فقه الزكاة
يوسف القرضاوي
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة السادسة عشرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (من "خطبة الحاجة" التي كان يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ورواها عنه ستة منهم، وهي في صحيح مسلم وغيره). صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد .
عناية الإسلام بالمجتمع الإنساني
فقد عُنِيَ الإسلام في كتابه وسنته بالمجتمع الإنساني، وعلاج مشكلاته وأدوائه، وذلك لأنه دين إنساني، جاء بتكريم الإنسان، وتحرير الإنسان، ففيه تتعانق المعاني الروحية والمعاني الإنسانية، وتسيران جنبًا إلى جنب.
والإسلام لا يتصور الإنسان فردًا منقطعًا في فلاة، أو منعزلاً في كهف أو دير، بل يتصوره دائمًا في مجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه . ويعطيه كما يأخذ منه، ولهذا خاطب الله بالتكاليف الجماعة المؤمنة لا الفرد المؤمن: (يا أيها الذين آمنوا)، وكانت مناجاة المؤمن لربه في صلاته بلسان الجماعة لا بضمير المفرد: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم) (الفاتحة: 5/6) .لهذا قلنا: إن مقتضى عناية الإسلام بالإنسان، العناية بالمجتمع كله، فالإنسان اجتماعي بالفطرة، أو مدني بالطبع، على حد تعبير القدماء.
وإذا كان الإسلام قد عُنِيَ بالمجتمع عمومًا، فإنه عُنِيَ عناية خاصة بالفئات الضعيفة فيه، وهذا سر ما نلاحظه في القرآن الكريم من تكرار الدعوة إلى الإحسان باليتامى والمساكين وابن السبيل وفى الرقاب، يستوي في ذلك مكي القرآن ومدنيه . وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكو ضعفًا في ناحية، فاليتيم ضعفه من فقد الأب، والمسكين ضعفه من فقد المال، وابن السبيل ضعفه من فقد الوطن، والرقيق ضعفه من فقد الحرية.(1/1)
وإذا كانت بعض المجتمعات تهمل هذه الفئات الشعبية الضعيفة، ولا تلقى لها بالاً في سياستها الاجتماعية والاقتصادية، ولا تكاد تعترف لها بحق: لأنها لا تُرْجَى ولا تُخْشَى، وليس بيدها خزائن المال، ولا مقاليد السلطان - فإن رسول الإسلام محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد نبه على قيمة هذه الفئات ومكانها من المجتمع، فهي عدة النصر في الحرب، وصانعة الإنتاج في السلم؛ فبجهادها وإخلاصها يتنزل نصر الله على الأمة كلها، وبجهودها وكدحها في سبيل الإنتاج يتوافر الرزق لها.
وإلى هذه الحقيقة يشير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبى وقاص، حين قال له فيما رواه البخاري: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم" ؟.
ومن هنا حرص الإسلام على أن تكون هذه الفئات الجاهدة المجاهدة، مستريحة في حياتها، مطمئنة إلى أن معيشتها مكفولة، وأن حقوقها في العيش الكريم مضمونة، بحيث يجب أن يوفر لكل فرد فيها على الأقل حد الكفاية، بل تمام الكفاية من مطالب الحياة الأساسية، إذا عجز عن العمل، أو قدر عليه ولم يجده، أو وجده ولم يكن دخله منه يكفيه، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها. على أن الإسلام لم يغفل من حسابه أن القوي قد تطرأ عليه ظروف تجعله في مركز الضعف والحاجة، لغرم في مصلحة خاصة أو عامة، أو لانقطاعه عن ماله ووطنه في سفر وغربة، ففرض لهذا النوع من الزكاة ما ينهض بهم إذ عثروا، ويمدهم بالقوة إذ ضعفوا.
ولكن ما المورد المالي الذي يحقق هذه الأهداف، ويفي بهذه المطالب ؟.
هنا يأتي دور الزكاة التي جعل الشرع جل حصيلتها لهذه الأغراض الاجتماعية، وهى ليست بالشيء الهين، إنها العشر أو نصفه مما أنبت الله من الثروة الزراعية، وربع العشر من الثروة النقدية والتجارية، ونحو هذا المقدار - تقريبًا - من الثروة الحيوانية، وخمس ما يعثر عليه من الكنوز، بالإضافة إلى خمس الثروة المعدنية والبحرية كما يرى بعض الفقهاء.(1/2)
ولقد كان من روائع الإسلام، بل من معجزاته الدالة على أنه دين الله حقًا، أنه سبق الزمن، وتخطى القرون، فعنى - منذ أربعة عشر قرنًا مضت - بعلاج مشكلة الفقر والحاجة، ووضع الفقراء والمحتاجين، دون أن يقوموا بثورة، أو يطالبوا - أو يطالب لهم أحد بحياة إنسانية كريمة، بل دون أن يفكروا هم مجرد تفكير في أن لهم حقوقًا على المجتمع يجب أن تؤدى، فقد توارث هؤلاء على مر السنين والقرون أن الحقوق لغيرهم، وأما الواجبات فعليهم!!.
ولم تكن عناية الإسلام بهذا الأمر سطحية ولا عارضة، فقد جعلها من خاصة أسسه، وصلب أصوله، وذلك حين فرض للفقراء وذوى الحاجة حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء، يَكْفُر مَن جَحَدَه، ويَفْسُق من تَهرَّب منه، ويُؤخذ بالقوة ممن منعه، وتُعلن الحرب من أجل استيفائه ممن أبَى وتمرد.
كان ذلك الحق هو الزكاة ؛ الفريضة الإسلامية العظيمة التي اهتم بها القرآن والسنة، وجعلاها ثالثة دعائم الإسلام.
أهمية موضوع الزكاة
هذه الفريضة الجليلة - الزكاة - لها أكثر من وجه يجعل لها أهمية خاصة.
فهي - من جهة - عبادة من العبادات الأربع، كالصلاة والصيام والحج، ومن هذا الوجه تقرن في القرآن والحديث بالصلاة، وتأتى بعدها عادة في كتب الفقه في قسم العبادات. وهى - من وجه آخر - مورد أساسي من الموارد المالية في الدولة الإسلامية، وهذا يخرجها عن أن تكون عبادة محضة، فهي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، ولهذا عنيت بها كتب الفقه المالي في الإسلام مثل: "الخراج" لأبى يوسف، و"الخراج" ليحيى بن آدم، و "الأموال" لأبى عبيد، و"الأموال" لابن زنجويه، وغيرها. ومثلها كتب السياسة الشرعية، مثل: "الأحكام السلطانية" لكل من الماوردي، وأبى يعلى، و"السياسة الشرعية" لابن تيمية ونحوها.(1/3)
وهى -من وجه ثالث- المؤسسة الأولى للضمان الاجتماعي في الإسلام، ونظرة سريعة إلى مصرفها، كما نص عليها القرآن، تشير بوضوح إلى الوجه الاجتماعي للزكاة، وإلى الأهداف الإنسانية التي تتوخى تحقيقها في المجتمع المسلم، فإن خمسة من مصارفها الثمانية تتمثل في ذوى الحاجات الأصلية أو الطارئة من الفقراء والمساكين وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل، ومصرف سادس لخدمة هذه المصارف وهو الجهاز الإداري لجمع الزكاة وتفريقها.
أما المصرفان الباقيان فلهما علاقة بسياسة الدولة الإسلامية ورسالتها في العالم، ومهمتها في الداخل والخارج، فلها -من مال الزكاة- أن تؤلف القلوب على الإسلام، استمالة إليه، أو تثبيتًا عليه، أو ترغيبًا في الولاء لأمته، والمناصرة لدولته، أو نحو ذلك مما تقتضيه المصلحة العليا للأمة.
كما أن للزكاة دورًا في تمويل الجهاد، ومنه نشر الدعوة، وحماية الأمة من الفتنة، وإعانة المجاهدين والدعاة حتى تعلو كلمة الإسلام، ويظهر دين محمد -صلى الله عليه وسلم- على الدين كله، ولو كره المشركون.
وربما يقول بعض الناس: إن كتبنا القديمة قد حفلت بالشيء الكثير عن الزكاة وأحكامها، وفصلت فيها القول، حيث تعرض لها المفسرون والمحدثون والفقهاء، كل في مجال اختصاصه، وخلفوا لنا من بحوثهم ثروة غير قليلة. فما وجه حاجتنا إلى بحث جديد، وما مهمة هذا البحث؟.
والجواب: إن مادة البحث المتعلقة بالزكاة غزيرة وموفورة بلا ريب. ولكن يلاحظ على هذه المادة أمور:
(أ) أنها كتبت بلسان غير لسان عصرنا، إذ لا شك أنها تحمل طابع عصرها، من حيث العرض والأسلوب والتقسيم والمصطلحات والتقديرات وغيرها. فلا بد من إعادة عرضها عرضًا يلائم روح العصر، ويعين على تصور حكم الإسلام فيها، كما يجب ترجمة المعايير والتقديرات القديمة إلى مقاييس زمننا، ليمكن فهمها وتطبيقها.(1/4)
(ب) أن هذه المادة مبعثرة بين مختلف المصادر والمظان: من كتب التفسير إلى كتب الحديث، إلى كتب الفقه العامة، إلى كتب الفقه المالي والإداري، وغيرها من مراجع الثقافة الإسلامية؛ فلا بد من جمع شتاتها، وضم بعضها إلى بعض ضمًا يجعل منها عقدًا منتظمًا.
(جـ) أنها بقدر غزارتها حافلة بالاختلافات بين المذاهب بعضها وبعض، وفى داخل كل مذهب بين الروايات والأقوال والوجوه، وما حولها من تصحيحات وترجيحات. وهذا -برغم دلالته على الخصوبة والسعة والتسامح الفكري- يجعل أخذ رأى من الآراء المعروضة للعمل به أمرًا صعبًا، وخصوصًا إذا تولت أمر الزكاة مؤسسة عامة من قبل الدولة، أو بإشرافها.
فلا بد إذن من اختيار أرجح الآراء، وفقًا لنصوص الشريعة ومقاصدها الكلية، وقواعدها العامة، مع مراعاة طبيعة عصرنا، وتطور أوضاع المجتمع الإسلامي فيه، فقد يصلح رأى لزمن ولا يصلح لغيره، ويصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى، ويفتى به في حال، ولا يفتى به في حال آخر . ولهذا قرر المحققون كابن القيم وغيره: أن الفتوى تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والعوائد.
(د) أن هناك أموالاً جدت في عصرنا لم تكن معروفة في عصور الاجتهاد الفقهي، وإن كان بعضها موجودًا، فهو لم يكن بحجمه اليوم، كالعمارات السكنية الاستغلالية والمصانع والأسهم وغيرها. فما رأى الفقه المعاصر فيها ؟ وما موقف المجتهد المسلم منها ؟. لا بد من جواب بالإثبات أو النفي أو التفصيل.
(هـ) أنها لم تُعطَ عناية كبيرة لتجلية الأهداف والمقاصد الإنسانية والاجتماعية المنوطة بهذه الفريضة، لعدم شعورهم بكثير من الحاجة إليها، ونظرًا لغلبة الطابع التعبدي عليها، وإن كان الباحث الصبور لا يعوزه أن يجد هنا وهناك لقطات وقبسات ذات دلالة واضحة.(1/5)
فلا بد من تجلية هذه الأهداف، وإلقاء الضوء الكافي عليها، وبخاصة أن غلبة الشكوك والشبهات في زمننا - نتيجة ضعف المسلمين وتخلفهم، وقوة خصومهم وتقدمهم - جعلت العقول لا تكتفي بمعرفة الحكم حتى تدرك سره وحكمته.
ولنا في تعليلات القرآن والسنة للأحكام والأوامر والنواهي، بشتى أساليب التعليل وأدواته - أسوة حسنة.
(و) وبعد ذلك، أن لكل عصر اهتماماته ومشكلاته الفكرية والنفسية والاجتماعية، التي تشغل أهله، وتترك أثرها في إنتاجهم العلمي، وتراثهم الفكري، ثم يأتي عصر آخر، فتنطفئ جمرة هذه المشكلات، وتخف حرارتها حتى تتحول إلى رماد. على حين تثور قضايا ومشكلات جديدة تشغل أفكار اللاحقين، لم تكن ذات بال، بل ربما لم يكن لها وجود عند السابقين.
وفى عصرنا برزت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في العالم كله، وتعددت المذاهب والأنظمة الداعية إلى حلها، وقام من أجل ذلك صراع مذهبي رهيب، قسم العالم إلى معسكرين فكريين متقابلين: معسكر الرأسمالية ومن يمشى في ركابها، ومعسكر الشيوعية ومن يدور في فلكها؛ على حين يقف المسلمون بين هؤلاء وهؤلاء متفرجين أحيانًا، ومائلين أحيانًا أخرى إلى هذا المعسكر أو ذاك، كأنما ليس لهم نظامهم الفذ، ومذهبهم المتميز الذي جعلهم الله به أمة وسطًا.
ولا بد أن يسهم الباحثون المسلمون - بقدر ما آتاهم الله من علم وفكر - في توضيح الفكرة الإسلامية، وتحديد الموقف الإسلامي، وخاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. حتى نستغني بما عندنا عن الاستيراد من عند غيرنا، ولا سيما إذا كان ما عندنا أعدل وأكمل وأمثل؛ لأنه صبغة الله: (ومن أحسن من الله صبغة) (البقرة: 138).
ولعل هذا الكتاب يساهم بنصيب متواضع فى هذه السبيل، وعسى أن تتبعه بحوث وبحوث، تجلى ما نقصد إليه من بيان تميز الإسلام وتفوقه على جميع المذاهب الاجتماعية في العالم.
كلمة عن مصادر الاستدلال والمعرفة للزكاة(1/6)
لن أتحدث هنا عن منهج البحث في هذا الكتاب وقواعده في الاستنباط والاختيار والترجيح، فقد وضحت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى، ولكنى أزيد هنا كلمة عن مصادر المعرفة والاستدلال، التي اعتمدت عليها، وموقفي منها.
وإذا كان البحث عن "فقه الزكاة" في الإسلام، فلا بد من الرجوع إلى منابع أو مصادر المعرفة الإسلامية الصحيحة، لنتبين منها حقيقة الزكاة وأهدافها، كما جاء بها الإسلام. ولا بد من تحديد قيمة كل مصدر منها، ومرتبته من غيره، وطريقة الأخذ منه والاستدلال به.
القرآن الكريم
ولا ريب أن أول هذه المصادر التي يستمد منها الباحث معرفته عن " الزكاة " هو القرآن الكريم. الذي أشار إلى وجوب الزكاة منذ العهد المكي. ثم أكد وجوبها في المدينة بشتى الأساليب، ونبه إلى بعض الأموال التي تجب فيها الزكاة مثل الكسب وما خرج من الأرض والذهب والفضة، كما نص على مصارف الزكاة الثمانية، وأشار إلى بعض أهدافها. وكرر الحديث عن الزكاة والصدقة والإنفاق في كثير من الآيات التي تناولتها بالشرح والبيان كتب التفسير على اختلاف ألوانها، وبخاصة ما عُنِىَ منها بالأحكام أو وضع له ابتداء.
والقرآن باعتباره دستور الإسلام، لم يتعرض للجزئيات والتفصيلات، ولهذا كثرت فيه العمومات والإطلاقات . ورأى هو الأخذ بها، وإعمالها، ما لم يخصصها أو يقيدها دليل صحيح من السنة، أو من قواعد الشرع العامة.(1/7)
ولهذا مِلت إلى التوسعة في "وعاء الزكاة" عملاً بعموم: (خذ من أموالهم) (التوبة: 103). وما شابهها. ورجحت رأي أبى حنيفة في تزكية كل ما خرج من الأرض، عملاً بعموم: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة: 267) على حين خالفته - رضي الله عنه - في عدم اشتراط النصاب، لصحة حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ثبوتًا ودلالة. ولم آخذ بإطلاق: "في سبيل الله" حسب وضعها اللغوي الأصلي، لما قيدها من استعمال الشرع، ومن حكم السياق. ولكنى رجحت توسيع مدلول الجهاد -الذي فهمه الجمهور من العبارة- بحيث يشمل كل معاني الجهاد: العسكرية والفكرية والتربوية والاجتماعية، ونحوها.
السنة النبوية
وثاني هذه المصادر هو السنة النبوية -قولية وعملية وتقريرية-. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم بنص القرآن، ولهذا كانت سنته هي الشرح النظرى، والتفسير العملي لكتاب الله، فهي التي تفصل ما أجمله، وتفسر ما أبهمه، وتقيد ما أطلقه، وتخصص ما عممه، وتضع الصور العملية لتطبيقه ؛ فلولا السنة لم يعرف المسلم صلاته ولا زكاته ولا حجة ولا عمرته، متى تكون؟ وكيف تكون؟ وكم تكون؟ فإنه مجملة في القرآن العزيز غاية الإجمال.
روى أبو داود: أن رجلاً قال لعمران بن حصين -رضى الله عنه-: يا أبا نجيد! إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل: أوجدتم: في كل أربعين درهما درهم؟ ومن كل كذا شاة شاة؟ ومن كل كذا وكذا بعيرًا كذا؟ أوجدتم هذا في القرآن؟! قال: لا. قال: فممن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا، وأخذناه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر أشياء نحو هذا (انظر: مختصر السنن للمنذري: 2/174).
يعنى أنه ذكر له أشياء من الصلاة والحج وغيرهما مما جاء في القرآن مجملاً وبينته السنة.
ولا غرو أن تكون السنة هي المصدر الخصب لأحكام الزكاة وأسرارها، وأن يكون للزكاة في كتب السنة مجال رحب، ومكان فسيح.(1/8)
ففي كتاب الزكاة من الجامع الصحيح للإمام البخاري من الأحاديث المرفوعة (172) مائة واثنان وسبعون حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها سوى سبعة عشر حديثًا (ذكر ذلك الحافظ فى خاتمة كتاب الزكاة من فتح الباري: 4/120 - ط. الحلبي)0، وهذا عدا الآثار المروية عن الصحابة والتابعين.
وفى مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري (70) سبعون حديثًا (من الحديث رقم (500) إلى رقم (570) ط. وزارة الأوقاف الكويتية. تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني).
وفى سنن أبى داود (145) مائة وخمسة وأربعون حديثًا (من الحديث رقم (1556) إلى رقم (1700) - 2/126 - 180 تحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد).
وفى سنن ابن ماجة (61) واحد وستون حديثًا (من الحديث رقم (783) إلى رقم (844) - ط . عيسى الحلبي. تحقيق: المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي).
وفى مسند أحمد (252) مائتان واثنان وخمسون حديثًا، وفق ترتيب المرحوم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا للمسند على الأبواب (انظر: الجزأين الثامن والتاسع من "الفتح الرباني" ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا).
وفى سنن الدارقطني في كتاب الزكاة وزكاة الفطر (251) مائتان وواحد وخمسون حديثًا (من ص89 - 154 من الجزء الثاني - ط . دار المحاسن للطباعة بالقاهرة).
وفى "السنن الكبرى" للبيهقي عدد جم من الأحاديث ملأ (119) مائة وتسع عشرة من الصفحات من القطع الكبير (من ص81 -199 من الجزء الرابع- ط. حيدر آباد بالهند).
وفى كتاب "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد" (195) مائة وخمسة وتسعون حديثًا (لمؤلفه العلامة محمد بن محمد بن سليمان الروداني الفاسي المغربي (المتوفى بدمشق سنة 1094 هـ) . الذي جمع فيه أحاديث 14 كتابًا: الكتب الستة، والموطأ، ومسانيد أحمد والدارمي وأبى يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة. بتعليق وتحقيق السيد محمد هاشم اليماني).(1/9)
وفي "الترغيب والترهيب" للمنذري (328) ثلاثمائة وثمانية وعشرون حديثًا (من الحديث رقم (1068) إلى رقم (1396) - 2/98 - 208 - ط. السعادة تحقيق المرحوم الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد).
وفي "المطالبة العالية بزوائد المسانيد الثمانية" (المراد بها: مسانيد أبى داود الطيالسي، والحميدي، وابن أبي عمر، ومسدد، وأحمد بن منيع، وأبى بكر بن أبى شيبة، وعبد بن حميد، والحارث بن أبى أسامة، والمسانيد كتبت مرتبة على أساس إفراد ما رواه كل صحابي على حده، في أي باب كان، وسواء أكان الحديث صحيحًا أم حسنًا أم ضعيفًا . فيقال مثلاً: مسند أبى بكر، ويروى فيه كل ما رواه أبو بكر.. وهكذا) للحافظ ابن حجر (98) ثمانية وتسعون حديثًا (من رقم (809) إلى رقم (907) - 1/231 - 265 - ط. المطبعة العصرية بالكويت... نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت).
على أن الاستدلال بالسنة، والاستشهاد بالأحاديث، مزلة قدم لمن يأخذ أي حديث يصادفه في أي كتاب من الكتب المشهورة في الفقه أو التصوف أو التفسير ونحوها، ممن لم يلتزم مؤلفوها تخريج ما يذكرونه من الحديث، أو حتى مجرد نسبته إلى من أخرجه من أئمة السنة، وهذا أمر لم يسلم منه جماعة من كبار الفقهاء والمتصوفة والمفسرين.
كما أن عزو الكتاب إلى مصدره لا يكفى إلا في الكتب التي يكون العزو إليها معلمًا بالصحة، كالصحيحين وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان، وإن كان في تصحيحهما بعض التساهل، كما نبه على ذلك أئمة النقد، وهما على كل حال أفضل من مستدرك الحاكم الذي لم يفِ فيه بما اشترط على نفسه من التزام إخراج الصحيح فحسب، فأخرج الضعيف والواهي والمنكر، بل الموضوع.
ولهذا ألزمت نفسي غالبًا بأمرين(1/10)
1- ألا آخذ الحديث إلا من مصادره المعتمدة من دواوين الحديث، وكتبه المشهورة، إما بالرجوع إلى الكتب الأصلية نفسها كالكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ونحوها، أو بالرجوع إلى كتب التجميع مثل جامع الأصول، ومجمع الزوائد وجمع الفوائد، والجامع الصغير، وكنز العمال ونحوها، أو الكتب الخاصة بنوع معين من الحديث، كالترغيب والترهيب، ومنتقى الأخبار، وبلوغ المرام، ونحوها.
وحين أضطر إلى نقل حديث من كتاب فقهي أو نحوه، أعمل على تخريجه من كتب التخريج المعروفة التي خدم بها حفاظ الحديث ونقاده الكتب الشهيرة في الفقه وغيره، مثل " نصب الراية لأحاديث الهداية " للحافظ الزيلعي، وملخصه للحافظ ابن حجر المسمى بـ "الدراية" و "تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير" لابن حجر أيضًا، ومثل ذلك تخريج الحافظ زين الدين العراقي لكتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي.
2- بيان درجة الحديث من حيث الصحة، أو الحسن، أو الضعف.
فما لم يكن في الصحيحين وما ألحق بها من الكتب التي التزمت الصحة، فغالبًا ما أبين درجته نقلاً عن أئمة هذا الشأن، إذ ليس كل ما في كتب السنن والمسانيد والمعاجم في درجة الصحة أو الحسن المحتج به، ففيها الضعيف، والضعيف جدًا، بل الموضوع.
وعمدتي في الاستدلال إنما هو الحديث الصحيح أو الحسن، فأما الضعيف فلا أذكره إلا للاستئناس به، وتأييد ما ثبت بغيره من أدلة الشرع ونصوصه وقواعده؛ إذ من المقرر المعرف أن الضعيف لا يعمل به في الأحكام، وإنما أستأنس بالضعيف المقارب، أما الشديد الضعف، أو ما لا أصل له، فلم أُدخله في كتابي -والحمد لله- إلا إذا جاء ضمن نص منقول، فأبقيه حسبما تقتضيه الأمانة العلمية، مع التنبيه على درجته في الحاشية.
3- سنن الخلفاء الراشدين المهديين(1/11)
وثالث هذه المصادر: السوابق التطبيقية للصحابة وخاصة سنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين ألحق الرسول - صلى الله عليه وسلم- سنتهم بسنته، وأمرنا بالتمسك بها والحرص عليها، في حديثه الذي رواه عنه العرباض بن سارية: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ"
(رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو الحديث الثامن والعشرون من الأربعين النووية).
وأولى من ينطبق عليه هذا الحديث هم الخلفاء الأربعة -رضى الله عنهم-، وألحق بهم بعض العلماء: عمر بن عبد العزيز الذي عدوه خامس الراشدين بحق كما تشهد بذلك سيرته وأعماله ومآثره -رضى الله عنه-.
وإليه ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه (المنار المنيف لابن القيم بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبى غدة ص150).
ومن هنا احتفلنا بهدي العمرين في جمع الزكاة وتفريقها، وخصوصًا عمر الأول. فإن سنته التي سار عليها مع وجود الصحابة وإقرارهم لها -رضى الله عنهم- تعد جزءًا من مصادر التوجيه والتشريع في الإسلام، بنص الحديث النبوي المذكور.
4- أقوال الفقهاء
ورابع تلك المصادر: أقوال الفقهاء وآراؤهم، سواء أكانت تفسيرًا للنصوص، أم استنباطًا منها، أو قياسًا عليها، أو تعليلاً لها، فما كان من هذه الأقوال موضع إجماع متيقن فهو حجة لا أعدوه، وما لم يكن كذلك فهو "رصيد" ثمين أستفيد منه وأنتفع به، ولكنى لا ألتزم مذهبًا واحدًا آخذ بكل أقواله واجتهاداته، فقد يسوغ هذا للمرء في خاصة نفسه.(1/12)
أما إذا أريد لنظام كالزكاة أن يوضع موضع التنفيذ في دولة عصرية مسلمة، فلا بد من التخير من أقوال الفقهاء، ما يكون أقوى حجة، وأقرب إلى مقاصد الشرع، وروح الإسلام. ولا أعنى بالفقهاء أئمة المذاهب الأربعة -رضى الله عنهم- وأتباعهم فحسب، بل أعنى فقهاء الإسلام منذ عهد الصحابة، فقد أستدل بقول أحد الراشدين أو معاذ أو عائشة أو ابن عمر أو ابن عباس أو غيرهم، وقد أستشهد بقول تابعي كالزهري أو عطاء أو الحسن أو مكحول أو النخعي، وقد آخذ بقول الأتباع وأتباعهم كالثوري والأوزاعي وأبى عبيد وإسحاق وغيرهم.
فأئمتنا المتبوعون على فضلهم ومكانتهم، ليسوا هم كل فقهاء الأمة، وإن كانت مذاهبهم بما تيسر لها من خدمة أصحابهم وتلاميذهم وأتباعهم في مختلف الإعصار والأقطار، قد نمت ونضجت واتسعت، وأصبحت بذلك النبع الثر، والمصدر السخي لكل دارس لشريعة الإسلام.
ولكننا نحجر واسعًا، إذا أغلقنا الباب دون الانتفاع بتراث السلف كله، وهو ثروة طائلة من العلم الأصيل، والاجتهاد المستقل، لا تقدر بثمن. وقد انتفعت بحمد الله بهذا وهذا كله، فرجعت إلى تراث الصحابة والسلف في الكتب التي عنيت بذلك مثل كتاب "الخراج" ليحيى بن آدم، و"الخراج" لأبى يوسف، وكتاب "الأموال" لأبى عبيد القاسم بن سلام ، ومثل "مُصنَّف عبد الرزَّاق"، و "مصنف ابن أبى شيبة"، وهما أعظم سجل لفقه الصحابة والتابعين، وإلى كتب الحديث وشروحها بصفة عامة، وبخاصة مثل "سنن البيهقي" و "وفتح الباري" لابن حجر و "نيل الأوطار" للشوكاني و "سبل السلام" للصنعاني، وما شابهها.
هذا الكتاب و هذه الطبعة(1/13)
هذا .. ويسرني أن أقدم لهذه الطبعة من "فقه الزكاة" التي تنشر لأول مرة في مصر العزيزة، بعد أن طبع الكتاب خمس عشرة طبعة في لبنان وانتشر في العالم الإسلامي كله بحمد الله، وترجم إلى عدة لغات إسلامية وعالمية. ومن فضل الله أن أهل العلم في أقطار الأمة الإسلامية، تقبلوا الكتاب بقبول حسن، وأضفوا على مؤلفه من الأوصاف ما يشكر الله تعالى عليه، سواء منهم المشتغلون بالعلوم الشرعية، والمشتغلون بالعلوم الاقتصادية والمالية والقانونية والاجتماعية. فقد غدا الكتاب مرجعًا أساسيًا لكل باحث في هذه الميادين من وجهة النظر الإسلامية. وقد وصلت المؤلف رسائل جمة من كبار الشخصيات الإسلامية العالمية تنوه بالكتاب وأصالته وتشيد بما بذل فيه من جهد، وما أدى من خدمة للفقه الإسلامي والاقتصادي الإسلامي المعاصرين.(1/14)
وآخرون أشادوا به في مناسبات شتى: في كتبهم، أو محاضراتهم، أو حلقاتهم لقرائهم، أو طلابهم أو مشاهديهم أو مستمعيهم. أذكر من هؤلاء الأجلاء الكبار: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ أبا الحسن الندوي، الأستاذ مصطفى الزرقا، الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، الشيخ على الطنطاوي، الأستاذ البهي الخولي، الدكتور محمد البهي، الدكتور محمود أبو السعود. وقال عنه الأستاذ أبو الأعلى المودودي: إنه كتاب هذا القرن -أي الرابع عشر الهجري- في الفقه الإسلامي (نقل ذلك عنه الأستاذ خليل أحمد الحامدي، مدير القسم العربي بالجماعة الإسلامية بباكستان). وقال الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - في مقدمة كتابه "نظام الإسلام الاقتصادي":. "ومن الكتب الحديثة ما هو خاص بموضوع معين، ومن هذا النوع كتاب "فقه الزكاة" للأستاذ يوسف القرضاوي، وهو موسوعة فقهية في الزكاة استوعبت مسائلها القديمة والحديثة، وأحكامها النصية والاجتهادية على جميع المذاهب المعروفة المدونة، لم يقتصر فيها على المذاهب الأربعة، مع ذكر الأدلة ومناقشتها، وعرض لما حدث من قضايا ومسائل، مع نظرات تحليلية عميقة، وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويعتبر حدثًا هامًا في التأليف الفقهي .. جزى الله مؤلفه خيرًا ". وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: لم يؤلف في الإسلام مثله في موضعه. (قال ذلك في كتابه: مائة سؤال في الإسلام). ولا غرو أن عُنِىَ الإخوة المسلمون في أقطار شتى بنقله إلى لغاتهم، بعضهم بإذن منى، وبعضهم بلا إذن ! اعتقادًا منهم بأني لا أمانع في نشر كتبى، كما فعلوا في أكثر مؤلفاتي، أسأل الله أن ينفع بها. وقد ترجم الكتاب إلى الأوردية، مختصرًا في الهند أولاً، ثم كاملاً بعد ذلك في باكستان وكذلك ترجم إلى التركية والبنغالية (لغة جمهورية بنجلاديش) والإندونيسية.(1/15)
كما تبنى المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، التابع للملك عبد العزيز بجدة، ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وكلف بذلك الباحث الاقتصادي الإسلامي المعروف الدكتور منذر قحف، وقد أبلغني مدير المركز منذ عام بأنه أنجز ترجمة الجزء الأول، وفى سبيله لإكمال الجزء الآخر.
كما عرفت في زيارتي لماليزيا في شهر مارس الماضي، أن جامعة الملايو كلفت لجنة للقيام بترجمة الكتاب إلى اللغتين: الإنجليزية والماليزية.
وأحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا، أن وجد المسلمون في الكتاب ما يلبى حاجة من حاجاتهم العلمية في عصرنا.
ومن جهة أخرى كان الكتاب مرجعًا أساسيًا لكل القوانين التي صدرت في البلاد الإسلامية عن "الزكاة" وإن لم يأخذوا بكل ما فيه من اجتهادات، نظرًا لغلبة الطابع المذهبي على الفقه السائد إلى اليوم.
ولا ريب أن الاجتهادات الجديدة لا تتقبل بسهولة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، وتحتاج إلى زمن حتى تثبت وجودها، ويكثر أنصارها.
وكم من اجتهادات رفضت وعدت من الشذوذ المردود، حتى جاء زمن أصبحت فيه محور الإصلاح والتجديد، كما رأينا في آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم.
وكم من آراء رفضت في قانون الأسرة منذ عقود من السنين قبلت بعد ذلك، وغدت سائغة.
وحسبي اليوم أن المؤتمرات والمجامع الفقهية التي تبحث في بعض موضوعات الزكاة، ينقسم أعضاؤها إلى قسمين: قسم يؤيد ما تبناه "فقه الزكاة" وهم حتى اليوم أقل عددًا. وقسم لا يوافق عليه. وأعتقد أن القسم الأول ينمو ويزداد مع الأيام.(1/16)
وأود أن أشير إلى أن هذه الطبعة ليس فيها إضافة، إلا لمسات قليلة جعلتها بين معقوفين، للدلالة على أنها من زيادة هذه الطبعة، ومعظمها في الحواشى، وبعضها تصحيح أخطاء مطبعية قام باستدراكها الأخ الفاضل الشيخ عبد التواب هيكل جزاه الله خيرًا وهى ليست كثيرة بالنسبة لحجم الكتاب، وأهم ما صححته خطأ حسابي في تقدير الصاع بالكيلو جرام، ترتب عليه خطأ في تقدير نصاب الزروع والثمار ؛ وكنت اعتمدت في حساب ذلك على زميل يدرس الرياضيات، كان معي في معهد قطر الديني الثانوي، فسامحه الله وسامحنا معه.
والمهم الآن هو تصحيح مقدار الصاع وهو بالجرامات: 2146 (حسب الوزن بالقمح) وقد حسب في الطبعة الأولى -التي صورت عنها الطبعات السابقة- 2176 من الجرامات . ومقدار النصاب، وهو ثلاثمائة صاع يساوى: 646.96 ك.ج (وبالتقريب 674 ك.ج) قد حسب من قبل على أنه 652.8 ك.ج .(أو بالتقريب 653 ك.ج).
وأرجو ممن يقتنى الكتاب في طبعاته السابقة أن يهتم بتصويب هذا الخطأ. وكذلك الذين ترجموه إلى اللغات الأخرى.
والفرق على كل حال يسير، وهو مما يتسامح في مثله شرعًا، وبخاصة أن الشريعة لم تحدد المقادير مثل هذا التحديد الدقيق الصارم؛ بل قالوا في تقدير المد- وهو ربع الصاع: هو ملء يدي الرجل المتوسط.
ولكن ما دمنا قد قدرنا بالمعايير الحديثة، فعلينا ضبطها بها ضبطًا سليمًا ليكون أقرب إلى المطلوب شرعًا، بحسب اجتهادنا البشري.
وأخيرًا .. أسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا الكتاب -في الدنيا والآخرة- من ألفه، أو ترجمه، أو نشره، أو قرأه، أو ساهم في ذلك من قريب أو بعيد.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا. نحمدك اللهم على كل حال، ونعوذ بك من حال أهل النار.
القاهرة في 14 ربيع الآخر سنة 1406 هـ.
ديسمبر سنة 1985م.
يوسف القرضاوي.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد .(1/17)
فإن الزكاة هي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام الخمسة، وبها -مع التوحيد وإقامة الصلاة- يدخل المرء في جماعة المسلمين، ويستحق أخوتهم والانتماء إليهم، كما قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11).
وهى -وإن كانت تذكر في باب العبادات باعتبارها شقيقة للصلاة- تعد في الحقيقة جزءًا من نظام الإسلام المالي والاجتماعي، ومن هنا ذكرت في كتب السياسية الشرعية والمالية.فلا عجب أن عُنِيَ علماء الإسلام ببيان أحكامها وأسرارها، كل في دائرة اختصاصه.
فالمفسرون
يتعرضون لها في تفسير الآيات التي تتعلق بشأنها، مثل الآية رقم (267) وما بعدها من سورة البقرة، والآية رقم (141) من سورة الأنعام، والآيات (34، 60، 103) من سورة التوبة وغيرها من الآيات في سور شتى. وقد أوسع القول في هذه الآيات المفسرون الذين يعنون بأحكام القرآن، كأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص، وأبى بكر بن العربي، وأبى عبد الله القرطبي.
والمحدثون وشراح الحديث
يتعرضون لها عند ذكر الأحاديث الخاصة بها، وفى كل كتاب من كتب السنة المصنفة على أبواب الفقه - كموطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن النسائي وأبى داود وابن ماجة - كتاب خاص بالزكاة، وما جاء فيها من السنن القولية والعملية، وفى صحيح البخاري وحده، اشتمل كتاب "الزكاة" من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث واثنين وسبعين حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها سوى سبعة عشر حديثًا، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرون أثرًا (انظر: خاتمة كتاب الزكاة من فتح البارى: 4/120 - ط . الحلبي بمصر).
والفقهاء
يعرضون للزكاة في كتب الفقه باعتبارها العبادة الثانية في الإسلام، ولهذا تذكر في أبواب العبادات عقب الصلاة استنانًا بالقرآن والسنة.
وعلماء الفقه المالي والإداري في الإسلام(1/18)
يعرضون لها باعتبارها جزءًا من النظام الإسلامي المالي والاجتماعى، ولهذا نجدها في كتاب الخراج لأبى يوسف، والخراج ليحيى بن آدم، والأموال لأبى عبيد، والأحكام السلطانية لكل من الماوردي الشافعي، وأبى يعلى الحنبلي، والسياسة الشرعية لابن تيمية. وإذن فالمادة التي يحتاج إليها الباحث في الزكاة غزيرة، ومصادرها موفورة، فما وجه الحاجة إذن إلى بحث جديد في الزكاة؟. وبعبارة أخرى: هل كانت المكتبة الإسلامية الحديثة في حاجة إلى بحث كبير كهذا البحث، يبين أحكام الزكاة وأهدافها وآثارها في حياة الفرد والمجتمع، ومكانها من الأنظمة المالية والاجتماعية المعاصرة؟. ونستطيع أن نجيب مطمئنين بالإيجاب، بل نؤكد أن الحاجة لمثل هذا البحث شديدة وماسة من عدة نواحٍ:
1- فإن مثل هذا الركن الخطير من أركان الإسلام يحتاج من الباحثين والكاتبين إلى إعادة عرضه، وجمع ما تبعثر من أحكامه وأسراره في شتى المصادر، وإبرازه في قالب عصري وبأسلوب عصري، ولا يكتفي بما ألفه فيه علماؤنا في العصور الماضية، فإنهم ألفوا لعصرهم، وبأسلوب عصرهم، ولكل عصر لغة، ولكل مقام مقال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (إبراهيم :4).
إن في الاقتصاد الإسلامي موضوعين رئيسيين يجب أن يُدْرسا ويُخْدما ويُجَلَّيا من كل جوانبهما: وهما موضوعان متقابلان: أحدهما في الجانب الإيجابي، والثاني في الجانب السلبي، أحدهما في فرائض الإسلام بل في أركانه الأساسية الخمسة، والآخر في محرمات الإسلام بل في الكبائر الموبقات السبع؛ فالأول هو الزكاة، والثاني هو الربا، فمن أنكر فرضية الأول، أو حرمة الثاني كان كافرًا مرتدًا بالإجماع.(1/19)
والواقع أن الموضوع الثاني -الربا- قد لقى شيئًا من العناية والخدمة أكثر مما لقيه الموضوع الأول. فقد كتب فيه الأساتذة أبو الأعلى المودودي (في كتابه "الربا" وقد نشر بالعربية وطبع عدة مرات). ومحمد عبد الله دراز (في رسالة "الربا" وقد ألقاها كممثل للأزهر فى مؤتمر الفقه الإسلامي بباريس سنة 1951)، وعيسى عبده (في رسالته "لماذا حرم الله الربا" وقد نشرتها مكتبة المنار الإسلامية بالكويت في سلسلة "نحو اقتصاد إسلامي سليم")، ومحمد أبو زهرة (في رسالة "تحريم الربا تنظيم اقتصادي" نشرت في السلسلة المذكورة)، ومحمد عبد الله العربي (في بحث له عن "الملكية الخاصة وحدودها في الإسلام" ألقاه في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ونشره المجمع في كتابه الأول)، ومحمود أبو السعود (في كتابه: "خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي" وفي بحث له: هل يمكن إنشائي بنك إسلامي؟ نشرته مكتبة المنار أيضًا)، ومحمد باقر الصدر (في كتابه "اقتصادنا" نشرته "دار الفكر" في لبنان، وفى رسالة "البنك اللاربوي")، ومحمد عزيز (في بحثه "عوامل النجاح في البنك اللاربوي" نشرته "المنار" فى سلسلتها أيضًا) إلى غير ذلك من البحوث والمقالات التي تناولت الربا من زاوية إسلامية خالصة، أو من زاوية متأثرة بالنظرة الرأسمالية الغربية إلى المال وإلى الحياة.
ولا زال الموضوع في حاجة إلى خدمة أعمق وأوسع، ولا يزال المجال فسيحًا لمن يبذل فيه جهدًا أكبر، معتمدًا على الدراسة المقارنة، مع الرجوع إلى مصادر الإسلام الأصلية . ولكنه على كل حال نال قسطًا من العناية. أما موضوع الزكاة فلم يأخذ حقه من عناية العلماء والباحثين . ولم يُخدم كما ينبغي لموضوع مثله، له مكانته ومنزلته فى فرائض الإسلام وفى نظامه المالي والاقتصادي والاجتماعي.(1/20)
2- وهناك مسائل قديمة اختلف فيها الفقهاء من قديم، وكلٌّ أبْدَى رأيه، وذكر أدلته، وترك أصحاب الفتوى يُناقض بعضهم بعضًا، كلٌّ ينصر مذهبه، ويعضد إمامه، وجمهور المستفتين في حيرة أمام تناقض المفتين، فكانت الحاجة ماسة أشد المساس إلى إعادة النظر في هذه الأقوال، وأدلة كل منها، ومناقشتها في حياد وإنصاف، وعرضها على الكتاب والميزان اللذين أنزلهما الله، والوصول بعد ذلك إلى الرأي الراجح الذي يستطيعه باحث غير معصوم. وعلى هذه الحاجة نبَّه الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (الإسلام عقيدة وشريعة ص109 - ط . دار القلم بمصر) . حيث قال تحت عنوان "الزكاة ركن ديني عام":
"على رغم ما أعتقد من أن الخلاف النظري يدل على حيوية فكرية قوية، وعلى سماحة النظام الذي يكون في ظله ذلك الخلاف، على الرغم من ذلك، فكم يضيق صدري حينما أرى مجال الخلاف بين الأئمة في تطبيق هذه الفريضة يتسع على النحو الذي تراه في كتب الفقه والأحكام. "هذه الفريضة التي كثيرًا ما تقترن بالصلاة، يجب أن يكون شأن المسلمين فيها أو شأنها عندهم جميعًا كشأنهم في الصلاة، وشأن الصلاة فيهم، تحديد بين واضح لا لبس فيه ولا خلاف، خمس صلوات في اليوم والليلة". "هذه الفريضة تكون معظم جهاتها في الأصل والمقدار محل خلاف بين العلماء، وبالتالي تكون باختلافهم فيها مظهر تفرق في الواجب الديني بين المسلمين جميعًا لاختلافهم في التقليد وتعدد السبل".
"هذا يزكى مال الصبي والمجنون، وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى كل ما يستنبته الإنسان في الأرض، وذاك لا يزكى إلا نوعًا خاصًا أو ثمرة خاصة، وهذا يزكى الدين وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى عروض التجارة وذاك لا يزكيها، وهذا يزكى حلى النساء وذاك لا يزكيه، وهذا يشترط النصاب وذاك لا يشترط وهذا وهذا إلى آخر ما تناولته الآراء فيما تجب زكاته وما لا تجب، وفيما تصرف فيه الزكاة وما لا تصرف".(1/21)
ثم نادى الشيخ الأكبر بالمسارعة إلى إعادة النظر فيما أثر عن الأئمة من موضوعات الخلاف التي خشي أن تمس أصل هذه الفريضة ويكون ذلك النظر الجديد على أساس الهدف الذي قصده القرآن من افتراضها، وجعلها واجبًا دينيًا تكون نسبة المسلمين فيه وفى جميع نواحيه على حد سواء (الإسلام عقيدة وشريعة ص109 - ط . دار القلم بمصر).
3- ثم إن هناك أمورًا جدت في عصرنا، لم يعرفها فقهاؤنا القدامى ولا المتأخرون، وهذه الأمور تحتاج إلى إصدار حكم في شأنها، يريح الناس من البلبلة، ويرد على الأسئلة الحائرة على ألسنة جمهور المسلمين: هناك ثروات ودخول حديثة غير الأنعام والنقود الزروع والثمار . هناك العمارات الشاهقة التي تشيد للإيجار والاستغلال، والمصانع الكبيرة والآلات والأجهزة المتنوعة، وشتى رؤوس الأموال الثابتة أو المنقولة التي تدر على أصحابها أموالاً غزيرة من إنتاجها أو كرائها للناس كالسفن والسيارات والطائرات والفنادق والمطابع وغيرها ؛ هناك أنواع من الشركات التجارية والصناعية . هناك دخل ذوى المهن الحرة كالطبيب والمهندس والمحامى وغيرهم، ودخل الموظفين والعمال من رواتب وأجور ومكافآت - هل تدخل هذه الإيرادات الوفيرة وتلك الأموال النامية في " وعاء الزكاة " ؟ أم تقتصر الزكاة على ما كان في عهد السلف ؟ وإذا قلنا بوجوب الزكاة فيها، فما مقدار الواجب ؟ ومتى يجب ؟ وما الأساس الفقهي لذلك ؟. هناك الأنصبة والمقادير الشرعية التي وردت بها النصوص في الزكاة، كالأوسق الخمسة، في نصاب الزرع والثمر، والصاع في زكاة الفطر، والدراهم المائتين، والدنانير العشرين في زكاة النقود، كيف نحدد هذه الأنصبة الآن ؟ وكيف نترجمها إلى مقاييس العصر؟ وهل هي ثابتة أم تقبل التغيير، نظرًا لتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهبوط القدرة الشرائية للنقود - وبخاصة الفضية منها - عما كانت عليه في العهود الإسلامية الأولى؟. ثم هناك الضرائب الحديثة - النوعية وغير(1/22)
النوعية، النسبية والتصاعدية - التي تفرضها الحكومات المعاصرة، وتنفق حصيلتها في تغطية النفقات العامة للدولة، وتحقيق بعض الأهداف الاجتماعية.
ما علاقة هذه الضرائب بالزكاة؟ وما وجه المشابهة والمفارقة بينهما في المصدر والمصرف والمبادئ والأهداف؟ وهل يمكن أن تقوم الضرائب مقام الزكاة؟ وإذا لم يمكن فهل يجوز شرعًا فرض الضرائب بجوار أخذ الزكاة؟.
أسئلة يتطلب عصرنا الجواب عليها، ولا بد لنا أن نبدي فيها رأيًا. وربما يصعب على بعض الناس في عصرنا، أن يصدر عالم اليوم حكمًا في قضية لم يعرف فيها حكم للفقهاء السابقين، وهذا من أثر القول بسد باب الاجتهاد الذي انتشر في بعض العصور، وهو قول ثبت خطؤه وضلاله بلا ريب. ولا يملك أحد إغلاق باب فتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . على أن المحققين من علماء الأصول قرروا: أن الاجتهاد يتجزأ، فيمكن أن يكون بعض العلماء مجتهدًا في بعض الأبواب أو بعض المسائل دون غيرها، وهذا أمر ليس بالمتعذر ولا بالمتعسر، على من أراد ذلك من علماء المسلمين، إذا أعد العدة لذلك من دراسة الشريعة واللغة، والرجوع إلى مصادر هذا الدين، وأوتى الملكة التي تمكنه من الموازنة والاستنباط. وأنا أعتقد أن الفصل في هذه الأمور برأي قاطع ملزم يحتاج إلى اجتهاد جماعي، من جماعة علماء المسلمين، ولكنى أعتقد أيضًا أن الاجتهادات والبحوث الفردية المتأنية في مختلف الموضوعات هي التي تنير الطريق لاجتهاد جماعي صحيح، غير مرتجل ولا مبتسر. كما أن الاجتهاد الجماعي الذي يتمثل فيه رأى الأقوياء الأمناء من علماء الإسلام في كافة الأقطار، لا زالت تحول دونه عوائق شتى، يرجع معظمها إلى ألاعيب السياسة، وأهواء الحاكمين. وهناك أفهام خاطئة سائدة - للأسف - عند كثير من المسلمين، حتى الذين يعدون في المثقفين منهم. أفهام تتصور الزكاة بضعة قروش أو ريالات، أو كيلة أو كيلات من حبوب، يتفضل بها رجل غنى محسن على معدم فقير، يسد بها جوعته(1/23)
أيامًا، تقل أو تكثر، ثم يظل هذا الفقير محتاجًا إلى مثل هذا السيد المحسن ليتقبل منه صدقته، ويقبل يده الطاهرة، ويدعو له بالخير والبركة في ماله وولده ... الخ. هذه الصورة التي لا صلة لها بتعاليم الإسلام، والتي حدثت - للأسف أيضًا - في بعض العصور، هي الرائجة لدى الكثيرين.
ولقد وجدنا من الصحفيين اللامعين (هو الكاتب الاشتراكي أحمد بهاء الدين في إحدى مقالاته الأسبوعية في صحيفة أخبار اليوم سنة 1961) من يكتب في إحدى الصحف السيارة في مصر، زاعمًا أن الزكاة لا تصلح في مجتمعنا الحديث، لأن أنظمته الاقتصادية والاجتماعية لا تقوم على الصدقات، وإنما تقوم على العمل والإنتاج!! كأن الزكاة الإسلامية صدقة للمتسولين، أو معونة للمتبطلين القاعدين !.(1/24)
وكتب غيره كتابًا سمى فيه العدالة الإسلامية "اشتراكية الصدقات" (عن كتاب "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد) وهذا كله لا يدل إلا على جهل فاضح أو قصد سيئ. وبهذا الذي عرضناه هنا، يتبيَّن لنا وجه الحاجة إلى هذا البحث، وضرورة القيام به لمن يقدر عليه، فذلك- كما أعتقد - فرض كفاية على أهل العلم، إذا لم يقم به بعضهم أَثِمَ الجميع. ولقد عجب بعض الباحثين - (هو الأستاذ محمود أبو السعود فى مقال له بمجلة "المسلمون" منذ بضع سنوات) - المعنيين بشئون الاقتصاد والمال في الإسلام كيف خلت المكتبة الإسلامية الحديثة حتى اليوم من مؤلف جاد عن الزكاة، برغم أهميتها ومنزلتها في دين المسلمين، وقد أكد المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف في مصر هذه الحاجة حين أعلن منذ تسع سنوات عن مسابقة كبرى في عدة بحوث إسلامية، دعا فيها رجال الفكر والقلم من أنحاء العالم الإسلامي إلى الكتابة فيها، بحيث لا يقل البحث عن 350 صفحة كبيرة، وكان منها "الزكاة في الإسلام". وزاد تأكيد هذه الحاجة ما أعلنه مجمع البحوث الإسلامية الذي انعقد بالقاهرة في مارس سنة 1963، وحضره من علماء الإسلام ممثلون لأكثر من أربعين دولة فقد كان من أهم قراراته:. "وأن موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطُرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات، وحقوق العامة والخاصة، هي موضوعات الساعة، لأنها ملتقى شُعبتين من الشريعة الإسلامية وهما العبادة والسلوك الاجتماعي، ومن أ جل ذلك يقرر المؤتمر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته المقبلة" (المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية ص 314).
ومن هنا كانت مهمة هذا البحث محاولة الوفاء بالمقاصد الآتية(1/25)
(أ) تجميع ما تبعثر عن الموضوع في المصادر الأصلية، بين كتب الحديث والتفسير، وكتب الفقه بمختلف المذاهب، وكتب السياسة الشرعية و المالية، وغيرها من مصادر الثقافة الإسلامية وعرضه عرضًا جيدًا، يعين على تصوير حكم الإسلام فيه.
(ب) محاولة تمحيص ما ورد في الموضوع من خلافات كثيرة، بُغية الوصول إلى أرجح الآراء، وفق الأدلة الشرعية، وعلى ضوء حاجة المسلمين ومصلحتهم في هذا العصر، قدر ما يستطيعه جهد فردى محدود.
(جـ) محاولة إبداء الرأي فيما جد من مسائل وأحداث، متعلقة بالموضوع، لم يعرفها علماؤنا السابقون، مما لا يسع الباحث الإسلامي المعاصر أن يغفله.
(د) تجلية حقيقة الزكاة باعتبارها ضريبة إسلامية، والموازنة بينها وبين الضرائب الحديثة، وبيان ما بينهما من مشابهات ومفارقات.
(هـ) بيان أهداف الزكاة وآثارها في حياة المجتمع المسلم، وحل مشكلاته كالفقر والتشرد والتسول، والكوارث ونحوها، وسبقها لما عرف في هذا العصر بالضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي.
(و) تصحيح ما شاع من أفكار خاطئة حول الزكاة، بسبب سوء الفهم وسوء التطبيق لها، أو بسبب الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام.
تلك هي الأغراض التي توخى هذا البحث أن يحققها، وأرجو أن يكون قد سدد وقارب.
منهج البحث وخطته
أستطيع أن أحدد خطوات المنهج الذي سلكته في هذا البحث، والخطة التي سرت عليها في النقاط التالية:
1- تحديد المصادر وجمع المادة
كان أول ما علىِّ أن أقوم به تجميع المادة المطلوبة من مظانها، أعني تجميع النصوص والأقوال اللازمة للبحث من مصادرها القديمة والحديثة، الشرعية والوضعية، وخاصة نصوص القرآن والسنة، التي هي الأساس الأول الذي اعتمدنا عليه في بيان حقيقة الزكاة وأحكامها وأهدافها، ومكانتها في الإسلام.(1/26)
ومصادرنا في هذا البحث غزيرة موفورة، وهى مزيج من: كتب التفسير في مختلف الأعصار؛ التفسير بالرواية، والتفسير بالرأى، وخاصة تفاسير آيات الأحكام. وكتب الحديث متونه وشروحه، روايته ودرايته، وجرحه وتعديله، ولا سيما كتب فقه الحديث كمنتقى الأخبار، وبلوغ المرام وشرحيهما. وكتب الفقه المذهبي والمقارن وبخاصة تلك التي تُعْنَى بالأدلة والرد على المخالفين. وكذلك كتب الأصول والقواعد الفقهية. وكتب الفقه المالي والإداري وأعظمها بلا ريب "الأموال" للفقيه الحجة الإمام أبى عبيد القاسم بن سلام. وكتب وبحوث حديثة بعضها في الناحية المالية والاقتصادية وبعضها في الناحية الاجتماعية، وبعضها دراسات إسلامية تتناول جانبًا أو جوانب من نظام الإسلام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. وكتب مساعدة ككتب اللغة والتاريخ والتراجم وداوئر المعارف والفهارس ونحوها. وما نقلته من هذه الكتب - قديمها وحديثها - قد نبهت عليه في صلب البحث، أو سجلت في أسفل الصفحة عنوان الكتاب المنقول منه، ورقم الصفحة، واسم الؤلف، مالم يكن الكتاب مشهورًا متداولاً بين الباحثين، أو يكن قد مر ذكره، فاكتفى باسم الكتاب أو ما يدل عليه، وربما تمر عبارات قليلة أكتفي بشهرتها عن نسبتها إلى مصدر معين، وذلك نادر، وفيما لا يترتب عليه حكم . ولقد تعلمنا من سلفنا أن نعزو كل قول إلى صاحبه، حتى قالوا: " إن من بركة القول أن يسند إلى قائله ".ويطيب لي أن أسجل هنا: أن من بركات هذا البحث أنه فتح لي نافذة على الدراسات المالية والاقتصادية التي كنت - بمقتضى تخصصي - في عزلة عنها، فأطللت من هذه النافذة على النظام الاقتصادي في الإسلام، فاتضحت لي معالمه، ولاحت أمام عيني مبادئه ودعائمه، وهو ما أنوي - إن شاء الله - أن أصدره في كتاب مستقل . كما أعانني هذا البحث على إصدار كتابي" مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام".
2- تقسيم البحث وترتيب أبوابه(1/27)
ولقد اقتضتني طبيعة الموضوع، وترابط أجزائه، وتكامل مسائله، أن أتناوله كله على سعته، لأن بعضه متصل ببعض اتصالاً وثيقًا، لأجعل من هذا البحث - قدر طاقتي المحدودة - مرجعًا علميًا عصريًا في هذا الموضوع الإسلامي الخطير، ولهذا طال البحث نسبيًا . فاشتمل هذا البحث على تسعة أبواب وخاتمة، وقد سلكت في ترتيب أبوابه الطريق المنطقى، مبينًا أولاً: وجوب الزكاة، ثم على من تجب ؟ ثم فيم تجب ؟ وكم ؟ ثم لمن تصرف ؟ وعلى من تحرم ؟ ثم طريقة أدائها وتحصيلها، ثم بيان أهدافها وآثاها، ثم عن زكاة الفطر، ثم عما يجب في المال من حقوق بعد الزكاة ثم بيان العلاقة بينها وبين الضريبة الحديثة مشابهة ومخالفة.
فالباب الأول: يبحث عن وجوب الزكاة، وفيه بينَّا اشتراك الأديان جميعًا في العناية بالفقراء والضعفاء، وزيادة الإسلام عليها جميعًا منذ عهده المكي، وتتويجه هذه العناية البالغة بتشريع الزكاة المحدودة في المدينة، وهى النظام الفذ الذي لم يسبق به دين ولا قانون.
والباب الثاني: يبحث عمن تجب عليه الزكاة، وفيه فصلنا القول في حكم الزكاة في مال الصبي والمجنون، وهل يمكن أن تؤخذ الزكاة من غير المسلم أم لا؟.
والباب الثالث: يبحث عن وعاء الزكاة ومقاديرها، أي الأموال التي تجب فيها الزكاة من الثروة الحيوانية، والنقدية، والتجارية، والزراعية والمعدنية، والبحرية، والمنتجات الحيوانية كالعسل ونحوه، وبينا حكم الزكاة في العمائر الاستغلالية، والمصانع، وإيراد رؤوس الأموال غير التجارية وكذلك المرتبات والأجور، وإيراد ذوى المهن الحرة.
والباب الرابع: عن مصارف الزكاة الثمانية التي ذكرها القرآن، وقد بينَّاها بتفصيل، وكم يعطى كل صنف؟ وهل يجب استيعابهم على السوية؟ ومن الذين يمنع صرف الزكاة إليهم؟.(1/28)
والباب الخامس: عن طريقة أداء الزكاة، وعلاقة الدولة بها، وما يتعلق بأدائها من جواز تعجيلها أو تأخيرها، ونقلها من بلد إلى بلد، ودفع القيمة، وما شابه ذلك من المسائل.
والباب السادس: عن أهداف الزكاة وآثارها، وفيه بينَّا أهداف الزكاة بالنسبة للمُعطِى، وبالنسبة للآخذ، وبالنسبة للجماعة كلها، كما وضحنا بالتفصيل أثرها في حل بعض المشكلات الهامة في المجتمع كمشكلات البطالة والتسول والفوارق والكوارث والخصومات والتشرد، فضلاً عن المشكلة الأولى وهى مشكلة الفقر.
والباب السابع: عن زكاة الفطر وأحكامها.
والباب الثامن: عن الحقوق الأخرى الواجبة في المال بعد الزكاة بين المثبتين والنافين وأدلة كل منهما، وتحديد موضع النزاع بين الفريقين، وترجيح الراجح.
والباب التاسع: عن الزكاة والضريبة. وفيه بينَّا خصائص الزكاة باعتبارها ضريبة متميزة في حقيقتها وأساسها، ومبادئها وضماناتها وأهدافها، وسبقها لكثير من المبادئ والأحكام التي انتهى إليها تطور الفكر الضريبي الحديث، وامتيازها بأحكام ومعانٍ وأهداف وضمانات تَقْصُر عنها الضريبة، كما بينَّا: هل تجيز الشريعة فرض الضرائب مع أخذ الزكاة؟ وهل يمكن أن تغنى الضرائب عن دفع الزكاة؟.
والخاتمة: تتضمن تلخيصًا لحقيقة نظام الزكاة وشهادات بعض الكُتَّاب الأجانب والمسلمين للزكاة، وأثرها في تحقيق العدل والمساواة والتكافل بين أبناء المجتمع.
وبهذا يكون البحث قد استوعب أهم ما يتعلق بموضوع الزكاة، أحكامًا ومبادئ، وأهدافًا وآثارًا.
تلك هي النقطة الثانية في البحث. وأما النقطة الثالثة فهي:
3- المقارنة والموازنة
وهي تأخذ صورتين:
الأولى: مقارنة داخل المذاهب الإسلامية لانتقاء أصح الآراء وأقواها دليلاً.(1/29)
الثانية: مقارنة بين الشريعة الإسلامية والشرائع الأخرى، سماوية كانت أو وضعية، قديمة أو حديثة. وذلك لبيان ما امتازت به شريعة الله الخاتمة الخالدة، على الشرائع السماوية المنسوخة، أو الشرائع الأرضية القاصرة.
وفي المقارنة داخل المذاهب الإسلامية لم أقتصر على المذاهب الأربعة المتبوعة المعروفة، فإن ذلك يكون ظلمًا كبيرًا لسائر المذاهب والأقوال في الفقه الإسلامي فهناك مذاهب لفقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لا يجوز شرعًا ولا عقلاً إهمالها وعدم الانتفاع بها، فإذا تركنا الصحابة الذين لا خلاف في فضلهم وعلمهم، وجدنا مذاهب لأمثال ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري والنخعي والحسن وعطاء والشعبي وميمون بن مهران وغيرهم من سادات التابعين، وإذا نظرنا إلى من بعدهم وجدنا أمثال الثوري والأوزاعى وأبى عبيد والطبري وداود الظاهري وغيرهم، وأقوال هؤلاء ثروة علمية عظيمة يعتبر إهمالها خطأ في العلم، وخطيئة في الدين. بل لم أقتصر على المذاهب السنية، فرجعت إلى فقه الزيدية والإمامية، لعلمي أن الخلاف بيننا وبينهم في الفروع قليل ميسور، وقد رأينا من المتأخرين رجلاً - كالصنعانى في "سبل السلام" والشوكاني في "نيل الأوطار" - يذكر مذاهب الزيدية والإمامية كالهادي والقاسم والباقر والناصر وغيرهم، ويتداول ذلك علماء أهل السنة، ولا يرون فيه حرجًا. وفى المقارنة خارج الفقه الإسلامي، كان لا بد لنا أن نوازن بين الزكاة وما شرع في الأديان السابقة من صدقات مندوبة أو مفروضة، وبين الزكاة وما شرع في العصر الحديث من ضرائب مالية، وبينها وبين ما عرفه الناس من أنظمة الضمان الاجتماعي.
4- التفسير والتعليل(1/30)
لم أكتف ببيان الحكم الشرعي مجردًا في كل مسألة، بل عُنيت بتفسير الحكمة من وراء تشريعه، والسر فيما أوجبه الشارع أو استحبه، أو نهى عنه أو أذن فيه، وهذا اقتداء بالشارع نفسه الذي عُنِىَ بتعليل الأحكام، وبيان مقاصدها ومنافعها للبشر أفرادًا وجماعات، ولم يكتفِ بالتكليف المجرد، والإلزام الصارم، اعتمادًا على التزام المكلفين - بحكم إيمانهم - بامتثال كل ما يصدر عن الشارع، عقلوا حكمته أو لم يعقلوها. وإذا كان بيان الحكمة من التشريع أمرًا محمودًا على كل حال، فهو في عصرنا أمر لازم، لغلبة الأفكار المفسدة، والتيارات المضللة، والوافدة من الشرق والغرب، فلم يعد يكفى إصدار الحكم المجرد، وانتظار صيحات المكلفين بعده: (سمعنا وأطعنا) (البقرة: 285).
5- التمحيص والترجيح
ولا يغنى الباحث استيعاب المصادر المختلفة، وتجميع الأقوال والنصوص المتفرقة والمقارنة بين بعضها وبعض، إذا كان هو أسيرًا لقول، أو مقلدًا لمذهب، يقف جهده على نصرته وتأييده، ورد غيره وتفنيده. ولهذا حررت نفسي من ربقة التمذهب والتقليد، فإنه أمر مستحدث لم يعرفه سلف الأمة، وقد نهى الأئمة أنفسهم عن تقليدهم، ومن قلد فقيهًا في كل مسألة - وإن ظهر ضعف دليها أو خطؤه - فكأنما اتخذه شارعًا، وفى التقليد إبطال للعقل ومنفعته، كما قال ابن الجوزي: "لأنه خلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطى شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشى في الظلمة".
وقال غيره: لا يقلد إلا عصبي أو غبي.
ومن هنا لم أكن أقرأ الأقوال والنصوص قراءة المقلد المتحيز، بل قراءة الفاحص الممحص، الباحث عن الحق، لا يبالي أين وجده ولا مع من وجده قد يجده عند المتقدمين، وقد يجده عند المتأخرين، قد يجده في مدرسة الرأي، وقد يجده في مدرسة الحديث، وقد يجده في فقه الظاهرية، قد يجده في المذاهب الأربعة، وقد يجده عند غيرهم من الأئمة، وما أكثرهم! .(1/31)
إنني لم أقف مع المتعصبين المتزمتين الجامدين على كل قديم، والزاعمين بأن لا أئمة بعد الأربعة، ولا اجتهاد بعد القرون الأولى، ولا علم إلا في كتب المتأخرين المقلدين، ومن عارضهم في ذلك اتهموه بكل نقيصة.
ومع هذا لم أكن لأنساق وراء أدعياء الاجتهاد الذين لم يملكوا وسائله، ودعاة التجديد الذين سخر منهم الرافعي الأديب بأنهم " يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر" !!.
وإنما أقف موقفًا وسطًا عدلاً: أرحب بكل جديد نافع، وأحرص على كل قديم صالح . ولم تمنعني صفرة الكتب القديمة، ورداءة طبع الكثير منها، ودقة خطها، من الغوص في أعماقها، واستخراج كنوزها، ومعاناة متونها وشروحها وحواشيها، وهكذا انتفعت بالقديم وبالجديد، دون تزمت ولا تحلل . بل موقفي من هذا وذاك موقف المنتخب المتخير الذي يبحث ما وسعه البحث، ويحلل ما أمكنه التحليل، ويوازن ما أسعفته الموازنة، ثم ينصر ما قويت حجته، واتضحت أدلته، غير متعصب لقول قائل، ولا لمذهب إمام، فقد آخذ في مسألة بمذهب أبى حنيفة، وأخرى بمذهب مالك، وثالثة بقول الشافعي أو أحمد أو سفيان أو والأوزاعى أو أبى عبيد أو أي إمام قبلهم أو بعدهم. وقد أدع هؤلاء جميعًا وآخذ بقول صح عن صحابي أو تابعي.(1/32)
وليس هذا تلفيقًا -كما يقال- وإنما هو اتباع للدليل حيثما ظهر، ولا يجوز للعالم الباحث أن يقيد نفسه إلا بالنصوص المعصومة الهادية من كتاب الله وسنة رسوله، وقد جاء عن ابن عباس وعطاء ومالك وغيرهم: "كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وهذا قد يجعلني في بعض المسائل آخذ بقول مهجور غير مشهرر، وأعرض عن قول الجمهور، فليس الصواب دائمًا مع الكثرة، ولا الخطأ دائمًا مع القلة، فرب رأى انفرد به فقيه، تؤيده الحجة، ويشد أزره المنقول والمعقول، وهذا على كل حال يحدث على قلة . ولكنى لا أخاف عقباه. وما الذي يخيفني من هذا، وقد رأيت من كبار الأئمة من لا يبالي أن يقف وحده متمسكًا برأيه، وإن رأى جمهور الناس على خلافه؟!. فهذا ابن عباس يقول :" أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولا في قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وستجدونه في الناس كلهم: ميراث الأخت مع البنت" (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ص541) فلم ير الناس كلهم حجة على نفسه. وهذا مالك يفتى بالشفعة في الثمار، ويقول إثر فتياه به: "إنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدًا قاله" (المرجع نفسه ص542).
ولكل إمام من الأئمة المتبوعين مسائل شتى انفردوا فيها برأي لم يسبق لغيرهم، ولم يروا في ذلك حرجًا، وقد نظمت مفردات مذهب الإمام أحمد في كتاب خاص.
قواعد البحث للاختيار والترجيح والاستنباط
وقد ارتكز هذا البحث على جملة قواعد أصولية - كانت هي مستنده الشرعي في اختيار ما يتبناه من وجوه النظر، وترجيح ما يرجحه من الأحكام الخلافية، واستنباط ما يؤدى إليه اجتهاده من آراء جديدة أو كالجديدة . ونستطيع أن نجمل هذه القواعد فيما يأتي:
1- الأخذ بعموم النصوص ما لم يخصصها دليل(1/33)
إن كثيرًا من نصوص الدين جاء بألفاظ عامة، ليندرج في مفهومها أفراد وجزئيات كثيرة، وهذا من جملة أسرار خلود هذا الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان. ولهذا أرى أن العموميات التي جاءت في آيات القرآن وأحاديث الرسول يجب أن يؤخذ بها، ويعمل بمقتضى عمومها، ما لم يخصصها نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فحينئذ نقدم الخاص على العام. فلست مع الذين يردون السنن الصحيحة المحكمة بالظواهر والعمومات القرآنية، ولا مع الذين يسارعون إلى التخصيص بالحديث، ولو في سنده لين، أو بالصحيح ولو في دلالته ضعف أو غموض. إني أخالف الإمام أبا حنيفة الذي رد حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " إبقاء على عموم: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة 267)، وعموم: "فيما سقت السماء العُشر"، لأن الحديث صحيح متفق عليه، وتأويله بأنه في أوسق التمر إذا كانت للتجارة تأويل ضعيف مرجوح بل متهافت . ولهذا رجحت رأى الصاحبين والجمهور في اعتبار النصاب فيما أخرجت الأرض كسائر الأموال الأخرى، وهو الموافق لحكمة الشارع في فرض الزكاة على الأغنياء.(1/34)
ولكنى أوافق أبا حنيفة كل الموافقة في تمسكه بعموم: "(ومما أخرجنا لكم من الأرض)..وعموم حديث :"فيما سقت السماء العشر" ولا أخصص هذا العموم بمثل حديث: "ليس في الخضراوات صدقة" لأنه حديث ضعيف، على أنه يمكن تأويله بأن المعنى: ليس فيها صدقة يأخذها الجباة، لأنها مما يسرع إليه التلف والفساد، فلا تبقى في بيت المال، فإذا لم يكن شرع أخذها كالمواشي والزرع فإن ذلك لا يسقط إيجابها باللفظ العام السابق. إن عمومات القرآن والسنة يجب أن تحترم وتؤخذ كما هي حتى يخصصها دليل صحيح صريح، ومن هنا أخذنا بعموم الآيات والأحاديث التي افترضت الزكاة من كل مال، مثل قوله تعلى: "(خذ من أموالهم صدقة) (التوبة 103). (والذين في أموالهم حق معلوم) (المعارج: 24)..وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أدُّوا زكاة أمولكم" من غير فصل بين مال ومال، ولم نخرج من ذلك إلا ما خصصه الدليل.
2- احترام الإجماع المتيقن
فإن اتفاق علماء الأمة جميعًا على حكم شرعي -وخاصة في القرون الأولى- يدل دلالة واضحة على أنهم استندوا فيما أجمعوا عليه إلى اعتبار شرعي صحيح من نص أو مصلحة أو أمر محسوس، فينبغي أن يحترم إجماعهم، لتبقى مواضع الإجماع في الشريعة، هي الضوابط التي تحفظ التوازن، وتمنع البلبلة والاضطراب الفكري. وذلك كإجماعهم على وجوب الزكاة في الذهب بنسبة زكاة الفضة: ربع العشر، وكإجماعهم على أن المثقال درهم وثلاثة أسباع ... إلى غير ذلك من الأمثلة.
وإنما قلت :"الإجماع المتيقن"لأن بعض الفقهاء نقل الإجماع في مسائل ثبت فيها الخلاف عند غيرهم، وسبب هذا: "أن العلماء المجتهدين في العصور الأولى كانوا منتشرين في عامة الأقطار والبلدان، وكانوا من الكثرة بحيث يتعسر معرفة أقوالهم في كل مسألة اجتهادية، وهذا ما جعل الإمام أحمد يقول: " من أدعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه؟ ولم ينته إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك".(1/35)
وهناك أمثلة كثيرة ادعى فيها الإجماع أو قرر فيها عدم العلم بالخلاف، ومع هذا ثبت الخلاف.
فهذا الشافعي يقول في زكاة البقر: في الثلاثين تبيع، وفى الأربعين: مسنة لا أعلم فيه خلافًا، مع ثبوت الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة، وعمال ابن الزبير بالمدينة وغيرهم (الأحكام لابن حزم).وهذا ابن المنذر ينقل الإجماع على أن زكاة الأموال لا يجوز أن تُعْطَى لغير المسلمين مع أن غيره روى عن الزهري وابن سيرين وعكرمة جواز الصرف منها لغير المسلمين، وهو ظاهر مذهب عمر فيما روى عنه (انظر مبحث "إعطاء الزكاة لغير المسلمين" من باب "مصارف الزكاة"). وقال ابن قدامة في "المغنى" لا نعلم خلافًا في أن بنى هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وعلق على ذلك الحافظ ابن حجر في "الفتح : "بقوله: كذا قال، وقد نقل الطبري الجواز أيضًا عن أبى حنيفة، وقيل عنه: يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوى القربى. حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبى يوسف: يحل من بعضهم لبعض، وعند المالكية فى ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه (انظر فتح الباري: 3/227، وانظر هذا المبحث من الفصل التاسع من مصارف الزكاة).. الخ. إن هذا الإجماع المُدَّعى، لا حرج علينا إذا خالفناه لدليل رأيناه، لأنه في الواقع ليس بإجماع. أما الإجماع المتيقن - أعنى الذي لم يعرف فيه خلاف قط - فرغم ما أثير من جدل حول إمكانه ووقوعه وحجيته، فلم ألجأ إلى مخالفته في حكم من الأحكام، للاعتبار الذي ذكرته قبل. لكنى قد أخالف الإجماع على رأي من يقول من علماء الأصول: إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، لأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت -من جهة المعنى- على المنع من إحداث قول ثالث، واختار الآمدي: أن القول الثالث إن كان يرفع ما اتفق عليه القولان فهو غير جائز، وإلا(1/36)
بأن وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع. (انظر الأحكام للآمدي: 1/137، 138). مثال ذلك أن أبا حنيفة قال: العشر على مالك الأرض، وقال الجمهور: على المستأجر، فالمتفق عليه بين القولين: أن العُشر واجب، فإذا قلنا: إن العُشر على المستأجر في محصول الزرع بعد رفع قيمة الإيجار الذي دفعه للمالك، وقلنا: إن على المالك تزكية الأجرة التي أخذها من المستأجر لا نكون -على رأى الآمدي- خارقين للإجماع. على أن من العلماء من قال: إن الاختلاف على قولين في مسألة دليل تسويغ الاجتهاد فيها، والقول الثالث إنما هو وليد الاجتهاد فهو جائز، وقد أحدث بعض التابعين قولاً ثالثاُ في بعض المسائل لم يقله الصحابة، كما روى عن ابن سيرين ومسروق (انظر الأحكام للآمدي: 1/137، 138) وغيرهم، وهو المختار ما دامت المسألة من المسائل الاجتهادية التي تحتمل أوجهًا للنظر والاجتهاد.
3- إعمال القياس الصحيح
القياس هو إعطاء الشيء حكم نظيره لعلة مشتركة بينهما، وهو أمر أودعه الله في العقول والفطر، وهذا - كما قال ابن القيم -من الميزان الذي أنزل الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره، فقال تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) (الشورى: 17) ، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25)، والميزان يراد به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، والأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد، في كل حال، بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس، فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، وصحيح وفاسد، والصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه(1/37)
(إعلام الموقعين: 1/133). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد، فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، الأول: قياس الطرد، والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله. "فالقياس الصحيح: مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه قط . وكذلك القياس بإلغاء الفارق: وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الفرع، فمثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه" (رسالة القياس لابن تيمية - نشر المطبعة السلفية سنة 1375 هـ). والمقصود أن القياس إذا اتضحت علته الجامعة بين الأصل والفرع، ولم يكن بينهما فارق ظاهر أو خفي، ولم يوجد معارض معتبر، وجب الأخذ به باعتباره دليلاً شرعيًا لا مطعن فيه. وقد يعترض معترض فيقول: إن الزكاة عبادة، والأمور التعبدية لا مدخل للقياس فيها، ونحن نقول: نعم، إن الأمور التعبدية الخالصة لا يدخلها القياس، إذ لا تدرك علتها على وجه تفصيلي والأصل فيها الامتثال لأمر الله دون الالتفات إلى العلل، فالعبادات المحضة كالصلاة والصيام والحج لا يصح أن يجرى فيها القياس، حتى لا نشرع للناس من الدين ما لم يأذن به الله تكليفًا أو إسقاطًا. أما الزكاة فلها شأن آخر. إنها ليست عبادة محضة، بل هي حق معلوم، وضريبة مقررة، وجزء من النظام المالي والاجتماعي والاقتصادي للدولة، بجانب ما فيها من معنى العبادة، والعلة في تشريعها وأحكامها بصفة عامة معلومة واضحة، فلماذا لا نقيس على المنصوص عليه فيها ما يشبهه ويشاركه في العلة؟. ولقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار كالشعير والتمر والزبيب، فقاس عليه الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يُقتات، أو غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا(1/38)
هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها. وكذلك في زكاة الزروع والثمار ذهب جمهور الأئمة إلى قياس كثير من الحبوب على ما وردت به النصوص ولم يقصروا الزكاة على ما جاء في بعض الأحاديث من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقد جاء عن عمر: أنه أدخل القياس في باب الزكاة، وذلك حين أمر بأخذ الزكاة من الخيل لما تبين له أن فيها ما يبلغ قيمة الفرس الواحدة منه ثمن مائة ناقة فقال: نأخذ من أربعين شاة، ولا نأخذ من الخيل شيئًا؟، وتبعه في ذلك أبو حنيفة بشروط معلومة (ستأتي هذه البحوث في مواضعها- إن شاء الله). وهذا ما جعلنا نقيس العمارات المؤجرة للسكن ونحوها على الأرض الزراعية، ونقيس الرواتب والأجور على الأعطيات التي كان يأخذ منها ابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز الزكاة عند صرفها مع دخولها في العمومات أيضًا.
ونقيس القز والمنتجات الحيوانية كالألبان ونحوها على العسل الذي وردت الآثار بأخذ العشر منه.
ويكفى أن نذكر من أهمية القياس ما ذكره الإمام الشافعي في "الرسالة" عن "زكاة الذهب" فقال:
"وفرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق (نقود الفضة) صدقة، وأخذ المسلمين في الذهب بعده صدقة، إما بخبر عن النبي لم يبلغنا، وإما قياسًا على أن الذهب والورق نقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان قبل الإسلام وبعده" (الرسالة ص193، 194).(1/39)
فأخذ الزكاة من النقود الذهبية -وهى الرصيد العالمي للنقود في معظم أمم العالم- ليس بالأمر الهين، ومع هذا أخذ المسلمون بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقياس، وهو الاحتمال الأقوى، أما أن يكون هناك حديث لم يبلغ الشافعي مع طلبه وتحريه لمثله، وكذلك لم يبلغ مالكًا ولا البخاري ولا مسلمًا، فهذا احتمال بعيد، ولهذا اعتمد مالك في ذلك على العمل لا الخبر فقال: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا عينًا (ذهبًا) كما تجب في مائتي درهم (فضة).
4- اعتبار المقاصد والمصالح
قرر المحققون من علماء الإسلام، أن أحكام الشريعة إنما شرعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد، سواء أكانت هذه المصالح ضرورية أم حاجة أم تحسينية. ودليل ذلك -كما قال الإمام الشاطبي- هو استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، فليس ذلك مقصورًا على نص واحد، أو واقعة خاصة، بل الشريعة كلها دائرة على ذلك (الموافقات: 2/51). وذكر الشاطبي قاعدة مهمة هي: "أن الأصل في العبادات -بالنسبة إلى المكلف- التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات (المعاملات) الالتفات إلى المعاني (المرجع السابق ص300) وأقام على ذلك أدلة ناصعة لا يتسع المجال لذكرها هنا. وأعود هنا فأؤكد ما ذكرته من قبل: أن الزكاة -وإن كانت تذكر مع الصلاة في فقه العبادات- ليست في الحقيقة عبادة محضة، بل هي أقرب إلى ما يسمى بالعادات، المعاملات، لأنها من الشئون المالية للمسلمين، وهى -إلى حد كبير- علاقة بين الدولة ورب المال، أو بينه وبين الفقير عند تخلى الدولة، والدليل على ذلك: أن كتب الفقه المالي والإداري في الإسلام تذكرها ضمن مباحثها وأبوابها (كالخراج والأموال والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية) فهي في الحقيقة جزء من نظام الدولة في الإسلام.(1/40)
ولو أردنا أن نؤلف الفقه على الطريقة الحديثة، لوجب أن نجعل الزكاة من الفقه المالي والاجتماعي، لا مع العبادات المحضة، وكذلك عند التقنين، فإنها داخلة -لا محالة- في دائرة التشريع المالي والاجتماعي.
وهذا لا يخرج أحكام الزكاة كلها عن دائرة التعبد، فقد قرر الشاطبي: أن العادات إذا وجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص، كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية وما أشبه ذلك.
وأنا أدخل فيها مقادير الزكاة وأنصبتها لأنها أمور ضبطها الشارع وحددها وفرغ منها، وأجمع المسلمون عليها في كافة الأعصار، فوجب الوقوف عند النصوص والإجماع في ذلك. ولهذا خالفت الذين يريدون أن يخضعوا مقادير الزكاة وأنصبتها للتغير والتحوير حسب الزمان والمكان والحال، تحت عنوان "رعاية المقاصد والمصالح" فإن هذا يمحو معالم الزكاة الشرعية ويحولها إلى ضريبة مدنية بحتة، كالضرائب التي تفرضها شتى الحكومات في شتى الأقطار.
والخلاصة: أن مقاصد الشريعة إنما هي جلب المصالح للناس ودرء المضار والمفاسد عنهم، ودعامة هذا الأصل هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من اعتبار المصلحة المرسلة دليلاً شرعيًا، يجب العمل به كما يجب العمل بسد الذرائع (بل قال القرافي: المصلحة المرسلة غيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، انظر: كتاب: "مالك " للأستاذ الكبير محمد أبى زهرة).
على أن كثيرًا من الحنابلة ينزعون هذا المنزع، وقد نصر ذلك الاتجاه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كتبهما، وأفاضا في تأييده بالأدلة والاعتبارات الشرعية الصحيحة.(1/41)
وعلى أساس ذلك عقد ابن القيم فصلاً رائعًا في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال في مقدمته: "وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خليقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها، وهى نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون (إعلام الموقعين: 3/14) وهذا كلام يجب أن نحرص عليه ونشيعه في الناس، وهو الذي لا يجوز أن يقال غيره في عصرنا . ولقد كان ابن القيم مسددًا حين جعل الذي يتغير بتغير الأزمنة والأحوال هو الفتوى، وليس الحكم الشرعي -أي أن تطبيق الحكم وتنزيله على الواقعة هو الذي يتغير... الشريعة إذن لا تتغير ولكن الفقه يتغير، فالشريعة وحي الله، والفقه والفتوى والقضاء عمل الناس.(1/42)
إن عمر -رضى الله عنه- حين أبى أن يعطى من الزكاة قومًا كانوا من : "المؤلفة قلوبهم" في عصر الرسول وقال: "إن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم" لم يغير بذلك حكمًا شرعيًا ولم يعطل نصًا قرآنيًا، كما قد يفهم بعض الناس، ولكنه غير الفتوى بتغير الزمن والحال عن عهد الرسول، فلم يعد عيينة بن حصن، ولا الأقرع بن حابس وإضرابهما من الطامعين، ممن يحتاج الإسلام ودولته إلى تأليف قلوبهم، ولم يكتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- صكًا لهؤلاء يبقيهم مؤلفة إلى الأبد، والمؤلف هو الذي يرى الإمام تأليفه، فإذا لم يرَ تأليف شخص أو أناس بأعيانهم أو لم يرَ التأليف مطلقًا في عهده لعدم الحاجة إليه أو لأن هناك مصارف أهم منه، فهذا من حقه ولا يكون ذلك إسقاطًا لسهم المؤلفة إلى الأبد كما فهم بعض الحنفية وغيرهم، ولا تعطيلاً للنص كما ظن بعض المعاصرين، فإن عمر والأمة كلها لا تملك تعطيل نص صريح من كتاب الله، ولكنه رأى مصلحة المسلمين في عصره، أن يسد الطريق على الطامعين في أموال الزكاة باسم التأليف، ولم يرد عنه ما يمنع من التأليف وإعطاء المؤلفة عند الحاجة واقتضاء المصلحة (راجع هذا المبحث بتفصيل في باب "مصارف الزكاة" فصل "المؤلفة قلوبهم").
إن عمل عمر هذا مثال جيد لاعتبار المصلحة المرسلة، وسد الذريعة إلى المفسدة، وهو مثال جيد كذلك لتغير الفتوى بتغير الأزمان والأحوال. ومما غير عمر فيه الفتوى بتغير الحال "زكاة الخيل"، فقد جاءه أناس من الشام يريدون إعطاء الزكاة منها، فتردد في ذلك لأنه أمر لم يفعله الرسول ولا أبو بكر، ثم جاء أنه أوجب الزكاة في الخيل في قصة يعلى بن أمية وأخيه حين وجد الفرس يبلغ ثمنها مائة ناقة مستدلاً بما ذكرناه من القياس، وهو نوع من مراعاة المقاصد والمصالح والعدل الذي قامت عليه الشريعة.(1/43)
ومن الأمثلة التي تُذكر هنا من تغير الفتوى بتغير المكان والحال، أن معاذ بن جبل حين بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم، كان مما أوصاه به: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل" ولكن لم يفهم هذه الوصية إلا أنها تيسير على الناس، وأن هذا ما يطالبون به، فلما وجد الأيسر عليهم أن يدفعوا القيمة رحب بذلك، لما فيه من الرفق بهم، والنفع لمن وراءهم بالمدينة، عاصمة الإسلام، إذا فضل شئ عنهم وأرسله إلى هناك، ففي خطبة معاذ باليمن قال :"ائتوني بخميس أو لبيس (ملابس من صنعهم) آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة (راجع هذا المبحث بتفصيل في باب "طريقة أداء الزكاة" فصل "إخراج القيمة").(1/44)
فاعتبار المصلحة ورعاية مقصد الشارع من الزكاة هو الذي جعل معاذًا -وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث- يؤثر أخذ القيمة "ثيابًا يمنية" بدلاً من الحبوب، مع ما يظن من مخالفته ظاهر الحديث الآخر، وما كان لمعاذ أن يخالف حديث رسول الله - وهو الذي جعل اجتهاده في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة. ولكنه أدرك مقصود الحديث فلم يتجاوز به موضعه، ولهذا اشترط الأصوليون في المجتهد: أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام ومقاصد الشريعة، وأن يكون أيضًا عالمًا بمصالح الناس في عصره . وهذا حق فإن من حصل كثيرًا من العلم ووسائل الاجتهاد ولكنه يعيش في برج عاجي، أو صومعة منعزلة، غافلاً عن مصالح المجتمع ومفاسده وما يدور في العقول من أفكار، وفى الأنفس من نوازع، وفى الحياة من وقائع وتيارات.. مثل هذا -على علمه- لا يعد من أهل الاجتهاد والفتيا والحكم في شريعة الإسلام. إن اعتبار المصالح والمقاصد العامة للشريعة هو الذي جعلنا نرجح ما أفتى به كثير من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا زكاة في حلى النساء، لأن مقصد الشريعة في الزكاة -كما فهموها من الأموال التي أخذ منها رسول الله الزكاة في عصره- أن تفرض في المال النامي أو الذي من شأنه أن ينمو، ليكون الأخذ في الغالب من الفضل والنماء، ويبقى الأصل لمالكه مصدر دخل له، والحلي الذي أباحه الله للمرأة ليس ناميًا ولا من شأنه أن ينمو بل هو من جنس ثياب الزينة وأثاث البيت وما إلى ذلك. ورعاية العدل الذي بُنيت عليه الشريعة هو الذي جعلنا نرجح قول التابعي الجليل الإمام عطاء بن رباح في رفع نفقة الزرع من جملة المحصول ثم تزكية الباقي، وجعلنا نختار أن يزكى المستأجر الزرع الخارج بعد طرح النفقات، ومنها أجرة الأرض، وأن يزكى مالك الأرض الأجرة التي يقبضها بمجرد قبضها، ويخرج منها العشر أو نصفه، لأنها بدل عما يستحقه من الخارج لو زارع عليها .. إلى غير ذلك من الأمثلة.
أسلوب البحث(1/45)
وقد توخيت أن يكون أسلوب هذا البحث جامعًا بين السهولة والدقة، متجنبًا وعورة العبارات التي يقتضيها البحث العلمي أحياناَ، متخيرًا في النقل عن الكتب القديمة ما كان أوضح بيانًا، وأنصع عبارة، متصرفًا أحيانًا قليلة في النقل مع المحافظة على المعنى. إن الأسلوب الناجح هو الذي يجمع دقة العالم إلى وضوح الداعية، وكذلك أردت أن أكون، ولعلى بلغت ما أريد أو قاربت.
وبعد.. مرة أخرى فقد كنت أعددت هذه الدراسة منذ أكثر من ست سنوات لأحصل بها على درجة علمية، ثم حالت دون ذلك حوائل، وكان الخير فيما اختاره الله، فظلت هذه الدراسة بين يدي أقلب فيها، فأزيد وأرتب وأنقح وأهذب، حتى شاء الله أن تنشر في صورتها هذه، فعسى أن تنال قبول الباحثين المنصفين، ولا تحرم من ملاحظات الناقدين المخلصين.
ومهما يكن فقد بذلك الجهد، ولم أدخر وسعًا عندي لتجلية حقيقة هذه الفريضة المحكمة، وذلك النظام الإسلامي الفذ "الزكاة"، وإماطة اللثام عن عدالة أحكامها، ومكنون أسرارها وجليل أهدافها وآثارها، عسى أن يصحح المسلمون إسلامهم، ويعودوا إليه بعد غربة وطول غياب، ويجعلوا هذه الفريضة جزءًا أصيلاً من نظامهم المالي والاجتماعي، فيحوزوا بذلك رضوان الله، ويحلوا بها كثيرًا من مشكلات مجتمعهم، ويحصنوا شبابهم من الأفكار المنحرفة، والمبادئ الهدامة.
فإن أصابت هذه الدراسة الهدف منها، فهذا ما أحمد الله عليه، وهو الذي إليه قصدت، وله سعيت وجهدت، ولله وحده المنة والفضل، وهو المسئول أن ينفع بهذا الجهد، ويبارك فيه وإن قصرت عن بلوغ المرمى، فحسبي أنى اجتهدت وتحريت، ولم آلُ جهدًا أو أدخر وسعًا، وعسى ألا أحرم أجر من اجتهد ومثوبة من نوى، ولكل مجتهد نصيب، ولكل امرئ ما نوى.
وما توفيقي إلا بالله.. عليه توكلت وإليه أنيب.
الدوحة - جمادى الأولى 1389 هـ.
يونيو (تموز) 1969م.
يوسف القرضاوي.
معنى الزكاة لغة وشرعًا(1/46)
الزكاة لغة: مصدر "زكا الشيء" إذا نمى وزاد، وزكا فلان إذا صلح، فالزكاة هي: البركة والنماء والطهارة والصلاح (المعجم الوسيط: 1/398). قال في لسان العرب: وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكله قد استعمل في القرآن والحديث. والأظهر - كما قال الواحدي وغيره -: أن أصل مادة "زكا " الزيادة والنماء. يقال زكا الزرع يزكو زكاء. وكل شيء ازداد فقد زكا. ولما كان الزرع لا ينمو إذا خلص من الدغل كانت لفظة " الزكاة " تدل على الطهارة أيضًا. وإذا وصف الأشخاص بالزكاة - بمعنى الصلاح - فذلك يرجع إلى زيادة الخير فيهم، يقال: رجل زكى، أي زائد الحد من قوم أزكياء، و "زكى القاضي الشهود" إذا بين زيادتهم في الخبر. والزكاة في الشرع: تطلق على الحصة المُقدرة من المال التي فرضها الله للمستحقين. كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصة (قال الزمخشرى في الفائق: 1/536 ط. أولى: " الزكاة فعلة كالصدقة، وهي من الأسماء المشتركة، تطلق على عين: وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى معنى: وهو الفعل الذي هو التزكية ز ومن الجهل بهذا أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله - عز وجل -: (والذين هم للزكاة فاعلون) ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد: المعنى الذي هو الفعل، أعنى التزكية" ). وسُميت هذه الحصة المخرجة من المال زكاة لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه، وتوفره في المعنى، وتقيه الآفات. كما نقله النووي عن الواحدي (المجموع: 5/324). وقال ابن تميمة: نفس المتصدق تزكو، وماله يزكو: يَطْهُر ويزيد في المعنى (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تميمة: 25/8). والنماء والطهارة ليسا مقصورين على المال، بل يتجاوزانه إلى نفس معطى الزكاة كما قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103 ). وقال الأزهري: إنها تُنَمِى الفقير، وهي لفتة جميلة إلى أن الزكاة تُحقق نموًا ماديًا ونفسيًا للفقير أيضًا، بجانب تحقيقها لنماء الغنى: نفسه(1/47)
وماله. ونقل النووي عن صاحب الخاوي قال: " اعلم أن الزكاة لفظة عربية معروف قبل ورود الشرع، مستعملة في أشعارهم، وذلك أكثر من أن يستدل له. " وقال داود الظاهري: لا أصل لهذا الاسم في اللغة، وإنما عرف بالشرع. قال صاحب الحاوي: وهذا القول وإن كان فاسدًا، فليس الخلاف فيه مؤثرًا في أحكام الزكاة " (المجموع: 5/324).
إذا عرفنا ما تقدم لم نجد مجالاً لدعوى المستشرق اليهودي المعروف " شاخت " كاتب مادة "زكاة" في دائرة المعارف الإسلامية المترجمة، حيث زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل كلمة " زكاة " بمعنًى أوسع من استعمالها اللغوي بكثير، آخذًا من استعمالها عند اليهود (في اليهودية - الآرامية " زاكوت ")،. قال: وكان النبي - عليه السلام - وهو ما يزال في مكة يستعمل كلمة " زكاة " ومشتقات مختلفة من مادة "زكا" بمعنى "طهر" ترتبط بالزكاة، بحسب الإحساس اللغوي عند العرب، وهذه المشتقات نفسها لا يكاد يكون لها في القرآن سوى ذلك المعنى الذي ليس عربيًا أصيلاً. بل هو مأخوذ عن اليهودية: وهو "التقوى" (دائرة المعارف الإسلامية: 10/355، 356). وهؤلاء المستشرقون من شاخت وأمثاله لهم غرام جنوني بنسبة كل ما يستطيعونه من مفاهيم الإسلام، وألفاظه، وأحكامه، وأفكاره، وأخلاقه إلى مصادر يهودية أو نصرانية، أو ما شاءوا من مصادر شرقية أو غربية، لا يتبعون في ذلك إلا الظن وما تهوى الأنفس. وحسبنا في الرد على هذا الكلام أمران:(1/48)
الأول: أن القرآن استعمل الزكاة في معناها المعروف لدى المسلمين منذ أوائل العهد المكي، كما ترى ذلك في سورة الأعراف (آية 156)، وسورة مريم (آية 31، 55)، وسورة الأنبياء (آية 72)، وسورة المؤمنون (آية 4)، وسورة النمل (آية 3)، وسورة الروم (آية 39)، وسورة لقمان (آية 3)، وسورة فصلت (آية 7). ومعروف بيقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف العبرية، ولا أي لغة غير العربية كما أنه لم يتصل باليهود إلا بعد هجرته إلى المدينة، فمتى وكيف أخذ عن اليهود واليهودية كما زعم " شاخت "؟.
الثاني: أن من المُجازفة المنافية لخلق العلماء ومناهج التحقيق أن يزعم زاعم نقل لغة عن أُخرى إذا وجد كلمة مشتركة في معناها بين اللغتين، فإن الاشتراك لا يقتضي ضرورة نقل إحدى اللغتين عن الأخرى. ثم إن تعين إحداهما بأنها الناقلة والأخرى منقولة عنها - تحكم بلا دليل، وترجيح بلا مرجح، فمن اتخذ هذا النهج له ديدنًا، فقد برئ من أمانة العلم، وأخلاق العلماء.
إلى الفهرس
معنى الصدقة:
والزكاة الشرعية قد تسمى في لغة القرآن والسنة " صدقة "، حتى قال الماوردي:" الصدقة زكاة والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى (ذكره في أول الباب الحادي عشر في ولاية الصدقات من "الأحكام السلطانية"). قال تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103).(1/49)
وقال: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون) (التوبة:58). وقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين).. الآية (التوبة: 60)، إلى غيرها من الآيات (ذكر أستاذنا المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى في تعليقه على " شاخت " في دائرة المعارف أن القرآن أشار أولاً إلى الزكاة باسم الصدقة ثم استعمل لفظة الزكاة ولكن الذي يتأمل القرآن المكى يجد أن الكلمة التي استعملها القرآن أولاً هي الزكاة ولم يكد يستخدم كلمة الصدقة والصدقات إلا في المدينة). وفي الحديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة" (رواه الشيخان وغيرهما. وسيأتي). وفي حديث إرسال معاذ إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم". وهذه النصوص كلها قد جاءت في شأن الزكاة عبرت عنها بالصدقة، ومنه سمى العامل على الزكاة مصدقًا لأنه يجمع الصدقات ويفرقها. بيد أن العرف قد ظلم كلمة الصدقة، وأصبحت عنوانًا على التطوع وما تجود به النفس على مثل المتسولين والشحاذين. ولكن المدلولات العرفية يجب أن لا تخدعنا عن حقائق الكلمات في لغة العرب في عهد نزول القرآن، ومادة الصدقة مأخوذة من الصدق. وللقاضي أبى بكر بن العربي كلام قيم في معنى تسمية الزكاة صدقة، قال: " وذلك مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد ".(1/50)
وبناء " ص د ق " يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به، ومنه صداق المرأة، أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح على وجه مشروع. ويختلف كله بتصريف الفعل، يقال، صدق في القول صداقًا وتصديقًا وتصدقتُ بالمال تصدقًا، وأصدقت المرأة إصداقًا، وأرادوا باختلاف الفعل الدلالة على المعنى المختص به في الكل، ومشابهة الصدق ههنا للصدقة: أن من أيقن من دينه أن البعث حق، وأن الدار الآخرة هي المصير، وأن هذه الدار قنطرة إلى الآخرة، وباب إلى السوء أو الحسنى - عمل لها، وقدم ما يجده فيها، فإن شك فيها أو تكاسل عنها، وآثر عليها - بخل بماله واستعد لآماله،، وغفل عن مآله " (أحكام القرآن - القسم الثاني ص 946. بتحقيق البجاوي) أقول: ولهذا جمع الله بين الإعطاء والتصديق كما جمع بين البخل والتكذيب في قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (الليل:5-10).
فالصدقة إذن دليل الصدق "في الإيمان" والتصديق بيوم الدين. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصدقة برهان" (رواه مسلم في صحيحه).
إلى الفهرس
الزكاة في القرآن الكريم:
وقد تكررت كلمة الزكاة معرفة (إنما قلنا "معرفة". لأنها وردت منكرة في آيتين بمعنى آخر: (خيرًا منه زكاة) (الكهف 81)، (وحنانًا من لدنَّا وزكاة) (مريم: 13) في القرآن الكريم (30) ثلاثين مرة، ذكرت في (27) سبع وعشرين منها مقترنة بالصلاة في آية واحدة، وفي موضع منها ذكرت في سياق واحد مع الصلاة وإن لم تكن في آيتها. وذلك قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون) (المؤمنون: 4) .. بعد آية واحدة من قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون 2).(1/51)
والمتتبع للمواضع الثلاثين التي ذكرت فيها الزكاة يجد أن (8) ثمانية منها في السور المكية وسائرها في السور المدنية (راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: كلمة" الزكاة" للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي). وقد ذكر بعض المؤلفين أن الزكاة قرنت بالصلاة في (82) اثنين وثمانين موضعًا من القرآن (كذا في"الدر المختار" و "البحر" و "النهر" وغيرها من كتب الفقه الحنفي، ونقل ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" تصوبيه باثنين وثلاثين، والواقع أن اقترانها بالصلاة في (28) موضعًا فقط... ولعل المصوب أراد عدد مرات ورودها كلها معرفة ومنكرة.) وهو عدد مبالغ فيه ويرده الإحصاء الذي ذكرناه، حتى لو قالوا: المراد بالزكاة كل ما يدل عليها مثل "الإنفاق" و"الماعون" و"طعام المسكين" ونحو ذلك، لم يجتمع لنا هذا العدد، والظاهر أن العدد محرف من اثنين وثلاثين إلى اثنين وثمانين.
أما كلمة " الصدقة " و" الصدقات " فقد وردت في القرآن اثنتي عشرة مرة، كلها في القرآن المدني.
الباب الأول
وجوب الزكاة ومنزلتها في الإسلام
تمهيد
قبل أن أُبَيِّن وجوب الزكاة ومنزلتها في دين الإسلام، يحسن بى أن أعرض لما كان عليه الفقراء والطبقات الضعيفة في المجتمع قبل الإسلام، وإلى أي حد عنيت الشرائع والديانات السابقة برعاية حاجتهم وعلاج مشكلتهم، حتى نعرف بالدراسة والموازنة كيف سبق الإسلام كل الديانات والمذاهب بعلاج هذا الجانب المهم علاجًا جذريًا أصيلاً، وأقام بنيان العدل والتكافل الاجتماعى، على أمتن الأسس، وأرسخ القواعد التي جاء بها كتاب الله، وبينتها سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فهرس
تحديد نصب الزكاة ومقاديرها
الزكاة ثالثة دعائم الإسلام
التحذير الشديد من منع الزكاة
قتال الممتنعين من أداء الزكاة
جاحد الزكاة كافر
فروق أساسية بين الزكاة في الإسلام والزكاة في الأديان الأخرى
تفنيد مزاعم (شاخت) عن طبيعة الزكاة
وضع الفقراء في الحضارات السابقة(1/52)
عناية الأديان السماوية بالفقراء
ملاحظات على موقف الأديان من الفقر
عناية الإسلام بعلاج الفقر
إيتاء الزكاة في مكة
الزكاة في العهد المدني، القرآن المدني يؤكد على وجوب الزكاة
السنة تؤكد وتفصل ما أجمله القرآن
الفقراء في الحضارات السابقة
عرف الإنسان الفقر والحرمان من أزمنة قديمة، وعرف التاريخ الفقراء والمحرومين من عهود سحيقة، ومن الإنصاف أن نقول: إن الحضارة الإنسانية لم تخلُ في عهد من عهودها من أناس يدعونها إلى ذلك المعنى الإنساني الأصيل، وهو إحساس الإنسان بآلام أخيه، ومحاولة إنقاذه من بؤسه وحرمانه، أو التخفيف من ويلاته على الأقل.
غير أن الوضع الذي كان عليه الفقراء عمليًا كان سيئًا للغاية، وكان نقطة سوداء في جبين الإنسانية، ولم يتقيد المجتمع بما أوصى به الحكماء، ونادى به العقلاء. وهذا باحث كبير (هو الأستاذ المرحوم العلامة محمد فريد وجدى، مؤلف دائرة معارف القرن العشرين، ورئيس تحرير" مجلة الأزهر " لسنين عديدة. وهذا النقل من كتابه "الإسلام دين عام خالد " ص 179 -181 -ط.أولى.) يحدثنا عن هذا التاريخ الأسود منذ أقدم الحضارات، تاريخ العلاقة بين الأغنياء الواجدين والفقراء المحرومين فيقول:
" في أية أمة من الأمم أجال الباحث نظره فوجد طبقتين من الناس لا ثالثة لهما: الطبقة الموسرة، والطبقة المعسرة، ووجد بإزاء هذا أمرًا جديرًا بالملاحظة، وهو أن الطبقة الموسرة تتضخم إلى غير حد، والطبقة المعسرة لا تفتأ تهزل حتى تلتصق بأديم الأرض، معيية رازحة، فيتداعى البناء الاجتماعى، لوهن اساسه، وقد لا يدرى المترفون من أي النواحي خر عليهم السقف.(1/53)
كانت "مصر في عهدها القديم جنة الله في الأرض، وكانت تنبت من الخيرات ما يكفي أضعاف أهلها عددًا، ولكن الطبقة الفقيرة فيها كانت لا تجد ما تأكله، لأن الطبقة الموسرة كانت لا تترك لهم شيئًا غير حثالة لا تسمن ولا تغنى من جوع. فلما أصابتها المجاعة - على عهد الأسرة الثانية عشرة - باع الفقراء أنفسهم للأغنياء وساموهم الخسف وأذاقوهم عذاب الهون. و في "مملكة " بابل" كان الأمر على ما كان عليه في "مصر"؛ لا حَظَّ للفقراء من ثمرات بلادهم، مع أنها كانت تسامى بلاد الفراعنة نماء وخصوبة. وكانت تجرى مجراها "فارس ". أما لدى الأغارقة " اليونان " الأقدمين فكان الأمر لا يعدو ما تقدم، بل تروى عن بعض ممالكهم أمور تقشعر من هولها الجلود، فقد كانوا يسوقون الفقراء بالسياط إلى أقذر الأعمال ويذبحونهم لأقل الهفوات ذبح الأغنام.
أما في "إسبارطة" من ممالكهم فقد كان الموسرون تركوا للمعسرين الأرض التي لا تصلح للإنبات فذاقوا ألوان الفاقة غير مرحومين. وكان الأغنياء في " أثينا " يتحكمون في الفقراء إلى حد أنهم كانوا يبيعونهم بيع العبدان، إذا لم يؤدوا لهم ما كانوا يفرضونه من الإتاوات.
أما في" روما " منبع الشرائع والقوانين، ووطن الفقهاء والأصوليين، فقد كان الموسرون مستولين على العامة، ومتميزين عنهم تميزًا يجعل العامة بإزائهم كالطائفة المنبوذة لدى الهنديين وما كانوا يرضخون لهم (رضخ له: أعطاه عطاء مقارنًا.) بصبابة إلا بعد أن ينال منهم الإعياء، فيهجرون المدن، ويقاطعون الجماعة مرغمين.
قال العلامة "ميشيليه" في المملكة الرومانية في هذه الناحية:.
كان الفقراء يزدادون كل يوم فقرًا، والأغنياء يزدادون غنى، وكانوا يقولون: ليهلك الوطني، وليمت جوعًا إذا لم يستطع أن يذهب إلى ساحات القتال.(1/54)
فلما زالت الدولة الرومانية، وقامت على أنقاضها الممالك الأوروبية، ازدادت حالة الفقراء سوءًا، فكانوا في جميع أصقاعها يباعون كالماشية مع أراضيهم" (المرجع السابق).
هذا هو وضع الفقراء في تلك القرون المديدة، وهذا هو موقف الأغنياء منهم، فماذا صنعت الأديان لإصلاح وضع الفقراء، وتقريب الثقة بينهم وبين الأغنياء؟.
إلى الفهرس
عناية الأديان برعاية الفقراء
الواقع أن الأديان كلها - حتى الوضعية منها التي لم تعرف لها صلة بكتاب سماوي - لم تغفل هذا الجانب الإنساني الاجتماعي، الذي لا يتحقق إخاء ولا حياة طيبة بدونه.
وهكذا نجد في بلاد ما بين النهرين قبل أربعة آلاف سنة، كيف أن "حمورابي" في استهلال أول سجل للشرائع وجد حتى الآن، قال: إن الآلهة أرسلته لمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء، وليرشد الناس، ويَؤَمِّن الرفاهية للخلق. وقبل آلاف السنين كان الناس في مصر القديمة يشعرون بأنهم يؤدون واجبًا دينيًا عندما يقولون: لقد أعطيت الخبز للجائع، والكساء للعارى، وحملتُ بزورقي أولئك الذين لم يستطيعوا العبور، وكنت أبًا لليتيم، وزوجًا للأرملة، ووقاءً للمقرور من عصف الريح (من محاضرة الدكتور "كارل شوبنز" في حلقة الدراسات الاجتماعية. الدورة الثالثة ص 546).
عناية الأديان السماوية
بيد أن الأديان السماوية كانت دعوتها إلى البر بالفقراء والضعفاء أجهر صوتًا، وأعمق أثرًا من كل فلسفة بَشرية، أو ديانة وضعية أو شريعة أرضية، ولا أحسب دعوة نبي من الأنبياء خلت من هذا الجانب بَيْدَ أن الأديان السماوية كانت دعوتها إلى البر بالفقراء والضعفاء أجهر صوتًا، وأعمق أثرًا، من كل فلسفة الإنساني الذي سماه القرآن " الزكاة ".(1/55)
ونحن إذا رجعنا في ذلك إلى القرآن الكريم - وهو أصح وثيقة سماوية بقيت للبَشر - وجدناه يتحدث عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب فيقول: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين) (الأنبياء: 73).
ويتحدث عن إسماعيل فيقول: (وأذكر في الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيًا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيًا) (مريم: 54 - 55).
ويتحدث عن ميثاقه لبنى إسرائيل فيقول: (وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة) (البقرة: 83).
وفي سورة أخرى: (ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا، وقال الله إنى معكم، لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) (المائدة: 12).
وقال على لسان المسيح عيسى في المهد: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا) (مريم: 31).
وقال تعالى في أهل الكتاب عامة: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة) (البينة: 5).
وإذا نظرنا إلى أسفار التوراة والإنجيل (العهد القديم، والعهد الجديد) - التي بين أيدينا الآن - نجدها تشتمل على كثير من الوصايا والتوجيهات الخاصة بالعطف على الفقراء والمساكين، والبرَّ بالأرامل واليتامى والضعفاء.
ففي التوراة نقرأ في الإصحاح (21) من سفر الأمثال ما نصه: " مَن يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضاَ يصرخ ولا يستجاب له، الهدية في الخفاء تطفئ الغضب ".(1/56)
وفي الإصحاح (22) منه: " الصالح العين هو يُبارَك لأنه يعطى من خبزه للفقير". وفي الفقرة (27) من سفر الأمثال: " من يعطى الفقير لا يحتاج، ومن يحجب عنه عينيه عليه لعنات كثيرة". وفي الإصحاح (15) من سفر التثنية: " إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك، في أرضك التي يعطيك الرب إلهك؛ فلا تقس قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له، وأقرضه مقدار ما يحتاج إليه، أعطه ولا يسؤ قلبك عندما تعطيه، لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك، لأنه لا تُفقد الفقراء في الأرض، لذلك أنا أوصيك قائلاَ: افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك". كما ورد في الإصحاح (14) منه: "تعشيرًا تعشر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة، في آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة، وتضعه في أبوابك، فيأتي اللاوي، لأنه ليس له قسم ولا نصيب معك، والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك، ويأكلون ويشبعون لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل".
وكذلك نقرأ في الإنجيل في الفقرة (33) من الإصحاح (13) من إنجيل لوقا: " بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة ".
وفي الفقرات (10 - 14) من إنجيل لوقا: "من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا".
وفي الفقرة (41) من الإصحاح (11): "بل أعطوا ما عندكم صدقة فهو ذا كل شىء، نقيًا لكم".
وفي الفقرات (12 - 14) من الإصحاح (14): "وقال أيضًا للذي دعاه: إذا صنعت غداءً أو عشاءً فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلا يدعوك هم أيضًا، فتكون لك مكافأة، بل إذا صنعت فادع المساكين الجدع، العرج، العمى، فيكون لك الطوبى، إذ ليس لهم أن يكافئوك، لأنك تكافأ في قيامة الأبرار".(1/57)
وفي الفقرات (1 - 4) من الإصحاح (21): "وتطلع فرأي الأغنياء يلقون قرابينهم في الخزانة، ورأي أيضًا أرملة مسكينة ألقت هناك فلسين، فقال: بالحق أقول لكم: إن هذه الأرملة ألقت أكثر من الجميع، لأن هؤلاء من غنى ألقوا في قرابين الله، أما هذه فمن إعوازها ألقت كل المعيشة".
وفي الفقرتين (41، 42) من الإصحاح (5) من إنجيل متى: "من سأل فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده".
وفي الفقرات (1 - 4) من الإصحاح (6): " احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس، لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات. فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدماك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يمجدوا من الناس. الحق أقول لكم: إنهم استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك. علانية ".
وفي الفقه (42) من الإصحاح (10): "ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحق أقول لكم: إنه لا يضيع أجره".
إلى الفهرس
ملاحظات على موقف الأديان من الفقر
هذه نماذج رائعة من عناية الأديان السابقة بالفقراء وذوى الحاجات. وهذه هي دعوة الكتب السماوية - قبل القرآن - إلى رعايتهم.
ولكن ينبغي هنا أن نبدي بعض الملاحظات
1- إن هذه النماذج لا تعدو أن تكون ترغيبًا في الإحسان والعطف، وترهيبًا من الأنانية والبخل، ودعوة جهيرة إلى التصدق الفردي الاختباري.
2- إنها لم تتمتع بدرجة عالية من الإيجاب والإلزام، بحيث يشعر من تركها أنه ترك شيئًا من أساسيات الدين، يعاقبه الله عليه في الدنيا والآخرة بالعذاب الشديد.
3- إنها وكلت ذلك إلى أريحية الأفراد , وإلى ضمائرهم، ولم تجعل للدولة سلطانًا عليهم، في التحصيل والتوزيع.(1/58)
4- إنها لم تحدد المال الذي تجب منه الصدقة والإحسان، ولا شروطه، ولا مقدار الواجب فيه، وهذا ما يجعل التفكير في تحصيله من قبل الدولة ممتنعًا، إذ كيف تحصل شيئًا غير مقدر ولا محدود.
5- إن المقصود من الإحسان إلى الفقراء لم يكن هو علاج مشكلة الفقر، واستئصال جذوره، وتحويل الفقراء إلى ملاك، بل كان المقصود لا يتجاوز التقليل من بؤسهم، والتخفيف من ويلاتهم.
وبهذا نقول: إن الفقراء والضعفاء كانوا تحت رحمة الأغنياء القادرين ومنتهم، إذا حركهم حب الله والآخرة، أو حب الثناء، والمروءة، فجادوا بشيء - ولو قليلاً - على ذوى الضعف والحاجة والفقر، فهم أصحاب الفضل والمنة، وإذا غلب عليهم حب المال وحب الذات، ضاع الفقراء، وافترستهم مخالب الفاقة، ولم يجدوا من يدافع عنهم، أو يطلب لهم حقًا، إذ لم يكن لهم حق معلوم. وهذا هو خطر الإحسان الموكول إلى الأفراد.
إلى الفهرس
عناية الإسلام بعلاج الفقر
أما عناية الإسلام بعلاج الفقر، ورعاية الفقراء وذوى الحاجة والضعف، فلم يسبق لها نظير في ديانة سماوية، ولا في شريعة وضعية، سواء ما يتعلق بجانب التربية والتوجيه، وما يتعلق بجانب التشريع والتنظيم، وما يتعلق بجانب التطبيق والتنفيذ.
1) عناية القرآن بذلك منذ العهد المكي
ومن أظهر الأدلة على اهتمام الإسلام بمشكلة الفقر، وعنايته بأمر الفقراء: أنه منذ بزوغ فجر الإسلام في مكة، والمسلمون يومئذ أفراد معدودون، مضطهدون في دينهم، مُحاربون في دعوتهم، ليس لهم دولة ولا كيان سياسي كان هذا الجانب الإنساني الاجتماعي - جانب رعاية الفقراء والمساكين - موضع عناية بالغة، واهتمام مستمر، من القرآن الكريم. ذكره القرآن أحيانًا باسم إطعام المسكين والحض عليه، وأحيانًا تحت عنوان الإنفاق مما رزق الله، وتارة باسم أداء حق السائل والمحروم، والمسكين وابن السبيل، وطورًا بعنوان "إيتاء الزكاة"، وغير ذلك من الأسماء والعناوين.(1/59)
وحسبنا أن نقرأ في السور المكية هذه النماذج من آيات الكتاب العزيز:
2) إطعام المسكين من لوازم الإيمان
ففي سورة "المدثر" - وهي من أوائل ما نزل من القرآن - يعرض لنا القرآن مشهدًا من مشاهد الآخرة - مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين في جناتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة والمكذبين، وقد أطبقت عليهم النار، فيسألونهم عما أحل بهم هذا العذاب؟ فكان من أسبابه وموجباته: إهمال حق المسكين، وتركه لأنياب الجوع والعرى تنهشه وهم عنه معرضون، قال تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين) (المدثر:38-46).
ومثل إطعام المسكين: كسوته وإيواؤه ورعاية ضروراته وحاجاته.
وفي سورة "القلم" يقص الله على عباده قصة أصحاب الجنة الذين تواعدوا أن يقطفوا ثمارها بليل ! ليحرموا منها المساكين الذين اعتادوا أن يصيبوا شيئًا من خيرها يوم الحصاد، فحلت بهم عقوبة الله العاجلة:.
(فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنا اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين فلم رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا أن يبدلنا خيرًا منها إنا إلى ربنا راغبون كذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر، لو كانوا يعلمون) (القلم: 19-33).
3) الحض على رعاية المسكين(1/60)
ولم تقف عناية القرآن المكي عند الدعوة إلى الرحمة بالمسكين، والترغيب في إطعامه ورعايته، والترهيب من إهماله والقسوة عليه، بل تجاوز ذلك، فجعل في عنق كل مؤمن حقًا للمسكين، أن يحض غيره على إطعامه ورعايته، وجعل ترك هذا الحض قرين الكفر بالله العظيم، وموجبًا لسخطه سبحانه وعذابه في الآخرة.
فيقول تعالى في شأن أصحاب " الشمال " من سورة الحاقة: (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أُوتَ كتابيه ولم أدرِ ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ما أغنى عنى ماليه هلك عنى سلطانيه) (الحاقة: 25-29).
ثم يصدر رب العالمين عليه الحكم العادل، بالعقاب الذي يستحقه: (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا فاسلكوه) (الحاقة:30 - 32).
ولم كل هذا العذاب والهوان والخزي على رؤوس الأشهاد؟: (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) (الحاقة:33-34). والحض: هو الحث والترغيب والدعاء.(1/61)
وهذه الآيات الهادرة بالوعيد، المنذرة بالعذاب، المزلزلة للقلوب، هي التي جعلت مثل أبى الدرداء - رضى الله عنه - يقول لامرأته: "يا أم الدرداء ! إن لله سلسلة لم تزل تغلى بها مراجل النار منذ خلق الله جهنم، إلى يوم تلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحضي على طعام المسكين يا أم الدرداء" (الأموال: ص 350). ولم ترَ الدنيا كتابًا قبل القرآن يجعل ترك الحض على رعاية المسكين من موجبات صلى الجحيم والعذاب الأليم !!. وفي سورة " الفجر " خاطب الله أهل الجاهلية الذين كانوا يزعمون أن لهم دينًا يقربهم إلى الله زلفى، وأنهم على شئ من ديانة أبيهم إبراهيم. فقال تعالى زاجرًا لهم رادعًا: (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين) (الفجر: 17 - 18).. والتحاض تفاعل من الحض، فمعنى " تحاضون ": يحض بعضكم بعضًا، وفيه دعوة للمجتمع إلى التضامن والتعاون على رعاية المسكين والعناية بأمره. قال الشيخ محمد عبده: " وإنما ذكر التحاض على الطعام ولم يكتف بالإطعام، فيقول: ولم تطعموا المسكين، ليصرح لك بالبيان الجلي: أن أفراد الأمة متكافلون، وأنه يجب أن يكون لبعضهم على بعض عطف بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع التزام كل ما يأمر به، وابتعاده عما ينهي عنه" (تفسير جزء عم ص83- ط. ثالثة مطبعة مصر).
وفي سورة "الماعون" جعل قهر اليتيم، وإضاعة المسكين، من لوازم الكفر والتكذيب بيوم الدين. قال تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين؟) (الماعون:1).. والخطاب لكل من يفهم الخطاب، أي هل تبينت من هو المكذب بالدين؟ إن لم تكن تبينته: (فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين) (الماعون: 2 - 3).(1/62)
قال الشيخ: "الحض على طعام المسكين: الحث عليه، ودعوة الناس إليه، والذي لا يحض على إطعام المسكين لا يطعمه في العادة، فقوله:(ولا يحض على طعام المسكين).. كناية عن الذي لا يجود بشيء من ماله على الفقير المحتاج إلى القوت، الذي لا يستطيع له كسبًا، وإنما جاء بالكناية، ليفيدك أنه إذا عرضت حاجة المسكين ولم تجد ما تعطيه، فعليك أن تطلب من الناس أن يعطوه. وفيه حث للمصدقين بالدين على إغاثة الفقراء ولو بجمع المال من غيرهم، وهي طريقة الجمعيات الخيرية، فأصلها ثابت في الكتاب بهذه الآية، وبنحو قوله تعالى في سورة "الفجر": (كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين) (الفجر: 17 - 18).
ونعمت الطريقة هي ! لإعانة الفقراء وسد شئ من حاجات المساكين (تفسير جزء عم ص162).
ثم قال تعالى تفريعًا على تعريف المكذب بيوم الدين: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون) (الماعون: 4-7).
قال ابن كثير في تفسيره: "أي لا أحسنوا عبادة ربهم، ولا أحسنوا إلى خلقه، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ويستعان به مع بقاء عينه، ورجوعه إليهم، فهؤلاء بمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى" (ابن كثير: 4/555 - ط. الحلبي). فمثل أولئك لا تنفعهم صلاتهم، ولا تنقلهم إلى زمرة المصدقين بالدين.
4) حق السائل والمحروم والمسكين وابن السبيل
وفي سورة "الذاريات" ذكر الله المتقين الذين استحقوا عنده الجنات والنعيم، فكان من أبرز أوصافهم:
(وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات: 19).. والسائل هو الذي يبتدئ بالسؤال وله حق، والمحروم من لا مال له ولا كسب ولا حرفة يتقوت منها. فقد أدرك هؤلاء المتقون أن أموالهم ليست ملكًا لهم يستأثرون به، وإنما فيها جزء لغيرهم من المحتاجين، ليس هبة منهم إليهم، ولا تفضلاً منهم عليهم، بل هو " الحق " لهم، لا هوان فيه على الآخذ، ولا مَنٌّ فيه من الدافع.(1/63)
وفي سورة " المعارج " إعادة لهذا الوصف بزيادة كلمة أخرى عليه، وقد جاء ذلك في صفات المؤمنين، الذين انتصروا بقوة إيمانهم وأخلاقهم على ضعف الإنسان الذي: (خلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير منوعًا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (المعارج: 19 - 25).
فهنا قد وصف الحق الذي في أموالهم بأنه "معلوم" وهذا ما جعل بعض العلماء يقولون: إنه الزكاة، لأنها الحق المعلوم المقدر في أموال الأغنياء. وهم يعلمون ويذكرون أن السورة مكية ولا شك، والزكاة المعروفة لم تُفرض إلا في المدينة، كما سنعرف. وما الحق المعلوم هنا إلا أنه جزء مقسوم، قد فرضوه على أنفسهم وعينوه للسائل والمحروم (انظر ابن كثير: 4/234) فالفرق بين هذا الحق وبين الزكاة أن هذا معلوم بتحديدهم وتقديرهم أنفسهم، أما الزكاة فمعلوم بتحديد الشارع وتقديره.
وفي سورتي "الإسراء" و "الروم" يقول تعالى: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا) (الإسراء: 26)، (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، ذلك خير للذين يريدون وجه الله) (الروم: 38).
وبهذا غرس القرآن في روح المسلم منذ أوائل العهد المكي، أن للقريب والمحتاج "حقه" المحتوم في ماله، يجب عليه أداؤه وجوبًا، وليس مجرد صدقة تطوعية، يدفعها إن شاء، ويتركها متى شاء.
5) حق الزرع عند الحصاد
وفي سورة " الأنعام " قال عز وجل: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفًا أكله والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تُسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) (الأنعام: 141).
فَنَبَّه الله عباده بهذه الآية على أن فيما تُخرج الأرض من زرع وثمر: حقًا لازمًا، يجب إيتاؤه يوم الحصاد.(1/64)
عن سعيد بن جبير قال: كان هذا قبل أن تنزل الزكاة: "الرجل يعطى من زرعه، ويعلف الدابة، ويعطى اليتامى والمساكين، ويعطى الضغث".
فهذا حق مطلق غير مقيد بعشر أو نصف عُشر، بل هو متروك لإيمان صاحب الزرع والثمر، وحاجة المساكين من حوله، وعرف الناس في بلده، ثم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصاب هذا الحق، ومقداره في المدينة، بما أوجبه من العُشر أو نصفه، فيما بلغ خمسة أوسق من الحب والثمر، وقد سمى بعضهم هذا البيان نسخًا لما كان في مكة. ولكنه ليس النسخ المصطلح عليه عند المتأخرين. كما سنبين ذلك في "زكاة الزروع والثمار".
إلى الفهرس
إيتاء الزكاة في مكة
هذه جملة من أساليب القرآن المكي، في الدعوة إلى رعاية الفقراء والمساكين، وإيتائهم حقوقهم من المال، حتى لا يضيعوا في مجتمع من المؤمنين.
وقد توجت هذا الأساليب بأسلوب آخر هو "إيتاء الزكاة" ثناء على فاعليها أو ذمًا لتاركيها، كما نرى ذلك واضحًا في مجموعة من سور القرآن المكية.(1/65)
ففي سورة "الروم" يأمر الله تعالى بأداء حق القريب والمسكين، وابن السبيل، ويوازن بهن أثر الربا الذي يزيد المال في الظاهر، وينقصه في الحقيقة - وبين أثر الزكاة - التي تنقص المال ظاهرًا وتنمية باطنًا - يقول الله تعالى: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، ذلك خير للذين يريدون وجه الله، وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربًا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) (الروم: 38 - 39).وفي مطلع سورة "النمل" وصف الله المؤمنين الذي جعل كتابه هدى لهم وبشرى فقال: (تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) (النمل: 1-3). وفي عطف إيتاء الزكاة على إقامة الصلاة دليل على أنها زكاة المال، كما هي سنة القرآن . وفي مطلع سورة "لقمان" قال: (هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) (لقمان: 3 - 4).... الآية.
وما قيل في الآية السابقة يقال هنا. وقال في سورة "المؤمنين" يبين أوصاف المؤمنين الذين يرثون الفردوس: (والذين هم للزكاة فاعلون) (المؤمنون: 4).(1/66)
وفي سورة "الأعراف" أثناء ذكره تعالى لقصة موسى وقومه قال: (ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) (الأعراف: 156 - 157). وفي سورة "فصلت" توعد الله المشركين، وذكر أخص أوصافهم، فكان عدم إيتاء الزكاة والكفر بالآخرة. قال سبحانه: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) (فصلت: 6 - 7). فإذا كان المؤمنون المحسنون يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون، فهؤلاء لا يؤتون الزكاة وبالآخرة هم كافرون. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس وطهارتها من الرذائل، وعلى رأسها الشرك. كقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) الشمس: 9، (قد أفلح من تزكى) (الأعلى:14). وذلك فرار من القول بالزكاة المالية التي اشتهر أنها لم تشرع إلا بالمدينة. ورد ابن جرير الطبري هذا القول واختار أن المعنى: لا ينفقون من أموالهم زكاتها، ومما استدل به على ذلك: اشتهار لفظ "الزكاة" في زكاة المال (انظر تفسير الطبري: 24/93 - ط. الحلبي). ومما يؤيد اختيار الطبري: اقتران الزكاة بالإيتاء، والإيتاء هو: الإعطاء، وأولى شئ بذلك هو زكاة المال. والملاحظ في حديث السور المكية عن "الزكاة": أنها لم توردها بصيغة "الأمر" الدال على الوجوب دلالة مباشرة، ولكنها أوردتها في صورة خبرية باعتبارها وصفًا أساسيًا للمؤمنين والمتقين والمحسنين (يُستثنى من ذلك ما جاء في الآية الأخيرة من سورة المزمل: (فاقرأوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وهذا على القول بأنها مكية، كما هو مذهب بعض العلماء، ويرى آخرون أنها مدنية، معضدين ذلك بمضمون الآية واختلاف حجمها وفاصلتها عن بقية آيات السورة.)، الذين يؤتون الزكاة أو الذين هم للزكاة فاعلون، والذين خصهم الله بالفلاح: (وأولئك هم المفلحون) (الروم: 38)، كما أخبر أن تركها من خصائص المشركين: (الذين لا يؤتون الزكاة)(1/67)
(فصلت: 7).
وإذا كان إيتاء الزكاة من الأوصاف الأساسية للمؤمنين المفلحين، وتركها من الأوصاف اللازمة للمشركين، فذلك يدل على الوجوب، إذ التحلي بصفات المؤمنين، والخروج عن خصائص المشركين، أمر واجب لا نزاع فيه. يضاف إلى ذلك الأمر في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام: 141).
الزكاة في العهد المكي زكاة مطلقة
ولكن المعروف في تاريخ التشريع الإسلامي: أن الزكاة فرضت في المدينة. فكيف يتفق هذا وذكر القرآن لها في آيات كثيرة من سوره المكية؟.
والجواب: أن الزكاة التي ذكرت في القرآن المكي، لم تكن هي بعينها الزكاة التي شرعت بالمدينة، وحددت نصبها ومقاديرها، وأرسل السعاة لجبايتها وصرفها، وأصبحت الدولة مسئولة عن تنظيمها. الزكاة في مكة كانت زكاة مطلقة من القيود والحدود، وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد وأريحيتهم وشعورهم بواجب الأخوة نحو إخوانهم من المؤمنين. فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذل الكثير أو الأكثر. وقد استنتج بعض الباحثين من تعبيرات القرآن في السور المكية: (حقه) (الإسراء: 26) و(حق للسائل والمحروم) (الذاريات: 19) و (حق معلوم) (المعارج: 24).. في الآيات، أنها يمكن أن تلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حدد مقادير معينة على أموال القادرين من المسلمين زكاة عن أموالهم المتنوعة (سيرة الرسول - صورة مقتبسة من القرآن الكريم تأليف محمد عزة دروزة 2/341).
ولكن لم ينقل ما يؤيد هذا الاستلهام، بل نقل ما يخالفه. ولم تكن هناك حاجة إلى هذا التحديد، والقوم يبذلون أنفسهم وكل ما بأيديهم. وليس من الضروري ألا يكون الحق معلومًا إلا بتعيين النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يصح أن يكون معلومًا بتعيين المنفق نفسه، كما ذكر المفسرون، أو بتعيين العرف حسب المصلحة والحاجة.(1/68)
قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة "المؤمنين" عند قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون) (المؤمنون:4): "الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة. قال تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية: (وآتوا حقه يوم حصاده) (تفسير ابن كثير 3/238، 239 - ط. الحلبي، والآية من سورة الأنعام: 141).
وهذا الذي استظهره هنا تعضده الآيات الكثيرة التي سقناها.
إلى الفهرس
الزكاة في العهد المدني
كان المسلمون في مكة أفرادًا مصادرين في دعوتهم. أما في المدينة فهم جماعة لها أرض وكيان وسلطان. فلهذا اتخذت التكاليف الإسلامية صورة جديدة ملائمة لهذا الطور: صورة التحديد والتخصيص، بعد الإطلاق والتعميم، صورة قوانين إلزامية بعد أن كانت وصايا توجيهية فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوة والسلطان، مع اعتمادها على الضمير والإيمان. وظهر هذا الاتجاه المدني في الزكاة: فحدد الشارع الأموال التي تجب فيها، وشروط وجوبها، والمقادير الواجبة، والجهات التي تصرف لها وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها.
القرآن المدني يؤكد وجوب الزكاة ويبين بعض أحكامها
جاء القرآن المدني فأعلن وجوب الزكاة بصيغة الأمر الصريح، ودعا بصورة واضحة إلى إيتائها، فترى في سورة البقرة، هذه العبارة: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (البقرة: 110).. كما جاء تأكيد وجوبها بصيغ وأساليب شتى. والمجال هنا فسيح، ولكنى أختار سورة واحدة لعرض أهم ما جاء فيها عن الزكاة، وهي سورة التوبة، لأنها من أواخر ما نزل من القرآن.
سورة التوبة نموذج للقرآن المدني في العناية بالزكاة(1/69)
( أ ) في مطالع هذه السورة التي أمر الله فيها بقتال المشركين، الناكثين للعهود، الذين ضرب لهم مهلة أربعة أشهر، يسيحون فيها في الأرض ويختارون لأنفسهم، قال تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم) (التوبة:5).
فهذه ثلاثة شروط للكف عن قتال هؤلاء وتخلية سبيلهم.
أولها: التوبة عن الشرك، ودليله أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ثانيها: إقامة الصلاة المفروضة على المسلمين، وهي مظهر الأيمان وأعظم أركان الإسلام المطلوبة في كل يوم من الأيام، والفيصل بين المسلم والكافر، وهي الرابطة الدينية الروحية الاجتماعية بين المسلمين.
ثالثها: إيتاء الزكاة المفروضة في أموال الأغنياء لذوى الحاجات، ولمصلحة الأمة العامة، وهي الرابطة المالية الاجتماعية السياسية بين جماعة المسلمين.
(ب) وبعد ست آيات من السورة نفسها قال الله تعالى في شأن قوم آخرين من المشركين:(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون) (التوبة: 11).
فلا يتحقق لكافر الدخول في جماعة المسلمين، وتثبت له أخوتهم الدينية، التي تجعله فردًا منهم له ما لهم، وعليه ما عليهم، وتربطه بهم رباطًا لا تنفصم عراه - إلا بالتوبة عن الشرك وتوابعه وإقامة الصلوات التي بها يلتقي المسلمون على طاعة الله، ويتعارفون ويتحابون، وإيتاء الزكاة التي بها يتواسون ويتكافلون. وقد نبه العلماء منذ عهد الصحابة - رضى الله عنهم - على أمر جدير بالذكر، وهو: أن سنة القرآن أن يقرن الزكاة بالصلاة، وقلما تنفرد إحداهما عن الأخرى.(1/70)
قال عبد الله بن مسعود: "أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يُزَكِّ فلا صلاة له" (تفسير الطبري: 14/153 - ط. المعارف). وقال ابن زيد: " افترضت الصلاة والزكاة جميعًا، لم يفرق بينهما، وقرأ: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه" (تفسير الطبري: 14/153 - ط. المعارف - والآية من سورة التوبة:11) يعنى بذلك قوله: "لا أفرق بين شيئين جمعهما الله".
(جـ) وفي السورة ذكر الله تعالى عمار مساجده الذين هم أهل القبول عنده، فقال تعالى:(إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) (التوبة: 18).
فلم يجعلهم أهلاً للقبول عنده - وإن عمروا مساجده - حتى يؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
( د ) وفي السورة ذكر الله تعالى وعيده الشديد لكانزي الذهب والفضة الذين لا يؤدون منها حق الله، فقال تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 34 - 35). قال العلماء: إنما عظم الوعيد في الباب، لما في جبلات العباد من الشح على المال والبخل به، فإذا خافوا من عظيم الوعيد لانوا في أداء الطاعة (أحكام القرآن لابن العربي قسم 2 ص924).(1/71)
(هـ) وفي السورة بيان للأشخاص والجهات التي تصرف لها، وفيها الصدقات... وكان هذا البيان ردًا على الطامعين الشرهين الذين سال لعابهم للأخذ من أموال الزكاة بغير حق، قال تعالى: (ومنهم - أي من أهل النفاق - من يلمزك في الصدقات فإن أُعْطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم) (التوبة: 58 - 60). وبهذه الآية الحاسمة قطع الله أطماع الطامعين، وسد أفواه الشرهين، ولم يجعل توزيع الزكاة تبعًا لرغبة طامع، أو هوى حاكم، بل تولى قسمتها بنفسه على مصارفها الثمانية، ومن أعدل من الله فيما قسم؟ (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة: 50).
وفي الآية دلالة على أن الزكاة تجبى وتصرف بواسطة " العاملين عليها " مما يبين لنا أن الزكاة تتولاها الحكومة لا الأفراد - كما سنفصل ذلك بعد.
( و ) وفي السورة بيان لمقومات المجتمع المؤمن، إذ يقول تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم) (التوبة: 71). فجعل الله الزكاة أحد المقومات التي يتميز بها المؤمنون عن المنافقين، الذين وصفهم الله قبل ذلك بآيات بقوله:(المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم، نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون) (التوبة: 67). فهؤلاء يقبضون أيديهم حرصًا وشُحًّا، فاستحقوا نسيان الله (أي تركه لهم وتخليه عنهم). أما أولئك المؤمنون فيبسطون أيديهم بذلاً وإيمانًا، فاستحقوا أن يرحمهم الله.(1/72)
(ز) وفي السورة خاطب الله رسوله، وكل من يقوم بأمر الأمة من بعده، فقال عز وجل: (خذ من أموالهم صدقة تُطَهِّرهم وتُزَكِّيهم بها وصلِّ عليهم، إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم) (التوبة: 103). قال المفسرون في هذه الآية: (خُذ من أموالهم صدقة): أدخل "من" على الأموال للتبعيض، لأن الصدقة المفروضة ليست جميع المال، وإنما هي جزء منه. وإنما قال: "من أموالهم"... ولم يقل من مالهم، ليكون مشتملاً على أجناس المال كلها، والضمير في "أموالهم" يعود إلى كافة المسلمين كما عليه جمهور أهل التفسير.
