجمل الإنسان الطريق ويمهده، ولكن لا ينسى أنه فيه سائر إلى هدف، وساع إلى غاية.
إن الله يعطى المال من يحب ومن لا يحب، يعطيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورًا). (الإسراء: 20).(2/338)
فوجود المال في يَدَي الإنسان ليس دليلاً على فضله ولا خيره، إنما الفضل والخير في بذل المال لله، وإنفاقه في سبيل الله، وابتغاء ما عند الله.
إن المال في نظر الإسلام خير ونعمة، ولكنه خير يبتلى به الإنسان كما يبتلى بالشر: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). (الأنبياء: 35)، (إنما أموالكم وأولادكم فتنة). (التغابن: 15)، (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه). (الفجر: 15).
والسعيد من اعتبر نفسه أمينًا على المال ومستخلفًا فيه، فأنفقه حيث أمر الله: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه). (الحديد: 7).
والزكاة تدريب للمسلم على مقاومة فتنة المال وفتنة الدنيا، بإعداد النفس للبذل، امتثالاً لأمر الله وسعيًا في مرضاته سبحانه.
إن شر ما تصاب به الأمم، ويجعل أعدادها الهائلة كثرة كغثاء السيل، ويغرى بها أعداءها: أن يصاب أبناؤها بالوهن، الذي يخدر الأنفس، ويحطم العزائم، ويقتل الروح المعنوية، وسر هذا الوهن -كما عرفنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينحصر في أمرين: حب الدنيا وكراهية الموت (من حديث رواه أحمد: 5/278، وأبو داود في كتاب الملاحم من حديث ثوبان).
فإذا تعلم المسلم كيف يدع الدنيا للآخرة، ويبذل المال لله، يؤخر هوى نفسه لمصلحة غيره أو حاجته، فقد حطم الوهن، وحقق القوة لنفسه، وبالتالي لأمته.
الزكاة منمية لشخصية الغني
ومن معنى التزكية التي تحققها الزكاة: أنها نماء وزيادة لشخصية الغنى وكيانه المعنوي. فالإنسان الذي يسدى الخير، ويصنع المعروف، ويبذل من ذات نفسه ويده، لينهض بإخوانه في الدين والإنسانية وليقوم بحق الله عليه، يشعر بامتداد في نفسه، وانشراح واتساع في صدره، ويحس بما يحس به من انتصر في معركة، وهو فعلاً قد انتصر على ضعفه وأثرته وشيطان شحه وهواه.(2/339)
فهذا هو النمو النفسي والزكاة المعنوية، ولعل هذا ما نفهمه من عبارة الآية: (تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103). فعطف التزكية على التطهير يفيد هذا المعنى الذي ذكرناه، إذ كل كلمة في القرآن لها معناها ودلالتها.
الزكاة مجلبة للمحبة
والزكاة تربط بين الغنى ومجتمعه برباط متين سداه المحبة ولحمته الإخاء والتعاون؛ فإن الناس إذا علموا في الإنسان رغبته في نفعهم، وسعيه في جلب الخير لهم، ودفع الضير عنهم، أحبوه بالطبع، ومالت نفوسهم إليه لا محالة، على ما جاء في الأثر: (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها) (رواه ابن عدى في الكامل وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان على ابن مسعود مرفوعًا بإسناد ضعيف، بل قيل: موضوع، وصحح البيهقي وقفه. قال السخاوي: وهو باطل مرفوعًا وموقوفًا (التيسير: 1/485). فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغنى يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرف إليهم من ذلك المال أكثر أمدوه بالدعاء والهمة، وللقلوب آثار، وللأرواح حرارة، فصارت تلك الدعوات سببًا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب. كما قال الرازي، وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). (الرعد: 17)، وبقوله -عليه الصلاة والسلام-: (حصنوا أموالكم بالزكاة) (رواه أبو داود في المراسيل عن الحسن، ورواه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن جماعة من الصحابة مرفوعًا متصلاً، من وجوه ضعيفة، قال المنذري: والمرسل أشبه. (انظر: فيض القدير: 3/ 388)..
الزكاة تطهير للمال
والزكاة -كما هي طهارة للنفس وتزكية لها- هي تطهير لمال الغنى وتنمية.(2/340)
هي طهارة للمال؛ فإن تعلق حق الغير بالمال يجعله ملوثًا لا يطهر إلا بإخراجه منه، وفي مثل هذا المعنى يقول بعض السلف: "الحجر المغصوب في الدار رهن بخرابها"، وكذلك الدرهم الذي استحقه الفقير في المال رهن بتلويثه كله، ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ( إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره)(رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم عن جابر وفيه كلام سيأتي في باب الثامن).
وأكثر من ذلك ما روي عنه عليه الصلاة والسلام: (حصنوا أموالكم بالزكاة)، وما أحوج الأغنياء إلى هذا التحصين، وخاصة في عصرنا الذي عرف المبادئ الهدامة والثورات الحمر.
إن تعلق حق الضعيف والفقير بمال الغنى تعلق قوى، حتى إن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أن الزكاة تتعلق بعين المال لا بذمة الغنى، وأن عين المال مهدد بالهلاك أو النقص ما لم يخرج حق الزكاة منه، وفى هذا جاء حديث نبوي: (ما خالطت الصدقة مالاً قط إلا أهلكته).
وجاء في بعض الروايات: ( يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال) (قد مر تخريج الحديث من قبل ص 93).
بل إن مال الأمة كلها ليهدد بالنقص، وعروض الآفات السماوية التي تضر بالإنتاج العام، وتهبط بالدخل القومي، وما ذلك إلا أثر من سخط الله تعالى ونقمته على قوم لم يتكافلوا ولم يتعاونوا ولم يحمل قويهم ضعيفهم، وفي الحديث: (ما منع قوم الزكاة إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا) (تقدم تخريجه ص 93).
إن تطهير مال الفرد والجماعة من أسباب النقص والمحق لا يكون إلا بأداء حق الله وحق الفقير: الزكاة
الزكاة لا تطهر المال الحرام(2/341)
وإذا قلنا: إن الزكاة مطهرة للمال وسبب لنمائه ولبركته، فإنما نعنى بذلك المال الحلال، الذي وصل إلى يد حائزه من طريق مشروع. أما المال الخبيث الذي جاء عن طريق النهب أو الاختلاس أو الرشوة أو استغلال النفوذ أو الربا أو القمار، أو أي نوع من أنواع أكل أموال الناس بالباطل، فإن الزكاة لا تؤثر فيه ولا تطهره ولا تباركه، وما أبلغ ما قاله بعض الحكماء: مثل الذي يطهر المال الحرام بالصدقة كمثل الذي يغسل القاذورات بالبول!
وربما يظن كثير من اللصوص الصغار أو الكبار، المعروفين باسم اللصوصية أو المختفين تحت أسماء مزورة كاذبة -أن بحسبهم أن يتصدقوا ببعض ما كسبوا من سحت، وما جمعوا من مال حرم، فإذا هم عند الله مقبولون، وإذا هم عند الناس برآء أطهار!!
وهو وهم كاذب يرفضه الإسلام رفضًا حاسمًا، ويقول نبي الإسلام في ذلك: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا) (رواه مسلم والترمذي (الترغيب والترهيب: 3/11)، وفي صحيح البخاري نحوه - باب: الصدقة من كسب طيب - كتاب الزكاة)، (من جمع مالاً من حرام ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه) (رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال: صحيح الإسناد (الترغيب والترهيب: 1/266)، (لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور) (رواه أبو داود بإسناد صحيح واللفظ له، ومسلم في صحيحه (فتح الباري: 3/178)، والغلول: الخيانة في الغنيمة.
لا يقبل الله صدقة من مثل هذا المال الملوث، كما لا يقبل الصلاة بغير طهارة.
ويقول: (والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالاً حرامًا، فيتصدق به فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن. إن الخبيث لا يمحو الخبيث) (رواه أحمد وغيره من طريق حسنها بعض علماء الحديث (الترغيب والترهيب: 3/14)..(2/342)
قال القرطبي: وإنما لا يقبل الله الصدقة بالحرام؛ لأنه غير مملوك للمتصدق وهو ممنوع من التصرف فيه، والمتصدق به متصرف فيه، فلو قبل منه لزم أن يكون الشيء مأمورًا منهيًا من وجه واحد، وهو محال (فتح الباري: 3/180).
بل قال بعض علماء الحنفية: لو دفع رجل إلى فقير شيئًا من المال الحرام، يرجو به الثواب، يكفر بذلك، ولو علم بذلك الفقير فدعا له يكفر أيضًا، ولو سمعه آخر فأمن على دعائه -مع علمه بالحال- يكفر كذلك، ومثله لو بنى مسجدًا من الحرام يرجو به القربة؛ لأنه يطلب الثواب فيما فيه العقاب، ولا يكون ذلك إلا باستحلال الحرام وهو كفر، وهذا كله في الحرام المقطوع بحرمته، لا المشتبه فيه (انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار: 2/27).
فلا يحسبن واهم أن الزكاة كفارة للغصب عن إثم غصبه، وللمرتشي عن جريمة رشوته، وللمرابي عن نجاسة رباه. هيهات هيهات لما زعموا؛ فإن المال الحرام لا تقبل منه زكاة، بل لا تجب فيه زكاة. إن الزكاة لا تجب إلا في مال يملكه صاحبه، والإسلام لا يقر الملكية الحرام وإن طال عليه الأمد. إنه لا يقول للغاصبين والمرتشين واللصوص الصغار أو الكبار: تصدقوا، ولكن يقول لهم قبل كل شيء: ردوا الأموال التي في أيديكم إلى أصحابها! (راجع ص 152 - 154 من هذا الكتاب).
الزكاة نماء للمال
والزكاة بعد ذلك نماء للمال وبركة فيه، وربما استغرب ذلك بعض الناس فالزكاة في الظاهر نقص من المال بإخراج بعضه فكيف تكون نماء وزيادة؟!
ولكن العارفين يعلمون أن هذا النقص الظاهري وراءه زيادة حقيقية: زيادة في مال المجموع وزيادة في مال الغنى نفسه، فإن هذا الجزء القليل الذي يدفعه يعود عليه أضعافه من حيث يدرى أو لا يدرى.
وقريب من هذا ما نراه في بعض الدول الغنية المتخمة تتبرع بأموال من عندها لبعض الدول الفقيرة -لا لله- ولكن لتخلق قوة شرائية لمنتجاتها.(2/343)
وإذا نظرنا نظرة نفسية نرى أن الدينار في يد رجل تخفق له القلوب بالحب وتهتف له الألسنة بالدعاء، وتحوطه الأيدي بالحماية والرعاية - الدينار مع هذا الإنسان أشد قدرة وأكثر حركة من بضعة دنانير مع غيره، ولعل هذا التفسير الاقتصادي للنماء هو بعض ما تشير إليه آيات القرآن: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين). (سبأ: 39).
(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، والله واسع عليم). (البقرة: 268).
(وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون). (الروم: 39).
(يمحق الله الربا ويربى الصدقات). (البقرة: 276).
ولا تنس هنا عمل العناية الإلهية في هذا الإخلاف والإرباء، بغير ما نعرف من الأسباب، والله يؤتى من فضله ما يشاء لمن يشاء: (والله ذو الفضل العظيم). (البقرة: 105).
ثم إن الجزاء الذي يؤخذ كل حول، زكاة من مال المسلم، يكون حافزًا له على تثمير ماله وتنمية ثروته، إما بنفسه أو بمشاركة غيره حتى لا تأكلها الزكاة، وهذا التثمير يعود على رب المال -وفقًا لسنة الله- بأضعاف ما أخذ منه.
المبحث الثاني
هدف الزكاة وأثرها في الآخذ
والزكاة بالنظر لآخذها، تحرير للإنسان مما يذل كرامة الإنسان، ومؤازرة عملية ونفسية له في معركته الدائرة مع أحداث الحياة، وتقلبات الزمان، فمن الذي يأخذ الزكاة ويستفيد منها من الأفراد؟
إنه الفقير الذي أتعبه الفقير؟
أو المسكين الذي أرهقته المسكنة؟
أو الرقيق الذي أذله الرق!
أو ابن السبيل الذي أيأسه الانقطاع عن الأهل والمال!
الزكاة تحرير لآخذها من ذي الحاجة
إن الإسلام يريد للناس أن يحيوا حياة طيبة، ينعمون فيها بالعيش الرغد، ويغتنمون بركات السموات والأرض، ويأكلون من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويحسون فيها بالسعادة تغمر جوانحهم، وبالأمن يعمر قلوبهم، والشعور بنعمة الله يملأ عليهم أنفسهم وحياتهم.(2/344)
إنه يجعل تحقيق المطالب المادية عنصرًا هامًا في تحقيق السعادة للإنسان.
يقول الرسول عليه السلام: (ثلاث من السعادة: المرأة تراها فتعجبك، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق) (رواه الحاكم: (الترغيب والترهيب: 3/68)، وفي حديث آخر: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق) (رواه ابن حبان في صحيحه (المصدر نفسه).
وهي لفتة نبوية رائعة إلى أثر الحياة الزوجية وأثر المواصلات والمسكن والجيران في سعادة الإنسان أو شقائه، وهو ما صدقته الحياة أعظم تصديق.
أجل، يحب الإسلام للناس أن يسعدوا بالغنى، ويكره لهم أن يشقوا بالفقر، وتشتد كراهيته وعداوته للفقر إذا كان عن سوء التوزيع وتظالم المجتمع، وبغى بعضه على بعض.
وفرق ما بين نظام الإسلام والأنظمة المادية، أن الأنظمة المادية تقف عند إشباع البطن والفرج، ولا تتجاوز دائرة المنافع المادية الدنيا، فالرفاهية والسعة هي هدفها الأخير، وجنة أحلامها على الأرض، ولا جنة غيرها.
أما النظام الإسلامي فيجعل هدفه من وراء الغنى ورغد العيش أن يسمو الناس بأرواحهم إلى ربهم، وألا يشغلهم الهم في طلب الرغيف، والانشغال بمعركة الخبز، عن معرفة الله وحسن الصلة، والتطلع إلى حياة أخرى هي خير وأبقى.
إن الناس إذا توافرت لهم كفايتهم وكفاية من يعولونه استطاعوا أن يطمئنوا في حياتهم ويتجهوا بالعبادة الخاشعة إلى ربهم، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.
وليس أدل على كراهية الإسلام للفقر وحبه للغنى وللحياة الطيبة من أن الله تعالى امتن على رسوله بالغنى فقال: (ووجدك عائلاً فأغنى). (الضحى: 8)، وامتن على المسلمين بعد الهجرة فقال: (فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). (الأنفال: 26).(2/345)
وكان من دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) (رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود)، ومن توجيهاته تفضيل الغنى الشاكر على الفقير الصابر (كما يظهر من حديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور" وهو في الصحيحين).
وقد جعل القرآن الغنى والحياة الطيبة من مثوبة الله العاجلة للمؤمنين الصالحين، كما جعل الفقر وضنك المعيشة من عاجل عقوبته للكفرة والفاسقين. قال تعالى: (من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة). (النحل: 97)، (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض). (الأعراف: 96)، (ومن يتق الله يجعل له مخرجًا يرزقه من حيث لا يحتسب). (الطلاق: 2-3)، (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). (النحل: 112).
ومنذ أهبط آدم وزوجه إلى الأرض أنبأهما بسنته في خلقه: (قال اهبطا منها جميعًا، بعضكم لبعض عدو، فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى). (طه: 123-124).
ومن هذا يتبين لنا أن الأفكار التي نشأت في رحاب التصوف من تمجيد الفقر والترحيب به وإطلاق ذم الغنى والتخويف منه، إنما هي أفكار قذفت بها المانوية الفارسية، والصوفية الهندية، والرهبانية المسيحية فهي على كل حال أفكار دخيلة على الإسلام (انظر: كتابنا "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام"، فصل: نظرة الإسلام إلى الفقر).
ومن هنا فرض الله الزكاة وجعلها من دعائم دين الإسلام، تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، فيقضى بها الفقير حاجاته المادية، كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن، وحاجاته النفسية الحيوية، كالزواج الذي قرر العلماء أنه من تمام كفايته، وحاجاته المعنوية الفكرية، ككتب العلم لمن كان من أهله.(2/346)
وبهذا يستطيع هذا الفقير أن يشارك في الحياة، ويقوم بواجبه في طاعة الله، وبهذا يشعر أنه عضو حي في جسم المجتمع، وأنه ليس شيئًا ضائعًا ولا كمًا مهملاً، وإنما هو في مجتمع إنساني كريم يعنى به ويرعاه يأخذ بيده، ويقدم له يد المساعدة، في صورة كريمة لاَ منَّ فيها ولا أذى، بل يتقبلها من يد الدولة، وهو عزيز النفس، رافع الرأس، موفور الكرامة؛ لأنه إنما يأخذ حقه المعلوم، ونصيبه المقسوم.
حتى لو اضطربت الأمور في المجتمع المسلم، وقدر للأفراد أن يكونوا هم الموزعين للزكاة بأنفسهم، فإن القرآن يحذرهم من إهانة الفقير، أو جرح إحساسه بما يفهم منه الاستعلاء عليه، أو الامتنان، أو أي معنى يؤذى كرامته كإنسان، وينال من عزته كمسلم. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا). (البقرة: 264).
إن شعور الفقير أنه ليس ضائعًا في المجتمع وأن مجتمعه يهتم به ويرعاه، كسب كبير لشخصيته، وزكاة لنفسيته، وهذا الشعور نفسه ثروة لا يستهان بها للأمة كلها.
إن رسالة الإنسان على الأرض، وكرامته على الله سبحانه، تقتضيان ألا يترك للفقر الذي ينسيه نفسه وربه، ويذهله عن دينه ودنياه، ويعزله عن أمته ورسالتها، ويشغل عن ذلك كله بالتفكير في سد الجوع وستر العورة، والحصول على المأوى. يوضح الشهيد "سيد قطب" هذا المعنى بقلمه البليغ فيقول (العدالة الاجتماعية في الإسلام ص 132- 133 طبعة خامسة):
"يكره الإسلام الفقر والحاجة للناس؛ لأنه يريد أن يعفيهم من ضرورات الحياة المادية، ليفرغوا لما هو أعظم؛ ولما هو أليق بالإنسانية وبالكرامة التي خص الله بها بني آدم: (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً). (الإسراء: 70).(2/347)
"ولقد كرمهم فعلاً بالعقل والعاطفة وبالأشواق الروحية إلى ما هو أعلى من ضرورات الجسد؛ فإذا لم يتوافر لهم من ضرورات الحياة ما يتيح لهم فسحة من الوقت والجهد لهذه الأشواق الروحية، ولهذه المجالات الفكرية، فقد سلبوا ذلك التكريم؛ وارتكسوا إلى مرتبة الحيوان. لا بل إن الحيوان ليجد طعامه وشرابه غالبًا، وإن بعض الحيوانات ليختال ويقفز ويمرح، وإن بعض الطير ليغرد ويسقسق فرحًا بالحياة بعد أن ينال كفايته من الطعام والشراب.
"فما هو بإنسان وما هو بكريم على الله، ذلك الذي تشغله ضرورات الطعام والشراب عن التطلع إلى مثل ما يناله الطير والحيوان، فضلاً على ما يجب للإنسان الذي كرمه الله. فإذا قضى وقته وجهده ثم لم ينل كفايته، فتلك هي الطامة التي تهبط به دركات عما أراد به الله، والتي تصم الجماعة التي يعيش فيها، بأنها جماعة هابطة لا تستحق تكريم الله؛ لأنها تخالف عن إرادة الله.
"إن الإنسان خليفة الله في أرضه، قد استخلفه عليها لينمى الحياة فيها، ويرقيها؛ ثم ليجعلها ناضرة بهيجة، ثم ليستمتع بجمالها ونضرتها، ثم ليشكر الله على أنعمه التي آتاه، والإنسان لن يبلغ من هذا كله شيئًا، إذا كانت حياته تنقضي في سبيل اللقمة ولو كانت كافية، فكيف إذا قضى الحياة فلم يجد الكفاية"؟.
الزكاة تطهير من الحسد والبغضاء
والزكاة -لآخذها أيضًا- تطهير من داء الحسد والكراهية، فالإنسان إذا عضته أنياب الفقر، ودهته داهية الحاجة، ورأى حوله من ينعمون بالخير، ويعيشون في الرغد، ولا يمدون له يدًا بالعون، بل يتركونه لمخالب الفقر وأنيابه، هذا الإنسان لا يسلم قلبه من البغضاء، والضغينة على مجتمع يهمله، ولا يعنى بأمره، وتربة الشح والأنانية لا تنبت إلا الحقد والحسد لكل ذي نعمة.(2/348)
والإسلام يقيم العلائق بين الناس على أساس من الأخوة الجامعة بينهم، وأصل هذه الأخوة: هو الإنسانية المشتركة والعقيدة المشتركة: (كونوا عباد الله إخوانًا) (رواه مسلم عن أبى هريرة). (المسلم أخو المسلم) (متفق عليه عن ابن عمر ومسلم عن عقبة بن عامر وأبو داود عن عمرو بن الأحوص وعن قيلة ابنة مخرمة (انظر: كشف الخفا: 2/21)، ولن تقوم هذه الأخوة وتستقر إذا شبع أحد الأخوة وترك الآخرين يجوعون وهو ينظر إليهم فلا يمد لهم يدًا بمعونة.
إن هذا معناه تقطيع الأواصر بين الأخوة وإيقاد نار الكراهية والحسد في صدر الفقير المحروم ضد الغنى الواجد، وهذا ما يقف الإسلام دونه، ويحول دون وقوعه.
فإن الحسد والبغضاء داء فتاك وآفة قاتلة، وخسارة مدمرة للفرد والمجتمع.
الحسد خسارة على الدين؛ لأنه ينحرف بتفكير الحاسد، فيسئ الفهم في قسمة الله لأرزاق عباده، وقد يحمل القدر وزر التظالم الاجتماعي الواقع بين الناس، ولهذا قال القرآن في وصف اليهود: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). (النساء: 54).
والحسد والبغضاء والأحقاد آفات تنخر في كيان الفرد الروحي والجسمي، وفى كيان الجماعة المادي والمعنوي. فالفرد الذي يغزو قلبه الحسد، وتحتله الضغينة والكراهية، لن يكون إنسانًا كامل الإيمان؛ لأن القلب لا يتسع لإيمان بالله وحقد على عباد الله.(2/349)
والحسد والكراهية داء جثماني كما هو داء نفسي أيضًا، إنه يؤدى إلى الإصابة بأمراض وبيلة كقرحة المعدة وضغط الدم، والحسد والكراهية يضران بإنتاج المجتمع واقتصاده، فالحاسد الكاره إنسان مصاب بضعف الإنتاج إن لم يكن بعقمه. إنه بدل أن يعمل وينتج، يفرع طاقته في الكراهية والبغضاء والحسد. فلا عجب أن سمى نبي الإسلام هذه الآفات: (داء الأمم) وحذر النبي أمته أن تدب إليهم العقارب والحشرات السامة فقال: (دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة. أما إني لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) (رواه البزار بإسناد جيد والبيهقي وغيرهما (الترغيب والترهيب: 4/11).
لم يحارب الإسلام هذه الآفات النفسية الاجتماعية الخطيرة بالوعظ المجرد، والإرشاد النظري فحسب، ولكنه عمل على اقتلاع أسبابها من الحياة، واستئصال جذورها من المجتمع، فليس يكفى الجائع أو المحروم أو العريان أن تلقى عليه درسًا بليغًا في خطر الحقد والحسد، وكل لحظة في حياته التعسة البائسة، وحياة الطاعمين الناعمين المترفين من حوله، تلقنه دروسًا عملية أخرى: كيف يحسد؟ وكيف يحقد؟ وكيف يبغض؟ وكيف يغلى قلبه كراهية وغيظًا ونقمة؟ ومن أجل ذلك فرض الإسلام الزكاة لييسر للعاطل العمل، ويضمن للعاجز العيش، ويقضى عن الغارم الدين، ويحمل ابن السبيل إلى أهله ووطنه، فيشعر الناس أنهم إخوة بعضهم أولياء بعض، وأن مال الآخرين مال لهم عند الضرورة والحاجة، ويحس الفرد أن قوة أخيه قوة له إذا ضعف، وغنى أخيه مدد له إذا أعسر، وفي هذا الجو يمتد ظل الإيمان بما يتبعه من حب وإيثار: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس، كما في الجامع الصغير).
الفصل الثاني
أهدافُ الزكاة وآثارها في حياة المجتمع
فهرس
تابع مشكلة الشحناء وفساد ذات البين
على المجتمع أن يتدخل للإصلاح
لجان المصالحات
سؤال فقهي
مشكلة الكوارث(2/350)
الكفاية والأمن
كوارث الزمن
الكوارث اقتضت نظام التأمين في الغرب
نظام التأمين الإسلامي
في سهم الغارمين متسع للكوارث
كم يعطى المنكوب بالكارثة
كوارث الريف
مشكلة العزوبة
مشكلة التشرد
تنبيه لابد منه
تمهيد
الزكاة والضمان الاجتماعي
الزكاة والتوجيه الاقتصادي
الزكاة والمقومات الروحية للأمة
مشكلة الفوارق
مشكلة التسول
الإسلام يحارب التسول تربويًا وعمليًا
الغِنَى الذي يُحرِّم السؤالَ
العلاج العملي للتسول بتشغيل القادرين
مشكلة الشحناء وفساد ذات البين
الإخاء هدف إسلامي أساسي
المجتمع النموذجي للأخوة الإسلامية
الإسلام يشرع للواقع
التقاتل قديم في البشر
موقف الإسلام من الخصومات والمنازعات
إن الجانب الاجتماعي من أهداف الزكاة ظاهر لا ريب فيه، ويكفي أن ننظر إلى مصارف الزكاة نظرة سريعة، لتتضح لنا هذه الحقيقة وضوح الصبح لذي عينين.
إذا قرأنا آية التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله) (التوبة: 60). تبين لنا أن من هذه الأهداف ما له صبغة دينية سياسية؛ لأنه يتصل بالإسلام بوصفه دينًا ودولة، وذلك ما يشير إليه سهما: (المؤلفة قلوبهم)، (وفي سبيل الله).
إن هذين المصرفين يقتضيان أن تكون لهذا الدين جماعة ودولة، تجمع الزكوات من أربابها بواسطة (العاملين عليها)، ثم تنفق منها على نشر دعوته، وإعلاء كلمته، والدفاع عن حوزته، وذلك بتأليف القلوب عليه ودعوة الشعوب إليه، فإنها دعوة إلى "سبيل الله".
وقد فصلنا القول في معنى هذين المصرفين ودلالتهما في "مصارف الزكاة" فليرجع إلى ذلك هناك. كما سنبين في هذا الفصل علاقة الزكاة بالمقومات الروحية والأخلاقية للمجتمع المسلم وللأمة المسلمة.
الزكاة والضمان الاجتماعي(2/351)
ومن هذه الأهداف ماله صبغة اجتماعية، كمساعدة ذوي الحاجات والأخذ بأيدي الضعفاء من فقراء ومساكين وغارمين وأبناء سبيل. فإن مساعدة هؤلاء تؤثر فيهم بوصفهم أفرادًا، وتؤثر في المجتمع كله باعتباره كيانًا متماسكًا، والحق أن الحدود بين الفرد والمجتمع متدخلة. بل المجتمع ليس إلا مجموعة أفراده، فكل ما يقوي شخصية الفرد وينمي مواهبه وطاقاته المادية والمعنوية، هو من غير شك تقوية للمجتمع وترقية له، وكل ما يؤثر في المجتمع بصفة عامة يؤثر في أفراده، شعروا بذلك أو لم يشعروا.
فلا عجب أن نعد تشغيل العاطل ومساعدة العاجز ومعونة المحتاج، كالفقير والمسكين والرقيق والمدين، أهدافًا اجتماعية لما تؤدي إليه من تماسك المجتمع وتكافله، وهي في الوقت نفسه أهداف فردية، بالنظر لهؤلاء الآخذين للزكاة.
إن الزكاة جزء من نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام، ذلك التكافل الذي لم يعرفه الغرب إلا في دائرة ضيقة، هي دائرة التكافل المعيشي، بمساعدة الفئات العاجزة والفقيرة، وعرفه الإسلام في دائرة أعمق وأفسح، بحيث يشمل جوانب الحياة المادية والمعنوية. فهناك التكافل الأدبي، والتكافل العلمي، والتكافل السياسي، والتكافل الدفاعي، والتكافل الجنائي، والتكافل الأخلاقي، والتكافل الاقتصادي، والتكافل العبادي، والتكافل الحضاري، وأخيرًا التكافل المعيشي، وهو الذي خصص اليوم خطأ باسم "التكافل الاجتماعي" (انظر أقسام هذا التكافل العشرة في كتاب "اشتراكية الإسلام" للدكتور مصطفى السباعي -الطبعة الثانية- المطبعة الهاشمية بدمشق).(2/352)
التكافل الاجتماعي إذن نظام أشمل وأوسع كثيرًا من الزكاة؛ لأنه يتمثل في عدة خطوط تشمل فروع الحياة كلها، ونواحي الارتباطات البشرية جميعًا، والزكاة خط واحد من هذه الخطوط، وهي تشمل ما يسمى الآن بـ"التأمين الاجتماعي" و "الضمان الاجتماعي" مجتمعين، والفرق بين التأمين والضمان أن كل فرد في التأمين يؤدى قسطًا من داخله، في نظير تأمينه عند عجزه الدائم أو المؤقت. أما في الضمان، فالدولة هي التي تقوم به من ميزانيتها العامة، بدون أن يشترك أفراد المجتمع بأداء قسط معين.
وإن كثيرًا ممن يؤدون الزكاة في عام، قد يكونون في العام التالي مستحقين للزكاة، بنقص ما في أيديهم عن الوفاء بحاجتهم، أو حلول كوارث جعلتهم يستدينون على أنفسهم وعيالهم، أو انقطاعهم عن وطنهم ومالهم، أو نحو ذلك. فهي من هذه الناحية تأمين اجتماعي، وهناك آخرون لم يكونوا ممن وجبت عليهم الزكاة من قبل ولم يساهم بشيء في حصيلة الزكاة ولكنه يستحقها لفقره وحاجته، فهي من هذه الناحية ضمان اجتماعي (في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب: 10/81).
غير أن الزكاة في الواقع أقرب إلى الضمان منها إلى التأمين؛ لأنها لا تعطي الفرد بمقدار ما دفع كما هو الشأن في نظام التأمين، وإنما تعطيه بمقدار ما يحتاج إليه، قل ذلك أو كثر.
إن الزكاة بذلك تعد أول تشريع منظم في سبيل ضمان اجتماعي لا يعتمد على الصدقات الفردية التطوعية. بل يقوم على مساعدات حكومية دورية منتظمة، مساعدات غايتها تحقيق الكفاية لكل محتاج: الكفاية في المطعم والملبس والمسكن وسائر الحاجات، لنفس الشخص ولمن يعوله في غير إسراف ولا تقتير.(2/353)
ولقد سدت الزكاة كل ما يتصور من أنواع الحاجات، الناشئة عن العجز الفردي أو الخلل الاجتماعي، أو الظروف العارضة التي لا يسلم من تأثيرها بشر، ونحن نقرأ فيما كتبه الإمام الزهري لعمر بن عبد العزيز عن مواضع السنة، في الزكاة: أن فيها نصيبًا للزمني والمقعدين، ونصيبًا لكل مسكين به عاهة لا يستطيع حيلة ولا تقلبًا في الأرض، ونصيبًا للمساكين الذي يسألون ويستطعمون (حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجوا بعدها إلى السؤال) ونصيبًا لمن في السجون من أهل الإسلام، ممن ليس له أحد، ونصيبًا لمن يحضر المساجد من المساكين الذين لا عطاء لهم ولا سهم (ليس لهم رواتب ولا معاشات منتظمة) ولا يسألون الناس، ونصيبًا لمن أصابه الفقر وعليه دين ولم يكن شيء منه في معصية الله ولا يتهم في دينه أو قال في دينه، ونصيبًا لكل مسافر ليس له مأوى، ولا أهل يأوي إليهم، فيؤوى ويطعم وتعلف دابته حتى يجد منزلاً أو يقضى حاجة" (انظر: الأموال ص 578 - 580).
فهو ضمان شامل لكل أصناف المحتاجين، وكل حاجاتهم المختلفة بدنية ونفسية وعقلية، وقد رأينا كيف اعتبر الزواج من الحاجات التي يجب إشباعها، وكذلك كتب العلم لأهلها.
ولم يكن ذلك خاصًا بالمسلمين وحدهم، بل شمل كل من يعيش في ظل دولتهم من اليهود والنصارى، كما فعل سيدنا عمر مع اليهودي الذي وجده يسأل على الأبواب، وأمر بكفالته من بيت مال المسلمين، وجعل ذلك مبدءًا له ولأمثاله (المرجع نفسه ص 46). كما أنه حين رأى في طريقه إلى دمشق قومًا مجذومين من النصارى أمر أن يرتب لهم معاش من بيت المال الإسلامي (تاريخ البلاذري ص 177).(2/354)
هذا هو الضمان الاجتماعي الذي لم تفكر فيه الدول الغربية إلا منذ وقت قريب، ولم تفكر فيه إخلاصًا لله ولا رحمةً بالضعفاء، ولكن دفعتها إليه الثورات العارمة وموجات المذاهب الشيوعية والاشتراكية. كما دفعتها إليه الحرب العالمية الثانية، ورغبتها في استرضاء شعوبها، وحثهم على الاستمرار في بذل الدم والعرق، حتى تضع الحرب أوزارها.
وكان أول مظهر رسمي لهذا الضمان في سنة 1941 حين اجتمعت كلمة إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية في ميثاق الأطلنطي على وجوب تحقيق الضمان الاجتماعي للأفراد (الضمان الاجتماعي، للدكتور صادق مهدى ص 126).
ومع هذا لم يبلغ شأن الضمان الإسلامي في شموله لكل مواطن، وتحقيقه الكفاية التامة لكل حاجاته الأساسية هو وأسرته، فضلاً عما ذهب إليه الإمام الشافعي ومن وافقه في تحقيق كفاية العمر للفقراء، وإغنائهم بالزكاة غنى دائمًا لا يحتاجون بعده إلى معونة أو مساعدة.
والعجب أن يسبق الإسلام هذه الدول بقرون عديدة في إقامة ضمان اجتماعي يفرضه الدين، وتنظمه الدولة، وتسل من أجله السيوف، استخلاصًا لحقوق الفقراء من براثن الأغنياء، ومع هذا نجد من الكاتبين من يرجع فضل الضمان الاجتماعي إلى أوروبا. أما تاريخنا وتراثنا فيهال عليه التراب!!
ومن ذلك أن جامعة الدول العربية عقدت حلقة للدراسات الاجتماعية سنة 1952 بدمشق، وخصصت هذه الحلقة لدراسة التكافل الاجتماعي، وقد ألقى مدير الحلقة المستر "دانيل س. جيرج" محاضرة عن "تطور التكافل الاجتماعي" ذكر فيها: أن المحتاجين في القرون الغابرة لم يكن أمامهم وسيلة إلا الاستجداء أو تلقى الصدقات للتخلص من الموت جوعًا، وأن تاريخ التدابير الحكومية لإعانة الفقراء يرجع إلى القرن السابع عشر، وقد اتخذت الخطوات الأولى شكل تنظيم المعونة إلى الفقراء من قبل الهيئات المحلية... إلخ. (حلقة الدراسات الاجتماعية - الدورة الثالثة - ص 217).(2/355)
وهذا من أثر الجهل بتاريخ الإسلام وحقيقة فريضة الزكاة، الذي بينا -بما لا شك فيه- أنها نظام تقوم عليه الحكومة المسلمة جباية وصرفًا، وأنها ليست من باب الإحسان الفردي، أو الصدقات التطوعية، وإنما هي -بالنظر لذوي الحاجات- حق معلوم، وبالنظر لذوي الأموال ضريبة إلزامية مفروضة، وأنها ضريبة تقوم عليها الدولة المسلمة تحصيلاً وتوزيعًا. إلا أنها تتميز عن الضريبة الوضعية بخلودها وثباتها، فإذا أهملتها الحكومات ولم تطالب بها، فإن المسلم لا يصح إسلامه ولا يتم إيمانه إلا بإخراجها، إرضاء لربه، وتزكية لنفسه، وتطهيرًا لماله، وفرض عليه أن يخرجها طيبة بها نفسه، خالية من المن والأذى، والمحتاج الذي يأخذها في هذه الحال يأخذها وقد علمه الإسلام أنها حق له في مال الله استخلف فيه بعض عباده، وأن الجماعة مطالبة أن تقاتل من أجل هذا الحق المعلوم.
الزكاة والتوجيه الاقتصادي
وللزكاة أثرها في الجانب الاقتصادي، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق فإنها بما تستقطعه من أرباب المال تدفعهم إلى العمل على تعويض ما أخذ منهم.
وهذا أوضح ما يكون في زكاة النقود، فقد حرم الإسلام كنزها، وحبسها عن التداول والتثمير، وجاء في ذلك وعيد الله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليمٍ) (التوبة: 34).
ولم يكتف بهذا الوعيد الهادر الشديد، بل أعلن حربًا عملية على الكنز، ووضع الخطة الحكيمة لإخراج النقود من الشقوق والخزائن، وذلك حين فرض 2.5 % على الثروة النقدية، سواء استغلها صاحبها أم لم يستغلها. فالزكاة بذلك سوط يسوقه سوقًا إلى إخراج النقود لتعمل وتغل وتكسب وتنمى، حتى لا يأتي عليها مرور الأعوام، وفي هذا جاءت الأحاديث والآثار: (اتجروا بأموال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة).
وقد تحدثنا عن شيء من ذلك في زكاة النقود، وحكمة فرضيتها على رأس المال.
الزكاة والمقومات الروحية للأمة(2/356)
وفوق ذلك كله، فإن للزكاة أهدافها وآثارها في تحقيق المثل العليا التي تعيش لها الأمة المسلمة، وتعيش بها، وفي رعاية مقوماتها الروحية التي يقوم عليها بناؤها، ويبنى كيانها، وتتميز شخصيتها.
"والأمة -كما يقول الأستاذ البهي الخولي- بمقوماتها الروحية، لا بمقوماتها الحسية فحسب. بل إن المقومات الحسية لا قيمة لها في بناء الأمة، ودعم كيانها بدون المقومات الروحية. لذا نرى الإسلام يحفل بها، ويجعل الإنفاق من مال الجماعة على رعايتها ودعمها فريضة لازمة، فهي للكيان المعنوي كالشراب والطعام للكيان الحسي، وقد أصل الإسلام تلك المقومات الروحية في ثلاثة أصول (أشارت إليها آية مصارف الزكاة):
الأصل الأول: توفير الحرية لكافة أفراد المجتمع، ولكنه في هذا المقام ينص على فرضية فك الرقاب، أي تحرير الأرقاء من ذل العبودية، وذلك أول ما عرفت الإنسانية قاطبة من سمو التشريع في تحرير الأرقاء: أن يجعل تحريرهم فريضة على المسلمين بسهم من أموالهم مقرر، وقد جاء هذا الحق في آية الزكاة في قولة تعالى: (وفي الرقاب) (التوبة: 60).
والأصل الثاني: بعث همم الأفراد ومواهب المروءة فيهم إلى بذل المكرمات التي تحقق للمجتمع منافع أدبية أو حسية، أو ترد عنه مكروهًا يوشك أن يقع.(2/357)
"ذلك أن في الأفراد طاقات لا حد لها في حب الخير، والاستعداد لمختلف الخدمات الاجتماعية، وهي كمواهب العقل، لم يخلقها الله سدى، بل خلقها لتحقق ذاتها، وتؤدي وظيفتها في الحياة. فإذا كان من الواجب تشجيع طاقات الذهن، واستثارة كامنها، لتؤدي وظيفتها في الحياة، فإن تشجيع مواهب المروءة الفطرية في الأفراد، أحق وأولى، لا لثمارها وما تبدع من مثل كريمة في الحياة فحسب، بل لأنها أيضًا هي السبيل الذي يعد لنا الرجال ذوي القيم، ويخرج للأمة ثروتها الأساسية من النفوس السامية الكريمة، فإنه ليس أفضل من فعل الخير إلا النفس التي فعلته والنيِّة التي بعثته، والأمة التي تعنى بهذا الطراز، تعنى بأسباب القوة ودعامات المجد كله، وكفاها شرفًا وأهليةً للحياة ما تشيع من عزائم الخير، ومواجيد الحب، بل كفاها برًا بالحق، وبالحياة وبنفسها، أنها تستخرج من مناجم النفوس والفطر أثمن كنوزها، وأشرف معادنها، وتهب للحياة أشرف معانيها، وترقى بالإنسانية إلى أكرم قيمها، وذلك هو المثل الأعلى الذي أراده الله للإنسانية وللحياة.(2/358)
"فواجبُ الجماعة أن تتعهد تلك الطاقات في نفوس أفرادها بما ينبهها ويثيرها وينميها، لا أن تترك للإهمال والجمود، يوهن قواها، ويطمس ينابيعها، فقد يكون أحد هؤلاء بصدد مكرمة يبذل فيها ماله كله، حتى يصير إلى لا شيء، ليدفع عن أمته بابًا من الشر كان يوشك أن يهز أمنها، ويغزو قلوب فريق منها بالشحناء والبغض. فإذا تركنا ذلك الذي أدته مروءته إلى الفقر، يواجه ثمرة عمله، فلن يعود إلى مروءة أخرى، إذا أتيح له أن ينهض من عثرته، ولن يقتدي به -بعد- ذو مروءة في مكرمة، فالحق والعدل يقضى بأن يكون لمثل هذا الذي غرم ما غرم نصيب في مال الجماعة، أو أن يكون في هذا المال سهم لإطلاق همم ذوي المروءة، وتشجيع حوافز الخير فيهم، فلا يضام أحدهم بالفقر، على ما أسلف للأمة من خير، وهذا ما قدم الإسلام وقضى به الحق سبحانه في آية الصدقات: (والغارمين) (التوبة:60).
والأصل الثالث: رعاية العقائد والتعاليم التي نزلت لتزكية مبادئ الفطرة في الإنسان، وبخاصة إحكام الصلة بالله، وتبصير الفرد بغايته من الحياة، وبطوره الأخروي، الذي هو صائر إليه، ولا بد، بحكم تطوره في مراحل الأزل، وهو ما جاء في قوله تعالى في الآية نفسها: (وفي سبيل الله) (التوبة: 60).
"ومما أدخلوه في مفهوم قوله: (وفي سبيل الله) نفقات الغزو والدفاع، أي إعداد الجيوش، والدفاع والجهاد في الإسلام إنما هو -أصلاً- دفاع عن العقيدة، وجهاد في سبيلها وليس أمرًا مدنيًا بحتًا، ولا جهادًا وطنيًا صرفًا، مقطوع الصلة بالله، بل هو -أولاً وقبل كل شيء- جهاد في سبيل الله، وأخص ما كان في سبيل الله هو ما كان في صيانة العقيدة والدفاع عنها والتمكين لها، وامتداد سلطانها... " (من كتاب "الاشتراكية في المجتمع الإسلامي " للأستاذ البهي الخولي ص141-144).(2/359)
وبرعاية هذه الأصول الثلاثة تكون الزكاة قد قامت بدورها في تثبيت القيم العليا، والمقومات المعنوية الأصيلة، التي يحرص عليها المجتمع المسلم، بل يقوم عليها كيانه، كما قلنا.
وبهذا يتحقق التكامل والتساند في الحياة الإسلامية، وفي كافة النظم الإسلامية، فالزكاة -وإن كانت نظامًا ماليًا في الظاهر- لا تنفصل عن العقيدة ولا عن العبادة، ولا عن القيم والأخلاق، ولا عن السياسة والجهاد، ولا عن مشكلات الفرد والمجتمع، والحياة والحياء.
وفي المباحث التالية، نعرض لبعض المشكلات الاجتماعية المهمة، التي تعانى منها مجتمعاتنا، ويتطلب المصلحون لها العلاج، وعلاقة الزكاة بعلاج هذه المشكلات أو تخفيف آثارها وويلاتها.
وقد فصلنا القول في "مشكلة الفقر" خاصة، وكيف عالجها الإسلام، وموضع الزكاة من هذا العلاج، في كتاب مستقل (بعنوان "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام" نشر دار العربية. بيروت). نشرناه فليرجع إليه من شاء.
مشكلة الفوارق
ليس هدف الزكاة مقصورًا على محاربة الفقر بمعونة مؤقتة أو دورية، ولكن من أهدافها توسيع قاعدة التملك، وتكثير عدد الملاك، وتحويل أكبر عدد مستطاع من الفقراء المعوزين إلى أغنياء مالكين لما يكفيهم طوال العمر.
ذلك أن هدف الزكاة إغناء الفقير بقدر ما تسمح به حصيلتها، وخراجه من دائرة الحاجة إلى دائرة الكفاية الدائمة، وذلك بتمليك كل محتاج ما يناسبه ويغنيه، كأن تملك التاجر متجرًا وما يلزمه ويتبعه، وتملك الزارع ضيعة وما يلزمها ويتبعها، وتملك المحترف آلات حرفته، وما يلزمها ويتبعها - كما وضحنا ذلك في مصارف الزكاة (راجع مبحث "كم يعطى الفقير المسكين"؟ من الباب الرابع - الفصل الأول). - فهي بهذا تعمل على تحقيق هدف عظيم: هو التقليل من عدد الأجراء، والزيادة في عدد الملاك.(2/360)
وذلك هدف من أهداف الإسلام الكبيرة في ميدان الاقتصاد، والاجتماع؛ أن يشترك الناس في الخيرات والمنافع التي أودعها الخالق في الأرض، ولا يقتصر تداولها على فئة الأغنياء وحدهم ويحرم الآخرون.
قال تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29). وكلمة "جميعًا" في الآية يصح أن تكون تأكيدًا لما في الأرض، أو للناس المخاطبين، ولا مانع من إرادة المعنيين معًا، فالمعنى على هذا أن جميع ما في الأرض مخلوق للناس جميعًا، لا لتستأثر به فئة دون أخرى.
ومن هنا يعمل الإسلام على عدالة التوزيع، وتقارب الملكيات في المجتمع، وهو بنظام الزكاة والفيء وغيرهما. يعمل على إعادة التوازن، وتقريب المستويات بعضها من بعض، كما نص على ذلك صراحة في كتاب الله -عز وجل- في آية توزيع الفيء فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر: 7).
وإذا كان الإسلام قد أقر التفاوت بين الناس في المعايش والأرزاق، لأنه -بلا شك- نتيجة لتفاوت فطرى في المواهب والملكات، والقدر والطاقات. فمن المقرر أن الاعتراف بهذا التفاوت والتفاضل ليس معناه أن يدع الإسلام الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا، فتتسع الشقة بين الفريقين، ويصبح الأغنياء في المجتمع "طبقة" كتب لها أن تعيش في أبراج من العاج تتوارث النعيم والغنى ويمسي الفقراء "طبقة" كتب عليها أن "تموت" في أكواخ من البؤس والحرمان.
بل تدخل الإسلام بتشريعاته القانونية، وتنظيماته العملية، ووصاياه الترغيبية والترهيبية، لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك. فعمل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء.(2/361)
ولست هنا في مقام الحديث عن وسائل الإسلام الكثيرة في هذا التقريب (سنفصل ذلك إن شاء الله في كتابنا "معالم النظام الاقتصادي في الإسلام ")، وإنما أتحدث عن الزكاة باعتبارها وسيلة بارزة من هذه الوسائل! إذ هي أخذ من الغني وإعطاء للفقير.
إننا إذا تصورنا المجتمع الإسلامي الصحيح، الذي يعمل أفراده فيتقنون العمل، استجابة لنداء الإسلام: يمشون في مناكب الأرض الذلول، ويلتمسون الرزق في خباياها، وينتشرون في أرجائها زُرَّاعًا وصُنَّاعًا، وتُجَّارًا، وعاملين في شتى الميادين، ومحترفين بشتى الحرف، مستغلين لكل الطاقات، منتفعين بكل ما استطاعوا مما سخر الله لهم في السموات والأرض جميعًا منه- إذا تصورنا هذا المجتمع، فكم تكون نسبة القادرين الذين تجب عليهم الزكاة في ثرواتهم ودخولهم؟
إن النسبة بلا ريب ستكون كبيرة جدًا، والعدد سيكون هائلاً.
وكم تكون نسبة الذين قعد بهم العجز عن العمل، أو أعيتهم كثرة العيال وقلة الدخل؟
إنها بلا شك ستكون نسبة ضئيلة جدًا، والعدد سيكون محدودًا.
وهنا يتسع المجال -وحصيلة الزكاة من الضخامة كما ذكرنا- لنأخذ منها عن سعة لتمليك ذوي الدخل الضئيل أو الذين لا دخل لهم، فتقرب المسافة بينهم وبين غيرهم من الموسرين من أبناء الأمة.