وهذا دليل على وجوب الأخذ من أموال جميع المسلمين، لاستوائهم في أحكام الدين (انظر تفسير مجمع البيان للطبرسي في تفسير الآية من سورة التوبة).
والآية تدل على أن الزكاة يأخذها الإمام أو نائبه، كما صدقت ذلك السنة والتطبيق العملي للخلفاء الراشدين. وسنفصل ذلك في باب "أداء الزكاة ".
وقد تعلق المتمردون المانعون للزكاة في عهد أبى بكر بظاهر هذه الآية، وقالوا: إنها خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه. وقد رد العلماء عليهم هذه الشبهة الواهية، وهذا الزعم الساقط، كما سنبين ذلك قريبًا.(1/73)
وقال بعض العلماء: إن الصدقة في الآية المذكورة لا تعنى الزكاة، فهي واردة فيمن تخلف عن غزوة تبوك، ممن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، فالضمير عائد إليهم، والصدقة المأخوذة منهم لتكفير ذنوبهم، فهي كصدقة النفل، وهي خاصة بهم كما يشعر به السياق، وليس مما تكون العبرة فيه بعموم اللفظ لا خصوص السبب عند الأصوليين، وأما الواجبة فهي لا تخصهم، ولا يصلح تخلفهم سببًا لها، لأن الزكاة من حق الإسلام، لا من موجبات الجنايات (الروض النضير: 2/410) وهذا هو اختيار الطبري، ونقله عن عدد من أهل التأويل (تفسير الطبري: 14/454 - 456 - ط. المعارف). ولكن رجح كثير من المفسرين أن المراد بالصدقة في الآية: "الزكاة". وجمهور السلف والخلف استدلوا بها على جملة أحكام في باب الزكاة، مما يدل على أن السياق غير مانع من إرادة الزكاة على سبيل الاستئناف، إذ ارتباط الآية بما قبلها وما بعدها ليس لازمًا إلا بدليل، وهذا مروى عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري (تفسير القرطبي: 8/244، وانظر في ذلك تفسير ابن كثير: 2/385، 386، وأحكام القرآن لابن العربى ص997 - 998، والتفسير الكبير للفخر الرازي: 16/177 وما بعدها، ومحاسن التأويل للقاسمي: 8/3253).
على أن هناك وجهًا مناسبًا للارتباط ذكره الرازى، وهو أن الزكاة كانت واجبة عليهم، فلما تابوا من تخلفهم، وحسن إسلامهم، وبذلوا الزكاة: أمر الله رسوله أن يأخذها منهم، حيث لم تقبل الزكاة من بعض المنافقين (راجع تفسير الرازي والقاسمي المذكورين).
وعلى أن خصوص سببها لا ينافي عموم لفظها، كما هو الصحيح عند الأصوليين.(1/74)
وأبرز دليل على أن المراد بها "الزكاة": استدلال المانعين لها في عهد الصِّدِّيق بالآية، وتشبثهم بأن الخطاب فيها خاص بالرسول - كما ذكرنا وسنذكره بعد - ولم يرد عليهم أحد من الصحابة - وهم أعرف بالآية وما نزلت فيه - بأن الآية في غير الصدقة الواجبة، وكذلك علماء الأمة من بعدهم، وكل ما قالوه: إن الخطاب عام للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل من يقوم بالأمر من بعده (انظر تفسير ابن كثير والقاسمي المذكورين).
ومن القرائن على أن المراد بالصدقة في الآية: "الزكاة" ؛ ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض فتيان بنى هاشم ممن طلب منه أن يوليه على عمالة الزكاة فقال: "إنها لا تحل لنا آل محمد، إنما هي أوساخ الناس".
فهذه العبارة المجازية التصويرية تومئ إلى العلاقة بينها وبين قوله تعالى في الآية: (تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103).
ومما يقوى ذلك أيضًا ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبى أوفي قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بصدقة قوم صلى عليهم، فأتاه أبى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبى أوفي".
فيفهم منه أن هذا تطبيق من الرسول الكريم لأمر ربه في الآية الكريمة: (وصل عليهم). أي: ادع لهم.
ومن الآية استدل كافة العلماء على أنه ينبغي للإمام أو نائبه أن يدعو لمعطى الزكاة.
ذلك أهم ما جاء في سورة "التوبة" عن الزكاة، وهي تمثل بوجه عام اتجاه القرآن المدني، في تأكيد وجوب الزكاة وبيان أهم أحكامها.
إن الإنسان في نظر القرآن لا ينال البر، ولا يستحق وصف الأبرار الصادقين ولا يدخل في زمرة المتقين، ولا ينتظم في سلك المؤمنين إلا بإيتاء الزكاة.
بغير الزكاة لا يفارق المشركين، الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون.
وبغير الزكاة لا يتميز من المنافقين الذين يقبضون أيديهم، ولا ينفقون إلا وهم كارهون.(1/75)
وبغير الزكاة لا يستحق رحمة الله التي أبى أن يكتبها لمانعي الزكاة: (ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) (الأعراف: 156).
وبغير الزكاة لا يستحق ولاية الله ولا رسوله ولا المؤمنين:(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (المائدة: 55 - 56).
وبغير الزكاة لا يستحق نصر الله الذي وعد به من نصره: (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوى عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور) (الحج: 40 - 41) .
إلى الفهرس
السنة تؤكد وتبين ما أجمله القرآن(1/76)
القرآن دستور الإسلام ومرجعه الأساسي، لهذا اشتمل على القواعد الكلية، والمبادئ العامة، ولم يتعرض للجزئيات والتفصيلات إلا فيما يخشى أن تضطرب فيه الآراء، وتضل عنه الأهواء. أما السنة فهي البيان القولي، والتطبيق العملي للقرآن: تفسر ما أبهمه، وتفصل ما أجمله، وتحدد ما أطلقه، وتخصص ما عممه، وفقًا لما فهم الرسول المعصوم عن ربه. وقد قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: 44). وفي الزكاة جاءت السنة بتأكيد ما جاء به القرآن من وجوب الزكاة، وذلك منذ العهد المكي. نجد جعفر بن أبى طالب المتحدث باسم المسلمين المهاجرين إلى الحبشة يخاطب النجاشي ويخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول له فيما قال له: " ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " (رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أم سلمة). والمراد بذلك مطلق الصلاة والصيام والزكاة، لا الصلوات الخمس، ولا صيام رمضان، ولا الزكاة المخصوصة ذات النصب والحول؛ إذ أن هذه الفرائض المحددة لم تكن شرعت بعد (فتح الباري: 3/171). أما في المدينة فقد كانت مجالاً رحبًا للحديث عن فريضة الزكاة: لتحديد نصبها ومقاديرها وشروطها، ولبيان مكانتها، والترغيب في أدائها، والترهيب من منعها، ولإعطاء الصور العملية لتنفيذها.
الباب الأول
وجوب الزكاة ومنزلتها في الإسلام
تحديد السنة لنصب الزكاة ومقاديرها
جاءت السنة ببيان الأموال التي تجب فيها الزكاة، ونصاب كل منها، ومقدار الواجب فيها، وفصلت القول في الأشخاص والجهات التي تصرف لها وفيها الزكاة، وهي المذكورة في آية: (إنما الصدقات...) (التوبة:60)، وسنفصل القول في ذلك كله فيما بعد - ولكن الذي يهمنا معرفته هنا هو تاريخ فرض هذه الزكاة ذات النصب والمقادير المحددة.(1/77)
فقد عرفنا أن الزكاة المطلقة غير المقدرة فرضت في مكة، كما اخترناه ورجحه كثير من الأمة، وكما دلت عليه آيات القرآن وأحاديث الرسول. وعرفنا أن القرآن المدني أكد وجوب الزكاة، وفصل بعض أحكامها، وأن السنة هي التي تولت تفصيل ما أجمله القرآن، وبينت النصب والمقادير والحدود، فمتى وقع هذا التحديد في العهد المدني؟ أو بعبارة أخرى: في أي سنة بعد الهجرة وقع فرض الزكاة المحدودة؟.
المشهور المتعالم: أنها فرضت في السنة الثانية من الهجرة، قيل: قبل فرض رمضان، وإليه أشار النووى في باب "السير" في الروضة.
ويعكر عليه ما ثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فريضة الزكاة" (الحديث).
قال الحافظ: إسناده صحيح. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان. وقد اتفقوا على أن صيام رمضان إنما فرص بعد الهجرة، لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف (فتح الباري: 3/171).
وجزم ابن الأثير في تاريخه: أن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وقوى بعضهم ما ذهب إليه بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: "لما نزلت آية الصدقة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملاً يأخذها منه. فقال: ما هذه إلا جزية، وأخت الجزية".. والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة.
قال في الفتح: ولكن الحديث ضعيف لا يحتج به (بل قال في تخريج الكشاف ص77: ضعيف جدًا).(1/78)
واستدل الحافظ على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة بحديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة (في الصحيحين) الذي جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وينشده الله أن بصدقة الجواب في عدة أمور كان منها: أنشدك الله، الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال "نعم". وكان قدوم ضمام سنة خمس. وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعى تقدم فرضية الزكاة قبل ذلك (فتح الباري - المرجع السابق). على أن آية: (إنما الصدقات).التي رد الله بها على الطامعين الذين إذا أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون، وهم المنافقون الذين طعنوا في قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للصدقات - هذه الآية تدل على أن الزكاة كانت قائمة ومنفذة فعلاً، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتولى أمرها وتوزيعها، وذلك قبل نزول هذه الآية بلا ريب.
الزكاة بعد الصيام
والذي يتبين لنا من مجموع الأخبار والآثار، والنظر في تاريخ تشريع الفرائض الإسلامية المعروفة: أن الصلوات الخمس كانت أول ما فرض على المسلمين، وذلك في مكة ليلة الإسراء كما هو متعالم، ثم فرض بعدها الصيام بالمدينة في السنة الثانية، وفرضت معه زكاة الفطر، طهرت للصائم من اللغو والرفث، وإغناء للمساكين في يوم العيد. ثم فرضت الزكاة في الأموال بعد ذلك. أعني الزكاة المحدودة ذات النصب والمقادير، إلا أننا لا نجد دليلاً حاسمًا على تعيين السنة التي وقع فيها هذا التحديد. وفي حديث ضمام بن ثعلبة الذي وفد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة الخامسة ما يرجح أن الزكاة كانت مفروضة معروفة قبل قدومه، كما ذكر الحافظ ابن حجر.(1/79)
ذكر ابن مفلح في " الفروع " ما رواه الوالبي عن ابن عباس قال: إن الله بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم -، بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدقوا بها زادهم الصلاة، فلما صدقوا بها زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد. ثم أكمل لهم دينهم، فقال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة:3).. وكذلك ذكر ابن عقيل في " الواضح " في مسألة النسخ: أن الزكاة بعد الصوم " (الفروع في الفقه الحنبلي: 2/317، 318 - ط. ثانية).
إلى الفهرس
الزكاة ثالثة دعائم الإسلام(1/80)
أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فرضية الزكاة وبين مكانها في دين الله، وأنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدين، ورغب في أدائها ورهب من منعها بأحاديث شتى، وأساليب متنوعة، تقرأ في حديث جبريل المشهور حين جاء يعلم المسلمين دينهم بحسن السؤال: أنه سأل - النبي - صلى الله عليه وسلم - ما الإسلام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" (متفق عليه). وفي حديث ابن عمر المشهور: "بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً " (متفق عليه). أعلن الرسول عليه السلام في هذين الحديثين وغيرهما أن أركان الإسلام خمسة، بدأها بالشهادتين، وثناها بالصلاة، وثلثها بالزكاة. فالزكاة في السنة - كما هي في القرآن - ثالثة دعائم الإسلام، التي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها. وقد يكتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان بذكر بعض هذه الأركان الخمسة دون بعض، بيد أن الصلاة والزكاة كانتا دائمًا في مقدمة ما يأمر به، ويدعو إليه، ويبايع عليه. ومن ذلك حديث ابن عباس في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذ (قال الشوكاني: كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكره البخاري في أواخر المغازى، وقيل: كان ذلك سنة تسع عند منصرفه من تبوك... وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان... واتفقوا على أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبى بكر، واختلفوا هل كان واليًا أو قاضيًا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني والنسائي بالأول (نيل الأوطار: 4/115 المطبعة العثمانية المصرية - طبعة أولى). بن جبل إلى اليمن فقال له: " إنك تأتى قومًا من أهل الكتاب (قال له ذلك تنبيهًا على أهمية(1/81)
الوصية لتستجمع همته عليها؛ لأن أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا يكون في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان).، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك (بالإقرار بوجوبها عليهم والتزامهم بها أو امتثالهم بالفعل). فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (اكتفي بذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك، وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء).، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم (الكرائم: جمع كريمة، أي نفيسة فلا يجوز للجابي أخذ خيار المال، لئلا يجحف بالمالك إلا برضاه). واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ".
وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لشدة اهتمام الشارع بهما، وخاصة إذا كان المقام مقام الدعوة إلى الإسلام، فيكتفي بهما مع الشهادة (أما ما أجاب به ابن الصلاح: أن ذلك تقصير من بعض الرواة، فتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الثقة بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان "نيل الأوطار:4/116") كما في قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11).
وقد دل الحديث على بعث السعاة الذين يقومون بجمع الزكاة وتفريقها، وأن الزكاة من شأنها أن تؤخذ لا أن تترك للأفراد وحدهم، وهو تأييد لآية: (خُذ من أموالهم صدقة) (التوبة:103).
ويروى البخاري عن جرير بن عبد الله قال: "بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة "... (الحديث).(1/82)
والمراد بالناس هنا: الوثنيون من العرب، الذين نكثوا العهود وتعدوا الحدود، ولم يعد إلى مسالمتهم من سبيل، إذ لم يكن لهم دين يردعهم، ولا قانون يهيمن عليهم، ولا حاكم يأتمرون بأمره. قد أراد الله أن تكون أرض العرب حرم الإسلام ومعقله، فلا بد من تطهيرها من رجس الشرك، ورواسب الجاهلية العمياء المتجبرة في الأرض. وفي حديث أنس - عند البزار - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لا يشرك به، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض". قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث، واختلاف الهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل، قال الله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (التوبة: 5). قال: توبتهم خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ثم قال في آية أخرى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (تفسير ابن كثير:2/236 - والآية من سورة التوبة: 11).
إلى الفهرس
التحذير الشديد من منع الزكاة
وفي أحاديث أخرى: أنذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مانعى الزكاة بالعذاب الغليظ في الآخرة؛ لينبه بهذا الوعيد القلوب الغافلة، ويحرك النفوس الشحيحة إلى البذل، ويسوقها بعصا الترغيب والترهيب إلى أداء الواجب طوعًا، وإلا سيقت إليه بعصا القانون وسيف السلطان كرهًا.
العذاب الأخروي(1/83)
روى البخاري عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يُطَوِّقُه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) (آل عمران: 180). الشجاع: الحية الذكر... والأقرع: الذي لا شعر له، لكثرة سمه، وطول عمره. الزبيبتان: نقطتان سوداوان فوق العينين وهو أخبث الحيات.
وروى مسلم عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدِّى حقها إلا جُعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أُحْمِىَ عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإما إلى النار. وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدى حقها إلا أُتِىَ بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما مضى عليه أخراها رُدَّت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون. ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ".
العقوبة الدنيوية لمن منع الزكاة:.(1/84)
ولم تقف السنة عند حد الوعيد بالعذاب الأخروي لمن يمنع الزكاة. بل هددت بالعقوبة الدنيوية - الشرعية والقدرية - كل من يبخل بحق الله وحق الفقير في ماله. وفي العقوبة القدرية - التي يتولاها القدر الأعلى - يقول عليه الصلاة والسلام: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين" (رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات، والحاكم البيهقي في حديث إلا أنهما قالا: "ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر" وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. الترغيب والترهيب: 1/270 - ط. المنبرية. ومجمع الزوائد: 3/96) - جمع سنة - وهي المجاعة والقحط. وفي حديث ثان: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا" (رواه ابن ماجة والبزار البيهقي واللفظ له من حديث ابن عمر - المصدر نفسه. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وله شواهد، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني - الحديث رقم "105"). وفي حديث آخر: "ما خالطت الصدقة - أو قال: الزكاة - مالاً إلا أفسدته" (رواه البزار البيهقي كما في الترغيب. وقال في المنتقى: رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد: يكون قد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال. نيل الوطار: 4/126) .
وهذا الحديث يتحمل معنيين كما قال المنذري
الأول: أن الصدقة - بمعنى الزكاة - ما تركت في مال ولم تخرج منه إلا كانت سببًا في هلاكه وفساده. ويشهد لهذا المعنى ما روى في حديث آخر: "ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة" (قال في مجمع الزوائد (3/93): رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمر بن هارون وهو ضعيف).
الثاني: أن الرجل يأخذ الزكاة وهو غنى عنها، فيضعها مع ماله، فيهلكه. وبهذا فسر الإمام أحمد (الترغيب والترهيب، المرجع السابق).
العقوبة الشرعية لمانع الزكاة(1/85)
وفي العقوبة الشرعية القانونية - التي يتولاها الحاكم أو ولى الأمر - جاء قوله - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة: "من أعطاها مؤتجرًا فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شئ" (رواه أحمد والنسائي وأبو داود من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده " معاوية بن حيدة "، ورواه البيهقي في سننه: 4/105، وقال هذا حديث أخرجه أبو داود في "السنن". فأما البخاري ومسلم رحمهما الله فلم يخرجاه، جريًا على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راوٍ واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين. ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه فلم يخرجا حديثه في الصحيح والله أعلم. وتعقبه ابن التركماني في "الجوهر النقي" بما يدل على أن عادة الشيخين التي ذكرها البيهقي غالبة لا مطردة، وانظر الكلام على الحديث في نيل الأوطار: 4/312 - ط. العثماينة -سيأتي مزيد من كلام عن هذا الحديث في الباب الخامس، فليراجع هناك-).
تضمن هذا الحديث الكريم جملة مبادئ هامة في باب الزكاة أحدها: أن الأصل في الزكاة أن يعطيها المسلم مؤتجرًا، أي طالبًا الأجر، ومحتسبًا الثواب عند الله تعالى، لأنه يتعبد لله بأدائها، فمن فعل ذلك فله أجره، ومثوبته عند ربه.
الثاني: أن من غلب عليه الشح وحب الدنيا، ومنع الزكاة لم يترك وشأنه، بل تؤخذ منه قهرًا، بسلطان الشرع، وقوه الدولة، وزيد على ذلك فعوقب بأخذ نصف ماله تعزيرًا وتأديبًا لمن كتم حق الله في ماله، وردعًا لغيره أن يسلك سبيله.(1/86)
وقد قيل: إن هذا كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ (ذكر ذلك الشيرازي في المهذب "المجموع: 5/332" ورد عليه النووي ص 334)، ولكن لا دليل على النسخ، ولا يثبت بالاحتمال. والذي أراه: أن هذه عقوبة مفوضة إلى تقدير الإمام. ينفذها حيث يرى تمادى الناس في منع الزكاة، ولم يجد سبيلاً لزجرهم غير هذا. وسنعود لهذه المسألة في باب "أداء الزكاة".
الثالث: أن هذا التشديد في أمر الزكاة إنما هو لرعاية حق الفقراء والمستحقين الذين فرض الله لهم الزكاة، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله، فليس لهم نصيب في هذه الزكاة ولا يحل لهم منها شئ. على خلاف ما عرف في الصدقات عند اليهود، حيث كان عُشرها مخصصًا لآل هارون (اللاويين)الذين كانوا كهانًا بالنسل والوراثة , وكان جزء آخر منها يصرف إلى أصحاب المناصب الدينية (انظر: الأركان الأربعة للأستاذ أبى الحسن الندوي ص129).
إلى الفهرس
قتال الممتنعين من أداء الزكاة
ولم يقف الإسلام عند عقوبة مانع الزكاة بالغرامة المالية، أو بغيرها من العقوبات التعزيرية، بل أوجب سل السيوف وإعلان الحرب على كل فئة ذات شوكة تتمرد على أداء الزكاة. ولم يبال في سبيل ذلك بقتل الأنفس، وإراقة الدماء التي جاء لصيانتها والمحافظة عليها.لأن الدم الذي يراق من أجل الحق لم يضع هدرًا. النفس التي تقتل في سبيل الله وإقامة عدله في الأرض لم تمت. ولن تموت.(1/87)
هذا إذا نظرنا إلى أنفس المؤمنين المقاتلين من أجل الحق، المدافعين عن شرع الله. أما أنفس الآخرين الذي عصوا الله ورسوله، وامتنعوا من أداء حقه، ولم يرعوا أمانة ما استخلفهم فيه من ماله، فقد أهدروا هم بتصرفهم ما ثبت لهم من الحرمة، ونقضوا - بسبب سلوكهم - ما لأنفسهم وأموالهم من العصمة. وهذا الأمر - قتال المتمردين على الزكاة - قد ثبت بالأحاديث الصحيحة وبإجماع الصحابة رضى الله عنهم. أما الأحاديث فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". (أخرجه الشيخان والنسائي وأخرج مسلم والنسائي نحوه من حديث جابر بن عبد الله) (نيل الأوطار: 4/121 - ط. العثمانية). فهذه الأحاديث تدل دلاله صريحة على أن مانع الزكاة يُقاتل حتى يعطيها. والظاهر أنها بهذه الألفاظ الصريحة لم تبلغ الصدَّيق ولا الفاروق (ليس بمستغرب، فقد يسمع بعض الصحابة ما لم يسمع الآخر، وقد قال عمر في حديث أبى موسى في الاستئذان: ألهاني عنى الصفق بالأسواق. ولا يبعد أن يكون الصديق قد سمع الحديث الصريح ولكنه رد على عمر أخذًا من الحديث الذي احتج به نفسه فقلب عليه حجته واستظهر بهذا الدليل النظري).رضى الله عنهما، حين تحاورا في جواز قتال مانعي الزكاة إذا أقروا بشرائع الإسلام الأخرى كالصلاة والصيام. ففي عهد الخليفة الأول لرسول الله، تمردت قبائل شتى من العرب على أداء الزكاة واكتفوا من الإسلام بالصلاة دون الزكاة، وظاهروا بموقفهم المرتدين المارقين(1/88)
الذين اتبعوا زعماءهم من أدعياء النبوة، مثل مسيلمة الكذاب وقومه، سجاح وقومها، وطليحة الأسدي وقومه. كان موقف أبى بكر موقفًا تاريخيًا فذًا، فلم يقبل التفرقة أبدًا بين العبادة البدنية (الصلاة) والعبادة المالية (الزكاة) ولم يقبل التهاون في أي شئ كان يؤدى لرسول الله ولو كان عنزة صغيرة أو عقال بعير. ولم يثن من عزمه: تحفزات المتنبئين الكذابين، وما يتوقع من خطرهم على المدينة، ولم يضعف من إصراره على قتالهم اشتباه بعض الصحابة في أمرهم.
ولندع راوية الصحابة الأول أبا هريرة - رضى الله عنه - يروى لنا هذا الموقف الرائع: قال لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب فقال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى"؟.
فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبى بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (رواه الجماعة إلا ابن ماجة). وفي رواية بعضهم: "عقالاً" بدل "عناقًا" (نيل الأوطار: 4/119 - ط العثمانية. والعناق: الأنثى من أولا المعز، والعقال: الحبل الذي يعقل به البعير. وقيل: العقال زكاة عام وله شواهد في اللغة، ورد بعض المحققين بأنه تعسف وذهاب عن طريقة العرب، لأن الكلام خرج مخرج التشديد والتضييق والمبالغة، فيقتضي قلة ما علق به العقال وحقارته، وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى.- المرجع نفسه).
تعلق الفاروق بظاهر الكلام دون أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه، فرأي أن الدخول في الإسلام يعصم الدم والمال كما هو عموم الحديث.
واحتج الصديق بأمرين:(1/89)
أحدهما: نص الحديث الذي علق هذه العصمة على شرط فقال: "إلا بحقها" والزكاة حق المال، وهذا لا يخالف فيه عمر ولا غيره.
وثانيهما: قياس الزكاة على الصلاة، فهي أختها وقرينتها في كتاب الله وسنة رسوله. ويبدو من احتجاج أبى بكر: أن عمر والصحابة كانوا مجمعين على قتال الممتنع جهرة من الصلاة، فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه. فلما استقر عند عمر صحة رأي أبى بكر، وتبين له صوابه: تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق "يشير - كما قال الخطابى - إلى الحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصًا ودلالة (نفس المصدر ص120، وانظر معالم السنن: 2/165). هذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق - رضى الله عنه - بمن أصر من العرب على منع الزكاة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما أقره عليه الصحابة الأعلام، الذين أجمعوا معه على قتالهم، حتى من اشتبه أول الأمر في شأنهم. وبهذا صار قتال الممتنعين عن الزكاة من مواضع الإجماع في شريعة الإسلام. قال الإمام النووي: إذا منع واحد أو جمعٌ الزكاة وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم، لما ثبت في الصحيحين من رواية أبى هريرة: أن الصحابة - رضى الله عنهم - اختلفوا أولاً في قتال مانعي الزكاة، ورأي أبو بكر - رضى الله عنه - قتالهم، واستدل عليهم، فلما ظهرت لهم الدلائل وافقوه، فصار قتالهم مجمعًا عليه. ولعل الدولة الإسلامية في عهد أبى بكر هي أول دولة - فيما يعرف التاريخ - تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة في المجتمع، التي طالما أكلتها الطبقات القوية، ولم تجد عونًا لدى الحكام الذين كانوا يقفون دومًا في صف الأغنياء والأقوياء. هذا ولم يبال أبو بكر ولا من معه من الصحابة بتلك الشبهة الواهية التي تعلق بها بعض المانعين للزكاة.(1/90)
فقد تمسك أولئك بظاهر الآية الكريمة من سورة التوبة: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم) (المجموع: 5/334 - والآية من سورة التوبة: 103).
قالوا: فهذا: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوال تكليفها بموته. وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطينا عوضًا عن الزكاة التطهير والتزكية لنا، والصلاة علينا، وصلاته سكن لنا، وقد عدمنا ذلك من غيره. والشبهة التي تمسك بها القوم واهية الأساس، حتى قال القاضي أبو بكر بن العربى: هذا كلام جاهل بالقرآن، غافل من مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، متهافت في النظر (أحكام القرآن:2/995).
فإن الخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأصل، فهو خطاب لكل من يقوم بأمر الأمة من بعده. فهو ليس من الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم - مثل: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك)... الآية (الأحزاب: 50)، ومثل: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) (الإسراء: 79).. ففي هاتين الآيتين دليل على الخصوصية لم يوجد مثله في الآية الكريمة التي استندوا إليها.(1/91)
قال الإمام الخطابى: خطاب كتاب الله على ثلاثة أوجه:. خطاب عام كقوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم).... الآية (المائدة: 6)، ونحوها. وخطاب خاص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص، وقطع التشريك. كقوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) (الإسراء: 79)، وكقوله:(خالصة لك من دون المؤمنين) (الأحزاب: 50). وخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وجميع أمته في المراد به سواء - كقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (الإسراء: 78)، وكقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) (النحل: 98).. ونحو ذلك. ومنه قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة: 103).. وهذا غير مختص به بل تشاركه فيه الأمة. والفائدة في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله، المبين عنه معنى ما أراده، فقدم اسمه ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه لهم. وما قالوه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم عوضًا عن الصدقة التطير والتزكية والصلاة عليهم، ولا يوجد ذلك من غيره - فدعوى غير مسلمة. فإن التطهير والتزكية إنما يتمان بواسطة الزكاة فهي أداة التطهير:(تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة:103)، وهذا لا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك الصلاة عليهم - بمعنى الدعاء لهم - فكان من يأخذ الزكاة: من الإمام أو نائبه، مأمور أن يدعو لمعطيها بالبركة والأجر ففي هذا الدعاء لرب المال سكينة لنفسه وتثبيت لقلبه، وفقًا لسنة الله في الأسباب والمسببات . وهذا أمر ملموس، ولا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان دعاؤه في المقام الأسمى من التأثير في سكن النفس وطمأنينتها. ولذا قال العلماء: وأما التطهير والتزكية والدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الصدقة. فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة(1/92)
الله وطاعة رسوله فيها. وكل ثواب على عمل بر كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فهو باق غير منقطع (انظر معالم السنن للخطابي: 2/165، وأحكام القرآن لابن العربى قسم 2 ص 994 - 996. ونيل الأوطار للشوكاني: 4/102، 103 - ط. مصطفي البابي الحلبي 1347 هـ). وهذا صنف ممن خرج على أبى بكر، وهم أمثلهم طريقة، وغيرهم كفر بالله كفرًا صريحًا من غير تأويل، وأنكر النبوة، وساعد مسيلمة الكذاب ومن شابهه من مدعى النبوة، وجحد وجوب الصلاة والزكاة (نفس المرجع السابق).
الزكاة مما علم من الدين بالضرورة
والمهم بعد ذلك أن نعلم أن الزكاة مما علم من الدين بالضرورة، وأنها أحد أركان الإسلام، وتناقل ذلك الخاص والعام، وأن فرضيتها ثبتت بالآيات القرآنية الصريحة المتكررة، وبالسنة النبوية المتواترة، وبإجماع الأمة كلها خلفًا عن سلف، وجيلاً إثر جيل بل قال بعض العلماء: إن العقل أيضًا دل على فرضيتها، كما دل الكتاب والسنة والإجماع، ومراده عقل المسلم الذي يؤمن بحكمة الله تعالى ورحمته بخلقة، وذلك من وجوه ذكرها صاحب "البدائع": (3/3). أحدهما: أن أداء الزكاة من باب إعانة الضعيف، وإغاثة اللهيف، وإقدار العاجز وتقويته على أداء ما افترض الله عز وجل عليه من التوحيد والعبادات، والوسيلة إلى أداء المفروض مفروضة.
الثاني: أن الزكاة تطهر نفس المؤدى من أنجاس الذنوب، وتزكى أخلاقه بتخلق الجود والكرم، وترك الشح والضن، إذ النفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة، وترتاض لأداء الأمانات، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).
والثالث:أن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء، وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية، وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكر النعمة فرض عقلاً وشرعًا. وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة فكان فرضًا.
إلى الفهرس
جاحد الزكاة كافر(1/93)
وإذا كان هذا هو مكان فريضة الزكاة من شرائع الإسلام؛ فقد قرر العلماء: أن من أنكرها، وجحد وجوبها، فقد كفر، ومرق من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
قال النووي: إذا امتنع من أداء الزكاة منكرًا لوجوبها، فإن كان ممن يخفي عليه ذلك لكونه قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة أو نحو ذلك: لم يحكم بكفره، بل يعرف وجوبها، وتؤخذ منه، فإن جحدها بعد ذلك: حكم بكفره.
وإن كان ممن لا يخفي عليه ذلك، كمسلم مختلط بالمسلمين؛ صار بجحدها كافرًا، وجرت عليه أحكام المرتدين، من الاستتابة والقتل وغيرهما، لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى ضرورة، فمن جحد وجوبها فقد كذب الله، وكذب رسوله - صلى الله عليه وسلم - فحكم بكفره انظر المجموع:5/334. وهذا الذي قرره النووي، قرره كذلك ابن قدامة المغنى: 2/573 - الطبعة الثالثة ط. المنار.وغيره من فقهاء الإسلام. وبهذا الحكم الشرعي الواضح الصريح المجمع عليه، نعرف مكان أولئك الذين يحقرون من شأن الزكاة، ويجهرون بأنها لا تصلح لهذا العصر، وهم أبناء مسلمين، ناشئون في قلب ديار الإسلام. إنها "ردة ولا أبا بكر لها" (عنوان رسالة لطيفة للسيد أبى الحسن الندوى).
إلى الفهرس
فروق أساسية بين الزكاة في الإسلام والزكاة في الأديان الأخرى
بعد أن بينا فرضية الزكاة ومنزلتها في دين الإسلام، مستندين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة، نستطيع أن نسجل بعض الملاحظات المهمة الموجزة حول هذه الفريضة، التي تميزها عما دعت إليه الأديان السابقة من البر والإحسان إلى الفقراء والضعفاء.
أولاً: إن الزكاة الإسلامية لم تكن مجرد عمل طيب من أعمال البر، وخلة حسنة من خلال الخير، بل هي ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته الأربع، يوصم بالفسق من منعها، ويحكم بالكفر على من أنكر وجوبها، فليست إحسانًا اختياريًا ولا صدقة تطوعية، وإنما هي فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي.(1/94)
ثانيًا: إنها في نظر الإسلام حق للفقراء في أموال الأغنياء. وهو حق قرره مالك المال الحقيقي وهو الله تعالى، وفرضه على من استخلفهم من عباده فيه، وجعلهم خزانًا له، فليس فيها معنى من معنى التفضل والامتنان من الغنى على الفقير، إذ لا منة لأمين الصندوق إذا أمره صاحب المال بصرف جزء من ماله على عياله.
ثالثًا: إنها "حق معلوم" قدر الشرع الإسلامي نصبه ومقاديره وحدوده وشروطه، ووقت أدائه وطريقة أدائه. حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ومعرفة بما يجب عليه، وكم يجب؟ ومتى يجب؟ ولم تجب؟.
رابعًا: هذا الحق لم يوكل لضمائر الأفراد وحدها، وإنما حملت الدولة المسلمة مسئولية جبايتها بالعدل وتوزيعها بالحق. وذلك بواسطة " العاملين عليها "فهي ضريبة" تؤخذ "وليست تبرعًا يمنح. ولهذا كان تعبير القرآن الكريم:(خذ من أموالهم صدقة) (التوبة: 103)، وتعبير السنة: أنها "تؤخذ من أغنيائهم".
خامسًا: إن من حق الدولة أن تؤدب - بما تراه من العقوبات المناسبة - كل من يمتنع من أداء هذه الفريضة. وقد يصل هذا إلى حد مصادرة نصف المال، كما في حديث: "إنا آخذوها وشطر ماله".
سادسًا: إن أي فئة ذات شوكة تتمرد على أداء هذه الفريضة. فإن من حق إمام المسلمين - بل من واجبه - أن يقاتلهم ويعلن عليهم الحرب حتى يؤدوا حق الله وحق الفقراء في أموالهم. وهذا ما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وما طبقه الخليفة الأول أبو بكر ومن معه من الصحابة الكرام، رضى الله عنهم.
سابعًا: إن الفرد المسلم مطالب بأداء هذه الفريضة العظيمة وإقامة هذا الركن الأساسي في الإسلام، وإن فرطت الدولة في المطالبة بها، أو تقاعس المجتمع عن رعايتها. فإنها - قبل كل شئ - عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، ويزكى بها نفسه وماله، فإن لم يطالبه بها السلطان، طالبه بها الإيمان والقرآن. وعليه - ديانة - أن يعرف من أحكام الزكاة ما يمكنه من أدائها على الوجه المشروع المطلوب.(1/95)
ثامنًا: إن حصيلة الزكاة لم تترك لأهواء الحكام. ولا لتسلط رجال الكهنوت - كما كان الحال في اليهودية - ولا لمطامع الطامعين من غير المستحقين، تنفقها كيف تشاء، بل حدد الإسلام مصارفها ومستحقيها كما في آية:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين) (التوبة: 6)، وكما فصَّلت ذلك السنة بدقة ووضوح. فقد عرف البشر من تجاربهم أن المهم ليس هو جباية المال. إنما المهم هو أين يصرف؟ ولذلك أعلن - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحل له ولآله منها شيء - وإنما تؤخذ من أغنياء كل إقليم لترد على فقرائه فهي منهم وإليهم.
تاسعًا: إن هذه الزكاة لم تكن مجرد معونة وقتية. لسد حاجة عاجلة للفقير وتخفيف شيء من بؤسه. ثم تركه بعد ذلك لأنياب الفقر والفاقة. بل كان هدفها القضاء على الفقر، وإغناء الفقراء إغناءً دائمًا. يستأصل شأفة العوز من حياتهم. ويقدرهم على أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة. وذلك لأنها فريضة دورية منتظمة دائمة الموارد، ومهمتها أن تيسر للفقير قوامًا من العيش. لا لقيمات أو دريهمات كما سنفصل ذلك في مصارف الزكاة.
عاشرًا: إن الزكاة - بالنظر إلى مصارفها التي حددها القرآن وفصلتها السنة - قد عملت لتحقيق عدة أهداف روحية وأخلاقية واجتماعية وسياسية. ولهذا تصرف على المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله، فهي أوسع مدى، وأبعد أهدافًا من الزكاة في الأديان الأخرى.
وبهذه المميزات يتضح لنا: أن الزكاة في الإسلام نظام جديد متميز يغاير ما جاءت به الديانات السابقة؛ من وصايا ومواعظ، ترغب في البر والإحسان، وتحذر من البخل والإمساك. كما أنها شىء آخر، يخالف الضرائب والمكوس التي كان يجبيها الملوك والأباطرة. وكانت كثيرًا ما تؤخذ من الفقراء لترد على الأغنياء، وتنفق على أبهة الحاكمين وترفهم وإرضاء أقاربهم وأنصارهم وحماية سلطانهم من الزوال.
إلى الفهرس
تفنيد مزاعم "شاخت" عن طبيعة الزكاة(1/96)
بعد هذه الصحائف المشرفة التي عرضناها عن طبيعة الزكاة ومكانتها في الإسلام، لا بأس من أن نعرض لبعض الدعاوى المظلمة الظالمة التي صدرت عن فئة لبست مسوح العلم، ولكنها لم تراع أمانته. لقد قال "شاخت" - فيما كتبه عن مادة "الزكاة " - في دائرة المعارف الإسلامية (الجزء العاشر ص358 من الترجمة العربية).: "وفي الحديث أحوال تؤدى فيها الزكاة، لا تتفق مع نظام الزكاة التي جاء بعد ذلك. ومهما يكن من شيء فإن طبيعة الزكاة في أيام النبي (- صلى الله عليه وسلم - ) كانت لا تزال غامضة، ولم تكن ضريبة من الضرائب التي يقتضيها الدين، ولذلك امتنع من أدائها كثير من قبائل الأعراب بعد وفاة النبي (عليه السلام) لأنهم اعتبروا أن معاهدتهم قد بطلت بوفة من عاهدوه على أدائها، وبعض المؤمنين - ومنهم عمر بن الخطاب نفسه - جنحوا إلى التسليم بذلك ". ولم يحدد " شاخت " هذه الأحاديث حتى نناقشه فيما زعم فلا قيمة إذن لهذا الزعم الأجوف. وهو يريد بقوله: " نظام الزكاة الذي جاء بعد ذلك " أنه نظام صنعه المسلمون في زمن متأخر عن عهد النبوة، فليس هذا النظام من صنع الوحى، ولكنه من صنع البيئة والتجارب البشرية التي استفاد فيها المسلمون من الفرس والروم وغيرهم ! وهي شنشنة نعرفها من "شاخت" وأمثاله.
فالحق الذي تثبته آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول الصحاح والحسان، وهدى الصحابة والراشدين من الخلفاء: أن نظام الزكاة نظام إسلامي صرف، وهذا النظام نسيج وحده، ولم يسبقه نظام ديني ولا وضعي شبيه به. ولا يملك المنصف إلا أن يقول فيه: "صبغة الله ! ومن أحسن من الله صبغة "؟ !، أما غموض الزكاة في عصر النبي فهذا أعجب وأدهى !.(1/97)
ولا أدرى كيف يقول هذا باحث يدعى له التعمق في معرفة الفقه والشريعة الإسلامية، وكيف يستطيع هذا المستشرق إقامة البرهان على قوله: إن طبيعة الزكاة في أيام النبي (- صلى الله عليه وسلم - ) كانت غامضة. ولم تكن ضريبة من الضرائب التي يقتضيها الدين"؟.
أين هذا الغموض وقد حدد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأموال التي تجب فيها الزكاة؟ وقد شملت كل الأموال النامية في البيئة العربية في عصر النبوة، من الأنعام والزروع والثمار، والذهب والفضة، كما حدد المقادير والنسب الواجبة من العُشر إلى نصفه إلى ربعه. كما بين وقت وجوبها وأنها في كل حول مرة، وفي الزروع في كل زرعة. وكذلك حدد المصارف التي تنفق فيها الزكاة، ونزل في ذلك القرآن، وفصلته الأحاديث. ثم بين طريقة أداء الزكاة، وذلك عن طريق الجهاز المختص بالتحصيل والتوزيع، الذي سماه القرآن: "العاملين عليها"، ومن هنا بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عماله وسعاته إلى مختلف الأقاليم والقبائل، ليجمعوا الزكاة ويفرقوها. وهذا أشهر من أن يذكر.
فهل يقال بعد هذا: إن طبيعة الزكاة كانت غامضة في عهد النبوة؟ وأعجب من ذلك أن يقول:" إنها لم تكن ضريبة من الضرائب التي يقتضيها الدين"!.(1/98)
كيف هذا والرسول يذكرها كلما ذكر أركان الإسلام وفرائضه الأساسية؟ وقد رأيناه في بعض الأحاديث ربما سكت عن الحج أو الصيام، أما الصلاة والزكاة فهما دائمًا مع الشهادتين الأسس والدعائم التي لا يستغنى عن ذكرها. بل رأيناه يوجب القتال من أجلها. كما مضى في حديث ابن عمر وأبى هريرة وجابر، ورأيناه - صلى الله عليه وسلم - يكاد يذكر الصلاة والزكاة في كل معاهدة يعقدها مع القبائل التي تدخل في الإسلام، أو في كل كتاب يكتبه إليهم مع ولاته وعماله، أو مع وافديهم ومندوبيهم إليه. ومن المعلوم أن أهمية الصلاة ومنزلتها في دين الإسلام: لا ينكرها "شاخت" وأمثاله، فإذا كانت الزكاة تقرن بها دائمًا في المواثيق والكتب النبوية؛ دل ذلك على أنها أختها وصنوها، أكد ذلك القرآن وسائر الأحاديث،على أن بعض المعاهدات والكتب النبوية فصلت ما يجب من الصدقات ومقاديرها ونصبها وأنواعها، ولم تدع أي مجال لغموض أو شبهة، وبعضها اكتفي بالإجمال دون التفصيل؛ إحالة على ما هو معلوم ومشهور حينذاك.(1/99)
ومن أراد الاستيثاق والاستيضاح، فليراجع كتاب " مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة" (انظر الوثائق ذوات الأرقام التالية من الطبعة الثالثة (1389 هـ - 1969 م بيروت): (56 ) و (59 - ألف) و(66) و (66 - ألف) و (72 - ألف) و (77) و (78) و (78 - ألف) و (81) و (82) و(84) و (85) و (87) و (90) و (104 - ألف) و (104 - ب) و (104 - جـ) و (104 - د) (105) و (106 - د) و(109) و (110 - جـ) و (110 - د) و(111) و (112) و (117- ألف) و (120) و (121) و(133) و(141- جـ) و (152) و (157) و(165) و(173) و(174) و(177) و(184 -ألف) و(186) و(188) و(189) و(190) و (191) و(192) و(193) و(194) و(195) و(196) و(197) و(216 ) و (233) و (234) و(242 - ألف) وكفي بهذه الوثائق، بل ببعضها ردًا على المفترين!) للعلامة الدكتور محمد حميد الله. أما استدلال " شاخت " على ما زعمه من غموض طبيعة الزكاة في العصر النبوى، بامتناع كثير من قبائل الأعراب عن أدائها، بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم اعتبروا أن معاهدتهم قد بطلت بوفاة من عاهدوه، وأن عمر جنح إلى التسليم بذلك - مع بعض المؤمنين - فهو استدلال مردود وبعيد عن الصواب.
ذلك أن هذه القبائل كانت طرائق قددًا
فمنهم من تابع أدعياء النبوة كمسيلمة وسجاح والأسود وطليحة، وناصرهم على نبوءتهم الكاذبة، فهل كان أمر النوة أيضًا غامضًا؟
ومنهم من أنكر شرائع الإسلام، وهجر وجوب الصلاة والزكاة جميعًا. فهل كانت فريضة الصلاة التي تتكرر في اليوم خمس مرات غامضة أيضاَ؟(1/100)
ومنهم من أقر بالصلاة وشرائع الإسلام الأخرى، ولكن وقعت له الشبهة في الزكاة - كما شرحنا من قبل - لحداثة عهدهم بالإسلام، وغلبة البداوة عليهم، لا لغموض طبيعة الزكاة. ولهذا عدهم الإمام سليمان الخطابى وغيره من أهل "البغي" لا من أهل "الردة" وإن كان فيهم من أنكر وجوب الزكاة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - . وذلك لأنهم وضعوا في تقديرهم بداوتهم وحداثتهم في الإسلام، فلم يحكموا عليهم بالكفر والردة، كالطوائف الأخرى، وبعض هؤلاء لم ينكر وجوب الزكاة رأسًا. بل ذكر الخطابي وغيره: أنه كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بها ولم يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك، وقبضوا على أيديهم، كبني يربوع، فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبى بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم (انظر نيل الأوطار: 4/102).
وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر بن الخطاب، فعارضة أبو بكر وناظره، فأقنعه الصديق، واستبانت له الحجة، واتفق الجميع على قتالهم، كما وضحناه من قبل.
وقد زعم " شاخت ": أن موقف أبى بكر من مانعي الزكاة هو الذي أعطى هذه الفريضة ثباتها وخلودها، لا حبًا في أبى بكر؛ ولكن تأكيدًا لما زعمه أن المسلمين حتى عمر نفسه لم تكن فرضية الزكاة واضحة لديهم. ونسى هذا المتحامل أن أبا بكر كان في موقفه هذا متبعًا لا مبتدعًا، ولهذا قال قولته: "والله لو منعونى عناقًا - أو عقالاً - كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها".
فلم يكن منهج الصديق - في موقفه هذا وفي سيرته كلها - إلا تنفيذ ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يدع منه شيئًا، ولا يخرم منه حرفًا.
أما عمر ومن كان على موقفه، فقد رأوا - كما قال ابن العربى - قبول الصلاة منهم، وترك الزكاة لهم، حتى يتمهد الأمر، ويظهر حزب الله، وتسكن سورة الخلاف (أحكام القرآن: قسم 2ص 955).(1/101)
ولكن موقف أبى بكر كان أقوى، لأنه كان مع النص الصريح من القرآن والسنة، وصدق الله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11).
الباب الثاني
على من تجب الزكاة؟
فهرس
تابع المبحث الثاني: الزكاة في مال الصبي والمجنون
القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
موازنة وترجيح
تفنيد أدلة المانعين من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
والخلاصة
المبحث الأول: لا تجب الزكاة على غير مسلم
لماذا لم يوجب الإسلام الزكاة على غير المسلمين؟
هل يؤخذ مقدار الزكاة من غير المسلمين ضريبة؟
المبحث الثاني: الزكاة في مال الصبي والمجنون
القائلون بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
هذا الباب من فصل واحد وسنتناول فيه مبحثين :
فالمبحث الأول: لا تجب الزكاة على غير مسلم.
والمبحث الثاني: الزكاة في مال الصبي والمجنون.
المبحث الأول
لا تجب الزكاة على غير مسلم
أجمع علماء الإسلام: على أن الزكاة تجب على المسلم البالغ العاقل الحر (يذكر الفقهاء هنا بحوثًا كثيرة حول وجوب الزكاة على العبد والمكاتب وما يتعلق بذلك، وقد تركناها لعدم الحاجة إليها في عصرنا، ومن أرادها فليرجع إليها في المجموع: 5/326، 327، والمغني مع الشرح الكبير: 2/494، ورد المحتار: 2/5، وبلغة السالك ص 206، وبداية المجتهد: 1/209 - ط. مصطفى الحلبي. وقد لخص فيها أقوال المذاهب في المسألة تلخيصًا جيدًا، مع بيان ما يستندون إليه من العلل). المالك لنصابها المخصوص بشرائطه.
وقد تبين لنا فيما سبق: أدلة هذا الوجوب، من آيات الكتاب الصريحة، وأحاديث الرسول الثابتة، التي أفاد مجموعها علمًا يقينيًا بفرضية الزكاة، وهذا مما تناقلته أجيال المسلمين، وتواترت به الأخبار، قولاً وعملاً، وعُلِمَ من دين الإسلام بالضرورة، فمن أنكر ذلك - ولم يكن حديث عهد بالإسلام - فقد كفر، وخلع رِبقة الإسلام من عنقه.(1/102)
واتفق المسلمون على أن فريضة الزكاة؛ لا تجب على غير مسلم؛ لأنها فرع من الإسلام، وهو مفقود، فلا يطالب بها وهو كافر، كما لا تكون دَيْنًا في ذمته، يؤديها إذا أسلم، واستدل العلماء لذلك، بحديث ابن عباس في الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .. (انظر فتح الباري: 3/229 وما بعدها).
فالحديث يدل - كما قال النووي وغيره - على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا، لا تكون إلا بعد الإسلام، وهذا قدر متفق عليه (هناك خلاف في الأصول: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ فيزداد عذابهم بسببها في الآخرة أم لا؟ قول الأكثرين: إنهم مخاطبون خلافًا للحنفية وهو بحث لا حاجة بنا إليه هنا).
قال العلماء: ولأن الزكاة أحد أركان الإسلام، فلم تجب على كافر، كالصلاة والصيام. وهناك تعليل آخر ذكره الشيرازي وأقره النووي من الشافعية. فقد ذكرا في عدم وجوبها على الكافر الأصلي: أنها حق لم يلتزمه فلا يلزمه (هذا التعليل يفتح بابًا للتساؤل عن الحكم فيما إذا رضي أهل الذمة أداء الزكاة والتزموا أداءها كالمسلمين - كما يلتزمون الآن الخدمة العسكرية - هل يجوز أن تُقبل منهم الزكاة باعتبارها ضريبة لا عبادة، كما قُبِل منهم الخدمة في الجيش وهي عند المسلمين جهاد وقربة؟).
سواء أكان حربيًا أم ذميًا، فلا يطالب بها في كفره، وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر (المجموع: 5/327 - 328).(1/103)
وإذا كانت لا تجب على غير المسلم، فهي لا تصح منه أيضًا - بوصفها عبادة لو أداها - لانتفاء الشرط الأول للقبول، وهو الإسلام، قال تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) الفرقان: (23) ولكن من المعروف أن أعمال الخير تخفف من العذاب في الآخرة، فالعذاب دركات، كما أن النعيم درجات.
وهذا كله في الكافر الأصلي، أما من فُتِنَ وارتد -والعياذ بالله- فإن كانت الزكاة قد وجبت عليه في حال إسلامه فلا تسقط عنه بالردة، لأنها حق ثبت وجوبه فلم يسقط بردته كغرامة المتلفات.
وهذا عند الشافعية خلافًا لأبي حنيفة (المجموع: 5/327 - 328).
وأما زمن الردة فقد اختلف فيه فقهاء الشافعية، واختار بعضهم القطع بوجوب الزكاة -وهو ما أختار- لأنها حق للفقراء والمستحقين، فلا يسقط بالردة كالنفقات والغرامات.
لماذا لم يوجب الإسلام الزكاة على غير المسلمين؟
وقد يعنّ هنا سؤال لبعض الناس فيقول: إن الإسلام قد وسع أهل الكتاب ومن في حكمهم من غير المسلمين، فأعطاهم ذمة الله، وذمة رسوله، على أن يعيشوا في كنف دولة الإسلام، مصونة حرماتهم، مكفولة حرياتهم، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، فلماذا فرق الإسلام في الزكاة بين المسلمين وغيرهم من الأقليات، التي تستظل بظل دولتهم؟ هذا مع أن الزكاة: تكليف اجتماعي، وضريبة مالية، تُنفق حصيلتها في مساعدة الضعفاء، والمحتاجين، من رعايا الدولة؟
وللجواب عن هذا السؤال، أو التساؤل: ينبغي لنا أن نبيِّن، أن هنا اعتبارين يبدوان لمن يتأمل حقيقة فريضة الزكاة.
الاعتبار الأول: أنها تكليف اجتماعي، وحق معلوم، للسائل والمحروم، وضريبة مالية، أوجب الله تعالى أن تؤخذ من أغنياء الأمة، لتُرَد على فقرائها، قيامًا بحق الأخوة، وحق المجتمع، وحق الله عَزَّ وجَلَّ.(1/104)
الاعتبار الثاني: أنها عبادة من عبادات الإسلام، ودُعامة من الدعائم الخمس، التي قام عليها بناؤه، شأنها شأن الشهادتين، وإقامة الصلاة، وصوم رمضان وحج البيت الحرام.
وقد بينا من قبل، كيف قرنها القرآن بالصلاة، في عشرات المواضع، وجعلها - مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة - مظهر الدخول في الإسلام، واستحقاق إخوة المسلمين، كما أن بعضًا من أسهم الزكاة، يُصرف في نُصرة الإسلام، وإعلاء كلمته، والمصالح العامة لدعوته، ودولته. وذلك هو سهم: "في سبيل الله" ومنها: ما يُصرف في تأليف القلوب، أو تثبيتها عليه. وذلك هو سهم "المؤلفة قلوبهم".
فإذا جاء في بعض الأحاديث: أنها تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء فذلك على سبيل الاكتفاء بالمقصود الأول للزكاة، وهو إغناء الفقراء، ولكن القرآن فصَّل لنا مصارف ثمانية، منها ما ذكرناه: "المؤلَّفة قلوبهم" و" في سبيل الله".
ولهذا الاعتبار، أبت سماحة الإسلام وحساسيته - في معاملة غير المسلمين واحترام عقائدهم - أن يفرض عليهم ضريبة لها صبغة دينية واضحة، حتى إنها لتعد شعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته الأربع، وركنًا من أركانه الخمسة.
إلى الفهرس
هل يؤخذ مقدار الزكاة من غير المسلمين ضريبة؟
بقي هنا بحث أو سؤال آخر: إننا لا نشك أن الزكاة لا تجب -وجوبًا دينيًا- على غير المسلمين من حيث هي عبادة وشعيرة، ولكن ألا يجوز أن يؤخذ منهم مقدارها على أنها ضريبة من الضرائب تؤخذ من الأغنياء لتُرَد على الفقراء؟
فالمسلم يدفعها فريضة وعبادة، وغيره يدفعها ضريبة! وبذلك نتفادى التفرقة بين المواطنين في دولة واحدة، ولا نُحمِّل المسلم من الأعباء المالية أكثر من غيره ونخفف التكاليف الإدارية والفنية التي تتوزع بين إدارة الزكاة للمسلمين، والضريبة الخاصة لغير المسلمين.(1/105)
هذه قضية تحتاج إلى اجتهاد جماعي من علماء المسلمين القادرين على الاجتهاد، ولكن إلى أن يتاح لنا الاجتهاد الجماعي المنشود (انظر: مقالة الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا عن "الاجتهاد الجماعي") لا مانع أن أبدي رأيي في هذا الأمر، على ضوء دراستي ومعاناتي للموضوع، فترة غير قصيرة. وأعتقد أن الاجتهادات الفردية هي التي تمهد السبيل إلى اجتهاد جماعي سليم.
فإذا كان هذا الرأي صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
والذي يتراءى لي بعد البحث: أنه لا مانع من أخذ الزكاة بوصفها ضريبة من غير المسلمين من أهل الذمة إذا رأى ذلك أولو الأمر ويدل على هذا أمور:
1- إن مراد علمائنا بقولهم: "لا تجب الزكاة على غير مسلم" هو الوجوب الديني، الذي يتعلق به المطالبة في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة. أما الإيجاب السياسي الذي يقرره ولي الأمر بناء على اعتبار المصلحة التي يراها أهل الشورى، فلم يرد ما يمنعه.
2- إنهم علَّلوا عدم وجوب الزكاة على غير المسلم؛ بأنه حق لم يلتزمه، فلا يلزمه (المجموع للنووي: 5/327). ومعنى هذا أنهم لو التزموا هذا ورضوه لم يكن بذلك بأس.
3- إن أهل الذمة في ديار الإسلام كانوا يدفعون للدولة الإسلامية ضريبة مالية سماها القرآن: "الجزية" مشاركة في النفقات العامة للدولة التي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم. وكفالة العيش لهم، وتأمينهم ضد العجز والشيخوخة والفقر، كالمسلمين، كما رأينا ذلك جليًا في صنيع عمر مع الشيخ اليهودي الذي رآه يسأل على الأبواب. والواقع الماثل الآن في البلاد الإسلامية: أن أهل الكتاب لا يدفعون الجزية، ويأنفون من هذا الاسم، فهل يمكن أن يدفعوا بدلاً منها ضريبة على وفق مقادير الزكاة، وإن لم تسم باسمها؟
إن الذي رواه المؤرخون والمحدِّثون وفقهاء المال في الإسلام عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في موقفه من نصارى بني تغلب، يعطينا رُخصة للنظر في هذا الأمر على ضوء الواقع والمصلحة العامة.(1/106)
روى أبو عبيد بسنده عن زرعة بن النعمان - أو النعمان بن زرعة - أنه سأل عمر بن الخطاب وكلمه في نصارى بني تغلب وكان عمر قد هَمَّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرقوا في البلاد. فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال (يعني الذهب والفضة) إنما هم أصحاب حروث ومواشٍ، ولهم نكاية في العدو، فلا تُعن عدوك عليك بهم. قال: فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة (أي جعلها مضاعفة عليهم).
وأخرج البيهقي عن عبادة بن النعمان في حديث طويل: أن عمر لما صالحهم على تضعيف الصدقة قالوا، نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم، ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض (يعنون الصدقة) فقال عمر: لا، هذه فرض المسلمين. قالوا: زد ما شئت بهذا الاسم، لا باسم الجزية. ففعل، فتراضى هو وهم على تضعيف الصدقة عليهم.
وفي بعض روايات هذا الحديث أن عمر قال: "سموها ما شئتم" (الأموال : ص 541 وهامشها وص 28، 29 منه. وقد ضعف ابن حزم خبر بني تغلب هذا (المحلى: 6/111) ولكن الخبر مشهور رواه ابن أبي شيبة وأبو يوسف في الخراج ص 143 - ط. السلفية، ويحيى بن آدم في في الخراج ص 66-67 ط. السلفية، والبلاذري في فتوح البلدان ص 189 - ط. مصر سنة 1319 هـ، وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- معقبًا على خبر بني تغلب هذا: روي من طرق كثيرة تطمئن النفس إلى أن له أصلاً صحيحًا).(1/107)
وقد علق الإمام أبو عبيد على حكم أمير المؤمنين عمر في بني تغلب، إذ قبل منهم أموالهم ولم يجعلها جزية كسائر ما على أهل الذمة، بل جعلها صدقة مضاعفة، فقال: "وإنما استجازها فيما نرى وترك الجزية، لما رأى من نفارهم وأنفهم منها، فلم يأمن شقاقهم واللحاق بالروم، فيكونوا ظهيرًا لهم على أهل الإسلام، وعلم أنه لا ضرر على المسلمين من إسقاط ذلك الاسم عنهم مع استيفاء ما يجب عليهم من الجزية، فأسقطها عنهم، واستوفاها منهم باسم الصدقة حتى ضاعفها عليهم، فكان ذلك رتق ما خاف من فتقهم، مع الاستيفاء لحقوق المسلمين في رقابهم، وكان مسددًا. كما روي في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تبارك وتعالى ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه" وكقول عبد الله (يعني ابن مسعود) فيها:" ما رأيت عمر قط إلا وكأن مَلكًا بين عينيه يسدده"، ومثل قول علي: "ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر، وكقول عائشة فيه: "كان والله أحوذيًا (الأحوذي: المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عليه منها شيء، والسريع في كل ما أخذ فيه والعالم بالأمر، كما في المعجم الوسيط) نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها".
قال أبو عبيد: "فكانت فعلته هذه من تلك الأقران التي أعد، في كثير من محاسنه لا تحصى" (الأموال ص 541 وما بعدها). فهذا الفاروق -رضي الله عنه- لم يَرَ بأسًا أن يأخذ من هؤلاء النصارى ضريبة أو جزية تسمى باسم "الصدقة" لنفورهم من عنوان "الجزية"، وقد ضاعف عليهم مقادير الصدقة الواجبة علي المسلمين وفقًا لطلبهم الذي صولحوا على أساسه. ولهذا قال الزهري: ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة، إلا نصارى بني تغلب -أو قال: نصارى العرب- الذين عامة أموالهم المواشي (الخراج ليحيى بن آدم ص 65 - ط. السلفية).
هذا هو فعل عمر، وقد أقرَّه من معه من الصحابة رضوان الله عليهم.(1/108)
فلِمَ لا يجوز أن تُفرض ضريبة على أهل الذمة في البلاد الإسلامية في هذا العصر، تقوم مقام الجزية التي طالبهم بها النظام الإسلامي مقابل فريضتين لازمتين في أعناق المسلمين: فريضة الجهاد التي يبذلون فيها الدم، وفريضة الزكاة التي يبذلون فيها المال؟؟
لم لا يجوز فرض هذه الضريبة بعد مشورة أهل الرأي من المسلمين ومنهم؟.
وإن لم تعط هذه الضريبة اسم الصدقة والزكاة، كما طلب نصارى بني تغلب وأجابهم إلى ذلك عمر.
أعتقد أن هَدي عمر هنا نبراس يضيء الطريق لمن أراد أن يتخذ من هذا الأمر قرارًا على ضوء ظروف العصر ومشكلاته.
وقد قال الشافعية والحنابلة: إذا كان قوم غير مسلمين لهم قوة وشوكة، وامتنعوا عن أداء الجزية إلا إذا صولحوا على ما صولح عليه بنو تغلب، وخيف الضرر بترك إجابتهم إلى طلبهم، ورأى الإمام إجابتهم، دفعًا للضرر؛ جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية وزيادة، قياسًا على ما فعله عمر بنصارى بني تغلب (انظر: أحكام الذميين والمستأمنين للدكتور عبد الكريم زيدان ص 149. نقلاً عن المغني: 8/516، ومتن المنهاج: 4/251.) ولا شك أن هذا القول سليم، ودليله قوي.
كما لا ريب أن الزكاة في كل مال نامٍ أكثر قطعًا من الجزية التي هي مقدار زهيد لا يؤخذ إلا من الرجال القادرين على حمل السلاح، أما الزكاة فتؤخذ من الرجال والنساء جميعًا، بل من الصبيان والمجانين أيضًا عند الجمهور.
أما تضعيف الزكاة على أهل الذمة فليس أمرًا لازمًا، إنما فعل ذلك عمر مع بني تغلب؛ لأنهم هم الذين طلبوا ذلك، ووقع عليه الصلح والتزموا به. وهو أمر يرجع إلى السياسة الشرعية، ومقتضيات المصلحة العامة للدين والدولة.(1/109)
وقد أصاب ابن رشد حين ذكر هذه المسألة تحت عنوان: "الزكاة على أهل الذمة" فقال: "وأما أهل الذمة فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم، إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وليس عن مالك في ذلك قول وإنما صار هؤلاء لهذا، لأنه ثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، فكأنهم رأوا أن هذا توقيف ولكن الأصول تعارضه" أهـ (بداية المجتهد: 1/209 - ط. مصطفى البابي الحلبي).
أقول: قد رأينا قول أبي عبيد في توجيه فعل عمر، وليس فيه معارضة للأصول، بل تحقيق مصلحة المسلمين ورفع الضرر عنهم، وليس من الضروري أن يكون ذلك عن توقيف، وقد أمرنا باتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين.
4- ومما يؤيد رأينا أن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - قال: إذا باع المسلم أرضه العُشرية التي لا خراج عليها لذمي، وجب على الذمي العُشر، لأنها أرض عُشرية، فلا تتبدل وظيفتها بتبدل المالك، ولا يجوز أن ينتفع بها الذمي في دار الإسلام دون مقابل (بدائع الصنائع: 2/54،55، والهداية وشروحها "فتح القدير": 2/10 وما بعدها، وقد خالف محمد في هذا الرأي الشيخين: أبا حنيفة وأبا يوسف. فأبو حنيفة قال: يجب عليه الخراج، وتصير الأرض خراجية، وأبو يوسف قال: تبقى عُشرية، كما قال محمد: ولكن عليه عُشران، كالتغلبي).
ولا شك أن العُشر زكاة.
5- إن أهل الكتاب مأمورون في دينهم بالزكاة، مدعوون إلى البر بالفقراء، وقد نقلنا من قبل نصوص القرآن الدالة على ذلك مثل قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) (البينة: 5).
كما نقلنا من كتبهم الحالية نفسها - العهد القديم والعهد الجديد - كثيرًا من النصوص التي تدعو إلى هذا البر، وتحث عليه.(1/110)
فهم إذا طولبوا بالزكاة إنما يطالبون بشيء منصوص على أصله في دينهم (راجع في الباب الأول: "عناية الأديان السماوية بالفقراء"). والجديد فيه: إنما هو التقدير والتحديد والإلزام.
6- قد روي عن عمر بن الخطاب وبعض التابعين: جواز صرف الزكاة إلى أهل الذمة، وقد فصَّلنا القول في ذلك في فصل "من تحرم عليهم الزكاة" من باب "مصارف الزكاة".
فإذا جاز أن يُصرف لهم جزء من الزكاة التي تؤخذ من المسلمين، فلا مانع أن تؤخذ من أغنيائهم زكاة عن أموالهم، لتُرَد على فقرائهم، قيامًا بواجب التكافل الذي يشمل المسلم وغير المسلم ما دام يعيش في كنف دولة الإسلام.
وحينئذ تسمى "ضريبة التكافل الاجتماعي" أو "ضريبة البر" أو نحو ذلك من الأسماء، حتى تُميَّز عن الزكاة الإسلامية، فلا تُحرج ضمائرهم، ولا ضمائر المسلمين.
وينبغي أن يظل مصرف كُلٍّ مُتميِّزًا: زكاة المسلمين، وضريبة غير المسلمين. فهما تتفقان في الوعاء والشروط والمقادير، ولكن تختلفان في الاسم والمصرف، نظرًا لطبيعة كل منهما وهدفه وأصل وجوبه.
إلى الفهرس
المبحث الثاني
الزكاة في مال الصبي والمجنون
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على وجوب الزكاة في مال المسلم البالغ العاقل، فإنهم قد اختلفوا في مال الصبي والمجنون: هل تجب فيه الزكاة أم لا تجب حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون؟
هنا يختلف الفقهاء اختلافًا كبيرًا، نستطيع أن نردهم فيه إلى فريقين رئيسيين:
1- فريق من لا يرى وجوب الزكاة في مالهما إما مطلقًا أو في بعض الأموال.
2- وفريق من يرى وجوب الزكاة في أموالهما جميعًا.
القائلون بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
( أ ) روى أبو عبيد عن أبي جعفر الباقر والشعبي أنهما قالا: ليس في مال اليتيم زكاة (الأموال ص 435). وروى ابن حزم مثل قولهما عن النخعي وشريح (المحلى: 5/205).
(ب) ورُوِيَ عن الحسن أنه قال: "ليس في مال اليتيم زكاة إلا في زرع أو ضرع (الأموال: ص 453).(1/111)
وقد ذكر ابن حزم في "المحلى" عن ابن شبرمة مثل قوله (المحلى: 5/205).
(ج) وفي "الأموال" عن مجاهد قال: كل مال لليتيم ينمى - أو قال: كل شيء من بقر أو غنم أو زرع أو مال يُضارب به فزكِّه، وما كان له من صامت لا يُحرَّك (لا يستثمر) فلا تُزكِّه حتى يدرك فتدفعه إليه (الأموال ص 453). وخرج اللخمي - من علماء المالكية - قولاً بسقوط الزكاة عن الصبي، حيث لا ينمى ماله من حكم المال المعجوز عن تنميته. كالمدفون الذي ضل عنه صاحبه ثم وجده.
وكالمال الموروث الذي لم يعلم به وارثه إلا بعد حول أو أحوال. ورده ابن بشير بأن العجز في مسألة الصبي من قِبَلِ الملك. ولا خلاف أن من كان عاجزًا من المكلفين عن تنمية ماله تجب عليه الزكاة. بخلاف ما إذا كان عدم النماء من قبل المال وقال ابن الحاجب: تخريج اللخمي النقد المتروك على المعجوز عن إنمائه ضعيف. أ هـ (شرح الرسالة لابن ناجي: 1/328).
( د ) وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الزكاة في زرعه وثمره فقط، أما بقية الأموال فلا (بدائع الصنائع: 2/4).
قال ابن حزم: ولا نعلم أحدًا تقدمه إلى هذا التقسيم، ولكن صاحب "البحر الزخار" - من كتب الزيدية -حكى ذلك عن زيد بن علي، وجعفر الصادق (البحر الزخار:2/142 - ط. مطبعة السعادة سنة 1948). وهما معاصران لأبي حنيفة (قتل زيد سنة 122هـ، وتوفي جعفر سنة 148هـ وفيه قال أبو حنيفة: ما رأيت أفقه منه رضي الله عنه. أما أبو حنيفة فوفاته سنة 150هـ).
والعجيب أن ما ذهب إليه الأئمة -زيد والصادق والناصر من آل البيت- يخالف ما صح عن علي رضي الله عنه: أنه كان يزكي أموال بني أبي رافع وهم أيتام. وسئل في ذلك زيد -رضي الله عنه- فقال: نحن آل البيت ننكر هذا (الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير: 2/416).
أدلة هؤلاء(1/112)
( أ ) نظر هؤلاء العلماء إلى الاعتبار الثاني الذي ذكرناه من قبل، وهو أن الزكاة عبادة محضة كالصلاة، والعبادة تحتاج إلى نية، والصبي والمجنون لا تتحقق منهما النية، فلا تجب عليهما العبادة ولا يخاطبان بها، وقد سقطت الصلاة عنهما لفقدان النية، فوجب أن تسقط الزكاة بالعلة نفسها (انظر رد المحتار: 2/4).
(ب) يؤكد هذا من السنة قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (قال النووي: هذا الحديث صحيح رواه أبو داود والنسائي في كتاب الحدود من سننهما من رواية علي بن أبي طالب بإسناد صحيح. ورواه أبو داود أيضًا في الحدود، والنسائي وابن ماجة في كتاب الطلاق من رواية عائشة بإسناد حسن. انظر المجموع: 6/253)، ورفع القلم كناية عن سقوط التكليف، إذ التكليف لمن يفهم خطاب الشارع، والصِغَر والجنون والنوم حائل دون ذلك.
(ج) ومما يؤيد هذا القول الآية الكريمة: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة 103) إذ التطهير إنما يكون من أرجاس الذنوب، ولا ذنب على الصبي والمجنون حتى يحتاجا إلى تطهير وتزكية، فهما إذن خارجان عمن تؤخذ منهم الزكاة.
والحق أن الأدلة الثلاثة المذكورة، لا تصلح لأن يحتج بها الحنفية ومن شابههم ممن قال بوجوب الزكاة في بعض مال الصبي دون بعض، كما هو مروي عن مجاهد والحسن وابن شبرمة وغيرهم.
إنما يصلح أن يحتج بها الباقر والشعبي والنخعي وشريح، ممن لم يوجب الزكاة في أي مال للصبي والمجنون.(1/113)
( د ) ثم هناك اعتبار المصلحة التي يرعاها الإسلام في سائر أحكامه، ومصلحة الصغير والمجنون هنا تقتضي إبقاء مالهما عليهما، خشية أن تستهلكه الزكاة، لعدم تحقق النماء الذي هو علَّة وجوب الزكاة وذلك لأن الصغير والمجنون ضعيفان لا يستطيعان القيام بأمر أنفسهما وتثمير أموالهما، وقد يخشى من تكرار أخذ الزكاة كل عام منهما أن تأتي عليهما فيتعرضا لذل الحاجة، وهوان الفقر.
ولعل هذا هو السر فيما ذكرناه عن مجاهد من وجوب الزكاة في مالهما النامي بنفسه كالزروع والمواشي، أو الذي ينمى بالعمل والتثمير، كالنقود التي يتجر بها عن طريق المضاربة ونحو ذلك.
وكذلك ما جاء عن الحسن البصري وابن شبرمة أنهما لم يستثنيا من زكاة مال الصغير إلا ذهبه وفضته خاصة، أما الثمار والزروع والمواشي ففيها الزكاة، إذا النماء متحقق في الثمار والزروع والمواشي، أما النقود من ذهب وفضة فليست مالاً ناميًا في ذاته إذ هو جماد لا يقبل النمو وإنما يُرصد للنماء بالتجارة والاستثمار، وهذان -الصبي والمجنون- لا قدرة لهما على تنمية ولا استثمار، فأعفيا من الزكاة في هذا النوع من المال.
إلى الفهرس
القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
ذهب إلى وجوب الزكاة في سائر أموال الصبي والمجنون عطاء وجابر بن زيد، وطاوس ومجاهد والزهري من التابعين، ومن بعدهم ربيعة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، وابن عيينة وأبو عبيد وأبو ثور، وهو مذهب الهادي والمؤيد بالله من الشيعة، وهو قول عمر وابنه وعلي وعائشة وجابر من الصحابة رضي الله عنهم. ولم يستثن هؤلاء ما استثناه مجاهد أو الحسن وابن شبرمة أبو حنيفة.
أدلة القائلين بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
استند هؤلاء إلى عدة أدلة:
1- استندوا - أولاً - إلى عموم النصوص من الآيات والأحاديث الصحيحة التي دلت على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا، ولم تستثن صبيًا ولا مجنونًا.(1/114)
وذلك كقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103). قال أبو محمد بن حزم: فهذا عموم لكل صغير وكبير وعاقل ومجنون، لأنهم كلهم محتاجون إلى طُهرة الله تعالى لهم وتزكيته إياهم، وكلهم من الذين آمنوا.
ومثل هذا: حديث وصية معاذ حين أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وفيه: "فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم". والصبيان والمجانين ترد فيهم الزكاة، إذا كانوا فقراء، فلتؤخذ منهم إذا كانوا أغنياء.
قال ابن حزم: فهذا عموم لكل غني من المسلمين، وهذا يدخل فيه الصغير والكبير إذا كانوا أغنياء (المحلى لابن حزم: 5/201، 202).
2- واستدلوا - ثانيًا - بما رواه الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهَك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ابتغوا في مال اليتيم - أو في أموال اليتامى - لا تذهبها - أولا تستهلكها - الصدقة".
وإسناده صحيح - كما قال البيهقي والنووي - ولكن يوسف بن ماهك تابعي لم يدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحديثه مرسل، ولكن الشافعي عضد هذا المرسل بعموم النصوص الأخرى، وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم (المجموع: 5/329، والسنن الكبرى: 4/107، والروض النضير: 2/417).(1/115)
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (الجزء الثالث صفحة 67): أخبرني سيدي وشيخي: أن إسناده صحيح - يعني بشيخه: الحافظ زين الدين العراقي - (رمز له السيوطي في "الجامع الصغير" -المطبوع منفردًا- الحلبي ومعه شرحه: فيض القدير - بعلامة الصحة، ولكن يبدوا أن الرمز محرف. فقد ذكر شارحه -المناوي في الفيض- بأن السيوطي أشار إليه في الأصل "جمع الجوامع" بقوله: وصحح. وأما هنا فرمز لحسنه، وهو فيه متابع للحافظ ابن حجر فإنه انتصر لمن اقتصر على تحسينه فقط "فيض القدير: 1/108").
وروى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من ولي يتيمًا فليتّجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" وفي سنده مقال.
وصح هذا المعنى موقوفًا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وروى البيهقي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة". قال البيهقي: هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر (السنن الكبرى: 4/107، وانظر المجموع: 5/329). والمراد بالصدقة: "الزكاة" كما صرحت بذلك بعض الروايات.
ووجه الاستدلال بالحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الأوصياء على اليتامى خاصة والمجتمع الإسلامي عامة: أن يعملوا على تنمية أموال اليتامى -وكذلك المجانين- بالتجارة وابتغاء الربح، وحذَّر من تركه دون تثمير ولا استغلال فتأكله الصدقات وتستهلكه، ولا ريب أن الصدقة إنما تأكله بإخراجها، وإخراجها لا يجوز إلا إذا كانت واجبة؛ لأنه لا يجوز للولي أن يتبرع بمال الصغير وينفقه في غير واجب، فيكون قربانًا له بغير التي هي أحسن (انظر مقارنة المذاهب في الفقه للشيخين محمود شلتوت ومحمد السايس ص 48 - طبعة سنة 1953م، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/493).(1/116)
وقد أمر الله ألا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده (كما جاء في الآية 152 من سورة الأنعام، والآية 34 من سورة الإسراء).
3- واستندوا - ثالثًا - إلى ما صح عن الصحابة في هذه القضية.
فقد روى أبو عبيد البيهقي وابن حزم إيجاب الزكاة في مال الصبي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله (انظر الأموال لأبي عبيد ص 448 وما بعدها، والسنن الكبرى ص 107 وما بعدها، والمحلى: 5/208، وأيضًا مصنف ابن أبي شيبة: 4/24، 25، والتلخيص لابن حجر ص 176، وأضاف النووي في المجموع: (5/329): الحسن بن علي أيضًا ولم نعد ابن مسعود لضعف الرواية عنه كما في سنن البيهقي والمجموع والتلخيص. ورأيه: "أن يحصى الولي ما يجب في مال اليتيم من الزكاة، فإذا بلغ أعلمه، فإن شاء زكى وإن شاء لم يزك"). ولم يُعرف لهم مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها (المحلى: 5/208، والمجموع: 5/329، وسبب الضعف: انفراد ابن الهيعة بها وهو ضعيف).
4- واستندوا - رابعًا - إلى المعنى المعقول الذي من أجله فُرِضت الزكاة.
قالوا: إن مقصود الزكاة سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، شكرًا لله تعالى وتطهيرًا للمال، ومال الصبي والمجنون قابل لأداء النفقات والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة (المجموع: 5/330).
قالوا: إذا تقرر هذا، فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة، فوجب إخراجها كزكاة البالغ العاقل. والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه. ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون، فكان على الولي أداؤه عنهما، كنفقة أقاربه. وتعتبر نية الولي في الإخراج، كما تعتبر النية من رب المال (المغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/494).(1/117)
وقال بعض المالكية: إنما يؤمر الولي بإخراج الزكاة عن الصبي إذا أمن أن يتعقب فعله، وجعل له ذلك، وإلا فلا وإذا أخرجها أشهد عليها، فإن لم يشهد فقد قال ابن حبيب، إن كان مأمونًا صدق (شرح الرسالة لابن ناجي: 1/328).
وإذا خشي الولي أن يطالبه الصبي بعد البلوغ، أو المجنون بعد الإفاقة، بغرامة ما دفع من مالهما، بناء على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، فينبغي - كما اقترح بعض المالكية - أن يرفع الأمر لقاض - يرى وجوب الزكاة في مالهما، حتى يحكم له بلزوم الزكاة لهما، فلا يستطيع قاض بعد ذلك أن ينقض هذا الحكم؛ لأن الحكم الأول رفع الخلاف (حاشية الصاوي على الدردير ص 206).
إلى الفهرس
موازنة وترجيح
هذه هي الأدلة التي استند إليها القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون وهم جمهور الأمة - كما رأينا - من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. والواقع أنها أدلة قوية بموازنة أدلة المخالفين:
( أ ) فعموم النصوص لكل صغير وكبير، وعاقل ومجنون. دليل سليم لا مطعن فيه. فإن الله فرض للفقراء والمساكين وسائر المستحقين حقًا في أموال الأغنياء، وهذا مال غني، ولم تشترط النصوص أن يكون هذا الغني بالغًا عاقلاً. مع شدة عناية الشارع بحفظ أموال اليتامى، فمن أراد التخصيص فعليه الدليل، وأين هو؟
(ب) ثم حديث يوسف بن ماهَك الآمر بتنمية أموال اليتامى حتى لا تستهلكها الزكاة حديث صحيح السند ظاهر الدلالة. نعم هو حديث مرسل، ولكنه عضده العموم. وقوّتْه الشواهد، كما أيدته أقوال الصحابة رضي الله عنهم. ومثل ذلك حديث أنس الذي رواه الطبراني (وصححه العراقي) وأقره الهيثمي (وحسنه ابن حجر والسيوطي).(1/118)
(ج) ولا ريب أن أقوال الصحابة - أمثال عمر وعلي وعائشة وابن عمر وجابر - إذا اتفقت في موضوع كهذا، يكثر وقوعه وتعم به البلوى، وخاصة في ذلك المجتمع الذي قدم الشهداء تلو الشهداء، وكثر فيه اليتامى، كان لها دلالتها واعتبارها في هذا المقام، ولا يسع عالمًا إهدار أقوالهم التي أجمعت على هذا الأمر، مع قرب عهدهم بالرسول وكمال فهمهم عنه، ومعرفتهم بالقوارع التي أنزلها الله في شأن أموال اليتامى. والحق أنه لم يصح عن أحد من الصحابة القول بعدم وجوب الزكاة في مال اليتيم. وما روي عن ابن مسعود وابن عباس فهو ضعيف لا يحتج بمثله (انظر مرعاة المفاتيح للعلامة المباركفوري: 3/25).
( د ) وإذا نظرنا إلى المعنى المعقول في تشريع الزكاة تبين لنا أنها حق الفقراء والمساكين والمستحقين في مال الأغنياء، والصبي والمجنون أهل لوجوب حقوق العباد المالية عليهما، فهما أهل لوجوب الزكاة أيضًا.
أما أن الزكاة حق من حقوق العباد، فلأنها داخلة في قوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم) (المعارج: 24 - 25)، وأيضًا قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية (التوبة:60)، والإضافة بحرف اللام "للفقراء" تقتضي الاختصاص بجهة الملك، إذا كان المضاف إليه من أهل الملك كالفقراء ومن عطف عليهم.
ومما يدل على أن الزكاة حق من حقوق المال: قول الخليفة الأول في محاورته لعمر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال" كما ثبت في الصحيحين.
وأما أن الصبي والمجنون أهل لوجوب حقوق العباد في ملكهما؛ فهذا ثابت باتفاق، إذ الصغر والجنون لا يمنعان حقوق الناس، ولهذا يجب في مالهما ضمان المتلفات، وتعويضات الجنايات، ونفقات الزوجات والأقارب ونحوها (انظر: بدائع الصنائع: 2/4-5، ورد المحتار: 2/4).(1/119)
ومن هنا نقول: إن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون بالشروط التي سنوضحها في المال الذي تجب فيه الزكاة، ومنها: الفضل عن الحوائج الأصلية. .
وبهذا الشرط تخرج النقود المحتاج إليها في النفقة اللازمة لهما؛ لأنها غير فاضلة عن حاجتهما.
بهذا كله يتبين لنا رجحان مذهب الأئمة الثلاثة على مذهب الحنفية. وبخاصة أنهم أوجبوا العُشر في مال الصبي والمجنون، وأوجبوا زكاة الفطر في مالهما، ولم يوجبوا الزكاة عليهما فيما عدا ذلك من الأموال.
والقياس يقتضي: أن من وجب العشر في زرعه وجبت الزكاة في سائر أمواله. ولا فرق بين ما يدل عليه قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام: 141)، وقوله: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (الذاريات: 19).
كما لا فرق بين ما يدل عليه قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العُشر"، وقوله: "في الرقة - الدراهم المضروبة - ربع العشر".
فتفرقه الحنفية بين الزروع والثمار والأموال الأخرى، وقولهم: إن الغالب في الأولى معنى المؤنة دون الثانية تفرقة ليس لها أساس معقول ولا منقول.
ومن ثَمَّ اشتد ابن حزم في النعي على هذه التفرقة فقال: "ليت شعري، ما الفرق بين زكاة الزرع والثمار وبين زكاة الماشية والذهب والفضة" ؟؟ !!.
فلو أن عاكسًا عكس قولهم فأوجب الزكاة في ذهبهما وفضتهما وماشيتهما وأسقطها عن زرعهما وثمرتها، أكان يكون بين الحكمين فرق في الفساد"؟ (المحلى: 5/205).
وقال ابن رشد: وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض وما لا تخرجه، وبين الخفي والظاهر في الأموال (ويريد بالظاهر: الماشية والزرع والثمر): فلا أعلم له مستندًا في هذا الوقت (بداية المجتهد: 1/209 - ط. مصطفى الحلبي).
إلى الفهرس
تفنيد أدلة المانعين من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون(1/120)
( أ ) أما ما استدل به المانعون للوجوب من قوله تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103) من أن التطهير لا يكون إلا بإزالة الذنوب ولا ذنب على الصبي والمجنون. فيجاب عنه بأن التطهير ليس خاصًا بإزالة الذنوب، بل يشمل تربية الخُلُق وتنمية النفس على الفضائل، وتدريبها على المعونة والرحمة، كما يشمل تطهير المال أيضًا، فمعنى "تطهرهم": تطهر مالهم.
ولو سلمنا أنه خاص بما ذكروا، فإنما نص عليه نظرًا لأنه الشأن في الزكاة، أو الغالب، كما قال النووي (قال في المجموع: الغالب أنها تطهير، وليس ذاك شرطًا، فإنا اتفقنا على وجوب زكاة الفطر والعُشر في مالهما وإن كان تطهيرًا في أصله: 5/330). وهذا لا يستلزم ألا تجب إلا لذلك اللون من التطهير - وأن ذلك هو السبب الوحيد لمشروعيتها، فقد أجمع العلماء على أن للزكاة سببًا آخر، وهو سد خلة الإسلام، وسد خلة المسلمين، والصبي والمجنون من أهل الإسلام.
(ب) وأما حديث: "رفع القلم عن ثلاثة" فالمراد -كما قال النووي- رفع الإثم والوجوب. ونحن نقول: لا إثم عليهما، ولا تجب الزكاة عليهما، بل تجب الزكاة في مالهما، ويطالب بإخراجها وليهما، كما يجب في مالهما قيمة ما أتلفاه، ويجب على الولي دفعها (انظر: المجموع - المرجع المذكور، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/493 - 494، ومقارنة المذاهب ص 49).
ورفع القلم عنهما لم يسقط حقوق الزوجات وذوي القربى عنهما، فلماذا يسقط حق المسكين وابن السبيل؟
(ج) وأما استدلالهم بأن الزكاة عبادة كالصلاة، ولهذا قرن القرآن بينهما، والعبادة تحتاج إلى نية، والصبي والمعتوه ليسا من أهلها، وقد سقطت الصلاة عنهما فلتسقط الزكاة أيضًا.(1/121)
فالجواب: إننا لا ننكر أن الزكاة عبادة، وأنها شقيقة الصلاة، وأنها أحد أركان الإسلام، ولكننا نقول: إنها عبادة متميزة بطابعها المالي الاجتماعي، فهي عبادة مالية تجري فيها النيابة، حتى تتأدى بأداء الوكيل، ولذا يجري فيها الجبر والاستحلاف من العامل عليها، وإنما يجريان في حقوق العباد، كما أنه يصح توكيل الذمي بأداء الزكاة عند الحنفية، والذمي ليس من أهل العبادة.
قال ابن حزم - ردًا على من قال: إنها فريضة لا تجزئ إلا بنية -: نعم، وإنما أمر بأخذها الإمام والمسلمون بقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) فإذا أخذها من أمر بأخذها بنية أنها الصدقة أجزأت عن الغائب والمغمي عليه والمجنون والصغير ومن لا نية له (المحلى: 5/206).
والخلاصة أن الزكاة عبادة مالية تجري فيها النيابة، والولي نائب الصبي فيها، فيقوم مقامه في إقامة هذا الواجب، بخلاف العبادات البدنية كالصلاة والصيام، فإنها عبادات شخصية لا يجوز فيها التوكيل والإنابة، ولابد أن يباشرها الإنسان بنفسه، إذ التعبد فيها واضح باحتمال المشقة البدنية، امتثالاً لأمر الله تعالى.
وأما سقوط الصلاة عنهما فليس هناك تلازم بين الفريضتين بحيث تثبتان معًا وتزولان معًا. فإن الله لم يفرض الفرائض كلها على وجه واحد يثبت بعضها بثبوت بعض ويزول بعضها بزوال بعض (انظر الأم للشافعي: 2/24 - ط. بولاق). ولا يلزم من سقوط الصلاة سقوط الزكاة (لأنه لا يسقط فرض أوجبه الله تعالى أو رسوله، إلا حيث أسقطه الله تعالى أو رسوله ولا يسقط فرض من أجل سقوط فرض آخر، بالرأي الفاسد بلا نص قرآن ولا سنة) (المحلى: 5/206).
وما أعدل ما قال أبو عبيد في هذا المقام: "إن شرائع الإسلام لا يقاس بعضها ببعض، لأنها أمهات، تمضي كل واحدة على فرضها وسنتها" (الأموال ص 545، وقد بسط أبو عبيد، الكلام في الفرق بين الفريضتين فأحسن).(1/122)
"إن الصلاة إنما هي حق الله عز وجل على العباد فيما بينهم وبينه، وإن الزكاة شيء جعله الله حقًا من حقوق الفقراء في أموال الأغنياء" (الأموال ص 455).
وأما مصلحة الصبي والمجنون فتقابلها مصلحة الفقراء والمساكين، ومصلحة الدين والدولة، ومع هذا لم يهدر الشرع مصلحتهما بإيجاب الزكاة في مالهما، فإن الزكاة إنما تجب في المال النامي بالفعل أو ما من شأنه أن ينمي، ولو لم ينم بالفعل. كما أنها لا تجب إلا في المال الفاضل عن الحوائج الأصلية لماله كله، وقد ذهب بعض فقهاء الحنفية إلى أن النقود التي يحتاج إليها صاحبها للنفقة الضرورية لا تجب فيها الزكاة وإن بلغت نصابًا وحال عليها الحول، لأنها كالمعدومة - كما سيأتي في الباب الثالث (في شرط "الفضل عن الحوائج الأصلية" من الفصل الأول من الباب الثالث) - وهذا ما نختاره بالنسبة للصبي والمجنون اللذين لا يملكان إلا نقودًا لا تزيد على نفقتهما الضرورية إلى وقت البلوغ بالنسبة للصبي، وإلى العمر الغالب لأمثال المجنون.
وهنا جملة أمور ينبغي أن ننبه عليها:
*أولاً: أن الصبي ليس مفروضًا أن يكون يتيمًا حتى تدخل العاطفة في الحكم في هذه القضية، فقد يرث المال عن أمه، أو يملكه بطريق الهبة أو الوصية من جد أو قريب أو غريب، ولهذا نرى أن العنوان الأصدق لهذه المسألة هو: "الزكاة في مال الصبي" لا في "مال اليتيم". ولنذكر أنها قد تكون ألوفًا أو عشرات الألوف أو مئات الألوف من الجنيهات أو الدنانير.
*ثانيًا: أن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فقال: "ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر له فيه ولا يتركه فتأكله الصدقة" (رواه الترمذي والدارقطني).(1/123)
وفي حديث يوسف بن ماهك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابتعثوا بأموال اليتامى لا تُذْهبها الصدقة" (تقدم قريبًا).
فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم، كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها.
نعم، إن في هذين الحديثين ضعفًا من جهة السند أو الاتصال ولكن يقويهما:
أولاً: أن هذا المعنى قد روي من عدة طرق يقوي بعضها بعضًا (بل صحح الحافظ العراقي بعض طرقه، كما ذكرنا).
وثانيًا: أنه قد صح عن بعض الصحابة ما يوافقهما.
وثالثًا: أن الأمر بالاتجار في أموال اليتامى هو الملائم لقوله تعالى: (وارزقوهم فيها واكسوهم) (النساء: 5) ولم يقل: ارزقوهم "منها".
ورابعًا: أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده، القائم على إيجاب التثمير، وتحريم الكنز.
والخطاب في الأحاديث المذكورة يتوجه إلى أولياء اليتامى خاصة، وإلى جماعة المسلمين وأولي الأمر فيهم عامة، فالواجب على الجماعة المسلمة ممثلة في الحكومة أن ترعى أموال هؤلاء اليتامى، وتطمئن إلى حسن تنميتها، وتضع من التشريعات، وتقيم من الضمانات، ما يكفل لمال اليتيم بقاءه ونماءه حتى لا تأكله الزكاة إلى جوار النفقة.
*ثالثًا: أن المجتمع الإسلامي لا يضيع فيه يتيم ولا ضعيف، فلا خشية إلا على اليتيم إذا افترضنا أن أمواله لم تنم -كما أمرت الأحاديث وأشار القرآن- وأن الزكاة بمضي السنين قد أكلتها.
نعم، لا خشية عليه، لأنه في كفالة أقاربه الموسرين أولاً، ثم في كفالة الدولة ثانيًا، قال تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) (البقرة: 215).
(ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب) (البقرة: 177).(1/124)
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال: 41).
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر: 7).
ففي أموال الأفراد نصيب لليتامى إذا أنفقوه زكاة أو شيئًا بعد الزكاة، وفي مال الدولة - من الزكاة أو الغنيمة أو الفيء - جزء لليتامى، عناية من الله بهم، ورعاية لضعفهم. وقد قال عليه السلام: "أنا أولى بكل مسلم من نفسه، من ترك مالاً فلورثته ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا (يعني أولادًا ضائعين لقلة مالهم وصغر سنهم) فإليَّ وعليَّ" (متفق عليه).
وإذا كان اليتيم في كفالة المجتمع المسلم فلا محل للخوف عليه أن يهمل أو يضيع إذا كان من غير مال.
إلى الفهرس
والخلاصة
أن مال الصبي والمجنون تجب فيه الزكاة، لأنها حق يتعلق بالمال فلا يسقط بالصغر والجنون، ويستوي في ذلك أن يكون ماله ماشية سائمة أو زرعًا وثمرًا، أو تجارة أو نقودًا: بشرط ألا تكون النقود مرصدة لنفقته الضرورية، فإنها حينئذ لا تكون فاضلة عن الحاجة الأصلية له. ويطالب ولي الصبي والمجنون بإخراج الزكاة عنهما. والأولى - كما قال بعض المالكية - أن تقضي بذلك محكمة شرعية، ليرفع حكمها الخلاف، ولا يتعرض الولي للمطالبة بغرامة أو تعويض بناء على مذهب الحنفية.
الباب الثالث
الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقادير الواجب فيها
فهرس
زكاة العسل والمنتجات الحيوانية
زكاة الثروة المعدنية والبحرية
زكاة المستغلات: العمارات والمصانع ونحوها
زكاة كسب العمل والمهن الحرة
زكاة الأسهم والسندات
تمهيد
المال الذي تجب فيه الزكاة
زكاة الثروة الحيوانية
زكاة الذهب والفضة
زكاة الثروة التجارية
زكاة الزروع والثمار(1/125)
هذا الباب هو عمدة أحكام الزكاة، لأنه يشتمل على بيان أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، وما في ذلك من شروط وتفصيل، يشتمل هذا الباب على عشرة فصول:
الأول: فصل تمهيدي في المال الذي تجب فيه الزكاة وشروطه.
الثاني: في زكاة الثروة الحيوانية.
الثالث: في زكاة الذهب والفضة.
الرابع: في زكاة الثروة التجارية.
الخامس: في زكاة الزروع والثمار.
السادس: في زكاة العسل والمنتجات الحيوانية.
السابع: في زكاة الثروة المعدنية والبحرية.
الثامن: في زكاة "المستغلات" من العمارات المؤجرة والمصانع ونحوها.
التاسع: في زكاة الدخل من كسب العمل والمهن الحرة.
العاشر: مباحث متفرقة.
الفصل الأول
الشروط العامة للمال الذي تجب فيه الزكاة
فهرس
تابع شروط المال الذي تجب فيه الزكاة
3. بلوغ النصاب
4. الفضل عن الحوائج الأصلية
5. السلامة من الدين
6. حولان الحول
تمهيد
معنى المال لغة وشرعا
شروط المال الذي تجب فيه الزكاة
1. الملك التام
2. النماء
لم يحدد القرآن، الأموال التي تجب فيها الزكاة. ما هي؟ وما شروطها؟ كما لم يُفصِّل المقادير الواجبة في كل منها. وترك ذلك للسُنَّة القولية والعملية، تفصل ما أجمله، وتبين ما أبهمه، وتخصص ما عممه وتضع النماذج لتطبيقه، وتجعل مبادئه النظرية واقعًا عمليًا، في حياة البشر. وذلك أن الرسول عليه السلام، هو المكلف ببيان ما أنزل الله من القرآن، بقوله، وفعله، وتقريره. وهو أعلم الناس بمراد الله من كلامه وكتابه الكريم.
قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل: 44) نعم، هناك أنواع من الأموال، ذكرها القرآن، ونبهنا على زكاتها، وأداء حق الله فيها إجمالاً:
الأول: الذهب والفضة، التي ذكرها الله في قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة: 34).(1/126)
والثاني: الزروع والثمار التي قال الله فيها: (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام: 141).
والثالث: الكسب من تجارة وغيرها كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) (البقرة: 267).
والرابع: الخارج من الأرض من معدن وغيره، قال تعالى: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة: 267).
وفيما عدا ذلك، عبَّر القرآن عما تجب فيه الزكاة، بكلمة عامة مطلقة، وهي كلمة "أموال" في مثل قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103)، (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) الذاريات: 19.
إلى الفهرس
معنى المال لغة وشرعًا
ولكن ماذا تعني "أموال" التي ذكرها القرآن، كما ذكرتها الأحاديث؟ .
الأموال: جمع كلمة "مال"، والمال عند العرب الذين نزل القرآن بلسانهم: يشمل كل ما يرغب الناس في اقتنائه وامتلاكه من الأِشياء، فالإبل مال، والبقر مال، والغنم مال، والضياع مال، والنخيل مال، والذهب والفضة مال، ولهذا قالت المعاجم العربية (كالقاموس المحيط: 4/52 ولسان العرب: باب اللام، فصل: الميم): المال: ما ملكته من جميع الأشياء، غير أن أهل البادية، أكثر ما يطلقون المال على الأنعام، وأهل الحَضَر أكثر ما يطلقونه على الذهب والفضة، وإن كان الجميع مالاً.
قال ابن الأثير: المال في الأصل: ما يُملَّك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يُقتنى ويُملَّك من الأعيان.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد معنى المال شرعًا
فعند فقهاء الحنفية
المال: كل ما يمكن حيازته، والانتفاع به على وجه معتاد. فلا يكون الشيء مالاً،إلا إذا توافر فيه أمران: إمكان حيازته، وإمكان الانتفاع به على وجه معتاد، فما حِيزَ من الأشياء، وانتُفِعَ به فعلاً، يُعَد من الأموال، كجميع الأشياء التي نملكها من أرض وحيوان، ومتاع ونقود.(1/127)
وما لم يُحزْ منها، ولم يُنتفع به، فإن كان في الإمكان أن يتحقق فيه ذلك، عُدَّ من الأموال أيضًا، كجميع المباحات من الأشياء، مثل السمك في البحر، والطير في الجو، والحيوان في الفلاة. فإن الاستيلاء عليه ممكن، والانتفاع به على وجه معتاد ممكن كذلك.
أما ما ليس في الإمكان حيازته فلا يُعَد مالاً. وإن انتُفع به، كضوء الشمس وحرارتها، وكذلك ما لا يمكن الانتفاع به على وجه معتاد لا يُعَد مالاً، وإن أُحْرِز فعلاً، كحفنة من تراب، وقَطْرة من ماء، ونحلة، وحبة من أرز مثلاً.
ومقتضى هذا التعريف:
أن المال لا يكون إلا مادة، حتى يتأتى إحرازه وحيازته، ويترتب عل ذلك أن منافع الأعيان -كسكنى المنازل، وركوب السيارات، ولبس الثياب - لا تُعَد مالاً، لعدم إمكان حيازتها. ومثلها في ذلك الحقوق -كحق الحضانة، وحق الولاية- وهذا مذهب الحنفية.
وذهب الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أن المنافع أموال، إذ ليس من الواجب في المال عندهم إمكان إحرازه بنفسه، بل يكفي أن تمكن حيازته بحيازة أصله ومصدره، ولا شك أن المنافع تُحاز بحيازة محالها ومصادرها، فإن من يحوز سيارة يمنع غيره أن ينتفع بها إلا بإذنه. وهكذا.
وقد أخذ علماء التشريع الوضعي بهذا الرأي، فاعتبروا المنافع من الأموال، كما اعتبروا حقوق المؤلفين، وشهادات الاختراع وأمثالها مالاً، ولذلك كان المال عندهم أعم من المال عند الفقهاء (من كتاب "أحكام المعاملات الشرعية" للأستاذ الشيخ على الخفيف ص 3 -4).
والذي نرجحه هنا: أن تعريف الحنفية للمال أقرب إلى المعنى اللغوي الذي ذكرته المعاجم العربية، وهو الذي يمكن تطبيق نصوص الزكاة عليه، فإن الأعيان -لا المنافع- هي التي يمكن أن تؤخذ وتجبى وتوضع في بيت المال، وتوزَّع على المستحقين.(1/128)
قال ابن نجيم في البحر: والمال -كما صرَّح به أهل الأصول-: ما يُتموّل ويُدَّخر للحاجة، وهو خاص بالأعيان ... فخرج تمليك المنافع. قال في الكشف الكبير: الزكاة لا تتأدى إلا بتمليك عين متقوَّمة، حتى لو أسكن الفقير داره بنيَّة الزكاة لا يجزئه، لأن المنفعة ليست بعين متقومة. قال ابن نجيم: وهذا على إحدى الطريقتين. وأما على الأخرى من المنفعة مال، فهو عند الإطلاق منصرف إلى العين (البحر الرائق: 2/217).
والذي يعنينا هنا: أن المال عند الإطلاق ينصرف إلى "العين" وهو الذي تجب فيه الزكاة.
إلى الفهرس
شروط المال الذي تجب فيه الزكاة
وإذا كان ما يملكه الإنسان مما له قيمة يسمى "مالاً" فهل تجب الزكاة في كل مال، مهما يكن مقداره، ومهما تكن الحاجة إليه؟.
البيت الذي يسكنه الإنسان مال، والثياب التي يلبسها مال، والكتب التي يقتنيها للقراءة مال، وأدوات الحرفة التي يعمل فيها بيده مال، فهل تجب في كل ذلك الزكاة؟.والأعرابي الذي يملك ناقتين أو بضع شياه، هل تجب عليه الزكاة؟
والفلاح الذي يخرج من زرعه إردب أو اثنان لقوته وقوت عياله، هل عليه فيها الزكاة؟
والإنسان الذي يملك بضعة دراهم أو دنانير، هل تجب عليه فيها الزكاة؟
والتاجر الذي يملك بعض السلع والنقود، وعليه من الديون مثلها أو أكثر منها، هل عليه الزكاة؟
إن العدل الذي جاء به الإسلام، واليُسر التي جاءت به شريعته، يأبيان إرهاق المكلفين بما يعنتهم ويوقعهم في الحرج والعُسر الذي رفعه الله عنهم. وإذن، فلا بد من تحديد صفة هذا المال، الذي تجب فيه الزكاة، وبيان شروطه. ونستطيع أن نبين هذه الشروط فيما يلي
ثالثاً: بلوغ النصاب(1/129)
لم يفرض الإسلام زكاة في أي قدر من المال النامي، وإن كان ضئيلاً، بل اشترط أن يبلغ المال مقدارًا محددًا يسمى "النصاب" في لغة الفقه، فقد جاءت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء ما دون الخمس من الإبل، والأربعين من الغنم، فليس فيهما زكاة، وكذلك ما دون مائتي درهم من النقود الفضية (الوَرِق)، وما دون خمسة أوسق من الحبوب والثمار، والحاصلات الزراعية (ستأتي الأحاديث المبينة للأنصبة في الفصول القادمة).
قال شيخ الإسلام الدهلوي (هو الإمام العلامة مجدد الإسلام في الهند أحمد بن عبد الرحيم المعروف بلقب: شاه ولي الله، ولد سنة 1114هـ، وتوفي سنة 1176هـ صاحب "حجة الله البالغة" وغيرها من المؤلفات القيمة. انظر ترجمته مفصلة في "نزهة الخواطر" للسيد عبد الحي الحسني: 6/398-415- ترجمة رقم (760)، وكذلك في "تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند" لمسعود الندوي ص 129 وما بعدها، وفي "موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه" للسيد أبي الأعلى المودودي ص 101-121. وانظر الأعلام للزركلي: 1/144-145) .
في بيان الحكمة من هذه المقادير:
"إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق، لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة. وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث -خادم أو ولد بينهما- وما يضاهي ذلك من أقل البيوت. وغالب قوت الإنسان رطل أو مُدٌّ من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم.
"وإنما قدّر من الورق خمس أواق (مائتي درهم) لأنها مقدار يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار. واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك.(1/130)
"وإنما قدّر من الإبل خمس ذود، وجعل زكاته شاة، وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلا من جنس المال، وأن يجعل النصاب عددًا له بال؛ لأن الإبل أعظم المواشي جثة، وأكثرها فائدة: يمكن أن تُذبح، وتُركب، وتُحلب، ويُطلب منها النسل، ويُستدفأ بأوبارها وجلودها. وكان بعضهم يقتني نجائب قليلة تكفي كفاية الصرمة. وكان البعير يسوَّي في ذلك الزمان بعشر شياه، وبثمان شياه، واثنتي عشرة شاة، كما ورد في كثير من الأحاديث فجعل خمس ذود في حكم أدنى نصاب من الغنم، وجعل فيها شاة" (حجة الله البالغة: 2/506). أ. هـ.
واشتراط النصاب في مال الزكاة مُجْمَع عليه بين العلماء، في غير الزروع والثمار والمعادن، ويرى أبو حنيفة أن في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره العُشر، وكذلك روي عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: أن في عشر حِزم من البقل تخرجها الأرض حزمة منها صدقة واجبة.
ولكن جمهور العلماء يرون النصاب شرطًا لا بد منه لوجوب الزكاة في كل مال، يستوي في ذلك الخارج من الأرض وغيره من المال، وحُجَّتهم في ذلك حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وهو ما يقتضيه القياس على الأموال الأخرى، من الأنعام والنقود وعروض التجارة. .
والحكمة في اشتراط النصاب واضحة بيَّنة، وهي أن الزكاة إنما هي ضريبة تؤخذ من الغني مواساة للفقير، ومشاركة في مصلحة الإسلام والمسلمين، فلا بد أن تؤخذ من مال يحتمل المواساة، ولا معنى لأن نأخذ من الفقير ضريبة، وهو في حاجة إلى أن يُعان، لا أن يُعين، ومن ثَمَّ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" رواه البخاري معلقًا. والإمام أحمد موصولاً كما سيأتي في الشرط الرابع.
ومن هنا اتجه التشريع الضريبي الحديث إلى إعفاء ذوي الدخل المحدود من فرض الضرائب عليهم، رفقًا بهم، ومراعاة لحالهم، وعدم مقدرتهم على الدفع، وهو ما سبقت به شريعة الله منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان.
رابعاً: الفضل عن الحوائج الأصلية(1/131)
ومن الفقهاء من أضاف إلى شرط النماء في المال - أن يكون النصاب فاضلاً عن الحاجة الأصلية لمالكه - كما قرر ذلك الحنفية في عامة كتبهم - لأن به يتحقق الغِنى ومعنى النعمة، وهو الذي به يحصل الأداء عن طيب النفس، إذ المحتاج إليه حاجة أصلية، لا يكون صاحبه غنيًا عنه، ولا يكون نعمة، إذ التنعم لا يحصل بالقَدْر المحتاج إليه حاجة أصلية، لأنه من ضرورات البقاء، وقوائم البدن، وكان شكره شكر نعمة البدن، ولا يحصل الأداء عن طيب نفس، فلا يقع الأداء بالجهة المأمور بها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أدُّوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم" فلا تقع زكاة (بدائع الصنائع للكاساني: 2/11. والحديث المذكور رواه الطبراني عن أبي الدرداء وهو ضعيف).
ومن الفقهاء من اعتبر شرط النماء مغنيًا عن هذا الشرط، وذلك أن الأشياء التي يُحتاج إليها حاجة أصلية لا تكون في العادة نامية ولا مُعَدة للنماء، كما يتضح ذلك في دار السكنى، ودابة الركوب، وثياب اللبس، وسلاح الاستعمال، وكتب العلم، وآلات الاحتراف ونحوها، فكلها من الحاجات الأصلية، وهي مع ذلك غير نامية.
وقالوا: إن حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوُقف عليه، فلا يُعرف الفضل عن الحاجة، فأقيم دليل الفضل عن الحاجة مقامه، وهو الإعداد للإسامة والتجارة (البدائع: 2/11). وهذا الإعداد هو الذي يتحقق به معنى النماء المشروط من قبل.
والحق أن شرط النماء لا يغني عن هذا الشرط، لأنهم اعتبروا النقود نامية بطبيعتها، لأنها مخلوقة للتداول والاستثمار وإن لم ينمها صاحبها بالفعل، فلولا هذا الشرط لاعْتُبِر الذي معه نصاب من النقود محتاج لطعامه أو كسوته أو سكناه أو علاجه، أو لحاجة أهله وولده، ومَن يجب عليه عوله - غنيًا يجب عليه الزكاة، مع أن المحققين من العلماء اعتبروا المشغول بالحاجة الأصلية كالمعدوم (انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 2/6).(1/132)
وإنما قلنا: الحاجة الأصلية، لأنه حاجات الإنسان كثيرة ولا تكاد تتناهى، وخاصة في عصرنا الذي تكاد تصبح فيه الكماليات حاجيات، والحاجيات ضروريات، فليس كل ما يرغب فيه الإنسان يُعد حاجة أصلية، لأن ابن آدم لو كان له واديان من ذهب لابتغى ثالثًا، ولكن الحاجات الأصلية ما لا غنى للإنسان عنه في بقائه، كمأكله وملبسه ومشربه ومسكنه، وما يعينه على ذلك من كتب علمه وفنه، وأدوات حرفته ونحو ذلك.
وقد فسَّر بعض علماء الحنفية الحاجة الأصلية تفسيرًا علميًا دقيقًا فقال: هي ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا، كالنفقة ودور السكنى وآلات الحرب، والثياب المحتاج إليها لدفع الحر والبرد، أو تقديرًا: كالدَيْن، فإن المدين يحتاج إلى قضائه بما في يده من النصاب ليدفع عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة، وأثاث المنزل، ودواب الركوب، وكتب العلم لأهلها، فإن الجهل عندهم كالهلاك، فإذا كان له دراهم مستحقة أن يصرفها إلى تلك الحوائج صارت كالمعدومة، كما أن الماء المستحق بصرفه إلى العطش كان كالمعدوم وجاز عندهم التيمم (حاشية ابن عابدين: 2/6، والبحر الرائق: 2/222، نقلاً عن ابن الملك في شرح المجمع).
ومما نسجله بكل إعجاب وتقدير لعلمائنا: أنهم اعتبروا العلم حياة، والجهل موتًا وهلاكًا، واعتبروا ما يدفع الجهل عن الإنسان من الحاجات الأساسية كالقوت الذي يدفع عنه الجوع، والثوب الذي يدفع عنه العري والأذى، كم اعتبروا الحرية حياة، والحبس والقيد هلاكًا أو كالهلاك.
والذي نراه على كل حال: أن الحاجات الأصلية للإنسان قد تتغير وتتطور بتغير الأزمان والبيئات والأحوال. والأولى أن تُترك لتقدير أهل الرأي واجتهاد أولي الأمر.
والمعتبر هنا: الحاجات الأًصلية للمكلَّف بالزكاة، ومن يعوله من الزوجة والأولاد - مهما بلغ عددهم - والوالدين والأقارب الذين تلزمه نفقتهم، فإن حاجتهم من حاجته.(1/133)
وبهذا الشرط سبق الفقه الإسلامي -بقرون طويلة- أحدث ما وصل إليه الفكر الضريبي الحديث، الذي نادى بإعفاء الحد الأدنى للمعيشة من الضريبة، والتخلص من النظرة "العينية" القديمة التي تنظر إلى "عين المال" دون "شخص صاحبه"، وظروفه وحاجاته وديونه وأعبائه العائلية، واعتبروا النظر إلى "شخصية الممول" وظروفه الخاصة تطورًا وارتقاءً في عالم الفكر والتشريع الضريبي، هذا مع أن كثيرًا من رجال المالية لا يطبقون تلك النظريات في كثير من البلدان، فقد يعفون الحد الضروري لمعيشة الفرد وحده، أو هو وثلاثة من أولاده، وإن كان لديه سبعة أو عشرة من الأولاد، غير ملتفتين إلى من يعولهم من الوالدين والأقارب.
أدلة هذا الشرط من القرآن والسنة
ومما يدل لهذا الشرط -فضلاً عما ذكره الفقهاء من الوجوه العقلية- ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الصدقة عن ظهر غنىً"، وفي رواية: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" (الحديث رقم (7155) من المسند. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح. انظر التعليق عليه في الجزء 12 من المسند، وانظر فتح الباري: 3/189).
وذكره البخاري بهذا اللفظ معلقًا في كتاب الوصايا من صحيحه، وجعله عنوانًا لباب من كتاب الزكاة، قال فيه: (باب) لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج، أو أهله محتاجون، أو عليه دين، فالدَّيْن أحق أن يُقضى من الصدقة، قال الحافظ في شرح هذا العنوان: كأنه أراد تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق ألا يكون محتاجًا لنفسه أو لمن يلزمه نفقته" (فتح الباري: 3/189). ولا شك أن الزكاة صدقة، كما عبَّر عن ذلك القرآن والسنة.
كما يدل لاعتبار ذلك الشرط قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (البقرة: 219) فعن ابن عباس: العفو ما يفضل عن أهلك (تفسير ابن كثير: 1/256).(1/134)
قال ابن كثير: وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالم، وعطاء الخراساني، والربيع بن أنس وغير واحد، أنهم قالوا في قوله: "العفو"، يعني: الفضل (تفسير ابن كثير: 1/256).
ومعنى هذا أن الله جلَّت حكمته جعل وعاء الإنفاق ما زاد عن الكفاف، وما فضل عن الحاجة - حاجة الإنسان لنفسه وأهله ومَن يعوله - وذلك أن حاجة الإنسان مقدمة على حاجة غيره، وكذا حاجة أهله وولده ومن يعول، بمنزلة حاجة نفسه، فلم يطالبه الشرع بالإنفاق مما يحتاج إليه، لتعلق قلبه به، لمسيس حاجته إليه، لتطيب نفسه بإنفاقه.
وجاء عن الحسن في تفسير الآية: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) قال: ذلك ألا يجهد مالك، ثم تقعد تسأل الناس (تفسير ابن كثير: 1/256).
قال ابن كثير: ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله ! عندي دينار، قال: "أنفقه على نفسك"، قال: عندي آخر، قال "أنفقه على أهلك" (زوجك)، قال: عندي آخر، قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر، قال: "أنت أبصر". وقد رواه مسلم في صحيحه. وهو يدل على أن حاجة الإنسان وأهله وولده مقدمة على حاجة غيره.
وأخرج مسلم أيضًا عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذوي قرابتك، فإن فضل عن ذوي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" أهـ.
وإذا كان بعض هذه الأحاديث في صدقة التطوع والإنفاق المندوب لا الواجب، فإنها على وجه عام تدلنا على هدي الإسلام في الإنفاق، وأن وعاءه -كما حددت الآية الكريمة بلفظة موجزة جامعة- هو "العفو"، وأن "العفو" كما فهمه جمهور علماء الأمة -الذين ذكرهم ابن كثير- هو ما فضل عن الحاجة.
خامساً: السلامة من الدَيْن(1/135)
ومن تمام المِلْك الذي اشترطناه، ومما يستلزمه الفضل عن الحوائج الأصلية: أن يكون النصاب سالمًا من الدَيْن، فإذا كان المالك مدينًا بدَيْن يستغرق نصاب الزكاة أو ينقصه، فإن الزكاة لا تجب عليه فيه، غير أن الفقهاء اختلفوا في ذلك، وخاصة فيما يتعلق بديون الأموال الظاهرة، والسبب في اختلافهم يرجع إلى تكييفهم للزكاة ونظرتهم إليها واختلافهم في ذلك، كما ذكر ابن رشد: هل الزكاة عبادة، أو حق مرتب في المال للمساكين؟
فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدَيْن، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين. وهو في الحقيقة مال صاحب الدين، لا الذي المال بيده.
ومن قال: هي عبادة، قال: تجب على من بيده المال، لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية للوجوب على المكلف، سواء أكان عليه دين أم لم يكن، وأيضًا فإنه قد تعارض هنالك حقان، حق الله، وحق الآدمي، وحق الله أحق أن يُقضَى (بداية المجتهد ص 238).
قال ابن رشد: والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المدين (المرجع السابق).
وما رجحه ابن رشد هو ما تعطيه نصوص الشريعة وروحها ومبادئها العامة بالنسبة للأموال كلها ظاهرة وباطنة.
والأدلة على ذلك ما يأتي:
أولاً: إن ملكية المدين ضعيفة وناقصة، لتسلط الدائن المستحق عليه، ومطالبته بدَيْنه. ولذا يأخذه الغريم إذا كان من جنس ديْنه من غير قضاء ولا رضاء، كما هو مذهب الحنفية وغيرهم (انظر المجموع للنووي: 5/346. وانظر البحر لابن نجم: 2/219). وقد بيَّنا أن الشرط الأول في المال الذي تجب فيه الزكاة تمام الملك.
ثانيًا: إن رب الدَّيْن مطالب بتزكيته، لأنه ماله وهو مالكه وصاحبه، (وهذا هو قول الجمهور) فلو زكَّاه المدين، لوجبت الزكاة في مال واحد مرتين، وهو ازدواج ممنوع في الشرع (المرجع السابق).(1/136)
ثالثًا: إن المدين دَيْنًا يستغرق النصاب أو ينقصه، ممن يحل له أخذ الزكاة، لأنه من الفقراء، ولأنه من الغارمين، فكيف تجب عليه الزكاة وهو ممن يستحقها؟
رابعًا: إن الصدقة لا تُشرع، إلا عن ظهر غنى، كما جاء في الحديث، ولا غنى عند المدين وهو محتاج إلى قضاء الدَيْن، الذي يعرِّضه لعقوبة الحبس، فضلاً عما فيه من هم الليل وذل النهار.
خامسًا: يحقق هذا: أن الزكاة إنما وجبت مواساة لذوي الحاجات، والمدين محتاج إلى قضاء دينه، كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لدفع حاجة غيره (انظر المغني: 3/41)، وقد قال عليه السلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
سادسًا: روى أبو عبيد عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تُخرجوا زكاة أموالكم" (الأموال ص 437 والشهر المذكور قيل: هو شهر رمضان، وقيل: هو المحرم). وفي لفظ رواه مالك: "من كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله" (قال الحافظ في التلخيص ص 178: رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن عثمان [ونسبه في "المطالب العالية" لمسدد، وقال: إسناده صحيح، وتابعه البوصيري كما في حاشية "المطالب": 1/234). وفي لفظ رواه البيهقي عن السائب أنه سمع عثمان بن عفان خطيبًا على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هذا شهر زكاتكم ..." (انظر السنن الكبرى: 4/148) ومعنى هذا أنه قال ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه فدل على اتفاقهم عليه (المغني، المرجع السابق).
ومن أجل هذه الوجوه المذكورة، ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الدين يمنع وجوب الزكاة، أو ينقص بقدره، في الأموال الباطنة - النقود وعروض التجارة - وبه قال عطاء، وسليمان بن يسار، والحسن، والنخعي، والليث، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابه، ولم يخالف في ذلك إلا ربيعة وحماد بن سليمان والشافعي في الجديد.(1/137)
أما الأموال الظاهرة -المواشي والزروع- فذهب بعض الفقهاء إلى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيها، وفرقوا بينها وبين الباطنة بأن تعلق الزكاة بها أوكد، لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها، ولهذا شرع إرسال السُّعاة لأخذها من أربابها، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه يفعلون. وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق، ولم يرد أنهم استكرهوا الناس على الأموال الباطنة، ولأن السعاة في الظاهر يأخذون زكاة ما يجدون، ولا يسألون عما على صاحبها من الدين، وهذا يدل على أنه لا يمنع زكاتها. ولأن تعلق الأطماع من الفقراء بها أكثر، والحاجة إلى حفظها أوفر، فتكون الزكاة فيها أوكد (المغني: 3/42 - 43).
هذا قول مالك والأوزاعي، والشافعي، ورواية عن أحمد (يشبه هذا ما قرره التشريع الضرائبي من عينية الضريبة المفروضة على الأطيان ونحوها، وعلى إيراد القيمة المنقولة (الأسهم والسندات) فهي تصيب نتاج هذه القيمة دون نظر إلى شخص حاملها. فالضريبة العقارية تستحق على الفدان حتمًا، بصرف النظر عن حالة مالكه ولو اشتراه بالدَيْن، وكذا تستحق الضريبة على إيراد السهم والسند، انظر تشريع الضرائب للدكتور محمد حلمي مراد: 1/78 - ط. أولى).
ويرى أبو حنيفة أن الدين يمنع سائر الأموال إلا الزرع والثمر (انظر المغني: 3/42).
وقد اختلف ابن عمر وابن عباس في الدين على الزرع - فقال ابن عباس: يُخرج ما استدان على ثمرته ويُزكِّي ما بقي. وقال ابن عمر: يُخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويُزكي ما بقي (السنن الكبرى: 4/148).(1/138)
والذي يتضح لنا أن التفريق بين المال الظاهر والباطن أمر غير واضح، والظهور والبطون أمر نسبي، وربما أصبحت عروض التجارة -في عصرنا- أشد ظهورًا وبروزًا للفقراء وغيرهم من الأنعام والزروع، ولهذا نرى أن التعليل المذكور، لا يقاوم عموم الأدلة السابقة، وأن الدين يمنع وجوب الزكاة في سائر الأموال، والشريعة تعمل دائمًا على التيسير على المدين، والأخذ بيده بكل الوسائل، وفي شتَّى المجالات، وذلك لا يتفق وإيجاب الزكاة عليه.
وهذا قول عطاء، والحسن، وسليمان، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والليث، وإسحاق، ورواية عن أحمد (المغني: 3/42).
ورواه أبو عبيد عن مكحول، وقال: يروى عن طاوس أيضًا (الأموال ص 510).
واختار أبو عبيد: أن الدين إذا عُلِمت صحته (أي لم يكن مجرد دعوى) يُسقِط الزكاة عن صاحب الزرع والماشية، اتباعًا لسنة الرسول الذي أمر أن تؤخذ الزكاة من الأغنياء لترد على الفقراء. والمدين من أهل الزكاة، فكيف تؤخذ منه؟ ومع هذا إنه من الغارمين فاستوجبها من جهتين (المرجع السابق ص 511).
فهذا القول فيه إذا علمت صحة دينه، وإن كان ذلك لا يُعلم إلا بقوله لم تُقبل دعواه، وأخذت منه الصدقة من الزرع والماشية جميعًا، لأن صدقة الزرع والماشية حق واجب ظاهر قد لزم صاحبه، والدين الذي عليه يدَّعيه باطن لا يُدْرَى، لعله فيه مبطل، فليس بمقبول منه، إنما هذا كرجل وجبت عليه حقوق لقوم، فادَّعى المخرج منها وأداءها إليهم، فلا يُصدَّق على ذلك" (نفس المرجع) فهو يرى أن الدين مانع من الوجوب بشرط إثبات ما يدل على صحة الدَيْن، وهو كلام صحيح، ما دامت الدولة هي التي تتولى أمر الزكاة، حتى لا يضيع الناس حق الله والفقير في أموالهم بادعاء الديون، وخاصة في عصرنا الذي ضعف فيه الدين، وقلَّ اليقين.
شروط الدَيْن الذي يمنع وجوب الزكاة(1/139)
الشرط الذي لا خلاف فيه: أن يكون هذا الدين مما يستغرق النصاب أو ينقصه، ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب، وما لا يستغنى عنه، مثل أن يكون له عشرون دينارًا، وعليه دينار أو أكثر أو أقل، مما ينقص به النصاب إذا قضاه به، ولا يجد قضاءً له من غير النصاب، فإن كان له ثلاثون دينارًا وعليه عشرة، فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه. وإن عليه خمسة، فعليه زكاة خمسة وعشرين.
ولو أن له مائة من الغنم، وعليه ما يقابل الستين فعليه زكاة الأربعين، فإن كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه، لأنه ينقص النصاب (المغني: 3/43).
وهل يشترط أن يكون هذا الدين حالاً؟
الراجح أنه لا فرق بين الدين الحال والمؤجل، لعموم الأدلة، وإن قال بعض العلماء: إن المؤجل لا يمنع وجوب الزكاة، لأنه غير مطالب به في الحال (المرجع السابق).
ومن الدين المؤجل: صداق الزوجة المؤجل إلى الطلاق أو الموت. وقد اختلفوا، هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟
قال بعضهم: المهر المؤجل لا يمنع، لأنه غير مطالب به عادة، بخلاف المعجَّل.
وقال غيرهم: يمنع، لأنه دين كغيره من الديون.
وقال آخرون: إن كان الزوج على عزم الأداء منع، وإلا فلا، لأنه لا يُعد دَيْنًا (البحر الرائق: 2/216).
ونفقة الزوجة إذا صارت دينًا على الزوج إما بالصلح أو بالقضاء، ومثلها نفقة الأقارب تمنع وجوب الزكاة (المرجع السابق).
وهل يستوي في ذلك ديون الله وديون العباد؟.
قال النووي من الشافعية: إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، فإنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي (المجموع: 5/345).(1/140)
وقال الحنفية: إن الدين المانع للزكاة، ما كان له مطالب من جهة العباد، ومنه الزكاة، لأنه هو الذي تتوجه فيه المطالبة، ويتسلط فيه المستحق على المدين، ويمكن للحاكم أن يأخذ ماله منه، لحق الغرماء.فملكه فيه ضعيف غير مستقر، بخلاف دين الله من نذور وكفَّارة ونحوها. وإذا كان عليه زكوات لسنوات خَلَتْ، فإنها تُعد من الدين الذي له مطالب من جهة العباد. وهو الإمام النائب عن المستحقين (انظر المغني: 3/45، وانظر: الهداية وشروحها: 1/486، 487).
وهذا هو الذي نختاره إذا كانت الحكومة المسلمة هي التي تقوم بأمر الزكاة، حتى لا يدَّعي من يشاء من أرباب المال أن عليه نذورًا، أو كفارات أو نحو ذلك مما لا يُستطاع تحقيقه وإثباته أو نفيه.
فإذا كان الفرد المسلم هو الذي يخرج زكاته بنفسه، فله أن يحتسب هذه الديون من ماله، ويقضيها قبل أداء الزكاة، عملاً بعموم الحديث: "فدَيْن الله أحق أن يُقضَى" (البخاري وغيره).
سادساً: حولان الحَوْل
معناه
خلاف بعض الصحابة والتابعين واشتراط الحول
السر في اعتبار الحول لبعض الأموال
القدر المجمع عليه في أمر الحول
الدليل على اشتراط الحول
الخلاف في المال المستفاد
ومعناه: أن يمر على المِلْك في ملك المالك اثنا عشر شهرًا عربيًا، وهذا الشرط إنما هو بالنسبة للأنعام والنقود، والسلع التجارية (وهو ما يمكن أن يدخل تحت اسم زكاة رأس المال). أما الزروع والثمار والعسل والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها فلا يشتطر لها حَوْل، وهو ما يمكن أن يدخل تحت اسم "زكاة الدخل".
إلى أعلى
السر في اعتبار الحول لبعض الأموال
والفرق بين ما اعتبر له الحول، وما لم يُعتَبر له، ما قاله الإمام ابن قدامة: أن ما اعتبر له الحول مرصد للنماء، فالماشية، مرصدة للدر والنسل، وعروض التجارة مرصدة للربح، وكذا الأثمان، فاعتبر له الحول، لأنه مظنة النماء، ليكون إخراج الزكاة من الربح، فإنه أيسر وأسهل، ولأن الزكاة إنما وجبت مواساة.(1/141)
ولم تعتبر حقيقة النماء، لكثرة اختلافه، وعدم ضبطه، ولأن ما اعتبرت مظنته لم يلتفت إلى حقيقته، كالحكم مع الأسباب، ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال، فلا بد لها من ضابط، كيلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن الواحد مرات، فينفذ مال المالك.
أما الزروع والثمار فهي نماء في نفسها، تتكامل عند إخراج الزكاة منها، فتؤخذ الزكاة منها حينئذ، ثم تعود في النقص لا في النماء، فلا تجب فيها زكاة ثانية، لعدم إرصادها للنماء. والخارج من المعدن مستفاد خارج من الأرض بمنزلة الزرع والثمرة (المغني 1/625 - الطبعة الثالثة - المنار).
إلى أعلى
الدليل على اشتراط الحَوْل
ذكر ابن رشد (بداية المجتهد: 2/261 - 262): أن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم، ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف، لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعًا من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (قال الحافظ في التلخيص ص 175: رواه الدارقطني البيهقي من حديث ابن عمر وفيه إسماعيل بن عياش وحديثه عن غير أهل الشام ضعيف وقد رواه بعض الرواة موقوفًا وصحح الدارقطني في العلل الموقوف، ولكن الحديث ضعيف باتفاق، والخلاف فيه قائم منذ عصر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وقد حكي ذلك ابن رشد نفسه عن ابن عباس ومعاوية، والرواية عنهما صحيحة، كما صحت عن ابن مسعود أيضًا).
"وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار، وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية. وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت" (بداية المجتهد - المرجع المذكور).
إلى أعلى
خلاف بعض الصحابة والتابعين واشتراط الحول(1/142)
جاء عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية - رضي الله عنهم - وجوب تزكية المال عند استفادته، دون اشتراط حَوْل.
خالف هؤلاء الصحابة، ومعهم بعض التابعين، في المال المستفاد (انظر المحلى: 6/83-85، ونيل الأوطار: 4/148، والروض النضير: 2/411-412، وسبل السلام: 2/129).
وأوجبوا إخراج زكاته عند تملكه إذا بلغ نصابًا بنفسه أو بما عنده، دون اشتراط حَول.
وقد ذكر ابن رشد في سبب الاختلاف: "أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت" وهو توجيه صحيح كما سنبيَّنه في موضعه إن شاء الله.
إلى أعلى
القَدْر المجمع عليه في أمر الحول
والأمر الذي لا خلاف فيه بين أحد من السلف والخلف، أن الزكاة في رأس المال -من الماشية والنقود، والثروة التجارية- لا تجب في العام الواحد إلا مرة واحدة، وأن الزكاة لا تؤخذ من مال واحد مرتين في العام، روى ابن أبي شيبة عن الزهري قال: لم يبلغنا عن أحد من ولاة هذه الأمة، الذين كانوا بالمدينة -أبو بكر وعمر وعثمان- أنهم كانوا يثنون الصدقة، لكن يبعثون عليها كل عام في الخصب والجدب، لأن أخذها سنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (كنز العمال: 6/294، وفيه نحو هذا الأثر عند الشافعي والبيهقي في السنن من رواية الزهري أيضًا).
وكان هذا من سبق الشريعة الإسلامية وعدلها وإعجازها، فلم تترك فرض الزكاة لرغبة الحكام والطامعين، يفرضونها كلما اشتهت أنفسهم، ولا لهوى الأفراد من الناس الذين أحضرت أنفسهم الشُّح، بل جعلتها فريضة دورية محددة، وقدَّرتها بالحول؛ لأنه الذي تتغير في الفصول، وتتجدد مكاسب ذوي الأموال، وتطرأ حاجات ذوي الحاجات. وهو المدة المعقولة التي يمكن أن يتحقق فيها نماء رأس المال، وتربح التجارة وتلد الماشية، وتكبر صغارها وهكذا (بداية المجتهد: 1/261-262).(1/143)
قال المحقق ابن القيم في هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة: إنه أوجبها مرة كل عام، وجعل حول الزروع والثمار عند كمالها واستوائها. وهذا أعدل ما يكون إذ وجوبها كل شهر، أو كل جمعة يضر بأرباب الأموال، ووجوبها في العمر مرة يضر بالمساكين، فلم يكن أعدل من وجوبها كل عام مرة (زاد المعاد: 1/307 - مطبعة السنة المحمدية).
إلى أعلى
الخلاف في المال المستفاد
المال المستفاد: هو الذي يدخل في ملكية الشخص بعد أن لم يكن، وهو يشمل الدخل المنتظم للإنسان، من راتب أو أجر، كما يشمل المكافآت والأرباح العارضة والهبات ونحوها. وبعض هذا المال -كالزرع والثمر والعسل والكنز والمعدن- تجب الزكاة فيه عند استفادته، إذا بلغ نصابًا، وهذا لا كلام فيه.
والكلام إنما هو فيما يملكه المسلم، ويستفيده من الأموال التي يُعتبر لها الحول إذا لم تكن مستفادة، كالنقود وعروض التجارة والماشية. وفي هذا تفصيل ذكره ابن قدامة في المغني في ثلاثة أقسام:
فإذا كان المال المستفاد نماءً لمال عنده وجبت فيه الزكاة، كربح مال التجارة ونتاج السائمة، فهذا يجب ضمه إلى ما عنده من أصله، فيعتبر حوله بحوله،قال ابن قدامة (المغني: 2/626): لا نعلم فيه خلافًا، لأنه تبع له من جنسه، فأشبه النماء المتصل، كزيادة قيمة عروض التجارة.(1/144)
فإن كان المستفاد من غير جنس ما عنده، بأن كان عنده نصاب من الإبل، فاستفاد بقرًا، أو من الأنعام فاستفاد نقودًا. فهذا -عند جمهور الفقهاء- له حكم نفسه، لا يُضَم إلى ما عنده في حول ولا نصاب، بل إن كان نصابًا استقبل به حولا وزكَّاه، وإلا فلا شيء فيه، وهذا قول جمهور العلماء، وروي عن ابن مسعود وابن عباس ومعاوية: أن الزكاة تجب فيه حين استفاده، قال أحمد -عن غير واحد- يزكِّيه حين يستفيده وروى بإسناده عن ابن مسعود قال: كان عبد الله يعطينا (أي العطاء) ويزكِّيه. وعن الأوزاعي فيمن باع عبده أو داره: أنه يزكِّي الثمن حين يقع في يده إلا أن يكون له شهر يُعلم، فيؤخره حتى يزكِّيه مع ماله (المغني: 2/626). (وسنؤيد هذا الرأي بالأدلة إن شاء الله في حديثنا عن زكاة الرواتب ونحوها).(1/145)
وإن كان المال المستفاد من جنس نصاب عنده قد انعقد عليه حَوْل الزكاة - بسبب مستقل، مثل أن يكون عنده أربعون من الغنم مضى عليها بعض الحول، فيشتري أو يوهب له مائة، فهذا لا تجب فيه الزكاة حتى يمضي عليه حول عند أحمد والشافعي. وقال أبو حنيفة: يضمه إلى ما عنده في الحَول فيزكيهما جميعًا عند تمام حَول المال الذي كان عنده، إلا أن يكون عوضًا عن مال مزكَّى - لأنه يُضَم إلى جنسه في النصاب، فوجب ضمه في الحول كالنتاج. ولأن إفراده بالحول يفضي إلى تشقيق الواجب (تجزئته) في السائمة، واختلاف أوقات الوجوب، والحاجة إلى ضبط مواقيت التملك، ومعرفة قَدْر الواجب في كل جزء ملكه، ووجوب القدر اليسير الذي لا يتمكن من إخراجه، ثم يتكرر ذلك في كل حول ووقت، وهذا حرج مدفوع بقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج: 78) وقد اعتبر الشرع ذلك بإيجاب غير الجنس، فيما دون خمس وعشرين من الإبل، وجعل الأوقاص (ما بين قدرين مفروضين) في السائمة، وضم الأرباح والنتاج إلى حول أصلها، مقرونًا بدفع هذه المفسدة، فيدل على أنه علة لذلك، فيجب تعدية الحكم إلى محل النزاع، وقال مالك مثل قول أبي حنيفة في السائمة. دفعًا لتشقيق الواجب، بمثل قول أحمد والشافعي في الأثمان (النقود) لعدم ذلك فيها (انظر المغني: 2/617).
وقد رد صاحب "المغني" على الحنفية هنا بما لا نطيل به، فالواقع أن مذهب الحنفية هنا أيسر في التطبيق، وأبعد عن التعقيد، ولهذا أرجِّح الأخذ به.
الفصل الثاني
زكاة الثروة الحيوانية
فهرس
ما يؤخذ في زكاة الأنعام
تأثير الخلطة في زكاة الأنعام
زكاة الخيل
الحيوانات السائمة غير الخيل
مبادئ عامة من مباحث هذا الفصل
الشروط العامة لزكاة الأنعام
زكاة الإبل
زكاة البقر
زكاةالغنم
هل في صغار المواشي زكاة؟(1/146)
المملكة الحيوانية واسعة كثيرة الأصناف، حتى إن فصائلها لتُعَد بالآلاف، ولكن الإنسان لم ينتفع إلا بالقليل منها، وأعظمها نفعًا له، ما عرفه العرب باسم "الأنعام" وهي: الإبل والبقر -وهو يشمل الجواميس- والغنم، ويشمل الضأن والماعز، وهي التي امتنَّ الله تعالى بها على عباده وعدَّد منافعها في مواضع كثيرة من كتابه، قال تعالى في سورة النحل -وهي تسمى سورة "النِعَم"-: (والأنعام خلقها، لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، إن ربكم لرؤوف رحيم) (النحل: 5-7).
وفي موضع آخر من السورة قال: (وإن لكم في الأنعام لعبرة، نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين) (النحل: 66).
وقال في موضع ثالث: (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تسخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين) (النحل: 80).
وفي سورة "يس" قال تعالى: (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب، أفلا يشكرون) (يس: 71 - 73).
هذه هي الأنعام التي خلقها الله للإنسان، مما علمت يده سبحانه، وذللها له، ليركب ظهرها، أو يأكل لحمها أو يشرب لبنها، أو ينتفع بأصوافها وأوبارها وأشعارها، فلا غرو أن يطالب الله مالكيها بالشكر عليها: (أفلا يشكرون)! .
وأبرز مظهر عملي لهذا الشكر الذي حثَّ عليه القرآن الكريم ما جاءت به السنة المطهرة من إيجاب الزكاة فيها. وتحديد نُصُبها ومقادير ما فرض الله فيها، وإرسال السعاة في كل عام إلى أربابها، ليأخذوا ما وجب عليهم فيها، وإنذار مانعيها بعقوبة الدنيا والآخرة.(1/147)
وقد كانت الأنعام - وبخاصة الإبل - أنفع أموال العرب وأعظمها. ولهذا عنيت السنة ببيان نصبها والمقادير الواجبة فيها. ولا زال كثير من بلاد العالم تعد فيه الثروة الحيوانية من أهم موارده المالية. ولا زالت الحيوانات الراعية تعد فيها بالملايين. وفيها بلاد إسلامية كالسودان والصومال والحبشة وغيرها. وسنفصَّل أحكامها في المباحث التالية.
المبحث الأول
الشروط العامة لزكاة الأنعام
فهرس
أن تكون سائمة
ألا تكون عاملة
أن تبلغ النصاب
أن يحول عليها الحول
لم تفرض شريعة الإسلام الزكاة في كل مقدار من المواشي ولا في كل نوع منها، وإنما فرضتها فيما استوفى من الأنعام شروطًا خاصة نجملها فيما يلي:
1- أن تبلغ النصاب
فالشرط الأول أن تبلغ الأنعام النصاب الشرعي، وذلك أن الزكاة في الإسلام إنما تجب على الأغنياء.
وليس على كل من يملك ناقة أو ناقتين غنيًا في الواقع ولا في عرف الناس، فلا بد من حد معين يعتبر من بلغه في أدنى مراتب الغنى، وذلك في الإبل هو: خمس، بإجماع المسلمين في كل العصور، فليس فيما دونها زكاة واجبة إلا أن يشاء رب الإبل. وليس فيما دون أربعين شاة زكاة بالإجماع أيضًا. بهذا جاءت الأحاديث ومضت السنة العملية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه من بعده.
أما النصاب الأدنى للبقر فقد اخُتلِف فيه من خمس إلى ثلاثين إلى خمسين كما سنتبين بعد.
إلى الأعلى
2- أن يحول عليها الحول
وهذا ثابت بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه، إذ كانوا يبعثون السعاة مرة في كل عام، ليأخذوا صدقات الماشية.
وقد بيَّنا من قبل أن اشتراط الحول مجمع عليه في غير المال المستفاد.
وحتى الجمهور الذين اشترطوا الحول في المال المستفاد لم يشترطوه في نتاج المواشي وجعلوا حول أولاد الماشية هو حول أمهاتها.
إلى الأعلى
3- أن تكون سائمة(1/148)
والسائمة في اللغة: الراعية. وشرعًا: هي المكتفية بالرعي المباح في أكثر العام، لقصد الدر والنسل والزيادة والسمن (الدر المختار وحاشيته رد المحتار: 2/20-21).
فالسائمة هي: التي ترعى في كلأ مباح، ومقابلها المعلوفة وهي التي يتكلف صاحبها علفها.
والشرط: أن يكون سومها ورعيها في أكثر العام لا في جميع أيامه، لأن للأكثر حكم الكل، ولا تخلو سائمة أن تُعلف في بعض أيام السنة، لعدم الكلأ أو لقلته، أو لأي ظرف طارئ، فأدير الحكم على الأغلب. ولا يعتبر السوم إلا إذا كان يقصد الدر والنسل والسمن والزيادة، فلو أسامها ليحمل عليها، أو ليركبها، أو ليأكل لحمها هو وأضيافه لم يكن فيها زكاة. لأنها صُرفت عن جهة النماء إلى جهة الانتفاع الشخصي. كما سنتبين ذلك في الشرط الرابع.
والحكمة في اشتراط السوم: أن الزكاة إنما وجبت فيما يسهل على النفوس إخراجه، وهو العفو، كما قال تعالى لرسوله: (خذ العفو) (الأعراف: 199)، (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (البقرة: 219) وذلك فيما قَلَّت مؤونته وكثر نماؤه. وهذا لا يتفق إلا في السائمة، أما المعلوفة فتكثر مؤونتها ويشق على النفوس إخراج الزكاة منها.
ودليل هذا الشرط ما رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "في كل إبل سائمة في كل أربعين ابنة لبون" الحديث. وذكرناه من قبل. وقد صححه جماعة من الأئمة. ووصف الإبل بالسائمة يدل مفهومه على أن المعلوفة لا زكاة فيها. فإن ذكر السوم لا بد له من فائدة يُعتد بها، صيانة لكلام الشارع عن اللغو. والمتبادر منه أن للمذكور حكمًا يخالف المسكوت عنه. قال الخطابي: "لأن الشيء إذا كان يعتوره وصفان لازمان، فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه" (الروض النضير: 2/399).(1/149)
وقد ثبت عن أهل اللغة العمل بمفهوم الصفة كما نقله أهل الأصول، فيفيد أن التخصيص به مقصود للبلغاء في كلامهم، فكلام الله ورسوله به أجدر (المرجع نفسه ص 400).
ومما يؤيد هذا الحديث ما جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث أنس: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين منها شاة". وإذا صح اشتراط السوم في الغنم وجب اشتراطه في الإبل والبقر بالقياس عليها، إذ لا فرق.
وما ورد من أحاديث مطلقة من ذكر السوم، فهي محمولة على هذه الأحاديث المقيدة.
وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء ... وخالفهم في ذلك ربيعة ومالك والليث، فأوجبوا الزكاة في المعلوفة من الإبل والبقر والغنم، كما أوجبوا في السائمة سواء بسواء. عملاً بالأحاديث المطلقة التي لم يُذكر فيها السوم. أما ذكر السوم في بعض الأحاديث، فقد خرج مخرج الغالب إذ تلك النُصُب لا تكون في أغلب الأحوال معلوفة (المرجع نفسه ص 399).
إلى الأعلى
4- ألا تكون عاملة
الشرط الرابع: ألا تكون عاملة وهي التي يستخدمها صاحبها في حرث الأرض وسقي الزرع، وحمل الأثقال، وما شابه ذلك من الأشغال. وهذا الشرط خاص بالإبل والبقر.
وقد روى أبو عبيد عن علي قال: "ليس في البقر الحراثة صدقة" (الأموال ص 380)، والحراثة هي التي تعمل في حرث الأرض. وروى أبو داود في سننه من حديث زهير. حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث عن علي، قال زهير: وأحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهمًا درهم" فذكر الحديث وقال فيه: "وليس على العوامل شيء"، ورواه ابن أبي شيبة مرفوعًا أيضًا، ورواه عبد الرزاق في مصنفه من طريق الثوري ومعمر موقوفًا على علي (نصب الراية: 2/360).(1/150)
وجاء ذلك أيضًا عن إبراهيم ومجاهد والزهري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من التابعين (انظر الأموال ص 380 - 382، ومصنف عبد الرزاق: 4/19 - 21 باب "ما لا يؤخذ من الصدقة" والروض النضير: 2/408) وهو قول أبي حنيفة والثوري والشافعي والزيدية، وهو قول الليث أيضًا في البقر.
ويؤيد هذه الروايات والأقوال من جهة النظر أمران نبه عليهما العلماء:
الأول: أن ما كان من المال مُعدًا لنفع صاحبه كثيابه، وعبيد خدمته، وداره التي يسكنها، ودابته التي يركبها، وكتبه التي ينتفع بها، فليس فيها زكاة، فيطرد هنا أنه لا زكاة في بقر حرثه، وإبله التي يعمل عليها بالدولاب وغيره، فهذا محض القياس، كما أنه موجب النصوص.
والفرق بينها وبين السائمة ظاهر: فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل، فهي كالثياب والدار ونحوها (انظر الروض النضير: 2/408).
الثاني: ما رواه أبو عبيد عن الزهري قال: "ليس في السواني من الإبل والبقر، ولا في بقر الحرث صدقة، من أجل أنها سواني الزرع وعوامل الحرث" (الأموال ص 381).
وعن سعيد بن عبد العزيز التنوخي قال: "ليس في البقر التي تحرث الأرض صدقة، لأن في القمح صدقة، وإنما القمح بالبقر" (الأموال ص 382).
ومعنى ذلك أنها باستخدامها لحرث الأرض وسقي الزرع، أصبحت أشبه ما تكون بالأدوات التي تستعمل لخدمة الأرض والزرع وما تُنبته الأرض من زرع وثمر تجب فيه الزكاة، فلو وجبت الزكاة فيها هي الأخرى -وليست إلا آلة لتنمية الزرع- فقد صارت الصدقة مضاعفة على الناس، كما قال أبو عبيد بحق.
وخالف مالك الجمهور في هذا الحكم فرأى وجوب الزكاة في البقر والإبل عاملة أو غير عاملة، كما أوجبها فيها سائمة ومعلوفة، وقد حكي عن الثوري أنه ذُكِر له قول مالك. فقال: ما ظننتُ أن أحدًا يقول هذا (المرجع نفسه ص 381).(1/151)
ومن الإنصاف أن نقول: "إن بعض فقهاء المالكية رجَّح مذهب الجمهور فنقل ابن ناجي عن ابن عبد السلام أنه قال هنا: "ومذهب المخالف هو الذي تركن إليه النفس". وعارض أبو عمر ابن عبد البر قول المالكية هنا بقولهم: لا زكاة في الحلي المعد للباس، ورأى أن الزكاة في أحدها دون الآخر كالمتناقض" (شرح الرسالة لابن ناجي: 1/335).
المبحث الثاني
زكاة الإبل
فهرس
مذهب الطبري
تفسير الخلاف الطفيف بين كتب الزكاة
زكاة الإبل
اختلاف الفقهاء فيما بعد المائة والعشرين وسببه
مذهب الحنفية ومناقشته
زكاة الإبل
أجمع المسلمون واتفقت الآثار الصحاح الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته أن نصاب الإبل ومقاديرها من خمس إلى مائة وعشرين حسب الجدول الآتي:
النصاب من الإبل
القدر الواجب فيه
من إلى
5 - 9
شاة
10- 14
شاتان
15- 19
3 شياه
20- 24
4 شياه
25- 35
1 بنت مخاض (هي أنثى الإبل التي أتمت سنة ودخلت في الثانية سميت بذلك لأن أمها لحقت بالمخاض وهي الحوامل)
36- 45
1 بنت لبون (وهي أنثى الإبل التي أتمت سنتين ودخلت في الثالثة سميت بذلك لأن أمها وضعت غيرها وصارت ذات لبن)
46- 60
1 حقة (هي أنثى الإبل التي أتمت ثلاث سنين ودخلت الرابعة وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل)
61- 75
1 جذعة (هي أنثى الإبل التي أتمت أربع سنين ودخلت الخامسة)
76- 90
2 بنتا لبون
91- 120
2 حقتان
على هذه الأعداد والمقادير انعقد الإجماع (نقل هذا الإجماع ابن المنذر والنووي كما في المجموع: 5/400، وأبو عبيد كما في الأموال صفحة 363، وابن قدامة في المغني، والسرخسي في المبسوط، والعيني وغيرهم انظر المدعاة: 3/49)، إلا رواية رويت عن علي - رضي الله عنه - أن في خمس وعشرين خمس شياه (بدل بنت مخاض) فإذا بلغت ستًا وعشرين ففيها بنت مخاض (المجموع: 5/400، وقال النووي: احتج له بحديث جاء عن عاصم بن ضمرة عن علي مرفوعًا وهو متفق على ضعفه ووهائه - نفسه).(1/152)
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن في خمس وعشرين بنت مخاض، ولا يصح عن علي ما روي عنه فيها، وأجمعوا على أن مقدار الواجب فيها إلى مائة وعشرين على ما في حديث أنس (المرجع نفسه).
وأما ما زاد على مائة وعشرين فالقول المعمول به عند الأكثر (خالف في ذلك الحنفية والنخعي والثوري كما سيأتي) يمثله الجدول التالي؛ ومضمونه: أن في كل خمسين، حقه، وفي كل أربعين، بنت لبون:
النصاب من الإبل
القدر الواجب فيه
من إلى
121- 129
3 بنات لبون
130- 139
1 حقة + 2 بنتا لبون
140- 149
2 حقة + 1 بنت لبون
150- 159
3 حقاق
160- 169
4 بنات لبون
170- 179
3 بنات لبون + 1 حقة
180- 189
2 بنتا لبون + حقتان
190- 199
3 حقاق + 1 بنت لبون
200- 209
4 حقاق أو 5 بنات لبون
وهكذا: ما دون العشر عفو، فإذا كملت عشرًا انتقلت الفريضة ما بين الحقاق وبنات اللبون على أساس ما ذكرناه أن في كل 50: حقة، وفي كل 40: بنت لبون.
ومن الجدولين السابقين يتبين لنا أن الحد الأدنى لوجوب الزكاة في الإبل هو خمس، فمن لم يكن عنده إلا أربع فلا زكاة عليه إلا أن يتطوع، فإذا بلغت خمسًا فقد أوجب الشارع فيها شاة والمعنى فيه كما ذكره في المبسوط عن بعض العلماء: أنه اعتبار للقيمة في المقادير، وذلك أن بنت المخاض - وهي أدنى الأسنان التي تجب فيها الزكاة من الإبل - كانت تقوَّم في ذلك الوقت بنحو 40 (أربعين) درهمًا والشاة بنحو 5 (خمسة) دراهم؛ فإيجاب الزكاة في خمس من الإبل، كإيجاب الزكاة في 200 (مائتي) درهم من الفضة (انظر المبسوط للسرخسي: 2/150).
وتعقبه ابن الهمام في الفتح وابن نجيم في البحر، لأنه قد ورد في الحديث أن من وجبت عليه سن فلم توجد عنده، فإنه يضع العشرة موضع الشاة عند عدمها وهو مصرح بخلافه (البحر الرائق: 2/230، وفتح القدير: 1/495) وهو تعقب وجيه وصحيح ويريد بالحديث ما رواه البخاري عن أنس.(1/153)
وإنما أوجب الشارع الحكيم فيما دون خمس وعشرين من الإبل، زكاة من الغنم لا من الإبل - مع أن المتبع أن يوجب في كل مال من جنسه جزءًا منه - نظرًا لقلة الإبل عند صاحبها، ففرض الواجب من غيرها رعاية للجانبين: الفقير والغني؛ فإن خمسًا من الإبل مال عظيم، ففي إخلائه عن الواجب إضرار بالفقراء، وفي إيجاب الواحدة منه إجحاف بأرباب الأموال، وكذلك في إيجاب بعض واحدة، لما في الشركة من ضرر أيضًا على صاحب المال (انظر المبسوط: 2/156).
وهذه الأعداد والمقادير التي أوردناها قد جاءت بها السنة العملية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الإمام النووي في "المجموع" (الجزء الخامس ص 382 وما بعدها): "مدار نصب زكاة الماشية على حديثي أنس وابن عمر رضي الله عنهما.(1/154)
"فأما حديث أنس، فرواه أنس: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كتب هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها، فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين من الإبل - فما دونها - من الغنم في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإذا بلغت ستًا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة فإذا بلغت ستة وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة، ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة: شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها وفي الرقة ربُع العشر فإن لم يكن إلا تسعين ومائة (سيأتي تفصيل ذلك في فصل "زكاة النقود")، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها".
وفي هذا الكتاب: "ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تُقبل منه، ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض، على وجهها، وعنده ابن لبون فإنه يُقبل منه وليس معه شيء، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تُقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين استيسرتا له، أو عشرين درهمًا.(1/155)
ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تُقبل منه الجذعة ويعطيه المصَدِّق عشرين درهمًا، أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطى شاتين أو عشرين درهمًا، ومن بلغت صدقته بنت لبون وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصَدِّق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون وليست عنده، وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض ويعطي معها عشرين درهمًا أو شاتين (قال النووي في المجموع (5/409) قال الإمام الخطابي: يشبه أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما جعل الشاتين أو عشرين درهمًا تقديرًا في جبران الزيادة والنقصان ولم يكل الأمر في ذلك إلى اجتهاده الساعي وغيره؛ لأن الساعي إنما يأخذ منهم الزكاة عند المياه غالبًا، وليس هناك حاكم ولا مقوِّم يفصل بينهما إذا اختلفا، فضبطت بقيمة شرعية، كالصاع في المصراة، أو الغرة في الجنين، ومائة في الإبل في قتل النفس، قطعًا للتنازع".(1/156)
يريد الإمام الخطابي بذلك أن التقدير بشاتين أو عشرين درهمًا تقدير تعبدي لازم في كل حين، وفى كل حال، وهو قول الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، قال في الفتح: وعن الثوري: عشرة، وهي رواية عن إسحاق، وكذلك نقل الشوكاني عن زيد بن علي: أن الفضل بين كل سنين: شاة أو عشرة دراهم - وعن مالك: يلزم رب المال بشراء ذلك الشيء بغير جبران وذهب أبو حنيفة إلى أنه يرجع إلى القيمة فقط عن التعذر انظر الفتح: 4/62 - طبع مصطفى الحلبي، ونيل الأوطار: 4/109 - طبع الحلبي أيضًا)، ولا يخرج في الصدقة هرمة (الهرمة: الكبيرة التي سقطت أسنانها) ولا ذات عوار (العَوار: بفتح العين وقد تضم العيب واختلف في ضبط العيب هنا فقيل: ما يثبت به الرد في البيع، وقيل: ما يمنع الإجزاء في الأضحية ويدخل في المعيب المريض والذكر بالنسبة إلى الأنثى، والصغير سنًا بالنسبة إلى سن أكبر منه كما في "الفتح": المذكور)، ولا تيس (التيس: فحل الغنم)، إلا ما شاء المصدِّق (المصدِّق: اختلف في ضبطه، والأكثر على أنه بالتشديد "المصّدِّق" والمراد المالك، وهذا اختيار أبي عبيد وتقدير الحديث: لا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب أصلاً، ولا يؤخذ التيس - وهو فحل الغنم -إلا برضا المالك، لكونه يحتاج إليه، ففي أخذه بغير اختياره إضرار به، وعلى هذا فالاستثناء مختص بالثالث وضبطه بعضهم بتخفيف الصاد "المصَدِّق" وهو الساعي، وكأنه يشير بذلك إلى التفويض إليه في اجتهاده، لكونه يجري مجرى الوكيل، فلا يتصرف بغير المصلحة فيتقيد بما تقتضيه القواعد، كما في الفتح - نفسه)، ولا يجمع بين متفرق ولا يُفرق بين مجتمع خشية الصدقة (قال الحافظ: قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها، حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان (202) فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقانها، حتى لا يكون على كل واحد إلا(1/157)
شاة واحدة، فهذا التفسير يجعل المخاطب بهذا الحكم هو المالك وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة، فأمر كل واحد منهما ألا يحدث شيئًا من الجمع والتفريق خشية الصدقة، فرب المال يخشى أن يكثر الصدقة، فيجمع أو يفرق لتقل، والساعي يخشى أن تقل فيجمع أو يفرق لتكثر فمعنى قوله: "خشية الصدقة" أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن تقل الصدقة، فلما كان محتملاً للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر، فحمل عليهما معًا، لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر والله أعلم الفتح: 4/26 الطبعة المذكورة) وما كان من خليطين (سيأتي الحديث عن الخلطة وتأثيرها في زكاة الأنعام في بحث مستقل) فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية".
قال النووي: "رواه البخاري في صحيحه مفرَّقًا في كتاب الزكاة فجمعته بحروفه" (المجموع: 5/383) أ هـ.
ورواه أيضًا أحمد وأبو داود والنسائي، والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح ورواته كلهم ثقات كما في المنتقى (نيل الأوطار: 4/107 - ط مصطفى الحلبي).
وقال الشوكاني: أخرجه أيضًا الشافعي البيهقي والحاكم، وقال ابن حزم: هذا كتاب في نهاية الصحة، وصححه ابن حبان أيضًا وغيره (المرجع السابق).
وأما حديث ابن عمر فرواه سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كتب كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قُبِض، فقرنه بسيفه، فلما قُبِض عمل به أبو بكر حتى قُبض، وعمر حتى قُبِض، وكان فيه: "في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان "الحديث، وفيه نحو ما في حديث أنس قال النووي: رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن (المجموع: 5/383 - 384) وقال الشوكاني: أخرجه أيضًا الدارقطني، والحاكم والبيهقي (نيل الأوطار: 4/112 ط مصطفى الحلبي).(1/158)
وعلَّق ابن حزم على حديث أنس فقال: هذا حديث في نهاية الصحة، وعمل به الصديق بحضرة الصحابة، لا يعرف له منهم مخالف أصلاً وبأقل من هذا يدَّعي مخالفونا الإجماع ويشيعون خلافه (جزم ابن حزم بتوثيق رواة هذا الحديث فردًا فردًا، وأنكر على من احتج بتضعيف يحيى بن معين لهذا الحديث قائلاً: إنما يؤخذ كلام يحيى بن معين وغيره إذا ضعَّفوا غير مشهور بالعدالة، وأما دعوى ابن معين أو غيره ضعف حديث رواه الثقات، أو ادَّعوا فيه أنه خطأ، من غير أن يذكروا فيه تدليسًا، فكلامهم مطرح مردود؛ لأنه دعوى بلا برهان وقد قال الله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (البقرة: 111) أ هـ انظر: المحلى: 6/20،21.
وكلام ابن حزم مقبول بشرطين:.
أن يثبت أن الرواة ثقات مشهورون بالعدالة و الضبط.
ألا يشمل الحديث على علة قادحة تظهر للناقد المتمرس الخبير بالعلل والأسانيد.
وفي رواة هذا الحديث: عبد الله بن المثنى (بن عبد الله بن أنس بن مالك) وهو ممن اختلف فيه النقاد فقال فيه يحيى بن معين مرة: صالح وقال مرة: ليس بشيء، وقوَّاه أبو زرعة وأبو حاتم والعجلي وأما النسائي فقال: ليس بالقوي وقال العقيلي: لا يُتابع في أكثر حديثه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تابعه على حديث هذا حماد بن سلمة، فرواه عن ثمامة: أنه أعطاه كتابًا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث بعثه مصَدِّقًا ... فذكر الحديث.(1/159)
هكذا أخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه ورواه أحمد في مسنده قال: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، قال: أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس: أنا أبا بكر فذكره وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: أخبرنا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره قال الحافظ: فوضح أن حمادًا سمعه من ثمامة، وأقرأه الكتاب، فانتفى تعليل من أعله بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعلَّه بكون عبد الله بن المثنى لم يُتَابَع على حديثه؛ انظر: فتح الباري، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم: 4/59 - ط الحلبي.
ومما يعضد قبول هذا الحديث أنه منقول عن كتاب مشهور متوارث عند آل أنس بن مالك مختوم بخاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه البخاري في صحيحه بإسناده كله من آل أنس بعضهم عن بعض).
وقد تلقى الجمهور الأعظم من علماء الأمة هذين الكتابين بالقبول وعملوا بمقتضاهما وإن كان بعض أئمة الحديث كيحيى بن معين توقف في تصحيحهما، بناء على منهجه الخاص في نقد الرجال، وطريقة التلقي عن الرواة.
ويبدو أن المستشرق المعروف "شاخت" قد استغل هذا التوقف من ابن معين للتشكيك في أحاديث الزكاة كلها، وفي نظام الزكاة جميعه وزعم أن الآراء الفقهية التي قيلت في الزكاة قد تركت أثرها في الحديث!! قال: "ونذكر بهذه المناسبة نظام الزكاة المفصَّل الذي يُنسب في الغالب إلى أبي بكر، ويُنسب أحيانًا إلى النبي - عليه السلام - أو إلى عمر بن الخطاب، أو إلى علي بن أبي طالب" (انظر دائرة المعارف الإسلامية: 1/258).(1/160)
والمستشرق المذكور معروف بعداوته للسُنَّة المحمدية، فهو يختلف المناسبات للتشكيك فيها والطعن عليها وقد ألَّف في ذلك كتابًا جمع فيه ما استطاع من الشبهات والمغالطات، والأوهام والأكاذيب، ونحمد الله أن صديقنا الفاضل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي قد هدمه على رأس صاحبه في دراسة جيدة عن الحديث باللغة الإنجليزية (نُشرت هذه الدراسة، وقد طبعت بالمطبعة الكاثوليكية في بيروت)، حصل بها على الدكتوراة من جامعة "كمبردج".
ولو أنصف "شاخت" وعقل، لأيقن: أن من البعيد كل البُعد أن يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - قضية هامة كزكاة الإبل والغنم ونحوها، دون أن يحدد نُصبها ومقاديرها، وقد كانت هي معظم أموال العرب وأعظمها عندهم وكان السعاة والعمال يذهبون إلى البوادي عند القبائل كل عام؛ ليأخذوها ويوزِّعوها وجاء في بعث هؤلاء السعاة أو المصَدِّقين وواجباتهم في معاملة أرباب الأموال، وماذا يأخذون وماذا يدعون، وفي واجبات أرباب الأموال نحوهم، وكيف يعاملونهم - أحاديث كثيرة وفيرة متواترة المعنى، لا يستطيع باحث ذو عقل و ضمير أن يصفها بأنها كلها مزوَّرة على صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم -.
فلا عجب أن يكتب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كتبًا يبين فيها الأنصبة والمقادير، في سائمة الأنعام خاصة، وفي الأموال النامية في ذلك العصر وفي تلك البيئة، بصفة عامة.
وقد جاء في ذلك كتاب أبي بكر، وكتاب عمر، وكلاهما منسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما رأينا في كتاب أبي بكر: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين ..." الخ.
وفي كتاب عمر -كما جاء في رواية ابنه عبد الله- : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاب الصدقة" الخ.(1/161)
وأما كتاب علي بن أبي طالب، فاختلف في رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي وقفه على علي -رضي الله عنه- وليس له شهرة كتاب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا قوتهما من حيث السند وليست هذه هي الكتب الوحيدة في فرائض الماشية، فثمة كتب غيرها، ككتاب عمرو بن حزم إلى أهل نجران وفيه فرائض الصدقات والديات وغيرها.
وهناك كتاب معاذ في صدقة البقر وغير ذلك من الكتب.
وبين هذه الكتب أمور جوهرية اتفقت عليها كلها منها:
1- أن لا زكاة فيما دون خمس من الإبل.
2- ولا زكاة فيما دون أربعين من الغنم.
3- ولا زكاة فيما دون مائتي درهم من الفضة.
4- وإن الواجب فيما دون خمس وعشرين من الإبل إنما هو الغنم.
5- وتقدير هذا الواجب بأن في كل خمس شاة.
6- واتفقت على أسنان الإبل الواجبة في الإبل من خمس وعشرين إلى مائة وعشرين.
7- واتفقت على الواجب من أربعين إلى ثلاثمائة ثم في كل مائة شاة.
8- واتفقت على الواجب في الرِّقة (النقود الفضية) هو ربُع العُشر.
9- واتفقت على أن الذي يؤخذ من المال هو الوسط، لا الخيار ولا المعيب.
واختلفت بعد ذلك في بعض الأمور الفرعية مثل: ماذا يجب في الإبل بعد المائة والعشرين، فبعضها -ككتاب أبي بكر- ينص على أن في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وبعضها - مثل كتاب علي، وكتاب عمرو ابن حزم -في بعض رواياتها- ينص على استئناف الفريضة.
ويمكن الجمع بين النصين بما يجعلهما متفقين في المعنى، فيكون الخلاف في تفسير النص، لا في النص نفسه.(1/162)
كما أن هذه الكتب لم تنص على بعض الأموال كالنقود الذهبية وكالبقر، ونحوها وعندي أن ترك النص على مثل هذه الأشياء دليل على صحة هذه الكتب، وصدق نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنها أبعد ما تكون عن الصنعة والتزوير فلو كانت صنعت بعد ذلك متأثرة بالآراء الفقهية -كما يزعم "شاخت"- لوجدت فيها هذه الأشياء، ووجدنا فيها حبكة الصنعة التي تجمع ما عُرِف بعد ذلك من أنواع الأموال ومقاديرها ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب لكل قوم ما يلائم واقعهم وما يحتاجون إليه، ولهذا لم ينص - فيما صح عنه - على نصاب النقود الذهبية مثلاً، لأنها لم تكن منتشرة كثيرًا في تعاملهم بخلاف الدراهم الفضية، وكذلك لم تكن البقر منتشرة في المدينة وما حولها من الديار، فلم يذكرها إلا لمعاذ وغيره ممن بعثه إلى اليمن، وفيها الأبقار، كما سيأتي.
إلى الأعلى
اختلاف الفقهاء فيما بعد المائة والعشرين وسببه
قلنا: إن الفقهاء اختلفوا إذا زادت الإبل على مائة وعشرين.(1/163)
فمالك والشافعي وأحمد والجمهور، يرون أن في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون (هنا شيء من الخلاف في الزيادة على (120) هل هي زيادة عقد أي عشرة، كما فهم مالك أو زيادة واحدة كما فهم ابن القاسم من أصحابه، وكما هو قول الشافعي، فعلى القولين في 130 حقتان وبنتا لبون، وإنما الخلاف في (121-129) فعلى قول مالك يخير الساعي بين حقتين وثلاث بنات لبون، وعلى القول الثاني يتعين ثلاث بنات لبون، وهناك قول ثالث لابن الماجشون من أصحاب مالك: أن الساعي يأخذ حقتين فقط من غير خيار إلى أن تبلغ (130) انظر: بداية المجتهد: 1/221 - ط مصطفى الحلبي، وبلغة السالك وحاشيته: 1/208، والمرعاة على المشكاة: 3/49 - 50)، كما ثبت ذلك في كتاب أبي بكر وعمر من حديث أنس وابن عمر، وفي كتاب عمرو بن حزم، وفي كتاب زياد بن لبيد إلى حضرموت (بسط الكلام على هذه الكتب الزيلعي في نصب الراية: 2/335 - 345، وأخرج الثلاثة الأول منها: الدارقطني ص 208 - 210، والحاكم في المستدرك: 1/390 - 397، والبيهقي في السنن: 4/85 - 92 انظر: المرعاة على المشكاة: 3/50) من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا زادت على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة".
وأما ما وقع في بعض الروايات من الاقتصار على قوله: "في كل خمسين حقة" فهو من اختصار الراوي، لا أنه -صلى الله عليه وسلم- ترك ذكر الأربعين قصدًا، والروايات يكمل بعضها بعضًا.
إلى الأعلى
مذهب الحنفية ومناقشته(1/164)
وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة (وحكاه المهدي في "البحر" أيضًا عن علي وابن مسعود وحماد والهادي وأبي طالب والمؤيد بالله وأبي العباس انظر نيل الأوطار: 4/109 - ط الحلبي، والمجموع: 5/400، والهداية وشروحها: 1/495 وما بعدها والدر المختار وحاشيته رد المحتار: 2/22-23): إذا زادت الإبل على (120) عشرين ومائة، تستأنف الفريضة، أي تعود الزكاة إلى الغنم فيجب في خمس: شاة وفي عشر: شاتان، وفي خمس عشرة: ثلاث شياه، وفي عشرين: أربع شياه، وفي خمس وعشرين: بنت مخاض.
ومعنى هذا: أن الواجب بعد المائة والعشرين كالجدول التالي:
عدد الإبل
حقة شاة
125
2 + 1
130
2 + 2
135
2 + 3
140
2 + 4
145
2 + بنت مخاض
150
3 حقاق فقط
155
3 + 1 شاة
160
3 + 2شاه
165
3 + 3شاة
170
3 + 4شاة
175
3 + بنت مخاض
186
3 + بنت لبون
196
4حقاق فقط
200
4 أو 5 بنات لبون
ثم تستأنف الفريضة بعد المائتين: في كل خمس: شاة، وعلى هذا القياس أبدًا كلما بلغت الزيادة خمسين زاد الفرض حقة، ثم تستأنف التزكية بالغنم ثم ببنت المخاض، ثم ببنت اللبون، ثم بالحقة.
ويلاحظ: أن الاستئناف الأول: بعد مائة وعشرين إلى مائة وخمسين، ليس فيه بنت لبون.(1/165)
واحتج الحنفية لمذهبهم بما روى أبو داود في المراسيل، وإسحاق بن راهويه في مسنده، والطحاوي في مشكله عن حماد بن سلمة قال: قلت لقبس بن سعد: خذ لي كتاب محمد بن عمرو بن حزم، فأعطاني كتابًا أخبر أنه أخذه من أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتبه لجدي، فقرأته فكان فيه ذكر ما يخرج من فرائض الإبل، فقص الحديث: "إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت أكثر من ذلك، فعد في كل خمسين حقة، وما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، وما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة" كذا في نصب الراية للزيلعي (انظر: المرعاة على المشكاة: 3/51، والسنن الكبرى: 4/94، وتعليق ابن التركماني، والمحلى: 6/33 -34، وتعليق الشيخ أحمد شاكر ص 34، 36) وقد جاء نحو هذه الرواية عن عاصم بن ضمرة عن علي مرفوعًا وموقوفًا (انظر في حديث عاصم عن علي: السنن الكبرى: 4/92-94، والمحلى: 6/38-39، والمرعاة: 3/52) وكذلك جاء عن ابن مسعود من قوله قالوا: ولا يصح أن يكون هذا إلا توقيفًا؛ إذ كان مثل هذا لا يقال بالقياس كما ذكر ابن رشد عنهم (بداية المجتهد: 1/222).
وقد رد الجمهور على أدلة الحنفية وضعَّفوها كلها.
فأما ابن مسعود فلم يصح عنه هذا القول، كما بيَّنه البيهقي (المرعاة: 3/52، وانظر المحلى: 6/42).
وأما حديث علي فلم يصح عنه مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأما الموقوف، فقد اختُلِف فيه اختلافًا كثيرًا فروي بما يوافق كتابي أبي بكر وعمر، وروي بما يخالفهما، وإذا حدث هذا الاختلاف في رواية حديث كان الأخذ بما يوافق الأحاديث الأخرى التي لا اختلاف في روايتها؛ أولى، كحديث أنس، وهذا ما نبَّه عليه الحازمي (المرجع السابق).
وقد جاء في هذا الحديث من رواية عاصم نفسه أشياء أجمعوا على تركها وعدم الاعتداد بها، كالقول بأنه في خمس وعشرين: خمس شياه لا بنت مخاض.(1/166)
على أن تأويل الاستئناف في الفريضة بما يوافق الأحاديث والروايات الأخرى ممكن، كما سيأتي، وهذا التأويل أولى، لتتفق الأحاديث، وتلتقي الروايات، ولا تتعارض.
وأما حديث عمرو بن حزم براويته المذكورة، فلهم منه مواقف.
فمنهم من أوَّل استئناف الفريضة، فقال: هو محمول على الاستئناف المذكور في كتاب أبي بكر وعمر يعني إيجاب بنت لبون في كل أربعين وحقة في كل خمسين؛ جمعًا بين الأحاديث (نيل الأوطار: 4/109 - ط الحلبي، والمحلى: 6/37، 38).
وأكثرهم يضعَّف الحديث المذكور:
لأنه يخالف ما جاء في الصحيح من حديث أنس.
ولأنه يخالف ما جاء في الروايات الأخرى الموافقة لكتابي الشيخين أبي بكر وعمر، وهي الروايات التي اعتمدها البيهقي وغيره (السنن الكبرى: 4/89،90).
كما أن الحديث بهذه الرواية يخالف الأصل العام في باب الزكاة، وهو: أنها تؤخذ من جنس المال إلا لضرورة، كما في الإبل القليلة (ما دون 25) فيكون الواجب من غيرها، وهنا لا ضرورة لأخذ الشياه مع كثرة الإبل، ولأن الفريضة -على هذا القول- تنتقل من بنت مخاض إلى حقة بزيادة خمس من الإبل، وهي زيادة يسيرة، لا تقتضي هذا الانتقال، فقد كان الانتقال المجمع عليه في أول الفريضة بزيادة إحدى وعشرين (المغني مع الشرح الكبير: 2/452).
ومن الفقهاء من رأى: أن ما جاء في كتاب عمرو بن حزم منسوخ بما جاء في كتاب أبي بكر وعمر.(1/167)
وقد انتصر ابن تيمية لقول الجمهور الذي أخذ به الشافعي والأوزاعي وأحمد وفقهاء الحديث، بأنهم كانوا في ذلك متبعين لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه، آخذين بأوسط الأقوال الثلاثة، أو بأحسنها في السائمة فأخذوا في أوقاص الإبل بكتاب الصديق -رضي الله عنه-، ومتابعيه، المتضمن: أن في الإبل الكثيرة: في أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة، لأنه آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخلاف الكتاب الذي فيه استئناف الفريضة بعد مائة وعشرين، فإنه متقدم على هذا؛ لأن استعمال عمرو بن حزم على نجران كان قبل موته -صلى الله عليه وسلم- بمدة وأما كتاب الصديق فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتبه، ولم يخرجه إلى العمال حتى أخرجه أبو بكر (القواعد النورانية ص 87).
فلم يذهب ابن تيمية هنا إلى تضعيف كتاب عمرو بن حزم، بل اعتمد على أنه منسوخ؛ فهو متقدم، وكتاب أبي بكر وعمر متأخر، والقاعدة: أنه إذا تعارض نصان ثابتان ولم يمكن الجمع بينهما، وعُرِف تاريخ كل منهما فإن المتأخر يُعتبر ناسخًا للمتقدم.
ومن هذا كله يتبين: أن مذهب الجمهور أقوى حُجَّة، وأوفر أدلة من مذهب الحنفية وهذا ما جعل بعض المنصفين من علمائهم يرجَّحون مذهب الجمهور.
مثل العلاَّمة الشيخ عبد العلي -الملقب ببحر العلوم- اللكنوي الهندي في "رسائل الأركان الأربعة" (170 - 171) الذي رد على ابن الهمام ثم قال في آخر كلامه: "الأشبه ما عليه الإمام الشافعي والإمام أحمد"(انظر المرعاة على المشكاة: 3/51).
إلى الأعلى
مذهب الطبري
وذهب الإمام أبو جعفر الطبري مذهبًا وسطًا صحح فيه كُلاَّ من المذهبين -مذهب الشافعي، وفقهاء الحديث، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه- وقال: "للساعي أن يتخير بين مقتضى هذا المذهب وذاك" (انظر المجموع: 5/400، 401).
وعندي أن هذا رأي حسن، لأن القول بالنسخ لا يُصار إليه إلا عند تعذر الجمع والتوفيق بين النصين.(1/168)
وتوفيق الطبري هنا مقبول؛ لأن الملاحظ في تعيين هذه الأسنان والمقادير والأصناف هو تيسير التعامل، وتسهيل الحساب، وتبسيط الإجراءات، فكلما كان العامل على الزكاة مخيَّرًا، كان أقدر على التسهيل والتيسير،.
إلى الأعلى
تفسير الخلاف الطفيف بين كتب الزكاة
ولا بد لنا من وقفة قصيرة هنا، أمام الروايات التي جاءت بها الكتب المأثورة في الزكاة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين فإننا نجد بينهما شيئًا من الاختلاف اليسير ونعني بالروايات هنا: ما جاء منها بسند مقبول، أما الضعيفة والمردودة فلا نشتغل بها وذلك ما جاء في كتاب علي: "إذا أخذ المصدق سنًا فوق سن، رد عشرة دراهم أو شاتين" (انظر المحلى: 6/39).
وما جاء في كتاب أبي بكر في فريضة الصدقة التي فرضها الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أمر برد شاتين أو عشرين درهمًا" كما في حديث أنس السابق.
وكذلك ما جاء في كتاب علي من بعض الخلاف لكتاب أبي بكر وعمر (ويمكن أن يدخل في ذلك ما جاء في الزيادة على مائة وعشرين من الإبل: هل نستأنف الفريضة كما يُفهم من بعض الروايات؟ أم يؤخذ بما في حديث أنس وابن عمر؟ وهل تعتبر الزيادة بواحدة أم بعشرة؟).
صحيح أن كتاب علي -رضي الله عنه- لم يصح رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحيح: أنه موقوف ولكن كيف استجاز علي -رضي الله عنه- مخالفة كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
هل نطعن في كتاب أبي بكر وعمر وقد ثبت من أوجه صحيحة؟
أم نقول: إن عليًا لم يطلع عليهما وقد طُبِّقا في عهد الشيخين؟ وهو بعيد جدًا.
أم نقول: إن عليًا علم أن الكتب الأخرى منسوخة، وكان عنده الناسخ، فكيف لم يظهره في عهد الشيخين؟
إن كل هذه الاحتمالات غير مقبولة.(1/169)
والذي يظهر لي: أن تعيين النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض هذه التقديرات كان بصفة الإمامة والرياسة التي له -صلى الله عليه وسلم-، على الأمة حينئذ، لا بصفة النبوة وصفة الإمامة تعتبر ما هو الأنفع للجماعة في الوقت والمكان والحال المعيَّن، وتأمر به، وقد تأمر بغيره لتغير الزمان أو المكان أو الحال، أو تغيرها كلها بخلاف ما يجيء بصفة النبوة فهو يأخذ صورة التشريع الملزم لجميع الأمة في جميع الأزمنة والأمكنة.
ويدخل في هذا -عندي- تحديد الفرق بين كل سن وسن بشاتين أو عشرين درهمًا، مع أن الفرق في مثل هذه الأحوال لا يثبت على قيمة واحدة جامدة فإن النسبة بين الإبل والشياه -لو ظلت ثابتة- فإن تقويم الشاتين بعشرين درهمًا لا يثبت فقد تغلو قيمة الشياه، أو تنخفض القوة الشرائية للدرهم، أو يحدث العكس كما هو معلوم ومشاهد الآن فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدَّر الشاة بعشرين درهمًا، قدَّرها باعتباره إمامًا، حسب سعر الوقت فلا مانع عندنا من تقدير الفرق بغير ذلك، تبعًا لاختلاف القيم والأسعار.
وبناء على هذا الأساس جاء تقدير الإمام علي، الفرق بين السنين بشاتين أو عشرة دراهم، فهذا يدل على أن الشياه رخصت في عهده وليس في ذلك مخالفة للأمر النبوي.(1/170)
وهذا التفسير أو التعليل لاختلاف هذه الكتب -في بعض التفصيلات- بعضها عن بعض؛ أولى من ردها جميعًا بالطعن في سندها وثبوتها، كما فعل الإمام يحيى بن معين رحمه الله؛ إذ قال: "لم يصح في فرائض الصدقة حديث"(انظر: التلخيص لابن حجر ص 143) يريد بالفرائض: المقادير التي جاءت في أسنان الإبل وأعدادها وفي نصاب البقر وغير ذلك مما جعل ابن حزم يشتد عليه في الإنكار، ويرى أن قوله هذا من الكلام المطرح المردود؛ لأنه دعوى بلا برهان (انظر المحلى: 6/21) ومما جعل مستشرقًا مثل "شاخت" يستغل ذلك للتشكيك في أحاديث الزكاة الصحيحة الصريحة التي جاءت بنظام الزكاة، المنسوب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
المبحث الثالث
زكاة البقر
فهرس
رأي ابن المسيب والزهري
أدلة هذا القول
قول آخر
تعقيب وترجيح
الأدلة على وجوب زكاة البقر
نصاب البقر وما يجب فيها
القول المشهور: النصاب ثلاثون
رأي الطبري: النصاب خمسون
زكاة البقر
البقر نوع من الأنعام التي امتنَّ الله بها على عباده، وناط بها كثيرًا من المنافع للبشر، فهي تتخذ للدر والنسل، وللحرث والسقي، كما يُنتفع بلحومها وجلودها، إلى غير ذلك من الفوائد، التي تختلف باختلاف البلدان والأحوال.
ويبدو أن عظم المنفعة في هذا الحيوان هو الذي جعل بعض البشر -كالمصريين قديمًا، والهندوس إلى اليوم- يتخذون من هذه البهيمة المستأنسة الذلول إلهًا يُقدَّس ويُعبد، وتُقدَّم له القرابين!
والجواميس صنف من البقر بالإجماع -كما نقله ابن المنذر- فيُضَم بعضها إلى بعض (انظر المغني: 2/594).
الأدلة على وجوب زكاة البقر
والزكاة في البقر واجبة بالكتاب والسنة والإجماع.(1/171)
أما السُنَّة فما رواه البخاري في صحيحه مسندًا إلى المعرور بن سويد عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: انتهيتُ إلى النبي (هكذا في متن صحيح البخاري، وفي النسخة التي شرح عليها القسطلاني أما في النسخة التي شرح عليها ابن حجر ففيها: قال: انتهيت إليه، فجعل القول للمعرور بن سويد، والضمير لأبي ذر فكان الحديث موقوفًا مع أن الحديث ثبت رفعه عند مسلم وغيره، بل عند البخاري نفسه بهذا الإسناد، حيث أفرد قطعة منه فأخرجها في كتاب الإيمان والنذور، ولم يذكر هناك القدر الذي ذكره هنا كما ذكر في الفتح: 4/66 - 67 - ط مصطفى الحلبي) -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده -أو والذي لا إله غيره -أو كما حلف- ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أُتِيَ بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها، رُدَّت عليه أولاها حتى يُقضَى بين الناس".
قال الإمام البخاري: ورواه بكير عن أبي صالح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والحق -الذي جاء في الحديث- وأنذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من لا يؤديه بالعذاب الشديد يوم القيامة، يشمل -أول ما يشمل- الزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، كما جاء في الصحيحين عن أبي بكر في قتال مانعي الزكاة، وأقره عمر والصحابة على قوله وقد جاء تعيين هذا الحق بأنه "الزكاة" في رواية مسلم لهذا الحديث، حيث قال: "لا يؤدي زكاتها" مكان: "لا يؤدي حقها" فدل على أن المراد بالحق هنا هو الزكاة.
أما الإجماع فقد ثبت - بيقين لا شك فيه - اتفاق كافة المسلمين على وجوب الزكاة في البقر لم يخالف في ذلك أحد في عصر من العصور انظر المغني: 2/591، والأموال ص 379 وإنما وقع الخلاف في تحديد النصاب، ومقدار الواجب، كما سيأتي.
إلى الأعلى
نصاب البقر وما يجب فيها(1/172)
وقد عرفنا أن الإسلام لم يوجب الزكاة في كل مال قلَّ أو كثر، بل أعفى المال القليل من الزكاة، ووضع لأكثر الأموال حدًا معيَّنًا إذا بلغته وجب فيها الزكاة، وهو ما يُعرف بالنصاب وهو الذي حددته الأحاديث الثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه في زكاة الإبل بخمس، وفي الغنم بأربعين.
فما هو إذن نصاب البقر الذي يُعفى ما دونه من وجوب الزكاة فيه؟ إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرد عنه نص صحيح يبيَّن نصاب البقر، كما بيَّن نصاب الإبل، ومقادير الواجب فيها بالتفصيل.
وربما كان ذلك راجعًا إلى قلة البقر في أرض الحجاز وما حولها في ذلك العصر، فلم يبيِّن الرسول حكمها في كتبه المشهورة في الصدقات، كما بيَّن غيرها.
وربما يكون تركها اعتمادًا على ما بيَّنه في شأن الإبل، وهما في حكم الشرع متماثلان، ومهما يكن السبب فقد اختلف الفقهاء في نصاب البقر وما يجب فيها، كما سيأتي.
إلى الأعلى
القول المشهور "النصاب ثلاثون"
فالقول المشهور الذي أخذت به المذاهب الأربعة: أن النصاب ثلاثون، وليس فيما دون ثلاثين زكاة، فإذا بلغت ثلاثين، ففيها تبيع: جذع أو جذعة (ما له سنة) وإذا بلغ عدد البقر أربعين، ففيها مسنة (ما له سنتان) وليس فيها شيء إلى تسع وخمسين، فإذا بلغت ستين، ففيها تبيعان، وليس فيما بعد الستين شئ حتى تبلغ سبعين، ففيها مسنة وتبيع، وفى الثمانين : مسنتان، وفى التسعين : ثلاثة أتبعة، وفى مائة : مسنة وتبيعان وفي مائة وعشر: مسنتان وتبيع، وفي مائة وعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة.(1/173)
وحُجَّة هذا القول ما روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة عن مسروق عن معاذ ابن جبل قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر: تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين : مسنة"، والتبيع: ما تم له سنة وطعن في الثانية، سمي بذلك لأنه يتبع أمه والمسنة ما لها سنتان وطعنت في الثالثة، سميت بذلك لأنها أطلعت أسنانها، ولا فرض في البقر غيرهما (انظر المغني مع الشرح: 2/468).
والحديث حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم، وقال ابن عبد البر: إسناده متصل صحيح ثابت، وكذلك قال ابن بطال، وقال ابن حجر في "الفتح": وفي الحكم بصحته نظر؛ لأن مسروقًا لم يلق معاذًا، وإنما حسنه الترمذي لشواهده، ففي الموطأ عن طريق طاووس عن معاذ نحوه، وطاووس عن معاذ منقطع أيضًا (قال الشافعي: طاووس عالم بأمر معاذ وإن كان لم يلقه، لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذًا وهذا مما لا أعلم من أحد فيه خلافًا وقال البيهقي: طاووس وإن لم يلق معاذًا إلا أنه يماني، وسيرة معاذ بينهم مشهورة انظر مرعاة المفاتيح: 3/71) وفي الباب عن علي عند أبي داود (انظر الفتح: 4/65-66 ط الحلبي، و"نيل الأوطار": 4/132 - ط العثمانية، وانظر نصب الراية: 2/346 وما بعدها وللحديث شواهد أخرى -غير حديث علي- منها عن ابن مسعود وابن عباس وأنس، ومنها حديث عمرو بن حزم الطويل انظر سنن البيهقي: 4/98 - 99، ومرعاة المفاتيح: 3/71).(1/174)
وقال ابن القطان في رواية مسروق عن معاذ: هو على الاحتمال، وينبغ أن يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور (لأن جمهور المحدثين لا يشترطون العلم بلقاء الراوي لمن روى عنه، إنما يكتفون بالمعاصرة وإمكان اللقاء انظر: نيل الأوطار ومراعاة المفاتيح السابقين أما البخاري فهو كشيخه المديني - يشترط العلم باللقاء ولو مرة واحدة ولهذا لم يخرج في صحيحه في باب "زكاة البقر" شيئًا مما يتعلق بنصابها، لكون ذلك لم يقع على شرطه، كما نقل الحافظ عن الزين بن المنير - "الفتح: 4/65 - ط الحلبي").
وقد كان ابن حزم ضعَّف حديث معاذ هذا بأن مسروقًا لم يلق معاذًا، ثم استدرك على نفسه فقال: وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلا شك قد أدرك معاذًا، وشهد حكمه، وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك - ولأنه عن عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نقلاً عن الكافة عن معاذ بلا شك، فوجب القول به (المحلى: 6/16).
ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص" عن حافظ المغرب ابن عبد البر أنه قال في كتابه "الاستذكار": "لا خلاف بين العلماء: أن السنة في زكاة البقر على ما في حديث معاذ، وأنه النصاب المجمع عليه فيها" (نيل الأوطار، المرجع السابق).
ومما يؤيد حديث معاذ ما جاء في كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عمرو بن حزم: "وفي كل ثلاثين باقورة تبيع: جذع أو جذعة وفي كل أربعين باقورة: بقرة" (سنن البيهقي: 4/89 - 90، ومجمع الزوائد: 3/72) والباقورة: البقرة.
وقد حسن بعض الحفَّاظ هذا الحديث.
ولكن حديث معاذ -ومثله حديث عمرو بن حزم- لا نص فيهما على أن الثلاثين هو أدنى النصاب، ولا يمنع أحد الحديثين: أخذ الزكاة عما دون الثلاثين.
أما دعوى الإجماع الذي ذكره ابن عبد البر في نصاب البقر، فمردودة، لوجود خلاف ابن المسيب والزهري وأبي قلابة والطبري وغيرهم، كما سيأتي.(1/175)
ونقل ابن حجر عن الحافظ عبد الحق أنه قال: ليس في زكاة البقر حديث متفق على صحته يعني في النُصب (نيل الأوطار المرجع المذكور، وانظر التلخيص لابن حجر ص 174).
وفي حديث معاذ دليل على أن البقر إذا زادت على الأربعين فليس فيها شيء حتى تكمل ستين، ويدل على ذلك ما روي عن معاذ أنهم جاءوه بوقص البقر فلم يأخذه، كما في الموطأ وغيره وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة، أبي يوسف ومحمد وجمهور العلماء أما أبو حنيفة، فالرواية المشهورة عنه: ما زاد على الأربعين فبحسابه، في كل بقرة ربع عشر مسنة.
وروى الحسن عنه: أن لا يجب في الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين، فيكون فيها مسنة وربع.
وفي رواية عنه مثل قول صاحبيه والجمهور واختارها بعض الحنفية (انظر: المرعاة: 3/70).
إلى الأعلى
رأي الطبري "النصاب خمسون"
ويرى الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري: أن النصاب خمسون وقد احتج لذلك فقال: صح الإجماع المتيقن المقطوع به، الذي لا اختلاف فيه، أن في كل خمسين بقرة: بقرة فوجب الأخذ بهذا، وما دون ذلك مختلف فيه، ولا نص في إيجابه (ذكر ذلك الحافظ في "التلخيص" ص 174).
وهذا الرأي هو ما كان قد ذهب إليه ابن حزم في "المحلى" مستندًا إلى منطق الطبري نفسه: أن كل ما اختلف فيه ولا نص في إيجابه لم يجز القول به، لأن فيه أخذ مال مسلم وإيجاب شريعة بزكاة مفروضة بغير يقين، من نص صحيح عن الله تعالى أو رسوله (المحلى: 6/16).
وأيَّد ابن حزم هذا القول بما رواه بسنده عن عمرو بن دينار قال: كان عمال ابن الزبير وابن عوف (هو طلحة بن عبد الله بن عوف - ابن أخي عبد الرحمن بن عوف -ومن كبار التابعين جدًا بالمدينة كما قال ابن حزم- المصدر نفسه) يأخذون من كل خمسين بقرة: بقرة، ومن كل مائة: بقرتين، فإذا كثرت ففي كل خمسين بقرة: بقرة (المرجع نفسه ص 7 - 8)، وقد عمل هؤلاء ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكروه.
ويرد على هذا القول أمران: الأول من جهة الخبر، والثاني من جهة النظر.(1/176)
أما الأول فقد جاء حديث عمرو بن حزم الطويل في الصدقات والديات وغيرها: "وفي كل ثلاثين باقورة تبيع: جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة"، والباقورة: البقرة.
وقد حسَّن هذا الحديث جماعة من الأئمة، وبه تعقب الطبري الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في كتابه "الإمام" (كما في "التلخيص" السابق وانظر: نيل الأوطار ج4).
وكذلك حديث معاذ (الذي أوجب الأخذ من الثلاثين والأربعين) وقد صححه جماعة من الأئمة وإليه رجع ابن حزم (كما في ختام بحثه في زكاة البقر - المحلى: 6/16).
وأما من جهة النظر فيبعد -عند من يقول بتعليل الأحكام ودورانها على مصالح الخلق- أن يوجب الشرع الحكيم العادل في خمس من الإبل، وفي أربعين من الغنم؛ زكاة، ويسقطها عما دون خمسين من البقر،وهي -إن لم تكن كالإبل- فهي حتمًا أعظم وأنفع وأنفس من الغنم.
إلى الأعلى
رأي ابن المسيب والزهري
وذهب الإمامان: سعيد بن المسيب، ومحمد بن شهاب الزهري وأبو قلابة وغيرهم: أن نصاب البقر هو نصاب الإبل وأنه يؤخذ في زكاة البقر ما يؤخذ من الإبل دون اعتبار للأسنان التي اشترطت في الإبل من بنت مخاض وبنت لبون وحقة وجذعة ... وروى هذا عن كتاب عمر بن الخطاب في الزكاة، وعن جابر بن عبد الله - وشيوخ أدوا الصدقات على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وروى أبو عبيد عن محمد بن عبد الرحمن: أن في كتاب عمر بن الخطاب (في الزكاة): أن البقر يؤخذ منها مثل ما يؤخذ من الإبل.
قال: وقد سئُل عنها غيرهم، فقالوا: "فيها ما في الإبل" (الأموال ص 379، والمحلى: 6/2).(1/177)
وروى ابن حزم بسنده عن الزهري وقتادة كلاهما عن جاب بن عبد الله الأنصاري قال: في كل خمس من البقر: شاة، وفي عشر: شاتان، وفي خمس عشرة: ثلاث شياه، وفي عشرين: أربع شياه قال الزهري: فرائض البقر مثل فرائض الإبل، غير الأسنان فيها: فإذا كانت البقر خمسًا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت على خمس وسبعين ففيها بقرتان إلى مائة وعشرين، فإذا زادت على مائة وعشرين، ففي كل أربعين بقرة قال الزهري: وبلغنا أن قولهم: "في كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين: بقرة" أن ذلك كان تخفيفًا لأهل اليمن، ثم كان بعد ذلك لا يروى" (المحلى لابن حزم: 6/3).
وروى أيضًا عن عكرمة بن خالد قال: استعملتُ -أي وليتُ- على صدقات "عك" فلقيتُ أشياخًا ممن صُدّق (أخذت منه الصدقة) على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاختلفوا علي: فمنهم من قال: اجعلها مثل صدقة الإبل، ومنهم من قال: في ثلاثين تبيع، ومنهم من قال: في أربعين: بقرة مسنة (المرجع السابق والصفحة نفسها).
ونقل ابن حزم أيضًا بسنده عن ابن المسيب وأبي قلابة وآخر مثل ما نقل عن الزهري ونقل عن عمر بن عبد الرحمن بن خلدة الأنصاري: أن صدقة البقرة صدقة الإبل، غير أنه لا أسنان فيها (نفس المرجع والصفحة).
إلى الأعلى
أدلة هذا القول
احتج أصحاب هذا القول بما رواه أبو عبيد بإسناده إلى محمد بن عبد الرحمن قال: إن في كتاب صدقة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي كتاب عمر بن الخطاب: "أن البقر يؤخذ منها مثل ما يؤخذ من الإبل" (الأموال ص 379، والمحلى: 6/4).
وما رواه عبد الرزَّاق عن معمر، قال: أعطاني سماك بن الفضل كتابًا من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مالك بن كُفْلانِس المصعبيين (كذا في المحلى وانظر مصنف عبد الرازق الأثر (6855) وتعليق المحقق عليه) فقرأته فإذا فيه: "وفي البقر مثل الإبل" (المحلى - المرجع نفسه).(1/178)
وأكدوا ذلك بما ذكره الزهري من أن هذا هو آخر الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن الأمر الأول بأخذ تبيع من كل ثلاثين بقرة كان تخفيفًا لأهل اليمن.
وهو خبر مرسل يؤكده الحديث السابق، وأقوال الصحابة وقد قال ابن حزم: لو قُبِل مرسل أحد لكن الزهري أحق بذلك، لعلمه بالحديث، ولأنه قد أدرك طائفة من الصحابة -رضي الله عنهم- (المحلى: 6/9).
وأيدوا ذلك بعموم الحديث الذي ذكرناه من قبل: "ما من صاحب بقر لا يؤدي حقها إلا بُطِحَ لها يوم القيامة" الحديث قالوا: فهذا عموم لكل بقر؛ إلا ما خصَّه نص أو إجماع وقالوا: إن احتجوا بالخبر الذي فيه: "في كل ثلاثين: تبيع وفي كل أربعين مسنة" فنعم، نحن نقول بهذا، وليس في هذا الخبر إسقاط الزكاة، عما دون ثلاثين من البقر، لا بنص ولا بدليل.
وعضدوا ذلك بقياس البقر على الإبل، قالوا : إن أكثر من خالفنا على أن البقرة تجزئ عن سبعة أشخاص، كالبدنة -الواحدة من الإبل- وإنها تعوض من البدنة وأنه لا يجزئ في الأضحية والهدي من هذه إلا ما يجزئ من تلك ... فوجب قياس صدقتها على صدقتها (المحلى: 6/4).
ورد ابن حزم على هذا الرأي بأن الأحاديث المرفوعة فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- غير متصلة، ولا حُجَّة إلا بمتصل، قال: إلا أنه كان يلزم القائلين بالمرسل والمنقطع -من الحنفيين والمالكيين- أن يقولوا بها.(1/179)
قال: وأما احتجاجهم بعموم الخبر: "ما من صاحب بقر لا يؤدي زكاتها ... " وقولهم: إن هذا عموم لكل بقر ... فإن هذا لازم للحنفيين والمالكيين المحتجين بإيجاب الزكاة في العروض بعموم قول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة: 103)، والمحتجين في هذا بوجوب الزكاة في العسل وسائر ما احتجوا فيه بمثل هذا، لا مخلص لهم منه أصلاً وأما نحن فلا حُجَّة علينا بهذا، لأننا -وإن كنا لا يحل عندنا مفارقة العموم إلا لنص آخر- فإنه لا يحل شرع شريعة إلا بنص صحيح ... ولم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أوجبوه في الخمس فصاعدًا.
وأما احتجاجهم بقياس البقر على الإبل في الزكاة، فلازم لأصحاب القياس لا افتكاك له، فلو صحَّ شيء من القياس لكان هذا منه صحيحًا وما نعلم في الحكم بين الإبل والبقر فرقًا مجمعًا عليه إلى أن قال ابن حزم: فسقط كل ما احتجوا به عنا وظهر لزومه للحنفيين والمالكيين والشافعيين (انظر المحلى: 6/8-11).
أما علماء المذاهب فقالوا في الرد على هذا الرأي: إنه قاس البقر على الإبل، والأنصبة لا تثبت بالقياس بل بالنص والتوقيف، وليس فيما ذكروا نص ولا توقيف فلا يثبت قال ابن قدامة: وقياسهم فاسد، فإن خمسًا وثلاثين من الغنم تعدل خمسًا من الإبل في الهَدْي ولا زكاة فيها كما احتجوا أيضًا بخبر معاذ (المغني مع الشرح: 2/468).
إلى الأعلى
قول آخر
وذكر ابن رشد قولاً آخر -لم يعيَّن قائله، كما لم يذكر دليله-: أن في كل عشر من البقر: شاة إلى ثلاثين ففيها: تبيع (بداية المجتهد: 1/223 - ط الحلبي).
ووجدت ابن أبي شيبة في "المصنف" حكي هذا القول بسنده إلى شهر بن حوشب قال: في كل عشر من البقر: شاة، وفي كل عشرين: شاتان، وفي كل ثلاثين: تبيع (المصنف: 3/221 - ط حيدر آباد الدكن).
ومعنى هذا القول : أن نصاب البقر عشر لا خمس كالقول السابق ولم ينقل ابن أبى شيبة لهذا القول دليلاَ أيضاَ.(1/180)
والذي خطر لي أنه يمكن الاستدلال لهذا القول بما ورد من الأحاديث في تقدير الدية، أنها مائة من الإبل، أو مائتان من البقر (رواه أبو داود في سننه - كتاب الديات، باب "الدية كم هي؟" من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم فكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر رحمه الله فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة وروى أبو داود أيضًا من حديث عطاء بن أبي رباح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الدية على أهل الإبل: مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة الحديث، وهو مرسل، وفي رواية أخرى: أن عطاء ذكره عن جابر بن عبد الله قال: فرض رسول الله ... الخ).
وقد روى ذلك موقوفًا على عمر، ومرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومقتضى هذا أن الواحدة من الإبل تساوي بقرتين، فإذا كان نصاب الإبل خمسًا كان نصاب البقر عشرًا وإذا كان في كل خمس من الإبل شاة؛ كان في كل عشر من البقر شاة.
إلى الأعلى
تعقيب وترجيح رأى الجمهور
والذي أراه بعد عرض هذه الأقوال (أما ما ذكره "شاخت" في دائرة المعارف الإسلامية (10/359): من أن نصاب البقر "عشرون" فلا نعلم أحدًا قال به ولا أدري من أين استمده مع أنه التزم بذكر مذهب الشافعي) - أن أرجحها هو ما ذهب إليه الجمهور في الثلاثين والأربعين وما بعدها، مستدلين بحديث معاذ وحديث عمرو ابن حزم أما ما دون الثلاثين فإن الحديثين لم يعرضا له بإثبات ولا نفي فإنهما قد سيقا لبيان الواجب وصفته ومقداره، أكثر مما سيقا لبيان النصاب، إلا من جهة دلالة المفهوم.(1/181)
وقد جاء في حديث عمرو بن حزم: "وفي أربعين دينارًا: دينار" ولم يمنع ذلك جمهور الفقهاء من أخذ الزكاة من عشرين دينارًا لأن الحديث مسوق لبيان القدر لا النصاب فكأنه قال: الواجب في الدنانير: رُبع العُشر أو واحد من أربعين أو 2.5 بالمائة.
ولهذا يبقى مجال للأخذ بما ذهب إليه ابن المسيب والزهري ومن وافقهما من التابعين في تقدير النصاب بخمس.
وبخاصة أن ذلك روي عن كتاب عمر في الصدقات وعن جابر بن عبد الله من الصحابة بل نسب ذلك إلى كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وإن قال أبو عبيد: إنه غير محفوظ، وإن الناس لا يعرفونه (الأموال ص 379) ولكن قد عرفه من ذكرنا من الصحابة والتابعين.
ولا سيما أن قياس البقر على الإبل قياس وجيه، ولا عبرة بما قاله ابن حزم في بطلان القياس كله.
فالصواب الذي عليه جمهور الأمة: أن القياس الصحيح أصل معتبر في شريعة الإسلام ومصدر خصب لاستنباط الأحكام وأعني بالقياس الصحيح ما لم يعارض نصًا صحيحًا أو قاعدة ثابتة، ولم يكن ثمة فارق معتبر بين المقيس والمقيس عليه.
وقد يضعف هذا القياس: ما ذكرناه من تقدير الواحدة من الإبل باثنتين من البقر في الديات، كما جاء في بعض الأحاديث.
ويبد لي -والله أعلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترك بعض الأمور قصدًا في أنصبة الزكاة ومقاديرها ولم يحددها قاطعًا، ليوسع بذلك على أولي الأمر من المسلمين، فيختاروا لأمتهم ما يناسب المكان والزمان والحال.(1/182)
فقد يجد ولي الأمر في بعض البلاد وبعض الأزمنة: أن البقر أعلى قيمة من الإبل، وأعظم نفعًا وأكثر درَّاً ونسلاً، كما في بعض أصناف البقر العالمية المعروفة في عصرنا فيستطيع أن يحدد النصاب هنا بخمس، ويوجب فيها: شاة، وفي العشر: شاتين، وفي العشرين: أربع شياه ثم بعد ذلك يؤخذ بما في حديث معاذ وترجح هذا الرأي إذا كان ملاَّك هذا النوع من البقر، من كبار الأغنياء والموسرين كما يمكن الأخذ بقول شهر بن حوشب في اعتبار النصاب عشرًا.
وأما إذا كان البقر في بعض البلاد أدنى قيمة وأقل نفعًا بحيث لا يعتبر مِلْك خمس أو عشر منه غنىً يعتد به فالمعقول أن يكون النصاب هنا ثلاثين، كما هو الرأي المشهور وهذا يفسر لنا قول الإمام الزهري في تقدير النصاب بالثلاثين: "أن ذلك كان تخفيفًا لأهل اليمن".
ولو صح ما قاله الزهري، لم يكن ذلك نسخًا بالمعنى الاصطلاحي المتأخر، فإنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بوصفه إمامًا للمسلمين، يدير أحكامه عليهم وفقًا للمصلحة الزمنية، التي قد تتغير، فيتغير تبعًا لها حكمه وما فعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو قاله بوصف الإمامة والرياسة، غير ما يفعله أو يقوله بوصف النبوة وبينهما بون كبير (سنعود لإلقاء الضوء على هذه القضية في آخر مبحث "زكاة الخيل").
المبحث الرابع
زكاة الغنم
الأدلة على وجوب زكاة الغنم
وهي واجبة بالسنة والإجماع.(1/183)
أما السنة: فما روى أنس في كتاب أبي بكر الذي ذكرناه من قبل، قال: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة (في شرح السنة: معناه أن تزيد مائة أخرى، فتصير أربعمائة، فيجب أربع شياه، قول عامة أهل العلم، وقال الحسن بن صالح: إذا زادت على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه، وبه قال النخعي، انظر: مرقاة المفاتيح: 4/144، 145 - ط ملتان- باكستان الغربية)، ففي كل مائة شاة، وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس إلا ما شاء المصدِّق" ونحو ذلك في حديث ابن عمر، وأخبار سوى هذا كثيرة.
وأجمع العلماء على وجوب الزكاة فيها كما أجمعوا على أن الغنم تشمل الضأن والمعز، فيُضم بعضهما إلى بعض، باعتبارها صنفين لنوع واحد (انظر في زكاة الغنم: المجموع للنووي: 5/417 وما بعدها، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/472 وما بعدها وبداية المجتهد: 1/224- ط مصطفى الحلبي، وسنن البيهقي: 4/99 وما بعدها).
ومن الحديث السابق يكون الواجب كالجدول التالي:
من - إلى
مقدار الواجب
1 - 39
لا شيء
40 - 120
شاة
121 - 200
شاتان
201 - 399
ثلاث شياه
400 - 499
أربع شياه
500 - 599
خمس شياه
وهكذا في كل مائة شاة.
أما صفة الشاة الواجبة التي تؤخذ في الزكاة، وهل تكون أنثى أم ذكرًا، وما سنها؟ وما أوصافها من حيث الجودة والرداءة ونحوها، فنؤجل تفصيل ذلك إلى المبحث السادس فيما يؤخذ في زكاة الطعام.
لماذا كان الواجب مخففًا في الغنم كثيرًا؟
ويلاحظ هنا أن الشريعة خففت في المقدار الواجب في زكاة الغنم إذا كثرت ما لم تخفف في غيرها بحيث جعلت الواجب بنسبة 1 بالمائة من عدد الغنم.(1/184)
هذا مع أن النسبة المعهودة في زكاة رأس المال - كالنقود وعروض التجارة - هي 2 5 بالمائة أي ربع العشر فما حكمة هذا التخفيف؟
لقد استنتج بعض الباحثين المعاصرين (هو الأستاذ شوقي إسماعيل في مقال له عن "نظام المحاسبة في الزكاة" في مجلة "الاقتصاد والسياسة في ضوء الإسلام" التي أصدرتها كلية التجارة بجامعة القاهرة منذ بضعة عشر عامًا) منه: أن الشريعة قصدت بذلك إلى تشجيع إنتاج الثروة الحيوانية فخففت الواجب على أرباب المال، وجعلت الضريبة فيه "ذات تصاعد معكوس"، لتحقيق هذا الهدف الاقتصادي الهام.
ولكن يعكر على هذا التفسير: أنه ليس مطردًا في زكاة الثروة الحيوانية كلها فقد رأينا: أن الواجب في الإبل إذا كثرت إنما هو في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وسنرى: أن الواجب في البقر إنما هو في كل ثلاثين تبيع أوتبيعة، وفي كل أربعين مسنة أو مسن أي بمتوسط ربع العشر 2 5 بالمائة تقريبًا، وهي النسبة العامة في زكاة رأس المال.
فلو كان هذا التعليل أو التفسير صحيحًا لظهر ذلك في الإبل والبقر أيضًا ولما لم يطرد ذلك وجب البحث عن تفسير آخر تختص به زكاة الغنم.
والتفسير الذي أراه -والله أعلم- أن الغنم إذا كثرت سواء أكانت ضأنًا أم معزًا: وجد فيها الصغار بكثرة، لأنها تلد في العام أكثر من مرة، وتلد في المرة أكثر من واحد، وبخاصة المعز منها وهذه الصغار تُحسب على أرباب المال، ولا تقبل منهم، كما سيأتي ذلك في المبحثين : الخامس والسادس.
ولهذا استحقت الغنم -بصفة خاصة- هذا التخفيف والتيسير، تحقيقًا لمبدأ العدل، الذي حرصت عليه الشريعة وإلا، فلو وجب في كل أربعين واحدة -كما في الإبل والبقر- مع كثرة عدد الصغار فيها، وعدم صحة أخذها منهم، لكان في ذلك بعض الإجحاف على ملاك الغنم، بالنسبة لأصحاب الإبل والبقر.
أما الأربعون الأولى فإنما وجبت فيها شاة، لأن الشرط أن تكون كلها كبارًا، كما سأرجح ذلك في المبحث الخامس.(1/185)
وبهذا يتضح لنا: أن الزكاة ضريبة "نسبية" ثابتة، وليست تصاعدية ولا تنازلية ولا ذات تصاعد معكوس وسنعود إلى ذلك في الباب الأخير من هذا الكتاب "الزكاة و الضريبة" إن شاء الله.
هذا، وقد قرأت للعلامة المالكي الشيخ رزق، في شرح "الرسالة" تعليلاً لقلة الواجب في الشياه إذا كثرت قال فيه "كلما كثر المال كثرت مؤونته، وعظمت في النفس هيبته، فقلت زكاته، رفقًا بأهله، ولذا كان في العين (النقود): ربع العُشر، وفي غيرها غيره، فافهم" (شرح الرسالة: 1/337).
ولكني لم أستطع أن أفهم تعليل الشيخ -رحمه الله- فالمعروف أن المال كلما كثر، قلَّت مؤونته وخفَّت نفقاته ولهذا يحرص أصحاب المواشي من الإبل والغنم وغيرها أن يخلطوا مواشيهم، تقليلاً للنفقات فقد يكفي العدد الكبير منها: راع واحد ومبيت واحد...الخ
وهذا أمر مقرر الآن في "علم الاقتصاد" ويطلقون عليه اسم "الإنتاج العريض"، فكلما اتسعت قاعدة الإنتاج قلت تكاليفه الإدارية ونحوها، ولهذا يخشى صغار المنتجين عادة من كبارهم، وتخشى المؤسسات الصغيرة؛ المؤسسات الكبيرة؛ لأن هذه تنتج بنفقات أقل.
ولو كان تعليل الشيخ صحيحًا لاطَّرد في جميع المواشي، ولكن ذلك لم يقع.
وكذلك ما قاله الشيخ من عظم هيبة المال الكثير في النفس، مما جعل الشارع يرفق بأهله - غير مسلَّم، لأن ذلك لو كان صحيحًا لاطرد في جميع أنواع المال من الحيوان وغيرها، فصاحب المليون غير صاحب الألف فكان المفروض -على هذا التعليل- أن يخفف عنه نسبة الواجب، لعظم هيبة المليون في نفسه وشحه بها.
إن التعليل الذي ذكرناه هو أولى ما يقال في هذا المقام والله أعلم.
المبحث الخامس
هل في صغار المواشي زكاة؟
الفصلان -جمع فصيل- وهي صغار الإبل، والعجاجيل -جمع عجول- وهي صغار البقر، والحملان -جمع حمل- وهي صغار الغنم، هل تجب فيها الزكاة كالكبار منها أم لا؟(1/186)
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجلسنا إلى جنبه، فسمعته يقول: "إن في عهدي ألا آخذ من راضع لبن" (ذكره في المنتقى، وقال الشوكاني: أخرجه أيضًا الدارقطني والبيهقي، وفي إسناده هلال ابن خباب، وقد وثقه غير واحد، وتكلم فيه بعضهم "نيل الأوطار: 4/133").
والحديث يدل على أن الصغار لا تؤخذ منها الزكاة، وهذا ما ذهب إليه جماعة من الأئمة، غير أن في سند هذا الحديث مقالاً.
وروى مالك في الموطأ (الموطأ: 1 / 265 - ط الحلبي، باب "ما جاء فيما يعتد به من السخل في الصدقة") عن عمر أنه قال لساعيه -سفيان بن عبد الله الثقفي-: "اعتد عليهم بالسخلة، التي يرد بها الراعي على يده، ولا تأخذها" ورواه الشافعي وأبو عبيد (نيل الأوطار: 4/134) والسخلة، الذكر والأنثى من أولاد الضأن والمعز ساعة تولد.
وهذا الأثر يفيد عكس ما يفيده الحديث المتقدم، وهو: أن الصغار تحسب من النصاب، وتجب فيها الزكاة، وإلى ذلك ذهب جماعة من الفقهاء أيضًا، فأوجبوا الزكاة فيها ولو كانت كلها صغارًا (قال الشوكاني: وهو مبني على جواز التخصيص بمذهب الصحابي والحق خلافه - المرجع نفسه)، ويخرج واحدة منها، وقال بعضهم: يكلَّف شراء السن الواجبة من غيرها (بداية المجتهد: 1/252،253).
ووفَّق آخرون بين خبر عمر وحديث سويد بن غفلة، فلم يوجبوا زكاة في الصغار إذا كانت وحدها، ويُحمَل حديث سويد بن غفلة على هذا، وأوجبوا فيها الزكاة إذا كانت معها أمهاتها.
واشترط بعضهم أن تبلغ الأمهات نصابًا، فما زاد عن النصاب من الصغار اعتد به، كما روى عن عمر، ولا تسقط من الحساب بالكلية، كما ذهب إلى ذلك ابن حزم وغيره (المحلى: 5/274 ما بعدها).
وهذا القول الأخير هو قول أبي حنيفة والشافعي.
وهذا الرأي عندي أرجح الأقوال، وأولاها بالصواب، وأقربها إلى العدل الذي جاء به الإسلام.(1/187)
فإن مما ينافي حكمة الشريعة في إعفاء ذي المال القليل -وهو ما دون النصاب- من وجوب الزكاة: أن توجب الزكاة على من يملك خمس فصلان من الإبل، أو أربعين حملاً من الغنم، فإن مالكها لا يُعَد غنيًا، فإيجاب الزكاة عليه إجحاف به فأما ما بعد النصاب فمن المعقول أن يعتد بالصغار وتجب فيها الزكاة، إذ الشريعة قد خففت عن مالك الحيوان ويسَّرت عليه تيسيرًا كبيراً، فلم توجب فيما زاد عن النصاب الزكاة بحساب الزيادة، بل عفت عما بين الفريضتين، فخمس من الإبل فيها شاة، وكذلك تسع فيها شاة، وخمس وعشرون فيها بنت مخاض إلى خمس وثلاثين وست وثلاثون فيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين وهكذا وكل ما بين الفريضتين معفو عنه.
وسر هذا التخفيف -فيما يلوح لي- وجود الصغار بكثرة في هذه الأعداد من الحيوان.
ويتضح هذا أكثر في الغنم لكثرة ما تلد في العام -وبخاصة المعز منها- ولهذا كان التخفيف فيها أكثر ففي الأربعين شاة الأولى واحدة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت ففيها شاتان، وإذا زادت الغنم على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة.
المبحث السادس
ما يؤخذ في زكاة الأنعام
هناك صفات يجب مراعاتها فيما يخرجه صاحب الأنعام عن زكاته، ويأخذه الساعي أو المصدق:
1- منها: السلامة من العيوب بحيث لا تكون مريضة ولا كسيرة، ولا هرمة -وهي الكبيرة التي سقطت أسنانها- ولا عجفاء معيبة بأي عيب ينقص من منفعتها وقيمتها.
والدليل على ذلك قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (البقرة: 267)، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس إلا ما شاء المصدق" وقد مر في حديث أنس.
ولأن في أخذ المعيب إضرارًا بالفقراء والمستحقين، لحساب رب المال فلا يجوز واختلفوا في ضبط العيب هنا، فالأكثر على أنه ما يثبت به الرد في البيع، وقيل: "ما يمنع الإجزاء في الأضحية" (فتح الباري: 4/63- ط الحلبي).(1/188)
ويجوز أخذ المعيب فى حالة واحدة، وهى أن يكون المال المزكى كله بهذه الصفة من العيب، وحيث يأخذ المصدق الواجب منه، فيأخذ هرمة من الهرمات، ومريضة من المريضات، ومعيبة من المعيبات (المغنى مع الشرح: 2/473)، ولا يكلفه شراء سليمة من خارج ماله كما هو المختار لأن المأمور به أن يخرج من ماله هو صدقة لا من غيره.
2- ومنها الأنوثة: وهذه يجب مراعاتها في الواجب في الإبل من جنسها اتفاقًا، من بنت المخاض، وبنت اللبون والحقة والجذعة، ولا يجوز الذكر كابن المخاض وابن اللبون، إلا ما صرح به الحديث من جواز أخذ ابن اللبون مكان بنت المخاض فاعتبر فرق السن في مقابل الأنوثة، وما عدا ذلك فيجب التقيد بما جاء به النص، وهو الإناث.
وأجاز الحنفية أخذ الذكور بطريقة القيمة (بدائع الصنائع: 2/33)، بناء على مذهبهم في صحة إخراج القيمة في كل أنواع الزكاة، وسنعرض له في الباب الخامس إن شاء الله.(1/189)
وأما البقر فقد جاء النص بأخذ التبيع أو التبيعة من كل ثلاثين، فلم يقع بشأنها خلاف أما الخلاف فقد وقع في جواز أخذ الذكر (المسن) من كل أربعين فالجمهور على المنع والحنفية على الجواز، للتقارب بين إناث البقر وذكورها ويشهد للحنفية ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "فى كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين مسن أو مسنة" (قال في مجمع الزوائد: 3/75: فيه ليث بن أبى سليم وهو ثقة ولكنه مدلس) وكذلك الغنم: يجوز أخذ الذكور والإناث منها عند الحنفية، لعدم التفاوت بين ذكورها وإناثها، ولأن الشارع إنما أوجب إخراج شاة، وهى في اللغة تطلق على الذكر والأنثى ولأن الشارع إذا أمر بالشاة أمرًا مطلقًا، أجزأ فيها الذكر والأنثى، كما في الأضحية والهدى (البدائع: 2/33) وكذلك عند المالكية: يجب في الغنم جذعة أو جذع (بلغة السالك: 1/209) وعند الحنابلة: لا يجوز أخذ الذكور إذا كان فى النصاب إناث اعتبارًا بما عينه الشرع في الإبل (انظر المغنى: 2/473، 474) وقال مالك والشافعي: إن رأى المصدق أن أخذ الذكور أنفع فله أخذه، لظاهر الاستثناء، فى الحديث: "إلا أن يشاء المصدق" (المرجع السابق).
وقال النووي: إن أخرج الذكر ففيه وجهان مشهوران: أصحهما عند الأصحاب: يجزئ وهو منصوص الشافعي رضى الله عنه كما يجزئ في الأضحية.
والثاني: لا يجزئ واستدل بأثر عمر: "وتأخذ الجذعة والثنية" (المجموع: 5/397، والأثر رواه مالك بإسناد صحيح -كما قال النووي- وسيأتي كاملاً فى هذا المبحث).
والذي أختاره في البقر والغنم هو مذهب الحنفية، لعدم وجود تفاوت يذكر بين الذكر والأنثى فيهما، بخلاف الإبل، ولهذا جاء النص فيها بتعيين الإناث أما هنا فلا ضرر على الفقراء والمستحقين، ولا مخالفة لنص.
وما قلناه يشمل الشاة الواجبة في زكاة الغنم والواجبة في زكاة الإبل ما دون خمس وعشرين.(1/190)
3- ومنها السن: فقد نصت الأحاديث على أسنان معينة، من بنت المخاض وما بعدها في الإبل، ومن التبيع والتبيعة، والمسنة والمسن في البقر، فوجب التقيد بها، لأن أخذ ما دونها إضرار بالفقراء وأخذ ما فوقها إجحاف بأرباب الأموال وهذا متفق عليه بين المذاهب.
وإنما اختلفوا في الغنم، فقال مالك: تجزئ الجذعة من الضأن والمعز لما جاء في الحديث: "إنما حقنا في الجذعة والثنية" ولأنهما نوعان لجنس واحد، فما أجزأ في أحدهما، يجزئ في الآخر ولكن المعتمد عند المالكية: أن الجذع ما تم له سنة، كما قال ابن حبيب، وإن كان منهم من قال: ابن عشرة أشهر وثمانية وستة (بلغة السالك: 1/207).
وقال الشافعي وأحمد: يؤخذ من المعز الثني ومن الضأن الجذع (المغنى مع الشرح: 2/479) ولكن الشافعية اختلفوا في تحديد سن كل منهما: فمنهم من وافق الحنابلة في أن الثني ما له سنة، والمعز ماله ستة أشهر وبه قطع بعض الشافعية، ومنهم من قال: الجذعة ما استكملت سنة ودخلت في الثانية، والثنية: ما استكملت سنتين ودخلت في الثالثة، قال النووي: وهو الأصح عند جمهور الأصحاب (المجموع، المرجع نفسه) واستدل ابن قدامه لمذهب أحمد ومن وافقه بأمرين:
حديث سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز" وهذا صريح، وفيه بيان المطلق في الأحاديث الأخرى التي جاءت بأخذ الجذع والثنية.
أن جذعة الضأن تجزئ في الأضحية، بخلاف جذعة المعز، بدليل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبى بردة بن دينار في جذعة المعز: "تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك".
قال إبراهيم الحربي: إنما أجزأ الجذع من الضأن، لأنه يلقح، والمعز لا يلقح إلا إذا كان ثنيًا (المغنى، المرجع نفسه).(1/191)
وهذا هو قول أبى يوسف ومحمد -صاحبي أبى حنيفة- ورواية عنه: قال في الدر المختار: والدليل يرجحه (الدر المختار مع حاشيته رد المحتار: 2/25) والجذع: ما له ستة أشهر أو ما أتى عليه أكثر السنة: سبعة أو ثمانية أشهر.
وظاهر الرواية عن أبى حنيفة: أنه لا يجزئ إلا الثني فيهما وهو ما تمت له سنة ولا يجزئ الجذع إلا بالقيمة (المرجع نفسه)، وبهذا يتفق مذهبه ومذهب مالك، وإنما الخلاف في الأسماء والمختار عندي هو قول الشافعي وأحمد والصاحبين، لأن دليله أقوى وأرجح من جهة الخبر، ومن جهة النظر.
بقى هنا مسألة، وهى: إذا عدم السن الواجب من الإبل، وعنده السن الذي هو فوقه، أو تحته فقد اختلفوا فى ذلك ولخص ابن رشد ذلك بأن مالكًا قال: يكلف شراء ذلك السن وقال قوم: بل يعطى السن الذي عنده وزيادة عشرين درهمًا -إن كان السن الذي عنده أحط- أو شاتين وإن كان أعلى دفع إليه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين قال ابن رشد: وهذا ثابت فى كتاب الصدق، فلا معنى للمنازعة فيه، ولعل مالكًا لم يبلغه هذا الحديث وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو ثور: "وقال أبو حنيفة: الواجب عليه القيمة، على أصله في إخراج القيم فى الزكاة".
"وقال قوم: بل يعطى السن الذي عنده وما بينهما من القيمة" (بداية المجتهد: 1/222- 223- ط الحلبي) أ هـ.
وعندي: أن الإمام أبا حنيفة لم يتعد الحديث حين ذهب إلى إخراج القيمة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما قدر الفرق بين سن وآخر في الإبل بشاتين أو عشرين درهمًا، بوصفه إمامًا للمسلمين -كما قلت من قبل- ومثل هذا التقدير لا يكون أبديًا، بل يتغير ولهذا صح عن علي -رضى الله عنه- تقدير الفرق بشاتين أو عشرة دراهم (وبه أخذ الثوري، كما روى عن إسحاق كما فى الفتح: 4/62- ط الحلبي) وهذا يبين أن الشياه رخصت في زمنه، وما كان له ولا يظن به أن يخالف ما يعلم أنه جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوصف النبوة.(1/192)
ولو فهم هذا لا نحلت عقد كثيرة كمسألة "المصراة" وغيرها.
4- ومنها: أن يكون وسطًا: فليس لجابي الزكاة أن يأخذ الجيد، ولا الرديء إلا بالتقويم -إذا رضى صاحب المال- وفى حديث ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: "إياك وكرائم أموال الناس واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب".
وروى ابن أبى شيبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى في إبل الصدقة ناقة حسنة فغضب على الساعي، وقال: "ما هذه" ؟ قال: إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل قال: "نعم إذن" (انظر نصب الراية: 2/361).
ولأن مبنى الزكاة على مراعاة الجانبين، وذلك في أخذ الوسط لما في أخذ الخيار من الإضرار بأرباب الأموال، وما في أخذ الرديء من الإضرار بالفقراء فكانت رعاية الجانبين في أخذ الوسط.
روى أبو داود بإسناده (الحديث أخرجه الطبراني أيضًا وجود إسناده كما فى نيل الأوطار: 4/114 طبعة الحلبي) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان: من عَبَدَ اللهَ وحده وأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة (الرافدة: المعينة والمعطية والمراد هنا المعنى الأول: أي معينة له على أنواع الزكاة - المرجع السابق) عليه كل عام ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة (الدرنة: الجرباء، كما قال الخطابى، وأصل الدرن: الوسخ، المرجع نفسه) ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة (الشرط -بفتحتين- صغار المال وشراره، كما قال أبو عبيد واللئيمة: البخيلة باللبن- المرجع نفسه)، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره".
ولا يؤخذ في الزكاة الربى ولا الماخض ولا الأكولة أو الأكيلة ولا فحل الغنم، والربى التي تربى ولدها أو التي تحبس في البيت للبن، والأكولة، والأكيلة التي تسمن للأكل، والماخض التي في بطنها ولد (البدائع نفس الصفحة، والمغنى مع الشرح: 2/476، والمهذب وشرحه (المجموع): 5/426- 427).(1/193)
وروى مالك في الموطأ عن عائشة قالت: مر على عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة فرأى منها شاة حافلاً (مجتمعًا لبنها) ذات ضرع عظيم، فقال: ما هذه الشاة ؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر رضى الله عنه: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات المسلمين" (الموطأ: جـ1 كتاب الزكاة -باب النهى عن التضييق على الناس في الصدقة- ص 267).
وحزرات المال: خياره التي تحرزها العين لحسنها.
ومن التطبيق لمبدأ الوسط، أن الصغار تعد على أرباب الأموال -بعد أن تبلغ الأمهات نصابًا- كما رجحنا، ولكنها لا تؤخذ منهم، كما يترك لهم مقابل ذلك كل ما كان من كرائم أموالهم ونفائسه التي يحرصون عليها لمزية خاصة.
ولهذا لما بعث عمر بن الخطاب سفيان بن عبد الله الثقفي مصدقًا، فكان يعد على الناس السخل (صغار الغنم) فقالوا: أتعد علينا بالسخل، ولا تأخذ منه شيئًا ؟ فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك، فقال عمر: "نعم، تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة ولا الربى ولا المخاض ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية".
قال مالك: -الربى التي قد وضعت فهي تربى ولدها، والمخاض هي: الحامل، والأكولة هي شاة اللحم التي تسمن لتؤكل (المصدر نفسه ص 265)، وفسر بعضهم الربى: أنها التي تربى في البيت للبن (بدائع الصنائع: 2/33).
وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن رجل يقال له "سعر" عن مصدقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهما قالا: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ شافعًا، والشافع التي في بطنها ولدها" (انظر نيل الأوطار: 4/133).
وعن سويد بن غفلة قال: أتانا مصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمعته يقول: "إن في عهدي ألا نأخذ من راضع لبن وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يقبلها" (المرجع السابق).
وإنما أبى ذلك عملاً بوصية الرسول في إعفاء كرائم الأموال، وأخذًا بمبدأ الوسط.
المبحث السابع(1/194)
تأثير الخلطة في زكاة الأنعام
فهرس
مذاهب الفقهاء في أثر الخلطة في الزكاة
أنواع الخلطة
مقدمة
ما ذكرناه من الأنصبة والمقادير الواجبة في زكاة الأنعام واضح فيما إذا كان المسلم الواحد يملك نصابًا أو أكثر منها ولكن جرت عادة كثير من أرباب المواشي أن يخلطوا أغنامهم أو أبقارهم أو إبلهم بعضها ببعض توفيرًا لبعض النفقات والجهود فهل يعامل هؤلاء الخلطاء معاملة المالك الواحد، باعتبارهم "شخصية معنوية" ؟ أم يعامل كل مالك منهم على حدة باعتبار ما يملكه هو وحده ؟ وبعبارة أخرى: هل للخلطة تأثير في نصاب الزكاة وفي قدر الواجب أم لا ؟
أنواع الخلطة
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال لابد أن نبين أن الخلطة نوعان: خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وقد يعبر عن الأول: بخلطة الأعيان، وبخلطة الشيوع، وعن الثاني: بخلطة الأوصاف والمراد بالأول: ألا يتميز نصيب أحد المالكين أو الملاك عن نصيب غيره، كماشية ورثها قوم، أو ابتاعوها معًا، فهي شائعة بينهم، وهم شركاء فيها، ليس لأحدهم عدد متميز.
والمراد بالثاني: أن يكون مال كل واحد من المالكين أو الملاك متعينًا متميزًا عن مال غيره، فلهذا ثلاثون شاة أو ستون، معلومة مميزة، وللآخر مثلها أو أقل منها أو أكثر، معروفة متميزة كذلك، ولكنها كلها متجاورة مخلوطة، كالمال الواحد (انظر الروضة للنووي: 2/170).
إلى الأعلى
مذاهب الفقهاء في أثر الخلطة في الزكاة
فهل لكل من الخلطتين أثر في الزكاة؟ أم الأثر لخلطة الاشتراك والشيوع دون خلطة الجوار والأوصاف؟
لخص ابن رشد في "بداية المجتهد" مذاهب الفقهاء في ذلك تلخيصًا جيدًا مع مآخذ الأدلة، فقال:
"أكثر الفقهاء على أن للخلطة تأثيرًا فى قدر الواجب من الزكاة، واختلف القائلون بذلك: هل لها فى قدر النصاب أم لا ؟ وأما أبو حنيفة وأصحابه، فلم يروا للخلطة تأثيرًا، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب.(1/195)
وتفسير ذلك أن مالكًا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء، يزكون زكاة المالك الواحد، واختلفوا من ذلك في موضعين:
أحدهما: في نصاب الخلطاء: هل يعد نصاب مالك واحد، سواء أكان لكل واحد منهم نصاب، أم لم يكن؟ أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد، إذا كان لكل واحد منهم نصاب؟
والثاني: في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك.
أما اختلافهم أولاً في هل للخلطة تأثير في النصاب؟ وفي الواجب؟ أو ليس لها تأثير؟ فسببه اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك أن الذين رأوا للخلطة تأثيرًا ما في النصاب والقدر الواجب، أو في القدر الواجب فقط، قالوا: إن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية"، وقوله: "لا يجمع بين مفرقين، ولا يفرق بين مجتمع" يدل دلالة واضحة أن ملك الخليطين كملك رجل واحد، فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في الزكاة عند مالك وأصحابه، أعنى في قدر الواجب، وإما في الزكاة والنصاب معًا، عند الشافعي وأصحابه.
وأما الذين لم يقولوا بالخلطة، فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان ويحتمل أن يكون قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" إنما هو نهى للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحد قسمة توجب عليه كثرة الصدقة، مثل رجل يكون له مائة وعشرون شاة، فيقسم عليه إلى أربعين، ثلاث مرات، أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر، حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة.
قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب ألا تخصص به الأصول الثابتة، المجمع عليها، أعنى أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد.(1/196)
وأما الذين قالوا بالخلطة، فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر فى الخلطة نفسها (بدليل قوله تعالى فى قصة داود من سورة ص: 24: "وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض"، ولم يكن الرجلان شريكين، لقوله: "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة"- سورة ص: 23) منه في الشركة، فإذا كان ذلك كذلك، فقوله عليه الصلاة والسلام فيهما: "إنهما يتراجعان بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما، حكمه حكم رجل واحد، وأن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنهما يتراجعان بالسوية " يدل على أن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع، إذ المأخوذ هو من مال الشركة.
فمن اقتصر على هذا المفهوم، ولم يقس عليه النصاب، قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد، إذا كان لكل واحد منهما نصاب ومن جعل حكم النصاب تابعًا لحكم الحق الواجب قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد، كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد.
وكل واحد من هؤلاء أنزل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" على ما ذهب إليه فأما مالك رحمه الله تعالى فإنه قال: معنى قوله: "لا يفرق بين مجتمع" أن معنى الخليطين يكون لكل واحد منهما مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيهما ثلاث شياه، فإذا افترقا كان على كل واحد منهما شاة ومعنى قوله: "لا يجمع بين مفترق" أن يكون النفر الثلاث لكل واحد منهم أربعون شاة، فإذا جمعوها، كان عليهم شاة واحدة، فعلى مذهبه: النهى إنما هو متوجه نحو الخلطاء، الذين لكل واحد منهم نصاب (انظر بلغة السالك: 1/210- 212).
وأما الشافعي فقال: معنى قوله: "ولا يفرق بين مجتمع" أن يكون رجلان لهما أربعون شاة، فإذا فرق بينهما لم يجب عليهما فيها زكاة، إذ كان نصاب الخلطاء عنده ملك واحد في الحكم.
وأما القائلون بالخلطة، فإنهم اختلفوا في ما هي الخلطة المؤثرة في الزكاة؟(1/197)
فأما الشافعي فقال: إن من شرط الخلطة أن تخلط ماشيتهما، وتراحا لواحد، وتحلبا لواحد، وتسرحا لواحد، وتسقيا معًا، وتكون فحولهما مختلطة، ولا فرق عنده -بالجملة- بين الخلطة والشركة، ولذلك لا يعتبر كمال النصاب لكل واحد من الشريكين، كما تقدم.
وأما مالك فالخليطان عنده: ما اشتركا في الدلو والحوض، والمراح، والراعي والفحل، واختلف أصحابه في مراعاة بعض هذه الأوصاف أو جميعها وسبب اختلافهم: اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم ير قوم تأثير الخلطة في الزكاة، وهو مذهب أبى محمد بن حزم الأندلسي
أ هـ (بداية المجتهد ص 254- 256).
وقد فند ابن حزم في "المحلى" (المحلى: 6/51- 59) مذهب من رأوا أن الخلطة تحيل حكم الزكاة، لما في هذا القول من مخالفة النصوص التي جعلت ما دون النصاب معفوًا عنه، وحددت المقادير الواجبة في أعداد معينة، والقول بتأثير الخلطة ينافيها وينافي مسئولية الفرد عن نفسه وماله.
قال: وقال تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الأنعام: 164) ومن رأى حكم الخلطة يحيل الزكاة فقد جعل زيدًا كاسبًا على عمرو، وجعل لمال أحدهما حكمًا في مال الآخر وهذا باطل وخلاف للقرآن والسنة (المحلى: 6/55).
ومذهب الشافعي هو أوسع المذاهب القائلة بتأثير الخلطة في حكم الزكاة (المرجع نفسه ص 51) فلم يقصر تأثيرها على الخلطة في الماشية، بل يذهب إلى تأثيرها في الزروع والثمار، والدراهم والدنانير (انظر الروضة للنووي: 2/172- 173).
ويمكن أن يكون هذا القول أساسًا لمعاملة "الشركات المساهمة ونحوها" في حكم الزكاة "معاملة شخصية واحدة" إذا احتاجت إلى ذلك "إدارة الزكاة" لما فيه من تبسيط الإجراءات، وتيسير التعامل، وتقليل الجهود والنفقات.
الفصل الثالث
زكاة الذهب والفضة
فهرس
زكاة الحلي والأواني والتحف الذهبية والفضية
أواني الذهب والفضة وتحفهما فيها الزكاة
حلي الرجال المحرم فيه الزكاة
حلي اللآلئ والجواهر للنساء لا زكاة فيها(1/198)
الخلاف في حلي الذهب والفضة للنساء
القائلون بزكاة الحلي
أدلة هذا القول
القائلون بعدم وجوب الزكاة في الحلي
أدلة هذا القول
مناقشة وترجيح
تفنيد أدلة الموجبين لزكاة الحلي
ما اتخذ من الحلي كنزففيه الزكاة
ما جاوز المعتاد من الحلي ففيه الزكاة
تلخيص
زكاة النقود
تمهيد في وظيفة النقود وأطوارها
النقود المتداولة في عصر البعثة المحمدية
أدلة وجوب الزكاة في النقود
حكمة إيجاب الزكاةفي النقود
مقدار الواجب في زكاة النقود
هل يزاد هذا المقدار في عصرنا
نصاب النقود
شبهة وردها
مقدار الدرهم والدينار الشرعيين
خطأ شائع عند المعاصرين
بماذا نحدد النصاب في عصرنا: بالذهب أم بالفضة؟
ترجيح التحديد بالذهب
هل من سبيل إلى معيار ثابت لنصاب النقود؟
التقدير بالأنصبة الأخرى
هل يمكن التقدير بنصاب الزرع والثمر؟
هل يمكن التقدير بالنصاب الحيواني؟
المعيار المقبول للنصاب النقدي
النقود الورقية وأنواعها
زكاة النقود الورقية
شروط وجوب الزكاة في النقود
مقدمة
الذهب والفضة معدنان نفيسان ناط الله بهما من المنافع ما لم ينط بغيرهما من المعادن، ولندرتهما ونفاستهما أقدمت أمم كثيرة منذ عهود بعيدة على اتخاذهما نقودًا وأثمانًا للأشياء.
ومن هنا نظرت الشريعة إليهما نظرة خاصة، واعتبرتهما ثروة نامية بخلقتهما، وأوجبت فيهما الزكاة إذا كانا نقودًا أو تبرًا -أي سبائك وقطعًا غير مضروبة- وكذلك إذا اتخذا أواني أو تحفًا أو تماثيل أو حليًا للرجال.
أما إذا اتُّخذا حُليًا يتزين به النساء، فلها حكم آخر اختلف فيه فقهاء الإسلام.
ولهذا نفصل زكاة الذهب والفضة في مبحثين:
المبحث الأول: زكاة النقود وما يعتبر لها من شروط.
المبحث الثاني: زكاة الحلي والتحف وما فيها من خلاف وتفصيل.
إلى الفهرس
المبحث الأول
زكاة النقود
تمهيد في وظيفة النقود وأطوارها(1/199)
لم يعرف الإنسان البدائي النقود، وإنما كان الناس يتبادلون السلع بعضها ببعض بطريقة "المقايضة" التي بها يتنازل كل من المتبادلين للآخر عن سلعة تزيد على حاجته، في مقابل حصوله منه على سلعة يحتاج إليها.
غير أن أسلوب المقايضة لا يصلح إلا في مجتمع بدائي محدود، لما يشتمل عليه من بطء في المعاملة، وما يقتضيه من إسراف في الوقت والجهد، وما يلزمه من شروط وتعقيدات حتى تتم المبادلة، فضلاً عما يتبعه من اضطراب قيم الأشياء، حيث لا يكون لها مقياس ثابت معروف، فكان مما هدى الله الإنسان إليه -فيما هداه- استعمال النقود بديلاً للسلع، ووسيطًا للتعامل، ومعيارًا اصطلاحيًا يتحكم إليه في تقويم الأشياء والمنافع والجهود، وتيسير التبادل والتعامل بين الناس (انظر كتاب "الاقتصاد السياسي" للدكتور على عبد الواحد وافي ص 140 - 144 الطبعة الخامسة، وكتاب "النظم النقدية والمصرفية" للدكتور عبد العزيز مرعى ص 11 - 15).
وقد تدرجت النقود -منذ اتخذها الإنسان- في أطوار عدة، حتى انتهت إلى طور المعادن النفيسة، وبخاصة الذهب والفضة، المعدنان اللذان أودع الله فيهما من الخصائص والمزايا الطبيعية ما لم يودعه في غيرهما (من ذلك: ثباتهما على حالهما، وعدم قبولهما للصدأ والتآكل، وثبات قيمتهما نسبيًا، وتجانسهما في كل البيئات والجهات، وإمكان تجزئتهما إلى أجزاء صغيرة مع بقاء القيمة النسبية للأجزاء، وصعوبة الغش فيهما لسهولة تمييز الزائف بمجرد الرؤية وسماع الرنين، ومتانتهما، ووجود كميات منهما كافية تزيد بتوالي الاستخراج راجع كتاب "النظم النقدية والمصرفية" ص 15 - 17).
إلى الفهرس
النقود المتداولة فى عصر البعثة المحمدية(1/200)
وحين بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان العرب يتعاملون بهذين النقدين، الذهب في صورة "دنانير" والفضة في صورة "دراهم"، وكانت هذه النقود ترد إليهم من الممالك الكبيرة المجاورة، كانت النقود الذهبية "الدنانير" ترد في الأغلب من بلاد الروم البيزنطيين، وكانت النقود الفضية "الدراهم" ترد من ديار الفرس، وكانت هذه الدراهم مختلفة الأوزان، ما بين كبار وصغار، وخفاف وثقال، ولهذا لم يكن أهل مكة في الجاهلية يتعاملون بها عدًا، بل وزنًا كأنها قطع أو سبائك غير مضروبة، وكانت لهم أوزان اصطلحوا عليها فيما بينهم، ومنها الرطل وهو 12 (اثنا عشر) أوقية، والأوقية وهي أربعون درهمًا، والنش وهو عشرون درهمًا -نصف الأوقية- والنواة وهي خمسة دراهم (انظر رسالة النقود للمقريزي -ضمن كتاب "النقود العربي" نشر الأب أنستاس الكرملي ص 25 وما بعدها).
وقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة على ذلك كله (المرجع السابق ص 30) وقال: "الميزان ميزان أهل مكة" (قال الحافظ في التلخيص ص 183: رواه البزار واستغربه وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي والقشيري، وزاد الألباني: ابن دقيق العيد والعلائي كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة" جـ2 الحديث 164 وبقية الحديث: "والمكيال مكيال أهل المدينة") وفرض زكاة الأموال في الدراهم والدنانير كما سيأتي، وبذلك اعتبر كلاً من الذهب والفضة نقدًا شرعيًا، ورتب عليهما أحكامًا كثيرة، بعضها يتصل بالقانون التجاري والمدني كما في الربا والصرف، وبعضها يتعلق بالأحوال الشخصية كما في المهر، وبعضها يرتبط بقانون العقوبات، كما في نصاب قطع يد السارق، وكما في الديات، وبعضها يدخل في القانون المالي كما في الزكاة.
إلى الفهرس
أدلة وجوب الزكاة في النقود
وجوب الزكاة في النقود ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.(1/201)
أما الكتاب فقوله تعالى في سورة التوبة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 34 - 35).
فنبهت الآيتان بهذا الوعيد الشديد على أن في الذهب والفضة حقًا لله تعالى إجمالاً، وفي قوله: (لا ينفقونها) إيماء إلى أن المراد بالذهب والفضة نقودهما، لأنها هي المعدة للإنفاق، والآلة المباشرة له، ويؤكد ذلك قوله: (ولا ينفقونها)، بدل "ولا ينفقونهما" لأن الضمير عائد عليهما باعتبارهما دراهم ودنانير، أي باعتبارهما نقودًا.
وقد رتبت الآيتان الوعيد على أمرين: كنزهما، وعدم إنفاقهما في سبيل الله، ولا شك أن مانع الزكاة لم ينفقهما في سبيل الله.
وأما السنة فقد جاءت ببيان ما نبه عليه القرآن وتأكيده: ففي صحيح مسلم عن أبى هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمى عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" (رواه مسلم في كتاب "الزكاة" وأخرجه أيضًا البخاري وأبو داود وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه -سبل السلام: 2/129- ط مصطفى الحلبي) كل هذا الوعيد لمن لا يؤدي حق الذهب والفضة.(1/202)
وفي رواية أخرى بيان للمراد بهذا الحق، وأنه الزكاة حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صاحب كنز لا يؤدى زكاته إلا أحمى عليه في نار جهنم" الحديث (نقل الحافظ ابن حجر عن الشافعي أنه قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق صدقة، فأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة، إما بخبر لم يبلغنا، وإما قياسًا" وقال ابن عبد البر: "لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات" (سبل السلام: 2/129 - ط الحلبي).
(أقول: يكفينا مستندًا في إيجاب الزكاة في الذهب آية الكنز، وما يفسرها من الحديث الصحيح الذي ذكرناه بروايتيه، أما ما ذكر الشافعي وابن عبد البر، فيصدق على النصاب ومقدار الواجب، إذ لم يثبت فيهما بشأن الذهب حديث صحيح مرفوع متفق عليه ولكن المقدار ثبت بالإجماع، كما سيأتي).
وفي حديث أنس السابق في بيان الصدقات التي فرضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، حسبما كتبه له أبو بكر لما وجهه إلى البحرين (البحرين (كما في الفتح: 4/59 - 60) اسم لإقليم مشهور، يشتمل على مدن معروفة، قاعدتها هجر (الإحساء الآن) وانظر كلمة "بحرين في معجم البلدان: 1/346): "وفي الرقة: في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها".
وأما الإجماع، فقد اتفق المسلمون في كل العصور على وجوب الزكاة في النقدين.
إلى الفهرس
حكمة إيجاب الزكاة في النقود
إن مهمة النقود أن تتحرك وتتداول، فيستفيد من ورائها كل الذين يتداولونها، وأما اكتنازها وحبسها، فيؤدي إلى كساد الأعمال، وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية بصفة عامة.(1/203)
ومن هنا كان إيجاب الزكاة كل حول فيما بلغ نصابًا من رأس المال النقدي -سواء ثمره صاحبه أم لم يثمره- هو أمثل خطة عملية للقضاء على حبس النقود واكتنازها، وذلك الداء الوبيل الذي حار علماء الاقتصاد في علاجه، حتى اقترح بعضهم أن تكون النقود غير قابلة للاكتناز بأن يحدد لها تاريخ إصدار، ومن ثم تفقد قيمتها بعد مضى مدة معينة من الزمن، فتبطل صلاحيتها للادخار والكنز، وتسمى هذه العملة المقترحة "النقود الذائبة" (انظر كتاب: "النظم النقدية والمصرفية" للدكتور عبد العزيز مرعى ص 31- طبعة سنة 1958).
وقام بعض رجال الغرب الاقتصاديين بتنفيذ فكرة أخرى، هي فرض رسم "دمغة" شهرية على كل ورقة نقدية حتى يحاول كل من يحوزها في يده التخلص منها قبل نهاية الشهر، ليدفع الرسم غيره، وهذا يؤدي إلى نشاط التبادل، واتساع حركة التداول، وانتعاش الاقتصاد بوجه عام (انظر كتاب: "خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي" للأستاذ محمود أبو السعود ص 25 وما بعدها وفيه تفصيل للتجربة المذكورة، التي طبقت في بلدية "فورجل" بالنمسا، ولاقت نجاحًا كبيرًا في حرب البطالة والربا والاكتناز وانتقلت إلى بلاد أخرى ثم حاربتها البنوك المركزية).
وهذه الوسائل -ما اقترح منها وما نفذ فعلاً- تلابسها صعوبات وتعقيدات كثيرة، ولكنها على أية حال، تؤيد وجهة النظر الإسلامية في النقود، ومقاومة اكتنازها بطريقة أبسط وأيسر من تلك الطرق، وهي فرض (2.5) بالمائة عليها سنويًا، مما يحفز الإنسان إلى تنميتها واستغلالها، حتى تنمي بالفعل وتدر دخلاً منتظمًا، وإلا أكلتها الزكاة بمرور الأيام.
ولهذا جاء في الحديث الحث على الاتجار بأموال اليتامى حتى لا تأكلها الزكاة (راجع ما ورد في ذلك في مبحث "وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون" من الباب السابق).(1/204)
وإنما جاء الحث على تنمية أموال اليتامى خاصة، لأن المظنون في الإنسان ألا يهمل مال نفسه فيدع تنميته وتثميره، بمقتضى الدافع الذاتي والرغبة في المال، أما اليتامى فمالهم في أيدي أوصياء قد يهملون تثميره عمدًا أو كسلاً.
فجاء هذا الأمر النبوي الكريم يوجب ابتغاء التنمية في هذه الأموال، حفظًا عليها من التناقص والفناء.
إلى الفهرس
مقدار الواجب في زكاة النقود
كما أجمع المسلمون على وجوب الزكاة في النقود، أجمعوا على مقدار الواجب فيها قال في المغنى: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم: أن زكاة الذهب والفضة ربع عشرهما (2.5بالمئة) وقد ثبت ذلك بقوله عليه السلام: "في الرقة ربع العشر" (المغنى: /7).
وإنما خففت الشريعة المقدار الواجب هنا، فلم تجعله العشر أو نصف العشر مثلاً، كما في زكاة الزروع والثمار، لأن الزرع والثمر بالنسبة إلى الأرض كالربح بالنسبة إلى رأس المال، فكأن الزكاة فيه ضريبة على الربح مراعى فيها الجهد والنفقة، بخلاف زكاة النقود، فهي ضريبة على رأس المال كله، سواء نمى أو لم ينم، ربح أم لم يربح.
إلى الفهرس
هل يزاد هذا المقدار في عصرنا؟(1/205)
ذهب بعض الباحثين المعاصرين -غير المتخصصين في الدراسات الإسلامية مثل: الدكتور فضل الرحمن الذي شغل منصب رئيس لجنة البحوث الإسلامية (!!) في باكستان سابقًا (في عهد أيوب خان) وقد نادى بوجوب زيادة مقدار الزكاة في هذا العصر، وأن يكون النصاب 2939 روبية باكستانية، لأن رجال الاقتصاد يعفون من الضرائب كل من دخله أقل من ذلك وقد أثار هذا الرأي ضجة كبيرة فى باكستان، ورد عليه علماؤها وخطأوه انظر: مجلة البعث الإسلامي مجلد 12 عدد 2 مقال الشيخ البنوري وقد علمنا أن هذا الدكتور الجريء طرد من منصبه، بعد أن قال قولاً دل على خبث طويته وسوء عقيدته- إلى أن مقدار الزكاة المعروف في الإسلام لم يعد يكفى لسد حاجات المجتمع اليوم، لما واجهته الظروف الاقتصادية من تغيرات وتطورات وهو اليوم بحاجة إلى إعادة النظر والدراسات لإمكان أن تزيد الحكومات المعاصرة فيه زيادة ما، حسب الظروف والأحوال.
والذي أراه: أن هذا الرأي مردود، للأدلة الآتية:.
1- أنه مخالف للنصوص الصريحة، الثابتة من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وقد أمرنا أن نتمسك بهذه السنة ونعض عليها بالنواجذ كما حذرنا الله -تعالى- من مخالفتها، فقال: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) النور: 63.
2- أنه مخالف لإجماع الأمة الإسلامية كلها، طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان، تغيرت فيها الأوضاع الاقتصادية والأحوال السياسية، والظروف الداخلية والخارجية واحتاج الخلفاء والأمراء -في بعض الأزمنة- إلى المال حاجة شديدة، إلى حد خلو بيت المال أو الخزانة خلوًا تامًا، ومع هذا لم يقل واحد من العلماء خلال تلك العصور بجواز زيادة نسبة الزكاة.(1/206)
3- ومما يؤيد هذا الإجماع: اختلاف الفقهاء قديمًا: هل في المال حق سوى الزكاة أم لا ؟ ولو كانت المقادير الواجبة في الزكاة تقبل الزيادة ما كان هناك وجه لهذا الخلاف عند المثبتين ولا النافين فإن الخلاف يدل على أن المقادير ثابتة باتفاق الطرفين، والبحث إنما هو فى تقرير وجوب حق آخر إلى جوارها عند الحاجة.
4- أن أوسع الفقهاء استعمالاً للقياس -وهم الحنفية- يرون أن المقادير لا يدخلها القياس، لأن التقدير والتحديد من حق الشارع وحده، وقد فرغ منه، فإذا كان القياس لا يدخل المقادير فكيف يغير مقدار ثابت بالنص والإجماع؟
5- أن الزكاة فريضة دينية، قبل كل شيء، وهي فريضة لها صفة الثبات والخلود والوحدة، إذ هي أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام بإجماع، وتعريض مقاديرها للزيادة وفقًا للظروف والأحوال الاقتصادية والاجتماعية ينفى عنها هذه الصفة -صفة الثبات والخلود والوحدة- تبعًا لظروف كل عصر، وأحوال كل بلد، وحسب هوى حكومته، فهذه تجعل الزكاة 20 بالمائة، وثانية تجعلها 30 بالمائة، وأخرى تجعلها ضريبة تصاعدية وهكذا فأين هذا مما أراده الشارع من هذه الفرائض والأركان، أن تكون من عوامل الوحدة بين المسلمين في جميع الأقطار والأعصار؟
6- ثم إن ما يقبل الزيادة يقبل النقصان، وما يقبل النقصان يقبل الإلغاء، فقد يأتي عصر يعم فيه الرخاء، ويتهيأ للدولة موارد كثيرة أخرى كالنفط (البترول) ونحوه، وحينئذ ينادى من ينادى اليوم بالزيادة، بوجوب نقصان الزكاة عن النسب الشرعية المعلومة، وربما طالب بإلغائها بالكلية وبذلك تفقد الزكاة معناها وحقيقتها باعتبارها عبادة ثابتة، وشعيرة دائمة، وتصبح ألعوبة في أيدي الحكام يغيرون فيها كل حين ويبدلون، ويزيدون وينقصون.(1/207)
7- أن فتح هذا الباب يؤدى إلى طمس معالم الشريعة، وتغيير حدودها وأحكامها بالكلية أما سد حاجات المجتمع اليوم، وتغطية النفقات التي تتطلبها الدولة في عصرنا، فذلك يكون بفرض ضرائب أخرى، إلى جوار الزكاة، بمقدار ما يسد الحاجة، ويفي بالغرض (وسنعرض لذلك بتفصيل عند حديثنا عن الحقوق الواجبة في المال بعد الزكاة، وعند حديثنا عن الزكاة والضريبة).
إلى الفهرس
نصاب النقود
في الحديث المتفق عليه: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" (رواه أحمد ومسلم من حديث جابر، وهو لأحمد والبخارى من حديث أبى سعيد) والورق -بكسر الراء وفتحها وإسكانها- معناه: الدراهم المضروبة وفي القرآن الكريم في قصة أصحاب الكهف: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) (الكهف: 19) وكذلك الرقة -بكسر الراء وتخفيف القاف- فما كان من الفضة غير مضروب لا يسمى ورقًا ولا رقة هذا ما ذكره في القاموس، وفى لسان العرب، وأيده بشواهد مأخوذة من شعر العرب الأقدمين، والأحاديث النبوية (راجع مادة "و.ر.ق" فى القاموس ولسان العرب) وهو اختيار أبى عبيد وغيره (الأموال ص 444).
والأوقية -كما عرفنا- أربعون درهمًا، بالنصوص المشهورة، وبإجماع المسلمين كما قال النووي (شرح مسلم: 7/48 وأول كتاب الزكاة، والمجموع: 6/5) فالخمس الأواقي: مائتا درهم.
ويبدو أن النقود الفضية كانت هي الشائعة والكثيرة الاستعمال عند العرب في عصر النبوة (ولهذا قال عطاء: إنما كان إذ ذاك الورق ولم يكن الذهب انظر مصنف ابن أبى شيبة: 3/222 -طبع حيدر آباد- الهند) لهذا نصت عليها الأحاديث المشهورة التي بينت مقادير الصدقات المفروضة وأنصبتها، فصرحت بنصاب الدراهم، كما صرحت بمقدار الواجب فيها، وعلم منها أن نصاب الفضة مائتا درهم، وهذا مما لم يخالف فيه أحد من علماء الإسلام (المغنى: 3/1).(1/208)
وأما النقود الذهبية (الدنانير) فلم يجيء في نصابها أحاديث في قوة أحاديث الفضة وشهرتها، ولذا لم يظفر نصاب الذهب بالإجماع كالفضة، غير أن الجمهور الأكبر من الفقهاء ذهبوا إلى نصابه عشرون دينارًا.
وروى عن الحسن البصري: أن نصابه أربعون دينارًا، وروى عنه مثل قول الأكثرين (نيل الأوطار: 4/139) ونصاب الذهب معتبر في نفسه، وخالف في ذلك طاوس فاعتبر في نصابه التقويم بالفضة، فما بلغ منه ما يقوم بمائتي درهم وجبت فيه الزكاة (المرجع السابق) وحكى مثله عن عطاء والزهري وسليمان بن حرب وأيوب والسختياني (المغنى: 3/4).
ومما يؤيد قول الجمهور:
1- ما جاء من الأحاديث المرفوعة مما لم يسلم من مقال في سنده، ولكنها يقوى بعضها بعضًا.
(أ) فمنها: ما رواه ابن ماجه والدارقطني (ص 199) من حديث ابن عمر وعائشة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار" (في إسناده: إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، قال فيه ابن معين: لا شيء، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به فإنه كثير الوهم، وذكر الحديث ابن حزم في المحلى: 6/69 وضعفه في ص 72 بعبد الله بن واقد قال فيه: مجهول وقال العلامة الشيخ أحمد شاكر: كيف يكون مجهولاً وهو عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر؟ وهو ثقة روى عن جده عبد الله مات سنة 119هـ وقد وهم ابن حزم لجعل حديثه عن ابن عمر عن عائشة، وهو عند ابن ماجه والدارقطني من حديثهما معًا).(1/209)
(ب) ومنها: ما رواه الدارقطني (ص 199) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم- صدقة" (وذكره أيضًا أبو عبيد في "الأموال" ص 409، وابن حزم في المحلى: 6/69 وضعفه في ص 71 بأنه صحيفة مرسلة وفيه ابن أبى ليلى وهو سيئ الحفظ وقال الحافظ في التلخيص ص 182: إسناده ضعيف، ورواه ابن زنجويه أيضًا في "الأموال" من طريق العرزمي وهو متروك انظر: نصب الراية: 2/369، والدراية صفحة 161 وانظر المراعاة على المشكاة: 3/43).
(ج) ومنها: ما رواه أبو عبيد بسنده عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري -وهو تابعي-: أن في كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي كتاب عمر في الصدقة: "أن الذهب لا يؤخذ منه شيء، حتى يبلغ عشرين دينارًا، فإذا بلغ عشرين دينارًا ففيه نصف دينار" (وذكره ابن حزم في المحلى: 6/69، وقال في ص 72: هو مرسل وعن مجهول أيضًا، وقال في ص 31: محمد بن عبد الرحمن مجهول وتعقبه الشيخ شاكر فقال: بل هو معروف، وهو أبو الرجال محمد بن عبد الرحمن الأنصاري وهو تابعيٌّ ثقة).
(د) ومنها: ما رواه أبو داود من حديث على بن أبى طالب مرفوعًا: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء -يعنى في الذهب- حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار".
وقد حسنه بعض الحفاظ، وصوبه الدارقطني وقفه على علي رضى الله عنه (الحديث ضعفه ابن حزم في المحلى جـ 6 زكاة الذهب، ثم رجع فصححه، وحسنه الحافظ في بلوغ المرام، وأعله في التلخيص ص 182، وقال الدارقطني: الصواب وقفه على وهذا هو الذي يطمئن له القلب وسيأتي مزيد لذلك في فصل زكاة "كسب العمل" وانظر: نيل الأوطار: 4/137 - 138).(1/210)
ومن قال: إن المقادير لا مجال للرأي فيها -كما هو مذهب الحنفية (يقول السرخسي في أصوله: "لا خلاف بين أصحابنا المتقدمين والمتأخرين: أن قول الواحد من الصحابة حجة فيما لا مدخل للقياس في معرفة الحكم فيه، وذلك نحو المقادير، التي لا تعرف بالرأي" وعدد لذلك أمثلة أخذ بها الحنفية (أصول السرخسي ص 110)- قال: إذا صح عن على أن نصاب الذهب عشرون دينارًا، كان ذلك في حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
2- ومما يعضد ذلك ما هو مقرر تاريخيًا: أن الدينار كان يصرف في ذلك العصر بعشرة دراهم (انظر: الأموال ص 419 وانظر: سنن أبى داود، باب الدية كم هي، ففيه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- 800 دينار، أو 8000 درهم).
3- يقوى ذلك كله عمل الأمة من الصحابة فمن بعدهم، حتى استقر الإجماع على ذلك، وانعقد بعد عصر الحسن -رحمه الله- على خلاف قوله وقد روى عنه نفسه ما يوافق الجمهور.
فمما جاء عن الصحابة ما رواهأنس بن مالك قال: ولأني عمر على الصدقات، فأمرني أن آخذ من كل عشرين دينارًا نصف دينار، فما زاد فبلغ أربعة دنانير، ففيه نصف درهم (المحلى: 6/69).
وعن على: ليس في أقل من عشرين دينارًا شيء، وفي عشرين دينارًا نصف دينار، وفي أربعين دينارًا دينار (المرجع السابق: 6/69) وهو الحديث الذي رواه عنه بعضهم مرفوعًا.
وعن إبراهيم النخعي قال: كان لامرأة ابن مسعود طوق فيه عشرون مثقالاً، فأمرها أن تخرج عنه خمسة دراهم (المرجع السابق: 6/69).
وجاء ذلك عن أئمة التابعين: الشعبي، وابن سيرين وإبراهيم والحسن نفسه، والحكم بن عتيبة وعمر بن عبد العزيز: أن في عشرين دينارًا نصف دينار (المرجع نفسه ص 69 - 70).(1/211)
روى أبو عبيد وابن حزم عن زريق بن حيان قال: كتب إلى عمر بن عبد العزيز: انظر من مر بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم، مما يديرون في التجارات من كل أربعين دينارًا دينار، وما نقص فبحساب ذلك، حتى تبلغ عشرين دينارًا، فإن نقصت ثلث دينار فدعها (المرجع نفسه ص 66).
وعلى هذا التقدير استقر الأمر، واستمر العمل، بعد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، ولم يحك بعد ذلك خلاف يذكر حتى حكى الأئمة الإجماع العملي على هذا التقدير.
وإلى عمل الأمة -وبخاصة أهل المدينة- استند الإمام مالك في إثبات هذا الحكم، فقال في "الموطأ": "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا: أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا عينًا (يعنى: ذهبًا) كما في مائتي درهم" (الموطأ: كتاب الزكاة باب الزكاة في العين من الذهب والورق: 1/246- طبع الحلبي).
وقال الشافعي في "الأم": لا أعلم اختلافًا في أن ليس في الذهب صدقة، حتى تبلغ عشرين فإذا بلغت عشرين مثقالاً، ففيها الزكاة (الأم: 2/34).
وذكر أبو عبيد في "الأموال" حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن نصاب الذهب 20 مثقالاً، ثم قال: فهذا لا اختلاف فيه بين المسلمين، إذا كان الرجل قد ملك في أول السنة من المال ما تجب في مثله الصدقة، وذلك مائتا درهم أو عشرون دينارًا، أو خمس من الإبل أو ثلاثون من البقر أو أربعون من الغنم، فإذا ملك واحدة من هذه الأصناف من أول الحول إلى آخره، فالصدقة واجبة عليه في قول الناس جميعًا (الأموال: ص 409).
وقال عياض: المعول في نصاب الذهب على الإجماع، وقد حكى فيه خلاف شاذ (انظر المراعاة على المشكاة: 3/43).(1/212)
ولقد قرر كثير من الأئمة: أن تلقى الأمة بالقبول لحديث ما -وإن كان في إسناده بعض كلام- يرفعه إلى درجة القبول، كما في حديث: "لا وصية لوارث" وغيره وجاء ذلك عن الإمام الشافعي والحافظ ابن عبد البر، والمحقق ابن الهمام، والحافظ ابن حجر، والمحقق ابن القيم، وغيرهم من الأئمة والحفاظ ولهذا نجد الإمام الترمذي يروى حديثًا يستغربه أو يضعفه ويقول: والعمل على هذا عند أهل العلم ورأينا ابن عبد البر يقول: الحديث عندي صحيح؛ لأن العلماء تلقوه بالقبول أو يقول: وفى قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد فيه (انظر: الأجوبة الفاصلة للعلامة اللكنوي ص 51، 52، وبحث الشيخ حسين الأنصاري عن العمل بالحديث الضعيف إذا تلقاه الناس بالقبول ص 228، وتعليقات صديقنا الأستاذ عبد الفتاح أبى غدة عليه).
وهذا الكلام لا يؤخذ على إطلاقه، فمحله -فيما أرى- إذا كان ضعف الحديث محتملاً، وكان العمل هو عمل الصحابة والسلف لا عمل المتأخرين، ولم يقم في وجه الحديث معارض شرعي معتبر وهذه القيود الثلاثة موجودة معًا في الأحاديث التي أوجبت الزكاة في عشرين دينارًا فإن أسانيدها قريبة من القبول، وعليها عمل السلف، ولم يقم ما يعارضها بل وجد ما يوافقها، وهو مساواة العشرين دينارًا للمائتين من الدراهم.
إلى الفهرس
شبهة وردها(1/213)
استدل بعضهم لما روى عن الحسن من تقدير النصاب بأربعين دينارًا بما جاء في حديث عمرو بن حزم الطويل في الكتاب الذي كتبه له النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفيه بعد ذكر نصاب الفضة: "وفي كل أربعين دينارًا دينار" (الحديث قد رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه (1/395) وصححه ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي (4/89 - 90)، ونقل عن جماعة من الحفاظ أنهم رأوا هذا الحديث موصول الإسناد حسنًا وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (3/72)، وقال: رواه الطبراني في الكبير، وفيه سليمان بن داود، وثقة أحمد وتكلم فيه ابن معين، وقال أحمد: إن الحديث صحيح قال الهيثمي: وبقية رجاله ثقات وأيد العلامة أحمد شاكر صحة كتاب عمرو بن حزم في حواشيه على المحلى كما في: 6/14، 34 وغيرهما).
والذي أراه أن الحديث -على التسليم بصحته- لا دليل فيه على نفى الزكاة عما دون الأربعين؛ لأنه نص على مقدار الواجب، ولم يتعرض لبيان النصاب، فقوله: "في كل أربعين دينارًا دينار" كقولنا: في كل مائة (2.5) أو في كل ألف (25)، فهو بيان للنسبة أما النصاب فيعلم مما ذكر، من نصاب الفضة، إذ كانت الـ (200) درهم تصرف بـ (20) دينارًا.
وبهذا يسلم مذهب الجمهور من الاعتراض.
إلى الفهرس
مقدار الدرهم والدينار الشرعيين
إذا عرفنا أن نصاب الزكاة في الفضة مائتا درهم، وفى الذهب عشرون دينارًا، فقد بقى علينا أن نعرف حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين ومقدارهما، لنعرف من وراء ذلك كم يساوي النصاب اليوم.(1/214)
لقد تعرض كثير من علماء السلف والخلف لهذا البحث، كأبي عبيد في "الأموال" (ص 524، 525) والبلاذري في آخر "فتوح البلدان" (نشر الأب أنستاس الكرملي -عضو المجمع اللغوي بالقاهرة- الجزء الخاص بالنقود ضمن كتاب عن "النقود العربية وعلم النميات" ص 9 - 18)، والخطابي في "معالم السنن" (أول كتاب البيوع وقد نقله النووي في المجموع: 6/1 - 16)، والماوردي في "الأحكام السلطانية" (نقله النووي أيضًا- المرجع نفسه)، والنووي في "المجموع" (الجزء السادس ص 14 - 16)، والمقريزي في كتاب "النقود القديمة الإسلامية" (نشرها الكرملي ضمن كتابه السابق من ص 21 إلى ص 73)، وابن خلدون في "المقدمة" (المصدر السابق ص 103 - 109) وغيرهم من قبل ومن بعد.
والخلاصة التي نخرج منها من كلام هؤلاء، ما لخصه حكيم المؤرخين ابن خلدون بقوله: "اعلم أن الإجماع منعقد، منذ صدر الإسلام، وعهد الصحابة والتابعين، أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب، والأوقية منه أربعين درهمًا، وهو على هذا سبعة أعشار الدينار، ووزن المثقال من الذهب الخالص اثنان وسبعون حبة من الشعير الوسط، فالدرهم -الذي هو سبعة أعشاره- خمسون حبة وخمسا حبة، وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع".
وأما الدينار -وهو المثقال- فالمشهور أنه لم يتغير في جاهلية ولا إسلام ومن المتفق عليه أن النقود الإسلامية العربية بهذا الوزن المجمع عليه، إنما انتشرت في الآفاق منذ عهد عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي الذي وجد الدراهم في عصره ما بين كبير وزنه ثمانية دوانق، وصغير يزن أربعة دوانق، فجمعهما، وحمل زيادة الأكبر على نقص الأصغر، وجعلهما درهمين متساويين، زنة كل منهما ستة دوانق كاملة، واعتبر المثقال أيضًا، فإذا هو في آباد الدهر لم يبرح مؤقتًا محدودًا، كل عشرة دراهم -مما يزن ستة دوانق- فإنها سبعة مثاقيل، فأقر ذلك وأمضاه، من غير أن يعرض لتغييره.(1/215)
ثم إن العلماء والمؤرخين أثبتوا أن الدرهم والدينار لم يبقيا على الوضع الذي استقر عليه الإجماع في عهد عبد الملك، بل أصابهما تغيير كبير في الوزن والعيار، من بلد إلى بلد، ومن عهد إلى عهد، ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهنًا، وصار أهل كل بلد يستخرجون الحقوق الشرعية من نقودهم، بمعرفة النسبة التي بينها وبين مقاديرها الشرعية، فما السبيل إذن لمعرفة وزن الدرهم والدينار الشرعيين مع اختلاف العملات وصنج الوزن في الأقطار الإسلامية الآن؟
لقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة إلى حقيقة نافعة، التفتت إليها أخيرًا الدول المتحضرة وعملت على تعميمها تلك هي توحيد المكاييل والموازين في الأمة (وكذلك سائر المقاييس والمعايير) حتى تستقيم المعاملات بين الناس، ولا يوجد بينهم كبير مجال للتنازع والخصام، وهذا ما جاء في حديثه -صلى الله عليه وسلم-: "الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة" ذلك لأن أهل مكة أهل تجارة فكانوا يتعاملون بالأوزان من المثاقيل والدراهم والأواقي ونحوها، فكانوا فيما أدق وأضبط، أما أهل المدينة فكانوا أهل زرع وثمر، فكانوا يتعاملون بالمكاييل من الوسق والصاع والمد ونحوها، فكانوا فيها أدق وأضبط، فأمر بالرجوع في كل معيار إلى من هم أعلم به، وأضبط له، وأحرص على الدقة فيه.
وكان المفروض في كل الأقطار التي دانت بالإسلام، أن توحد موازينها ومكاييلها تبعًا لمعايير البلدين الكريمين: مكة والمدينة اللذين أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باتخاذهما إمامًا في ذلك، وأن يكون الدرهم في كل البلاد الإسلامية درهمًا واحدًا لا يختلف في وزنه ومقداره، وكذلك المثقال والأوقية والرطل وغيرها ومثل هذا يقال في الصاع والمد والمن ونحوها من المكاييل، وبهذا تعرف الواجبات والحقوق الشرعية المقدرة بالأوزان أو الأكيال، بسرعة ويسر، وبدون مشقة ولا عناء.(1/216)
ولكن الذي يؤسف له أن المسلمين لم يلتفتوا لهذا التوجيه النبوي، ولم يعطوه الأهمية اللازمة، إذ كان الواجب أن تحفظ نماذج دقيقة مضبوطة مختومة لدى الدولة الإسلامية من موازين أهل مكة -وخاصة المثقال الدرهم- ومن مكاييل أهل المدينة -وبخاصة الصاع والمد-ليرجع إليها في التقديرات الشرعية- في أحكام الزكاة وغيرها.
وكان الواجب أن يلزم ولاة الأقاليم الإسلامية، باتخاذ هذه المعايير أساسًا للتعامل والتبادل، بين الأفراد بعضهم وبعض، أو بين الدولة والأفراد، لما يترتب عليها من أحكام شرعية شتى.
غير أن الواقع سار في طريق آخر، واختلفت الدراهم والدنانير والأواقي والأرطال وكافة الأوزان والأكيال اختلافًا شاسعًا، واضطربت لذلك التقديرات، وكثر النزاع، وانتشر الأمر.
وأصبحنا نقرأ ونسمع ونرى: الرطل البغدادي، والرطل المدينى، والرطل المصري، والرطل الشامي، ونقرأ عن الدرهم أهو 12 قيراطًا، أم 14، أم 15، أم 16، أم أقل أو أكثر؟ وكم حبة هو من الحنطة أو الشعير أو الخروب؟ وما المثقال؟ وهل هو الدينار نفسه أم لا؟ وكم قيراطًا هو؟ وكم حبة يكون؟
أسئلة أطال الفقهاء البحث فيها، واختلفوا فيها اختلافًا كثيرًا لاختلاف الأعراف والمصطلحات حسب البلدان والأزمان.