إن أعظم آفة تصيب المجتمع وتهز كيانه هزًا، وتنخر في عظامه من حيث يشعر أو لا يشعر: أن يوجد الثراء الفاحش إلى جانب الفقر المدقع، أن يوجد من يملك القناطير المقنطرة ومن لا يملك قوت يومه، أن يوجد من يضع يده على بطنه يشكو زحمة التخمة، وبجواره من يضع يده على بطنه يشكو عضة الجوع، أن يوجد من يملك القصور الفخمة لا يسكنها ولا يحتاج إليها، وبالقرب منه حجرة "البدروم" التي تضم في أحشائها الدقاق رجلاً وأبويه وزوجه وأولاده!!(2/362)
إن هدف الزكاة ألا يقع هذا التفاوت الشاسع البشع، وأقل ما تحققه أن يختفي هذا الفريق الثاني الذي لا يجد مستوى العيش اللائق به من الطعام والكساء والمأوى، وأكثر من ذلك أنها تعمل على أن ترتفع بهؤلاء حتى يقتربوا من أولئك ويدخلوا في زمرة الأغنياء المالكين.
مشكلة التسول
الإسلام يحارب التسول تربويًا وعمليًا
يغرس الإسلام في نفس المسلم كراهة السؤال للناس، تربية له على علو الهمة وعزة النفس، والترفع عن الدنايا، وإن رسول الإسلام ليضع ذلك في صف المبادئ التي يبايع عليها صحابته، ويخصها بالذكر ضمن أركان البيعة. فعن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين، أما هو إلى فحبيب، وأما هو عندي فأمين: عوف بن مالك قال: ( كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبعة أو ثمانية أو تسعة فقال: (ألا تبايعون رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟) ولنا حديث عهد ببيعة. قلنا: قد بايعناك! حتى قالها ثلاثًا، وبسطنا أيدينا فبايعنا، فقال قائل: يا رسول الله، إنا قد بايعناك فعلام نبايعك؟ قال: (أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وتصلوا الصلوات الخمس، وتسمعوا وتطيعوا)، وأسرَّ كلمة خفية، قال: ( ولا تسألوا الناس شيئًا) قال راوي الحديث: (فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فما يسأل أحدًا أن يناوله إياه) (رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة - كما في الترغيب والترهيب جـ2 باب: الترهيب من المسألة).
وهكذا نفذ هؤلاء الأصحاب الميامين مضمون هذه البيعة النبوية تنفيذًا "حرفيًا" فلم يسألوا أحدًا حتى فيما لا يرزأ مالاً، ولا يكلف جهدًا، ورضي الله عن الصحابة، فإنهم ما انتصروا على الناس إلا بعد أن انتصروا على أنفسهم، وألزموها صراط دينهم المستقيم.(2/363)
وعن ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئًا وأتكفل له بالجنة؟) فقال ثوبان: أنا يا رسول الله، فقال: (لا تسأل الناس شيئًا)، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا (رواه أبو داود - المصدر السابق -، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 4/197).
ولقد صور لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- اليد الآخذة بـ "اليد السفلى" واليد المتعففة أو المعطية بـ "اليد العليا"، وعلمهم أن يروضوا أنفسهم على الاستعفاف فيعفهم الله، وعلى الاستغناء عن الغير فيغنيهم الله، فعن أبي سعيد الخدري: أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد من عطاء أوسع من الصبر) (رواه الستة إلا ابن ماجة - المرجع نفسه، وانظر السنن الكبرى: 4/195 وما بعدها).
العمل هو الأساس
لقد علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه مبدأين جليلين من مبادئ الإسلام:
المبدأ الأول: أن العمل هو أساس الكسب، وأن على المسلم أن يمشي في مناكب الأرض ويبتغي من فضل الله، وأن العمل -وإن نظر إليه بعض الناس نظرة استهانة- أفضل من تكفف الناس، وإراقة ماء الوجه بالسؤال: (لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيأتي بحزمة من الحطب فيبيعها، فيكف الله بها وجهه، خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) (رواه البخاري في أول كتاب "البيع" عن الزبير).
حُرمة سؤال الناس
والمبدأ الثاني: أن الأصل في سؤال الناس وتكففهم هو الحُرمةُ، لما في ذلك من تعريض النفس للهوان والمذلة، فلا يحل للمسلم أن يلجأ للسؤال إلا لحاجة تقهره على السؤال، فإن سأل وعنده ما يغنيه كانت مسألته خموشًا في وجهه يوم القيامة.(2/364)
وفي هذا المعنى جاءت جملةُ أحاديث تُرهِّب من المسألة بوعيد تنفطر له القلوب.
من ذلك ما رواه الشيخان والنسائي عن ابن عمر مرفوعًا: (لا تزال المسألةُ بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم ).
ومنها ما رواه أصحابُ السنن: (من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش أو كدوح في وجهه)، فقيل: يا رسول الله! وما الغنى؟ قال: (خمسون درهمًا أو قيمتها ذهبًا) (رواه الأربعة).
فالمسألة تصيب الإنسان في أخص مظهر لكرامته وإنسانيته وهو وجهه.
ومنها حديث: (من سأل وله أوقية فقد ألحف) (رواه أبو داود والنسائي).
والأوقية أربعون درهمًا.
ومنها حديث: (من سأل وعنده ما يغنيه. فإنما يستكثر من النار -أو من جمر جهنم- فقالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: (قدر ما يغديه ويعشيه) (رواه أبو داود).
وهل المراد أن عنده غداء يوم وعشاءه؟ أم المراد أنه يكسب قوت يوم بيوم، فيجد غداءه وعشاءه على دائم الأوقات؟
لعل هذا هو الأرجح والأليق، فمثل هذا هو الذي يجد من رزقه المتجدد ما يغنيه عن ذل السؤال.
الغِنَى الذي يُحرِّم السؤالَ
ولكن لماذا اختلفت مقادير الغنى الذي يَحرُمُ معه السؤال في هذه الأحاديث؟
إن أفضل جواب عن هذا السؤال ما ذكره العلامة ولي الله الدهلوي في كتابه الفريد: "حُجَّة الله البالغة" حيث قال (الجزء الثاني ص46 - طبع المنيرية): هذه الأحاديث ليست متخالفة عندنا؛ لأن الناس على منازل شتى، ولك واحد كسب لا يمكن أن يتحول عنه، فمن كان كاسبًا بالحرفة فهو معذور حتى يجد آلات الحِرفة، ومن كان زارعًا حتى يجد آلات الزرع ومن كان تاجرًا حتى يجد البضاعة، ومن كان على الجهاد مسترزقًا بما يروح ويغدو من الغنائم -كما كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالضابط فيه أوقية أو خمسون درهمًا.(2/365)
ومن كان كاسبًا يحمل الأثقال في الأسواق، أخص من الغنى الذي يحرم معه أخذ الزكاة. فإن الشارع شدد في المسألة وبالغ في التحذير منها، فلا تحل للمسلم إلا لضرورة، ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة، كما قال الخطابي.
هذه هي تربية الإسلام لأبنائه، وهذه هي توجيهاته وإرشاداته لهم.
ولكن الإرشاد النظري، والتوجيه الخلقي، والتربية النفسية، لا تكفى ما لم يصحبها علاج عملي للسائلين الذين يسألون عن حاجة ملحة، وضرورة قاهرة، وقد قيل: إن صوت المعدة أقوى من نداء الضمير.
العلاج العملي للتسول بتشغيل القادرين
والعلاج العملي هنا يتمثل في أمرين:
أولهما: تهيئة العمل المناسب لكل عاطل قادر على العمل، وهذا واجب الدولة الإسلامية نحو أبنائها. فما ينبغي لراع مسئول عن رعيته أن يقف مكتوف اليدين أمام القادرين العاطلين من الموطنين، كما لا يجوز أن يكون موقفه منهم بصفة دائمة مد اليد بمعونة قلت أو كثرت من أموال الصدقات، فقد ذكرنا في مصارف الزكاة قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى)، وكل إعانة مادية تعطى (لذي مرة سوى) ليست في الواقع إلا تشجيعًا للبطالة من جانب، ومزاحمة للضعفاء والزمني والعاجزين في حقوقهم من جانب آخر.
والتصرف السديد الواجب هو ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإزاء واحد من هؤلاء السائلين.(2/366)
فعن أنس بن مالك (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث الأخضر بن عجلان، وقد قال فيه يحيى بن معين: صالح، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه. انظر: مختصر سنن أبي داود للمنذري: 2/239 - 240): أن رجلاً من الأنصار أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى: حلس (الحلس: كساء يوضع على ظهر البعير أو يفرش في البيت تحت حر الثياب). نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب (والقعب: القدح - الإناء). نشرب فيه الماء. قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: من يشترى هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، وقال: من يزيد على درهم؟ -مرتين أو ثلاثًا- قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعامًا وانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا فائتني به، فشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودًا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشر دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع (والفقر المدقع: الشديد، وأصله من الدقعاء وهو التراب، ومعناه: الفقر الذي يفضي به إلى التراب، أي لا يكون عنده ما يتقى به التراب)، أو لذي غرم مفظع (والغرم المفظع: أن تلزمه الدية الفظيعة الفادحة، فتحل له الصدقة ويعطى من سهم الغارمين، أو لذي دم موجع) (الدم الموجع: كناية عن الدية يتحملها، فترهقه وتوجعه، فتحل له المسألة فيها).(2/367)
وفي هذا الحديث الناصع نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد للأنصاري السائل أن يأخذ من الزكاة وهو قوي على الكسب، ولا يجوز له ذلك إلا إذا ضاقت أمامه المسالك، وأعيته الحيل، وولي الأمر لا بد أن يعينه في إتاحة الفرصة للكسب الحلال وفتح باب العمل أمامه.
"إن هذا الحديث يحتوى خطوات سباقة سبق بها الإسلام كل النظم التي عرفتها الإنسانية بعد قرون طويلة من ظهور الإسلام.
إنه لم يعالج السائل المحتاج بالمعونة المادية الوقتية كما يفكر كثيرون، ولم يعالج بالوعظ المجرد والتنفير من المسألة كما يصنع آخرون، ولكنه أخذ بيده في حل مشكلته بنفسه وعلاجها بطريقة ناجحة.
"علمه أن يستخدم كل ما عنده من طاقات وإن صغرت، وأن يستنفد ما يملك من حيل وإن ضؤلت، فلا يلجأ إلى السؤال وعنده شيء يستطيع أن ينتفع به في تيسير عمل يغنيه.
"وعلمه أن كل عمل يجلب رزقًا حلالاً هو عمل شريف كريم، ولو كان احتطاب حزمة يجتلبها فيبيعها، فيكف الله بها وجهه أن يراق ماؤه في سؤال الناس.
"وأرشده إلى العمل الذي يناسب شخصه وقدرته وظروفه وبيئته وهيأ له "آلة العمل" الذي أرشده إليه، ولم يدعه تائهًا حيران.
"وأعطاه فرصة خمسة عشر يومًا يستطيع أن يعرف منه بعدها مدى ملاءمة هذا العمل له، ووفاءه بمطالبه، فيقره عليه، أو يدبر له عملاً آخر.
"وبعد هذا الحل العملي لمشكلته لقنه ذلك الدرس النظري الموجز البليغ في الزجر عن المسألة والترهيب منها، والحدود التي تجوز في دائرتها، وما أحرانا أن نتبع نحن هذه الطريقة النبوية الرشيدة! فقبل أن نبدئ ونعيد في محاربة التسول بالكلام والإرشاد، نبدأ أولا بحل المشاكل، وتهيئة العمل لكل عاطل" (من كتابنا "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام").(2/368)
ودور الزكاة هنا لا يخفى، فمن أموالها يمكن إعطاء القادر العاطل ما يمكنه من العمل في حرفته من أدوات أو رأس مال، كما بينا ذلك في مصارف الزكاة، ومنها يمكن أن يدرب على عمل مهني يحترفه ويعيش منه، ومنها يمكن إقامة مشروعات جماعية -مصانع أو متاجر أو مزارع ونحوها- ليشتغلفيها العاطلون وتكون ملكًا لهم بالاشتراك كلها أو بعضها.
ضمان المعيشة للعاجزين
وثانيهما: -أعني ثاني الأمور التي يتمثل فيها العلاج العملي للمسألة والتسول في نظر الإسلام- هو ضمان المعيشة الملائمة لكل عاجز عن اكتساب ما يكفيه، وعجزه هذا لسببين:
( أ ) إما لضعف جثماني يحول بينه وبين الكسب لصغر السن وعدم العائل كما في اليتامى، أو لنقص بعض الحواس أو بعض الأعضاء، أو مرض معجز... إلخ، تلك الأسباب البدنية التي يبتلى المرء بها، ولا يملك إلى التغلب عليها سبيلاً. فهذا يعطى من الزكاة ما يغنيه، جبرًا لضعفه، ورحمة بعجزه، حتى لا يكون المجتمع عونًا للزمن عليه، على أن عصرنا الحديث قد استطاع أن ييسر بواسطة العلم لبعض ذوي العاهات كالمكفوفين وغيرهم، من الحرف والصناعات ما يليق بهم، ويناسب حالتهم، ويكفيهم هوان السؤال، ويضمن لهم العيش الكريم، ولا بأس بالإنفاق على تعليمهم وتدريبهم من مال الزكاة.
(ب) والسبب الثاني للعجز عن الكسب هو انسداد أبواب العمل الحلال في وجه القادرين عليه، رغم طلبهم له، وسعيهم الحثيث إليه، ورغم محاولة ولي الأمر إتاحة الكسب لهؤلاء. فهؤلاء -ولا شك- في حكم العاجزين عجزًا جثمانيًا مقعدًا، وإن كانوا يتمتعون بالمرة والقوة؛ لأن القوة الجسدية وحدها لا تطعم ولا تغني من جوع، ما لم يكن معها اكتساب.(2/369)
وقد روى الإمام أحمد وغيره قصة الرجلين اللذين جاءا يسألان النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصدقة فرفع فيهما البصر وخفضه فوجدهما جلدين قويين فقال لهما: (إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب)، فالقوي المكتسب هو الذي لا حق له في الزكاة.
وبهذا البيان يتضح لنا ضلال الكثيرين مما ظنوا أن الزكاة صدقة تعطى لكل سائل، وتوزع على كل مستجد، وظن بعضهم أنها تعين على كثرة السائلين والمتسولين الشاحذين! بل تبين لنا أن الزكاة لو فهمت كما شرعها الإسلام، وجمعت من حيث أمر الإسلام، ووزعت حيث فرض الإسلام أن توزع، لكانت أنجح وسيلة في قطع دابر التسول والمتسولين.
مشكلة الشحناء وفساد ذات البين
الإخاء هدف إسلامي أساسي
من الأهداف الأساسية للإسلام أن يسود الإخاء أبناء البشر كافة، وأبناء مجتمعة خاصة. فإذا ساد الإخاء -بما ينطوي عليه من محبة وألفة، وما يثمره من تكافل وتعاون- فقد ساد الأمن والسلام وظللت السكينة ربوع المجتمع، ولم يعد يرى الناس تلك الخصومات الكبيرة على أمور صغيرة، ولا تلك المنازعات الدائمة على أعراض الحياة التافهة.
ولن يتحقق ذلك إلا إذا استقر في القلوب إيمان عميق بالله تعالى، وبالدار الآخرة، وبهدف كبير يعيش الإنسان له ويموت عليه، هو نصرة الحق والخير. بهذا تستعلي النفوس المؤمنة على المتاع الأدنى، وتتطلع إلى الأفق الأعلى، ولا تقف في الطريق لتقاتل على أعراض الدنيا وهي ثمن قليل، والآخرة خير وأبقى.
المجتمع النموذجي للأخوة الإسلامية(2/370)
وقد رأينا هذه الصور النموذجية للمجتمع المتآخي المتحاب، في المجتمع الإسلامي الأول، الذي ضمته مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- رغم ما هناك من تباين كان يمكن أن يقف عقبة في سبيل هذا الإخاء الرائع، فالمجتمع يتألف من المهاجرين وهم قوم وافدون دخلاء على أهل البلد، وهم من العرب المستعربة -أعني العدنانيين، ومن الأنصار وهم أهل البلد وأصحابه وهم من العرب العرباء -أعني القحطانيين، وبين كل من القحطانيين والعدنانيين تنافس وتفاخر قديم، وحتى هؤلاء الأنصار يتألفون من بطنين كبيرين طالما قامت بينهما حروب ودماء تخلفت عنها ترات وأحقاد، وهما الأوس والخزرج، ومع هذا تجد بين هؤلاء وأولئك الحبشي كبلال، والفارسي كسلمان، والرومي كصهيب، وهناك فوق ذلك البدوي الخشن كأبي ذر، والمتحضر الذي ربي في أحضان النعيم كمصعب بن عمير.
ومع ذلك كله قام -في ظل الإيمان- ذلك الإخاء الفريد، الذي لم تكتحل عين الدنيا برؤية مثله. فرأينا المجتمع الذي يحب الفرد فيه لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، ويرى إيمانه لا يكمل بغير هذا. بل رأينا فيه من يؤثر أخاه على نفسه، ويجود بالطعام وهو أشد ما يكون جوعًا، ويتنازل عن الماء وهو أشد ما يكون عطشًا، وقد رسم القرآن لنا صورة من هذا المجتمع الفاضل في قوله تعالى: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 8-9).
الإسلام يشرع للواقع
هذا هو المجتمع الذي يضعه الإسلام نصب عينيه صورة مثلى، تتطلع إليها الأعين، وتصبو إليها النفوس، ويعمل المخلصون على أن تكون واقعًا يلمسه الناس.(2/371)
ولكن الإسلام دين واقعي. إنه لا يشرع للقمم العالية، وينسى السفوح الهابطة. لا يشرع للحالات الرائعة النادرة، ويغفل الأحوال الطبيعية السائدة إنه لا يفترض البشر ملائكة يمشون على الأرض أولي أجنحة، ولكنه يفترضهم بشرًا كثيرًا ما تسوقهم غرائزهم وتسول لهم أنفسهم الأمارة بالسوء، ويوسوس لهم شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، وتغريهم أعراض الحياة الدنيا، وتتقاذفهم أمواج الفتن المظلمة، وهذا ما يجعلهم يتنازعون ويتخاصمون ويتقاتلون. فتشتم أعراض، وتسلب أموال، وتسفك دماء.
التقاتل قديم في البشر
وقد وقع هذا منذ كان على وجه هذه الأرض الواسعة أسرة واحدة مكونة من والدين وأولادهما: آدم وحواء وبنيهما وبناتهما -ولم يمنع ذلك أن يعتدي أخ على أخيه فيقتله بغيًا وعدوانًا، مما حقق سوء ظن الملائكة بهذا المخلوق الجديد الذي استخلفه الله في الأرض، حين قالوا متطلعين إلى رتبة الخلافة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (البقرة:30).
وقد قص القرآن علينا قصة ابني آدم لنرى فيها كيف يكون الإنسان إذا انساق وراء الغريزة وأغفل داعي الإيمان. قال تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه، قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي، فأصبح من النادمين) (المائدة: 27-31).
في هذا الوقت المبكر من حياة البشر-حيث لم يكن يعرف الإنسان كيف توارى سوأة الميت، ولم ير ميتًا يدفن بعد- قتل الإنسان أخاه الإنسان، أخاه لأمه وأبيه!(2/372)
موقف الإسلام من الخصومات والمنازعات
ماذا فعل الإسلام الدين المثالي الواقعي لعلاج هذه المشكلة القديمة الجديدة؟
لئن كان النزاع والتقاتل أمرًا لا مناص منه بحكم طبيعة البشر، لم يكن معنى ذلك أن يترك ليستشري خطره ويتطاير شرره، ويزداد سوء أثره يومًا بعد يوم. إن الخصومة حين تحدث، والنزاع حين يقع، أشبه بالحريق حين يشب. فهل يترك الحريق يلتهم الخضر واليابس، والمجتمع يكتفى بالتفرج أو الصراخ؟ لا، فلا بد أن يتدخل المجتمع كل بقدر طاقته - لإطفاء النار، بكل سرعة ممكنة، ولا بأس أن يخصص المجتمع رجالاً من أبنائه لإطفاء مثل هذه الحرائق مزودين بالإمكانات اللازمة والمعدات الكافية.
المجتمع إذن مسئول بالتضامن عن إطفاء أي حريق يصيب دارًا أو أكثر من دوره، وأي تهاون في إطفائه يخشى سوء أثره على الجميع لا محالة.
على المجتمع أن يتدخل للإصلاح
وهذه الخصومات حريق من نوع آخر، حريق لا يدمر البنيان والحجارة ولا يأكل الخشب والحطب والمتاع، ولكنه يأكل القلوب والضمائر، ويدمر معاني الحب والخير في الصدور، والمجتمع مسئول بالتضامن أيضًا عن إطفاء هذا الحريق المعنوي الخطر على الإيمان والأخلاق، والذي بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- سوء أثره بقوله: (إن فساد ذات البين هي الحالقة) (رواه أبو داود والترمذي (من حديث يأتي قريبًا)، ويروى عنه: (لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) (هذه الزيادة ذكرها الترمذي بدون إسناد).
على المجتمع أن يتدخل لإطفاء أي شقاق يحدث حتى ولو كان ذلك بين زوج وزوجته، على أن يكون القائمون بالإطفاء والإصلاح من أهل الزوجين، حتى لا يتسع الخرق على الراقع، قال تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما، إن الله كان عليمًا خبيرًا) (النساء: 35).(2/373)
وقد بينت الآية أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين، ولكن الذي يبعث الحكمين ويشكل هذا "المجلس العائلي" هو المجتمع المخاطب بقوله: "فابعثوا" ممثلاً في أولي الأمر من أهل الحل والعقد فيه، فإن لم يوجد هؤلاء كان الجميع مسئولين مسئولية تضامنية.
وإذا كان المجتمع مسئولاً عن نزاع صغير يقع داخل أسرة، فكيف بنزاع أكبر منه يقع بين أسرتين أو بلدتين؟! إن مسئوليته هنا -لا شك- أكبر، وتدخله -لا ريب- ألزم.
وهنا يأمر القرآن بالتدخل الحاسم لحل النزاع والإصلاح بين الطائفتين وإيقاف الصراع بينهما ولو بقوة السلاح: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) (الحجرات: 9 - 10).
ويحث القرآن على الإصلاح بين الناس في أكثر من موضع فيقول: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) (الأنفال: 1).
ويقول: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا) (النساء: 114).
وقد جاءت أحاديث الرسول تؤكد هذا المعنى وترغب في الإصلاح بمثل هذا الأسلوب القوي المؤثر: (ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) (رواه أبو داود في كتاب الأدب، والترمذي في صفة القيامة وقال: صحيح).
لجان المصالحات
وكما خصص المجتمع رجالاً لإطفاء الحريق مزودين بالسيارات و"الخراطيم" ينبغي له -من باب أولى- أن يخصص رجالاً للإصلاح بين الناس، بتكوين "لجان للمصالحات" في كل جهة أو قرية يكون من سلطتها التدخل لفض الخصومة، والتعفية على آثارها بكل الوسائل.
العقبة المالية:(2/374)
غير أن هنالك عقبة كئودًا تقف في سبيل الإصلاح وحسم الخلاف، تلك هي عقبة المال؛ فقد تكون هناك ديات أو غرامات على أحد الطرفين، أو على كليهما للآخر، لا يستطيع دفعها، أو لا يرى دفعها، ولم يسامح فيها الطرف الآخر، ولم يكن من المصلحة فرض ذلك بالقوة، عملاً على رأب الصدوع، والتئام الجروح. فما الحل إذن؟ وكيف التغلب على هذه العقبة الكأداء؟
الحل يسير، تقدمه لنا الزكاة من "سهم الغارمين". فقد ذكرنا في "مصارف الزكاة" أن من الغارمين قومًا من أصحاب القلوب الكبيرة عرفها المجتمع العربي والإسلامي؛ كان الواحد من هؤلاء يتقدم لإصلاح ما بين أسرتين أو قبيلتين ويلتزم دفع ما يقتضيه الصلح من ديات وغرامات من ماله الخاص، ليخمد نار الفتنة، ويقر السكينة والسلام، وكان من فضل الإسلام أن يعان هؤلاء من الزكاة على ذلك الهدف النبيل.
وفي حديث قبيصة بن المخارق الهلالي الذي تَحَمَّل حَمَالة في إصلاح، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله المعونة فيها -ولم يكونوا يجدون حرجًا من السؤال في ذلك- فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها). ثم ذكر له أن أي رجل تحمل حمالة فقد حلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. (رواه أحمد ومسلم).
ومن الرائع حقًا في التسامح الإسلامي: أن نص الفقهاء على أن الغارم لإصلاح ذات البين يعطى من الزكاة ولو كان الإصلاح بين أهل ذمة من اليهود أو النصارى (انظر: مطالب أولي النهى: 2/143).
فإن سيادة السلام والوئام بين جميع الذين يعيشون في كنف المجتمع الإسلامي هدف أصيل من أهداف الإسلام.
سؤال فقهي(2/375)
لكن هل لا بد أن يدفع أحد الأشخاص أولاً غرامات الصلح من ماله الخاص، ثم يعطى بعد ذلك ما دفعه من مال الزكاة ليكون حقيقة من "الغارمين"؟ إن عبارات الفقهاء بصفة عامة تدل على اشتراط ذلك مراعاة للفظ الآية (قال في غاية المنتهى وشرحه: السادس غارم تدين لإصلاح ذات البين، ولو كان غنيًا؛ إن لم يدفع من ماله ما تحمله؛ لأنه إذا دفعه منه لم يصر مدينًا، ولو اقترض ووفاه، فله الأخذ لوفائه، لبقاء الغرم (مطالب أولي النهى: 2/144)، ولكن روح الآية والهدف الذي يرمى إليه الشارع من وراء هذا السهم لا تمنع من إعطاء لجنة الصلح لتدفع بدورها إلى الطرف المستحق ما دامت المصلحة قد تحققت بتقرير لجنة يعتد برأيها المجتمع الذي كونها ورضي عنها، وإن كان لا بد من المحافظة على الشكل فيمكن أن يكلف أحد أعضاء اللجنة بالدفع، استقراضًا من أحد الناس أو المؤسسات، ثم يرد عليه ما غرمه بعد ذلك من سهم الغارمين صندوق المصالحات.
على أننا يجب ألا نغفل أهمية وجود الصنف الأول الذي ينبثق من ضمير المجتمع، باذلاً من ذات يده للرفق والإصلاح، دون أن يضمن استرداد ما دفع، فوجود هذا الصنف -في الميزان الأخلاقي- هدف في ذاته يحسب له حساب كبير في تقدير الإسلام. كما وضحنا ذلك في علاقة الزكاة بالمقومات الروحية للأمة.
مشكلة الكوارث
الكفاية والأمن(2/376)
يحرص الإسلام على أن يعيش كل فرد من أبنائه في كفاية من العيش وأمن من الخوف، ليستطيع أن يؤدى عبادة الله أداء خشوع وإحسان، ولهذا طالب الله قريشًا بعبادته ممتنًا عليهم بهاتين النعمتين: الكفاية والأمن. فقال تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (سورة قريش كاملة). وشر ما يصاب به بلد، أن يحرم هاتين النعمتين، كما قال الله تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل: 112).
ومن أجل ذلك رأينا التشريع الإسلامي يكفل لكل من يعيش في ظل دولته -مسلمًا كان أو غير مسلم- مستوى ملائمًا من المعيشة يجد فيه الغذاء والكساء والمسكن، كما يجد سبل العلاج والتعليم ميسرة له.
وقد رأينا في تشريع الزكاة كيف عملت على معالجة مشكلة الفقر بتهيئة العمل للعاطل وإعطاء الكفاية للمحتاج: كفيته وعائلته لمدة عام -على قول- أو كفايته العمر كله على قول آخر، ومن كان عنده بعض الكفاية أعطي تمام ما يكفيه رفعًا لمستوى معيشته.
كوارث الزمن
ولكن الإنسان قد يكون في كفاية من العيش بل في سعة منه ولكن لا يلبث أن يعضه الدهر بنابه، ويضربه ضربات مفاجئة، تتركه فقيرًا بعد غنىً، ذليلاً بعد عز، مضطربًا بعد طمأنينة وأمان. تلك هي الكوارث المفاجئة، التي لا يد للإنسان في جلبها ولا دفعها.
يكون التاجر في رغد من العيش فتغرق السفينة التي تحمل تجارته أو يحترق متجره وفيه كل رأس ماله.
وصاحب الزرع أو الغرس الذي تنزل الآفات السماوية فتجتاح زرعه أو غرسه، وكذلك الفلاح الذي أكلت "الدودة" قطنه أو قمحه أو أذرته، أو الذي هلكت جاموسته فكاد يهلك بعدها غمًا.
الكوارث اقتضت نظام التأمين في الغرب(2/377)
هذه الكوارث التي طالما خربت دورًا عامرة وأفقرت أناسًا كانوا في بحبوحة من الغنى، جعلت الكثيرين يخافون على متاجرهم ومصانعهم ورؤوس أموالهم، وعلى ذويهم من بعدهم، فبحثوا عن شيء يأمنون به من ضربات الدهر وغدرات الأيام، فكان من ذلك نظام التأمين، الذي عرفه الغرب في القرون الأخيرة في صور شتى وألوان عديدة.
نظام التأمين الإسلامي
وقبل أن يعرف المجتمع الغربي نظام التأمين بقرون كان المجتمع الإسلامي يؤمن أفراده بطريقته الخاصة، إذ كان "بيت مال المسلمين" هو شركة التأمين الكبرى التي يلجأ إليها كل من نكبه الدهر فيجد فيه العون والملاذ.
إنه لا يترك المصاب تحت رحمة تبرعات قد تصل إليه من الخيرين من الناس، وإن كان لا يمنع ذلك، بل يرغب فيه، تنمية لعواطف الخير ومشاعر الرحمة بين الناس، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه عندما شكا إليه رجل جائحة حلت به: (تصدقوا عليه) فتصدق الناس عليه (تقدم ص671 وقد رواه أحمد: 3/36، 58 ومسلم في كتاب المساقاة، وأبو داود والنسائي في البيوع، والترمذي في الزكاة، وابن ماجة في الأحكام).
في سهم الغارمين متسع للكوارث
نعم لا يدع الإسلام المنكوب لتبرعات الناس الطيبين وحدها، بل يجعل له نصيبًا في بيت المال، وفي مال الزكاة بالذات، يطالب به ولي الأمر، غير هياب ولا خجل، فهو رجل من المسلمين يطلب حقه من بيت مال المسلمين.
وفي حديث قبيصة بن المخارق الذي ذكرناه من قبل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة....) وذكر منهم رجلاً أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش.
وقد جاء عن مفسري السلف في تأويل معنى "الغارمين" في آية مصارف الزكاة أنه: "من احترق بيته أو ذهب السيل بماله، فأدان على عياله" (انظر: فصل "الغارمون" من مصرف الزكاة. ص665 وما بعدها).
كم يعطى المنكوب بالكارثة(2/378)
ولقد رأينا حديث الرسول الكريم لقبيصة يبيح له أن يطالب بحقه ويسأل أولي الأمر حتى يصيب قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش، وقوام عيش كل إنسان يقدر بحسب وضعه المالي ومركزه الاجتماعي. فقوام عيش من احترق بيته أن يبنى له بيت ملائم يسعه وعائلته، ويؤثث بما يليق بحاله، وقوام عيش التاجر الذي أصيب في تجارته مثلاً. أن يدور دولاب تجارته وإن لم يعد كما كان سعة وثروة، وهكذا كل إنسان بحسبه.
ومن الفقهاء من يرى أن يعطى مثل هذا ما يعود به إلى حالته الأولى (ذكره الغزالي في "الإحياء" كما نقلنا ذلك في مصرف: "الفقراء والمساكين". ص614)، ولكني أرى أن الأخذ بهذا الرأي أو ذاك موقوف على قدر مال الزكاة كثرة وقلة، وحاجة المصارف الأخرى شدة وضعفًا.
كوارث الريف
إن أحوج الناس إلى الانتفاع بهذا السهم هم أهل الريف الكادحون المتعبون.
لقد كان أهل القرى قديمًا يتكافلون فيما بينهم، إذا حلت بأحدهم كارثة جمعوا من بينهم مقدارًا من المال يدفعونه أليه شدًا لأزره وتقوية لظهره.
وبعد أن غاض نبع العواطف الخيرة من صدور الناس، إلا قليلاً، أصبح الفلاح المسكين -في بلد كمصر- تموت جاموسته، فيحزن عليها كأنها بعض أهله، وتبكى عليها زوجه وأولاده، كأنهم يبكون عزيزًا عليهم، أمًا أو أبًا، ويعرف الناس أن فلانًا قد انكسر ظهره! ومثل هذا من أهلكت الآفات زرعه وأشد منه من احترق بيته ودمر عليه معاشه ومحصوله. كل هؤلاء المنكوبين تستطيع الزكاة من سهم "الغارمين"، بل من سهم "الفقراء والمساكين"، أن تنتشلهم من هوة النكبة، وتأخذ بأيديهم ليمضوا في قافلة الحياة مع السائرين ولا يتخلفوا فيهلكوا مع المنقطعين.
مشكلة العزوبة
لا رهبانية في الإسلام(2/379)
وقف الإسلام دون إرخاء العنان لغريزة الجنس لتنطلق بغير حدود ولا قيود، ولذلك حرم الزنا وما يفضي إليه وما يلحق به، ولكنه إلى جانب ذلك قاوم النزعة المضادة لذلك: نزعة مصادرة الغريزة وكبتها، ومن أجل ذلك دعا إلى الزواج، ونهى عن التبتل والخصاء (التبتل: الانقطاع عن النساء وعن الدنيا للعبادة، والخصاء قطع الشهوة بسل الخصيتين). فلا ينبغي لمسلم أن يعرض عن الزواج مع القدرة عليه، بدعوى التبتل لله، أو التفرغ للعبادة والترهب والانقطاع عن الدنيا.
وقد لمح النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أصحابه شيئًا من النزوع إلى هذه الوجهة الرهبانية، فأعلن أن هذا انحراف عن نهج الإسلام، وإعراض عن سنته عليه الصلاة والسلام.
وقال لهم: (إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (رواه البخاري)، وقال سعد بن أبي وقاص: (رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) (رواه البخاري)، ووجه عليه السلام نداءه إلى الشباب عامة فقال: (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) (رواه البخاري).
ومن هنا قال بعض العلماء: إن الزواج فريضة على المسلم لا يحل له تركه ما دام قادرًا عليه.(2/380)
ولا يليق بالمسلم أن يصد عن الزواج خشية ضيق الرزق عليه أو ثقل المسئولية على عاتقه، وعليه أن يحاول ويسعى وينتظر فضل الله ومعونته التي وعد بها المتزوجين، الذين يرغبون في العفاف والإحصان. قال تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) (النور: 32). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء -أي العبد الذي يريد أن يحرر رقبته ببذل مقدار من المال يكاتب عليه سيده- والغازي في سبيل الله) (رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم. عن أبي هريرة بإسناد صحيح كما في التيسير: 1/474).
ومن فضل الله وعونه الذي وعد به كل مؤمن يريد إعفاف نفسه بالزواج: أن يمد المجتمع المسلم -ممثلاً في الحكومة أو مؤسسة الزكاة- يده إليه بالمساعدة في المهر ونفقات الزواج إن كان من أهل الحاجة، حتى يستطيع أن يستجيب لنداء الإسلام في غض البصر وإحصان الفرج، وإقامة الأسرة المسلمة، ومعرفة آية الله البينة التي نبه عليها عباده ممتنًا عليهم بقوله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (الروم:21).
ولست أقول هذا ابتداعًا من عند نفسي أو اجتهادًا مني غير مسبوق إليه، ولكنه الذي قرره أئمتنا منذ قرون؛ فقد جعلوا الزواج من تمام الكفاية، وقالوا: إن من تمام الكفاية ما يأخذه الفقير ليتزوج به، إذا لم تكن له زوجة واحتاج إلى الزواج. كما فصلنا ذلك في موضعه من مصارف الزكاة (انظر: موضوع: "الزواج من تمام الكفاية" ص608).
مشكلة التشرد
رأينا في باب "مصرف الزكاة": كيف عنى القرآن بابن السبيل في سوره المكية والمدنية، وأمر في أكثر من موضع بالإحسان به وإيتائه حقه، ثم جعل له أخيرًا سهمًا في مال الزكاة.(2/381)
وما ذاك إلا لأن المسلم يحب للإنسان أن يكون "ابن بيت" يؤويه، ويكره له أن يكون "ابن سبيل"، ومن هنا كان من المقرر في الشريعة أن يكون لكل إنسان مسكن لائق به يؤويه وعياله، واعتبر هذا من الحاجات الأصلية التي لا بد للمرء منها ليعيش ويبقى.
قال الإمام النووي في بيان معنى الكفاية التي بدونها يكون الإنسان فقيرًا أو مسكينًا "والمعتبر: المطعم والملبس والمسكن وسائر ما لا بد منه، على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا إقتار، لنفس الشخص ولمن هو في نفقته" (راجع ذلك تحت عنوان "مستوى لائق للمعيشة" ص 616).
وقال ابن حزم في بيان الأشياء الأساسية، التي يجب أن تتوافر لكل إنسان في ظل النظام الإسلامي: "وفرض على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك -إن لم تقم الزكوات ولا فئ سائر المسلمين بهم- فيقام لهم بما يلزمهم من القوت الذي لا بد منه، ومن ملبس للصيف والشتاء مثل ذلك، ومن مسكن يكنهم من الشمس والمطر وعيون المارة" (المحلى: 6/156).
وقد ذكرنا في مبحث "ابن السبيل" من مصارف الزكاة أن من المعاصرين من صرف معناه إلى "اللقيط" ولا بُعد في ذلك، فإن السبيل أهله وأمه وأبوه، واللقطاء ثمرة لجريمة اقترفها غيرهم، فلا يحملون إثمها. قال تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الأنعام: 164). فمن الواجب أن يكون لهم حظ من مال الزكاة ترعى به شئونهم، وينفق منه على حسن تربيتهم، وإعدادهم لغد طاهر مستقيم.
والذين لا يدخلون اللقيط في "ابن السبيل" يدخلونه قطعًا في الفقراء والمساكين. فهو من مصارف الزكاة بلا نزاع.
تنبيه لابد منه(2/382)
ينبغي أن ننبه في خاتمة هذا الباب على أن الزكاة إنما هي جزء من نظام الإسلام المتكامل، الذي شرعه الله ليهدى به الناس ويصلح الحياة، ولن تستطيع الزكاة وحدها حل مشكلات المجتمع -التي تحدثنا عنها أو عن بعضها- في مجتمع يعطل الإسلام وشرائعه في سائر شئون الحياة الأخرى، ولا يلتزم في سلوكه أخلاق الإسلام، وآداب الإسلام.
والإسلام شريعة شاملة مترابطة، لا يجوز أخذ بعضها وإهمال بعضها، كما لا يجوز استيراد نظام آخر غير إسلامي، وترقيعه بقطع أو أجزاء من نظام الإسلام كالزكاة، فإن هذا الترقيع لا يجدي.
إن الله عاب على اليهود مثل هذا الصنيع حين خاطبهم بقوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ)؟! (البقرة: 85).
وحذر رسوله -وكل حاكم بعده- من ترك بعض ما أنزله سبحانه، فقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) (المائدة: 49).
إن العلاج الفذ هو الأخذ بالإسلام، كل الإسلام (انظر: كتابنا "مشكلة الفقر" فصل "شرط لا بد منه").
الباب السابع
زكاة الفطر
فهرس
مقدار الواجب ومم يكون؟
وقت الوجوب والإخراج
لمن تُصرف زكاة الفطر؟
المحتويات
معنى زكاة الفطر وحكمها وحكمتها
على من تجب زكاة الفطر وعمن تجب؟
يحتوى هذا الباب على خمسة فصول:
الأول: في معنى زكاة الفطر وبيان حكمها وحكمة مشروعيتها.
الثاني: على من تجب؟ وعمن تجب؟
الثالث: في مقدار الواجب، ومن أي شيء يكون؟ وحكم دفع القيمة.
الرابع: وقت الوجوب والإخراج.
الخامس: لمن تصرف زكاة الفطر؟
الفصل الأول
معنى زكاة الفطر وحكمها وحكمتها
فهرس
حكمة مشروعيتها
معنى زكاة الفطر
وجوب زكاة الفطر
معنى زكاة الفطر(2/383)
معنى زكاة الفطر: أي الزكاة التي سببها الفطر من رمضان، وتسمى أيضًا صدقة الفطر، وقد بينا أن لفظة "الصدقة" تطلق شرعًا على الزكاة المفروضة وقد جاء ذلك كثيرًا في القرآن والسنة، كما تسمى أيضًا زكاة الفطر، كأنها من الفطرة التي هي الخلقة، فوجوبها عليها تزكية للنفس، وتنقية لعملها، ويقال للمخرج هنا "فطرة" بكسر الفاء، وهي مولدة، لا عربية ولا معربة. بل اصطلاحية للفقهاء (قال ابن عابدين في حاشيته في النهر عن شرح الوقاية: إن لفظ "الفطرة" الواقع في كلام الفقهاء وغيرهم مولد حتى عده بعضهم من لحن العامة. أ هـ. أي أن الفطرة المراد بها الصدقة غير لغوية ؛ لأنها لم تأت بهذا المعنى، وأما ما في "القاموس" من أن الفطرة -بالكسر- صدقة الفطر، والخلقة، فاعترضه بعض المحققين بأن الأول غير صحيح ؛ لأن ذلك المخرج لم يعلم إلا من الشارع، وقد عُدَّ من غلط "القاموس" ما يقع كثيرًا فيه من خلط الحقائق الشرعية باللغوية، وفي "المغرب": أن الفطرة بهذا المعنى قد جاءت في عبارات الشافعي وغيره، وهي صحيحة من طريق اللغة وإن لم أجدها فيما عندي من الأصول، وفي تحرير النووي: هي اسم مولد، ولعلها من الفطرة التي هي الخلقة. قال أبو محمد الأبهري: معناها زكاة الخلقة، كأنها زكاة البدن، وفي المصباح: وقولهم الفطرة - الأصل، تجب زكاة الفطرة، وهي البدن: فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه واستغنى به في الاستعمال لفهم المعنى... أ هـ، ومشى عليه القهستاني، ولهذا نقل عن بعضهم: أنها تسمى صدقة الرأس وزكاة البدن، والحاصل: أن لفظ الفطرة -بالتاء- لا شك في لغويته ومعناه الخلقة، وإنما الكلام في إطلاقه مرادًا به المخرج، فإن أطلق عليه بدون تقدير: فهو اصطلاح شرعي مولد، وأما مع تقدير المضاف، فالمراد بها المعنى اللغوي، ولعل هذا وجه الصحة الذي أراده صاحب المغرب. (انظر: رد المحتال: 2/78)(2/384)
وقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة -وهي السنة التي فرض فيها صيام رمضان (انظر: المرقاة: 4/159).- طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم عن ذل الحاجة، والسؤال في يوم العيد.
فهذه الزكاة ضريبة متميزة عن بقية الزكوات الأخرى ؛ إذ هي ضريبة على الأشخاص، وتلك ضريبة على الأموال ولهذا لا يشترط لها ما يشترط للزكوات الأخرى من ملك النصاب بشروطه المبينة في مواضعها. كما سنرجح ذلك، ويسمي الفقهاء هذه الزكاة زكاة الرؤوس أو الرقاب أو الأبدان، والمراد بالبدن الشخص لا ما يقابل الروح أو النفس.
وجوب زكاة الفطر
روى الجماعة عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر من رمضان، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين) (ذكره في منتقى الأخبار -نيل الأوطار: 4/179- طبع العثمانية).
قال جمهور العلماء من السلف والخلف: معنى (فرض) هنا: ألزم وأوجب فزكاة الفطر فرض واجب عندهم، لدخولها في عموم قوله تعالى (وآتوا الزكاة) (سورة البقرة:110، والنساء:77، والنور:56، وغيرها) وقد سماها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة، فهي داخلة في أمر الله تعالى بها، ولقوله في الحديث: (فرض) وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى، ومما يؤكد أن (فرض) بمعنى "أوجب وألزم" اقترانها بحرف (على) التي تفيد الوجوب أيضًا ؛ إذ قال في الحديث: (على كل حر وعبد). كما أن الروايات الصحيحة فيها: (أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-)، وظاهر الأمر يفيد الوجوب كذلك (انظر: شرح النووي على مسلم: 7/58، وانظر: المحلى: 6/119).(2/385)
وقد صرح أبو العالية وعطاء وابن سيرين بأنها فريضة. كما في البخاري (ذكره معلقًا وقال الحافظ في الفتح: وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، ووصله ابن أبي شيبة من طريق عاصم الأحول عن الآخرين، وإنما اقتصر البخاري على ذكر هؤلاء لكونهم صرحوا بفرضيتها وإلا فقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك").
وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد.
وذهب الحنفية إلى أنها واجبة، وليست فرضًا، بناء على قاعدتهم في التفرقة بين الفرض والواجب. فالفرض عندهم ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني، ومن آثار هذه التفرقة: أن جاحد الفرض يكفر، أما جاحد الواجب فلا يكفر، ولهذا يسمون الواجب: "الفرض العملي" في مقابلة "الفرض الاعتقادي"، وهذا بخلاف الفرض عند الأئمة الثلاثة، فإنه يشمل القسمين: ما ثبت بقطعي وبظني، وبهذا نعلم: أن الحنفية ليسوا مخالفين للمذاهب الثلاثة في الحكم (قال المحقق ابن الهمام: لا خلاف في المعنى: فإن الافتراض الذي يثبتونه ليس على وجه يكفر جاحده، فهو معنى الوجوب الذي نقول به، غايته أن الفرض في اصطلاحهم أعم من الواجب في عرفنا، فأطلقناه على أحد جزأيه، وإنما قال الحنفية بالوجوب هنا دون الفرضية لوجود بعض الخلاف في وجوبها، وما ورد من أحاديث فليست قطعية الثبوت ولا الدلالة. (انظر: المرقاة على المشكاة: 4/160)، وإنما هو اختلاف في الاصطلاح، ولا مشاحة فيه.(2/386)
ونقل المالكية عن أشهب: أنها سنة مؤكدة (حكى ابن حزم في المحلى (6/118): عن مالك أن زكاة الفطر ليست فرضًا وعلق الشيخ شاكر عليه بأن هذا وهم من ابن حزم أو ممن نقل عنه، فقد قال مالك في الموطأ: تجب زكاة الفطر على أهل البادية كما تجب على أهل القرى، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس"... إلخ، وحكاه ابن رشد في بداية المجتهد: 1/269 عن بعض المتأخرين من أصحاب مالك ولم يعينه)، وهو قول بعض أهل الظاهر، وابن اللبان من الشافعية، وتأولوا كلمة "فرض" في الحديث بمعنى "قدر"، وما ذكرناه قبل يرد عليهم.
وقال: ابن دقيق العيد: أصل "فرض" في اللغة "قدر" لكن في عرف الشرع إلى الوجوب، فالحمل عليه أولى.
وقال ابن الهمام:
حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية في كلام الشارع متعين ما لم يقم صارف عنه، والحقيقة الشرعية غير مجرد التقدير، خصوصًا في لفظ البخاري ومسلم: أنه أمر بزكاة الفطر، ومعنى لفظ "فرض" هو معنى لفظ "أمر".
ويؤيد الوجوب تسميتها زكاة، فتدخل في عموم الزكاة التي أمر الله بها، وتوعد مانعيها بالعذاب الشديد ومن هنا حكى النووي قول ابن اللبان بسنِّيتها ثم قال: هذا شاذ منكر، بل غلط صريح.
وقال إسحاق بن راهويه: إيجاب زكاة الفطر كالإجماع، بل نقل ابن المنذر الإجماع على وجوبها.
وقول إسحاق أدق، لوجود خلاف طفيف فيها، كما ذكرنا، ولأن إبراهيم بن علية وأبا بكر الأصم قالا: إن وجوبها نسخ بفرض الزكاة.
واستدل لهما بما رواه أحمد والنسائي عن قيس بن سعد بن عبادة: أنه سئل عن صدقة الفطر، فقال: (أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر، قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا، ونحن نفعله).(2/387)
وفي إسناد الحديث مقال، ففيه راو مجهول - كما قال الحافظ (وتبعه في هذا السيوطي في شرح النسائي، والشوكاني في نيل الأوطار : (4/180 - طبع العثمانية) ولكن الشيخ أحمد شاكر تعجب من قول ابن حجر ومن تبعه، بعد أن ساق الحديث كما رواه النسائي (5/49) بإسنادين، قال عنهما: إسنادان صحيحان رواتهما ثقات فليس فيه مجهول قط (حاشية المحلى: 6/119). - وعلى تقدير صحته لا دليل فيه على النسخ، لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول ؛ لأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر (انظر: فتح الباري: 4/110، 111 - طبع مصطفى الحلبي، والمرقاة: 4/159، 160 والمحلى: 6/118، 119، والروضة للنووي: 2/291، وشرح مسلم له: 7/58، ونيل الأوطار: 4/180 - طبع العثمانية، والفتح الرباني وشرحه: 9/234-237)، والأصل في أوامر الله ورسوله أن تظل محكمة باقية، ولا يثبت النسخ بمجرد الاحتمال.