مما جعل بعض فقهاء المذهب الحنفي يقولون: "يفتى في كل بلد بوزنهم" قال ابن عابدين: جزم به في "الوالجية" وعزاه في الخلاصة إلى ابن الفضل، وأخذ به السرخسي، واختاره في المجتبى وجمع النوازل والعيون والمعارج والخانية والفتح وقال -يعنى ابن الهمام-: إلا أني أقول ينبغي أن يقيد بما إذا كانت لا تنقص عن أقل وزن كان في زمنه وهي "ما تكون العشرة وزن خمسة" أ هـ (رد المحتار: 2/40) وهذا يشبه ما ذهب إليه ابن حبيب الأندلسي الذي نقلوا عنه قوله: "إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم" فتح الباري: 4/23- طبع الحلبي.(1/217)
وقلوا: إنه انفرد بهذا القول، إذ لم يخالف أحد قبله في أن نصاب الزكاة مائتا درهم، تبلغ مائة وأربعين مثقالاً، حيث أجمعوا على أن الدرهم (0.7) من المثقال (كل سبعة مثاقيل عشرة دراهم) (المرجع نفسه وفيه: وكذا خرق المريسي الإجماع فاعتبر النصاب بالعدد لا بالوزن).
وإذن لابد من البحث عن الدرهم الشرعي، والدينار الشرعي اللذين جاء بهما التقدير في نصاب الزكاة.
إن مما ييسر لنا السبيل أن معرفة مقدار أحدهما تؤدى إلى معرفة الآخر؛ لأن النسبة بين الدرهم والدينار معروفة وهي نسبة 7: 10 (سبعة إلى عشرة) فالدرهم (0.7) من المثقال.
ولكن مما يصعب الطريق أمامنا أن الوحدات الصغيرة التي ذكروا أنها تعتبر أجزاء الدرهم أو الدينار، كلها أشياء غير مضبوطة ضبطًا تامًا، لأنها مما يختلف باختلاف الأقطار والأزمان والأنواع، وذلك كحب الخروب والشعير والحنطة والخردل، وقد جربت ذلك بنفسي مع بعض الصاغة في القاهرة، فوجدتها تختلف اختلافًا بعيدًا، ولم أحصل على طائل:
لقد ذكروا أن الدرهم الشرعي ستة دوانق، والدوانق اثنتان وثلثا حبة خروب، فالدرهم إذن ست عشرة حبة خروب فهل نستطيع معرفة وزن حبة الخروب؟
لقد تعرض لذلك بعض الباحثين المعاصرين المعنيين بأوزان النقود الإسلامية، وانتهى الدكتور عبد الرحمن فهمي -أمين متحف الفن الإسلامي بالقاهرة- في كتابه "صنج السكة في فجر الإسلام" بعد فحص واختبار لمجموعة من الصنج الأثرية إلى أن متوسط وزن حبة الخروب هو0.194 -من الجرام فالدرهم إذن يساوى 16 × 0.149 = 30.104 جرامًا (انظر "صنج السكة في فجر الإسلام"- للدكتور عبد الرحمن فهمي).
ومعنى هذا: أن الدرهم الشرعي يقارب الدرهم العرفي، وهو أصغر منه بمقدار0.016 من الجرام ولكن يعكر على هذه النتيجة: أن تقدير الدرهم بستة دوانق وبستة عشر قيراطًا غير متفق عليه كما أن تقدير القيراط مختلفة فيه.(1/218)
وقد ذكر ابن عابدين أقوالاً شتى لعلماء الحنفية في مقدار الدرهم الشرعى، والنسبة بينه وبين الدرهم العرفى، فاختلفوا اختلافًا كثيرًا، من قائل: الدرهم العرفي أكبر، ومن قائل: بل هو أصغر قال: وقد ذكر في "سكب الأنهر" أقوالاً كثيرة في تحديد القيراط والدرهم بناء على اختلاف في الاصطلاحات والمقصود تحديد الدرهم الشرعي، وقد سمعت ما فيه من الاضطرابات (رد المحتار: 2/40).
وتوصل بعض الباحثين إلى قريب من النتيجة السابقة بطريقة أخرى، فقد ذكر المقريزي وغيره أن قدماء اليونان الذين وضعوا وزن الدرهم والدينار قدروه بحب الخردل، لدقة حجمه، وعدم اختلافه باختلاف الأمكنة، فقدروا الدرهم بـ 4200 حبة خردلة، والدينار بـ 6000 حبة، وفى القرن الماضي كتب الذهبي الشافعي رسالة في "تحرير الدرهم والمثقال والرطل والمكيال" قرر فيها: أن الدرهم المتداول في زمنه درهم شرعي بواسطة امتحانه بحب الخردل، وبدرهم الملك "قايتباي" المختوم بختمه، قال: ومنه يتركب الرطل، وهو بالمصري (144) درهمًا، وبالبغدادي (128) درهمًا وأربعة أسباع الدرهم (رسالة "تحرير الدرهم والمثقال" ضمن كتاب الأب الكرملي المذكور ص 78).
ومعنى هذا: أنه هو الدرهم المتداول في زمننا أيضًا، إذ الرطل المصري الآن 144 درهمًا والدرهم يساوى (3.12) جرامًا، فالفرق بين وزنه وبين ما سبق (0.016) من الجرام وهو فرق ضئيل.
ولكن الاعتماد على حب الخردل في امتحان الدرهم لا يكفى، فإن هذه الحبوب قد تتفاوت تفاوتًا ضئيلاً بتفاوت البيئات والأزمنة، فتحدث في النهاية فرقًا يعتد به كما جربت بنفسي في حب الخروب.
كما أن المتأمل في كلام المقريزي، قد يفهم منه أن الدرهم الذي قدر بـ(4200) حبة خردل إنما هو "درهم الرطل"، فهل هو درهم النقود أو غيره؟(1/219)
يبدو أنه كان هناك أنواع أخرى من الدراهم والمثاقيل غير دراهم ومثاقيل النقود، فقد ذكر المقريزي نقلاً عن الخطابى: أنه كان يوجد غير الدرهم الذي نسبته كنسبة سبعة إلى عشرة -دراهم كيل، وكانت مستعملة في ديار الإسلام (انظر: الخطط التوفيقية: 20/33، وفى دائرة المعارف الإسلامية: 9/228، قال: "زمباور": "والدرهم هو أيضًا: اسم وزن من الأوزان "درهم كيل" يبلغ 3.184 من الجرامات، وهو يختلف اختلافًا بينًا عن السكة المعروفة بهذا الاسم وقد بقى هذا الكيل- وإن اختلف من بلد إلى بلد- حتى العصور الحديثة، يستعمله الصيدلي والصائغ" أ هـ).
كما قال على مبارك: إن الدرهم الذي قدره (3.12) جرام كان كثير الاستعمال (المرجع السابق).
وربما كان هذا أيضًا من أسباب اختلاف المؤلفين في تقدير الدرهم والمثقال.
أما درهم الملك "قايتباي" المذكور، فلا يؤمن أن يكون قد دخله زيادة أو نقصان، فقد ذكرنا أن المؤرخين أثبتوا أن النقود لم تبق على الوزن الشرعي، فمن يدرينا أن درهم قايتباي كان درهمًا شرعيًا سليمًا ؟.
(جـ) وأمثل طريقة لمعرفة مقدار الدرهم والدينار الشرعيين -فيما أرى- هي الطريقة الاستقرائية الأثرية؛ أعنى تتبع أوزان النقود المحفوظة في المتاحف العربية والغربية، وبخاصة الدينار أو المثقال، فإنهم قرروا أنه لم يتغير في جاهلية ولا إسلام، وأنهم حين ضربوا الدراهم جعلوا العشرة منها وزن سبعة مثاقيل، فكان المثقال هو الأصل الذي نحتكم إليه، فإذا عرفنا وزن المثقال عرفنا به نصاب النقدين معًا: الذهب والفضة.(1/220)
هذا ما سلكه بعض الباحثين من الأوروبيين، وتبعهم البحاثة المصري "على باشا مبارك" الذي خصص الجزء العشرين من "الخطط التوفيقية" (انظر: تحرير وزن المثقال والدينار والدرهم ص 28 وما بعدها، وانظر أيضًا: الخراج في الدولة الإسلامية، للأستاذ ضياء الدين الريس ص 337 وما بعدها) للنقود، وقد أثبتوا -بواسطة استقراء النقود الإسلامية المحفوظة في دور الآثار بلندن وباريس ومدريد وبرلين- أن دينار عبد الملك يزن (4.25) جرامات، وكذلك ذكرت "دائرة المعارف الإسلامية" وهو وزن الدينار البيزنطي نفسه (الخراج في الدولة الإسلامية ص 337، 338)، وإذن يكون الدرهم = 4.25× 7 ÷ 10 = 2.975 (يلاحظ أن هذا الناتج قريب لما ذكره العلامة المالكي الدردير في "الشرح الصغير" من أن نصاب الفضة بالدرهم العرفي -(185) جرامًا وخمسة أثمان الجرام أي (579.15) جرام- فيكون الدرهم الشرعي (2.896) جرام، وإن كنا لا نعلم الأساس الذي بنى عليه هذا التقدير انظر الشرح الصغير بهامش بلغة السالك: 1/217) وأيد ذلك بعض الباحثين الأثريين من العرب المعاصرين (انظر كتاب "صنج السكة في فجر الإسلام" للدكتور عبد الرحمن فهمي محمد- أمين متحف الفن الإسلامي بالقاهرة) وهذا ما ذكره المستشرق "زمباور" في "دائرة المعارف الإسلامية" المترجمة في مادتي "درهم" و "دينار" حيث قال في مادة درهم (الجزء التاسع ص 226 وما بعدها).(1/221)
"وقد اختلف المؤرخون اختلافًا عظيمًا في تحديد الدرهم القانوني ولكنهم أجمعوا على أن نسبة وزن الدرهم إلى وزن المثقال هي (7: 10) ولما كان المثقال يدل على عدة معان، فإن هذه المعادلة لا تصح إلا إذا كان المثقال يساوى الدينار القانوني، أي المثقال المكي الذي يبلغ وزنه 4.25 من الجرامات ونخلص من هذا إلى أن أقرب أوزان الدرهم إلى الاحتمال هو 2.97 من الجرامات وهذا الوزن يتفق على خير وجه مع السكة الباقية والأوزان الزجاجية، كما يتفق مع أوزان السكة التي ضربت في عهد المقتدر (295 - 320 هـ = 908 - 932 م) وكشف عنها "روجر" في الفيوم.
ولربما كان الخليفة عمر هو أول من قرر أن الوزن القانوني للدرهم هو 297 من الجرامات وقد أمر عبد الملك بأن يكون الدرهم من هذا الوزن هو - دون سواه- السكة الفضية الصحيحة".
وقال في مادة "دينار":
"وقد أجمع المؤرخون على أن الإصلاح الذي أدخله عبد الملك على العملة سنة 77 هـ (696 م) لم يمس معيار العملة الذهبية ويمكن أن نتثبت على الفور من الوزن المضبوط لهذه العملة من الدقة المتناهية التي روعيت في ضرب أقدم الدنانير التي تناولها الإصلاح ومن ثم نجد أن الدينار يزن 4.25 من الجرامات (66 حبة) وينطبق هذا انطباقًا تامًا على الوزن الفعلي للصولديرس البيزنطي الذي كان معاصرًا له في الزمن.
ثم قال: (ص 371) وما زال الشرع ينص على أن الدينار الرسمي يكون وزنه4.25 من الجرامات (66 حبة)" أ هـ (المصدر السابق ص 270).
ولعل هذه الطريقة هي أمثل الطرق لمعرفة الدرهم والدينار الشرعيين وأبعدها عن الخطأ، وأقربها إلى المنهج العلمي، لابتنائها على استقراء واقعي لنقود تاريخية، لا مجال للطعن في صحتها وثبوتها، وهي تختلف بعض الاختلاف عن النتائج التي أدت إليها الطرق السابقة، فالدرهم والدينار هنا أنقص قليلاً، ولعل هذا أحوط في باب الزكاة، وأرعى لمصلحة الفقراء والمستحقين الذين فرض الله لهم الزكاة.(1/222)
وإذن يكون نصاب الفضة بالوزن الحديث هو 2.975 × 200 = 595 من الجرامات، ويكون نصاب الذهب هو4.25 × 20 = 85 جرامًا من الذهب.
فمن ملك من الفضة الخالصة -نقودًا أو سبائك- ما يزن 595 جرامًا وجبت عليه فيه الزكاة: 2.5بالمائة، إذا اعتبرنا نصاب الفضة، كما هو شائع وهذا يحتاج إلى تمحيص، كما سيأتي.
وإذا عرفنا أن الريال المصري وفق آخر تعديل يزن 14 جرامًا، وأن نسبة الفضة فيه .0.72 (صدر قانون رقم 264 لسنة 1956، يقضى بأن يكون الريال المصري 14 جرامًا، والقطعة ذات العشرة القروش 7 جرامات، والخمسة القروش 3.5 جرامًا، وأن تكون نسبة الفضة 0.720 (انظر كتاب "سك النقود" الصادر عن مصلحة سك النقود في العيد الثامن للثورة المصرية ص 247)، إذن يكون ما فيه من الفضة الخالصة = 10.08 جرامات فعلى هذا يكون نصاب النقود الفضية من الريالات المصرية هو 595 ÷10.08 =59.02 ريالاً أي =1180.4 قرشًا.
فإذا جرينا على مذهب الحنفية الذين لا يشترطون نقاء النقود من الغش، ويقبلون المغشوش إذا راج رواج الخالص، كان النصاب من الريالات هو: 595 ÷ 14 = 42.5ريالاً أي = 850 قرشًا.
ولكن الأول هو مذهب الجمهور، وهو الموافق لظاهر النصوص، فإنها جعلت النصاب مائتي درهم من الفضة.
ومن هنا نعلم أن القول بأن نصاب الفضة = 22 ريالاً مصريًا و 2 من 9 من الريال، أو 27 ريالاً على مذهب الحنفية لم يعد مطابقًا ولا مقاربًا الآن لوزن العملة الفضية، ولهذا وجب التنبيه، والمعول عليه هنا الوزن، أعنى 595 جرامًا، حسبما رجحنا.
أما نصاب الذهب فلا يضبطه الآن إلا الوزن وهو 85 جرامًا -كما رجحنا- وذلك لاختفاء النقود الذهبية من التعامل الداخلي الآن، فمن ملك من التبر أو السبائك الذهبية، أو من النقود ما يساوى 85 جرامًا، وجب عليه تزكيتها بإخراج2.5المائة منها.
المبحث الأول
زكاة النقود
خطأ شائع عند المعاصرين عن نصاب النقود(1/223)
وهناك خطأ شائع عند كثير من المعاصرين ممن يكتبون في الزكاة، عندما يتحدثون عن نصاب النقود.
من ذلك: ما كتبته اللجنة المنتخبة من علماء المذاهب الأربعة في كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" الذي اعتمدته وزارة الأوقاف المصرية:
قالت: إن نصاب الزكاة في الذهب يساوى -بالعملة المصرية- أحد عشر جنيهًا مصريًا ونصفًا وربعًا وثمنًا (1187.5قرشًا) وأن نصاب الفضة يساوى 529 قرشًا وثلثي القرش (الفقه على المذاهب الأربعة ص 481- الطبعة الخامسة).
وقد شاع هذا التقدير في كثير من الكتب والمجلات، واشتهر على ألسنة الذين يتعرضون لإفتاء الناس.
والخطأ هنا في شيئين:
الأول: أن هذا النصاب 11 جنيهًا ذهبيًا وسبعة أثمان الجنيه بالوزن القديم للجنيه المصري -وقد كان يزن (8.5) جرامات- لا يساوي (1187.5) قرشًا فقط، فإن هذا يكون صحيحًا لو كان تقدير النصاب بالجنيه، على أساس العملة الورقية، أما الجنيه الذهبي، فإن النصاب فيه يساوى أكثر من ثمانين جنيهًا بالعملة الورقية؛ وذلك لاختلاف القيمة الحقيقية للجنيه الذهبي عن القيمة الاسمية اختلافًا شاسعًا، حتى إنه ليقدر الآن (1969) بنحو سبعة جنيهات من العملة الورقية.(1/224)
الثاني: أن معنى هذا الكلام أن هناك نصابين للزكاة في النقود، وبينهما تفاوت هائل، فهل تقبل عدالة التشريع الإسلامي هذا التفاوت الضخم الذي يبلغ أحد النصابين فيه ضعف الآخر أكثر من ثلاث عشرة مرة؟ وهل يقبل منا أن نترك المسلم في حيرة أمام هذين النصابين المختلفين أشد الاختلاف؟ وهل يسوغ في العقل أو في الشرع أن نقول لمن يملك خمس جنيهات: أنت غنى بحسب نصاب الفضة؛ ونقول لمن يملك خمسين جنيهًا: أنت فقير بحسب نصاب الذهب ؟! لا شك أن هذا غير سائغ ولا جائز والأحاديث والآثار التي قدرت النصاب في النقود بمائتي درهم من الفضة، وبعشرين دينارًا من الذهب، لم تقصد أن تجعل من ذلك نصابين متفاوتين، وإنما هو نصاب واحد من ملكه اعتبر غنيًا تجب عليه الزكاة، وقدرت هذا النصاب بمبلغين متعادلين، هما مائتا درهم أو عشرين دينارًا، وكان شيئًا وسعرًا واحدًا، فقد قامت الأدلة الكثيرة القاطعة على أن سعر الدينار في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين كان يصرف بعشرة دراهم عرف ذلك في الزكاة، وفي حد السرقة، وفي الجزية، وفي الديات وغيرها (انظر كتاب "الخراج في الدولة الإسلامية" ص 343، 344).
على هذا يجب أن يكون تقدير نصاب الزكاة من النقود واحدًا، من الذهب أو من الفضة على حد سواء، القيمة واحدة، وإن اختلفت العملة.
إلى الفهرس
بماذا نحدد النصاب في عصرنا .. بالذهب أم الفضة؟
لاشك إذن أن عصرنا لم يعد يحتمل أن يكون للنقود الذهبية نصاب، وللفضية نصاب آخر، فقد أصبحت العملة الورقية هي السائدة في التعامل بين الناس، ويكاد الناس لا يرون العملة المعدنية -وبخاصة الذهب منها- فلم نعد إذن بحاجة إلى ما بحثه الفقهاء قديمًا هل يضم أحد النقدين إلى الآخر أم لا؟ فإن الضم أمر ضروري وقائم.(1/225)
ولكن البحث الذي لابد منه هنا هو -بأي النقدين نحدد النصاب- أي الحد الأدنى للغنى الموجب للزكاة؟ وذلك أن الشارع قد حدد لكل منهما نصابًا يخالف الآخر، هل نحدده بالفضة؟
ربما مال إلى ذلك كثير من العلماء المعاصرين، وذلك لأمرين:
الأول: أن نصاب الفضة مجمع عليه، وثابت بالسنة المشهورة الصحيحة.
الثاني: أن التقدير به أنفع للفقراء، إذ باعتباره تجب الزكاة على أكبر عدد من المسلمين ولهذا شاع تقدير النصاب ببضع وعشرين ريالاً في مصر، وبنحو خمسين ريالاً في المملكة العربية السعودية وإمارات الخليج، وبنحو بضع وخمسين روبية في باكستان والهند أو ستين (قدرها العلامة الفازينوري بما يساوى (60) ستين روبية، وقدرها العلامة اللكنوي في رسائل "الأركان الأربعة" ص 178 بما يساوي (55) روبية، انظر: مراعاة المفاتيح: 3/41).
ويذهب علماء آخرون إلى أن تقدير النصاب يجب أن يكون بالذهب، وذلك أن الفضة تغيرت قيمتها بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده (ومما يدل على ذلك ما ذكره المؤرخون أن الدينار بعد أن كان مساويًا لعشرة دراهم في العهد الأول، صار في النصف الثاني من العهد الأموي يساوى اثنى عشر درهمًا، وفي العصر العباسي وصل إلى أن صار يساوى خمسة عشر أو أكثر (انظر الخراج في الدولة الإسلامية ص 347) ونقل على مبارك عن المقريزي أنه في زمن الفاطميين في عهد الحاكم، كثرت الدراهم كثرة زائدة حتى صار الدينار يبدل بأربعة وثلاثين درهمًا (الخطط التوفيقية: 20/43).(1/226)
كما تعرض الأستاذ عبد الرحمن فهمي في كتابه "صنج السكة فى فجر الإسلام" لهذا الموضوع، ووضع جدولاً بين فيه قيمة الدينار بالدراهم في مختلف العصور الإسلامية، وفيها: أن الدينار بلغ صرفه أحيانًا خمسة وثلاثين درهمًا ص 35) وذلك لاختلاف قيمتها باختلاف العصور كسائر الأشياء، أما الذهب فاستمرت قيمته ثابتة إلى حد بعيد، ولم تختلف قيمة النقود الذهبية باختلاف الأزمنة، لأنها وحدة التقدير في كل العصور وهذا ما اختاره الأساتذة: أبو زهرة وخلاف وحسن في بحثهم عن الزكاة (حلقة الدراسات الاجتماعية ص 238).
إلى الفهرس
ترجيح التحديد بالذهب
ويبدو لي أن هذا القول سليم الوجهة، قوي الحجة، فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة كخمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، نجد أن الذي يقاربها في عصرنا هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة.
إن خمس إبل أو أربعين شاة تساوى قيمتها نحو أربعمائة دينار أو جنيه، أو أكثر، فكيف يعد الشارع من يملك أربعًا من الإبل أو تسعًا وثلاثين من الغنم فقيرًا، ثم يوجب الزكاة على من يملك نقدًا لا يشترى به شاة واحدة؟ وكيف يعتبر من يملك هذا القدر الضئيل من المال غنيًا؟
ولقد قال العلامة ولي الله الدهلوي في كتابه القيم "حجة الله البالغة" (الجزء الثاني ص 506)
"إنما قدر (النصاب) بخمس أواق (من الفضة) لأنها مقدار يكفى أقل أهل بيت سنة كاملة، إذ كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك".
فهل نجد الآن في أي بلد من بلاد الإسلام: أن خمسين أو نحوها من الريالات المصرية أو السعودية أو القطرية أو الروبيات الباكستانية أو الهندية ونحوها -تكفى لمعيشة أسرة- أي أسرة- سنة كاملة، أو شهرًا واحدًا، أو حتى أسبوعًا واحدًا؟(1/227)
إنها في بعض البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة كبلاد النفط (البترول) لا تكفى بعض الأسر المتوسطة لنفقات يوم واحد فكيف يعد من ملكها غنيًا في نظر الشرع الحكيم؟ هذا بعيد غاية البعد.
لهذا كان الأولى أن نقتصر على تقدير النصاب في عصرنا بالذهب وإذا كان التقدير بالفضة أنفع للفقراء والمستحقين، فهو إجحاف بأرباب الأموال وأرباب الأموال في الزكاة ليسوا هم الرأسماليين وكبار الموسرين، بل هم جمهور الأمة.
إلى الفهرس
هل من سبيل إلى معيار ثابت لنصاب النقود؟
من المعروف لدى دارسي التاريخ، ودارسي الاقتصاد: أن قيمة النقود لإثبات لها، وأنها تتحول -صعودًا وهبوطًا- من عصر إلى آخر، ومن قطر إلى آخر، والقيمة الحقيقية للنقود إنما تتمثل في قدرتها الشرائية (قد يشهد لهذا ما رواه أبو داود: أن الدية كانت في العهد النبوي 800 دينار أو 8000 درهم، فلما كان عهد عمر خطب فقال: إن الإبل قد غلت، فقومها على أهل الذهب 1000 دينار وعلى أهل الورق 12000 درهم)، ولا سيما في عصرنا الذي أصبح السائد فيه هو النقود الورقية: لأن الناس لا تأكل النقود ولا تلبسها، بل تشترى بها ما يلزمها من الحاجات.
وقد رأينا كيف هبطت قيمة النقود الفضية إلى حد أصبح النصاب الشرعي لا يساوى شيئًا يذكر، بجانب الأنصبة الشرعية الأخرى من الذهب أو من الأنعام وغيرها.
ولكن ما الحل إذا انخفضت قيمة الذهب أيضًا، وأصبح العشرون دينارًا -وبعبارة أخرى: الـ (85) جرامًا- لا توازى أو تقارب الأنصبة الأخرى؟
هل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي الذي جعله الإسلام مناط وجوب الزكاة فإنها لا تجب إلا على غني؟
وهذا التساؤل يرد كذلك إذا ارتفعت -في عصر ما- قيمة النقود، وتضاعفت قوتها الشرائية إلى حد غير معقول.
إلى الفهرس
التقدير بالأنصبة الأخرى(1/228)
وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص، والتي لا تتغير تغير النقود، لأن لها قيمة ذاتية ثابتة، وإن اختلفت قيمتها النقدية بين بلد وآخر، وبين عصر وآخر، فالقيمة الذاتية لخمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، أو خمسة أوسق من القمح لا ينازع فيها أحد، ولا يعتريها كثير تغير، من حيث حاجة البشر إليها، وانتفاعهم بها.
إلى الفهرس
هل يمكن التقدير بنصاب الزرع والثمر؟
ولكنا نلاحظ أن قيمة نصاب الزرع (الأوسق الخمسة) تقل كثيرًا عن قيمة نصاب الأنعام، ولعل الشارع قصد إلى تقليل هذا النصاب خاصة لعدة معان:
1- أن نعمة الله في إثبات الزرع أظهر منها في أي شيء آخر، وجهد الإنسان فيه أقل من جهده في سائر الثروات كما قال تعالى: (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون) ؟! (يس: 35).
2- أن البشر لا يستطيعون الاستغناء عما أخرجت الأرض من نبات، وإن استطاعوا أن يستغنوا عن الحيوان، فلهذا قصد الشارع إلى تقليل النصاب فيها لإشراك أكبر عدد من المحتاجين فيما أخرج الله من الأرض، وبخاصة الأقوات.
3- هذا إلى أن الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة إنما هي ثمار الأرض وغلتها، فهي بمنزلة الربح من رأس المال بخلاف الإبل والبقر والغنم فإن الزكاة تجب في الأصل ونمائه جميعًا وبعبارة أخرى: في رأس المال والربح معًا ولهذا قلل الشارع النصاب في الحبوب والثمار لأنها كلها نماء وربح ورزق جديد، كما زاد نسبة الواجب فيها فجعلها العشر ونصف العشر.
إلى الفهرس
هل يمكن التقدير بالنصاب الحيواني؟
ومن ثم يجب صرف النظر عن التقدير بنصاب الزروع والثمار فلم يبق إلا التقدير بالنصاب الحيواني من الإبل والبقر والغنم.
أما البقر فقد اختلف في نصابها من خمس، إلى ثلاثين، إلى خمسين، فلا يصلح مع وجود هذا الخلاف أن يكون أصلاً يقاس عليه.
بقي نصاب الإبل ونصاب الغنم، وقد ثبتا بالنص والإجماع، فنصاب الإبل خمس، ونصاب الغنم أربعون.(1/229)
فهل نستطيع أن نقول في نصاب النقود: إنه ما يساوى قيمة خمسة من الإبل، أو أربعين من الغنم؟
إن الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب، يتوقف على ثبوت مساواة هذه الأنصبة للنصاب النقدي الذي ورد به الشرع -200 درهم- في عصر النبوة، فإذا كانت الخمس من الإبل، والأربعون من الغنم تساوى قيمتها في ذلك العصر 200 درهم أمكننا أن نستنبط النصاب النقدي، ونعتبر أنه: ما يساوى قيمة خمس من الإبل، أو أربعين من الغنم.
وقد نقل شمس الأئمة السرخسي في المبسوط ما يؤيد ذلك -كما ذكرنا ذلك في زكاة الثروة الحيوانية- أنه اعتبار للقيمة في المقادير فإن بنت المخاض -وهى أدنى الأسنان التي تجب فيها الزكاة- كانت تقوم بنحو أربعين درهمًا والشاة بنحو خمس دراهم، فإيجاب الزكاة في خمسة من الإبل كإيجاب الزكاة في مائتي درهم من الفضة (المبسوط: 2/150).
وهذا الاعتبار الذي ذكر في المبسوط يؤيد الاتجاه إلى تقدير النصاب النقدي بنصاب الإبل أو الغنم.
ولكننا ذكرنا هناك أن المحقق ابن الهمام في "الفتح" والزين ابن نجيم في "البحر" تعقبا صاحب المبسوط في ذلك، لما جاء في صحيح البخاري وغيره: أن من وجب عليه سن من الإبل فلم توجد عنده، فإنه يضع العشرة الدراهم موضع الشاة عند عدمها، وهو مصرح بخلاف ما ذكره السرخسي (انظر: فتح القدير: 1/495، والبحر: 2/230).
فقد جاء في حديث أنس عند البخاري وغيره: "من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهمًا ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين" إلى آخر الحديث.
ومن هذا الحديث الصحيح يتبين لنا: أن الأربعين شاة التي هي نصاب الغنم كانت تساوى في العصر النبوي أربعمائة درهم (40 × 10) ومعنى ذلك أنها ضعف نصاب النقود (200 درهم).(1/230)
ولعل تقليل نصاب النقود بالنسبة إلى الحيوان أمر مقصود من الشارع الحكيم فإن ملك النقود يجعل الإنسان أقدر على إشباع حاجاته الاقتصادية العديدة، بسهولة وسرعة، من ملك الإبل ونحوها، فمن كان عنده إبل، وهو يحتاج إلى نفقة أو كسوة أو دواء أو نحو ذلك، لم يستطع أن يحصل عليها إلا ببيع بعض ما عنده من الإبل بالنقود، وقد لا يتيسر له البيع دائمًا، ولا بالثمن المناسب دائمًا، بخلاف من يملك النقود، فإنها الواسطة المباشرة للتبادل، والأداة المعدة لشراء الحاجات كما أن امتلاك نصاب النقود يأتي غالبًا نتيجة التوفير والادخار، وخاصة إذا اشترطنا حولان الحول عليه، كما هو رأى الجمهور.
وقد اشترط فقهاء الحنفية: أن يكون نصاب النقود فاضلاً عن الحوائج الأصلية لمالكه، بحيث لا يكون محتاجًا إليه حاجة أصلية.
فلا غرابة -بعد هذا- إذا جعل الشارع نصاب النقود نصف النصاب الحيواني من الإبل أو الغنم.
إلى الفهرس
المعيار المقبول للنصاب النقدي
وبناء على هذا البحث، نستطيع أن نضع معيارًا ثابتًا للنصاب النقدي، يلجأ إليه عند تغير القوة الشرائية للنقود تغيرًا فاحشًا، يجحف بأرباب المال أو بالفقراء وهذا المعيار هو ما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، في أوسط البلاد وأعدلها.
وإنما قلنا: أوسط البلاد وأعدلها: لأن بعض البلاد تندر فيها الثروة الحيوانية وتصبح أثمانها غالبة جدًا، وبعضها تكثر فيه وتصبح رخيصة جدًا، فالوسط هو العدل، ولابد أن يوكل هذا التقدير إلى أهل الرأي والخبرة.
إلى الفهرس
النقود الورقية وأنواعها
هي قطعة من ورق خاص، تزين بنقوش خاصة، وتحمل أعدادًا صحيحة، يقابلها في العادة رصيد معدني بنسبة خاصة يحددها القانون وتصدر إما من الحكومة، أو من هيئة تبيح لها الحكومة إصدارها، ليتداولها الناس عملة.(1/231)
وقد انتشر هذا النوع من النقود حتى عم استعماله جميع الدول الحديثة، وإنما دعاها إلى ذلك اتساع نطاق المعاملات الداخلية والخارجية، وعدم كفاية النقود المعدنية وحدها لتلبية ما تتطلبه الحركة الاقتصادية.
وتعتبر النقود الورقية كالنقود المعدنية في أن كلا منهما واسط للتبادل، مع أن الورقية ليست إلا تعهدًا بالدفع، نجدها تستخدم كالنقود المعدنية في وفاء الديون، والحصول على ما يحتاج إليه الإنسان من أمتعة وسلع وخدمات (انظر كتاب "النظم النقدية والمصرفية" للدكتور عبد العزيز مرعي - طبعة 1958 ص 20 - 22).
وتنحصر النقود الورقية في أنواع ثلاث: ثابتة، ووثيقة، وإلزامية.
فالثابتة: صكوك تمثل كمية من الذهب أو الفضة، مودعة بمصرف معين، في صورة نقود أو سبائك تعادل قيمتها المعدنية قيمة هذه الصكوك التي تصرف عند الطلب، ويمكن القول بأن هذه نقود معدنية تأخذ مظهر صكوك ورقية، ليسهل حملها ونقلها، ولا تتعرض للتحات والتآكل.
والنقود الوثيقة: هي صكوك تحمل تعهدًا من الموقع عليها، أن يدفع لحاملها عند الطلب مبلغًا معينًا، ومن هذا النوع أوراق النقد المصرفية "البنكنوت" التي تصدرها "بنوك" الإصدار بإذن من الحكومة، ولها رصيد معدني تحتفظ به البنوك، وتحرص على النسبة التي يحددها القانون بينها وبينه، لتظل هذه النقود مضمونة مأمونة، تنتفع بها المصارف والجمهور والاقتصاد العام.
وأما النقود الورقية الإلزامية: وهى غير القابلة للصرف بالذهب أو الفضة فهي نوعان:
نقود ورقية حكومية: تصدرها الحكومات في أوقات غير عادية، وتجعلها نقودًا رئيسية ولكنها لا تستبدل بالمعدن النفيس، ولا يقابلها رصيد معدني.
نقود ورقية مصرفية "بنكنوت" يصدر بشأنها قانون يعفى بنك الإصدار الذي أصدرها من التزام صرفها بالمعدن النفيس (المرجع السابق ص 20 - 22).(1/232)
وقد اتبعت معظم الدول -بعد الحرب العالمية الأولى- نظام النقود المصرفية الإلزامية، لتشبع بها حاجة التبادل المحلي وتوفر المعدن النفيس للتبادل الخارجي أو لتوظيفه في الاستثمار (نفس المرجع ص 65).
وهذه النقود الإلزامية تستمد قيمتها من إدارة المشرع، لا من ذاتها: لأنها لا تحمل قيمة سلعية، ولهذا تفقد قيمتها إذا ألغى التبادل بها، أما النقود التي تقبل الصرف بالمعدن، فتجمع بين قيمتها القانونية، وقيمتها كسلعة (المرجع نفسه ص 67).
هذا تمهيد لابد منه لمعرفة طبيعة هذه النقود الورقية ووظيفتها قبل أن نعرف الحكم الشرعي في زكاتها فهل لها حكم تخالف به النقود المعدنية؟ وما هو؟
إلى الفهرس
زكاة النقود الورقية
لم تعرف النقود الورقية إلا في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكل ما هنالك أن كثيرًا من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجًا على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفية والظاهرية، فلم ير هذه نقودًا: لأن النقود الشرعية إنما هي الفضة والذهب، وإذن لا زكاة فيها.
وبهذا أفتى الشيخ عليش -مفتى المالكية في مصر في عصره- فقد استفتى في حكم "الكاغد" -الورق- الذي فيه ختم السلطان، ويتعامل به كالدراهم والدنانير فأفتى: أن لا زكاة فيه (انظر: رسالة "التبيان في زكاة الأثمان" للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى ص 33).
وكذا أفتى بعض الشافعية بأن لا زكاة فيها، حتى تقبض قيمتها ذهبًا أو فضة، ويمضى على ذلك حول، بناء على أن المعاملة بها حوالة غير صحيحة شرعًا، لعدم الإيجاب والقبول اللفظيين (الفقه على المذاهب الأربعة - الطبعة الثانية).
وفي كتاب "الفقه على المذاهب الأربعة" (الفقه ص 486 - الطبعة الخامسة) الذي ألفته لجنة تمثل علماء هذه المذاهب في مصر نقرأ ما يلي:(1/233)
1- الشافعية قالوا: الورق النقدي، التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مليء مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف وجبت زكاة الدين في الحال وعدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها حيث جرى العرف بذلك.
على أن بعض أئمة الشافعية قال: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا من قول أو فعل، والرضا هنا متحقق.
2- الحنفية قالوا: الأوراق المالية -البنكنوت- من قبيل الدين القوى، إلا أنها يمكن صرفها فضة فورًا فيجب فيها الزكاة فورًا.
3- المالكية قالوا: أوراق البنكنوت -وإن كانت سندات دين- إلا أنها يمكن صرفها فضة فورًا، وتقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها.
4- الحنابلة قالوا: "لا تجب زكاة الورق النقدي إلا إذا صرف ذهبًا أو فضة، ووجدت فيه شروط الزكاة".
ومن هذه الأقوال المنسوبة إلى المذاهب، نعلم أن أساسها هو اعتبار هذه الأوراق سندات دين على بنك الإصدار، وأنها يمكن صرف قيمتها فضة فورًا، فتجب الزكاة فيها فورًا عند المذاهب الثلاثة، وعند الصرف فعلاً على مذهب الحنابلة ونحن نعلم أن القانون أصبح يعفى أوراق النقد المصرفية "البنكنوت" من أن يلتزم البنك صرفها بالذهب أو الفضة، وبهذا ينهار الأساس الذي بنى عليه إيجاب الزكاة في هذه الأوراق.
هذا مع أن هذه الأوراق أصبحت هي أساس التعامل بين الناس، ولم يعد يرى الناس العملة الذهبية قط، ولا الفضية، إلا في المبالغ التافهة، أما عماد الثروات والمبادلات فهو هذه العملة الورقية.(1/234)
إن هذه الأوراق أصبحت -باعتماد السلطات الشرعية إياها- وجريان التعامل بها- أثمان الأشياء ورؤوس الأموال، وبها يتم البيع والشراء والتعامل داخل كل دولة، ومنها تصرف الأجور والرواتب والمكافآت وغيرها، وعلى قدر ما يملك المرء منها يعتبر غناه، ولها قوة الذهب والفضة في قضاء الحاجات، وتيسير المبادلات، وتحقيق المكاسب والأرباح، فهي بهذا الاعتبار أموال نامية أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضة.
صحيح أن الذهب والفضة لهما قيمة مالية ذاتية من حيث إنهما معدنان نفيسان، حتى لو بطل التعامل بهما نقدين لبقيت قيمتهما المالية معدنين، نعم هذا صحيح، ولكن الذي يفهم من روح الشريعة ونصوصها أنها لم توجب الزكاة في الذهب والفضة لمحض ماليتهما: إذ لم توجب الزكاة في كل مال، بل في المال المعد للنماء، والذهب والفضة إنما اعتبرهما الشارع مالاً معدًا للنماء من جهة أنهما أثمان للأشياء وقيم لها، فالثمينة مراعاة مع المالية أيضًا، ولهذا كان عنوان زكاة الذهب والفضة في كثير من الكتب: زكاة "الأثمان" أو زكاة "النقدين".
ومن أجل هذا لا يسوغ أن يقال للناس -إن بعض المذاهب لا يرى إخراج الزكاة عن هذه الأوراق، وينسب ذلك إلى مذهب أحمد أو مالك أو الشافعي أو غيرهم فالحق أن هذا أمر مستحدث ليس له نظير في عصر الأئمة المجتهدين -رضى الله عنهم- حتى يقاس عليه ويلحق به.(1/235)
والواجب أن ينظر إليه نظرة مستقلة في ضوء واقعنا وظروف حياتنا وعصرنا وإني لأسجل بالتقدير هنا ما كتبه وأفتى به العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى -رحمه الله- في رسالته "التبيان في زكاة الأثمان" إذ قال معقِّبًا على تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين المعروف عند الفقهاء القدامى، واعتبار هذه الأوراق سند دين (صكًا كالكمبيالة) لا تجب تزكيته إلا على مذهب من لا يشترط القبض في تزكية الدين إذا كان على ملئ مقر- قال: ولا يخفى أن تخرج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين -مع كونه مجحفًا بحق الفقراء على غير ما ذهب إليه الشافعية- مبنى على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقي في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقية.
مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق، وما هو مضمون بها، وبين الدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمة المدين لا ينمو ولا ينتفع به ربه، ولا يجرى التعامل بسنده رسمًا ولذلك قيل بعدم وجوب زكاته، لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًا للنماء، بحيث ينتفع به ربه، بخلاف قيمة هذه الأوراق، فإنها نامية منتفع بها كما ينتفع بالأموال الحاضرة، وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أخذ على المدين للتوثق وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمة المدين، ولا للتعامل به ؟! أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضة، مع أن عدم الزكاة في الدين -كما علمت- إنما هو لكونه ليس معدًا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين؟(1/236)
والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين ما دام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك نظرًا لهذه العلة، واستثنى الشافعية دين الموسر إذا كان حالاً، فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة، نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء، فلو فرض نماؤه كما في بدل الأوراق المالية لما كان هناك وجه لتوقف الزكاة على القبض، ولما خالف في ذلك أحد من العلماء.
فالحق أن هذا النوع من الدين نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عند الفقهاء، ولا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يتفق على وجوب الزكاة فيه، لما علمت أنه كالمال الحاضر.
إلى أن قال: ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من النقود، ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها، وعن التزام التعهد المرموق بها، واعتبر وجهة إصدار الحكومة لها، واعتبر الملة (الدولة أو الأمة) لها أثمانًا رائجة، لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرد الثمينة ولو لم تكن خلقية كما تقدم في زكاة الفلوس وقطع الجلود والكواغد.
فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة:
الأول: باعتبار المال المضمون بها في ذمة البنك، وأنه كمال حاضر مقبوض، وإن لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كل وجه.
الثاني: زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا.
الثالث: زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمة البنك فتزكى زكاة الدين الحال على مليء كما ذهب إليه الشافعي.
الرابع: زكاتها باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتفاق الملة على اتخاذها أثمانًا للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس كزكاة الفلوس والنحاس" أ هـ.(1/237)
أقول: هذا الاعتبار الأخير هو الذي يجب أن يعول عليه، في حكم النقود الورقية الإلزامية التي هي عمدة التبادل والتعامل الآن، والتي لم يعد يشترط أن يقابلها رصيد معدني بالبنك، ولا يلتزم البنك صرفها بذهب أو فضة.
وربما كان الخلاف في أمر هذه الأوراق مقبولاً في بدء استعمالها، وعدم اطمئنان الجمهور إليها، شأن كل جديد (مثال ذلك الخلاف الذي حدث عند ظهور قهوة البن: أيحل شربها أم يحرم ؟ وألفت في ذلك رسائل ثم استقر الأمر على الحل، انظر: الفواكه العديدة للمنقور: 1/410 - 413، وقد نقل فيها أقوال ابن حجر الهيثمي الشافعي، والشيخين: زروق والحطاب المالكيين، وغيرهم)، أما الآن فالوضع قد تغير تمامًا.
لقد أصبحت هذه الأوراق النقدية تحقق داخل كل دولة ما تحققه النقود المعدنية، وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك.
إنها تدفع مهرًا، فتستباح بها الفروج شرعًا دون أي اعتراض.
وتدفع ثمنًا، فتنقل ملكية السلعة إلى دافعها بلا جدال.
وتدفع أجرًا للجهد البشرى، فلا يمتنع عامل أو موظف من أخذها جزاء على عمله.
وتدفع دية في القتال الخطأ أو شبه العمد، فتبرئ ذمة القاتل، ويرضى أولياء المقتول، وتسرق فيستحق سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد.
وتدخر وتملك، فيعد مالكها غنيًا بقدر ما يملك منها، فكلما كثرت في يده، عظم غناه عند الناس وعند نفسه (لا معنى إذن لما يقوله بعض "المتحذلقين" في عصرنا من أن النقود الشرعية هي الذهب والفضة، فهي التي تجب فيها الزكاة، وهي التي يجرى فيها الربا !!).(1/238)
ومعنى هذا كله: أن لها وظائف النقود الشرعية وأهميتها ونظرة المجتمع إليها، فكيف يسوغ لنا أن نحرم الفقراء والمساكين وسائر المستحقين من الانتفاع بهذه النقود ووظائفها المتعددة الوفيرة؟ أليس الناس كل الناس يسعون إلى تحصيلها جاهدين؟ أليس ملاكها يعدونها نعمة يجب أن تشكر؟ أليس الفقراء يتعطلون إليها، ويسيل لعابهم شوقًا إليها؟ أليسوا يفرحون بها إذا أعطوا القليل منها؟ بلى والله !.
وأختم هذه النقطة بما قرره بعض أساتذة الاقتصاد: أنه يمكن القول بأن النقود هي كل ما يستعمل مقياسًا للقيم، وواسطة للتبادل، وأداة للادخار، فأي شيء يؤدى هذه الوظيفة يعتبر نقودًا، بصرف النظر عن المادة المصنوع منها، وبصرف النظر عن الكيفية التي أصبح بها وسيلة التعامل في مبدأ الأمر، فما دامت هناك مادة يقبلها كل المنتجين في مجتمع ما للمبادلة نظير ما يبيعون، فهذه المادة نقود (النظم النقدية والمصرفية ص 29).
إلى الفهرس
شروط وجوب الزكاة في النقود
لم توجب الشريعة الإسلامية الزكاة في كل مقدار من النقود، قل أو كثر، ولا في كل حين طال أو قصر ولا على كل مالك للنقود بغض النظر عن ظروفه وحاجاته بل اشترطت لوجوب الزكاة في النقود شروطًا معينة شأنها في ذلك شأن كل مال فرضت فيه الزكاة
1- بلوغ النصاب
وأول هذه الشروط: أن تبلغ النقود نصابًا، والنصاب -كما عرفنا- هو الحد الأدنى للغنى في الشرع، وما دونه يعتبر مالاً قليلاً معفوًا عنه، وصاحبه لا يعد بامتلاكه غنيًا.
وقد عرفنا من الصفحات السابقة مقدار النصاب النقدي للزكاة بالعملة المعاصرة واخترنا أن نصاب النقود هو: ما يساوي قيمة (85) جرامًا من الذهب وهى المساوية للعشرين دينارًا آلتي جاءت بها الآثار، واستقر عليها الأمر.
هل يشترط أن يكون مالك النصاب واحدًا؟(1/239)
إذا كانت هناك شركة تضم مجموعة من الأفراد مساهمين بمقادير من النقود تبلغ بمجموعها نصابًا أو نصبًا، ولكن حصة كل فرد لا تبلغ نصابًا، فهل تجب في مال الشركة الزكاة؟
اختلفوا في ذلك، فعند أبى حنيفة ومالك: أن الشريكين لا يجب على أحدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب.
وعند الشافعي: أن المال المشترك حكمه حكم مال واحد.
وسبب اختلافهم -كما ذكر ابن رشد- الإجمال الذي في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه أنه إنما يخصه هذا الحكم إذا كان لمالك واحد فقط، ويمكن أن يفهم منه أنه يخصه هذا الحكم، كان لمالك واحد أو أكثر، إلا أنه لما كان مفهوم اشترط النصاب إنما هو الرفق، فواجب أن يكون النصاب من شرطه أن يكون لمالك واحد -وهو الأظهر- والله أعلم.
والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلط -في الماشية- ولكن تأثير الخلطة غير متفق عليه" (بداية المجتهد لابن رشد: 1/250- طبع الاستقامة).
والذي يتجه إليه هنا مذهب الجمهور: أن لا عبرة بما يسمى "الشخصية الاعتبارية" أو "المعنوية" للشركة، فقد يكون أعضاء هذه الشركة مجموعة من المساهمين الفقراء، والزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء، فهؤلاء حينئذ ممن ترد عليهم الزكاة لا ممن تؤخذ منهم، واشتراك جماعة في نصاب لا يجعل فقيرهم غنيًا.
ولكن مذهب الشافعي أيسر في التطبيق بالنظر إلى الحكومات في عصرنا، ويمكن للعامل على الزكاة أن يترك نسبة معينة من الزكاة لإدارة الشركة لتوزيعها على مساهميها الفقراء فتجمع بين الحسنيين (ما قلناه هنا تأكيد لما ذكرنا في خلطة السوائم أن للإدارة التي تتولى أمر الزكاة أن تنظر إلى الشركات نظرتها إلى الشخص الواحد، إذا احتاجت إلى ذلك لتنظيم أعمالها، وتبسيط إجراءاتها، عملا بمذهب الشافعي).
2- حولان الحول(1/240)
والشرط الثاني لوجوب الزكاة في النقود بعد بلوغ النصاب: أن يحول عليه الحول، وهذا -كما ذكرنا من قبل- مجمع عليه في غير المال المستفاد، بمعنى: أن الزكاة لا تجب في النقود إلا مرة واحدة في العام، فكل مال زكى لا تجب فيه زكاة إلا بعد مرور حول.
وعند الحنفية: يشترط كمال النصاب في طرفي الحول فقط: في الابتداء للانعقاد، وفى الانتهاء للوجوب، فلا يضر نقصانه بينهما فلو هلك كله في أثناء الحول، بطل الحول، فإذا استفاد فيه غيره استأنف له حولاً جديدًا (الدر المختار، وحاشيته رد المحتار: 2/45).
وعند الأئمة الثلاثة: يعتبر وجود النصاب في جميع الحول مستدلين بحديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (تقدم: أن الحديث ضعيف وسنتكلم عنه بتفصيل في الفصل التاسع)، وهو يقتضي مرور الحول على جميعه، ولأن ما اعتبر في طرفي الحول، اعتبر في وسطه كالملك والإسلام (المغنى - مع الشرح: 2/499).
أما المال المستفاد من النقود (كالمرتبات والأجور والمكافآت وإيراد ذوى المهن الحرة من الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم، أو إيراد رؤوس الأموال الثابتة: كالعمارات السكنية الاستغلالية، والمصانع والفنادق وغير الثابتة: كالسيارات والطائرات ونحوها) فقد ذهب الجمهور في هذا كله إلى اشتراط الحول وقال أبو حنيفة: يضم المستفاد إلى النقود التي عنده في الحول فيزكيهما جميعًا، عند تمام حول المال الذي كان عنده، إلا أن يكون المستفاد عوضًا عن مال مزكى (المرجع السابق ص 497).
وصح عن بعض الصحابة خلاف ذلك، فأوجبوا تزكية المال المستفاد عند قبضه، دون اشتراط للحول.
وسنعود لتفصيل القول في هذه المسألة عند حديثنا عن زكاة "كسب العمل والمهن الحرة" في الفصل التاسع من هذا الباب.
3- الفراغ من الدين
ويشترط أن يكون النصاب النقدي الذي تجب فيه الزكاة فارغًا من الدين، بحيث لا يستغرق الدين النصاب أو ينقصه وقد بينا في الفصل الأول من هذا الباب، وذكرنا الأدلة عليه هناك.(1/241)
والدين الذي يمنع وجوب الزكاة عند الحنفية هو الذي له مطالب من جهة العباد، سواء أكان لله كالزكاة (قال ابن عابدين نقلاً عن البدائع: "والمطالب هنا هو السلطان تقديرًا؛ لأن له الطلب في زكاة السوائم، وكذا في غيرها، لكنه لما كثرت الأموال في عهد عثمان رضي الله عنه، وعلم أن في تتبعها ضررًا بأصحابها، رأى المصلحة في تفويض الأداء إليهم، بإجماع الصحابة، فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام، ولم يبطل حقه عن الأخذ ولذا قال أصحابنا: لو علم من أهل بلدة أنهم لا يؤدون زكاة الأموال الباطنة فإنه يطالبهم "رد المحتار: 2/6") والخراج أو للخلق كديون الآدميين بخلاف دين النذر والكفارة والحج لعدم مطالب بها من جهة العباد (المرجع السابق ص 6، 7).
واختلفوا في الدين المؤجل: هل يمنع أو لا ؟ (المرجع السابق ص 6، 7).
وعند الشافعية قال النووي: إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة فسواء دين الله عز وجل ودين الآدمي (الروضة: 2/199).
4- الفضل عن الحاجة الأصلية(1/242)
وقد اشترط المحققون من فقهاء الحنفية أن يكون النصاب فاضلاً عن الحاجات الأصلية لمالكه، وقد نقلنا عن ابن ملك (انظر مبحث "الحاجات الأصلية" من الفصل الأول من هذا الباب) في تفسير الحاجة الأصلية: أنها هي: ما يدفع الهلاك عن الإنسان تحقيقًا، كالنفقة ودور السكنى وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها لدفع الحر أو البرد، أو تقديرًا: كالدين، فإن المديون محتاج إلى قضاء دينه بما في يده من النصاب، دفعًا عن نفسه الحبس الذي هو كالهلاك، وكآلات الحرفة وأثاث المنزل، ودواب الركوب وكتب العلم لأهلها، فإن الجهل عندهم كالهلاك، فإذا كان له دراهم مستحقة بصرفها إلى تلك الحوائج، صارت كالمعدومة، كما أن الماء المستحق صرفه إلى العطش كان كالمعدومة، وجاز عنده التيمم" (ونازع بعض الحنفية ابن مالك بناء على ما في بعض الكتب: أن الزكاة تجب في النقد ولو أعد للنفقة ولكن ما ذهب إليه ابن مالك هو الموافق لظاهر عبارات المتون في المذهب ولذا اختاره بعض علماء المذهب وقال: إنه الحق كما ورد في رد المحتار: (2/8) وهو المختار عندي لقوته من جهة النظر، وموافقته للأدلة التي ذكرناها في شرط "الفضل عن الحوائج الأصلية" في الفصل الأول من هذا الباب).
فالمسلم الذي يملك نقودًا تبلغ نصاب الزكاة، ولكنه يحتاج لشراء كسوة (المراد بالكسوة: ما لابد منه لا الثياب الفاخرة، ولهذا قال ابن ملك: الثياب المحتاج إليها لدفه الحر والبرد) الشتاء أو الصيف له ولعياله، أو يحتاجها لشراء قوته وقوت من يمونه لمدة سنة، أو يحتاجها لشراء كتب ضرورية له في فنه إن كان من أهل العلم، أو يحتاجها لسداد دين عليه ليحرر عنقه من هم الليل وذل النهار، أو لغير ذلك من الحاجات.(1/243)
هذا المسلم لا يعتبر بهذه النقود التي عنده من الأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة كما في حديث: "تؤخذ من أغنيائهم" كيف وهو مفتقر إليها فيما لابد له من ضروريات حياته، وحاجاته الأساسية وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"، كما قال: "ابدأ بمن تعول".
المبحث الثاني
في زكاة الحلي والأواني والتحف الذهبية والفضية
زكاة الحلي والأواني والتحف الذهبية والفضية
من تمام البحث في زكاة الذهب والفضة: معرفة الحكم فيما يتخذ منهما أواني للاستعمال، أو تحفًا للزينة والترف، أو تماثيل لإنسان أو حيوان أو غيرهما، أو حليًا للنساء أو للرجال: هل تجب الزكاة في ذلك أم لا ؟ أم تجب في بعضه دون بعض؟
إلى الفهرس
أواني الذهب والفضة وتحفهما فيها الزكاة
والذي لا خلاف فيه بين علماء الإسلام: أن ما حرم استعماله واتخاذه من الذهب والفضة، تجب فيه الزكاة.
ومن ذلك: الأواني التي جاء الحديث الصحيح بتحريمها والوعيد على من استعملها، لما فيها من مظاهر الترف والسرف (انظر في حكم تحريم آنية الذهب والفضة وحكمته: كتابنا "الحلال والحرام" فصل "في البيت") ولأنها تعد -حينئذ- نقودًا مكنوزة وثروة معطلة بدون حاجة ويستوي في هذه الحال ما استعمل منها للطعام والشراب، وما اتخذ زينة وتحفة فكلاهما من الترف المذموم وذلك كما قال في المغنى: إن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لأن المعنى المقتضى للتحريم يعمهما، وهو الإفضاء إلى السرف والخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، فيستويان في التحريم وإنما أبيح للنساء التحلي لحاجتهن إليه، للتزين للأزواج، وليس هذا بموجود في الآنية ونحوها فتبقى على التحريم.
والتماثيل محرمة ولو كانت من برونز أو نحاس، فإذا كانت من فضة أو ذهب تضاعفت حرمتها (انظر المرجع السابق).(1/244)
قال شيخ الإسلام ابن قدامة: إذا ثبت هذا فإن فيها الزكاة، بغير خلاف بين أهل العلم، ولا زكاة فيها حتى تبلغ نصابًا بالوزن، أو يكون عنده ما يبلغ نصابًا بضمها إليه (المغنى: 3/15، 16).
وهناك قول باعتبار قيمتها لا وزنها، نقله صاحب المغنى عن بعض الحنابلة (المغنى: 3/15، 16) فإن حسن الصنعة، وبراعة الصياغة والفن، ترتفع بقيمتها ارتفاعًا كبيرًا فاعتبار القيمة أولى، لما فيه من رعاية حظ الفقراء والمستحقين، وما فيه من تغليظ على هؤلاء المترفين الذين انتهكوا ما حرم الله.
إلى الفهرس
حلي الرجال المحرم فيه الزكاة
ومثل الآنية والتحف الذهبية والفضية للرجال والنساء: ما يتخذه الرجال من حلى حرمه الشرع عليهم (راجع في ذلك "الحلال والحرام" فصل "في الملبس والزينة").
فإن الحلي ليس من حاجات الرجل ولا من مقتضيات فطرته، ولهذا حرمت عليه شريعة الإسلام التحلي بالذهب، ولم يبح له إلا التختم بالفضة (قال ابن قدامة: ويباح للرجال من الفضة: الخاتم "لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخذ خاتمًا من ورق" متفق عليه، وحلية السيف، بأن تجعل قبضته فضة أو تحليتها بفضة، فإن أنسًا قال: "كانت قبضة سيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضة"، وقال هشام بن عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة رواهما الأثرم بإسناده "المغنى: 3/14، 15") ومثل هذا لا يبلغ التحلي به نصابًا.
فإذا كان لبعض الرجال حلي من الذهب -خاتم أو طوق أو سلسلة أو نحوها- وبلغت قيمته نصابًا بنفسه، أو بما عنده من مال آخر، فإن الزكاة تجب فيه، لأنه مال معطل كان في الإمكان أن ينمى وينتفع به، أو يضاف إلى رصيد الدولة من الذهب وتعطيله ليس لإشباع حاجة فطرية معقولة كما هو الشأن في حلى النساء، بل هو خروج عن الفطرة وشرود عن المنهج القويم، واعتداء لحدود الله، وإيجاب الزكاة عليه تنبيه له على خطئه، وتذكير له بإخراج هذا المال إلى حيز النماء والتثمير، وأداء وظيفته في التداول والمبادلة.(1/245)
ولا يباح من الذهب إلا ما دعت الضرورة إليه كالأنف في حق من قطع أنفه، لما روى عن عبد الرحمن بن طرفة "أن جده عرفجة بن سعد قطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفًا من ورق فأنتن عليه، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتخذ أنفًا من ذهب" (رواه أبو داود).
وقال الإمام أحمد: ربط الأسنان بالذهب إذا خشي عليها أن تسقط قد فعله الناس، فلا بأس به عند الضرورة وما عدا ذلك فهو حرام يجب تزكيته والراجح هنا أيضًا، اعتبار النصاب بالقيمة لا بالوزن كما ذكرناه لأننا ننظر إلى هذا الحلي باعتباره متاعًا، فإذا بلغت قيمته ما يساوى 85 جرامًا من الذهب ولو كان وزنه أقل من ذلك وجبت فيه الزكاة على ما اخترناه.
إلى الفهرس
حلي اللآلئ والجواهر للنساء لا زكاة فيها
أما الحلي من غير الذهب والفضة أعنى حلي الجواهر من اللؤلؤ والمرجان والزبرجد والماس ونحوها فلا زكاة فيه: لأنه مال غير نام، بل هو حلية ومتاع للمرأة أباحه الله بنص كتابه حين ذكر البحر فقال: (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) (النحل: 14- وتكرر هذا المعنى في عدة سور).
ولم يخالف في ذلك إلا بعض أئمة العترة من الشيعة، فقد ذهب إلى أن ما قيمته نصاب من الجواهر، يجب أن يزكى، لأنها مال نفيس بلغ نصابًا فيجب فيه الزكاة، عملاً بعموم قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) التوبة: 103).
وتقرير ذلك: أن كلمة "أموالهم" جمع مضاف، وهو يفيد العموم، فيكون المعنى: خذ من كل واحد من أموالهم، وذلك هو معنى العموم، وحلى الجواهر مال نفيس يندرج في هذا العموم وهو المطلوب (انظر "الروض النضير " في فقه الزيدية مقارنًا بالمذاهب الأخرى: 2/409، 410).(1/246)
وأجاب الجمهور: على التسليم بأن الآية تفيد العموم في جميع أنواع المال -بأن السنة القولية والعملية قد خصصت هذا العموم بالأموال النامية أو القابلة للنماء، فالعلة هي النماء حقيقة أو تقديرًا، وليست هي النفاسة حتى يدار الحكم عليها (المرجع السابق) وهذه الجواهر تتخذ للحلية وللانتفاع الشخصي، لا للنماء والاستغلال وهذا ما لم تتخذ كنزًا أو تتجاوز الحد المعقول، كما سنرجحه بعد.
الخلاف في حلي الذهب والفضة للنساء
أما حلى الذهب والفضة للنساء، فلم يرد في شأنها شيء في كتب صدقات النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا جاء نص صحيح صريح بإيجاب الزكاة فيه أو نفيها عنه، وإنما وردت أحاديث اختلف الفقهاء في ثبوتها، كما اختلفوا في دلالتها (سنذكر قريبًا أهم هذه الأحاديث).
ومن أسباب الاختلاف أيضًا: أن قومًا نظروا إلى المادة التي صنع منها الحلي، فقالوا: إنها نفس المعدن الذي خلقه الله ليكون نقدًا، يجرى به التعامل بين الناس، والذي وجبت فيه الزكاة بالإجماع، ومن ثم أوجبوا فيه الزكاة كسبائك الذهب والفضة ونقديهما.
وأن آخرين نظروا إلى أن هذا الحلي بالصناعة والصياغة خرج من مشابهة النقود، وأصبح من الأشياء التي تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية كالأثاث والمتاع والثياب، وهذه لا تجب فيها الزكاة بالإجماع، لأن الزكاة -كما عرفنا من هدى الرسول- إنما تجب في المال النامي أو القابل للنماء والاستغلال، ومن هنا قال هؤلاء: لا زكاة في الحلي.
وهذا الخلاف إنما هو في حكم الحلي المباح، أما الحلي الذي حرمه الإسلام، فقد أجمعوا على وجوب زكاته.
وسنرد المختلفين هنا إلى فريقين
أولاً: فريق القائلين بتزكية الحلي كالنقود مطلقًا، بإخراج ربع عشره كل عام.
ثانيًا: والفريق الثاني: من لم ير ذلك، بأن لم يوجب فيه زكاة قط، أو أوجبها مرة واحدة في العمر، أو أوجبها بقيود معينة.
القائلون بزكاة الحلي(1/247)
روى البيهقي وغيره عن علقمة أن امرأة ابن مسعود سألته عن حلى لها فقال: إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة قالت: أضعها في بنى أخ لي في حجري؟ قال: نعم قال البيهقي: وقد روى هذا مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس بشيء (السنن الكبرى: 4/134، باب "من قال في الحلي زكاة").
وروى أيضًا (السنن الكبرى: 4/134، باب "من قال في الحلي زكاة") عن شعيب بن يسار أن عمر كتب إلى أبى موسى: "أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن حليهن".
ولكن هذا ليس بثابت عن عمر (قال البيهقي: هذا مرسل؛ شعيب بن يسار لم يدرك عمر)، ولذا روى ابن أبى شيبة عن الحسن قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحلي زكاة (المصنف: 4/28).
وروى البيهقي عن عائشة قالت: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته (السنن الكبرى - الصفحة السابقة، وانظر "الأموال" ص 440) ولكن صح عن عائشة خلاف ذلك كما سيجيء.
وعن عبد الله بن عمرو -أنه كان يكتب إلى خازنه سالم- أن يخرج زكاة حلى بناته كل سنة (المرجع السابق)، وروى عنه أبو عبيد أنه حلى ثلاث بنات له بستة آلاف دينار، فكان يبعث مولى له جليدًا كل عام فيخرج زكاته منه (الأموال ص 440).
وفى أسانيد هذه الآثار كلام، لذا قال أبو عبيد: لم تصح زكاة الحلي عندنا عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود (المصدر السابق ص 446) قال ابن حزم: وهو عنه في غاية الصحة (المحلى: 6/75).
والقول بزكاة الحلي روى عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعبد الله بن شداد، وجابر بن زيد، وابن شبرمة، وميمون بن مهران، والزهري، والثوري، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه والأوزاعى، والحسن ابن حي (انظر مصنف ابن أبى شيبة: 4/27، والأموال ص 441 - 442، والمحلى لابن حزم: 6/76، والمغنى لابن قدامة: 3/100 - مع أنه قد روى عن ابن المسيب: أن زكاة الحلي إعارته كما سيأتي).
أدلة هذا القول(1/248)
1- واستند القائلون بزكاة الحلي أولاً إلى إطلاق الآية الكريمة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة: 34) فالذهب والفضة في الآية يشمل الحلي كما يشمل النقود والسبائك، فما لم تؤد الزكاة منها فهي كنز يكوى به صاحبه يوم القيامة.
2- واستندوا ثانيًا إلى عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الرقة ربع العشر وليس فيما دون خمس أواق صدقة" مفهومه: أن فيها صدقة إذا بلغت خمس أواق، وإلى عموم ما جاء في زكاة الذهب مثل: "ما من صاحب ذهب لا يؤدى زكاته" الحديث، وقد تقدم.
3- واستدلوا ثالثًا بما ورد من الأحاديث في زكاة الحلي خاصة، وقد صححها طائفة من الأئمة، ومنها:
(أ) ما روى أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة (عند ابن أبى شيبة وأبى عبيد أنها امرأة من اليمن) أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعها ابنة لها، وفى يد ابنتها مسكتان (أسوارتان) غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: هما لله ورسوله (الحديث سكت عنه أبو داود قال المنذري في مختصر السنن: وأخرجه الترمذي بنحوه وقال: لم يصح في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء، وأخرجه النسائي مسندًا ومرسلاً، وذكر أن المرسل أولى بالصواب - انظر مختصر السنن للمنذري: 2/175، وذكره في كتاب الزكاة من "الترغيب" وأشار إليه بعلامة الضعف، حيث صدره بلفظه: "روى" وأهمل الكلام عليه في آخره، وهذا علامة الإسناد الضعيف، كما ذكر ذلك في مقدمة كتابه "الترغيب": 1/555، 556 - طبع مصطفى الحلبي - الطبعة الثانية، وسيأتي رأى أبى عبيد فيه وتعليقنا عليه.(1/249)
وقال الحافظ في التلخيص ص 183: أخرجه أبو داود من حديث حسين المعلم وهو ثقة عن عمرو وفيه رد على الترمذي حيث جزم بأنه لا يعرف إلا من حديث ابن لهيعة والمثنى بن الصباح عن عمرو، وقد تابعهم حجاج بن أرطأة أيضًا..أ هـ).
(ب) وما روى أبو داود -واللفظ له- والدارقطني والحاكم والبيهقي عن عائشة أنها قالت: "دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة ؟ فقالت: صنعتهن أتزين لك -يا رسول الله- قال: أتؤدين زكاتهن ؟ قالت: لا، أو ما شاء الله، قالت: قال: هو حسبك من النار" (قال الحافظ في التلخيص ص 184: إسناده على شرط الصحيح "أ هـ" ولكن هذا الحديث يخالف ما صح عن عائشة أنها كانت لا تزكى حلى بنات أخيها مع ما صح عنها من تزكية مال اليتامى) (والفتخات: خواتيم كبار كان النساء يتحلين بها).
ثم ما رواه أبو داود وغيره عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو ؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز".
قال المنذري: في إسناده عتاب بن بشير -أبو الحسن الحراني- وقد أخرج له البخاري، وتكلم فيه غير واحد (مختصر السنن: 2/175) (والأوضاح: نوع من الحلي).
القائلون بعدم وجوب الزكاة في الحلي
(يمكننا أن ندخل ضمن هذا المذهب من قال بزكاة الحلي مرة واحدة في العمر، كما هو مروى عن أنس، ومن قال بأن زكاة الحلي عاريته كما هو مروى عن بعض الصحابة والتابعين كما سيأتي لأن غرضنا من القول بعدم الزكاة في الحلي: عدم الزكاة الحولية المقدرة المعهودة).
قال ابن حزم في المحلى: قال جابر بن عبد الله وابن عمر: لا زكاة في الحلي، وهو قول أسماء بنت أبى بكر، وروى أيضًا عن عائشة، وهو عنها صحيح، وهو قول الشعبي وعمرة بنت عبد الرحمن، وأبى جعفر محمد بن على، وروى أيضًا عن طاووس والحسن وسعيد بن المسيب، واختلف فيه قول سفيان الثوري، فمرة رأى فيه الزكاة، ومرة لم يرها أ هـ (المحلى: 6/176).(1/250)
وهو قول القاسم بن محمد ابن أخي عائشة، وإليه ذهب مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهو أظهر قولي الشافعي كما قال الخطابى (معالم السنن: 3/176، وهو المذهب المعتمد لدى الشافعية كما في المجموع: 6/136) وهو مذهب أبى عبيد كما سيأتي.
أدلة هذا القول
تتلخص أدلة هذا القول فيما يلي
أولاً: أن الأصل براءة الذمم من التكاليف ما لم يرد بها دليل شرعي صحيح، ولم يوجد هذا الدليل في زكاة الحلي، لا من نص، ولا من قياس على منصوص.
ثانيًا: أن الزكاة إنما تجب في المال النامي أو المعد للنماء، والحلي ليس واحدًا منهما، لأنه خرج عن النماء بصناعته حليًا يلبس ويستعمل وينتفع به فلا زكاة فيه، وهذا كما قلنا في العوامل من الإبل والبقر، فقد خرجت باستعمالها في السقي والحرث عن النماء وسقطت عنها الزكاة.
ثالثًا: يؤيد هذا الاستدلال ما صح عن عدة من الصحابة، رضى الله عنهم، من عدم وجوب الزكاة فيه.
فقد روى مالك في الموطأ عن القاسم بن محمد (معالم السنن: 3/176، وهو المذهب المعتمد لدى الشافعية كما في المجموع: 6/136): أن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها يلبسن الحلي، فلا تخرج عن حليهن الزكاة (هو القاسم بن محمد بن أبى بكر ابن أخي عائشة، وأحد الفقهاء السبعة في المدينة).
وروى عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يحلى بناته وجواريه الذهب ثم لا يخرج عن حليهن الزكاة (الموطأ: 1/250 -طبع الحلبي- باب "مالا زكاة فيه من الحلي والتبر والعنبر").
وروى ابن أبى شيبة عن القاسم قال: كان ما لنا عند عائشة، وكانت تزكيه إلا الحلي، وعن عمرة قالت: كنا أيتامًا في حجر عائشة، وكان لنا حلى فكانت لا تزكيه.
وروى ابن شيبة وأبو عبيد وغيرهما مثل ذلك عن جابر بن عبد الله وأسماء بنت أبى بكر بالإضافة إلى عائشة وابن عمر (انظر المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، والأموال ص 443).(1/251)
فعن أبى الزبير عن جابر قال: لا زكاة في الحلي، قلت: إنه يكون فيه ألف دينار، قال: يعار ويلبس، وفى رواية قال: إن ذلك لكثير.
وعن أسماء: أنها كانت لا تزكى الحلي، قال الشافعي: ويروى عن ابن عباس وأنس بن مالك -ولا أدرى أثبت عنهما- معنى قول هؤلاء: "ليس في الحلي زكاة" (الأم: 2/41- طبع الفنية المتحدة، والقول بعدم الزكاة رواه عن أنس أبو عبيد ص 442 والبيهقي: 4/138).
قال القاضي أبو الوليد الباجي في شرح الموطأ: وهذا مذهب ظاهر بين الصحابة، وأعلم الناس به عائشة، رضى الله عنهما، فإنها زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن لا يخفى عليها أمره في ذلك.
وكذلك عبد الله بن عمر، فإن أخته حفصة كانت زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأمر حليها لا يخفى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا يخفى عليها حكمه فيه (المنتقى شرح الموطأ - لأبى الوليد الباجي: 2/107).
ومما يدل على انتشار هذا بين الصحابة والتابعين ما قاله يحيى بن سعيد: سألت عمرة عن زكاة الحلي، فقالت: ما رأيت أحدًا يزكيه (المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، وانظر الأموال ص 442).
وعن الحسن قال: لا نعلم أحدًا من الخلفاء قال: في الحلي زكاة (المصنف لابن أبى شيبة: 4/28، وانظر الأموال ص 442).
رابعًا: روى ابن الجوزي في "التحقيق" بسند عن عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن أبى الزبير عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: ليس في الحلي زكاة (ورواه البيهقي في "المعرفة" من حديث عافية بن أيوب عن الليث عن أبى الزبير عن جابر ثم قال: لا أصل له، وإنما يروى عن جابر من قوله وعافية قيل: ضعيف، وقال ابن الجوزي: لا أعلم فيه جرحًا، وقال البيهقي: مجهول، ونقل ابن أبى حاتم توثيقه عن أبى زرعه (التلخيص ص 183).
[وانظر: الجرح والتعديل قسم 2 من المجلد 3 ص 245، وفيها أن أبا زرعة سئل عنه فقال: "هو مصري ليس به بأس"، ولم يذكر ابن أبى حاتم شيئًا عنه أكثر من هذا).(1/252)
وقال البيهقي: عافية مجهول، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحًا، وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: رأيت بخط شيخنا المنذري أنه قال: عافية ابن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب تضعيفه (انظر نصب الراية: 2/374، 375 والمراعاة على المشكاة: 3/82).
خامسًا: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكم" (رواه البخاري في باب "صلاة العيدين" من صحيحه مطولاً، ثم ذكره في الزكاة - باب "الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر"- انظر "فتح الباري": 3/210، 211، ورواه الترمذي في كتاب "الزكاة" -باب "ما جاء في زكاة الحلي"- انظر "صحيح الترمذي بشرح ابن العربى": 3/129) (رواه البخاري والترمذي وغيرهما) قال ابن العربى: هذا الحديث يوجب بظاهره أن لا زكاة في الحلي، بقوله للنساء: "تصدقن ولو من حليكم" ولو كانت الصدقة فيه واجبة لما ضرب المثل به صدقة التطوع (شرح الترمذي: 3/130، 131) يعنى أنه لا يحسن أن يقال: تصدقوا ولو من الإبل السائمة أو تصدقوا ولو مما أخرجت الأرض من القمح أو مما أثمرت النخيل من التمر، ما دامت الصدقة من هذه الأشياء لازمة ومفروضة، إنما يقال مثلاً: تصدق ولو من لبن بقرتك، تصدق ولو من طعامك وزادك، ونحو ذلك مما لا تجب فيه الزكاة المفروضة.
مناقشة وترجيح قول المانعين لوجوب الزكاة في الحلي
والذي أرجحه بعد هذا المعترك الفقهي: أن قول المانعين لوجوب الزكاة في الحلي أقوى وأولى، مع تفصيل وقيود سأذكرها.(1/253)
فهذا القول هو الذي يوافق المبادئ العامة في وعاء (الوعاء: كلمة يستعملها رجال المالية والضرائب في الأموال التي تفرض عليها الضرائب وهذا هو المصطلح الشائع في مصر وفي بعض البلاد العربية الأخرى كسوريا يستخدمون بدلها: المطرح أو المصدر) الزكاة، ويجعل لها نظرية مطردة ثابتة، وهى نظرية الوجوب في المال النامي بالفعل، أو الذي من شأنه أن ينمى، كالنقود، فهي مال قابل لأن ينمى، بل يجب أن ينمى ولا يكنز فيستحق صاحبه العذاب بخلاف الحلي المباح للمرأة المعتاد لمثلها، فإنه زينة ومتاع شخصي لها، يشبع حاجة من حوائجها التي فطرها الله عليها، وهى الرغبة في التزين والتجمل وقد راعى الإسلام هذه الحاجة الفطرية، فأباح لها من ذلك ما حرم على الرجال من الذهب والحرير.
وإذن يكون الحلي للمرأة كالثياب الأنيقة، والأثاث الفاخر، وألوان الزينات والأمتعة الرائعة التي تقتنيها في البيت مما ليس محرمًا عليها.
بل يكون حلى الذهب والفضة هنا كحلي الجواهر واللآلئ والأحجار الكريمة التي تلبسها وتتحلى بها، وقد أباحها الله بنص القرآن (في مثل قوله تعالى في الآية "14" من سورة النحل: وتستخرجوا منه حلية تلبسونها).
وهذه اللآلئ والجواهر الغالية، وتلك الثياب والأمتعة الثمينة -معفاة من وجوب الزكاة بإجماع الأئمة مع أنها مال عظيم، له قيمة كبيرة.
ولكن الزكاة -كما تبين لنا من الهدى النبوي- لا تجب في كل مال، وإنما تجب -كما قلنا- في المال النامي أو القابل للنماء وما ذلك إلا ليبقى الأصل، وتؤخذ الزكاة من النماء والفضل ولهذا شرط السوم في الماشية، وشرط النماء والفضل عن الحوائج الأصلية وأعفيت دور السكنى ودواب الركوب وأدوات الاستعمال من الزكاة اتفاقًا.
ولقد قرر فقهاء الحنفية أنفسهم -الموجبون للزكاة في الحلي- أن سبب وجوب الزكاة هو: ملك مال معد مرصد للنماء والزيادة فاضل عن الحاجة (انظر البحر الرائق: 2/218).(1/254)
فهل ينطبق هذا على حلى المرأة المباح، وهو ليس مرصدًا للنماء والزيادة، ولا فاضلاً، ما دام مستعملاً في حدود القدر المعتاد لمثلها؟
ولقد أسقط الحنفية أيضًا الزكاة عن "المواشي العاملة" في السقي والحرث ونحوها مع وجوب الزكاة في كنسها المتخذ للنماء وهو السائمة -لأنها صرفت عن جهة النماء إلى الاستعمال، فأصبحت كالأدوات والأشياء المعدة للانتفاع الشخصي، وهو القول الراجح لما بيناه فى موضعه.
فكيف جاز عند الحنفية -وهم أصحاب قياس- أن يسقطوا الزكاة عن العوامل، ويوجبوها في الحلي المباح، وهما من باب واحد؟
إن يقيني أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ثبت تماثلهما وإذا رأينا هذه التفرقة في قضية دل ذلك على خطأ في تصورنا وحكمنا ولهذا احتج أبو عبيد على من أوجب زكاة الحلي وأسقط زكاة العوامل بأنه فرق بين متماثلين، كما سيأتي.
وأوضح من ذلك: أنه يستبعد في حكم الشريعة العادلة: أن يعفى من الزكاة حلى اللؤلؤ والماس والجواهر الثمينة، التي يقدر الفص الواحد منها بآلاف الدنانير، ولا يتحلى بها عادة إلا النساء الثريات والمقتدرات، وزوجات الأثرياء الكبار وبناتهم ثم توجب الشريعة الزكاة في حلى الذهب والفضة، التي يتحلى بها عادة المتوسطات الحال، بل كثير من الفقيرات، كما نرى في نساء الريف والقرى، وزوجات الفلاحين والعمال ورقاق الحال إلى اليوم؟
هل يعقل أن تبيح الشريعة الغراء لهؤلاء النساء الاستمتاع بحلي الذهب والفضة ثم تأتي فتفرض عليهن إخراج ربع عشره في كل عام، على حين تعفى أرباب اللؤلؤ والماس ونحوهما؟
إن الذي نعقله هو إعفاء هؤلاء وأولئك جميعًا؛ لأن هذا الحلي وذاك متاع شخصي، وليس مالاً مرصدًا للنماء.(1/255)
لقد كان الإمام الهادي -من الزيدية- منطقيًا مع نفسه حين ذهب إلى وجوب الزكاة في حلى الذهب والفضة وفي الجواهر واللآلئ جميعًا؛ إذ لم يجد فرقًا معتبرًا بينهما أما إعفاء أحد الصنفين إعفاء كليًا، وإيجاب الزكاة في الآخر، فلا يسوغ في منطق من يرون تعليل أحكام الشريعة، ويرون أنها لا تفرق بين متماثلين، وهم الجمهور الأعظم من الأئمة.
ومما يعضد ما رجحناه: أن القاعدة في كل مال: أن يؤخذ زكاته منه نفسه؛ من الأصل والنماء معًا، أو من النماء فقط ولا يخرج عن هذه القاعدة، إلا لضرورة، كما في أخذ السياه من الإبل إذا كانت أقل من خمس وعشرين وقد وضحنا حكمة ذلك في زكاة الإبل.
وهنا كيف تستطيع المرأة إخراج الزكاة من حليها إذا كانت لا تملك غيره، كما هو شأن الكثيرات ؟ إن معنى ذلك: أن تكلف بيعه أو بيع جزء منه، أو بيع شيء آخر من متاعها، حتى يمكنها أداء ما وجب عليه فيه.
فهل جاءت الشريعة بمثل هذا في باب الزكاة كله، فيما عدا ما ذكرناه من قضية الإبل والشياه؟ هل كلفت الشريعة المزكى أن يدفع زكاة ماله من مال آخر؟ أو كلفته ببيع ماله ليدفع منه الزكاة؟
ذلك ما لم تجيء به الشريعة فيما رأيت، فكيف خالفت هذا الأصل هنا؟
وكل هذا تأييد لنظرية "المال النامي" الذي يفترض أن تؤخذ الزكاة من نمائه ليبقى الأصل سالمًا لصاحبه، ومصدر دخله متجدد له.
إن نتيجة إيجاب الزكاة في الحلي -وهو لا ينمى- أن نأتي على مقدار ثمنه في جملة سنين، وهذا ما أخبر به بعض من أوجب فيه الزكاة، فقد سئل ميمون بن مهران عن زكاة الحلي، فقال: "إن لنا طوقًا، لقد زكيته حتى آتى على نحو من ثمنه" (الأموال ص 442) وأرى أن روح الشريعة في الزكاة تأبى هذا.(1/256)
وإذا كان وجوب الزكاة في المال يدور على النماء تبين لنا صحة ما ذكره ابن العربى في أحكام القرآن: "أن قصد النماء لما أوجب الزكاة في العروض وهى ليست بمحل لإيجاب الزكاة -كذلك قصد قطع النماء في الذهب والفضة باتخاذها حليًا يسقط الزكاة، فإن ما أوجب ما لم يجب يصلح لإسقاط ما وجب، وتخصيص ما عم وشمل" أ هـ (أحكام القرآن لابن العربى: 2/919، وانظر شرح الترمذي له: 3/131).
على أن النصوص التي أوجبت الزكاة في الفضة والذهب إنما لاحظت فيهما اعتبار "الثمينة" ولهذا عبرت عن الفضة بالورق والرقة -وهي النقود الفضية- وعبرت عن الذهب بالدنانير -وهي النقود الذهبية- حتى الآية الكريمة التي تقول: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (التوبة: 34) يدل ذكر الكنز والإنفاق فيها على أن المراد بالذهب والفضة فيها: النقود، لأنها هي التي تكنز وتنفق، أما الحلي المعتاد المستعمل، فلا يعتبر كنزًا، كما أنه ليس معدًا للإنفاق بطبيعته.
وهذا الذي رجحناه هو الذي اختاره وأيده الفقيه الحجة الإمام أبو عبيد في كتابه القيم "الأموال" ويحسن بي أن أسوق هنا نص عبارته لما فيها من نصاعة الحق وقوة الدليل، قال رحمه الله:
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا بلغت الرقة خمس أواق ففيها ربع العشر" فخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصدقة: "الرقة" من بين الفضة، وأعرض عن ذكر ما سواه فلم يقل -إذا بلغت كذا ففيها كذا، ولكنه اشترط الرقة من بينها ولا يعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب يقع إلا على الورق (الفضة) المنقوشة، ذات السكة السائرة في الناس (يجب أن نذكر أن أبا عبيد إمام في اللغة، كما هو في الفقه والأثر، وله كتاب "غريب الحديث" صنعه في أربعين سنة، وقد طبع في حيدر آباد بالهند عام 1384هـ (1964م) وظهر منه ثلاثة أجزاء من أربعة) (يعني النقود الفضية).(1/257)
"وكذلك والأواقي ليس معناها إلا الدراهم، كل أوقية أربعون درهمًا، ثم أجمع المسلمون على الدنانير المضروبة أن الزكاة واجبة عليه كالدراهم، وقد ذكر الدنانير أيضًا في بعض الحديث المرفوع (ذكرنا أشهرها فى نصاب النقود).
"فلم يختلف المسلمون فيهما، واختلفوا في الحلى، وذلك أنه يستمتع به ويكون جمالاً، وأن العين (نقد الذهب)، والورق (نقد الفضة) لا يصلحان لشيء من الأشياء إلا أن يكونا ثمنًا لها، ولا ينتفع منهما بأكثر من الإنفاق لهما، فبهذا بان حكمهما من حكم الحلي الذي يكون زينة ومتاعًا فصار هنا كسائر الأثاث والأمتعة، فلهذا أسقط الزكاة عنه من أسقطها.
"ولهذا المعنى قال أهل العراق: لا صدقة في الإبل والبقر العوامل، لأنها شبهت بالمماليك والأمتعة، ثم أوجبوا الصدقة في الحلي.
"وأوجب أهل الحجاز الصدقة في الإبل والبقر العوامل، وأسقطوها عن الحلي وكلا الفريقين قد كان يلزمه أن يجعلهما واحدًا: إما إسقاط الصدقة عنهما جميعًا، وإما إيجابها فيهما جميعًا.
"وكذلك هما عندنا، سبيلهما واحد، لا تجب الصدقة عليهما، لما قصصنا من أمرهما فأما الحديث المرفوع الذي ذكرناه أول هذا الباب، حين قال للمرأة اليمانية، ذات المسكتين من ذهب: "أتعطين زكاته" ؟ فإن هذا الحديث لا نعلمه يروى إلا من وجه بإسناد قد تكلم الناس فيه قديمًا وحديثًا (قد سبق أن الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعمرو بن شعيب بن محمد ابن عبد الله بن عمرو بن العاص أحد علماء زمانه (ت 118 هـ) اختلف في توثيقه وتضعيفه، فممن وثقه ابن معين، وابن راهويه والأوزاعى، وصالح جزرة، وذكر البخاري في تاريخه توثيقه، ومع هذا لم يحتج به في جامعه.
وعن أحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب له مناكير، وإنما نكتب حديثه لنعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا وقال عنه مرة أخرى: ربما احتججنا بحديثه، وربما وجس في القلب منه.(1/258)
وقال أبو زرعة: إنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده، قالوا: إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها، كما عيب عليه أنه كان لا يسمع بشيء إلا حدث به.
سئل ابن المدني عنه فقال: ما روى عنه أيوب وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روى عمرو عن أبيه عن جده فإنما هو كتاب وجده، فهو ضعيف، وعن يحيى بن معين نحوه.
وقال ابن حبان: إذا روى عن الثقات غير أبيه يجوز الاحتجاج به، وإذا روى عن أبيه عن جده، ففيه مناكير كثيرة، فلا يجوز عندي الاحتجاج بذلك.
وانتهى الذهبي في "الميزان" إلى أن حديثه من قبيل الحسن (ميزان الاعتدال: 3/263 - 268).(1/259)
وقال الحافظ في الفتح: ترجمة عمرو قوية على المختار، ولكنه حيث لا تعارض (أ هـ) وهنا قد عورضت بما صح عن عائشة وابن عمر وجابر وغيرهم من الصحابة من عدم إخراج زكاة الحلي، وقد عاصر عبد الله بن عمرو -جد شعيب أبى عمرو- هؤلاء الصحابة، فلم يلزمهم بما سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شأن المرأة وابنتها ولو فعل لرجعوا عن أقوالهم، ولنقل ذلك والله أعلم)، فإن يكن الأمر على ما روى، وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محفوظًا، فقد يحتمل معناه أن يكون أراد بالزكاة العارية، كما فسرته العلماء الذين ذكرناهم: سعيد بن المسيب والشعبي والحسن وقتادة في قولهم: "زكاته عاريته" (كان من عادة العرب إذا زفت عروس لا تستطيع أن تزين نفسها أو يزينها أهلها بالحلي المعتاد في العرس أن يعيرها أقاربها وجيرانها من حليهم ما تتزين به ليلة العرس، بل كن يستعرن الثياب الجميلة أيضًا كما جاء ذلك في حديث عن عائشة رضي الله عنها وفى عصرنا تؤجر بعض المحلات "فساتين" الزفاف وما يكملها من أدوات، للعرائس بأجور عالية، ليعدنها بعد العرس فحبذا لو نظمت بعض الجمعيات الخيرية النسائية إعارة الحلي ونحوه من الفساتين التي تهمل بعد الزفاف ولا تلبس- لمن يحتجن إليه، مع اتخاذ الضمانات اللازمة ويكون ذلك نوعًا من الزكاة).
ولو كانت الزكاة في الحلي فرضًا، كفرض الرقة لما اقتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك على أن يقوله لامرأة يخصها به عند رؤية الحلي عليها دون الناس، ولكان هذا كسائر الصدقات الشائعة المنتشرة عنه في العالم من كتبه وسننه، ولفعلته الأئمة بعده، وقد كان الحلي من فعل الناس في آباد الدهر، فلم نسمع له ذكرًا في شيء من كتب صدقاتهم.(1/260)
"وكذلك حديث عائشة في قولها: "لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته" لا وجه له عندي سوى العارية، لأن القاسم بن محمد بن أخيها -كان ينكر عليها أن تكون أمرت بذلك أحدًا من نسائها أو بنات أخيها ولم تصح زكاة الحلي عندنا عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود، فأما حديث عبد الله بن عمرو في تزكيته حلى بناته، ففي إسناده نحو مما في إسناد الحديث المرفوع.
"والقول الآخر هو عن عائشة وابن عمر وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك ثم من وافقهم من التابعين بعد ومع هذا كله ما تأولنا فيه سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- المصدقة لمذهبهم عند التدبر والنظر" أ هـ (الأموال ص 446).
وبعد هذا الكلام النير عن أبى عبيد: أحب أن أسجل هنا بعض الملاحظات على أدلة القائلين بتزكية الحلي.
تفنيد أدلة الموجبين لزكاة الحلي
1- أما ما يستدل به الموجبون من قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) (التوبة: 34) الآية، وقولهم: إن الحلي من الكنوز، فيرده: أن إطلاق الكنز على الحلي المتخذ للاستمتاع بعيد (كما قال الدهلوي في الحجة البالغة: 2/509) إنما تريد الآية: الذهب والفضة التي من شأنها أن تنفق بدليل: (ولا ينفقونها) وذلك إنما يكون في النقود لا في الحلي الذي هو زينة ومتاع؛ إذ لم يوجب أحد إنفاق الحلي المباح إلا في ضرورات تقدر بقدرها.
وأما الأحاديث التي استند إليها الموجبون لزكاة الحلي، فللمانعين مواقف منها، من حيث ثبوتها، أو من حيث دلالتها.
فأما الحديث الأول فمتفق على صحته: "وفى الرقة ربع العشر" ولكن الرقة -كما سبق- إنما هي الدراهم المضروبة، ولا تطلق على الحلي المصوغ.
2- وأما الأحاديث الأخرى، فمنهم من ردها من حيث السند، كالترمذي الذي قال: "لا يصح في هذا الباب شيء" (صحيح الترمذي بشرح ابن العربى: 3/131، باب "ما جاء في زكاة الحلي").(1/261)
وحتى ابن حزم، فمع أنه يقول بوجوب الزكاة في الحلي، لم يعتمد على هذه الأحاديث، بل أنكر على من احتج بها، قال: واحتج من رأى إيجاب الزكاة في الحلي بآثار واهية لا وجه للانشغال بها (المحلى: 6/78)، وإنما اعتمد ابن حزم على العمومات الواردة في زكاة الفضة والذهب.
فلنقف وقفة للنظر في أسانيد هذه الأحاديث.
أما حديث عمرو بن شعيب فقد رأينا: أن النسائي رواه مسندًا ومرسلاً، ورجح المرسل، وأن المنذري أشار في الترغيب إليه بعلامة الضعف، وقد سمعنا قول أبى عبيد فيه، وعلقنا عليه بما يكفي.
وأما حديث الفتخات المروى عن عائشة ففي إسناده يحيى بن أيوب الغافقي (ت 168 هـ) احتج به الشيخان وغيرهما، وهو صدوق، ولكن قال الذهبي: قال فيه ابن معين: صالح الحديث، وقال أحمد: سيئ الحفظ وقال ابن القطان وأبو حاتم: لا يحتج به، وقال النسائي: ليس بالقوى وقال الدارقطني: في بعض حديثه اضطراب وذكر له عدة مناكير (انظر: الميزان للذهبي: 3/282، الترجمة (2438) - طبع مطبعة المساعدة - سنة 1325 هـ).
ومن كان بهذه المنزلة عند أئمة الجرح والتعديل، فلا يحتج بحديثه في موضوعات الخلاف وبخاصة أن عائشة قد صح عنها العمل بخلاف هذا الحديث كما سيأتي.
وأما حديث أم سلمة، فقد رأينا قول المنذري: فيه عتاب بن بشير، وقد أخرج له البخاري، وتكلم فيه غير واحد.
وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمته
"قال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس، أتى عن خصيف بمناكير، أراها من قبل خصيف وقال النسائي: ليس بذاك في الحديث وقال ابن المدني: كان أصحابنا يضعفونه وقال ابن معين: ثقة وقال مرة: ضعيف وقال على: ضربنا على حديثه وقال ابن عدى: أرجو أنه لا بأس به (ميزان الاعتدال: 3/27) ومعنى هذا: أن أحدًا من هؤلاء الأئمة لم يجزم بتوثيقه وفيهم من جزم بضعفه.(1/262)
ولا يهولن القارئ أن البخاري أخرج له، فقد ذكر الحافظ ابن حجر: أنه ليس له في البخاري إلا حديثان: أحدهما تابع عليه، والثاني ذكره مقرونًا بغيره (هدى الساري "مقدمة الفتح": 2/189 - 190).
وقال الحافظ الزيلعى في "نصب الراية": "صاحبا الصحيح إذا أخرجا لمن تكلم فيه فإنما ينتقيان من حديث ما تابع عليه، وظهرت شواهده وعلم أن له أصلاً، ولا يرويان ما تفرد به، سيما إذا خالفه الثقات" (نصب الراية: 1/342).
هذا وقد تفرد بهذا الحديث -عن عتاب بن بشير- ثابت بن عجلان، كما قال البيهقي (المرجع نفسه: 2/372).
وثابت -وإن أخرج له البخاري- تكلم فيه أيضًا: فابن معين وثقة، وقال أحمد بن حنبل: أنا متوقف فيه، وقال أبو حاتم: صالح وذكره "ابن عدى" وساق له ثلاثة أحاديث غريبة وذكره "العقيلي" في كتاب "الضعفاء" وقال: لا يتابع على حديثه قال: فمما أنكر عليه حديث عتاب بن بشير عن عطاء عن أم سلمة وساق الحديث الذي معنا وقال الحافظ عبد الحق: ثابت لا يحتج به، فناقشه على قوله أبو الحسن بن القطان وقال: قول العقيلي أيضًا فيه تحامل عليه وقال: إنما يمر بهذا من لا يعرف بالثقة مطلقًا أما من عرف بها فانفراده لا يضر، إلا أن يكثر ذلك منه قال الذهبي معقبًا على ابن القطان: أما من عرف بالثقة فنعم وأما من وثق، ومثل أحمد الإمام يتوقف فيه، ومثل أبى حاتم يقول: صالح الحديث ("صالح الحديث" من ألفاظ المرتبة الدنيا من مراتب التعديل، عدها بعضهم الرابعة، وبعضهم السادسة، وهو ما أشعر بالقرب من التجريح، كما قال السخاوي في شرح "الألفية" والسندس في شرح النخبة انظر: الرفع والتكميل ص 109، 116، 124): فلا نرقيه إلى رتبة الثقة، فتفرد هذا يعد منكرًا، فرجح قول العقيلي وعبد الحق" (الميزان: 1/364 - 365).(1/263)
أما البخاري فإنما أخرج لثابت حديثًا واحدًا في الذبائح، وله أصل عنده في الطهارة، كما قال الحافظ (هدى الساري: 2/155، 209) وهذا -كما عرفنا من طريقة الشيخين- ليس بالتوثيق المطلق، كما ذكر الزيلعى ولهذا لم يرو أحد الشيخين هذا الحديث ولا أي حديث في تزكية الحلي.
وإذا كان حديث أم سلمة يدور على ثابت بن عجلان وعتاب بن بشير، وكانا هما بما ذكرنا من المنزلة عند أئمة النقد؛ ما بين موثق ومضعف ومتوقف، فمثلهما لا يحتج به في مسائل الخلاف، التي تتعارض فيها الدلائل، وتتعاون كفتا الميزان، فضلاً عن المسائل التي تعارضها شواهد معتبرة كما في إيجاب تزكية الحلي.
وقد قال ابن حجر في مقدمة "تهذيب التهذيب" (الجزء الأول ص 5): وفائدة يراد كل ما قيل في الرجل من حرج وتوثيق، تظهر عند المعارضة (انتهى) كما في مسألتنا.
ومما يشكك في صحة هذه الأحاديث في نظري: أنها لم تشتهر بين الصحابة، رغم اختلافهم في هذا الأمر الذي يكاد يمس كل أسرة، وتشتد حاجتهم إلى معرفة الحكم فيه، ولو عرفت هذه الأحاديث بين الصحابة لحسمت النزاع، وارتفع الخلاف، ولكنه لم يرتفع.
فإما أن تكون الأحاديث منسوخة أو غير صحيحة، وإلا فيستبعد أن يختلف الصحابة في هذا الأمر، ولا يرد بعضهم على بعض بما سمع من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما هو شأنهم في مسائل الخلاف الأخرى.
وقد جاء عن عائشة من أصح طريق -كما قال ابن حزم- أنها خالفت ما روى عنها آنفًا (قال الحافظ في التلخيص - بعد حديث الفتخات: "يمكن الجمع بينهما بأنها كانت ترى الزكاة فيها، ولا ترى إخراج الزكاة مطلقًا من مال الأيتام" أ هـ. وهو تأويل بعيد عن المتبادر من الحديث)، فكيف يمكن هذا؟(1/264)
ولذا قال البيهقي وأقره النووي والمنذري (المجموع: 6/35، ومختصر السنن: 2/176): إن رواية القاسم وابن أبى مليكة عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي عن بنات أخيها -مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى- توقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة، فهي لا تخالف النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيما روته عنه، إلا فيما علمته منسوخًا (قال الكمال ابن الهمام في فتح القدير (1/526)- بعد أن ذكر الأحاديث والآثار المؤيدة لمذهب الحنفية في القول بزكاة الحلي: واعلم أن مما يعكر على ما ذكرنا: ما في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن عائشة -رضى الله عنها- كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها، فلا تخرج من حليهن الزكاة" وعائشة راوية حديث "الفتخات" وعمل الراوي بخلاف ما روى، عندنا بمنزلته للناسخ، فيكون ذلك منسوخًا ويجاب عنه بأن الحكم بأن ذلك نسخ عندنا هو إذا لم يعارض مقتضى النسخ معارض يقتضي عدمه، وهو ثابت هنا، فإن كتابة عمر إلى الأشعري تدل على أنه حكم مقرر، وكذا من ذكرنا معه من الصحابة فإذا رفع التردد في النسخ، والثبوت متحقق لا يحكم بالنسخ" أ هـ.
وقد عرفنا أن كتابة عمر إلى أبى موسى لم تصح؛ لأن في الرواية انقطاعًا، ولهذا أنكر الحسن أن يكون أحد من الخلفاء قال بزكاة الحلي.
وذكر أبو عبيد: أن القول بزكاته لم يصح عن أحد من الصحابة إلا عن ابن مسعود وبهذا ثبت كلام البيهقي وغيره من وقوع الريب في رواية الفتخات).(1/265)
(جـ) ومن العلماء من تأول هذه الأحاديث المذكورة -على تقدير صحتها- بأن زكاة الحلي إنما وجبت في الوقت الذي كان الحلي من الذهب حرامًا، فلما صار مباحًا للنساء سقطت زكاته بالاستعمال، كما تسقط زكاة الماشية بالاستعمال قال البيهقي: وإلى ذلك ذهب كثير من أصحابنا، ثم ساق أخبارًا تدل على تحريم التحلي بالذهب، ثم أخرى تدل على إباحته للنساء، ثم قال: فهذه الأخبار وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن، على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة (هذا الإجماع الذي نقله البيهقي في سننه: 4/142، وذكره ابن حجر في الفتح: 10/260، واستقر العمل به في سائر العصور، وفي شتى أقطار الإسلام -يعارض ما ذهب إليه المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني في رسالته عن "آداب الزفاف" ف 29: أن التحلي بالذهب حرام على النساء حرمته على الرجال، إلا ما كان مقطعًا كالأزرار ونحوها.
ومما يؤيد نقل الإجماع هنا أمران:
أولاً: اختلاف الأئمة في وجوب زكاة الحلي للنساء، وحديثهم عنه حديث الأمر المفروغ من إباحته، ولو كان محرمًا لوجبت فيه الزكاة بالإجماع.
ثانيًا: استقرار العمل على الإباحة للنساء في شتى الأمصار والأعصار -منذ عهد الصحابة فمن بعدهم- دون نكير من أحد من المسلمين، وهذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كل هذه القرون، وتستبيح ما حرم الله ورسوله دون تأويله، ولا إنكار من أحد من أهل العلم.
وهذا يدل على أن أحاديث حل الذهب والحرير للنساء هي المتأخرة والناسخة إذ لا يعقل أن تكون الأحاديث المحرمة هي الناسخة ثم يعمل الصحابة رضوان الله عليهم بضدها ولكنى أوافق الشيخ في تحريم ما بلغ حد السرف وتجاوز المعتاد، كالخواتيم الكبار ونحوها، ويمكن حمل بعض الأحاديث الواردة في التحريم على ذلك ولا يتسع المجال لمناقشة الموضوع هنا).(1/266)
ويعكر على هذا التأويل أن حديث عائشة كان عن "فتخات من ورق" أي فضة، ولم يقل أحد إن الفضة كانت محرمة ثم أبيحت (السنن الكبرى: 4/140 - 142) وفي حديث أم سلمة إقرار لها على لبسه.
وقد يخطر تأويل آخر في حديث عائشة وأم سلمة -إن صحت روايتهما- ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل نساءه وأهل بيته معاملة خاصة فيها شيء من التقشف، ومجافاة الزينة والترف؛ لما لهن من مكان القدوة بين نساء الأمة، ولهذا قال تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) (الأحزاب: 32)، (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) (الأحزاب 30).
فلعل هذا كان حكمًا خاصًا بهن، ومن أجل ذلك لم يرد عنهن أنهن أفتين بذلك لنساء الأمة عامة، ومن أجله لم تزك عائشة حلي بنات أخيها وهن في حجرها، مع أنها كانت تخرج الزكاة من سائر أموالهن، كما صحت بذلك الرواية.
(هـ) ومن العلماء من أول هذه الأحاديث -على فرض صحتها- بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى فيها إسرافًا ومجاوزة للمعتاد (انظر نهاية المحتاج: 2/88) فأوجب فيها الزكاة كفارة وتطهيرًا.
وما يعضد هذا التأويل وصف "المسكتين" اللتين كانتا في يدي ابنة المرأة بالغلظ و"الفتخات" فسروها بأنها: خواتيم كبار فلعلها كانت أكبر مما ينبغي وفي هذا دليل لمن قال بتزكية الحلي المحرم أو المكروه (المرجع السابق).
ومن الصحابة من قال بزكاة الحلي، ولكن قال: تجب مرة واحدة، وهو مروى عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- فلا تتكرر زكاة الحلي بتكرر الحول (انظر المحلى: 6/78، والسنن الكبرى: 4/138).
ومن الصحابة والتابعين من فسر زكاة الحلي تفسيرًا آخر: فليست زكاته كزكاة النقود بإخراج ربع العشر، بل زكاته إعارته في العرس ونحوه لمن تحتاج إليه، ويرون ذلك واجبًا.
وروى ذلك البيهقي عن ابن عمرو وابن المسيب (السنن الكبرى: 4/140).(1/267)
وروى أبو عبيد وابن أبى شيبة ذلك عن: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وقتادة، والشعبي، أن زكاة الحلي إعارته (الأموال ص 443، والمصنف: 4/28).
وكل هذه الاحتمالات الواردة في دلالة الأحاديث المذكورة تسقط الاستدلال بها وفقًا للقاعدة المشهورة: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال، سقط به الاستدلال وهذا كله مبنى على افتراض التسليم بصحة هذه الأحاديث فكيف وفى كل منها ما ذكرناه من أسباب الضعف؟
والغريب في هذه القضية: أن فقهاء مدرسة الرأي -كما يسمون- يستدلون على مذهبهم فيها بالحديث والأثر، وفقهاء مدرسة الحديث يستدلون بالرأي والنظر (وهذا يدلنا على أن تقسيم الأئمة المتبوعين إلى أهل رأى، وأهل حديث -تقسيم فيه كثير من المبالغة؛ فإن أهل الرأي لا يرفضون الحديث، وأهل الحديث لا يرفضون الرأي والنظر- كما رأينا- والقضية تحتاج إلى تمحيص وقد أثبت أستاذنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة فى كتابه عن "مالك" أنه من أهل الرأي أيضًا، وأيد ذلك بالأدلة الناصعة. فليراجع.).
وأما ما ورد عن بعض الصحابة مثل ابن مسعود -وقد صح ذلك عنه- وابن عمرو بن العاص -وفي صحته كلام- فالملاحظ: أنهم لم يفتوا بذلك الناس كافة، ولم يرد عنهم أنهم ألزموا به الجميع.
وكل ما ورد عنهم أنهم عملوا بذلك في خاصة أنفسهم وبيوتهم، فامرأة ابن مسعود تسأله عن طوقها الذهبي: أتؤدى زكاته ؟ فيجيبها: نعم وسؤالها عنه يدل على أن حكم الحلي لم يكن متعلمًا بينهم وابن عمرو يزكى حلى بناته كل عام فلا يبعد أن يكون هذا ورعًا منهم، وعملاً بالاحتياط لأنفسهم وأهلهم في أمر لم يعرفوا فيه عن الرسول حكمًا.
الأثر الوحيد الذي يخرج عن هذه الدائرة هو ما قيل إن عمر كتب إلى أبى موسى أن يأمر نساء المسلمين أن يزكين حليهن، ولكن هذا لم تثبت صحته، وأنكر الحسن أن يكون أحد من الخلفاء أوجب زكاة الحلي.
ما اتُّخذ من الحلي كنزًا ففيه الزكاة(1/268)
وما اخترناه من عدم زكاة الحلي إنما نعنى به المستعمل المنتفع به، فهذا الذي قلنا: إنه زينة ومتاع، أما ما اتخذ مادة للكنز والادخار، واعتبره أصحابه بمنزلة الدنانير المخزونة، والنقود المكنوزة، فمثل هذا يجب أن يزكى.
ولذا روى عن سعيد بن المسيب: الحلي إذا لبس وانتفع به فلا زكاة فيه، وإذا لم يلبس ولم ينتفع به ففيه الزكاة (الأموال ص 443).
وقال مالك: من كان عنده تبر وحلي من ذهب أو فضة لا ينتفع به للبس فإن عليه فيه الزكاة في كل عام، يوزن فيؤخذ ربع عشره، إلا أن ينقص عن وزن عشرين دينارًا عينًا أو مائتي درهم فإن نقص عن ذلك فليس فيه الزكاة، وإنما تكون فيه الزكاة إذا كان إنما يمسكه لغير اللبس، فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة (الموطأ وشرحه المنتقى: 2/107 وقد تبين من قول مالك أن الحلي إذا انكسر ولم يمكن إصلاحه، أو لم ينو إصلاحه: تجب فيه الزكاة انظر: بلغة السالك: 1/19، والروضة للنووي: 2/261 وينعقد الحول من يوم الانكسار).
وقال النووي: قال أصحابنا: لو اتخذ حليًا ولم يقصد به استعمالاً محرمًا ولا مكروهًا ولا مباحًا، بل قصد كنزه واقتناءه، فالمذهب الصحيح وجوب الزكاة فيه وبه قطع الجمهور (المجموع: 6/36، والروضة: 2/260).
ونحو هذا ما قاله الليث بن سعد: ما كان من حلى يلبس ويعار فلا زكاة فيه، وما كان من حلى اتخذ ليحرز من الزكاة ففيه الزكاة (المحلى: 6/76)، ومعنى هذا أن القصد منه ليس اللبس والاستعمال، بل الفرار من الزكاة.
قال ابن حزم ردًا على قول الليث: ولو كان هذا لوجب على من اشترى بدراهمه دارًا أو ضيعة ليحرزها من الزكاة أن يزكيها (المرجع السابق) ونحن نقول: إن روح الشريعة التي جاءت بإبطال الحيل، ومعاملة المحتال بنقيض قصده تحتم هذا.
وكذلك قرر الحنابلة: أن ما اتخذ حليًا فرارًا من الزكاة لا تسقط عنه (المغنى: 3/11).(1/269)
وسنعود لمسالة الاحتيال على إسقاط الزكاة في باب أداء الزكاة إن شاء الله.
وحلي الرجل الذي يحلي به أهله أو يعيره لمن يتحلى به أو يعيده لذلك، شأنه شأن الحلي الذي تملكه المرأة، لأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح.
ما جاوز المعتاد من الحلي ففيه الزكاة
وما بلغ من الحلي حد السرف ومجاوزة المعتاد يجب أن يزكى، وذلك أن وجه إسقاط الزكاة عن الحلي -مع أنه مادة النقدين- هو أن الشريعة أباحت استعماله والتزين به للمرأة، فصار بمنزلة الثياب ومتاع البيت.
أما ما جاوز حد الاعتدال فهو محرم أو مكروه، واستعمال غير معترف به شرعًا ولذا قال النووي: قال أصحابنا -يعنى الشافعية: كل حلى أبيح للنساء فإنما يباح إذا لم يكن فيه سرف ظاهر، فإن كان كخلخال وزنه مائتا دينار، فالصحيح الذي قطع به معظم العراقيين تحريمه (المجموع: 6/40).
وقال ابن حامد -من الحنابلة- في الحلي: يباح ما لم يبلغ ألف مثقال فإن بلغها حرم، وفيه الزكاة لما روى أبو عبيد والأثرم عن عمرو بن دينار قال: سئل جابر عن الحلي - هل فيه زكاة ؟ قال: لا! فقيل له: ألف دينار ؟ فقال: إن ذلك لكثير (المغنى: 3/11 وانظر الأثر رقم (1275) من الأموال ص 442، ورواه أيضًا الشافعي والبيهقي- انظر السنن الكبرى: 4/138) ولأنه يجر إلى السرف والخيلاء، ولا يحتاج إليه في الاستعمال (المغنى: 3/11).
وهذا استدلال قوى، ولكن صاحب "المغنى" رجح بأن الشرع أباح التحلي مطلقًا من غير تقييد، فلا يجوز تقييده بالرأي والتحكيم (المرجع السابق: 3/11).
ونسى الشيخ -رحمه الله- أن استعمال المباحات في الشريعة مقيد بقيدين: عدم الإسراف، وعدم الاختيال.(1/270)
وفي هذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا واشربوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة" (رواه البخاري في صحيحه معلقًا -انظر تفسير ابن كثير: 2/182- طبع عيسى الحلبي)، ورواه النسائي في سننه -كتاب الزكاة- الاحتيال في الصدقة: 5/79- طبع المطبعة المصرية بالأزهر).
ويمكن أن يحمل حديث المرأة اليمنية -التي دخلت على الرسول وفى يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها ما قال- على أن هذا القدر كان مجاوزًا للمعتاد، وفيه إسراف، بالنسبة لابنة المرأة، ولهذا وصفت المسكتان بالغلظ ومن العلماء من أول هذا الحديث بذلك، وأن الزكاة إنما شرعت للزيادة فيه على قدر الحاجة (نصب الراية: 2/375، والمرقاة الجزء الرابع) ولعل هذا ما جعل عبد الله بن عمرو يزكى حلي بناته، فقد رووا أنه حلى ثلاث بنات له بستة آلاف دينار (رواه أبو عبيد ص 440) وهذا قدر كبير تجاوز المعتاد ولكن هل يزكى القدر الزائد أم الجميع؟ الظاهر من الأحاديث المذكورة أن الجميع يزكى حينئذ كأن ذلك نوع من التكفير عن هذا الغلو في استعمال المباح والله أعلم.
إن القول بالإباحة المطلقة، وبعدم إيجاب الزكاة مطلقًا، جعل مجموعة من ثروة الأمة تعطل في نفائس من الحلي، قد يمر العام والأعوام ولا تتحلى به المرأة، مما اضطرهم أن يودعوها في خزانات خاصة في المصارف (البنوك) خشية عليها من سطو اللصوص.
ولكن ما حد الإسراف؟
إن حد ذلك -فيما أرى- يختلف باختلاف الأشخاص والبيئات والأحوال، فحلي بألف دينار قد يكون مناسبًا لثرية أو زوجة ثرى في بلد غني مثل أمريكا.(1/271)
وقد يكون نصفه أو ربعه أو دون ذلك إسرافًا في بعض البلاد التي لا يجد الإنسان فيها قوت يومه إلا بشق النفس، فلا بد من النظر في الإباحة إلى ثراء الفرد وثراء الأمة معًا والحكم في هذا هو العرف (قال الرملي في "نهاية المحتاج" وهو يتحدث عن خاتم الفضة للرجل وكم تكون زنته أمثقالاً أم أكثر ؟ قال: "المعتمد ضبطه بالعرف، فما خرج عنه كان إسرافًا كما في الخلخال للمرأة وعلى ما تقرر فالأوجه اعتبار عرف أمثاله كالملابس" أ هـ).
على أن هذا لو لم يكن حرامًا ولا مكروهًا لدلت مجاوزة المعتاد فيه على أنه إنما اتخذ كنزًا لا حلية.
ولعل مما يوضح هذا في عصرنا أن من الناس من يتخذ من الحلي والجواهر وسيلة من وسائل تهريب النقود.
وينبغي أن يكون هذا هو حكم اللؤلؤ والياقوت والماس وكل الأحجار الكريمة والجواهر النفيسة، فما اتخذ منها للحلية والزينة ولم يبلغ درجة الإسراف فلا زكاة فيه، وما جاوز المعتاد مجاوزة بينه فهو من الإسراف المحرم، ولا يصح أن يتمتع بالإعفاء من الزكاة وكذلك ما اتخذ بقصد الاكتناز جدير أن تجب فيه الزكاة، إذ اقتناؤه حينئذ حيلة للتهرب مما في المال من حق معلوم للسائل والمحروم، والنية هي الفيصل في هذا، ويدل عليها مجاوزة المعتاد.
وما دام وجوب الزكاة يدور على مجاوزة المعتاد، فإن القدر المعتاد يعفى من وجوب الزكاة ولو أخرج عنه كله فهو أولى وأحوط، مرافقة لظاهر الأحاديث، كما ذكرنا.
تلخيص أحكام زكاة الذهب والفضة حسب الرأي الراجح
نستطيع تلخيص أحكام هذا المبحث -حسبما رجحناه- فيما يلي:
(أ) من ملك مصوغًا من الذهب أو الفضة نظر في أمره، فإن كان للاقتناء والاكتناز -ذخيرة للزمن- وجبت فيه الزكاة، لأنه مرصد للنماء، فهو كغير المصوغ من السبائك والنقود المضروبة.(1/272)
(ب) وإن كان معدًا للانتفاع والاستعمال الشخصي نظرنا في نوع هذا الاستعمال، فإن كان محرمًا كأواني الذهب والفضة والتحف والتماثيل، وما يتخذه الرجل لنفسه من سوار أو طوق أو خاتم ذهب أو نحو ذلك وجبت فيه الزكاة؛ لأنه عدل به عن أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله، وبقى على حكم الأصل.
(ج) ومن الاستعمال المحرم ما كان فيه سرف ظاهر من حلي النساء، ويعرف ذلك بمجاوزة المعتاد لمثل هذه المرأة في مثل بيئتها وعصرها وثروة أمتها.
(د) وإن كان الحلي معدًا لاستعمال مباح كحلي النساء -في غير سرف- وما أعد لهن، وخاتم الفضة للرجال: لم تجب فيه الزكاة؛ لأنه مال غير نام، لأنه من حاجات الإنسان وزينته كثيابه، وأثاثه ومتاعه، وقد أعد لاستعمال مباح، فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر.
(هـ) ولا فرق بين أن يكون الحلي المباح مملوكًا لامرأة تلبسه أو تعيره أو يكون مملوكًا لرجل يحلى به أهله أو يعيره أو يعده لذلك.
(و) وما وجبت فيه الزكاة من الحلي أو الآنية أو التحف يزكى زكاة النقدين، فيخرج ربع عشره (2.5بالمائة) كل حول، وحده أو مع بقية ماله، إن كان له مال.
(ز) وهذا بشرط أن يكون نصابًا أو يكمل بمال عنده قدر نصاب، وهو خمسة وثمانون جرامًا من الذهب.
والمعتبر: القيمة لا الوزن لأن للصنعة أثرها في زيادة القيمة.
الفصل الرابع
زكاة الثروة التجارية
فهرس
شروط الزكاة في مال التجارة
كيف يزكي التاجر ثروته التجارية
أدلة وجوب زكاة التجارة
شبهات المخالفين
مقدمة
أباح الله للمسلمين أن يشتغلوا بالتجارة ويكسبوا منها، بشرط ألا يتجروا في سلعة محرمة ولا يهملوا العنصر الأخلاقي في معاملاتهم، من الأمانة والصدق والنصح، ولا تلهيهم مشاغل التجارة ومكاسبها عن ذكر الله وأداء حقه سبحانه (انظر في ذلك: كتابنا "الحلال والحرام" فصل "الكسب والاحتراف").(1/273)
وقد عرفنا من الفصل الماضي، كيف فرض الإسلام زكاة سنوية (2.5بالمائة) على أصحاب النقود يطهرهم ويزكيهم بها، كما يطهر أموالهم ويزكيها وعرفنا من حكمة فرض هذه الزكاة: أن الشارع جعلها دافعًا قويًا، يسوق أصحاب النقود سوقًا حثيثًا، إلى استغلال أموالهم وتثميرها في كل عمل حلال، وكسب مشروع وبذلك ينجون من إثم الكانزين الذين يحبسون نقودهم عن التداول، ويعطلونها عن العمل في ميدان التثمير، كما تفيدهم هذه التنمية في إنقاذ أموالهم من أن تأكلها الزكاة بمرور الأعوام.
والتجارة من أنواع هذا الكسب المشروع ولهذا جاءت الآثار التي ذكرنا من قبل، آمرة بالاتجار في أموال اليتامى خاصة حتى لا تأكلها الزكاة.
فلا عجب أن تتحول طائفة غير قليلة من ثروات الأمة إلى التجارة، بمختلف أنواعها وفروعها وأن تصبح التجارة مصدرًا هائلاً لكسب المال وتنميته وأن يوجد بين التجار من يملك من السلع والبضائع ما يُقدَّر بالألوف والملايين.
ولا عجب أيضًا أن يفرض الإسلام في هذه الثروات، المستغلة في التجارة، والمكتسبة منها: زكاة سنوية، كزكاة النقود، شكرًا لنعمته تعالى، ووفاءً بحق ذوي الحاجة من عباده، مساهمة في المصالح العامة للدين والدولة، كما هو الشأن في كل زكاة.
ومن هنا عنى الفقه الإسلامي ببيان أحكام هذه الزكاة، ليكون التاجر المسلم على بيِّنة مما تجب فيه الزكاة من ماله، وما يعفى عنه.(1/274)
ويسمى الفقهاء الثروة التجارية: "عروض التجارة " (العروض: جمع "عَرْض" بفتح العين وسكون الراء، وهو - كما في التاج-: ما خالف النقدين من متاع الدنيا وأثاثها، بخلاف العَرَض - بفتحتين - فهو حطام الدنيا ومتاعها قال الإمام النووي: مال التجارة: كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بمعاوضة محضة "يعني معاوضة مالية" قال: وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة لا تصير المال مال تجارة، فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره، فجعله للتجارة "أي نوى به ذلك" لم يصر، على الصحيح الذي قطع به الجماهير "من الشافعية" وقال الكرابيسي من أصحابنا: يصير وأما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء، فإن المشتري يصير مال تجارة ويدخل في الحول، سواء اشترى بعرض أو نقد، أو دين، حال أو مؤجل، وإذا ثبت حكم التجارة لا تحتاج كل معاملة إلى نية جديدة، ومعنى هذا: أنه يُعَد تاجرًا منذ أول سلعة يشتريها بنية التجارة.
أما لو كان له ما يقتنيه من متاع في بيته أو دابة يركبها أو نحو ذلك فنوى أن يتاجر بها، ويبيعها لذلك فلا تكفي هذه النية حتى يبيعها بالفعل ويقبض ثمنها ويبدأ من وقتها اعتبار التجارة) ويعنون بها: كل ما عدا النقدين مما يُعَد للتجارة من المال، على اختلاف أنواعه، مما يشمل الآلات والأمتعة والثياب والمأكولات، والحلي والجواهر، والحيوانات، والنباتات، والأرض والدور، وغيرها من العقارات والمنقولات.
وعرَّف بعضهم عروض التجارة تعريفًا دقيقًا فقال: هي ما يُعَد للبيع والشراء بقصد الربح (مطالب أولي النهى: 2/96).
فمن مَلَك منها شيئًا للتجارة وحال عليه الحَوْل، وبلغت قيمته نصابًا من النقود في آخر الحَوْل، وجب عليه إخراج زكاته، وهو ربع عُشر قيمته أي 2.5بالمائة كزكاة النقود، فهي ضريبة على رأس المال المتداول وربحه، لا على الربح وحده وسنفصِّل أحكام هذا الفصل في المباحث التالية:
المبحث الأول: في أدلة وجوب الزكاة في التجارة.(1/275)
المبحث الثاني: في شبهات المخالفين من الظاهرية والإمامية والرد عليهما.
المبحث الثالث: في شروط زكاة التجارة.
المبحث الرابع: كيف يزكي التاجر ثروته التجارية.
المبحث الأول
أدلة وجوب زكاة التجارة
فهرس
ثالثا: إجماع الصحابة والتابعين والسلف
القياس والاعتبار
أولا: من القرآن
ثانيا: من السنة
يستند القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة إلى ما يأتي:
أولاً من القرآن
قوله تعالى: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ) (البقرة: 267) قال الإمام البخاري في كتاب "الزكاة" في صحيحه (الجزء الثاني ص143- طبع الشعب) باب "صدقة الكسب والتجارة " : لقوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ).
وقال الإمام الطبري في تفسير الآية: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة، أو بصناعة، من الذهب والفضة وروي من عدة طرق عن مجاهد في قوله: (مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) قال: من التجارة اهـ (تفسير الطبري: 5/555،556 بتحقيق ومراجعة الشيخين: أحمد ومحمود شاكر).
وقال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: قد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى: (أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال؛ لأن قوله تعالى: (مَا كَسَبْتُمْ) ينتظمها (أحكام القرآن للجصاص: 1/543).
وقال الإمام أبو بكر بن العربي: قال علماؤنا: قوله تعالى: (مَا كَسَبْتُمْ) يعني التجارة، (وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ) (البقرة:267 يعني النبات).(1/276)
وتحقيق هذا أن الأكساب (جمع كسب) على قسمين: منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلها، ومنها ما يكون من المحاولة على وجه الأرض كالتجارة والنتاج والمناورة في بلاد العدو، والاصطياد، فأمر الله تعالى الأغنياء من عباده، بأن يؤتوا الفقراء مما آتاهم على الوجه الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحكام القرآن: 1/235).
وقال الإمام الرازي: ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النعم، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب اهـ (التفسير الكبير للرازي: 2/65).
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى في أبي لهب: (مَا أغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد:2) فـ"ماله" هو ما ورثه عن أبيه، و "ما كسب": هو الذي جمعه من التجارة.
هذا فضلاً عن عموم الآيات الأخرى التي أوجبت في كل مال حقًا، مثل قوله تعالى: (وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَائِلِ وَالمَحْرُومِ) (الذاريات: 19) (وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلومٌ لِّلسَائِلِ وَالمَحْرُومِ) (المعارج: 24-25) (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (التوبة:103).
ولم يأت دليل من كتاب ولا سُنَّة يعفي أموال تجار المسلمين من هذا الحق المعلوم الذي بإخراجه يتطهر المسلم ويتزكى.
قال ابن العربي: قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه بشيء فعليه الدليل (شرح الترمذي: 3/104).
بل ذهب بعض العرب وهم دَوس - قبيلة أبي هريرة - إلى أن المال: الثياب والمتاع والعروض، ولا تسمى العين المنقولة مالاً، وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة من رواية مالك بسنده عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبًا ولا وَرِقًا إلا الأموال: الثياب والمتاع (تفسير القرطبي: 8/245).(1/277)
إلى الأعلى
ثانيًا من السًنَّة
ومن السُنَّة ما رواه أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نُخرج الصدقة مما نُعِد للبيع (الحديث رواه الدارقطني مطولاً ص214، وأبو داود من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عن سمرة بن جندب؛ وسكت عنه أبو داود ثم المنذري "مختصر السنن: 2 : 175" قال ابن الهمام: وهو تحسين منهما، كما في المرقاة: 4/158- طبع ملتان وحسنه ابن عبد البر - كما في نصب الراية: 2/376، وقال الحافظ في بلوغ المرام (ص124): إسناده لين وطعن ابن حزم في إسناده بأن جعفر بن سعد وخبيب بن سليمان بن سمرة وأباه سليمان مجهولون لا يُعرف من هم قال الشيخ أحمد شاكر في هامش المحلي (5/234): بل هم معروفون ذكرهم ابن حبان في الثقات (أ.هـ) ونقل الذهبي عن ابن القطان قال: ما من هؤلاء من يُعرف حاله وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى من جملة أحاديث، وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه وبكل حال، هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم "الميزان: 1/150").
والأمر يدل على الوجوب، لأن المفهوم من قوله: "يأمرنا" أنه ألقي إليهم ذلك بصيغة من صيغ الأمر وهي تدل على الوجوب كما أن المتبادر من كلمة "الصدقة" هو الزكاة فقد صحّت الأحاديث الكثيرة بتسميتها صدقة، وإذا عُرِّفت بـ"الـ" كما في الحديث، انصرف إلى اللفظ المعهود، وهو الزكاة وقول ابن حزم (المحلي: 5/234،235) إنه لو صح لكانت الصدقة فيه غير الزكاة، بعيد عن الظاهر المتبادر.(1/278)
وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته" (رواه الدارقطني في سننه (2/101) كما رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (1/388) إلا أنه قال: "وفي البُر" بالراء وضم الباء (أي القمح) لا بالزاي المعجمة وهو كذلك في مسند أحمد المطبوع (5/179) فلا مدخل له في زكاة التجارة لكن نقل الزيلعي عن النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" أن الرواية بالراء تصحيف وهو غلط.
ورواه البيهقي في سننه (4/147) من عدة طرق بالزاي.
وقد أطال الزيلعي في "نصب الراية" في تخريج الحديث (2/376-378)، وقال الحافظ في "الدراية": أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم وإسناده حسن "1/260") والبز -كما في القاموس-: الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها (اهـ) فهو يشمل الأقمشة والمفروشات والأواني والخردوات، ونحوها، ولا خلاف في أن الصدقة لا تجب في عين هذه الأشياء إذا كانت للاستمتاع والانتفاع الشخصي، فلم يبق إلا أن تجب في قيمتها إذا كانت للاستغلال والتجارة.
هذا غير الأحاديث العامة الأخرى التي تطالب بالزكاة في سائر الأموال مثل: "أدوا زكاة أموالكم" (رواه الترمذي في أول كتاب الزكاة وقال: حسن صحيح (3/91)- طبع المطبعة العصرية بالأزهر) من غير فصل بين مال ومال.
على أن مال التجارة أعم الأموال؛ لأنه يشمل كل مال يتجر فيه من حيوان وحبوب وثمار وسلاح ومتاع وغير ذلك، فكان أولى بالدخول في عموم هذه النصوص كما قال بعض العلماء (مطالب أولي النهى: 2/96).
إلى الأعلى
ثالثًا إجماع الصحابة والتابعين والسَلَف(1/279)
ومن هَدْي الصحابة: ما رواه أبو عبيد بسنده عن عبد القاري (من قبيلة القارة) قال: "كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها: شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب" (الخبر رواه أيضًا ابن أبي شيبة كما رواه ابن حزم في المحلي: 6/34، وقال: إن سنده صحيح ولكن زعم أن المراد بأموال التجار فيه ما كان غير العروض من فضة وذهب وغير ذلك، وهو تأويل بعيد عما يتبادر إلى الفهم من ألفاظ الخبر ورواه ابن حزم في المحلي وقال: إسناده صحيح).
وعن أبي عمرو بن حماس (قال في "أسد الغابة": حماس الليثي وذكره الواقدي فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن عمر) عن أبيه قال: مرَّ بي عمر فقال: يا حماس أدِّ زكاة مالك، فقلت: ما لي مال إلا جِعاب وأدُم، فقال: قوِّمها قيمة ثم أدِّ زكاتها" (قال الحافظ في التلخيص (ص185): رواه الشافعي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني، وذكر طريق كل واحد من هؤلاء إلى حماس وانظر: الأم للشافعي: 2/38، والسنن للبيهقي: 4/147، وقد ضعف ابن حزم الخبر بأن حماسًا وابنه مجهولان وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المحلي (5/235): كلا بل هما معروفان ثقتان) والجعاب جمع جعبة وهي ما يوضع فيه السهام ونحوها والأدُم: جمع أديم، وهو الجلد.
قال في المغني (الجزء الثالث ص35) تعقيبًا على هذا الخبر: وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر (أي لم ينكر هذا الحكم أحد من الصحابة) فيكون إجماعًا.
وروى أبو عبيد عن ابن عمر: ما كان من رقيق أو بز يراد به التجارة ففيه الزكاة (الأموال ص425) وروى البيهقي وابن حزم عنه قال ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة قال ابن حزم: هو خبر صحيح انظر: المحلي: 5/324، والسنن الكبرى: 4/147وروى أبو عبيد وجوب زكاة التجارة عن ابن عباس أيضًا الأموال ص426، وصحح ابن حزم الخبر ولكنه تأوله: 5/234،235.(1/280)
ولم يُنقل عن واحد من الصحابة ما يخالف قول عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم بل استمر العمل والفتوى على ذلك في عهد التابعين، وقد نقلنا في الفصل السابق في نصاب الذهب ما صحّ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أحد عماله: انظر مَن مرّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون في التجارات، من كل أربعين دينارًا: دينارًا، وما نقص فبحساب ذلك، حتى تبلغ عشرين دينارًا.
وكذلك اتفق فقهاء التابعين ومن بعدهم على القول بوجوب الزكاة في أموال التجارة.
ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر وأبو عبيد.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة: الزكاة إذا حال عليها الحول، وروى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري، والأوزاعي، والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي (المغني:3/30) (أبو حنيفة وأصحابه) وهو مذهب مالك وأحمد.
وكذلك قال أبو عبيد في أموال التجارة: أجمع المسلمون على أن الزكاة فرض واجب فيها، ومع أنه ذكر قولاً آخر لم ينسبه لقائل، فقد قال فيه: وأما القول الآخر فليس من مذاهب أهل العلم عندنا (الأموال ص429).
قال القاضي ابن العربي: الزكاة واجبة في العروض من أربعة أدلة:
الأول: قول الله عزَّ وجَلَّ: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ) (التوبة:103) وهذا عام في كل مال.
والثاني: أن عمر بن عبد العزيز كتب بأخذ الزكاة من العروض: والملأ الملأ، والوقت الوقت، بيد أنه استشار واستخار، وحكم بذلك على الأمة وقضى به، فارتفع الخلاف بحكمه.
الثالث: أن عمر الأعلى قد أخذها قبله صحيح من رواية أُنيس.
الرابع: أن أبا داود ذكر عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعد للبيع، ولم يصح فيه خلاف عن السلف اهـ (شرح الترمذي: 3/104).(1/281)
وقال الخطابي: وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر: أن لا زكاة فيها وهو مسبوق بالإجماع (معالم السنن:2/223).
إلى الأعلى
رابعًا القياس والاعتبار
أما القياس فهو -كما ذكر ابن رشد- أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني: الحرث والماشية والذهب والفضة (بداية المجتهد: 1/217- طبع مصطفى الحلبي).
وأما من جهة النظر والاعتبار المستند إلى قواعد الإسلام وروحه العامة: فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود معنى، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض؛ فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم: أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحَوْل على نصاب من النقدين أبدًا، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم (تفسير المنار: 10/591- الطبعة الثانية).
إن التجار في عصرنا -دون قصد منهم إلى الفرار من الزكاة- قلّما توجد لديهم نقود عينية يحول عليها الحول، فمعظم التعامل التجاري الآن يتم بغير تقابض، إلا بالشيكات ونحوها.(1/282)
ورأس الاعتبار في المسألة -كما قال العلاَّمة السيد رشيد رضا- أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء صدقة، لمواساة الفقراء، ومن في معناهم، وإقامة المصالح العامة للدين الإسلامي وأمته، وأن الفائدة في ذلك للأغنياء: تطهير أنفسهم من رذيلة البخل، وتربيتها بفضائل الرحمة للفقراء، وسائر أصناف المستحقين، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة المصالح العامة الأخرى، والفائدة للفقراء وغيرهم: إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، وهي تضخم الأموال وحصرها في أناس معدودين -وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفيء: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنكُمْ) (الحشر:7)- فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الأمة في أيديهم"؟ (المصدر السابق).
وأزيد على هذا فأقول:
إن أحوج الناس إلى تطهير أنفسهم وأموالهم وتزكيتها: هم التجار، فإن طرائق كسبهم لا تسلم من شوائب وشبهات، لا يسلم من غوائلها إلا الورع الصدوق الأمين، وقليل ما هم، وخاصة في هذا العصر.
وقد جاء في الحديث: "إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى الله وبر وصدق" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه) "إن التجار هم الفجار، قالوا: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدِّثون فيكذبون" (رواه أحمد بإسناد جيد، والحاكم -واللفظ له- وقال: صحيح الإسناد "ترغيب").
ومن هنا قلنا: إن نفس التاجر وماله أحوج من أي ذي مال آخر إلى التزكية والتطهير وفي هذا روى أبو داود بسنده عن قيس بن أبي غَرَزَة، قال: مرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة".(1/283)
فهذه صدقة غير محدودة بحول ولا نصاب ولا مقدار، ولكن الحديث يؤكد ما نقوله من حاجة التاجر إلى التطهر الدائم من شوائب التجارة ومكدراتها فإذا كان على التاجر من الصدقة المفروضة غير المحدودة -كما يقول ابن حزم نفسه- ما يكون كفّارة لما يشوب البيع، فكيف يُعفَى مما هو مفروض على عامة المسلمين؟
المبحث الثاني
شبهات المخالفين
فهرس
مذهب الإمامية
مذهب الظاهرية في عروض التجارة
(أ) مذهب الظاهرية في عروض التجارة
مذهب أهل السنة كافة هو إيجاب الزكاة في عروض التجارة (ينسب إلى الشافعي قول قديم بعدم وجوب الزكاة في التجارة، واختلف أئمة المذهب في ذلك فمنهم من قال: له في القديم قولان، ومنهم من قال: لم يثبت خلاف الجديد -انظر: الروضة للنووي:2/16) ولم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين من أهل الظاهر، كما قال الخطابي، وقد تبنى مذهبهم ودافع عنه ابن حزم في المحلي (الجزء السادس ص233-240) كما أن بعض المضيقين في إيجاب الزكاة في الزمن الأخير، كالشوكاني وصِدِّيق حسن خان: مالوا إليه وأيدوه وسنذكر ما تعلقوا به من شبهات ثم نكر عليها بالإبطال:
1- تعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على مسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وقوله: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" (مر تخريجهما في زكاة الخيل) وظاهر ذلك عدم الوجوب في جميع الأحوال سواء أكانت للتجارة أم لغيرها.
وأجاب الجمهور عن هذه الشبهة: بأن المتأمل في عبارة الحديث يجده بمعزل عما نحن فيه، فهو ينفي الزكاة عن عبده الذي يخدمه، وفرسه الذي يركبه، وكلا الاثنين من الحوائج الأصلية، المعفاة من الصدقة بإجماع المسلمين.
2- وتعلقوا بأن الأصل في مال المسلم: الحرمة، كما أن الأصل براءة الذمم من التكاليف، فلا يصح أن نوجب على الناس في أموالهم ما لم يوجبه الله عليهم في كتاب ولا سُنَّة.(1/284)
وقد كانت التجارة قائمة في عصره صلى الله عليه وسلم في أنواع مما يتجر به، ولم يرد عنه نقل صحيح يفيد وجوب ذلك قالوا: وحديثا سمرة وأبي ذر لا تقوم بمثلهما حُجَّة لضعفهما ولا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى (انظر الروضة الندية: 1/192-193).
وجوابنا: أنه قد عارض ما ذكروا من الأصول أصول أخرى أفادتها العمومات التي أوجبت في كل مال حقًا، وأفادتها أيضًا الأدلة الخاصة التي استقيناها من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وإجماع من يعتد به من أهل العلم.
وحديث سمرة بن جندب سكت عنه أبو داود والمنذري وهذا تحسين منهما، وحسنه ابن عبد البر، وقال الشيخ أحمد شاكر، ردًا على ابن حزم: رواته معروفون ذكرهم ابن حبان في الثقات.
وحديث أبي ذر صححه الحاكم وذكر له الحافظ عدة طرق ضعيفة، وقال في إحداها: هذا إسناد لا بأس به.
وقد تأيد الحديثان بالعمومات، وبعمل الصحابة، وإجماع السلف، مع ما يعضدهما من النظر الصحيح والقياس السليم.(1/285)
3- وشبهة ثالثة ذكرها أبو عبيد عن "بعض من يتكلم في الفقه" قال: إنه لا زكاة في أموال التجارة واحتج بأنه إنما أوجب الزكاة فيها من أوجبها بالتقويم، وإنما يجب على كل مال الزكاة في نفسه، والقيمة سوى المتاع، فأسقط عنه الزكاة لهذا المعنى قال أبو عبيد: وهذا عندنا غلط في التأويل: لأنَّا قد وجدنا السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد يجب الحق في المال ثم يحول إلى غيره مما يكون إعطاؤه أيسر على معطيه من الأصل، ومن ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ باليمن بالجزية "إن على كل حالم (بالغ) دينارًا أو عدله من المعافر" (رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث مسروق عن معاذ وحسنه الترمذي، وهو جزء من الحديث الذي ذكرناه في زكاة البقر) والمعافر ثياب يمنية، وعدله: قيمته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العرض مكان العين (النقد) ثم كتب إلى أهل نجران "أن عليهم ألفي حُلّة في كل عام أو عدلها من الأواقي - يعني من الدراهم" فأخذ العين (أي النقود) مكان العرض.(1/286)
وكان عمر يأخذ الإبل من الجزية، وإنما أصلها الذهب والورق، وأخذ عليّ بن أبي طالب الإبر والحبال والمسالّ (جمع مسلة) من الجزية، وقد روى عن معاذ في الصدقة نفسها أنه أخذ مكانها العروض، وذلك قوله: "آتوني بخميس أو لبيس -ثياب عندهم- آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة"، وورد عن ابن مسعود أن امرأته قالت له: إن لي طوقًا فيه عشرون مثقالاً، قال: أدِّي عنه خمسة دراهم، وكانت قيمة كل عشرة دراهم تساوي مثقالاً، قال أبو عبيد: وكل هذه الأشياء قد أخذت فيها حقوق من غير المال الذي وجبت فيه تلك الحقوق، فلم يدعهم ذلك إلى إسقاط الزكاة؛ لأنه حق لازم لا يزيله شيء، ولكنهم قدّروا ذلك المال بغيره، إذ كان أيسر على من يؤخذ منه، فكذلك أموال التجارة، إنما كان الأصل فيها أن يؤخذ الزكاة منها أنفسها، فكان في ذلك عليهم ضرر من القطع والتبعيض؛ لذلك رخَّصوا في القيمة، فعلى هذا أموال التجارة عندنا، وعليه أجمع المسلمون: أن الزكاة فرض واجب فيها، وأما القول الآخر، فليس من مذاهب أهل العلم عندنا، وإنما وجبت الزكاة في العروض والرقيق وغيرها إذا كانت للتجارة وسقطت عنها إذا كانت لغيرها؛ لأن الرقيق والعروض إنما عُفِيَ عنها في السنة إذا كانت للاستمتاع والانتفاع بها، ولهذا أسقط المسلمون الزكاة عن الإبل والبقر العوامل، وأما أموال التجارة فإنما هي للنماء وطلب الفضل، فهي في هذه الحال تشبه سائمة المواشي التي يُطلب نسلها وزيادتها، فوجبت فيها الزكاة لذلك، إلا أن كل واحدة منها تزكي على سنتها فزكاة التجارات على القيم، وزكاة المواشي على الفرائض (المقادير المفروضة) فاجتمعتا في الأصل على وجوب الزكاة، ثم رجعت كل واحدة في الفرع إلى سنتها" (الأموال ص427 وما بعدها).(1/287)
وبهذا نعلم أن قول جمهور الأمة، هو القول الصواب، وأن الزكاة في عروض التجارة فريضة لازمة، وأن شبهات المخالفين لا تقف على قدميها أمام حجج الجمهور، وإجماع الصحابة وخير القرون.
إلى الأعلى
(ب) مذهب الإمامية
وذهب فقهاء الإمامية إلى أن الزكاة لا تجب في أموال التجارة، بل تُستحب على الأصح عندهم (المختصر النافع في فقه الإمامية ص54).
ولكن لهم رأيًا آخر في أرباح التجارة، وهو وجوب الخُمس فيها (أعني في الأرباح لا في رأس المال) مستدلين بقوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مَّن شَيْءٍ فَأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال:41) وقالوا: إن كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات والكنوز وغيرها، يُطلق عليها في عرف اللغة اسم: الغُنْم والغنيمة، ولم يوجبوا الخُمس في أرباح التجارة إلا فيما فضل منها عن مؤونة السنة له ولعياله، قال في "جواهر الكلام" في عدّ ما يجب فيه الخُمس: "الخامس ما يفضل عن مؤونة السنة على الاقتصاد له ولعياله من أرباح التجارات والصناعات والزراعات بلا خلاف معتد به" (جواهر الكلام: 2/126) وهو -بالتعبير الحديث- ضريبة على صافي الدخل بنسبة (20) بالمائة.
قال أهل السنة: المراد بقوله: (مَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءْ) (الأنفال:41) ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يُغنم بالقتال، لا لكل ما يُطلق عليه اسم الغنيمة، وبدلالة سياق الآية نفسها، ولو بقي على عمومه: لا ستلزم وجوب الخُمس في المواريث ونحوها، وهو خلاف الإجماع، وما استلزم الباطل: باطل (انظر الروضة الندية: 1/219).
المبحث الثالث
شروط الزكاة في مال التجارة
التجارة -كما عرّفها بعض الفقهاء- هي كسب المال ببدل هو مال (رد المحتار: 2/18).
ومال التجارة هو: ما يُعد لهذا الكسب عن طريق البيع والشراء.(1/288)
وعرّفه بعضهم بقوله: هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولى النهى جـ 2/96).
فليس كل ما يشتريه الإنسان من أشياء وأمتعة وعروض يكون مال تجارة، فقد يشتري ثيابًا للبسه، أو أثاثًا لبيته، أو دابة أو سيارة لركوبه، فلا يسمى شيء من ذلك عرض تجارة، بل عرض "قنية" بخلاف ما لو اشترى شيئًا من ذلك بقصد بيعه والربح منه.
فالإعداد للتجارة يتضمن عنصرين: عملاً ونيَّة، فالعمل هو البيع والشراء، والنيَّة هي قصد الربح/ فلا يكفي في التجارة أحد العنصرين دون الآخر (انظر الدر المختار ورد المحتار : 2 / 18 - 19، وبلغة السالك، وحاشيته : 1 /224).
لا يكفى مجرد النيَّة والرغبة في الربح دون ممارسة التجارة بالفعل (هذا هو قول الجمهور، وذهب ابن عقيل وأبو بكر من الحنابلة إلى أن عرض القنية يصير للتجارة بمجرد النية، وحكوه رواية عن أحمد لقوله فيمن أخرجت أرضه خمسة أو سق، فمكثت عنده سنين، لا يريد بها التجارة، فليس عليه زكاة، وإن كان يريد التجارة، فأعجب إلى أن يزكيه، لأن نية القنية في عرض التجارة كافية في جعله للقنية، فكذلك نية التجارة، بل أولى؛ لأن الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطًا، ولأنه أحظ للمساكين فاعتبر، ولحديث سمرة في إخراج الصدقة مما يُعَد للبيع، وهذا داخل في عمومه، وردوا على هذا القول بأن القنية هي الأصل، والتجارة فرع عليها، فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية، كالمقيم ينوي السفر، لا يصير مسافرًا بمجرد النية ..انظر المغني - المطبوع مع الشر -: 2/631، وانظر شرح الرسالة للعلامة المالكي زروق::1/325) لا يكفي الممارسة بغير النية والقصد.(1/289)
ولو اشترى شيئًا للقنية كسيارة ليركبها، ناويًا أنه إن وجد ربحًا باعها، لم يعد ذلك مال تجارة (انظر الدر المختار وحاشيته:2/19) بخلاف ما لو كان يشتري سيارات ليتاجر فيها ويربح منها، فإذا ركب سيارة منها واستعملها لنفسه حتى يجد الربح المطلوب فيها فيبيعها، فإن استعماله لها لا يخرجها عن التجارة، إذ العبرة في النية بما هو الأصل، فما كان الأصل فيه الاقتناء والاستعمال الشخصي: لم يجعله للتجارة مجرد رغبته في البيع إذا وجد ربحًا، وما كان الأصل فيه الاتجار والبيع: لم يخرجه عن التجارة طروء استعماله.
أما إذا نوى تحويل عرض تجاري معين إلى استعماله الشخصي، فتكفي هذه النية عند جمهور الفقهاء لإخراجه من مال التجارة، وإدخاله في المقتنيات الشخصية غير النامية.
وشرط بعضهم هنا شرطًا آخر، وهو عدم قيام المانع المؤدي إلى "الثَّنَى" (المرجع نفسه ص18) في الزكاة، وهو أخذ الزكاة مرتين في عام واحد، وهو الذي يسميه رجال الضرائب "الازدواج" وفسر ابن قدامة "الثَّنَى" بأنه: إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد (المغني: 2/629) وقد جاء في الحديث: "لا ثِنَى في الصدقة" (الأموال ص 375).
وعلى هذا لو اشترى أرضًا زراعية للتجارة، فزرعها وأخرجت ما يجب فيه العُشر، اكتفى بزكاة العُشر عن الخارج، ولم تجب زكاة التجارة عن الأرض نفسها، حتى لا تتكرر الزكاة في مال واحد وخالف بعض الفقهاء، فغلبوا زكاة التجارة، وذهب بعضهم إلى القول بإيجاب الزكاتين (انظر الدر المختار ورد المحتار: 2/19، والمغني ص630) بناء على أن سبب هذه غير سبب تلك، فلا يُعد ذلك ثنَى، وسنعود إلى هذا بعد.
إذا عرفنا مال التجارة: ما هو؟ فقد بقي علينا أن نعرف شروط زكاته.(1/290)
ورأس مال التاجر: إما نقود، أو سلع مقومة بالنقود، فأما النقود فلا كلام فيها، وأما السلع والعروض فيُشترط لوجوب الزكاة فيها ما يُشترط لزكاة النقود، من حولان الحول، وبلوغ النصاب المعين، والفراغ من الدَّيْن، والفضل عن الحوائج الأصلية، وقد رجحنا أن نصاب النقود في عصرنا الآن ما يعادل قيمة 85 جرامًا من الذهب.
ولكن متى يُعتبر كماله النصاب؟
هل يُعتبر في آخر الحول فقط؟
أو يُعتبر كماله في جميع الحول من أوله إلى آخره؟
أو يُعتبر في أول الحول وآخره دون ما بينهما؟
أقوال ثلاثة للفقهاء
أولها: وهو قول مالك ونص الشافعي في الأم: أنه يُعتبر في آخر الحول فقط؛ لأنه يتعلق بالقيمة، وتقويم العرض في كل وقت يشق، فاعتبر حال الوجوب، وهو آخر الحول، بخلاف سائر الزكوات؛ لأن نصابها من عَيْنها فلا يشق اعتباره (المجموع:1/55).
القول الثاني: اعتبار النصاب في جميع الحول، فمتى نقص النصاب في لحظة منه، انقطع الحول؛ لأنه مال يُعتبر له النصاب والحول فوجب اعتبار كمال النصاب في جميع أيام الحول كسائر الأمور التي يُعتبر فيها ذلك، وهذا قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر (المغني: 3/32 وما بعدها).
والثالث: اعتبار النصاب في أول الحول وآخره دون ما بينهما، فإذا تم النصاب في الطرفين وجبت الزكاة، ولا يضر نقصه بينهما، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وحجته ما ذُكر في القول الأول: أن التقويم في جميع الحول يشق؛ لأنه يحتاج إلى أن يعرف قيمة السلع التي عنده في كل وقت ليعلم أتبلغ نصابًا أم لا وفي ذلك من الحرج والمشقة ما فيه، فعفى عنه إلا في أول الحول وآخره فصار الاعتبار به.
فلو مَلَك سلعة قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول -وهي كذلك- ثم زادت قيمة النماء بها، أو تغيرت الأسعار فبلغت نصابًا، أو باعها بنصاب، أو مَلَك في أثناء الحول عرضًا آخر، أو نقودًا تم بها النصاب: ابتدأ الحول من حينئذ، فلا يُحتسب بما مضى عند الجمهور.(1/291)
أما عند مالك، وكذا الشافعي حسب نصه في الأم: فالحول ينعقد على ما دون النصاب، ولا يُشترط النصاب إلا في آخر الحول، فإذا بلغ في آخره نصابًا زكّاه (المغني: 3/31 وما بعدها).
ومن هنا رووا عن مالك قوله: إذا كانت له خمسة دنانير (وهي ربع النصاب) فاتجر فيها، فحال عليها الحول، وقد بلغت ما تجب فيه الزكاة: يزكيها (المغني: 2/31 وما بعدها).
والمختار عندي: هو قول مالك والأصح عند الشافعية (كما في الروضة: 2/267) لأن اشتراط حولان الحول على النصاب لم يقم عليه دليل، ولم يجيء به نص صحيح مرفوع، فإذا اكتمل النصاب عند الحول وجب الاعتبار به، واعتبر ابتداء السنة الزكوية للمسلم، وكلما جاء هذا الموعد من كل سنة: زكّى ما عنده إذا بلغ نصابًا، ولا يضر النقصان في أثناء السنة.
وإذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة من التجار، فإنها تحدِّد موعدًا كالمحرَّم من كل عام، فمَن وجد عنده النصاب في هذا الموعد أخِذت منه الزكاة، وإن كان نصابه لم يكمل إلا منذ شهر أو شهرين.
وهذا ما كان يحدث في زكاة المواشي، في عهد النبوة والراشدين، فقد كان السعاة يأخذون الزكاة مما حضر من المال إذا بلغ نصابًا، ولا يسألون متى تم هذا النصاب وكم شهرًا له؟ ويكتفون بتمامه عند أخذ الزكاة، ثم لا يأخذون منه زكاة إلا بعد عام قمري كامل
المبحث الرابع
كيف يزكي التاجر ثروته التجارية
فهرس
بأي سعر تقوم سلع التجارة عند إخراج الزكاة؟
هل يخرج التاجر زكاته من عين السلعة أم من قيمتها؟
زككاة الثروة التجارية بمختلف صورها
تفريق مالك بين التاجر المحتكر والتاجر المدير
العروض الثابتة لا تزكى
زكاة الثروة التجارية بمختلف صورها
الثروة التي يستغلها التاجر في تجارته، لا تخلو أن تتخذ صورة أو أكثر من الصور الثلاث الآتية:
1- فإما أن تكون الثروة التجارية في صورة: عروض وبضائع اشتراها التاجر بثمن ما، ولم تُبَع بعد.(1/292)
2- أو تكون في صورة: نقود حاضرة يحوزها في يده فعلاً، أو تحت تصرفه كالتي يضعها في "البنوك" لحسابه.
3- أو تكون في صورة: ديون له على بعض العملاء أو غيرهم، مما تقتضيه طبيعة التجارة والتعامل، ولا شك أن من هذه الديون ما هو ميئوس منه، ومنها ما هو مرجو الحصول.
ولا ننسى هنا: أن التاجر كما يكون له ديون على الآخرين قلَّما يخلو أن يكون هو أيضًا مدينًا للآخرين.
فكيف يُخرج التاجر المسلم زكاة هذه الثروة بمختلف صورها؟
وللإجابة عن ذلك نذكر هنا بعض ما جاء عن أئمة التابعين في ذلك كما رواها أبو عبيد (صفحة 426).
قال ميمون بن مهران: إذا حلَت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض فقوِّمه قيمة النقد، وما كان من دَيْن في ملآة (الملآة: الغني واليسر فمعنى الكلمة ما كان من دين على غني مليء قادر على الدفع) فاحسبه ثم اطرح منه ما كان عليك من الدَيْن، ثم زكِّ ما بقي.
وقال الحسن البصري: إذا حضر الشهر الذي وقَّت الرجل أن يؤدي فيه زكاته: أدى عن كل مال له (يعني من النقد) وكل ما ابتاع من التجارة، وكل دين إلا ما كان منه ضمارًا لا يرجوه.
وقال إبراهيم النخعي: يقوِّم الرجل متاعه إذا كان للتجارة، إذا حلّت عليه الزكاة فيزكيه مع ماله (الأموال ص426).(1/293)
ومن أقوال هؤلاء الأئمة، يتضح لنا: أن على التاجر المسلم -إذا حلَّ موعد الزكاة- أن يضم ماله بعضه إلى بعض، رأس المال والأرباح والمدخرات، والديون المرجوة، فيقوم بجرد تجارته، ويقوِّم قيمة البضائع إلى ما لديه من نقود -سواء أستغلَّها في التجارة أم لم يستغلها-إلى ما له من ديون مرجوة القضاء، غير ميئوس منها، ويُخرج من ذلك كله ربع العُشر (2.5بالمائة)، وأما الدَيْن الذي انقطع الرجاء فيه، فقد رجحنا - من قبل - الرأي القائل بأن لا زكاة فيه، إلا إذا قبضه، فيزكيه لعام واحد (وهذا هو رأي مالك في الديون كلها) بناء على اختيارنا تزكية المال المستفاد عند قبضه إذا بلغ نصابًا، وأما ما عليه من ديون فإنه يطرحها من جملة ماله، ثم يزكّى ما بقي.
إلى الأعلى
تفريق "مالك" بين التاجر المحتكر والتاجر المدير
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، وانفرد مالك عن الجمهور برأي فرَّق فيه بين صنفين من التجار: فالتاجر "المدير" وهو الذي يبيع ويشتري بالسعر الحاضر، ولا ينضبط له وقت في البيع والشراء (كتجار البقالة والخردوات والأقمشة والأدوات وغيرهم من أصحاب الحوانيت والطوَّافين بالسلع) (انظر بلغة السالك: 1/224، ونقل الصاوي في الحاشية عن ابن عاشر: الظاهر أن أرباب الصنائع، كالحاكة والدباغين مديرون وقد نص في المدونة على أن أصحاب الأسفار الذين يجهزون الأمتعة إلى البلدان مديرون ...المرجع نفسه ص 224-225) يرى مالك مع الجمهور: أن يزكّى عروضه وسلعه على رأس كل حول وإن خالف في اشتراط النصاب في أول الحول كما ذكرنا قبل.
وأما التاجر الآخر وهو الذي يشتري السلعة ويتربص بها رجاء ارتفاع السعر ويسميه "المحتكر" كالذين يشترون العقار وأراضى البناء ونحوها، ويتربصون بها مدة من الزمن، ويرصدون الأسواق، حتى ترتفع أسعارها، فيبيعوا، فيرى مالك: أن الزكاة لا يتكرر وجوبها عليه بتكرار الأعوام، بل إذا باع السلعة زكّاها لسنة واحدة، وإن بقيت عنده أعوامًا.(1/294)
ويحسن أن أسوق عبارة ابن رشد التي ذكرها في بيان مذهبه، قال: "إن مالكًا قال: إذا باع العرض: زكّاه لسنة واحدة، كالحال في الدَّيْن، وذلك عنده -أي مالك- في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه، وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ويشترونه، وهم الذين يخصون باسم "المدير" فحكم هؤلاء -عند مالك- إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم: أن يقوم ما بيده من عروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العَيْن (النقود) وما له من الدَّيْن الذي يرتجي قبضه -إن لم يكن عليه دَيْن مثله- وذلك بخلاف قوله في دَيْن غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابًا: أدى زكاته (اشترط بعض المالكية -بل هو المشهور في المذهب- أن ينص للتاجر مقدار من النقود ولو درهمًا في أي وقت من السنة وروى بعضهم عدم الاشتراط ...انظر شرح الرسالة للعلاَّمة زروق:1/325، والمراد بالنص: بيع المتاع بنقد).
"وقال الجمهور (الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم): المدير وغير المدير حكمها واحد، وأنه من اشترى عرضًا للتجارة فحال عليه الحول قوَّمه وزكّاه" (بداية المجتهد لابن رشد: 1/260-261- طبع الاستقامة بالقاهرة).
وقد عقب ابن رشد على رأي مالك بقوله: "وهذا بأن يكون شرعًا زائدًا أشبه منه بأن يكون شرعًا مستنبطًا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرِّفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك -رحمه الله- يعتبر المصالح، وإن لم تستند إلى أصول منصوص عليها".
واختلف قول المالكية في التاجر المدير إذا بارت سلعته وكسدت بضاعته: هل يصير محتكرا، فلا يزكّى إلا ما باعه بالفعل، أم يظل مديرًا، فيقوِّم عروضه كل عام ويزكيها، قال سحنون: يصير محتكرًا، خلافًا لابن القاسم، وبماذا يُحد البوار؟ هل يُحد بعامين أو بالعُرف؟ قولان، لسحنون وعبد الملك (انظر: شرح الرسالة ...المرجع السابق).(1/295)
والحق أن رأي الجمهور، أقوى دليلاً من رأي مالك، فإن الاعتبار الذي قام على أساسه إيجاب الزكاة في عُروض التجارة: أنها مال مرصد للنماء مثل النقود، سواء أنمت بالفعل أم لم تنم، بل سواء ربحت أم خسرت؛ والتاجر -مديرًا كان أو غير مدير- قد مَلَك نصابًا ناميًا فوجب أن يزكِّيه.
ومع هذا؛ قد يكون لرأي مالك وسحنون مجال يؤخذ به فيه، وذلك في أحوال الكساد والبوار، الذي يصيب بعض السلع في بعض السنين، حتى لتمر الأعوام، ولا يباع منها إلا القليل، فمن التيسير والتخفيف على مَن هذه حاله ألا تؤخذ منه الزكاة إلا عما يبيعه فعلاً، على أن يُعفى عما مضى عليه من أعوام الكساد، وذلك لأن ما أصابه ليس باختياره ولا من صنع يده.
إلى الأعلى
العروض الثابتة لا تزكى
والمعتبر في رأس مال التجارة الذي يجب تزكيته: هو المال السائل، أو رأس المال المتداول، أما المباني والأثاث الثابت للمحلات التجارية ونحوه مما لا يُباع ولا يحرك: فلا يُحتسب عند التقويم، ولا تُخْرَج عنه الزكاة، فقد ذكر الفقهاء: أن المراد بعرض التجارة هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولي النهى: 2/96) بدليل حديث سمرة الذي ذكرناه في أول هذا الفصل: "كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع".
ولهذا قالوا: لا تقوَّم الأواني التي توضع فيها سلع التجارة ولا الأقفاص والموازين، ولا الآلات، كالمنوال، والمنشار، والقدوم، والمحراث، ولا دولاب العمل اللازم للتجارة؛ لبقاء عينها فأشبهت عروض القنية (المصدر نفسه وانظر فتح القدير: 1/527، وبلغة السالك: 1/235، وشرح الأزهار:1/479-480) أي الممتلكات الشخصية التي لا تُعد للنماء.(1/296)
وفصَّل بعضهم فقالوا: في الأواني التي توضع فيها عروض التجارة كقوارير العطارين، والغرائر والأكياس التي يستعملها تاجر الحبوب، والسُرج واللُّجم التي يستعملها تاجر الخيل، ونحوها -إن أريد بيعها مع هذه الأشياء فهي مال تجارة تقوَّم معها، وإن لم يرد بيعها -بل تباع العروض وتبقى هي للاستعمال- فلا تقوَّم، شأنها شأن العروض المقتناة (مطالب أولي النهى:2/96).
إلى الأعلى
بأي سعر تُقوَّم سلع التجارة عند إخراج الزكاة؟
وبعد طرح الأثاث الثابت ونحوه، مما لا يُعَد للبيع، يجب تقويم السلع والبضائع التي حال عليها الحَوْل، ووجبت فيها الزكاة.
ولكن بأي سعر يقوِّمها التاجر، أو المصَدِّق إذا كانت الحكومة الإسلامية هي التي تأخذ الزكاة؟
(أ) المشهور: أن تقوَّم بالسعر الحالي الذي تباع به السلعة في السوق عند وجوب الزكاة بها، وقد جاء عن جابر بن زيد من التابعين في عرض يراد به التجارة: قوِّمه بنحو من ثمنه يوم حلّت فيه الزكاة، ثم أخْرِج زكاته (الأموال ص426) وهذا قول معظم الفقهاء.
(ب) وكان ابن عباس يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة عليه (المصدر نفسه).
والمقصود بالتربص هو الانتظار حتى يتم البيع فعلاً، للتأكد من أن التقويم يتم على أساس السعر الحقيقي الذي تباع به السلعة.
(جـ) وذكر ابن رشد: أن بعض الفقهاء قالوا: يزكي الثمن الذي اشترى به السلعة لا قيمتها (بداية المجتهد:1/260) ولم يُسمِّ ابن رشد من قال بهذا ولا دليله.
ولا يخلو الأمر من حالتين: إما هبوط الأسعار، فيتضرر التاجر من تقويم السلع بثمن ما اشتُريت به، وإما أن ترتفع، فتؤخذ الزكاة -على هذا القول- من رأس المال، دون الربح.
والمعهود في الزكاة أنها تؤخذ من رأس المال ونمائه معًا، كما في زكاة المواشي.
ولهذا كان القول الراجح هو ما عليه الجمهور، من تقويم السلعة عند الحول بسعر السوق، والمراد: سعر الجملة؛ لأنه الذي يمكن أن تباع به عند الحاجة بيسر فيما أرى.(1/297)
إلى الأعلى
هل يخرج التاجر زكاته من عَيْن السلعة أم من قيمتها؟
بعد تقويم السلع التجارية، كما ذكرنا، بقي أن نعرف: مم يخرج التاجر زكاته؟ هل يجوز أن يخرجها جزءًا من البضاعة التي عنده، أم يخرجها نقودًا بقيمة الواجب؟
في ذلك عدة أقوال:
فيرى أبو حنيفة والشافعي -في أحد أقواله-: أن التاجر مُخيَّر بين إخراج الزكاة من قيمة السلعة، وبين الإخراج من عَيْنها؛ فإذا كان تاجر ثياب يجوز أن يخرج من الثياب نفسها، كما يجوز أن يُخرج من قيمتها نقودًا؛ وذلك أن السلعة تجب فيها الزكاة فجاز إخراجها من عينها، كسائر الأموال (المغني:3/31).
وهناك قول ثان للشافعي: أنه يجب الإخراج من العين، ولا يجوز من القيمة (الروضة النووي:2/273).
وقال المزني : إن زكاة العروض من أعيانها لا من أثمانها (بداية المجتهد : 2 / 260).
وقال أحمد والشافعي -في القول الآخر- بوجوب إخراج الزكاة من قيمة السلع لا من عينها؛ لأن النصاب في التجارة معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعَيْن في سائر الأموال (المغني:2/31، والروضة -المرجع المذكور).
قال في المغني: ولا نسلِّم أن الزكاة وجبت في المال، وإنما وجبت في قيمته (المغني - المرجع نفسه).
وهذا الرأي الأخير هو الذي أرجحه نظرًا لمصلحة الفقير، فإنه يستطيع بالقيمة أن يشترى ما يلزم له، أما عَيْن السلعة فقد لا تنفعه، فقد يكون في غنى عنها، فيحتاج إلى بيعها بثمن بخس، وهذا الرأي هو المتبع، إذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة وتصرفها؛ لأن ذلك هو الأليق والأيسر.
ويمكن العمل بالرأي الأول في حال واحدة بصفة استثنائية: أن يكون التاجر هو الذي يخرج زكاته بنفسه، ويعلم أن الفقير في حاجة إلى عَيْن السلعة، فقد تحققت منفعته بها، والمسألة دائرة على اعتبار المصلحة وليس فيها نص.(1/298)
وبعد أن رجَّحتُ هذا رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه ما يؤيد هذا الترجيح؛ فقد سئل عن التاجر: هل يجوز أن يخرج قيمة ما وجب عليه من بعض الأصناف عنده؟ فذكر في الجواب عن ذلك أقوالاً:
1- يجوز مطلقًا.
2- لا يجوز مطلقًا.
3- يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة.
قال: وهذا القول هو أعدل الأقوال؛ فإن كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة، فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه، فقد أحسن إليه وأما إذا قوَّم هو الثياب التي عنده وأعطاها، فقد يقوٍّمها بأكثر من السعر، وقد يأخذ الثياب مَن لا يحتاج إليها، بل يبيعها، فيغرم أجرة المنادي (الدلال) وربما خسرت فيكون في ذلك ضرر على الفقراء" (فتاوى ابن تيمية:1/
الفصل الخامس
زكاة الثروة الزراعية
فهرس
ماذا يترك لأرباب الزرع والثمر؟
اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي
زكاة الأرض المستأجرة
اجتماع العشر والخراج
أدلة وجوب الزكاة في الزروع والثمار
الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة
النصاب في زكاة الزروع والثمار
مقدار الواجب وتفاوته
تقدير الواجب بالخرص وما يتعلق به
كان من أجلّ نِعَم الله على الإنسان: أن مهّد له هذه الأرض، وجعلها صالحة للإنبات والإثمار، وأجرى سننه الكونية بذلك، فجعلها المصدر الأول لرزق الإنسان ومعيشته، وقوام بدنه حتى إن بعض الاقتصاديين في الغرب نادوا بفرض ضريبة واحدة على الأرض الزراعية دون غيرها، باعتبارها المصدر الرئيسي لمعيشة البَشر.(1/299)
وهذا لمن تأمل بعين بصيرته محض فضل الله تعالى، فهو الذي سخّرها وجعلها ذلولاً وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها، وجعل فيها معايش لهذا النوع المكرَّم: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف:10) ولو عرفنا شيئًا قليلاً مما تحتاج إليه البذرة من النبات كي تحيى وتنمو وتثمر، من أسباب وشروط ومن سنن وقوانين لعرفنا العجب العجاب من فضل الله علينا وعلى الناس.
ليست كلّ تربة تصلح للإنبات، فلا بدّ من تربة خاصة تحتوي على العناصر اللازمة لتغذية البذرة، فمَن ذا الذي خلق التربة الأرضية مشتملة على العناصر المطلوبة للنبات؟ ولا بدَّ من ماء يسقي البذرة وإلا ماتت فمَن ذا الذي أجرى سنته بإنزال الماء من السحاب أو تفجيره ينابيع في الأرض، وجعله فيها بقدر، حتى لا يغرق الخلق ويهلك الحرث والنسل؟
ولا بد من غاز يستنشقه النبات، فمن ذا الذي أودع هذا الغاز في الهواء؟ أو من الذي علَّم النبات أن يستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي يلفظه الإنسان والحيوان؛ ليقوم بين المملكة الحيوانية والمملكة النباتية هذا التبادل الرائع الفريد؟!
ولا بد للنبات من ضوء وحرارة معينة، لو زادت كثيرًا لاحترق، ولو نقصت كثيرًا لذوى وهلك، وما وُجدت حياة نباتية ولا غيرها، فمن الذي خلق الشمس وسخرها، وأودع فيها هذه الخصوصية وجعلها على هذه المسافة المعينة من الأرض، بحيث لا تهلك الكائنات الحية عليها من البرودة المفرطة إذا بعدت، أو الحرارة المفرطة إذا قربت؟ (راجع في هذا الكتاب القيم: "العلم يدعو إلى الإيمان" ترجمة محمود صالح الفلكي).
ثم من الذي جعل في البذرة الساكنة الجافة قابلية الحياة والنمو والتكاثر؛ بحيث تصبح النواة نخلة باسقة طلعها نضيد، وتنبت حبة القمح سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؟(1/300)
إنه الله تعالى هو الذي صنع هذا كله وقدَّره فأحسن التقدير، ودبّره فأتقن التدبير، ولا غرو أن امتن بذلك على عباده في آيات كثيرة من كتابه، ورد الفضل فيه إلى أهله، مثل قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون؟ ءأنتم تزرعونه أم نحن الزَّارعون؟! لو نشاء لجعلناه حطامًا فظللتم تفكَّهون إنَّا لمغرمون بل نحن محرومون) (الواقعة:63-67).
وقوله تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين، وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم، وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) (الحجر:19-22).
وقوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنَّا صببنا الماء صبًا، ثم شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا، متاعًا لكم ولأنعامكم) (عبس:24-32).
وقوله تعالى: (وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمرهِ وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون) (يس:33-35).
أجل ..إن ما تخرجه الأرض من زرع وثمر إنما هو من فضل الله ومن عمل يده سبحانه لا من عمل أيدينا القاصرة، هو الزارع المنبت حقيقة لا نحن الزارعون فلا عجب أن يطالبنا سبحانه بالشكر على هذه النعمة السابغة التي جاءتنا عفوًا صفواَ، وأكلنا منها هنيئًا مريئًا (ليأكلوا من ثمرهِ وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون)؟(1/301)
أجل ..(أفلا يشكرون؟) وأول مظاهر هذا الشكر: هو أداء الزكاة مما خرج منها وفاءً ببعض حقه سبحانه، ومواساة للمحتاجين من خلقه، وإسهامًا في نصرة دينه، وهذه الزكاة هي المعروفة في الفقه الإسلامي باسم "العُشر" (وهو الشائع عند الحنفية، ومن الغريب أن بعضهم زعم أن تسميته زكاة مجاز، أو على قول الصاحبين، لاشتراطهما النصاب والبقاء بخلاف قول الإمام، قال المحقق ابن الهمام: وليس بشيء، إذ لا شك أنه زكاة حتى يُصرف مصارفها، غاية ما في الباب: أنهم اختلفوا في إثبات بعض شروط لبعض أنواع الزكاة ونفيها، وهذا لا يُخرجه عن كونه زكاة ...فتح القدير:2/2) أو زكاة "الزروع والثمار" أو زكاة "المعشرات".
وهذه الزكاة تمتاز عن زكاة الأموال الأخرى من مواش ونقود وعروض تجارة، بأنها لا يُشترط فيها حولان الحول، بل تجب بمجرد الحصول عليها، إذ هي نماء الأرض وغلتها، فحيث وُجِدت تحقق النماء الذي هو عِلة وجوب الزكاة، فهي -بتعبير العصر- ضريبة على الإنتاج والريع الناتج من استغلال الأرض.
أما الزكاة في الأموال السالفة فهي ضريبة على رأس المال نفسه، نما أم لم ينم.
وسنفصِّل أحكام هذا الفصل في المباحث التالية:
المبحث الأول: أدلة وجوب الزكاة في الزروع والثمار.
المبحث الثاني: الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة.
المبحث الثالث: اعتبار النصاب وما يتعلق به.
المبحث الرابع: مقدار الواجب وتفاوته.
المبحث الخامس: تقدير الواجب بالخرص وما يتعلق به.
المبحث السادس: ماذا يُترك لأرباب الزرع والثمر؟
المبحث السابع: اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي.
المبحث الثامن: زكاة الأرض المستأجرة.
المبحث التاسع: اجتماع العُشر والخراج
المبحث الأول
وجوب الزكاة في الزروع والثمار
فهرس
ثالثا: من الإجماع
أولا: من القرآن
ثانيا: من السنة
أولاً - من القرآن(1/302)
(أ) أما الكتاب فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تُغمضوا فيه) (البقرة:267) والأمر بالإنفاق للوجوب، وقد جعله الله تعالى من مقتضى الإيمان، والقرآن كثيرًا ما يعبر عن الزكاة بالإنفاق، قال الجصاص: قوله تعالى: (أنفقوا) المراد به: الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) يعنى: تتصدقون، ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة (أحكام القرآن للجصاص:1/543).
(ب) وقال تعالى: (وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشات وغير معروشات (الجنات: البساتين، ومعروشات: ما عرش الناس من الكروم، وغير معروشات: غير مرفوعات، مبنيات: لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه -الطبري:12 / 156 - طبع المعارف) والنَّخل والزرع مختلفًا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابهْ، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام:141).
ذهب كثير من السلف إلى أن المراد بـ "الحق" هنا هو الزكاة المفروضة العُشر أو نصف العُشر.
روى أبو جعفر الطبري بسنده عن أنس بن مالك في تفسير الآية قال: الزكاة المفروضة.
وعن ابن عباس من أكثر من طريق قال: العُشر ونصف العُشر، وفي رواية عنه قال: يعني بحقه: زكاته المفروضة، يوم يُكال ويُعلم كيله.
وروى أيضًا عن جابر بن زيد والحسن وسعيد بن المسيب ومحمد ابن الحنفية وطاووس وقتادة والضحاك: أنه الزكاة أو الصدقة المفروضة أو العُشر ونصف العشر (تفسير الطبري:12/158-161) تختلف العبارات والمقصود واحد.
قال القرطبي: ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي (القرطبي:7/99) وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة وأصحابه (بدائع الصنائع:2/53).(1/303)
وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تُفرض عليهم الصدقة المؤقتة (المحددة)، ثم نسخته الصدقة المعلومة: العُشر أو نصف العُشر.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: نسخها العُشر ونصف العُشر.
وروى مثله عن محمد ابن الحنفية عن إبراهيم النخعي، وفي رواية عن إبراهيم قال: "هذه السورة مكية، نسخها العُشر ونصف العُشر".
وعن سعيد بن جبير قال: هذا قبل الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسختها.
وعن الحسن قال: نسختها الزكاة.
وعن السدي: كانوا إذا مر بهم أحد يوم الحصاد أو الجذاذ، أطعموه منه، فنسخها الله عنهم بالزكاة، وكان فيما أنبتت الأرض العُشر ونصف العُشر.
ونحوه عن عطية العوْفي (تفسير الطبري:12/168-170).
ذكر ابن جرير هذه الآثار، ورجح بعدها القول بأن الآية منسوخة، مؤيدًا ذلك بأن الزكاة المفروضة في الحب لا يُمكن إيتاؤها يوم الحصاد، بل بعد الدياس والتذرية والتنقية.
وكذلك صدقة الثمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف، كما أن قوله تعالى في الآية: (وَلا تُسرفوا) (الأنعام:141) لا وجه له إذا فُسِّر الحق بالعُشر ونصفه، لأنه مقدار محدد يتولى أخذه ولاة الأمر، فكيف ينهى رب المال عن الإسراف (تفسير الطبري:12/170-173) فهذا الحق إذن حق آخر غير الزكاة، وإذا لم يكن في المال حق سوى الزكاة، فهذا الحق منسوخ، فإنها نسخت كل حق سابق في المال.
والغريب من شيخ المفسرين ابن جرير أن يختار القول بأن الآية منسوخة، مع تحريه في قبول النسخ، ورده على كثير من دعاوى النسخ في آيات أُخر، مع أن النسخ لا يُلجأ إليه إلا عند التعارض التام بين نصين، بحيث يستحيل إعمال كل منهما، فهل العلاقة بين قوله تعالى: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، والأحاديث الصحيحة التي فرضت العُشر أو نصفه - علاقة التضاد والتعارض التام؟ أم هي علاقة المجمل بالمفصَّل؟ والمبهم بالمفسَّر؟(1/304)
إن الاحتمال الأخير هو الظاهر بوضوح لكل من تأمل العلاقة بين النصوص، وينبغي ألا يغرنا ما ذكره الطبري من الآثار عن ابن عباس وغيره من السلف: أن الحق المأمور به في الآية نسخه العُشر والزكاة المعلومة، فمن المعلوم أن النسخ في اصطلاح المتأخرين -بمعنى رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر- أخص من النسخ في عُرف الصحابة والتابعين وأتباعهم، فقد كان يدخل فيه ما سمى فيما بعد: تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتفسير المبهم، وتفصيل المجمل ونحوها.
قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات: "الذي يظهر من كلام المتقدمين: أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخًا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد" (الموافقات:3/75).
وقال المحقق ابن القيم: "ومراد عامة السف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على اصطلاح الحادث المتأخر" (إعلام الموقعين:1/28،29-طبع المنيرية).
وقد أحسن ابن كثير حين عقب على القول بالنسخ في هذه الآية فقال: "وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة والله أعلم" (ابن كثير:2/182).(1/305)
وبهذا يظهر لنا: أن الآثار التي ذكرت أن الحق في الآية منسوخ بالعُشر لا تعارض الرأي الأول الذي يقول: إن المراد بالحق في الآية هو العُشر.
وبه نفهم كيف روى كلا القولين عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن؛ لأن الظاهر من تفسيرهم الحق: بالعُشر أو نصفه - مع علمهم بأن السورة مكية - أنهم يعنون: أن الإجمال فيه بُيِّن بعد الهجرة بالمقادير التي بينتها الزكاة، كأمثالها من الآيات المكية، التي ورد فيها وصف المؤمنين بإيتاء الزكاة، مع أنها لم تكن حددت وبينت بعد.
وما قيل من أن الزكاة لا يتيسر إيتاؤها يوم الحصاد، فهذا صحيح في بعض المزروعات كالقمح، أما الخضراوات والفاكهة كالعنب والرطب والزيتون والرمان - وهي الأربعة التي ذكرها الله في الآية مع الزرع - فيمكن تزكيتها يوم الحصاد، أي يوم القطع والجني.
وأول بعض العلماء إيتاء الحق بمعنى العزم عليه (انظر تفسير الفتوحات الإلهية - حاشية الجمل:2/99- طبع عيسى الحلبي).
أما النهي عن الإسراف، فيمكن صرفه إلى الأكل في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) (الأنعام:141).
إلى الأعلى
ثانيًا - من السُنَّة
وأما السنة:
(أ) فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا: العُشر، وفيما سقى بالنضح : نصف العشر" (قال في المنتقى: رواه الجماعة إلا مسلمًا، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه: "أو كان بعلاً" بدل "عثريًا" ..نيل الأوطار:4/139، 140- طبع العثمانية).
والمراد بالعثريِّ: ما يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي.
(ب) وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سُقي بالساقية نصف العشور" (رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: الأنهار والعيون - المصدر نفسه).
(جـ) وجاءت أحاديث أخرى في تحديد نصاب الزروع والثمار، وفي بعث السعاة وغير ذلك.
إلى الأعلى
ثالثًا - الإجماع(1/306)
وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على: وجوب العُشر أو نصفه فيما أخرجته الأرض في الجملة، وإن اختلفوا في التفاصيل (بدائع الصنائع:2/54).
المبحث الثاني
الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة
فهرس
مذهب أبى حنيفة
تعقيب وترجيح
مذهب ابن عمر وطائفة من السلف
مذهب مالك والشافعي
مذهب أحمد
وإذا كانت زكاة الخارج من الأرض من زرع وثمر ثابتة -في الجملة- بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول -كما قرر العلماء- فأي هذه الحاصلات الزراعية يجب فيها الزكاة المعلومة - العُشر أو نصفه؟ أتجب في كل ما يخرج من الأرض أم في بعضه؟ وما هذا البعض؟ وما وجه تخصيصه؟
اختلفت المذاهب في الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة :
1- مذهب ابن عمر وطائفة من السلف: "وجوب الزكاة في الأقوات الأربعة خاصة"
ذهب ابن عمر وبعض التابعين ومن بعدهم: أن لا زكاة في شيء من الحبوب غير الحنطة والشعير، ولا شيء في ثمار الفاكهة إلا في التمر والزبيب.
وهو رواية عن أحمد، وموسى بن طلحة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، وأبي عبيد (المحلي: 5/209 وما بعدها) ووافقهم إبراهيم وزاد: "الذرة" (المغني: 2/691).
واحتج أصحاب هذا القول:
(1) بما روى ابن ماجة والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: "إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وزاد ابن ماجه: "الذرة" (قال الشوكاني: في إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك - نيل الأوطار:4/143).(1/307)
(2) وبما روى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن - يُعلِّمان الناس أمر دينهم - فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب (قال الحافظ: رواه الطبراني والحاكم (بلوغ المرام ص122)، وقال في التلخيص (ص179): قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل، وقال في الدراية ص174: في الإسناد يحيى بن طلحة، مختلف فيه، وهو أمثل ما في الباب- قال في المرعاة 3/39: وفيه أيضًا: أنه اختلف في رفعه ووقفه، وانظر: الخراج ليحيى بن آدم ص2153، والسنن الكبرى: 4/152، ونصب الراية: 2/319، والمحلي: 5/221) ولأن غير هذه الأربعة لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها، فيبقى على الأصل.
إلى الأعلى
2- مذهب مالك والشافعي "الزكاة في كل ما يقتات ويدخر"
وذهب مالك والشافعي إلى أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر، وييبس من الحبوب والثمار، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز وما أشبه ذلك، والمراد بالمقتات: ما يتخذه الناس قوتًا يعيشون به في حال الاختيار، لا في الضرورة، فلا زكاة عند المالكية والشافعية في الجوز واللوز والبندق والفستق وما كان مثلها وإن كان ذلك مما يدخر، لأنه ليس مما يقتات الناس به، وكذلك لا زكاة في التفاح والرمان ولا في الكمثرى والخوخ والبرقوق ونحها لأنها مما ييبس ولا يدخر.
واختلف المالكية في التين، فذهب جماعة منهم إلى أن لا زكاة في التين، وذلك أن مالكًا قال في الموطأ: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك (الفرسك - بكسر الفاء والسين: الخوخ، أو ضرب منه أحمر) والتين، وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه" (الموطأ: 1/276- باب "ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول").(1/308)
قال أبو عمر ابن عبد البر: "فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه -والله أعلم- لم يعلم بأنه ييبس ويُدخر ويُقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان، وقد بلغني عن الأبهرى وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، يرونه مذهب مالك على أصوله عندهم" (نقل هذه الأقوال القرطبي في تفسيره: 7/103).
وذكر الخرشي في شرحه على متن "خليل": أن الزكاة تجب في عشرين نوعًا: القطاني السبعة: الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجلبان والبسيلة، وأيضًا القمح والشعير والسلت والعدس والأرز والذرة والدخن والزبيب والتمر؛ وأيضًا الأربعة ذوات الزيوت وهي: الزيتون والجلجلان -أي السمسم- وحب الفجل (أي الأحمر) والقرطم، فلا تجب في التين -على المعتمد- ولا في قصب ولا فاكهة ولا في حب الفجل (أي الأبيض) والعصفر والكتان، ولا في التوابل ونحو ذلك (شرح الخرشي على خليل مع حاشية العدوي: 2/168).
قال القرطبي: "وقال الشافعي: لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما، وكانا قوتًا بالحجاز يدخر.
قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتًا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة.
قال الشافعي: ولا زكاة في الزيتون لقوله تعالى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) (الأنعام:141) فقرنه مع الرمان ولا زكاة فيه.
هذا قول الشافعي بمصر، وله قول بالعراق: أن فيه الزكاة" (انظر تفسير القرطبي:7/103).
ولم يختلف قول مالك في الزيتون -يعني أن فيه الزكاة- فقد ذكر في الموطأ أنه سأل ابن شهاب عن الزيتون، قال القرطبي: فقال: فيه العُشر (الموطأ:1/272: وقال مالك: إنما يؤخذ من الزيتون العُشر بعد أن يُعصر، ويبلغ زيته خمسة أوسق - المرجع نفسه).(1/309)
ويدل هذا على: أن الآية عندهما محكمة غير منسوخة، واتفقا جميعًا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه (تفسير القرطبي:7/103).
واستدل صاحب المهذب وشارحه لمذهب الشافعي بأمرين:
الأول: حديث معاذ بن جبل، وفيه: "فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه البيهقي في السنن الكبرى)، وروى جملة أحاديث ثم قال: هذه الأحاديث كلها مراسيل، إلا أنها من طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضًا، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم، ثم روي عن عليّ وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
الثاني: أن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية (المهذب مع المجموع:5/493).
وكلا الدليلين لا يكفي لمقاومة عموم القرآن والسنة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض وما سقت السماء، وبحث بعض المالكية في ثمن ما يباع من غلة البساتين التي تتخذ للغلة مما لا زكاة فيه عندهم كالتفاح ونحوه، فأشار إلى خلاف فيه هل يستقبل صاحبه بالثمن حولاً أم يعامله كعروض المحتكر، فيزكي كل ما يبيعه منها في الحال؟ لم يفصل القول في ذلك في شرح الرسالة، وأحاله على المطولات (شرح الرسالة لزروق:1/329).
إلى الأعلى
3- مذهب أحمد: "في كل ما ييبس ويبقى ويكال"(1/310)
ونقل عن أحمد عدة أقوال: أظهرها وأشهرها ما ذكره في المغني (الجزء الثاني: ص690-692) أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف: الكيل والبقاء واليبس - من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه: سواء أكان قوتًا كالحنطة والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن، أو من القطنيات كالباقلاء (الفول) والعدس، والماش، والحمص، أو من الأبازير: كالأكسفرة والكمون والكراويا، أو البذور: كبذر الكتان والقثاء والخيار، أو من حب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم، والترمس والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضًا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار: كالتمر والزبيب والمشمش -أي المجفف- واللوز والفستق والبندق.
ولا زكاة في سائر الفواكه: كالخوخ والكمثرى والتفاح والمشمش.
ولا في الخضر: كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر، وبهذا قال عطاء في الحبوب كلها، ونحوه قول أبي يوسف ومحمد" اهـ.
فلم يشترط أحمد الإنبات كما اشترطه المذهب السابق.
والدليل على هذا القول: أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "فيما سقت السماء العُشر"، وقوله لمعاذ: "خذ الحب من الحب" (جزء من حديث رواه أبو داود وابن ماجه كما في المنتقى، وقال الشوكاني: صححه الحاكم على شرطهما، وفي إسناده عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه -نيل الأوطار: 4/152) يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله اللفظ، خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : "وليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" (انظر: نصب الراية: 2/384 الحديث 38) (رواه مسلم والنسائي)، فدل هذا الحديث: على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه، أي لا كيل، وأما فيما هو مكيل فيبقى على العموم (المغني:2/692).
إلى الأعلى
4- مذهب أبي حنيفة: "في كل ما أخرجت الأرض الزكاة"(1/311)
وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة -العُشر أو نصفه- في كل ما أخرج الله من الأرض، مما يُقصد بزراعته نماء الأرض، وتُستغل به عادة، ولهذا استثنى الحطب والحشيش والقصب الفارسي؛ لأنها مما لا يستنبته الناس في العادة في الأرض، بل تنفي عنها، حتى لو اتخذ أرضه مقصبة أو مشجرة أو منبتًا للحشيش يجب فيها العُشر (الهداية - مع الفتح -: 2/2-5، وذكر في الفتح ص2: أنه لا شيء في الأدوية، ولا فيما يخرج من الأشجار كالصمغ والقطران، ولكن ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يصبح ثروة تطلب وتقصد، فقد تزرع بعض النباتات للأدوية، وقد تستغل بعض الأشجار للصمغ، فيجب أن تدخل حينئذ في العموم).
فلم يشترط أن يكون الخارج من الأقوات، ولا أن يكون مما ييبس ويدخر ولا أن يكون مما يكال، ولا أن يكون مأكولاً.
ولذلك قال داود الظاهري وأصحابه -ما عدا ابن حزم- إن في كل ما أنبتت الأرض: الزكاة، ولا يستثنون شيئًا، وهو قول النخعي -في إحدى الروايتين- وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وحماد بن أبي سليمان (المحلي: 5/212،213).
وخالف أبا حنيفة صاحباه -أبو يوسف ومحمد- فيما ليس له ثمرة باقية (وهو ما يبقى سنة بلا علاج غالبًا، والعلاج: الحاجة إلى التقليب أو التعليق ..انتهى ملخصًا من فتح القدير: 2/2) وهي الخضراوات كالبقول والرطاب والخيار والقثاء ونحوها.
وعلى مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: يجب إخراج الزكاة من قصب السكر والزعفران والقطن والكتان وما شابهها، وإن لم تكن مما يقتات أو يؤكل.
وعلى قول أبي حنيفة يجب إخراج العُشر من الفواكه جميعها: كالتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والتين والمانجو وغيرها، سواء أكانت تجفف وتيبس أم لا؛ ويجب إخراج العُشر عنده من الخضراوات جميعًا كالخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان والجزر واللفت والفجل وغيرها.
وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه:(1/312)
أولاً: عموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة:267) ولم يُفرِّق بين مخرج ومخرج (قال الفخر الرازي في تفسير الآية (7/65): ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة -رحمه الله- واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدًا، إلا أن مخالفيه خصصوا عموم هذه الآية بقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس في الخضراوات صدقة" أ هـ.
أقول: ولكن الحديث -كما سيأتي- ليس من الصحة بحيث يخصص عموم الآية، فبقي استدلال أبي حنيفة ظاهرًا جدًّا كما قال).
ثانيًا: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام:141) وذلك بعد ذكر أنواع المأكولات -من الجنات- معروشات وغير معروشات - والنخل والزرع، والزيتون والرمان، وأحق ما يحمل الحق عليه الخضراوات؛ لأنها هي التي يتيسر إيتاء الحق منها يوم القطع، وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها إلى يوم التنقية (بدائع الصنائع:2/59).
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقِى بالنضح نصف العشر" من غير فصل بين ما يبقى وما لا يبقى، وما يؤكل وما لا يؤكل، وما يُقتات وما لا يُقتات.
إلى الأعلى
تعقيب وترجيح(1/313)
وأولى هذه المذاهب بالترجيح هو مذهب أبي حنيفة الذي هو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد وحماد وداود والنخعي: أن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة (لا أكاد أجد فرقًا في الواقع بين قول أبي حنيفة وقول من ذكرنا؛ لأن استثناء أبي حنيفة للحطب والقصب والحشيش لا يخرجه عن القول بعموم الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، لأن المقصود بما يخرج منها ما يزرع ويستنبت فيها، وإن كان ثمة فرق فليس له أثر يذكر) فهو الذي يعضده عموم النصوص من القرآن والسنة، وهو الموافق لحكمة تشريع الزكاة، فليس من الحكمة - فيما يبدو لنا - أن يفرض الشارع الزكاة على زارع الشعير والقمح، ويعفى صاحب البساتين من البرتقال أو "المانجو" أو التفاح، أما أحاديث حصر الصدقة في الأقوات الأربعة، فلم يسلم فيها حديث من طعن (انظر: المراعاة على المشكاة:3/39) إما بالانقطاع أو ضعف بعض الرواة -أو وقف ما ادعى رفعه- وعلى فرض التسليم بصحتها فقد تأولها ابن الملك وغيره من العلماء بأنه لم يكن ثمة غير الأربعة (انظر: المرقاة:4/153) أو يُحمل الحصر على أنه إضافي لا حقيقي، ولهذا لم يأخذ به أحد من أصحاب المذاهب المتبوعة.
والعجيب أن العلاَّمة السيد رشيد رضا أيد هذا المذهب المضيق! وأضاف إلى الأربعة: "الذرة"، كما في بعض الروايات، وقال: إن صح أن يقاس عليها شيء فالأرز، ولا سيما عند من هو قوتهم الغالب، قاله تعليقًا على كتاب المغني (انظر: المغني المطبوع مع الشرح الكبير:2/551) هذا مع أن الاعتبار الذي استند إليه في إيجاب الزكاة في الثروة التجارية، ونقلناه عنه هناك، وارد هنا أيضًا في الثروة الزراعية، وربما كانت نعمة الله في إخراج الزرع والثمر من الأرض: أظهر منها في أي مال آخر، ولهذا جاء الأمر بإيتاء حق الزرع يوم الحصاد منذ العهد المكي، وإن لم يبين مقدار هذا الحق ونصابه إلا في المدينة.(1/314)
ولعل عذر السيد أنه عرض للموضوع بسرعة في تعليق خفيف عاجل بمناسبة طبع الكتاب، ولم يكن قصده تحقيق المسألة، ومهما يكن السبب فكل عالم يؤخذ منه ويُترك.
وقد أيَّد "ابن العربي" الفقيه المالكي: مذهب أبي حنيفة في "أحكام القرآن" .(أحكام القرآن - القسم الثاني: ص755-764 طـ دار المعرفة بيروت).
وفي شرح الترمذي قال: "وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث" .(شرح الترمذي:3/135).
وفي تفسير آية: (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام:141) أطال القول في تأييد مذهب أبي حنيفة والرد على المذاهب الأخرى.
قال: أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، فأوجبها في المأكول قوتًا كان أو غيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله: "وفيما سقت السماء العُشر".
فأما قول أحمد: إنه فيما يوسق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق" ..الحديث، فضعيف، لأن الذي يقتضيه طاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرًا في الثمر والحب، فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام، وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية) فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه، وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب "القياس".
"فكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة، وأوجب الحق فيها كلها، فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل، وفيما تنوع جنسه كالزرع، وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر، إلى استيفاء النعم في الظلم"؟
فإن قيل: إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم، فأما في الخضر فلا بقاء لها، ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها، وإنما أخذت من يابسها.(1/315)
قلنا: إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه، واليبس انتهاء اليابس، والطيب انتهاء الأخضر، ولذلك إذا كان الرطب لا يتمر، والعنب لا يتزبب، تؤخذ الزكاة منهما على حالهما،ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلاً في اللذة، وركنًا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة، ألا تراه وصف جمالها ولذتها فقال: (فيهما فاكهة ونخلٌ ورُمَّانٌ) .(الرحمن:68) فذكر النخل أصلاً في المقتات، والرمان أصلاً في الخضراوات، أو لا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله: (أنَّا صببنا الماء صبًا، ثُمَّ شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا) (عبس:25-31).
ثم قال ابن العربي:
فإن قيل: فلم لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر؟
قلنا: كذلك عول علماؤنا، وتحقيقه: أنه عدم دليل لا وجود دليل.
فإن قيل: لو أخذها لنقل.
قلنا: وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه" أ هـ.
وأما الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضراوات صدقة" فضعيف الإسناد لا يُحتج بمثله .(انظر تعليق الحافظ في التلخيص ص179، وفتح القدير لابن الهمام: 2/3- طبع مصطفى محمد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/68-69 عن طلحة مرفوعًا، وقال: "زاده الطبراني في الأوسط والبتراء، وفيه الحارث بن نبهان، وهو متروك، وقد وثقه ابن عدي") فضلاً عن أن يُخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة.
وقد رواه الترمذي ثم قال: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، فلا يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .(كتاب الزكاة - باب "ما جاء في زكاة الخضراوات"، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي ص132،133).(1/316)
على أن للحديث محملاً عند فقهاء الحنفية -على فرض صحته- ومعناه: أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بواسطة العمال والجباة، بل أربابها هم الذين يؤدونها بأنفسهم .(بدائع الصنائع: 2/59) وذلك لأن الخضراوات لا بقاء لها، فيسرع إليها التلف قبل أن تصل إلى المستحقين.
ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى أخذ الزكاة من أثمان الخضراوات لا من عينها، روى ذلك يحيى بن آدم في "خراجه" عن الزهري قال:.
"ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت (السلت: نوع من الشعير لا قشر له يتزودون به في الصيف) والزيتون، فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه" .(الخراج اليحيى بن آدم ص145- طبع السلفية).
وروى أبو عبيد هذا القول عن ميمون بن مهران -مع الزهري- ثم قال: وأظن الأوزاعي ثالثهما .(الأموال ص504) إلا أن الزهري جعل صدقتها صدقة النقدين، وكذلك ميمون بن مهران قال: ليس لها زكاة حتى تباع، فإذا بيعت فبلغت مائتي درهم فإن فيها خمسة دراهم .(الأموال ص 504).
وكذلك إذا كانت الثمار رطبًا لا يكون منه تمر، أو كانت عنبًا لا يكون منه زبيب، فإنه يحكى عن مالك -فيما ذكر أبو عبيد- أنه قال: "إذا بلغ خرصه (تقديره بالتقريب) خمسة أوسق كان في ثمنه إذا بيع، في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وكذلك الزيتون الذي لا يكون منه الزيت صدقته على هذا، غير أنه لا يخرص إنما هو إلى ما يرفعه أهله .(المصدر السابق ص496).
وقد أحسن هؤلاء الأئمة إذ أوجبوا الزكاة في أثمان الخضراوات والفواكه التي لا يمكن أن تؤخذ وتحفظ في بيت المال، بل يسرع إليها التلف والفساد، ولكني أخالفهم في مقدار الواجب هنا، فلا يصح أن يكون ربع العشر، كما في زكاة النقدين، بل الواجب أن يكون العشر أو نصفه، لأنه بدل عن الخارج من الأرض، فيأخذ حكمه، ويقدر بقدره، فإن للبدل حكم المبدل.(1/317)
وهذا ما يفهم من الروايات التي أطلقت أن فيها الزكاة بلا تحديد، وقد جاء عن الشعبي فيمن باع كرمه عنبًا، قال: يخرج من ثمنه العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ليحيى بن آدم ص152).
وقال ابن أبي زيد في "الرسالة": ويُزكي الزيتون، إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته، فإذا باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله.
وقال ابن ناجي في شرحه: وهذا القول مروي عن مالك، قال: يخرج عُشر الثمن، قال: والمشهور من المذهب: أن الزيتون الذي له زيت إنما يخرج عنه الزيت فقط وما لا زيت له يخرج من ثمنه" اهـ .(انظر الرسالة وشرحها لابن ناجي:1/320-321).
المبحث الثالث
النصاب في زكاة الزروع والثمار
فهرس
هل يمكن التوفيق بين القولين؟
النتيجة
نصاب الحبوب والثمار بالمقاييس العصرية
نصاب غير المكيلات
الرأي الذي نختار
متى يعتبر النصاب؟
مذاهب العلماء في اعتبار النصاب
تعقيب وترجيح
نصاب الحبوب والثمار
مقدار الصاع
اختلاف أهل الحجاز والعراق في الصاع
دليل فقهاء العراق
دليل فقهاء الحجاز
مذاهب العلماء في اعتبار النصاب
جمهور علماء الأمة من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم بعدهم على أن: الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى يبلغ خمسة أوسق .(المغنى: 2/695)، مستدلين بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة "، وهو حديث صحيح متفق عليه .(قال في المنتقى: رواه الجماعة من حديث أبى سعيد).
وذهب أبو حنيفة إلى أن الزكاة تجب في قليل ذلك وكثيره، لعموم قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العُشر" وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، ولأنه لا يعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب .(المغنى: 2/695).
وهو قول إبراهيم النخعي -فيما رواه عنه يحيى بن آدم-: في كل قليل أو كثير من الأرض صدقة: العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ص144).
وروى عن عطاء مثله.(1/318)
وعن أبى رجاء العطاردي قال: كان ابن عباس بالبصرة يأخذ صدقاتها حتى "دساتج" الكراث .(المرجع السابق ص145 وفيه ضعف).
قال ابن حزم: وعن مجاهد وحماد بن أبى سليمان، وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي، إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، قل أو كثر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبى سليمان في غاية الصحة .(المحلى: 5/112).
فعن عمر بن عبد العزيز قال: في عشر "دستجات" بقل، دستجة .(المرجع السابق ص113، وانظر فتح القدير: 2/3 - طبع مصطفى محمد) (حزمة).
وقال داود الظاهري: ما كان يحتمل التوسيق (الكيل) فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وما كان لا يحتمل التوسيق - مثل القطن والزعفران وسائر الخضراوات - فالزكاة في قليله وكثيره (المرجع نفسه ص241.
وهو نوع من التوفيق بين عموم حديث: "فيما سقت السماء العُشر"، وخصوص حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" نيل الأوطار: 4/151.
وحكى صاحب "البحر" عن الباقر والناصر مذهبًا آخر: أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب، والبر والشعير، إذ هي المعتادة، فانصرف إليها (البحر الزخار:2/169).
قال الشوكاني: وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل (الجزء الرابع ص151).
إلى الأعلى
تعقيب وترجيح
وإذا كنا رجحنا قول أبى حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، فإننا نخالفه في عدم اعتبار النصاب، وإيجاب العُشر في القليل والكثير من الزرع والثمر، فإن هذا مخالف للحديث الصحيح الذي نفى وجوب الزكاة عما دون خمسة أوسق، ومخالف لنظرية الشريعة -بصفة عامة- في إيجاب الزكاة على الأغنياء وحدهم، والنصاب هو الحد الأدنى للغنى، ولهذا اعتبر النصاب في سائر الأموال الزكوية.
ولا يجوز معارضة حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " بحديث: "فيما سقت السماء العُشر" بدعوى أن هذا عام، وقد عارضه ذلك الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدِّم الأحوط، وهو الوجوب.(1/319)
نعم ..لا يقال ذلك، بل يقال ما قاله ابن القيم في هذا الموضع:
يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر، ولا إلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرض في هذا وفى هذا، ولا تعارض بينهما -بحمد الله تعالى- بوجه من الوجوه، فإن قوله: "فيما سقت السماء العُشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العُشر، وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم، الذي لا يحتمل غير ما أول عليه البتة، إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصصها من النصوص"؟ .(إعلام الموقعين:3/229، 230).
وقال ابن قدامة:لنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (متفق عليه)، وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به، كما خصصنا قوله: "في كل سائمة من الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وقوله: "في الرقة ربع العُشر" بقوله:"ليس فيما دون خمس أواق صدقة" ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الأموال الزكوية.
" وإنما لم يعتبر الحَوْل، لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحَوْل في غيره، لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حدًا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه.
" يحققه: أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدن النصاب كسائر الأموال الزكوية " .(المغنى: 2/695،696).
إلى الأعلى
نصاب الحبوب والثمار(1/320)
جاءت الأحاديث الصحيحة بتقدير النصاب في الحبوب والثمار بخمسة أوسق، وأجمع العلماء أن الوسق ستون صاعًا، فالأوسق الخمسة ثلاثمائة صاع، وقد روى في ذلك حديث مرفوع: "الوسق ستون صاعًا"، ولكن الحديث ضعيف. (رواه ابن ماجة عن جابر وإسناده ضعيف، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق أبى البختري عن أبى سعيد مرفوعًا، وهو منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من أبى سعيد كما قال البخاري، بل لم يدركه كما قال أبو حاتم، ورواه الدارقطني عن عائشة، وهو ضعيف أيضًا، وقد بين الحافظ ضعفه من كل طرقه في التلخيص ص180 - طبع الهند)، والاعتماد في هذا التقدير على الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره .(انظر المجموع: 5/447).
إلى الأعلى
مقدار الصاع
إن معرفة الصاع أمر لازم لمعرفة نصاب الزرع والثمر، لأنه مقدر بالأوسق، والوسق مقدر بالصاع، كما أن زكاة الواجبة الفطر في كل عام مقدرة بالصاع أيضًا .(يحتاج إلى الصاع أيضًا في كفارة اليمين وفي فدية النسك)، فما هذا الصاع؟ وما مقداره؟
الصاع -كما في لسان العرب- مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد .(رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن سفينة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الترمذي: وفى الباب عن عائشة وجابر وأنس -انظر سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر: 1/84)، وصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أمداد بمدهم المعروف عندهم.
والمد أيضًا مكيال، وقدروه بملء كفى الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدَّ يده بهما، وبه سمى مدًا، قال صاحب القاموس: وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا.(1/321)
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة أن ترجع في مكاييلها إلى ما تعارف عليه أهل المدينة، وفى موازينها -كالدرهم والمثقال- إلى ما تعارف عليه أهل مكة، وفى هذا روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة" .(قال الحافظ في التلخيص ص183: رواه البزار واستغربه، وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري) وحكمة هذا التفريق -كما ذكرنا من قبل- أن أهل المدينة أهل زروع وثمار، فحاجتهم إلى المكاييل أكثر، وهى عندهم أدق وأضبط، أما أهل مكة فهم أهل تجارة، فتكون حاجتهم إلى الموازين -كالدينار والدرهم- أكثر، وبالتالي تكون عندهم أدق وأضبط.
إلى الأعلى
اختلاف أهل الحجاز والعراق في الصاع
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جعل مكيال أهل المدينة هو المقياس الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، فكان المتوقع أن يتفق المسلمون على مقدار الصاع وهو مكيال مدنى، ولكنهم اختلفوا في تقديره.
فأهل العراق -أبو حنيفة ومن وافقه- يقدرونه بثمانية أرطال (بالرطل البغدادي).
وأهل الحجاز -مالك والشافعي وأحمد وغيرهم- يقدرونه بخمسة أرطال وثلث رطل بغدادي.
إلى الأعلى
دليل فقهاء العراق
وسند فقهاء العراق فيما قالوه: أن هذا قدر صاع عمر رضى الله عنه، فقد ثبت أنه ثمانية أرطال (بدائع الصنائع: 2/73)، وأيضًا صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع .(مر تخريجه قريبًا)، وجاء في حديث آخر أنه كان يغتسل بثمانية أرطال (ذكر هذه الأحاديث في الأموال: ص514 - 516، وبين أبو عبيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ أحيانًا بقدر الصاع، وأحيانًا بثمانية أرطال، وأحيانًا يتوضأ بالمد، وأخرى برطلين، فالأحاديث تحكى عن أحوال متعددة لا عن حال واحدة).
إلى الأعلى
دليل فقهاء الحجاز(1/322)
وحجة فقهاء الحجاز أن الخمسة الأرطال والثلث هي قدر صاع المدينة الذي توارثه أهلها خلفًا عن سلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمكيال مكيالهم، كما جاء في الحديث.
قال ابن حزم: هذا أمر مشهور بالمدينة،منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما فعل أهل مكة بوضع الصفا والمروة والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم، كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع، وهذا خروج عن الديانة والمعقول.
قال: وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة، إذ دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها .(المحلى: 5/246).(1/323)
يشير ابن حزم إلى القصة التي رواها البيهقي عن الحسين بن الوليد قال: قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني ففصحت عنه، فقدمت المدينة، فسألت عن الصاع فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتيك بالحجة غدًا، فلما أصبحت أتى نحو خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته، أن هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظرت فإذا هي سواء، قال: فعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًا، فقد تركت قول أبى حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة .(السنن الكبرى للبيهقي: 4/171، ويبدو أن مثل قصة أبى يوسف تكررت لغيره مع أهل المدينة، فقد روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله ! كم قدر صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال، فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع عمك، يا فلان هات صاع جدتك، قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدى بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الآخر: حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا (رواه الدارقطني والبيهقي بسند جيد، كما قال الشوكاني - نيل الأوطار: 4/196).(1/324)
قال الحسين -راوي هذا الخبر-: فحججت من عامي ذلك، فلقيت مالك بن أنس فسألته عن الصاع فقال: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كم رطلاً هو؟ قال: المكيال لا يرطل (يعنى لا يقدر بالوزن) وهو هذا (المرجع السابق).
وبعد الإمام مالك قال الإمام أحمد في القرن الثالث: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة، وقال حنبل: قال أحمد أخذت الصاع من أبى النضر، وقال أبو النضر: أخذته عن ابن أبى ذئب، وقال هذا صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يُعرف بالمدينة، قال أبو عبد الله -يعنى ابن حنبل- فأخذنا العدس فعيرناه به، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به، لأنه لا يتجافى عن موضعه فكلنا به، ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وقال أحمد: هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- .(المغنى: 3/59).
إلى الأعلى
هل يمكن التوفيق بين القولين؟
(أ) قال بعض الحنفية: إن أبا يوسف لما حرر الصاع وجده خمسة وثلثًا برطل أهل المدينة، وهذا المقدار يساوى ثمانية أرطال برطل بغداد، قال ابن الهمام: وهو أشبه؛ لأن محمدًا -رحمه الله- لم يذكر في المسألة خلاف أبى يوسف، ولو كان لذكره على المعتاد، وهو أعرف بمذهبه .(شرح فتح القدير: 2/42)، ومعنى هذا: أن الصاع واحد عند الحجازيين والعراقيين، ولكن الأرطال هي التي تختلف.
ولكن يرد هذا التخريج أن أبا يوسف قال في كتابه "الخراج" (صفحة 53 -طبع السلفية- الطبعة الثانية): الوسق ستون صاعًا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، والصاع خمسة أرطال وثلث، ولا يفهم من هذه الأرطال إلا أنها البغدادية، فإن الكتاب قد أُلِّف بناء على طلب الخليفة الرشيد، وعاصمته بغداد، وأبو يوسف بها، فكيف يقدَّر في بغداد الصاع بأرطال المدينة؟!(1/325)
(ب) ووفَّق ابن تيمية بين قول الحجازيين وقول العراقيين توفيقًا آخر، بيَّن فيه: أنه كان هناك صاعان: صاع للطعام والحبوب، وصاع للمياه والطهارة، فصاع الطعام خمسة وثلث، وصاع الطهارة ثمانية أرطال، كما جاء بكل واحد منهما الأثر، فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل، قال: وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب اهـ (القواعد النورانية لابن تيمية ص 89).
وعلى هذا الرأي تكون الأرطال واحدة، ولكن الصيعان هي التي تختلف.
(ج) وفي العصر الحديث بحث على باشا مبارك موضوع الصاع متعمدًا على النتائج التي وصل إليها بعض الباحثين من الأوربيين، فانتهى إلى أن الصاع الشرعي الذي عنته الأحاديث النبوية: خمسة أرطال وثلث - كما هو رأى فقهاء الحجاز (رسالة على باشا مبارك " الميزان في الأقيسة والأوزنة " طبع المطبعة الأميرية ببولاق ص 86 - 88 نقلاً عن الخراج في الدولة الإسلامية للأستاذ ضياء الدين الريس ص 301 - الطبعة الأولى).
ولكنه ساق تعليلاً آخر للخلاف السابق بما يفيد أن الخلاف صوري لا حقيقي فقد قال: "والفرق الناتج بين علماء العراق وغيرهم من علماء العرب نشأ من أن علماء العراق يعتبرون كمية الماء المظروف في المدّ أو في الصاع، وغيرهم اعتبر كمية الحب التي يستوعبها هذان الكيلان".
ثم قال: "وبالتأمل في ذلك يعلم أن خمسة أرطال وثلث رطل توافق ما يستوعبه من الحب، وثمانية أرطال توافق ما يستوعبه من الماء للغسل، والثمانية هي عدد تقريبي، لما ذكر بعضهم من أن الصاع أقل من ثمانية أرطال، وأكثر من سبعة وهو صحيح؛ لأنك إن أجريت الحساب باعتبار أن النسبة بين ثقل الحب وثقل الماء كالنسبة بين 3،4 تجد أن خمسة أرطال وثلثًا من حب القمح تعادل أكثر من سبعة أرطال من الماء، وأقل من ثمانية " (الخراج في الدولة الإسلامية - المرجع السابق).(1/326)
ومعنى هذا: أن الأرطال واحدة، وأن الصاع واحد لدى الفريقين، وإنما اختلفت زاويتا النظر لدى كل منهما.
فأهل العراق -أو الأحناف- اعتبروا سعة الصاع بالماء، وبقية العلماء سواهم اعتبروا سعته بحسب الحب (نفس المرجع السابق).
ولكن لو كان الخلاف على هذه الصورة، فلماذا غضب مالك غضبه الشديد ولماذا عدل أبو يوسف عن رأيه، وخالف رأى شيخه وصاحبه أبى حنيفة؟
إلى الأعلى
النتيجة
وإذن فالقول الصحيح الذي تعضده البراهين كلها هو قول أهل الحجاز، ومن وافقهم أن الصاع خمسة أرطال وثلث.
والواقع - كما قال الأستاذ الريس: " أنه لا ينبغي أن يبقى هناك شك، حول ذلك بعد أن قامت الأدلة على صحة هذا التقدير، من أقوال أكثر العلماء والمجتهدين، وفى طليعة الأدلة ذلك الخبر الذي ورد عن الإمام مالك، بأنه قام بمعايرة صيعان أهل المدينة التي كانت باقية منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك بحضور الخليفة الرشيد، وبعد مناقشة جرت بينه وبين القاضي أبى يوسف، فكان من جراء هذا الإثبات بالتجربة العلمية المشاهدة أن اقتنع أبو يوسف، وعدل عن قوله إلى قول مالك وأهل المدينة.
نقول: فمن أعلم من الإمام مالك بالتقاليد المأثورة للمدينة؟ وأي شهادة أكبر من شهادة الفقيه المجتهد أبى يوسف: قاضى الخلافة ومستشارها الأول؟
ثم إن هذا التحديد للصاع هو الذي يتفق مع كل النسب التي حددت للوحدات الأخرى، وتبدو هذه النسب به معقولة، مجارية لطبائع الأشياء، بخلاف ما إذا فرض التحديد الآخر، فيلحظ حينئذ تفارق كبير، وتجاوز لدائرة المعقول.
"وعلى أية حال فإن المد قد عرف أيضًا بأنه: "ملء كفى الإنسان المعتدل"، والصاع: "بأنه أربع حفنات"، فالذي يتصور، ألا تتجاوز الكمية الأولى رطلاً وثلثاَ، والثانية مثل ذلك أربع مرات (الخراج في الدولة الإسلامية ص 302،303).
إلى الأعلى
نصاب الحبوب والثمار بالمقاييس العصرية(1/327)
ما دام قد ثبت لنا كل من الصاع والمد بالأرطال البغدادية، فمن الممكن أن نعرف مقدارها بأي مقياس آخر: بالأرطال المصرية مثلاً، أو بالدراهم أو الجرامات، أو اللترات، إذ أن النسب بين هذه الأمور ثابتة .(الخراج في الدولة الإسلامية ص303).
وإذا عرفنا مقدار الصاع عرفنا -بالتالي- مقدار الوسق، الذي جعل الشارع خمسة منه نصاب الحب والثمر.
والنصاب -كما قال ابن قدامة- معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات، والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة .(المغنى: 2/701).
وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحديث على أن مد النبي -صلى الله عليه وسلم- رطل وثلث قمحًا من أواسط القمح، وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه (المغنى: 2 / 701)، ومن هنا سيكون أساس تقديرنا هو وزن القمح الوسط.
ومن حيث إن نسبة الرطل البغدادي إلى الرطل المصري هي كنسبة (9 إلى 10) كما حقق على مبارك (الخراج في الدولة الإسلامية ص304 - 305)، فإن الصاع بالأرطال المصرية =3/1 5 × 10/9=4.8 أرطال مصرية (قمحًا) .(المرجع السابق)، وهذا الرقم يساوى بالجرامات (2156) حسب الوزن بالقمح.
وهذا المقدار يساوى بالماء 2.75 لترًا.
وإذا كان الإردب المصري الحالي = 128 لترًا (بالماء) وهو مكون من 96 قدحًا.
فبعملية حسابية نجد أن الصاع = 3/1 1 قدحًا أي 6/1 كيلة مصرية.
فالكيلة المصرية الحالية =6 آصع، والإردب = 72 صاعًا (حدث خطًأ حسابي في الطبعات السابقة، حيث كتب بدل رقم 2.156 رقم 2.176، وقد صححنا الخطأ في هذه الطبعة فنرجو استدراكه فيما سبق من طبعات).
ويكون الوسق -وهو 60 صاعًا- يساوى 6/60 = 10 كيلات مصرية.(1/328)
فالأوسق الخمسة - وهي النصاب الشرعي = 5×10 = 50 كيلة مصرية، أي أربعة أرادب وويبة.
وهذه النتيجة توافق ما انتهى إليه الشيخ على الأجهوري من علماء المالكية - في منتصف القرن الحادي عشر الهجري- من ضبط النصاب بالكيل المصري فوجده كذلك، فقد ذكر أنه حر النصاب عام 1042 هـ (سنة اثنتين وأربعين وألف)، بكيل مصر فوجده أربعة أرادب وويبة، وذلك لأن المد -كما تقرر- ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، قال: وقد وجدت القدح المصري يأخذ ملأهما ثلاث مرات كما حررت ذلك بأيدي جماعة، ومن المعلوم أن النصاب ثلاثمائة صاع، والصاع أربعة أمداد، فيكون النصاب بالقدح المصري 400 (أربعمائة) قدح، وهي أربعة أرادب وويبة .(حاشية العدوى على شرح الخرشي: 2/168).
أما بالوزن فيساوى النصاب بالأرطال المصرية = 300 × 4.8 = 440 رطلاً من القمح.
وبالكيلو جرامات يوازي = 300 × 2.156 =646.96 كيلو جرام قمح، وبالتقريب = 647 ك ج (بناء على تصحيح مقدار الصاع أصبح الوسق 647 ك ج بدل 653 في الطبعات السابقة).
إلى الأعلى
نصاب غير المكيلات
ما ذكرنا من النصاب "الأوسق الخمسة" إنما هو في المكيلات من الحاصلات الزراعية، أما ما لا يقدر بالكيل كالقطن والزعفران فقد اختلفوا في تقدير نصابه:
(أ) قال أبو يوسف: يعتبر فيه القيمة، وذلك أن تبلغ قيمة الخارج من قطن وغيره قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يكال من الحبوب، كالشعير مثلاً، وإنما قال ذلك لأن الأصل اعتبار الوسق حيث ورد به النص، غير أنه إن أمكن اعتباره صورة ومعنى اعتبر، وإن لم يمكن يجب اعتباره معنى، وهو قيمة الموسوق بدائع الصنائع:2/61، واعتبار الأدنى لحظ الفقراء.
وعلى هذا تجب زكاة القطن إذا كان ثمن الخارج منه يساوى ثمن خمسين كيلة من الشعير، باعتباره أرخص الحبوب الآن على ما نعلم، وخاصة في مصر.(1/329)
(ب) وقال محمد: المعتبر إنما هو خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء، لأن التقدير بالوسق في المكيلات لم يكن إلا لأن الوسق أعلى ما يقدر به في بابه المرجع السابق.
وعلى هذا إذا كان القطن يقدر بالقناطير في عصرنا، فنصابه خمسة قناطير، وهكذا ولكن يؤخذ على هذا التقدير أن النصاب به لا ينضبط، لاختلاف الأقطار بل البلدان في القطر الواحد في اعتبار أعلى ما يقدر به نوع من الحاصلات مما يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف الشديد.
(جـ) وذهب بعضهم إلى تقويم نصاب غير المكيل بمائتي درهم -أي بنصاب النقود- كمال التجارة، إذ هو مزكى لا نصاب له في نفسه فاعتبر بغيره البحر الزخار: 2/170.
(د) وقال داود: ما لا يكال تجب الزكاة في قليله وكثيره المغنى: 2/697.
(هـ) وعند أحمد: أن ما لا يكال يقدر بالوزن، ولهذا قدر نصاب الزعفران والقطن وشبههما بألف وستمائة رطل بالعراقي، لأنه ليس بمكيل، فيقوم وزنه مقام كيله المرجع السابق: 2/697، 698، لأن النصاب الذي جاء به الشرع قد عرف مقداره بالوزن، كما عرف بالكيل، فالأولى - فيما لا يكال أن يقدر بالوزن، وهو 647 كيلو جرام كما بيناه.
قال ابن قدامة -معقبًا على الأقوال الأخرى-: ولا أعلم لهذه الأقوال دليلاً ولا أصلاً يعتمد عليه، ويردها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
وإيجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة.
واعتباره بغيره مخالف لجميع ما يجب عُشره، واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لا نظير له أصلاً، وقياسه على العروض لا يصح، لأن العروض لا تجب الزكاة في عينها، وإنما تجب في قيمتها، وتؤدى من القيمة التي اعتبرت بها.
ولأن هذا مال تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب.
ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العُشر أو نصفه، فأشبه سائر ما يجب فيه ذلك.
ولأنه لا نص فيما ذكروه ولا إجماع، ولا هو في معناهما، فوجب ألا يقال به لعدم دليله نفس المرجع السابق.(1/330)
إلى الأعلى
الرأي الذي نختار
والرأي الذي أختاره هو اعتبار القيمة فيما لا يوسق ولا يكال لأنه مال زكوي لم ينص الشرع على نصابه فاعتبر بغيره وإذا كان لا بد من اعتبار النصاب بغيره، فليعتبر بقيمة ما يوسق للنص عليه، كما ذهب أبو يوسف ولكنى أخالف الإمام أبا يوسف في اعتباره القيمة بأدنى ما يوسق كالشعير والأذرة ونحوها، فإنه -وإن كان فيه رعاية لحظ الفقراء- لا يخلو من إجحاف بأرباب الأموال.
ولهذا أرى أن يقدر بأوسط ما يوسق من المكيلات المعروفة، لا بالأدنى ولا بالأعلى، رعاية للطرفين: الفقراء والممولين معًا.
وأوسط ما يوسق يختلف باختلاف الأقطار والأزمنة والأحوال الاقتصادية ولذا يجب أن يترك تحديده إلى أهل الرأي في كل بلد فقد يكون في بلد هو القمح، ويكون في آخر هو الأرز مثلاً وعلى هذا يمكن تقدير النصاب في الزعفران والنرجس وغيرهما من الحاصلات الغالية الثمن - التي لا تنتج الأرض منها عادة مثل ما تنتج من الأذرة والشعير - بقيمة 647 ك ج من غلة متوسطة في بلادنا كالقمح أو الأرز.
ومثل ذلك القطن وقصب السكر ونحوهما.
إلى الأعلى
متى يعتبر النصاب؟
والنصاب إنما يعتبر بعد الجفاف في الثمار، أي بعد أن يصير الرطب تمرًا، والعنب زبيبًا، وبعد التصفية والتنقية من القشر في الزروع.
قال الغزالي في الوجيز: ثم هذه الأوسق تعتبر زبيبًا أو تمرًا، وفى الحبوب منقى عن القشر إلا فيما يطحن مع قشره كالذرة، وما لا يتتمر يوسق رطبًا (انظر الوجيز وشرحه للرافعي - مع المجموع:5/568) وما كان يدخر في قشره كالأرز، فلا يكلف أهله إزالة قشره عنه لما في ذلك من الضرر عليهم.
أما النصاب فقدره بعض الفقهاء بضعف المنقى عن القشر، ليكون الصافي منه نصابًا، والأولى أن يرجع في ذلك إلى تقدير الخبراء فى كل نوع من الحبوب، وكل صنف منها على حدة، بحيث يعتبر أن يكون الصافي منها نصابًا المرجع السابق ص569، والمغنى: 2/697.
المبحث الرابع
مقدار الواجب وتفاوته
فهرس(1/331)
هل يعتبر الجهد في غير السقي؟
العشر ونصف العشر
ما سقي بعض العام بكلفة وبعضه بغير كلفة
العُشر و نصف العُشر
روى البخاري عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا: العُشر، وفيما سُقى بالنضح: نصف العُشر" قال الحافظ في التلخيص ص180: رواه البخاري وابن حبان وأبو داود والنسائي وابن الجارود، ورواه مسلم من حديث جابر، والترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة، والنسائي وابن ماجة من حديث معاذ والعثري -كما قال الأزهري وغيره- مخصوص بما سقى من ماء السيل، فيجعل عاثورًا، وهو شبه ساقية تحفر ويجرى الماء إلى أصوله، وسمى كذلك؛لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به، والنضح: السقي بالسانية ذكره الحافظ في التلخيص ص 180 وهو البعير الذي يستقى به الماء من البئر ويقال له -: الناضح، والجمع: سوانٍ ونواضح.
وروى مسلم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما سقت الأنهار والغيم العُشر، وفيم سُقى بالسانية نصف العُشور" رواه أيضًا أحمد والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار: 4/139 - طبع العثمانية)
والغيم: المطر، والعُشور: جمع عُشر.
وروى يحيى بن آدم في الخراج عن أنس قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقى بالدوالي والسواني والغرب والناضح:نصف العُشر" التلخيص ص181 والغرب: الدلو الكبير.
وروى ابن ماجة عن معاذ: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقى بعلاً العُشر، وما سقى بالدوالي نصف العُشر أخرجه ابن ماجة في باب "صدقة الزروع والثمار" عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن مسروق عن معاذ (نصب الراية: 2/385).(1/332)
قال أبو عبيد: البعل ما شرب بعروقه من غير سقى (ككثير من الكروم والبساتين في فلسطين) وهكذا كل ما سُقي بغير آلة وكلفة سواء أكان من المطر، أو من ماء ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة، أو يشرب بعروقه فكله فيه العُشر انظر: الروضة للنووي: 2/244.
قال في المغنى: وفي الجملة كل ما سُقي بكلفة ومؤونة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعور أو غير ذلك ففيه نصف العُشر، وما سقي بغير مؤونة ففيه العُشر، لما روينا من الخبر، ولأن للكلفة تأثيرًا في إسقاط الزكاة جملة، بدليل العلوفة، فبأن تؤثر في تخفيفها أوْلى، ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي وللكلفة تأثير في تقليل النماء، فأثرت في تقليل الواجب " المغنى:2/698، 699.
ويدخل في الكلفة أن يشترى الماء لأرضه أو بستانه كما قال النووي وغيره الروضة: 2/245.
إلى الأعلى
ما سقي بعض العام بكلفة وبعضه بغير كلفة
(أ) فإن سقي الزرع نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أرباع العُشر، قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه مخالفًا، لأن كل واحد منهما لو وُجِد في جميع السنة لوجب مقتضاه، فإذا وُجِد في نصفها أوجب نصفه المغنى: 2/699.
(ب) وإن سُقِي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما، فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر، وهو قول عطاء والثوري وأبى حنيفة وأحد قولي الشافعي والمعتمد عند الحنابلة والقول الآخر: يسقط الواجب على عدد السقيات، لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما لو كانت الثمرة نوعين.
ورجح الأول بأن اعتبار مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية (انظر المغنى: 2/700).
(جـ) وإن جُهِل المقدار غلّبنا إيجاب العُشر احتياطًا، لأن الأصل وجوب العُشر وإنما يسقط بوجود الكلفة، فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل، ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشك فيه المغنى:2/700.
إلى الأعلى(1/333)
هل يعتبر الجهد في غير السقي؟
بقى النظر فيما إذا ثقلت المؤونة بسبب آخر غير سقيه بالآلات ونحوها، كأن يحتاج إلى حفر الترع والمصارف والقنوات ونحو ذلك.
والذي أفاده صاحب المغنى في هذا المقام أن حفر الأنهار والقنوات، لا يؤثر في نقصان الزكاة، وعلل ذلك بأنه من جملة إحياء الأرض ولا يتكرر كل عام المغنى: 2/699.
ومثل ذلك أفاده الرافعي في الشرح الكبير، وعلله بأن مؤونة القنوات إنما تتحمل لإصلاح الضيعة، والأنهار تُشَق لإحياء الأرض، فإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بطبعه مرة أخرى، فيكون فيه العُشر، بخلاف السقي بالنواضح ونحوها الشرح الكبير مع المجموع: 5/578.
وفصل الإمام الخطابى فقال: وأما الزرع الذي يُسقى بالقنى (القنوات) فالقياس على هذا أن ينظر، فإن كان لا مؤونة فيها أكثر من مؤونة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات، فسبيلها سبيل النهر والسيح في وجوب العُشر فيها، وإن كان تكثر مؤونتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار، ويكثر نضوب مائها، فيحتاج إلى استحداث حفر، فسبيلها سبيل ماء الآبار التي يُنزح منها بالسواني والله أعلم معالم السنن: 2/207.
وتبعه في هذا التفصيل بعض الشافعية، كما ذكر الرافعي في الشرح الكبير نفس المصدر الأسبق، وانظر الروضة للنووي: 2/244
المبحث الخامس
تقدير الواجب بالخرص
فهرس
خطأ الخارص
هل يخرص غير النخيل والأعناب؟
شرعية الخرص وفوائده
وقت الخرص
شرعية الخرص وفوائده
سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النخيل والأعناب: تقدير النصاب ومقدار الواجب فيها بالخرص دون الكيل أو الوزن.
ومعنى الخرص في اللغة: الحزر والتخمين، فهو إذن تقدير ظني يقوم به رجل عارف مجرب أمين، وذلك إذا بدا صلاح الثمار، فيحصى الخارص ما على النخيل والأعناب من الرطب والعنب ثم يقدِّره تمرًا وزبيبًا، ليعرف مقدار الزكاة فيه، فإذا جفت الثمار أخذ الزكاة التي سبق تقديرها منها.(1/334)
وفائدة الخرص مراعاة مصلحة الطرفين: رب المال والمستحقين، فرب المال يملك بالخرص التصرف في نخيله وعنبه بما شاء، على أن يضمن قدر الزكاة.
والعامل على الزكاة -وهو وكيل المستحقين- قد عرف الحق الواجب فيطالب به المهذب مع المجموع: 5/477.
قال الخطابى: وفائدة الخرص ومعناه: أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو منع أرباب المال من حقوقهم ومن الانتفاع بها، إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها، لأضر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لأخلّ ذلك بحصة الفقراء منها، إذ ليس مع كل أحد من التقية (التقوى) ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة، فوضعت الشريعة هذا العيار، ليتوصل به أرباب الأموال إلى الانتفاع، ويحفظ على المساكين حقوقهم، وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها، قبل أن يؤكل ويستهلك، ليعلم حصة الصدقة منها، فيخرج بعد الجفاف بقدرها: تمرًا وزبيبًا معالم السنن: 2/210.
وممن كان يرى الخرص عمر بن الخطاب وسهل بن أبى حثمة، ومروان والقاسم بن محمد والحسن وعطاء والزهري وعمرو بن دينار، ومالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وأكثر أهل العلم.
وأنكره أبو حنيفة؛ لأنه رجم بالغيب، وظن وتخمين لا يلزم به حكم، كما أنكر القرعة انظر: الأموال ص492،493، واحتج الجمهور بالأحاديث التالية:
1- ما رواه سعيد بن المسيب رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وفيه انقطاع، لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من عتاب، فالحديث مرسل، ولكنه اعتضد بغيره من الأحاديث وبعمل الصحابة، وعمل أكثر أهل العلم، كما قال النووي (التلخيص ص181) عن عتاب بن أسيد: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم ".(1/335)
2- وعن سعيد بن المسيب -في رواية عنه- قال:"أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُخرص العنب كما يُخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والدارقطني، وفيه الانقطاع الذي ذكرناه (المصدر السابق).
3- وقد عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرص على امرأة بوادي القرى حديقة لها -عام تبوك- وكان خرصه عشرة أوسق، وقال للمرأة: أحصي ما يخرج منها، فأحصته فكان كما قال -صلى الله عليه وسلم- متفق عليه من حديث أبى حميد الساعدي (المصدر نفسه).
4- وروى أبو داود عن عائشة قالت -وهى تذكر شأن خيبر-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود، فيخرص النخل حين يطيب، قبل أن يؤكل منه" قال المنذري: في إسناده رجل مجهول (مختصر السنن للمنذري: 2/213).
5- وعن سهل بن أبى حثمة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" رواه الخمسة إلا ابن ماجة، ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك: 1/402، وأبو عبيد في الأموال ص485، والبيهقي في السنن: 4/123، وابن حزم في المحلى: 5/255 وقد سكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي قال الحاكم: "وله شاهد بإسناد متفق على صحته: أن عمر بن الخطاب أمر به" ولم يحكم الترمذي عليه بشىء، ولكنه ذكر أن العمل عليه عند أكثر أهل العلم (انظر مختصر السنن: 2/213).
قال الخطابى -في معالم السنن-: في هذا الحديث إثبات الخرص والعمل به، وهو قول عامة أهل العلم، إلا ما روى عن الشعبي: الخرص بدعة، وأنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم، إنما كان ذلك الخرص تخويفًا للأكرة (الزراع) لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا وذلك أنه ظن وتخمين، وفيه غرر وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.(1/336)
قال الخطابى ردًا عليهم: " العمل بالخرص ثابت، وتحريم الربا والقمار والميسر متقدم، وبقى الخرص يعمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طول عمره، وعمل به أبو بكر وعمر -رضى الله عنهما- في زمانهما، وعامة الصحابة على تجويزه، ولم يُذكر عن أحد منهم فيه خلاف.
"فأما قولهم: إنه ظن وتخمين فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير، كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين، وإن كان بعضها أحصر من بعض.
وإنما هذا كإباحة الحكم بالاجتهاد عند عدم النص، مع كونه معرَّضا للخطأ، وفى معناه تقويم المتلفات عن طريق الاجتهاد، وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم معالم السنن: 2/212.
إلى الأعلى
وقت الخرص
ووقت الخرص: حين يبدو صلاح الثمر، لقول عائشة: "كان -صلى الله عليه وسلم- يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم النخل حين يطيب "ولأن فائدة الخرص معرفة ما يجب بالزكاة، وإطلاق أرباب الثمار في التصرف فيها، والحاجة إنما تدعو إلى ذلك حين يبدو الصلاح وتجب الزكاة المغنى: 2/707.
إلى الأعلى
خطأ الخارص
إذا أخطأ الخارص التقدير -فزاد أو نقص- فقد روى عن القاسم بن محمد -أحد الفقهاء السبعة بالمدينة- أن رجلاً سأله في ذلك فقال: إنما عليك ما خرص، إنما هو الخراص كاسمه الأموال ص494، 495.
وإلى هذا ذهب مالك، قال: إذا كان الخارص مأمونًا سالمًا فتحرى الصواب فزاد أو نقص، فهو جائز على ما خرص الأموال ص494، 495 (يذهب مالك إلى أنه حكم واقع لا نقض له).(1/337)
قال أبو عبيد - معقبًا على هذا القول:" وإنما وجه هذا عندي، إذا كان ذلك الغلط مما يتغابن الناس في مثله، ويغلطون به، فإذا جاء من ذلك ما يفحش، فإنه يرد إلى الصواب وليس هذا بالمفسد لأمر الخرص؛ لأن هذا الغلط الفاحش لو وقع في الكيل لكان مردودًا أيضًا، كما يرد في الخرص، إلا أن يكون ما زاد أو نقص بقدر ما يكون بين الكيلين، فيجوز حينئذ" الأموال ص494، 495.
وقال ابن حزم: إذا غلط الخارص أو ظلم فزاد أو نقص: رد الواجب إلى الحق، فأعطى ما زيد عليه، وأخذ منه ما نقص، لقول الله تعالى: (كونوا قوَّامين بالقسط) النساء: 135 والزيادة من الخارص ظلم لصاحب الثمرة، ونقصان الخارص ظلم لأهل الصدقات، وإسقاط لحقهم، وكل ذلك إثم وعدوان قال: فإن ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا ببينة إن كان الخارص عدلاً عالمًا " المحلى: 5/256 ولكن تفصيل أبى عبيد أرفق وأقرب إلى الواقع وأولى بالاختيار.
إلى الأعلى
هل يخرص غير النخيل والأعناب؟
والجمهور على أنه لا يخرص غير النخيل والكرم، فلا يخرص الزيتون مثلاً، لأن حبه -كما قالوا- متفرق في شجره، مستور بورقه، ولا حاجة بأهله إلى أكله، بخلاف النخل والكرم، فإن ثمرة النخل مجتمعة في عذوقه، والعنب في عناقيده، فيمكن أن يأتي الخرص عليه، والحاجة داعية إلى أكلهما في حال رطوبتهما، وبهذا قال مالك وأحمد المغنى: 2/710، 711.
وقال الزهري والأوزاعى والليث: يخرص الزيتون ونحوه، لأنه ثمر تجب فيه الزكاة ويخرص كالرطب والعنب البحر الزخار: 2/172.
والذي أختاره في هذا: أن يكون مدار الجواز هو إمكان الخرص والحاجة إليه، وأن يترك الرأي فيه لأهل الاختصاص والخبرة، فما رأوا أن تقديره ميسور لهم بوسائلهم الفنية، وكانت إدارة الزكاة تحتاج إلى ذلك، لضبط أمورها، وتحديد إيراداتها، أو كان أرباب المال محتاجين أيضًا إليه ليمكنهم التصرف في الثمر رطبًا، أخذ به قياسًا على ما ورد به النص من خرص الرطب والعنب، وما لا فلا.(1/338)
المبحث السادس
ماذا يترك لأصحاب الزرع والثمر
1- تقدم في المبحث السابق حديث سهل بن أبى حثمة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ".
2- وروى ابن عبد البر عن جابر مرفوعًا "خففوا في الخرص" .(ذكره في نيل الأوطار: 2/144 - طبع العثمانية، وقال: في إسناده ابن لهيعة).
3- وروى أبو عبيد بإسناده عن مكحول قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث الخراص قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية" (الأموال ص487، وأخرجه أيضًا الطحاوي ص315 بإسناد جيد بلفظ: "خففوا في الصدقات، فإن في المال العرية والوطية " - انظر: فيض الباري: 3/47).
4- وروى أيضًا عن الأوزاعي قال: "بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: خففوا عن الناس في الخرص! فإن في المال العرية والواطئة والآكلة " (الأموال، المرجع السابق).
والعرية -كما قال أبو عبيد-: هي النخلة يعريها صاحبها رجلاً محتاجًا، والإعراء: أن يجعل له ثمرة عامها.
والواطئة: السابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين.
والوطية: الأرض التي تطؤها الأرجل.
والآكلة: هم أرباب الثمر وأهلوهم ومن لصق بهم، فكان معهم .(المرجع السابق).
5- وروى أيضًا عن بشير بن يسار: أن عمر بن الخطاب بعث أبا حثمة الأنصاري على خرص أموال المسلمين، فقال إذا وجدت القوم في نخلهم قد خرفوا، فدع لهم ما يأكلون، لا تخرصه عليهم .(ورواه أيضًا الحاكم مختصرًا (1/402، 403)، ورواه ابن حزم في المحلى: 5/359).
6- وعن سهل بن أبى حثمة أن مروان بعثه خارصًا للنخل، فخرص مال سعد بن أبى سعد سبعمائة وسق، وقال لولا أنى وجدت فيه أربعين عريشًا لخرصته تسعمائة وسق، ولكنى تركت لهم قدر ما يأكلون .(المحلى:5/260).
وكان تلك العرش مظال ومساكن لهؤلاء الأكلة أيام الثمار، كما قال أبو عبيد.(1/339)
والحديث الأول قد صححه جماعة من الأئمة، وقد اعتضد بحديث جابر ومرسل مكحول، وبالآثار المذكورة عن الصحابة، وهم أعلم الناس بهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحرصهم على اتباعه، قال ابن حزم: "هذا فعل عمر بن الخطاب وأبى حثمة وسهل: ثلاثة من الصحابة بحضرة الصحابة -رضى الله عنهم- لا مخالف لهم يُعرف منهم" .(المحلى:5/260)، وقد دلّت هذه الأحاديث والآثار على وجوب الرفق بأرباب الأموال والتخفيف عنهم، والترك لهم، تقديرًا لحاجتهم وظروفهم.
قال في المغنى: على الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع، توسعة على أرباب الأموال، لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم ويكون في الثمرة السقاطة، وينتابها الطير، ويأكل منها المارة، فلو استوفى الكل منهم أضرَّ بهم، وبهذا قال إسحاق، ونحوه قال الليث وأبو عبيد والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده، فإن رأى الأكلة كثيرًا ترك الثلث، وإن كانوا قليلاً ترك الربع، فإن لم يترك لهم الخارص شيئًا، فلهم الأكل قدر ذلك، ولا يحتسب عليهم به، لأنه حق لهم.
فإن لم يخرج الإمام خارصًا، فاحتاج رب المال إلى التصرف في الثمرة، فأخرج خارصًا، جاز أن يأخذ بقدر ذلك وإن خرص هو وأخذ بقدر ذلك جاز، ويحتاط في ألا يأخذ أكثر مما له أخذه " ا هـ .(المغنى: 2/709، 710).
وما لم يخرص من الثمار والزروع، وترك لأمانة أهله، فقد قال فيه صاحب المغنى: "لا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله، ولا يحتسب عليهم، وسئل أحمد عما يأكل أرباب الزروع من الفريك، قال: لا بأس به أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج إليه، وذلك لأن العادة جارية به، فأشبه ما يأكله أرباب الثمار من ثمارهم" .(المغنى: 2/709، 710).
وقال أبو يوسف ومحمد: يراعى ما يأكل الرجل وصاحبه وجاره حتى لو أكل جميعه رطبًا لم يجب عليه شيء.(1/340)
وخالف مالك وأبو حنيفة في ذلك، فلم يريا أن يترك لأرباب الزرع والثمر شيء، حتى حسبا عليهم ما أكلوه أو أطعموه، قبل الحصاد والجني .(انظر: بداية المجتهد 0جـ1، وبدائع الصنائع: 2/64).
قال ابن العربى: وساعدهما الثوري على أنه لا يُترك لهم شيء، وهذا يدل على أن مالكًا وسفيان لم يراعيا حديث سهل بن أبى حثمة في الرفق في الخرص وترك الثلث أو الربع، أو لم يرياه .(شرح الترمذي: 3/143).
وقال أبو محمد بن حزم في المحلى: لا يجوز أن يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل هو وأهله فريكًا أو سويقًا، قلّ أو كثر، ولا السنبل الذي يسقط فيأكله الطير أو الماشية أو يأخذه الضعفاء، ولا ما تصدَّق به حين الحصاد لكن ما صفى فزكاته عليه، برهان ذلك ما ذكرنا قبل، أن الزكاة لا تجب إلا حين إمكان الكيل، فما خرج عن يده قبل ذلك، فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه، وقال الشافعي والليث كذلك، وقال مالك وأبو حنيفة: يعدّ على كل ذلك.
قال أبو محمد: "هذا تكليف ما لا يُطاق، وقد يسقط من السنبل ما لو بقى لأتم خمسة أوسق، وهذا لا يمكن ضبطه، ولا منه المنع أصلاً، الله تعالى يقول: (لاَ يكلف اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا) (البقرة: 286).
قال: "وأما التمر ففُرِض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو وأهله رطبًا على السعة، لا يُكلَّف عنه زكاة وهو قول الشافعي والليث بن سعد .(المحلى: 5/259) واستدل ابن حزم لذلك بحديث سهل بن أبى حثمة، والآثار التي ذكرناها عن عمر وأبى حثمة وسهل من الصحابة.
واختلف الذين تركوا العمل بحديث سهل هنا في الإجابة عنه.
فمنهم من قال: كان في حالة خاصة وهى أرض خيبر.
ومنهم من قال: معنى الحديث أن يترك لهم الثلث أو الربع من العُشر الواجب، ليفرقوه بأنفسهم على الفقراء من أقاربهم وجيرانهم، ومن يعرفهم ويطلب منهم، فلا يحتاج المالك أن يغرم ذلك مرة أخرى من ماله وهذا التفسير مروى عن الشافعي.(1/341)
وله قول آخر قديم: أن يترك له نخلة أو نخلات يأكله أهله، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في كثرة عياله وقلَّتهم .(قال النووي في الروضة (2/250): هذا القديم، نص عليه أيضًا في البويطي، ونقله البيهقي عن نصه في البويطى، والبيوع والقديم).
وأجاب بعضهم بأن المراد به مؤونة الزرع -أي نفقته- أو مؤونة الأرض، فيوضع ذلك ولا يُحسب في النصاب.
قال ابن العربى في شرح الترمذي: والمتحصل من صحيح النظر أن يُعمل بالحديث، وهو قدر المؤونة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبًا، وسيأتي ذلك في المبحث القادم.
والذي أختاره: هو الأخذ بما دلّ عليه حديث سهل وما عضده من أخبار وآثار، وهو الذي عمل به أمير المؤمنين عمر، وذهب إليه أحمد وإسحاق والليث والشافعي في القديم، وابن حزم.
والحق: أن هذا الحديث قد أعطانا مبدأ هامًا في باب الزكاة، وهو رعاية الحاجات المعقولة لصاحب المال وعائلته، وتقدير الظروف المخففة عنه ووضعها في الاعتبار، عند تقدير الواجب عليه.
وهذا يؤكد الشرط العام الذي شرحناه من قبل في فصل "المال الذي تجب فيه الزكاة" وهو شرط "الفضل عن الحوائج الأصلية".
ورعاية الظروف الشخصية والعائلية للمكلَّف التي حرص عليها الإسلام، أمر لم يعرفه التفكير والتشريع الضريبي إلا في وقت قريب، إذ كان المعروف هو فرض الضريبة على "عَيْن" المال دون التفات إلى ظروف صاحبه وحاجاته وديونه.
المبحث السابع
اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي
هل يدفع قدر الدَّيْن والنفقة من الخارج ويزكى الباقي؟
أما الدَّيْن الذي يكون على رب الزرع والثمر فهو نوعان:
منه ما يكون لأجل النفقة على الزرع، كما إذا استدان في ثمن البذر والسماد أو أجرة العمال، ونحو ذلك من النفقات.
ومنه ما يكون لأجل نفقة صاحب الزرع على نفسه وأهله.
فما الحكم في كلا الدَّيْنين؟(1/342)
روى أبو عبيد في الأموال بسنده عن جابر بن زيد، قال في الرجل يستدين فينفق على أهله وأرضه، قال: قال ابن عباس: يقضى ما أنفق على أرضه، وقال ابن عمر: يقضى ما أنفق على أرضه وأهله .(الأموال ص509).
ورواه يحيى بن آدم في الخراج عنه قال: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض، فيقضيه ويزكِّي ما بقى، وقال: قال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكِّي ما بقى (الخراج ص162، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: إسناده صحيح).
فقد اتفق ابن عباس وابن عمر على قضاء الدّيْن الذي أنفقه على الأرض والثمرة، وزكاة الباقي فقط، واختلفا في الدّيْن إذا كان على نفسه وأهله.
وكذلك روى أبو عبيد عن مكحول أنه قال في صاحب الزرع المدين: لا تؤخذ منه الزكاة حتى يقضى دينه، وما فضل بعد ذلك زكّاه، إذا كان مما تجب فيه الزكاة .(الأموال ص 509).
وكذلك يرى عن عطاء وطاووس .(المرجع السابق).
وقالت طائفة من أهل العراق بمثل ما جاء عن ابن عمر وعطاء وطاووس ومكحول .(نفس المرجع).
ومن فقهاء العراق الذين ذهبوا هذا المذهب: سفيان الثوري:كما روى ذلك يحيى بن آدم .(الخراج ص 163).
وعن أحمد بن حنبل روايتان: قال في إحداهما: من استدان ما أنفق على زرعه، واستدان ما أنفق على أهله، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله؛ لأنه من مؤونة الزرع والرواية الثانية: أن الدَّيْن كله يمنع الزكاة .(المغنى: 2/727).
فهو في الرواية الأولى وافق ابن عباس، وفي الثانية وافق ابن عمر.
قال في المغنى: فعلى هذه الرواية يحسب كل دَيْن عليه، ثم يُخرج العُشر مما بقى إن بلغ نصابًا، وإن لم يبلغ نصابًا فلا عُشر فيه، وذلك لأن الواجب زكاة، فيمنع الدَّيْن وجوبها، كزكاة الأموال الباطنة، ولأنه دَيْن فيمنع وجوب العُشر كالخراج وما أنفق على زرعه، والفرق بينهما على الرواية الأولى: أن ما كان من مؤونة الزرع فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره، فكأنه لم يحصل .(المغنى: 2/727).(1/343)
وقد رجح أبو عبيد مذهب ابن عمر ومَن وافقه في رفع كل الديون من الخارج، وتزكية الباقي، بشرط أن تثبت صحة الدَّيْن، قال:" إذا كان الدَّيْن صحيحًا قد علم أنه على رب الأرض فإنه لا صدقة عليه فيها، ولكنها تسقط عنه لدَيْنه كما قال ابن عمر وطاووس وعطاء ومكحول، ومع قولهم أيضًا إنه موافق لاتباع السُنَّة، ألا ترى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما سنَّ أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء، فتُردّ في الفقراء، وهذا الذي عليه دَيْن يحيط بماله ولا مال له، هو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها؟، أم كيف يجوز أن يكون غنيًا فقيرًا، في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين -أحد الأصناف الثمانية- فقد استوجبها من جهتين " ا هـ .(الأموال ص510).
أما الخراج -وهو تلك الضريبة العقارية المفروضة على رقبة الأرض- فهل يطرح مقداره من الخارج ويزكى الباقي أم لا؟
روى يحيى بن آدم عن سفيان بن سعيد الثوري أنه قال فيما أخرجت الخراجية: "ارفع دَيْنك وخراجك، فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك، فزكها" .(الخراج ص163).
وروى أبو عبيد عن إبراهيم بن أبى عبلة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف -أو ابن أبى عوف- عامله على فلسطين، فيمن كانت في يده أرض بجزيتها من المسلمين: أن يقبض جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقى بعد الجزية .(الأموال ص88) والمراد بجزية الأرض هنا "الخراج".
فعمر وسفيان يعفيان ما يقابل الخراج من الزكاة، ويزكيان الباقي فقط إن بلغ نصابًا، وكان عمر من أئمة الهدى.
وإلى نحو هذا ذهب أحمد، واستدل له في "المغنى" بأن الخراج من مؤونة الأرض، فيمنع وجوب الزكاة في قدره، كما ذهب إليه ابن عباس وابن عمر من قضاء ما أنفق على الزرع وتزكية الباقي .(المغنى: 2/727).(1/344)
وينبغي أن يقاس على الخراج أجرة الأرض على الزارع المستأجر، فإن جمهور الفقهاء عدّوا الخراج بمنزلة أجرة الأرض، وقد روى عن شريك نحو ذلك، قال يحيى بن آدم: سألتُ شريكًا عن الرجل يستأجر أرضًا بيضاء من أرض العُشر، بطعام مسمى، فزرعها طعامًا، قال: يعزل ما عليه من الطعام ثم يزكِّى ما بقى: العُشر أو نصف العُشر، ثم قال: كما يعزل الرجل ما عليه من الدّيْن، ثم يزكِّى ما بقى من ماله .(الخراج ص161).
بقى أن نعرف حكم النفقة على الزرع والثمر إذا لم تكن دَيْنًا ولا خراجًا، مثل ما ينفقه من ماله هو على البذر والسماد والحرث والري والتنقية والحصاد وغير ذلك: هل ترفع هذه النفقات والتكاليف -أعنى القدر المقابل لها من المحصول ويزكِّى الباقي، كما اخترناه في رفع ما يقابل الدَّيْن والخراج؟ أم تجب الزكاة في جميع المحصول؟
قال ابن حزم: لا يجوز أن يعد الذي له الزرع والثمر ما أنفق في حرث أو حصاد أو جمع أو درس أو تزبيل -أو تسميد بالزبل- أو جذاذ أو حفر أو غير ذلك، فيسقطه من الزكاة، وسواء تداين في ذلك أم لم يتداين، أتت النفقة على جميع قيمة الزرع أو الثمر أو لم تأت، وهذا مكان قد اختلف السلف فيه.
ثم ذكر ابن حزم بسنده عن جابر بن زيد عن ابن عباس وابن عمر في الرجل ينفق على ثمرته، فقال أحدهما: يزكيها وقال الآخر: يرفع النفقة، ويزكى الباقي.
وعن عطاء: أنه يسقط مما أصاب النفقة، فإن بقى مقدار ما فيه الزكاة زكى، وإلا فلا، ورد ابن حزم على هذا القول بأنه لا يجوز إسقاط حق أوجبه الله تعالى بغير نص قرآن ولا سُنَّة ثابتة قال: وهذا قول مالك والشافعي وأبى حنيفة وأصحابنا أ.هـ .(المحلى: 5/258).(1/345)
والأثر الذي رواه ابن حزم هنا عن ابن عباس وابن عمر يفيد أن أحدهما يقول برفع النفقة وتزكية الباقي، والآخر يخالفه في ذلك، وقد ذكرناه قريبًا، من رواية يحيى بن آدم وأبى عبيد: أنهما سئلا عما يستدينه الرجل فينفق على ثمرته وعلى أهله، وأن ابن عباس أفتى بأنه يقضى ما أنفق على الثمرة ثم يزكى ما بقى، وأن ابن عمر وافقه على ذلك، وزاد عليه قضاء ما أنفق على نفسه وأهله.
فهذه الفتوى من الصحابيين الجليلين فيما أنفقه الزارع على زرعه وثمرته استسلافًا واستدانة، أما ما أنفقه من ماله دون استسلاف، فقد سكتا عنه، إلا على رواية ابن حزم المذكورة هنا.
وأصرح وأشمل ما ورد عن السلف في رفع ما يقابل النفقة والمؤونة من الخارج، وتزكية الباقي، سواء أكانت النفقة دَيْنًا أم غير دَيْن هو مذهب عطاء الذي ذكره ابن حزم، ورواه يحيى بن آدم عن إسماعيل بن عبد الملك، قال قلتُ لعطاء: الأرض أزرعها، فقال: ارفع نفقتك، وزكِّ ما بقى .(الخراج ص161، ورواه ابن أبى شيبة: 4/23 - طبع ملتان بالهند).
وتعرض ابن العربى في شرح الترمذي لهذه المسألة فقال: اختلف قول علمائنا، هل تحط المؤونة من المال المزكى، وحينئذ تجب الزكاة -أي في الصافي- أو تكون مؤونة المال وخدمته -حتى يصير حاصلاً- في رب المال، وتؤخذ الزكاة من الرأس -أي من إجمالي الحاصل؟ فذهب إلى أنه الصحيح أن تحط وترفع من الحاصل، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عُشره، واستدل لذلك بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوا الثلث أو الربع"، وأن الثلث أو الربع يعادل قدر المؤونة تقريبًا، فإذا حسب ما يأكله رطبًا، وما ينفقه من المؤونة تخلص الباقي ثلاثة أرباع، أو ثلثين، قال: ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب .(شرح الترمذي: 3/143).(1/346)
ومعنى كلام ابن العربى: أنه لا يجمع بين ترك الثلث أو الربع الذي جاء الحديث به، وبين حط المؤن والنفقات وطرح قدرها من الحاصل، فإنها داخلة في الثلث أو الربع المتروك غالبًا، ومقتضى كلامه: أنها إذا زادت عن الثلث تحط أيضًا، وأن ذلك يُعمل به في كل زرع وثمر، سواء أكان يخرص أم لا.
وردّ ابن الهمام على هذا الرأي: بأن الشارع حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤونة، فلو رفعت المؤونة كان الواجب واحدًا، وهو العُشر دائمًا في الباقي؛ لأنه لم ينزل إلى نصفه إلا المؤونة، والفرض أن الباقي بعد رفع قدر المؤنة لا مؤنة فيه، فكان الواجب دائمًا العُشر، لكن الواجب قد تفاوت شرعًا، مرة العُشر ومرة نصفه، بسبب المؤونة، فعلمنا أنه لم يعتبر شرعًا عدم عُشر بعض الخارج -وهو القدر المساوي للمؤونة- أصلاً أ.هـ .(فتح القدير: 2/8).
الذي يلوح لنا أن الشارع حكم بتفاوت الواجب في الخارج بناء على تفاوت المشقة والجهد المبذول في سقي الأرض، فقد كان ذلك أبرز ما تتفاوت به الأراضي الزراعية، أما النفقات الأخرى فلم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها، ولكن الأشبه بروح الشريعة إسقاط الزكاة، عما يقابل المؤونة من الخارج، والذي يؤيد هذا أمران:
الأول: أن للكلفة والمؤونة تأثيرًا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في سقي بآلة، جعل الشارع فيه نصف العُشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلاً كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض.
الثاني: أن حقيقة النماء هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبًا إذا كان أنفق مثله في الحصول عليه، ولهذا قال بعض الفقهاء: إن قدر المؤونة بمنزلة ما سلم له بعوض، فكأنه اشتراه، وهذا صحيح.
هذا على ألا تحسب في ذلك نفقات الري التي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العُشر إلى نصفه.(1/347)
فمن كانت له أرض أخرجت عشرة قناطير من القطن تساوى مائتي جنيه، وقد أنفق عليها -في غير الري- مع الضريبة العقارية، مبلغ ستين جنيهًا (أي ما يعادل ثلاثة قناطير) فإنه يخرج الزكاة عن سبعة قناطير فقط، فإذا كانت سقيت سيحًا ففيها العُشر أو بآلة فنصف العُشر والله أعلم.
المبحث الثامن
زكاة الأرض المستأجرة
فهرس
مذهب أبى حنيفة
مذهب الجمهور
سبب الاختلاف
ترجيح وتفصيل
الزكاة على المالك إذا زرعها
الزكاة في إعارة الأرض على المستعير
المالك والشريك في المزارعة يشتركان في الزكاة
الزكاة على المالك أم المستأجر؟
الزكاة على المالك إذا زرعها
1- مالك الأرض إما أن يزرعها بنفسه، إن كان من أهل الزرع، وهذا أمر محمود شرعًا، فزكاة ما يخرج منها حينئذ -عُشر أو نصف العُشر عليه؛ لأن الأرض أرضه والزرع زرعه.
إلى الأعلى
الزكاة في إعارة الأرض على المستعير
2- وإما أن يعيرها لغيره من أهل الزراعة يزرعها ويستفيد منها، بدون مقابل، وهذا أمر حمده الإسلام وحث عليه .(وفي هاتين الطريقتين جاءت الأحاديث الصحيحة: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه" ومن السلف من رأى ذلك واجبًا، ومنهم من رأى أنه كان واجبًا فى أول الأمر ثم نسخ، ويرى ابن عباس أن الأمر هنا للندب والاستحباب لا للوجوب - انظر: كتابنا " الحلال والحرام " ص228، 229 - الطبعة الرابعة) فالزكاة هنا على الزارع الذي منح الأرض وانتفع بها بغير أجرة ولا كراء .(المغنى: 2/728).
إلى الأعلى
المالك والشريك في المزارعة يشتركان في الزكاة
3- وإما أن يزارع عليها مزارعة صحيحة بربع ما يخرج منها أو ثلثه أو نصفه -حسب اتفاقهما- فالزكاةعلى كل واحد من الطرفين في حصته إذا بلغت النصاب، أو كان له زرع آخر إذا ضم إليها بلغت نصابًا.(1/348)
وإن بلغت حصة أحدهما النصاب دون صاحبه، فعلى من بلغت حصته النصاب زكاتها ولا شيء على الآخر؛ لأنه مالك لما دون النصاب فلا يعد غنيًا شرعًا، والزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء، وقد جاء عن الشافعي -كما نقلت رواية عن أحمد- أنهما يعاملان معاملة شخص واحد فيلزمهما العُشر، إذا بلغ الزرع جميعه خمسة أوسق، ويخرج كل واحد منهما عُشر نصيبه .(المغنى: 2/728).
إلى الأعلى
الزكاة على المالك أم المستأجر؟
4- وإما أن يؤجرها بالنقود أو بشيء معلوم -كما أجاز ذلك جمهور الفقهاء فمن الذي يدفع العُشر أو نصفه؟ مالك الأرض الذي يملك رقبتها، وينتفع بما يتقاضاه من إيجارها؟ أم المستأجر الذي ينتفع بزراعتها فعلاً، وتخرج له الحب والثمر؟
إلى الأعلى
مذهب أبى حنيفة
قال أبو حنيفة: العُشر على المالك بناء على أصل عنده: أن العُشر حق الأرض النامية لا حق الزرع، والأرض هنا أرض المالك، ولأن العُشر من مؤونة الأرض فأشبه الخراج .(المغنى: 2/728)، ولأن الأرض كما تستنمي بالزراعة، تستنمي بالإجارة فكانت الأجرة مقصودة كالثمر، فكان النماء له معنى، مع تمتعه بنعمة الملك، فكان أولى بالإيجاب عليه (فتح القدير: 2/8).
وروى ذلك عن إبراهيم النخعي (الخراج ليحيى بن آدم ص172 - طبع السلفية رواه من طريق الحسن بن عمارة -معروف وهو متروك، كما هو معروف).
إلى الأعلى
مذهب الجمهور
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن العُشر على المستأجر: لأن العُشر حق الزرع لا حق الأرض، والمالك لم يخرج له حب ولا ثمر، فكيف يزكى زرعًا لا يملكه بل هو لغيره؟
إلى الأعلى
سبب الاختلاف
قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم: هل العُشر حق الأرض أو حق الزرع؟ أو حق مجموعهما؟ إلا أنه لم يقل أحد: إنه حق لمجموعهما، وهو في الحقيقة حق مجموعهما.
فلما كان عندهم أنه حق الأمرين اختلفوا في أيهما أولى أن ينسب إلى الموضع الذي فيه الاتفاق -وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد.(1/349)
فذهب الجمهور إلى أنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة، وهو الحب.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب وهو الأرض .(بداية المجتهد: 1/239).
إلى الأعلى
الترجيح في هذه المسألة
رجح صاحب "المغنى" رأي الجمهور بأن العُشر واجب فى الزرع فكان على مالكه، قال: ولا يصح قولهم: إنه من مؤونة الأرض؛ لأنه لو كان من مؤونتها لوجب فيها وإن لم تزرع كالخراج، ولوجب على الذمي كالخراج ولتقدر بقدر الأرض لا بقدر الزرع ولوجب صرفه إلى مصارف الفيء دون مصرف الزكاة .(المغنى: 2/728).
وقال الرافعي في الشرح الكبير: لا فرق بين ما تنبته الأرض المملوكة والأرض المكتراة (المُستأجرة) في وجوب العُشر، ويجتمع على المكترى العُشر والأجرة، كما لو اكترى حانوتًا للتجارة تجب عليه الأجرة وزكاة التجارة جميعًا .(شرح الرافعي الكبير مع المجموع: 5/566).
وهذا التشبيه غير مسلم؛ فإن زكاة التجارة تجب في كل حول فيما بقى لدى التاجر من رأس مال نام - بعد أن يكون قد دفع في أثناء الحول أجرة حانوته وغيرها من الأجور والنفقات، ولو كان عليه أجرة سنة أو أشهر لكانت دينًا عليه يطرحه مما في يديه ثم يزكى ما بقى، أما زكاة الزرع فلا يعتبر لها حول، بل تجب عند الحصاد، فليس بممكن دفع الأجرة من الزرع قبل الزكاة كما هو الشأن في أجرة الحانوت.
لهذا قد يبدو من الإجحاف بالمستأجر أن يبذل في الأرض جهده وعرقه، ثم يدفع أجرتها ثم يطالب بعد ذلك بالعشر على حين يتسلم مالك الأرض أجرته خالصة سائغة ولا يطالب بشيء إلا أن يحول الحول على الأجرة أو بعضها.
إن العدل أن يشترك الطرفان في الزكاة: كل فيما استفاده، فلا يعفى المستأجر إعفاءً كليًا من وجوب الزكاة -كما ذهب أبو حنيفة-، ولا يعفى المالك إعفاءً كليًا ويجعل عبء الزكاة كلها على المستأجر - كما ذهب الجمهور.(1/350)
ولقد انتبه ابن رشد -بعقله الفلسفي- إلى أن الواجب في الأرض المزروعة ليس حق الأرض وحدها، ولا حق الزرع فقط، ولكنه حق مجموعهما.
ومعنى هذا: أن يشترك صاحب الأرض وصاحب الزرع فيما يجب من العُشر أو نصفه، وهذا -فيما أرى- هو الراجح.
ولكن كيف يشتركان في أداء الواجب وعلى أي أساس يقوم ذلك؟.
لقد اخترنا مذهب القائلين بأن الزكاة في صافى الربع من الزرع، وأن الديون والخراج ونفقات الزراعة والبذر يرفع ما يوازيها من المحصول ثم يزكى ما بقى إن بلغ نصابًا.
وأجرة الأرض بلا شك من نفقات الزرع، وهى كالخراج فيجب أن تعد دينًا على المستأجر، فيقتطع من الخارج ما يقابل الأجرة -مع باقي الديون والنفقات- ثم يخرج العُشر أو نصفه من الباقي إذا بلغ النصاب.
فإذا كان إيجار الأرض 20 (عشرين جنيهًا) مثلاً، وأخرجت من القمح 10 (عشرة) أرادب، وكان الإردب يساوى خمسة جنيهات (فيكون مقدار الخارج 10 × 5 = 50 جنيهًا) فإنه يخرج عن 6 أرادب فقط، والأربعة الأخرى تُطرح مقابل الإيجار.
ولو كان الإيجار 30 جنيهًا (أي ما يوازي ثمن 6 أرادب، لكان الباقي 4 (أربعة) أرادب -48 كيلة- وهو دون النصاب فلا زكاة فيه).
أما مالك الأرض فليس عليه أن يُخرج العُشر أو نصف العُشر من الزرع والثمر، فإنه ملك لغيره وإنما عليه -فيما نرى- أن يزكى ما دفع إليه بدلاً من الزرع وهو الأجرة التي يقبضها.
وذلك: أنه لو زارع عليها بنصف ما يخرج منها مثلاً لكان عليه أن يخرج زكاة حصته من المحصول إذا بلغ نصابًا، فيخرج العُشر أو نصف العُشر حسب سقى الأرض أيضًا.(1/351)
وهناك كذلك يُخرج المالك زكاة الأجرة - التي هي مقابل نصف الخارج مثلاً في الزراعة- عُشرًا أو نصف عُشر حسب سقي الأرض المستأجرة وهذا بشرط أن تبلغ قيمة نصاب من الزرع القائم بالأرض لأنها بدل عنه، فإن كان عليه دَيْن أو خراج (ضريبة على الأرض) أخرجه من الأجرة وزكى ما بقى، ومثل الدَّيْن والخراج ما يفتقر إليه في حوائجه الأصلية، كالقوت له ولعائلته والملبس والمسكن والعلاج.
فإن المحتاج إليه في هذا كالمعدوم، ولهذا شبَّهه الفقهاء بالماء المحتاج إليه للشرب في جواز التيمم مع وجوده، لأنه اعتبر كأن لم يكن.
وبما قلناه يكون كل من مالك الأرض وزارعها المستأجر قد اشتركا في زكاتها بما يوافق العدل المنشود، ويناسب ما انتفع به منها.
فالمستأجر يؤدى زكاة ما أخرج الله له منها -من زرع حصده وثمر اجتناه- سالمًا من الدَّيْن والأجرة ونفقات الزرع.
والمالك يؤدى زكاة ما يسر الله له من أجرة عادت عليه من الأرض خالصة سائغة سالمة من الدَّيْن وضريبة الأرض ونحوها.
فالجزء الذي طرح من نصيب المستأجر الزارع -وهو ما يقابل الأجرة من المحصول والذي أعفى من زكاته- دخل في نصيب المالك وأدى عنه الزكاة الواجبة وهو أحق بها وأولى بأدائها من المستأجر في هذا القدر.
وبهذه المساهمة العادلة من المالك والمستأجر نكون قد أخذنا بأحسن ما قال أبو حنيفة وأحسن ما قال الجمهور، وأوجبنا على كل من الطرفين -المالك والزارع- ما هو أحق به وما هو مالك له، مع تفادى ازدواج الزكاة الواجبة، وتكررها في مال واحد، فإن القدر الذي زكى عنه المالك قد طرح ما يعادله من نصيب المستأجر.
ونوضح ذلك بمثال: رجل يملك عشرة أفدنة أجرها ليزرعها أرزًا مثلاً، وكانت أجرة الفدان 20 جنيهًا، فأخرجت الأرض 100 (مائة إردب) من الأرز، الذي يقدر ثمن الإردب منه بـ 4 (أربعة) جنيهات، فكيف يخرجان الزكاة؟(1/352)
أما المستأجر فيطرح من الخارج ما يساوى الإيجار وهو 50 (خمسون) إردبًا (50 × 4 = 200 جنيه وهو إيجار 10 × 20 = 200 جنيه)، وإذا كان قد أنفق على زرعه في البذر والسماد 40 (أربعين) جنبهًا أخرى (أي ما يعادل 10 أرادب) يكون الصافي المتبقي له 40 إردبًا، فإذا كان الواجب عليه نصف العشر مثلاً فهو يخرج عنها 2 (إردبين) وأما المالك فيخرج زكاة الجنيهات المائتين التي قبضها، فإن كان عليه خراج أو ضريبة تساوى 40 (أربعين) جنيهًا، ويكون الباقي له = 160 جنيهًا، فعليه إذن نصف عشرها أي 8 (ثمانية) جنيهات.
كتبت هذا الرأي منذ سنة 1383 هـ (1963م) ولم يقبله كثير من علماء الأزهر آنذاك، وقد قرأت أخيرًا في كتاب " تنظيم الإسلام للمجتمع " لأستاذنا الشيخ أبو زهرة (ص 159) قوله: "لقد اقترح بعض علماء هذا العصر في مشروع قانون للزكاة: أن تؤخذ من المالك والمستأجر، فيؤخذ من كل واحد منهما زكاة عما يصل إليه صافيًا، بعد أخذ الضرائب بالنسبة للمالك، وبعد تكليفات الزرع بالنسبة للمستأجر"، وهذا بحمد الله نفس ما رجحته وانتهيت إليه.
المبحث التاسع
العشر والخراج
فهرس
مذهب جمهور الفقهاء
مناقشة وترجيح
رفع الخراج من المحصول وتزكية الباقي
أين الأرض الخراجية الآن؟
من تعقيبات المعاصرين على اجتماع العشر والخراج
الأرض العشرية
أنواع الأرض الخراجية ومنشؤها
شراء الأرض الخراجية وبيعها
الخراج مفروض على التأبيد
هل يجتمع العشر والخراج
مذهب الحنفية وأدلتهم
اشترط الحنفية لوجوب العُشر أو نصفه في الزروع والثمار: ألا تكون الأرض خراجية، فإذا كانت الأرض خراجية لم يجب فيها إلا ما فُرض على رقبتها من خراج سنوي معلوم، وهو شبيه بما يسمى الآن "ضريبة الأملاك العقارية"، وأما الزكاة في الخارج من الأرض -أعنى العُشر أو نصفه- فليس بواجب في هذه الحال عند الحنفية.(1/353)
وخالفهم جمهور الفقهاء، وأوجبوا العُشر في كل أرض سواء أكانت عُشرية أم خراجية، ولهذا كان مما لا بد منه في هذا المبحث بيان الأرض العُشرية ما هي، والأرض الخراجية ما هي، وأن نعرف منشأ الخلاف بين الفريقين، ثم نعرض أدلة كل منهما، ونرجح ما نراه راجحًا.
فمتى تكون الأرض عُشرية؟ ومتى تكون خراجية؟
الأرض العُشرية
تكون الأرض عُشرية من أحد أنواع ذكرها أبو عبيد في "الأموال":
أحدهما: كل أرض أسلم عليها أهلها فهم مالكون لرقابها، كالمدينة، والطائف، واليمن، والبحرين، وكذلك مكة، إلا أنها كانت افتتحت بعد القتال، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عليهم فلم يعرض لهم في أنفسهم، ولم يغنم أموالهم، فلما خلصت لهم أموالهم، ثم أسلموا بعد ذلك، كان إسلامهم على ما في أيديهم، فلحقت أرضوهم بالعُشرية.
والنوع الثاني: كل أرض أخذت عنوة (أي فتحت بعد حرب وقتال بين أصحابها وبين المسلمين)، ثم إن الإمام لم ير أن يجعلها فيئًا موقوفًا، ولكنه رأى أن يجعلها غنيمة فخمسها، وقسم أربعة أخماسها بين الذين افتتحوها خاصة كفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأرض خيبر (وكانت مِلكًا لليهود قبل قتالهم)، فهذا أيضًا ملك أيمانهم ليس فيها غير العُشر، وكذلك الثغور كلها إذا قسمت بين الذين افتتحوها خاصة، وعزل عنها الخمس لمن سمى الله تبارك وتعالى.
والنوع الثالث: كل أرضعادية (قديمة) لا رب لها ولا عامر، أقطعها الإمام رجلاً إقطاعًا، من جزيرة العرب أو غيرها، كفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده، فيما أقطعوا من بلاد اليمن واليمامة والبصرة وما أشبهها.
والنوع الرابع: كل أرض ميتة استخرجها (استحياها) رجل من المسلمين فأحياها بالماء والنبات.
فهذه الأرضون التي جاءت فيها السنة بالعُشر أو نصف العُشر، وكلها موجودة في الأحاديث، فما أخرج الله تبارك وتعالى من هذه فهي صدقة إذا بلغت خمسة أوسق فصاعدًا.(1/354)
توضع في الأصناف الثمانية التي ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة براءة من أهل الصدقة خاصة لهم دون الناس " .(الأموال ص512، 513).
إلى الأعلى
أنواع الأرض الخراجية ومنشؤها
قال أبو عبيد:وما سوى هذه البلاد، فلا تخلوا من أن تكون أرض عنوة صيرت فيئًا كأرض السواد (سواد العراق) والأهواز وفارس وكرمان وأصبهان والري وأرض الشام -سوى مدنها- ومصر والمغرب.
أو تكون أرض صلح مثل: نجران وأيلة وأذرح ودومة الجندل وفدك، وما أشبهها مما صالحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلحًا، أو فعلته الأئمة بعده، كبلاد الجزيرة وبعض بلاد أرمينية، وكثير من كور خراسان.
فهذان النوعان من الأرضين: الصلح والعنوة التي تصير فيئًا، تكونان عامًا للناس في الأعطية وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور العامة أ.هـ .(الأموال ص531 - 614، وانظر الخراج لأبى يوسف ص 69).
يعنى أن ما يؤخذ عنهما من خراج يوضع في ميزانية الدولة العامة ويصرف منها على الجيش والرواتب ونحوها، وفي المصالح العامة للأمة كلها في جانب الإنتاج أو الخدمات.(1/355)
ويقصد أبو عبيد بما فتح عنوة: الأرض التي حارب أهلها المسلمين ولم يعقدوا معهم صلحًا، بل حكم بينهم وبين المسلمين السيف وحده، فهذه الأرض للإسلام فيها سياسة خاصة، أومأ إليها القرآن .(في آيات سورة الحشر(7 - 11) التي ذكر فيها تقسيم الفيء، والتي استدل بها سيدنا عمر على وقف رقبة الأرض لأجيال المسلمين جميعًا) وبدأ بتنفيذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- .(حيث قسم نصف أرض خيبر على الفاتحين، ووقف نصفها الآخر لما ينويه من أمر المسلمين كما دلت على ذلك بعض الروايات) ووضح تطبيقها في عهد عمر بن الخطاب، وملخص هذه السياسة نقل ملكية رقبة هذه الأرض من الأفراد المالكين إلى مجموع الأمة الإسلامية كلها في سائر الأجيال؛ فليس ملكها لشخص أو أشخاص بل هي للمسلمين جميعًا، وذلك لما لملكية الأرض من أهمية اقتصادية وسياسية واجتماعية، ويجب أن نذكر أن توزيع تلك الأراضي في عصور الجاهلية كان في غالبه توزيعًا ظالمًا، تختص فيه الأسر الحاكمة ومن يلوذ بها من الإقطاعيين وأمثالهم بصفوة الأرض، ويعيش الفلاحون فيها رقيقًا أو كالرقيق.