لهذا استقر الأمر بين المسلمين كافة على وجوب زكاة الفطر، ولم يعبأ أحد بشذوذ من شذ، لمخالفته للإجماع قبله وبعده (انظر: البحر الزخار: 2/195)، وأما ما ذكره المستشرق "شاخت" هنا ففيه خلط كثير (ذكر "شاخت" في دائرة المعارف الإسلامية (10/361): أن الفقهاء يختلفون في وجوب زكاة الفطر. قال: وبحسب الرأي الذي ساد أخيرًا تعتبر زكاة الفطر واجبة: أما عند المالكية فلا تعتبر إلا سنة. أ هـ.(2/388)
وفي هذا خلط كثير. فقد رأينا أن الفقهاء شبه مجمعين على وجوب الفطرة، حتى نقل ابن المنذر الإجماع عليه، وإذا شذ اثنان أو ثلاثة في أعصر مختلفة فلا عبرة بشذوذهم. أما عند المالكية فلا تعتبر عندهم إلا واجبًا، كما هو المعتمد في كتب المذهب. انظر مثلاً: بلغة السالك على الشرح الصغير للدردير: 1/237، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 1/504 أما ما نقل عن أشهب فليس هو المعتمد في المذهب. دليل شاخت اغتر بقول ابن أبي زيد في "الرسالة": زكاة الفطر سنة واجبة فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الكبير والصغير... إلخ. مع أنه لم يكتف بقوله: "سنة" حتى قال: "واجبة فرضها رسول الله"، ولهذا قال الشراح: المشهور أنها فرض بالسنة. انظر: شرح الرسالة لزروق:1/341، ومالك صرح في "الموطأ" بوجوبها واستدل عليه بالحديث، كما ذكرنا قبل , وإذن لا يكون وجوب زكاة الفطر من الرأي الذي ساد أخيرًا كما زعم شاخت، بل مما عرف منذ عهد النبوة).
حكمة مشروعيتها
والحكمة في إيجاب هذا الزكاة ما جاء عن ابن عباس، قال: (فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) (رواه أبو داود في باب زكاة الفطر وسكت عليه هو والمنذري، وهو بمثابة التحسين منهما كما قيل، ورواه الحاكم (1/409)، وقال: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي ورواه ابن ماجة أيضًا في باب زكاة الفطر، والدارقطني ص219وقال: ليس في رواته مجروح، والبيهقي ص163، وانظر: المرقاة: 4/173، ونصب الراية: 2/411، وتكملة الحديث: "من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات".
واللغو: ما لا فائدة فيه، وما لا يعني، وقيل: الباطل، والرفث: هو في الأصل ما يتصل بالجماع وما يتعلق به مما يجري بين المرء وزوجه. ثم استعمل في كل كلام قبيح).
فهذه الحكمة مركبة من أمرين:(2/389)
الأمر الأول: يتعلق بالصائمين في شهر رمضان، وما عسى أن يكون قد شاب صيامهم من لغو القول، ورفث الكلام، والصيام الكامل الذي يصوم فيه اللسان والجوارح، كما يصوم البطن والفرج. فلا يسمح الصائم للسانه ولا لأذنه ولا لعينه ولا ليده أو رجله أن تتلوث بما نهى الله ورسوله عنه من قول أو فعل، وقلما يسلم صائم من مقارفة شيء من ذلك، بحكم الضعف البشري الغالب، فجاءت هذه الزكاة في ختام الشهر، بمثابة غسل أو "حمام" يتطهر به من أوضار ما شاب نفسه، أو كدر صومه، وتجبر ما فيه من قصور، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
كما جعل الشارع السنن الرواتب مع الصلوات الخمس جبراَ لما قد يحدث فيها من غفلة أو خلل أو إخلال ببعض الآداب وشبهها بعض الأئمة بسجود السهو. قال وكيع بن الجراح: زكاة الفطر لشهر رمضان، كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم، كما يجبر السجود نقصان الصلاة (نهاية المحتاج: 2/108).
وأما الأمر الثاني: فيتعلق بالمجتمع وإشاعة المحبة والمسرة في جميع أنحائه وخاصة المساكين وأهل الحاجة فيه.
فالعيد يوم فرح وسرور عام، فينبغي تعميم السرور على كل أبناء المجتمع المسلم، ولن يفرح المسكين ويسر إذا رأى الموسرين والقادرين يأكلون ما لذ وطاب وهو لا يجد قوت يومه في يوم عيد المسلمين.
فاقتضت حكمة الشارع أن يفرض له في هذا اليوم ما يغنيه عن الحاجة وذل السؤال، ويشعره بأن المجتمع لم يهمل أمره، ولم ينسه في أيام سروره وبهجته، ولهذا ورد في الحديث: (أغنوهم في هذا اليوم) (قال في نيل الأوطار: أخرجه البيهقي والدارقطني عن ابن عمر، وفي رواية للبيهقي: أغنوهم عن طواف هذا اليوم، وأخرجه أيضًا ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة وأبي سعيد: (4/186- طبع العثمانية)، وانظر: نصب الراية: 2/432، وحاشية المحلى: 6/120).(2/390)
وكان من حكمة الشارع أيضًا: تقليل مقدار الواجب -كما سيأتي-وإخراجه مما يسهل على الناس من غالب قوتهم، حتى يشترك أكبر عدد ممكن من الأمة في هذه المساهمة الكريمة، وهذا الإسعاف العاجل في هذه المناسبة المباركة.
الفصل الثاني
على من تجب زكاة الفطر وعمن تجب؟
فهرس
هل يشترط لها النصاب؟
شرط وجوب الفطرة على الفقير
الدين المؤجل لا يمنع زكاة الفطر
على من تجب زكاة الفطر؟
هل تجب على الزوجة والصغير؟
هل تجب عن الجنين؟
على من تجب زكاة الفطر؟
في حديث ابن عمر السابق الذي رواه الجماعة: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرض زكاة الفطر من رمضان على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين).
وروى البخاري عنه قال: (فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر، صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين).
وعن أبي هريرة في زكاة الفطر: (على كل حر وعبد، ذكر وأنثى، صغير أو كبير، فقير أو غني). (رواه أحمد والشيخان والنسائي وهو الحديث رقم (186) من كتاب الزكاة. من الفتح الرباني: 9/139) وهذا من كلام أبي هريرة، ولكن مثله لا يقال بالرأي.
وهذه الأحاديث تدلنا على أن هذه الزكاة فريضة عامة على الرؤوس والأشخاص من المسلمين لا فرق بين حر وعبد، ولا بين ذكر وأنثى، ولا بين صغير وكبير بل لا فرق بين غني وفقير، ولا بين حضري وبدوي، وقال الزهري وربيعة والليث: إن زكاة الفطر تختص بالحضر، ولا تجب على أهل البادية، وظاهر الأحاديث يرد عليهم، فالصواب ما عليه الجمهور (نيل الأوطار: 4/181).
وروى ابن حزم هذا القول عن عطاء، ورد عليه بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يخص أعرابيًا ولا بدويًا من غيرهم، فلم يجز تخصيص أحد من المسلمين (المحلى: 6/131).
هل تجب على الزوجة والصغير؟(2/391)
وظاهر قوله: (ذكر أو أنثى) يشهد لما ذهب إليه أبو حنيفة: أنها تجب على المرأة سواء أكان لها زوج أم لا، وأنها تجب على الزوجة في نفسها، ويلزمها إخراجها من مالها، وهو مذهب الظاهرية (الفتح الرباني وشرحه: 9/140 وهو الحديث رقم (187) من كتاب الزكاة فيه).
وعند الأئمة الثلاثة والليث وإسحاق: أن الزوج يلزم إخراج زكاة الفطر عن زوجته ؛ لأنها تابعة للنفقة. قال الحافظ: وفيه نظر ؛ لأنهم قالوا: إن أعسر وكانت الزوجة أمة وجبت فطرتها على السيد، بخلاف النفقة، فافترقا، واتفقوا على أن المسلم لا يخرج عن زوجته الكافرة، مع أن نفقتها تلزمه، وإنما احتج الشافعي بما رواه من طريق محمد بن على الباقر مرسلاً: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" (وأخرجه البيهقي: 4/161 من هذا الوجه فزاد في إسناده ذكر على وهو منقطع، وقال ابن حزم: في هذا المكان عجب عجيب، وهو أن الشافعي لا يقول بالمرسل، ثم أخذ ههنا بأنتن مرسل في العالم ؛ من رواية ابن أبي يحيى ؛ (المحلى: 6/137)، وأخرجه البيهقي من حديث ابن عمر: "ممن تمونون" وإسناده غير قوي كما قال (4/161) وأخرجه أيضًا عنه الدارقطني (نيل الأوطار: 4/181)، وأخرج البيهقي أيضًا عن على: من جرت عليه نفقتك فأطعم عنه، وفيه عبد الأعلى غير قوي كما قال البيهقي، ولكن يقوى بما قبله. قال في البحر: وهو توقيف (2/119)، وانظر: نصب الراية: 2/413).
ومثل هذا لا يحتج به لضعفه، وكان يلزم الشافعي ومن وافقه -كما قال ابن التركماني (الجوهر النقي مع السنن الكبرى: 4/160)- الإخراج عن أجيره ورقيقه الكافر، لأنه يمونهما.
وهكذا قال الإمامية: إن زكاة الفطر عن نفسه وعن كل من يعول (فقه الإمام جعفر: 2/103 - 104).
وقال الليث: يخرجها عن أجيره الذي ليست أجرته معلومة، فإن كانت أجرته معلومة فلا يلزمه إخراجها عنه (المحلى: 6/127).
أما الزيدية فاقتصروا على كل من تلزمه نفقته بقرابة أو زوجية أو رق (البحر: 2/199).(2/392)
وقوله (صغير أو كبير) يدل على وجوبها على الصغير في ماله إن كان له مال، ويخرجها الولي منه كزكاة الأموال. فإن لم يكن له مال، فإن فطرته تجب على من تلزمه نفقته، وإلى هذا ذهب الجمهور.
وقال محمد بن الحسن: هي على الأب مطلقًا، فإن لم يكن له أب فلا شيء عليه (المرجع السابق ص 135، وانظر: نيل الأوطار: 4/180 - 181، والمحلى: 6/137).
وعن سعيد بن المسيب والحسن البصري: لا تجب إلا على من صام ؛ لأنها وجبت تطهيرًا، والصبي ليس محتاجًا إلى تطهير، لعدم الإثم في حقه.
بدليل حديث ابن عباس قال: فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث.
وأجيب بأن ذكر التطهير خرج مخرج الغالب (المصادر السابقة). كما أن بعض الأحاديث ذكرت حكمة أخرى لإيجاب هذه الزكاة، وأنها (طعمة للمساكين) وكما جاء في حديث: (أغنوهم في هذا اليوم).
فإذا كانت هذه الزكاة تطهيرًا من جانب، فهي طعمة وإغناء من جانب آخر، وهذه حكمة تنطبق على الصغير، كما تنطبق على الكبير.
هل تجب عن الجنين؟
أما الجنين، فجمهور الفقهاء على أن زكاة الفطر لا تجب عنه.
وقال ابن حزم: إذا أكمل الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا قبل انصداع الفجر من ليلة الفطر، وجب أن تؤدى عنه صدقة الفطر. لما صح في الحديث أنه ينفخ فيه الروح حينئذ.
واحتج ابن حزم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرض صدقة الفطر على الصغير والكبير، والجنين يقع عليه اسم (صغير) فكل حكم وجب على الصغير فهو واجب عليه.
وروى ابن حزم عن عثمان بن عفان: أنه كان يعطى صدقة الفطر عن الصغير والكبير والحمل.
وعن أبي قلابة قال: كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى عن الحمل في بطن أمه. قال ابن حزم، وأبو قلابة أدرك الصحابة وصحبهم وروى عنهم.
وعن سليمان بن يسار: أنه سئل عن الحمل أيزكي عنه؟ قال نعم.
قال: ولا يعرف لعثمان في هذا مخالف من الصحابة (المحلى: 6/132).(2/393)
والحق أن كل ما ذكره ابن حزم لا دليل فيه على وجوب التزكية عن الحمل، ومن التعسف أن يقال: إن كلمة (صغير) في الحديث تشمل الحمل. كما أن ما روى عن عثمان وغيره لا يدل على أكثر من الاستحباب، ومن تطوع خيرًا فهو خير له.
وقد ذكر الشوكاني: أن ابن المنذر نقل الإجماع على أنها لا تجب عن الجنين، وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه (نيل الأوطار: 4/181).
هل يشترط لها النصاب؟
وقول ابن عمر في حديثه: (كل حر أو عبد) يشمل الغني والفقير الذي لا يملك نصابًا، كما صرح به أبو هريرة في حديثه: (غني أو فقير) وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة والجمهور، ولم يشترطوا لوجوبها إلا الإسلام وأن يكون مقدار هذه الزكاة الواجبة فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يوم العيد وليلته وفاضلاً عن مسكنه وأثاثه وحوائجه الأصلية.
قال الشوكاني: وهذا هو الحق ؛ لأن النصوص أطلقت ولم تخص غنيًا ولا فقيرًا، ولا مجال للاجتهاد في تعيين المقدار الذي يعتبر أن يكون مخرج الفطرة مالكًا له، ولا سيما والعلة التي شرعت لها الفطرة موجودة في الغني والفقير وهي التطهر من اللغو والرفث، واعتبار كونه واجدًا لقوت يوم وليلة أمر لا بد منه ؛ لأن المقصود من شرع الفطرة إغناء الفقراء في ذلك اليوم، فلو لم يعتبر في حق المخرج ذلك لكان ممن أمرنا بإغنائه في ذلك اليوم، لا من المأمورين بإخراج الفطرة، وإغناء غيره (نيل الأوطار: 4/186).
وخالفهم أبو حنيفة وأصحابه فقالوا: لا تجب إلا على من يملك نصابًا، بدليل حديث البخاري (رواه معلقًا في كتاب الوصايا من صحيحه وتعليقاته المجزومة لها حكم الصحة، كما هو رأي الجمهور، خلافًا لابن حزم)، والنسائي: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) والغنى عندهم ملك النصاب، والفقير لا غنى له، فلا تجب عليه ؛ لأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه، كمن لا يقدر عليها. كما استدلوا بالقياس على زكاة المال.(2/394)
وأجاب الآخرون -كما ذكر الشوكاني- بأن الحديث الذي ذكروه لا يفيد المطلوب، فقد رواه أبو داود (كذا اقتصر الشوكاني على أبي داود، والحديث أخرجه أيضًا البخاري في كتاب النفقات والنسائي في كتاب الزكاة، وأحمد في المسند: 2/245 - 278 وعند مسلم في الزكاة: "أفضل الصدقة -أو خير الصدقة- عن ظهر غنى"). بلفظ: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى)، وهو معارض أيضًا بحديث أبي هريرة -عند أبي داود والحاكم- مرفوعًا: "أفضل الصدقة جهد المقل"، وبحديث أبي أمامة عند الطبراني مرفوعًا: (أفضل الصدقة: سر إلى فقير، وجهد من مقل) وفسره في "النهاية" بقدر ما يحتمل حال قليل المال.
وبحديث أبي هريرة عند النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه -اللفظ له- والحاكم -وصححه على شرط مسلم- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سبق درهم مائة ألف درهم)! فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: (رجل له مال كثير، أخذ من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، فهذا تصدق بنصف ماله).... الحديث.
وأما استدلالهم بالقياس على زكاة المال فغير صحيح - كما قال الشوكاني ؛ لأنه قياس مع الفارق ؛ إذ وجوب الفطرة متعلق بالأبدان، ووجوب الزكاة الأخرى متعلق بالأموال، فافترقا (انظر: نيل الأوطار: 4/185 - 186).(2/395)
وأما قولهم: الغنى ملك النصاب، والفقير لا غنى له، فلا تجب عليه فقد رد عليهم أيضًا بعموم الأحاديث الصحيحة المروية في إيجاب زكاة "الفطر" على كل مسلم بما في ذلك الغني والفقير، وبما صرح به أبو هريرة في حديثه: (غني أو فقير)، وما رواه أحمد وأبو داود عن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أدوا صدقة الفطر صاعًا من قمح -أو قال: بر- عن كل إنسان صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، ذكر أو أنثى. أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى)، وفي رواية أبي داود: (صاع من بر أو قمح عن كل اثنين).
ولأن هذه الصدقة -كما قال ابن قدامة- حق مال لا يزيد بزيادة المال، فلا يعتبر وجوب النصاب فيها كالكفارة، ولا يمنع أن يؤخذ منه ويعطى، كمن وجب عليه العشر في زرعه وهو بعد محتاج إلى ما يكفيه وعياله.
وحديث: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) محمول على صدقة المال وهذه صدقة خاصة عن البدن والنفس (انظر: المغنى: 3/74).
والذي أراه: أن للشارع هدفًا أخلاقيًا تربويًا -وراء الهدف المالي- من فرض هذه الزكاة على كل مسلم غني أو فقير. ذلك هو تدريب المسلم على الإنفاق في الضراء كما ينفق في السراء، والبذل في العسر، كما يبذل في اليسر، ومن صفات المتقين التي ذكرها القرآن أنهم (ينفقون في السراء والضراء) (آل عمران: 134)، وبهذا يتعلم المسلم -وإن كان فقير المال، رقيق الحال- أن تكون يده هي العليا، وأن يذوق لذة الإعطاء والإفضال على غيره، ولو كان ذلك يومًا في كل عام، ولهذا أرجح مذهب الجمهور الذين لم يشترطوا لوجوب هذه الزكاة ملك النصاب.
كما أرجح رأي أبي حنيفة وغيره ممن أوجبها على الزوجة في مالها، لما فيه من إشعار المرأة المسلمة بهذا الواجب السنوي، وتعويدها البذل من مالها الخاص، لا مجرد الاعتماد على الزوج. فإذا تطوع الزوج فأخرج عنها جاز.
شرط وجوب الفطرة على الفقير(2/396)
وشرط الجمهور لإيجاب هذه الزكاة على الفقير أن يكون عنده مقدارها فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ليلة العيد ويومه، وأن يكون فاضلاً عن مسكنه ومتاعه وحاجاته الأصلية. فمن كان له دار يحتاج إليها لسكناها أو إلى أجرها لنفقته، أو ثياب بذله له أو لمن تلزمه مؤنته، أو بهائم يحتاج إلى ركوبها والانتفاع بها في حوائجه الأصلية، أو سائمة يحتاج إلى نمائها كذلك، أو بضاعة يختل ربحها الذي يحتاج إليه بإخراج الفطرة منها - فلا فطرة عليه ؛ لأن هذا مما يتعلق به حاجته الأصلية فلم يلزمه بيعه كمؤنة نفسه، ومن له كتب يحتاج إليها للنظر فيها والحفظ منها لا يلزمه بيعها، والمرأة إذا كان لها حلى للبس، أو لكراء تحتاج إليه، لم يلزمها بيعه في الفطرة، وما فضل من ذلك عن حوائجه الأصلية، وأمكن بيعه وصرفه في الفطرة وجبت الفطرة به ؛ لأنه أمكن أداؤها من غير ضرر أصلى. فأشبه ما لو ملك من الطعام ما يؤديه فاضلاً عن حاجته (انظر: المغنى: 3/76، والروضة: 2/299 - 300).
الدين المؤجل لا يمنع زكاة الفطر
ومن كان في يده ما يخرجه عن صدقة الفطر، وعليه دين مثله، لزمه أن يخرج الصدقة ؛ إلا أن يكون مطالبًا بالدين، فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه.
قال ابن قدامة: إنما لم يمنع الدين الفطرة (كما يمنع زكاة المال) ؛ لأنها آكد وجوبًا ؛ بدليل وجوبها على الفقير، وشمولها لكل مسلم قدر على إخراجها ووجوب تحملها عمن وجبت نفقته على غيره، ولا تتعلق بقدر من المال، فجرت مجرى النفقة، ولأن زكاة المال تجب بالملك، والدين يؤثر في الملك فأثر فيها، وهذه تجب على البدن (يعنى على الشخص) والدين لا يؤثر فيه، وتسقط الفطرة عند المطالبة بالدين ؛ لوجوب أدائه عند المطالبة وتأكده بكونه حق آدمي معين لا يسقط بالإعسار، وكونه أسبق سببًا وأقدم وجوبًا يأثم بتأخيره، فإنه يسقط غير الفطرة، وإن لم يطالب به ؛ لأن تأثير المطالبة إنما هو في إلزام الأداء وتحريم التأخير (المرجع السابق).(2/397)
الفصل الثالث
مقدار الواجب ومم يكون؟
فهرس
هل تجوز الزيادة على الصاع؟
مقدار الصاع
الأجناس التي يخرج منها
إخراج القيمة
مسائل تتعلق بدفع القيمة
مذهب القائلين بأن الواجب صاع من كل طعام
مذهب القائلين بنصف الصاع من القمح
حجة القائلين بوجوب الصاع
أدلة أبي حنيفة في إجزاء نصف الصاع
تعقيب وترجيح
مذهب القائلين بأن الواجب صاع من كل طعام
عن ابن عمر قال: (فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير)... الحديث (رواه الجماعة).
وعن أبي سعيد الخدري قال: (كنا نخرج زكاة الفطر -إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم- صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة. فقال: إني لأرى مدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك) (رواه الجماعة)، وزاد غير البخاري: قال أبو سعيد: (فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه).
دل هذان الحديثان وغيرهما على أن الواجب في زكاة الفطر صاع عن كل نفس.
قال الدهلوي: وإنما قدر بالصاع ؛ لأنه يشبع أهل بيت، ففيه غنية معتد بها للفقير، ولا يتضرر الإنسان بإنفاق هذا القدر غالبًا. (الحجة البالغة: 2/509).
والصاع في غير القمح والزبيب واجب بالإجماع، وفي غيرهما واجب أيضًا عند الأئمة الثلاثة، وهو قول أبي سعيد الخدري وأبي العالية وأبي الشعثاء والحسن البصري وجابر بن زيد وإسحاق، والهادي والقاسم والناصر والمؤيد بالله، كما ذكر الشوكاني (نيل الأوطار: 4/183، والمغني: 3/57، وفيه: اختلفت الرواية عن علي وابن عباس والشعبي، فروي صاع وروي نصف صاع (أ هـ)، وأبو سعيد روى عنه ابن حزم ما يخالف المعروف عنه من وجوب الصاع، وهو غريب (المحلى: 6/ 130).
مذهب القائلين بنصف الصاع من القمح(2/398)
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزئ نصف صاع من قمح، واختلف عنه في الزبيب (أما الصاحبان فجعلاه كالتمر، وهو رواية عن الإمام، وصححها بعض الحنفية، ورجحها ابن الهمام في فتح القدير من جهة الدليل، وذكر في الدر المختار عن جماعة أن عليه الفتوى (الدر وحاشيته: 2/83)، وهو مذهب زيد بن علي والإمام يحيى كما قال الشوكاني (نيل الأوطار، المرجع السابق) وقال ابن حزم: وصح عن عمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن جبير، وهو قول الأوزاعي والليث وسفيان الثوري. كما أورد ابن حزم عدة روايات عن جماعة من الصحابة قالوا بذلك: منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وأسماء بنت أبي بكر وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وأبو سعيد الخدري. قال: وهو عنهم كلهم صحيح إلا عن أبي بكر وابن عباس وابن مسعود (المحلى: 6/128 - 131، وانظر: نصب الراية مع بغية الألمعي: 2/446 - 447).
حجة القائلين بوجوب الصاع
وحجة الجمهور حديث أبي سعيد في قوله: "صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط".
قال النووي: والدلالة فيه من وجهين:
أحدهما: أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة، لا سيما وقد قرنه بباقي المذكورات.
وثانيهما: أنه ذكر أشياء قيمتها مختلفة، وأوجب في كل نوع منها صاعًا فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته (شرح النووي على صحيح مسلم: 7/60).
قال: وليس للقائلين بنصف صاع حجة إلا حديث معاوية، وأحاديث ضعيفة ضعفها أهل الحديث، وضعفها بين (المرجع السابق).(2/399)
والجمهور يجيبون عن حديث معاوية بأنه قول صحابي، وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول منه صحبة، وأعلم بأحوال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض. فلا بد من الرجوع إلى دليل آخر. قالوا: وجدنا ظاهر الأحاديث والقياس متفقًا على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه، لا أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه -مع كثرتهم في تلك اللحظة- علم في موافقة معاوية للسنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لذكره، كما جرى لهم في غير هذه القصة (المرجع نفسه ص61، 62).
والرأي والاجتهاد مشروع، كما دل عليه صنيع معاوية ومن وافقه من الصحابة، ولكنه مع وجود النص فاسد الاعتبار (فتح الباري: 3/374 - طبع السلفية).
أدلة أبي حنيفة في إجزاء نصف الصاع
واستدل لمذهب أبي حنيفة ومن وافقه بما يأتي:
أولاً: ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :(صدقة الفطر صاع من بر أو قمح عن كل اثنين) (انظر ألفاظ هذا الحديث وطرقه في أبي داود. كتاب الزكاة، والدارقطني ص223- 224، وكلام ابن حزم عليه في المحلى: 6/121، البيهقي في السنن الكبرى: 4/167 - 168، والزيلعي في نصب الراية:2/406 - 410).(2/400)
وما أخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعًا: (صدقة الفطر مدان من القمح) والمدان نصف صاع كما علمنا، وأخرج نحوه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وأخرج أبو داود والنسائي عن الحسن مرسلاً بلفظ: (فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الصدقة صاعًا من تمر أو من شعير، أو نصف صاع من قمح) (انظر: نيل الأوطار: 4/183، والمحلى: 6/122 -123، ونصب الراية: 4/418 - 423). إلى غير ذلك من الأحاديث التي يمكن أن تنهض بمجموعها لتخصيص أحاديث الصاع، كما قال الشوكاني، على التسليم بدخول البر تحت لفظ الطعام الذي صحت به الروايات (نيل الأوطار، المرجع السابق).
وثانياُ: ما صح عن عدد كبير من الصحابة أنهم رأوا إخراج نصف صاع من القمح ؛ فقد أخرج سفيان الثوري في جامعه عن علي موقوفًا بلفظ: (نصف صاع من بر)، ويروى ذلك عن الخلفاء الأربعة وغيرهم (المرجع نفسه).(2/401)
وعلى أقوال هؤلاء الصحابة اعتمد ابن المنذر، فقد قال: "لا نعلم في القمح خبرًا ثابتًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتمد عليه (قد يعكر على هذا ما أخرجه الحاكم (1/410 - 411) من جملة أحاديث في صاع البر صححها كلها وأقر الذهبي اثنين منها: أحدهما من طريق سعيد الجمحي عن ابن عمر، ولكن قال البيهقي: ذكر البر فيه ليس بمحفوظ (4/166) فلا حجة فيه، والحديث الثاني أخرجه مع الحاكم أيضًا ابن خزيمة في صحيحه من طريق ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن حكيم عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيد: وذكروا عنده صدقة رمضان فقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : صاع تمر أو صاع حنطة أو صاع شعير أو صاع أقط، فقال له رجل من القوم: أو مدين من قمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية ؛ لا أقبلها ولا أعمل بها"، ولكن قال ابن خزيمة: ذكر الحنطة في خبر أبي سعيد غير محفوظ، ولا أدرى ممن الوهم، وقوله: "فقال رجل... إلخ" دال على أن ذكر الحنطة في أول القصة خطأ ؛ إذ لو كان أبو سعيد أخبر أنهم كانوا يخرجون منها في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاعًا، لما كان الرجل يقول له: "أو مدين من قمح"، وقد أشار أبو داود إلى رواية ابن إسحاق هذه وقال: إن ذكر الحنطة فيه غير محفوظ. (انتهى من فتح الباري: 2/373)، وهذا الحديث ذكره ابن حزم في المحلى (6/130) من طريق ابن إسحاق أيضًا، وليس فيه ذكر صاع البر، واستدل به على أن أبا سعيد يمنع من البر جملة، ولكن العلامة الشيخ أحمد شاكر تعقبه برواية الدارقطني (ص222)، ورواية الحاكم في المستدرك (1/411) وهي التي ذكرناها هنا، وفيها زيادة "أو صاعًا من حنطة" قال: وهذا مما يختلف فيه الرواة، فيذكر بعضهم نوعًا ويذكر الآخر غيره، وكل صحيح، وزيادة الثقة حجة (أ هـ)، وكأن الشيخ رحمه الله لم يكن قد اطلع على قول ابن خزيمة وأبي داود في هذه الزيادة، كما نقله صاحب الفتح، وزيادة(2/402)
الثقة مقبولة إذا لم يخالف من هو أوثق منه، أو لم يكن في الكلام ما يدل على وهمه، وقد جاءت روايات كثيرة عن أبي سعيد وغيره تدل على أن القمح لم يكن من طعامهم يومئذ، وسنذكر بعضها قريبًا. على أن ابن إسحاق الذي جاءت الرواية من طريقه معروف عند النقاد بالتدليس إذا لم يصرح بالتحديث، وهو هنا قد عنعن، كما في المستدرك، وبهذا كله يتبين ما في تصحيح الحاكم للحديث وإقرار الذهبي له من التساهل.
والنتيجة أن ما جزم به الإمام ابن المنذر من عدم ثبوت خبر يعتمد عليه في القمح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- صحيح وليس فيه مطعن معتبر، وكذلك قال الحافظ البيهقي في سننه (4/170): قد وردت أخبار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صاع من بر، ووردت أخبار في نصف صاع، ولا يصح شيء من ذلك، قد بينت علة كل واحد منها في الخلافيات، وروينا في حديث أبي سعيد الخدري وفي الحديث الثابت عن ابن عمر تعديل مدين من بر -وهو نصف صاع- بصاع من شعير، وقع بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- (أ هـ)، ولم يكن البر بالمدينة ذلك الوقت إلا الشيء اليسير منه. فلما كثر في زمن الصحابة رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير، وهم الأئمة، فغير جائز أن يعدل عن قولهم إلا إلى قول مثلهم. ثم روى ابن المنذر عن عثمان وعلي وأبي هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر -بأسانيد صحيحة كما قال الحافظ ابن حجر-أنهم رأوا أن في زكاة الفطر نصف صاع من قمح، وهذا مصير منه إلى اختيار ما ذهب إليه الحنفية.
لكن حديث أبي سعيد دال على أنه لم يوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة، خلافًا للطحاوي (انظر: فتح الباري: 3/374 - طبع السلفية، والمحلى: 6/128 - 131).
قال الحنفية: وأما حديث أبي سعيد، فليس فيه دليل على الوجوب، بل هو حكاية عن فعله، فيدل على الجواز، وبه نقول. فيكون الواجب نصف صاع وما زاد يكون تطوعًا (بدائع الصنائع: 2/72، ونصب الراية: 2/418)(2/403)
أما تفسير الطعام في حديث أبي سعيد بالحنطة فهو غير مسلم. قال ابن المنذر: ظن بعض أصحابنا: أن قوله في حديث أبي سعيد: (صاعًا من طعام) حجة لمن قال: صاع من حنطة، وهذا غلط منه ؛ ذلك أن أبا سعيد أجمل الطعام ثم فسره، ثم أورد من طريق حفص بن ميسرة عند البخاري وغيره: أن أبا سعيد قال: (كنا نخرج في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر صاعًا من طعام) قال أبو سعيد: (وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر)، وهي ظاهرة فيما قال، وأخرج الطحاوي نحوه من طريق أخرى، وفيه: (ولا نخرج غيره) انظر: نيل الأوطار: 4/192 - 193، وفتح الباري أيضًا).
بل أخرج ابن خزيمة في صحيحه عن ابن عمر قال: (لم تكن الصدقة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا التمر والزبيب والشعير، ولم تكن الحنطة)، ولمسلم من وجه آخر عن أبي سعيد. قال: (كنا نخرج من ثلاثة أصناف: صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من شعير) وكأنه سكت عن الزبيب في هذه الرواية لقلته بالنسبة إلى الثلاثة المذكورة. قال الحافظ: وهذه الطرق كلها تدل على أن المراد بالطعام في حديث أبي سعيد غير الحنطة، فيحتمل أن تكون الذرة، فإنه المعروف عند أهل الحجاز الآن ؛ وفي قوت غالب لهم، وقد روى الجوزقي من طريق ابن عجلان عن عياض في حديث أبي سعيد: (صاعًا من تمر، صاعًا من سلت أو ذرة) (انظر: فتح الباري: 3/372 - طبع السلفية).
تعقيب وترجيح(2/404)
والذي يبدو من مجموع الروايات أن القمح لم يكن من أطعمتهم الشائعة على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يفرض النبي -صلى الله عليه وسلم- صاعًا منه، كما فرض في غيره من الشعير والتمر، ومن الزبيب والأقط، ويؤكد ذلك ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: (أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بزكاة الفطر: صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير قال: فجعل الناس عدله مدين من حنطة)، وفي رواية أخرى: (فعدل الناس به نصف صاع من بر) (صحيح مسلم بشرح النووي: 7/60 وفتح الباري: 3/271 -272 -طبع السلفية).
قال ابن القيم: والمعروف أن عمر بن الخطاب جعل نصف صاع من بر مكان صاع من هذه الأشياء. ذكره أبو داود (وقال ابن حجر: أشار ابن عمر بقوله: "الناس" إلى معاوية ومن تبعه، وقد وقع ذلك صريحًا في حديث أيوب عن نافع، أخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة وفيه: "قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر بصاع من شعير" وهكذا أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، من وجه آخر عن سفيان وهو المعتمد، وهو موافق لقول أبي سعيد وهو أصرح منه.
وأما رواية أبي داود التي أشار إليها ابن القيم، فقد ذكر الحافظ أن مسلمًا في كتاب "التمييز" حكم على الراوي فيها بالوهم، وأوضح الرد عليه. انظر: فتح الباري: 3/372 - طبع السلفية) وفي الصحيحين: أن معاوية هو الذي قوم ذلك، وفيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- آثار مرسلة مسندة يقوي بعضها بعضًا (زاد المعاد: 1/313 - 314).(2/405)
وذكر ابن القيم حديث ابن أبي صُعَير وغيره، وحديث الحسن البصري قال: خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم، فكأن الناس لم يعلموا! فقال: من ههنا من أهل المدينة؟ قوموا إلى إخوانكم فعلموهم ؛ فإنهم لا يعلمون. فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الصدقة صاعًا من تمر، أو شعير، أو نصف صاع من قمح، على كل حر أو مملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، فلما قدم علي ورأى رخص السعر، قال: (قد أوسع الله عليكم، فلو جعلتموه صاعًا من كل شيء)؟ رواه أبو داود -وهذا لفظه- والنسائي (قال النسائي: الحسن لم يسمع من ابن عباس، وكذلك قال أحمد وابن المديني وغيرهما من الأئمة. فعلى هذا: في الحديث انقطاع، وإنما قالوا ذلك، لأن ابن عباس كان بالبصرة في عهد علي، والحسن في عهدي عثمان وعلي كان بالمدينة، وعقب على ذلك الشيخ أحمد شاكر فقال: كل هذا وهم: فإن الحسن عاصر ابن عباس يقينًا، وكونه كان بالمدينة أيام أن كان ابن عباس واليًا على البصرة، لا يمنع سماعه منه قبل ذلك أو بعده، كما هو معروف عن المحدثين من الاكتفاء بالمعاصرة. ثم الذي يقطع بسماعه منه ولقائه إياه: ما رواه أحمد في المسند بإسناد صحيح (3126) عن ابن سيرين: أن جنازة مرت بالحسن وابن عباس، فقام الحسن، ولم يقم ابن عباس، فقال الحسن لابن عباس: قام لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: قام وقعد"، وليس بعد هذا بيان في اللقاء والسماع. أ هـ. انظر: مختصر المنذري مع معالم السنن وحواشيه: 2/222 أقول: ولكن المعاصرة وحدها لا تكفى لسماع خطبة قيلت على منبر البصرة، في وقت كان فيه الحسن يقينًا في غير البصرة. فلا بد أنه نقلها بواسطة من سمع. إنما تكفى المعاصرة في الأحاديث التي لم توقت بمكان وزمان خاص، إلا أن يقال: إن مثل هذه الخطبة لا بد أن تكون معروفة لدى أهل البصرة، وليس من اللازم أن يسمعها الحسن من ابن عباس، كما قالوا في طاوس عن معاذ: طاوس عالم بأمر(2/406)
معاذ وإن لم يلقه ولكن قد روي عن ابن عباس في هذه الخطبة: "صاع من طعام"، وانظر: السنن الكبرى والجوهر النقي: 4/167 -169 ونصب الراية: 2/418 - 419) وعنده: فقال علي: (أما إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا ؛ اجعلوه صاعًا من بر وغيره).
قال ابن القيم وكان شيخنا رحمه الله -يعنى ابن تيمية- يقوي هذا المذهب ويقول: هو قياس قول أحمد في الكفارات: أن الواجب فيها من البر نصف الواجب من غيره (زاد المعاد: 1/314).
ويتبين لنا من كل ما ذكرناه: أن الأحاديث الواردة بنصف الصاع من القمح ليست من الضعف بحيث ترد جملة، وخاصة إذا صح حديث الحسن عن ابن عباس، ولكنها ليست من الصحة والشهرة بين الصحابة بحيث يجزم بثبوتها كثبوت الصاع من التمر والشعير والأقط والزبيب.
ولو صحت هذه ما خفيت على مثل ابن عمر وأبي سعيد ومعاوية ومن سمع كلامه من الصحابة وتلامذتهم.
وصنيع معاوية ظاهر في أنه جعل نصف صاع القمح عدلاً لصاع التمر، فهو من باب المعادلة والقيمة، ولذا قال أبو سعيد: "تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها" (أخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيها من طريق ابن إسحاق كما في الفتح: 3/373، طبع السلفية، وانظر: المستدرك: 1/411، والمحلى: 6/130، ونصب الراية: 2/417 - 418) وكذلك فعل من الصحابة لما كثر القمح في زمنهم: رأوا أن نصف صاع منه يقوم مقام صاع من الشعير، كما قال ابن المنذر.(2/407)
فالذي يطمئن إليه القلب من الروايات: أن الصاع ثابت بالنص في الأطعمة الأربعة (التمر والشعير والزبيب والأقط) ولم يثبت عنه صاع من قمح، على التحقيق. كما لم تصل أحاديث نصف الصاع منه إلى درجة الصحة، وأما من جعل المقدار نصف صاع من القمح -كمعاوية ومن وافقه من الصحابة رضي الله عنهم- بدل صاع من شعير أو تمر، فقد فعل ذلك بالاجتهاد، بناء على أن قيم ما عدا القمح متساوية، وكان القمح إذ ذاك غالى الثمن. لكن يلزم على قولهم أن تعتبر القيمة في كل زمان وفي كل بلد، فيختلف الحال ولا ينضبط، وربما لزم في بعض الأحيان آصع (جمع صاع) من قمح (فتح الباري: 3/374 - طبع السلفية).
وفي زيارة لي إلى باكستان ذكر لي بعض العلماء هناك: أن قيمة القمح عندهم أدنى بكثير جدًا من قيمة التمر، فكيف يكون الواجب فيه نصف الواجب في التمر؟ وكذلك الزبيب فهو الآن في معظم البلدان أغلى من القمح ومن التمر أيضًا!
ولا يخلصنا من هذه الإشكالات إلا اعتبار الصاع هو الأساس.
ومما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم لحظوا ما قلناه من اعتبار القيمة ما ذكرناه عن الإمام علي حين رأى رخص الأسعار بالبصرة، حيث قال لهم: اجعلوه صاعًا من بر وغيره. فدل على أنه كان ينظر إلى القيمة في ذلك كما قال الحافظ (فتح الباري - المرجع السابق).
فعلى هذا، ينبغي أن يكون الأصل هو الصاع من غالب قوت البلد أو الشخص، كما سيأتي، وإذا أريد إخراج القمح وكان غاليًا. جاز إخراج نصف صاع منه إذا كانت قيمته تساوى صاعًا من القوت الغالب السائد. بناء على اجتهاد الصحابة في إخراج القمح بالقيمة.
وإخراج الصاع أحوط في الأحوال كلها، خروجًا من الخلاف واتباعًا للنص الثابت بيقين، الذي يخرج المسلم مما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن أوسع الله عليه فليوسع. كما قال علي رضي الله عنه.
هل تجوز الزيادة على الصاع؟(2/408)
من الغريب أنى وجدت في بعض كتب المالكية: "أنه يندب للمزكي ألا يزيد على الصاع، بل تكره الزيادة عليه ؛ لأنه تحديد من الشارع، فالزيادة عليه بدعة مكروهة، كالزيادة في التسبيح على ثلاث وثلاثين، وهذا إذا تحققت الزيادة، وأما مع الشك فلا" (انظر الشرح الكبير للدردير: 1/508).
والذي أراه أن هذا التنظير أو التشبيه غير مسلم ؛ فإن الزكاة ليست من الشئون التعبدية المحض كالصلاة وما يتعلق بها من الذكر والتسبيح. فالزيادة فيها على الواجب لا حرج فيه، بل هو أمر حسن، كما قال القرآن الكريم: (فمن تطوع خيرًا فهو خير له) (البقرة: 184) وذلك في فدية الصيام وهي طعام مسكين.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي بن كعب، أن رجلاً وجبت عليه في ماله بنت مخاض، فلم يرض أن يعطيها المصدق ؛ لأنها لا لبن فيها ولا تصلح للحمل والركوب، وأبى إلا أن يعطي ناقة كوماء، ولما رفض أبي أن يقبلها منه ؛ لأنها فوق الواجب عليه، احتكما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: (ذاك الذي عليك. فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك) ثم أمر بقبضها منه، ودعا له في ماله بالبركة (رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وسيأتي بنصه وتمامه في الباب التاسع - الفصل السادس).
وهذا نص في قبول ما زاد عن الواجب، وفيه وعد بزيادة الأجر، لا بالكراهة، وقد قال علي رضي الله عنه: أما إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا.
على أنه لو صحت بدعية التطوع بالزيادة لكانت محرمة لا مكروهة فقط، فكل بدعة ضلالة.
نعم يمكن أن يقال ذلك فيمن يزيد على الصاع من باب الغلو والتنطع، لا من باب السخاء والتطوع، وفي الصحيح: (هلك المتنطعون) (رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود).
مقدار الصاع
وقد حققنا فيما تقدم أن الصاع يساوى سدس كيلة مصرية أي قدح وثلث مصري. كما في شرح الدردير وغيره، وهو يساوى بالوزن بالجرامات 2156 (وذلك حسب الوزن بالقمح).(2/409)
وإذا كان هذا هو وزن الصاع من القمح فقد قالوا: إن ما عداه من الأصناف أخف منه. فإذا أخرج منها مقدار ذلك وزنًا كانت أكثر من صاع.
فإن كان هناك صنف يقتات منه الناس وهو أثقل من القمح -كالأرز مثلاً- فالواجب الزيادة على الوزن المذكور بما يوازي الفرق.
ومن هنا رأى بعض العلماء الاعتماد على الكيل دون الوزن ؛ لأن في الحبوب الخفيف والثقيل.
قال الإمام النووي في الروضة: قد يستشكل ضبط الصاع بالأرطال، فإن الصاع المخرج به في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكيال معروف، ويختلف قدره وزنًا باختلاف جنس ما يخرج، كالذرة والحمص وغيرهما، وفيه كلام طويل، فمن أراد تحقيقه راجعه في "شرح المهذب "، ومختصره: أن الصواب ما قاله الإمام أبو الفرج الدارمي من أصحابنا: أن الاعتماد في ذلك على الكيل، دون الوزن، وأن الواجب أن يخرج بصاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك الصاع موجود، ومن لم يجده وجب عليه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه، وعلى هذا فالتقدير بخمسة أرطال وثلث تقريبًا (كذا، ولعل الصواب: تقريب أو تقريبي) وقال جماعة من العلماء: الصاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين، والله أعلم" أ هـ (الروضة: 2/301 - 302).
هذا ما قاله النووي ؛ وقد يشق اعتبار ما قاله في عصرنا الذي أصبح كل شيء فيه يقدر بالوزن تقريبًا.
وقال ابن حزم: وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يؤدى به الصدقات ليس بأكثر من رطل ونصف ولا دون رطل وربع، وقد قال بعضهم: هو رطل وثلث.
قال: وليس هذه اختلافًا، ولكنه على حسب رزانة المكيل من البر والتمر والشعير (المحلى: 5/245).
وذكر في المغني عن أحمد قال: صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث. قال أبو داود: وهو صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: والأولى لمن أخرج من طعام ثقيل الوزن أن يزيد شيئًا احتياطًا (المغني: 3/59).(2/410)
أما الحنفية فالصاع عندهم ثمانية أرطال، كما ذكرناه في زكاة الزرع، فهو يساوى صاعًا ونصفًا عند الجمهور. فنصفه يساوى ثلثي صاع غيرهم وقدره (أي النصف) بعض مشايخ الحنفية بقدح وسدس بالمصري، وبعضهم بقدح وثلث (رد المحتار: 2/83 - 84).
وبهذا يكون المقدار الواجب في القمح عند الفريقين واحدًا في النتيجة، رغم احتدام النزاع، ولكن يظهر الفرق شاسعًا في إخراج ما عدا القمح، حيث يخرج الحنفي ضعف غيره، على هذا التقدير.
ومن لم يكن عنده مكيال ولا ميزان. فليخرج أربعة أمداد، والمد -كما قالوا- ملء كفى الرجل المعتدل، وأربع حفنات على هذه الطريقة تساوى صاعًا، ومن تطوع خيرًا فهو خير له.
الأجناس التي يخرج منها
نصت الأحاديث الواردة في زكاة الفطر على أصناف معينة من الطعام، وهي التمر والشعير والزبيب والأقط -وهو اللبن المجفف الذي لم ينزع زبده- وزادت بعض الروايات: القمح، وبعضها: السلت أو الذرة. فهل هذه الأصناف تعبدية ومقصودة لذاتها، بحيث لا يجوز للمسلم العدول عنها إلى غيرها من أصناف الأطعمة والأقوات؟
أما المالكية والشافعية فقالوا: هذه الأصناف ليست تعبدية ولا مقصودة لذاتها، ولهذا كان الواجب على المسلم أن يخرج فطرته من غالب قوت البلد، وفي قول: من غالب قوت الشخص نفسه.
وهل القوت المنظور له هو الأغلب في العام كله؟ أم الأغلب في رمضان خاصة؟ أم في يوم الإخراج؟ أم في يوم الوجوب؟
احتمالات ذكرها المالكية، ومال بعضهم إلى اعتبار يوم الإخراج، ولكن رجح آخرون اعتبار الأغلب في رمضان (حاشية الدسوقي: 1/505).
وعند الشافعية قال الغزالي في "الوسيط": المعتبر غالب قوت البلد وقت وجوب الفطرة لا في جميع السنة، وقال في الوجيز: غالب قوت البلد يوم الفطر (الروضة: 2/305).(2/411)
واشترط المالكية أن يكون غالب القوت من أصناف تسعة حددوها، وهي: الشعير والتمر والزبيب والقمح والذرة والسلت والأرز والدخن والأقط. فمتى وجدت التسعة أو بعضها وتساوت في الاقتيات خير في الإخراج من أيها شاء، ومع غلبة واحد منها تعين الإخراج منه، كما إذا انفرد، وإن وجدت أو بعضها واقتيت غيرها تعين الإخراج منها تخييرًا.
ولم أجد لهذه التشقيقات والتفريعات دليلاً يستند إليه، ولهذا قال بعض محققي المذهب: إنه متى اقتيت غير التسعة أخرج مما يقتات، ولو وجدت التسعة أو بعضها.
والمراد بالاقتيات: أن يصبح قوته وعيشه منه في زمن الرخاء والشدة معًا لا في زمن الشدة وحده.
ولهذا أجازوا إخراج اللحم واللبن ونحوه ما دام قوتًا، ويخرجه حينئذ بالوزن. أما الدقيق فاختلفوا فيه.
وعرض المالكية هنا لمسألة، وهي ما إذا اقتات الشخص ما هو أدنى وأدون من قوت البلد، وحاصل ما قالوا: أن من اقتات الأدون لعجز عن قوت البلد أجزأ اتفاقًا، وإن كان لبخل وشح لم يجز اتفاقًا، وإن كان لهضم نفس أو لعادته، كبدوي يأكل الشعير بحاضرة يقتات أهلها القمح، ففيه خلاف، والمعتمد هو الإجزاء (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/506 - 507).
وعند الشافعية: كل ما يجب فيه العشر من الحبوب والثمار -وهو ما يقتات في حالة الاختيار لا الضرورة-فهو صالح لإخراج الفطرة، وحكى قول قديم عن الشافعي: أنه لا يجزئ فيها الحمص والعدس، والمذهب المشهور هو الأول.
وترددوا في الأقط، وقال النووي: ينبغي أن يقطع بجوازه، لصحة الحديث فيه من غير معارض.
والأصح أن اللبن والجبن في معناه، ولكن قالوا: لا يجزئ الجبن المنزوع زبده، كما لا يجزئ الأقط المملح الذي أفسد كثرة الملح جوهره، ومثله أيضًا المسوس والمعيب من الحبوب.
ويجزئ الحب القديم وإن قلت قيمته إذا لم يتغير طعمه ولونه، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق ولا الخبز، كما لا يجزئ القيمة وقال بعضهم: يجزئ لأن المقصود إشباع المسكين في هذا اليوم.(2/412)
وفي الواجب من الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه، أصحها عند الجمهور: غالب قوت البلد، والثاني: قوت نفسه، والثالث: يتخير بين الأجناس.
قالوا: وإذا أوجبنا قوت نفسه أو البلد، فعدل إلى ما دونه، لم يجز، وإن عدل إلى أعلى منه جاز بالاتفاق.
وإذا اعتبرنا قوت نفسه وكان يليق به البر وهو يقتات الشعير بخلاً لزمه البر، ولو كان يليق به الشعير، فكان يتنعم ويقتات البر، فالأصح: أنه يجزئه الشعير، والقول الثاني: يتعين البر (الروضة للنووي: 2/303).
وإذا أوجبنا غالب قوت البلد وكانوا يقتاتون أجناسًا لا غالب فيها، أخرج ما شاء، والأفضل أن يخرج من الأعلى (المرجع السابق ص305).
وظاهر مذهب أحمد: أنه لا يجوز العدول عن الأصناف الخمسة المنصوص عليها مع قدرته عليها، سواء أكان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن المغني المرجع السابق: 3/62).
ويجوز عند أبي حنيفة وأحمد إخراج الدقيق والسويق ؛ لأنه مما يكال وينتفع به الفقير، وقد كفى مؤنة الطحن (نفس المرجع).
والذي يظهر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما حدد الأصناف المذكورة ؛ لأنه كانت هي الأقوات المتداولة في البيئة العربية عندئذ. فلو أن قومًا يعيشون على الأرز كما في اليابان مثلاً، كانت فطرتهم مما يتقوتون به، ولو كان قوم يعيشون على الأذرة، كما في الريف المصري لكان واجبهم هو الأذرة. فلهذا أرجح أن يخرج المرء فطرته من غالب قوت بلده أو من غالب قوته إذا كان أفضل من قوت البلد.
وعند ابن حزم: لا يجزئ شيء غير التمر أو الشعير، لا زبيب ولا قمح ولا دقيق ولا أقط ولا غيرها، وأطال في الاحتجاج لذلك، ورد سائر الأحاديث المخالفة، وشنع على مخالفي رأيه كعادته (المحلى: 6/118 وما بعدها).
ومما استدل به ما رواه بمسنده عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر؟ يعنى: في صدقة الفطر: فقال له ابن عمر: إن أصحابي سلكوا طريقًا، فأنا أحب أن أسلكه (المرجع السابق ص 127).(2/413)
ويبالغ ابن حزم في الاستدلال بهذا الأثر، حتى ليكاد يجعله إجماعًا من الصحابة. برغم الآثار الكثيرة الوفيرة التي جاءت بخلافه، ويكفى أن أذكر هنا تعليق العلامة الشيخ أحمد شاكر على رأى ابن حزم هذا، في حاشية المحلى حيث قال: "من تأمل في طريق الأحاديث الواردة في زكاة الفطر، وفقه معناها مع اختلاف ألفاظها عن الصحابة رضي الله عنهم، علم أن ابن حزم لا حجة له في الاقتصار على إخراج التمر والشعير، وهذا معاوية بحضرة الصحابة رضي الله عنهم رأى مدين من سمراء الشام، بدل صاع من شعير أو غيره، ولم ينكر عليه ذلك أحد -أي إخراج القمح موضع الشعير- وإنما أنكر أبو سعيد المقدار، فرأى إخراج صاع من قمح، وابن عمر إنما كان يخرج في خاصة نفسه ما كان يخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر على من أخرج غير ذلك، ولو رأى عمل الناس باطلاً، وهم الصحابة والتابعون، لأنكره أشد إنكار، وقد كان رضي الله عنه يتشدد في أشياء، لا على سبيل التشريع، بل على سبيل الحرص على الاتباع فقط، كما كان ينزل في مواضع نزول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ير أحد من المسلمين ذلك واجبًا، والزكاة إنما جعلت لإغناء الفقير عن الطواف في يوم العيد، والأغنياء يتمتعون بمالهم وعيالهم ولينظر امرؤ لنفسه: هل يرى أنه يغني الفقير عن الطواف إذا أعطاه صاع تمر أو صاع شعير، في بلد مثل القاهرة، في مثل هذه الأيام؟! وماذا يفعل بهما الفقير إلا أن يطوف ليجد من يشتريهما ببخس من القيمة، ليبتاع لنفسه أو لأولاده ما يتقوتون به؟!" (هامش المحلى:6/131 - 132).
إخراج القيمة
أما إخراج القيمة فلم يجزه الأئمة الثلاثة في زكاة الفطر وفي سائر الزكوات. سئل أحمد عن عطاء الدراهم في صدقة الفطر فقال: أخاف ألا يجزئه ؛ خلاف سنة رسول لله.
وقيل له: قوم يقولون: عمر بن عبد العزيز كان يأخذ القيمة؟(2/414)
قال: يدعون قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقولون: قال فلان؟ قال ابن عمر:"فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"... الحديث، قال الله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) (النساء:59).
فهو يرى دفع القيمة مخالفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا قول مالك والشافعي (المغني:3/65).
وكذلك قال ابن حزم: لا تجزئ قيمة أصلاً، لأن ذلك غير ما فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقيمة في حقوق الناس لا تجوز إلا بتراضٍ منهما، وليس للزكاة مالك معين فيجوز رضاه أو إبراؤه (المحلى: 6/137).
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يجوز إخراج القيمة، وقد روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري (المغني:3/65 وفي المحلى: 6/10: "صح ذلك عن عمر بن عبد العزيز").
روى ابن أبي شيبة عن عون قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقرأ إلى عدى بالبصرة (وعدى هو الوالي): "يؤخذ من أهل الديوان من أعطياتهم من كل إنسان نصف درهم " (مصنف ابن أبي شيبة: 4/37 -38).
وعن الحسن قال: لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر (المرجع السابق).
وعن أبي إسحاق قال: أدركتهم وهم يؤدون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام.
وعن عطاء: أنه كان يعطي في صدقة الفطر ورقًا (دراهم فضية) (نفس المرجع).
( أ ) ومما يدل لهذا القول أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أغنوهم -يعنى المساكين- في هذا اليوم) والإغناء يتحقق بالقيمة، كما يتحقق بالطعام، وربما كانت القيمة أفضل، إذ كثرة الطعام عند الفقير تحوجه إلى بيعها، والقيمة تمكنه من شراء ما يلزمه من الأطعمة والملابس وسائر الحاجات.
( ب ) كما يدل على جواز القيمة ما ذكره ابن المنذر من قبل: أن الصحابة أجازوا إخراج نصف الصاع من القمح ؛ لأنهم رأوه معادلاً في القيمة للصاع من التمر أو الشعير، ولهذا قال معاوية: "إني لأرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعًا من التمر"(2/415)
(جـ) ثم إن هذا هو الأيسر بالنظر لعصرنا وخاصة في المناطق الصناعية التي لا يتعامل الناس فيها إلا بالنقود. كما أنه -في أكثر البلدان وفي غالب الأحيان- هو الأنفع للفقراء.
والذي يلوح لي: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما فرض زكاة الفطر من الأطعمة لسببين: الأول: لندرة النقود عند العرب في ذلك الحين، فكان إعطاء الطعام أيسر على الناس، والثاني: أن قيمة النقود تختلف وتتغير قوتها الشرائية من عصر إلى عصر، بخلاف الصاع من الطعام فإنه يشبع حاجة بشرية محددة، كما أن الطعام كان في ذلك العهد أيسر على المعطي، وأنفع للآخذ، والله أعلم بالصواب.
وقد فصلنا القول في موضوع "دفع القيمة" في الزكوات عامة في باب "طريقة أداء الزكاة" فليرجع إليه.
مسائل تتعلق بدفع القيمة
بقيت هنا بعض مسائل تتعلق بإخراج القيمة ذكرها علماء الحنفية:
الأولى: أن المراد بدفع القيمة قيمة الحنطة أو الشعير أو التمر، يؤدى قيمة أي الثلاث شاء عن أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: يؤدى قيمة الحنطة (الدر المختار وحاشيته "رد المحتار": 2/80).
والذي أختاره: أن يدفع قيمة صاع من غالب قوت البلد، من أوسط الأصناف، فإن كان من أجودها فهو أحسن.
الثانية: أنه لا يجوز أداء الأجناس المنصوص عليها بعضها عن بعض باعتبار القيمة. فكما لا يجوز إخراج الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة ؛ بأن يؤدى نصف صاع من حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط، لا يجوز إخراج تمر أو شعير عن الحنطة باعتبار القيمة، بأن، يؤدى نصف صاع تمر مثلاً تبلغ قيمته نصف صاع من حنطة، عن الحنطة، بل يقع عن نفسه، وعليه تكميل الباقي ؛ لأن القيمة إنما تعتبر في غير المنصوص عليه (ذكر ذلك في رد المحتار: 2/83 نقلاً عن البدائع).
الثالثة: اختلف الحنفية: أيهما أفضل: دفع القيمة أم إخراج المنصوص عليه؟(2/416)
فقال بعضهم: دفع الحنطة أفضل في الأحوال كلها، سواء أكانت أيام شدة أم لا ؛ لأن في هذا موافقة للسنة. وفصل آخرون فقالوا: إذا كان الزمن زمن شدة وأزمة في الأقوات، فدفع العين (الحنطة) أفضل وأما في أوقات السعة والرخاء، فدفع القيمة أفضل ؛ لأنها أعون على دفع حاجة الفقير (المرجع السابق).
ومن هذا يتضح لنا أن المدار في الأفضلية على مدى انتفاع الفقير بما يدفع له، فإن كان انتفاعه بالطعام أكثر كان دفعه أفضل، كما في حالة المجاعة والشدة، وإن كان انتفاعه بالنقود أكثر. كان دفعها أفضل.
وينبغي أن يوضع في الحساب انتفاع أسرة الفقير كلها لا نفعه وحده، فقد يأخذ بعض الفقراء ذوي العيال القيمة وينفقها على نفسه أو في أشياء كمالية، على حين أولاده يحتاجون إلى القوت الضروري. فدفع الطعام لهؤلاء أولى.
الفصل الرابع
وقت الوجوب والإخراج
متى يخرجها؟
متى تجب زكاة الفطر؟
متى تجب زكاة الفطر؟
اتفق المسلمون على أن زكاة الفطر تجب بالفطر من رمضان، لحديث ابن عمر المتقدم: (فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان) واختلفوا في تحديد وقت الوجوب، فقال الشافعي وأحمد وإسحاق والثوري -ومالك في رواية-: تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان ؛ لأنها وجبت طهرة للصائم، والصوم ينتهي بالغروب فتجب به الزكاة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث وأبو ثور ومالك -في إحدى روايتيه-: تجب بطلوع الفجر من يوم العيد ؛ لأنها قربة تتعلق بيوم العيد، فلم يتقدم وجوبها يوم العيد، كالأضحية يوم الأضحى (المغني: 3/67 - 68).
والأمر هين، وثمرة الخلاف تظهر في المولود الذي يولد بعد مغيب الشمس وقبل فجر العيد: هل تجب عليه أم لا تجب؟ وكذلك المكلف الذي يموت في هذا الوقت (بداية المجتهد: 1/273).
متى يخرجها؟(2/417)
روى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) يريد صلاة العيد، وعن عكرمة قال: يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته ؛ إن الله تعالى يقول: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) (الأعلى: 14 - 15).
وروى ابن خزيمة من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن هذه الآية فقال: (نزلت في زكاة الفطر) (نيل الأوطار: 4/195).
ولكن الحديث ضعيف الإسناد، لأن "كثيرًا" ضعيف جدًا عند أئمة الحديث (بل قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب، وقال ابن حبان: إنه منكر الحديث جدًا، يروى عن أبيه عن جده بنسخة موضوعة ؛ لا يحل ذكره في الكتب إلا على جهة التعجب إلا أن الترمذي يصحح له، وذكر الذهبي أن العلماء لا يعتمدون على تصحيح الترمذي لحديثه. انظر: ميزان الاعتدال: 3/406 - 407، وتهذيب التهذيب: 8/421 - 423، والتاريخ الكبير للبخاري: 4/1 ص 217، والجرح والتعديل 2/2 ص154، والمستدرك للحاكم: 1/128). كما يوهن من هذا الحديث: أن السورة مكية، وزكاة الفطر إنما شرعت بالمدينة بعد فرضية صيام رمضان وشرعية العيدين، وقد يتأول معنى: (نزلت في زكاة الفطر) أن الآية تدل على ذلك بالعبارة أو الإشارة، لا أن زكاة الفطر سبب لنزولها بالمعنى الاصطلاحي!
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد: (كنا نخرج في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر، صاعًا من طعام) وظاهره صحة الإخراج في اليوم كله، ولكن الشراح تأولوا بأول اليوم، وهو ما بين صلاة الصبح إلى صلاة العيد، كما في الفتح.
وحمل الشافعي التقييد بـ "قبل الصلاة" على الاستحباب، لقوله عليه الصلاة والسلام: (أغنوهم في هذا اليوم) و (اليوم) يصدق على جميع النهار (فتح الباري: 3/375).(2/418)
ويرى جمهور الفقهاء أن تأخيرها عن الصلاة مكروه ؛ لأن المقصود الأول منها إغناء الفقير عن السؤال والطلب في هذا اليوم، فمتى أخرها، فات جزء من اليوم دون أن يتحقق هذا الإغناء (المغني: 3/67).
ويرى ابن حزم أن وقتها ينتهي بابيضاض الشمس وحلول وقت صلاة العيد. فالتأخير عنه حرام.
قال: فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها، فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له، فهي دين له، وحق من حقوقهم، قد وجب إخراجها من ماله، وحرم عليه إمساكها في ماله، فوجب عليه أداؤها أبدًا، ويسقط بذلك حقهم، ويبقى حق الله في تضييعه الوقت، لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة (المحلى: 6/143).
ومال الشوكاني إلى أن إخراجها قبل الصلاة واجب ؛ لحديث ابن عباس: (فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
ومعنى أنها (صدقة من الصدقات): أي ليس لها الثواب الخاص لزكاة الفطر بوصفها قربة لها وقت معلوم.
وأما تأخيرها عن يوم العيد، فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتفاق ؛ لأنها زكاة واجبة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم، كما في إخراج الصلاة عن وقتها (نيل الأوطار: 4/195).
وقال في "المغني": فإن أخرها عن يوم العيد أثم ولزمه القضاء (وكذا قال الدردير في الشرح الكبير (1/508): ولا تسقط الفطرة بمعنى زمنها لترتبها في الذمة) وحكى عن ابن سيرين والنخعي الرخصة في تأخيرها عن يوم العيد، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، واتباع السنة أولى (المغني: 3/67).
وأما تقديمها وتعجيلها، فمنع منه ابن حزم ولم يسامح في أدائها قبل طلوع فجر يوم الفطر بيوم ولا أقل، وقال: لا يجوز تقديمها قبل وقتها أصلاً (المحلى: 6/143، ومذهب ابن حزم هنا هو مذهب الإمامية أيضًا، كما في فقه الإمام جعفر (2/106) حيث لم يجز تقديمها قبل هلال شوال). بناء على رأيه في عدم جواز تعجيل الزكاة مطلقًا، وهو مخالف لما صح عن الصحابة في تعجيلها.(2/419)
فروى البخاري عن ابن عمر قال:(كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين) والضمير في (كانوا) يرجع إلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين بهم يقتدى فيهتدى، وإلى هذا ذهب أحمد وقال: لا يجوز أكثر من ذلك يعني يومًا أو يومين.
وهو المعتمد عند المالكية أيضًا، وأجاز بعضهم التقديم إلى ثلاثة أيام (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/508)، وقال بعض الحنابلة: يجوز تعجيلها من بعد نصف الشهر.
وقال الشافعي: يجوز من أول شهر رمضان ؛ لأن سبب الصدقة الصوم والفطر عنه، فإذا وجد أحد السببين جاز تعجيلها كزكاة المال بعد ملك النصاب (المغني: 3/68 - 69).
وقال أبو حنيفة: يجوز تعجيلها من أول الحول ؛ لأنها زكاة، فأشبهت زكاة المال.
وعند الزيدية: يجوز تعجيلها ولو إلى عامين كزكاة المال (البحر 2/196).
وقول مالك وأحمد أحوط وأقرب إلى تحقيق المقصود، وهو إغناؤهم في يوم العيد بالذات.
والقول بجواز إخراجها من بعد نصف الشهر أيسر على الناس، وخاصة إذا كانت الدولة هي التي تتولى جمع زكاة الفطر. فقد تحتاج إلى زمن لتنظيم جبايتها وتوزيعها على المستحقين. بحيث تشرق شمس العيد وقد وصل إليهم حقهم، فشعروا بفرحة العيد وبهجته كما يشعر سائر الناس.
ومثل ذلك إذا تولت زكاة الفطر مؤسسة أو جمعية إسلامية.
الفصل الخامس
لمن تُصرف زكاة الفطر؟
فهرس
من لا تُصرف له زكاة الفطر
فقراء البلد أولى
الصرف لفقراء المسلمين بالإجماع
الخلاف في فقراء أهل الذمة
هل تُفرَّق على الأصناف الثمانية؟
الصرف لفقراء المسلمين بالإجماع
قال ابن رشد: أما لمن تصرف؟. فأجمعوا على أنها تصرف لفقراء المسلمين لقوله -صلى الله عليه وسلم- : "أغنوهم"... الحديث.
الخلاف في فقراء أهل الذمة
قال: واختلفوا: هل تجوز لفقراء أهل الذمة؟.
والجمهور على أنها لا تجوز لهم.
وقال أبو حنيفة: تجوز لهم.(2/420)
وسبب اختلافهم: هل سبب جوازها هو الفقر فقط؟ أو الفقر والإسلام معًا؟ فمن قال: الفقر والإسلام لم يجزها للذميين، ومن قال: الفقر فقط أجازها لهم، واشترط قوم في أهل الذمة الذين تجوز لهم أن يكونوا رهبانًا (بداية المجتهد: 1/73).
روى ابن أبي شيبة عن أبي ميسرة: أنه كان يعطي الرهبان صدقة الفطر (المصنف: 4/39)، وعن عمرو بن ميمون، وعمرو بن شرحبيل، ومرة الهمداني: أنهم كانوا يعطون منها الرهبان (المغني: 3/78).
وهي لفتة إنسانية كريمة تنبئ عن روح الإسلام السمح، الذي لا ينهي عن البر بمخالفيه الذين لم يقاتلوا أهله ويعادوهم، فلا غرو أن تشمل مسرة العيد كل من يعيش في كنف المسلمين، ولو كانوا من الكفار في نظره. على أن هذا إنما يكون بعد أن يستغني فقراء المسلمين أولاً.
وقد فصلنا القول في ذلك في باب مصارف الزكاة.
هل تُفرَّق على الأصناف الثمانية؟
وهل يقتصر صرفها على الفقراء والمساكين أم تعمم على الأصناف الثمانية؟ المشهور من مذهب الشافعي: أنه يجب صرف الفطرة إلى الأصناف الذين تُصرف إليهم زكاة المال، وهم المذكورن في آية: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ) (التوبة: 60)، وتلزم قسمتها بينهم بالسوية (المجموع: 6/144)، وهو مذهب ابن حزم، فإذا فرقها المزكي بنفسه سقط سهم العاملين لعدم وجودهم، والمؤلفة لأن أمرهم إلى الإمام لا إلى غيره (المحلي: 6/143-145).
وردَّ ابن القيم على هذا الرأي فقال: "وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تخصيص المساكين بهذه الصدقة، ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم بل أحد القولين عندنا: أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة.
وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية (زاد المعاد: 1/315).(2/421)
وعند المالكية: إنما تُصرف للفقراء والمساكين، ولا تُصرف لعامل عليها ولا لمؤلف قلبه، ولا في الرقاب، ولا لغارم ولا لمجاهد ولا لابن سبيل يتوصل بها لبلده، بل لا تعطى إلا بوصف الفقر، وإذا لم يوجد في بلدها فقراء نقلت لأقرب بلد فيها ذلك بأجرة من المزكي لا منها، لئلا ينقص الصاع (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/508-509).
فتبين بهذا أن هنا ثلاثة أقوال:
1- قول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية -أو مَن وجد منهم- بالسوية، وهو المشهور عند الشافعية.
2- وقول بجواز قسمتها على الأصناف، وجواز تخصيصها بالفقراء، وهو قول الجمهور؛ لأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى: (إنما الصدقاتً للفُقَراءِ والمسَاكِينِ) (التوبة: 60).... الآية.
3- وقول بوجوب تخصيصها بالفقراء، وهو مذهب المالكية -كما ذكرنا- وأحد القولين عند أحمد، ورجحه ابن القيم، وشيخه ابن تيمية.
وإلى هذا القول ذهب الهادي والقاسم وأبو طالب: أن الفطرة تُصرف في الفقراء والمساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة الثمانية، لما جاء في الأحاديث أنها: (طعمة للمساكين)، ولحديث: (أغنوهم في هذا اليوم) (نيل الأوطار: 4/195).
ومع وجاهة هذا القول، وتمشيه مع طبيعة زكاة الفطر، وهدفها الأساسي فأرى ألا نسد الباب بالكلية ونمنع جواز استخدامها في المصارف الأخرى عند الحاجة.
والأحاديث التي ذكروها تدل على أن المقصود الأهم منها إغناء الفقراء بها في ذلك اليوم خاصة، فيجب تقديمهم علي غيرهم إن وجدوا، وهذا لا يمنع أن تُصرف في المصارف الأخرى حسب الحاجة والمصلحة، كما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في زكاة الأموال: أنها: (تُؤخذ من أغنيائهم فتُرد على فقرائهم)، ولم يمنع ذلك أن تُصرف في الجهات الأخرى التي أرشدت إليها الآية الكريمة.
وبهذا يتضح: أن القول الذي نختاره، هو تقديم الفقراء على غيرهم إلا لحاجة ومصلحة إسلامية معتبرة.(2/422)
والقول الصحيح الذي عليه أكثر الفقهاء أن للشخص الواحد أن يدفع فطرته إلى مسكين أو عدة مساكين، كما أن للجماعة أن يدفعوا فطرتهم إلى مسكين واحد؛ إذ لم يفصل الدليل (البحر الزخار: 2/197).
وكره بعضهم دفع الواحد إلى عدد؛ لأنه لا يتحقق به الإغناء المأمور به في الحديث، ومثل ذلك دفع جماعة كثيرة فطرتهم إلى واحد يؤثرونه بها، مع وجود غيره ممن هو مثله في الحاجة أو أحوج منه، دون مسوغ يقتضي هذا الإيثار (انظر: الدر المختار وحاشيته: 2/85، والشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/508).
من لا تُصرف له زكاة الفطر
وما دامت صدقة الفطر زكاة، فلا يجوز دفعها إلى كل من لا يجوز دفع زكاة المال إليه، من كافر معاد للإسلام، أو مرتد، أو فاسق يتحدى المسلمين بفسقه، أو غني بماله أو كسبه، أو متبطل قادر على الكسب ولا يعمل، أو والد، أو ولد، أو زوجة؛ لأن المسلم حين يدفعها إلى هؤلاء كأنما يدفعها إلى نفسه، وقد فصلنا ذلك في باب "مصارف الزكاة".
فقراء البلد أولى
وما قلناه في نقل زكاة المال نقوله هنا، وهو: أن الأصل أن توزع الفطرة في البلد الذي وجبت فيه، وهو البلد الذي فيه المزكي، للاعتبارات التي ذكرناها هناك، ولأن زكاة الفطر خاصة بمثابة إسعاف سريع في مناسبة خاصة، هي مناسبة العيد، فأولى الناس به الجيران وأهل البلد.
إلا إن عدم الفقراء فيه، فتنقل إلى ما قرب منه كما ذكرنا عن المالكية، وقال في البحر: تُكره في غير فقراء البلد إلا لغرض أفضل (البحر الزخار: 2/203).
الباب الثامن
أفي المال حق سوى الزكاة؟
فهرس
رأي القائلين بأن في المال حقًا سوى الزكاة
تحرير وترجيح
تمهيد
رأي من نفى أن في المال حقًا سوى الزكاة
كثيرًا ما يشتهر في بعض القضايا رأي من الآراء، حتى يخيل إلى بعض الناس أنه الرأي الفذ، ولا رأي غيره، مع ضعف حجته، ووهن منطقه.(2/423)
ومن ذلك ما شاع لدى المتأخرين من أهل الفقه: أن لا حق في المال سوى الزكاة، وأصبح هذا كالقضية المسلمة عند كثير من المشتغلين بالعلم الديني، وسنعرض في هذا الباب لهذه القضية على ضوء النصوص الثابتة، والقواعد الشرعية المحكمة، مبينين ما نراه الحق في هذا الموضوع.
وسيشتمل هذا الباب على فصول ثلاثة:
الأول: في بيان رأي من نفى أن في المال حقًا سوى الزكاة.
والثاني: في رأي القائلين بأن في المال حقًا سوى الزكاة.
والثالث: في تحرير موضع النزاع بين الفريقين، وترجيح الراجح.
الفصل الأول
رأي من نفى أن في المال حقًا سوى الزكاة
فهرس
موقفهم من النصوص المعارضة
تمهيد
الأحاديث التي احتج بها النافون
ذهب كثير من الفقهاء (نسبه في البحر (2/138) إلى الأكثر). إلى أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاته فقد طهر ماله، وبرئت ذمته، ولا يطالب بعدها بشيء آخر، إلا ما تطوع به، رغبة في مثوبة الله وابتغاء زيادة الأجر، وهذا المذهب هو الذي اشتهر عند المتأخرين حتى لا يكاد يُعرف غيره.
الأحاديث التي احتج بها النافون
1- استند أصحاب هذا الحديث إلى الحديث الذي رواه الشيخان وغيرهما عن طلحة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل نجد، ثائر الرأس، يُسمع دوي صوته، ولا يُفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : وصيام رمضان. قال: هل عليَّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وذكر الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها قال: لا، إلا أن تطوع) فأدبر وهو يقول: لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أفلح إن صدق)، أو: (دخل الجنة إن صدق) (رواه الستة إلا الترمذي، كما في جمع الفوائد: 1/11).(2/424)
2- ومثله ما روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن أعرابيًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلتُ الجنة، فقال: (تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان). قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا، فلما ولى، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (مَن سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) (رواه الترمذي في كتاب الزكاة: 3/97-98، الترمذي مع شرح ابن العري وقال: حسن غريب).
ففي الحديث الأول أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرجل: أن لا شيء عليه غير الزكاة، إلا أن يتطوع، وهو دليل ظاهر.
وفي الحديثين أعلن الرجلان السائلان: أنهما لا يزيدان على الزكاة المفروضة شيئًا، ورضى الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهما ذلك، بل أخبر أنهما من أهل الجنة، ولو كان في المال حق سوى الزكاة ما استحقا الجنة مع تركه.
3- واستندوا إلى ما رواه الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أديتَ زكاة مالك فقد قضيتَ ما عليك) (رواه الحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي: 1/390، ولكن قال ابن حجر في التلخيص ص177: إسناده ضعيف)، ومن قضى ما عليه في ماله لم يكن عليه حق فيه، ولا يُطالب بإخراج شيء آخر على سبيل الوجوب.
4- ومثله ما أخرجه الحاكم عن جابر مرفوعًا: (إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره) (رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم: 1/390 وقال: صحيح على شرط مسلم وافقه الذهبي وقال الحافظ في الفتح (3/175): رجح أبو زرعة والبيهقي وغيرهما وقفه كما عند البزار. أهـ.
وشر المال في الدنيا: تلفه ومحق البركة منه، وفي الآخرة شره العذاب المعد لمن ضيع حقوق الله فيه).
وإنما يذهب عن الإنسان شر المال في الدنيا والآخرة إذا أديت منه الحقوق كلها.(2/425)
5- وكذلك ما رواه الحاكم عن أم سلمة: أنها كانت تلبس أوضاحًا من ذهب، فسألت عن ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أكنز هو؟ فقال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز) (قال الحاكم (1/290): صحيح على شرط البخاري، وافقه الذهبي، وفي إسناده كلام وقد تحدثنا عنه في زكاة الحلي من الباب الثالث ص325-327 فليرجع إليه).
وفي بعض رواياته: (ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز) (أخرجه أبو داود).
وفيه دلالة على أن الوعيد الذي جاء في حق الكانزين لأموالهم لا يلحق من أدى زكاته، ولو كان في المال حق واجب آخر، ما سلم من الوعيد.
وزاد بعض أصحاب هذا الرأي على ذلك كله، فرووا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثًا صريحًا يقول: (ليس في المال حق سوى الزكاة) (يعزى هذا الحديث إلى رواية ابن ماجه، ولكن قال النووي في المجموع عنه: إنه حديث ضعيف جدًا لا يعرف - 5/332 وقبله قال البيهقي في هذا الحديث: يرويه أصحابنا في التعاليق، ولست أحفظ فيه إسنادًا - السنن الكبرى: 4/84، واعترض الحافظ العراقي عليه برواية ابن ماجه له في سننه بهذا اللفظ، وذكر ابنه الحافظ أبو زرعة: أنه عند ابن ماجه يلفظ: "في المال حق سوى الزكاة" كما هو عند الترمذي، وفي بعض نسخ ابن ماجه: "ليس في المال حق سوى الزكاة" -طرح التثريب: 4/18- ومعنى هذا: أن "ليس" زيدت في الحديث عن طريق النساخ، وشاع الخطأ بعد، كما بين ذلك أيضًا العلامة الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في التعليق على الأثر -2530 من تفسير الطبري: 3/343-344- طبع المعارف، ومما استدل به على وقوع هذا الخطأ في ابن ماجه ما يلي:
1- رواية الطبري للأثر -2527 من نفس طريق يحيى بن آدم التي رواه منها ابن ماجه، ونصه: "إن في المال لحقًا سوى الزكاة".
2- نسب ابن كثير في تفسيره الحديث للترمذي وابن ماجه معًا، ولم يفرق بين روايتيهما، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث 11699؛ إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا.(2/426)
3- قول البيهقي، كما تقدم: لست أحفظ فيه إسنادًا، ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ لما قال ذلك إن شاء الله. أهـ.
ومثله قول النووي: لا يعرف، ولم يشر الشيخ شاكر إلى ما قاله أبو زرعة، فلعله لم يطلع عليه.
وهذا التحقيق أصوب وأولى من وصف الحديث بالاضطراب، لروايته من طريق واحدة بلفظين متنافيين، كما هو الشائع).
هذه هي جملة الأحاديث التي يؤخذ من ظاهرها أن لا حق في المال سوى الزكاة، والحديثان الأولان منها من أحاديث الصحيحين فلا مطعن في ثبوتهما، والحديث الثالث ضعف إسناده، والرابع رجح وقفه، والخامس في إسناده كلام.
أما الحديث القائل: (ليس في المال حق سوى الزكاة) فإنه حديث ضعيف جدًا ومردود بلا شك. بل خطأ وتحريف (انظر: التعليق السابق. فالمعول عليه حديثا الصحيحين).
موقفهم من النصوص المعارضة
وأما ما جاء في بعض النصوص من إثبات حقوق في المال غير الزكاة، فقد تأولوها بأنها مطلوبة على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب والإلزام كما في حق الضيف.
أو قالوا بأنها كانت حقوقًا واجبة قبل الزكاة، فلما فُرضت الزكاة نسخت كل حق كان قبلها، كالذي قالوا في قوله تعالى: (وآتُوْاْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام: 141).
أو تأولوه بأنه واجب في حالة الضرورة، كما قال بعضهم في "الماعون" كما أن بعضهم فسَّر الماعون بالزكاة، وهو مروي عن بعض الصحابة، فلا دلالة فيه على حق آخر بعد الزكاة.(2/427)
وأما الحديث الذي رواه الترمذي عن فاطمة بنت قيس مرفوعًا: (في المال حق سوى الزكاة) (الحديث قال فيه الترمذي: ليس إسناده بذاك، أبو ميمون الأعور يضعف، وأخرجه أيضًا الطبري - 3/176-177 في الأثرين -2527 و2530؛ وأيضًا الدارمي: 1/385، وابن ماجه ص1786، من طريق يحيى بن آدم، والبيهقي في السنن الكبرى: 4/84.) فقد ضعفه الترمذي؛ لأنه من طريق أبي حمزة ميمون الأعور القصاب (ترجمه ابن حجر في التهذيب والبخاري في التاريخ الكبير: 4/1 ص343، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: 4/1 ص235-236 )، وهو ضعيف جدًا عند أهل الحديث، فلا يعول على ما رواه.
الفصل الثاني
رأي القائلين بأن في المال حقًا سوى الزكاة
فهرس
ابن حزم يدافع عن هذا المذهب
برهانه من القرآن
برهانه من الحديث
من الآثار
مناقشة ابن حزم للمخالفين
تمهيد
أدلة هؤلاء
الدليل الأول - آية البر
الدليل الثاني - حق الزرع عند الحصاد
الدليل الثالث - حقوق الأنعام والخيل
الدليل الرابع - حق الضيف
الدليل الخامس - حق الماعون
الدليل السادس - وجوب التكافل بين المسلمين
وذهب آخرون منذ عهد الصحابة والتابعين إلى أن في المال حقًا سوى الزكاة.
جاء ذلك عن عمر، وعليّ، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن عليّ، وفاطمة بنت قيس من الصحابة رضي الله عنهم.
وصح ذلك عن الشعبي ومجاهد وطاوس وعطاء وغيرهم من التابعين.
أدلة هؤلاء(2/428)
استدل هؤلاء -أولاً- بقوله تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ والكِتَابِ وَالنَّبِييَّنَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ، وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ، وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) (البقرة: 177).
وقد روى الترمذي وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم- تلا هذه الآية مستدلاً بها على الحكم المذكور، فعن فاطمة بنت قيس: سألتُ - النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الزكاة فقال: "إن في المال لحقًا سوى الزكاة"، ثم تلا هذه الآية التي في البقرة: (لَيْسَ الْبِرَّ أن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ) ... الآية.
فإذا كان في الحديث ضعف -كما قال الترمذي- فإن آية البر المذكورة تقوي عضده، وتشد أزره، وهي وحدها حُجَّة بالغة، فقد جعلت من أركان البر وعناصره إيتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .... إلخ.. ثم عطفت على ذلك إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والعطف -كما هو معلوم- يقتضي المغايرة، فدل على أن ذلك الإيتاء غير إيتاء الزكاة. قال القرطبي معقبًا على الحديث المذكور: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: (وَأقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) ... فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: (وَآتَى المَالَ عَلَى حَبِّهِ) .... ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا (وقال الطبري: فإن قال قائل: وهل من حق يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك.(2/429)
فقال بعضهم: فيه حقوق تجب سوى الزكاة. واعتلوا لقولهم ذلك بهذه الآية، وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى: "وَآتَى المَالَ عَلَى حَبِّهِ ذَوِي القُربى" ومن سمى الله معهم، ثم قال بعد: "وَأقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ" علمنا أن المال الذي وصف المؤمنين به أنهم يؤتونه ذوي القربى ومَن سمى معهم، غير الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها؛ لأن ذلك لو كان مالاً واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم.
قالوا: فلما كان غير جائز أن يقول تعالى ذكره، قولاً لا معنى له، علمنا أن حكم المال الأول غير الزكاة، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره.
قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة ... أ هـ.
ويبدو من كلام الإمام الطبري أنه ميال إلى قول الأولين.
انظر: تفسير الطبري: 3/348- طبع المعارف، وتفسير القرطبي: 1/42).
ولا يقال إن المراد بالإيتاء المذكور هو التطوع والصلة لا الوجوب، فإن الآية بصدد الرد على اليهود المتمسكين بالمظاهر والأشكال، وبيان البر الحق والدين الصدق، وهذا يقتضي بيان الأركان لا المكملات، والفرائض لا النوافل، والواجبات لا المستحبات، وكل ما ذكرته الآية في شرح حقيقة البر من هذا القبيل، فالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، كلها عناصر أساسية لا يتحقق بدونها بر العقيدة أو العبادة أو الأخلاق، فلماذا يكون إيتاء المال على حبه ذوي القربى.. إلخ. هو وحده النافلة والمندوب في الآية كلها؟؟.
وذكر أبو عبيد أن بعضهم كان يرى هذه الآية منسوخة، كما قال الضحاك: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن (الأموال ص357،358). وهي دعوى جريئة، لا يسندها دليل ولا شبه دليل، وكلام الله لا يُنسخ بالادعاء.(2/430)
ولو صح قول الضحاك لكان قوله في الآية: (وَآتى الزَّكَاةَ) ناسخًا لقوله فيها: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)، فيقرر جزء الآية حكمًا ينسخه الجزء الآخر، وهذا غير معقول.
على أن الآية إنما اشتملت على خبر وَوصف لأهل البر والتقوى، والأخبار لا تُنسخ؛ لأن نسخها يكون تكذيبًا لقائلها، وتعالى الله عن ذلك.
روى أبو عبيد عن ابن عباس في هذه الآية قال: نزلت بالمدينة حين نزلت الفرائض وحدَّت الحدود وأمروا بالعمل (المرجع نفسه ص358) فهي آية محكمة بلا ريب.
الدليل الثاني - حق الزرع عند الحصاد:
واستدلوا -ثانيًا- بقوله تعالى في سورة الأنعام بعد أن امتن الله على عباده بإنشاء الجنات والنخل والزرع والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إذَا أثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَلا تُسْرِفُواْ، إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) (الأنعام: 141)، وحُجتهم أن الحق المأمور به في الآية هو شيء غير الزكاة، وذلك بين من وجوه:
1- أن الآية مكية نزلت قبل فرض العُشر في المدينة، والدليل على مكيتها أن السورة نزلت جملة واحدة في مكة، كما جاءت بذلك أشهر الروايات. (وقد بينا ذلك من قبل) وادعاء أن هذه الآية وحدها مدنية تخصيص بلا دليل.
2- أن المطلوب فيها إيتاء حق الثمر يوم حصاده، وهذا لا يتأتى في زكاة العُشر؛ لأنه إنما يخرج بعد التصفية والتنقية ليعرف مقدار الحاصل ثم يخرج عُشره أو نصف عُشره.
3- قوله في الآية: (وَلا تُسْرِفُواْ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ)، ولا إسراف في الزكاة؛ لأنها محدودة بتقدير الشارع وليس لأحد أن ينقص منها أو يزيد فيها (راجع المحلي لابن حزم: 5/216،217).(2/431)
ومن قال إن الحق الذي أمرت الآية بإيتائه كان شيئًا واجبًا ثم نُسخ فقد ردوا عليه بأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال والادعاء. قال ابن حزم: من ادعى أنه نسخ لم يصدق إلا بنص يتصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلا فما يعجز أحد أن يدعي في أي آية شاء، وفي أي حديث شاء أنه منسوخ، ودعوى النسخ إسقاط لطاعة الله تعالى فيما أمر به من ذلك النص، وهذا لا يجوز إلا بنص مسند صحيح (المرجع السابق).
قال ابن حزم: فإن قيل: فما هذا الحق المفترض في الآية؟ قلنا: نعم هو حق غير الزكاة، وهو أن يعطي الحاصد حين الحصد ما طابت به نفسه ولا بد، لا حدّ في ذلك. هذا ظاهر الآية، وهو قول طائفة من السلف (نفس المرجع).
ولهذا جاء عن ابن عمر في تفسير هذا الحق: "كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة".
وقال عطاء: "يعطى من حضره يومئذ ما تيسر وليس بالزكاة".
وقال مجاهد: "إذا حضرت المساكين طرحت لهم منه" وقال أيضًا: "عند الزرع يعطي القبضة، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتتبعون آثار الصرام".
وقال إبراهيم النخغي: "يعطي مثل الضعث" (الحزمة) (نفس المرجع السابق).
وعن أبي العالية وسعيد بن جبير وعليّ بن الحسين والربيع بن أنس نحو قول هؤلاء (المرجع نفسه).
قال ابن كثير: وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون. كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة "ن" (راجع: ابن كثير في تفسير الآية: 2/181-182).
وقد مضى الخلاف في تحديد المراد بالحق في هذه الآية وترجيح نسخه بالزكاة، ومعنى النسخ في هذا -والذي يعنينا هنا- أن صحابيًا جليلاً كابن عمر وجماعة من فقهاء التابعين مثل عطاء ومجاهد والنخغي وغيرهم يأخذون من هذه الآية: أن في المال حقًا سوى الزكاة.
الدليل الثالث - حقوق الأنعام والخيل:(2/432)
واستدلوا -ثالثًا- بما جاءت به الأحاديث الصحاح من حقوق الإبل والخيل منها حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت، إذا هو لم يعط فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها، تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها. قال: ومن حقها أن تُحلب على الماء) (البخاري في كتاب الزكاة: باب إثم مانع الزكاة، راجع فتح الباري: 3/172-173)... الحديث.
والظاهر أن قوله: (ومن حقها أن تُحلب على الماء) يشمل الإبل والغنم معًا وقد جاء ذلك صريحًا بعد ذكر الإبل في رواية مسلم وأبي داود: (ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها..)... الحديث (مختصر سنن أبي داود للمنذري: 2/248).
وهذه الجملة ليست مدرجة من كلام أبي هريرة كما يتوهم، وإنما هي من حديث الرسول نفسه، كما يدل على ذلك رواية البخاري لهذه الجملة مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في "باب حلب الإبل على الماء" من كتاب "المساقاة فذكر بسنده عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من حق الإبل أن تُحلب على الماء) (صحيح البخاري بحاشية السندي: 2/34).
وروى النسائي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا وقف لها يوم القيامة بقاع قرقر (أرض مستوية ملساء) تطؤه ذات الأظلاف بأظلافها، وتنطحه ذات القرون بقرونها، وليس فيها يومئذ جماء (لا قرن لها) ولا مكسورة القرن. قلنا: يا رسول الله، وماذا حقها؟ قال: (إطراق فحلها، وإعارة دلوها، وحمل عليها في سبيل الله)... الحديث (سنن النسائي - مع شرح السيوطي وحاشية السندي: 5/27).
وروى نحو ذلك مسلم في صحيحه من حديث جابر أيضًا (انظر: طرح التثريب: 4/11-12).(2/433)
وعنه أيضًا قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ما حق الإبل؟ قال: (أن يُنحر سمينها ويُطرق فحلها ويحلبها يوم وردها) (قال في مجمع الزوائد -3/107: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني، وقد روى عنه ابن أبي حاتم ولم يضعفه أحد).
وعن الشريد قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن شيء من أمر الإبل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (انحر سمينها، واحمل على نجيبها، واحلبها يوم وردها) (رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن - المصدر السابق).
وكل هذه الروايات صريحة في رفع هذا الكلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يحتمل معها الإدراج، وفيه رد على الحافظ العراقي الذي رجح أنه من كلام أبي هريرة.
ومعنى (إطراق فحلها): إعارته للضراب لا يمنعه ممن طلبه، وإعارة دلوها لإخراج الماء من البئر لمن يحتاج إليه ولا دلو معه، والحمل عليها في سبيل الله إركاب من لا ركوبة معه من المجاهدين.
ووجه دلالة هذه الأحاديث على المراد: أنها رتبت الوعيد على منع الحقوق المذكورة، فدلت على أنها حقوق واجبة، وهي حقوق أخرى غير الزكاة.
ولهذا قال ابن حزم (المحلي: 6/50). "وفرض على كل ذي إبل وبقر وغنم أن حلبها يوم وردها على الماء، ويتصدق من لبنها بما طابت به نفسه".
واستدل ابن حزم بحديث أبي هريرة عند البخاري. ثم قال: "ومن قال: إنه لا حق في المال غير الزكاة فقد قال الباطل، ولا برهان على صحة قوله، لا من نص، ولا إجماع، وكل ما أوجبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأموال، فهو واجب.
"وأما إعارة الدلو وإطراق الفحل، فداخل تحت قول الله تعالى: (وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ) (الماعون: 7) أهـ.(2/434)
وكما صحت الأحاديث في حقوق الإبل والغنم صحت أيضًا في حقوق الخيل، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله) (أي للجهاد).... إلى أن قال: (ورجل ربطها تَغنيًا وتعففًا ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياء نواء (أي مناوأة) لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر) (رواه البخاري في كتاب "المساقاة" من صحيحه باب شرب الناس والدواب من الأنهار. انظر: البخاري مع حاشية السندي: 2/33).
الدليل الرابع - حق الضيف:
واستدلوا -رابعًا- بما صحت به الأحاديث من إيجاب حق الضيف على المضيف. فعن أبي شريح -خويلد بن عمرو رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة) (رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو دواد والترمذي وابن ماجه، كما في الترغيب: 3/241).
والأمر بإكرامه يدل على الوجوب بدليل تعليق الإيمان عليه، وبدليل جعل ما بعد الثلاثة الأيام صدقة.
يؤيد ذلك ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (إنَّ لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا، وإن لزورك عليك حقًا، وإن لزوجك عليك حقًا) (رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم وغيرهما. المصدر نفسه)، وزورك: أي زوارك وأضيافك.
ويؤكده حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه) (رواه أحمد ورواته ثقات والحاكم وقال: صحيح الإسناد، كما قال المنذري في الترغيب).(2/435)
بل روى المقدام بن معد يكرب الكندي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيما رجل أضاف قومًا فأصبح الضيف محرومًا، فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله) (رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد المصدر السابق)، وعنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليلة الضيف حق على كل مسلم فمَن أصبح بفنائه فهو عليه دين).... الحديث (رواه أبو داود وابن ماجه. انظر: الترغيب والترهيب: 3/241-242).
وروى ابن حزم من طريق مسلم عن عقبة بن عامر: قلنا: يا رسول الله، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا، فما ترى؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن نزلتم بقرى قوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم".
ومن طريق البخاري بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي بكر: أن أصحاب الصُفَّة كانوا ناسًا فقراء وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، ومن كان عنده طعام خمسة فليذهب بسادس). أو كما قال، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعشرة.
ومجموع هذه الأحاديث يدل دلالة واضحة على أن للضيف الطارق حقًا أكيدًا في مال أخيه المسلم الذي أضافه، حتى إن الجماعة ليجب عليها معاونته ونصره حتى يأخذ هذا الحق المؤكد، وواضح أن هذا الحق شيء غير الزكاة؛ لأن الزكاة إنما تجب في وقت خاص -عند الحول أو الحصاد- ونحو ذلك، والضيف يطرق في أية ساعة، ولهذا قال ابن حزم: الضيافة فرض على الحَضَري والبدوي والفقيه والجاهل، يوم وليلة مبرة وإتحاف، ثم ثلاثة أيام ضيافة، ولا مزيد، فإن زاد على ذلك فليس نراه لازمًا، وإن تمادى على قراه فحسن، فإن منع الضيافة الواجبة فله أخذها مغالبة، وكيف أمكنه، ويُقضى له بذلك (المحلي: 9/174).
قال الشوكاني: "وقد اختلف العلماء في حق الضيف: هل هو واجب أو مستحب؟.(2/436)
فالجمهور على أن الضيافة من مكارم الأخلاق، ومحاسن الدين، وليست واجبة، خلافًا لليث بن سعد، فإنه أوجبها ليلة واحدة.
وحجة الجمهور ما جاء في الحديث المتفق عليه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة)... الحديث.
فلفظ (جائزته) المذكور في الحديث يدل على الاستحباب فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب، وقلما يُستعمل هذا اللفظ في الواجب، ومعنى الحديث: الاهتمام بالضيف في أول يوم وليلة وإتحافه بما يستطيع من بر وإلطاف (انظر: نيل الأوطار: 8/132-163- طبع الحلبي).
كما استندوا أيضًا إلى الأحاديث القاضية بحرمة مال المسلم إلا بطيب نفسه، والأحاديث الدالة على أن ليس في المال حق سوى الزكاة.
أما الأحاديث الواردة في حق الضيف، فقد كان لهم منها مواقف:
قال الخطابي: "إنما كان يلزم ذلك في زمنه -صلى الله عليه وسلم- حيث لم يكن بيت مال، وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال، لا حق لهم في أموال المسلمين".
وحمله بعضهم على أن هذا كان في أول الإسلام، إذ كانت المواساة واجبة، فلما اتسع الإسلام نُسخِ ذلك (نيل الأوطار: 8/162).
قال الشوكاني: "والحق وجوب الضيافة لأمور:
الأول: إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك، وهذا لا يكون في غير واجب.
والثاني: التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع الإيمان بالله واليوم الآخر، ويفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الإيمان مأمور بها. ثم تعليق ذلك بالإكرام وهو أخص من الضيافة، فهو دال على لزومها بالأولى.
والثالث: قوله: (فما وراء ذلك فهو صدقة) فهو صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة، بل واجب شرعًا.
والرابع: قوله: (ليلة الضيف حق واجب) فهذا تصريح بالوجوب، لم يأت ما يدل على تأويله.(2/437)
والخامس: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإن نصره حق على كل مسلم) فإن ظاهر هذا وجوب النصرة، وذلك فرع وجوب الضيافة.
قال: "إذا تقرر هذا تقرر ضعف ما ذهب إليه الجمهور، وكانت أحاديث الضيافة مخصصة لأحاديث حرمة الأموال إلا بطيبة الأنفس، ولحديث: (ليس في المال حق سوى الزكاة).
"ومن التعسفات حمل أحاديث الضيافة على سد الرمق، فإن هذا مما لم يقم عليه دليل، ولا دعت إليه حاجة".
"وكذلك تخصيص الوجوب بأهل الوبر دون أهل المدن" أهـ (نيل الأوطار - المرجع السابق ص163).