وقد عبر الفقهاء عن حكم الإسلام فيها بأنها تصير وقفًا للمسلمين، يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام -ويقدر حسب طاقة الأرض يكون أجرة لها، وتقر في أيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها، سواء أكانوا مسلمين أم من أهل الذمة ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم؛ لأنه بمنزلة أجرتها .(المغنى: 2/716).(1/356)
هذا ما صنعه عمر -رضى الله عنه- بما افتتح في عهده من أرض العراق والشام، ولم يستجب لبلال ومن معه، الذين سألوه أن يقسم الأرض على الفاتحين، كما تقسم بينهم غنيمة العسكر، فأبى عمر عليهم وتلا عليهم آيات سورة الحشر: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ثم قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) الآية، ثم قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) ثم قال: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) الآية .(الحشر: 7-10).
قال عمر: قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفى، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه .(الخراج لأبى يوسف ص23 - 24).
ومعنى: "دمه في وجهه" أن كرامته مصونة؛ إذ يقال لمن يسأل الناس: أراق ماء وجهه.
وقد نبهت الآية الكريمة على حكمة توزيع هذا الفيء على الطبقات الضعيفة المحتاجة بهذه الكلمة الرائعة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) فسبق بهذا المبدأ ما نادى به -بعد قرون طويلة- دعاة العدالة الاجتماعية وأنصار الاشتراكية.
وقررت الآيات توزيع عائد الفيء توزيعًا عادلاً، لا زال غرة في جبين الإنسانية، فجعلت نصيبًا فيه للجيل الحاضر من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وصودرت ملكياتهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومن الأنصار الذين فتحوا صدورهم ودورهم لإخوانهم المهاجرين فآووا ونصروا، وآثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
وأشركت مع هذا الجيل الذي بذل وضحى أجيالاً أخرى، عبر عنهم القرآن بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) .(الحشر: 10).(1/357)
وبهذا علمتنا الآيات الكريمة أن الأمة كلها وحدة متكاملة على اختلاف الأمكنة، وامتداد الأزمنة، وأنها -على مر العصور- حلقات متماسكة، يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجنى خلفها، ثم يأتي الآخر فيكمل ما بدأه الأول، ويفخر الأحفاد بما فعله الأجداد، ويستغفر اللاحق للسابق، ولا يلعن آخر الأمة أولها.
وبهذا التوزيع العادل تفادى الإسلام خطأ الرأسمالية التي تؤثر مصلحة الجيل الحاضر ومنفعته، مغفلة -في الغالب- ما وراءه من الأجيال، كما تجنب خطأ الشيوعية التي تتطرف كثيرًا إلى حد التضحية بجيل أو أجيال قائمة، في سبيل أجيال لم تطرق بعد أبواب الحياة.
ولهذا قال الفقيه الجليل معاذ بن جبل لأمير المؤمنين عمر - حين هم بقسمة الأرض أول الأمر على الفاتحين: والله ! إذن ليكونن ما تكره: إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة !! ثم يأتي بعدهم قوم يسدون من الإسلام سدا، وهم لا يجدون شيئًا فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم" ..قال: فصار عمر إلى قول معاذ (الأموال ص 59).
ومن هنا قال عمر لبلال وغيره ممن عارض وقف الأرض على الأمة كلها: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟! (الأموال ص58).
قال في "المغنى": ولم نعلم شيئًا مما فتح عنوة قسم بين المسلمين إلا خيبر، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسم نصفها فصار ذلك لأهله (يعنى ملاكه) لا خراج عليه، وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها، لم يقسم منه شيء (المغنى: 2/716).
إلى الأعلى
شراء الأرض الخراجية وبيعها(1/358)
أكثر أهل العلم -ومنهم مالك والشافعي وأحمد- أن الأرض الخراجية لا يجوز شراؤها لأنها أرض موقوفة، فلم يجز بيعها، كسائر الوقوف، وقال عمر رضى الله عنه لعتبة بن فرقد - وقد اشترى أرضًا منها: ممن اشتريتها؟ قال: من أربابها، فلما اجتمع المهاجرين والأنصار، قال: هؤلاء أربابها، فهل اشتريت منهم شيئًا؟! قال: لا ..قال فارددها على من اشتريتها منه، وخذ مالك (المرجع السابق: 2/821).
وقال بعض العلماء: إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها ! لما روى: أن ابن مسعود اشترى من دهقان (الدهقان: كلمة فارسية من معانيها: رئيس الإقليم) أرضًا على أن يكفيه جزيتها (المغنى: 2/720) يعنى خراجها.
وبعضهم لم يجز البيع وإنما أجاز الشراء فقط ! لأنه استخلاص للأرض من أهل الذمة، فيقوم فيها مقام من كانت في يده (المرجع السابق).
قال ابن قدامة: وإذا قلنا بصحة الشراء، فإنها تكون في يد المشترى على ما كانت عليه في يد البائع يؤدى خراجها، ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع إلى المشترى بعوض، وإن شرط الخراج على البائع -كما فعل ابن مسعود- يكون اكتراء لا اشتراء، وينبغي أن يشترط بيان مدته كسائر الإجارات (المغنى: 2/722).
ثم قال: وإذا بيعت هذه الأرض، فحكم بصحة البيع حاكم -يعنى قضى بها قاض- صح؛ لأنه مختلف فيه، فصح بحكم الحاكم كسائر المجتهدات (يقصد الأمور المجتهد فيها) وإن باع الإمام شيئًا لمصلحة رآها -مثل أن يكون في أرض ما يحتاج إلى عمارة لا يعمرها إلا من يشتريها- صح أيضًا؛ لأن فعل الإمام كحكم الحاكم (المرجع السابق ص 722، 723).
إلى الأعلى
الخراج مفروض على التأبيد(1/359)
وأحسب أنه -بعد هذا البيان- قد اتضحت لنا طبيعة الأرض الخراجية ونظرة المسلمين إليها منذ عهد عمر، وأنها ملك للأمة كلها، وأن ملكية أربابها لها ملكية يد لا ملكية رقبة، وأن الخراج المضروب عليها بمنزلة أجرة لها، تدفع إلى الدولة الإسلامية لتنفقها في المصالح العامة للأمة، من ذلك العمل على تعمير أرض الخراج نفسها، وتيسير ريها وإصلاح جسورها، وتحقيق كل ما يزيد في إنتاجها.
فإذا أسلم أرباب هذه الأرض بعد ذلك، أو انتقلت ملكيتها إلى مسلم بالبيع والشراء -كما حدث فعلاً- فإن الخراج يبقى مضروبًا عليها، بإجماع الفقهاء في سائر العصور؛ لأن أحدًا لا يملك إسقاطه حسب النظرة الفقهية له، إذ هو ملك الأجيال الإسلامية، في شتى الأزمنة كما وضحنا ذلك قبل -ولا يملك جيل منهم- ممثلاً في إمام أو حكومة- إسقاط حق الأجيال اللاحقة في هذا الخراج المفروض في أصله على التأبيد.
إلى الأعلى
هل يجتمع العُشر والخراج؟
وهذا الأمر قد أحدث مشكلة فقهية؛ فمن المعلوم أن الأرض إذا زرعها مسلم يجب عليه أن يخرج من زرعها أو ثمرها العُشر أو نصفه زكاة مفروضة، فهل يجب عليه هذا العُشر مع الخراج أم يعفى من أحدهما؟
أما الخراج فهو مؤبد -كما قلنا- ولا سبيل إلى إسقاطه، فهل يمكن إسقاط العُشر عنه أم يجب الاثنان معًا؟
إلى الأعلى
مذهب الحنفية وأدلتهم
ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن العُشر هنا غير واجب، وأن من شروط وجوبه ألا تكون الأرض خراجية وكذلك روى أبو عبيد عن الليث بن سعد، وابن أبى شيبة عن الشعبي وعكرمة: لا يجتمع خراج وعُشر في أرض (انظر الأموال ص91، والمصنف: 3/201 - طبع حيدر آباد)، واستند الحنفية في ذلك إلى أدلة.
أولاً: ما روى عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يجتمع عُشر وخراج في أرض مسلم" (قال في فتح القدير (2/14): رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعًا) وهو نص في المطلوب.(1/360)
ثانيًا: ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها (القفيز: مكيال، والمدى: مكيال لأهل الشام، وهو غير المد) ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم". قالها ثلاثًا. شهد على ذلك لحم أبى هريرة ودمه (رواه مسلم وأبو داود) (قال الشيخ أحمد شاكر فى هامش المحلى (5/ 247): رواه يحيى بن آدم في الخراج رقم (227)، ومسلم: 3/129، وابن الجارود ص499) ومعنى منعت: أي ستمنع كقوله تعالى: (أتى أمر الله) (النحل: 1) ووجه الدلالة في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر عما يكون في آخر الزمان من منع الحقوق الواجبة، وبين تلك الحقوق بما ذكر في الحديث، وهو عبارة عن الخراج المطلوب عليهم من الدرهم والقفيز لا العُشر، فلو كان العُشر واجبًا معه لاقترن به في الإخبار.
ثالثًا: ما رواه أبو عبيد بسنده عن طارق بن شهاب قال: كتب عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك (نهر الملك: كورة واسعة ببغداد) أسلمت، فكتب: " أن ادفعوا إليها أرضها تؤدى عنها الخراج " (الأموال ص87) فأمر بأخذ الخراج ولم يأمر بأخذ العُشر ولو كان واجبًا لأمر به.
رابعًا: أن عدم الجمع بين العُشر والخراج هو ما جرى عليه العمل منذ فرض عمر -ووافقه الصحابة- الخراج على أرض السواد وغيرها، ولم ينقل أن أحدًا من أئمة العدل أو ولاة الجور أخذ من أرض السواد عُشرًا مع كثرة امتلاك المسلمين للأراضي الخراجية وتوافر الدواعي على النقل، فكان ذلك منهم إجماعًا عمليًا لا تصح مخالفته.(1/361)
خامسًا: أن الخراج يجب بالمعنى الذي يجب فيه العُشر، وهو صلاحية الأرض للزراعة والنماء، ولهذا لو كانت سبخة لا منفعة لها، لم يجلب فيها خراج ولا عُشر، فسبب الوجوب فيها هو الأرض النامية؛ بدليل أنهما يضافان إليها، فيقال: خراج الأرض وعُشر الأرض، والإضافة تدل على السببية فلم يجز إيجابهما معًا، كما لو ملك نصابًا من الماشية السائمة بنية الاتجار لمدة سنة، لا تلزمه زكاتان بالإجماع: منعًا لوجوب زكاتين في مال واحد بسبب واحد، اتباعًا للحديث النبوي: "لا ثنى في الصدقة".
سادسًا: الخراج إنما وجب أصلاً بسبب الكفر؛ لأنه إنما وجب عقوبة في أرض فتحت عنوة وأقر فيها أربابها، أما العُشر فإنما وجب بسبب الإسلام؛ لأنه عبادة وجبت شكرًا لله وتطهيرًا للنفس والمال، فهما متباينان في مبدأ الإيجاب، فلم يجز اجتماعهما (انظر أحكام القرآن للجصاص: 3/17 - 19 - طبع البهية المصرية).
إلى الأعلى
مذهب جمهور الفقهاء
وذهب جمهور علماء الأمة إلى أن العُشر فريضة لازمة، ولا يمنع وجوب الخراج وجوب العُشر، واستندوا في ذلك:
أولاً: إلى عموم النصوص الواضحة المحكمة التي أوجبت الزكاة فيما خرج من الأرض، دون تفريق بين نوع من الأرض وآخر.
وذلك مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة: 267)، وقوله سبحانه: (وآتوا حقه يوم حصاده) (الأنعام: 141)، وقوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق على صحته: "فيما سقت السماء العُشر" وهذه النصوص عامة تشمل كل ما خرج من الأرض وما حصد وما سقته السماء أو غيرها، سواء أكانت الأرض عُشرية أم خراجية، فالخراج في رقبتها، سواء أزرعت أم لا، لمسلم كانت أو لكافر، والعُشر في غلتها إذا كانت لمسلم.
ثانيًا: أن العُشر والخراج حقان وجبا بسببين مختلفين، فلم يمنع وجوب أحدهما الآخر.(1/362)
وذلك: أن سبب الخراج التمكن من الانتفاع، وسبب العُشر وجود الزرع، كما أن العُشر يتعلق بعين الخارج من الأرض، والخراج يتعلق بالذمة، ومصرف العُشر هم الأصناف الثمانية في آية (إنما الصدقات) (التوبة: 60) الخ ومصرف الخراج رواتب الجند والموظفين والمصالح العامة للدولة، وإذا كانا حقين مختلفين سببًا ومتعلقًا ومصرفًا ولا منافاة بينهما، جاز اجتماعهما كأجرة حانوت التجارة وزكاتها.
وكما لو قتل المحرم صيدًا مملوكًا فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم، مضافًا إلى دفع قيمته لمالكه.
ثالثًا: أن العُشر وجب بالنصوص الصريحة من القرآن والسنة، فلا يمنعه الخراج الواجب بالاجتهاد (انظر المجموع: 2/549 - 550).
إلى الأعلى
مناقشة وترجيح رأى الجمهور
والحق أن أدلة الجمهور أدلة صحيحة صريحة، لا مطعن في ثبوتها ولا دلالاتها، وأن الحنفية لم يستطيعوا أن يعارضوا هذه الأدلة بشيء يكفي ويشفي، وأن إعفاء مسلم من زكاة زرعه وثمره -بسبب وجوب الخراج عليه- شيء مستبعد، كيف والزكاة قنطرة الإسلام، وثالثة دعائمه، وإحدى شعائره الكبرى؟ ولذا قال ابن المبارك بعد أن قرأ قوله تعالى: (ومما أخرجنا لكم من الأرض): فنترك قول القرآن لأبى حنيفة؟! (المغنى: 2/726).
وأما ما استند إليه الحنفية من المنقول والمعقول فقد رد عليه الجمهور وبينوا ضعفه مفصلاً:(1/363)
1- فأما حديث:" لا يجتمع عُشر وخراج " فهو كما قال النووي، حديث باطل مجمع على ضعفه، انفرد به يحيى بن عنبسة عن أبى حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال البيهقي: هذا المذكور إنما يرويه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم من قوله، فرواه يحيى بن عنبسة هكذا مرفوعًا ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر بالضعف لروايته عن الثقات الموضوعات (المجموع: 5/550 - 553) وذكر السيوطى في اللآلئ عن ابن حبان وابن عدى أنهما قالا في هذا الأثر: باطل لم يروه إلا يحيى وهو دجال (اللآلئ المصنوعة للسيوطي: 2/70 - طبع التجارية).
2- وأما حديث أبى هريرة "منعت العراق" الخ، فقال النووي: فيه تأويلان مشهوران في كتب العلماء المتقدمين والمتأخرين، أحدهما: أنهم سيسلمون وتسقط عنهم الجزية ..والثاني: أنه إشارة إلى الفتن الكائنة في آخر الزمان، حتى يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم، من زكاة وجزية وغيرها، ولو كان معنى الحديث ما زعموا، للزم ألا تجب زكاة الدراهم والدنانير والتجارة وهذا لا يقول به أحد (المجموع: 5/554 - 558، وانظر أيضًا الأموال لأبى عبيد ص 87، 88).
3- وأما قصة الدهقانة فمعناها: أن يؤخذ منها الخراج، لأنه أجرة فلا يسقط بإسلامها ولا يلزم من ذلك سقوط العُشر وإنما ذكر الخراج، لأنهم ربما توهموا سقوطه بالإسلام كالجزية، وأما العُشر فمعلوم لهم وجوبه على كل حر مسلم، فلم يحتج إلى ذكره، كما أنه لم يذكر أخذ زكاة الماشية منها، وكذا زكاة النقود وغيرها (لمجموع: المرجع السابق).
وأجاب بعضهم بأن خطاب عمر يحتمل أن يكون للقائم على أمر الخراج خاصة، وليس له ولاية على العُشور، أو أنه لم يكن وقت أخذ العُشر، أو أنها لم يكن لها ما يجب فيه العُشر (المجموع: المرجع السابق).(1/364)
4- وأما استدلالهم بأن عمل الأئمة والولاة استمر على عدم الجمع بين العُشر والخراج وصار إجماعًا عمليًا، فمنقوض بما صح عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه أخذ العُشر والخراج معًا.
روى يحيى بن آدم عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: سألت عمر بن عبد العزيز عن المسلم يكون له أرض خراج؟ ..قال خذ الخراج من ههنا -وأشار بيده إلى الأرض- وخذ الزكاة من ههنا - وأشار بيده إلى الزرع.
قال شريك: لعل عمر لا يكون قال هذا، حتى سأل عنه، أو بلغه فيه، فإنه كان ممن يُقتدى به (الخراج ليحيى بن آدم ص165).
وأما القول بأن عمر والصحابة رضى الله عنهم لم يأخذوا العُشر مع الخراج، فلأن أرض الخراج في عصرهم كانت في أيدي الكفار، فإن ادعى أنهم لم يأخذوا العُشر ممن أسلم فهذه دعوى لا دليل عليها (انظر المحلى: 2/247).
5- وأما قولهم: إن سبب العُشر والخراج واحد، فليس كذلك، لأن العُشر يجب في نفس الزرع والخراج يجب عن الأرض، سواء زرعها أم أهملها وبعبارة أخرى: سبب الخراج التمكن من الانتفاع، وسبب العُشر وجود المال نفسه (المجموع: 5/558 - 559).
6- وأما قولهم إن الخراج وجب عقوبة بسبب الكفر، فليس كذلك أيضًا؛ لأنه إنما وجب أجرة للأرض سواء أكانت في يد مسلم أم كافر ولو كان الخراج عقوبة ما وجب على مسلم كالجزية (المغنى: 2/726) ومما يشهد لذلك أن الدول الحديثة تفرض على مواطنيها ضريبة تسمى " ضريبة الأملاك العقارية " وهى قطعًا لا تقصد بذلك عقوبتهم بل إسهامهم في نفقات الدولة وإذن لا صحة للقول بأن سبيليهما متنافيان؛ فإن الخراج أجرة الأرض والعُشر زكاة الزرع ولا تنافى بينهما، كما لو استأجر أرضًا فزرعها.
إلى الأعلى
رفع الخراج من المحصول وتزكية الباقي
وإذا كان وجوب الخراج لا يمنع وجوب العُشر، فقد اخترنا أن يحسب الخراج دينًا على الزرع، فيجب أن يطرح من الخارج من الأرض، ثم يزكى الباقي إذا بلغ نصابًا.
إلى الأعلى
أين الأرض الخراجية الآن؟(1/365)
بقى علينا الآن أن ننظر نظرة واقعية في خارطة العالم الإسلامي، لنبحث عن طبيعة الأرض التي وصفها الفقهاء والمؤرخون قديمًا بأنها خراجية، وذلك مثل أراضى مصر والشام والعراق وغيرها، مما فتحه المسلمون الأوائل، وأبقى في أيدي أصحابه.
هل بقيت هذه الأرض خراجية، بحيث يجرى فيها الخلاف بين الحنفية وغيرهم، أم تغيرت طبيعتها وأصبحت مثل غيرها من الأراضي؟ فلا بد فيها من إخراج العُشر.
إن كثيرًا من متأخري الحنفية أفتوا بأن أراضى مصر والشام لم تعد خراجية، وأن الخراج ارتفع عنها لعودها إلى بيت المال بموت ملاكها، فإذا اشتراها إنسان بعد ذلك من بيت المال شراءً صحيحًا ملكها ولا خراج عليها، فلا يجب عليه الخراج، لأن الإمام قد أخذ البدل للمسلمين (البحر الرائق: 5/115).
وإذا سقط عنها الخراج، فقد بقى العُشر؛ لأنه الأصل هي كل أرض يملكها مسلم، وهو ثابت بالكتاب والإجماع، فيرد الأمر إلى الأصل.
والواقع أن الحكومات الحديثة الآن أصبحت تفرض على كافة الأراضي الزراعية ضريبة عقارية خاصة، غير ناظر إلى ما كان أصله عُشريًا أم خراجيًا فاستوت كل الأرضي في ذلك لهذا كان الأوفق بالواقع العملي هو إيجاب العُشر أو نصفه على كل أرض يملكها مسلم، إذا أخرجت النصاب المشروط للزكاة، وتكون الضريبة العقارية على رقبتها يدفعها من يملكها، والعُشر أن نصفه على إنتاجها من الزرع والثمر.
إلى الأعلى
من تعقيبات المعاصرين على اجتماع العُشر والخراج
يحسن -بعد أن تبين لنا رجحان مذهب الجمهور- أن أسجل بعض ملاحظات المعاصرين من رجال الفقه أو القانون تعقيبًا على موضوع اجتماع العُشر والخراج.(1/366)
يقول الدكتور أحمد ثابت عويضة في محاضرة له: "ينبغي لنا أن نشير إلى أن المسلمين فرقوا بين دخل الاستغلال الزراعي وبين دخل العقار، حينما ميزوا بين أحكام الخراج وبين زكاة الزروع والثمار، وهى تفرقة تعتبر أساسًا للضرائب النوعية في القرن العشرين، ففي كثير من البلاد توجد ضريبة مفروضة على دخل مالك العقار، على أساس ما يناله من أجر مقابل تأجير أرضه، وضريبة أخرى مفروضة على دخل الاستغلال، تفرض على أساس ما يناله المستغل من إيراد إذا استغل الأرض، سواء أكان مستأجرًا أم مالكًا، واعتبر جمهور الفقهاء الخراج ضريبة على دخل مالك العقار، ورأوا أن زكاة الزروع والثمار ضريبة على دخل الاستغلال الزراعي، ورتبوا على ذلك: أن المسلم الذي يزرع في أرض مملوكة لذمي يؤدى زكاة الزروع كما يؤدى الذمي الخراج، وأن المسلم إذا امتلك أرضًا خراجية، يؤدى العُشر والخراج" .(من محاضرة " الإسلام وضع الأسس الحديثة للضريبة " للدكتور أحمد ثابت عويضة، ضمن الموسم الثقافي الأول لمحاضرات الأزهر 1959 ص302).
قال الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت وزميله في كتاب "مقارنة المذاهب" بعد أن بينا ضعف أدلة الحنفية وقوة حجج الجمهور، ورجحا مذهبهم: " وإنك إذا تنبهت إلى أن العُشر واجب ديني على المسلمين، وأن الخراج واجب اجتهادي ليكون مادة لجماعة المسلمين يسدون به حاجتهم العامة - تستطيع أن ترى لولى الأمر الحق -إذا رأى المصلحة ودعت الحاجة- أن يضرب على المسلمين وغيرهم ممن تحميهم الدولة وينتفعون بمرافقها وقوتها، ما يحقق به المصلحة ويدفع الحاجة، ولا يمنعه من فرض ذلك على المسلمين ما أوجبه الله عليهم -دينًا وجزية- من صدقات تطهرهم وتزكيهم، وأن فرض الخراج لا يعفيهم مما وجب عليهم بنص الكتاب وصريح السنة" .(مقارنة المذاهب في الفقه ص54، للشيخين محمود شلتوت ومحمد السايس).
الفصل السادس
زكاة العسل والمنتجات الحيوانية
فهرس
نصاب العسل(1/367)
المنتجات الحيوانية كالألبان والقز ونحوها
زكاة العسل بين الموجبين والمانعين
مقدار الواجب في العسل
المبحث الأول
زكاة العسل بين الموجبين والمانعين
فهرس
مذهب من لم يوجب في العسل زكاة
رأي أبى عبيدة
ترجيح إيجاب الزكاة في العسل
تمهيد
القائلون بزكاة العسل
أدلة الموجبين
تمهيد
العسل من الطيبات التي وهبها الله لعباده وجمع لهم فيها الغذاء والشفاء والتفكه، ولهذا ذكره الله في معرض الامتنان على خلقه في سورة سميت "سورة النحل" صانع العسل، وسماها بعض السلف "سورة النعم" قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كُلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) (النحل: 68 ـ 69).
فهل يجب في هذا العسل زكاة، كما وجب فيما أخرج الله من الأرض؟ هذا ما سنبينه في المبحث التالي:
إلى الأعلى
القائلون بزكاة العسل
ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى القول بوجوب الزكاة في العسل بشرط ألا يكون النحل في أرض خراجية، فإن الخراجية يدفع عنها الخراج، ولا يجتمع حقان لله في مال واحد بسبب واحد، وسواء أكانت الأرض عشرية أو لم تكن، كما إذا كان النحل في مفازة أو جبل فإنه فيه العشر (انظر الهداية وفتح القدير: 2/5 ــ 7 والدر المحتار وحاشيته: 2/604 ــ 605).
وكذلك ذهب أحمد إلى وجوب الزكاة في العسل.
قال الأثرم: سُئل أبو عبد الله ـ يعنى ابن حنبل ـ أنت تذهب إلى أن في العسل زكاة؟ قال: نعم أذهب إلى أن في العسل زكاة، فقد أخذ عمر منهم الزكاة قلت: ذلك على أنهم تطوعوا به؟ قال لا، بل أخذه منهم (المغنى: 2/713).(1/368)
وهو قول مكحول والزهري وسليمان بن موسى والأوزاعى وإسحاق (المصدر السابق، ومعالم السنن: 2/209) وحكاه في "البحر" عن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والهادي والمؤيد بالله، وقولاً للشافعي، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم، وخالفه ابن عبد البر فحكى القول المخالف عن الجمهور (نيل الأوطار: 4/146، وقد اختلفت الرواية عن عمر بن عبد العزيز، فحكى البخاري وابن أبى شيبة وعبد الرزاق وعنه: أنه لا يجب في العسل زكاة، وروى عنه عبد الرزاق مثل ما روى صاحب البحر، ولكن بإسناد ضعيف، كما قال الحافظ في الفتح).
إلى الأعلى
أدلة الموجبين
اعتمد أصحاب هذا الرأي على دليلين: أولهما الآثار، وثانيهما النظر والاعتبار.
أولاً ـ الآثار، ومنها
( أ ) ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنه أخذ من العسل العشر" (رواه ابن ماجه) ــ قال الدارقطني: يُروى عن عبد الرحمن ابن الحارث وابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مسندًا، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرو بن شعيب مرسلاً، قال الحافظ: فهذه علته، وعبد الرحمن وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان، لكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات، وتابعهما أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن ابن ماجه وغيره (انظر مختصر السنن: 2/209، 210).(1/369)
وروى أبو داود ـ واللفظ له ـ والنسائي عنه قال: جاء هلال أحد بنى متعان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمى واديًا يقال له "سلبة" فحمى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الوادي، فلما ولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عشور نحله فاحم له "سلبة" وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء، قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب، وترجمة عمرو قوية على المختار، ولكن حيث لا تعارض (فتح الباري: 3/223 ـ طبع الخيرية. وذكر الحافظ خبرًا رواه عبد الرزاق عن عمر بن عبد العزيز يدل على أن هلالاً أعطى ذلك تطوعًا .قال: لكن الإسناد الأول أقوى، إلا أنه محمول على أنه في مقابلة الحمى، كما يدل عليه كتاب عمر بن الخطاب).
(ب) وعن سليمان بن موسى: "أن أبا سيارة المتعي قال: قلت: يا رسول الله: إن لي نحلاً، قال: فأد العشور، قلت: يا رسول الله، احم لي جبلها، قال: فحمى لي جبلها" (رواه أحمد وابن ماجه) (ذكره في المنتقى عنهما، وقال الشوكاني، أخرجه أيضًا أبو داود والبيهقي، وهو منقطع لأن سليمان لم يدرك أحدًا من الصحابة كما قال البخاري - انظر نيل الأوطار: 4/146 ــ طبع العثمانية، والتلخيص لابن حجر ص 180)(1/370)
( ج ) وروى البيهقي عن سعيد بن أبى ذباب: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعمله على قومه، وأنه قال لهم: أدوا العشر في العسل، وأنه أتى به عمر فقبضه، فباعه، ثم جعله في صدقات المسلمين" وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري وغيره (التلخيص ص 180 ) ـ وفى رواية عنه أنه قال لقومه: إنه لا خير في مال لا زكاة فيه، قال: فأخذت من كل عشر قرب قربة، فجئت بها إلى عمر بن الخطاب، فجعلها في صدقات المسلمين (رواه سعيد في سننه) (المغنى: 2/715)، وروى الأثرم عنه: أن عمر أمره في العسل بالعشر (المرجع السابق ص 714).
(د) وروى الترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "في العسل في كل عشرة أزقاق زق"، وفي إسناده صدقة السمين، وهو ضعيف الحفظ وقد خولف.
وهذه الأحاديث والآثار، وغيرها مما ورد في الموضوع ـ وإن كان في أسانيدها كلام ـ يقوى بعضها بعضًا، ويدل على أن لهذا الحكم أصلاً.
قال ابن القيم بعد أن ذكر هذه الأحاديث وتضعيف الآخرين لها: وذهب أحمد وجماعته إلى أن في العسل زكاة ورأوا أن هذه الآثار يقوى بعضها بعضًا، وقد تعددت مخارجها واختلفت طرقها، ومرسلها يعضد بمسندها، وقد سئل أبو حاتم الرازي عن عبد الله والد منير عن سعد بن أبى ذباب: يصح حديثه ؟ قال: نعم (زاد المعاد: 1/312، والحديث من رواية منير بن عبد الله عن أبيه عن ابن أبى ذباب).
ثانيًا: يؤيد ذلك من جهة الاعتبار والقياس أن العسل فيه العشر يتولد من نور الشجر والزهر، ويكال ويدخر، فوجبت فيه الزكاة كالحب والتمر، ولأن الكلفة فيه دون الكلفة في الزروع والثمار (زاد المعاد: 1/314).(1/371)
ومذهب أبى حنيفة أن العسل فيه العشر في الأرض العشرية، أما في الأرض الخراجية فلا زكاة فيه بناء على أصله: أن العشر والخراج لا يجتمعان، لأن أرض الخراج قد وجب على مالكها الخراج لأجل نمائها وزرعها فلم يجب فيها حق آخر لأجلها، وأرض العشر لم يجب في ذمته حق عنها، فلذلك وجب الحق فيما يكون منها، وسوَّى الإمام أحمد بين الأرضين في ذلك، وأوجبه فيما أخذ من ملكه أو من موات، عشرية كانت الأرض أو خراجية (المصدر السابق).
إلى الأعلى
مذهب من لم يوجب في العسل زكاة
وقال مالك والشافعي وابن أبى ليلى والحسن بن أبى صالح وابن المنذر: لا زكاة في العسل، واحتجوا بأمرين:
الأول: ما قاله ابن المنذر أنه ليس في وجوب الصدقة فيه خبر يثبت ولا إجماع، فلا زكاة فيه.
والثاني: أنه مائع خارج من حيوان، فأشبه اللبن، واللبن لا زكاة فيه بالإجماع (المغنى: 2/713).
إلى الأعلى
رأى أبى عبيد
ووقف أبو عبيد موقفًا وسطًا بين من أوجب الزكاة ومن لم يوجبها في العسل، لما لاح منه من تعارض الآثار الواردة، وإن كان قد مال إلى إيجاب الزكاة بقدر.
قال بعد حكاية القولين في زكاة العسل: وأشبه الوجوه في أمره عندي أن يكون أربابه يؤمرون بأداء صدقته، ويحثون عليها، ويكره لهم منعها، ولا يؤمن عليهم المأثم في كتمانها، من غير أن يكون ذلك فرضًا عليهم كوجوب صدقة الأرض والماشية، ولا يجاهد أهله على منع صدقته كما يجاهد مانعو ذينك المالين، وذلك أن السنة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تصح فيه كما صحت فيهما، ولا وجدت في كتب صدقاته، ولو كانت بمنزلتها لكانت لها أوقات (حدود) ومعالم كالحدود التي حدها في تلك: من الأوسق الخمسة فيما يخرج من الأرض، ومن الأربعين من الغنم، وكذلك لم يثبت عن أحد من الأئمة بعده.
إلا إنه قد يجب على الإمام إذا أتاه رب العسل بصدقته أن يقبلها منه، كما قبل عمر من ابن أبى ذباب.(1/372)
ثم قال: فهذا حدها: أن يكون تركها تفريطًا وجفاء من مانعيها في الدين، وليس بحكم يؤخذ به على الكره والرضا (الأموال ص 506، 507).
إلى الأعلى
ترجيح إيجاب الزكاة في العسل
والذي أختاره في ذلك أن العسل مال، ويبتغى من ورائه الفضل والكسب، فهو مال تجب فيه الزكاة ـ ودليلنا على ذلك :
( أ ) عموم النصوص التي لم تفصل بين مال وآخر، مثل قوله تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة ) (التوبة: 103)، وقوله: ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ) (البقرة 267)، وقوله: ( أنفقوا مما رزقناكم ) (البقرة 254) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
( ب ) القياس على ما فرض الله فيه الزكاة من الزروع والثمار، فما أشبه الدخل الناتج من استغلال الأرض بالدخل الناتج من استغلال النحل ويقيننا أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين، كما لا تسوى بين مختلفين.
(ج) الآثار والأحاديث التي وردت في ذلك من طرق مختلفة، فإنها ـ كما قال ابن القيم ـ يقوى بعضها بعضًا، وقد تعددت مخارجها، واختلفت طرقها، ومرسلها يعضد بمسندها، ولهذا لم يجزم الترمذي رحمه الله بنفي الصحة عن أحاديث هذا الباب نفيًا مطلقًا كما قال غيره، بل قال: ولا يصح في هذا الباب كبير شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (صحيح الترمذي شرح ابن العربى: 2/123).
ومفهوم هذا: أنه صح فيه شيء وإن كان غير كبير، قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم (المرجع السابق).
وقد ذهب الشوكاني إلى ذلك في "الدرر البهية" رغم ميله إلى التضييق في إيجاب الزكاة، فقال: "ويجب في العسل العشر" وأيده شارحها صديق حسن خان، وذكر الآثار الواردة، ثم قال: وجميعها لا يقصر عن الصلاحية للاحتجاج به (الروضة الندية: 1/200).
وأما قول المانعين إنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن، ولا زكاة في اللبن إجماعًا، فالجواب ما قاله صاحب المغنى: إن اللبن قد وجبت الزكاة فى أصله وهو السائمة بخلاف العسل (المغنى: 2/714 ـ الطبعة الثانية).(1/373)
المبحث الثاني
مقدار الواجب في العسل
اتفق الموجبون لزكاة العسل على أن الواجب فيه العشر، للآثار التي ذكرناها، وقياسا على الزرع والثمر (المغنى: 1/713).
وهل ينظر فيه للكلفة والمؤونة أم لا؟
روى أبو عبيد بسنده عن عمر أنه قال في عشور العسل: ما كان منه في السهل ففيه العشر، وما كان منه في الجبل ففيه نصف العشر (الأموال ص 498).
فنظر إلى أن للكلفة والمشقة أثرًا في تقليل الواجب كما في الزرع.
ولم يخالف في ذلك إلا الناصر من آل البيت فقال: فيه الخمس كالفيء، إذ ليس مكيلاً ولا من الأرض (البحر الزخار: 1/ 174) ورد عليه بأنه كالثمر لتولده من الشجر، وقد عضدت ذلك الآثار (المرجع السابق).
والذي نرجحه أن يؤخذ العشر من صافى إيراد العسل، أي بعد رفع النفقات والتكاليف كما قلنا في عشر الزرع والثمر.
المبحث الثالث
نصاب العسل
أما نصاب العسل فلم ترد الآثار بحد معين فيه، ولهذا اختلفوا فيه، فأبو حنيفة يرى في قليله وكثيره العشر، بناء على أصله في الحبوب والثمار (بدائع الصنائع: 1/61).
وعن أبى يوسف أنه اعتبر نصابه أن يبلغ قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يكال كالشعير، فإن بلغها وجب فيه العشر وإلا فلا، بناء على أصله من اعتبار قيمة الأوسق فيما لا يكال (المرجع السابق).
وعنه: أن النصاب عشرة أرطال (نفس المرجع).
وعن محمد جملة روايات: من خمسة أفراق إلى خمسة أمنان، إلى خمس قرب (بناء على أصله من اعتبار خمسة أمثال من أعلى ما يقدر به) وقدر الفرق بستة وثلاثين رطلاً، والمن رطلان، والقربة مائة رطل.
وعن أحمد: نصابه عشرة ـأفراق، والخبر روى عن عمر في ذلك، وجاء عن أحمد أن الفرق ستة عشر رطلاً فيكون النصاب مائة وستين رطلاً بالبغدادي، ومائة وأربعة وأربعين بالمصري.(1/374)
والراجح عندي أن يقدر النصاب بقيمة خمسة أوسق (أي 647 كيلو جرام أو 50 كيلة مصرية) من أوسط ما يوسق كالقمح، باعتباره قوتا من أوسط الأقوات العالمية، وقد جعل الشارع الخمسة الأوسق نصاب الزروع والثمار، والعسل مقيس عليهما، ولهذا يؤخذ منه العشر، فنجعل الأوسق هي الأصل في نصابه.
واعتبار قيمة الأدنى كالشعير كما قال أبو يوسف ـ وإن كان فيه رعاية للفقراء ـ فيه إجحاف بأرباب الأموال، واعتبار الأعلى كالزبيب فيه إجحاف بالفقراء، واعتبار الوسط هو الأعدل للجانبين كما رجحناه من قبل.
المبحث الرابع
المنتجات الحيوانية كالقز والألبان ونحوها
رجحنا مذهب القائلين بوجوب الزكاة في العسل، اعتمادًا على عموم النصوص، وعلى القياسي على دخل الثروة الزراعية، وعلى الآثار التي قوى بعضها بعضًا فما الحكم فيما يشبه العسل من المنتجات الحيوانية الأخرى؟
إننا نعرف في عصرنا حيوانات غير سائمة، تُتخذ للألبان خاصة، وتدر دخلاً وفيرًا على أصحابها، ونعرف في بعض البلاد دود القز الذي يربى على ورق التوت ونحوه، وينتج ثروة من الحرير الفاخر، ونعرف مزارع الدواجن التي تنتج كميات هائلة من البيض، أو تسمن للحم، ولم يعرف المسلمون في عصر النبوة وعصر الصحابة ومن بعدهم هذه الثروات النامية، ولهذا لم يصدروا فيها حكمًا.
إن الجواب عن هذا السؤال نستفيده مما ذكره الفقهاء في تعليل عدم وجوب الزكاة في ألبان السائمة، ووجوبها في عسل النحل، وكلاهما خارج من حيوان، فقد قالوا في التفريق بين لبن السائمة وعسل النحل: إن اللبن خارج من حيوان وجبت الزكاة في أصله ـ وهى الأنعام السائمة ـ بخلاف العسل، ومفهوم هذا: أن ما لم تجب الزكاة في أصله، تجب في نمائه وإنتاجه، وهذا يعنى قياس ألبان البقر ونحوها من المنتجات الحيوانية على عسل النحل، فإن كلاً منها خارج من حيوان لم تجب الزكاة في أصله.(1/375)
ولهذا أرى أن نعامل المنتجات الحيوانية كالألبان وملحقاتها معاملة العسل، فيؤخذ العشر من صافى إيرادها (وهذا في الحيوانات غير السائمة التي تتخذ للألبان خاصة، ما لم تعتبر الحيوانات نفسها ثروة تجارية).
والقاعدة التي نخرج بها هنا: أن ما لم تجب الزكاة في أصله، تجب في نمائه وإنتاجه، كالزرع بالنسبة للأرض، والعسل بالنسبة للنحل، والألبان بالنسبة للأنعام، والبيض بالنسبة للدجاج، والحرير بالنسبة للدود، وهذا ما ذهب إليه الإمام يحيى من فقهاء الشيعة، فأوجب الزكاة في القز كالعسل، لتولدهما من الشجر، لا في دوده كالنحل، إلا إذا كان للتجارة (البحر الزخار: 2/173).
على أن من الفقهاء من نظر إلى الحيوانات ـ غير السائمة ـ التي تتخذ للنتاج والاستغلال نظرة أخرى، فقاسها على عروض التجارة، وأوجب تقويمها كل عام مع نتاجها، وإخراج ربع العشر من رأس المال ونمائه معًا.
وهذا مروى عن جماعة من فقهاء الزيدية كالهادى والمؤيد بالله وغيرهما.
فمن اشترى فرسًا ليبيع نتاجها أو بقرة ليبيع ما يحصل من لبنها وسمنها، ودود قز ليبيع ما يحصل منه، ونحو ذلك، قوَّمها في آخر الحول مع نتاجها وزكَّاها كالتجارة (انظر شرح الأزهار وحواشيه: 1/475).
وليس هذا مقصورًا عندهم على الحيوانات المنتجة، بل يشمل كل مال يستغل وينتج في غير التجارة، كالدور التي تُكرى ونحوها، ولهذا سنرجئ مُناقشة هذه المسألة إلى الفصل الثامن الذي نتحدث فيه عن زكاة العمارات والمصانع ونحوها من "المُستغلات" ونكتفي هنا بأن نقول: إن قياس المنتجات الحيوانية على العسل قياس صحيح، ولا معارض له، فلا ينبغي العدول عنه.
الفصل السابع
زكاة الثروة المعدنية والبحرية
فهرس
هل يشترط للمعدن حول؟
في مصرف ما يؤخذ من المعدن
ما يستخرج من البحر
الكنوز المدفونة وما يجب فيها
في وجوب حق في المعدن
في مقدار هذا الواجب
في النصاب ومتى يعتبر؟
تمهيد: - بيان معنى المعدن والكنز والركاز(1/376)
قال ابن الأثير في "النهاية": المعادن: المواضع التي تستخرج منها جواهر الأرض، كالذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، واحدها معدن (النهاية لابن الأثير: 3/82).
وقال ابن الهمام في الفتح: المعدن من العدن وهو الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه جنات عدن، ومركز كل شيء معدنه ـ عن أهل اللغة ـ فأصل المعدن النكان بقيد الاستقرار فيه، ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض، حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة.
والكنز: المثبت فيها من الأموال بفعل الإنسان.
والركاز: يعمهما (يعنى المعدن والكنز) لأنه من الركز مرادًا به المركوز، أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق (فتح القدير: 1/537) وهو مبنى على قول فقهاء العراق في تفسير معنى "الركاز" وسيأتي.
وذكر ابن قدامة في "المغنى" تعريفًا دقيقًا للمعدن فقال: هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة.
وإنما قال: "ما خرج من الأرض" احترازا مما خرج من البحر، وقال: "مما يُخلق فيها" احترازًا من الكنز الذي يوضع فيها بفعل البشر لا بخلق الله.
وقال: "من غيرها" احترازًا من الطين والتراب لأنه من الأرض، وقوله: "مما له قيمة" (المغنى: 3/23) ليمكن أن يكون مالاً تتعلق به الحقوق، وقد مثل له بالذهب والفضة والرصاص والحديد والياقوت والزبرجد والعقيق والكحل، وكذلك المعادن الجارية كالقار والنفط والكبريت ونحو ذلك (المرجع السابق)
المبحث الأول
الكنوز المدفونة وما يجب فيها
أما الكنوز وهى ما دفنه القدماء في الأرض، من المال على اختلاف أنواعه، كالذهب والفضة والنحاس والآنية وغير ذلك ـ فأوجب الفقهاء فيها الخمس على من وجدها لما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "في الركاز الخمس" ( رواه الجماعة ) (ذكره في المنتقى.. انظر نيل الأوطار: 4/147 ـ طبع العثمانية) والمدفون في الأرض ركاز بالإجماع، لأنه مركوز فيها.(1/377)
وروى النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن اللقطة، فقال: ما كان في طريق مأتى (مسلوك) أو في قرية عامرة، فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها، وإلا فلك، وما لم يكن في طريق مأتى ولا في قرية عامرة ففيه وفى الركاز الخمس (سنن النسائي: 5/44، باب " المعدن ").
وقد دل الحديثان على أمور منها:
( أ ) أن ما يجده في موات أو في أرض لا يعلم لها مالك فيه الخمس، ولو وجده على ظهر الأرض، أما ما يجده في ملك مسلم أو ذمي فهو لصاحب الملك.
(ب) الجمهور على أن الركاز يشمل كل مال ركز ودفن في الأرض، وخصه الشافعي بالذهب والفضة (نيل الأوطار: 4/148) والأول هو الموافق لعموم الأحاديث.
(ج) كما دلَّ ظاهر الحديثين أن الخمس على الواجد سواء أكان مسلمًا أم ذميًا، صغيرًا أم كبيرًا، وإليه ذهب الجمهور، وقال الشافعي: لا يؤخذ من الذمي شيء (المرجع السابق) بناء على أنه لا يجب إلا على من تجب عليه الزكاة، لأنه زكاة، وحُكِىَ عنه في الصبي والمرأة: أنهما لا يملكان الركاز.
قال في المغنى: ولنا عموم قوله عليه السلام: "في الركاز الخمس" فإنه يدل بعمومه على وجوب الخمس في كل ركاز يوجد، وبمفهومه على أن باقيه لواجده من كان (المغنى: 3/22، 23).
قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: من قال من الفقهاء بأن في الركاز الخمس إما مطلقًا أو في أكثر الصور فهو أقرب إلى الحديث (نيل الأوطار: 4/148، وفتح الباري: 3/235).(1/378)
(د) وظاهر الحديث عدم اعتبار النصاب، وأن الخمس فيما وجد من كنوز الجاهلية قليلاً أو كثيرًا، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق والشافعي في القديم، ولأنه مال مخموس فلا يعتبر له نصاب كالغنيمة، ولأنه مال ظهر عليه بغير جهد ومؤونة، فلم يحتج إلى التخفيف بإعفاء القليل منه، بخلاف المعدن والزرع (المغنى: 3/20، 21 ـ ونسب الشوكاني القول باعتبار النصاب إلى مالك وأحمد وإسحاق، وهو مخالف لما نقله صاحب المغنى وخاصة عن أحمد).
(هـ) واتفقوا على أنه لا يشترط فيه الحول، بل يجب إخراج الخمس في الحال.
قال الحافظ في الفتح: وأغرب ابن العربى في شرح الترمذي، فحكى عن الشافعي الاشتراط، ولا يعرف ذلك في شيء من كتبه ولا كتب أصحابه (نيل الأوطار وفتح الباري كما سبق).
( و) ولم يحدد الحديث مصرف الركاز ولهذا اختلف الفقهاء فيه: أيصرف مصرف الزكاة: للفقراء والمساكين وسائر الأصناف الثمانية، أم يصرف مصرف الفيء، أي في المصالح العامة للدولة، وللفقراء والمساكين حظ فيها أيضًا؟
قال الشافعي وأحمد في رواية عنه: مصرفه مصرف الزكاة، لأن على بن أبى طالب رضى الله عنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين (رواه عنه الإمام أحمد) ولأنه مستفاد من الأرض فأشبه الزرع والثمر.(1/379)
وقال أبو حنيفة وأحمد ومالك في رواية أخرى عنه والجمهور: مصرفه كالفيء (نيل الأوطار: 4/148) أي يخلط بالميزانية العامة للدولة، لما روى أبو عبيد بسنده عن الشعبي: أن رجلاً وجد ألف دينار مدفونة خارجًا من المدينة، فأتى بها عمر بن الخطاب فأخذ منها الخمس ـ مائتي دينار ـ ودفع إلى الرجل بقيتها، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضر من المسلمين، إلى أن فضل منها فضلة فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك ..قال في المغنى: "ولو كانت زكاة لخص بها أهلها، ولم يفرقها على من خضره، ولم يرده على واجده، قالوا: ولأنه يجب على الذمى، والزكاة لا تجب عليه، ولأنه مال مخموس زالت عنه يد الكافر فأشبه خمس الغنيمة" (المغنى: 3/22).
وأيا ما كان المصرف فهذه الكنوز أمر نادر الوقوع، وليست موردًا ذا قيمة لخزانة الزكاة أو الخزانة العامة، لهذا كان المهم في هذا الفصل أن نعرف الحكم في الثروة المعدنية، فهي مورد هام يتميز بالغنى والتجدد والاستمرار.
المبحث الثاني
المعدن ووجوب حق فيه
فهرس
المعدن الذي يؤخذ منه هذا الحق
في المستخرج من المعدن حق واجب
في المستخرج من المعدن حق واجب(1/380)
بينا في الفصل الأسبق حكم الزكاة في الثروة الزراعية، وهي ما تخرج الأرض من زرع وثمر، وبقي علينا هنا أن نعرف الحكم في ثروة أخرى تستخرج من باطن الأرض، وهى الثروة المعدنية وهى تلك الثروة التي ركزها الله في الأرض، وخلطها بترابها، وهدى الإنسان إلى استخراجها بوسائل شتى، حتى يصنعها ويميزها ذهبًا، أو فضة، أو نحاسًا أو حديدًا أو قصديرًا أو زرنيخًا أو نفطًا أو قارا أو ملحًا، إلى آخر تلك المعادن السائلة والجامدة، ولا شك أن هذه الثروة لها قيمتها وأهميتها في حياة الإنسان، وخاصة في عصرنا الحديث الذي تتنافس فيه الشركات العالمية للحصول على امتيازات التنقيب عن هذه المعادن في جوف الأرض، بل تصطرع حكومات، وقد تشتعل حروب، من أجل هذه الثروة المذخورة في التراب، وخاصة "البترول" منها.
ما حكم شريعة الإسلام فيما يُحصَّل من هذه المعادن؟ وما الحق الواجب فيها؟ ومتى يجب؟ وفي أي مقدار يجب؟ وما تكييف هذا الحق؟ وأين يصرف؟
أسئلة اختلف الفقهاء في الإجابة عنها تبعًا لاختلافهم في تفسير النصوص، وفي القياس عليها، وإن أجمعوا ـ في الجملة ـ على وجوب حق يؤخذ مما يستخرج من المعدن، مستندين إلى عموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة 267) ولا ريب أن المعادن مما أخرجه الله تعالى لنا من الأرض.
إلى الأعلى
المعدن الذي يؤخذ منه هذا الحق
من ذلك اختلافهم في تحديد المعدن الذي يؤخذ منه هذا الحق، فالمشهور عن الشافعي أنه يقصره على الذهب والفضة، فأما غيرهما من الجواهر كالحديد والنحاس والرصاص والفيروز والبلور والياقوت والعقيق والزمرد والزبرجد والكحل وغيرهما، فلا زكاة فيها.(1/381)
ويرى أبو حنيفة وأصحابه أن كل المعادن المستخرجة من الأرض مما ينطبع بالنار، وبتعبير آخر مما يقبل الطرق والسحب، فيها حق واجب فأما المعادن السائلة أو الجامدة التي لا تنطبع فلا شيء فيها عندهم (انظر: المرقاة للقارئ: 4/149) وإنما قالوا ذلك قياسًا على الذهب والفضة اللذين ثبت وجوب الزكاة فيهما بالنص والإجماع، فيقاس عليهما ما أشبههما وذلك هو الذي ينطبع بالنار من المعادن.
ومذهب الحنابلة أن لا فرق بين ما ينطبع وما لا ينطبع من المعادن، فالمعدن الذي يتعلق به الوجوب هو كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها مما له قيمة، سواء أكان جامدًا كالحديد والرصاص والنحاس وغيرها، أم من المعادن الجارية كالنفط والقار والكبريت ـ وهذا أيضًا مذهب زيد بن على والباقر والصادق، وعلبه كافة فقهاء الشيعة، ما عدا المؤيد بالله فقد استثنى الملح والنفط والقار (البحر الزخار: 2/210).
سئل أبو جعفر الباقر عن الملاحة فقال: وما الملاحة ؟ فقال السائل: أرض سبخة مالحة يجتمع فيها الماء فيصير ملحًا، فقال: هذا المعدن فيه الخمس، قال السائل: والكبريت والنفط يخرج من الأرض؟ فقال: هذا وأشباهه فيه الخمس (جواهر الكلام: 2/119 ـ 120).
ومذهب الحنابلة ومن وافقهم هنا هو الراجح، وهو الذي تؤيده اللغة في معنى "المعدن" كما يؤيده الاعتبار الصحيح، إذ لا فرق في المعنى بين المعدن الجامد والمعدن السائل، ولا بين ما ينطبع وما لا ينطبع: لا فرق بين الحديد والرصاص وبين النفط والكبريت، فكلها أموال ذات قيمة عند الناس، حتى ليسمى النفط في عصرنا "الذهب الأسود" ولو عاش أئمتنا ـ رحمهم الله ـ حتى أدركوا قيمة المعادن في عصرنا وما تجلبه من نفع وما يترتب عليها من غنى الأمم وازدهارها، لكان لهم موقف آخر فيما انتهى إليه اجتهادهم الأول من أحكام.
وقد استدل صاحب المغنى لمذهب الحنابلة فقال :
( أ ) لنا عموم قوله تعالى: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة 267).(1/382)
(ب) ولأنه معدن، فتعلقت الزكاة بالخارج منه كالأثمان (يعنى الذهب والفضة).
( ج) ولأنه مال لو غنمه وجب عليه خُمسه، فإذا أخرجه من معدن وجبت فيه الزكاة كالذهب (المغنى: 3/24).
المبحث الثالث
مقدار الواجب في المعدن: الخمس أو ربع العشر
فهرس
أدلة القائلين بالخمس
مذهب من يجعل الواجب على قدر المؤنة
تمهيد
أدلة القائلين بربع العشر
تمهيد
أما مقدار الواجب في المعدن فاختلفوا فيه أيضًا.
قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد وزيد بن على والباقر والصادق، وعامة فقهاء الشيعة زيدية وإمامية: الواجب فيه الخمس.
وقال أحمد وإسحاق: الواجب فيه ربع العشر، قياسًا على قدر الواجب في زكاة النقدين بالنص والإجماع وهو ربع العشر وهو قول مالك والشافعي.
وعند المالكية: المعدن على ضربين: ضرب يتكلف فيه مؤونة عمل، فهذا لا خلاف في أنه لا يجب فيه غير الزكاة، وضرب لا يتكلف فيه مؤونة عمل، فهذا اختلف قول مالك فيه، فقال مرة: فيه الزكاة، وقال مرة أخرى: فيه الخمس (المنتقى شرح الموطأ ص2) ويعني بالزكاة: ربع العشر كالنقود.
وللشافعي مثل هذه الأقوال كلها، والمشهور عنه والمفتى به عند أصحابه أن الذي يؤخذ هو ربع العشر (المجموع: 6/83).
وهناك رأى آخر مشهور في مذهب مالك: أن ما يخرج من باطن الأرض ؛ سواء أكان فلزات أم كان سوائل؛يكون كله ملكًا لبيت مال المسلمين، فالمناجم والبترول السائل في باطن الأرض ملك للدولة، وقد علل ذلك بأن مصلحة المسلمين أن تكون هذه الأموال لمجموعهم لا لآحادهم، لأن هذه المعادن قد يجدها شرار الناس، فإن تُركت لهم أفسدوها، وقد يؤدى التزاحم عليها إلى التقاتل وسفك الدماء والتحاسد فجعلت تحت سلطان ولى الأمر النائب عن المسلمين ينفق غلاتها في مصالحهم (حلقة الدراسات الاجتماعية، الدور الثالثة، ص 250).(1/383)
ولعل ما يؤيد هذا ما رواه أبو عبيد عن أبيض بن حمال المازني: أنه استقطع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الملح الذي بمأرب فقطعه له، قال: فلما ولى قيل: يا رسول الله ؛ أتدرى ما قطعت له ؟ إنما أقطعته الماء العِدَّ ..قال: فرجعه منه (الأموال ص 275، 276).
والعد: الدائم الذي لا ينقطع، شبه الملح بالماء العِدّ لعدم انقطاعه، وحصوله بغير كد وعناء .
وفسر أبو عبيد إقطاعه الملح ثم إرجاعه منه بقوله: إنما أقطعه وهو عنده أرض موات يحييها "أبيض" ويعمرها، فلما تبين للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ماء عد -وهو الذي له مادة لا تنقطع- مثل ماء العيون والآبار؛ ارتجعه منه، لأن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الكلأ والنار والماء أن الناس جميعًا فيه شركاء، فكره أن يجعله لرجل يجوزه دون الناس (المرجع السابق ص281).
وهكذا ما كان كالبترول والحديد ونحوهما يجب أن تحوزه الدولة، ولا يحوزه فرد أو أفراد، دون الناس.
إلى الأعلى
أدلة القائلين بربع العشر وأدلة القائلين بالخمس
واستدل القائلون بربع العشر في المعدن بما رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن غير واحد ؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع لهلال بن الحارث معادن القبلية (ناحية من ساحل البحر بينها وبين المدينة خمسة أيام) وهى من ناحية القرع (مكان بين نخلة والمدينة) فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة (الموطأ بهامش المنتقى: 2/ 101).
قال الشافعي في "الأم" بعد أن روى هذا الحديث: ليس هذا مما يثبته أهل الحديث رواية، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إقطاعه، وأما الزكاة في المعادن دون الخمس فليست مروية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (الأم: 2/43 ـ طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة).(1/384)
وكذلك قال أبو عبيد: فأما حديث ربيعة الذي رواه في القبلية، فليس له إسناد، ومع هذا إنه لم يذكر فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك، إنما قال: "فهي تؤخذ منها الصدقة إلى اليوم" ولو ثبت هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حجة لا يجوز دفعها (الأموال ص 342).
إلى الأعلى
أدلة القائلين بالخمس
(أ) استدل أبو حنيفة ومن وافقه بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "في الركاز الخمس" (رواه الجماعة كما تقدم).
قالوا المستخرج من الأرض نوعان: أحدهما يسمى "الكنز" وهو المال الذي دفنه بنو آدم في الأرض، والثاني يُسمى "معدنًا" وهو المال الذي خلقه الله تعالى في الأرض، والركاز اسم يقع على كل واحد منهما، إلا أن حقيقته للمعدن، واستعماله للكنز مجاز (بدائع الصنائع: 2/65).
على حين قال مالك والشافعي وفقهاء الحجاز بعامة: المعدن ليس بركاز، بل هو الكنوز المدفونة في الأرض من عهد الجاهلية، بدليل ما رواه الجماعة عن أبى هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العجماء جرحها جبار، والبئر جُبار، والمعدن جُبار، وفى الركاز الخُمس" (العجماء هي البهيمة، سميت عجماء لأنها لا تتكلم، وجرحها جبار: أي هدر، والمراد الدابة المرسلة في رعيها أو المنفلتة من صاحبها ـ وليس معنى أن المعدن جبار أنه لا زكاة فيه، ولكن المراد أنه إذا استأجر رجلاً لاستخراج معدن أو لحفر بئر فانهار عليه فلا ضمان عليه (انظر شرح السيوطى وحاشية السندي على النسائي: 5/45، 46).
فقد فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره.
وللحنفية أن يقولوا: إن المعدن داخل تحت قوله: "وفي الركاز الخمس" لأنه ذكر المعدن، فلو قال: وفيه الخمس، لكان يخرج منه المال المدفون لأنه ليس بمعدن، فعدل إلى اللفظ الأعم له وللمال المدفون (شرح الترمذي: 3/139).(1/385)
ولم يوجد من أهل اللغة من يحسم النزاع بين الفريقين، فقد كان في فقهاء العراق راسخون في اللغة كمحمد بن الحسن، ومن فقهاء الحجاز راسخون فيها كالشافعي.
والذي يبدو للناظر أن كلمة الركاز "تحتمل المعنيين؛ ففي القاموس وغيره من كتب اللغة: الركاز: ما ركزه الله أي أحدثه في المعادن ودفين أهل الجاهلية وقطع الذهب والفضة من المعدن (القاموس المحيط ج 1 مادة "ر ك ز") وقال ابن الأثير في "النهاية": الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق: المعادن، والقولان تحتملهما اللغة، لأن كلاً منهما مركوز في الأرض أي ثابت (النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 2/107).
واستدل أبو حنيفة على أن المراد بالركاز: المعدن، بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عما يوجد في الخرب العادي (القديم) فقال: "فيه وفى الركاز الخمس" (رواه أبو عبيد في الأموال، والحاكم في المستدرك، وأبو داود، وقال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه مختصرًا ومطولاً..وقال الترمذي: حديث حسن - انظر مختصر سنن أبى داود: 2/272).
فقال: أخبر بدءًا عن المال المدفون ثم عطف عليه الركاز، والمعطوف غير المعطوف عليه في الأصل.
قال بعض أصحابه: وتسمية المعدن بالركاز إن لم توجد في أصل اللغة، فهي شائعة من طرق المقاييس اللغوية، وقد نقل عن محمد بن الحسن الشيباني ـ وهو مع رسوخه في الفقه يعد من علماء العربية ـ أنه قال: إن العرب تقول ركز المعدن إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة (الروض النضير: 2/420).
وقال صاحب البدائع: الركاز مأخوذ من الركز وهو الإثبات، وما في المعدن هو المثبت في الأرض لا الكنز، لأنه وضع مجاورًا للأرض (البدائع: 2/67).
(ب) وأيد الحنفية مذهبهم وهو إيجاب الخمس في المعادن المستخرجة بدليل آخر، وهو قياسها على الغنائم الحربية، أو اعتبارها نوعًا منها.(1/386)
قالوا: لأن المعادن كانت في أيدي الكفرة، وقد زالت أيديهم عنها، ولم تثبت يد المسلمين على هذه المواضع، لأنهم لم يقصدوا الاستيلاء على الجبال والمغاور، فبقى ما تحتها على حكم ملك الكفرة، وقد استولى عليه على طريق القهر بقوة نفسه، فيجب فيه الخمس، ويكون أربعة أخماسه له كما في غنائم الحرب (المرجع السابق).
ولكن في هذا الاستدلال تكلفًا، فإن ادعاء بقاء هذه المعادن على ملك الكفار ادعاء غير مسلم، كيف، وهى جزء من أرض الإسلام في دار الإسلام؟ ومن ذا الذي يجزم بأن المعادن إنما تكونت في عصر ما قبل الإسلام؟.
(ج) ويستند فقهاء الإمامية في إيجاب الخمس في المعدن على آية الأنفال: (واعلموا إنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول والذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال: 41).
فأوجبت الآية الخمس فيما يغنم، والغنيمة لغة: كل ما يغنم، فيدخل في ظاهر الآية كل ما أخذ من ظاهر البر والبحر واستخرج من باطنهما (البحر الزخار: 2/209 ـ 214).
قال في الروض النضير من كتب الفقه الزيدي
والاستدلال على وجوب الخمس بالعموم المستفاد من قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خُمسه) فيه نظر
أولاً: لأنه ينصرف إلى غنائم الحرب بدليل السياق.
ثانيًا: ولكثرة ورود اسم الغنيمة في لسان الشارع -صلى الله عليه وسلم- لذلك، كحديث: "أحلت لي الغنائم".
وهو مبنى على ما ذكره بعض المحققين من أهل الأصول: "أن اللفظ العام قد يكون القصد به إلى معنى مخصوص، بقرائن وإمارات ترشد إليه، فيقتصر عليه، ولو كان اللفظ متناولاً لغيره".(1/387)
وقد عقد القاضي أبو محمد عبد الوهاب المالكي بابًا من وقف العموم على ما قصد به، وأنه لا يتعدى به إلى غير ما لم يقصد به إلا بدليل، وإن كان إطلاق الصيغة يقتضيه، وذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي، منهم أبو بكر القفال وغيره، وقد أشار المحقق ابن دقيق العيد فى مواضع من شرح العمدة إلى أن دلالة السياق ترشد إلى تبيين المجملات، وترجيح بعض المحتملات، وتأكيد الواضحات، وأن الناظر في ذلك يرجع إلى ذوقه، والمناظر يرجع إلى دينه وإنصافه (الروض النضير: 2/419).
وإذن فالعمدة في الاستدلال هو الدليل الأول، أعنى أن الركاز الذي صح الحديث بأن فيه الخمس يشمل المعدن كما يشمل الكنوز المدفونة، وهذا المذهب هو الذي رجحه الفقيه الجليل أبو عبيد في "الأموال" وروى عن علي بن أبى طالب ما يؤيد ذلك (الأموال ص240، 241).
إلى الأعلى
مذهب من يجعل الواجب على قدر المؤونة
ورأى بعض الفقهاء رأيًا آخر نظر فيه إلى مقدار الجهد المبذول والنفقات والمؤونة في استخراج المعدن بالنسبة لقدر الخارج منه، فإن كان الخارج كثيرًا بالنسبة إلى العمل والتكاليف، فالواجب هو الخمس، وإن كان قليلاً بالنسبة إليهما، فالواجب هو ربع العشر (انظر الشرح الكبير للرافعي على الوجيز الغزالي المطبوعين مع المجموع للنووي: 6/88، 89).
وهذا قول لمالك والشافعي رحمهما الله (المرجع السابق).
والذي دعاهم إلى هذا التفريق إنما هو التوفيق بين الأحاديث التي تفيد أن في الذهب والفضة ربع العشر -وهما معدنان فيقاس عليهما بقية المعادن - والأحاديث التي تفيد أن في المعدن الخمس، وأنه ركاز أو كالركاز، ومن جهة أخرى القياس على الزرع حيث اختلف مقدار الواجب فيه باختلاف الجهد.(1/388)
وفي ذلك يقول الرافعي -من الشافعية- مدللاً على هذا القول: إن ما ناله من غير تعب ومؤونة فيه الخمس، وما ناله بالتعب والمؤونة ففيه ربع العشر، جمعًا بين الأخبار، وأيضًا فإن الواجب يزداد بقلة المؤونة، وينقص بكثرتها، ألا ترى أن الأمر كذلك في المسقي بماء السماء والمسقي بالنضج ؟ (نفس المرجع).
والفرق بين الخمس (20%)، وربع العشر (2.5%) ليس فرقًا هينًا، فلا بأس أن يفرض العشر أو نصفه، حسب قيمة المستخرج بالنسبة إلى التعب والتكاليف، وليس ذلك ابتداعًا لشرع جديد، بل هو صريح القياس على ما جاء به الشرع من التفاوت بين مقادير الواجب حسب نفع المال المأخوذ وقيمته وسهولة الحصول عليه أو مشقته.
المبحث الرابع
في نصاب المعدن، ومتى يعتبر؟
فهرس
المدة التي يعتبر فيها النصاب
هل يشترط للمعدن نصاب
هل يُشترط للمعدن نصاب؟
ذهب أبو حنيفة وأصحابه والعترة إلى وجوب حق المعدن في قليله وكثيره من غير اعتبار نصاب، بناء على أنه ركاز، لعموم الأحاديث التي احتجوا بها عليه، ولأنه لا يعتبر له حول، فلم يعتبر نصاب كالركاز.
وقال مالك والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق: لابد من اعتبار النصاب، وذلك أن يبلغ الخارج ما قيمته نصاب من النقود ـ واستدل هؤلاء بعموم الأحاديث التي وردت في نصاب الذهب والفضة، مثل: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، "ليس في تسعين ومائة شيء" (انظر هذين الحديثين وتخريجهما في فصل زكاة الذهب والفضة من هذا الباب) وبإجماع فقهاء الأمصار على أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً.
والصحيح الذي تعضده الأدلة ـ في المعدن ـ هو اعتبار النصاب، وعدم اعتبار الحول.(1/389)
والمعنى فيه ـ كما قال الرافعي من الشافعية ـ أن النصاب إنما اعتبر ليبلغ المال مبلغًا يحتمل المواساة، والحول إنما اعتبر ليتمكن من تنمية لمال وتثميره، والمستخرج من المعدن نماء في نفسه، ولهذا اعتبرنا النصاب في الزروع والثمار، ولم نعتبر الحول (الشرح الكبير للرافعي المطبوع مع المجموع للنووي: 6/92).
إلى الأعلى
المدة التي يعتبر فيها النصاب
وليس معنى اشتراط النصاب فيما يستخرج من المعدن أن ينال في الدفعة الواحدة نصابًا، بل ما ناله بدفعات يُضم بعضها إلى بعض في الجملة، لأن المستخرج من المعدن هكذا ينال غالبًا، فأشبه تلاحق الثمار الذي بيناه في زكاة الحاصلات الزراعية.
لكن الضابط في ضم الثمار بعضها إلى بعض كونها ثمار سنة واحدة أو موسم واحد، وههنا ينظر إلى العمل والنيل وظهور المعدن والحصول عليه فإن تتابع العمل وتواصل النيل ثبت الضم، ولا يشترط بقاء ما استخرجه في ملكه، فلو تصرف فيه ببيع أو غيره وجب ضمه إلى غيره حتى يكمل الخارج نصابًا، وإن انقطع العمل لأمر طارئ كإصلاح آلة أو مرض العامل أو سفره لم يؤثر ذلك فى ضم الخارج بعضه إلى بعض، بخلاف ما إذا انقطع للانتقال إلى حرفة أخرى يأسًا من ظهور المعدن، أو لأي سبب آخر، فهذا انقطاع مؤثر.
وإن تتابع العمل ولكن لم يتواصل النيل، بأن انقطع المعدن زمانا ثم عاد النيل، فإن كان زمان الانقطاع يسيرًا لم يقدح في الضم، وإن طال، فمن العلماء من يرى الضم، لأن المعدن كثيرًا ما يعرض له ذلك، فلو لم يضم لبطلت زكاة المعدن في كثير من الأحوال.
وفيهم من يرى أنه لا يضم كما لو انقطع العمل، ويعتبر ذلك كحب زرعتين أو ثمار موسمين (انظر الوجيز للغزالي وشرحه للرافعي المطبوع على المجموع: 6/63ـ96).
والرأي عندي في مثل هذه الأمور أن تُترك لتقدير الخبراء الفنيين، عملاً بما أرشد إليه القرآن في مثل ذلك حين قال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (النحل: 43، والأنبياء: 7).
المبحث الخامس(1/390)
هل يشترط للمعدن حول؟
الذي ذهب إليه جماهير الفقهاء أن حقه يجب فيه بمجرد استخراجه والحصول عليه، ويخرج بعد تصفيته وتمييزه ..قال مالك: المعدن بمنزلة الزرع، يؤخذ منه مثل ما يؤخذ من الزرع، يؤخذ منه إذا خرج المعدن من يومه ذلك، ولا ينتظر به الحول، كما يؤخذ من الزرع إذا حصد: العشر، ولا ينتظران يحول عليه الحول (الموطأ مع المنتقى: 2/104).
وهو قول عامة العلماء من السلف والخلف - كما قال النووي (المجموع: 6/81) والمنصوص في معظم كتب الشافعي، والمصحح في مذهب أحمد (المغنى: 3 /26).
وخالف في ذلك إسحاق وابن المنذر، فاشترطا الحول، لحديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (المرجع السابق).
والحديث ضعيف لا يحتج به، ومع هذا أجمعوا أنه غير مبقى على عمومه، فقد خص منه الزرع والثمر، فيلحق به المعدن ويقاس عليه.
قال في المغنى مؤيدًا عدم اشتراط الحول: لنا أنه مستفاد من الأرض فلا يعتبر في وجوب حقه حول، كالزرع والثمار والركاز (الكنوز)، ولأن الحول إنما يعتبر في غير هذا لتكميل النماء، وهو يتكامل نماؤه دفعة واحدة، فلا يعتبر له حول كالزروع (نفس المرجع).
وقال صاحب المذهب -من الشافعية-: يجب حق المعدن بالوجود (يعنى بمجرد الحصول عليه) ولا يعتبر فيه الحول -في أظهر القوانين- لأن الحول يُراد لكمال النماء، وبالوجود يصل إلى النماء، فلم يعتبر فيه الحول كالزرع (المذهب وشرحه المجموع: 6/80)
المبحث السادس
في مصرف ما يؤخذ من المعدن
أين يُصرف ما يؤخذ من المعدن؟
اختلف الفقهاء كذلك في تكييف ما يؤخذ من المعدن من حق معلوم: هل يعد زكاة، فيصرف في مصارف الزكاة الثمانية التي حددها القرآن بقوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ..الآية (التوبة :60)
أم لا يعد زكاة؛ فيصرف مصرف خمس الغنائم والفيء، أعني أن يصرف في المصارف العامة للدولة، ومنها كفالة الفقراء والمساكين إذا لم تكفهم الزكاة؟(1/391)
ذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى أن مصرفه مصرف الفيء، وذهب مالك وأحمد إلى أن مصرفه مصرف الزكاة.
واختلف في ذلك مذهب الشافعي، فقيل: مصرف الزكوات مطلقًا، وقيل: إن أوجبنا الخمس فمصرفه كالفيء، وإن أوجبنا ربع العُشر فمصرفه كالزكاة.
ويترتب على هذا الخلاف أن من لم يعتبره زكاة يوجب الخمس على الذمي إذا استفاد معدنًا، بخلاف الاعتبار الآخر، إذ الزكاة لا تجب على الذمي، لأنها عبادة وهو ليس من أهلها، وكذلك من لم يعتبر زكاة لا يشترط في أدائه النية، بخلاف الأخر فإنه يشترط النية، إذ هي عبادة، ولا عبادة بغير نية (انظر المجموع بغير نية :6/76)
المبحث السابع
في مستخرجات البحر
فهرس
ماذا يجب في السمك؟
ما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما
ما يُستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما
اختلف الفقهاء فيما يستخرج من البحر من الجواهر الكريمة كاللؤلؤ والمرجان، ومن الطيب كالعنبر الذي قيل: إن في بعض أنواعه ما تبلغ القطعة منه ألف مثقال.
فمذهب أبى حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح، ومذهب الزيدية من الشيعة: أن لا شيء فيه.
ومن قبلهم ذهب إلى ذلك ابن عباس، روى ابن أبى شيبة وغيره عنه أنه قال: ليس العنبر بركاز، وإنما هو شيء دسره البحر (أي لفظه) ليس فيه شيء (المصنف: 4/21- طبع ملقان بالهند - والأموال ص 346) وظاهره أنه لا يلزم فيه زكاة ولا خمس.
وكذلك روى عن جابر بن عبد الله :"ليس العنبر بغنيمة، هو لمن أخذ" (الأموال ص 346) يعنى أنه لا يجب فيه الخمس كالغنيمة.
قال أبو عبيد: فهذان رجلان من أ صحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يريا فيه شيئًا (الأموال ص 346) ولكن صح عن ابن عباس أيضًا أنه قال في العنبر: إن كان فيه شيء ففيه الخمس (المحلى لابن حازم: 6/117، ومصنف ابن ابى شيبة: 4/21).(1/392)
ويبدو أن ابن عباس عدل عن رأيه الآخر بعد واقعة معينة، فقد روع عبد الرزاق بسند صحيح أن إبراهيم بن سعد، وكان عاملاً بعدن، سأل ابن عباس عن العنبر، فقال: إن كان فيه شيء فالخمس (ذكره في نصب الراية ج2 والحافظ في التخليص ص184) فلعل سؤال هذا الوالي في بلد مثل عدن قد يكثر فيه هذا النوع، جعل بن عباس يبدى رأيًا آخر، والمجتهد تتغير فتواه باختلاف الأزمان والأحوال، وما يتراءى له من المصالح والاعتبارات ..والله أعلم.
كما روى من طريق الحسن بن عمارة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب: أن في العنبر وفى كل مستخرج من حلية البحر الخمس (المحلى: المرجع نفسه والحسن بن عمارة متروك).
وروى أيضًا عن ابن عباس أن يعلى بن منبه كتب إلى عمر في عنبرة وجدت على ساحل البحر فقال عمر لمن حضره من الصحابة: ماذا يجب فيه؟ فأشاروا عليه أن يأخذ منها الخمس، فكتب عمر بمشورة من الصحابة: أن فيها وفي كل حلية تخرج من البحر الخمس (انظر الروض النضير: 2/419).
وقد رُوى عن عمر أيضًا ما يخالف هذا: أنه كتب: خذ من حلى البحر ومن العنبر العشر.
وأسانيد هذه الروايات عن عمر لم تبلغ درجة الصحة، ولو صحت -على تناقضها- لدلت على أن للاجتهاد في ذلك مسرحًا، وخاصة في مقدار الواجب: هل هو الخمس كالركاز، أو العشر كالزرع، أو ربع العشر كالدراهم والدنانير؟
وإيجاب الخمس في العنبر واللؤلؤ مروى أيضًا عن بعض التابعين: روى ذلك أبو عبيد عن الحسن البصري وعن ابن شهاب الزهري (الأموال ص346).
وكذلك روى عبد الرزاق وابن أبى شيبة عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ من العنبر الخمس (ذكره الحافظ في التلخيص ص184).
وهو مذهب أبى يوسف: أن في العنبر وكل ما استخرج من حلية البحر الخمس (الخراج لأبى يوسف ص 7).
وفي رواية عن أحمد: أن فيه الزكاة، لأنه خارج من معدن، فأشبه الخارج من معدن البحر (المغنى: 3/27).(1/393)
ورجح أبو عبيد من لا يرى في اللؤلؤ والعنبر وغيرها من مستخرجات البحر شيئًا - مستدلاً بأنه قد كان مما يخرج من البحر على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تأتنا عنه فيه سنة عَلِمناها، ولا من أحد من الخلفاء الراشدين بعده من وجه يصح، فنراه مما عفا عنه كما عفا صدقة الخيل والرقيق، وإنما يوجب الخمس فيما يخرج من البحر من أوجبه تشبيهًا بما يخرج البر من المعادن، فرآهما بمنزلة واحدة.
وذهب من لا يرى ذلك إلى أنهما مفترقان: يقولون: فرق بينهما سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ جعل في الركاز الخمس، وسكت عن البحر فلم يقل فيه شيئًا (الأموال ص347) ولكن هل القياس إلا إلحاق أمر مسكوت عنه بأمر آخر منصوص عليه لعلة جامعة بينهما؟
وإذا لم يكن المستخرج من البحر من باب الغنيمة الشرعية: فهو شبيه بالمعدن الخارج من البر، بحكم المالية الجامعة بينهما، فينبغي أن يقاس عليه.
ولهذا أرجح ألا تخلو هذه المستخرجات من حق يفرض عليها، قياسًا على الثروة المعدنية، والحاصلات الزراعية، سواء أجعلنا هذا الحق زكاة أم غير زكاة.
أما قدر الواجب فينبغي أن يخضع تحديده لمشورة أهل الرأي، كما روى من فعل عمر رضى الله عنه، فإن الشارع قد فاضل بين المقادير الواجبة في الحبوب والثمار، تبعًا للكلفة والجهد في سقى الزرع؛ ما بين عشر ونصف عشر، فكذلك هنا يكون مقدار الواجب تبعا لسهولة الحصول على الأشياء من البحر، أو مشقته وكثرة مؤونته، وتبعًا لقيمة ما يخرج حسب ما يقدر الخبراء فقد يستخرج بمجهود قليل أشياء نفيسة جدًا، وغالية القدر، فهنا يجب أن ترتفع نسبة المأخوذ منها.
وقد نقل عن الإمامين مالك والشافعي -في شأن المعدن- ما يؤيد هذا الاتجاه، وأن قدر الواجب يختلف باختلاف الجهد والمؤونة، ومقدار الحاصل والمستخرج فقد يكون الخمس، وقد يكون ربع العشر.(1/394)
ورجحنا هناك أن تفاوت المقادير يمكن أن يخضع للاجتهاد ومشورة أهل الرأى، بحيث يمكن أن يجب العشر أو نصف العشر أيضًا وقد قال أبو عبيد في الرواية الأخرى عن عمر: أنه جعل فيه العشر، ولا نعرف للعشر هاهنا وجهًا، لأنه لم يجعل كالركاز، فيأخذ منه الخمس، ولم يجعله كالمعدن فيأخذ منه الزكاة (ربع العشر) على قول أهل المدينة، وإنما جعل فيه العشر، ولا موضع للعشر في هذا إلا أن يكون شبهه بما تخرج الأرض من الزرع والثمار، ولا نعرف أحدًا يقول بهذا (الأموال ص348).
وإذا لم تعلم أحدًا يقول بهذا؛ فلا يمنع أن يقوله قائل الآن، أو بعد الآن، ما دام يستند إلى دليل واعتبار مقبول.
إلى الأعلى
ماذا يجب في السمك؟
وما قلناه في العنبر وحلية البحر من اللؤلؤ وغيره ينطبق كذلك على ما يُصطاد من السمك، فقد يبلغ ذلك مقادير هائلة، ويقدر بأموال طائلة، حين تقوم به شركات كبيرة مجهزة، فلا ينبغي أن يُعفى من حق يُفرض عليه، قياسًا على المعدن وعلى الزرع وغيرهما.
وقد روى أبو عبيد عن يونس بن عبيد قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله على عمان: أن لا يأخذ من السمك شيئًا حتى يبلغ مائتي درهم (يعنى قيمة نصاب من النقود) فإذا بلغ مائتي درهم فخذ منه الزكاة (الأموال ص348).
وقد رُوى ذلك عن أحمد أيضًا (المغنى: 3/28).
وعند الإمامية: فيه الخمس؛ لأنه غنيمة في رأيهم.
وما قلناه آنفًا نقوله هنا أيضًا.
الفصل الثامن
زكاة المستغلات العمارات والمصانع ونحوها
فهرس
نصاب الزكاة في العمائر ونحوها
زكاة المستغلات بين المضيقين والموسعين
كيف تزكى العمارات والمصانع ونحوها؟
يشتمل هذا الفصل على ثلاثة مباحث:
الأول: في زكاة "المستغلات" بين المضيقين والموسعين.
الثاني: كيف تُزكَّى هذه الأشياء؟
الثالث: كيف يُحسب النصاب فيها؟
المبحث الأول
زكاة المستغلات بين المضيقين والموسعين
فهرس
وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة
الرد على أدلة المضيقين
مقدمة
وجهة المضيقين في إيجاب الزكاة(1/395)
مقدمة
المستغلات: هي الأموال التي لا تجب الزكاة في عينها، ولم تتخذ للتجارة ولكنها تتخذ للنماء، فتغل لأصحابها فائدة وكسبًا بواسطة تأجير عينها، أو بيع ما يحصل من إنتاجها.
فما يؤجر: مثل الدور والدواب التي تكرى بأجرة معينة، ومثل ذلك الحلي الذي يكرى وغيره، وفي عصرنا يتمثل في العمارات ووسائل النقل وغيرها.
وما ينتج ويباع نتاجه: مثل البقر والغنم غير السائمة التي تُتخذ للكسب فيها، ببيع لبنها وصوفها أو تسمينها أو غير ذلك ..وأهم منها الآن المصانع التي تنتج ويُباع إنتاجها في الأسواق.
وقد اخترنا في الفصل السادس أن تقاس المنتجات الحيوانية على العسل، ويؤخذ منها العشر من الصافي، لأنها متولدة من حيوان لا تجب الزكاة في أصله.
ولهذا أرى أن تستثنى من المستغلات التي نذكرها في هذا الفصل، وإن أدخلها بعض الفقهاء فيه.
والفرق ما بين ما يتخذ من المال للاستغلال وما يتخذ للتجارة: أن ما اتخذ للتجارة يحصل الربح فيه عن طريق تحول عينه من يد إلى يد أمَّا ما اتُّخِذ للاستغلال فتبقى عينه، وتتجدد منفعته.
وعلى كل حال، فإن معرفة الحكم في المستغلات أمر مهم وخاصة في عصرنا، بعد أن تعددت أنواع المال النامي فيه تعددًا واضحًا، فلم يعد مقصورًا على الماشية والنقود وسلع التجارة والأرض الزراعية.
فمن الأموال النامية في عصرنا: العمارات التي تعد للكراء والاستغلال، والمصانع التي تعد للإنتاج، والسيارات والطائرات والسفن التي تنقل الركاب والبضائع والأمتعة، وغير ذلك من رؤوس الأموال الثابتة أو شبه الثابتة وبعبارة أدق: رؤوس الأموال الغلة النامية غير المتداولة التي تدر دخلاً وفيرًا على أصحابها، فماذا تقول شريعة الإسلام وفقهاؤها في زكاة هذه الأشياء؟
إن الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف وجهة المضيقين والموسعين في إيجاب الزكاة.
إلى الأعلى
وجهة المضيقين في إيجاب الزكاة(1/396)
أما الذين يميلون إلى التضييق في الأموال التي تجب فيها الزكاة، فيقولون:
1-إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حدد الأموال التي تجب فيها الزكاة، فلم يجعل منها ما يُستغل أو ما يُكرى من العقارات والدواب والآلات ونحوها، والأصل براءة الناس من التزام التكاليف، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل، إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ولم يوجد في مسألتنا.
2- يؤيد هذا: أن فقهاء المسلمين في مختلف الأعصار، وشتى الأقطار، لم يقولوا بوجوب الزكاة في هذه الأشياء، ولو قالوا به لنقل عنهم.
3- أنهم نصوا على ما يخالف ذلك فقالوا: لا زكاة في دور السكنى، ولا أدوات المحترفين، ولا دواب الركوب، ولا أثاث المنازل ونحوها ..وإذن يكون الحكم عندهم: أن لا زكاة في المصانع وإن عظم إنتاجها، ولا في تلك العمارات، وإن شهق بنيانها، ولا في تلك السيارات والطائرات والسفن التجارية وإن ضخم إيرادها.
فإذا قبض من إيرادها شئ، ويبقى حتى حال الحَوْل، ففيه زكاة النقود بشروطها المدوَّنة، وإن لم يبق إلى الحَوْل نصاب أو ما يكمل نصابًا فلا شئ عليه.
والتضييق في أموال الزكاة مذهب قديم، عرف به بعض السلف، وتبناه ودافع عنه الفقيه الظاهري ابن حزم، وأيده في الأعصر الأخيرة الشوكاني، وصديق حسن خان، حتى قالوا: لا زكاة في عروض التجارة، ولا في الفواكه والخضراوات ونحوها.
ومن أوضح العبارات في ذلك ما قاله صاحب "الروضة الندية" ردًّا على من قال "في المستغلات صدقة": أن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها باتفاق -كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة من دون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، فضلاً عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنه (الروضة الندية: 1/194).
إلى الأعلى
وجهة الموسعين في إيجاب الزكاة(1/397)
وأما المتوسعون في الأموال التي تجب فيها الزكاة فيقررون وجوبها في الأشياء المذكورة من مصانع وعمارات ونحوها، وهذا هو رأى بعض المالكية والحنابلة، وإن يكن غير مشهور - ورأى الهادوية من الزيدية كما هو رأى بعض العلماء المعاصرين، أمثال أساتذتنا الأجلاء: أبى زهرة وخلاف وعبد الرحمن حسن، كما سنبين ذلك في المبحث القادم.
وهذا التوسع هو الذي أرجحه استنادًا إلى الأمور الآتية :
1- أن الله أوجب لكل مال حقًا معلومًا، أو زكاة، أو صدقة، لقوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم) (المعارج: 24)، وقوله تعالى :(خذ من أموالهم صدقةً) (التوبة: 103) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أدُّوا زكاة أموالكم" من غير فصل بين مال ومال.
وقد رد ابن العربى على الظاهرية الذين نفوا وجوب الزكاة فى عروض التجارة، لعدم ورود حديث صحيح فيها، فقال: قول الله عز وجل: (خُذ من أموالهم صدقة) عام في كل مال على اختلاف أصنافه، وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه في شيء فعليه الدليل (شرح الترمذي: 3/104).
2- أن علة وجوب الزكاة في المال معقولة، وهي النماء كما نص الفقهاء الذين يعللون الأحكام، ويعملون بالقياس، وهم كافة فقهاء الأمة ما عدا حفنة قليلة من الظاهرية والمعتزلة والشيعة.
من هنا لم تجب الزكاة في الدور السكنى، وثياب البذلة، وحلي الجواهر، وآلات الحرفة، وخير الجهاد بالإجماع، وكان القول الصحيح سقوط الزكاة عن العوامل من الإبل والبقر، وعن حلى النساء المستعملة المعتادة، عن كل مال لا ينمى بطبيعته أو بعمل الإنسان.
وإذا كان النماء هو العلة في وجوب الزكاة، فإن الحكم يدور معه وجودًا وعدمًا، فحيث تحقق النماء في مال وجبت فيه الزكاة، وإلا فلا.(1/398)
3- أن حكمة تشريع الزكاة - وهى التزكية والتطهير لأرباب المال أنفسهم، والمواساة لذوى الحاجة، والإسهام في حماية دين الإسلام ودولته، ونشر دعوته - تجعل إيجاب الزكاة هو الأولى والأحوط لأرباب المال أنفسهم، حتى يتزكوا ويتطهروا، وللفقراء والمحتاجين، حتى يستغنوا ويتحرروا، وللإسلام دينًا ودولة، حتى تقوى شوكته، وتعلوا كلمته.
وقد قال الكاساني في دلالة العقل على فرضية العشر في ما خرج من الأرض: إن إخراج العشر إلى الفقير من باب شكر النعمة، وإقدار العاجز، وتقويته على القيام بالفرائض، ومن باب تطهير النفس من الشح ومن الذنوب، وتزكيتها بالبذل والإنفاق، وكل ذلك لازم عقلاً وشرعًا. ..ا.هـ.
فهل يكون شكر النعمة، ومساعدة العاجز، وتطهير النفس وتزكيتها بالبذل، لازمًا عقلاً وشرعًا لصاحب الزرع والثمر، غير لازم لصاحب المصنع والعمارة والسفينة والطائرة ونحوها، مما يدر من الدخل أكثر مما تدره أرض الذرة والشعير بأضعاف مضاعفة، وبجهد أقل من جهدها؟
إلى الأعلى
الرد على أدلة المضيقين
أما قولهم: "لا زكاة إلا فيما أخذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- الزكاة"، فنقول:
إن عدم نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أخذ الزكاة من مال ما لا يدل على عدم وجوب الزكاة فيه، فإنما نص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأموال النامية التي كانت منتشرة في المجتمع العربى في عصره، كالإبل والبقر والغنم من الحيوانات، والقمح والشعير والتمر والزبيب من الزروع والثمار، والدراهم الفضية من النقود.
مع هذا أوجب المسلمون الزكاة في أموال أخرى لم يجيء بها نص، قياسًا على تلك الأموال، أو عملاً بعموم النصوص، تطبيقًا لما قرر من حكمة فرض الزكاة.(1/399)
(أ ) من ذلك ما قاله الإمام الشافعي في "الرسالة" عند زكاة الذهب، قال: وفرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق (النقود الفضية) صدقة، وأخذ المسلمون في الذهب بعده صدقة: إما بخبر من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يبلغنا وإما قياسًا على أن الذهب نقد الناس الذي اكتنزوه، وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان، قبل الإسلام وبعده. ..ا.هـ (الرسالة ص193، 194 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر).
واحتمال وجود خبر نبوي لم يبلغ الشافعي في عصره -مع حاجة الناس إلى تناقل هذا الخبر- احتمال ضعيف، فالعمدة هو القياس، وبهذا جزم القاضي الفقيه أبو بكر بن العربي، فذكر في شرح الترمذي، في بيان الحكمة في ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الفضة، ونصابها، ومقدار الواجب فيها، وترك ذكر الذهب، قال: " إن تجارتهم إنما كانت في الفضة، خاصة معظمها، فوقع التنصيص على المعظم ليدل على الباقي، لأن كلهم أفهم خلق الله وأعلمهم، وكانوا أفهم أمة وأعلمها، فلما جاء الحمير الذين يطلبون النص في كل صغير وكبير، طمس الله عليهم باب الهدى، وخرجوا عن زمرة من استن بالسلف واهتدى" (شرح الترمذي: 3/104).
وهو يعني بكلمته الأخيرة العنيفة الظاهريين الذين ينفون القياس، ولا يلتفتون إلى العلل.
(ب) ومن ذلك أنه لم يرد نص صحيح صريح بوجوب الزكاة في العروض التجارية، ومع هذا نقل ابن المنذر الإجماع على وجوبها، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية الذين تعلقوا بشبهات واهية فندناها في موضعها.
(ج) ومن ذلك أن عمر أمر بأخذ الزكاة من الخيل، لما تبين له أن فيها ما تبلغ قيمته مبلغًا عظيمًا من المال، وتابعه في ذلك أبو حنيفة؛ مادامت سائمة، واتُّخذت للنماء والاستيلاد.
(د) أن أحمد أوجب الزكاة في العسل، لما ورد فيه من الأثر، وقياسًا على الزرع والثمر، أوجب الزكاة في كل معدن، قياسًا على الذهب والفضة، ولعموم آية: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة: 267).(1/400)
(هـ) أن الظهري والحسن وأبا يوسف أوجبوا فيما يستخرج من البحر من لؤلؤ وعنبر ونحوهما: الخمس، قياسًا على الركاز والمعدن.
(و) أن كل مذهب من المذاهب المتبوعة أدخل القياس في الزكاة في أحكام عدة، كقياس الشافعية غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص على ما جاء به الحديث في زكاة الفطر، من التمر أو الزبيب أو الحنطة أو الشعير، وكقياسهم كل ما يقتات على الأقواس الأربعة المذكورة، التي جاء به النص في عُشر الزرع والثمر.
2- وأما قولهم: أن فقهاء الإسلام في جميع أعصاره وأمصاره لم ينقل عنهم القول بذلك - فلأن بعض هذه الأموال النامية لم ينتشر في عصرهم انتشارًا تعم به البلوى، ويدفع الفقيه إلى الاجتهاد والاستنباط، وبعضها لم يكن موجودًا قط، بل هو من مستحدثات الأزمنة الأخيرة.
ومع هذا وجد من أقوال الفقهاء ما يدل على وجوب الزكاة في هذه الأشياء أو في غلتها وفوائدها، كما سنذكر بعد.
3- وأما نص الفقهاء على إعفاء الدور والآلات ونحوها من الزكاة؛ فهو عين الصواب - ولكن هذه الأشياء التي أخرجها علماؤنا من وعاء الزكاة غير ما نحن فيه، فدور السكنى غير العمارات الاستغلالية، وآلات المحترف كالقدوم والمنشار ونحوهما؛ غير الماكينات والأجهزة التي تنتج وتعمل وتدر ربحًا ودخلاً والتي غَيَّرَ ظهورها وجه الحياة في العالم كله، ولهذا أطلق عليه المؤرخون اسم "الانقلاب الصناعي"، ودواب الركوب غير هذه السيارات والطائرات والجواري المنشآت في البحر كالأعلام وأثاث المنازل غير محلات الفراشة التي تؤجر أثاثها ومقاعدها ومعداتها للناس، فما أخطأ علماؤنا حين قرروا أن لا زكاة في ما ذكروا من الأشياء بل طبقوا بدقة وبصر ما اشترطوه لوجوب الزكاة؛ أن يكون المال ناميًا، فاضلاً عن الحاجة الأصلية لصاحبه، ولهذا علل صاحب "الهداية" الحكم بعدم الزكاة في الأشياء المذكورة بقوله: لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وليست بنامية أيضًا (الهداية مع فتح القدير: 1/ 487).(1/401)
ووضح ذلك صاحب العناية فقال يعنى أن الشغل الحاجة الأصلية وعدم النماء؛ كل منهما مانع من وجوبها، وقد اجتمعنا ههنا: أما كونها مشغولة بها فلأنه لابد له من دار يسكنها، وثياب يلبسها ....الخ.
أما عدم النماء فلأنه إما خِلقِي كما في الذهب والفضة، وإما بإعداد للتجارة وليسا موجودين ههنا (العناية شرح الهداية مع فتح القدير - نفس الصفحة السابقة).
على هذا اتفق الفقهاء: أن لا زكاة في دار اتخذها صاحبها للسكنى، وهذا من العدل والتيسير الذي جاء به الإسلام، وإن كنا نرى كثيرًا من قوانين الضرائب في الدول المعاصرة تعمد إلى أخذ ضريبة على العقار، ولو كان سكنًا لصاحبه وقليل منها -مثل التشريع الأمريكي- هو الذي نص على إعفاء مالك المبنى من الضريبة إذا كان يتخذه لسكنه.
هذا إلى أن تعليل فقهائنا لعدم وجوب الزكاة في الدور والثياب وآلات الحرفة ونحوها بأنها مشغولة بالحاجة الأصلية وبأنها غير نامية يدل - بمفهوم المخالفة - أن ما اتُّخذ منها للنماء ولغير الاستعمال في الحاجة الأصلية يصبح صالحًا لوجوب الزكاة.
المبحث الثاني
كيف تزكى العمارات والمصانع ونحوها
فهرس
الاتجاه الثاني - أن تزكى الغلة عند قبضها زكاة النقود
ما روى عن الإمام أحمد
قول بعض المالكية
مذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
رأي معاصر - أن تزكى الغلة زكاة الزرع والثمر
مناقشة وترجيح
اتجاهان قديمان في زكاة الدور المؤجرة ونحوها من المستغلات
الاتجاه الأول - أن تقوم وتزكى زكاة التجارة
رأي ابن عقيل الحنبلي
مذهب الهادوية في المستغلات
اعتراضات المانعين
تعقيب وترجيح
مقدمة
الأموال النامية التي أوجب فيها الإسلام الزكاة نوعين:
الأول: نوع تؤخذ الزكاة من أصله ونمائه معًا، أي من رأس المال وغلته، عند كل حول، كما في زكاة الماشية وعروض التجارة، وهذا لتمام الصلة بين الأصل وفوائده وغلته، ومقدار الزكاة هنا هو ربع العشر، أي: (2.5%).(1/402)
الثاني: نوع تؤخذ الزكاة من غلته وإيراده فقط، بمجرد الحصول على الغلة دون انتظار حول، سواء كان رأس المال ثابتًا كالأرض الزراعية، أم غير ثابت كنحل العسل، ومقدار الزكاة هنا هو العُشر أو نصفه أي (10%) أو (5%).
فعلى أي أساس تُعامَل هذه الأموال النامية الجديدة؟ وكيف نأخذ منها الزكاة ؟ أنأخذ الزكاة من رأس المال وما بقى من غلته كما في الأموال التجارية؟ أم نأخذ من غلته وإيراده فقط كما في الحبوب والثمار والعسل؟
اتجاهان قديمان في زكاة الدور المؤجرة ونحوها من المستغلات
ولعل كثيرًا من المتصلين بالفقه ولا يغوصون في أعماقه يظنون أن الدور التي تكرى الناس بأجر، ونحوها مما يدر في كل عام أو في كل شهر مالاً وإيرادًا مُتجددًا؛ لم ينص أحد من الفقهاء على حكم في زكاتها؛ لأنها لم تكن مما عمت به البلوى، وانتشر بين الناس، واحتاجوا فيه إلى حكم حاسم.
وهذا التعليل حق، ولكن وجدنا برغم ذلك من فقهائنا من يقول بتزكيتها، وإن اختلفوا في معاملتها والنظر إليها: أتعامل معاملة رأس المال التجاري، فتقوم كل حول، وتؤخذ الزكاة منها ربع عشر قيمتها؟ أم يغض النظر عن قيمتها وتؤخذ الزكاة من غلتها وإيرادها إذا بلغ نصابًا مستوفيًا لشروط الزكاة؟
إلى الأعلى
الاتِّجاه الأول - أن تُقَوَّم وتُزكَّى زكاة التجارة
هذا الرأي يُعامل مالك العمارة الاستغلالية، والطائرة والسفينة التجاريتين ونحوها معاملة مالك السلع التجارية، فَتُثَمَّن العمارة كل عام، مضافًا إليها ما بقى معه من إيرادها، ويخرج عن ذلك كله (2.5%) ككل عروض التجارة.
لقد وُجِد في فقهاء السنة وفى فقهاء الشيعة من ذهب هذا المذهب.
إلى الأعلى
رأى ابن عقيل الحنبلي(1/403)
ففي فقه أهل السنة وجدت هذا الرأي للفقيه الحنبلي أبى الوفاء ابن عقيل -وهو عالم قوى الذهن ناضج الفكر خصب الاستنتاج- وقد نقل عنه هذا الرأي المحقق ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" نقل الموافق المقر - قال ابن عقيل مخرجًا على ما روى عن الإمام أحمد في تزكيته حلى الكراء: يخرج من رواية إيجاب الزكاة في حلى الكراء والمواشط؛ أن تجد في العقار المُعد للكراء، وكل سلعة تؤجر وتعد للإجارة.
قال: "وإنما خرجت ذلك على الحلي؛ لأنه قد ثبت من أصلنا أن الحلي لا تجب فيه الزكاة، فإذا أُعد للكراء وجبت، فإذا ثبت أن الإعداد للكراء أنشأ إيجاب الزكاة في شيء لا تجب فيه الزكاة كان في جميع العروض التي تجب فيها الزكاة ينشئ إيجاب الزكاة.
"يوضحه أن الذهب والفضة عينان تجب الزكاة بجنسهم وعينهما، ثم إن الصياغة والأعداد للباس والزينة والإنتفاع؛ غلبت على إسقاط الزكاة في عينه، ثم جاء الإعداد للكراء في غلبة على الاستعمال، وانشأ إيجاب الزكاة، فسار أقوى مما قوى على إسقاط الزكاة، فأولى أن يوجب الزكاة في العقار والأواني والحيوان التي لا زكاة في جنسها (بدائع الفوائد: 3/143).
هذا ما ذكره ابن عقيل وأقره ابن القيم تخريجًا على مذهب أحمد.
ونحن نقول: "أن ما ذهب إليه الإمام أحمد من إسقاط الزكاة عن الذهب والفضة إذا اسْتُعمل في حلى مباح، ومن إيجابه في الحلي إذا أُعد للكراء؛ مذهب قوى، يستند إلى أصل مهم في باب الزكاة وهو: أن لا زكاة في مال غير نامٍ أو مشغول بالحاجة الأصلية، وإنما الزكاة في المال النامي، وهو الذي يدر على صاحبه كسبًا ودخلاً.
والحلي المباح المستعمل للزينة واللبس مال غير نامٍ، ومشغول بحاجة صاحبه، فإذا أعدَّه للكراء فقد خرج عن ذلك إلى حيز النماء، وأصبح صالحًا للدخول في وعاء الزكاة".
وهو قول لمالك أيضًا كما ذكر ابن راشد (بداية المجتهد: 1/237 -الطبعة الأولى - استنبول سنة 1333هـ).(1/404)
وإذا طبقنا هذا على العقارات والأثاث والسيارات والسفن والطائرات والماكينات والأجهزة المختلفة؛ اتضح لنا هذا الحكم: أن لا زكاة فيها إذا كانت للاستعمال الشخصي، فإذا أُعدت للكراء، وغدا من شأنها أن تجلب نماء وربحًا؛ فقد غدت صالحة لوجوب الزكاة، وزكاتها في هذه الحال كزكاة عروض التجارة نصابًا ومقدارًا.
ومعنى هذا أن مالك العمارة أو "الأتوبيس" أو الطائرة أو الفندق أو محل "الفراشة" (يراد بها محلات تأجير الأثاث من خيام ومقاعد وأدوات في الأفراح والولائم وغيرها من المناسبات) أو أي سلعة تؤجر وتعد للإيجار كما قال بن عقيل: عليه -فردًا كان أو شركة- أن يُقَوِّم عقاراته أو سيارته (التاكسي)، فإذا عرف قيمتها ضم إليه ما لديه من رأس المال النقدي، وما له من ديون مرجوة، كما يصنع التاجر في رأس ماله، ثم يخرج ربع عُشرها زكاة.
ولا يقال: إن هذه الأشياء رأس مال ثابت، فيجب أن يعفى من الزكاة، كما يعفى الأثاث الثابت في حوانيت التجارة؛ لأن نقول: إن هذه الأشياء الثابتة هنا هي نفسها رأس المال النامي المغل الذي به تجلب المكاسب والأرباح، وإنما يعفى ما لم يكن مقصودًا للكسب من وراءه، كالأرض والمباني التي توضع فيها الماكينات الصناعية، لأن الماكينات هي المقصودة، بخلاف الأرض والمباني في العمارة الفندق السينما ونحوها، فإن المبنى نفسه هو الذي يجلب الفائدة والمال.
إلى الأعلى
مذهب الهادوية في المستغلات
وفي فقه الشيعة وجدت صاحب "البحر الزخار" وهو سجل جامع لمذاهب علماء الأمصار أهل سنة وشيعة -قد نقل عن الهادوية من الشيعة الزيدية ؛ أنهم ذهبوا إلى إيجاب الزكاة في المستغل من كل شيء لأجل الاستغلال، لعموم قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) (التوبة: 103) ولأنه مال قصد به النماء في التصرف فكان كمال التجارة فيزكيه إذا بلغت قيمته نصابًا (البحر الزاخر: 2/147).(1/405)
ثم رجعت إلى "متن الأزهار" وشرحه وحواشيه، في فقه الزيدية ؛ فوجدته يتبنى مذهب الإمام الهادي في "المستغلات" ويعنون بها: كل ما تجددت منفعته، مع بقاء عينه، فلا تجب الزكاة عندهم في الخيل والبغال والحمير والدور والضياع ونحوها، إلا أن يكون شيء منها لتجارة أو استغلال.
فكل ما يؤجر من حلية أو دار أو دابة أو غيرها إذا بلغت قيمته نصابًا من النقود في طرفي الحول، تجب تزكيته زكاة التجارة.
ذكروا عن الهادي: أن من اشترى فرسًا ليبيع نتاجها متى حصل، فإنه يلزمه الزكاة في قيمتها وقيمة أولادها.
قال المؤيد بالله وأبو العباس وأبو طالب: ووجهه أنها تصير بالتجارة هي وأولادها.
قال المؤيد بالله: وكذلك من اشترى دود القز ليبيع ما يحصل منها.
قال الحقيني: وكذلك من اشترى الشجرة ليبيع ما يحصل منها من الثمار.
وقيل: وكذا من اشترى بقرة ليبيع ما يحصل منها من السمن واللبن، أو شاه ليبيع ما يحصل منها من الصوف والسمن والأولاد (انظر شرح الأظهار لابن مفتاح وحواشيه ص 45 ،451 ،475).
ودليل هذا المذهب ذكره في "البحر" وهو أمران:
1- عموم النصوص التي أوجبت الزكاة في الأموال مطلقًا، دون فصل بين مال ومال.
2- قياس المال المستغل على المال المتجر فيه، فكلاهما مال قصد به النماء، ولا فرق بين المعاوضة في الأعيان والمعاوضة في المنافع.
إلى الأعلى
اعتراضات المانعين
وقد اعترض على هذا الرأي بعض الفقهاء الذين يميلون إلى التضييق في إيجاب الزكاة، مثل الإمام الشوكاني في.
"الدرر البهية" وشارحها صدِّيق حسن خان في "الروضة الندية".
ولا يبعد ممن يقول: ليس في الخضراوات ولا في البقول ولا في أموال التجارة زكاة -وهذا رأى الشوكاني وصديق- أن يقول: ليس في المستغلات كالدور والدواب التي يكريها مالكها زكاة.
وجملة ما احتج به في الروضة يرجع إلى شبهتين: إحداهما تتعلق بالمنقول من الخبر، والثانية تتصل بالمعقول بالنظر.(1/406)
( أ ) فأما الخبر فحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة" وهو يصرح بنفي الصدقة عن فرس المسلم نفيًا عامًا، وهذا النفي يشمل حالة استغلاله بالتجارة أو بالكراء.
(ب) وأما شبهة الأخرى فهي أن إيجاب الزكاة فيما ليس من الأموال التي تجب فيها الزكاة بالاتفاق -كالدور والعقار والدواب ونحوها- بمجرد تأجيرها بأجرة بدون تجارة في أعيانها، مما لم يسمع به في الصدر الأول الذين هم خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، فضلاً عن أن يسمع فيه بدليل من كتاب أو سنة.
وقد كانوا يستأجرون ويؤجرون، ويقبضون الأجرة من دورهم وضياعهم ودوابهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يخرج في رأس الحول ربع عشر داره أو عقاره أو دوابه، وانقرضوا وهم في راحة من هذا التكليف الشاق، حتى كان آخر القرن الثالث؛ من أهل المائة الثالثة؛ فقال بذلك من قال بدون دليل إلا مجرد القياس على أموال التجارة وقد عرفت الكلام في الأصل -يعنى زكاة التجارة- فكيف يقوم الظل والعود أعوج؟
مع أن هذا القياس في نفسه مختل بوجوه، منها: وجود الفارق بين الأصل والفرع، فإن الانتفاع بالمنفعة ليس كالانتفاع بالعين (الروضة الندية: 1/194).
وخلاصة هذه الشبهة: أن الأصل براءة الناس من التكاليف ولم يوجد دليل يوجب الزكاة في هذه المستغلات، حتى إن أحدًا من السلف لم ينقل عنه القول بزكاتها، فضلاً عن نص من آية أو حديث.
أما القياس على أموال التجارة وزكاتها ؛ فعلى فرض التسليم بثبوت الزكاة فيها، فقد اختل القياس بوجود الفارق وهو: أن أموال التجارة وسلعها ينتفع بعينها، فتنتقل العين من يد إلى يد بالبيع والشراء، بخلاف هذه الأشياء، فإنها باقية، وإنما يستفاد من منفعتها فحسب.
إلى الأعلى
تعقيب وترجيح(1/407)
أما حديث: "ليس على المسلم في عبده أو فرسه صدقة " فالذي اخترناه أن نفى الصدقة فيهما إنما كان لأنهما من حوائجه الأصلية؛ فالعبد يخدمه، والفرس مركبه وعدته للجهاد، ومن ثم أوجب جمهور الفقهاء منذ الصدر الأول إخراج الزكاة عن العبد والفرس إذا كان للتجارة، بل نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، ولم يقف ظاهر هذا الحديث دون ما فهموه وأفْتَوا به.
وأما عدم النقل عن الصدر الأول ما يفيد إيجاب الزكاة في هذه الأشياء ؛ فإنما كان لعدم شيوع الكراء والاستغلال فيها بحيث تعم به البلوى -على حد تعبير الفقهاء- ويظهر الحكم، ويتناقله الرواة، وكل عصر له مشكلاته التي تثار، ويطلب إبرام حكم في شأنها، ولم تكن هذه "المستغلات" من مشكلات تلك الأعصار؛.قال في "البحر": وقد ادعى مخالفة الهادوية للإجماع، وفيه نظر ؛ إذ لم يصرح السلف فيها بحكم (البحر الزخار 2/148).
وفي حواشي شرح الأزهار: المختار أن قول الهادي ليس مخالفًا للإجماع ؛ لأن الصحابة والتابعين إما أن يكونوا خاضوا في المسألة واختلفوا فيها، فهي خلافية، أو خاضوا وأجمعوا، فلم ينقله عنهم ناقل، أو لم يخوضوا، فلا حرج في استنباط مسألة بفكره الصائب، ونظره الثاقب (حاشية شرح الأزهار 1/450).
أما قياس هذه " المستغلات " على عروض التجارة ؛ فربما كان له وجه عند النظرة الأولى، إذ كل من المستغلات والعروض رأس مال نام مغل، وكلا المالكين تاجر يستثمر رأس ماله ويستغله ويربح منه، وكون صاحب العروض ينتفع بإخراج عين الشيء عن ملكه، وصاحب العمارة والمصنع ينتفع بالغلة مع بقاء العين ؛ ليس فرقًا يوجب الزكاة على أحدهما ويعفى الآخر.
بل قد يقال: إن المنتفع باستغلال الشيء مع بقاء عينه في ملكه -كمالك العمارة وصاحب المصنع- ربما كان أكثر ضمانًا للربح ن وأمانًا من الخسارة من صاحبه التاجر الآخر.
هذا ما قد يبدو لأول وهلة، ولكن عند التأمل يتبين لنا المفارقات الآتية:(1/408)
أولاً: أن أصدق تعريف لعروض التجارة هو: كل ما يعد للبيع من الأشياء بقصد الربح، كما جاء في حديث سمرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأمرهم أن يخرجوا الزكاة مما يعدونه للبيع، وقد تقدم في زكاة التجارة.
ومما لا يخفى أن هذه العمارات والمصانع وما شاكلها لا يعدها صاحبها للبيع، بل للاستغلال، وإنما ينطبق هذا على التجار والمقاولين الذين يشترون العمارات أو يبنونها بقصد بيعها والربح من ورائها؛ فهذه تُعامَل معاملة عروض التجارة بلا نزاع.
ثانيًا: أننا لو جعلنا كل مالك يستغل رأس ماله ويبتغى نماءه تاجرًا -ولو كان رأس المال غير متداول وغير معد للبيع- لكان مالك الأرض والشجر التي تخرج له زرعًا وثمرًا تاجرًا أيضًا، ويجب أن يُقَوِّم كل عام أرضه أو حديقته ويخرج عنها ربع العشر زكاة، وهذا ما لا يقبل، ولا يقول به أحد.
ثالثًا: أن هذه المستغلات قد يتوقف في بعض الأحيان استغلالها لسبب من الأسباب، فلا يجد صاحب العمارة من يستأجرها، ولا يجد صاحب المصنع المواد الأولية اللازمة، أو الأيدي العاملة، أو السوق الرائجة ....الخ، فمن أين يخرج زكاتها؟
إن صاحب العروض التجارية السائلة (المتداولة) يبيعها ويخرج زكاتها من قيمتها، بل يمكن عند الحاجة أن يدفع الزكاة من عينها -كما رجحنا ذلك- ولكن صاحب الدار أو المصنع كيف تؤخذ منه الزكاة إذا لم يكن له مال آخر؟ لا سبيل إلى ذلك إلا ببيع العقار أو جزء منه ليستطيع أداء الزكاة، وفى هذا عسر ظاهر، والله يريد بعباده اليسر، ولا يريد بهم العسر.
ومن هنا تظهر قيمة الفرق بين ما ينتفع بعينه كالعروض التجارية، وما ينتفع بغلته كالعقارات ونحوها.(1/409)
رابعًا: يعكر على الرأي من الناحية العملية: أن العمارة أو المصنع ونحوه ستحتاج كل عام إلى تثمين وتقدير، لمعرفة كم تساوى قيمتها في وقت حولان الحول، إذ المعهود أن مرور السنين ينقص من صلاحيتها، وبالتالي من قيمتها، كما أن تقلب الأسعار تبعًا لشتى العوامل الداخلية والخارجية له أثره في هذا التقويم، ولا شك أن هذا التقويم الحولي تلابسه صعوبات تطبيقية، ويحتاج أول ما يحتاج إلى مختصين ذوى كفاية وأمانة قد لا يتوافرون كما أن كل هذا يقتضي جهودًا ونفقات تنتقص أخيرًا من حصيلة الزكاة.
لهذا نرى أن الأولى أن تكون زكاة العمارة والمصنع ونحوهما في غلتهما، وهذا ما اتجه إليه الرأيان الآخران وإن اختلفا في تحديد نسبة ما يؤخذ من الغلة: أهي العُشر أو نصفه كما في زكاة الزروع والثمار، أم ربع العُشر كما في زكاة التجارة؟
إلى الأعلى
الاتجاه الثاني - أن تزكى الغلة عند قبضها زكاة النقود:
أما الرأي الثاني الذي وجدناه لبعض الأئمة في كتبنا الفقهية، فإنه ينظر إلى هذه المستغلات نظرة أخرى، فلا يأخذ الزكاة من قيمتها كل حول، ولكن يأخذها من غلتها وإيرادها.
إلى الأعلى
ما روى عن الإمام أحمد
وقد روى عن الإمام أحمد في من أجَّر داره، وقبض كراها: أنه يزكيه إذا استفاده، كما ذكر صاحب المغنى عنه (المغنى: 3/29، 47).
قول بعض المالكية
وفي كتب المالكية، ذكر الشيخ زروق في شرح "الرسالة": أن في المذهب خلافًا في حكم زكاة الأشياء التي تتخذ للانتفاع بغلتها، كالدور للكراء، والغنم للصوف، والبساتين للغلة، وهذا الخلاف في أمرين:
الأول: في ثمنها إذا بيعت عينها.
والثاني: في غلتها إذا استفيد منها.
فالقول المشهور في الأول: أن يستقبل بثمنها حولاً، كعروض القنية (الممتلكات الشخصية) إذا بيعت.
والقول الآخر، ينظر إليها كعروض التاجر المحتكر، وحكمه عند المالكية معروف، وهو أن يزكى ما يبيع منها في الحال، إذا كان العرض قد بقى في ملكه حولاً أو أكثر.(1/410)
وهذان القولان يردان في غلة هذه الأشياء وفائدتها كما أشار ذلك الشيخ زروق، وقال: انظره في المطولات (شرح الرسالة: 1/329).
والذي يهمنا هنا هو القول الثاني، الذي يزكى فوائد "المستغلات" عند قبضها.
إلى الأعلى
مذهب جماعة من ا لصحابة والتابعين ومن بعدهم
وكل من قال بتزكية "المال المستفاد" عند تملكه ( بلا اشتراط حول ) يقول بتزكية الإيراد الناتج عن استغلال العمارات وإنتاج المصانع وأجرة السيارات والطائرات والأجهزة وأدوات الفراشة ونحوها.
وسنرى في بحثنا عن المال المستفاد في الفصل القادم: أن هذا هو مذهب ابن عباس وابن مسعود ومعاوية والناصر والباقر وداود، كما روى عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري ومكحول والأوزاعى (انظر: موضوع المال المستفاد فى الفصل الآتي عند زكاة " كسب العمل").
وحجة هؤلاء عموم النص مثل قول -صلى الله عليه وسلم-: "في الرقة ربع العشر".
وزاد بعضهم هنا ما ذكره "الهادي" في قياس المال المُعد للكراء والاستغلال على المال المعد للبيع ؛ قالوا: وهو قياس قوى ؛ لأن بيع المنفعة كبيع العين، وكلما كراها فكأنما باعها، إلا أن القياس يقتضي أن النصاب من الغلة التي هي الأجرة، كما ذكر ذلك صاحب "الحاصر في مذهب الناصر" حيث ذكر في الحوانيت والدور والمستغلات إذا بلغ كراها وغلتها في السنة (200) مائتي درهم، ففيها ربع العُشر، وإن لم يبلغ ذلك، فلا شيء (حواشي شرح الأزهار: 1/450 ،451).
فإذا كان الرأي الأول يجعل أخذ الزكاة من رأس المال نفسه -العمارة والمصنع- فإن هذا الرأي يجعل أخذها من الدخل والإيراد، بنسبة ربع العشر ( 2.5% )، ولا يشترط لذلك حولان الحول.
إلى الأعلى
رأى معاصر - أن تُزكَّى الغلة زكاة الزرع والثمر
وهناك رأى آخر معاصر يوافق الرأي الثاني في أخذ الزكاة من غلة هذه الأشياء، ولكنه يخالفه في مقدار ما يؤخذ، فإنه جعل الواجب العشر أو نصفه، قياسًا على الواجب في الأرض الزراعية.(1/411)
فإذا كان الرأي الأول قاس هذه الأشياء على عروض التجارة ؛ فهذا قاسها على الأرض الزراعية، وقاس إيرادها على الزرع والثمار، إذ لا فرق بين مالك تجبى إليه غلات أرضه المزروعة، ومالك آخر تجبى إليه غلات مصانعه وعماراته ونحوها.
وإلى هذا الرأي -في قياس العمائر والمصانع على الأرض الزراعية- ذهب من فقهائنا المعاصرين الأساتذة: أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف وعبد الرحمن حسن -رحمهم الله- في محاضرتهم بدمشق عام 1952 عن الزكاة (حلقة الدراسات الاجتماعية للجامعة العربية - الدورة الثالثة - ص 241، 242).
فقد قسموا الأموال -نقلاً عن الفقهاء- إلى ثلاثة أقسام:
1- أموال تقتنى لإشباع الحاجات الشخصية ؛ كدور السكنى لأصحابها، والأقوات المدخرة لسد حاجة المالك، وهذه لا تجب فيها زكاة.
2- أموال تقتنى لرجاء الربح بسببها، أو يكون من شأنها ذلك، ولكن تختزن في الخزائن، وهذا تجب فيه الزكاة باتفاق الفقهاء، ومنه الأموال التي أخذ الرسول منها الزكاة، وهي الأصل الذي يقاس عليه غيره.
3- أموال تترد بين النماء وإشباع الحاجة الشخصية كالحلي والماشية التي تتخذ للعمل والنماء معًا، وفي حكمها اختلف الفقهاء، كما بين من قبل.
ثم قالوا: إن تطبيق هذا التقسيم على عصرنا ينتهي بنا لا محالة إلى أن ندخل في أموال الزكاة أموالاً في عصرنا مغلة نامية بالفعل، لم تكن معروفة بالنماء والاستغلال في عصر الاستنباط الفقهي، وذكروا من هذه الأموال نوعين:(1/412)
أولاً: أدوات الصناعة التي تعتبر رأس مال للاستغلال، وهي تعتبر وسيلة الاستغلال لصاحبها، مثل صاحب مصنع كبير يستأجر العمال لإدارته، فإن رأس ماله للاستغلال لهو تلك الأدوات الصناعية، فهي بهذا الاعتبار تعد مالاً ناميًا، إذ الغلة التي تجيء إليه هي من هذه الآلات، فلا تعد كأدوات الحداد، الذي يعمل بيده، ولا أدوات النجار الذي يعمل بيده وهكذا .. ولهذا قالوا: نرى أن الزكاة تجب في هذه الأدوات باعتبارها مالاً ناميًا وليست من الأدوات التي لإشباع الحاجات الشخصية بذاتها.
وإذا كان الفقهاء لم يوجبوا الزكاة في أدوات الصناعة في عصورهم، فلأنها كانت أدوات أولية لا تتجاوز الحاجة الأصلية لصناعتها، والإنتاج لمهارته، فلم تُعتبر مالاً ناميًا منتجًا، إنما الإنتاج فيها للعامل.
أما الآن فإن المصانع تعد أدوات الصناعة نفسها رأس مالها النامي، ولذلك نقول: إن أدوات الصناعة التي يملكها صانع يعمل بنفسه كأدوات الحلاق الذي يعمل بيده ونحوه تعفى من الزكاة، لأنها تعد من الحاجات الأصلية له.
أما المصانع فإن الزكاة تُفرض فيها، ولا نستطيع أن نقول: إن تلك مخالفة لأقوال الفقهاء، لأنهم لم يحكموا عليها، إذ لم يروها، ولو رأوها لقالوا مثل مقالتنا، فنحن في الحقيقة نخرج على أقوالهم، أو نطبق المناط الذي استنبطوه في فقههم رضى الله عنهم.
وثانيًا: العمائر المعدة للاستغلال لا للسكنى الشخصية، فإننا نعدها مالاً ناميًا، ولا نعدها من الحاجات الأصلية، ولذلك نقسم الدور إلى قسمين: أحدهما: ما أعد لسكنى المالك، وهذه لا زكاة فيها، كما قرر الفقهاء.
والقسم الثاني: ما هو معد للاستغلال، فإننا نرى أن تفرض فيه الزكاة، ولسنا في ذلك نخالف الفقهاء، وإن قرروا أن الدور لا زكاة فيها ،لأن الدور في عصورهم لم تكن مستغلاً إلا في القليل النادر، بل كانت للحاجة الأصلية ولم يلتفتوا إلى النادر، لأن الحكم للأغلب الشائع، والنادر لا حكم له في الشرائع.(1/413)
أما الآن فإن الدور أصبحت للاستغلال لا للسكنى الشخصية فقط، فالعمائر تشاد لطلب الفضل والنماء، وهي تدر الدر الوفير، فالواجب أن تؤخذ منها زكاة، إذ هي مال نام مستغل، ولأننا نأخذ من نظيرها، وهو.
الأراضي الزراعية، فمن العدل أن نأخذ منها زكاة، وإن لم نأخذ منها كان ذلك تفريقًا بين متامثلين، وذلك لا يجوز في الإسلام، ونحن في هذا أيضًا نطبق أقوال الفقهاء السابقين أو نخرج على أقوالهم لتحقيق المناط الذي استنبطوه.
ومن الإنصاف أن نقول: إن الإمام أحمد -رضى الله عنه- كانت له علة تجيئه من حوانيت كان يؤجرها، فكان يخرج زكاتها، مع أنه لا مورد لعيشه سواها (راجع مناقب الإمام احمد ص 224 - لابن أبى يعلى).
ولقد رأيناه -صلى الله عليه وسلم- يفرض الزكاة في الأموال المنقولة غير الثابتة من رأس المال بمقدار ربع عشره ووجدناه يفرض في الأموال الثابتة المنتجة في الغلة لا في الأصل، لأن الأصل لا يقبل التجزئة والأخذ منه، فانتقل الأخذ إلى الغلة، فكان الأخذ من الإنتاج بمقدار العُشر أو نصف العُشر.
وعلى ضوء ما قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مقادير مفرقًا بين الثابت والمنقول من حيث المأخذ والمقدار، فإن أيضًا في الأموال المنتجة في عصرنا، نفرق بين المنقول والثابت، ففي المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال بمقدار ربع العُشر ؛ والثابت أن تؤخذ الزكاة من غلته بمقدار العُشر أو نصف العُشر.(1/414)
وعلى هذا نقول: إن العمائر وأدوات الصناعة الثابتة تؤخذ الزكاة من غلاتها، ولا تؤخذ من رأس المال، وعند التقدير بالعشر أو نصف العشر ؛ إن أمكن معرفة صافي الغلات بعد التكاليف -كما هو الشان في الشركات الصناعية- فإن الزكاة تؤخذ من صافي بمقدار العشر، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ الزكاة بالعُشر من الزرع الذي سقي بالمطر أو العيون، فكأنه أخذه من صافي الغلة، وإن لم تمكن من معرفة الصافي على وجهه -كالعمائر المختلفة- فإن الزكاة تؤخذ منها (أي من الغلة) بمقدار نصف العُشر ...هـ. (المصدر السابق ص 249 ؛ 250).
هذا ما ذهب إليه ثلاثة من كبار العلماء، الذين قضوا حياتهم في دراسة الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه، وتدريسها.
فاجتهادهم هنا هو اجتهاد الخبير الأصيل، لا المتطفل الدخيل، وهو اجتهاد صحيح، لأن معتمده هو القياس؛ أحد الأصول والأدلة الشرعية المعتبرة عند جمهور الأمة.
أما تعليقنا على الموضوع نفسه فنوضحه في السطور التالية:
إلى الأعلى
مناقشة وترجيح
إن الرأي الذي ذهب إليه شيوخنا الأجلاء، يوافق الاتجاه الثاني -كما ذكرنا- في أخذ الزكاة من غلة العمارات والمصانع وفوائدها -أعنى أرباحها- ولكنه يخالفه في مقدار ما يجب أخذه.
فالرأي السابق يجعل الواجب ربع العشر اعتبارًا بزكاة النقود، وهذا الرأي يجعل الواجب العُشر أو نصفه، اعتبارًا بزكاة الزروع والثمار، وقياسًا لدخل العمارات والمصانع ونحوها على دخل الأرض الزراعية، وهذا الرأي هو الذي اختاره، لأنه اعتمد على أصل شرعي صحيح وهو القياس، ولكنى أُلاحظ عليه الأمور الآتية:(1/415)
أولها: أن هذا الرأي أدخل المصانع والعمارات في الأموال النامية التي تجب فيها الزكاة، ولكنه لم يضع ضابطًا عامًا، أو قاعدة جامعة يندرج تحتها كل ما ماثلها من رؤوس الأموال المغلة المنتجة، فلا شك أن في عصرنا مزارع للأبقار والدواجن ونحوها، تدر ربحًا وفيرًا من المنتجات الحيوانية، وفي عصرنا أموال كسيارات الأجرة الصغيرة (التاكسي) والكبيرة (أتوبيس) وسيارات النقل، والسفن التجارية، والطائرات التجارية، والمحلات التي تؤجر الأثاث في الأحفال والمناسبات، وغير ذلك كثير.
وهذه الأموال الجديدة لا تدخل تحت العمارات والمصانع، ولهذا رأينا أن تدخل هذه الأشياء وما شابهها تحت قاعدة "المستغلات" فهي قاعدة حاصرة جامعة ؛ سواء أكان الاستغلال بطريقة كراء العين والاستفادة بأجرتها ؛ كالعمارات والسيارات ونحوها، أم بطريقة الإنتاج وبيع ما يحصل من نتاجه ؛ أي الإنتاج للسوق، كالمصنع ونحوها، وسواء أكان مصدر الاستغلال حيوانًا كبقر الألبان والدواجن، التي قسنا منتجاتها في الفصل السادس على العسل النحل -أم جمادًا كالأشياء الأخرى،.وسواء أكان المستغل عقارًا كالعمارات والمصنع أم منقولاً كالسيارات والأثاث الذي يؤجر في الأحفال ونحوها.
فلا ضرورة إذًا للتفرقة بين الثابت والمنقول ؛ كما ذكر هذا الرأى، فإنه تؤخذ الزكاة من رأس المال الثابت من الغلة بمقدار العشر (أو نصفه) وفي المال المنقول تؤخذ الزكاة من رأس المال نفسه بمقدار ربع العشر.
أجل ...لا ضرورة لهذه التفرقة وقد رأينا النبي -صلى الله عليه وسلم-: أخذ من العسل العُشر وهو من غلة النحل، وليس النحل من العقارات، بل هو أقرب إلى المنقولات، وخلايا النحل، يمكن نقلها بالفعل.(1/416)
الثاني: إن قياس الدور المؤجرة ونحوها على الأراضي الزراعية، غير مُسَلَّم، وقولهم: لا فرق بين مالك تُجبى إليه غلات أرضه، ومالك تُجبى إليه غلات عماراته، منقوض ؛ فإن الزكاة التي تؤخذ من الزرع ليست منوطة بملك الأرض الزراعية بل بملك الزرع نفسه، فصاحب الزرع عليه الزكاة ولو كان مستأجرًا كما هو قول الجمهور.
والذي يصح أن يقاس عليه هو مالك الأرض الذي يكرى أرضه، وتجبى إليه غلته في صورة "أجرة" من مستأجريها، فهذا أشبه شيء بمالك العمارة الذي يكريها، وتجبى إليه غلتها كذلك.
ولهذا كان لابد أن يسبق هذا الحكم أصل يقاس عليه، وهو القول بزكاة أجرة الأرض الزراعية، إذا قبضها مالكها، وهو ما ذهبنا إليه من قبل، ورجحناه بالأدلة ؛ وبدون هذا الأصل لا يسلم القياس المذكور.
الثالث: أن قياس العمارات ونحوها على الأرض الزراعية يمكن أن ينقض بوجود الفارق بينهم ؛ ذلك أن الأرض الزراعية مصدر دائم للدخل لا يعتريه توقف، ولا يلحقه بلىً أو تآكُل بتقادم العهد، بخلاف العمارات ونحوها فإنها مصدر مؤقت يعيش سنوات تقل أو تكثر ثم ينتهي ويتوقف، فكيف يصح القياس مع هذا الاختلاف بين الأصل والفرع ؟ والقياس يقتضي التماثل بين المقيس والمقيس عليه وإلا كان قياسًا مع الفارق.
والذي يخرجنا من هذا الاعتراض، ويصح القياس المذكور هو الأخذ بما ذهب إليه علماء الضرائب إعفاء مقابل الاستهلاك، فقد نادوا باقتطاع مبالغ سنوية من الدخل بحيث يؤدى تراكمها على مر السنين إلى الاستعاضة عن رأس المال -مصدر الدخل- بمصدر آخر جديد.
فإذا كانت الآلة أو العقار -مصدر الدخل- يستطيع الاستمرار في الإنتاج مدة ثلاثين عامًا مثلاً، فإنه يمكن -بادخار جزء من ثلاثين جزء من ثمنه كل عام- شراء مصدر آخر من آلة أو عقار، عند توقف الأول، بحيث يبقى الدخل قائمًا مستمرًا، وهذا الجزء المتقطع كل عام يجب أن يُعفى من الضرائب (انظر: علم المالية للدكتور رشيد الدقر ص 368)(1/417)
فإذا كان رجل يملك عمارة يُقَوَّم ثمنها بثلاثين ألف دينار، وافترضنا أنها تنقص كل عام (.3/1) من ثمنها، أي ألف دينار فالمفروض أن تحسم هذه الألف من غلتها السنوية فلو كانت تؤجر في السنة بمبلغ (3000) ثلاثة آلاف تعتبر كأنها لم تؤجر إلا بألفين فقط ؛ وبهذا يصح قياس العمارة والمصنع على الأرض الزراعية، فإنها مصدر باق صالح للإنتاج على مر الزمن، وما تحتاج إليه من تسميد ونحوه، فهو أشبه بنفقات الصيانة للمبنى والآلة ؛ وهذا غير مقابل الاستهلاك الذي ذكرنا.
المبحث الثالث
نصاب الزكاة في العمائر ونحوها
فهرس
إعفاء الحد الأدنى للمعيشة
المدة التي يعتبر فيها النصاب
رفع النفقات والديون من الإيراد
لم يعرض الأساتذة أصحاب هذا الرأي لموضوع النصاب الذي يجب توافره في غلة العمارة أو المصنع، كم هو؟ وكيف يُقدر؟ هل يُقدر بقيمة نصاب الزرع، وهو خمسة أوسق (خمسون كيلة مصرية) ؟ وهل يُعتبر أدنىالحبوب والثمار أو أوسطها أو أعلاها؟ -وقد يؤيد هذا المنزع أننا نقيس غلة المصنع على غلة الأرض- أم يُقدر النصاب بالنقود بما قيمته (85) جرامًا من الذهب، على اعتبار أن الذهب وحدة التقدير في كل العصور؟
لعل هذا هو الأقرب والأيسر، فإن الشارع اعتبر مَن ملك هذا القدر غنيًا، وأوجب عليه الزكاة، ولم يوجب على من ملك دون ذلك شيئًا من الزكاة.
وما دام مالك العمارة أو المصنع يقبض غلة ملكه نقودًا ؛ فالأولى أن يُقدر النصاب بالنقود.
المدة التي يعتبر فيها النصاب(1/418)
وإذا كان لابد من اعتبار النصاب -لأنه الحد الأدنى للغنى في نظر الشارع- فما المدة التي يعتبر فيها النصاب؟ أيعتبر بالشهر؟ فكل غلة شهر يشترط فيها أن تبلغ نصابًا، أم يعتبر بالسنة ؟ فتُضم إيرادات الشهور بعضها إلى بعض، ويخرج منها الزكاة في رأس الحول إذا بلغت نصابًا، إن الاعتبار بالشهر له ميزة، وهى إعفاء ذوى الإيراد القليل من أصحاب الدور المتواضعة، التي لا يبلغ كراها في الشهر نصابًا، ففيه رفق بأرباب المال.
ولكن الاعتبار بالسن أنفع للفقراء والمستحقين، لما فيه من توسيع قاعدة الزكاة والأموال التي تجب فيه ؛ إذ في هذه الحال تجب على عدد أكبر، فإن ضم دخل الشهور بعضها إلى بعض حتى تبلغ النصاب يدخل في ممولي الزكاة عددًا أكبر.
ولعل هذا الاعتبار هو الأقرب، فإن دخل الفرد -كدخل الدولة أيضًا- يقدر بالسنة لا بالشهر، وقديمًا كانوا يؤجرون الدور بالسنة، ولهذا ذكرنا عن بعض الفقهاء الذين قالوا بتزكية المال المستفاد عند قبضه: إذا بلغ كراء الدار في السنة نصابًا زكى في الحال.
وفي الحال تعتبر غلات الشهور كالزرع أو النخل الذي يؤتي ثماره على دفعات، فيُضَم بعضها إلى بعض، كما هو مذهب أحمد ؛ قال في المغنى: "وتُضَم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض، سواء اتفق وقت اطلاعها وإدراكها أم اختلف، فتقدم بعضها على بعض في ذلك، ولو أن الثمرة جُذَّت ثم طلعت الأخرى وجُذَّت ؛ ضُمت إحداهما إلى الأخرى، فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين ؛ ضُمَّ أحدهما إلى الآخر" (المغنى 2/733).
وبذلك يكون حساب العمائر -كحساب المصانع نحوها- حسابًا واحدًا متشابهًا ؛ فإن المصانع تُصفى حسابها، وتعرف صافي إيرادها كل حول، لا كل شهر.
إلى الأعلى
رفع النفقات والديون من الإيراد(1/419)
والذي أختاره هنا: أن الزكاة تجب في صافى الإيراد، أي بعد رفع ما يقبل النفقات والتكاليف من أجور وضرائب ونفقات صيانة ونحوها، وكذلك رفع ما يقابل الديون التي تثبت صحتها، ورفع قدر النفقة هو ما ذهب إليه عطاء وغيره في الزرع والثمر، قال عطاء "ارفع نفقتك وزكِّ الباقي"، وهو الذي أيَّده ورجَّحه ابن العربى في شرح الترمذي.
إلى الأعلى
إعفاء الحد الأدنى للمعيشة
وهنا بحث تتم به زكاة العمائر ونحوها، وذلك هو حكم إعفاء الحد الأدنى لمعيشة المالك وعياله، إذا لم يكن له مورد يعيش منه غيرها.