الدليل الخامس - حق الماعون:
واستدلوا -خامسًا- بما جاء في القرآن الكريم من الوعيد بشأن الذين يمنعون الماعون. قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الَّذيِنَ هُمْ يُرَاءُونَ ويمنعون الماعون) (الماعون: 4 - 7)، وقد روى أبو داود في باب "حقوق المال" من كتاب الزكاة عن عبد الله بن مسعود قال: (كنا نعد الماعون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عارية الدلو والقدر) (الحديث سكت عليه أبو داود ثم المنذري -مختصر السنن: 2/247 وأخرجه البيهقي أيضًا: 4/183).
ومعنى هذا أن إعارة هذه الأشياء الصغيرة التي يحتاج إليها الجيران بعضهم من بعض واجبة؛ لأن ما نعهما مذموم مستحق للويل، كالساهي عن الصلاة المرائي ولا يستحق المكلف الويل إلا على ترك واجب.
وإذا ثبت أن إعارة هذه الأشياء واجبة وهي غير الزكاة قطعًا، فقد ثبت أن في المال حقًا سوى الزكاة.
وروى ابن حزم بسنده عن ابن مسعود أيضًا: الماعون ما تعاوره الناس بينهم: الفأس، والقدر، واشباهه (ذكره ابن حزم في المحلي -9/168 من طريق ابن أبي شيبة)، وعن ابن عباس في تفسير الماعون المذكور في الآية: أنه متاع البيت، وروى عنه: العارية (المرجع السابق، والبيهقي: 4/183-184)، ومثله عن عليّ ابن أبي طالب (المحلي: المرجع المذكور)، وعن أم عطية: هي المهنة يتعاطاها الناس بينهم (المرجع السابق).(2/438)
وعن ابن عمر: هو المال يُمنع حقه قال ابن حزم: "وهو موافق لما ذكرناه وهو قول عكرمة وإبراهيم وغيرهما، وما نعلم عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- خلافًا لهذا" (نفس المرجع).
وكل هؤلاء -كما قال ابن حزم- حجة في اللغة، وقد اتفقت أقوالهم على تفسير الماعون بما ذكرناه.
قال ابن حزم: "فإن قيل: قد روى عن عليّ -رضي الله عنه-: أنها الزكاة قلنا: نعم ولم يقل: ليس العارية. ثم قد جاء عنه: أنها العارية، فوجب جمع قوليه" أهـ (المرجع نفسه).
على أن حديث ابن مسعود عند أبي داود، له حكم المرفوع عند المحدثين؛ لنسبته تفسير الماعون إلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كانوا مخطئين لصحح الوحي خطأهم في فهم كتاب الله.
الدليل السادس - وجوب التكافل بين المسلمين:
واستدلوا -سادسًا- بالنصوص الجمة، التي أوجبت التعاون والتكافل والتراحم بين المسلمين، وفرضت إطعام المسكين والحض عليه، وجعلت ذلك من ثمرات الأخوة، ومقتضيات الإيمان والإسلام.
من ذلك قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثْم والعدْوان) (المائدة: 2)، وقال تعالى في وصف المؤمنين: (رُحماءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، وبين العقبة التي على كل إنسان أن يجتازها لينال مثوبة الله، ويكون من أصحاب الميمنة، فقال: (فَلا اقْتَحَمَ العقَبَة ومَا أدْرَاكَ ما العَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَان مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَواصوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصواْ بِالْمَرْحَمَةِ أوْلئِكَ أصْحَابُ المَيْمَنَةِ) (البلد: 11-18).
وقال تعالى: (وَآتِ ذَ القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (الإسراء: 26).(2/439)
وقال سبحانه: (وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلّكَتْ أيْمَانُكُمْ) (النساء: 36).
وقد ذكرنا من قبل الآيات الكثيرة التي جعلت إطعام المسكين والحض على إطعامه من علائم الإيمان، وتركه من لوازم الكفر والتكذيب بالآخرة، من مثل قوله تعالى: (أرَأيْتَ الَّذي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلكَ الَّذِي يَدُعّ اليَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ) (الماعون: 1-3)، وقال في أسباب دخول المجرمين في سقر: (قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلَّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ) (المدثر: 43-44)، وفي شأن مَن أوتي كتابه بشماله فاستحق صليّ الجحيم والعذاب الأليم: (إنَّهُ كَان لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكينِ) (الحاقة: 33-34).
وصور الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأحاديثه حقيقة المجتمع الإسلامي ومبلغ تكافله وترابطه وتضامنه، فقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) (متفق عليه). فليس المجتمع المسلم لبنات منفصلة متفرقة -وبعبارة أخرى- ليس أبناء الإسلام أفرادًا متناثرين، كل منهم يعيش منفصلاً عن غيره. بل: (مَثَلُ المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمَثَل الجسد الواحد؛ إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) (متفق عليه).
وأي تضامن أقوى من تضامن أجزاء الجسد الواحد؟ إنها جميعًا يخدم بعضها بعضًا ويستفيد بعضها من بعض، ويألم سائرها لألم جزء واحد منها، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ليس بمؤمن مَن بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع) (رواه الطبراني والبيهقي وإسناده حسن).(2/440)
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنَّ الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا) (قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وقال: انفرد به ثابت بن محمد الزاهد. قال المنذري: وثابت ثقة صدوق روى عنه البخاري وغيره وبقية رواته لا بأس بهم، وروى موقوفًا على عليّ -رضي الله عنه- وهو أشبه.- الترغيب جـ1: الزكاة، وذكره ابن حزم في المحلي موقوفًا على عليّ -6/158 من طريق سعيد بن منصور).
ابن حزم يدافع عن هذا المذهب
ولا نجد أحدًا جادل عن هذا المذهب، وعضده بالأدلة الوفيرة، من القرآن والسُنَّة، وأقوال الصحابة والتابعين، أبلغ وأنصع من الفقيه الظاهري أبي محمد ابن حزم، فقد قال في كتابه المحلي (المحلي: 6/156-159 وقد اكتفينا بالأخبار من غير أسانيدها التي ذكرها اختصارًا).
"وفرضٌ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، إن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة".
برهانه من القرآن:
"برهان ذلك: قول الله تعالى: (وآتِ ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) (الإسراء: 26)، وقوله تعالى: (وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمسَاكين والجار ذي القربى والجار الجنُبِ والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) (النساء: 36).
"فأوجب تعالى حق المساكين وابن السبيل مع حق ذي القربى، وافترض الإحسان إلى الأبوين وذي القربى والمساكين والجار وما ملكت اليمين، والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا، ومنعه إساءة بلا شك.(2/441)
وقال تعالى: (مَا سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين ولم نك نطعم المسكين) (المدثر: 42-44). فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة.
برهانه من الحديث:
"وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من طرق كثيرة في غاية الصحة: أنه قال: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) (رواه أحمد والشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله، وأحمد والترمذي عن أبي سعيد، وضح هذا المعنى بألفاظ مختلفة وطرق كثيرة، وصلت إلى درجة التواتر، كما في التيسير للمناوي -2/447)، ومن كان على فضلة - زيادة عن حاجة - ورأى المسلم أخاه جائعًا عريانًا ضائعًا فلم يغثه، فما رحمه بلا شك.
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصدَّيق: أن أصحاب الصفة كانوا أناسًا فقراء، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس... أو سادس) (رواه أحمد في: 1/197-199، ورواه البخاري في كتابي المواقيت والمناقب من صحيحه).
وعن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) (رواه أحمد في مسنده: 2/91 و 4/204، والبخاري في المظالم والإكراه من صحيحه، ومسلم في البر، وأبو داود في الأدب، والترمذي في صفة القيامة عن ابن عمر)، ومن تركه يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه - يعني خذله.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) .. قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل) (رواه مسلم في النكاح واللقطة، وأبو داود في الزكاة، وأحمد في المسند: 2/34)، وهذا إجماع من الصحابة -رضي الله عنهم- يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في الخبر نقول.(2/442)
ومن طريق أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أطعموا الجائع، وفكوا العاني) (العاني: الأسير، والحديث رواه البخاري وفيه بعد "أطعموا الجائع": وعودوا المريض). قال: والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جدًا.
من الآثار:
"وقال عمر -رضي الله عنه-: (لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لأخذتُ فضول أموال الأغنياء فقسمتها على فقراء المهاجرين) (قال ابن حزم في إسناد هذا الأثر: هذا إسناد في غاية الصحة والجلالة).
وقال عليّ بن أبي طالب: (إنَّ الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحقٌ على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه).
وعن ابن عمر أنه قال: (في المال حق سوى الزكاة).
وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن عليّ وابن عمر: أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: (إن كنت تسأل في دم موجع، أو غُرم مفظع، أو فقر مدقع، فقد وجب حقك).
وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة -رضي الله عنهم-: أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة، فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء. فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة -رضي الله عنهم-، لا مخالف لهم منهم.
وصح عن الشعبي ومجاهد وطاوس وغيرهم، كلهم يقول: (في المال حق سوى الزكاة).
مناقشة ابن حزم للمخالفين
قال أبو محمد: "وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا إلا عن الضحاك بن مزاحم فإنه قال: نسخت الزكاة كل حق في المال، وما رواية الضحاك حجَّة، فكيف رأيه؟! (لم يضعف الضحاك أحد -فيما رأيت- إلا يحيى بن سعيد ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة والعجلي والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ في التقريب: صدوق كثير الإرسال. انظر: ميزان الاعتدال: 2/325-326، وتهذيب التهذيب: 4/453-454. على أن ضعف الرواية لا يوجب ضعف الراوي. كما ادعى ابن حزم. فالمحدثون يضعفون ابن أبي ليلى -مثلاً- مع أنه في الفقه إمام).(2/443)
"والعجب أن المحتج بهذا أول مخالف له.. فيرى في المال حقوقًا سوى الزكاة، منها: النفقات على الأبوين المحتاجين، وعلى الزوجة، وعلى الرقيق، وعلى الحيوان، والديون والأروش.. فظهر تناقضهم.
"ويقولون: من عطش فخاف الموت ففرضٌ عليه أن يأخذ الماء حيث وجده، وأن يقاتل عليه.
"فأي فرق بين ما أباحوا له من القتال على ما يدفع به عن نفسه الموت من العطش وبين ما منعوه منه من القتال عن نفسه فيما يدفع به عنها الموت من الجوع والعرى، وهذا خلاف للإجماع والقرآن وللسنن وللقياس.(2/444)
قال أبو محمد: ولا يحل لمسلم اضطر، أن يأكل ميتة أو لحم خنزير وهو يجد طعامًا فيه فضل عن صاحبه لمسلم أو لذمي؛ لأن فرضًا على صاحب الطعام إطعام الجائع، فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا إلى لحم الخنزير، وبالله تعالى التوفيق، وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قُتل فعلى قاتله القود (القصاص) وإن قَتَل المانع فإلى لعنة الله؛ لأنه منع حقًا، وهو طائفة باغية. قال تعالى: (فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْرِ اللَّه) (الحجرات:9)، ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق، وبهذا قاتل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مانع الزكاة" أهـ (المحلي لابن حزم: 6/159 وقد علق الشيخ أحمد شاكر على رأي ابن حزم هذا بكلمة قيمة يحسن أن نسجلها هنا، ففيها عبرة وذكرى. قال: "من هذا ومن أمثاله في الشريعة الإسلامية، يرى المنصف، أن التشريع الإسلامي في الذروة العليا من الحكمة والعدل، وليت إخواننا الذين غرتهم القوانين الوضعية، وأشربتها نفوسهم يطلعون على هذه الدقائق ويتفقهونها، ليروا أن دينهم جاءهم بأعلى أنواع التشريع في الأرض، تشريع يشبع القلب والروح، ويطبق في كل زمان ومكان، إن هو إلا وحي يوحى، ولو فقه المسلمون أحكام دينهم، ورجعوا إلى استنباطها من المنبع الصافي والمورد العذب -الكتاب والسنَّة- وعملوا بما يأمرهم به ربهم في خاصة أنفسهم، وفي أمورهم العامة، وفي أحوال اجتماعهم - لو عملوا هذا، لكانوا سادة الأمم، وهل قامت وهل قامت الثورات الخربة الهادمة والفتن المهلكة، إلا من ظلم الغنى للفقير، ومن استئثاره بخير الدنيا، وبجواره أخوه يموت جوعًا وعريًا؟!، والمثل على ذلك كثيرة؛ ولو فقه الأغنياء، لعلموا أن أول ما يحفظ عليهم أموالهم، إسداء المعروف للفقراء، بل القيام نحوهم بما أوجبه الله على الأغنياء، فليفقهوا وليعلموا فقد جاءتهم النذر؛ هدانا الله جميعًا". إنها صيحة حق أطلقها(2/445)
الشيخ - كما أطلقها غيره منذ أربعين عامًا، ولم تجد آذانًا واعية، فكان ما كان).
الفصل الثالث
تحرير وترجيح
فهرس
تأويل الأحاديث التي احتج بها النافون
تحرير موضع النزاع بين الفريقين
مناقشة وترجيح
تحرير موضع النزاع بين الفريقين
والذي أراه بعد عرض أقوال الفريقين وأدلتهما أن شقة الخلاف بينهما ليست بالسعة التي نتخيلها، فإن بينهما مواضع اتفاق بلا شك فيها، ولا ينازع فيها أحد من الطرفين:
( أ ) فحق الوالدين في النفقة إذا احتاجا، وولدهما موسر، لا نزاع فيه.
( ب ) وحق القريب لا نزاع فيه كذلك من حيث المبدأ، وإنما اختلفوا في درجة القرابة الموجبة للنفقة ما بين موسع ومضيق.
(جـ) وحق المضطر إلى القوت، أو الكساء أو المأوي، في أن يغاث لا نزاع فيه. قال الجصاص في أحكام القرآن: "إن المفروض إخراجه هو الزكاة إلا أنه تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء، نحو الجائع المضطر والعاري المضطر، أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه" أهـ (أحكام القرآن للجصاص: 3/131).
ومثل ذلك المضطر إلى عارية الدلو والدر، والفأس ونحوها، مما يدخل تحت اسم "الماعون" فدفع الضرر عن المسلم فرض كفاية بالإجماع.
( د ) وحق جماعة المسلمين في دفع ما ينوبهم من النوازل العامة التي تنزل بهم كصد خطر العدو، واستنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار، ومقاومة الأوبئة والمجاعات ونحوها، فلا يخالف فقيه هنا في أن حق الجماعة مقدَّم على حق الفرد، وأن وجوب المساهمة في هذه النوازل موضع إجماع من علماء المسلمين.(2/446)
قال الرملي في شرح المنهاج: "ومن فروض الكفاية: دفع ضرر المسلمين، ككسوة عار، وإطعام جائع، إذا لم يندفع بزكاة وبيت مال، على القادرين، وهم: من عنده زيادة على كفاية سنة لهم ولممونهم، وهل المراد من دفع ضرر من ذكر: ما يسد الرمق أم الكفاية؟ قولان. أصحهما: ثانيهما. فيجب في الكسوة ما يستر كل البدن على حسب ما يليق بالحال من شتاء وصيف، ويلحق بالطعام والكسوة ما في معناهما كأجرة طبيب، وثمن دواء، وخادم منقطع. كما هو واضح" (نهاية المحتاج: 7/149).
وقد ذكرنا في سهم "سبيل الله" في مصارف الزكاة ما قاله النووي وغيره من الشافعية من وجوب إعانة الجنود النظاميين -من غير مال الزكاة- على الأغنياء إذا لم يكن في بيت المال ما يُعطَوْن منه.
وهذا القاضي أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي يقول في "أحكام القرآن": "وليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا وقع أداء الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء.
وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم.
وكذلك إذا منع الوالي الزكاة (أي منع توزيعها على المستحقين بعد أخذها) فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة نظر، أصحها عندي وجوب ذلك عليهم" أهـ (أحكام القرآن - القسم الأول - ص59-60).
وأكد ذلك القرطبي في تفسيره فقال: "واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة -بعد أداء الزكاة- يجب صرف المال إليها"، ونقل ذلك مالك رحمه الله: "يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم". ثم قال: "وهذا إجماع أيضًا، وهو يقوي ما اخترناه" (تفسير القرطبي: 2/223).
وقال الشاطبي من المالكية أيضًا في كتابه الفريد "الاعتصام": "إذا خلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى مال يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلاً- أن يوظف على الأغنياء (أي أن يرتب عليهم ضرائب) بما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال" (الاعتصام ص103).(2/447)
وهذه النصوص الواضحة من الفقهاء الذين صرحوا بأن لا حق في المال سوى الزكاة، تبين لنا أن النافين إنما قصدوا نفي المكوس الجائرة التي يفرضها بعض الحكام، توسعة على أنفسهم وأتباعهم، وتضييقًا على شعوبهم، وإن لم تدفع إلى ذلك حاجة، ولم تقتضه مصلحة عامة، وكأنما خشي هؤلاء العلماء أن يتخذ الحكام الظلمة قولهم ذريعة إلى فرض المكوس والضرائب المرهقة بغير حق، فسدّوا عليهم الباب، وقطعوا عليهم السبيل بقولهم: "لا حق في المال سوى الزكاة" (سيأتي مزيد إيضاح لذلك في الباب التاسع: الزكاة والضريبة - الفصل السابع).
ولكن هناك جملة مواضع اختلف فيها الفريقان اختلافًا حقيقيًا، منها:
( أ ) حق الزرع والثمر عند الحصاد.
( ب )وحقوق الماشي من الإبل والغنم والخيل.
(جـ) وحق الضيف.
( د ) وحق الماعون.
فهذه كلها في نظر أصحاب المذهب الثاني حقوق واجبة في المال، يأثم المسلم إن قصر في أدائها ويستحق عقوبة الله على ذلك.
وهي عند أصحاب المذهب الأول حقوق مندوبة ينال مثوبة الله إذا هو أداها، ولا يأثم بتركها، ما لم تكن هناك ضرورة إليها، فتجب، كما قال الجصاص في عارية الدلو والقدر والفأس ونحوها (أحكام القرآن للجصاص: 3/584). إن عارية هذه الآلات قد تكون واجبة في حال الضرورة إليها، ومانعها مذموم مستحق للذم، وقد يمنعها المانع لغير ضرورة، فينبئ ذلك عن لؤم، ومجانبة أخلاق المسلمين، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) أهـ (رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن سعد في الطبقات، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة، بإسناد صحيح، كما في التيسير: 1/362).(2/448)
(هـ) وأهم من كل ما ذكرناه من الحقوق الجزئية: حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، وهي حقوق توجب لهم في رأي أصحاب المذهب الثاني أن يقوم الأغنياء في بلدهم بكفايتهم من المأكل والمشرب والملبس والمسكن، وما لا بد للإنسان منه، ويجبرهم السلطان على ذك، إذا لم تقم بهم الزكوات ولا موارد الدولة الأخرى.
مناقشة وترجيح
ولا بد لنا من وقفة عند هذه الحقوق المتنازع عليها وبخاصة الأخير منها:
1- أما حق الزرع والثمر عند الحصاد فقد رجحنا في زكاة الزروع والثمار أن المراد به العُشر ونصف العُشر، كما هو قول طائفة من السلف، ولا يمنع من ذلك أن الآية مكية، فقد أمر الله تعالى بهذا الحق مجملاً في مكة ثم بينَّه على لسان رسوله بالمدينة، فهو من المجمل الذي فُصِّل وبُيِّن، وهذا معنى النسخ الذي روي عن بعض السلف.
2- وأما حق الضيف فالواضح من الأحاديث أن المراد به: الغريب الذي ينزل ببلد غير بلده، فكأنه مرادف لابن السبيل، ولهذا قال ابن عباس وجماعة من التابعين: ابن السبيل هو الضيف (انظر/ تفسير ابن كثير: 1/208 من تفسير آية: "لَيْسَ البِرَّ")، وقد صرحت الأحاديث أن من حقه أن يُقْرَى عند طروقه، ولا ريب أن هذا شيء غير الزكاة.
3- وأما حق الماعون فلولا أنه واجب ما استحق مانعه الوعيد بالويل الذي ذكره القرآن، والذين فسروا الماعون بالزكاة لم يمنعوا تفسيره بمتاع البيت وما يتعاوره الناس.(2/449)
4- وأما حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، وما أوجب الله من الإحسان بهم والوفاء بحاجاتهم من طعام وكساء وغيرهما، فإن الأمر فيها أبين وأوضح من أن يؤيد بآية أو آيتين، أو حديث أو حديثين، واهتمام العلماء بآية: (لَيْسَ البِرَّ) .، وبحديث: (في المال حق سوى الزكاة) ونحوه، إنما هو لما فيها من تقرير المبدأ وإثبات الشكل أولاً، وهو أن في المال حقًا سوى الزكاة. أما الموضوع نفسه، فالأدلة عليه أوضح من فلق الصبح، فإن طبيعة النظام الإسلامي -كما رسمته آيات القرآن مكية ومدنية، وأحاديث الرسول صحاحًا وحسانًا- تجعل التكافل في المجتمع فريضة لازمة، والتعاون والمواساة واجبًا لا بد من أدائه، فالقوي فيه يحمل الضعيف، والغني يأخذ بيد الفقير، والقريب يصل قرابته، والجار يحسن إلى جاره، ومن أضاع هذه التعاليم فليس من الإسلام ولا من رسوله في شيء، وبريء الله منه.
جاء رجل من بني تميم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أنا رجل ذو مال كثير، وأهل وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أصنع؟ قال: (تخرج زكاة مالك فإنها طهرة تطهرك، وتصل أقاربك، وتعرف حق السائل والجار والمسكين) (رواه أحمد عن أنس ورجاله رجال الصحيح -الترغيب والترهيب: 1/263- طبع المنيرية) وأخرجه أبو عبيد وابن المنذر -الدر المنثور: 1/49). فجعل للسائل والجار والمسكين حقًا بعد الزكاة، كما عطف صلة الأقارب على الزكاة، وهذا موافق لما جاء في القرآن الكريم: (وَآت ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) (الإسراء:26)، وموافق لما جاء في الحديث الآخر: (للسائل حق وإن جاء على فرس) (رواه أحمد في مسند الحسين بن عليّ وأبو داود في كتاب الزكاة -باب حق السائل- وقال الحافظ العراقي: إسناده جيد ورجاله ثقات كما في "اللآلئ للسيوطي": 2/140 وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه في المسند برقم (1730): الجزء الثالث ص173).(2/450)
وقال -صلى الله عليه وسلم- : (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) (رواه الشيخان والترمذي عن جرير بن عبد الله، وقد تقدم)، وقال: (لن تؤمنوا حتى تراحموا) قالوا: رحيم -يا رسول الله- كلنا، قال: (إنها ليست برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة) (رواه الطبراني عن أبي موسى ورواه رواة الصحيح كما قال المنذري في الجزء الثالث من الترغيب - كتاب القضاء وغيره). إلى غير ذلك من الأحاديث.
وأدنى ما يتحقق به هذا التراحم والتعاون والتكافل والإحسان -الذي أمرت به الآيات والأحاديث- ألا يحرم فرد في هذا المجتمع من مستوى معيشي ملائم يجد فيه الحاجات الأصلية له ولعياله، من المأكل والمشرب والملبس والمسكن والعلاج والتعليم، وكل ما لا بد للمرء منه.
فإذا كانت أموال الزكاة وموارد الدولة تكفي لتحقيق هذا المستوى من حصيلتها فبها ونعمت، وكفى الله المؤمنين أن يطالبوا بحق آخر للفقراء، وإذا لم تكف أموال الزكاة والموارد الأخرى في القضاء على الفقر، وإغناء الفقراء، فإن حقًا على الأغنياء القادرين أن يقوموا متضامنين بكفايتهم، كل في حدود أقاربه وجيرانه ومن يتصل به، فإذا قام البعض بدافع إيمانهم إلى أداء هذا الواجب بحيث كُفِىَ المحتاجون حاجتهم، فقد سقط الإثم عن الباقين، وإلا فإن لولي الأمر أن يتدخل باسم الإسلام، ويرتب في أموال الأغنياء ما يقوم بالضعفاء والفقراء.
وإذا كان هذا يعتبره كثير من الناس خطوة تقدمية لم تعرفها أوروبا إلا منذ أزمنة متأخرة، فإن هذا ما قرره الإسلام في كتابه وسُنَّته منذ طلعت شمسه في الآفاق، وما قرره صحابة الرسول وتابعوهم في غير لبس ولا خفاء.
تأويل الأحاديث التي احتج بها النافون
وإذن.. فما تأويل الأحاديث التي يفيد ظاهرها أن لا حق في المال سوى الزكاة، إلا بتطوع المالك، وأن من أدى زكاته فقد قضى ما عليه؟؟.(2/451)
إن الذي يتضح لنا مما صح من تلك الأحاديث (قد بينّا درجتها في أول هذا الباب). أن الزكاة هي الحق الدوري المحدد الثابت في المال، والواجب على الأعيان بصفة دائمة، شكرًا لنعمة الله، وتطهيرًا وتزكية للنفس والمال، وهو حق واجب الأداء، ولو لم يوجد فقير يستحق المواساة أو حاجة تستدعي المساهمة.
فالفرد المسلم المالك للنصاب في الظروف العادية لا يُطالب بشيء في ماله غير الزكاة، فإذا أداها فقد قضى ما عليه، وأذهب عن نفسه شر ماله، وليس عليه شيء آخر، إلا أن يطوع، كما جاء في الحديث.
أما الحقوق الأخرى فهي حقوق طارئة غير ثابتة ثبوت الزكاة، وغير مقدرة بمقدار معلوم، كمقادير الزكاة، فهي تختلف باختلاف الأحوال والحاجات، وتتغير بتغير العصور والبيئات والملابسات.
وهي في الغالب لا تجب على الأعيان بل على الكفاية، إذا قام بها البعض سقط الحرج عن الباقين، وقد تتعين أحيانًا كأن يرى الشخص مضطرًا وهو قادر على دفع ضرورته فيجب عليه دفعها، أو يكون له جار جائع أو عريان وهو قادر على معونته، كما أن الغالب أن توكل هذه الحقوق إلى إيمان الأفراد وضمائرهم دون تدخل السُلطة. إلا أن يرى حاكم مسلم أن يفرض بقوة القانون. فرضًا ما أوجبه الإيمان إيجابًا، وخاصة إذا كثرت حاجات الأفراد واتسعت نفقات الدولة وأعباؤها كما في عصرنا الحديث. فحينئذ لا بد من تدخل الدولة وإلزامها.(2/452)
وقال ابن تيمية في تفسير قول: "ليس في المال حق سوى الزكاة": "أي ليس فيه حق يجب بسبب المال سوى الزكاة، وإلا ففيه واجبات بغير سبب المال، كما تجب النفقات للأقارب والزوجة والرقيق والبهائم، ويجب حمل العاقلة، وقضاء الديون، ويجب الإعطاء في النائبة، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري فرضًا على الكفاية، إلى غير ذلك من الواجبات المالية، لكن بسبب عارض والمال شرط وجوبها، كالاستطاعة في الحج، فإن البدن سبب الوجوب، والاستطاعة شرط، والمال في الزكاة هو السبب، والوجوب معه، حتى لو لم يكن في بلده من يستحقها حملها إلى بلد أخرى، وهي حق وجب لله تعالى" (كتاب "الإيمان" -الكبير- :7/316- مجموع الفتاوى).
الباب التاسع
الزكاة والضريبة
فهرس
النسبية والتصاعد بين الضريبة والزكاة
ضمانات الضريبة وضمانات الزكاة
هل تُفرض ضرائب مع الزكاة؟
هل تغني الضرائب عن الزكاة؟
تمهيد
حقيقة الضريبة وحقيقة الزكاة
الأساس النظري لفرض الضريبة وفرض الزكاة
وعاء الضريبة ووعاء الزكاة
مبادئ العدالة بين الضريبة والزكاة
هذا الباب دراسة موازنة أو مقارنة بين الزكاة، كما شرعها الإسلام، وبين الضريبة الوضعية، كما تمخضت عنها الأفكار والأنظمة المالية الحديثة. فنحن لا نقارن الزكاة بالضرائب، في عصر الرومان أو الفُرس، وفي العصور الوسطى بأوروبا؛ إذ لا مجال للموازنة والمقارنة بين الزكاة والضرائب في تلك العصور، وإنما نقارن الزكاة بالضريبة في صورتها الحديثة بعد أن مرّت بتطورات شتَّى، وأدخلت عليها تعديلات وتحسينات عديدة، وصقلتها تجارب القرون، وخدمتها عقول كبيرة من مختلف الأقطار والبيئات، حتى نضجت واستوت على سوقها.(2/453)
وسنبين في فصول هذا الباب ما بين الزكاة والضريبة الحديثة من مشابهات ومقارنات، تتجلى بها حقيقة كل منهما، وتتميز بها الزكاة بوصفها فريضة مالية ذات طابع خاص، وفلسفة خاصة. فهي متميزة في طبيعتها وأساسها، ومواردها ومصارفها، وأنصبتها ومقاديرها، كما هي بمبادئها وأهدافها وضماناتها، وسنرى كيف سبقت بثلاثة عشر قرنًا -أو تزيد- أرقى ما انتهى إليه الفكر المالي والضريبي في عصرنا الحديث من مبادئ وأحكام، وكيف امتازت بمعان تقصر عنها الضريبة.
ويضم هذا الباب ثمانية فصول:
الأول: في حقيقة الضريبة وحقيقة الزكاة.
والثاني: في الأساس النظري لفرض الضريبة وفرض الزكاة.
والثالث: في وعاء الضريبة ووعاء الزكاة.
والرابع: في مبادئ العدالة بين الضريبة والزكاة.
والخامس: في النسبية والتصاعد بين الضريبة والزكاة.
والسادس: في ضمانات الضريبة وضمانات الزكاة.
والسابع: في بيان شرعية الضرائب بجوار الزكاة.
والثامن: في بيان أن الضرائب لا تغني عن الزكاة.
الفصل الأول
حقيقة الضريبة وحقيقة الزكاة
فهرس
أوجه الخلاف بين الزكاة والضريبة
الزكاة عبادة وضريبة معًا
تمهيد
أوجه الاتفاق بين الزكاة والضريبة
الضريبة كما عرَّفها علماء المالية: فريضة إلزامية. يلتزم الممول بأدائها إلي الدولة، تبعًا لمقدرته علي الدفع، بغض النظر عن المنافع التي تعود عليه من وراء الخدمات التي تؤديها السلطات العامة، وتستخدم حصيلتها في تغطية النفقات العامة من ناحية، وتحقيق بعض الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسة وغيرها من الأغراض التي تنشد الدولة تحقيقها من ناحية أخرى (من كتاب مبادئ علم المالية للدكتور محمد فؤاد إبراهيم: 1/261، وقد استخلص هذا التعريف بعد محاولة تكييف طبيعة الضريبة والبحث عن أهدافها).(2/454)
والزكاة - كما عرفها فقهاء الشريعة - حق مقدر فرضه الله في أموال المسلمين لمن سماهم في كتابه من الفقراء والمساكين وسائر المستحقين، شكرًا لنعمته تعالى، وتقربًا إليه، وتزكية للنفس والمال.
أوجه الاتفاق بين الزكاة والضريبة
ومن خلال التعريفين يتضح لنا أن هناك أوجه اختلاف، وأوجه اتفاق بين الضريبة والزكاة، وسنبدأ ببيان أوجه الاتفاق.
( أ ) فعنصر القسر والإلزام الذي لا تتحقق الضريبة إلا به، موجود في الزكاة إذا تأخر المسلم عن أدائها بدافع الإيمان، ومقتضى الإسلام، وأي قسر وإلزام أكثر من أخذها بقوة السلاح ممن منعها، ومن سل السيف لقتال من جحدها وكان ذا شوكة؟.
( ب ) كما أن من شأن الضريبة أن تدفع إلي هيئة عامة مثل السلطة المركزية والسلطات المحلية (إنما ذكروا هذا القيد في معنى الضريبة، احترازًا مما كان يحدث في أوروبا في العصور الوسطى عندما كان الفلاحون يدفعون الضرائب إلي صاحب الأرض!)، وكذلك الزكاة، إذ الأصل فيها أن تدفع إلي الحكومة بواسطة الجهاز الذي سماه القرآن "العاملين عليها" كما وضحنا ذلك في موضعه.
( ج ) ومن مقومات الضريبة: انعدام المقابل الخاص، فالممول يدفع الضريبة بصفته عضوًا في مجتمع خاص، يستفيد من أوجه نشاطه المختلفة، والزكاة كذلك لا يدفعها المسلم مقابل نفع خاص وإنما يدفعها بوصفه عضوًا في مجتمع مسلم يتمتع بحمايته وكفالته وأخوته. فعليه أن يسهم في معونة أبنائه، وتأمينهم ضد الفقر والعجز وكوارث الحياة، وأن يقوم بواجبه في إقامة المصالح العامة للأمة المسلمة التي بها تعلو كلمة الله وتنشر دعوة الحق في الأرض، بغض النظر عما يعود عليه من المنافع الخاصة من وراء إيتاء الزكاة.(2/455)
( د ) وإذا كان للضريبة -في الاتجاه الحديث- أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة فوق هدفها المالي فإن الزكاة لها أيضًا أهداف أبعد مدىً، وأوسع أفقًا، وأعمق جذورًا، في هذه النواحي المذكورة وفي غيرها، مما له الأثر في حياة الفرد والجماعة (انظر ذلك بتفصيل في باب "أهداف الزكاة" من هذا الكتاب).
أوجه الخلاف بين الزكاة والضريبة
تلك هي أوجه الاتفاق.
فأما أوجه الخلاف بين الزكاة والضريبة، فهي كثيرة، نذكرها أو أهمها في الأمور التالية:
1- في الاسم والعنوان:
إن الاختلاف بين الزكاة والضريبة يظهر للوهلة الأولى في الاسم والعنوان لكل منهما وما له من دلالة وإيحاء.
فكلمة "الزكاة" تدل في اللغة على الطهارة والنماء والبركة، يقال: زكت نفسه، إذا طهرت، وزكاة الزرع، إذا نما وزكت البقعة، إذا بورك فيها.
واختيار الشرع الإسلامي هذه الكلمة ليعبر بها عن الحصة التي فرض إخراجها من المال للفقراء وسائر المصارف الشرعية - له في النفس إيحاء جميل، يخالف ما توحي به كلمة "الضريبة".
فإن "الضريبة" لفظة مشتقة من ضرب عليه الغرامة أو الخراج أو الجزية ونحوها، أي ألزمه بها، وكلفه تحمل عبئها،ومنه: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) (البقرة: 61)..
ومن هنا ينظر الناس عادة إلي الضريبة باعتبارها مغرمًا وإضرارًا ثقيلاً.
أما كلمة "الزكاة"، وما تحمله من دلالات التطهير والتنمية والبركة، فهي توحي بأن المال الذي يكنزه صاحبة، أو يستمتع به لنفسه، ولا يخرج منه حق الله الذي فرضه -يظل خبيثًا نجسًا، حتى تطهره الزكاة، وتغسله من أدران الشح والبخل.
وهي توحي كذلك بأن هذا المال الذي ينقص، في الظاهر، لمن ينظر ببصره، يزكو وينمو ويزيد، في حقيقة الأمر، لمن يتأمل ببصيرته. كما قال تعالى: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) (البقرة: 267).(2/456)
(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) (سبأ: 39)، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وما نقص مال من صدقة) (رواه الترمذي (في الزهد برقم (2326) من حديث أبي كبسة الأنماري وقال: حسن صحيح).
وهي توحي كذلك أن الطهارة والنماء والبركة ليست للمال وحده، بل للإنسان أيضًا: لآخذ الزكاة ولمعطي الزكاة. فآخذ الزكاة ومستحقها تتطهر بها نفسه من الحسد والبغضاء وتنمو بها من معيشته، إذ تحقق له ولأسرته تمام الكفاية.
وأما معطي الزكاة فيتطهر بها من رجس الشح والبخل وتزكو نفسه بالبذل والعطاء، ويبارك له في نفسه وأهله وماله، وفي القرآن الكريم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103) .
2- في الماهية والوجهة:
ومن أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة: أن الزكاة عبادة فرضت على المسلم، شكرًا لله تعالى، وتقربًا إليه. أما الضريبة فهي التزام مدني محض خال من كل معنى للعبادة والقربة، ولهذا كانت "النية" شرطًا لأداء الزكاة وقبولها عند الله، إذ لا عبادة إلا بنية: ( إنما الأعمال بالنيات): (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) (البينة: 5).
ولهذا أيضا تذكر "الزكاة" في قسم "العبادات" في الفقه الإسلامي.
اقتداء بالقران والسنة اللذين قرنا الزكاة بالصلاة. فالقرآن في نيف وعشرين موضعًا من سوره المكية والمدنية، وأما السنة ففي مواضع لا حصر لها، كما في حديث جبريل المشهور، وحديث: (بني الإسلام على خمس) وغيرها. فكلاهما ركن من أركان الإسلام الخمسة، وعبادة من عباداته الأربع.
ولما كانت الزكاة عبادة وشعيرة وركنًا دينيًا من أركان الإسلام، لم تفرض إلا علي المسلمين، فلم تقبل الشريعة السمحة أن توجب على غير المسلمين فريضة مالية فيها طابع العبادة والشريعة الدينية، وهذا بخلاف الضريبة، فهي تجب على المسلم وغير المسلم، تبعًا لمقدرته على الدفع.
3- في تحديد الأنصبة والمقادير:(2/457)
والزكاة حق مقدر بتقدير الشارع، فهو الذي حدد الأنصبة لكل مال، وعفا عما دونها، وحدد المقادير الواجبة من الخمس إلي العشر، إلي نصف العشر، إلي ربع العشر. فليس لأحد أن يغير فيما نص عليه الشرع أو يبدل، ولا أن يزيد أو ينقص، ولهذا خطَّأنا المتهورين الذين نادوا بزيادة المقادير الواجبة في الزكاة، نظرًا للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تمخض عنها العصر الحديث (انظر: صفحة 266 - 268 من هذا الكتاب).
بخلاف الضريبة، فهي تخضع في وعائها، وفي أنصبتها، وفي سعرها، ومقاديرها - لاجتهاد السلطة وتقدير أولي الأمر، بل بقاؤها وعدمه مرهون بتقدير السلطة لمدى الحاجة إليها.
4- في الثبات والدوام:
يترتب على هذا: أن الزكاة فريضة ثابتة دائمة ما دام في الأرض إسلام ومسلمون، لا يبطلها جور جائر، ولا عدل عادل، شأنها شأن الصلاة فهذه عماد الدين، وتلك قنطرة الإسلام. أما الضريبة فليس لها صفة الثبات والدوام، لا في نوعها ولا في أنصبتها ولا في مقاديرها، ولكل حكومة أن تحور فيها وتعدل حسبما ترى، أو يرى أهل الحل والعقد من ورائها. بل بقاؤها نفسه -كما ذكرنا- غير مؤبد، فهي تجب حسب الحاجة وتزول بزوالها.
5- في المصرف:
وللزكاة مصارف خاصة، عينها الله في كتابه، وبينها رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، وهي مصارف محددة واضحة، يستطيع الفرد المسلم أن يعرفها وأن يوزع عليها -أو على معظمها- زكاته بنفسه إذا لزم الأمر، وهي مصارف ذات طابع إنساني وإسلامي. أما الضريبة فتصرف لتغطية النفقات العامة للدولة، كما تحددها السلطات المختصة.
ميزانية الزكاة إذن مستقلة عن الميزانية العامة للدولة، واجبة الصرف إلي الأبواب المنصوص عليها، والتي جعل القرآن الصرف لها وفيها (فريضة من الله) (كما في الآية 60 من سورة التوبة).
6- في العلاقة بالسلطة:(2/458)
ومن هذا يُعلم: أن أداء الضريبة علاقة بين المكلف أو الممول وبين السلطة الحاكمة، وهي التي تسنها، وهي التي تطالب بها، وهي التي تحدد النسبة الواجبة، وهي التي تملك أن تنقصها، أو تتنازل عن جزء منها لظرف معين ولسبب خاص، أو على الدوام، بل تملك إلغاء ضريبة ما، أو الضرائب كلها إن شاءت. فإذا أهملت السلطة أو تأخرت في المطالبة بالضريبة فلا لوم علي المكلف، ولا يطلب منه شيء، أما الزكاة فهي -قبل كل اعتبار- علاقة بين المكلف وربه. هو الذي آتاه المال، وهو الذي كلفه أن يؤتي منه الزكاة، امتثالاً لأمره وابتغاء مرضاته، وعرفه مقاديرها، وبين له مصارفها.. فإذا لم توجد الحكومة المسلمة التي تجمع الزكاة من أربابها، وتصرفها على مستحقيها، فالمسلم يفرض عليه دينه أن يقوم هو بتفريقها على أهلها ولا تسقط عنه بحال. مثلها في ذلك مثل الصلاة، لو كان المسلم في مكان لا يجد فيه مسجدًا ولا إمامًا يأتم به، وجب عليه أن يصلي حيث تيسر له، في بيته أو غيره، فالأرض كلها مسجد للمسلم ولا يترك الصلاة أبدًا، والزكاة أخت الصلاة.
ولذلك يجب علي المسلم أن يدفع الزكاة وهو طيب النفس بها، راجيًا أن يتقبلها الله منه ولا يردها عليه، ويستحب له أن يسأل ربه قبولها بمثل هذا الدعاء: (اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا).
ومن هنا يحرص المسلم على إيتاء الزكاة ولا يتهرب من دفعها، كما يتهرب جمهور الناس من دفع الضرائب، فإن لم يتهربوا دفعوها مكرهين أو كارهين. بل نجد من المسلمين من يدفع من ماله أكثر مما توجبه الزكاة، رغبة فيما عند الله، وطلبًا لمثوبته ورضوانه. كما حدث ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيما بعده من العهود، وسنعود إلى بيان ذلك في فصل "الضمانات" بين الضريبة والزكاة.
7- في الأهداف والمقاصد:(2/459)
وللزكاة أهداف روحية وخلقية تحلق في أفق عال، تقصر الضريبة عن الارتقاء إليه، وقد أشرنا إلى هذه الأهداف السامية في حديثنا عن كلمة "الزكاة" وما لها من دلالة وما تنطوي عليه من إيحاء، كما فصلنا الكلام عليها في باب "أهداف الزكاة وآثارها" (أنظر: ص 905 وما بعدها من هذا الكتاب)، وحسبنا من هذه الأهداف ما صرح كتاب الله في شأن أصحاب المال المكلفين بالزكاة حيث قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم) (التوبة: 103)، ومعنى (صل عليهم) أي ادع لهم، وكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو لدافع الزكاة بالبركة في نفسه وفي ماله، وهو أمر مندوب لكل عامل على الزكاة أن يدعو لمعطي الزكاة اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، بل قال بعض الفقهاء: هو واجب، لأن الآية أمرت به وظاهر الأمر الوجوب.
أما الضريبة فهي بمعزل عن التطلع إلى مثل هذه الأهداف، وقد ظل رجال المالية قرونًا يرفضون أن يكون للضريبة هدف غير تحصيل المال للخزانة، وسمي هذا "مذهب الحياد الضريبي" فلما تطورت الأفكار، وتغيرت الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، انهزم مذهب الحياديين، وظهر الذين ينادون باستخدام الضرائب أداة لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية معينة، أو تقريب الفوارق وغير ذلك، وهذا إلى جوار هدفها المالي، وهو الهدف الأول.
ولكن لم يستطع مشرعو الضرائب ولا علماء المالية العامة ومفكروها أن يخرجوا من دائرة الأهداف المادية، إلى دائرة أرحب وأبعد مدى، وهي دائرة الأهداف الروحية والخلقية التي عنيت بها فريضة الزكاة.
8- في الأساس النظري لفرض كل منهما:(2/460)
ومن أبرز أوجه الاختلاف بين الزكاة والضريبة، هو الأساس الذي بني عليه فرض كل منهما. فالأساس القانوني لفرض الضريبة قد اختلف في تحديده على نظريات متباينة سنذكرها. أما الزكاة، فإن أساسها واضح، لأن موجبها هو الله عز وجل، وسنجليه في نظريات أربع، لا تعارض بينها، وإنما يشد بعضها أزر بعض، وقد آثرت أن أفرد لذلك فصلاً مستقلاً حتى أوفيه حقه إن شاء الله.
الزكاة عبادة وضريبة معًا
ومن هنا، نستطيع أن نقول: إن الزكاة ضريبة وعبادة معًا، هي ضريبة لأنها حق مالي معلوم تشرف عليه الدولة، وتأخذها كرهًا إن لم تؤد طوعًا، وتنفق حصيلتها في تحقيق أهداف تعود على المجتمع بالخير.
وهي قبل ذلك عبادة وشعيرة. يتقرب بأدائها المسلم إلى الله، ويشعر حين يؤديها أنه يحقق ركنًا من أركان الإسلام، وشعبه من شعب الإيمان، وأنه يعين بها من يعطيه على طاعة الله تعالى، ومن هنا كان إيتاؤها طاعة وصلاحًا، ومنعها فسقًا صُراحًا، وجحودها كفرًا بواحًا، فهي حق الله الذي لا يسقط بتأخر الجابي، ولا بإهمال الحاكم، ولا بمرور السنين وليست كالضريبة: تجب بطلب الحكومة لها، وتسقط بعدمه
والذي يهمنا أن نذكره هنا: أن علماءنا رحمهم الله قد تنبهوا ونبهوا علي أن الزكاة تشتمل على هذين المعنيين: معنى الضريبة، ومعنى العبادة، وإن لم يعبروا عن الضريبة بهذا اللفظ نفسه، لأنه اصطلاح متأخر، وقد يعبرون عن هذا المفهوم بأنها "حق" واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء (انظر: بداية المجتهد لابن رشد: 1 /237 - طبع مطبعة الاستقامة). أو يعبرون عنه بأنها "صلة للرحم" أي الإنسانية أو الإسلامية، بجانب ما فيها من شائبة العبادة.(2/461)
ومن أوضح ما يدل على هذا المعنى الذي ذكرناه، ما نقله صاحب "الروض النضير" عن بعض المحققين من العلماء في بيان حقيقة الزكاة وحكمتها قال: "إنما فرض الله الزكاة في أموال الأغنياء، مواساة لإخوانهم الفقراء، قضاء لحق الأخوة وعملاً بما يوجب تأكيد الألفة، وما أمر الله به من المعونة والمعاضدة على ما فيها من ابتلاء أرباب الأموال، التي هي شقائق النفوس، كما ابتلاهم في الأبدان بالعبادات البدنية، فهي صلة للرحم، وفيها شائبة عبادة، فلأجل شائبة العبادة وجبت فيها النية، ولم يصح فيها مشاركة معصية، ونحو ذلك، لكونها صلة، صحت فيها الاستنابة، وصح فيها الإجبار عليها، وناب الإمام عن المالك في النية عند أخذها كرهًا، وأخذت من مال الميت وإن لم يوص، ولأجل كون الصلة غالبًا عليها، وجب فيها رعاية الأنفع للفقراء، ووجبت في مال الصغير ونحوه، ولما كان المقصود بها المواساة لم يوجبها الله تعالى إلا في مال خطير وهو النصاب، ولم يجعلها إلا في الأموال النامية، وهي العين (النقود) وأموال التجارة والمواشي وما أخرجت الأرض، وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة، ورتب مقدار الواجب على حسب التعب والمؤنة، فجعل فيما سقت السماء ونحوها العشر، وفيما سقي بالسواقي (الدواب ونحوها) نصفه" (الروض النضير: 2/389). أ هـ، وهو كلام جيد فصلناه في الأبواب السابقة.
الفصل الثاني
الأساس النظري لفرض الضريبة وفرض الزكاة
فهرس
أساس فرض الزكاة
النظرية العامة للتكليف
نظرية الاستخلاف
نظرية التكافل بين الفرد والمجتمع
الإخاء بين المسلمين
تمهيد
الأساس القانوني لفرض الضريبة
النظرية التعاقدية
نظرية سيادة الدولة(2/462)
لعل مما يلقي ضوءًا أكثر على حقيقة الزكاة أن نعرض لما ذكره علماء المالية العامة في "تكييف" الضريبة الوضعية، وبيان الأساس الذي بني عليه فرضها قانونًا، إذ بالمقارنة تتجلى لنا طبيعة الزكاة وخصائصها بوصفها فريضة إلهية، وضريبة مقدسة، ذات طابع خاص، وفلسفة خاصة.
الأساس القانوني لفرض الضريبة
اختلف الباحثون والمفكرون في الطبيعة القانونية، وبعبارة أخرى: في الأساس القانوني لفرض الضرائب على الناس.
النظرية التعاقدية:
فذهب فلاسفة القرن الثامن عشر إلى أن الضريبة تقوم على أساس علاقة تعاقدية بين الدولة والفرد، فيرى أنصار هذه النظرية أن الضريبة تدفع مقابل النفع الذي يعود على الممول من رعاية الدولة للمرافق العامة، بموجب عقد ضمني مبرم بين الدولة والمواطنين - وهذه الفكرة هي تطبيق لنظرية "العقد الاجتماعي" الذي قال بها "جان جاك روسو" في بيان أساس الدولة.
وقد ذهب أنصار النظرية التعاقدية في تكييف طبيعة العقد المبرم بين الدولة ودافع الضريبة مذاهب شتى:
فقال ميرابو: إن الضريبة ثمن عاجل يشتري به الفرد حماية الجماعة، ومعنى هذا: أن المبرم عقد بيع.
وقال آدم سميث: إن هذا العقد هو عقد إيجار أعمال، فالدولة تقوم بأداء خدمات للمواطنين، ويقوم المواطنون بدفع الضريبة لها كأجر لهذه الأعمال.
وقال مونتسكيو وهوبز: إن العقد تأمين، فالضريبة هي قسط التأمين الذي يدفعه الممول من ماله للتأمين على الجزء الباقي.(2/463)
غير أن الناقدين بيَّنوا أن هذا التصوير خاطئ من أساسه، فمن غير الممكن تحقيق التعادل بين الضريبة التي يدفعها الممول وبين ما يعود عليه من نفع من خدمات الدولة لأنه لا يمكن تقدير نسبة المنفعة التي تعود على كل مواطن على حدة من النفقات العامة، كالمحافظة على الأمن، أو تنظيم القضاء، أو نشر التعليم، أو الدفاع الوطني، فضلاً عن أنه لو أمكن تقدير هذه المنفعة، فإن هذه النظرية تؤدي إلى نتائج ظالمة، فالطبقات الفقيرة أكثر احتياجًا إلي خدمات الدولة من الطبقات الغنية، وتطبيقًا لنظرية البدل أو الإيجار، يجب أن يتحملوا العبء الأكبر للضريبة.
كما أن نظرية "التأمين" معيبة من ناحيتين: الأولى أنها تقصر وظيفة الدولة على المحافظة على الأمن، وهو ما يخالف الواقع، والناحية الثانية: أن عقد التأمين يلقى على عاتق المؤمن عبء تعويض الخسائر في حين أن الدولة لا تلتزم بتعويض الأفراد عما يلحقهم من ضرر.
نظرية سيادة الدولة:
من هذا يتضح أن "النظرية التعاقدية" لا تصلح أساسًا للضريبة، وهذا هو السبب في ظهور النظرية الثانية، نظرية "سيادة الدولة".
وتقوم هذه النظرية على أساس أن الدولة تؤدي وظيفتها بقصد إشباع الحاجات الجماعية، ولا تضع نصب عينيها تحقيق مصالح الأفراد الخاصة، بقدر تغليب المصالح العامة على المصالح الخاصة، والمحافظة على التضامن القومي بين الأجيال الحاضرة والمستقبلة - ولما كان أداء هذه الوظائف يستلزم الإنفاق كان للدولة الحق في أن تلزم المستظلين بسمائها -بما لها من حق السيادة- أن يتضافروا جميعًا في النهوض بعبء هذا الإنفاق، وتقوم بتوزيع هذا العبء عليهم، بحسب درجة يسار كل منهم، طبقا لما يقضي به مبدأ "التضامن الاجتماعي" الذي تقوم عليه الجماعات السياسية الحديثة (اعتمدنا في هذا المبحث على كتاب "ميزانية الدولة" للدكتور محمد حلمي مراد ص 73 -75- طبع نهضة مصر سنة 1955 - مبحث "الأساس القانوني للضريبة").
أساس فرض الزكاة(2/464)
أما أساس فرض الزكاة والحقوق المالية كلها فيقوم على نظريات أُخر، نبينها في ما يلي:
النظرية العامة للتكليف:
أُولاها: النظرية العامة للتكليف، وتقوم هذه النظرية على أن من حق الخالق المنعم أن يكلف عباده ما يشاء من واجبات بدنية ومالية، أداءً لحقه، وشكرًا لنعمته، وليبلوهم أيهم أحسن عملاً، ليختبر ما في صدورهم، وليمحص ما في قلوبهم، وليعلم من يتبع رسله ممن ينقلب على عقبيه، فيميز الله الخبيث من الطيب، والمسيء من المحسن، ويوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون.
إن الإنسان لا يخلق عبثا ولم يترك سدى (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون) (المؤمنون: 115).. (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) (القيامة: 36). كلا، لم يترك سدى، بل بعث الله إليه النبيين مبشرين ومنذرين، فعرفوه أمر الله ونهيه، وحقوقه وواجباته (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) (النجم: 31).
وكما كلف الله المسلم بالصلاة وهي الفريضة اليومية التي يؤديها خمس مرات في اليوم، في مواقيتها المحددة، مقاوما نوازع الكسل، وبواعث الهوى، ودواعي الغفلة، وعوائق الدنيا (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) (البقرة: 45).
وكلفه بالصيام وهو الفريضة السنوية التي يمسك فيها أيام شهر كامل عن شهوتي البطن والفرج كما جاء في الحديث القدسي: (يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذته من أجلي) (رواه ابن خزيمة في صحيحة، وأصله في الصحيحين. انظر الترغيب والترهيب للمنذري ج2 كتاب: الصيام).
وكلفه بالحج وهو فريضة العمر، التي يرتحل فيها المسلم، مفارقًا الأهل والوطن، إلى واد غير ذي زرع، ليعظم شعائر الله، ويطوف ببيت الله، ويرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.(2/465)
أجل.. كما كلف الله المسلم بالصلاة والصيام وكل منهما عبادة بدنية، وبالحج، وهو عبادة بدنية مالية، كلفه بالزكاة، وهي عبادة مالية خالصة فيها بذل المال الذي هو شقيق النفس، وعصب الحياة، وفتنة الدنيا ليعلم من يعبده تعالى حقا فيبذل ما عنده لله، ومن يعبد ماله ودنياه، فيؤثرها على رضا الله (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 9).
نظرية الاستخلاف:
والنظرية الثانية.. نظرية الاستخلاف في مال الله.
وأساس هذه النظرية: أن المال مال الله تعالى، والإنسان مستخلف فيه، فالله سبحانه هو المالك الحق لكل ما في الكون، أرضه وسمائه (ولله ما في السموات وما في الأرض) (النجم: 31). (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) (طه: 6). فكل ما في هذا العالم علويه وسفليه، ملك خالص لله تعالى، وليس لأحد شرك في ذرة منه (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله، لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) (سبأ: 22)، وذلك الملك بمقتضى خلقه لها، وهيمنته عليها (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) (الزمر: 62). (وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً) (الفرقان: 2). (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) (الحج: 73).
والأموال كلها ملك لله تعالى، فهو واهبها والمنعم بها على عباده وهو وحده خالقها ومنشئها، وعمل عمل الإنسان الذي نسميه "إنتاجًا" يتخذ مجاله في مادة خلقها الله سبحانه وسخرها له ولهذا يقول الاقتصاديون: إن الإنتاج هو خلق المنفعة وليس خلق المادة، ومعنى هذا أنه يحول المادة لتشبع حاجاته وتكون لها منفعة (انظر الاقتصاد السياسي للدكتور رفعت المحجوب: 1 / 191، 192).(2/466)
كل ما يقوم به الإنسان في "الإنتاج" لا يتجاوز التغيير في أوضاع الأشياء وأماكنها، كأن يستخلصها من مواطنها الأصلية بالاستخراج أو الصيد مثلاً، أو ينقلها من مكان تزيد فيه عن الحاجة إلى مكان يحتاج إليها فيه، أو يحفظها عن طريق التعبئة والخزن لينتفع بها في المستقبل، أو يخضعها لبعض المؤثرات لتصبح صالحة لسد حاجة ما، أو يحولها من شكل إلى آخر بالحلج أو الغزل أو النقش أو الطحن. إلخ، أو يؤلف بينها تأليفًا خاصًا فيجعل منها شيئًا جديدًا. هو مجرد التغيير في أوضاع العناصر وأماكنها، حتى في حال إحداث ثروة جديدة لم تكن من قبل، كما في الزراعة أو تربية الحيوان، لا يعمل الإنسان أكثر مما يعمله في المظاهر الإنتاجية الأخرى (انظر: الاقتصاد السياسي للدكتور علي عبد الواحد وافي ص 74 - 76 الطبعة الخامسة).
هذا ما يقرره فلاسفة الاقتصاد بوضوح في بيان وظيفة الإنسانية في الإنتاج: مجرد تحوير وتغيير في أوضاع وأماكن الأشياء الموجودة فعلا، ومن موجدها؟ إنه (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (طه:5).
(الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (إبراهيم: 32 - 34).
حتى هذا التغيير والتحوير من الذي يسَّر سبله للإنسان، ومنحه القدرة على فعله وأمده بكل ما يعينه في هذا السبيل؟ إنه ربنا الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا، وعلمه ما لم يكن يعلم.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:(2/467)
إذا زرع الإنسان زرعًا فأنبت حبًا، أو غرس غرسًا فآتى ثمرًا، فكم يوازي عمل يده في الحرث والسقي والتعهد، بجانب عمل يد الله الذي جعل الأرض ذلولاً، وصرف الرياح، وسخر السحاب، وأنزل الماء من السماء مطرًا، أو أجراه في الأرض نهرًا، ووفر الحرارة الملائمة، والضوء الكافي، والهواء المناسب، وهيأ للحبة في باطن التراب غذاءها من شتى العناصر، حتى صارت شجرة مورقة مثمرة؟
ألا ما أقل عمل الإنسان وجهده بجانب رعاية الله!!
ثم ما عمل الإنسان إذا لم يهبه الله العقل الذي يفكر ويدبر، والقدرة التي بها ينفذ، والأدوات التي بها يعمل؟!
لهذا يبين القرآن فضل الله على عباده، ويرد الحق إلى نصابه، فيقول: (أفرأيتم ما تحرثون ءأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون أفرأيتم الماء الذي تشربون ءأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون) (الواقعة: 63 - 70).
ويقول في سورة أخرى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبًا ثم شققنا الأرض شقًا فأنبتنا فيها حبًا وعنبًا وقضبًا) (عبس: 24 - 28)، ويقول في سورة ثالثة (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون) (يس 32 -35).
نعم.. (أفلا يشكرون)؟، وهم يأكلون من ثمار لم تعملها أيديهم وإنما عملتها يد الله، الله الذي أحيا الأرض الميتة، وأخرج منها الحب، وأنشأ الجنات، وفجر العيون.(2/468)
وليس عمل يد الله في الزراعة فحسب، بل في كل ناحية من الحياة، زراعة أو تجارة، أو صناعة، أو غيرها - ففي الصناعة مثلاً نجد المادة "الخام" من خلق الله، لا من إنتاج الإنسان، ومن هنا امتن الله على الناس بمادة الحديد، فقال: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) (الحديد: 25)، والتعبير بـ "أنزلنا" يعني أن الله خلقه بتدبير سماوي علوي لا دخل للإنسان فيه.
ونجد مادة الوقود والقوى المحركة من صنع الله وحده، فالإنسان لم يخلق الفحم ولا البترول، ولا الكهرباء، وإنما اكتشفها فقط، أما الذي بثها في الكون فهو الله.
ونجد الاهتداء إلى الصناعات من إلهام الله وتعليمه للإنسان ما لم يكن يعلم كما قال تعالى عن نبي الله داود: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون) (الأنبياء: 8).(2/469)
والنتيجة من هذا: أن المال رزق يسوقه الله للإنسان فضلاً منه ونعمة، ومهما يذكر الإنسان علمه وجهده فليذكر عمل القدرة الإلهية في الإيجاد والإمداد (وما بكم من نعمة فمن الله) (النحل: 53). فلا غرابة بعد هذا أن ينفق الإنسان عبد الله بعض ما رزقه الله في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، وعلى إخوانه عباد الله، قيامًا للواهب المنعم بحق الشكر على نعمائه، ومن أجل هذا يقول الله في كتابه: (أنفقوا مما رزقناكم) (البقرة: 254).، (ومما رزقناهم ينفقون) (البقرة: 3)، ويقرر أن المال مال الله، والإنسان ما هو إلا مستخلف فيه، أو موظف مؤتمن على تنميته وإنفاقه، والانتفاع والنفع به. يقول تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33)، ويقول: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم، بل هو شر لهم) (آل عمران: 180). ليذكرهم بهذه الحقيقة: أن المال رزق من عند الله آتاهم من فضله، ويقول: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) (الحديد: 7). فالإنسان ليس مالك المال في الحقيقة، ولكنه خليفة المالك -وهو الله تعالى- ووكيله فيه (قال ابن القيم: "هل يصح أن يقال: إن أحدًا وكيل الله"؟ وأجاب بالنفي: "فإن الوكيل من يتصرف عن موكله بطريق النيابة، والله عز وجل لا نائب له ولا يخلفه أحد، بل هو الذي يخلف عبده، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل". ثم قال: "على أنه لا يمتنع أن يطلق ذلك باعتبار أنه مأمور بحفظ ما وكله فيه، ورعايته والقيام به" انتهى من مدارج السالكين: 2 / 126 - 127 مطبعة السنة المحمدية).(2/470)
قال صاحب "الكشاف" في قوله تعالى: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه). يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مَّولكم إيَّاها، وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه (الكشاف: 3 / 200).
وليست ثمرة العلم بأن المال مال الله، والإنسان فيه بمنزلة النائب أو الوكيل، مقصور على تهوين البذل والإنفاق عليه، حيث ينفق من مال غيره وقد أذن له فيه، بل يفيد العلم بهذه الحقيقة أيضًا أن يتقيد الإنسان بمشيئة المالك الحقيقي للمال، فإن الوكيل ما هو إلا ممثل لإرادة الموكل، ومنفذ لما يطلبه، وليس له حق الانفراد بالتصرف حسبما يهوى ويشتهي، وإلا بطلت وكالته، ولم يعد جديرًا بحق الاستخلاف الذي أساء استعماله.
وقد نبه علماؤنا -رحمهم الله- على حق الله في المال بعبارات بليغة، نذكر منها ما قاله الإمام الرازي في تفسيره:
"إن الفقراء عيال الله، والأغنياء خزان الله، لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله، فليس بمستبعد أن يقول الله المالك لخازنه: اصرف على المحتاجين من عيالي" (التفسير الكبير: 16 / 103).
وما قاله القاضي ابن العربي (أحكام القران ص 945).: إن الله بحكمته البالغة، وأحكامه الماضية العالية، خص بعض الناس بالأموال دون البعض، نعمة منه عليهم، وجعل شكر ذلك منهم إخراج سهم يردونه إلى من لا مال له، نيابة عنه سبحانه وتعالى فيما ضمنه بفضله لهم في قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (هود: 6).
فإذا ضن الغني -وهو الخازن لمال الله والأمين عليه- بهذا المال على عيال الله، واختص نفسه بنعمته دونهم، فقد استوجب نكال الله وعقوبته.(2/471)
وقد شاع بين عوام المسلمين حديث قدسي عن الله تعالى يقول: المال مالي، والفقراء عيالي، والأغنياء وكلائي، فإذا بخل وكلائي على عيالي، أذقتهم وبالي ولا أبالي " (بحثت عنه فلم أجد له أصلا ولا من تكلم عليه)..
ومع أن لفظ الحديث غير ثابت من جهة السند، فإن معناه في الجملة صحيح، وشهرته لدى جمهور المسلمين تدل على رسوخ نظرية الاستخلاف في مال الله وتغلغلها في أفكارهم، وهو تغلغل أصيل له جذوره العميقة من كتاب الله وسنة رسول الله.
ومن الطريف أن أكثر المتسولين والشحاذين في بلاد المسلمين يعرفون هذه النظرية ويستغلونها لاستعطاف القادرين، واستخراج الصدقات من أيديهم، ولا عجب أن تسمع منهم كثيرًا هذه الكلمة: "من مال الله"! وهي كلمة حق يريدون بها باطلاً.
وفي الحديث: (ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون: ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأبعدنهم) (الطبراني في الصغير والأوسط عن أنس وإسناده ضعيف (جمع الفوائد: 1 / 142).
نظرية التكافل بين الفرد والمجتمع:
والنظرية الثالثة.. نظرية التكافل بين الفرد والمجتمع.
فمن المقرر لدى فلاسفة الاجتماع: أن الإنسان مدني بطبعه -كما قال القدماء- أو حيوان اجتماعي -كما قال المحدثون- وأنه لا يستطيع أن يحيا حياة إنسانية حقة إلا في ظل مجتمع، ومن المقرر كذلك: أن الفرد مدين للمجتمع بكثير من معارفه وخبراته وفضائله، فإن الفرد -في مبدأ حياته- لا يمكنه أن يعيش ويحيا بغير عون المجتمع، فهو الذي يضمن له الحياة والبقاء، ولولاه لمات في مهده، والمجتمع هو الذي يقوم بتلقين الفرد مظاهر الحضارات والثقافة المختلفة وقواعد الدين والمعاملة. إلخ.(2/472)
فلولا المجتمع وحياة الجماعة، لصار الفرد كالحيوان الأعجم، لا يدري من أمور دنياه شيئًا، أو يكون كالطفل لا يستطيع أن يميز بين ما يضره وما ينفعه، فالمجتمع هو الذي يعدل من سلوكه، ويعاونه على التكيف مع الحياة في مختلف مراحلها.
إن الفرد يولد وعقله كالصفحة البيضاء، ثم يعمل المجتمع بعد ذلك على تغذيته بأسباب التراث الاجتماعي، مما يتركه السلف للخلف، من لغة وثقافة وعقائد وتقاليد وغيرها (راجع كتاب "علم الاجتماع" للدكتور أحمد الخشاب فصل "الفرد في المجتمع" ص 36) ..
الفرد إذن مدين للمجتمع بلا ريب، وهذا كما يصدق على مكاسب الفرد المعنوية والثقافية والحضارية، يصدق على مكاسبه المادية والاقتصادية.
فالذي لا شك فيه أن الفرد -وإن أوتي من المواهب ما أوتي- لم يكسب المال بجهده وحده، بل شاركت فيه جهود وأفكار وأيد كثيرة لا تحصى، بعضها ساهم من قريب، وبعضها ساهم من بعيد، بعضها عن قصد، وبعضها عن غير قصد، وكلها أسباب عاونت في وصول المال إلى صاحبه.
فإذا نظرنا مثلاً إلى الزارع الذي حصد القمح، كيف حصل على قمحه هذا؟ وما قيمة جهده بجانب جهد المجتمع؟ إن المجتمع هو الذي شق له الترع والقنوات ونظم الري والصرف، وصنع له المحراث وغيره من أدوات الزراعة، وأمده بما يحتاج إليه من قوت وملبس ومسكن، وهيأ له الأمن والاستقرار. إلى غير ذلك من الأمور التي لا تحصى.
وإذا نظرنا إلى التاجر مثلاً، كيف جمع ماله، وحقق كسبه؟ رأينا للمجتمع عليه الفضل الأكبر، واليد الطولى، فممن يشتري؟ ولمن يبيع؟ ومع من يعمل؟ وبمن يسير إذا لم يكن المجتمع ومعاونة المجتمع؟
ومثل الزارع والتاجر، الصانع والموظف وكل ذي حرفة وكل ذي مال.
وكلما كان مال المالك أكثر، وثروته أوسع، كان جهد الجماعة أظهر وأعظم، ونصيب الفرد فيه أقل وأصغر، فإن طاقة الفرد للعمل محدودة -ولا شك- بحدود قدرته ووقته وضروراته كإنسان.(2/473)
كم يبذل من الجهد صاحب المزرعة الواسعة، أو المصنع الكبير، أو المؤسسة الضخمة ذات الفروع؟ وكم يقاس جهده إذا كان له جهد إداري مثلا، بجانب جهد العشرات أو المئات أو الألوف من أبناء المجتمع الذين يعملون معه، ويبذلون من عرق جبينهم،أو نور أعينهم، أو وهج أفكارهم؟! ومن أجل هذا كان المال الذي يحوزه مكتسبه، وينسب إليه، هو مال الجماعة أيضا، ينسب إليها، ويحسب عليها، وتكلف متضامنة بالمحافظة عليه.
وهذا ما جعل القرآن الكريم يخاطب جماعة المسلمين فيقول: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا) (النساء: 5)..
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم الحجر على السفهاء والمبذرين المتلافين، وإن كان المال في ظاهر الأمر مالهم وفي حيازتهم، وهم مالكوه إلا أنه في الحقيقة مال الجماعة، إن نما وحفظ فالنفع يعود عليها، وإن تلف وبعثر فالضرر لاحق بها.
ومن هنا تفهم سر التعبير في الآية الكريمة إذ تقول: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)، ولم تقل "أموالهم" حسبما تنص عقود الأموال، كما لم تقل: "التي جعل الله لهم قيامًا" بل قالت: (التي جعل الله لكم قيامًا). فإنها وإن كانت لهم حيازة وملكًا، فهي قيام للجماعة كلها، وعصب لحياتها.
ويقول القرآن أيضًا: (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيمًا) (النساء: 29)..
فالآية الكريمة تنهى أن يأكل المؤمنون بعضهم مال بعض، كما تنهى أن يقتل بعضهم بعضًا، وإنما اختارت الآية التعبير بـ"أموالكم" و"أنفسكم" ليشعر كل منهم أن مال بعضهم هو مال كلهم، وأن نفس كل فرد منهم كنفس الآخر.(2/474)
فالأمة المسلمة متكافلة متضامنة في حقوقها ومصالحها وأنفسها وأموالها، فمن أضاع مال غيره فكأنما أضاع مال نفسد، أو أضاع مال المجتمع كله، ومن اعتدى على نفس أخيه بالقتل فكأنما قتل نفسه، أو اعتدى على الجماعة كلها، كما جاء في الآية الأخرى: (أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) (المائدة: 32)..
وما أروع هذا القرآن وأبلغ إعجازه حيث يشير بعبارة أو جزء من عبارة إلى حقيقة كبيرة، أو مبدأ عظيم كما في الآية من سورة النساء: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (النساء: 29).. حيث أضاف الأموال فيها إلى جميع المخاطبين فلم يقل: "لا يأكل بعضكم مال بعض"، لينبه على أن المجتمع المسلم وحدة متضامنة في كل شيء. كأنه يقول: إن مال الآخرين هو مالكم في الحقيقة، ومال كل فرد منكم، هو مال المجتمع كله في الواقع.
يقول السيد رشيد رضا في تفسير الآية: "إن مثل هذه الإضافة قد قررت في الإسلام قاعدة الاشتراك التي يرمى إليها الاشتراكيون في هذا الزمان، ولم يهتدوا إلى سنة عادلة فيها، ولو التمسوها في الإسلام لوجدوها، ذلك بأن الإسلام يجعل مال كل من فرد من أفراده المتبعين له مالاً لأمته كلها، مع احترام الحيازة والملكية، وحفظ حقوقها، فهو يوجب على كل ذي مال كثير حقوقًا معينة للمصالح العامة، كما يوجب عليه وعلى جميع البشر، ويحث فوق ذلك على البر والإحسان، والصدقة الدائمة والمؤقتة، والهدية".. إلخ (تفسير المنار: 5 / 39 - الطبعة الثانية).
نخلص من هذا كله إلى أن للجماعة حقًا أكيدًا في مال الفرد، حقًا لا يسلبه ملكيته المشروعة له، بل يجعل جزءًا معينًا لمصالحها العامة، وأكثر منه عند اقتضاء الحاجة، واستدعاء المصلحة.(2/475)
فمن حق المجتمع ممثلاً في الدولة التي تشرف عليه، وترعى مصالحه، أن يكون لها نصيب من مال ذي المال تنفقه فيما يعود على المجتمع بالخير، وما يحفظ على المجتمع كيانه ورسالته، ويذود عنه كل بغي وعدوان.
فلو لم يكن في المجتمع المسلم أفراد فقراء محتاجون، لوجب على المسلم -ولابد- أن يؤدي زكاته، لتكون رصيدًا للجماعة الإسلامية، تنفق منه عند المقتضيات، وتبذل منه في "سبيل الله" وهو مصرف عام دائم ما دام في الأرض إسلام.
الإخاء بين المسلمين:
والنظرية الرابعة.. نظرية الإخاء.
والإخاء معنى أعمق غورًا، وأبعد مدى، من التكافل بين الفرد والمجتمع. الإخاء لا يعتمد على تبادل المنافع، ولا على الإعطاء مقابل الأخذ، وإنما هو معنى إنساني روحي، ينبع من جوهر الإنسان الأصيل، الإخاء يقتضي الأخ أن يعطي أخاه وإن لم يأخذ منه، وأن يساعد أخاه وإن لم يكن محتاجًا إليه، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل قد يؤثره إلى نفسه.
والإخاء الذي جاء به الإسلام نوعان أو درجتان: إخاء أساسه الاشتراك في الإنسانية، وإخاء أساسه الاشتراك في العقيدة.
فإن الناس -وإن اختلفت ألسنتهم وألوانهم، وتباينت طبقاتهم ودرجاتهم- فروع لأصل واحد، أبناء لأب واحد، ولذلك يناديهم ربهم: (يا بني آدم) (ورد هذا النداء في القرآن خمس مرات، أربعًا في سورة الأعراف، ومرة في سورة يس). كما يناديهم بـ: (يا أيها الناس) أول سورة النساء والحج، وتكرر في القرآن مرارًا). فبينهم جميعًا رحم واشجة، وأخوة جامعة.
وقد أكد الله في كتابه حق هذه الرحم الإنسانية، وتلك الأخوة البشرية فقال تعالى في مطلع سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبًا) (النساء: 1)..(2/476)
ومن حق كلمة (الأرحام) في هذا المقام بعد النداء ب (يا أيها الناس) والتذكير بخلقهم من نفس واحدة -هي نفس آدم- أن يراد بها -فيما يراد- القرابة الإنسانية العامة.
كما أن رسول الإسلام أكد هذه الأخوة، ودعا إليها فقال: (وكونوا عباد الله إخوانًا) (متفق عليه). بل أعلن هذه الأخوة الإنسانية عقيدة من العقائد التي يشهد الله عليها، ويدعو الناس إلى الإيمان بها، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول عقب كل صلاة: (اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أنك الله وحدك لا شريك لك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن محمدًا عبدك ورسولك، اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه أنا شهيد أن العباد كلهم أخوة) (رواه أحمد وأبو داود).
فإذا كانت الأخوة هي عنوان العلاقة بين الإنسان والإنسان، فإن لهذه الأخوة ثمرات ومقتضيات، ومن مقتضيات هذه الأخوة ألا يعيش الإنسان مستأثرًا بالخير والنعمة دون أخيه الإنسان، فما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط، وما أروع ما قال المعري:
ولو أني حبيت الخلد فردًا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وفوق هذه الأخوة العامة هناك أخوة أبعد منها غورًا، وأعمق أثرًا، تلك هي أخوة العقيدة، فإن العقيدة الإسلامية تربط بين المؤمنين بها برباط فكري وروحي لا تنفصم عراه، رباط يجعل الأخ في العقيدة أقرب إلى القلب والفكرة، وأسرع إلى المعونة والنجدة، من الأخ في الدم والنسب ولهذا قال تعالى:(إنما المؤمنون أخوة) (الحجرات: 10).
ومن حق هذه الأخوة الروحية، وهذه الرابطة العقلية العاطفية، أن تؤتي ثمارها في مجال التضامن العلمي، والتكافل الاجتماعي المعاشي، وإلا كانت أخوة فارغة جوفاء.(2/477)
ويتأكد حق هذه الأخوة إذا كان المؤمنون بها يعيشون في ظل مجتمع واحد فهنا تنضم رابطة المساكنة في الوطن الواحد إلى رابطة الأخوة الإيمانية الواصلة، ومن الثابت أن دار الإسلام -على سعتها- وطن واحد للمسلمين، وأن أبناء الإسلام داخل هذا الدار مجتمع واحد.
وقد بينَّ رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- حقوق هذه الأخوة بأحاديثه الكثيرة الهادية: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) (متفق عليه، من حديث أبي موسى)..، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) (متفق عليه، من حديث النعمان بن بشير).، (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه). (رواه البخاري ومسلم وأبو داود (الترغيب والترهيب: 3 / 389 د طبع الحلبي).
ومن ترك أخاه يجوع ويعرى ويمرض، وهو قادر على إنقاذه من الجوع والعرى والمرض، فقد أسلمه وخذله.
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم) (رواه الطبراني والبزار من حديث أنس وإسناده حسن، وروى الطبراني وأبو يعلى نحوه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم من حديث عائشة (الترغيب والترهيب: 3 358) .
هذا هو المجتمع المسلم: بنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا، وأسرة واحدة يكفل كل أخ فيها أخاه، بل جسد واحد، إذا اشتكى بعضه اشتكى كله. فمن حق الإنسان المسلم الذي لا يستطيع أن يعمل، أو يستطيع أن يعمل ولا يجد عملاً، أو يعمل ولا يجد كفايته من عمله، أو يجد ولكن حل به من أحداث الزمن ما أفقره إلى المعونة، كأن احترق بيته، أو ذهب السيل بماله، أو أصابت الجوائح زرعه، أو أفلست تجارته، أو نحو ذلك، مما جعله يدان على عياله، كذلك من سافر لغرض مشروع فانقطع في الطريق غريبًا عن وطنه وماله.(2/478)
من حق كل واحد من هؤلاء أن يعان، ويشد أزره، ويؤخذ بيده لينهض ويسير في قافلة الحياة مرفوع الرأس، بوصفه إنسانًا كرمه الله - وإلا فلا خير في الإنسان، ولا في المؤمن إذا ضيع أخاه في العقيدة والإيمان.
بهذا كله يتضح لنا الأساس النظري لفرض الزكاة في الإسلام، وهو شيء أوسع وأعمق وأخلد من الأساس الذي بني عليه فرض الضريبة، وقد يكون في نظرية التكافل قدر مشترك بين الزكاة والضريبة، ولكن النظريات الثلاث الأخر، مما تميزت به فريضة الزكاة بلا مراء.
الفصل الثالث
وعاء الضريبة ووعاء الزكاة
فهرس
المبحث الثاني: الزكاة في الدخل والإيراد
معنى الدخل
زكاة الدخل في شريعة الإسلام
المبحث الثالث: الزكاة الواجبة على الأشخاص
الضريبة على الأشخاص
مزاياها وعيوبها
مزايا زكاة الفطر كضريبة على الأشخاص
تمهيد
المبحث الأول: الزكاة في رأس المال
في الزكاة مزايا ضريبة رأس المال دون عيوبها
مزايا الضريبة على رأس المال في نظر أنصارها
المعارضون لضريبة رأس المال
ما يجب مراعاته عند فرض ضريبة على رأس المال
سبق الإسلام بمراعاة هذه الأمور في الزكاة
وعاء الضريبة: هو العنصر الذي يخضع لها، ويسميه بعضهم: المصدر، وبعضهم: المطرح.
وقد ذكر علماء المالية العامة: أن أهم تقسيم للضرائب هو تقسيمها من حيث وعائها. فتنقسم إلى:
1- ضرائب على رأس المال.
2- ضرائب على الدخل والإيراد.
3- ضرائب على الأشخاص.
4- ضرائب على الاستهلاك.
ولم يعرف الإسلام في باب الزكاة ضرائب الاستهلاك هذه؛ لأن حقيقة الزكاة أنها ضريبة تؤخذ من الغني، وترد على الفقير والمصالح العامة للدين والأمة، والمستهلك قد يكون فقيرًا كما يكون غنيًا، وإنما يلجأ إلى هذه الضريبة من يلجأون، طلبًا لوفرة الحصيلة، ووفرة الحصيلة لا تهم في نظر الإسلام إذا تعارضت هي ومبادئه الأخرى، وإنما عرف الإسلام الضرائب الأخرى، على رأس المال، وعلى الدخل، وعلى الأشخاص.(2/479)
وفي مباحث هذا الفصل نذكر هذه الأنواع الثلاثة من أنواع الزكاة، مقارنين بينها وبين ما يماثلها من الضرائب، في غير تطويل ممل، ولا إيجاز مخل.
المبحث الأول
الزكاة في رأس المال
إن المتأمل في أموال الزكاة ومقاديرها -كما فرضها الإسلام- يتبين له جليًا: أن الشريعة الإسلامية لم تأخذ بنظام الضريبة الواحدة، كما نادى بعض المفكرين الاقتصاديين في بعض العصور، بل أخذت بنظام الضرائب المتعددة في باب الزكاة.
فالزكاة تجب في رأس المال حينًا، كما في الثروة الحيوانية السائمة والذهب والفضة (النقود) والثروة التجارية.
وتجب في الإيراد والدخل أحيانًا، وليس وجوبها في عموم الدخل، بل في فروع الدخل المختلفة، وأولها: دخل الاستغلال الزراعي، ثم دخل الإنتاج المعدني، ثم دخل العقارات المبنية المستأجرة بالفعل، ثم دخل المصانع والآلات، ودخل كل رأس مال مغل -غير تجاري- ثم دخل العمل والكسب وهوً يشمل رواتب وأجور الموظفين والعمال، كما يشمل إيراد ذوي المهن الحرة، وهذا حسبما رجحناه في موضعه من هذا الكتاب.
في الزكاة مزايا ضريبة رأس المال دون عيوبها
والشريعة الإسلامية حين فرضت الزكاة في رأس الكال -الماشية والثروة التجارية والنقود- قد سبقت الاشتراكيين وأمثالهم ممن نادوا بفرض الضرائب على رأس المال، حتى غالى بعضهم فطلب أن تكون هي الضريبة الوحيدة - أي يقتصر عليها النظام المالي، وتتناول رأس الكال دون غيره (علم المالية للدكتور رشيد الدقر ص 352).
مزايا الضريبة على رأس المال في نظر أنصارها
ويسوق الضريبة على رأس المال حججًا كثيرة نذكر منها:
1- إن ملكية رأس المال تمنح أصحابها مزايا اجتماعية واقتصادية عديدة، منها فرص الكسب التي تتاح لهم أكثر من غيرهم، والاطمئنان الذي يشعرون به بسبب ثروتهم، هذا إلى جانب ما يدره رأس المال من إيراد دوري.(2/480)
2- إن الضريبة على رأس المال تتناول ثروات الأفراد كلها، حتى تلك التي لا تعطي دخلاً ولا تخضع بالتالي لضرائب الدخل -سواء أكانت لا تأتي بدخل بطبيعتها- كالتحف الثمينة والحلي والجواهر النفيسة - أو بسبب من قبل أصحابها كالأموال النقدية.
3- إن هذه الضريبة -وقد خضعت لها جميع عناصر الثروة- تصيب الأموال العاطلة، وتحفز على تثميرها، حتى لا تأكلها الضريبة المتكررة، على خلاف ضريبة الدخل التي لا تصيب إلا الأموال العاملة المستغلة، وتفلت منها رؤوس الأموال المكنوزة.
4- إن هذه الضريبة على رأس المال تستثمر همم أرباب المال إلى زيادة إنتاجهم باعتبار أنهم دافعون للضريبة، سواء أنتج رأس مالهم أم لم ينتج، وسواء أكان الإنتاج قليلاً أم كثيرًا.
5- إن تطبيق هذه الضريبة يساهم في التخفيف من النسب العالية، والمقادير الباهظة التي تصل إليها ضرائب الدخل، بفضل الإيرادات التي تتوافر من ورائها، فتعفي السلطات المالية -إلى حد ما- من زيادة التصاعد في ضريبة الدخل.
6- إن الضريبة على رأس المال -كما يدل عليها اسمها- لا تصيب الطبقات غير المالكة، التي يقتصر رزقها على العمل وحده، وبذا تعتبر من الضرائب الإصلاحية الاشتراكية (انظر في هذه المزايا كتاب علم المالية للدكتور رشيد الدقر -الطبعة الثانية- مطبعة الجامعة السورية ص 347، وكتاب "موارد الدولة" للدكتور سعد ماهر حمزة ص 166 وما بعدها).
هذه أهم المزايا التي يؤيد بها أنصار الضريبة على رأس المال وجهتهم، وجمهور هؤلاء من ذوي الاشتراكية.
المعارضون لضريبة رأس المال
وفي مواجهة هؤلاء يقف المعارضون لفرض الضرائب على رأس المال، وجلهم من أنصار الاقتصاد الرأسمالي - يحاولون تنفيذ هذه الحجج، والغض من هذه المزايا. قالوا:(2/481)
1- إن فرض أية ضريبة على رأس المال من شأنه في كثير من الأحايين أن يحد من الرغبة في الادخار، بل القدرة على الاستثمار، مما يفضي إلي نتائج غير محمودة، فإن إخضاع رؤوس الأموال الثابتة من عقارات ومصانع ونحوها للضريبة قد يثبط همة المدخرين ويدعوهم إلى إنفاق دخلهم بدلاً من تحويله إلى أصول ثابتة.
2- إنه من الصعوبة بمكان تحديد رأس المال الخاضع للضريبة، ذلك لأن الآراء ما زالت متضاربة بشأن تعريف رأس المال وطبيعته، وتقدير ممتلكات الشخص بدقة -بحيث يتفق التقدير مع الواقع- أمر شاق وعسير، والاعتماد على إقرارت المكلفين لا يكفي، لأن كثيرًا منهم يلتجئون إلى تقديم إقرارت غير صحيحة، وهناك من الأموال ما يمكن إخفاءه كالنقود.
3- إن فرض ضريبة سنوية على رأس المال قد يؤدي في النهاية إلى فناء هذا الصدر الهام من مصادر الدخل، فرأس المال -على خلاف الدخل- لا يتجدد دوريًا بصفة منظمة، بل إن كان قدر يستقطع منه يعد بمثابة قضاء على هذا القدر. فإذا استمرت الدولة في فرض هذا النوع من الضرائب فإنها تكون مقدمة بلا ريب على تحويل الأموال الخاصة إلى ذمتها وبذلك تقل حصيلة الضرائب، وينكمش النشاط الفردي (صفحة 168 وما بعدها من كتاب موارد الدولة).
ما يجب مراعاته عند فرض ضريبة على رأس المال
ومن هنا أوصى بعض علماء المالية -عند اللجوء إلى ضريبة رأس المال للاستفادة من بعض المزايا التي تتمتع بها- أن يراعى ما يلي:
1- يستحسن ألا تؤدى هذه الضريبة إلى اقتطاع جزء كبير من رأس المال ذاته، وإنما يفضل أن تكون معتدلة في نسبتها، بحيث تقف عند الدخل الناشئ عن رأس المال فستوفي منه حصرًا دون أن تتعرض إلى رأس المال ذاته.
2- يجب ألا تفرض الضريبة "وحيدة" في النظام الضريبي، وإنما تفرض "تكميلية" أي إلى جانب ضرائب أخرى، وخاصة "الضريبة على الدخل" (علم المالية للدكتور رشيد الدقر ص 355 - الطبعة الثانية).(2/482)
3- أن يعفى صاحب الثروة التي تقل عن رقم معين أو صاحب الدخل من الثروة إذا كان الدخل يقل عن حد معين.
4- يجب استبعاد التكاليف على الثروة كالديون والرهون ونحوها (موارد الدولة ص 176).
سبق الإسلام بمراعاة هذه الأمور في الزكاة
ونحن إذا نظرنا إلى الزكاة التي شرعها الإسلام في رأس المال، وجدناها -بحمد الله- مشتملة على المزايا التي ذكروها، مبرأة من العيوب التي انتقدوها، متضمنة أحسن التوصيات التي نبهوا عليها.
1- فالإسلام لم يوجب الزكاة في كل رأس المال، بل في المال النامي المغل فقط، والمراد بـ "النامي": ما من شأنه أن ينمى ولو عطله صاحبه، وإنما اشترط النماء في المال، لتؤخذ الزكاة من الزيادة والفضل، ويبقى الأصل سالمًا، وكلمة "الزكاة" في لغة العرب معناها النماء، ولهذا كان مما عللوا به إطلاقها على هذه الفريضة المالية. أن، متعلقها الأموال ذات النماء (انظر: فتح الباري: 3/ 168 مقدمة كتاب الزكاة).
ومن هنا اخترنا رأي القائلين بعدم زكاة الحلى المباح المستعمل، لعدم نمائه، بخلاف ما اتخذ كنزًا، أو كان فيه سرف ظاهر، ومجاوزة للمعتاد، وكذلك إذا استعمله الرجال حلية لهم، أو استعمل في الآنية والتماثيل ونحوها، ففي كل ذلك الزكاة ؛ لما فيه من ثروة نافعة في غير حاجة إليها.
ولهذا أيضًا اتفق الفقهاء على أن لا زكاة في دور السكنى، وثياب البدن، وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وسلاح الاستعمال وآلات المحترفين، وكتب العلم، ولأنها ليست بنامية، ولأنها مشغولة بالحاجة الأصلية للمالك (انظر: فتح القدير وشرح العناية على الهداية: 1/487 - 489).
هذا مع أن السائد في تشريع الضرائب ألا يعفى المنزل الذي يسكنه صاحبه من الضريبة، وفي بعض الولايات السويسرية تتناول الضريبة - فضلاً عن الدخول المختلفة- كافة الثروات المنقولة والأشياء القابل للتثمين حتى الأثاث (علم المالية للدقر: 355).(2/483)
2- ولم تفرض الشريعة الإسلامية الزكاة في رأس المال الثابت نفسه كالمصانع والعقارات، بل في رأس المال المتداول، أما رأس المال الثابت فتؤخذ الزكاة من غلته ونمائه، كالأرض الزراعية التي جاء بها النص، وما ألحقناه بها من العمارات ونحوها من المستغلات، وبهذا لا تثبط الزكاة همم المدخرين، ولا تدعوهم إلى التوسع في إنفاق دخلهم، مخافة أن يتحول إلى أصول ثابتة، كما يحدث نتيجة لبعض الضرائب.
3- ولم تفرض الشريعة الإسلامية الزكاة في كل رأس مال قل أو كثر، بل فرضت نصابًا خاصًا اعتبرته الحد الأدنى للغنى، وأعفت ما دونه من وجوب الزكاة، إلا أن يتطوع المالك، وقد قدر ذلك -كما شرحنا من قبل - بما قيمته 85 جرامًا من الذهب، بالنسبة للنقود والثروة التجارية فأوجبت فيه الزكاة إذا حال عليه الحول، وكان فاضلاً عن حاجات المالك الأصلية، والحاجات الأصلية تختلف باختلاف العصور كما بينا من قبل.
4- كما أن الإسلام لم يرفع سعر الزكاة في رأس المال، بحيث تقتطع جزءًا كبيرًا منه، وإنما فرضها بنسبة معتدلة جدا هي 5.2 %، تحديدًا في النقود والثروة التجارية، وتقريبًا في بهيمة الأنعام بحيث يستطاع أخذها بسهولة من الدخل الناتج من نمائه، وخاصة أن الزكاة فريضة دورية.
والواقع أن الإسلام حين فرض الضريبة على رأس المال -في النقود والتجارة والماشية - لم يقصد إلى إخضاع رأس المال ذاته، بل قصد إخضاع الدخل الناتج عنه، ومما يجدر بالذكر أن فقهاءنا نصوا على هذا المعنى بعبارات صريحة..(2/484)
فشيخ الإسلام ابن قدامة في "المغني" يقول في التفريق بين ما اعتبر له الحول من الأموال وما لم يعتبر له: "إن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء، فالماشية مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة مرصدة للربح، وكذا الأثمار (يعني الربح) فاعتبر لهالحول، لأنه مظنة النماء، ليكون إخراج الزكاة من الربح، فإنه أسهل وأيسر، ولكيلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات فينفذ مال المالك" (المغني: 2 / 625 (بتصرف)، وانظر ص 181 من هذا الكتاب).
وقال صاحب "الهداية" في فقه الحنفية: ولا بد من الحول؛ لأنه لا بد من مدة يتحقق فيها النماء، وقدرها الشارع بالحول، لأنه المتمكن به من الاستنماء، لاشتماله على الفصول المختلفة، والغالب تفاوت الأسعار فيها، فأدير الحكم عليه.
وعلق المحقق الكمال ابن الهمام في "فتح القدير" على بيان هذه الحكمة في اشتراط الحول شرعًا فقال: وحقيقته: " أن المقصود من شرعية الزكاة -مع المقصود الأصلي من الابتلاء- مواساة الفقراء على وجه لا يصير هو فقيرًا، بأن يعطي من فضل ماله قليلاً من كثير، والإيجاب في المال الذي لا نماء له يؤدي إلى خلاف ذلك عند تكرر السنين، خصومًا مع الحاجة إلى الإنفاق، فشرط الحول في المعد للتجارة (يريد التنمية والتثمير) من العبد، أو بخلق الله تعالى إياه لها، ليتمكن من تحقيقها في الوجود فيحصل النماء، المانع من حصول ضد المقصود" (فتح القدير شرح الهداية: 1 / 482).
وبهذا يتضح لنا أن الهدف لم يكن أخذ الزكاة من رأس المال نفسه، بل من إيراده ونمائه، ولكن لماذا تؤخذ الزكاة من الإيراد والنماء حقيقة؟..(2/485)
يقول ابن قدامه في الجواب عن ذلك (المغني 2 / 625).: "لم تعتبر حقيقة النماء، لكثرة اختلافه وعدم ضبطه، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقة، كالحكم مع الأسباب" (يشير بهذا إلى أن الشرع لا يرتب أحكامه إلا على الأوصاف الظاهرة المنضبطة وهي ما يسميها الفقهاء "العلل" أو"الأسباب" لا على "الحكم" التي هي العلة الحقيقية لحكم الشارع، ومثال ذلك: أن الإسلام شرع للمسافر الفطر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، والحكمة في ذلك هي المشقة، ولكنها لما كانت أمرًا غير محدد ولا منضبط لم يلتفت إلية، ورتب الشارع الحكم على مظنة المشقة وهو السفر نفسه)..
المبحث الثاني
الزكاة في الدخل والإيراد
يعتبر "الدخل" أهم أوعية الضريبة في العصر الحديث، وإذا كان أعظم مصادر الدخل قديمًا هو الملكية العقارية، فإن عصرنا قد فتح أبوابًا جديدة للدخل، ناشئة عن العمل، أو رأس المال، أو الاثنين معًا.
فعندما تقدمت حركة التصنيع، وزاد تيار المبادلات الداخلية والخارجية، زادت الإيرادات الناشئة عن العمل ورأس المال وتنوعت، ومن ذلك أرباح النشاط التجاري والصناعي، وإيرادات القيم المنقولة من أسهم وسندات، وذلك إلى جانب أرباح المهن والمرتبات والأجور التي أصبحت تدفع إلى عدد كبير من الموظفين والعمال بالمنشآت المختلفة.
ونظرًا للتوسع في اختصاصات الدولة الحديثة من جهة، وظهور مصادر جديدة غير الإيرادات العقارية من جهة أخرى، فقد لجأت الدول في الوقت الحاضر إلى الضرائب المباشرة على الدخل بوصفها موردًا للخزانة، وبذلك قلت الأهمية النسبية للضرائب غير المباشرة، من رسوم جمركية وضرائب استهلاك، وفضلاً عن ذلك، فضرائب الدخل ـ في نظر علماء المالية ـ أقرب إلى تحقيق العدالة في الظروف الحديثة، التي لابد فيها من اشتراك أصحاب الإيرادات غير العقارية، مع أصحاب الإيرادات العقارية في تحمل الأعباء العامة (موارد الدولة للدكتور سعد ماهر ص 117).
معنى الدخل(2/486)
والدخل هو: "الثروة الجديدة التي تفيض من مصدر معلوم قابل للثبات".
( أ ) فلابد من مصدر للدخل، سواء أكان ماديًا كالعقار والمنقول العيني والنقدي، أو معنويًا كالعمل (الذي يمكن تقديره بالأجر النقدي) أو مزيجًا منهما، فمصادر الدخل: إما رأس المال أو العمل أو هما معًا.
ولما كان رأس المال ينقسم إلى عقار ومنقول، فإن الدخل الذي يفيض منهما هو دخل من الثروة العقارية، ومن الثروة المنقولة.
أما عن العمل فقد يباشره الممول بنفسه دون أن يرتبط برباط الخضوع لغيره، ويضطلع بعمل يدوي أو عقلي، فدخله في هذه الحال دخل مهني مستمد من المهنة التي يمارسها، فإذا ارتبط بغيره بعقد إجارة أشخاص، فإن دخله يتخذ حينئذ صورة الرواتب أو الأجور أو المكافآت.
ولما كان المصدر الثالث مختلطًا يجمع بين المال والعمل، فإن الدخل المستمد منه هو الربح في العادة (مبادئ علم المالية العامة للدكتور محمد فؤاد إبراهيم: 1/322).
وعلى أساس التفرقة تبعًا للمصدر يقسمون الدخول إلى ريع وفائدة، وأجر وربح.
(ب) والأصل في هذه المصادر كلها أنها تتصف بالبقاء والثبات، والمراد الثبات النسبي، وأقل درجات الثبات احتمال العودة إلى الإنتاج، ولكن هذه المصادر تتفاوت في احتمالها للبقاء والدوام، فرأس المال أقدر على البقاء في هذه الناحية من العمل (المصدر السابق نفسه) وهذه الفروق النسبية في درجة بقاء مصدر الدخل تكون عادة مسوغًا لاختلاف أعباء الضريبة الواحدة، فيزيد السعر إذا كان مصدر الدخل مالاً فحسب، ويخفف إذا كان المصدر عملاً فحسب، ويكون العبء وسطًا إذا كان المصدر مزيجًا من المال والعمل، بل قد يتفاوت سعر الضريبة أيضًا بحسب نوع رأس المال، فسعر الضريبة على الدخل من الأراضي الزراعية يمكن أن يكون أعلى من سعر الضريبة على دخل المباني ؛ لأن المباني تستهلك بعد مدة ..وهكذا (موارد الدولة ص 122).
زكاة الدخل في شريعة الإسلام(2/487)
والإسلام كما فرض الزكاة على رأس المال في الثروة الحيوانية والتجارية والنقدية، فرض الزكاة على الدخل والإيراد أيضًا . وأوضح مثل لذلك ما فرضه الإسلام على دخل الاستغلال الزراعي أو ما عرف باسم "زكاة الزروع والثمار" فقد أوجب فيها العُشر أو نصف العُشر حسب طريقة ري الأرض بآلة أو بغير آلة أعطانا الإسلام مبدءًا له وزنه وخطره في عالم التشريع الضريبي، وذلك هو تنويع سعر الواجب وفق الجهد المبذول، فكلما قل الجهد ارتفعت نسبة الضريبة، وكلما زاد الجهد هبطت النسبة.