فهل تجب الزكاة في صافى الإيراد السنوي ؛ دون أن يقتطع له منه قدر ما يعيش به هو ومن يعوله في السنة ؛ وبتعبير فقهائنا: ما يحتاج إليه في حوائجه الأصلية؟
أم تجب في جملة الإيراد دون إعفاء شيء من ذلك؟
لا ريب أن من الناس من لا مورد لرزقه غير دار يؤجره، و مصنع صغير يديره بنفسه ،أو بمن ينوب عنه، وقد يكون هذا المصنع أو تلك الدار لشيخ كبير، أو أرملة، أو صبية أيتام ؛ فهل يُترك لهؤلاء وأمثالهم نصيب لمعيشتهم، وما لابد لهم منه، وتفرض الزكاة فيما بقى؟ أم تؤخذ الزكاة من جملة قيمة الإيراد كله؟
إن الذي يتفق وعدالة الإسلام أن يعفى ما يعتبر حدًا أدنى للمعيشة -في تقدير خبراء متدينين- وأن تجب الزكاة في الباقي من إيراد السنة إذا بلغ نصابًا، وهذا بالنسبة لمن ليس له إيراد آخر يكفيه حاجته، كمعاش أو راتب أونحوه، ودليلنا على ذلك أمران:
الأول: أن الفقهاء اعتبروا المال الذي يحتاج إليه صاحب حاجة أصلية كالمعدوم شرعًا، وشبهوه بالماء المستحق للعطش، يجوز التيمم مع وجوده ؛ لأنه مع الحاجة إليه اعتبر معدومًا.(1/420)
الثاني: ما جاءت به الأحاديث -التي ذكرناها من قبل- من أمر الخارصين لثمار النخيل والأعناب بالتخفيف والتيسير على أرباب الثمار، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لهم: "دعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" (أي يعفى من الزكاة هذا القدر توسعة على أرباب المال، وتقديرًا لحاجتهم إلى الأكل من الثمر رطبًا).
وقد يكون من الأضبط والأيسر إعفاء ثلث الإيراد أو ربعه ابتداء، واهتداء بروح الأحاديث المذكورة.
الفصل التاسع
زكاة كسب العمل والمهن الحرة
فهرس
مقدار الواجب في كسب العمل ونحوه
التكييف الفقهي لكسب العمل والمهن الحرة
نصاب كسب العمل والمهن الحرة
مقدمة
لعل أبرز مظاهر دخل الأفراد في عصرنا ذلك الذي يتقاضاه الإنسان نتيجة عمله وجزاء على جهده.
والعمل الذي يكسب منه الإنسان مالاً، ويدر على صاحبه دخلاً نوعان: نوع يباشره الشخص بنفسه دون أن يرتبط برباط الخضوع لغيره، ويضطلع بعمل يدوي أو عقلي، فدخله في هذه الحالة دخل مهنى، مستمد من المهنة التي يمارسها، كدخل الطبيب والمهندس والمحامى والفنان والخياط والنجار وغيرهم من ذوى المهن الحرة.
ونوع يرتبط فيه الشخص بغيره -سواء أكان غيره حكومة أم شركة أم فردًا- بعقد إجارة أشخاص، ليقوم بعمل ما، بدني أو عقلي أو مزيج منهما، فدخله حينئذ يتخذ صورة الرواتب والأجور والمكافآت.
فهل تؤخذ الزكاة في هذا الدخل المتجدد بنوعيه أم لا؟ وإذا أخذت فما نصابها؟ وكم تكون؟ وماذا يقول الفقه الإسلامي في هذا؟
أسئلة يقتضينا العصر الحاضر ضرورة الإجابة عنها، ليعرف كل مسلم ما عليه من واجب وما له من حق، فأن هذا الدخل بصورته الحديثة وبحجمه الضخم، وقاعدته الكبيرة، شئ لم يعرفه الفقهاء فيما مضى،.وسنفصل الإجابة عن هذه الأسئلة في مباحث ثلاثة :
1- التكييف الفقهي لكسب العمل والمهن، ورأى الفقهاء في زكاته قديما وحديثا، مع بيان الراجح.
2- النصاب ومقداره وكيف يعتبر؟
3- مقدار الواجب.
المبحث الأول(1/421)
التكييف الفقهي لكسب العمل والمهن الحرة
فهرس
ما جاء عن الصحابة والتابعين في المال المستفاد
ابن عباس
ابن مسعود
معاوية
عمر بن عبد العزيز
فقهاء آخرون من التابعين وغيرهم
مذهب الباقر والصادق والناصر وداود
اختلاف المذاهب الأربعة في المال المستفاد
ترجيح القول بتزكية المال المستفاد عند قبضه
رأي معاصر
رأي معاصر
الرواتب والأجور مال مستفاد
تحقيق القول في المال المستفاد
ضعف الأحاديث الواردة في الحول
حديث علي
حديث ابن عمر
حديث أنس
حديث عائشة
أحاديث المال المستفاد
اختلاف الصحابة والتابعين ومن بعدهم في المال المستفاد
رأي معاصر
عرض شيوخنا الأجلاء الأساتذة: عبد الرحمن حسن ومحمد أبو زهرة وعبد الوهاب خلاف، لهذا النوع في محاضرتهم عن الزكاة بدمشق عام 1952، وانتهوا فيه إلى رأي نذكره هنا بنصه، قالوا:
"أما كسب العمل والمهن، فإنه يؤخذ منه زكاة إن مضى عليه حَوْل وبلغ نصابًا، ولو لاحظنا مذهب أبى حنيفة -رضى الله عنه- وأبى يوسف ومحمد -وهو أن النصاب لا يشترط ألا ينقص طوال العام بل الشرط الكمال في الطرفين من غير أن ينقطع تماما في الأثناء- لوجدنا أنه بالتخريج عليه يمكن فرض زكاة على كسب العمل كل عام، لأنه يندر أن ينقطع طول العام والكثير أنه يبلغه في طرفيه، وبهذا التخريج يصح أن نعتبر كسب العمل وعاء للزكاة، مع هذا التقييد، لتحقق العلة التي استنبطها الفقهاء ونعتبره تابعا للنصاب الذي يعد أساسا لفرض الزكاة.
"ولأن الإسلام أراد أن يكون للمالك -لكي يعتبر غنيًا- رصيد هو اثنا عشر جنيها ذهبيًا، على الوزن القديم للجنيه المصري، فهذا الرصيد يجب توافره لفرض أي زكاة عليه، ليتحقق الفرق بين الغنى الموجب للعطاء والفقر المسوغ للأخذ.(1/422)
وقد تساهل الحنفية فاكتفوا بإكمال الرصيد في أول العام وآخره من غير أن يذهب كله في أثناء العام، فيجب أن يُلاحظ ذلك عند فرض زكاة على كسب العمل وعلى المهن الحرة، ليتحقق الحد الفاصل بين الغنى والفقر، ويندر من أصحاب المهن الحرة من لا يتوافر لديهم ذلك" (حلقة الدراسات الاجتماعية ص248).
وعند الكلام عن مقادير الزكاة عادوا إلى الموضوع فقالوا: أما كسب العمل والمهن الحرة فإنا لا نعرف له نظيرًا في الفقه إلا في مسألة خاصة بالإجارة على مذهب أحمد رضى الله عنه، فقد روى عنه أنه قال فيمن أجر داره فقبض كراها وبلغ نصابًا: إنه يجب عليه الزكاة إذا استفاده، من غير اشتراط حول، وإن هذه في الحقيقة تشبه كسب العمل أو هو يشبهها، فتجب الزكاة فيه إذا بلغ نصابا.
وهذا فوق ما قررناه أولاً وهو: أنه يلاحظ أنه يندر أن يخلو رجل كسوب مقتدر من ذلك النصاب الذي قررناه، وإن نقص في وسط العام وتم في آخره بكسب عمله أو مهنته فإنه تجب الزكاة على النصاب الذي مضى عليه الحول" (حلقة الدراسات الاجتماعية ص248).
إلى الأعلى
الرواتب والأجور مال مستفاد
والنتيجة من هذا التخريج - على ما فيه (أقرب اعتراض عليه ما يقوله كثير من الموظفين من إنفاق رواتبهم بعد أيام من قبضها، إلى حد الاقتراض وهذا يقطع الحول بالإجماع) - أن تؤخذ الزكاة من الرواتب ونحوها عن شهر واحد من اثنى عشر شهرًا ؛ لأن الذي يخضع للزكاة هو النصاب الثابت في أول الحول وأخره.
والعجب أن يقول الأساتذة عن كسب العمل والمهن وما يجلبه من رواتب وإيراد: إنهم لا يعرفون له نظيرًا في الفقه إلا فيما روى عن أحمد في أجرة الدار ؛ هذا مع أن أقرب شئ يذكر هنا هو "المال المستفاد" وهو ما يستفيده المسلم ويملكه ملكًا جديدًا بأي وسيلة من وسائل التملك المشروع ؛ فالتكييف الفقهي الصحيح لهذا الكسب: أنه مال مستفاد.(1/423)
وقد ذهب إلى وجوب تزكيته في الحال جماعة من الصحابة ومن بعدهم دون اشتراط حول ؛ وإلى ذلك ذهب ابن عباس وابن مسعود ومعاوية والصادق والباقر والناصر وداود، ورُوى عن عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري والأوزاعي.
وهذا الحكم والخلاف فيه قد ذكرته الكتب المعروفة المتداولة في أيدي الباحثين، نذكر منها المحلى لابن حزم: (6/83 وما بعدها)، والمغنى لابن قدامة: (2/6)، ونيل الأوطار: (4/148)، والروض النضير: (2/412)، وسبل السلام: (2 / 129).
إلى الأعلى
تحقيق القول في المال المستفاد
ومن المهم جدًّا -بالنظر لعصرنا- أن نحقق حكم المال المستفاد، ونصل فيه إلى رأى مقنع، لما يترتب عليه من آثار خطيرة، إذ يدخل فيه كثير من ألوان الإيراد والدخل مثل كسب العمل والمهن الحرة وإيراد رؤوس الأموال غير التجارية.
فأما ما كان فيه المال المستفاد نماء لمال مزكى من قبل، كربح مال التجارة، ونتاج الماشية السائمة فهذا يُضم إلى أصله، ويعتبر حوله بحوله، وذلك لتمام الصلة بين النماء والأصل.
وعلى هذا فالذي يملك نصابًا من السائمة أو من أموال التجارة، يزكى آخر الحول الأصل وفوائده جميعًا، وهذا لا كلام لنا فيه.
ويقابل ذلك المال المستفاد إذا كان ثمنًا لمال مزكى لم يحل عليه الحول، كما إذا باع محصول أرضه وقد زكاه بإخراج عُشره أو نصف عُشره، وكذلك إذا باع ماشية قد أخرج زكاتها، فما استفاده من الثمن لا يزكيه في الحال، منعًا للثني في الصدقة، وهو ما يسمى في الضرائب "الازدواج".
وإنما الكلام في المال المستفاد الذي لا يكون نماء لمال عنده، بل استفيد بسبب مستقل كأجر على عمل، أو غلة رأس مال، أو هبة، أو نحو ذلك، سواء أكان من جنس مال عنده أم من غير جنسه.(1/424)
هل يُشترط في هذا المال مرور حول كامل عليه في ملك صاحبه منذ استفاده ؟ أو يُضَم إلى ما عنده من جنسه إن كان عنده مال من جنسه، فيعتبر حَوْله حَوْله؟ أو تجب فيه الزكاة حين استفادته إذا تحققت شروط الزكاة المعتبرة من بلوغ النصاب، والسلامة من الدين، والفضل عن الحوائج الأصلية؟
الحق أن كل احتمال من هذه الاحتمالات الثلاثة قد ذهب إليه بعض الفقهاء، وإن كان المشهور المتداول بين المشتغلين بالفقه أن مرور الحول شرط في وجوب الزكاة في كل مال، مستفاد أو غير مستفاد، مستندين في ذلك إلى بعض الأحاديث التي رويت في اشتراط الحول، وتعميمهم إياها على المال المستفاد.
ولهذا كان مما لا بد منه ههنا بيان درجة الأحاديث الواردة في اشتراط الحول، ومبلغ ثبوتها لدى أئمة الحديث.
إلى الأعلى
ضعف الأحاديث الواردة في الحول
رُوى اشتراط الحول عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أربعة من الصحابة هم على وابن عمر وأنس وعائشة رضى الله عنهم، ولكن هذه الأحاديث كلها ضعيفة لا تصلح للحُجَّة.
حديث علي
أما حديث علي فَرَواه أبو داود في باب زكاة السائمة، قال: حدثنا سليمان ابن داود المهري، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم وسمى آخر، عن أبى إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، عن على رضى الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شئ -يعنى في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارًا، فإذا كان لك عشرون دينارًا وحال عليها الحَوْل ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب ذلك، قال: فلا أدرى: أعلىٌّ يقول: "فبحساب ذلك" أو يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا أن جريرًا قال: ابن وهب يزيد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: "وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول".
هذا هو حديث علي -كما رواه أبو داود- فما قيمته عند نقاد الحديث؟(1/425)
( أ ) قال ابن حزم وتبعه عبد الحق في "أحكامه": هذا حديث رواه ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبى إسحاق عن عاصم والحارث عن على، فقرن أبو إسحاق فيه بين عاصم والحارث، والحارث كذاب، وكثير من الشيوخ يجوز عليه مثل هذا، وهو أن الحارث أسنده وعاصم لم يسنده (يعني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-) فجمعهما جرير وأدخل حديث أجدهما في الآخر، وقد رواه شعبة وسفيان ومعمر عن أبى إسحاق عن عاصم عن على موقوفا عليه، وكذا كل ثقة رواه عاصم إنما وقفه على على، فلو أن جريرا أسنده عن عاصم وبين ذلك أخذنا به (انظر المحلى: 6/3، ونصب الراية: 2/328 - 329).
(ب) قال الحافظ في التلخيص (صفحة 182 - طبع الهند) معقبًا على قول ابن حزم: قد رواه الترمذي من حديث أبى عوانة عن أبى إسحاق عن عاصم عن على مرفوعًا (أ.هـ).
أقول: حديث أبى عوانة لم يذكر فيه الحول، فلا حجة فيه، ولفظه كما في الترمذي: "باب ما جاء في زكاة الذهب والورق" قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة، من كل أربعين درهما درهم، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم" (سنن الترمذي: كتاب الزكاة، باب "ما جاء في زكاة الذهب والورق").
( ج ) وهذا كله على القول بأن عاصمًا ثقة، ولكنه لم يسلم من جرح، فقد قال المنذري في مختصره (مختصر السنن: 2/191) والحارث وعاصم ليسا بحجة، وقال الذهبي في الميزان: أخرج له الأربعة .. وثَّقه ابن معين وابن المديني . وقال أحمد: هو أعلى من الحارث الأعور، وهو عندي حجة . وقال النسائي: ليس به بأس . وأما ابن عدى فقال: ينفرد عن على بأحاديث، والبلية منه . وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، يرفع عن على قوله كثيرًا، فاستحق الترك، على أنه أحسن حالا من الحارث (ميزان الاعتدال: 2/352-353 ترجمة رقم 4052 ) وهذا يؤيد قول المنذر: إنه ليس بحجة.(1/426)
ومع هذا فالحديث معلول كما نبه عليه الحافظ في التلخيص (صفحة 182) حيث قال: "تنبيه الحديث الذي أوردناه من أبى داود معلول"، ثم ساق إسناده، وقال: "ونبه ابن المواق على علة خفية فيه وهى أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبى إسحاق، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب: سحنون وحرملة ويونس وبحر بن نصر وغيرهم عن ابن وهب، عن جرير ابن حازم والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن أبى إسحاق، فذكره . قال ابن المواق: الحمل فيه على سليمان شيخ أبى داود فإنه وهم في إسقاط رجل" أ.هـ.
والحسن بن عمارة الذي سقط من السند متروك باتفاق (انظر ترجمته في الميزان برقم (1918): 1/513-515).
وبهذا نعلم أن الحديث لا يصلح للاحتجاج به، وأن سكوت الحافظ على إعلال ابن المواق له بل تصريحه بالتنبيه على أنه معلول - يُعَد عدولاً عن قوله قبل ذلك في التلخيص نفسه (التلخيص ص 175) حديث على لا بأس بإسناده، والآثار فقد تبين لنا أن في الحديث جملة آفات: من قبل الحارث المتهم بالكذب الذي انفرد برفعه، ومن قبل عاصم الذي اختلف في توثيقه، ومن قبل العلة التي ذكرها ابن المواق وأقرها الحافظ.
وفي ظني -والله أعلم- أن الذين حسَّنوا الحديث، لو اطلعوا على العلة التي نبه عليها ابن المواق وذكرها الحافظ في التلخيص، لرجعوا عن قولهم، فهي علة قادحة، ويجزم بصحتها من له اطلاع على علوم الحديث إذا أوتي ملكة النقد.
إلى الأعلى
حديث ابن عمر
وأما حديث ابن عمر، فقال الحافظ: رواه الدارقطني والبيهقي، وفيه إسماعيل بن عياش وحديثه عن غير أهل الشام ضعيف، وقد رواه ابن نمير ومعتمر وغيرهما عن شيخه فيه، وهو عبيد الله بن عمر الراوي له عن نافع، فوقفه، وصحح الدارقطني في "العلل" الموقوف (المرجع نفسه).
إلى الأعلى
حديث أنس(1/427)
وأما حديث أنس فرواه الدارقطني، وفيه حسان بن سياه، وهو ضعيف، وقد تفرد به عن ثابت -كما في التلخيص (ص 175)- قال ابن حبان في كتاب "الضعفاء": هو منكر الحديث جدًا، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد (نصب الراية: 2/330).
إلى الأعلى
حديث عائشة
وأما حديث عائشة فرواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء، وفيه حارثة ابن أبى الرجال، وهو ضعيف (التلخيص ص 175).
قال ابن القيم في تهذيب سنن أبى داود (الجزء الثاني صفحة 189) وقد روى حديث: "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحَوْل" من حديث عائشة بإسناد صحيح ؛ قال محمد بن عبيد اللَّه بن المنادى: "حدثنا أبو زيد (كذا ) شجاع بن الوليد، حدثنا حارثة بن محمد عن عمرة، عن عائشة قالت: سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحَوْل" (رواه أبو الحسين بن بشران عن عثمان بن السماك عن ابن المنادى) أهـ.
قلت: عجيب من ابن القيم أن يصحح هذا الحديث بهذا الإسناد، مع أننا إذا غضضنا الطرف عن شجاع بن الوليد أبى بدر (وهذه كنيته كما في الميزان: ج2 ص 264) وقد قال فيه أبو حاتم: "لين الحديث، شيخ، ليس بالمتين، لا يُحتج به، إلا أنه عنده عن محمد بن عمرو أحاديث صحاح" - فكيف نتجاهل شيخه حارثة بن محمد، وهو عينه حارثة بن أبى الرجال، الراوي عن عمرة، والذي ضعف الدارقطني والعقيلي وغيرهما الحديث من قِبَله، وقد قال الذهبي في ترجمته: ضعَّفه أحمد وابن معين، وقال النسائي: متروك، وقال البخاري:منكر الحديث، لم يعتد به أحد.
وعن ابن المديني قال: لم يزل أصحابنا يضعفونه.
وقال ابن عدي: عامة ما يرويه منكر أ.هـ (الميزان: 1/445 - 446 ترجمته رقم 1659).
ومعنى هذا أنه مُجْمَع على ضعفه وإطراحه، فكيف يصحح حديث ينفرد بروايته؟ ولعل ذكر أبيه باسمه -محمد- دون كنيته التي اشتهر بها -أبى الرجال- هو الذي سبب هذا الوهم، وسبحان من لا يضل ولا ينسى.(1/428)
هذا ما جاء من الأحاديث في اشتراط الحول في أي مال، بصرف النظر عن كونه مستفادًا أو غير مستفاد.
إلى الأعلى
أحاديث المال المستفاد
أما المال المستفاد خاصة، فقد روى فيه الترمذي حديثًا من طريق عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحَوْل عند ربه" ورواه عن طريق أيوب عن نافع ابن عمر قال: "مَن استفاد مالاً فلا زكاة عليه" الحديث، دون رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال الترمذي: وهذا أصح من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: وروى أيوب وعبيد الله بن عمر وغير واحد عن نافع عن ابن عمر موقوفًا، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف في الحديث، ضعفه أحمد بن حنبل وعلىّ ابن المديني وغيرهما من أهل الحديث، وهو كثير الغلط أ.هـ (الترمذي بشرح ابن العربى: 3/125، 126).
وقد روى حديث عبد الرحمن بن زيد: الدارقطني والبيهقي، وصحح البيهقي وابن الجوزي وغيرهما أنه موقوف كما قال الترمذي وروى الدارقطني في غرائب مالك من طريق إسحاق بن إبراهيم الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر نحوه، قال الدارقطني: الحديث ضعيف، والصحيح عن مالك موقوف، وروى البيهقي عن أبى بكر وعلى عائشة موقوفًا عليهم مثل ما روى عن ابن عمر، قال: والاعتماد في ذلك على الآثار الصحيحة عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن عمر وغيرهم (انظر: السنن الكبرى: 4/95، والتلخيص ص 175).
وبهذا البيان يتضح لنا: أنه ليس في اشتراط الحَوْل حديث ثابت مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولا سيما في المال المستفاد، كما قال الحافظ البيهقي.
ولو صح في هذا شئ من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لكان محمولاً على غير المال المستفاد توفيقًا بين الأدلة.(1/429)
فهنا قدر مجمع عليه في أمر الحَوْل، وهو أن المال الذي يزكى لا تجب فيه الزكاة مرة أخرى إلا بعد مرور حَوْل عليه ؛ فالزكاة حولية ولا شك بهذا المعنى، ويمكن أن يحمل عليه الحديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" أي لا زكاة فيه بعد تزكيته إلا إذا مر عليه عام كامل، وقد بينا ذلك في شرط الحول من الفصل الأول من هذا الباب.
ومما يدل على ضعف الأحاديث المروية في اشتراط الحول للمال المستفاد اختلاف الصحابة فيه -كما سنبين ذلك- ولو صحت لاحتكموا إليها.
إلى الأعلى
اختلاف الصحابة والتابعين من بعدهم في المال المستفاد
وإذا لم يكن في اشتراط الحول نص صحيح، فليس فيه أيضا إجماع، لا قولي ولا سكوتي، فإن الصحابة والتابعين قد اختلفوا في المال المستفاد ؛ فمنهم من اشترط له الحول، ومنهم من لم يشترط، وأوجب إخراج الزكاة منه حين يستفيده المسلم.
وإذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم أولى من بعض، ورد الأمر إلى النصوص الأخرى، وإلى قواعد الإسلام العامة، كما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59).
صح عن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق: أن أبا بكر الصديق كان لا يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول.
وعن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت: "لا يزكى حتى يحول عليه الحول" تعنى المال المستفاد.
وعن علي بن أبى طالب قال: من استفاد مالاً فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول، ومثله عن ابن عمر (روى هذه الآثار بسندها ابن حزم في المحلى: 5/276).
وهذه الآثار عن هؤلاء الصحابة رضى الله عنهم تدل على أن الزكاة لا تجب حتى يمضي على المال في مِلْك المالك الحَوْل، وإن كان مالاً مستفادًا، ولكن هؤلاء الصحابة خالفهم غيرهم، فلم يشترطوا لزكاة المال المستفاد ما اشترطوا من الحَوْل.(1/430)
قال ابن حزم: روى ابن أبى شبيبة، وروى مالك في الموطأ: صح عن ابن عباس، إيجاب الزكاة في كل مال يزكى حين يملكه المسلم (المحلى: 6/83، ورواه عنه أبو عبيد في الأموال ص 413، 414 وأوله تأويلاً بعيدًا).
وممن روى عنه تعجيل الزكاة من المال المستفاد -دون انتظار الحول- ابن مسعود ومعاوية من الصحابة، وعمر بن عبد العزيز والحسن والزهري من التابعين (المرجع نفسه ص 84 -85، وقد اختلف الرواية عن عمر بن عبد العزيز والحسن).
كما سنفصل ذلك فيما يلي
إلى الأعلى
ما جاء عن الصحابة والتابعين في المال المستفاد
( أ ) ابن عباس
روى أبو عبيد عن ابن عباس في الرجل يستفيد المال قال:.يزكيه يوم يستفيده (الأموال ص 413، وقد رواه من طريقين) وكذلك رواه عنه ابن أبى شيبة (المصنف: 3 / 160 - طبع حيدر آباد) والخبر صحيح عن ابن عباس، كما قال ابن حزم، وهو ظاهر في عدم اشتراط الحول للمال المستفاد من النقود، وهو ما فهمه الناس من قول ابن عباس، ولكن أبا عبيد خالفهم في هذا الفهم قائلا: فقد تأول الناس -أو من تأوله منهم- أن ابن عباس أراد الذهب والفضة ولا أحسبه أنا أراد ذلك، وكان عندي أفقه من أن يقول هذا، لأنه خارج عن قول الأمة، ولكنى أراه أراد زكاة ما يخرج من الأرض، فإن أهل المدينة يسمون الأرضين أموالاً فإن لم يكن ابن عباس أراد هذا فلا أدرى ما وجه حديثه؟ (الأموال ص 414).
وأبو عبيد إمام حُجَّة في الشؤون المالية ولا شك، وله فى الزكاة اجتهادات وترجيحات نيرة، طالما أخذت بها، ولكنى أرى كلامه هنا ضعيفًا ؛ لأنه يخالف ما يتبادر إلى الفهم من قول حَبْر الأمة، وما فهمه أهل العلم منه قبل أبى عبيد، ولو كان يقصد به ما قال ما كان فيه شئ جديد يتميز به ابن عباس ويعرف به ويروى عنه.
على أن الأصل هو حمل الكلام على ظاهره دون ارتكاب للتأويل إلا إذا وجد مانع من إرادة الظاهر، فهل وجد هنا هذا المانع؟ كلا.(1/431)
وما ذكر أبو عبيد مما ظنه مانعا من إرادة الظاهر المتبادر، ومسوغًا لارتكاب التأويل البعيد، غير مسلم له لما يأتي:
أولاً: أن ابن عباس لم يخرج عن قول الأمة ؛ فقد وافقه ابن مسعود ومعاوية ثم تبعته من بعد عصره عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وغيرهم.
ثانيًا: أن الصحابي المجتهد ليس عليه في الأمور التي لا نص فيها أن ينتظر ويتوقف حتى يرى ما يقوله بقية علماء الأمة، ثم يعلن رأيه واجتهاده إن كان موافقا وإلا سكت، ولو كان الأمر كذلك ما قال أحد منهم رأيًا، وإنما لكل مجتهد منهم أن يقول رأيه في الأمور الاجتهادية، وافق رأى الآخرين أم لا، وقد تحدث الموافقة فعلاً، وقد لا تحدث.
ثالثًا: أن انفراد صحابي بقول أمر غير مستنكر، وليس بالشيء النادر في تراثنا الفقهي، وقد رأينا ابن عباس نفسه ينفرد بآراء له في المتعة، وفى لحم الحمر الأهلية وغيرها، فانفراد ابن عباس -لو صح- لا يسوغ إخراج كلامه عن ظاهره ليوافق رأى غيره من الصحابة.
على أن أبا عبيد لم يجزم بتأويله هذا، بل قال: "أراه" أي أظنه، وفى ختامه قال: وإن لم يكن أراد هذا فلا أدرى ما وجهه؟
إلى الأعلى
(ب) ابن مسعود
وكذلك روى أبو عبيد عن هبيرة بن يريم قال: كان عبد الله بن مسعود يعطينا العطاء في زُبُلٍ صغار ثم يأخذ منه الزكاة (الأموال ص 412، والزبل: جمع زبيل بوزن أمير، وقد يرد بوزن قنديل وسكين، وهو: القفة).
وقد تأول أبو عبيد ذلك بأنه كان يأخذ الزكاة لما قد وجب قبل العطاء لا لما يستقبل.(1/432)
وفي هذا التأويل أيضا تكلف واعتساف مخالف لما يتبادر إلى الفهم من ناحية، وخالف كذلك لما صحت به الرواية عن ابن مسعود مما يفسر المراد من أخذه من العطاء، فقد روى هبيرة قال: كان ابن مسعود يزكى أعطياتهم من كل ألف خمسة وعشرين، كما روى ذلك ابن أبى شيبة (المصنف: 3 /114 - طبع حيدر آباد) والطبراني (قال في مجمع الزوائد 3 /68، ورجاله رجال الصحيح خلا هبيرة وهو ثقة) وهبيرة هو نفسه الذي نقل الرواية الأولى التي تأولها أبو عبيد: فهذا الحسم أو الاقتطاع شبيه بما يسميه علماء الضريبة الآن "الحجز في المنبع" وليس أخذًا لما وجب قبل العطاء في أموال أخرى حال عليها الحول، ولو كان ابن مسعود يأخذ الزكاة من العطاء عما وجب في مال آخر ما وجب أن يأخذ من كل ألف خمسة وعشرين، فقد يكون أقل أو أكثر، ولعل أبا عبيد لم يطلع على هذه الرواية، فتكلف هذا التأويل (وقد ساعد أبا عبيد على التأويل الذي تأوله حديث له آخر -قال- يحدثونه عن سفيان عن خصيف عن أبى عبيدة عن عبد الله أنه قال: "من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول".
ولكن هذا الحديث ضعيف لسببين:
الأول: أن أبا عبيد قال: يحدثونه عن سفيان، ولم يعين الواسطة بينه وبين سفيان.
الثاني: أن خصيفًا -وإن كان صدوقًا- متهم بالخلط وسوء الحفظ وكثرة الوهم، وشدة الاضطراب، فلا يصح الاحتجاج به في مثل ما نحن فيه، ولعل أعدل ما قيل فيه قول ابن حبان: كان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروى، ويتفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته إلا أن الإنصاف فيه قبول ما وافق الثقات في الروايات وترك ما لم يتابع عليه وهو ممن استخير الله تعالى فيه - انظر تهذيب التهذيب: 3/ 143 و 144 - وهنا نجد أن الروايات الصحيحة عن ابن مسعود تخالف ما رواه خصيف هنا، فلا ينبغي التعويل على روايته).
إلى الأعلى
(ج) معاوية(1/433)
روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب قال: أول من أخذ من الأعطية الزكاة ؛ معاوية بن أبى سفيان (الموطأ مع المنتقى: 2/ 95).
ولعله يريد أنه أول من أخذها من الخلفاء ؛ فقد أخذها قبله ابن مسعود كما ذكرنا، أو لعله لم يبلغه فعل ابن مسعود، فقد كان بالكوفة، وابن شهاب بالمدينة.
ولا ريب أن معاوية كان يأخذ الزكاة من الأعطيات على مستوى الدولة الإسلامية، فقد كان خليفة المسلمين وأميرهم، ولا شك أن عصر معاوية كان حافلاً بالصحابة الكرام، فلو كان معاوية مُخالفًا لنص نبوي أو لإجماع معتبر ما وسعهم أن يسكتوا، وقد أنكروا عليه فيما دون هذا، حينما أخذ في زكاة الفطر نصف صاع من بُرَّ بدل صاع من غيره، كما في حديث أبى سعيد الخدري، كما أن معاوية نفسه -على الرغم مما قيل فيه من مبالغات وتشنيعات- ما كان ليخالف سُنَّة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
إلى الأعلى
(د) عمر بن عبد العزيز
وبعد معاوية بأربعة عقود جاء مجدد المائة الأولى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز فكان مذهبه الذي طبقه بالفعل هو أخذ الزكاة من العطاءات والجوائز والظالم وغيرها.
ذكر أبو عبيد أنه كان إذا أعطى الرجل عُمَالته أخذ منها الزكاة، وإذا رد المظالم أخذ منها الزكاة، وكان يأخذ الزكاة من الأعطية إذا خرجت لأصحابها (الأموال ص 432).
فـ"العمالة" هي الأجرة التي يقبضها الرجل عن عمله، مثل رواتب الموظفين والعمال في عصرنا، و"المظالم" هي الأموال التي صودرت واستولت عليها السلطات بغير حق في عهود سابقة واعتبرها أصحابها مالاً ضائعًا أو ضمارًا، فإذا ردت إليهم تكون حينئذ كسبًا جديدًا، و"الأعطيات" هي المكافآت أو المعاشات المنظمة التي كانت تصرف من بيت المال لجنود الجيش الإسلامي ومن في حكمهم.(1/434)
وروى ابن أبى شيبة: أن عمر بن عند العزيز كان يزكى العطاء والجائزة (المصنف: 3 /85) فهذا كان مذهب عمر، حتى الجوائز والمنح التي كانت توهب لبعض الوافدين مكافأة أو تشجيعًا أو صلة كان يأخذ منها زكاتها، وهو ما تفعله الدول الحديثة في أخذ الضرائب على مثل هذه الجوائز.
إلى الأعلى
(هـ) فقهاء آخرون من التابعين وغيرهم
كما روى تزكية المال المستفاد عند قبضه عن الزهري والحسن ومكحول، كما ذكر ابن حزم، وسنذكر شيئا من ذلك عند حديثنا عن كيفية تزكية المال المستفاد.
وجاء مثل هذا القول عن الأوزاعي أيضًا.
بل روى عن أحمد بن حنبل ما يشبه هذا . فقد ذكرنا في الفصل السابق قوله فيمن أجر داره فقبض كراها: أنه يزكيه إذا استفاده، كما في المغنى، وفيه أيضًا: قال أحمد عن غير واحد: يزكيه حين يستفيده، وروى بإسناده عن ابن مسعود ما ذكرناه قبل من تزكيته العطاء (انظر: المغنى: 2/626، 3/29، 47).
إلى الأعلى
(و) مذهب الباقر والصادق والناصر وداود
وهو مذهب الناصر والصادق والباقر من أئمة آل البيت، كما هو مذهب داود: أن من استفاد نصابا فعليه أن يزكيه في الحال (الروض النضير: 2 /411، ونيل الأوطار: 4 / 148).
وحُجَّتهم عموم النصوص الموجبة للزكاة مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "في الرِّقَةِ (النقود الفضية) ربع العُشر" (متفق عليه).
فعلى هذا يكون الحَوْل عندهم ليس بشرط، وإنما هو مهلة بين الإخراجين ولا يشترط كمال النصاب إلا عند الإخراج وهو آخر الحَوْل، كما هو ظاهر أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- وسعاته للزكاة آخر الحول، غير باحثين عن حال المال أول الحول، من إسامة الماشية وغيرها، وكمال المال أو نقصانه (الروض النضير: 2 / 411).
إلى الأعلى
اختلاف المذاهب الأربعة في المال المستفاد(1/435)
وقد اختلف أئمة المذاهب الأربعة في المال المستفاد، اختلافًا متفاوتًا، ذكره ابن حزم في المحلى فقال: قال أبو حنيفة: لا يزكى المال المستفاد إلا إذا تم له حول في ملك مالكه إلا إذا كان إذا عنده مال من جنسه تجب فيه الزكاة في أول الحول، بأن بلغ نصابًا، فإنه إن اكتسب بعد ذلك -ولو قبل تمام الحول بساعة- شيئًا، قلَّ أو كثر، من جنس ما عنده، فإنه يزكى المكتسب مع الأصل، سواء عنده الذهب والفضة والماشية والأولاد (أي أولاد الماشية) وغيرها (المحلى لابن حزم: 6 / 84).
وقال مالك: لا يزكى المال المستفاد حتى يتم حَوْلاً، وسواء أكان عنده ما فيه الزكاة من جنسه أم لم يكن إلا الماشية، فإن من استفاد منها شيئا بغير ولادة منها، فإن كان الذي عنده منها نصابًا زكَّى الجميع عند إتمام الحول، وإن كان أقل من النصاب فلا زكاة عليه، وإن كانت الماشية المستفادة من ولادة زكى الجميع بحول الأمهات، سواء أكانت الأمهات نصابًا أم لم تكن (المحلى لابن حزم: 6 / 84).
وقال الشافعي: لا يزكى مال مستفاد إلا أن يحول عليه الحول، ولو كان عند الذي استفاده نصاب من جنسه، واستثنى من ذلك أولاد الماشية مع أمهاتها فقط إذا كانت الأمهات نصابا وإلا فلا (المحلى لابن حزم: 6 /84).
وقد عقب ابن حزم -على طريقته العنيفة المستنكرة- بأن هذه الأقوال كلها فاسدة، قال: ويكفى من فسادها ؛ أنها كلها مختلفة، وكلها دعاوى مجردة وتقاسيم فاسدة متناقضة، ولا دليل على صحة شئ منها لا من قرآن، ولا من سُنَّة صحيحة، ولا من رواية سقيمة، ولا من إجماع ولا من قياس، ولا من رأى له وجه (المحلى لابن حزم: 6 / 84) وقد تفادى ابن حزم هذه التقاسيم الفاسدة -على حد قوله- باشتراط الحول لكل مال، مستفاد أو غير مستفاد، حتى أولاد الماشية، مخالفًا بذلك صاحبه داود الظاهري، الذي خرج عن هذه التقاسيم بإيجابه الزكاة في كل مستفاد بلا اشتراط حول، ولم ينج هو نفسه مما عاب غيره به.
إلى الأعلى(1/436)
ترجيح القول بتزكية المال المستفاد عند قبضه
وبعد مقارنة هذه الأقوال، وموازنة أدلة بعضها ببعض، وبعد استقراء النصوص الواردة في أحكام الزكاة في شتى أنواع المال، وبعد النظر في حكمة تشريع الزكاة، ومقصود الشارع من وراء فريضتها، والاستهداء بما تقتضيه مصلحة الإيلام والمسلمين في عصرنا هذا ؛ فالذي أختاره: أن المال المستفاد - كراتب الموظف وأجر العامل ودخل الطبيب والمهندس والمحامى وغيرهم، من ذوى المهن الحرة وكإيراد رأس المال المستغل في غير التجارة كالسيارات والسفن والطائرات والمطابع والفنادق ودور اللهو ونحوها - لا يشترط لوجوب الزكاة فيه مرور حول، بل يزكيه حين يقبضه.
ولكي يتضح رأينا جليا في هذا الموضوع الخطير نضع أمام كل باحث النقاط التالية لكى يظهر الحق مؤيدًا بالدليل:
1ـ إن اشتراط الحول في كل مال -حتى المستفاد منه- ليس فيه نص في مرتبة الصحيح أو الحسن الذي يؤخذ منه حكم شرعي عام للأمة، وتقيد به النصوص المطلقة، وهذا ما صرح به علماء الحديث وإنما صح ذلك من قول بعض الصحابة كما ذكرنا.
2ـ إن الصحابة والتابعين -رضى الله عنهم- اختلفوا في المال المستفاد فمنهم من اشترط له الحول، ومنهم من لم يشترط، وأوجب إخراج الزكاة منه حين يستفيد المسلم، وإذا اختلفوا لم يكن قول بعضهم أولى من بعض، ورد الأمر إلى النصوص الأخرى، وقواعد الإسلام العامة، كما قال تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59).
3ـ إن عدم وجود نص ولا إجماع في حكم المال المستفاد، جعل المذاهب المعروفة تختلف اختلافًا بينًا في شأنه، مما جعل ابن حزم يرميها بأنها: " كلها دعاوٍ مجردة، وتقاسيم فاسدة متناقضة، ولا دليل على صحة شئ منها، لا من قرآن، ولا من سُنَّة صحيحة، ولا من رواية سقيمة، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا من رأى له وجه".(1/437)
ولقد عانيتُ بنفسي من اختلاف المذاهب فيما بينها في هذا الأمر، واختلاف الأقوال والطرائق داخل كل مذهب، واختلاف التصحيحات والترجيحات لكل منها، ووجدت عشرات من المسائل وعشرات من التفريعات عليها، تتعلق بما يُستفاد من المال، وأقسامه وأنواعه، هل يُضم إلى ما عنده أو لا يُضم، أم يُضم البعض دون البعض، هل يُضم في النصاب أم في الحَوْل أم كليهما؟ تذكر بحوث حول هذا الأمر في زكاة الأنعام، وفى زكاة النقود، وفي زكاة عروض التجارة، وفي فروع أخر ؛ مما جعلني أستبعد أن تأتي الشريعة السمحة الميسرة التي تخاطب عموم الناس، بمثل هذه التفريعات المعقدة الصعبة في فريضة عامة يُكلَّف بها جمهور الأمة.
4ـ إن مَن لم يشترط الحَوْل في المال المستفاد أقرب إلى عموم النصوص وإطلاقها ممن اشترط الحَوْل ؛ إذ النصوص الموجبة للزكاة في القرآن والسُنَّة جاءت عامة مطلقة، وليس فيها اشتراط الحَوْل مثل: "هاتوا رُبع عُشر أموالكم"، "في الرِّقةَ ربع العُشر"، كما يؤيد ذلك عموم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) (البقرة: 267).
فقوله: "ما كسبتم" لفظ عام يشمل كل كسب من تجارة أو وظيفة أو مهنة.
وقد استدل الفقهاء بها على زكاة التجارة، فلا غرو أن نستدل بها على زكاة كسب العمل والمهنة، وإذا كان الفقهاء قد اشترطوا الحول في زكاة التجارة فذلك لتعذر الفصل بين أصل المال والربح المستفاد منه، فقد يتحصل الربح يومًا يومًا، وربما ساعة ساعة، بخلاف الرواتب ونحوها فإنها تأتي مستقلة ومقدرة.(1/438)
5ـ وإذا كان عموم النصوص وإطلاقها يسند مَن لم يشترط الحَوْل في المال المستفاد، فإن القياس الصحيح يؤيده كذلك ؛ قياس وجوب الزكاة في النقود ونحوها حين يستفيدها المسلم على وجوب الزكاة في الزرع والثمار عند الحصاد والجذاذ، فإذا كنا نأخذ من الزارع ولو مستأجرًا عُشر زرعه وثمره، أو نصف عُشره، فلماذا لا نأخذ من الموظف أو الطبيب مثلاً رُبع عُشر كسبه؟ وقد قرن الله بين ما كسبه المسلم وما أخرجه الله من الأرض في آية واحدة فقال: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، فلماذا نفرق بين أمرين نظمهما الله في عقد واحد، وكلاهما من رزق الله وإنعام الله؟
صحيح أن نعمة الله في إنبات الزرع وإخراج الثمر أظهر، والشكر عليها أوجب، بيد أن هذا لا يسوغ إيجاب الزكاة في أحد المالين أو الدخلين وإعفاء الآخر مطلقًا، حسبنا من الفرق بينهما أن الشارع أوجب في الخارج من الأرض العُشر أو نصفه، وفي المال المكتسب من النقود -أو ما يقدر بالنقود- ربع العشر.
6ـ إن اشتراط الحَوْل في المال المستفاد معناه إعفاء كثير من كبار الموظفين وأصحاب المهن الحرة من وجوب الزكاة في دخولهم الضخمة ؛ لأنهم أحد رجلين: إما رجل يستغل كل ما يقبض من إيراده أولا بأول في أي مجال من مجالات التثمير المختلفة، وإما رجل من المترفهين المتوسعين بل المسرفين الذين ينفقون كل ما يكسبون وإن بلغ ما بلغ، ويبعثرونه ذات اليمين وذات الشمال، دون أن يحول عليه حول ومعنى هذا: جعل عبء الزكاة على المعتدلين المقتصدين وحدهم، الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قوامًا، فهؤلاء هم الذين يدخرون من كسبهم ما يمكن أن يحول عليه الحَوْل، ومن المستبعد أن يأتي الشرع الحكيم العادل بشرط يخفف عن المسرفين، ويضع العبء على كاهل المقتصدين.
7ـ إن القول باشتراط الحَوْل في المال المستفاد انتهى إلى تناقض جلى يأباه عدل الإسلام وحكمته في فرض الزكاة.(1/439)
من ذلك: "أن الفلاح الذي يزرع أرضًا مستأجرة يؤخذ منه -على المفتَى به في المذاهب السائدة- (10%) أو (5%) من غلَّة الأرض إذا بلغت (50) كيلة مصرية بمجرد حصاد الزرع وتصفية الخارج.
أما مالك الأرض نفسه الذي قد يقبض في ساعة واحدة مئات الدنانير، أو آلافها من كراء هذه الأرض، فلا يوجد منه شئ -على المفتى به في المذاهب السائدة أيضًا- لأنهم يشترطون أن يحول الحول على هذه المئات أو الآلاف في يده،وقلما يكون، وكذلك الطبيب والمهندس والمحامى وصاحب سيارات النقل أو صاحب الفندق ..... الخ . وما أدى إلى هذا التناقض إلا التقديس لأقوال فقهية غير معصومة، انتهى إليها اجتهاد علماء يؤخذ من كلامهم ويترك ؛ وما يدرينا أنهم لو أدركوا هذا العصر وشهدوا ما شهدنا، لغيروا اجتهادهم في كثير من المسائل؟ كما هو معلوم من سير الأئمة رضي الله عنهم.
8ـ إن تزكية المال المستفاد عقب استفادته، ومنه الرواتب والأجور وإيراد رؤوس الأموال غير التجارية وما في حكمها، وإيراد ذوى المهن الحرة أنفع للفقراء والمستحقين، حيث يمكن أن تأتى بحصيلة ضخمة لبيت مال الزكاة، مع سهولة التحصيل للحكومة، وسهولة دفع الزكاة على الممول، وذلك بأخذها من رواتب الموظفين والعمال في الحكومة والمؤسسات عن طريق ما يسميه علماء الضريبة "الحجز في المنبع" على نحو ما كان يفعل ابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز -رضى الله عنهم -، من اقتطاع الزكاة من "العطاء" إذا أعطوه، وكلمة "العطاء" تعنى رواتب الجند ومن في حكمهم في ذلك العهد.
قال أبو الوليد الباجي: "العطاء في الشرع واقع على ما يعطيه الإمام للناس من بيت المال على سبيل الأرزاق" (الرواتب).
روى ابن أبى شيبة عن هبيرة قال: "كان ابن مسعود يزكى أعطياتهم من كل ألف خمسة وعشرين" . ورواه الطبراني عنه أيضًا (قال في مجمع الزوائد (3/68) :ورجاله ورجال الصحيح خلا هبيرة وهو ثقة).(1/440)
وعن عون عن محمد قال: "رأيت الأمراء إذا أعطوا العطاء زكوه" (مصنف ابن أبى شيبة: 4 /42 -44 - طبع ملتان).
وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يزكى العطاء والجائزة (مصنف ابن أبى شيبة: 4 /42 -44 - طبع ملتان).
وروى مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه قال: "أول من أخذ من الأعطية الزكاة معاوية بن أبى سفيان" (انظر شرح المنتقى على الموطأ: 2 / 95 - طبع السعادة).
ويظهر أنه يريد: أول من أخذ من الخلفاء، فقد أخذها قبله عبد الله بن مسعود كما ذكرنا.
9ـ إن إيجاب الزكاة في تلك الدخول المستفادة يتفق وهدى الإسلام في غرس معاني البر والبذل والمواساة والإعطاء في نفس المسلم، والإحساس بالمجتمع، والمشاركة في احتمال أعبائه، وجعل ذلك فضيلة دائمة له، وعنصرًا أساسيًا من عناصر شخصيته .. قال تعالى في أوصاف المتقين: (ومما رزقناهم ينفقون) (البقرة:3) وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم) (البقرة: 254) ولهذا أوجب النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل مسلم صدقة من ماله أو من كسبه وعمله أو مما يستطيع.
روى البخاري عن أبى موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مسلم صدقة" فقالوا: يا نبي الله ؛ فمن لم يجد؟ قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق" قالوا: فإن لم يجد ؟ قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف" قالوا: فإن لم يستطع ؟ قال: "فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة" (صحيح البخاري كتاب "الزكاة" - باب "على كل مسلم صدقة": 2 / 143 - طبع الشعب).
وإعفاء تلك الدخول المتجددة من الصدقة الواجبة انتظارًا لحولان الحَوْل عليها، يجعل كثيرًا من الناس يكسبون وينفقون وينعمون، دون أن ينفقوا مما رزقهم الله في سبيل الله ويواسوا من لم يؤته الله نعمة الغنى أو القدرة على الاكتساب.(1/441)
10ـ إن عدم اشتراط الحول للمال المستفاد أعون على ضبط أموال الزكاة وتنظيم شأنها بالنظر للمكلف الذي تجب عليه الزكاة، وبالنظر للإدارة التي تتولى جباية الزكاة، إذ على القول باشتراط الحول يجب على كل من يستفيد مالا -قل أو كثر، من راتب أو مكافأة أو غلة عقار له أو غير ذلك من ألوان الإيراد المختلفة - أن يحدد تاريخ ورود كل مبلغ ؛ ومتى يتم حوله ليخرج زكاته في حينه، ومعنى هذا أن الفرد المسلم قد تكون عنده في العام الواحد عشرات المواقيت لمقادير ما استفاده من أموال في أزمنة مختلفة، وهذا أمر يشق ضبطه، وهو عند قيام الحكومة بجباية الزكاة أمر يعسر حصره وتنظيمه، ومن شأنه أن يعطل جباية الزكاة ويعوق سيرها (المرجع السابق).
إلى الأعلى
رأى معاصر
ومن الإنصاف أن نذكر هنا أن الكاتب الإسلامي المعروف، الشيخ محمد الغزالى، عرض فى كتابه "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" لهذا الموضوع منذ أكثر من عشرين عامًا، فبعد أن ذكر أن قاعدة فرض الزكاة في الإسلام إما أن تعتبر برأس المال فقط - زاد أو نقص أو بقى على حاله - ما دام قد مرَّ عليه عام،وذلك كزكاة النقود، وعروض التجارة، التي أوجب إخراج ربع العُشر منها، وإما أن تُعتبر بمقدار الدخل، دون نظر إلى رأس المال كزكاة الزروع والثمار التي أوجب فيها العُشر أو نصف العُشر، قال بعد ذلك :.
ونخلص من هذا إلى أن من له دخل لا يقل عن دخل الفلاح الذي تجب عليه الزكاة يجب أن يخرج زكاة مساوية، ولا عبرة البتة برأس المال ولا بما يتبعه من شرط.
فالطبيب والمحامى والمهندس والصانع وطوائف المحترفين والموظفين وأشباههم تجب عليهم الزكاة، ولا بد أن تخرج من دخلهم الكبير، ولنا على ذلك دليلان:(1/442)
الأول: عموم النص في قول القرآن الكريم: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) (البقرة: 267) ولا شك أن ربح الطبقات الآنفة الذكر كسب طيب يجب الإنفاق منه، وبهذا الإنفاق الواجب يدخلون في عداد المؤمنين الذين ذكر القرآن أنهم هم: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) (البقرة 3).
والدليل الثاني: أن الإسلام لا يتصور في حقه أن يفرض الزكاة على فلاح يملك خمسة أفدنة (أقول: بل على الفلاح المستأجر الذي لا يملك قيراطًا واحدًا من الأرض إذا أغلت أرضه خمسين كيلة من الأذرة أو الشعير كما هو رأى الجمهور)، ويترك صاحب عمارة تدر عليه محصول خمسين فدانًا، أو يترك طبيبًا يكسب من عيادته في اليوم الواحد ما يكسبه الفلاح في عام طويل من أرضه إذا أغلت بضعة أرادب من القمح ضربت عليها الزكاة يوم الحصاد.
لا بد إذن من تقدير زكاة على أولئك جميعًا، وما دامت العلة المشتركة التي يناط بها الحكم موجودة في الطرفين، فلا ينبغي المراء في إمضاء هذا القياس وقبوله نتائجه.
وقد يقال: كيف نقدر الزكاة؟ وعلى أي نسبة تكون؟ والجواب سهل ؛ فقد قدر الإسلام زكاة الثمار بين العُشر ونصف العُشر، على قدر عناء الزارع في ري أرضه، فلتكن زكاة كل دخل على قدر عناء صاحبه في عمله.
ومن الممكن إيضاح التفاصيل وتفريع المسائل، وتحديد القيم، بعد أن يتقرر هذا الأصل الخطير، والأمر لا يستقل به تفكير واحد، بل يحتاج إلى تعاون العلماء والباحثين (الإسلام والأوضاع الاقتصادية ص 166- 168 - الطبعة الخامسة).
وهذا كلام جيد، يدل على فقه عميق لأصول الإسلام ومبادئه، والدليلان اللذان استند إليهما الأستاذ لا مطعن فيهما، فقد استدل بعموم النص القرآني، وبالقياس على المنصوص.(1/443)
غير أن المنهج الذي سلكناه هنا في الاستدلال أقرب مأخذًا من منهج أستاذنا الغزالى، حيث لا خروج فيه على الإجماع، وإنما هو اختيار مما ذهب إليه بعض الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمة.
وإذا كان في ذلك خروج على المذاهب الأربعة المعتمدة فلم يجئ نص عن الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أئمة المذاهب أنفسهم -رضى اللَّه عنهم- بوجوب اتباعهم وتقليدهم وتحريم الخروج عن اجتهادهم (راجع ما كتبناه في المقدمة عن القواعد التي التزمناها فى الاختيار والترجيح بين الأقوال) بل هم قد نهوا عن تقليدهم، كما ذكرنا ذلك في مقدمة الكتاب
المبحث الثاني
نصاب كسب العمل والمهن الحرة
فهرس
الزكاة في صافي الإيراد والراتب
تنبيه
مقدمة
بقي هنا بحث
كيف يزكى المال المستفاد؟
مقدمة
من المعلوم أن الإسلام لم يوجب الزكاة في كل مال قلَّ أو كثر، وإنما أوجبها فيما بلغ نصابًا فارغًا من الدَيْن وفاضلاً عن الحاجات الأصلية لمالكه، وذلك ليتحقق معنى الغنى الموجب للزكاة، فإنها إنما تؤخذ من الأغنياء، وليتحقق معنى العفو الذي جعله القرآن وعاء الإنفاق (والعفو ما فضل عن الحاجة) قال تعالى :(ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) (البقرة: 219) وقال عليه الصلاة والسلام:"لا صدقة إلا عن ظهر غنى" ، "وابدأ بمن تعول" وقد حققنا ذلك في شروط المال الذي تجب فيه الزكاة.
وإذا كانت الزكاة لا تجب إلا في نصاب، فما مقدار النصاب هنا؟
مال الأستاذ الغزالي في كلامه السابق إلى اعتباره هنا بنصاب الزروع والثمار، فمن له دخل لا يقل عن دخل الفلاح الذي تلزمه الزكاة تؤخذ منه الزكاة، ومعنى هذا بلغة الفقه: أن من بلغ دخله قيمة خمسة أوسق أو (50 كيلة مصرية) أو (647) كيلو جرامًا وزنًا، من أدنى ما تخرجه الأرض كالشعير أخذت منه الزكاة ؛ وهذا رأى له وجهه.
ولكن ربما كان للشارع قصد خاص في تقليل نصاب الزرع، لأن به قوام معيشة الإنسان.(1/444)
وأولى من ذلك أن يكون نصاب النقود هو المعتبر هنا، وقد حددناه بما قيمته (85) جرامًا من الذهب، وهذا القدر يساوى العشرين مثقالاً التي جاءت بها الآثار.
كما أن الناس يقبضون رواتبهم وإيراداتهم بالنقود، فالأولى أن يكون المعتبر هو نصاب النقود.
إلى الأعلى
بقي هنا بحث
فإن ذوى المهن الحرة يأتيهم إيرادهم غير منتظم، فقد يكون كل يوم كدخل الطبيب، وقد يكون على فترات كدخل المحامي والمقاول والخياط وهكذا، وبعض العمال يقبضون أجورهم كل أسبوع أو أسبوعين، وجمهور الموظفين يقبضون رواتبهم كل شهر، فكيف نعتبر النصاب في هذه الأحوال؟
وهنا نجد أمامنا اتجاهين أو احتمالين:
الأول: أن يعتبر النصاب في كل مبلغ يقبض من الدخل أو المال المستفاد فما بلغ منه نصابًا كالرواتب العالية، والمكافآت الكبيرة للموظفين والعاملين، والدفعات الكبيرة لذوى المهن الحرة ففيه الزكاة، وما لم يبلغ نصابًا منها فلا زكاة فيه.
وهذا الاحتمال له وجهه، فهو يعفى ذوى الرواتب الصغيرة، ويقصر وجوب الزكاة على كبار الموظفين ومن في حكمهم ؛ وفي هذا تحقيق للتقارب والعدل الاجتماعي.
كما أن هذا هو الظاهر من قول الصحابة والفقهاء الذين قالوا بتزكية المال المستفاد عند قبضه إذا بلغ نصابًا.
وإنما تجب الزكاة على هذا الاحتمال، إذا بقى عند نهاية الحول ما يبلغ نصابًا.
ولكننا لو اعتبرنا النصاب بكل دفعة يقبضها المسلم من أجره أو راتبه أو إيراده لكان معنى ذلك إعفاء جمهور ذوي المهن الحرة الذين يأتيهم إيرادهم على دفعات متقاربة، وقلَّما تبلغ الدفعة منها نصابًا، ولو جُمِعت هذه الدفعات في زمن متقارب لبلغت نصابًا بل نُصُبًا، وكذلك كثير من الموظفين والعمال (هذا على تقديرنا النصاب بعشرين مثقالاً من الذهب أما لو قُدِّر بالفضة فقلَّما يوجد راتب لا يبلغ النصاب) وهنا يبرز الاتجاه أو الاحتمال الثاني، وهو ضم الدخل أو المال المستفاد على فترات في مدة متقاربة.(1/445)
وقد وجدنا الفقهاء قالوا مثل ذلك في نصاب المعدن، أن ما خرج على دفعات في مدة متصلة لم يحصل بينها انقطاع كامل بغير عذر، يضم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب.
وكذلك اختلفوا في ضم زرع العام الواحد وثمره بعضه إلى بعض، وقال الحنابلة: يُضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض في تكميل النصاب من زرع عام واحد أو ثمرته، ولو تعدد البلد ولو كان الثمر من شجر يحمل في السنة حملين ضُم بعضه إلى بعض في تكميل النصاب ؛ لأنها ثمرة عام واحد، كالذرة التي تنبت مرتين (انظر شرح غاية المنتهى: 2/ 59).
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن السنة تُعتبر وحدة في نظر الشارع -وكذلك في نظر رجال الضرائب الحديثة - ولهذا كان اعتبار الحول في الزكاة.
والمعروف أن الحكومات تقدر رواتب موظفيها باعتبار السنة، وإن كانت لا تدفعها إلا مجزأة على دفعات شهرية نظرًا لحاجة الموظف المتجددة.
وبناء على ذلك تؤخذ الزكاة من صافي دخل الموظف وغيره من ذوي المهن الحرة في سنة كاملة إذا بلغ الصافي نصابًا.
ولعل مما يعيننا على تكوين رأي محدد هنا، أن نذكر ما روى عن بعض الفقهاء القائلين بتزكية المال المستفاد، وطريقة تزكيته.
إلى الأعلى
كيف يُزكى المال المستفاد؟
القائلون بتزكية المال المستفاد من السلف، روى عنهم في طريقة تزكيته مسلكان:
الأول: ما قاله الزهري: إذا استفاد الرجل مالاً فأراد أن ينفقه قبل مجيء شهر زكاته فليزكه ثم ينفقه، وإن كان لا يريد أن ينفقه فليزكه مع ماله (المصنف لابن أبى أبى شيبة: 4 / 30).
ونحوه أو قريب منه ما جاء عن الأوزاعي فيمن باع عبده أو داره، أنه يزكي الثمن حين يقع في يده، إلا أن يكون له شهر يعلم، فيؤخره حتى يزكيه مع ماله (المغنى: 2 / 626 - الطبعة الثالثة).
ومعنى ذلك: أن من كان له مال زكّاه من قبل، وأصبح له حول معروف فله أن يؤخر إخراج زكاة المال المستفاد حتى يزكيه مع ماله الآخر، إلا إذا خشي أن ينفقه قبل مجيء الحول فعليه أن يبادر بتزكيته.(1/446)
المسلك الثاني: ما قاله مكحول: إذا كان للرجل شهر يزكي فيه، فأصاب مالاً فأنفقه فليس عليه زكاة ما أنفقه، ولكن ما وافى الشهر الذي يزكى فيه ماله زكاه، فإن كان ليس له شهر يزكي فيه فاستفاد مالاً فليزكه حين يستفيده (المصنف: 4 / 30).
ولكن هذا القول يعطى من له مال يزكى في شهر معلوم ميزة لا يحظى بها غيره ممن ليس له هذا المال، إذ أجاز للأول أن ينفق المال المستفاد دون أن يزكيه إلا إذا وافى الشهر المعلوم منه شئ فيزكيه مع بقية ماله، أما من ليس له مال آخر فيزكيه حين يستفيده، والنتيجة: التخفيف عمن له مال آخر، والتشديد على من ليس له مال سوى هذا المستفاد.
والذي يترجح لي في ذلك: أن ما بلغ من المال المستفاد نصابًا أُخِذَ فيه بما قال الزهري والأوزاعي، إما بإخراج الزكاة عقب القبض (وهذا متعين فيمن ليس له مال آخر ذو حول) وإما بتأخيره إلى الحول ليزكى مع بقية ماله، ما لم يخش إنفاقه وإلا فعليه المبادرة، ولو أنه أنفقه بالفعل كانت زكاته في ذمته وإن كان دون النصاب أخذ فيه بقول مكحول، فما وافى الشهر الذي يزكي فيه ماله زكاه معه، وما احتاج إليه في نفقته ونفقة عياله فليس عليه زكاة ما أنفق، فإذا لم يكن له مال آخر يزكيه في وقت معلوم، وكان المستفاد دون النصاب، فلا شئ فيه حتى يتم -مع مال آخر- له نصاب فيزكيه حينئذ، ويبدأ حوله من هذا الحين.
ومقتضى هذا الترجيح التخفيف عن أصحاب الرواتب الصغيرة التي لا تبلغ نصابا، وكذلك الدفعات القليلة التي تدفع لذوي المهن الحرة، ولا تبلغ الدفعة منها نصابًا.
إلى الأعلى
الزكاة في صافى الإيراد والراتب
وإذا كنا قد اخترنا القول بزكاة الرواتب والأجور ونحوها، فالذي نرجحه ألا تؤخذ الزكاة إلا من "الصافي".(1/447)
وإنما قلنا: "تؤخذ من صافي الإيراد أو الرواتب" ليطرح منه الدين إن ثبت عليه، ويعفى الحد الأدنى لمعيشته ومعيشة من يعوله ؛ لأن الحد الأدنى لمعيشة الإنسان أمر لا غنى له عنه، فهو من حاجاته الأصلية، والزكاة إنما تجب في نصاب فاضل عن الحاجة الأصلية كما حققناه في موضعه (انظر شرط "الفضل عن الحوائج الأصلية" في الفصل الأول من هذا الباب، وفي الفصل الثالث " زكاة النقود" منه أيضًا) كما تطرح النفقات والتكاليف لذوى المهن قياسًا على ما اخترناه في الأرض والنخيل ونحوها: أنه يرفع النفقة ويزكى الباقي، وهو قول عطاء وغيره.
فما بقي بعد هذا كله من راتب السنة وإيرادها تؤخذ منه الزكاة إذا بلغ نصاب النقود، فما كان من الرواتب والأجور لا يبلغ في السنة نصابًا نقديا -بعد طرح ما ذكرناه- كرواتب بعض العمال وصغار الموظفين، فلا تؤخذ منه زكاة.
إلى الأعلى
تنبيه
إذا زكى المسلم كسب عمله أو مهنته أو نحو ذلك، من كل مال مستفاد زكى عند استفادته، فلا يجب عليه أن يزكيه مرة أخرى عند الحول، إذا كان له حول معلوم، حتى لا تجب عليه زكاتان في مال واحد في عام واحد ولهذا قلنا عند حديثنا عن المال المستفاد: إن له أن يؤخر زكاته حتى يخرجها مع بقية ماله الحولي ما لم يخش إنفاقها قبل الحول.
ونضرب لذلك مثلا: رجل له مال يزكيه كل حول في أول شهر المحرم فإذا استفاد مالا -راتبه مثلاً- في صفر أو ربيع الأول أو ما بعده من الشهور، وأخرج زكاته حين الاستفادة، فإنه لا يخرج زكاته مرة أخرى في آخر الحول مع ماله، بل يخرج عنه أو عما بقى منه في الحول الثاني، حتى لا نشق عليه بكثرة الأحوال، وقد أقام الله شرعه على التيسير.
المبحث الثالث
مقدار الواجب في كسب العمل ونحوه توسط
أما النسبة التي تؤخذ من ألوان الدخل والإيراد المختلفة، وكم تكون ؟ والتي دعا الأستاذ الغزالي فيه إلى تعاون العلماء والباحثين، فقد انتهينا فيها بعد البحث والموازنة إلى رأى نسجله هنا وهو:(1/448)
إن الدخل الناتج عن رأس المال وحده، أو رأس المال والعمل معا -كإيراد المصانع والعمائر والمطابع والفنادق والسيارات والطائرات ونحوها- فيه العُشر من الصافي بعد النفقات والديون والحاجات الأصلية ....الخ، قياسًا على دخل الأرض الزراعية، التي تسقى بغير كلفة.
وقد تقدم قول الشيخ أبى زهرة وزميليه في زكاة العمارات والمصانع: أنه إن أمكن معرفة صافى الغلات بعد النفقات والتكاليف -كما هو الشأن في الشركات الصناعية- فإن الزكاة تؤخذ من الصافي بمقدار العشر، وإن لم يمكن معرفة الصافي على وجهه كالعمارات المختلفة ونحوها، فإن الزكاة تؤخذ من الغلة بمقدار نصف العشر، وهو تقسيم مقبول.
ونعني برأس المال هنا: رأس المال غير المستغل في التجارة، أما رأس المال المتداول في التجارة فيؤخذ منه ومن ربحه معا ربع العُشر، كما هو مقرر في موضعه.
وأما الدخل الناتج عن العمل وحده كإيراد الموظفين وذوى المهن الحرة الناتج من أعمالهم، فالواجب فيه ربع العشر فقط، عملاً بعموم النصوص التي أوجبت في النقود ربع العُشر، سواء أكانت مستفادة أم حال عليها الحول، وتطبيقًا للأصل الإسلامي في اعتبار الجهد مخففًا لمقدار الواجب واستئناسًا بما عمل به ابن مسعود ومعاوية من اقتطاع هذه النسبة -باعتبارها زكاة- من أعطيات الجنود وغيرهم من المرتبين في ديوان العطاء، وما فعله بعدهما الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، فالقياس على هذه الأعطيات أولى من القياس على دخل الأرض المزروعة، وإنما يقاس عليها إيراد العمائر والمصانع ونحوها، من رؤوس الأموال التي ينتفع بدخلها مع بقاء عينها.(1/449)
ومعنى هذا أن معاملة دخل العمل أخف من معاملة دخل رأس المال الخالص، أو رأس المال الممتزج بالعمل، وهو ما سارت عليه الضرائب الحديثة، إذ نادى رجال الفكر المالي بأن العدالة تقتضي تفاوت نسب الضريبة على الدخل حسب قوة مصادره وضعفها، وأصبح من أهم خصائص "شخصية الضريبة" التي تصيب الدخل: أنها تراعي مصادره ولما كان الأصل ألا تخرج مصادر الدخل عن ثلاثة: رأس المال، والعمل، ورأس المال والعمل معا، فإن المقرر في عالم الضرائب: أن تسري الضريبة على إيراد رأس المال المنقول أو العقاري بسعر يزيد على ذلك الذي يتحدد للضريبة التي تصيب كسب العمل، وذلك على اعتبار أن رأس المال أكثر المصادر استقرارًا وثباتا، وأن العمل أقلها بقاءً.
وقالوا: إن مراعاة مصدر الدخل من شأنه أن يجعل الضريبة المفروضة قادرة على تخفيف الأعباء الضريبية على أصحاب الدخول التي تفيض من مصادر ضعيفة، وبذلك تسهم في تحقيق العدالة في التوزيع (انظر: مبادئ علم المالية العامة للدكتور محمد فؤاد إبراهيم: 1 / 284).
بل تطرف بعض الاشتراكيين فنادى بإعفاء دخل العمل من كل ضريبة، تمييزًا للعمل وتشجيعًا.
ولكن النظرية الإسلامية في الزكاة: أنها شكر للنعمة، وتزكية للنفس، وتطهير للمال، وقيام بحق الله، وحق المجتمع، وحق الضعيف.
هذه النظرية تحتم أخذ الزكاة من كسب العمل، كما تحتم أخذها من غيره، وإن اختلفت مقادير الواجب.
الفصل العاشر
زكاة الأسهم والسندات
فهرس
هل تؤخذ الزكاة من إيراد الشركة مع الأسهم؟
ازدواج ممنوع
صور متشابهة منعها الفقهاء
التجارة في الأنعام السائمة وكيف تزكى؟
الفرق بين الأسهم والسندات
كيف تزكى أسهم الشركات المختلفة
زكاة السندات
الاتجاه الثاني - اعتبار الأسهم عروض تجارة(1/450)
عرف عصرنا لونًا من رأس المال استحدثه التطور الصناعي والتجاري في العالم، وذلك ما عرف باسم "الأسهم والسندات" وهما من الأوراق المالية التي تقوم عليهما المعاملات التجارية في أسواق خاصة بها وهي التي تسمى "بورصات الأوراق المالية" وهذه الأوراق أو الأسهم والسندات هي: ما يطلق عليه علماء المالية اصطلاح "القيم المنقولة" ويأخذون ضريبة على إيرادها المتجدد تسمى "ضريبة إيراد القيم المنقولة "كما نادى بعضهم بفرض ضريبة على الأسهم نفسها بوصفها ضريبة على رأس المال (انظر: الضرائب على رأس المال ص 18 من كتاب "موارد الدولة" للدكتور سعد ماهر حمزة).
الفرق بين الأسهم والسندات
والأسهم حقوق ملكية جزئية لرأس مال كبير للشركات المساهمة أو التوصية بالأسهم،.وكل سهم جزء من أجزاء متساوية لرأس المال.
والسند تعهد مكتوب من "البنك" أو الشركة أو الحكومة لحامله بسداد مبلغ مقدر من قرض في تاريخ معين، نظير فائدة مقدرة.
وبين السهم والسند فروق: فالسهم يمثل جزءًا من رأس مال الشركة أو البنك، والسند يمثل جزءًا من قرض على الشركة أو البنك أو الحكومة.
والسهم ينتج جزءا من ربح الشركة أو البنك، يزيد أو ينقص تبعًا لنجاح الشركة أو البنك، وزيادة ربحهما أو نقصه، ويتحمل قسطه من الخسارة، أما السند فينتج فائدة محدودة عن القرض الذي يمثله لا تزيد ولا تنقص.
وحامل السند يعتبر مقرضًا أو دائنًا للشركة أو البنك أو الحكومة، أما حامل السهم فيعتبر مالكًا لجزء من الشركة أو البنك بقيمة السهم.
وللسند وقت محدد لسداده، أما السهم فلا يسدد إلا عند تصفية الشركة.(1/451)
ولكل من السهم والسند قيمة اسمية وهى قيمته المقدرة عند إصداره، وقيمة سوقية تتحدد في سوق الأوراق المالية، وكل منهما قابل للتعامل والتداول بين الأفراد كسائر السلع، مما يجعل بعض الناس يتخذ منهما وسيلة للاتجار بالبيع والشراء ابتغاء الربح من ورائهما، وتتأثر الأسعار في السوق المذكورة تبعًا لزيادة العرض والطلب، كما تتأثر بالأحوال السياسية للبلد ومركزه المالي ونجاح الشركة ومقدار الربح الحقيقي للأسهم والفائدة الحقيقية للسندات، بل تتأثر بالأحوال العالمية من حرب وسلام (انظر: المعاملات الحديثة وأحكامها ص 68 - 69).... الخ.
ومما ذكرنا يتبين أن إصدار الأسهم وملكيتها وبيعها وشراءها والتعامل بها حلال لا حرج فيه، ما لم يكن عمل الشركة التي تكونت من مجمع الأسهم مشتملا على محظور كصناعة الخمر وبيعها والتجارة فيها مثلا، أو كانت تتعامل بالفوائد الربوية إقراضا، أو استقراضا أو نحو ذلك.
أما السندات فشأنها غير الأسهم، لاشتمالها على الفوائد الربوية المحرمة.
ومهما يكن الحكم في هذه السندات فإنها رأس مال مملوك لصاحبه كالأسهم، فكيف يزكى كل منهما؟
إلى الأعلى
كيف تزكى أسهم الشركات المختلفة ؟
نجد هنا اتجاهين لمن كتب من العلماء المعاصرين عن زكاة الأسهم والسندات وقليل من كتب فيها.
الاتجاه الأول: فالاتجاه الأول ينظر إلى هذه الأسهم والسندات تبعًا لنوع الشركة التي أصدرتها: أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما؟
فلا يعطى السهم حكمًا إلا بعد معرفة الشركة التي يمثل جزءًا من رأس مالها،وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها ؛ يمثل هذا الاتجاه الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه "المعاملات الحديثة وأحكامها" حيث يقول:(1/452)
"قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ، وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقًا، وهذا خطأ أيضًا، وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها.
"فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة أي بحيث لا تمارس عملا تجاريًا كشركات الصباغة، وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلانات، وشركات "الأوتوبيس" وشركات النقل البحري والبري، وشركات الترام، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة في أسهمها ؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني وما يلزم الأعمال التي تمارسها، ولكن ما ينتج ربحًا لهذه الأسهم يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال (أي ما بقي منه إلى الحول وبلغ مع المال الآخر نصابًا).
"وإن كانت الشركة المساهمة شركةً تجارية محصنة تشترى البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع: كشركة بيع المصنوعات المصرية وشركة التجارة الخارجية وشركات الاستيراد أو كانت شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها، ثم تجرى عليها عمليات تحويلية، ثم تتجر فيها، مثل: شركات البترول وشركات الغزل والنسيج للقطن أو الحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية، فتجب الزكاة في أسهم هذه الشركات، فمدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات: أن تكون الشركة تمارس عملاً تجاريًا، سواء معه صناعة أم لا، وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، مع خصم.(1/453)
(الخصم: كلمة مولدة تستعمل في المحاسبة -وخاصة في مصر- بمعنى الحطيطة والاقتطاع، وفي بعض البلاد العربية يستعمل بدلا عنها كلمة "الحسم") قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات، فقد تمثل هذه الآلات والمباني ربع رأس المال أو أكثر أو أقل، فيخصم من قيمة السهم ما يقابل ذلك -أي الربع أو أكثر أو أقل- وتجب الزكاة في الباقى، ويمكن معرفة صافي قيمة المباني والآلات والأدوات بالرجوع إلى ميزانية الشركة وهي تنشر كل عام في الصحف" (المعاملات الحديثة ص 73 - 74).
هذا ما ذكره الشيخ عن زكاة الأسهم وهو مبني على الرأي المشهور: أن المصانع والعمائر الاستغلالية ورؤوس الأموال المغلة -غير التجارية- على وجه العموم كالفنادق والسيارات والترامات والطائرات ونحوها، ليس فيها كلها زكاة، لا في رأس المال والربح معا كمال التجارة، ولا في الغلة والإيراد، كالخارج من الأرض الزراعية (إلا إذا بقي منها شئ وحال عليه الحول) وعلى هذا الأساس فرق بين الشركات الصناعية (ويعني بها التي لا تمارس عملاً تجاريًّا) وبين غيرها من الشركات، فأعفى أسهم الأولى من الزكاة وأوجب في الأخرى، فإذا كان هناك شخصان يملك كل منهما ألف دينار، اشترى أحدهما بألفه مائتي سهم من شركة للاستيراد والتصدير مثلا، واشترى الثاني بمبلغه مائتي سهم في شركة لطباعة الكتب أو الصحف، فإن على الأول أن يخرج الزكاة عن أسهمه المائتين، وما جلبت إليه من ربح أيضًا في رأس كل حول مطروحًا من ذلك قيمة الأثاث ونحوه من الأصول الثابتة كما هو الشأن في مال التجارة، وأما الثاني فليس عليه زكاة عن أسهمه المائتين ؛ لأنها موضوعة في أجهزة وآلات ومبان ونحوها، ولا زكاة فيما يأتي من ربح، إلا إذا بقي إلى رأس الحول وبلغ نصابًا بنفسه أو بغيره، فإذا أنفقه قبل الحول فلا شيء عليه.(1/454)
وبهذا يمكن أن تمضي أعوام على مثل هذا الشخص دون أن تجب عليه زكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحها بخلاف الشخص الأول، فالزكاة واجبة عليه لزومًا في كل عام، عن أسهمه وعن أرباحها معًا، وهي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين.
وقد بينا في الفصل الثامن في حديثنا عن زكاة "المستغلات" من العمارات والمصانع ونحوها: أن فيها -خلاف الرأي التقليدي المشهور- آراء ثلاثة:
1 - الرأي الذي يعتبرها مالا كمال التجارة ويقول بتقويمها كل حول وإخراج ربع عُشرها.
2- الرأي الذي يقول بأخذ الزكاة من غلتها وربحها باعتبارها مالا مستفادًا فيزكي زكاة النقود.
3- الرأي الذي يقيسها على الأرض الزراعية، ويوجب فيها العشر أو نصفه من صافي الغلة والأرباح.
وقد رجحنا هناك هذا الرأي الأخير.
فالذي أراه هنا:
أن التفرقة بين الشركات الصناعية أو شبه الصناعية، وبين الشركات التجارية، أو شبه التجارية -بحيث تعفى الأولى من الزكاة، وتجب في الأخرى- تفرقة ليس لها أساس ثابت من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح.
ولا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية، وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مال نام يدر ربحًا سنويًا متجددًا، وقد يكون ربح الثانية أعظم وأوفر من الأولى.(1/455)
فإذا أردنا أن نأخذ بهذا الاتجاه وهو النظر إلى الأسهم تبعا لنوع الشركة التجارية التي يكون السهم جزءا من رأس مالها، فإني أختار هنا أن تعامل الشركات -أيا كان نوعها- معاملة الأفراد، إذا ملكوا ما تملكه الشركات من مصانع أو متاجر، فالشركات الصناعية أو شبه الصناعية، وأعني بها تلك التي تضع رأس مالها أو جله في أجهزة وآلات ومبان وأدوات، كالمطابع والمصانع، والفنادق، وسيارات النقل والأجرة ونحوها، هذه الشركات لا تؤخذ الزكاة من أسهمها بل من إيرادها وربحها الصافي بمقدار العشر كما رجحناه في زكاة المستغلات، وكما نعامل المصانع والفنادق ونحوها لو كانت ملكًا للأفراد على ما اخترناه من قبل.
أما الشركات التجارية وهي التي جل رأس مالها في منقولات تتاجر فيها ولا تبقى عينها، فهذه تؤخذ الزكاة بمقدار ربع العشر (2.5 في المائة ) بعد طرح قيمة الأصول الثابتة من الأسهم، كما ذكرنا في عروض التجارة: أن الزكاة في رأس المال المتداول المتحرك، وهذه المعاملة للشركات التجارية هي نفس المعاملة التي تعامل بها المحلات التجارية إذا كانت ملكًا للأفراد ولا فرق.
إلى الأعلى
زكاة السندات
أما السندات فيقول الشيخ: "السند صك بمديونية البنك أو الشركة أو الحكومة لحامله بمبلغ محدد بفائدة معينة فمالك السند مالك دين مؤجل، ولكنه يصير حالا عند نهاية الأجل فتجب زكاته حينئذ لمدة عام إن مضى على ملكيته عام أو أكثر، وهذا مذهب مالك وأبى يوسف.
أما إذا لم يحل أجله: فلا يجب إخراج زكاته، لأنه دين مؤجل، وكذلك إذا لم يمض على ملكيته عام، لاشتراط مرور الحول في وجوب الزكاة".
وقد بينا من قبل (في الفصل الأول من هذا الباب: شرط تمام الملك) أن القول الصحيح في الدين المرجو -وهو ما كان على مقر موسر- وجوب تزكيته كل عام وهو قول جمهور الفقهاء واختيار أبى عبيد وغيره، لأن الدين المرجو بمنزلة ما في يده.(1/456)
وهذا القول يتعين الأخذ به بالنظر للسندات خاصة، لأنها ديون لها خصوصية تميزها عن الديون التي عرفها الفقهاء، لأنها تنمى وتجلب للدائن فائدة، وإن كانت محظورة (مما يجب التنبيه عليه هنا: أن على صاحب السند أن يتصدق بفائدة السند كلها، لأنها مال حرام لا يجوز أن يستفيد منه لنفسه وأهله، وإنما مصرفه الفقراء والمصلحة العامة للمسلمين، ولو كان في بناء المساجد وغيرها، فإن هذا المال حرام على صاحب السند، حلال لجهات الخير، وعليه أن يزكى قيمة أصل السند فقط) فإن حظر هذه الفائدة لا يكون سببًا لإعفاء صاحب السند من الزكاة، لأن ارتكاب الحرام لا يعطى صاحبه مزية على غيره ؛ ولهذا أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في الحلي المحرم، على حين اختلفوا في المباح.
إلى الأعلى
الاتجاه الثاني - اعتبار الأسهم عروض تجارة
وإلى جانب الاتجاه الذي ذكرناه نجد اتجاها آخر يخالف الاتجاه الأول إنه لا ينظر إلى الأسهم تبعا لنوع شركاتها، فيفرق بين أسهم في شركة وأسهم في أخرى، بل ينظر إليها كلها نظرة واحدة، ويعطيها حكما واحدا بغض النظر عن الشركة التي أصدرتها.
فيرى الأساتذة: أبو زهرة وعبد الرحمن حسن وخلاف: أن الأسهم والسندات أموال قد اتخذت للاتجار، فإن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء، ويكسب منها كما يكسب كل تاجر من سلعته، وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي بهذا الاعتبار من عروض التجارة، فكان من الحق أن تكون وعاء للزكاة ككل أموال التجارة ويلاحظ فيها ما يلاحظ في عروض التجارة" (حلقة الدراسات الاجتماعية - الدورة الثالثة - ص 242، ونلاحظ هنا أن الأساتذة عاملوا الأسهم والسندات معاملة واحدة ولم يفرقوا بينهما باعتبار السند دينا مؤجلاً - كما فعل مؤلف كتاب "المعاملات الحديثة" وهذه المعاملة الواحدة لهما في إيجاب الزكاة هي الاتجاه الصحيح، وقد ذكروا اعتراضًا أو شبهة لبعض الناس هنا وأجابوا عنها(1/457)
قالوا: وقد يقول قائل إن السندات ديون وهي تنقل من دائن إلى دائن فهي بهذا بيع الدين لغير من عليه، وذلك غير جائز عند كثير من الفقهاء والكسب بهذا لا يخلو من خبث.
"ونحن نقول في الجواب عن ذلك: إن هذه السندات صارت سلعة فعلا، فلو أعفيناها من الزكاة لما يلابسها من محرم، لأقبل الناس على شرائها ولأدى ذلك إلى الإمعان في التعامل بها فيكون ذلك مشجعا على المحرم ولا يكون قطعا له ولأن صرف الكسب الخبيث في الصدقات أمر غير ممنوع بل إنه يصرف وإن لم يعرف صاحبه الذي أخذ منه بغير حقه، كما هي قاعدة الفقهاء عامة" أ.هـ).
ومعنى هذا: أن يؤخذ منها في آخر كل حول (2.5 في المائة) من قيمة الأسهم حسب تقديرها في الأسواق -مضافا إليها الربح- بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابًا، أو يكملا -مع مال عنده- نصابًا كما أنه يجب أن يعفى مقدار الحاجات الأصلية، وبتعبير آخر: الحد الأدنى للمعيشة، بالنظر لصاحب الأسهم الذي ليس له مورد رزق غيرها كأرملة أو يتيم لا معاش لهما، ويزكى باقي الربح مع رأس المال، ولعل هذا الاتجاه والإفتاء بمقتضاه أوفق بالنظر إلى الأفراد من الاتجاه الأول، فكل مساهم يعرف مقدار أسهمه، ويعرف كل عام أرباحها، فيستطيع أن يزكيها بسهولة ؛ بخلاف الاتجاه الأول وما فيه من تفرقة بين أسهم في شركة وأسهم في أخرى فبعضها تؤخذ الزكاة من إيرادها، وبعضها تؤخذ زكاته من الأسهم نفسها حسب قيمتها، مضافًا إليها الربح، وفي هذا شيء من التعقيد بالنظر إلى الفرد العادي، لهذا قلنا: إن الأولى الأخذ بالاتجاه الثاني للأفراد، فهو أيسر في الحساب، بخلاف ما إذا قامت دولة مسلمة وأرادت جمع الزكاة من الشركات فقد أرى الاتجاه الأول أولى وأرجح والله أعلم.
إلى الأعلى
هل تؤخذ الزكاة من إيراد الشركة مع الأسهم؟
إذا اعتبرنا هذه الأسهم رأس مال تجاريًّا وأخذنا منه زكاة التجارة، فهل يجوز أن نأخذ من الشركات التي يتكون رأس مالها من هذه الأسهم زكاة على إيرادها؟(1/458)
ذهب الأساتذة: أبو زهرة وزميلاه إلى أن ما يؤخذ من الأسهم والسندات لمن يتجر فيها غير ما يؤخذ من الشركات نفسها، لأن الشركات التي تؤخذ منها الزكاة تكون باعتبار أن أموال الشركة نامية بالصناعة ونحوها.
"أما الأسهم المُتَّجر فيها فهي أموال نامية باعتبارها عروض تجارة" (حلقة الدراسات الاجتماعية السابق ذكرها).
إلى الأعلى
ازدواج ممنوع
وبناء على هذا الرأي: إذا كان شخص له -في شركة صناعية مثلا- أسهم قيمتها ألف دينار، درت له في آخر الحول ربحًا صافيًا يقدر بـ(200) مائتي دينار، فإن عليه أن يخرج عن مجموع الـ 1200 ربع العشر أي (5و2 في المائة ) وهو (30) ثلاثون دينارًا.
فإذا أخذت الزكاة من صافي أرباح الشركة بمقدار العشر، -كما يقول أصحاب هذا الرأي- تكون هذه الـ (1000) دينار وأرباحها قد زكيت مرتين، أي أننا عاملنا صاحب الأسهم مرة بوصفه تاجرًا، فأخذنا من أسهمه وربحها جميعا ربع العشر، ثم مرة أخرى بوصفه منتجًا، فأخذنا من ربح أسهمه -وبعبارة أخرى: من إيراد الشركة- العُشر، وهذا هو الازدواج أو الثني الممنوع شرعًا.
والراجح أن نكتفي بإحدى الزكاتين: إما الزكاة عن قيمة الأسهم مع ربحها بمقدار ربع العشر، وإما الزكاة عن غلة الشركة وإيرادها بمقدار العشر من الصافي منعًا للثني.
إلى الأعلى
صور مشابهة منعها الفقهاء
ويحسن بى أن أسوق بعض صور شبيهة أو قريبة من صورتنا هنا وما رجحه الفقهاء فيها، ليتضح لنا وجه ما قلناه في مسألتنا هذه.
التجارة في الأنعام السائمة وكيف تزكى؟
عرفنا في فصل "زكاة الثروة الحيوانية" أن الزكاة تجب في الأنعام السائمة إذا بلغت نصابًا، وهذا ثابت بالاجماع، ولكن ما الحكم إذا اشترى إنسان أنعامًا للتجارة وأسامها، فرعت في كلأ مباح أكثر العام، فحال الحول، والسوم ونية التجارة موجودان، فهل تزكى زكاة السائمة أم زكاة التجارة ؟(1/459)
في ذلك خلاف ذكره ابن قدامة في "المغنى" (انظر المغنى: 3 / 34 - 35) قال مالك والشافعي في الجديد: يزكيها زكاة السائمة؛ لأنها أقوى، لانعقاد الإجماع عليه، واختصاصها بالعين، فكانت أولى.
وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: يزكيها زكاة التجارة ؛ لأنها أكثر حظًا للفقراء والمستحقين، لأنها تجب فيما زاد عن النصاب بحسابه، بخلاف السائمة، فقد عفا الشارع عما بين الأنصبة المقدرة فيها، فما بين (40) من الغنم و(120) لا زكاة فبه، وما بين (25) من الإبل و(36) منها لا شئ فيه، وهكذا، فلو زكيناه زكاة السائمة لضاع على الفقراء والمستحقين هذا الزائد عن النصاب المعفو عنه، مع أنه -بالتجارة- قد وجد سبب وجوب زكاته، فيجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصابًا، وبلغه بالتجارة، غليت زكاة التجارة بلا نزاع.
وإن سبق وقت وجوب زكاة السوم وقت وجوب زكاة التجارة -كمن ملك (40) شاة قيمتها دون نصاب التجارة، ثم سمنت أو ارتفع السعر، فبلغت قيمتها في نصف الحول نصاب التجارة- فقال بعض العلماء: يتأخر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة، لأنها أنفع للفقراء.
وقال ابن قدامة: يحتمل أن تجب زكاة العين (السائمة) عند تمام حولها، لوجود مقتضيها من غير معارض، فإذا تم حول التجارة وجبت زكاة الزائد عن النصاب، لوجوب مقتضيها، لأن هذا مال للتجارة وحال عليه الحول وهو نصاب.
"ولا يمكن إيجاب الزكاتين بكمالهما، لأنه يفضي إلى إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد، فلم يجز لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ثني في الصدقة" (رواه أبو عبيد في الأموال ص 275، ورواه ابن أبى شيبة في المصنف: 3 /218 - طبع حيدر آباد الدكن) ،والثني: أن تعيد الشيء مرتين.
وإن وجد نصاب السوم دون نصاب التجارة -مثل (40) شاة حال عليها الحول وهي لا تبلغ قيمتها نصاب التجارة- وجبت فيها زكاة السائمة بغير خلاف لأنه لم يوجد لها معارض فوجبت، كما لو لم تكن للتجارة.(1/460)
قال في المغنى: وإن اشترى نخلاً أو أرضًا للتجارة فزرعت الأرض وأثمرت النخل، فاتفق حولاهما (أي التجارة والزرع) -بأن يكون موعد الصلاح في الثمرة واشتداد الحب عند تمام الحول وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردهما نصابا للتجارة- فإنه يزكى الثمرة والحب زكاة العشر، ويزكى الأصل زكاة القيمة (التجارة) وهذا قول أبى حنيفة وأبى ثور.
"وقال القاضي وأصحابه (من الحنابلة): يزكى الجميع (يعنى الأرض والزرع) زكاة القيمة، وذكر أن أحمد أومأ إليه، لأنه مال تجارة فتجب فيه زكاة التجارة كالسائمة.
واحتج صاحب المغنى للقول الأول بأن زكاة العشر أحظ للفقراء ؛ -فإن العُشر أحظ من ربع العُشر- فيجب تقديم ما فيه الحظ، ولأن الزيادة على ربع العُشر قد وُجِد سبب وجوبها، فتجب.
قال :."وفارق السائمة المعَّدة للتجارة، فإن زكاة السوم أقل من زكاة التجارة" (المغنى: 3 / 35 - 36).
وهذه الحجة التي ذكرها صاحب المغنى -رحمة الله- غير ناهضة، فإن تقديم ما فيه حظ الفقراء، غير معتبر إذا كان فيه جور على أرباب المال، ونهج الشرع الإسلامي أن يرعى هؤلاء وهؤلاء.
ومن العدل الذي جاء به هذا النهج: أن جعل الواجب العُشر إذا أخذ الزكاة من الغلة والإيراد -لا من الأصل- كالحبوب والثمار، وجعل الواجب ربع العُشر إذا أخذ الزكاة من الأصل ونمائه -أي من رأس المال وغلته- كما في مال التجارة، أما أن يجمع بين الأمرين فلم يعرف ذلك في أحكامه، ولا بد من تغليب إحدى الزكاتين على الأخرى، منعا للازدواج الذي نفاه الحديث الشريف: "لا ثنى في الصدقة" وأخذ به كافة الفقهاء، وحتى لا تجب الزكاة أكثر من مرة في مال واحد في حول واحد بسبب واحد.
ولا يقال: إن هنا سببين اجتمعا: التجارة والزراعة ؛ لأن أحد السببين مقصود بالأصالة والثاني تبع له فيندرج فيه، فالذي يتاجر في شراء الأراضي الزراعية وبيعها ليست الزراعة مقصودة له وإنما جاءت تبعا، وينبغي أن يغلب قصد التجارة على غيره.(1/461)
ولذا قال صاحب "شرح الغاية" من الحنابلة أيضًا: ومن ملك نصاب سائمة لتجارة فعليه زكاة تجارة فقط (ولو سبق حول السوم بلوغ قيمة التجارة نصابًا) لأن وصف التجارة يزيل سبب زكاة السوم وهو الاقتناء لطلب النماء.
وقال فيمن ملك أرضًا لتجارة فزرعها ببذر تجارة: عليه زكاة التجارة أو ملك نخلاً للتجارة فأثمر، فعليه زكاة التجارة فقط في كل ذلك، ولو سبق وجوب الزكاة في الزرع والثمر حول التجارة، قال: لأن الزرع والثمر جزء مما خرجا منه، فوجب أن يقوما مع الأصل كالسخال (أولاد الماشية) والربح المتجدد، إلا أن لا تبلغ قيمة ذلك المذكور من سائمة، وأرض مع زرع، ونخل مع ثمر نصابا -بأن نقصت عن عشرين مثقالاً ذهبا وعن مائتي درهم فضة- فيزكى ذلك لغير تجارة فتخرج من السائمة زكاتها، ومن الزرع والثمر ما وجب فيه، لئلا تسقط الزكاة بالكلية (مطالب أولى النهى: 2 / 100 - 101).
ونقل ابن حزم عن الحسن بن يحيى: أن ما زرع للتجارة يزكى زكاة التجارة لا غير (المحلى: 5 / 249).
وقال الكاساني في "البدائع" قال أصحابنا (يعني الحنفية) فيمن اشترى أرض عُشر للتجارة، أو اشترى أرض خراج للتجارة: إن فيها العُشر أو الخراج، ولا تجب زكاة التجارة مع أحدهما ؛ هو المشهور عنهم.
وروى عن محمد أنه يجب العشر والزكاة (يعني زكاة التجارة) أو الخراج والزكاة، ووجه هذه الرواية: أن زكاة التجارة تجب في الأرض، والعُشر يجب في الزرع، وهما مالان مختلفان، فلم يجتمع الحقان في مال واحد.
ووجه الرواية المشهورة: أن سبب الوجوب في الكل واحد، وهو الأرض، وحقوق الله تعالى المتعلقة بالأموال النامية لا يجب فيها حقان منها بسبب مال واحد، كزكاة السائمة مع التجارة (بدائع الصنائع: 2 / 57).(1/462)
والذي أرجحه هو تغليب إحدى الزكاتين على الأخرى، بحيث تجب زكاة واحدة منعا للثني والازدواج، كما هو المشهور عند الحنفية وغيرهم، أما أي الزكاتين أرجح، فذلك متروك لخيار المزكى، أو لولى الأمر، فإن لكل من القولين وجهه، القول بأخذ العشر أو نصفه من الثمرة، أو القول بأخذ ربع العُشر من الأصل والثمرة معًا.
والذي ينبغي أن نسجله هنا: أن جمهرة الفقهاء من المسلمين، بل الفقهاء كافة، لا يرون ازدواج الزكاة في المال الواحد، بسبب واحد، وقد يخالف بعضهم في بعض الصور، لوجود سببين لوجوب الزكاة في نظره، كما في رواية محمد صاحب أبى حنيفة.
وبهذا سبق التشريع الإسلامي -بقرون عديدة- ما يعرف اليوم في عالم الفكر والتشريع المالي والضريبي باسم "منع ازدواج الضريبة".
الفتاوى المستخلصة
من ندوات اللجنة العلمية بالمؤتمر الأول للزكاة
زكاة أموال الشركات والأسهم
فهرس
الدين الاستثماري والزكاة
السندات والودائع الربوية والأموال المحرمة ونموها
الحول القمري
زكاة أموال الشركات
زكاة الأسهم
كيفية تقدير زكاة الشركات والأسهم
زكاة المستغلات
زكاة الأجور والرواتب وأرباح المهن الحرة وسائر المكاسب
زكاة أموال الشركات
تربط الزكاة على الشركات المساهمة نفسها لكونها شخصا اعتباريا، وذلك في كل من الحالات الآتية:
1. صدور نص قانوني ملزم بتزكية أموالها.
2. أن يتضمن النظام الأساسي ذلك.
3. صدور قرار الجمعية العمومية للشركة بذلك.
4. رضا المساهمين شخصيا.
ومستند هذا الاتجاه الآخذ بمبدأ "الخلطة" الوارد في السنة النبوية بشأن زكاة الأنعام، والذي رأت تعميمه في غيرها بعض المذاهب الفقهية المعتبرة والطريق الأفضل وخروجا من الخلاف ـ أن تقوم الشركة بإخراج الزكاة، فإن لم تفعل فاللجنة توصي الشركات بأن تحسب زكاة أموالها وتلحق بميزانيتها السنوية بيانا بحصة السهم الواحد من الزكاة.
إلى الأعلى
زكاة الأسهم(1/463)
إذا قامت الشركة بتزكية أموالها فلا يجب على المساهم إخراج زكاة أخرى عن أسهمه منعا للازدواج.
أما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة فإنه يجب على مالك السهم تزكية أسهمه وفقا لما يلي:
إلى الأعلى
كيفية تقدير زكاة الشركات والأسهم
إذا كانت الشركة ستخرج زكاتها فإنها تعتبر بمثابة الشخص الطبيعي وتخرج زكاتها بمقاديرها الشرعية بحسب طبيعة أموالها ونوعيتها، أما إذا لم تخرج الشركة الزكاة فعلى مالك الأسهم أن يزكي أسهمه تبعا لإحدى الحالتين التاليتين:
الحالة الأولى: أن يكون قد اتخذ أسهمه للمتاجرة بها بيعا وشراء فالزكاة الواجبة فيها هي إخراج ربع العشر (2,5%) من القيمة السوقية بسعر يوم وجوب الزكاة، كسائر عروض التجارة.
الحالة الثانية: أن يكون قد اتخذ الأسهم للاستفادة من ريعها السنوي فزكاتها كما يلي:
أ. إن أمكنه أن يعرف عن طريق الشركة أو غيرها _ مقدار ما يخص السهم من الموجودات الزكوية للشركة فإنه يخرج زكاة أسهمه بنسبة ربع العشر (2,5%).
ب. وإن لم يعرف فقد تعددت الآراء في ذلك:
فيرى الأكثرية أن مالك السهم يضم ريعه إلى سائر أمواله من حيث الحول والنصاب ويخرج منها ربع العشر (2,5%) وتبرأ ذمته بذلك.
ويرى آخرون إخراج العشر من الربح (10%) فور قبضه، قياسا على غلة الأرض الزراعية.
إلى الأعلى
زكاة المستغلات
يقصد بالمستغلات المصانع الإنتاجية والعقارات والسيارات والآلات ونحوها من كل ما هو معد للإيجار وليس معدا للتجارة في أعيانه.
وهذه المستغلات اتفقت اللجنة على أنه لا زكاة في أعيانها وإنما تزكى غلتها، وقد تعددت الآراء في كيفية زكاة هذه الغلة:
فرأى الأكثرية أن الغلة تضم (في النصاب والحول) إلى ما لدى مالكي المستغلات من نقود وعروض التجارة، وتزكى بنسبة ربع العشر (2,5%) وتبرأ الذمة بذلك.(1/464)
ورأى البعض أن الزكاة تجب في صافي غلتها الزائدة عن الحاجات الأصلية لمالكيها بعد طرح التكاليف ومقابل نسبة الاستهلاك وتزكى فور قبضها بنسبة العشر (10%) قياسا على زكاة الزروع والثمار.
إلى الأعلى
زكاة الأجور والرواتب وأرباح المهن الحرة وسائر المكاسب
هذا النوع من الأموال يعتبر ريعا للقوى البشرية للإنسان يوظفها في عمل نافع وذلك كأجور العمال ورواتب الموظفين وحصيلة عمل الطبيب والمهندس ونحوهم، ومثلها سائر المكاسب من مكافآت وغيرها وهي ما لم تنشأ من مستغل معين.
وهذا النوع من المكاسب ذهب أغلب الأعضاء إلى أنه ليس فيه زكاة حين قبضه ولكن يضمه الذي كسبه إلى سائر ما عنده من الأموال الزكوية في النصاب والحول فيزكيه جميعا عند تمام الحول منذ تمام النصاب، وما جاء في هذه المكاسب أثناء الحول يزكى في آخر الحول ولو لم يتم حول كامل على كل جزء منها.
وما جاء منها ولم يكن عند كاسبه قبل ذلك نصاب فيبدأ حوله من حين تمام النصاب عنده وتلزمه الزكاة عند تمام الحول من ذلك الوقت ونسبة الزكاة في ذلك ربع العشر (2,5%) لكل عام.
وذهب بعض الأعضاء إلى أنه يزكى هذه الأموال المستفادة عند قبض كل منها بمقدار ربع العشر (2.5%) إذا بلغ المقبوض نصابا وكان زائدا عن حاجاته الأصلية وسالما من الدين.
فإذا أخرج هذا المقدار فليس عليه أن يعيد تزكيته عند تمام الحول على سائر أمواله الأخرى ويجوز للمزكي هنا أن يحسب ما عليه ويخرجه فيما بعد مع أمواله الحولية الأخرى.
إلى الأعلى
الدين الاستثماري والزكاة
الدين إذا استعمله المستدين في التجارة يسقط مقابله من الموجودات الزكوية أما إذا استخدم في تملك المستغل من عقار أو آليات أو غير ذلك فنظرا إلى أنه على الرأي المعمول به من أن الدين يمنع من الزكاة بقدره من الموجودات الزكوية وأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الزكاة في أموال كثير من الأفراد والشركات والمؤسسات مع ضخامة ما تحصله من أرباح.(1/465)
لذلك فإن اللجنة تلفت النظر إلى وجوب دراسة هذا الموضوع وتركيز البحث حوله وترى اللجنة مبدئيا الأخذ في هذا بخصوصه بمذهب من قال من الفقهاء من أنه إذا كان الدين مؤجلا فلا يمنع من وجوب الزكاة على أن الأمر بحاجة إلى مزيد من البحث والتثبت والعناية.
إلى الأعلى
السندات والودائع الربوية والأموال المحرمة ونموها
السندات ذات الفوائد الربوية وكذلك الودائع الربوية يجب فيها تزكية الأصل زكاة النقود ربع العشر (2,5%) أما الفوائد الربوية المترتبة على الأصل فالحكم الشرعي أنها لا تزكى وإنما هي مال حيث على المسلم أن لا ينتفع به وسبيلها الاتفاق في وجوه الخير والمصلحة العامة ما عدا بناء المساجد وطبع المصاحف وسائر الشعائر الدينية.
وكذلك الحكم في الأموال التي فيها شبه.
أما أموال المظالم المغصوبة والمسروقة، فلا يزكى عليها غاصبها، لأنها ليست ملكه، ولكن عليه أن يردها كلها إلى أصحابها.
إلى الأعلى
الحول القمري
الأصل في اعتبار حولان الحول مراعاة السنة القمرية، وذلك في كل مال زكوي اشترط له الحول.
واللجنة توصي الأفراد والشركات والمؤسسات المالية اتخاذ السنة القمرية أساسا لمحاسبة الميزانيات.
أو على الأقل أن تعد ميزانية لها خاصة بالزكاة وفقا للسنة القمرية.
فإن كان هناك مشقة فإن اللجنة ترى أنه يجوز تيسيرا على الناس ـ إذا ظلت الميزانيات على أساس السنة الشمسية ـ أن يستدرك زيادة أيامها عن أيام السنة القمرية بأن تحسب النسبة (2,575) تقريبا.
هذا ما وصلت إليه اللجنة ولا يزال بعض هذه الموضوعات محتاجا إلى مزيد من البحث والتمحيص الفقهي في ضوء واقع الحال.
كما يوصي المؤتمر باستكمال دراسة القضايا الأخرى المستجدة مما لم يتسع له وقت المؤتمر.
وأخيرا تدعو اللجنة إلى الاهتمام بالتوعية بالزكاة ودراسة أحكامها ومراعاة شأنها في كل مجال يتطلب ذلك في التطبيقات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها(1/466)
فقه الزكاة
يوسف القرضاوي
الجزء الثاني
فهرس الكتاب
أفي المال حق سوى الزكاة؟
الزكاة والضريبة
الخاتمة: الزكاة الإسلامية نظام جديد فريد
مصارف الزكاة
طريقة أداء الزكاة
أهداف الزكاة وآثارها في حياة الفرد
زكاة الفطر
الباب الرابع
مصارف الزكاة
الغارمون
في سبيل الله
ابن السبيل
مباحث حول الأصناف المستحقين
الأصناف الذين لا تصرف لهم الزكاة
تمهيد
الفقراء والمساكين
العاملون عليها أو الجهاز الإداري والمالي للزكاة
المؤلفة قلوبهم
في الرقاب
تمهيد
لقد جاء أمر الزكاة في القرآن مجملا كالصلاة بل أكثر إجمالا، فلم تبين آيات الكتاب الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا مقادير الواجب منها، ولا شروطها من مثل حولان الحول وملك النصاب المحدد وإعفاء ما دون النصاب.
وجاءت السنة التشريعية، القولية والعملية، فبينت المجمل من الزكاة كما بينته في الصلاة، ونقل ذلك الاثبات الثقات، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيلا بعد جيل..
لهذا كان من اللازم هنا، وجوب الإيمان بالسنة النبوية، كمصدر تشريعي للإسلام وتعاليمه، وأحكامه، بعد القرآن الكريم: مصدر مبين له وشارح ومفصل ومخصص، وصدق الله العظيم: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (النحل: 44).
روى أبو داود: أن رجلا قال للصحابي الجليل عمران بن حصين: يا أبا نجيد، إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن! فغضب عمران وقال للرجل: أوجدتم: في كل أربعين درهمًا درهم، ومن كل كذا وكذا شاة شاة، ومن كل كذا وكذا بعيرًا كذا؟ أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا، قال: فممن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا وأخذناه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر أشياء نحو هذا (مختصر سنن أبى داود للمنذري: 2/174).
عناية القرآن بمصارف الزكاة:(2/1)
وإذا كان أمر الزكاة قد جاء في القرآن مجملا كما عرفنا، فإنه قد عنى -بصفة خاصة- ببيان الجهات التي تصرف لها وفيها الزكاة، ولم يدعها لحاكم يقسمها، وفق رأى له قاصر، أو هوى متسلط، أو عصبية جاهلية. كما لم يدعها لمطامع الطامعين الذين لا يتورعون أن تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم، والذين يزاحمون بمناكبهم المستحقين من أهل الفاقة والحاجة الحقيقيين، وفى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- تطلع بعض ذوى الأعين الشرهة والأنفس النهمة، وسال لعابهم إلى أموال الصدقات، متوقعين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينفحهم منها نفحات تشبع من طموحهم، وترضى من شرههم، فلما ضرب الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنهم صفحًا ولم يلق إليهم بالا، غمزوا ولمزوا، وتطاولوا على المقام النبوي الكريم، فنزلت آيات الكتاب تفضح نفاقهم، وتكشف شرههم، وتبين جور موازينهم النفعية الشخصية، وتبين المصارف التي يجب أن توضع فيها الزكاة، وذلك قوله تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم) (التوبة: 58 - 60).
وبهذه الآيات انقطعت المطامع، وتبينت المصارف، وعرف كل ذي حق حقه.
روى أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعته -وذكر حديثًا طويلا- فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقة، حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) (في إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وقد تكلم فيه غير واحد (مختصر المنذري: 2/230).(2/2)
سر عناية القرآن بمصارف الزكاة:
لقد نبه العلماء الاقتصاديون والاجتماعيون على أن المهم ليس هو جباية الأموال وتحصيلها، فقد تستطيع الحكومات بوسائل شتى الحصول على ضرائب مباشرة وغير مباشرة، وقد يكون ذلك مع رعاية العدل والنصفة، ولكن الأهم من ذلك هو: أين تصرف هذه الأموال بعد تحصيلها؟ فهنا قد يميل الميزان، وتلعب الأهواء، ويأخذ المال من لا يستحقه، ويحرم منه من يستحقه، فلا عجب بعد ذلك أن يهتم القرآن بهذا الأمر ولا يدعه مجملا، كما ترك أشياء كثيرة أخرى من الزكاة للسنة تبينها وتفصلها.
لقد عرف التاريخ المالي ألوانًا كثيرة من الضرائب قبل الإسلام، كانت تجبى من طوائف الشعب المختلفة، طوعًا أو كرهًا، ثم تجمع في خزانات الأباطرة والملوك، لتنفق على أشخاصهم وأقاربهم وأعوانهم، وفى كل ما يزيد أبهتهم ومتعتهم ويظهر عظمتهم وسلطانهم، ضاربين عرض الحائط، بكل ما تحتاجه فئات الشعب العاملة والضعيفة من الفقراء والمساكين.
فلما جاء الإسلام وجه عنايته الأولى إلى تلك الفئات المحتاجة، وجعل لهم النصيب الأوفر في أموال الزكاة خاصة، وفى موارد الدولة عامة، وكان هذا الاتجاه الاجتماعي الرشيد سبقًا بعيدًا في عالم المالية والضرائب والأنفاق الحكومي، لم تعرفه الإنسانية إلا بعد قرون طويلة.
وعلى ضوء ما ذكره القرآن الكريم عن مستحقي الزكاة، وما بينه من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين.
سنتحدث في الفصول السبعة التالية عن مصارف الزكاة الثمانية، وفى فصل ثامن عن مباحث متفرقة حول الأصناف المستحقين، وفى فصل أخير عن الأصناف الذين لا يجزئ صرف الزكاة إليهم.
الفصل الأول
الفقراء والمساكين
فهرس
تابع الفقير القادر على الكسب
المتفرغ للعلم يأخذ من الزكاة
المستورون المتعففون أولى بالمعونة
كم يعطى الفقير والمسكين من الزكاة؟
الاتجاه الأول: إعطائهما ما يكفيهما تمام الكفاية
الاتجاه الثاني: إعطائهما مقدارًا محددًا من المال(2/3)
رأي الغزالي فيما يعطاه الفقير
ترجيح أبى عبيد لمذهب التوسعة في الإعطاء
مستوى لائق للمعيشة
معونة دائمة منتظمة
تمهيد
من هما الفقير والمسكين؟
الفقير والمسكين عند الحنفية
الفقير والمسكين عند الأئمة الثلاثة
لا يعطى من سهم الفقراء والمساكين غني
الغنى المانع من أخذ الزكاة
مذهب الثوري وغيره
مذهب الحنفية
مذهب مالك والشافعي وأحمد
الفقير القادر على الكسب
شروط القدرة على الكسب التي تحرم أخذ الزكاة
المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة
حددت الآية التي ذكرناها من سورة التوبة، مصارف الزكاة، فكانت ثمانية، المصرفان الأول والثاني: هما الفقراء والمساكين. فهم أول من جعل الله له سهمًا في أموال الزكاة. وهذا يدلنا على أن الهدف الأول من الزكاة، هو القضاء على الفقر والعوز، وإهالة التراب على الحاجة والمسكنة في المجتمع الإسلامي.
وذلك أن القرآن قد بدأ بالفقراء والمساكين، والقرآن قد نزل بلسان عربي مبين، ومن شأن بلغاء العرب أن يبدأوا بالأهم فالأهم. ولما كان علاج الفقر، وكفالة الفقراء ورعايتهم، هو الهدف الأول، والمقصود الأهم من الزكاة، اقتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعض أحاديثه على ذلك، فقال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم".
من هما الفقير والمسكين؟
ولكن من هو الفقير ومن هو المسكين؟ هل هما صنفان أو صنف واحد؟.(2/4)
ذهب أبو يوسف صاحب أبى حنيفة، وابن القاسم من أصحاب مالك إلى أنهما صنف واحد. (انظر حاشية الدسوقي: 1/492، وشرح الأزهار: 1/509) وخالفهما الجمهور. وهما في الحقيقة صنفان لنوع واحد، وأعنى بهذا النوع أهل العوز والحاجة. إلا أن المفسرين والفقهاء اختلفوا في تحديد مفهوم كل من اللفظين على حدة، وتحديد المراد به حيث اجتمعا هنا في سياق واحد. والفقير والمسكين -مثل الإسلام والإيمان- من الألفاظ التي قال العلماء فيها: إذا اجتمعا افترقا (أي يكون لكل منهما معنى خاص) وإذا افترقا اجتمعا (أي إذا ذكر أحدهما منفردًا عن الآخر كان شاملا لمعنى اللفظ الآخر الذي يقرن به). وهما هنا - في آية: (إنما الصدقات ...) (التوبة: 60) قد اجتمعا، فما معنى الفقير والمسكين هنا؟.
رجح شيخ المفسرين الطبري(تفسير الطبري: 14/308، 309- طبع دار المعارف): أن المراد بالفقير: المحتاج المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين: المحتاج المتذلل الذي يسأل، وأيد ترجيحه بأن لفظ المسكنة ينبئ عن ذلك. كما قال تعالى في شأن اليهود: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة) (البقرة: 61 ) ا. هـ.
أما ما جاء في الحديث الصحيح: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي يتعفف) (سيأتي الحديث كاملا مخرجًا في هذا المبحث). فليس هذا تفسيرًا لغويًا لمعنى المسكين. فالمعنى اللغوي معروف لديهم، وإنما هو من باب "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (متفق عليه من حديث أبى هريرة (بلوغ المرام -باب الترهيب من مساوئ الأخلاق ص 302- طبع مصطفى محمد). ونحوه من مثل حديث: "أتدرون من المفلس"؟ وحديث: "ما تعدون الرتوب فيكم"؟ وانظر المغنى: 6/457- طبع الإمام).(2/5)
ولهذا قال الإمام الخطابي بحق: في الحديث دليل على أن المسكين - في الظاهر عندهم والمتعارف لديهم- هو السائل الطواف. وإنما نفى -صلى الله عليه وسلم- عنه اسم المسكين، لأنه بمسألته تأتيه الكفاية وقد تأتيه الزيادة عليها، فتزول حاجته، ويسقط عنه اسم المسكنة، وإنما تدوم الحاجة والمسكنة بمن لا يسأل، ولا يفطن له فيعطى" (معالم السنن: 2/232).
كما اختلف الفقهاء أيضًا: أي الصنفين أسوأ حالا؟ الفقير أم المسكين؟ فعند الشافعية والحنابلة: الفقير أسوأ.
وعند المالكية -وهو المشهور عند الحنفية- أن الأمر بالعكس، ولكل من الفريقين أدلة من اللغة والشرع.(2/6)
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف في تحديد المراد بالألفاظ، فقد نصوا أنفسهم على أن هذا الخلاف لا طائل تحته، وليس من وراء تحقيقه ثمرة تجنى في باب الزكاة. (أسفَّ المستشرق جوزيف شاخت في "دائرة المعارف الإسلامية" إسفافًا شديدًا، حين تعرض لمسألة الفقير والمسكين فقال: والفرق الذي يذكر بين "الفقراء" و "المساكين" فرق تعسفي من كل وجه. وعلى كل حال اعتاد علماء الفقه أن يفسروا التعريف، بحيث يكونون هم أنفسهم في معظم الأحيان من إحدى الطائفتين.- دائرة المعارف: 10/360 - وهذا السخف لا يصدر من رجل فيه ذرة من خلق العلماء. فما كان لمثل السرخسي من الحنفية، أو ابن العربي من المالكية، أو النووي من الشافعية، أو ابن قدامة من الحنابلة، أو ابن حزم من الظاهرية، أو غير هؤلاء من فقهاء المذاهب الإسلامية- أن يطمعوا في أخذ الزكاة باسم الفقر أو المسكنة، ويحاولوا تحريف المفاهيم والتعريفات ليستفيدوا ماديًا من ورائها !! لقد كان هؤلاء الفقهاء ما بين أغنياء باذلين، وفقراء زاهدين. وهذا واضح لكل من عرف سيرتهم. أما ما زعمه من الفرق التعسفي من كل وجه -كما قال- فمثله لا يفطن إلى الفروق الدقيقة بين هذه الألفاظ التي تجتمع في سياق واحد. وهى قضية لغوية قبل أن تكون قضية فقهية. ولهذا خاض فيها اللغويون والمفسرون كما خاض الفقهاء. وقد نصوا على أن الخلاف فيها لا ثمرة له في باب الزكاة).
الفقير والمسكين عند الحنفية:
والذي ينفع ذكره هنا: أن الفقير عند الحنفية هو من يملك شيئًا دون النصاب الشرعي في الزكاة. أو يملك ما قيمته نصاب أو أكثر من الأثاث والأمتعة والثياب والكتب ونحوها مما هو محتاج إليه لاستعماله والانتفاع به في حاجته الأصلية.
والمسكين عندهم من لا يملك شيئًا. وهذا هو المشهور.(2/7)
وقد اختلف علماء الحنفية في تحديد المراد بالنصاب أهو نصاب النقد -مائتي درهم- أم النصاب المعروف من أي مال كان؟ (انظر مجمع الأنهر ودر المنتقى بهامشه ص 220، وأيضًا ص 223).
فالمستحق للزكاة بوصف الفقر أو المسكنة عندهم هو:
1- المعدم الذي لا ملك له وهو المسكين.
2- الذي يملك من الدور والمتاع والأثاث ونحوه ما ينتفع به ولا يستغني عنه، مهما تبلغ قيمته.
3- الذي يملك دون نصاب من النقود، أقل من مائتي درهم بتعبيرهم.
4- الذي يملك دون النصاب من غير النقود كأربع من الإبل، أو تسع وثلاثين من الغنم، ونحو ذلك. بشرط ألا تبلغ قيمتها مائتي درهم.
وهناك صورة اختلفوا فيها، وهى:
من يملك نصابًا من غير النقود كخمس من الإبل، أو أربعين من الغنم، إذا كانت قيمتها لا تبلغ نصابًا نقديًا. فبعضهم قال: تحل له الزكاة، وتلزمه أيضًا الزكاة. وبعضهم قال: هو غنى تؤخذ منه الزكاة فلا تعطى له (المصدر السابق).
وسنعود لإيضاح ذلك في بيان الغنى المانع من أخذ الزكاة.
الفقير والمسكين عند الأئمة الثلاثة:
وعند الأئمة الثلاثة: لا يدور الفقر والمسكنة على عدم ملك النصاب، بل على عدم ملك الكفاية.
فالفقير: من ليس له مال ولا كسب حلال لائق به، يقع موقعًا من كفايته، من مطعم وملبس ومسكن وسائر ما لابد منه، لنفسه ولمن تلزمه نفقته، من غير إسراف ولا تقتير، كمن يحتاج إلى عشرة دراهم كل يوم ولا يجد إلا أربعة أو ثلاثة أو اثنين.
والمسكين من قدر على مال أو كسب حلال لائق يقع موقعًا من كفايته وكفاية من يعوله. ولكن لا تم به الكفاية، كمن يحتاج إلى عشرة فيجد سبعة أو ثمانية، وإن ملك نصابًا أو نصبًا.
وحدد بعضهم ما يقع موقعًا من كفايته بالنصف فما فوقه، فالمسكين هو الذي يملك نصف الكفاية فأكثر.
والفقير هو الذي يملك ما دون النصف (انظر: نهاية المحتاج لشمس الدين الرملي: 6/151 - 153).
والنتيجة من هذا التعريف: أن المستحق للزكاة باسم الفقر أو المسكنة هو أحد ثلاثة:(2/8)
أولاً- من لا مال له ولا كسب أصلاً.
ثانيًا- من له مال أو كسب لا يقع موقعًا من كفايته وكفاية أسرته. أي لا يبلغ نصف الكفاية أي دون 50%.
ثالثًا- من له مال أو كسب يسد 50% أو أكثر من كفايته وكفاية من يعولهم. ولكن لا يجد تمام الكفاية.
والمراد بالكفاية للفقير أو المسكين كفاية السنة عند المالكية والحنابلة، وأما عند الشافعية فالمراد: كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلده، فإن كان العمر المعتاد لمثله ستين، وهو ابن ثلاثين. وكان عنده مال يكفيه لعشرين سنة فقط، كان من المستحقين للزكاة لحاجته إلى كفاية عشر سنين.
قال شمس الدين الرملي: "لا يقال: يلزم على ذلك أخذ أكثر الأغنياء من الزكاة ! لأنا نقول: من معه مال يكفيه ربحه، أو عقار يكفيه دخله - غنى، والأغنياء غالبهم كذلك" (نهاية المحتاج: 6/151 - 153).
ولا يخرج الفقير أو المسكين عن فقره ومسكنته أن يكون له مسكن لائق له، محتاج إليه، ولا يكلف بيعه لينفق منه. ومن له عقار ينقص دخله عن كفايته فهو فقير أو مسكين. نعم لو كان نفيسًا بحيث لو باعه استطاع أن يشترى به ما يكفيه دخله لزمه بيعه، فيما يظهر.
ومثل المسكن(اختلف فقهاء الشافعية فيمن اعتاد السكن بالأجرة ومعه ثمن مسكن أو له مسكن: هل يخرج عن الفقر بما معه؟ أجاب في نهاية المحتاج بالإيجاب وخالفه غيره. (انظر حاشية الشيبرا ملسى على نهاية المحتاج: 6/150). ثيابه التي يملكها، ولو للتجمل بها في بعض أيام السنة، وإن تعددت ما دامت لائقة به أيضًا.
وكذلك حلى المرأة اللائق بها، المحتاجة للتزين به عادة، لا يخرجها عن الفقر والمسكنة.
وكتب العلم التي يحتاج إليها ولو نادرًا كمرة في السنة، سواء أكانت كتب علم شرعي كالفقه والتفسير والحديث، أو آلة له كاللغة والأدب، أو علم دنيوي نافع كالطب لمن كان من أهله، ونحو ذلك.
ومثل كتب العلم لأهله، آلات الحرفة، وأدوات الصنعة، التي يحتاج إلى استعمالها في صنعته.(2/9)
كما لا يخرجه عن الفقر والمسكنة ماله الذي لا يقدر على الانتفاع به، كأن يكون في بلد بعيد، لا يتمكن من الحصول عليه. أو يكون حاضرًا ولكن حيل بينه وبينه، كالذي تحجزه الحكومات المستبدة أو تضعه تحت الحراسة وما شابه ذلك.
ومثل ذلك ديونه المؤجلة، لأنه الآن معسر إلى أن يحل الأجل (انظر نهاية المحتاج: 6/150، 151).
لا يعطى من سهم الفقراء والمساكين غني
ولكي تتضح لنا نظرة الفقهاء إلى الفقر والمسكنة، وتكملة لمعرفة هذين الصنفين أو هذا الصنف من المستحقين للزكاة بوصف الفقر أو المسكنة، ينبغي أن نلقى بعض الضوء على المعنى المقابل، الذي يخرج هؤلاء عن دائرة الاستحقاق بهذا الوصف -الفقر أو المسكنة- وهذا المعنى المقابل هو "الغنى".
فمن المتفق عليه بين الفقهاء: أنه لا يصرف في الزكاة من سهم الفقراء والمساكين إلى غنى، لأن الله تعالى جعلها للفقراء والمساكين، والغنى غير داخل فيهم. وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها (تؤخذ من أغنيائهم لترد على فقرائهم)، وقال: (لا تحل الصدقة لغنى) (رواه أبو داود والترمذي وحسنه). ولأن أخذ الغنى منها يمنع وصولها إلى أهلها، ويخل بحكمة وجوبها وهو إغناء الفقراء بها. كما قال ابن قدامة(المغنى المطبوع مع الشرح الكبير: 2/523).
ولكن من هو الغنى في هذا المقام وما حد الغنى هنا؟.
الغنى المانع من أخذ الزكاة
اختلف الفقهاء في حد الغنى المانع من أخذ الزكاة ما هو؟.
وإنما قلنا: الغنى المانع من أخذ الزكاة، لأن الغنى الموجب للزكاة قد اتفقوا على معناه في الجملة، وهو: ملك نصاب من الأموال النامية المعروفة بشروط خاصة. على حين اختلفوا في حد الغنى المانع(هناك غنى ثالث هو: الغنى الذي يمنع سؤال الغير، وهو دون الغنى المانع من أخذ الزكاة لتشديد الشرع في المسألة إلا لضرورة. وهم أيضًا قد اختلفوا فيه. ولعلنا نعرض له في مناسبة أخرى). على أقوال نذكرها فيما يلي:
مذهب الثوري وغيره:(2/10)
فذهب سفيان الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه (معالم السنن: 2/226). إلى أن الغنى الذي يحرم معه أخذ الزكاة والصدقات هو ملك خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب، أي نصف ربع نصاب من النقود.
واستدلوا بحديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سأل وله ما يغنيه، جاءت يوم القيامة خموش أو خدوش، أو كدوح (الخموش: هي الخدوش: يقال: خمشت المرأة وجهها، إذا خدشته بظفر أو حديدة أو نحوها، والكدوح: الآثار من الخدوش والعض ونحوه). في وجهه). فقيل: يا رسول الله، وما الغنى؟ قال: (خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب) (رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وحسنه الترمذي، وضعفه غيره من الأئمة (انظر مختصر السنن للمنذري: 2/226، 227).
وهذا المذهب رواية عن أحمد: فقد فرقت الرواية بين ملك النقود وملك غيرها: فمن ملك من غير النقود ما لا يقوم بكفايته فليس بغنى وإن كثرت قيمته. ومن ملك من النقود خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب فهو غنى، لأن النقود هي الآلة المباشرة للأنفاق المعدة له دون غيرها، ولحديث ابن مسعود المذكور.
ولكن صيارفة الحديث ضعفوا حديث ابن مسعود هذا، وبينوا علة ضعفه(رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة، وحسنه الترمذي، وضعفه غيره من الأئمة (انظر مختصر السنن للمنذري: 2/226، 227).
وعلى التسليم بصحة الحديث فقد تأوله بعض العلماء بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك لقوم بأعيانهم كانوا يتجرون بالخمسين فتقوم بكفايتهم (انظر: الأنصاف من كتب الحنابلة: 2/221، 222).
وحمله آخرون على أنه -عليه أفضل الصلاة والسلام- قاله في وقت كانت الكفاية الغالبة فيه بخمسين (المصدر السابق).
وحمله غيرهم على المسألة، إذ هو وارد فيها، فمن ملك الخمسين حرمت عليه المسألة، ولكن لم يحرم عليه الأخذ (معالم السنن: 2/226). وهذا هو الأظهر.(2/11)
قال الخطابي: قالوا: وليس في الحديث أن من ملك خمسين درهمًا لم تحل له الصدقة، إنما فيه أنه كره له المسألة فقط، وذلك أن المسألة إنما تكون مع الضرورة، ولا ضرورة بمن يجد ما يكفيه في وقته إلى المسألة (معالم السنن: 2/226).
مذهب الحنفية:
ويرى الحنفية أن الغنى الذي يحرم به أخذ الصدقة وقبولها أحد أمرين:
الأول: ملك نصاب زكوي من أي مال كان: كخمس من الإبل السائمة أو مائتي درهم أو عشرين دينارًا (قدرناها الآن بمبلغ 85 جرامًا من الذهب) لأن الشرع جعل الناس صنفين: غنيًا تؤخذ منه الزكاة، وفقيرًا ترد عليه، ولا يجوز أن يكون غنيًا فقيرًا في وقت واحد، كمن كان لديه نصاب تجب فيه الزكاة ولكن عنده كثرة من العيال يحتاجون إلى كثير من النفقات، لا يجوز أن يعطى ولا يحل له أن يأخذ من الزكاة.
وقال بعض الحنفية: بل المعتبر هو نصاب النقود من أي مال كان، سواء أبلغ نصابًا من جنسه أم لم يبلغه.
فمن ملك أربعين شاة -نصاب الغنم- لا تبلغ قيمتها نصابًا نقديًا (مائتي درهم) فهو فقير على هذا الرأي، فتجب عليه الزكاة، وتحل له الزكاة.
واستدل بعضهم لهذا الرأي بحديث: (من سأل وله ما يغنيه فقد سأل الناس إلحافًا. قيل: وما الذي يغنيه؟ قال: مائتا درهم).
والحديث ضعيف، ومع هذا فهو في الغنى المانع من السؤال. فهو لا يرد على مخالفي الحنفية الذين يجوزون أخذ الزكاة لمن عنده مائتا درهم لا تقوم بكفايته، لأن الغنى الذي يحرم السؤال لا يحرم الزكاة.
وبين علماء الحنفية نقاش طويل في اعتماد أي الرأيين. فليراجع في كتبهم (انظر على سبيل المثال: الدر المختار وحاشيته رد المحتار: 2/88 - 86، طبع استانبول. وأيضًا: مجمع الأنهر ودر المنتقى بهامشه ص 223).(2/12)
الثاني: أن يملك من الأموال التي لا تجب فيها الزكاة ما يفضل عن حاجته، ويبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم. كمن يقتنى من الثياب والفرش والأدوات والكتب والدور والحوانيت والدواب وغيرها، زيادة على ما يحتاج إليه، كل ذلك للابتذال والاستعمال لا للتجارة والإسامة، فإذا فضل من ذلك ما يبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة. فمن كان له داران يستغني عن إحداهما، وهى إذا بيعت تساوى نصاب النقود فلا يجوز له أخذ الزكاة. وكذلك إذا كان عنده كتب ورثها مثلا أو أدوات حرفة، تساوى نصابًا، وليس هو في حاجة إليها، لأنه ليس من أهل العلم، ولا من أرباب تلك الحرفة.
قال الكاساني في "البدائع": "ثم قدر الحاجة ما ذكره الكرخي في مختصره فقال: لا بأس بأن يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في منزله وخادم، وفرس، وسلاح، وثياب البدن، وكتب العلم إن كان من أهله، فإن كان له فضل عن ذلك ما يبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة. لما روى عن الحسن البصري أنه قال: "كانوا يعطون الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من الفرس والسلاح والخادم والدار".
وقوله: "كانوا" كناية عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا لأن هذه الأشياء من الحوائج اللازمة التي لابد للإنسان منها فكان وجودها وعدمها سواء (بدائع الصنائع للكاساني: 2/48).
وذكر في "الفتاوى" فيمن له حوانيت ودور للغلة لكن غلتها لا تكفيه وعياله: أنه فقير، ويحل له أخذ الصدقة عند محمد، وعند أبى يوسف: لا يحل. وكذا لو له كرم لا تكفيه غلته.
ولو عنده طعام للقوت يساوى 200 (مائتي درهم)، فإن كان كفاية شهر يحل، أو كفاية سنة، قيل: لا يحل، وقيل: يحل، لأنه مستحق الصرف إلى الكفاية، فيلحق بالعدم، وقد ادخر عليه الصلاة والسلام لنسائه قوت سنة.
ولو له كسوة الشتاء وهو لا يحتاج إليها في الصيف يحل.(2/13)
وفى "التتارخانية" عن "الصغرى": له دار يسكنها ولكن تزيد على حاجته، بأن لا يسكن الكل، يحل له أخذ الصدقة في الصحيح.
وفيها: سئل محمد عمن له أرض يزرعها أو حوانيت يستغلها أو دار غلتها ثلاثة آلاف، ولا تكفى لنفقته ونفقة عياله سنة، فأجاب: يحل له أخذ الزكاة، وإن كانت قيمتها تبلغ ألوفًا، وعليه الفتوى. وعندهما: لا يحل.
قال ابن عابدين: وسئلت عن المرأة: هل تصير غنية بالجهاز الذي تزف به إلى بيت زوجها؟ والذي يظهر مما مر: أن ما كان من أثاث المنزل وثياب البدن وأواني الاستعمال، مما لابد لأمثالها منه، فهو من الحاجة الأصلية، وما زاد على ذلك من الحلي والأواني والأمتعة التي يقصد بها الزينة، إذا بلغ نصابًا تصير به غنية.
قال: ثم رأيت في "التتارخانية" في باب صدقة الفطر: سئل الحسن بن على عمن لها جواهر ولآلئ تلبسها في الأعياد، وتتزين بها للزوج، وليست للتجارة: هل عليها صدقة الفطر؟ قال: نعم إذا بلغت نصابًا. وسئل عنها عمر الحافظ، فقال: لا يجب عليها شيء. قال ابن عابدين: وحاصله ثبوت الخلاف في أن الحلي غير النقدين من الحوائج الأصلية. والله تعالى أعلم (حاشية رد المحتار: 2/88 - 89، طبع استانبول).
مذهب مالك والشافعي وأحمد:
المذهب الأخير: أن الغنى هو ما تحصل به الكفاية، فإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الصدقة، وإن لم يملك شيئًا، وإن كان محتاجًا حلت له الصدقة وإن ملك نصابًا بل نصبًا، والأثمان وغيرها في هذا سواء. وهو ما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد في الرواية الراجحة عنه. قال الخطابي: قال مالك والشافعي: لا حد للغنى معلوم، وإنما يعتبر حال الإنسان بوسعه وطاقته فإذا اكتفى بما عنده حرمت عليه الصدقة، وإذا احتاج حلت له (معالم السنن: 2/227).(2/14)
قال الشافعي: قد يكون الرجل بالدرهم غنيًا، مع كسب، ولا يغنيه الألف مع ضعفه في نفسه، وكثرة عياله (رواه مسلم وأبو داود والنسائي -انظر الحديث (1575) جـ2 مختصر المنذري لسنن أبى داود وسيأتي الحديث كاملاً في فصل "الغارمون").
وهذا المذهب هو الذي تعضده الشريعة بنصوصها وروحها. كما تؤيده اللغة واستعمالاتها. ومما يدل لهذا المذهب:
( أ ) ما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لقبيصة بن المخارق الذي جاء يسأله في حمالة تحملها: (لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل أصابته فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش) . الحديث (رواه مسلم وأبو داود والنسائي -انظر الحديث (1575) جـ2 مختصر المنذري لسنن أبى داود وسيأتي الحديث كاملاً في فصل "الغارمون")، فقد أباح له المسألة حتى يجد القوام أو السداد من العيش.
( ب ) أن الحاجة هي الفقر، والغنى ضدها، فمن كان محتاجًا فهو فقير يدخل في عموم النص، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة. والدليل على أن الفقر هو الحاجة، قول الله تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) (فاطر: 15). -أي المحتاجون إليه، وقول الشاعر: "وإني إلى معروفها لفقير"- أي لمحتاج.
وبناء على ذلك يتفرع أمران:
أولاً: أن من كان له مال يكفيه -سواء أكان ذلك من مال زكوي أو غير زكوي، أو من كسبه وعمله أو من أجرة عقارات أو غير ذلك- فليس له الأخذ من الزكاة. ويعتبر وجود الكفاية له ولعائلته ومن يعوله، لأن كل واحد منهم مقصود دفع حاجته، فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد. وجمهور العمال والموظفين من هذا الصنف الذي يعد غنيًا بكسبه المتجدد، لا بماله وثروته المدخرة. فلو كان من لا يملك نصابًا فقيرًا، لكان كل هؤلاء يستحقون الزكاة. وهذا غير مقبول.
ثانيًا: أن من ملك من أموال الزكاة نصابًا -أو أكثر- لا تتم به كفايته لنفسه ومن يعوله، فله الأخذ من الزكاة، لأنه ليس بغنى.(2/15)
فمن له عروض تجارة قيمتها ألف دينار، أو أكثر، ولكن لا يحصل له من ربحها قدر كفايته -لكساد السوق، أو كثرة العيال أو نحوها- يجوز له الأخذ من الزكاة.
ومن كان له مواش تبلغ نصابًا، أو له زرع يبلغ خمسة أوسق، لا يقوم ذلك بجميع كفايته، يجوز له الأخذ من الزكاة ولا يمنع ذلك وجوبها عليه، لأن الغنى الموجب للزكاة هو ملك النصاب بشروط. أما الغنى المانع من أخذها فهو ما تحصل به الكفاية ولا تلازم بينهما (انظر شرح غاية المنتهى: 2/135).
قال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله (أحمد بن حنبل) فقلت: قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير، ويكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة (المزرعة) لا تكفيه. أفيعطى من الزكاة؟ قال: نعم ... وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا (المغنى: 2/664).
وقال أحمد -في رواية محمد بن الحكم- إذا كان له عقار، أو ضيعة يستغلها -عشرة آلاف أو أكثر ولا تكفيه- يأخذ من الزكاة (شرح الغاية: 2/135).
وقيل له: يكون للرجل الزرع القائم وليس عنده ما يحصده، أيأخذ من الزكاة؟ قال: نعم (المصدر السابق).
قال في شرح الغاية: "من له كتب يحتاجها للحفظ والمطالعة، أو لها حلى للبس، أو لكراء تحتاج إليه، فلا يمنعها ذلك من أخذ الزكاة (شرح الغاية: 2/135).
الفقير القادر على الكسب
وإذا كان مدار الاستحقاق هو الحاجة -حاجة الفرد إلى كفاية نفسه ومن يعوله- فهل يعطى المحتاج وإن كان متبطلاً يعيش عالة على المجتمع، ويحيا على الصدقات والإعانات، وهو مع ذلك قوى البنيان، قادر على الكسب وإغناء نفسه بكسبه وعمله؟!.
إن الذي أرجحه في ذلك هو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة حيث قالوا: لا يجوز صرف الزكاة إلى غنى من سهم الفقراء والمساكين، ولا إلى قادر على كسب يليق به، يحصل له منه كفايته، وكفاية عياله (المجموع: 6/228).(2/16)
وهذا المذهب هو الذي تعضده نصوص الشرع وقواعده. حتى ذهب بعض الحنفية -وهم يجيزون الدفع للفقير الكسوب- إلى أنه لا يطيب له الأخذ، لأن جواز النفع لا يستلزم جواز الأخذ كما إذا دفع إلى غنى يظنه فقيرًا، فالدفع جائز والأخذ حرام.
وقال جمهور الحنفية:
الأخذ ليس بحرام، ولكن عدم الأخذ أولى لمن له سداد من عيش (مجمع الأنهر ص220).
وذهب بعض المالكية أيضًا إلى عدم جواز الدفع للقادر على التكسب (نسبه في حاشية الدسوقي 1/1494 إلى يحيى بن عمر).