ومن هنا فرض الإسلام الخُمس (20%) على ما يعثر عليه من الكنوز المدفونة في الأرض، وفرض نصف الخمس (العُشر) (10%) على ما سقى من الزرع والثمر بماء السماء أو بالراحة، وفرض (نصف العشر) 5% على ما سقى بالدواب أو الآلات، وفرض نصفه (ربع العشر) (2.5%) على ما يكسبه من وراء كده وعمله، كما هو الشأن في كسب التجارة.
ومن هنا أيضًا ذهب بعض الفقهاء إلى أن الواجب في المستخرج من المعادن يتنوع من خمس إلى ربع العشر، حسب المؤنة والمشقة، كما بينا ذلك في موضعه (في الفصل السابع من الباب الثالث).
ومن أنواع زكاة الدخل في الإسلام: ما ذهب إليه جماعة من الأئمة من القول بزكاة العسل، وأن فيه العشر . وهو ما رجحناه وقسنا عليه المنتجات الحيوانية.
ومن ذلك: زكاة الدخل الناتج من إنتاج الثروة المعدنية، على اختلاف في قدر الواجب . ومن ذلك أيضًا: زكاة الدخل الناشئ من إنتاج الثروة البحرية من لؤلؤ وعنبر وأسماك وغيرها مما يستخرج من البحر، وهذا ما ذهب إليه بعض السلف، وما اخترناه وأيدناه.
ومن ذلك: الدخل الناشئ من أجرة الأرض الزراعية التي تؤجر لمن يزرعها بنقود معينة، فالمالك يزكي الأجرة، كما يزكي الزارع الخارج من الأرض من زرع وثمر.(2/488)
ومن ذلك زكاة الدخل الناشئ من استغلال الممتلكات كالعمارات والسيارات وما شابهها مما يكرى ويؤجر ويدر على مالكه دخلاً، كما ذهب إليه بعض العلماء، ورجحناه في موضعه.
ومن ذلك: زكاة الدخل الناشئ من كسب العمل والمهن الحرة . ويدخل في ذلك الرواتب والأجور والمكافآت وما يستفيده أصحاب المهن والحرف المختلفة من المكاسب والدخول، ففي كل هذا الزكاة ـ بشروطها ـ على ما رجحناه.
المبحث الثالث
الزكاة الواجبة على الأشخاص
الضريبة على الأشخاص
ذكرنا أن علماء الضريبة قسموا الضرائب من حيث وعائها ـ إلى ضرائب على رأس المال ـ وضرائب على الدخل، وضرائب على الأشخاص ـ وقد تحدثنا عن الزكاة بوصفها ضريبة على رأس المال، وضريبة على الدخل، وبقى أن نتحدث عن نوع من الزكاة هو من الضريبة على الأشخاص، وضريبة الأشخاص تصيب الممول مباشرة على أنه العنصر الخاضع للضريبة، بغض النظر عن حالته الشخصية من غني أو فقر، وكانت تسمى "ضريبة الرؤوس" لأنها تؤخذ عن كل رأس، أي كل شخص.
وضريبة الرؤوس هذه قد تعمد الدولة إلى فرضها بحيث تصيب الرجال والنساء والأطفال على السواء، أو على الأشخاص الذين تتوافر فيهم بعض الشروط الخاصة، كاشتراط الأهلية السياسية، أو يتقرر فرضها على الأقليات أو الأجانب . . إلخ.
مزاياها وعيوبها
ومن مزايا هذه الضريبة: أنها لا تكلف الإدارة المالية مئونة البحث في تحديد العناصر الخاضعة للضريبة، فضلاً عن أنها تقرر خضوع الجميع للضريبة وفقًا لمبدأ العمومية المطلقة ـ فتزداد الحصيلة.
على أنه يؤخذ عليها أنها تصطدم بمبادئ القدرة على تحمل الضريبة وأدائها، ما دام يستقطع من طوائف الممولين جميعًا مقدار واحد، مهما تتباين دخولهم وثرواتهم.(2/489)
ومن ثم أعرضت الدول الحديثة عنها، واتجهت إلى ضرائب الأموال، ومع ذلك فما زالت بعض الدول الحديثة تلجأ إلى فرض هذا النوع من الضرائب لتحقيق بعض الأهداف الخاصة ؛ كأن تفرضها على الجميع لتنمية الوجدان الجماعي عندهم، ولتشعرهم أنهم جميعًا يسهمون في تحمل الأعباء العامة، ولتحثهم بالتبعية على الاهتمام بالشئون السياسية، وبشئون الهيئات المحلية إذا كانوا مقيمين بالأقاليم.
هذا، ويلاحظ أن عددًا من الولايات الأمريكية ما برح يفرض ضريبة على الرؤوس، وإن كان يخصص حصيلتها، إما للإنفاق على التعليم، وإما لتقديم إعانات اجتماعية، وإما لتحسين حال الطرق.
وكذلك فرنسا، ما زالت تفرض أيضًا، ضريبة الرؤوس كضريبة محلية وما على الممول - إن لم يرد الخضوع لها - إلا أن يعمل ثلاثة أيام سنويًا في تعبيد الطرق وصيانتها (من كتاب "مبادئ علم المالية العامة " للدكتور محمد فؤاد إبراهيم: 1/305 ـ 307 ـ مبحث " الضرائب على الأشخاص ").
مزايا زكاة الفطر كضريبة على الأشخاص
وإذا نظرنا إلى زكاة الفطر التي فرضها الإسلام مرة في كل عام بمناسبة الفراغ من فريضة الصيام وقدوم العيد، وجدناها نوعًا من الضريبة على الأشخاص فيها مزاياها من حيث سهولة فرضها، وسهولة تحصيلها، وعمومها لكل المكلفين، وهي مع ذلك خالية مما تعاب به تلك الضرائب، لأنها قدر يسير، يسهل على النفس أداؤه عن طيب خاطر، وخاصة لارتباطها بعبادة مفروضة، ومعان قدسية، وأهداف روحية وأخلاقية، كما أن من لا يقدر على دفعها معفى منها بإجماع المسلمين.
إن الشريعة الإسلامية بفرض هذه الزكاة السنوية على كل مسلم، رجل أو امرأة، صغير أو كبير، غني أو فقير، إنما أرادت أن تعود المسلم البذل في العسر واليسر، والإنفاق في السراء والضراء، والاهتمام بالآخرين، والشعور بحاجة المحتاجين، وخاصة في مناسبة سارَّة كقدوم العيد والانتهاء من فريضة الصوم.(2/490)
ومن هنا لم ير الإسلام مانعًا أن يعطى المسلم هذه الزكاة، وإن كان ممن يستحق أخذها، وقد جاء في الحديث: (أما غنيكم فيزكيه الله تعالى، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى) (تقدم في زكاة الفطر).
ولا زالت هذه الزكاة مما يحرص المسلمون في شتى بقاع الأرض على أدائها، لتجبر ما نقصه اللغو والرفث من صيامهم، رغم إهمال الكثيرين منهم لزكاة الأموال.
الفصل السابع
هل تُفرض ضرائب مع الزكاة؟
فهرس
تابع المبحث الثاني: الشروط التي تجب رعايتها في الضرائب
وجوب الشورى من الكتاب والسُنَّة
هل الشورى مُعلِمة أم ملزمة؟
المبحث الثالث: شبهات المانعين لفرض الضرائب
الشبهة الأولى - أن لا حق في المال سوى الزكاة
الشبهة الثانية - احترام المِلْكية الشخصية
الشبهة الثالثة - الأحاديث الواردة بذم المكس ومنع العشور
الرد على الشبهة الأولى
الرد على الشبهة الثانية
الرد على الشبهة الثالثة
فقهاء من المذاهب الأربعة يجيزون الضرائب العادلة
فروع فقهية على الضرائب الظالمة
تمهيد
المبحث الأول: الأدلة على جواز فرض الضرائب مع الزكاة
أولاً - أن التضامن الاجتماعي فريضة
ثانيًا - أن مصارف الزكاة محدودة ونفقات الدولة كثيرة
ثالثًا - قواعد الشريعة الكلية
رابعًا - الجهاد بالمال وما يتطلبه من نفقات هائلة
خامسًا - الغُرْم بالغُنْم
المبحث الثاني: الشروط التي تجب رعايتها في الضرائب
الشرط الأول- الحاجة الحقيقية إلى المال ولا مورد آخر
الشرط الثاني- توزيع أعباء الضرائب بالعدل
الشرط الثالث- أن تُنفق في مصالح الأمة لا في المعاصي والشهوات
الشرط الرابع- موافقة أهل الشورى والرأي في الأمة(2/491)
إذا كان الإسلام قد فرض الزكاة حقًا معلومًا في أموال المسلمين، وجعلها ضريبة تتولاها الحكومة المسلمة جباية وصرفًا، فهل يجوز لهذه الحكومة أن تفرض على الأغنياء ضرائب أخرى إلى جوار الزكاة لإقامة مصالح الأمة، وتغطية النفقات العامة للدولة؟ أم تُعد الزكاة هي الفريضة المالية الوحيدة التي لا يؤخذ من المسلمين غيرها؟
ولكي يتضح هذا الأمر جليًا من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، نجعل الكلام فيه حول مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: الأدلة على جواز فرض الضرائب.
المبحث الثاني: الشروط التي يجب مراعاتها في فرض الضرائب.
المبحث الثالث: شبهات المانعين لفرض الضرائب والرد عليها.
وها نحن نتحدث عنها على هذا الترتيب.
المبحث الأول
الأدلة على جواز فرض الضرائب مع الزكاة
أما الأدلة على جواز فرض الضرائب العادلة فنوضحها فيما يلي:
أولاً - أن التضامن الاجتماعي فريضة:
ولا حاجة بنا إلى إعادة ما ذكرناه من أدلة على هذا الحكم في باب "أفي المال حق سوى الزكاة"؟ وحسبنا أن نذكر أن الجميع متفقون على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة عامة بعد الزكاة وجب سدها، مهما استغرق ذلك من الأموال، حتى الذين يقولون: "ليس في المال حق سوى الزكاة" يقررون ذلك في وضوح. كما يؤكد ذلك ما ذكرناه في نظرية "التكافل" ونظرية "الإخاء" في حديثنا عن الأساس النظري لفرض الزكاة، فهي تصلح أساسًا لكل ما يُفرض من حقوق في المال بعد الزكاة أيضًا.
ثانيًا - أن مصارف الزكاة محدودة ونفقات الدولة كثيرة:
فقد عرفنا أن الزكاة ضريبة ذات صبغة خاصة وأهداف معينة: أهداف اجتماعية وأخلاقية ودينية وسياسية، كما بيَّنا فيما سبق، وليس هدفها الهدف المالي فقط -أعني مجرد جمع المال للإنفاق على مرافق الدولة- إلا على قول من جعل "سبيل الله" يشمل كل طاعة ومصلحة، وهو خلاف ما تدل عليه الآية والحديث، وخلاف ما ذهب إليه الجمهور.(2/492)
ومن هنا كانت مصارف الزكاة محصورة في الأصناف الثمانية التي حددها القرآن، ويجمعهم وصفان: من كان محتاجًا من المسلمين كالفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين لأنفسهم وابن السبيل، ومن يحتاج إليهم المسلمون: كالمجاهدين في سبيل الله والمؤلَّفة قلوبهم والعاملين عليها، والغارمين لمصلحة المجتمع.
ولهذا كان للزكاة بيت مال خاص -أي ميزانية مستقلة- ولم يُجَوِّز الفقهاء أن يُخلط مالها بأموال الموارد الأخرى، لتُصرف في مصارفها الشرعية المنصوصة، وتقوم بمهمتها الأولى في إقامة التكافل الاجتماعي.
ومن أجل ذلك قال أبو يوسف: لا ينبغي أن يُضَم مال الخراج إلى مال الصدقات؛ لأن الخراج فيء لجميع المسلمين، والصدقات لمن سمى الله عز وجل (الخراج ص95).
ولهذا أيضًا قالوا: "لا تُصرف الزكاة إلى بناء الجسور، وتمهيد الطرق، وشق الأنهار، وبناء المساجد والربط والمدارس والسقايات، وسد البثوق" (المغنى: 2/667).
ولكن هذه الأمور ضرورية للدولة الإسلامية ولأي دولة، فمن أين تنفق على هذه المرافق، وإقامة هذه المصالح إذا لم يجز لها الصرف من الزكاة؟
والجواب: أنها كانت تنفق على هذه المصالح من خُمس الغنائم الحربية التي يستولي عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، وكان هذان الموردان في عهود الفتح الإسلامي الأولى يغنيان الخزانة بما لا تحتاج معه إلى فرض ضرائب على الناس غير الزكاة. وبخاصة أن واجبات الدول حينذاك كانت محدودة. أما في عصرنا -وقد نضب هذان الموردان- فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب أو وظائف على ذوي المال، بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها، وفقًا لقاعدة: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".(2/493)
ولقد رأينا فقهاء الشافعية يقررون أن الغزاة "المرتزقة" الذين لهم سهم في الفيء -وبعبارة أخرى: الجنود النظاميين الذين لهم راتب من الخزانة العامة- لا يجوز أن يُصرف لهم شيء من أموال الزكاة. فأما سهم "سبيل الله" فهو للمتطوعة من المجاهدين. ولكنهم بحثوا هنا ما إذا لم يكن في الخزانة العامة شيء يُعطي منه للجنود المنتظمين، واحتاج المسلمون إلى من يكفيهم شر الكفار، فمن أين يُعطي هؤلاء المنتظمون ما يقوم بحاجاتهم ومطالبهم؟
لقد رجح النووي وغيره من أئمة الشافعية أنه يلزم أغنياء المسلمين إعانتهم من غير مال الزكاة (انظر: الروضة: 2/321، وتحفة المحتاج: 3/96).
ثالثًا - قواعد الشريعة الكلية:
وليس الأمر مقصورًا على قاعدة إيجاب "ما لا يتم الواجب إلا به"، فإن هناك قواعد كلية ومبادئ تشريعية عامة، أصلها علماء الإسلام أخذًا من نصوص الشريعة، ومن استقراء أحكامها الجزئية، وأصبحت بذلك أصولاً تشريعية يُحتكم إليها، ويعول عليها، ويُهتدَي بها عند التقنين أو الفتوى أو القضاء.
ومن هذه القواعد: "رعاية المصالح"، "درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة"، "تفويت أدنى المصلحتين تحصيلاً لأعلاهما"، "يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام" (انظر في هذه القواعد: الأشباه والنظائر لابن نجيم، قسم القواعد، وأيضًا: أصول التشريع للخضري).
ولا ريب أن تحكيم هذه القواعد الشرعية لا يؤدى إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يحتم فرضها وأخذها، تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها -ما لم تكن عندها موارد أخرى كافية كالبترول- ولو تركت دولة الإسلام العصرية دون ضرائب تنفق منها، لكان من المحتم أن تزول بعد زمن يسير من قيامها، وينخر الضعف كيانها من كل نواحيه، فضلاً عن الأخطار العسكرية عليها.
ولهذا أفتى علماء المسلمين في عصور مختلفة بوجوب إمداد بيت المال بما يلزمه من ضرائب يفرضها الحاكم المسلم لدرء خطر أو سد حاجة.(2/494)
نجد الغزالي الشافعي -وهو من المضيقين في الأخذ بالمصالح المرسلة- يقول: " وإذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، وخيف من ذلك دخول العدو بلاد الإسلام، أو ثوران الفتنة من قِبَل أهل الشر، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، لأنَّا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران، قصد الشرع دفع أشد الضررين، وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم (أي من الأغنياء) قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله، لو خلت خطة الإسلام (أي بلاده) من ذي شوكة (أي حاكم قوي) يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور" (المستصفي: 1/303).
وقال الشاطبي المالكي: "إنَّا إذا قدَّرنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد حاجة الثغور، وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجة الجند إلى مال يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال في بيت المال، ثم إليه (أي إلى الإمام) النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك".
"وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأوَّلين (أي في عهود الإسلام السابقة) لاتساع بيت المال في زمانهم، بخلاف زماننا، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام، فالذين يفرون من الدواهي (أي الضرائب المفروضة عليهم) لو تنقطع عنهم الشوكة، لحقهم من الأضرار ما يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلاً عن اليسير منها، فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق بهم بأخذ البعض من أموالهم، فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول" (الاعتصام: 2/104 -بتصرف).
فكلام كل من الغزالي والشاطبي في تجويز فرض الضرائب أو الوظائف على الأغنياء في الحال التي ذكروها، مبني على قاعدة: "وجوب تحمل الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى وأشد".(2/495)
رابعًا - الجهاد بالمال وما يتطلبه من نفقات هائلة:
إنّ الإسلام قد فرض على المسلمين الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. في مثل قوله تعالى: (انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأمْوَالِكُمْ وَأنَفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله) (التوبة: 41). (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأمْوَالَهِمْ وَأنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه، أوْلَئِكَ هُمُ الصَّادقُونَ) (الحجرات:15). (تُؤًمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه بِأمْوَالِكُمْ وَأنفُسِكُمْ) (الصف:11). (وَأنفقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّه وَلاَ تُلْقُواْ بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وَأحْسِنُواْ، إنَّ اللَّهَ يُحبُّ المُحْسِنِينَ) (البقرة:195).
ولا شك أن الجهاد بالمال المأمور به واجب آخر غير فريضة الزكاة، ومن حق أولي الأمر في المسلمين أن يحددوا نصيب كل فرد قادر من عبء الجهاد بالمال، وهذا ما نقله ابن تيمية عن صاحب "غياث الأمم" كما سيأتي.
ولقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش في عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال، ومع هذا لم تعد القوة مقصورة على السلاح والجيوش؛ إذ لا بد من القوة والتفوق في شتَّى جوانب الحياة العلمية والصناعية والاقتصادية، وكل هذا يفتقر إلى أمداد غزيرة من المال، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب باعتبارها نوعًا من الجهاد بالمال، ليقوِّي الفرد أمته، ويحمي دولته، فيقوِّي بذلك نفسه، ويحمي دينه ودمه وماله وعِرضه.
خامسًا - الغُرْم بالغُنْم:
إنّ الأموال التي تُجبى من الضرائب تُنفق في المرافق العامة التي يعود نفعها على أفراد المجتمع كافة، كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف، وغيرها من المصالح التي يستفيد منها مجموع المسلمين، من قريب أو من بعيد.(2/496)
وإذا كان الفرد يستفيد من وجود الدولة وسيطرتها، ويتمتع بالمرافق العامة في ظل إشرافها وتنظيمها وحمايتها للأمن الداخلي والخارجي، فعليه أن يمدها بالمال اللازم لتقوم بمسئوليتها.
وكما يستفيد الفرد ويغنم من المجتمع وأوجه نشاطه المختلفة ممثلاً في الدولة، ففي مقابل هذا يجب أن يغرم ويدفع ما يخصه من ضرائب والتزامات، تطبيقًا للمبدأ الذي قرره الفقهاء وهو "الغُرم بالغُنم".
المبحث الثاني
الشروط التي تجب رعايتها في الضرائب
ولكن الضريبة التي يعترف لها الإسلام بالشرعية، ويرضى نظامه عنها هي التي تتوافر لها الشروط الآتية:
الشرط الأول- الحاجة الحقيقية إلى المال ولا مورد آخر:
إنّ أول الشروط: أن تكون هناك حاجة حقيقية بالدولة إلى المال. بحيث لا تكون هناك موارد أخرى تستطيع الحكومة بها أن تحقق أهدافها، وتقيم مصالحها دون إرهاق الناس بالتكاليف.
وذلك أن الأصل في المال الحرمة، وفي الذمم البراءة من التكاليف مالية وغير مالية، فلا يجوز انتهاك حرمة المِلكية الخاصة، وأخذ المال من مالكه وتكليف الأمة أعباء مالية، إلا لضرورة قاضية أو حاجة داعية، فإذا لم توجد الحاجة، أو وُجدِت، وكان عند الحكومة من الأموال أو الموارد ما يغطي نفقاتها، ويغنيها عن إلزام الناس بالضرائب، فلا يجوز فرض الضرائب حينئذ.
وقد تشدد علماء المسلمين وأصحاب الفتوى منهم في رعاية هذا الشرط إلى أبعد حد. واشترط بعضهم أن يخلو بيت المال خلوًا تامًا، حتى يجوز فرض ضرائب، وما صنعوا ذلك إلا خشية إسراف الحكام في طلب الأموال لحاجة ولغير حاجة، وإرهاق الرعية بما لا تحتمله طاقتهم من الوظائف المالية والمكوس الجائرة.
والحق أن التاريخ الإسلامي يروي لنا من ذلك مواقف رائعة لعلمائنا وقفوا فيها مع مصلحة الشعوب، وضد ترف السلاطين، وأتباع السلاطين.(2/497)
فحينما أراد سلطان مصر "قطز" التجهز لقتال التتار، استجابة لطلب الملك الناصر صاحب حلب والشام يومئذ، جمع القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه في أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يُستعان به على جهادهم فحضروا في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، والقاضي بدر الدين السنجاري قاضي قضاة الديار المصرية، وغيرهما من العلماء، وتناقشوا في الأمر، فكان الاعتماد على ما يقوله ابن عبد السلام، وخلاصة ما قاله للسلطان قطز: "أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا ما لكم من الحوائص (جمع حياصة: وهي كساء موشَّي بالذهب يخلعه السلطان على أمرائه وأعوانه في مناسبات خاصة). المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه، ويتساووا هم والعامة، أما أخذ الأموال من العامة، مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا". وانفض المجلس على ذلك (انظر: النجوم الزاهرة: 7/72-73، والسلوك لمعرفة دول الملوك: 1/416-417، وطبقات الشافعية لابن السبكي في ترجمة الشيخ عز الدين).
وتكرر هذا الموقف الشجاع للإمام النووي مع الظاهر بيبرس.(2/498)
فحينما خرج الظاهر إلى قتال التتار بالشام، ولم يكن في بيت المال ما يقوم بتجهيز الجيش والإنفاق على المقاتلين، استفتى علماء الشام في جواز فرض ضرائب على الشعب، لإعانة السلطان والجيش على قتال الأعداء، وتغطية النفقات المطلوبة. فأفتاه العلماء بجواز ذلك للحاجة والمصلحة، وكتبوا له بذلك، وكان الإمام النووي غائبًا، فلما سأل السلطان العلماء: هل بقي من أحد؟ قالوا: نعم، بقي الشيخ محيي الدين النووي.. فطلبه فحضر، فقال له: اكتب خطك (توقيعك) مع الفقهاء. فامتنع الشيخ وأبى، وسأله السلطان: ما سبب امتناعك؟ قال الشيخ: أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير "بندقدار" وليس لك مال، ثم منَّ اللَّه عليك وجعلك ملكًا، وسمعت أن عندك ألف مملوك لكل مملوك حياصته من الذهب، وعندك مائتا جارية لكل جارية حُق من الحلي، فإن أنفقت ذلك كله، وبقيت مماليكك بالبتون والصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي، أفتيتك بأخذ المال من الرعية.
فغضب الظاهر من كلامه وقال له: أخرج من بلدي دمشق، فقال: السمع والطاعة، وخرج إلى "نوي".
فقال الفقهاء للسلطان: إنَّ هذا من كبار علمائنا وصلحائنا، وممن يُقتدَى بهم، فأعده إلى دمشق، فأذن الظاهر برجوعه، ولكن الشيخ رفض، وقال: لا أدخلها والظاهر بها، ومات الظاهر بعد شهر. (عن كتاب "الإسلام المفترى عليه للأستاذ محمد الغزالي ص222-223 الطبعة الخامسة).
ومما كتبه إلى السلطان الظاهر بيبرس في رسالة ينصحه فيها ويوضح له حكم الشرع قال: "ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو ضياع تُباع، أو غير ذلك، وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان -أعزَّ الله أنصاره- متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله معمور زاده الله عمارة وسعة وخيرًا وبركة" (من ترجمة الإمام النووي للحافظ السخاوي - مطبعة جمعية النشر والتأليف بالأزهر - سنة 1935).
الشرط الثاني- توزيع أعباء الضرائب بالعدل:(2/499)
وإذا تحققت الحاجة إلى المال، ولم يوجد مورد لسد هذه الحاجة إلا الضرائب لم يكن فرضها جائزًا فحسب بل واجبًا، بشرط أن توزع أعباء الضريبة على الناس بالعدل، بحيث لا يُرهق فريق من الرعية لحساب فريق آخر، ولا تُحابَى طائفة ويُضاعَف الواجب على طائفة أخرى، بغير مسوغ يقتضي ذلك.
لا نعني بالعدل "المساواة" فإن المساواة بين المتفاوتين ظلم، فليس بلازم أن تكون نسبة المأخوذ واحدة من الجميع، بل يجوز لاعتبارات اقتصادية واجتماعية أن تختلف النسبة فيؤخذ من هذا أكثر من ذاك.
يدل لذلك ما رواه أبو عبيد بسنده عن ابن عمر قال: (كان عمر يأخذ من النبط: من الزيت والحنطة نصف العُشر، لكي يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العُشر) (الأموال ص533).
والنبط: قوم من تجار أهل الحرب المستأمنين كانوا يجلبون مختلف السلع والأطعمة إلى المدينة. والمبدأ الذي وضعه عمر -كما رواه عنه أنس بن مالك- أن يؤخذ من تجار أهل الحرب العُشر، ومن تجار أهل الذمة نصف العُشر، ومن تجار المسلمين ربع العُشر (المرجع السابق).(2/500)
وهذا عند الانتقال بالسلع من بلد إلى آخر، فهناك يقفه العاشرون -المحصلون الموكلون بالجباية- ويأخذون منه الضريبة ويعطونه براءة بذلك إلى سنة، فهو يشبه الضرائب الجمركية في العصر الحديث، وإنما أخذ العُشر من المستأمنين تطبيقًا لمبدأ "المعاملة بالمثل" فقد كانوا يأخذون العُشر من تجار المسلمين كما كتب بذلك أبو موسى إلى عمر (الخراج ليحيى بن آدم ص172). وأخذ نصف العُشر من أهل الذمة؛ لأنه صالحهم على ذلك ورضوا به (الأموال ص532). على أنه لا يؤخذ منهم إلا عند الانتقال من بلد إلى بلد، بخلاف المسلم الذي يجب عليه تزكية تجارته ولو في بلده، كما لا يطلب من الذمي شيء عن زروعه وثماره ومواشيه وسائر الأموال التي تجب فيها الزكاة بالنسبة للمسلم، وهذا فيما عدا نصارى بني تغلب الذين لهم وضع خاص صالحوا عمر عليه (راجع ذلك في المبحث الأول من الباب الثاني ص118-119).
وأما تجار المسلمين فيؤخذ منهم ربع العُشر؛ لأنه زكاة ثروتهم التجارية.
والمقصود: أن القاعدة في هؤلاء النبط أن يؤخذ منهم العُشر، كما قال السائب بن يزيد: "كنت عاملاً على سوق المدينة في زمن عمر، قال: فكنا نأخذ من النبط العُشر" (الأموال ص533).
ولكن عمر رأى أن ينقص من سعر الضريبة، وينزل بها من 10% إلى 5% لاعتبار اقتصادي هام، وهو تشجيع استيراد الأقوات التي تفتقر إليها المدينة -وهي عاصمة الإسلام حينذاك- أكثر من غيرها من السلع الأخرى، وكانت المدينة في عهده في حاجة إلى الزيت والحنطة (القمح) لا إلى القِطْنية (الحمص واللوبيا ونحوها). وهذا ما تسير عليه الدول الحديثة في سياستها الجمركية، فترفع معدل الضريبة الجمركية أو تخفضه، تبعًا لأهدافها في تشجيع واردات معينة، أو حماية المصنوعات الوطنية، أو التقليل من استيراد الكماليات إلى غير ذلك من الأغراض.(3/1)
وقد مر بنا آنفًا ما قاله ابن عمر: (كان عمر يأخذ من النبط: من الزيت والحنطة نصف العُشر، لكي يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطْنية العُشر) (المرجع السابق).
وصنيع الفاروق هذا يعطينا سندًا في رفع وخفض نسبة الضريبة، وفقًا للاعتبارات المصلحية التي يراها أولو الأمر في الأمة.
وقد بيَّنا من قبل أن من أهداف الإسلام في الاجتماع والاقتصاد: "ألا تنحصر ثروة الأمة في أيدي فئة قليلة من أبنائها، فضلاً عن الأجانب عنها، ولهذا يعمل الإسلام على توزيع الثروة على أكبر عدد مستطاع، وإزالة الفوارق الكبيرة، وتقريب المستويات بعضها من بعض، ولهذا علّل الله توزيع الفيء بقوله تعالى:(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءٍ مِنكُمْ) (الحشر:7).
فإذا لم توجد وسيلة غير الضرائب التصاعدية، تؤدي إلى هذه النتيجة: ألا يكون المال دُولَة بين الأغنياء وحدهم، وأن ينزل الغني درجة، ويرتفع الفقير درجة، ويقترب كلا الفريقين من الآخر، فهذا أمر يباركه الإسلام ويؤيده.
هذا مع وجوب مراعاة الجانب الشخصي من إعفاء نفقات المعيشة والأعباء العائلية والديون، وغير ذلك مما ذكرناه من قبل.
الشرط الثالث- أن تُنفق في مصالح الأمة لا في المعاصي والشهوات:
ولا يكفي أن تؤخذ الضريبة بالحق، وتوزع أعباؤها على الناس بالعدل، ما لم يتم صرفها في المصالح العامة للأمة، لا في شهوات الحكام وأغراضهم الشخصية، وفي ترف أسرهم وخاصتهم، وفي رغبات أتباعهم والسائرين في ركابهم.
ومن هنا اهتم القرآن الكريم بالنص على مصارف الزكاة. منعًا للأهواء السياسية أن تلعب بها، وتُنفق أموالها في غير مستحقها.
ومن هنا أيضًا شدد الخلفاء الراشدون -ومعهم أجلاء الصحابة- في صرف الأموال العامة في مصارفها الشرعية، وهذا هو فرق ما بين الخلافة الراشدة، والملك العضوض، ما بين حكم يستند إلى رسالة سماوية، وحكم يقوم على الدنيا وحدها.(3/2)
روى ابن سعد في الطبقات عن سلمان أن عمر قال له: أملكٌ أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا، أو أقل أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة! فاستعبر عمر -أي بكى- رضي الله عنه (طبقات ابن سعد: 3/306-307- طبع بيروت).
روى عن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري: أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكًا فهذا أمر عظيم! قال قائل: يا أمير المؤمنين، إن بينهما فرقًا . قال: ما هو ؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقًا، ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك. والملك يعسف، فيأخذ من هذا، ويعطي هذا: فسكت عمر (المرجع السابق).
وروى الطبري: أن رجلاً كان بينه وبين عمر قرابة، فسأله، فزبره (دفعه) وأخرجه، فكُلِّم فيه فقيل: يا أمير المؤمنين؛ فلان سألك فزبرته وأخرجته، فقال: إنه سألني من مال الله (مال الجماعة والدولة) فما معذرتي عند الله إن لقيته ملكًا خائنًا؟! (تاريخ الطبري: 5/19- المطبعة الحسينية بمصر).
الشرط الرابع- موافقة أهل الشورى والرأي في الأمة:(3/3)
ولا يجوز أن ينفرد الإمام -رئيس الدولة الأعلى- فضلاً عن نوَّابه وولاته في الأقاليم بفرض هذه الضرائب، وتحديد مقاديرها، وأخذها من الناس، بل لا بد أن يتم ذلك بموافقة رجال الشورى وأهل الحل والعقد في الأمة. وقد قلنا: إن الأصل في أموال الأفراد الحرمة، والأصل أيضًا براءة الذمم من التكاليف، فإذا كانت الحاجة والمصلحة توجب أخذ بعض المال من حائزيه، وتكليف الناس أعباء مالية، فهذا أمر خطير لا يصح البت فيه إلا برأي أولى الرأي، وموافقة أهل الحل والعقد، فهم الذين يستطيعون مراعاة الشروط السالفة، فيتبينون وجوه الحاجة إلى المال، ويعرفون كفاية الموارد الأخرى أو عجزها، ويضعون من التنظيم ما يكفل توزيع أعباء الضريبة على الرعية بالعدل، مستعينين بالخبراء وأهل الاختصاص، ثم يراقبون بعد ذلك صرف الحصيلة التي تُجبى فيما جُمعت لأجله من المصالح والمرافق والإنتاج والخدمات.
وجوب الشورى من الكتاب والسُنَّة
ولا نقول ذلك من عند أنفسنا، فهذا ما يدل عليه الكتاب والسُنَّة:
أما الكتاب: فقد جعل الشورى عنصرًا أساسيًا من العناصر التي تكون المجتمع المؤمن، قال تعالى: (والَّذيِنَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأقَامُواْ الصَّلاةَ وَأمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى:38)، فجعل الشورى قرينة للاستجابة لله، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله، وذلك في العهد المكي، وهو عهد تقرير المبادئ والأصول، والطابع العام لأسلوبه هو الوصف مدحًا وثناءً، أو ذمًا وتقريعًا.
وفي العهد المدني نزل قوله تعالى: (وَشَاوِرهُمْ فِي الأمْرِ، فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ عَلَى اللَّه) (آل عمران:159). ولما كان العهد المدني عهد تشريع وتنظيم للمجتمع الإسلامي، فقد اتخذت الآية أسلوب الأمر، وكان الطابع العام هو الأمر والنهي.(3/4)
ومما يجدر بالأمر أن هذه الآية نزلت بعد غزوة "أُحد" التي استشار النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه: أيقعد بالمدينة أم يخرج إلى العدو؟ فأشار عليه جمهورهم بالخروج إليهم، فخرج ولم يكن ذلك من رأيه، وكانت العاقبة قتل سبعين من الصحابة في سبيل الله. ومع هذه النتيجة نزلت الآية تؤكد الشورى وتأمر بها: (وَشَاوِرْهُمْ) أي دُمْ على مشاورتهم، ولا يمنعنك ما حدث من المشاورة، فما ندم من استشار.
وأما السُنَّة: فكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمور الهامة التي لم يوح إليه فيها بأمر من الله ؛ شاورهم يوم "بدر" في الذهاب إلى العير، ولم يكتف برأي المهاجرين حتى اطمأن إلى موافقة الأنصار، وشاورهم أيضًا أين يكون المنزل فنزل على رأي الحباب بن المنذر، وشاورهم في الخروج يوم "أحد" -كما ذكرنا-، وشاورهم يوم "الخندق" في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى ذلك عليه السعدان -سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- فترك ذلك، وشاورهم يوم "الحديبية" في أن يميل على ذراري المشركين، فقال له الصدِّيق: إنَّا لم نجيء لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال، وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك: (أشيروا عليَّ معشر المسلمين في قوم أبنوا (أي اتهموها، والأبن: التهمة، وأبنت الرجل: إذا رميته بخلة سوء فهو مأبون) أهلي ورموهم)، واستشار عليًا وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها (تفسير ابن كثير: 1/420 - طبعة الحلبي).
قال ابن كثير بعد أن ذكر هذه المشاورات كلها: "فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها، وقد اختلف الفقهاء: هل كان ذلك واجبًا عليه أو من باب الندب تطييبًا لقلوبهم؟ على قولين". أهـ (المرجع السابق).(3/5)
ولئن جاز الخلاف في شأن الرسول المعصوم المؤيَّد بالوحي، لا يجوز الخلاف فيمن بعده من الأئمة والأمراء وأصحاب السلطان، والآية صريحة في الأمر، والأمر في أصله يفيد الوجوب. وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تنفيذ المشاورة في الأمور الهامة يرجح الوجوب، وتجارب الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل مع المستبدين، وما جره الاستبداد عليها من ويلات - تحتم علينا هذا الفهم في الآية الكريمة.
هل الشورى مُعلِمة أم ملزمة؟
بقي هنا سؤال: هل هذه الشورى ملزمة لولي الأمر؟
والجواب: نعم ولا شك.
والدليل على ذلك: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المشاورة ينزل عن رأيه إلى رأي جمهور أصحابه كما ذكرناه في أكثر من موقف.
وذكر ابن كثير: أن ابن مردويه، روى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم في الآية الكريمة: (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ) (آل عمران: 159). فقال: (مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم) (تفسير ابن كثير - المرجع السابق).(3/6)
ولو لم تكن الشورى ملزمة لفقدت قيمتها وأثرها، وجعل منها المستبدون "تمثيلية" يضحكون بها على الشعوب، فيشاورون ثم يفعلون ما يشاءون، أو يشاورون ويخالفون كما زعموا في شأن النساء (يجري على ألسنة بعض الناس كلمة " شاوروهن وخالفوهن" بزعم أنها حديث نبوي، ويكفينا دليلاً على بطلانه قوله تعالى في شأن الوالدين مع الرضيع: "أرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاورٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهُمَا" -البقرة: 233. قال الثوري وغيره: لا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر -ابن كثير: 1/84). على أنَّ من حق أهل الحل والعقد في الأمة أن يشترطوا علي ولى الأمر أن يستشيرهم وجوبًا في كل أمر هام، مثل فرض الضرائب، وأن يلتزم رأى الأغلبية، فهو إذا قَبِلَ الحكم وتمت له البيعة على هذا الشرط، لم يجز له أن ينقضها، ففي الحديث: (المسلمون على شروطهم) (رواه أبو داود في كتاب الأقضية، وابن ماجه في الأحكام والحاكم عن أبي هريرة وصححه على شرطهما، وصححه أيضًا ابن حبان ورواه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده وقال: حسن صحيح، ولفظه: "المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحل حراما"، واعترض بأن كثيرًا ضعيف جدًا، واعتذر له ابن حجر فقال: "وكأنه اعتبر بكثرة طرقه" وذلك أن الحاكم رواه عن أنس وعن عائشة ولكن إسناده واه، والطبراني عن رافع بن خديج وإسناده حسن كما في التيسير للمناوي 2/457. وقد قال الشوكاني بعد ذكر رواياته المتعددة: ولا يخفى أن الأحاديث المذكورة والطرق يشهد بعضها لبعض، فأقل أحوالها أن يكون "المتن" الذي اجتمعت عليه "حسنًا". -نيل الأوطار: 5/254، وانظر كشف الخفا: 2/209 وفيض القدير: 6/272). والوفاء بالعهد واجب حتم. وهذا سواء قلنا: الشورى واجبة أم مستحبة، ملزمة أم معلمة.(3/7)
هذا والآية الكريمة لم تذكر الأمور التي تكون فيها الشورى، غير أنها ذكرت كلمة جامعة هي كلمة "الأمر" وهو يشمل كل أمر عام يتعلق بعموم الناس، ويؤثر في مصالحهم وأحوالهم، كأمر الحروب والمعاهدات بين الدول وما شابه ذلك.
ولا ريب أن فرض الضرائب على الأمة من أهم الأمور، وأبعدها أثرًا في حياة الشعوب، ولهذا تنص الدول الديمقراطية المعاصرة على ألا تفرض ضريبة على الشعب إلا موافقة ممثليه في المجالس النيابية.
المبحث الثالث
شبهات المانعين لفرض الضرائب
ربما يظن بعض الناس أن الزكاة تغني عن غيرها، وأنه لا يجوز فرض ضريبة بعدها، وقد يثبتون هذا، ويؤيدونه ببعض الشبهات التي نجملها فيما يلي:
الشبهة الأولى - أن لا حق في المال سوى الزكاة:
إن المشهور عن الفقهاء أن لا حق في المال سوى الزكاة، وما دامت الزكاة هي الحق الوحيد في المال، فلا يجوز أن تُفرض فيه حقوق أخرى باسم الضرائب أو غيرها.
الشبهة الثانية - احترام المِلْكية الشخصية:
إن الإسلام قد احترم الملكية الشخصية، وجعل كل إنسان أحق بماله، وحرَّم الأموال، كما حرَّم الدماء والأعراض، حتى جاء في الحديث: (من قُتِل دون ماله فهو شهيد) (رواه الجماعة). ولا يحل أخذ مال امرئ إلا بطيب نفس منه.
والضرائب -مهما يقل القائلون في تبريرها وتفسيرها- ليست إلا مصادرة لجزء من المال يؤخذ من أربابه قسرًا وكرهًا.
الشبهة الثالثة - الأحاديث الواردة بذم المكس ومنع العشور:
إنَّ الأحاديث النبوية جاءت بذم المكوس والقائمين عليها، وإيعادهم بالنار والحرمان من الجنة.
فعن أبي الخير رضي الله عنه قال: (عرض مسلمة بن مخلد -وكان أميرًا على مصر- على رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن يوليه العشور، فقال: إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صاحب المكس في النار) (رواه أحمد من رواية ابن لهيعة والطبراني نحوه وزاد: يعني العاشر -الترغيب والترهيب: 1/568 طبع الحلبي).(3/8)
وعن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة صاحب مكس) (رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، كلهم من رواية محمد بن إسحاق وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. قال المنذري: كذا قال، ومسلم إنما خرج لمحمد بن إسحاق في المتابعات -المصدر السابق: 1/566-567).
وهذا الحديث والذي قبله، وإن كان فيهما كلام، يؤيدهما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه في قصة المرأة الغامدية، التي حملت من الزنا وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليها الحد باعترافها بعد أن وضعت وفطمت وليدها، وفي هذا الحديث: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفِرَ له).
دل هذا الحديث على أن ذنب صاحب المكس أشد من ذنب امرأة زنت وهي متزوجة وحملت من الزنا، وهذا من أشد الوعيد.
كما يعضد هذه الأحاديث ما ورد في ذم "العشَّارين" من أحاديث، إذا لم تبلغ درجة الصحة أو الحُسن، فإن بعضها يقوى ببعض.
من ذلك ما رواه الطبراني في الكبير بسنده عن عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إلا لبغي بفرجها أو عشار) (ذكره في مجمع الزوائد 3/88 بألفاظ عدة عن الكبير والأوسط وعن أحمد أيضًا. قال: ورجال أحمد رجال الصحيح، إلا أن فيه علي بن زيد، وفيه كلام، وقد وثق).
قال ابن الأثير في النهاية (النهاية في غريب الحديث: 4/110- طبعة المطبعة الخيرية). "المكس الضريبة التي يأخذها الماكس، وهو العشَّار".
وقال البغوي: "يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا عليه مكسًا باسم العُشر (الترغيب والترهيب: 1/567). قال المنذري: أما الآن فإنهم يأخذون مكسًا باسم العُشر، ومكوسًا أخَر ليس لها اسم، بل شيء يأخذونه حرامًا وسحتًا، ويأكلونه في بطونهم نارًا، حُجَّتهم فيه داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد" (المرجع السابق: 1/567).(3/9)
وقال المناوي في صاحب المكس: المراد به العشَّار، وهو الذي يأخذ الضريبة من الناس. ونقل عن الطيبي قوله: وفيه أن المكس من أعظم الموبقات. وعده الذهبي من الكبائر (كما في صفحة 119 من "الكبائر" للذهبي. مطبعة البيان، بيروت. ولكن الذهبي لم يحدد ما هو المكس بالضبط، بل قال: "المكاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم، فإنه يأخذ ما لا يستحق ويعطيه من لا يستحق". وكذلك عده ابن حجر الهيثمي في الزواجر.) ثم قال "فيه شبه من قاطع الطريق، وهو شر من اللص. فإن عسف الناس وجدد عليهم ضرائب فهو أظلم وأغشم ممن أنصف في مكسه ورفق برعيته. وجابي المكس وكاتبه، وآخذه من جندي وشيخ وصاحب زاوية شركاء في الزور أكَالون للسحت" أ هـ (فيض القدير: 6/449).
ويلحق بالأحاديث التي ذكرناها ما جاء أيضًا في رفع العشور عن أهل الإسلام. مثل ما رواه سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر العرب، احمدوا الله الذي رفع عنكم العشور) (قال في مجمع الزوائد 3/87: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، وفيه رجل لم يسم وبقية رجاله موثقون).(3/10)
وما رواه رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور) وفي بعض طرقه: (وليس على أهل الإسلام عشور) (رواه أحمد 3/474 من طريق عطاء بن السائب عن رجل من بكر بن وائل عن خاله، قال: قلت: يا رسول الله، أعشر قومي؟ قال: "إنما العشور".. إلخ.. ومن طريق عطاء نفسه عن حرب بن عبيد الله الثقفي عن خاله.. وعن عطاء أيضًا عن حرب بن هلال الثقفي عن أبي أمية -كذا- رجل من بني تغلب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس على المسلمين عشور" .. إلخ. ورواه أبو داود في سننه عن حرب بن عبيد الله بن عمير عن جده أبي أمه عن أبيه يرفعه -انظر: مختصر السنن - الأحاديث 2924، 2925، 2926، 2927: 4/253-254 وكلام المنذري عليها،. قال عبد الحق: وهو حديث في سنده اختلاف ولا أعلمه من طريق يُحتج به.
وقال ابن القطان: حرب هذا سئل عنه ابن معين فقال: مشهور، وذا غير كاف في تثبيته، فكم من مشهور لا يُقبل. أما جده أبو أمه، فلا يُعرف أصلاً، فكيف أبوه؟!
وقال المناوي: رواه البخاري في تاريخه الكبير وساق اضطراب الرواة فيه وقال: لا يتابع عليه.
وذكره الترمذي في الزكاة -باب: ليس على المسلمين جزية- بغير سند. ورواه أحمد في المسند عن الرجل المذكور. قال الهيثمي: وفيه عطاء بن السائب، اختلط، وبقية رجاله ثقات -الفيض: 2/561،. والعجيب أن المناوي ذكر هذا في الفيض، ولكنه في "التيسير" 1/358 قال: إسناده حسن أو صحيح!!).
قال المناوي في شرح هذا الحديث في "التيسير": "إنما" تجب "العشور على اليهود والنصارى" فإذا صولحوا على العُشر وقت العقد، أو على أن يدخلوا بلادنا للتجارة ويؤدوا العُشر أو نحوه، لزمهم. "وليس على المسلمين عشور" غير عشور الزكاة، وهذا أصل في تحريم أخذ المكس من المسلم. أهـ التيسير: 1/358.
هذه هي شبهات الذين لا يجيزون فرض ضرائب بجوار الزكاة، بعد أن بسطناها ووضحناها، وسنرد عليها فيما يلي:(3/11)
الرد على الشبهة الأولى:
أما الشبهة الأولى فقد فرغنا من الرد عليها في الباب السابق. وبيَّنا بالأدلة الناصعة: أن في المال حقًا بل حقوقًا سوى الزكاة، وأن هذا أمر مجمع عليه في الواقع.
الرد على الشبهة الثانية:
الملكية الشخصية لا تنافي تعلق الحقوق بالمال:
إنّ احترام الإسلام للملكية الفردية لا ينافي تعلق الحقوق بالمال، فللفقراء والضعفاء حق في المال بمقتضى أخوتهم الإنسانية وأخوتهم الدينية، وبحكم حاجتهم وعجزهم عن الكسب بما لا دخل لهم فيه، إلى غير ذلك من الوجوه التي أثبتناها.
وللجماعة حق في مال الفرد لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي ساهمت من قريب ومن بعيد، وعن قصد وغير قصد، في تكوين ثروة الغنى، وهي التي بدونها لا تتم معيشته كإنسان في المدينة، فالإنسان مدني بطبعه كما قالوا.
وقبل ذلك كله ؛ هناك حق الله تعالى في المال، فهو خالقه وواهبه وميسر السبيل إليه، والمال في الحقيقة ماله، والناس أمناء عليه مستخلفون فيه، وليس للأمين أو الوكيل أو المستخلف أن يستأثر بما هو مؤتمن عليه، بل يبذله ويبذل منه كلما طلب المالك منه شيئًا يقل أو يكثر.
فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريًا واقتصاديًا تتطلب مالاً لتحقيقها، أو كان دين الله ودعوته وتبليغ رسالته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك. فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن تُفرض في أموال الأغنياء ما يحقق هذه الأمور، لأن تحقيقها واجب على ولاة الأمر في المسلمين ولا يتم هذا الواجب إلا بالمال، ولا مال بغير فرض الضرائب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الرد على الشبهة الثالثة:
المكس غير الضريبة المشروعة:
فأما الأحاديث الواردة في ذم المكس، فأكثرها لم تثبت صحته، كما رأينا. وما صح منها فليس هو نصًا في منع مطلق الضريبة، ذلك أن كلمة "المكس" لا يراد بها معنى واحد محدد لغة أو شرعًا.(3/12)
في "اللسان": المكس دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق الجاهلية.
وفيه: والمكس ما يأخذه العُشَّار.
وقال ابن الأعرابي:
المكس درهم كان يأخذه المصدق (جابي الصدقة) بعد فراغه. ثم ذكر حديث: (لا يدخل صاحب مكس الجنة).
وفيه أيضًا: المكس: الضريبة التي يأخذها الماكس، وأصله الجباية.
وفيه: المكس النقص. والمكس انتقاص الثمن في البياعة، ومنه أخذ المكاس...إلخ (انظر: لسان العرب، مادة "م ك س").
وقال البيهقي: المكس النقصان، فإذا أنقص العامل من حق أهل الزكاة فهو صاحب مكس (انظر: فيض القدير: 6/449).
وعلى هذا يمكن حمل ما جاء في صاحب المكس على الموظف العامل على الزكاة، الذي يظلم في عمله ويعتدي على أرباب الأموال فيأخذ منهم ما ليس من حقه، أو يغل من مال الله الذي جمعه ما ليس له، مما هو من حق الفقراء والمساكين وسائر المستحقين. وقد يدل لذلك ما جاء عن بعض الرواة من تفسير العاشر بالذي يأخذ الصدقة على غير حقها (انظر: مجمع الزوائد: 3/87-88). كما أن أبا داود أخرج الحديث في باب "في السعاية على الصدقة".
كما يؤيد هذا ما ورد من أحاديث تحمل أغلظ الوعيد للعمال المعتدين في الصدقات، وقد ذكرنا طرفًا منها في فصل "العاملين عليها" من مصارف الزكاة. ولهذا طلب عدد من الصحابة -كسعد بن عبادة، وأبن مسعود، وعبادة بن الصامت- من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعفيهم من العمل على الصدقات حين سمعوا ما فيها من التشديد، فخشوا على أنفسهم أن تلفحهم النار، فاستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رغباتهم، وأعفاهم.(3/13)
وهناك محمل آخر لكلمة "المكس" لعله هو الأظهر، والمراد بها: الضرائب الجائرة التي كانت تسود العالم يوم ظهور الإسلام. فقد كانت تُؤخذ بغير حق، وتُنفق في غير حق، ولا توزع أعباؤها بالعدل. لم تكن هذه الضرائب تُنفق في مصالح الشعوب، بل في مصالح الملوك والحكام وشهواتهم، وأتباعهم، ولم تكن تؤخذ من المواطنين حسب قدرتهم على الدفع، فكثيرًا ما أعفي الغني محاباة، وأرهق الفقير عدوانًا. وهكذا تأوَّله بعض العلماء.
قال في "التبيين" من كتب الحنفية: وما ورد من ذم "العشَّار" محمول على من يأخذ أموال الناس ظلمًا، كما يفعله الظلمة اليوم (انظر: البحر الرائق: 2/249).
وكذا قال في "الدر المختار" (الدر المختار وحاشيته: 2/42) وغيره.
فهذا النوع من الضرائب هو أولى ما يطلق عليه اسم "المكس" الذي جاء فيه ذلك الوعيد الشديد. وكذلك ما ورد في ذم "العشار" فهو في شأن ذلك الجابي الذي يستخدمه الظلمة سوط عذاب، لإرهاق الشعب بما ليس في طاقته من تكاليف مالية، وكثيرًا ما يقاسمهم الظلم ويثرى على حساب الكادحين والمظلومين.
وهذا يطابق قول الذهبي في الكبائر: "المكاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم، فإنه يأخذ ما لا يستحق، ويعطيه لمن لا يستحق" (الكبائر ص119. الكبيرة السابعة والعشرون).
أما الضرائب التي تُفرض بالشروط التي ذكرناها، لتغطي نفقات الميزانية وتسد حاجات البلاد من الإنتاج والخدمات، وتقيم مصالح الأمة العامة العسكرية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وتنهض بالشعب في جميع الميادين، حتى يتعلم كل جاهل، ويعمل كل عاطل، ويشبع كل جائع، ويأمن كل خائف، ويُعالج كل مريض.
أما هذه الضرائب لهذه الأغراض المذكورة وما شابهها فلا يشك ذو بصر بالإسلام أنها جائزة، بل واجبة الآن، وللحكومة الإسلامية الحق في فرضها وأخذها من الرعية حسب المصلحة وبقدر الحاجة.
حديث رفع العشور عن المسلمين ومعناه:(3/14)
وأما حديث رفع العشور عن المسلمين، فمع أنه لم يصح، ليس صريح الدلالة على ما قالوه. بل له أكثر من معنى صحيح يمكن حمله عليه بدون تكلف أو اعتساف.
تأويل أبي عبيد:
فقد ذكر الإمام أبو عبيد الأحاديث الواردة في وعيد صاحب المكس والعاشر، وما يعضدها من الآثار، ثم قال: "وجوه هذه الأحاديث التي
كرنا فيها العاشر وكراهة المكس والتغليظ فيه: أنه قد كان له أصل في الجاهلية، يفعله ملوك العرب والعجم جميعًا، فكانت سُنتهم أن يأخذوا من التجار عُشر أموالهم إذا مروا بها عليهم.. يبين ذلك ما ذكرناه من كتب النبي صلى الله عليه وسلم لمن كتب من أهل الأمصار (أنهم لا يحشرون ولا يعشرون) فعلمنا بهذا: أنه قد كان من سنة الجاهلية، مع أحاديث فيه كثيرة، فأبطل الله ذلك برسوله وبالإسلام، وجاءت فريضة الزكاة بربع العُشر، من كل مائتي درهم خمسة، فمن أخذها منهم على فرضها، فليس بعاشر، لأنه لم يأخذ العُشر؛ إنما أخذ ربعه، وهو مفسر في الحديث: (ليس على المسلمين عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى)، وكذلك الحديث الذي ذكرناه مرفوعًا، حين ذكر العاشر فقال: (الذي يأخذ الصدقة بغير حقها).. وكذلك وجه حديث ابن عمر، حين سئل: هل علمت عمر أخذ العُشر من المسلمين؟ فقال: لا. لم أعلمه).. وكذلك حديث زياد بن حُدير حين قال: (ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا) إنما أراد: إنَّا كنا نأخذ من المسلمين ربع العُشر، ومن أهل الذمة نصف العُشر" أهـ.
فالمراد برفع العشور عن المسلمين إذن هو تخفيف النسبة الواجبة عليهم من العُشر الذي كان يأخذه ملوك العرب والعجم في الجاهلية، إلى ربع العُشر الذي فرضه الإسلام زكاة في أموال التجار.(3/15)
والمراد باليهود والنصارى إذن في الحديث هم أهل الحرب منهم خاصة، كما روى أبو عبيد عن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير: من كنتم تعشِّرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلمًا ولا معاهدًا . قلت: فمن كنتم تعشرون ؟ قال: تجار الحرب، كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم) (الأموال، ص707-708- طبع دار الشروق).
وهو ضرب من معاملة الأجانب بمثل ما تعامل به دولهم المسلمين. وهو مبدأ يتبع إلى اليوم.
فأما أهل الذمة من اليهود والنصارى، فلم يكن يؤخذ منهم العُشر، كأهل الحرب، ولا ربعه كالمسلمين، وإنما يؤخذ منهم نصف العُشر، وقد أشكل ذلك على أبي عبيد، ولم يدر وجهه في أول الأمر. قال: حتى تدبرتُ حديثًا له -أي لعمر- فوجدته إنما صالحهم على ذلك صلحًا، سوى جزية الرؤوس، وخراج الأرضين، وساق هذا الحديث، ثم قال: فأرى الأخذ من تجارهم في أصل الصلح، فهو الآن حق للمسلمين عليهم (المرجع السابق ص709-710).
ولعل هذا التضعيف فيما يمر به تجارهم، أنهم لا يُطالبون بشيء عن مواشيهم ونقودهم المدخرة، وغير ذلك مما يُطالب به المسلمون (انظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام - فصل "الضرائب التجارية").
تأويل الترمذي:
وهناك تأويل آخر للعشور المذكورة في الحديث: أن المراد بها: "الجزية"، ولهذا جاء في بعض رواياته عند أبي داود: (ليس على المسلمين خراج) إذ كانت الجزية أيضًا تسمى "خراج الرؤوس".
قال الإمام الترمذي في سننه: وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلمين عشور) إنما يعني به جزية الرقبة. وفي الحديث ما يفسِّر هذا، حيث قال: (إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور) (سنن الترمذي: 2/399 كتاب الزكاة - باب "ما جاء: ليس على المسلمين جزية"، طباعة حمص).
وقد استدل به على أن الذمي إذا أسلم وُضعت عنه الجزية.
رأى المناوي ومناقشته:(3/16)
والعجيب أن العلامة المناوي في "التيسير" بعد أن قرر أن الحديث أصل في تحريم أخذ المكس -يعني الضريبة- من المسلم، قال: ولعل الخبر لم يبلغ عمر حيث فعله (أي المكس). فقد قال المقريزي وغيره: بلغ عمر أن تجارًا من المسلمين يأتون الهند، فيؤخذ منهم العُشر، فكتب إلى أبي موسى الأشعري، وهو على البصرة: خذ من كل تاجر مرّ بك من المسلمين من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن تجار العهد -يعني أهل الذمة- من كل عشرين درهمًا درهم" ثم وضع عمر بن عبد العزيز ذلك عن الناس. أهـ (التيسير: شرح الجامع الصغير: 1/368).
يشير بهذا إلى ما جاء عنه أنه كتب إلى أحد ولاته: أن يضع عن الناس المكس. وكتب إلى آخر: أن اركب إلى البيت الذي بـ "رفح" الذي يقال له "بيت المكس"، فاهدمه (الأموال - المرجع السابق ص704).
والحق أن كلام المناوي هنا تعوزه الدقة والتحقيق والتمحيص.
( أ ) فقد صحَّح حديث العشور أو حسنه، وليس هو بصحيح ولا حسن، كما بين هو نفسه في "فيض القدير".
( ب ) افترض أن عمر عمل بضد ما جاء به الحديث الثابت في نظره -ولم ينبهه عليه أحد من الصحابة في عهده، رغم كثرتهم وعنايتهم بأمر دينهم، وتعلقه بأمر من أمور الدولة التي لا يخفى عادة على جمهور الناس.
(جـ) اعتبر ما عمله عمر وأقره عليه الصحابة رضي الله عنهم أمرًا منكرًا بل كبيرة من الكبائر، لأنه من "المكس" الذي لا يدخل صاحبه الجنة! وهذا يناقض ما أمرنا به من اتباع سنَّة الخلفاء الراشدين، ومنهم عمر بالإجماع.
( د ) مفهوم كلامه: أن عمر بن عبد العزيز قد وضع عن الناس مظلمة بدأها عمر بن الخطاب! والواقع التاريخي يثبت أن ابن عبد العزيز كان همه إحياء سنن ابن الخطاب، ولذا كان يُشبَّه به. وإنما عمل على هدم المظالم وسنن الجور التي أسسها بنو أمية -وهم آله وذووه- لأن الله ورسوله كانا أحب إليه منهم.(3/17)
ومن هنا يظهر لي أن الذي أزاله عمر بن عبد العزيز هو التعسف والإرهاق وتجاوز الحق الواجب، وعدم رعاية الشروط والحدود فيما يؤخذ منه، ومن يؤخذ منه، ومتى يؤخذ، وكيف يؤخذ، مما جعل الناس يشكون من سوء الجباية، وجور العاشرين أو العشارين. فهذا هو الذي أزاله خامس الراشدين رضي الله عنه.
يدل لذلك ما أخرجه ابن حزم -وذكرناه من قبل- عن زُريق (زُرَيق -بضم الزاي وفتح الراء- هكذا رجح أبو عبيد في الأموال ص1661، لأن أهل الشام ومصر ينطقونه هكذا وهم أعلم به. وضبطه البخاري والذهبي وغيرهما بتقديم الراء). بن حيان الدمشقي -وكان على جواز مصر- "كتب إلى عمر بن عبد العزيز: انظر من مرَّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم، مما يديرون في التجارات من كل أربعين دينارًا دينار، وما نقص فبحساب ذلك" (انظر: المحلي: 6/66).
والذي يعنينا هنا: أن حديث: (ليس على المسلمين عشور) لا يصلح مستندًا لمن يقول بتحريم أخذ الضرائب العادلة من المسلمين -عند حاجة الدولة المسلمة إليها- لا من ناحية ثبوته، ولا من ناحية دلالته.
فقهاء من المذاهب الأربعة يجيزون الضرائب العادلة:
وبعد أن فندنا كل الشبهات التي يتمسك بها معارضو شرعية الضرائب العادلة، يحسن بنا -لتأكيد ما بيَّناه في هذا الفصل- أن نذكر أن الفقه الإسلامي قد عرف ضرائب غير الزكاة، أعني ضرائب عادلة أقرها جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة، كما عرفوا الضرائب غير العادلة، ورتبوا عليها أحكامًا.
لكنهم لم يطلقوا على هذه وتلك اسم "الضرائب" بل سماها بعض الفقهاء من المالكية: "الوظائف" أو "الخراج".
وسماها بعض الحنفية: " النوائب " -جمع نائبة- وهى أسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، بحق أو باطل .
وسماها بعض الحنابلة: "الكلف السلطانية" أي التكليفات المالية التي يُلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم.
في الفقه الحنفي:(3/18)
ففي فقه الحنفية نجد المتقدمين منهم والمتأخرين قد عرضوا لهذه الضرائب العادلة وأقروا شرعيتها. فهذا العلامة ابن عابدين يذكر أن من "النوائب" ما يكون بالحق، مثل:
كري النهر (كري النهر: استحداث حفره). المشترك، وأجرة الحارس للمخلة -المسمى بديار مصر "الخفير"- وما وظف للإمام ليجهز به الجيوش، وفداء الأسارى، بأن احتاج إلى ذلك ولم يكن في بيت المال شيء، فوظف على الناس ذلك. ومعنى "وظف عليهم" أي فرض عليهم فريضة دورية.
ومن النوائب ما يكون بغير حق، قال ابن عابدين: كجبايات زمننا (حاشية ابن عابدين -رد المحتار: 2/58).
قال في "القنية" من كتب الحنفية:
قال أبو جعفر البلخي: ما "يضربه" (نلاحظ أنه استعمل كلمة "ضرب" ومنه اشتقت "الضريبة"). السلطان على الرعية مصلحة لهم، يصير دينًا واجبًا، وحقًا مستحقًا كالخراج. وقال مشايخنا: وكل ما "يضربه" الإمام عليهم لمصلحة لهم، فالجواب هكذا، حتى أجرة الحراسين لحفظ الطريق من اللصوص ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعرف، ولا يعرف، خوف الفتنة. ثم قال: فعلى هذا، ما يؤخذ في خوارزم من العامة -دين واجب، لا يجوز الامتناع عنه، وليس بظلم. ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به، وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه، لا للتشهير، حتى لا يتجاسر في الزيادة على القدر المستحق"أهـ.
ويعني بـ "التشهير" إعلان هذه الفتوى وتعميم العلم بها.
نقل ذلك ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" ثم قال: وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك (رد المحتار: 2/95).(3/19)
وهذا النص الذي أثبتناه هنا شاهد صريح الدلالة على ما نقول، فهؤلاء الفقهاء مقتنعون بأن ما يضربه السلطان من ضرائب لمصلحة الجمهور دين واجب وحق مستحق، ومع هذا ذيَّلوا هذا الحكم بقولهم: هذا أمر يُعرف ولا يُعرف خوف الفتنة، يعنون أن يظل هذا الحكم في دائرة خاصة بين الفقهاء وتلاميذهم، ولا يشاع بين الحكام وأعوانهم، حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق، ويرهقوا الشعب بالتكاليف المالية، لسبب وغير سبب.
في فقه المذاهب الثلاثة:
وقال الشيخ المالقي من المالكية: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا لكثرة الحاجة، لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه الناس وضعف بيت المال عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما النظر في المقدار المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام (تهذيب الفروق والقواعد السنية، تأليف الشيخ محمد علي بن الشيخ حسين مفتي المالكية، وهو مطبوع بهامش "الفروق" للقرافي 1/141).
وقد نقلنا من قبل عن الإمامين -الغزالي والشاطبي- جواز فرض هذا الخراج إذا خلا بيت المال، واحتاج الإمام.
وسيأتي في كلام الإمام ابن تيمية عن الكلف السلطانية والمظالم المشتركة ما يفيد إقراره لبعض ما يأخذه السلطان باعتباره من الجهاد بالمال، الواجب على الأغنياء، كما نقله عن صاحب "غياث الأمم" (غياث الأمم - كما في كشف الظنون: 2/1213 كتاب "في الإمامة" لإمام الحرمين الجويني الشافعي المتوفى سنة 478 هـ).
وبهذا نجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة علماء، بل أئمة مرموقين أفتوا بجواز فرض الضرائب العادلة. وإن تحفَّظ بعضهم في إعلان ذلك وتشهيره خشية مغالاة الحكام في الأخذ، وجورهم على الشعب.
فروع فقهية على الضرائب الظالمة:
ومن النوائب أو الكُلف السلطانية أو الوظائف ما يفرضه السلطان ظلمًا، وبغير حق.(3/20)
وقد عرض لهذا النوع من الضرائب الظالمة، وفرَّعوا عليه عدة فروع منها:
( أ ) أن الكفالة بها تصح، وإن كانت بغير حق، بمعنى أن الكفيل إذا كفل غيره بها بأمره كان له الرجوع عليه، بما أخذه الظالم منه، لا بمعنى أنه يثبت للظالم حق المطالبة عن الكفيل (حاشية رد المحتار: 2/58،59).
( ب ) أن من قام بتوزيع أعبائها يؤجر على ذلك، وإن كان الأخذ في نفسه باطلاً وظلمًا. قالوا: والمراد بالعدل: المعادلة، بأن يحمل كل واحد بقدر طاقته؛ لأنه لو ترك توزيعها إلى الظالم، ربما يحمل بعضهم ما لا يطيق، فيصير ظلمًا على ظلم، ففي قيام العارف بتوزيعها بالعدل تقليل للظلم، فلهذا يؤجر (المرجع السابق ص59).
(جـ) أن ما توجه من هذه النوائب والجبايات بغير حق، يجوز للفرد دفعها عن نفسه -أي التهرب منها بحيلة أو شفاعة أو نحو ذلك- إذا لم يحمل حصته على الباقين، فإذا كان الباقون سيتحملون حصته، فالأولى ألا يدفعها عن نفسه.
وقد استشكل ذلك بعضهم بأن إعطاءه إعانة للظالم على ظلمه، فمن تمكن من دفع الظلم عن نفسه، فذلك خير له.
ودفع غيره هذا الإشكال بأنه -بواسطة دفع هذا الظلم عن نفسه- سيوقع أنواعًا من الظلم على الضعفاء والعاجزين ممن لا حيلة لهم ولا شفاعة (لمرجع نفسه ص58. وهذا هو الصحيح).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام جيد في وجوب المساواة بين الممولين في تحمل هذه الضرائب الظالمة.(3/21)
فقد قال في "المظالم المشتركة" التي تطلب من الشركاء في قرية أو مدينة: "إذا طلب منهم شيء؛ يؤخذ على أموالهم ورؤوسهم، مثل "الكُلف السلطانية" التي توضع عليهم كلهم، إما على عدد رؤوسهم، أو على عدد دوابهم أو عدد أشجارهم، أو على قدر أموالهم، كما يؤخذ منهم أكثر من الزكاة الواجبة في الشرع، أو أكثر من الخراج الواجب بالشرع، أو تؤخذ منهم "الكُلف" التي أحدثت في غير الأجناس الشرعية، كما وضع على المتبايعين للطعام والثياب والدواب والفاكهة وغير ذلك، وإن كان قد قيل: إن ذلك وضع بتأويل الجهاد عليهم بأموالهم، واحتياج الجهاد إلى تلك الأموال، كما ذكره صاحب "غياث الأمم" وغيره، مع ما دخل في ذلك من الظلم الذي لا مساغ له عند العلماء. ومثل ما يجمع لبعض العوارض كقدوم السلطان، وحدوث ولد له، ونحو ذلك، وإما أن ترمي عليهم سلع تباع منهم بأكثر من أثمانها، وتسمى الحطائط، ومثل القوافل فيطلب منهم على عدد رؤوسهم، أو دوابهم أو قدر أموالهم، أو يطلب منهم كلهم.
"فهؤلاء المُكْرَهون على أداء هذه الأموال، عليهم لزوم العدل على ما يطلب منهم، وليس لبعضهم أن يظلم بعضًا فيما يطلب منهم، بل عليهم التزام العدل فيما أخذ منهم بغير حق، كما عليهم التزام العدل فيما يؤخذ منهم بحق، فإن هذه الكُلف التي أخذت منهم، بسبب نفوسهم وأموالهم، هي بمنزلة غيرها بالنسبة إليهم، وإنما يختلف حالها بالنسبة إلى الآخذ، فقد يكون آخذًا بحق، وقد يكون آخذًا بباطل، وأما المطالبون فهذه كلف تؤخذ منهم بسبب نفوسهم وأموالهم، فليس لبعضهم أن يظلم بعضًا في ذلك، بل العدل واجب لكل أحد على كل أحد في جميع الأحوال، والظلم لا يباح منه بحال.(3/22)
"وحينئذ فهؤلاء المشتركون ليس لبعضهم أن يفعل ما به ظلم غيره، بل إما أن يؤدي قسطه فيكون عادلاً، وإما أن يؤدي زائدًا على قسطه، فيعين شركاءه فيما أخذ منهم فيكون محسنًا. وليس له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذلك المال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء، فيتضاعف الظلم عليهم، فإن المال إذا كان يؤخذ لا محالة، وامتنع بجاه أو رشوة أو نحوهما، كان قد ظلم من يؤخذ منه القسط الذي يخصه، وليس هذا بمنزلة أن يدفع عن نفسه الظلم من غير ظلم لغيره، فإن هذا جائز. مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه، فلا يؤخذ ذلك منه ولا من غيره.
"وحينئذ فيكون الأداء واجبًا على جميع الشركاء، كل يؤدي قسطه الذي ينوبه، إذا قسم المسلوب بينهم بالعدل، ومن أدى عن غيره قسطه بغير إكراه كان له أن يرجع عليه، وكان محسنًا إليه في الأداء عنه، فيلزمه أن يعطيه ما أداه عنه، كما في المقرض المحسن، ومن غاب ولم يؤد حتى أدى عنه الحاضرون لزمه قدر ما أدوه عنه، ومن قبض ذلك من ذلك المؤدي عنه؛ وأداه إلى هذا المؤدي جاز له أخذه؛ سواء أكان الملزم له بالأداء هو الظالم الأول أو غيره، ولهذا له أن يدعى بما أداه عنه، كما يُحكم عليه بأداء بدل القرض، ولا شبهة على الآخذ في أخذ بدل ماله" (انظر مطالب أولي النهى: 3/569،570، وقد طبعت رسالة "المظالم المشتركة" مستقلة أيضًا في دمشق).
الخاتمة
الزكاة الإسلامية نظام جديد فريد
فهرس
تابع من كلمات المصلحين المسلمين
مهمة الزكاة في المجتمع المسلم
سمة بارزة من سمات الزكاة في الإسلام
إهداء
أحسب أنه قد تبين لنا...
شهادة الأجانب للزكاة
من كلمات المصلحين المسلمين
التزام أداء الزكاة كاف لإعادة مجد الإسلام
الزكاة من الأمة وإليها
أحسب أنه قد تبين لنا - من خلال أبواب هذا البحث وفصوله - أن الزكاة التي فرضها الإسلام في المدينة وبين حدودها وأحكامها، هي نظام جديد فريد في تاريخ الإنسانية، لم يسبق إليه تشريع سماوي، ولا تنظيم وضعي.(3/23)
هي نظام مالي واقتصادي ؛ لأنها ضريبة مالية محدودة، تُفرض على الرؤوس حينًا، كزكاة الفطر، وعلى الأموال أحيانًا - من رؤوس أموال ودخول - كما هو الشأن في عامة الزكاة، وهي مورد مالي دائم من موارد بيت المال في الإسلام، تُصرف في تحرير الأفراد من رق العوز وإشباع حاجاتهم الاقتصادية وغيرها، ثم هي حرب عملية على الكنز وحبس الأموال عن التداول والتثمير.
وهي نظام اجتماعي ؛ لأنها تعمل على تأمين أبناء المجتمع ضد العجز الحقيقي والحكمي، وضد الكوارث والجوائح، وتحقق بينهم التضامن الإنساني: الذي يعين فيه الواجد المعدم ويأخذ القوى بيد الضعيف، والمسكين وابن السبيل ويقرب المسافة بين الأغنياء والفقراء، ويعمل على إزالة الحسد والضغينة بين القادرين والعاجزين، ويعين المصلحين بين الناس على اتجاههم الخيِّر؛ ويدفع لهم ما غرموا في سبيل الخير العام؛ كما تسهم في حل كثير من مشكلات المجتمع وتعينه على تحقيق أهدافه النبيلة، وغاياته الطيبة المثلى.
وهي نظام سياسي ؛ لأن الأصل فيها أن تتولى الدولة جبايتها، كما تتولى توزيعها في مصارفها، مراعية في ذلك العدل، مقدِّرة الحاجات، مقدَّمة للأهم على المهم، وذلك بواسطة جهاز قوي أمين، حفيظ عليم، من "العاملين عليها". كما أن بعض مصارفها إنما هو من شئون الدولة كـ "المؤلَّفة قلوبهم" و "في سبيل الله".
وهي نظام خُلُقي.. لأنها تهدف إلى تطهير نفوس الأغنياء من دنس الشح المهلك، ورجس الأنانية الممقوتة، وتزكيتها بالبذل وحب الخير، والمشاركة الوجدانية والعملية للآخرين. كما تعمل على إطفاء نار الحسد في قلوب المحرومين الذين يمدون أعينهم إلى ما متع الله به غيرهم من زهرة الحياة الدنيا. وإشاعة المحبة والإخاء بين الناس.(3/24)
وهي - قبل ذلك كله - نظام ديني ؛ لأن إيتاءها دعامة من دعائم الإيمان، وركن من أركان الإسلام، وعبادة من أسمى ما يُتقرب به إلى الله تعالى. ولأن القصد الأول من إعطائها لذي الحاجة تقوية إيمانه بالدين، وإعانته على طاعة الله وتنفيذ أوامره، ولأن الدين هو الذي جاء بها، وهو الذي فصَّل أحكامها وبين مقاديرها وحدد مصارفها، وجعل جزءًا منها في معونة ذوي الحاجة من أهله، وجزءًا آخر في تأليف القلوب عليه، وفي نُصرته وإعلاء كلمته وتأمين دعوته في الأرض (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلهُ للَّه) (الأنفال: 39).
هذه هي الزكاة كما شرعها الإسلام، وإن جهل المسلمون في الأعصر الأخيرة حقيقتها، وأهملوا بعد ذلك أداءها، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
هذه الزكاة وحدها دليل على أن هذه الشريعة من عند الله. فما كان لمحمد الأمي في أمة أمية أن يهتدي إلى مثل هذا النظام الفذ العادل، بتفكيره الشخصي، أو بمعلوماته القليلة، لولا أنّ الله اختصه بوحيه، وأنزل عليه آياته هديً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا.
شهادة الأجانب للزكاة
هذا النظام الفذ - نظام الزكاة - الذي أساء فهمه وتطبيقه كثير من المسلمين بل شوهه وطعن فيه بعض المضللين ممن ينتسبون إلى الإسلام، ويحملون أسماء المسلمين - هذا النظام وجد من الكتاب الغربيين من ينوِّه به، ويثني عليه، ويشيد بفضل الإسلام الذي سبق النظم العالمية الحديثة بشرعه للناس.
يتحدث "أرنولد" في كتابه "الدعوة الإسلامية" عن شعائر الإسلام فيذكر الحج الإسلامي ومزاياه، وجليل أهدافه، ثم ينتقل إلى الزكاة فيقول:
"وإلى جانب نظام الحج نجد إيتاء الزكاة فرضًا آخر، يُذكِّر المسلم بقوله تعالى: (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) (الحجرات:10).(3/25)
وهي نظرية دينية تتحقق على صورة رائعة، تبعث على الدهش، في المجتمع الإسلامي، وتتجلى في أعمال الشفقة إزاء المسلم الجديد.. ومهما يكن جنسه ولونه وأسلافه، فإنه يُقبَل في زمرة المؤمنين، ويتبوأ مكانه على قدم المساواة مع أقرانه المسلمين" (الدعوة إلى الإسلام - لتوماس أرنولد - ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن وميله، ص457).
ويقول "ليود روش": "لقد وجدت في الإسلام حل المشكلتين الاجتماعيتين اللتين تشغلان العالم.
الأولى: في قول القرآن: (إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ) فهذا أجمل مبادئ الاشتراكية.
والثانية: فرض الزكاة على كل ذي مال وتخويل الفقراء حق أخذها غصباَ، إن امتنع الأغنياء عن دفعها طوعًا، وهذا دواء الفوضوية".
وينقل لنا الأستاذ محمد كرد على عن كاتب أجنبي آخر قوله في الزكاة: "وكانت هذه الضريبة فرضًا دينيًا يتحتم على الجميع أداؤه، وفضلاً عن هذه الصفة الدينية. فالزكاة نظام اجتماعي عام ومصدر تدخر به الدولة المحمدية ما تمد به الفقراء وتعينهم، وذلك على طريقة نظامية قويمة، لا استبدادية تحكمية، ولا عرضية طارئة" (من كتاب "الإسلام والحضارة الغربية" - لكرد علي - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - الطبعة الثانية - ص176).
"وهذا النظام البديع كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة. فضريبة الزكاة التي كانت تجبر طبقات الملاك والتجار والأغنياء على دفعها، لتصرفها الدولة على المعوزين والعاجزين من أفرادها، هدمت السياج الذي كان يفصل بين جماعات الدولة الواحدة، ووحدت الأمة في دائرة اجتماعية عادلة. وبذلك برهن هذا النظام الإسلامي على أنه لا يقوم على أساس الأثرة البغيضة" (المرجع نفسه ص76-77).
وينقل عن "ماسينيون" المستشرق الفرنسي الشهير قوله:(3/26)
" إن لدين الإسلام من الكفاية ما يجعله يتشدد في تحقيق فكرة المساواة، وذلك بفرض الزكاة التي يدفعها كل فرد لبيت المال، وهو يناهض الديون الربوية والضرائب غير المباشرة التي تفرض على الحاجات الأولية الضرورية، ويقف في نفس الوقت إلى جانب الملكية الفردية ورأس المال التجاري، وبذلك يحل الإسلام مرة أخرى مكانًا وسطًا بين نظريات الرأسمالية البرجوازية، ونظريات البلشفية الشيوعية " .
وتقول الكاتبة الإيطالية الدكتورة "فاغليري" في كتابها الذي نقل إلى العربية بعنوان "دفاع عن الإسلام":
"لقد اعترفت جميع الأديان، إلى حد ما، بالأهمية الأخلاقية والاجتماعية الكبرى التي ينطوي عليها تقديم الصدقات، وأوصت بذلك بوصفه تعبيرًا حسيًّا عن الرحمة. ولكن الإسلام يتمتع وحده بالمجد المتمثل في جعل الصدقة إلزامية ناقلاً تعاليم المسيح إلى دنيا الأمر، ومن ثَمَّ إلى دنيا الواقع. فكل مسلم ملزم -بحكم القانون- بأن يخصص جزءًا من ثروته لمصلحة الفقراء، والمحتاجين، والمسافرين والغرباء ... إلخ. وبأداء هذه الفريضة الدينية يختبر المؤمن حسًا أعمق من الإنسانية، ويطهر روحه من الشح، ويأخذ في مراودة الأمل بالفوز بالمكافأة الإلهية" (دفاع عن الإسلام ص69).
من كلمات المصلحين المسلمين
وبعد هذه الكلمات التي نقلناها عن جماعة من المستشرقين أداهم الإنصاف إلى الاعتراف بفضل الزكاة، نثبت هنا أيضاَ كلمات لبعض المصلحين المسلمين نوّهوا فيها بشأن الزكاة لعل فيها هدى وموعظة.
التزام أداء الزكاة كاف لإعادة مجد الإسلام:
يقول السيد محمد رشيد رضا - رحمه الله - في تفسيره:(3/27)
"إن الإسلام يمتاز على جميع الأديان والشرائع بفرض الزكاة فيه - كما يعترف بهذا حكماء جميع الأمم وعقلاؤها - ولو أقام المسلمون هذا الركن من دينهم لما وُجِد فيهم - بعد أن كثرهم الله ووسع عليهم في الرزق - فقير مدقع، ولا ذو غُرْم مفجع. ولكن أكثرهم تركوا هذه الفريضة، فجنوا على دينهم وأمتهم، فصاروا أسوأ من جميع الأمم حالاً في مصالحهم المالية والسياسية حتى فقدوا مُلْكهم وعزتهم وشرفهم، وصاروا عالة على أهل الملل الأخرى حتى في تربية أبنائهم، فهم يلقونهم في مدارس دعاة النصرانية، أو دعاة الإلحاد فيفسدون عليهم دينهم ودنياهم، ويقطعون روابطهم المليِّة والجنسية، ويعدونهم ليكونوا عبيدًا أذلة للأجانب عنهم. وإذا قيل لهم: لماذا لا تؤسسون لأنفسكم مدارس كمدارس هؤلاء الرهبان والمبشرين أو الملاحدة الإباحيين؟ قالوا: إننا لا نجد من المال ما يقوم بذلك. وإنما الحق أنهم لا يجدون من الدين والعقل وعلو الهمة والغيرة ما يمكنهم من ذلك، فهم يرون أبناء الملل الأخرى، يبذلون للمدارس وللجمعيات الخيرية والسياسية ما لا يوجبه عليهم دينهم، وإنما أوجبته عليهم عقولهم وغيرتهم الملِّية والقومية، ولا يغارون منهم، وإنما يرضون أن يكونوا عالة عليهم! تركوا دينهم فضاعت بإضاعتهم له دنياهم (نَسُواْ اللَّهَ فَأنسَاهُمْ أنفُسَهُمْ، أوْلَئِكَ هُمً الفَاسِقُونَ) (الحشر:19).(3/28)
"فالواجب على دعاة الإصلاح فيهم أن يبدأوا بإصلاح من بقى فيه بقية من الدين والشرف بتأليف جمعية لتنظيم جمع الزكاة منهم، وصرفها قبل كل شيء في مصالح المرتبطين بهذه الجمعية دون غيرهم. ويجب أن يُراعَى في تنظيم هذه الجمعية أن لسهم"المؤلفة قلوبهم" مصرفًا في تحرير الشعوب المستعمرة من الاستعباد، إذا لم يكن له مصرف تحرير الأفراد، وأن لسهم "سبيل الله" مصرفًا في السعي لإعادة حكم الإسلام، وهو أهم من الجهاد لحفظه في حال وجوده من عدوان الكفار، ومصرفًا آخر في الدعوة إليه والدفاع عنه بالألسنة والأقلام، إذا تعذر الدفاع عنه بالسيوف والأسنة، وألسنة النيران.
"ألا إن إيتاء جميع المسلمين أو أكثرهم للزكاة، وصرفها بالنظام، كاف لإعادة مجد الإسلام، بل لإعادة ما سلبه الأجانب من دار الإسلام، وإنقاذ المسلمين من رق الكفار، وما هي إلا بذل العشر أو ربع العُشر، مما فضل عن حاجة الأغنياء ؛ وإننا نرى الشعوب التي سادت المسلمين بعد أن كانوا سادتهم يبذلون أكثر من ذلك في سبيل أمتهم وملَّتهم، وهو غير مفروض عليهم من ربهم" أهـ (تفسير المنار جـ20).
الزكاة من الأمة وإليها:
ويقول المرحوم الشيخ محمود شلتوت - شيخ الجامع الأزهر الأسبق - معلقًا على حديث معاذ الذي قال له فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتُرَد على فقرائهم).
"يدل هذا التعليم النبوي على أن الزكاة في نظر الإسلام ليست إلا صرف بعض أموال الأمة، ممثلة في أغنيائهم، إلى الأمة نفسها، ممثلة في فقرائها. وبعبارة أخرى: ليست إلا نقل الأمة بعض مالها من إحدى يديها، وهي اليد المشرفة، التي استخلفها الله على حفظه وتنميته والتصرف فيه - وهي يد الأغنياء - إلى اليد الأخرى، وهي اليد العاملة الكادحة، التي لا يفي عملها بحاجتها أو التي عجزت عن العمل، وجعل رزقها فيه ومنه، وهي يد الفقراء" (كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة" لشلتوت).(3/29)
مهمة الزكاة في المجتمع المسلم:
ويعرض المصلح الإسلامي العلامة السيد أبو الأعلى المودودي لمهمة الزكاة وموضعها من النظام الاقتصادي الإسلامي، في كتاب "أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة "
"الذي يريده الإسلام في حقيقة الأمر - كما قلنا من قبل - ألا تُترك الثروة تتجمع في موضع من المواضع في المجتمع، ولا ينبغي للذين نالوا من الثروة، لحسن حظهم أو بكفاءتهم ما يزيد عن حاجاتهم أن يدخروها ولا ينفقوا منها، بل عليهم أن ينفقوا منها في وجوه يمكن بها للذين لم يسعدهم الحظ أن ينالوا نصيبًا كافيًا من ثروة المجتمع في تداولها.
"ولهذا الغرض، ينشئ الإسلام -في جانب- روح السخاء والجود والتعاون الاجتماعي الحقيقي بتعاليمه الخُلقية السامية وطرق الترغيب والترهيب المؤثرة، حتى يصبح الناس، بميلهم الطبيعي، يشمئزون من جمع الثروة وادخارها، ويرغبون في إنفاقها بأنفسهم، وفي الجانب الآخر، يضع قانونًا يوجب أن يؤخذ مقدار معلوم، لفلاح المجتمع وإسعاده، من أموال الناس. فهذا المقدار المعلوم من أموال الناس هو "الزكاة" ولا يخفى عليك ما للزكاة من أهمية بالغة في نظام الإسلام الاقتصادي، وهي أهم أركان الإسلام بعد الصلاة، حتى لقد صرَّح القرآن بأن من يكنز المال لا يحل له حتى يؤدي زكاته، فقال: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة: 103).(3/30)
"وكلمة "الزكاة " نفسها تدل على أن في الثروة التي يجمعها الإنسان نجاسة وخباثة لا تطهر ما لم يخرج منها 2.5% في سبيل الله" كل عام . والله غنى لا يناله مالكم ولا يحتاج إليه ؛ إلا أن تسعوا في ترفيه الفقراء وتعملوا على ترقية الأعمال النافعة التي يشمل نفعها طبقات الأمة كلها، فقال: (إنَمَا الصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سبِيلِ اللَّه وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة: 60).
"فهذه هي جمعية المسلمين للتعاون الاجتماعي، وهذه هي شركتهم للتأمين الاجتماعي، وهذا هو مالهم الاحتياطي.
"وهذه هي الثروة الكافلة للعاطلين منهم، وهذه هي الوسيلة لإعانة عجزتهم ومرضاهم ويتاماهم وأياماهم ومواساتهم وتعهد أحوالهم؛ وفوق كل ذلك هو الشيء الذي يغني المسلم عن التفكر في غده. فمبدأ الإسلام الساذج الفطري أنك إذا كنت غنيًا اليوم، فساعد غيرك، ليساعدك غيرك إذا افتقرت غدًا. فليس لك أن تشغل بالك بالتفكير فيما يكون عليه حالك إن أصبحت فقيرًا، أو حال زوجك وأولادك إذا نالتكَ المنية وانتقلتَ إلى الدار الآخرة، وكيف تنجو من المصائب إذا نزلت بك نازلة أو مرضتَ أو أصبت بالحريق أو الفيضان؟ وماذا تفعل إن كنت على سفر وليس عندك شيء من المال؟ فالزكاة هي التي تغنيك وتنجيك عن التفكر في مثل هذه الأمور إلى أبد الآباد.
"ليس عليك إلا أن تؤدي 2.5% من ثروتك المدخرة إلى مؤسسة الله للتأمين، ثم تأمن من كل آفة على نفسك ؛ إنك لست بحاجة إلى هذه الثروة في هذا الوقت فدع الذين هم في حاجة إليها، ينفقون منها ويسدون بها حاجاتهم، ثم تعود عليك هذه الثروة بتمامها غدًا، بل ستعود عليك وهي أكثر منها الآن إن افتقرت إليها أنت أو أولادك.(3/31)
"وههنا أيضًا يبدو التضاد الواضح بين مبادئ ومناهج الرأسمالية ومبادئ ومناهج الإسلام. فالذي تقتضيه الرأسمالية أن يجمع الإنسان المال ويأخذ عليه الربا حتى ينجذب إلى بحيرته وينصب فيها كل ما عند غيره من المال. ولكن ذلك مما لا يتفق مع طبيعة الإسلام، فهو يأمر، إذا تجمع المال في بحيرة من البحيرات، بحفر الترع منها وتوزيع مائها إلى ما حولها من الزروع الميتة حتى تعود إليها الحياة. إن تداول الثروة مقيد في نظام الرأسمالية وهو حر في نظام الإسلام. فإنه لا بد لك، إن أردت أن تأخذ الماء من حوض الرأسمالية، أن يكون ماؤك موجودًا فيه من ذي قبل، وإلا فليس لك، بحال من الأحوال، أن تنال منه ولو قطرة واحدة من الماء. ولكن المبدأ الذي يجرى عليه نظام حوض الإسلام، أنه من كان عنده من الماء ما يزيد عن حاجته، فليصبه في هذا الحوض، ومن كان في حاجة إلى الماء فليأخذه منه. فالظاهر أن هذين الطريقين متضادان فيما بينهما من حيث أصلهما وطبيعتهما، وليس الجمع بينهما في نظام اقتصادي إلا الجمع بين الضدين في حقيقة الأمر، ولا يكاد يمر ذلك بخلد رجل عاقل" أهـ (أسس الاقتصاد في الإسلام ص128-131).
سمة بارزة من سمات الزكاة في الإسلام:
ويتحدث الداعية الإسلامي الجليل السيد أبو الحسن الندوي في كتابه "الأركان الأربعة" عن سمات الزكاة الإسلامية البارزة. فمن أبرزها وأعمقها في التأثير ما يقترن بهذه الفريضة من روح الإيمان والاحتساب. وهي الروح التي تتجرد منها الضرائب الرسمية. ثم يعرض لسمة أخرى ذات أهمية ودلالة بالغة، فيقول:(3/32)
"والسمة الثانية البارزة التي تميز الزكاة عن سائر الجبايات والضرائب، التي كانت تُفرض في زمن الملوك والسلاطين، وفي عهد الحكومات الشخصية أو في عصرنا الحاضر في الجمهوريات وحكومات الشعوب، وتجعلها تختلف عنها اختلافًا واضحًا في البداية والنهاية، وفي النتائج والآثار، هي وضعها الشرعي الذي قرره الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظه المعجز الحكيم، وتعبيره النبوي الدقيق الذي يُعَد من جوامع الكلم. فقال: (تؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فقرائهم) وذلك وضع الزكاة الأصيل الشرعي الذي كانت عليه، ويجب أن تكون عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي تؤخذ من الأغنياء الذين يستوفون شروط وجوبها، ويملكون النصاب المعيّن المنصوص، وتُصرف في مصارف عينها الله تعالى في القرآن، ولم يكلها إلى رأي مشترع أو مقنن، أو حاكم أو عالم، وهو قوله تعالى: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ للْفُقَراء) .... الآية (التوبة:60). وتفضل الشريعة، وترجح الأحاديث النبوية أن تُصرف هذه الصدقات على فقراء البلد الذي تُجبَى فيه.
"وكذلك كان نظام الزكاة حتى في الحكومات التي لم تكن دقيقة كل الدقة، ولا أمينة كل الأمانة في تطبيق الأحكام الشرعية، وتحقيق المُثُل الإسلامية العليا في الحكم والسياسة. فلم يُحرم الفقراء والمساكين حقهم في ظل هذه الحكومات، ولم تتعطل حدود الله كل التعطل (كتاب "الخراج" لقاضي القضاة الإمام أبي يوسف ومقدمته - بصفة خاصة - برهان ساطع على ما كان من اهتمام في أوج الدولة العباسية بأحكام الخراج والزكاة والصدقات فإنه كتب هذا الكتاب العظيم باقتراح من أمير المؤمنين "هارون الرشيد"). في هذه الحكومات، التي يبالغ كثير من المؤرخين المغرضين، والباحثين المستشرقين في ذمها، وانحرافها عن تعاليم الإسلام، بل ثورتها عليها، كما يقولون.(3/33)
"وبالعكس من ذلك، الجبايات والضرائب والمكوس، التي تفرضها الحكومات اليوم، فهي صورة مقلوبة معكوسة للزكاة، فهذه الضرائب -العادلة منها والمجحفة، والصغيرة منها والضخمة- تؤخذ من الفقراء وأوساط الناس، وتُرَد على الرؤساء والأغنياء والأقوياء. إنها تجتمع بعَرَق جبين الفلاحين، والعملة والصنَّاعين، والتجار الذين يشتغلون ليل نهار في متاجرهم ودكاكينهم وتُصرف هذه الأموال بسخاء - بل بقسوة نادرة، ووقاحة زائدة - في استقبال رؤساء الجمهوريات الزائرين للبلاد، وفى ولائمهم التي تشبه ولائم "ألف ليلة وليلة" الخيالية الأسطورية، وفى المهرجانات التي يحتفل بها بين حين وحين وفى مآدب السفارات في البلاد الأجنبية التي تجري فيه الخمر جري الأنهار، وفي دعايات الحكومة التي تستنفد موارد الشعب وتمتص دماءه، وتحول بين رجل الشعب وقوته، وفي جعالات الصحفيين الأجانب، ووكالات الأنباء ورواتب المذيعين البارعين الذين حذقوا فن تلفيق الأخبار، واتهام الأبرياء، وتشريح الأحياء من المنافسين والأعداء، وتكاليف الصحف التي تعتبر أهم وأنفع من أقوى الجيوش، وأحدث الأسلحة، فما من حكومة شعبية ديمقراطية، ولا من حكومة شيوعية أو اشتراكية، إلا وهي تمتص دم الشعب كالإسفنج، وتصبه في بحر الدعاية والرشاء السياسي، والتلبيس الصحفي، ومحاكمة المعارضين من المجرمين وغير المجرمين، فلا أدق تصويرًا ولا أصدق تعبيرًا في وصف هذه الضرائب، التي تقوم عليها الحكومات اليوم، من قولنا: إنها "تؤخذ من فقرائهم وتُرَد على أغنيائهم" لذا كانت الزكاة الإسلامية التي فرضها الله على عباده الموسرين لطفًا ورحمة بالأمة، ونتيجة لنعمة النبوة التي لا نعمة فوقها، "ضريبة" -إذا كان لا بد من إطلاق هذه الكلمة- أقل الضرائب مقدارًا وأخفها مؤنة، وأعظمها يمنًا وبركة، وأكثرها فائدة، لأنها: (تؤخذ من أغنيائهم وتُرَد على فقرائهم) أهـ (الأركان الأربعة ص120-122).(3/34)
وبعد .. فإني أهدي هذه الدراسة إلى رجال الفكر والتشريع المالي والضريبي ليعلموا كيف سبق الإسلام النظم المالية والضريبية الحديثة فشرع هذه الضريبة المحكمة "الزكاة" متضمنة أفضل المبادئ، وأعدل الأحكام، وأنبل الأهداف وأقوى الضمانات، ثم لينزلوا على حكم الشرع الذي يدينون به، والواقع الذي يعيشون فيه فيراعوا معتقدات الأمة التي يُشرعون لها، ويضعوا هذه الضريبة المقدسة "الزكاة" في مقدمة الضرائب التي يسنونها، ثم يُفرِّعوا ويكملوا بما تقتضيه الحال من ضرائب تصاعدية أو نسبية.
وأهدي هذه الدراسة إلى رجال الضمان الاجتماعي، ليعلموا علم اليقين أن هذه الفريضة هي أول إعانة تُنظم بواسطة الحكومة -في تاريخ الإنسان- لمختلف ذوي الحاجات في المجتمع، بل هي حق معلوم لهم وفريضة من الله، وأن تاريخ التدابير الحكومية لإعانة الضعفاء والمحتاجين، لا يبدأ بالقرن السابع عشر -كما قيل- كما أن الضمان الاجتماعي ليس من مستوردات الغرب، ولا من مبتكرات العصر، بل هو نظام إسلامي أصيل، وفره الإسلام للمسلمين وغير المسلمين.
وأهدي هذه الدراسة إلى المثقفين العصريين الذين يحملون أسماءً ووجوهًا عربية أو شرقية، وقلوبًا وعقولاً أوروبية أو أمريكية أو روسية أو صينية، يتبعون - رسميًا - الديانة الإسلامية، وهم أجهل الناس بالإسلام.. إليهم هذه الدراسة ليعلموا أن الإسلام ليس دين صومعة ولا كهنوت، وإنما هو دين ودولة، عقيدة ونظام، علم وعمل، دنيا وآخرة، حرية وعدل، حقوق وواجبات. وأوضح مثل لذلك نظام الزكاة.
وأهدي هذه الدراسة إلى كافة الشعوب الإسلامية وحكوماتها المعاصرة؛ لتراجع موقفها من شرائع الإسلام ونظمه، ومنها الزكاة، عسى أن تزيل التناقض القائم في حياتها، وتطرد من دساتيرها وقوانينها الاستعمار التشريعي كما طردت الاستعمار السياسي والعسكري، ويعود الإسلام دينها ومصدر قوانينها وأنظمتها.(3/35)
وأخيرًا .. أهدي هذه الدراسة إلى المشتغلين بالفقه الإسلامي، والثقافة الإسلامية والداعين إلى تطبيق نظام الإسلام، لعلهم يجدون في هذه الدراسة الفقهية المقارنة في ضوء القرآن والسنة، ما يزيدهم إيمانًا بأن هذا الدين قادر على مواجهة التطور، وقيادة الحياة من جديد، وتوجيه دفتها إلى الحق والخير والعدل، في ظل شريعته الخصبة المثرية، الصالحة المصلحة لكل زمان ومكان.
وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.(3/36)