وإنما قلنا: إن هذا المذهب هو الذي تؤيده نصوص الشرع وقواعده. لأن الواجب الذي يفرضه الإسلام على كل قوى قادر على العمل أن يعمل، وأن ييسر له سبيل العمل، وبذلك يكفى نفسه بكد يمينه وعرق جبينه. وفى الحديث الصحيح (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده) (رواه البخاري وغيره (الترغيب والترهيب للمنذري جـ2 - أول كتاب البيوع)، ولا يجوز لمن وجد عملاً يكفيه وهو يقدر عليه أن يدعه، ليأخذ من الصدقات أو يسأل الناس.
ومن أجل ذلك رأينا رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- يقول في صراحة ووضوح: (لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذي مرة سوى) (رواه الخمسة وحسنه الترمذي).
والمرة: القوة والشدة، والسوي: المستوي السليم الأعضاء.
وروى الطبري عن زهير العامري: أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الصدقة: أي مال هي؟ فقال: مال العرجان، (جمع أعرج) والعوران، والعميان وكل منقطع به (يعنى الضعفاء، وذوى العاهات، والعاجزين عن الكسب). فقال له: إن للعاملين حقًا والمجاهدين ! (أي من سهم العاملين عليها وسهم سبيل الله) قال عبد الله: إن المجاهدين قوم أحل لهم (أي أبيح لهم أن يأخذوا ما يعينهم على الجهاد) والعاملين عليها قدر عمالتهم. ثم قال: (لا تحل الصدقة لغنى، ولا لذي مرة سوى) (تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر: 14/231).(2/17)
وهذه الكلمة التي قالها عبد الله بن عمرو، رويت مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عدد من الصحابة -رضى الله عنهم-، كما رفعها هو إلى النبي في رواية أخرى (رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو هريرة وحبشي بن جنادة، وجابر، وطلحة، وعبد الرحمن بن أبى بكر وابن عمر.- انظر نصب الراية: 2/399- 401، وانظر مصنف ابن أبى شيبة: 3/207- 208، طبع حيدر آباد).
ولا اعتداد بالقدرة الجسمانية واللياقة البدنية، ما لم يكن معها كسب يغنى ويكفى، لأن القوة بغير كسب، لا تكسو من عرى، ولا تطعم من جوع. قال النووي: إذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة، لأنه عاجز (المجموع: 6/191).
فإذا كان الحديث المذكور قد اكتفى بذكر "ذي المرة السوي" فإن حديثًا آخر قيد هذا الإطلاق، وأضاف إلى القوة الاكتساب.
فعن عبيد الله بن عدى بن الخيار، أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين (قويين) فقال: (إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها (أي في الزكاة) لغنى، ولا لقوى مكتسب) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال أحمد: ما أجوده من حديث"، وقال النووي: "هذا الحديث صحيح" -المجموع: 6/189- وقد سكت عنه أبو داود والمنذري - مختصر السنن: 2/233).
وإنما خيرهما الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يكن على علم بباطن أمرهما، فقد يكونان في الظاهر جلدين قادرين، ويكونان في الواقع غير مكتسبين، أو مكتسبين كسبًا لا يكفى.
واستدل العلماء بالحديث على أنه ينبغي لولى الأمر -أو رب المال- وعظ آخذ الزكاة الذي لا يعرف حقيقة حاله، وتعريفه أنها لا تحل لغنى ولا قادر على الكسب، أسوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (نيل الأوطار: 4/170).(2/18)
والمراد بالاكتساب: اكتساب قدر الكفاية. وإلا كان من أهل الاستحقاق للزكاة، والعجز عن أصل الكسب ليس بشرط (المجموع: 6/190). ولا يصح أن يقال بوقوف الزكاة على الزمني والمرضى والعجزة فحسب.
والمعتبر -كما قال النووي- كسب يليق بحاله ومروءته. وأما ما لا يليق به فهو كالمعدوم (المجموع: 6/190).
على أن حديث تحريم الزكاة على "ذي المرة السوي" يعمل بإطلاقه بالنسبة للقادر الذي يستمر في البطالة، مع تهيؤ فرص الكسب الملائم لمثله عرفًا.
والخلاصة أن القادر على الكسب الذي يحرم عليه الزكاة هو الذي تتوافر فيه الشروط الآتية:
1- أن يجد العمل الذي يكتسب منه.
2- أن يكون هذا العمل حلالاً شرعًا، فإن العمل المحظور في الشرع بمنزلة المعدوم.
3- أن يقدر عليه من غير مشقة شديدة فوق المحتمل عادة.
4- أن يكون ملائمًا لمثله، ولائقًا بحاله ومركزه ومروءته ومنزلته الاجتماعية.
5- أن يكتسب منه قدر ما تتم به كفايته وكفاية من يعولهم.
ومعنى هذا: أن كل قادر على الكسب مطلوب منه شرعًا أن يكفى نفسه بنفسه، وأن المجتمع بعامة -وولى الأمر بخاصة- مطلوب منه أن يعينه على هذا الأمر الذي هو حق له وواجب عليه. فمن كان عاجزًا عن الكسب - لضعف ذاتي كالصغر والعته والشيخوخة والعاهة والمرض، أو كان قادرًا ولم يجد بابًا حلالاً للكسب يليق بمثله، أو وجد ولكن كان دخله من كسبه لا يكفيه وعائلته، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها - فقد حل له الأخذ من الزكاة، ولا حرج عليه في دين الله.
هذه هي تعليمات الإسلام الناصعة التي جمعت بين العدل والإحسان أو العدل والرحمة.؛ أما مبدأ الماديين القائلين: "من لا يعمل لا يأكل" فهو مبدأ غير طبيعي، وغير أخلاقي، وغير إنساني.؛ بل إن في الطيور والحيوانات أنواعًا يحمل قويها ضعيفها، ويقوم قادرها بعاجزها، أفلا يبلغ الإنسان مرتبة هذه العجماوات؟!.
المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة:(2/19)
ومن الرائع حقًا ما ذكره هنا فقهاء الإسلام فقالوا: إذا تفرغ إنسان قادر على الكسب لعبادة الله تعالى بالصلاة، والصيام، ونحوهما من نوافل العبادات لا يعطى من الزكاة، ولا تحل له؛ لأن مصلحة عبادته قاصرة عليه (انظر: الروضة للنووي: 2/3009، والمجموع: 6/191). ولأنه مأمور بالعمل والمشي في مناكب الأرض، ولا رهبانية في الإسلام. والعمل في هذه الحال لكسب العيش من أفضل العبادات إذا صدقت فيه النية، والتزمت حدود الله.
المتفرغ للعلم يأخذ من الزكاة:
فإذا ما تفرغ لطلب علم نافع، وتعذر الجمع بين الكسب وطلب العلم، فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يعينه على أداء مهمته، وما يشبع حاجاته ومنها كتب العلم التي لابد منها لمصلحة دينه ودنياه.
وإنما أعطى طالب العلم لأنه يقوم بفرض كفاية، ولأن فائدة علمه ليست مقصورة عليه بل هي لمجموع الأمة. فمن حقه أن يعان من مال الزكاة، لأنها لأحد رجلين: إما لمن يحتاج من المسلمين. أو لمن يحتاج إليه المسلمون. وهذا قد جمع بين الأمرين.
واشترط بعضهم أن يكون نجيبًا يرجى تفوقه ونفع المسلمين به، وإلا لم يستحق الأخذ من الزكاة، ما دام قادرًا على الكسب (انظر المرجع السابق وشرح غاية المنتهى: 2/137، وحاشية الروض المربع: 1/400، والمجموع: 6/190 - 191). وهو قول وجيه. وهو الذي تسير عليه الدول الحديثة، حيث تنفق على النجباء والمتفوقين، بأن تتيح لهم دراسات خاصة، أو ترسلهم في بعثات خارجية أو داخلية.
المستورون المتعففون أولى بالمعونة(2/20)
ولقد يظن كثير من الناس -من سوء العرض لتعاليم الإسلام وسوء التطبيق لها- أن الفقراء والمساكين المستحقين للزكاة هم أولئك المتبطلون، أو المتسولون، الذين احترفوا سؤال الناس، وتظاهروا بالفقر والمسكنة، ومدوا أيديهم للغادين والرائحين، في المجامع والأسواق، وعلى أبواب المساجد وغيرها، ولعل هذه الصورة للمسكين كانت ماثلة في أذهان كثير من الناس منذ زمن قديم، حتى في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مما جعله عليه السلام ينبه الناس على أهل الحاجة الحقيقيين، الذين يستحقون معونة المجتمع بحق، وإن لم يفطن لهم الكثيرون، فقال عليه الصلاة والسلام في ذلك: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرأوا إن شئتم: (لا يسألون الناس إلحافًا) (البقرة: 273).
ومعنى: (لا يسألون الناس إلحافًا): لا يلحون في المسألة ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وعنده ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف. وهذا وصف لفقراء المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله ورسوله، وليس لهم مال ولا كسب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم (تفسير ابن كثير: 1/324). قال تعالى في وصفهم، والتنويه بشأنهم: (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافًا) (البقرة: 273).. فهؤلاء وأشباههم أحق الناس أن يعانوا كما أرشدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه المذكور.
وفى رواية أخرى: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) (الحديث بروايتيه متفق عليه).(2/21)
ذلك هو المسكين الجدير بالمعونة وإن كان الناس يغفلون عنه ولا يفطنون له. ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لفت الأنظار إليه، ونبه العقول والقلوب عليه. وإنه ليشمل كثيرًا من أصحاب البيوتات وأرباب الأسر المتعففين، الذين أخنى عليهم الزمن، أو قعد بهم العجز، أو قل مالهم وكثرت عيالهم، أو كان دخلهم من عملهم لا يشبع حاجاتهم المعقولة.
وقد سئل الإمام الحسن البصري عن الرجل تكون له الدار والخادم أيأخذ من الزكاة؟ فأجاب: بأنه يأخذ إن احتاج ولا حرج عليه (الأموال لأبى عبيد ص 556). وقد ذكرنا فتوى الإمام محمد بن الحسن فيمن له أرض يزرعها أو حوانيت يستغلها، أو غلتها ثلاثة آلاف ولا تكفى لنفقته ونفقة عياله سنة: أنه يحل له أخذ الزكاة وإن كانت قيمتها تبلغ ألوفًا وعليه الفتوى عند الحنفية، كما نقله ابن عابدين (رد المحتار: 2/88).
كما ذكرنا فتوى الإمام أحمد في الرجل: إذا كان له عقار يستغله أو ضيعة تساوى عشرة آلاف درهم أو أقل من ذلك أو أكثر ولكنها لا تقيمه -يعنى لا تقوم بكفايته- بأنه يأخذ من الزكاة (المغنى مع الشرح الكبير: 2/525).
وقال الشافعية: إذا كان له عقار ينقص دخله عن كفايته فهو فقير أو مسكين، فيعطى من الزكاة تمام كفايته، ولا يكلف بيعه (المجموع: 6/192).
وقال المالكية: يجوز دفع الزكاة لمن يملك نصابًا أو أكثر، لكثرة عياله، ولو كان له الخادم والدار التي تناسبه (شرح الخرشي بحاشية العدوى على خليل: 2/215، وحاشية الدسوقي: 1/494).
ليس المقصود بالزكاة إذن إعطاء المعدم المترب فقط، ذلك الذي لا يجد شيئًا أو لا يملك شيئًا، وإنما يقصد بها أيضًا إغناء ذلك الذي يجد بعض الكفاية، ولكنه لا يجد كل ما يكفيه.
كم يعطى الفقير والمسكين من الزكاة؟
اختلفت المذاهب الفقهية في مقدار ما يعطى الفقير والمسكين من الزكاة ونستطيع أن نحصر هذا الخلاف في اتجاهين رئيسيين:(2/22)
الاتجاه الأول: يقول بإعطائهما ما يكفيهما تمام الكفاية بالمعروف، دون تحديد بمقدار من المال.
الاتجاه الثاني: يقول بإعطائهما مقدارًا محددًا من المال يقل عند بعضهم، ويكثر عند آخرين.
وسنبدأ بالاتجاه الأول؛ لأنه أقرب إلى منطق الإسلام ونصوصه وأهدافه في باب الزكاة، وقد انقسم هذا الاتجاه إلى مذهبين:
1- مذهب يقول بإعطاء كفاية العمر.
2- ومذهب يقتصر على إعطاء كفاية السنة.
المذهب الأول- إعطاء الفقير كفاية العمر:
يتجه هذا المذهب إلى: أن يعطى الفقير ما يستأصل شأفة فقره، ويقضى على أسباب عوزه وفاقته، ويكفيه بصفة دائمة ولا يحوجه إلى الزكاة مرة أخرى.
قال الإمام النووي في "المجموع": "المسألة الثانية- في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين:. قال أصحابنا العراقيون وكثيرون من الخراسانيين: يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام. وهذا هو نص الشافعي رحمه الله. واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الهلالي -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة، اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش- أو قال: سدادًا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: قد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش ـ أو قال: سدادًا من عيش ـ فما سواهن من المسألة، يا قبيصة، سحت يأكلها صاحبها سحتًا) (رواه مسلم في صحيحه).
قال أصحابنا: فأجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه.
قالوا: فإن كان عادته الاحتراف أعطى ما يشترى به حرفته، أو آلات حرفته، قلت قيمة ذلك أم كثرت، ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبًا تقريبًا، ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص.(2/23)
وقرب جماعة من أصحابنا ذلك فقالوا: من يبيع البقل يعطى خمسة دراهم أو عشرة. ومن حرفته بيع الجوهر يعطى عشرة آلاف درهم مثلاً، إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها، ومن كان تاجرًا أو خبازًا أو عطارًا أو صرافًا أعطى بنسبة ذلك، ومن كان خياطًا أو نجارًا أو قصارًا أو قصابًا، أو غيرهم من أهل الصنائع أعطى ما يشترى به من الآلات التي تصلح لمثله.
وإن كان من أهل الضياع (المزارع) يعطى ما يشترى به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام.
فإن لم يكن محترفًا، ولا يحسن صنعة أصلاً، ولا تجارة ولا شيئًا من أنواع المكاسب أعطى كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده، ولا يتقدر بكفاية سنة (انظر: المجموع للنووي: 6/193 - 195).
ووضح ذلك شمس الدين الرملي في شرح المنهاج للنووي. فذكر أن الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبًا بحرفة ولا تجارة، يعطى كفاية ما بقى من العمر الغالب لأمثاله في بلده. لأن القصد إغناؤه، ولا يحصل إلا بذلك، فإن زاد عمره عليه أعطى سنة بسنة.
وليس المراد بإعطاء من لا يحسن الكسب إعطاءه نقدًا يكفيه بقية عمره المعتاد، بل إعطاءه ثمن ما يكفيه دخله منه. كأن يشترى له به عقار يستغله، ويغتني به عن الزكاة، فيملكه ويورث عنه.
قال: والأقرب -كما بحثه الزركشي- أن للإمام -دون المالك- شراءه له، وله إلزامه بالشراء، وعدم إخراجه عن ملكه، وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر.
ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب، كمل له من الزكاة كفايته. ولا يشترط اتصافه يوم الإعطاء بالفقر والمسكنة.
قال الماوردي: لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا ربح مائة أعطى العشرة الأخرى، وإن كفته التسعون -لو أنفقها من غير اكتساب فيها- سنين لا تبلغ العمر الغالب.
وهذا كله فيمن لا يحسن الكسب.(2/24)
أما من يحسن حرفة لائقة تكفيه، فيعطى ثمن آلة حرفته وإن كثرت، ومن يحسن تجارة يعطى رأس مال يكفيه ربحه منه غالبًا، باعتبار عادة بلده،.ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي.
ولو أحسن أكثر من حرفة والكل يكفيه، أعطى ثمن أو رأس مال الأدنى، وإن كفاه بعضها فقط أعطى له. وإن لم تكفه واحدة منها أعطى لواحدة، وزيد له شراء عقار يتم دخله بقية كفايته (انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين الرملي: 6/159). أ هـ.
هذا ما نص عليه الشافعي في الأم، وما رجحه وأخذ به جمهور أصحابه، وفرعوا عليه، وفصلوا فيه تلك التفصيلات الدقيقة التي نقلناها هنا، والتي تدل على مدى غنى الفقه الإسلامي بالمبادئ والصور والفروع في شتى المجالات.
وفى مذهب أحمد رواية تماثل ما نص عليه الشافعي، فأجاز للفقير أن يأخذ تمام كفايته دائمًا، بمتجر أو آلة صنعة أو نحو ذلك، وقد اختار هذه الرواية بعض الحنابلة ورجحوا العمل بها (انظر: الأنصاف: 3/238).
وقال الخطابي في شرح حديث قبيصة السابق: فيه: أن الحد الذي ينتهي إليه العطاء في الصدقة، هو الكفاية، التي بها قوام العيش وسداد الخلة، وذلك يعتبر في كل إنسان بقدر حاله ومعيشته وليس فيه حد معلوم، يحمل عليه الناس كلهم مع اختلاف أحوالهم (معالم السنن: 2/239).
إذا أعطيتم فأغنوا:
وهذا المذهب هو الموافق لما جاء عن الفاروق عمر -رضى الله عنه-، فلقد رأينا السياسة العمرية الراشدة تقوم على هذا المبدأ الحكيم الذي أعلنه الفاروق -رضى الله عنه-: (إذا أعطيتم فأغنوا) (الأموال ص 565).
كان عمر يعمل على إغناء الفقير بالزكاة، لا مجرد سد جوعته بلقيمات أو إقالة عثرته بدريهمات.(2/25)
جاء رجل يشكو إليه سوء الحال، فأعطاه ثلاثًا من الإبل، وما ذلك إلا ليقيه من العيلة. والإبل كانت أنفع أموالهم وأنفسها حينذاك، وقال للموظفين الذين يعملون في توزيع الصدقات على المستحقين: (كرروا عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل) (الأموال ص 565، 566).
وقال معلنًا عن سياسته تجاه الفقراء: "لأكررنَّ عليهم الصدقة وإن راح على أحدهم مائة من الإبل" (المصدر السابق).
وقال عطاء الفقيه التابعي الجليل: "إذا أعطى الرجل زكاة ماله أهل بيت من المسلمين فجبرهم، فهو أحب إلى" (نفس المصدر).
وتستطيع الدولة المسلمة -بناء على هذا الرأي- أن تنشئ من أموال الزكاة مصانع وعقارات ومؤسسات تجارية ونحوها وتملكها للفقراء، كلها أو بعضها. لتدر عليهم دخلاً يقوم بكفايتهم كاملة. ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها، لتظل شبه موقوفة عليهم.
المذهب الثاني - يعطى كفاية سنة:
هناك مذهب ثان قال به المالكية وجمهور الحنابلة وآخرون من الفقهاء: أن يعطى الفقير والمسكين من الزكاة ما تتم به كفايته وكفاية من يعوله سنة كاملة. ولم ير أصحاب هذا الرأي ضرورة لإعطائه كفاية العمر. كما لم يروا أن يعطى أقل من كفاية السنة.
وإنما حددت الكفاية بسنة، لأنها -في العادة- أوسط ما يطلبه الفرد من ضمان العيش له ولأهله، وفى هدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك أسوة حسنة، فقد صح أنه ادخر لأهله قوت سنة (متفق عليه).
ولأن أموال الزكاة في غالبها حولية، فلا داعي لإعطاء كفاية العمر، وفى كل عام تأتى حصيلة جديدة من موارد الزكاة، ينفق منها على المستحقين (استظهر بعض المالكية أن الزكاة إذا كانت لا تفرق كل عام إعطاء أكثر من كفاية السنة كما في حاشية الدسوقي: 1/464).
ويرى القائلون بهذا المذهب أن كفاية السنة ليس لها حد معلوم لا تتعداه من الدراهم أو الدنانير، بل يصرف للمستحق كفاية سنته بالغة ما بلغت.(2/26)
فإذا كانت كفاية السنة لا تتم إلا بإعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب من نقد، أو حرث أو ماشية أعطى من الزكاة ذلك القدر وإن صار به غنيًا، لأنه حين الدفع إليه كان فقيرًا مستحقًا (شرح الخرشي على متن خليل: 2/215 وفى حاشية الدسوقي: 1/494: يجوز أن يدفع من الزكاة للفقير في مرة واحدة كفاية سنة من نفقة وكسوة، وإن اتسع المال زيد العبد ومهر الزوجة).
الزواج من تمام الكفاية:
وأحب أن ألقى مزيدًا من الضوء على مفهوم "الكفاية" المطلوب تحقيقها وإتمامها للفقير والمسكين، كما يتصورها الفقه الإسلامي. فمن الرائع حقًا أن يلتفت علماء الإسلام إلى أن الطعام والشراب واللباس ليست هي حاجات الإنسان فحسب، بل في الإنسان دوافع أو غرائز أخرى تدعوه وتلح عليه، وتطالبه بحقها من الإشباع، ومن ذلك غريزة النوع أو الجنس، التي جعلها الله سوطًا يسوق الإنسان إلى تحقيق الإرادة الإلهية في عمارة الأرض، وبقاء هذا النوع الإنساني فيها إلى ما شاء الله. والإسلام لا يصادر هذه الغريزة، وإنما ينظمها، ويضع الحدود لسيرها وفق أمر الله.
وإذا كان الإسلام قد نهى عن التبتل والاختصاء وكل لون من ألوان مصادرة الغريزة، وأمر بالزواج كل قادر عليه مستطيع لمؤنته: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) (رواه البخاري في كتاب الصوم من صحيحه). فلا غرو أن يشرع معونة الراغبين في الزواج ممن عجزوا عن تكاليفه المادية من المهر ونحوه.
ولا عجب إذا قال العلماء: إن من تمام الكفاية ما يأخذه الفقير ليتزوج به إذا لم تكن له زوجة واحتاج للنكاح (حاشية الروض المربع: 1/400 وانظر هامش مطالب أولى النهى: 2/147).
بل قال بعضهم: إذا لم تكفه زوجة واحدة زوج اثنتين، لأنه من تمام كفايته (انظر: شرح كتاب النيل وشفاء العليل في فقه الإباضية: 2/135).(2/27)
وقد أمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز من ينادى في الناس كل يوم: أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ (البداية والنهاية لابن كثير: 9/200). -أي الذين يريدون الزواج- وذلك ليقضى حاجة كل طائفة منهم من بيت مال المسلمين.
والأصل في هذا ما رواه أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه رجل فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: (على كم تزوجتها)؟ قال: على أربع أواق (4×40=160درهمًا). فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (على أربع أواق؟ كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل !؟ ما عندنا ما نعطيك، ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب فيه) (نيل الأوطار: 6/316، والأواقي جمع أوقية وقد تساوى حينذاك 40 درهمًا وكانت الشاة تقدر من 5 دراهم إلى 10 فهذا القدر كثير على مثل هذا الرجل الذي جاء يطلب المعونة في مهره).
والحديث دليل على أن إعطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم في مثل هذه الحال كان معروفًا لهم، ولهذا قال له: (ما عندنا ما نعطيك). ومع هذا حاول علاج حاجته بوسيلة أخرى.
كتب العلم من الكفاية:
والإسلام دين يكرم العقل، ويدعو إلى العلم، ويرفع من مكانة العلماء، ويعد العلم مفتاح الإيمان، ودليل العمل، ولا يعتد بإيمان المقلد ولا بعبادة الجاهل. ويقول القرآن في صراحة: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (الزمر: 9).. ويقول في التفريق بين الجاهل والعالم وبين الجهل والعلم: (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور) (فاطر: 19 - 20).. ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) (رواه ابن عبد البر في "العلم" عن أنس ورمز له السيوطي بعلامة الصحة).
وليس العلم المطلوب محصورًا في علم الدين وحده بل كل علم نافع يحتاج إليه المسلمون في دنياهم، لصحة أبدانهم، وتنمية اقتصادهم وعمرانهم. وتمكينهم من التفوق العسكري على عدوهم، ونحو ذلك من الأغراض، فإنه فرض كفاية. كما قرر المحققون من العلماء.(2/28)
فلا عجب أن رأينا فقهاء الإسلام يقررون في أحكام الزكاة: أن يعطى منها المتفرغ للعلم، على حين يحرم منها المتفرغ للعبادة. ذلك أن العبادة في الإسلام لا تحتاج إلى تفرغ، كما يحتاج العلم والتخصص فيه. كما أن عبادة المتعبد لنفسه، أما علم المتعلم فله ولسائر الناس (المجموع: 6/190).
ولم يكتف الإسلام بذلك، بل قال فقهاؤه: يجوز للفقير الأخذ من الزكاة لشراء كتب يحتاجها من كتب العلم التي لابد منها لمصلحة دينه ودنياه (انظر الأنصاف في الفقه الحنبلي: 3/165، 218).
ورأينا فقهاء الحنفية يجيزون نقل الزكاة من بلد إلى آخر بلا كراهة -على خلاف القاعدة- إذا نقلت لطالب علم محتاج (انظر: الدر المختار وحاشيته: 2/94).
أي المذهبين أولى بالاتباع؟
وبعد عرض هذين المذهبين من مذاهب الفقه الإسلامي: مذهب من يرى إعطاء الفقير كفاية العمر كله مرة واحدة.. ومذهب من يرى إعطاءه كفاية سنة كاملة فحسب، فأي هذين المذهبين أحق أن يتبع، ولكل منهما وجهته ودليله؟ وخاصة إذا أردنا أن تقوم الحكومة المسلمة بأمر الزكاة؟.
والذي أختاره: أن لكل من المذهبين مجاله الذي يعمل به فيه.
ذلك أن الفقراء والمساكين نوعان:
نوع يستطيع أن يعمل ويكسب ويكفى نفسه بنفسه، كالصانع والتاجر والزارع، ولكن ينقصه أدوات الصنعة أو رأس مال التجارة، أو الضيعة وآلات الحرث والسقي، فالواجب لمثل هذا أن يعطى من الزكاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر، وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرة أخرى بشراء ما يلزمه لمزاولة حرفته وتمليكه إياه، استقلالاً أو اشتراكًا على قدر ما تسمح حصيلة الزكاة.(2/29)
والنوع الآخر عاجز عن الكسب كالزمن والأعمى والشيخ الهرم والأرملة، والطفل ونحوهم، فهؤلاء لا بأس أن يعطى الواحد منهم كفاية السنة. أي يعطى راتبًا دوريًا يتقاضاه كل عام، بل ينبغي أن يوزع على أشهر العام إن خيف من المستحق الإسراف وبعثرة المال في غير حاجة ماسة. وهذا هو المتبع في عصرنا، فالرواتب إنما تعطى للموظفين شهرًا بشهر، وكذلك المساعدات الدورية.
والعجيب أنني بعد أن اخترت هذا التقسيم، وجدته -تقريبًا- منصوصًا عليه في بعض كتب الحنابلة.
فقد قال في "غاية المنتهى" وشرحه -بعد أن ذكر قول الإمام أحمد في صاحب العقار والضيعة التي تغل عشرة آلاف أو أكثر ولا تكفيه: "إن له أن يأخذ من الزكاة ما يكفيه"- قال: "وعليه، فيعطى محترف ثمن آلة وإن كثرت، وتاجر يعطى رأس مال يكفيه. ويعطى غيرهما من فقير ومسكين تمام كفايتهما مع كفاية عائلتهما سنة، لتكرر الزكاة بتكرر الحول، فيعطى ما يكفيه إلى مثله" (مطالب أولى النهى: 2/136). وهو قريب مما اخترته، وإن لم يصرح بكفاية العمر، ولكنه مفهوم من إعطاء ثمن الآلة، ورأس المال.
مذاهب أخرى حددت ما يعطاه الفقير:
وأما الاتجاه الثاني، فإن أصحابه من الفقهاء قد أوجبوا حدًا معينًا فيما يعطاه الفقير والمسكين، ما بين مقل ومكثر.
فأبو حنيفة وأصحابه ذهبوا إلى أنه لا يجوز الزيادة على مائتي درهم (أي نصاب النقود) وإذا كان له من يعوله من زوجة وأولاد، جاز أن يأخذ لكل واحد منهم مقدار هذا النصاب.
وذهب بعض الفقهاء إلى ما هو أدنى من ذلك، فلم يجوزوا الزيادة على خمسين درهمًا. وقال بعضهم: لا يزيد على أربعين. ومنهم من قال: لا يزاد على قوت اليوم والليلة.
وعلى كل هؤلاء رد الفقيه الظاهري ابن حزم فقال: "يعطى من الزكاة الكثير جدًا، والقليل، لا حد في ذلك، إذ لم يوجب الحد في ذلك قرآن ولا سنة" (المحلى: 6/156).
رأي الغزالي فيما يعطاه الفقير:(2/30)
وتعرض لذلك الإمام الغزالي في "إحيائه" فرجح إعطاء كفاية السنة للفقير والمسكين، وأن هذا أقرب ما تحد به حاجتهما، مستدلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ادخر لعياله قوت سنة (رواه الشيخان).
قال: ومذاهب العلماء في قدر المأخوذ بحكم الزكاة والصدقة مختلفة:
"فمن مبالغ في التقليل إلى حد أوجب الاقتصار على قدر قوت يومه وليلته، وتمسكوا بما روى سهل بن الحنظلية أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن السؤال مع الغنى فسئل عن غناه فقال: غداؤه وعشاؤه (الحديث في سنن أبى داود وابن حبان).
"وقال آخرون: يأخذ إلى حد الغنى. وحد الغنى نصاب الزكاة، إذ لم يوجب الله تعالى الزكاة إلا على الأغنياء، فقالوا: له أن يأخذ لنفسه ولكل واحد من عياله نصاب زكاة.
"وقال آخرون: حد الغنى خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب، لما روى بن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وفى وجهه خموش). فسئل: وما غناه؟ قال: (خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب) وقيل: راويه ليس بالقوى (قال العراقي في هذا الحديث: رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وضعفه النسائي والخطابي).
"وقال قوم: أربعون، كما رواه عطاء بن يسار.
"وبالغ آخرون في التوسيع فقالوا: له أن يأخذ مقدار ما يشترى به ضيعة فيستغني به طول عمره، أو يهيئ بضاعة ليتجر بها ويستغني بها طول عمره، لأن هذا هو الغنى وقد قال عمر -رضى الله عنه-: (إذا أعطيتم فأغنوا).
"حتى ذهب قوم إلى أن من افتقر فله أن يأخذ بقدر ما يعود به إلى مثل حاله، ولو عشرة آلاف درهم، إلا إذا خرج عن حد الاعتدال.
"ولما شغل أبو طلحة ببستانه عن الصلاة قال: جعلته صدقة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (اجعله في قرابتك فهو خير لك).. فأعطاه حسانًا وأبا قتادة. فحائط -أي بستان- من نخل لرجلين كثير مغن. وأعطى عمر -رضى الله عنه- أعرابيًا ناقة معها ظئرها.(2/31)
"فهذا ما حكى فيه، فأما التقليل إلى قوت اليوم أو الأوقية، فذلك ورد في كراهية السؤال والتردد على الأبواب، وذلك مستنكر، وله حكم آخر. بل التجويز إلى أن يشترى ضيعة فيستغنى بها أقرب إلى الاحتمال. وهو أيضًا مائل إلى الإسراف، والأقرب إلى الاعتدال كفاية سنة فما وراءه فيه خطر، وفيما دونه تضييق" (إحياء علوم الدين للغزالي: 2/201- طبع محلى).
وهذا ما قاله الغزالي وهو يتحدث عن أدب الأخذ للزكاة، وما يجب عليه من التحري فيما يأخذه باسم الفقر والمسكنة. وكان المظنون في كتاب يرسم الطريق ويحدد آداب السلوك للورعين والمتصوفين -مثل الإحياء- أن يميل إلى التضييق في الأخذ من الزكاة، ولكن رأينا أبا حامد -رحمه الله- يذهب مذهب الاعتدال، بل يميل إلى التوسعة، ويرى أن مذهب القائلين بأن يعطى الفقير ما يشترى به ضيعة يستغني بها طول عمره، أقرب إلى الاحتمال من مذهب المضيقين. وما ذلك إلا للدلائل التي ذكرها عن عمر وعن أبى طلحة، وما صنعه بحائطه بإرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ترجيح أبى عبيد لمذهب التوسعة في الإعطاء:
أما أبو عبيد الفقيه الحجة في الشئون المالية في الإسلام، والمعدود من الأئمة المجتهدين، فقد أيد مذهب التوسعة في الإعطاء بغير حد ودون تحفظ.
وقد ذكر أبو عبيد قصة أبى طلحة وتصدقه بحائطه على أبى قتادة وحسان، ثم قال "الحائط هو المخرف (البستان) ذو النخيل والشجر والزروع، فكم يلي أن يكون أدنى قيمة مثل هذا؟.
"وقد أشفق أبو طلحة ألا يستطيع أن يخفيه من شهرته وقدره ثم لم يجعله إلا بين اثنين لا ثالث لهما.(2/32)
قال أبو عبيد: فهذه الصدقة وإن كان نافلة، فما سبيلها وسبيل الفرض إلا سواء، لأن الصدقة إذا كان يحرم كثيرها على الأخذ في الواجب الذي جعله حتمًا للفقراء في أموال الأغنياء، إنه عليهم في التطوع الذي لم يوجبه لهم عليهم لأضيق وأشد تحريمًا، ولئن كان لهم حلالاً وكان المعطى في النافلة محسنًا بارًا، إنه في أداء الفريضة لأكثر إحسانًا" (الأموال لأبى عبيد ص 561).
ثم ذكر أبو عبيد الآثار التي أثبتنا بعضها هنا -عن عمر وعطاء وغيرهما- ثم عقب عليها بقوله: فكل هذه الآثار دليل على أن ما يعطاه أهل الحاجة من الزكاة ليس له وقت (أي حد) محظور على المسلمين ألا يعدوه إلى غيره -وإن لم يكن المعطى غارمًا- بل فيه المحبة والفضل، إذا كان ذلك على جهة النظر من المعطى بلا محاباة، ولا إيثار هوى، كرجل رأى أهل بيت من صالح المسلمين أهل فقر ومسكنة وهو ذو مال كثير، ولا منزل لهؤلاء يؤويهم ويستر خلتهم، فاشترى من زكاة ماله مسكنًا يكنهم من كلب الشتاء، وحر الشمس، أو كانوا عراة لا كسوة لهم، فكساهم ما يستر عورتهم في صلاتهم ويقيهم من الحر والبرد، أو رأى مملوكًا عند مليك سوء قد اضطهده، وأساء ملكته، فاستنقذه من رقه، بأن يشتريه فيعتقه، أو مر به ابن سبيل بعيد الشقة، نائي الدار، قد انقطع به، فحمله إلى وطنه وأهله بكراء أو شراء. هذه الخلال وما أشبهها، التي لا تنال إلا بالأموال الكثيرة، ولم تسمح نفس الفاعل أن يجعلها نافلة، فيجعلها من زكاة ماله، أما يكون هذا مؤديًا للفرض؟! بلى، ثم يكون إن شاء الله محسنًا" (الأموال لأبى عبيد ص 567).
مستوى لائق للمعيشة:
ومن هنا يتبين لنا أن الهدف من الزكاة ليس إعطاء الفقير درهمًا أو درهمين، وإنما الهدف تحقيق مستوى لائق للمعيشة، لائق به بوصفه إنسانًا كرمه الله واستخلفه في الأرض.. ولائق به بوصفه مسلمًا ينتسب إلى دين العدل والإحسان، وينتمي إلى خير أمة أخرجت للناس.(2/33)
وأدنى ما يتحقق به هذا المستوى أن يتهيأ له ولعائلته طعام وشراب ملائم، وكسوة للشتاء وللصيف، ومسكن يليق بحاله. وهذا ما ذكره ابن حزم في "المحلى" كما سيأتي مفصلاً في الباب الثامن، وذكره النووي في "المجموع" وفى "الروضة" وذكره كثيرون من العلماء.
قال النووي في تحديد الكفاية التي تعمل الزكاة على تحقيقها، بل إتمامها، لذوى الحاجة: "قال أصحابنا: المعتبر.. المطعم والملبس والمسكن، وسائر ما لا بد له منه، على ما يليق بحاله، بغير إسراف ولا إقتار، لنفس الشخص ولمن هو في نفقته" (المجموع: 6/191 وانظر الروضة: 2/311).
ومما لابد للمرء منه في عصرنا: أن يتعلم أولاده من أحكام دينهم، وثقافة عصرهم، ما يزيل عنهم ظلمات الجهل وييسر لهم سبيل الحياة الكريمة، ويعينهم على أداء واجباتهم الدينية والدنيوية.
وقد مر بنا في بحث الحاجات الأصلية للفرد المسلم أن منها: دفع الجهل عنه؛ فإنه موت أدبي، وهلاك معنوي.
ومما لابد للمرء منه في عصرنا أن ييسر له سبيل العلاج إذا مرض هو أو أحد أفراد عائلته، ولا يترك للمرض يفترسه ويفتك به، فهذا قتل للنفس وإلقاء باليد إلى التهلكة. وفى الحديث: (تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء) (رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان في صحيحه والحاكم، وإسناده صحيح، كما قال المناوي في التيسير).
وقال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (البقرة: 195)، (ولا تقتلوا أنفسكم، إن الله كان بكم رحيمًا) (النساء: 29).
وفى الصحيح: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) وإذا ترك المسلم أخاه أو ترك المجتمع المسلم فردًا منه، فريسة للمرض دون أن يعالجه، فقد أسلمه وخذله بلا شك.
والذي ينبغي الالتفات إليه أن مستوى المعيشة للشخص لا يمكن تحديده تحديدًا جامدًا صارمًا، لأنه يختلف باختلاف العصور والبيئات، وباختلاف ثروة كل أمة ومقدار دخلها القومي.(2/34)
ورب شيء يكون كماليًا في عصر، أو بيئة، يصبح حاجيًا، أو ضروريًا في عصر آخر، أو بيئة أخرى.
معونة دائمة منتظمة:
إذا عرفنا هدف الإسلام من الزكاة -بالنظر للفقير والمسكين الذي لا يحسن حرفة ولا يقدر على عمل- وهو كفالة مستوى معيشي ملائم له ولعائلته، وأنه يعطى تمام كفايته لمدة سنة كاملة، لا لشهر أو شهرين.. فلنضف إلى ذلك أن الزكاة بالنسبة لهذا الصنف من المستحقين معونة دائمة منتظمة، حتى يزول الفقر بالغنى، ويزول العجز بالقدرة، أو تزول البطالة بالكسب، وهكذا.. ولنتأمل في هذه القصة الواقعية التي حكاها لنا أبو عبيد بسنده. قال:
(بينا عمر نصف النهار قائل في ظل شجرة، وإذا أعرابية، فتوسمت الناس، فجاءته فقالت: إني امرأة مسكينة، ولى بنون. وإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان بعث محمد بن مسلمة ساعيًا -تعنى جابيًا وموزعًا للصدقة- فلم يعطنا. فلعلك -يرحمك الله- أن تشفع لنا إليه !!.
قال: فصاح بيرفأ (خادمه) أن ادع لي محمد بن مسلمة.
فقالت: إنه أنجح لحاجتي أن تقوم معي إليه.
فقال: إنه سيفعل إن شاء الله.(2/35)
فجاءه يرفأ فقال: أجب.. فجاء فقال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين.. فاستحيت المرأة. فقال عمر: والله ما آلو أن أختار خياركم. كيف أنت قائل إذا سألك الله -عز وجل- عن هذه؟! فدمعت عينا محمد.. ثم قال عمر: إن الله بعث إلينا نبيه -صلى الله عليه وسلم- فصدقناه واتبعناه. فعمل بما أمره الله به، فجعل الصدقة لأهلها من المساكين حتى قبضه الله على ذلك. ثم استخلف الله أبا بكر فعمل بسنته حتى قبضه الله. ثم استخلفني فلم آل أن أختار خياركم، إن بعثتك فأد إليها صدقة العام، وعام أول.. وما أدرى لعلى لا أبعثك. ثم دعا لها بجمل فأعطاها دقيقًا وزيتًا، وقال: خذي هذا حتى تلحقينا بخيبر، فإنا نريدها، فأتته بخيبر، فدعا لها بجملين آخرين وقال: خذي هذا فإن فيه بلاغًا حتى يأتيكم محمد بن مسلمة، فقد أمرته أن يعطيك حقك للعام وعام أول) (الأموال ص 599).
علام تدل هذه القصة بأحداثها وحوارها؟.
إنها تدل على مبادئ ومعان كثيرة وسامية حقًا.
تدل على مدى شعور الحاكم المسلم بمسئوليته عن كل فرد يعيش في ظل حكم الإسلام.
وتدل على مدى شعور الأفراد أنفسهم بحقهم في عيشة لائقة، تهيئها لهم الدولة المسلمة.
وتدل على أن الزكاة كانت الدعامة الأولى لبناء التكافل المعيشي في المجتمع المسلم.
وتدل على أنها كانت معونة منتظمة مستمرة، إذا لم تصل لصاحبها، فإن من حقه أن يتظلم ويشكو.
وتدل على أن السياسة العمرية الراشدة هي إعطاء ما يكفى ويغنى، فقد أعطى المرأة أولاً جملاً محملاً بالدقيق والزيت، ثم ألحقه بجملين آخرين، وجعل هذا كله عطاء مؤقتًا حتى يعطيها محمد بن مسلمة حقها عن العامين: الماضي والحاضر.
وتدل -بعد ذلك كله- على أن عمر -رضى الله عنه- لم يكن في ذلك مبتدعًا، بل كان متبعًا لسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولخليفته أبى بكر رضى الله عنه.
الفصل الثاني
العاملون عليها
أو الجهاز الإداري والمالي للزكاة
فهرس
تشديد الرسول في الحرص على أموال الزكاة(2/36)
الهدايا للموظفين رشوة
توجيهات نبوية للجباة "الرفق بالممولين"
الدعاء لأصحاب الأموال
هل يقاس المشتغلون بمصلحة المسلمين على العاملين في الزكاة؟
تمهيد
واجب الحكومة إرسال الجباة
مهمة العاملين على الزكاة
إدارتان للزكاة
إدارة تحصيل الزكاة واختصاصاتها
إدارة توزيع الزكاة واختصاصاتها
التأكد من أهلية الاستحقاق
شروط العاملين في الزكاة
كم يعطى العامل؟
المصرف الثالث من مصارف الزكاة -بعد الفقراء والمساكين- هم "العاملون عليها" ويقصد بهم كل الذين يعملون في الجهاز الإداري لشئون الزكاة، من جباة يحصلونها ومن خزنة وحراس يحفظونها، ومن كتبة وحاسبين يضبطون واردها ومصروفها، ومن موزعين يفرقونها على أهلها... كل هؤلاء جعل الله أجورهم في مال الزكاة، لئلا يؤخذ من أرباب الأموال سواها، وللتنبيه على أن تكون للزكاة حصيلة قائمة بذاتها، ينفق منها على القائمين بأمرها.
واهتمام القرآن بهذا الصنف ونصه عليه، وجعله ضمن الأصناف الثمانية المستحقين وجعل ترتيبه بعد الفقراء والمساكين وهم أول المصارف وأولاها بالزكاة... هذا كله دليل على أن الزكاة في الإسلام ليست وظيفة موكولة إلى الفرد وحده، وإنما هي وظيفة من وظائف الدولة، تشرف عليها وتدبر أمرها، وتعين لها من يعمل عليها من جاب وخازن وكاتب وحاسب.. إلخ، وأن لها حصيلة أو ميزانية خاصة يعطى منها رواتب الذين يعملون فيها (انظر فصل "علاقة الدولة بالزكاة" من الباب القادم).
واجب الحكومة إرسال الجباة(2/37)
ومن هنا نص الفقهاء: أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الزكاة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة، وهذا أمر مشهور مستفيض. ومن ذلك حديث أبى هريرة في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (بعث عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- على الصدقة). وفيهما عن سهل بن سعد: أنه -عليه الصلاة والسلام- "استعمل ابن اللتبية على الصدقات" والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يعرف ويبخل فوجب أن يبعث من يأخذ (المجموع للنووي: 6/167).
ويبعث الإمام أو نائبه عمال الزكاة للزروع والثمار -وهى ما لا يتعلق بالحول- وقت وجوبها، وهو إدراكها، بحيث يصلهم وقت الجذاذ والحصاد. وأما المواشي وغيرها من الأموال التي يعتبر فيها الحول، فينبغي للساعي أن يعين شهرًا يأتيهم فيه، ويستحب أن يكون ذلك الشهر هو المحرم، صيفًا كان أو شتاء، لأنه أول السنة الشرعية (المصدر نفسه ص 170).
مهمة العاملين على الزكاة:
وهؤلاء العاملون عليها لهم وظائف شتى، وأعمال متشعبة، كلها متصل بتنظيم أمر الزكاة، بإحصاء من تجب عليه وفيم تجب، ومقدار ما يجب، ومعرفة من تجب له، وكم عددهم، ومبلغ حاجتهم، وقدر كفايتهم... إلى غير ذلك من الشئون التي تحتاج إلى جهاز كامل من الخبراء وأهل الاختصاص ومن يعاونهم.
إدارتان للزكاة
ويمكن تقسيم هذا الجهاز في عصرنا الحاضر إلى إدارتين رئيسيتين، تتبع كل إدارة منهما فروع وأقسام:
الأولى: إدارة تحصيل الزكاة.
الثانية: إدارة توزيع الزكاة.
1- إدارة تحصيل الزكاة واختصاصاتها:(2/38)
أما عمل القائمين على التحصيل فهو عمل "ضرائبي" ومهمتهم تشبه ما يسمى عندنا "مأمور الضرائب". فمن وظيفتهم إحصاء الممولين (من تجب عليهم الزكاة) وأنواع أموالهم، ومقادير ما يجب عليهم فيها، ورصد ذلك، وجمعه من أهله، والقيام على حفظه بعد جمعه، حتى تتسلمه إدارة صرف الزكاة وتوزيعها. والمفروض أن يكون لها فروع في مختلف المراكز والمناطق.
بيد أن اختصاص هذه الإدارة أوسع مجالاً من إدارات الضرائب الحديثة فيما أعلم. فإدارات الضرائب -كما شهدناها- تعمل في مجال النقود وحدها -من ذهب وفضة- أما إدارة جمع الزكاة فتشمل أنواعًا أخرى من الأموال مثل: الحبوب والثمار والماشية والمعدن (ويمكن أخذ القيمة في هذا كله، كما هو مذهب أبى حنيفة ومن وافقه.. كما سنفصل ذلك في الباب القادم).
ويمكن أن ينشأ لكل نوع من هذه الأموال قسم يختص به ويقوم بكافة شئونه:
( أ ) قسم للركاز والمعادن وهو ما يجب فيه الخمس 20%.
(ب) وقسم للحبوب والثمار وهو ما يجب فيه العشر أو نصفه 10% أو 5%.
(جـ) وقسم للماشية من إبل وبقر وغنم ولها حساب خاص بها.
(د) وقسم للنقود وأموال التجارة وهو ما يجب فيه ربع العشر 2.5%.
2- إدارة توزيع الزكاة واختصاصاتها:
وعمل هذه الإدارة أقرب ما يكون إلى هيئات "الضمان الاجتماعي" في عصرنا، وعليها اختيار أفضل الطرق لمعرفة المستحقين للزكاة، وحصرهم والتأكد من استحقاقهم، ومقدار حاجتهم، ومبلغ ما يكفيهم، ووضع الأسس السليمة لذلك، وفقًا للعدد والظروف الاجتماعية.
قال الإمام النووي: ينبغي للإمام والساعي وكل من يفوض إليه أمر تفريق الصدقات، أن يعتني بضبط المستحقين، ومعرفة أعدادهم، وأقدار حاجاتهم بحيث يقع الفراغ من جمع الصدقات بعد معرفتهم أو معها، ليتعجل حقوقهم وليأمن هلاك المال عنده (انظر الروضة: 2/337).(2/39)
وهذا دليل على اهتمام علمائنا -رحمهم الله- بتنظيم صرف الزكاة، والعناية القصوى بمستحقيها. حتى يصل إليهم حقهم في أقرب وقت، بدون أن يطالبوا هم به.
ويجب أن يكون لهذه الإدارة فروع أيضًا في كل منطقة. ويمكن أن تنقسم هذه الإدارة إلى عدة أقسام:
( أ ) قسم للفقراء بسبب العجز عن العمل، ويشمل الشيوخ الهرمين والأرامل واليتامى والمصابين في أثناء العمل، والعجزة من المرضى والزمني والمكفوفين وذوى العاهات وذوى الضعف العقلي من المجانين البلهاء ونحوهم، على شرط أن يتحقق لديهم عدم غناهم بمال موروث أو غيره من الموارد.
(ب) وقسم لذوى الدخل القاصر عن كفايتهم وهم الذين يكتسبون، ولكن كسبهم لا يكفيهم، لقلة الأجر، أو كثرة العيال أو ارتفاع الأسعار، أو غير ذلك من الأسباب. وهم الذين يسميهم بعض الفقهاء "المساكين".
(جـ) وقسم الغارمين، ويشمل أصحاب الكوارث، ومن استدانوا لأنفسهم في غير محرم. كما يشمل: الغارمين لإصلاح ذات البين، وما يقاس عليه من ألوان البر والخدمة الاجتماعية.
( د ) وقسم لإعانة المهاجرين والمشردين واللاجئين السياسيين الذين فروا من ديار الكفر أو الطغيان، وأيضًا الطلاب المبعوثين إلى بلاد أخرى في خدمة الإسلام وهو مصرف "ابن السبيل" كما سيأتي.
(هـ) وقسم لهيئات نشر الإسلام في بلاد الكفر، والدعوة إليه وإبلاغ رسالته إلى العالم، واستعادة حكمه في أرضه، وتحرير بلاد الإسلام من سلطان الكفار، وأحكام الكفر، وهو مصرف "في سبيل الله" كما سنفصل ذلك في موضعه.
وتحديد ما ينفق على كل قسم من هذه الأقسام ونصيبه من ميزانية الزكاة يخضع لاجتهاد أولى الأمر، وتقدير أهل الشورى، وفقًا لدراسة إحصائية شاملة، وتبعًا لما تمليه مصلحة الإقليم الذي تجمع منه الزكاة، مع رعاية مصلحة الإسلام باعتباره دعوة عالمية، ومصلحة المسلمين بوصفهم أمة متميزة بين أمم الأرض. وسنفصل ذلك في الفصل الثامن.
التأكد من أهلية الاستحقاق:(2/40)
وعلى كل قسم من هذه الأقسام أن يعمل على التأكد من استحقاق الشخص لما يصرف إليه من مال الزكاة. وهناك قواعد وتوجيهات في هذا الشأن نبه عليها فقهاؤها مستنبطين لها من الأحاديث النبوية. وٍسأذكر هنا بعض ما قالوه بالنظر لاستحقاق الأصناف وبعضه قد تقدم:
( أ ) يشترط في استحقاق سهم الفقراء والمساكين: أن لا يكون له مال أو كسب يقوم بتمام كفايته وكفاية من يعوله. ولا يشترط العجز عن أصل الكسب، فالكسوب الذي لا يجد عملاً تحل له الزكاة، لأنه في حكم العاجز. والذي يكسب ما لا يكفيه يحل له أخذ تمام كفايته.
(ب) المعتبر كسب يليق بحاله ومروءته وأما ما لا يليق به فهو كالمعدوم. والعالم أو الأديب أو غيرهما ممن لم تجر عادته بالتكسب بالبدن، يحل له الأخذ من سهم الفقراء والمساكين حتى يجد عملاً مناسبًا.
(جـ) من قدر على الكسب ولكنه يطلب العلم، بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة. والصحيح أن هذا فيمن يتأتى منه التحصيل، ويرجى نفع المسلمين بعلمه. وأما من لا يتأتى منه وكان قادرًا على الكسب، فلا يحل له الأخذ وإن كان مقيمًا بالمدرسة.
( د ) وإذا كان له عقار ينقص دخله عن كفايته فهو فقير أو مسكين، فيعطى من الزكاة تمام كفايته ولا يكلف بيعه، وكذلك المشتغل بالعلم لا يكلف بيع كتبه، لأنه محتاج إليها، بخلاف غيره.
(هـ) إذا عرف لرجل مال، وادعى أنه افتقر لم يقبل منه إلا ببينة؛ لأنه ثبت غناه فلا تقبل دعوى الفقر إلا ببينة، كما لو وجب عليه دين آدمي وعرف له مال فادعى الاعسار.
( و ) أما إذا لم يعرف له مال وادعى الفقر أو المسكنة، فيقبل قوله بلا خلاف، لأن الفقر أمر خفي تعسر إقامة البينة عليه.
( ز ) إذا ادعى أنه لا كسب له، فإن كان ظاهره عدم الكسب كشيخ هرم أو شاب ضعيف البنية أو نحوها، قبل قوله بغير يمين بلا خلاف، لأن الأصل والظاهر عدم الكسب.(2/41)
ومن كان شابًا جلدًا قويًا لم يكلف البينة، بل يقبل قوله. ولكن هل يطلب منه اليمين؟.
قولان، عند الشافعية: أصحهما: لا يطلب منه يمين، لما روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي أن رجلين سألا النبي -صلى الله عليه وسلم- الصدقة، فرفع فيهما البصر وخفضه فرآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب".
وينبغي لمن يوزع الزكاة أن يذكر الجلد القوى بما ذكر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجلين، تعليمًا لمن جهل، وتنبيهًا لمن غفل.
( ح ) لو ادعى الفقير أو المسكين أن له عيالاً وطلب أن يعطى كفايته وكفايتهم، لم يقبل قوله في العيال إلا ببينة، لأن الأصل عدم العيال، وإقامة البينة على ذلك متيسرة.
( ط ) إذا ادعى أنه غارم لم يقبل قوله إلا ببينة.
( ي ) البينة في هذه الصور لا يعتبر فيها سماع القاضي وتقدم الدعوى والإنكار والاستشهاد، بل المراد إخبار عدلين بتصديق الشخص فيما يدعيه. واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة، لحصول العلم به، أو غلبة الظن حتى قال بعضهم: لو أخبر عن الحال واحد يعتمد كفى (نقلنا هذه الأحكام من "المجموع" للنووي: 6/189 وما بعدها).(2/42)
وقد جاء في بعض الأحاديث فيمن يحل له المسألة: "رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: قد أصابت فلانًا فاقة" قال الخطابي: ذلك إنما هو فيمن كان له ملك ثابت وعرف له يسار ظاهر، فادعى تلف ماله، من لص طرقه، أو خيانة ممن أودعه، أو نحو ذلك من الأمور التي لا يبين لها أثر ظاهر في المشاهدة والعيان. فإذا كان ذلك ووقعت في أمره الريبة في النفوس لم يعط شيئًا من الصدقة إلا بعد استبراء حاله، والكشف عنه بالمسألة من أهل الاختصاص به والمعرفة بشأنه. وذلك معنى قوله: "حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه.." إلخ، واشتراطه "الحجا" تأكيدًا لهذا المعنى، أي لا يكونوا من أهل الغباوة والغفلة، ممن يخفى عليهم بواطن الأمور ومعانيها. وليس هذا من باب الشهادة ولكن من باب التبين والتعرف.. فإذا قال نفر من قومه أو جيرانه أو من ذوى الخبرة بشأنه: إنه صادق فيما يدعيه أعطى من الصدقة (معالم السنن للخطابي: 2/238).
شروط العاملين في الزكاة
يشترط في العامل على الزكاة أمور:
1- أن يكون مسلمًا:
لأنها ولاية على المسلمين فيشترط فيها الإسلام كسائر الولايات، ويستثنى من ذلك الأعمال التي لا تتعلق بالجباية والتوزيع كالحارس والسائق. وعن أحمد رواية جوز فيها أن يكون العامل غير مسلم لعموم لفظ: "العاملين عليها" فيدخل فيه الكافر والمسلم، ولأن ما يأخذه على العمالة أجرة عمله، فلا مانع من أخذه كسائر الإجارات (المغنى: 2/654). وهو تسامح كريم. ولكن الأولى ألا يستعمل على هذه الفريضة الإسلامية إلا مسلم.(2/43)
قال ابن قدامة: لأنه عمل يشترط له الأمانة، فاشترط له الإسلام كالشهادة. ولأنه ولاية على المسلمين، فلم يجز أن يتولاها الكافر كسائر الولايات، ولأن من ليس من أهل الزكاة لا يجوز أن يتولى العمالة كالحربي. ولأن الكافر ليس بأمين، ولهذا قال عمر: (لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى). وقد أنكر عمر على أبى موسى توليته الكتابة نصرانيًا، فالزكاة التي هي ركن الإسلام أولى (المغنى: 6/460 مطبعة الإمام). أ هـ.
2- أن يكون مكلفًا.. أي بالغًا عاقلا.
3- أمينًا:
لأنه مؤتمن على أموال المسلمين، فلا يجوز أن يكون فاسقًا خائنًا، فمثله لا يؤمن حيفه على أصحاب الأموال، أو تهاونه في حقوق الفقراء تبعًا للهوى، أو خضوعًا للمنفعة.
4- العلم بأحكام الزكاة:
واشترطوا أيضًا أن يكون عالمًا بأحكام الزكاة، إن كان ممن يفوض إليه عموم الأمر؛ لأنه إذا كان جاهلاً بذلك، لم تكن له كفاية لعمله وكان خطؤه أكثر من صوابه (انظر المجموع للنووي: 6/167 وشرح غاية المنتهى: 2/137).
لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ، ويحتاج إلى الاجتهاد الجزئي فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها.
وأما إذا كان عمله جزئيًا محددًا بدائرة معينة مهمته أن ينفذها فلا يشترط علمه إلا بما كلف به.
5- الكفاية للعمل:
أن يكون كافيًا لعمله، أهلاً للقيام به، قادرًا على أعبائه.
فإن الأمانة وحدها لا تكفى ما لم يصحبها القوة على العمل والكفاية فيه: (إن خير من استأجرت القوى الأمين) (القصص: 26). ولذا قال يوسف -عليه السلام- للملك: (اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم) (يوسف: 55). فالحفظ يعنى الأمانة، والعلم يعنى الكفاية والخبرة. وهما أساس كل عمل ناجح.
6- هل يجوز تولية ذوى القربى؟.(2/44)
واشترط الأكثرون ألا يكون من ذوى القربى للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهم بنو هاشم، لأن الفضل بن العباس، والمطلب بن ربيعة سألا النبي -صلى الله عليه وسلم- العمالة على الصدقات. قال أحدهما: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ونؤدي إليك ما يؤدى الناس. فقال: (إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) (رواه أحمد ومسلم)، وفى لفظ لهما: ( لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) (انظر نيل الأوطار: 4/175- طبع الحلبي).
والحديث تنفير لآله -عليه الصلاة والسلام- من التطلع إلى أموال الصدقات للانتفاع منها، لقولهما: "نصيب منها ما يصيب الناس من المنفعة" والكلام من باب التشبيه فإنها لما كانت تطهرة لأموال الناس ونفوسهم - كما قال تعالى: (تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103). سميت أوساخًا.
إن مال الزكاة مال عام، فأي إصابة منه بغير حق، تعتبر إثمًا عظيمًا في شريعة الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يضرب مثلاً بأقاربه في التنزه عن هذا المال، حتى يحذر الناس من التخوض فيه، والطمع في التزيد منه.
وقد جوز الناصر من أهل البيت توظيف بنى هاشم في العمالة وإعطائهم من الزكاة وهو قول للشافعي وأحمد. قال القاضي أبو يعلى في الولاية على الصدقات: ويجوز أن يتقلدها من تحرم عليه الصدقات من ذوى القربى والعبيد ويكون رزقه منها، لأن ما يأخذه أجرة لا زكاة، ولهذا يتقدر بقدر عمله. وقد قال الخرقي "ولا تدفع الصدقة لبنى هاشم ولا لكافر ولا لعبد، إلا أن يكونوا من العاملين عليها، فيعطون بحق ما عملوا" (الأحكام السلطانية للقاضي أبى يعلى ص 99 وانظر المجموع للنووي: 6/168).
وكأنهم جعلوا الحديث للتنفير والتنزيه عن التطلع لمثل هذا العمل لا للتحريم.(2/45)
ومن رأى الحديث المذكور يدل على التحريم، فذلك في شأن أخذ أجر العمالة من الزكاة بالنسبة لذوى القربى، أما أن يكونوا عمالاً عليها، ويأخذوا أجرهم من غيرها فهو جائز بالإجماع. وقد وظف على -رضى الله عنه- عاملاً على الزكاة من بنى العباس (نيل الأوطار: 4/175).
7- هل تشترط الذكورة؟.
واشترط بعضهم أن يكون العامل ذكرًا، ولم يجوزوا اشتغال المرأة بالعمالة، لأنها ولاية على الصدقات، ولا دليل على ذلك إلا أن يحتجوا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) (رواه البخاري في كتاب "الفتن والمغازي" من صحيحه من حديث الحسن البصري عن أبى بكرة).
ولكن هذا إنما يكون في الولاية العامة التي تكون فيها المرأة صاحبة الأمر والنهى. أما الوظائف -ومنها العمالة على الزكاة- فلا تدخل في دائرة هذا الحديث الشريف.
ومنهم من استدل بأنه لم ينقل أن امرأة وليت عمالة زكاة البتة، وتركهم ذلك قديمًا وحديثًا يدل على عدم جوازه.
وهذا ليس بدليل، فقد كانت ظروف المرأة الاقتصادية والاجتماعية في تلك العهود لا تؤهلها لمثل هذا العمل. وترك الناس عملاً ما لا يدل على حرمته.(2/46)
وبعضهم قال: إن ظاهر قوله تعالى: (والعاملين عليها) (التوبة: 60). لا يشملها، لأن "العاملين" جمع للذكور (انظر: شرح غاية المنتهى: 2/137). ولو صح ذلك لامتنع إدخال المرأة في الفقراء والغارمين وابن السبيل؛ لأنها جميعًا للذكور. وهذا خلاف للإجماع، لأن المرأة تبع للرجل في ذلك كله، وإن كان الخطاب أو الصيغة للمذكر. والحق أنه ليس في المسألة دليل خاص يمنع المرأة من الاشتغال بالعمالة على الزكاة. ولكن القواعد العامة التي توجب على المرأة الاحتشام والبعد عن مزاحمة الرجال والاختلاط بهم لغير حاجة، يجعل الرجل أولى بهذا العمل من المرأة. إلا في نطاق محدود، كأن تستخدم المرأة لإيصال الزكاة إلى الأرامل والعاجزات من النساء ونحو ذلك، مما تكون المرأة فيه أقدر وأنفع من الرجل، أو على الأقل مثله في الكفاية له، وهو أمر يقدر بقدره، ولا يضيق به الشرع الرحيب.
8- واشترط بعضهم أن يكون حرًا لا عبدًا، ورد ذلك غيرهم بما رواه أحمد والبخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (... واسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).
ولأنه يحصل منه المقصود فأشبه الحر (المصدر السابق ص 138).
كم يعطى العامل؟
العامل موظف، فالواجب أن يعطى ما يكافئ وظيفته من أجر، دون وكس ولا شطط. وقد روى عن الشافعي: أن العاملين عليها يعطون من الزكاة في حدود الثمن، وهو مبنى على رأيه في التسوية بين الأصناف الثمانية، فإن كان أجرهم أكثر من الثمن أعطوا من غير الزكاة.(2/47)
ويرى الجمهور أنهم يعطون من الزكاة -كما نص القرآن- كل ما يستحقونه، وإن كان أكثر من الثمن، وهو رواية عن الشافعي. على أن رأى الشافعي هنا رأى وجيه، لما فيه من رعاية مصلحة الفقراء والمستحقين، وهو يتفق مع الاتجاه الحديث في الضرائب، الذي ينادى بوجوب الاقتصاد في نفقات الجباية. ويعطى العامل ولو كان غنيًا، لأنه إنما يأخذ أجرًا على عمل أداه، لا معونة لحاجة أصابته. وقد روى أبو داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا تحل الصدقة لغنى، إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهداها المسكين للغنى) (قال النووي في المجموع: هذا الحديث حسن أو صحيح رواه أبو داود من طريقين أحدهما عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والثاني عن عطاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً وإسناده جيد في الطريقين. وقال المنذري (في مختصر السنن: 2/235) وأخرجه ابن ماجه مسندًا. وقال أبو عمر النحوي: وقد وصل هذا الحديث جماعة من رواية زيد بن أسلم).
تشديد الرسول في الحرص على أموال الزكاة
إذا كان العامل على الزكاة موظفًا أمينًا من قبل الدولة، فعليه أن يجمعها من حيث أمر، ويضعها حيث أمر، ولا يجوز له أن يستغل شيئًا من مال الزكاة لنفسه، أو يكتم مما جمعه قليلاً أو كثيرًا. فهذا مال عام لا يجوز الطمع فيه والأخذ منه بغير حق. وقد جاءت في ذلك أحاديث تطير القلوب من هول وعيدها، وتنذر كل طامع فيما ليس من حقه بالعذاب الشديد.(2/48)
عن عدى بن عميرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا (إبرة خيط) فما فوقه كان غلولاً (خيانة) يأتي به يوم القيامة) (إشارة إلى قوله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) (آل عمران: 161). فقام إليه رجل أسود من الأنصار، كأني أنظر إليه فقال: يا رسول الله، اقبل عنى عملك. قال: (ومالك)؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: (وأنا أقول الآن: من استعملناه منكم على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتى منه أخذ، وما نهى عنه انتهى). (رواه مسلم وأبو داود وغيرهما).
وعن أبى رافع أنه كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم- مارًا بالبقيع (وفيه المقابر) فقال: أفًا لك، أفًا لك. قال أبو رافع: فكبر ذلك في ذرعي، فاستأخرت، وظننت أنه يريدني. قال: مالك؟ امش. فقلت: أأحدثت حدثًا؟ قال: وما لك؟ قلت: أففت بي (قلت: أفًا لك) قال: لا. ولكن هذا فلان بعثته ساعيًا على بنى فلان، فغل نمرة (كساء من صوف مخطط) فدرع على مثلها من النار). (رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه).
وعن عبادة بن الصامت: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثه على الصدقة فقال: (يا أبا الوليد، اتق الله.. لا تأتى يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء) (الرغاء: صوت البعير، والخوار: صوت البقر. والثغاء: صوت الغنم)، قال: يا رسول الله، إن ذلك لكذلك؟ قال: "إي والذي نفسي بيده". قال: فو الذي بعثك بالحق لا أعمل لك على شيء أبدًا. (رواه الطبراني في الكبير وإسناده صحيح).
وإنما أعلن ذلك عبادة -وهو من هو في المسلمين- طلبًا لسلامة دينه، وبعدًا عن مظنة الخطر، وخشية من شرر الوعيد أن يتطاير إليه وهو لا يشعر.
الهدايا للموظفين رشوة(2/49)
كما لا يجوز للموظف العامل على الزكاة أن يكتم منها شيئًا -ولو كان إبرة خيط تافهة- فلا يجوز له أن يقبل لنفسه من أرباب الأموال عطاء يعطونه إياه، فإنه رشوة، ولو أخذه باسم "الهدية"، إنه يأخذ أجرته وكفايته من الدولة، فلا يحل له أن يزيد عليها شيئًا من دافعي الزكاة، فإنه أكل لأموال الناس بالباطل، وهو ذريعة إلى التهاون مع الأغنياء على حساب الفقراء والمستحقين. وأقل ما فيه أن يعرض الأخذ للتهمة. ومن وضع نفسه مواضع التهم فلا يلومن من أساء به الظن.
عن أبى حميد الساعدي قال: استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد يقال له "ابن اللتيبة" على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم. وهذا أهدى إلى. قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: (أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله. فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت للنووي. أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة. فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر (تصيح) ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، يقول: اللهم هل بلغت)؟ (رواه البخاري ومسلم وأبو داود) (الترغيب والترهيب للمنذري: 1/277- طبع المنيرية).
توجيهات نبوية للجباة "الرفق بالممولين"
كان -صلى الله عليه وسلم- يوصى الجباة والمصدقين بالرفق والاعتدال، وكان يختارهم من خيرة أصحابه، وفى زكاة الزروع والثمار كان يبعث من أصحابه من يخرص الثمار على أهلها. ومعنى خرصها: تقديرها تقديرًا تقريبيًا. وفائدة الخرص -كما قال ابن عبد البر- أمن الخيانة من رب المال -ولذلك يجب عليه البينة في دعوى النقص بعد الخرص- وضبط حق الفقراء ومطالبة المصدق بقدر ما خرصه ... إلخ.(2/50)
وقد ذكرنا في خرص الثمار: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولى على خرص الثمار عمالاً وقال لهم: (خففوا الخرص فإن في المال الوصية والعرية والواطئة والنائبة).
فالوصية: ما يوصى بها أربابها بعد الوفاة. والعرية: ما يعرى للصلات في الحياة. والواطئة: ما تأكله السابلة منه.. سموا واطئة لوطئهم الأرض. والنائبة: ما ينوب الثمار من الجوائح. وهذا تنبيه بصير من النبي -صلى الله عليه وسلم- للجباة أن يراعوا جانب الرفق بالممولين، وأن يذكروا أن في المال مطالب أخر لا يسع الإنسان أن يغفلها، مطالب يفرضها الإنسان على نفسه كالوصية، والعرية. أو تفرضها عليه طبيعة الحياة كالواطئة والنائبة.
الدعاء لأصحاب الأموال:
ومن الجوانب الروحية التي تميزت بها فريضة الزكاة عن الضرائب والمكوس الأخرى: أن الممول يدفعها عن طيب نفس سائلا الله أن يتقبلها منه، وأن الجابي الذي يأخذها منه مأمور أن يدعو له بنص كتاب الله الذي يقول: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم) (التوبة: 103).
عن عبد الله بن أبى أوفى: أن أباه جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة ماله فقال: (اللهم صل على آل أبى أوفى) (رواه أحمد والشيخان).
هل يقاس المشتغلون بمصلحة المسلمين على العاملين في الزكاة؟
ذكر ابن رشد أن الفقهاء الذين أجازوا الزكاة للعامل عليها وإن كان غنيًا. أجازوها للقضاة ومن في معناهم ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين (بداية المجتهد: 1/276- طبع الحلبي).
وفى كتاب "النيل" وشرحه في فقه الإباضية: أن الزكاة تعطى لعامل عليها ومن كان بمعناه كقاض ووال ومفت ونحوهم ممن اشتغل بأمر الناس، قياسًا على العامل، فيعطون بقدر عنائهم وشغلهم ومنفعتهم في الإسلام، وإن كانوا أغنياء، لأنهم مكفوفون بأمر المسلمين عن السعي لأنفسهم (النيل وشرحه: 2/134).(2/51)
لكن عامة الفقهاء يرون إعطاء هؤلاء من موارد الدولة الأخرى من الفيء والخراج ونحوهما، لا من الزكاة إلا من توسع في مصرف "سبيل الله" ورآه يشمل كل قربة أو مصلحة، كما سيأتي في الفصل السادس.
الفصل الثالث
المؤلَّفة قلوبهم
وهم الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام أو التثبيت عليه. أو يكف شرهم عن المسلمين، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم، أو نصرهم على عدو لهم، أو نحو ذلك.
فهرس
من له حق التأليف والصرف إلى المؤلفة؟
أين يصرف سهم المؤلفة في عصرنا؟
جواز التأليف من غير مال الزكاة
دلالة هذا المصرف
أقسام المؤلفة قلوبهم
هل سقط سهم المؤلفة قلوبهم بعد موت الرسول؟
إبطال دعوى النسخ
الحاجة إلى تأليف القلوب لم تنقطع
دلالة هذا المصرف
وهذا المصرف أيضًا يدلنا بوضوح على ما أكدناه في غير موضع من أن الزكاة في الإسلام ليست إحسانًا شخصيًا. ولا عبادة مجردة موكولة إلى الأفراد. فإن هذا الصنف من مصارف الزكاة ليس مما يوكل إلى الأفراد في العادة الغالبة. وإنما هو من شأن رئيس الدولة أو من ينيبه عنه، أو أهل الحل والعقد في الأمة.
فهؤلاء هم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها، وتحديد صفات من يؤلفون ومدى ما يبذل لهم وفق مصلحة الإسلام وحاجة المسلمين.
أقسام المؤلفة قلوبهم
والمؤلفة قلوبهم أقسام ما بين كفار ومسلمين:
( أ ) فمنهم من يرجى بعطيته إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته كصفوان بن أمية الذي وهب النبي -صلى الله عليه وسلم- له الأمان يوم فتح مكة. وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه، وكان غائبًا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- إبلاً كثيرة محملة كانت في واد، فقال: هذا عطاء من لا يخشى الفقر.(2/52)
وروى مسلم والترمذي من طريق سعيد بن المسيب عنه قال: (والله لقد أعطاني النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنه لأبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) (تفسير ابن كثير: 2/365- طبع الحلبي). وقد أسلم وحسن إسلامه.
ومن هذا القسم ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسئل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثيرة، بين جبلين من شاء الصدقة. قال: فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدًا يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة (نيل الأوطار: 4/166 المطبعة العثمانية المصرية- الطبعة الأولى).
( ب ) ومنهم من يخشى شره ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه، كما جاء عن ابن عباس أن قومًا كانوا يأتون النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا (تفسير الطبري: 14/313).
(جـ) ومنهم من دخل حديثًا في الإسلام، فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام.
سئل الزهري عن "المؤلفة قلوبهم" فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني. قيل: وإن كان غنيًا؟ قال: وإن كان غنيًا (المرجع نفسه ص 314، والمصنف لابن أبى شيبة: 3/223- طبع حيدر آباد).
وكذلك قال الحسن: هم الذين يدخلون في الإسلام (المصنف المذكور، والإكليل للسيوطي ص 119).
وذلك أن الداخل حديثًا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بما له عند أبويه وأسرته، وكثيرًا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه وترك دنياه لله تعالى جدير بالتشجيع والتثبيت والمعونة.
( د ) ومنهم قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، واستشهدوا له بإعطاء أبى بكر -رضى الله عنه- لعدى بن حاتم والزبرقان بن بدر (تفسير المنار: 10/574 - 577- الطبعة الثانية)، مع حسن إسلامهما لمكانتهما في أقوامهما.(2/53)
(هـ) ومنهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الإيمان، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم (انظر تفسير القرطبي: 8/179 - 181).
( و ) ومنهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
( ز ) ومنهم قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين، وأرجح المصلحتين، وهذا سبب جزئي قاصر، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة (انظر في هذه الأصناف المجموع: 6/196 - 198، وغاية المنتهى وشرحه: 2/141 وما بعدها).
وكل هذه الأنواع تدخل تحت عموم لفظ "المؤلفة قلوبهم" سواء أكانوا كفارًا أم مسلمين.
وقال الإمام الشافعي: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام، ولا يعطى من الصدقة مشرك يتألف على الإسلام، فإن قال قائل: أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- عام حنين بعض المشركين من المؤلفة، فتلك العطايا من الفيء، ومن مال النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة. واستدل الشافعي بأن الله تعالى جعل صدقات المسلمين مردودة فيهم كما سمى، لا على من خالف دينهم (الأم: 2/61- طبع بولاق). ويشير إلى حديث معاذ وما في معناه: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم".(2/54)
ونقل الرازي في تفسيره (الجزء السادس عشر ص 111). عن الواحدي قال: إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين، فأما المؤلفة قلوبهم من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات.
وعقب الرازي قائلاً: إن قول الواحدي: "إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين" بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسمًا من الزكاة إليهم، لكننا بينا أن هذا لم يحصل البتة، وأيضًا فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين، بل قال: (المؤلفة قلوبهم) .. وهذا عام في المسلم وغيره. أ هـ.
أقول: وإذا كانت كلمة "المؤلفة قلوبهم" تشمل الكافر والمسلم، ففيها دليل على جواز تأليف الكافر وإعطائه من الزكاة. وإنما تمنع اختصاصه بذلك.
وقد جاء عن قتادة (تفسير الطبري: 14/214). أن المؤلفة قلوبهم أناس من الأعراب ومن غيرهم كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
وقد ذكرنا حديث أنس في الرجل الذي أعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- من شاء الصدقة ما جعله يرجع إلى قومه قائلاً: أسلموا فإن محمدًا يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة. والظاهر أنه لم يكن مسلمًا قبل ذلك.
ولا عجب أن يعطى كافر من صدقات المسلمين تأليفًا لقلبه على الإسلام. أو تمكينًا له في صدره، فإن هذا -كما ذكر القرطبي- ضرب من الجهاد. فالمشركون ثلاثة أصناف: صنف يرجع عن كفره بإقامة البرهان. وصنف بالقهر والسنان. وصنف بالعطاء والإحسان. والإمام الناظر للمسلمين يستعمل مع كل صنف ما يراه سببًا لنجاته وتخليصه من الكفر (تفسير القرطبي: 8/179).
هل سقط سهم المؤلفة قلوبهم بعد موت الرسول؟(2/55)
ذهب أحمد وأصحابه إلى أن حكم المؤلفة باق لم يلحقه نسخ ولا تبديل، وبهذا قال الزهري وأبو جعفر الباقر (انظر تفسير الطبري: 14/314 - 316، والمغنى: 2/666). وهو مذهب الجعفرية والزيدية أيضًا (انظر البحر: 2/179، 180، وشرح الأزهار: 1/513، وفقه الإمام جعفر: 2/90).
قال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخًا في ذلك.
قال أبو جعفر النحاس: فعلى هذا: الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة، أو يرجى أن يحسن إسلامه بعد، دفع إليه.
ونقل القرطبي عن القاضي عبد الوهاب من المالكية قال: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا.
وقال القاضي ابن العربي: الذي عندي أنه إن قوى الإسلام زالوا، وإن احتيج لهم أعطوا سهمهم. كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيهم، فإن في الصحيح: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) أ هـ.
وفى كتاب "النيل" وشرحه في فقه الإباضية (الجزء الثاني ص 134، 136): هو عندنا على سقوطه، ما دام الإمام قويًا وعنهم غنيًا.. وأجاز التأليف للحاجة، لدفع شر عن المسلمين، أو جلب نفع لهم.
وروى الطبري عن الحسن قال: ليس اليوم مؤلفة (تفسير الطبري: 14/315).
وعن عامر الشعبي قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما ولى أبو بكر -رحمة الله عليه- انقطعت الرشا (تفسير الطبري: 14/215).
وذكر النووي عن الشافعي: أن الكفار إن جاز تأليفهم فإنما يعطون من سهم المصالح من الفيء ونحوه، ولا يعطون من الزكاة؛ لأن الزكاة لا حق فيها للكفار عنده.
وأما المسلمون من المؤلفة، فعنه قولان في إعطائهم بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-:
الأول: لا يعطون، لأن الله أعز الإسلام، فأغنى عن التألف بالمال.
والثاني: يعطون، لأن المعنى الذي أعطوا به قد يوجد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-. وإذا قلنا يعطون.. فمن أين؟.(2/56)
قولان أيضًا: قيل: من الصدقات، للآية. وقيل: من سهم المصالح من الفيء وغيره، لأن الصرف إليهم من مصلحة المسلمين (انظر في ذلك المهذب وشرحه للنووي (المجموع): 6/197 - 198).
والمذكور في مذهب المالكية قولان: قول بانقطاع سهم المؤلفة بعز الإسلام وظهوره، وقول ببقائه. وقد ذكرنا رأى القاضيين عبد الوهاب وابن العربي (تفسير القرطبي- المرجع السابق، وذكر الخطابي في معالم السنن (2/231): أن سهمهم ثابت يجب أن يعطوه، وكذا ذكر ابن قدامه في المغنى: 2/666).
وفى متن "خليل": أن حكمه باق، أي لم ينسخ، لأن المقصود من دفع الزكاة إليه ترغيبه في الإسلام لا إعانته لنا، حتى يسقط بنشر الإسلام. وهذا الخلاف في المذهب مفرع -كما قال الصاوي- على القول بأن المؤلف كافر يعطى ترغيبًا له في الإسلام، وهو قول ابن حبيب. وأما القول الآخر -وهو لابن عرفة- أن المؤلف مسلم قريب عهد بالإسلام يعطى منها ليتمكن من الإسلام فحكمه باق اتفاقًا (انظر: حاشية الصاوي على بلغة السالك: 1/232 - 233).
وقال جمهور الحنفية: انتسخ سهمهم وذهب، ولم يعطوا شيئًا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يعطى الآن لمثل حالهم.(2/57)
قال في البدائع: "وهو الصحيح، لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر -رضى الله عنهما- ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئًا من الصدقات، ولم ينكر أحد من الصحابة -رضى الله عنهم-. فإنه روى أنه لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءوا أبا بكر وسألوه: أن يكتب لهم خطًا (كتابة رسمية) بسهامهم. فأعطاهم ما سألوه، ثم جاءوا إلى عمر وأخبروه بذلك فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فإن ثبتم على الإسلام. وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف. فانصرفوا إلى أبى بكر فأخبروه بما صنع عمر رضى الله عنهما، وقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ قال: هو إن شاء. ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك عامة الصحابة، فلم ينكروا، فيكون ذلك إجماعًا على ذلك، ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام، ولهذا أسماهم الله "المؤلفة قلوبهم" والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة، وأولئك كثير ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عز الإسلام، وكثر أهله واشتدت دعائمه، ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاء. والحكم متى ثبت معقولاً بمعنى خاص، ينتهي بذهاب ذلك المعنى" (بدائع الصنائع: 2/45).
وخلاصة ما ذكره صاحب البدائع يرجع إلى أمرين:
الأول: نسخ الحكم وأن الذي نسخه إجماع الصحابة.
الثاني: أن حكم التأليف ثبت لمعنى معقول، وهو الحاجة إلى المؤلفة، وقد زالت هذه الحاجة بانتشار الإسلام وغلبته. فهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته الغائية التي كان لأجلها الإعطاء. فإن الإعطاء كان لإعزاز الدين، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم (رد المحتار: 2/82 نقلاً عن البحر.
إبطال دعوى النسخ:
والحق أن كلا الأمرين غير صحيح، فالنسخ لم يقع، والحاجة إلى تأليف القلوب لم تنقطع.(2/58)
أما دعوى النسخ بفعل عمر فليس فيه أدنى دليل. فإن عمر إنما حرم قومًا من الزكاة كانوا يتألفون في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم، وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم، ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع. فإن التأليف ليس وضعًا ثابتًا دائمًا. ولا كل من كان مؤلفًا في عصر يظل مؤلفًا في غيره من العصور، وإن تحديد الحاجة إلى التأليف، وتحديد أشخاص المؤلفين، أمر يرجع إلى أولى الأمر وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين.
ولقد قرر علماء الأصول: أن تعليق الحكم بوصف مشتق يؤذن بعلية ما كان منه الاشتقاق، وهنا علق صرف الصدقة بالمؤلفة قلوبهم، فدل على أن تأليف القلوب هو علة صرف الصدقات إليهم، فإذا وجدت هذه العلة -وهى تأليف قلوبهم- أعطوا، وإن لم توجد لم يعطوا.
ومن الذي له حق تأليف هؤلاء أو أولئك أو عدم التأليف؟ إنه ولى أمر المسلمين أولاً. إنه له الحق في أن يترك تألف قوم كان يتألفهم حاكم مسلم قبله، وله الحق أن يترك تأليف القلوب في عهده بالمرة، إذا لم يوجد في زمنه ما يدعو إليه، فإن ذلك من الأمور الاجتهادية التي تختلف باختلاف العصور والبلدان والأحوال، وعمر حين فعل ذلك لم يعطل نصًا ولم ينسخ شرعًا. فإن الزكاة تعطى لمن يوجد من الأصناف الثمانية التي جعلهم الله تعالى أهلها، فإذا لم يوجد صنف منهم سقط سهمه ولم يجز أن يقال: إن ذلك تعطيل لكتاب الله أو نسخ له.
فإذا لم يوجد صنف "العاملين عليها" لعدم قيام حكومة مسلمة، تجمع الزكاة وتوزعها على مستحقيها، وتوظف من يقوم بذلك، فقد سقط سهم العاملين عليها.(2/59)
وإذا لم يوجد صنف "في الرقاب" كما في عصرنا الذي ألغى الرق الفردي، فقد سقط هذا السهم. ولا يقال في سقوط هذا السهم أو ذاك: إنه نسخ للقرآن أو تعطيل للنص (وبهذا نتبين بطلان ما يقوله بعض المعاصرين من جواز تعطيل النصوص أو مخالفتها إذا اقتضت ذلك مصلحة، متخذين من موقف عمر من المؤلفة قلوبهم، تكأة لهم في دعواهم العريضة. من ذلك ما ادعاه -صبحي محمصاني في "فلسفة التشريع" ص 178- أن عمر لم يتأخر حتى عن مخالفة النصوص إذا اقتضت السياسة الشرعية أو مصلحة المسلمين ذلك، واستدل بموضوع المؤلفة.. ومن ذلك ما كتبه الأستاذ محمود اللبابيدي في مجلة "رسالة الإسلام" التي كانت تصدر عن دار التقريب بين المذاهب في القاهرة -في مقال عن "السلطة التشريعية في الإسلام" وذهب إلى أن الأمة ممثلة في هيئة شوراها من سلطتها أن "تجمد" بعض النصوص أو تخالفها إذا رأت في ذلك مصلحة، واستند إلى فعل عمر.. وما شابهه من وقائع. ومحال أن يعطل عمر كتاب الله أو يخالفه عمدًا، وإنما وجهه ما ذكرناه.
وقد ثار علماء الأزهر لمقال اللبابيدي، وردوا عليه في مجلة الأزهر، كما رد عليه المرحوم الشيخ محمد محمد المدني في رسالة له "بحث على بحث" طبعت في القاهرة).
وإذن فما صنعه عمر ليس نسخًا لحكم إعطاء المؤلفة قلوبهم بوجه من الوجوه فضلاً عن أن يكون إجماعًا على ذلك، وكذلك قول الحسن والشعبي: "ليس اليوم مؤلفة" ليس قولاً بالنسخ بحال، وإنما هو إخبار عن الواقع في زمنهم.(2/60)
إن النسخ إبطال حكم شرعه الله، وإنما يملك الإبطال من يملك التشريع. وليس ذلك إلا لله عز وجل، عن طريق الرسول الموحى إليه، ولهذا لا نسخ إلا في عصر الرسالة ونزول الوحي. وإنما يعرف ذلك بالنص عليه من الشارع نفسه، أو بتعارض نصين ثابتين تعارضا تامًا لا يستطاع معه الترجيح بينهما بوجه من الوجوه، وعرف تاريخ كل منهما. فلا نجد بدًا من القول بنسخ المتأخر للمتقدم. فهل في مسألتنا شيء من ذلك؟ هل هنالك نص من قرآن أو سنة عارض النص على المؤلفة قلوبهم؟ فضلاُ عن نص صرح بنسخه.
إن الإجابة عن ذلك بالنفي الجازم بلا ريب، فكيف يدعى نسخ حكم نصت عليه آية صريحة من كتاب الله، وانقضى عصر الرسالة وهو محكم معمول به؟.
وقد قال الشاطبي في مثل هذا المقام: "إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق؛ لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق، ولذلك أجمع المحققون على أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن ولا الخبر المتواتر، لأنه رفع للمقطوع بالمظنون" (الموافقات: 3/64).
وإذا كان خبر الواحد بإجماع المحققين لا ينسخ القرآن، مع أنه خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فكيف ندعى نسخه بقول صحابي أو عمله؟ وهو عند التأمل لا يحمل أي معنى من معاني النسخ.(2/61)
وقبل الشاطبي قال ابن حزم: "لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة: هذا منسوخ، إلا بيقين. لأن الله عز وجل يقول: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (النساء: 64).. وقال تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم) (الأعراف: 3). فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه، ففرض اتباعه، فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه. وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف، إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفتر مبطل، ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره في آية أخرى وحديث آخر، فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة. وهذا خروج عن الإسلام. وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون، ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه" أ هـ (الإحكام في أصول الأحكام- الباب العشرين. فصل في: كيف يعلم المنسوخ: 1/458 طبع الإمام بمصر).
وإذن فالصحيح بل الصواب (الصحيح -من الآراء- مقابلة: الضعيف، والصواب مقابلة: الخطأ، والأصح مقابله: الصحيح): أن هذا السهم باق، لم يلحق حكمه نسخ ولا تعطيل. فقد نصت عليه آية صريحة من سورة التوبة وهى من أواخر ما نزل من القرآن.
قال أبو عبيد: "إن الآية محكمة لا نعلم لها نسخًا من كتاب ولا سنة".
فإذا كان قوم هذه حالهم: لا رغبة لهم في الإسلام إلا للنيل، وكان في ردتهم ومحاربتهم إن ارتدوا ضرر على الإسلام لما عندهم من العز والمنعة. فرأى الإمام أن يرضخ لهم من الصدقة، فعل ذلك، لخلال ثلاث:
إحداهن: الأخذ بالكتاب والسنة.
والثانية: البقيا على المسلمين.
والثالثة: "إنه ليس بيائس منهم إن تمادى بهم الإسلام أن يفقهوه وتحسن فيه رغبتهم" (الأموال ص 607).(2/62)
وقال ابن قدامة في المغنى: مؤيدًا مذهب أحمد في بقاء سهمهم في مصارف الزكاة: "لنا كتاب الله وسنة رسوله: فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء) وكان يعطى المؤلفة كثيرًا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.
"ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن النسخ إنما يكون بنص، ولا يكون النص بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وانقراض زمن الوحي. ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن، وليس في القرآن نسخ لذلك، ولا في السنة. فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره؟ على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك بها قياس، فكيف يتركون به الكتاب والسنة؟.
"قال الزهري: لا أعلم شيئًا نسخ حكم المؤلفة (الحنفية مختلفون في تعيين الناسخ الذي نسخ حكم المؤلفة وهو ثابت بالنص القرآني القاطع.. فبعضهم ادعى أنه الإجماع. وحاول أن يجعل من موقف عمر من المؤلفة في زمنه إجماعًا، وهيهات، فقد علمت ما فيه، وبعضهم بحث عن مستند لهذا الإجماع المدعى زعم أنه هو الناسخ. ثم اختلفوا في تعيين هذا المستند. فجعله ابن نجيم في "البحر" الآية التي روى أن عمر ذكرها في مواجهة المؤلفة، وهى قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) من سورة الكهف (آية: 29) قال ابن عابدين: وإنما لم يجعل الإجماع ناسخًا، لأنه خلاف الصحيح، لأن النسخ لا يكون إلا في حياته -صلى الله عليه وسلم- والإجماع لا يكون إلا بعده"، وبعضهم جعل المستند حديث إرسال معاذ إلى اليمن، وأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم. (انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه: 2/83- طبع استانبول).(2/63)
والحق أن كل هذا تمحل لا يجوز نسخ نص قاطع بمثله. فآية الكهف: (وقل الحق من ربكم) مكية بيقين، فكيف يستند إليها في نسخ جزء من آية مدنية نزلت بعدها بسنين طويلة؟! وأين التعارض في الآيتين حتى تنسخ إحداهما الأخرى؟! ومثل ذلك حديث معاذ، فليس فيه إلا أن الزكاة من الأمة وإليها، تؤخذ من أغنيائها وترد على فقرائها. وليس كضرائب الملوك السابقين، حيث كانت تؤخذ من الفقراء والكادحين، لتصرف على أبهة الملك وحاشيته. ولو كان ذكر الفقراء هنا ينفى المؤلفة لنفى بقية الأصناف من العاملين عليها والرقاب والغارمين وغيرهم، ولم يقل بذلك أحد.
ولهذا قال علاء الدين بن عبد العزيز من الحنفية: الأحسن أن يقال: هذا تقرير لما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حيث المعنى. وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع. ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع. وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين، والإعزاز هو المقصود. وهو باق على حاله، فلم يكن ذلك نسخًا... قال: وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة، فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة، والاستنصار في زمنه -صلى الله عليه وسلم- كان بالعشيرة، وبعده بأهل الديوان، فإيجابها عليهم لم يكن نسخًا، بل كان تقريرًا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار (أ هـ) واستحسنه في النهاية. ومقتضى هذا التوجيه أن الإسلام إذا ضعف -كما في عصرنا- يجوز إعزازه بالإعطاء. ولا يقول بذلك الحنفية. ولذلك تعقبه ابن الهمام بأن ما قاله لا ينفى النسخ، لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتًا وقد ارتفع. (انظر: تفسير الآلوسي: 3/327).(2/64)
"على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم، وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، فكذلك جميع الأصناف: إذا عدم منهم صنف في بعض الأزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة، وإذا وجد عاد. كذا ههنا" (المغنى: 2/666).
الحاجة إلى تأليف القلوب لم تنقطع:
وأما قولهم إن الحاجة إلى تأليف القلوب قد زالت بانتشار الإسلام، وغلبته، وظهوره على الأديان الأخرى فهذه الدعوى مردودة لأسباب ثلاثة:
1- ما قاله بعض المالكية: إن العلة في إعطاء المؤلف من الزكاة ليست إعانته لنا، حتى يسقط ذلك بفشو الإسلام وغلبته، بل المقصود من دفعها إليه ترغيبه في الإسلام، لأجل إنقاذ مهجته من النار (حاشية الصاوي على بلغة السالك: 1/232).
فهو يرى في هذا البقاء وسيلة من وسائل الدعوة، قد تجدي عند بعض الناس، وتقربهم من الإسلام وتنقذهم من الكفر، وواجب المسلمين ألا يدخروا وسيلة تعينهم على هداية البشر وإنقاذهم من ظلمات الجاهلية في الدنيا، ومن عذاب النار في الآخرة. وقد يدخل الرجل الإسلام للدنيا ثم يحسن إسلامه بعد ذلك. روى أبو يعلى عن أنس بن مالك قال: (إن كان الرجل ليأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسلم للشيء من الدنيا، لا يسلم إلا له، فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما فيها) وفى رواية: (إن كان الرجل ليسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الشيء للدنيا فيسلم له...) (قال في "مجمع الزوائد": رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح: 3/104). الحديث بمعناه. وهذا إذا مشينا على أن المؤلف كافر يعطى ليرغب في الإسلام، وليس كل مؤلف كذلك فمن المؤلفة من يدخل في الإسلام ويترك دينه القديم، فيتعرض للاضطهاد والحرمان والمصادرة من أسرته وأهل دينه. فمثل هذا يعطى تشجيعًا وتأييدًا، حتى يتمكن من الإسلام، وترسخ قدمه فيه.(2/65)
2- إن هذه الدعوى مبنية على ما قال قوم: إن التأليف لا يكون إلا عند ضعف الإسلام وأهله، واشترط آخرون أن يكون المؤلف فقيرًا محتاجًا. وكل هذا تقييد للنصوص المطلقة بلا حجة، ومخالفة لحكمة الشرع بلا مبرر. وفى عصرنا نرى أقوى الدول هي التي تتألف الدول الصغيرة والشعوب المحدودة الطاقات، كما ترى في معونة الولايات المتحدة لدول أوروبا، وبعض دول الشرق النامية. وما أحسن ما قال الإمام الطبري في ذلك:
"إن الله جعل الصدقة في حقيقتين:
"إحداهما: سد خلة المسلمين، والأخرى: معونة الإسلام وتقويته.
"فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه فإنه يعطاه الغنى والفقير، لأنه لا يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيًا كان أو فقيرًا، للغزو لا لسد خلة، وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء استصلاحًا بإعطائهموه أمر الإسلام، وطلب تقويته وتأييده.
"وقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعطى من المؤلفة قلوبهم بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله فلا حجة لمحتج بأن يقول: لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم، وقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أعطى منهم في الحال التي وصفت" (تفسير الطبري بتحقيق شاكر: 14/316).(2/66)
3- إن الحال قد تغيرت، وأدارت الدنيا ظهرها للمسلمين فلم يعودوا سادة الدنيا كما كانوا، بل عاد الإسلام غريبًا كما بدأ، وتداعت على أهله الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وقذف في قلوبهم الوهن، ولله عاقبة الأمور. فإن كان الضعف هو العلة التي تبيح تأليف القلوب وإعطاء المؤلفة من الزكاة فقد وقع، وجاز الإعطاء كما قال ابن العربي وغيره (على أن الحنفية أنفسهم قالوا: إن مجرد التعليل بكون التأليف معللاً بقلة انتهت، لا يصلح دليلاُ على نفى الحكم المعلل، لأن الحكم لا يحتاج في بقائه إلى بقاء علته، لاستغنائه في البقاء عنها، لما علم في الرق والاضطباع والرمل، فلا بد من دليل يدل على هذا الحكم مما شرع مقيدًا بقاؤه ببقاء العلة. قالوا: لكن لا يلزمنا تعيينه في محل الإجماع، فنحكم بثبوت الدليل وإن لم يظهر لنا. (انظر رد المحتار: 2/82 - 83- طبع استانبول) وعلى كل حال لم يستطع الحنفية هنا أن يتخلصوا من ضعف موقفهم، برغم محاولاتهم الجاهدة)!.
من له حق التأليف والصرف إلى المؤلفة؟
قلنا: إن جواز التأليف وتقدير الحاجة إليه مرجعه إلى أولى الأمر من المسلمين. ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء هم الذين يتولون ذلك. وهذا هو الموافق لطبائع الأمور. فإن هذا مما يتصل عادة بسياسة الدولة الداخلية والخارجية. وما تمليه عليها مصلحة الدين والأمة (في شرح الأزهار (1/513): أن التأليف جائز للإمام فقط لمصلحة دينية، وأما لغيره فلا يجوز، وأجاز بعض الزيدية لرب المال أن يتألف). وعند إهمال الحكومات لأمر الزكاة وأمر الإسلام عامة -كما في عصرنا- يمكن للجمعيات الإسلامية أن تقوم مقام الحكومات في هذا الشأن.
وإذا لم يوجد حكومة ولا جماعة، وكان لدى الفرد المسلم فضل من زكاته، فهل له أن يتألف بها كافرًا؟.(2/67)
الرأي عندي أنه لا يجوز له ذلك إلا إذا لم يجد مصرفًا آخر، كبعض المسلمين الذين يعيشون في غير دار الإسلام، ولا يجدون من يستحق الزكاة من المسلمين، ولكن رأوا من الكفار من إذا أعطوه استمالوا قلبه للإسلام ولموالاة المسلمين فلا بأس بإعطائه من الزكاة في هذه الحال للضرورة. مع أن الأولى في مثل هذه الظروف رصد الزكاة لنشر الإسلام، إن لم يمكن إرسالها إلى بلاد الإسلام.
أين يصرف سهم المؤلفة في عصرنا؟
وإذا كان حكم المؤلفة قلوبهم وإعطائهم من الزكاة باقيًا محكمًا لم يلحقه نسخ ولا إلغاء، فكيف نصرف هذا السهم المخصص لهم في عصرنا؟ وأين نصرفه؟.
إن الجواب عن هذا واضح مما ذكرناه من بيان الهدف الذي قصده الشارع من وراء هذا السهم. وهو استمالة القلوب إلى الإسلام أو تثبيتها عليه، أو تقوية الضعفاء فيه، أو كسب أنصار له، أو كف شر عن دعوته ودولته. وقد يكون ذلك بإعطاء مساعدات لبعض الحكومات غير المسلمة لتقف في صف المسلمين، أو معونة بعض الهيئات والجمعيات والقبائل ترغيبًا لها في الإسلام أو مساندة أهله، أو شراء بعض الأقلام والألسنة للدفاع عن الإسلام وقضايا أمته ضد المفترين عليه.
كما أن الذين يدخلون في دين الله أفواجًا كل عام لا يجدون من حكومات البلاد الإسلامية أي معاونة أو تشجيع. والواجب أن يعطوا من هذا السهم ما يشد أزرهم ويسند ظهرهم. كما جاء عن الإمام الزهري والحسن البصري.. على حين تقوم الإرساليات التبشيرية باحتضان كل من يعتنق المسيحية وإمداده بكافة المساعدات المادية والأدبية. ولا عجب فإن هذه الجمعيات التبشيرية المسيحية تمولها وتمدها مؤسسات ودول بالملايين وعشرات الملايين كل عام، وليس في دينهم ما في ديننا من زكاة مفروضة يصرف جزء منها على تأليف القلوب وتثبيتها على الإسلام.(2/68)
إن الإسلام بما فيه من وضوح وأصالة وملاءمة للفطرة السليمة والعقل الرشيد، ينشر نفسه بنفسه، في كثير من الأقطار. ولكن الذين يعتنقون الإسلام لا يجدون من الرعاية المادية والتوجيهية ما يمكنهم من التبصر في هذا الدين والانتفاع بهداه، ويعوضهم عن بعض ما قدموه من تضحيات، وما لقوه من اضطهاد من عشائرهم أو حكوماتهم.
وكثير من الجمعيات الإسلامية في بلدان شتى تحاول أن تسد هذه الثغرة، ولكنها لا تجد المدد اللازم، والعون الكافي.
إن قارة كإفريقيا يدور فيها صراع سياسي ومذهبي رهيب، حيث تتنافس شتى القوى لكسب حكوماتها وشعوبها وزعمائها. فالتبشير الاستعماري أو الاستعمار التبشير من ناحية، والتسلل الصهيوني الإسرائيلي من ناحية ثانية، والتغلغل الشيوعي الماركسي من ناحية ثالثة.. كل يريد أن يصبغ القارة بصبغته، أو يضمها إلى جانبه.
والإسلام لا يجوز أن يقف مكتوف اليدين إزاء هذا التدخل أو التسلل أو التغلغل، لو كانت له دولة تتبنى رسالته، وتنشر دعوته، وتقيم شريعته في الأرض.
لقد كان الإسلام في موقف الهجوم فأصبح اليوم في موقف الدفاع، فهو ينتقص من أطرافه ويغزى في عقر داره.
لهذا كان من أولى الناس بالتأليف في زماننا -كما نبه السيد رشيد رضا رحمه الله- قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ليدخلوهم تحت حمايتهم أو في دينهم، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استبعاد جميع المسلمين، وفى ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام. ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية... أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟! (تفسير المنار: 10/574 - 575- الطبعة الثانية).
جواز التأليف من غير مال الزكاة(2/69)
وبعد هذا كله فلسنا نحتم أن يكون كل ما يرصد لتأليف القلوب من الزكاة وحدها، فإن في موارد بيت المال الأخرى متسعًا للإسهام في هذا الشأن مع الزكاة أو الاستقلال به. وخاصة إذا كان المستحقون للزكاة من الأصناف الأخرى أشد حاجة وأوفر عددًا، فهنا يعمل بما جاء عن الشافعي وغيره، وهو إعطاء المؤلفة من سهم المصالح، ومرد ذلك إلى رأى ولى الأمر العادل، وتقدير أهل الرأي، ومشورة أهل الشورى في الأمة.
الفصل الرابع
في الرقاب
فهرس
هل يفك الأسير المسلم من سهم الرقاب؟
هل تساعد الشعوب المستعمرة على التحرر من سهم "الرقاب"؟
لماذا عبر القرآن عن بعض المصارف بـ "اللام" وبعضها بـ "في"؟
معنى "في الرقاب"
سبق الإسلام بتصفية نظام الرقيق
لماذا عبر القرآن عن بعض المصارف بـ "اللام" وبعضها بـ "في"؟
اشتملت آية مصارف الصدقات على أصناف ثمانية، تحدثنا عن الأربعة الأولى منها وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم- وهم الأصناف الذين تعطى لهم الزكاة- وبقى من أصناف المستحقين أربعة:
1- في الرقاب وهو المصرف الخامس من الثمانية.
2- والغارمين وهو المصرف السادس من الثمانية.
3- وفى سبيل الله وهو المصرف السابع من الثمانية.
4- وابن السبيل وهو المصرف الثامن والأخير.
وقد غايرت الآيات التي حصرت مصارف الزكاة في الأصناف الثمانية بين المصارف الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة.. فالأولون جعلت الصدقات لهم: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم) (التوبة: 60).
والآخرون جعلت الصدقات فيهم: (وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل) (التوبة: 60). فما السر في هذه المغايرة؟ ولماذا عبر عن استحقاق الأولين للصدقة بـ "اللام" التي هي في الأصل للتمليك، وعبر عن استحقاق هؤلاء لها بحرف "في" التي هي للظرفية؟.(2/70)
إن القرآن لا يضع حرفًا بدل حرف اعتباطًا، ولا يغاير بين التعبيرات جزافًا، بل لحكمة ينبه عليها بكلامه المعجز. وما يعقلها إلا العالمون. فما هذه الحكمة؟.
لقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأن العدول عن "اللام" إلى "في" في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الزكاة من الأربعة الأولى؛ لأن "في" للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبًا (الكشاف: 2/45، 46- طبع مصطفى الحلبي 1367 هـ).
وعقب ابن المنير في "الانتصاف" على كلام الزمخشري بالتنبيه على نكتة أدق وأعمق: قال: "وثم سر آخر هو أظهر وأقرب. وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكًا، فكان دخول اللام لائقًا بهم. وأما الأربعة الأواخر، فلا يملكون ما يصرف نحوهم، بل ولا يصرف إليهم، ولكن في مصالح تتعلق بهم. فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون، فليس نصيبهم مصروفًا إلى أيديهم، حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم.. وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به.
"وكذلك الغارمون، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصًا لذممهم لا لهم، وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك.
"وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجًا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيهًا على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعًا. وعطفه على المجرور باللام ممكن، ولكنه على القريب منه أقرب والله أعلم" (الانتصاف من الكشاف، وهو على هامش المصدر السابق).
وأقول: إن ما يصرف لابن السبيل ليس تمليكًا له. وإنما هو مصروف في مصلحته المتعلقة بسفره إلى بلده، وما يحتاجه إلى بلوغ غرضه، ولهذا يمكن صرفه إلى جهة النقل التي ستوصله إلى وطنه كشركة الملاحة، أو الطيران أو السكة الحديدية مثلا.(2/71)
وكذلك ذكر الفخر الرازي: أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الأوائل بلام التمليك وهو قوله: (إنما الصدقات للفقراء). ولما ذكر الرقاب أبدل حرف "اللام" بحرف "في" فقال: (وفى الرقاب). فلا بد لهذا الفرق من فائدة. وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات. حتى يتصرفوا فيها كما شاءوا، وأما "في الرقاب" فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق، ولا يدفع إليهم ولا يمكنون من التصرف في ذلك النصيب كيف شاءوا، بل يوضع في الرقاب بأن يؤدى عنهم.
"وكذلك القول في الغارمين، يصرف المال في قضاء ديونهم، وفى الغزاة يصرف المال إلى ما يحتاجون إليه في الغزو. وابن السبيل كذلك.
"والحاصل أن الأصناف الأربعة الأولى يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاءوا. وفى الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا الزكاة" (التفسير الكبير للرازي: 16/112).
وذكر نحو ذلك الخازن في تفسيره (نقله الجمل في حاشيته على الجلالين: 2/292).(2/72)
وتبعًا لهذه المغايرة في الآية بين الأصناف المستحقين قسم صاحب المنار (تفسير المنار: 10/586 - 590- الطبعة الثانية. وتبعه الشيخ شلتوت (الإسلام عقيدة وشريعة ص 111 - 113- طبع دار القلم).- المصارف إلى قسمين أو حلقتين: أشخاص ومصالح. فالأشخاص تشمل الأربعة الأولى مع الغارمين، وابن السبيل. والمصالح تشمل مصرفين: في الرقاب وفى سبيل الله وهما المصرفان اللذان دخلت عليهما "في" مباشرة. ولم يعتبر الغارمون وابن السبيل من جملة المصالح بالعطف على ما جاورها. بل جعلا الوصفين معطوفين على الأصناف الأولى المجرورة باللام، وذلك لاشتراك الأصناف الستة في أنهم أشخاص ذوو أوصاف، والفقراء أشخاص اتصفوا بالفقر، والغارمون أشخاص اتصفوا بالغرم... إلخ. ولكن قد يعكر على هذا أن عطف كل صنف على جاره القريب أولى من عطفه على البعيد. والأليق ببلاغة القرآن أن تكون الأصناف التي يعطى "لها" الزكاة متجاورة متعاظمة، والجهات التي تصرف "فيها" الزكاة متجاورة أيضًا، كما هو اختيار الزمخشري وابن المنير والرازي وغيرهم.
وما يؤيد ما ذكره الرازي في الفرق بين الأربعة الأولى والأربعة الأخر، ما ذكره صاحب "المغنى" (الجزء الثاني ص 670). بقوله: أربعة أصناف يأخذون أخذًا مستقرًا ولا يراعى حالهم بعد الدفع وهم: الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة، فمتى أخذوها ملكوها ملكًا دائمًا مستقرًا، لا يجب عليهم ردها بحال. وأربعة منهم -وهم الغارمون وفى الرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل- فإنهم يأخذون أخذًا مراعى: فإن صرفوه في الجهة التي استحقوا الأخذ لأجلها- وإلا استرجع منهم.(2/73)
"والفرق بين هذه الأصناف والتي قبلها: أن هؤلاء أخذوا لمعنى لم يحصل بأخذهم الزكاة، والأولون حصل المقصود بأخذهم -وهو غنى الفقراء والمساكين، وتأليف المؤلفين وأداء أجر العاملين- وإن قضى هؤلاء (يعنى الأربعة الأخيرين) حاجتهم وفضل معهم فضل ردوا الفضل إلا الغازي، فإن ما فضل له بعد غزوه فهو له.." أ هـ.
وهذا في غير الأشياء التي تبقى وتستمر زمنًا كالسلاح والخيل، فينبغي أن ترد بعد الغزو إلى بيت المال.
والفرق الذي ذكره الشيخ ابن قدامة هنا صحيح، وكان عليه أن يؤيده بتفرقة القرآن بين الأربعة الأولى والأربعة الأخيرة بمغايرة التعبير بين أولئك وهؤلاء، كما نبه على ذلك من بعده شارح غاية المنتهى (مطالب أولى النهى: 2/151). من الحنابلة أيضًا.
معنى "في الرقاب"
الرقاب: جمع رقبة، والمراد بها في القرآن: العبد أو الأمة، وهى تذكر في معرض التحرير أو الفك، كأن القرآن الكريم يشير بهذه العبارة المجازية إلى أن الرق للإنسان كالغل في العنق، والنير في الرقبة، وتحرير العبد من الرق هو فك لرقبته من غلها، وتخليص لها من النير الذي ترزح تحته.
وفى آية المصارف قال تعالى: (وفى الرقاب) .. ومعناها: وتصرف الصدقات في فك الرقاب، وهو كناية عن تحرير العبيد والإماء من نير الرق والعبودية. ويكون ذلك بطريقتين:
1- أن يُعان المكاتب، وهو العبد الذي كاتبه سيده واتفق معه على أن يقدم له مبلغًا معينًا من المال يسعى في تحصيله، فإذا أداه إليه حصل على عتقه وحريته. وقد أمر الله المسلمين أن يكاتبوا من رقيقهم كل من أراد ذلك وعلموا فيه خيرًا -كما أمرهم بمساعدتهم على وفاء ما التزموا به: المالكون ييسرون عليهم ويحطون عنهم، وسائر المجتمع يعاونونهم بالمال على الخلاص من الرق. وفى هذا يقول الله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب (أي المكاتبة). مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33).(2/74)
ثم فرض لهم في مال الزكاة سهمًا يعطون منه ما يعينهم على تحرير رقابهم بأداء ما التزموا به.
وإلى هذه الطريقة في فك الرقاب ذهب أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما والليث بن سعد.
واحتجوا بما روى عن ابن عباس أنه قال: قوله: (وفى الرقاب) .. يريد المكاتب. وتأكد هذا بقوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (انظر التفسير الكبير للفخر الرازي: 16/112 وانظر الهداية وفتح القدير: 2/17).
2- أن يشترى الرجل من زكاة ماله عبدًا أو أمة فيعتقها أو يشترك هو وآخرون في شرائها وعتقها أو يشترى ولى الأمر مما يجبيه من مال الزكاة عبيدًا وإماء فيعتقهم. وهذا هو المشهور عن مالك، وأحمد وإسحاق. وقال ابن العربي. إن ذلك هو الصحيح، وأيده بأنه هو ظاهر القرآن، فإن الله حيث ذكر الرقبة في كتابه إنما هو العتق، ولو أراد المكاتبين لذكرهم باسمهم الأخص.. فلما عدل إلى الرقبة دل على أنه أراد العتق. وتحقيقه أن المكاتب قد دخل في جملة الغارمين بما عليه من دين الكتابة، فلا يدخل في الرقاب، وربما دخل فيه المكاتب بالعموم، ولكن في آخر نجم يعتق به (أحكام القرآن: 2/955).
والحق أن عبارة الآية تشمل الأمرين جميعًا: معونة المكاتبين وعتق الرقاب.
وقد جاء عن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير من التابعين أنهما كرها شراء الرقاب وعتقها من الزكاة، لأن ذلك يجر إلى المزكي منفعة وهى ولاء المعتق وميراثه إن لم يكن له وارث، كما تقرر أحكام الإسلام. ومن هنا جاء عن مالك: أن الرقبة التي يعتقها من زكاة ماله يكون ولاؤها وميراثها لجميع المسلمين، يعنى لبيت المال (الأموال ص 608، 609).
ولكن روى أبو عبيدة عن ابن عباس أنه لم ير بأسًا أن يعتق المسلم رقبة من زكاة ماله. وقال بعد ذكر قول النخعي وابن جبير: وقول ابن عباس أعلى ما جاءنا في هذا الباب، وهو أولى بالاتباع، وأعلم بالتأويل، وقد وافقه الحسن على ذلك. وعليه كثير من أهل العلم (المصدر السابق).(2/75)
قال: ومما يقوى هذا المذهب أن المعتق وإن خيف عليه أن يصير إليه ميراث عتيقه بالولاء، فإنه لا يؤمن أن يجنى جنايات يلحقه وقومه عقلها (أي دينها) فيكون أحدهما بالآخر (نفس المصدر).
وهذا كله إذا تولى الشخص توزيع الزكاة بنفسه أو وكيله. أما إذا تولاها الحاكم المسلم- كما هو شأن الزكاة في الإسلام- فلا وجه لهذا الخلاف.. وله أن يشترى ويعتقمن الرقيق ما يتسع له مال الزكاة- بدون جور على المصارف الأخرى. (والإمام الشافعي يوجب تسوية الأصناف المستحقين للزكاة فلا يقل نصيب "في الرقاب" عن الثمن) والأولى لولى الأمر أن يجمع بين الأمرين فيعين المكاتبين ويشترى العبيد والإماء. وهذا ما كتبه الإمام الزهري للخليفة عمر بن عبد العزيز قال: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم، فيعتقون من الزكاة (المصدر السابق).
ولكنا لا نقيد الحاكم في ذلك بنصف ولا نسبة، بل حسب ما تقتضيه المصلحة ويشير به أهل الحل والعقد.
سبق الإسلام بتصفية نظام الرقيق
وإذا كان رق الأفراد قد انتهى تقريبًا من العالم، فإنه يحق لنا بل يجب علينا أن نسجل هنا أن الإسلام هو أول نظام في الدنيا عمل بكل الوسائل على تصفية الرق، وإلغائه من دنيا الناس بالتدريج.
لقد سد الأبواب الكثيرة الواسعة التي كانت مداخل للرق في العالم فحرم أشد التحريم الاستعباد عن طريق اختطاف الأحرار، كبارًا أو صغارًا، ولم يبح بحال أن يبيع الإنسان نفسه، أو ولده أو زوجته، ولم يشرع أبدًا أخذ المدين رقيقًا في دينه إذا عجز عن الوفاء به، ولا أخذ المجرم رقيقًا بجريمته، كما عرف ذلك في شرائع سابقة. ولا استرقاق الأسير في الغارات الظالمة التي تشنها القبائل والأمم بعضها على بعض بغيًا وعدوانًا (انظر: كتاب حقوق الإنسان في الإسلام -للدكتور على عبد الواحد وافى ص 139 - 161- طبع وزارة الأوقاف بالقاهرة).(2/76)
ولم يستثن من الأسباب التي عرفها العالم مفضية إلى الرق إلا سببًا واحدًا ضيق فيه كل التضييق، وأبقاه على سبيل الجواز والاختيار لا سبيل الحتم والإلزام. ذلك هو استرقاق الأسير في حرب إسلامية شرعية لم يبدأ المسلم فيها بعدوان. وذلك إذا رأى إمام المسلمين وأهل شوراه في ذلك مصلحة للأمة والملة، وذلك كما إذا كان العدو يسترق أسرى المسلمين، فإن المعاملة بالمثل تقتضيها المصلحة. وللإمام العادل أن يطلق سراح الأسرى بغير مقابل، أو بمقابل مادي أو معنوي، أو إطلاق أسرى من المسلمين مقابل أسرى المشركين. وهذا ما نص عليه القرآن في صراحة في أسرى المحاربين من أهل الكفر: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًا بعد وإما فداءً) (محمد: 4).
وإذا كان الإسلام قد أبقى -على سبيل الجواز- بابًا ضيقًا للرق فقد فتح أبوابًا واسعة للتحرير والعتق، ومن فضل الإسلام أنه استحدث العتق ولم يستحدث الرق.
دعا الإسلام إلى العتق ورغب فيه وجعله من أحب القربات إلى الله، وزاد على ذلك فجعله كفارة لكثير من الأخطاء التي يتورط فيها المسلم بحكم بشريته. كالحنث في اليمين، ومظاهرة الزوج لزوجته، وجماع الصائم في نهار رمضان، والقتل خطأ، بل جعل كفارة السيد إذا ضرب عبده بغير حق أن يعتقه.
ثم أمر السادة بمكاتبة عبيدهم إذا علموا فيهم خيرًا، وذلك يكون بتمكينهم من الكسب الحر، ومعونة المجتمع الإسلامي لهم. كما قال تعالى في محكم القرآن: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانهم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) (النور: 33).(2/77)
ثم زاد على ذلك كله فجعل للعتق والتحرير سهمًا من أموال الزكاة، وهى الضريبة التي يشترك جمهور المسلمين الأعظم في أدائها. وهى المورد الدائم لبيت المال الإسلامي. وذلك هو سهم "في الرقاب" (وهذا كله غير ما صنعه الإسلام من رفع المستوى الأدبي والمادي للرقيق وجعله إنسانًا محترمًا بل أخًا لمن جعله الله تحت يده: يأكل مما يطعم ويلبس مما يلبس، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق، ولا يضرب ولا يؤذى، بل لا يجرح شعوره بكلمة "عبدي" أو "أمتي").
وليس من الهين أن يخصص الإسلام من هذا المورد الدوري الهائل جزءًا لتحرير الرقيق، قد يكون ثمن حصيلة الزكاة، وقد يكون أكثر، بل قد يكون الحصيلة كلها إذا استغنت الأصناف الأخرى كما حدث في عهد عمر بن عبد العزيز.
قال يحيى بن سعيد: (بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد فقيرًا، ولم نجد من يأخذها منا. فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس. فاشتريت بها رقابًا فأعتقتهم) (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم ص 59).
ولو أن المسلمين أحسنوا تطبيق إسلامهم، وتهيأ لهم الحكم العادل الراشد فترات طويلة، لانمحى الرق من ديارهم بعد وقت يسير.
هل يفك الأسير المسلم من سهم الرقاب؟
وإذا كانت كلمة "الرقاب" عند إطلاقها تنصرف إلى العبيد، فهل يصح أن تشمل بعمومها رقبة الأسير المسلم الذي يتحكم فيه الأعداء الكفرة تحكم السيد في الرقيق، وهو في أسره معرض للاسترقاق أيضًا؟.
والمروى في مذهب الإمام أحمد أن ذلك جائز فيصح أن يفك من الزكاة الأسير المسلم: لأن فيه فك رقبة من الأسر (الروض المربع: 1/402).(2/78)
وقال القاضي ابن العربي المالكي: اختلف العلماء في فك الأسارى منها، فقد قال أصبغ: لا يجوز ذلك، وقال ابن حبيب: يجوز ذلك. وإذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة وجائزًا من الصدقة، فأولى وأحرى أن يكون ذلك في فكه عن رق الكافر وذله (أحكام القرآن: 2/956). فإذا كان الرق قد ألغى، فإن الحروب لا زالت قائمة، والصراع بين الحق والباطل لم يزل مستمرًا. وبذلك يظل في هذا السهم متسع لفداء الأسارى من المسلمين.
هل تساعد الشعوب المستعمرة على التحرر من سهم "الرقاب"؟
ذكر السيد رشيد رضا في تفسير "المنار" أن لسهم "في الرقاب" مصرفًا في تحرير الشعوب المستعمرة من الاستعباد إذا لم يكن له مصرف تحرير الأفراد (تفسير المنار: 10/598- الطبعة الثانية). وأكد ذلك الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت فقال، بعد أن تحدث عن انقراض رق الأفراد: "ولكن -فيما أرى- قد حل محله الآن رق هو أشد خطرًا منه على الإنسانية. ذلكم هو استرقاق الشعوب في أفكارها وفى أموالها وسلطانها وحريتها في بلادها. كان ذلك رق أفراد يموت بموتهم وتبقى دولهم حرة رشيدة، لها من الأمر والأهلية ما لسائر الأحرار الراشدين. ولكن هذا رق شعوب وأمم، تلد شعوبًا وأممًا هم في الرق كآبائهم فهو رق عام دائم، يفرض على الأمة بقوة ظالمة غاشمة !! وإذن فما أجدر هذا الرق بالمكافحة والعمل على التخلص منه، ورفع ذله عن الشعوب، لا بمال الصدقات فقط، بل بكل الأموال والأرواح.
"وبذلك نعرف مقدار مسئولية أغنياء المسلمين عن معونة الشعوب الإسلامية" (الإسلام عقيدة وشريعة ص446- طبع. دار القلم).(2/79)
هذا ما ذكره السيد رشيد والشيخ شلتوت، ذهابًا إلى التوسع في مدلول "الرقاب" ليشمل رق الشعوب مع رق الأفراد. والذي أميل إليه: أن لا حاجة بنا إلى هذا التوسع الذي تفقد به الكلمات مدلولها الأصلي، أما مساعدة الشعوب المستعبدة على التحرر، ففي مال الزكاة متسع لهم من سهم "سبيل الله" فضلاً عن موارد الدولة الأخرى التي يجب أن تساهم جميعًا في هذا السبيل.
الفصل الخامس
الغارمون
المصرف السادس من مصارف الزكاة، كما حددتها الآية الكريمة: "الغارمون".. فمن هم الغارمون؟
فهرس
روعة الإسلام في موقفه من الغارمين
الغارم لمصلحة الغير
قضاء دين الميت من الزكاة
القرض الحسن من الزكاة
من هم الغارمون؟
الغارمون لمصلحة أنفسهم
أصحاب الكوارث من هذا الصنف
شروط إعطاء الغارم لنفسه
كم يعطى الغارم لمصلحة نفسه؟
من هم الغارمون؟
الغارمون: جمع غارم. والغارم: هو الذي عليه دين (ذكر ابن الهمام في الفتح: أن الغارم من لزمه دين، أو له دين على الناس لا يقدر على أخذه، وليس عنده نصاب. وفى هذا الكلام نظر؛ لأن الغارم في اللغة: من عليه الدين، ولعله اشتبه عليه الغارم بالغريم الذي يطلق على الدائن والمدين، وسبحان من لا يسهو. وأما الصورة التي ذكرها في الفتح وهى من له دين على الناس.. إلخ. فإنما جاز الدفع إليه، لأنه فقير يدًا كابن السبيل، لا لأنه غارم. (انظر: حاشية رد المحتار: 2/63). أما الغريم فهو الدائن، وقد يطلق على المدين. وأصل الغرم في اللغة: اللزوم، ومنه قوله تعالى في جهنم: (إن عذابها كان غرامًا) (الفرقان: 65). ومنه سمى الغارم، لأن الدين قد لزمه، والغريم لملازمته المدين.
والغارم في مذهب أبى حنيفة: من عليه دين، ولا يملك نصابًا فاضلاً عن دينه (انظر: البحر الرائق: 2/260، والدر والمختار وحاشيته رد المحتار: 2/63). وعند مالك والشافعي وأحمد: الغارمون نوعان: غارم لمصلحة نفسه، وغارم لمصلحة المجتمع، ولكل منهما حكمه.
الغارمون لمصلحة أنفسهم(2/80)
النوع الأول: غارم استدان في مصلحة نفسه، كأن يستدين في نفقة، كسوة، أو زواج، أو علاج مرض، أو بناء مسكن، أو شراء أثاث، أو تزويج ولد، أو أتلف شيئًا على غيره خطأ أو سهوًا أو نحو ذلك.
روى الطبري عن أبى جعفر -ونحوه عن قتادة-: الغارم: المستدين في غير سرف، ولكي للإمام أن يقضى عنهم من بيت المال (تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر: 14/338).
أصحاب الكوارث من هذا الصنف:
وأخص من ينطبق عليه هذا الوصف أولئك الذين فاجأتهم كوارث الحياة، ونزلت بهم جوائح اجتاحت مالهم، واضطرتهم الحاجة إلى الاستدانة لأنفسهم وأهليهم، فعن مجاهد قال: "ثلاثة من الغارمين: رجل ذهب السيل بماله، ورجل أصابه حريق فذهب بماله، ورجل له عيال وليس له مال، فهو يدان وينفق على عياله" (مصنف ابن أبى شيبة: 3/207- طبع حيدر آباد. وانظر الطبري: المصدر السابق).
وفى حديث قبيصة بن المخارق -الذي رواه أحمد ومسلم- أباح النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن أصابته جائحة اجتاحت ماله، أن يسأل ولى الأمر حقه من الزكاة، حتى يصيب قوامًا من عيش. وسنذكره بتمامه في النوع الثاني من الغارمين.
والزكاة بهذا تقوم بنوع من التأمين الاجتماعي ضد الكوارث، ومفاجآت الحياة، سبق كل ما عرفه العالم -بعد- من أنواع التأمين.(2/81)
غير أن التأمين الذي حققه الإسلام لأبنائه بنظام الزكاة أسمى وأكمل وأشمل من التأمين الذي عرفه الغرب في العصر الحديث بمراحل ومراحل. فالتأمين -على الطريقة الغربية- لا يعوض إلا من اشترك بالفعل في دفع أقساط محددة لشركة التأمين. وعند إعطاء التعويض يعطى الشخص المنكوب على أساس المبلغ الذي أمن به، لا على أساس خسائره وحاجاته. فمن كان قد أمن بمبلغ أكبر، أعطى تعويضًا أكثر، ومن كان مبلغه أقل كان نصيبه أقل، مهما عظمت مصيبته وكثرت حاجاته. وذوو الدخل المحدود يؤمنون عادة بمبالغ أقل، فيكون حظهم -إذا أصابتهم الكوارث- أدنى. وذلك أن أساس نظام التأمين الغربي التجارة والكسب من وراء الأشخاص المؤمن لهم.
أما التأمين الإسلامي، فلا يقوم على اشتراط دفع أقساط سابقة، ولا يعطى المصاب بالجائحة إلا على أساس حاجته، وبمقدار ما يعوض خسارته، ويفرج ضائقته.
شروط إعطاء الغارم لنفسه:
فهذا النوع يعطى ما يقضى به دينه بشروط:
أولها: أن يكون في حاجة إلى ما يقضى به الدين، فلو كان غنيًا قادرًا على سداده بنقود أو عروض عنده لم يعط من الزكاة (وفى قول للشافعي: أنه يعطى مع الغنى، لأنه غارم. فأشبه الغارم لذات البين. وانظر: المجموع: 6/207. ونهاية المحتاج: 6/155). ولو وجد ما يقضى به بعض الدين أعطى بقدر ما يقضى به الباقي فقط. ولو لم يملك شيئًا وقدر على قضائه بالعمل والكسب أعطى أيضًا، لأنه لا يمكنه قضاؤه إلا بعد زمن وقد يعرض ما يمنعه من قضائه، وهذا بخلاف الفقير فإنه يحصل على حاجته بالكسب في الحال.
واشتراط حاجة المستدين إلى ما يقضى به الدين، ليس معناها أن يكون صفر اليدين لا يملك شيئًا.
فقد صرح العلماء بأنه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية، وكذا الخادم والمركوب -إن اقتضاهما حاله- بل يقضى دينه وإن ملكها.(2/82)
ولو كان للمستدين مال لو قضى منه دينه لنقص ماله عن كفايته، ترك له ما يكفيه، وأعطى ما يقضى به الباقي. والمراد بالكفاية عند الشافعية: الكفاية السابقة، وهى كفاية العمر الغالب فيما يظهر، ثم إن فضل معه شيء صرفه في دينه وتمم له باقيه.
الشرط الثاني: أن يكون قد استدان في طاعة أو أمر مباح. أما لو استدان في معصية كخمر وزنًا وقمار ومجون، وغير ذلك من ألوان المحرمات فلا يعطى، ومثل ذلك إذا أسرف في الإنفاق على نفسه وأهله ولو في الملاذ المباحة، فإن الإسراف في المباحات إلى حد الاستدانة حرام على المسلم. قال تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) (الأعراف: 31).
وإنما لم يعط الغارم في المعصية، لأن في إعطائه إعانة له على معصية الله، وإغراء لغيره بمتابعته في عصيانه. وهو متمكن من الأخذ بالتوبة. فإذا تاب أعطى من الزكاة، لأن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
واشترط بعض الفقهاء: أن تمضى عليه مدة بعد إعلان توبته يظهر فيها صلاح حاله واستقامة أمره.
وقال آخرون: يكفى أن يغلب على الظن صدقه في توبته، فيعطى وإن قصرت المدة.
الشرط الثالث: أن يكون الدين حالاً. فإن كان مؤجلاً فقد اختلف فيه: قيل: يعطى، لأنه يسمى غارمًا. فيدخل في عموم النص. وقيل: لا يعطى، لأنه غير محتاج إليه الآن.
وقيل: إن كان الأجل يحل تلك السنة أعطى، وإلا فلا يعطى من صدقات تلك السنة (انظر في هذه الشروط: المجموع: 6/207 - 209، ونهاية المحتاج: 6/154، 155، وشرح الخرشي على خليل: 2/218).(2/83)
والمختار عندي: ألا يعمل بأحد هذه الأقوال حتى ينظر في حصيلة الزكاة، وعدد المستحقين لها من سائر الأصناف، ومقادير حاجاتهم. فإن كانت الحصيلة كبيرة، وكان عدد أصناف المستحقين قليلاً، أخذ بالقول الأول، وأعطى من الزكاة من كان دينه حالاً أو مؤجلاً. وإن كان الأمر بالعكس عمل بالقول الثاني، وأوثرت الأصناف الأخرى على من كان دينه مؤجلاً. وإن كان الأمر وسطًا أخذ بالقول الثالث. والله أعلم.
وإن كان الفرد هو الذي يعطى الزكاة ويفرقها بنفسه، فينبغي أن يؤثر الأحوج فالأحوج.
الشرط الرابع: أن يكون شأن الدين مما يحبس فيه، فيدخل فيه دين الولد على والده، والدين على المعسر. ويخرج دين الكفارات والزكاة، لأن الدين الذي يحبس فيه ما كان لآدمي، وأما الكفارات والزكوات فهي لله (انظر حاشية الصاوي: 1/233).
هذا ما ذكره المالكية. ولم يشترط كل الفقهاء هذا الشرط. والحنفية يعتبرون الزكاة من الديون التي لها مطالب من جهة العباد، وهو الإمام.
كم يعطى الغارم لمصلحة نفسه؟
يعطى الغارم لمصلحته قدر حاجته، وحاجته هنا: هي قضاء دينه، فإن أعطى شيئًا فلم يقض الدين منه، بل برأه منه الدائن، أو قضاه عنه غيره، أو قضاه هو من غير مال الزكاة. فالصحيح أنه يسترجع منه، لاستغنائه عنه (المجموع: 6/209). وسواء أكان الدين قليلاً أم كثيرًا، فإن المطلوب سداده عنه، وتفريغ ذمته منه.
روعة الإسلام في موقفه من الغارمين
وموقف الإسلام من الغارمين والمستدينين بصفة عامة موقف فريد رائع:
( أ ) إنه أولاً يعلم أبناءه الاعتدال والاقتصاد في حياتهم حتى لا يلجأوا إلى الاستدانة.
( ب ) فإذا اضطرت المسلم ظروف الحياة إلى الاستدانة كان عليه أن يعقد العزم على التعجيل بالوفاء والأداء فيكسب بذلك معونة الله وتأييده فيما نوى: (من أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى عنه الله، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) (البخاري وأحمد وابن ماجه عن أبى هريرة (كنز العمال: 6/114).(2/84)
(جـ) فإذا عجز عن أداء الدين كله أو بعضه مع دلائل تصميمه على الوفاء فإن الدولة تتدخل لإنقاذه من نير الدين الذي يقصم الظهور. ويذل أعناق الرجال. ولهذا قيل: "الدين هم بالليل ومذلة بالنهار" وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يستعيذ منه ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء) (قال الحافظ في بلوغ المرام ص 313: رواه النسائي وصححه الحاكم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا).
وليس الدين خطرًا على نفسية المستدين واطمئنانه فحسب، بل هو خطر على أخلاقه وسلوكه كذلك. وهذا ما نبه عليه الحديث النبوي الكريم الذي رواه البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيرًا ما يستعيذ بالله من المغرم -الاستدانة- فسألوه عن سر ذلك ولماذا يكثر من الاستعاذة من ذلك، ويقرنه بالاستعاذة من عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، فقال لهم: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) (رواه البخاري في كتاب الاستقراض: باب من استعاذ من الدين).
وهى لفتة نبوية صادقة إلى أثر الحالة الاقتصادية في الأخلاق والسلوك، وهو ما لا ننكره، وإنما ننكر على القائلين به جعلهم الاقتصاد هو العامل الوحيد، والمؤثر الفذ في سلوك الإنسان.
وكان من الوسائل التي اتخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- في تنفير أصحابه من الدين أنه لم يكن يصلى على من مات من أصحابه وعليه دين لم يترك وفاءه، وفى هذا زجر شديد لأصحابه عن الاستدانة، فإن كل واحد منهم يحرص كل الحرص على صلاة النبي عليه، ودعائه له، ويعد الحرمان من ذلك عقوبة كبيرة، وخسارة عظيمة.(2/85)
ثم لما أفاء الله عليه، وفتح له، وكثرت موارد بيت المال، صار يتولى بنفسه سداد ديون المسلمين، وقد حدث بذلك أبو هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل: (هل ترك لدينه من قضاء)؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا قال: (صلوا على صاحبكم) فلما فتح الله عليه الفتوح قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى وعليه دين فعلى قضاؤه) (متفق عليه. بلوغ المرام ص 180، وانظر: كنز العمال: جـ 6 باب: الترهيبمن الاستقراض من غير ضرورة -ص 118- 122).
ومن ذلك ترغيب المسلمين في معاونة الغارمين، قضاء لحق الإخوة، وأداءً لواجب التعاون، وابتغاء مثوبة الله. فعن أبى سعيد الخدري -رضى الله عنه- قال: أصيب رجل في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثمار ابتاعها فكثر دينه فأفلس فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تصدقوا عليه).. فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لغرمائه: (خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك) (بلوغ المرام ص 177 باب: التفليس و الحجر).
ومن ذلك السهم الذي جعله القرآن في أموال الزكاة لسداد هذه المغارم عن المدينين: (فريضة من الله).
ذلك هو تشريع الإسلام وطريقه. إنه يعين المستدين على التحرر من ربقة الدين، وينتشله من وهدته، ولا يتركه يسقط فريسة الديون ويعلن إفلاسه.
وما عرفنا إلى اليوم شريعة غير الإسلام تنص في صلب دستورها على سداد الديون عن المدينين، وتجعل ذلك فريضة من الله.
إن الإسلام بسداده هذه الديون العادلة عن أصحابها من مال الزكاة. قد حقق هدفين كبيرين:
الأول: يتعلق بالمدين الذي أثقله الدين، وركبه من أجله هم الليل وذل النهار وأصبح معرضًا بسببه للمطالبة والمقاضاة والحبس وغير ذلك. فالإسلام يسدد دينه ويكفيه ما أهمه.(2/86)
الثاني: يتعلق بالدائن الذي أقرض صاحب الدين، وأعانه على مصلحته المشروعة، فالإسلام حين يساعد على الوفاء بدينه، يشجع أبناء المجتمع على أخلاق المروءة والتعاون والقرض الحسن. وبهذا تسهم الزكاة من هذا الجانب في محاربة الربا.
وهكذا تأخذ شريعة الإسلام بيد الغارم المجهود ولا تكلفه بيع حوائجه الأصلية ليسدد ما عليه، ويعيش فارغًا من المقومات الأساسية للحياة، محرومًا من كل أثاث ومتاع يليق بمثله. كلا، فقد كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى ولاته: أن اقضوا عن الغارمين، فكتب إليه من يقول: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم والفرس والأثاث -أي وهو مع ذلك غارم- فكتب عمر إنه لا بد للمرء المسلم من مسكن يكنه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته. نعم.. فاقضوا عنه فإنه غارم (الأموال ص 556).
هذا ما جاءت به شريعة الله، شريعة العدل والرحمة منذ أربعة عشر قرنًا. فأين من هذا ما جاءت به القوانين الوضعية، قوانين الحضارة والمدنية الحديثة من اضطرار التجار المدينين إلى إعلان إفلاسهم، وتصفية تجارتهم، وخراب بيوتهم، دون أن تقدم لهم الدولة أو المجتمع عونًا؟!.
ثم أين من هذا الموقف -موقف شريعة الله العادلة الرحيمة- ما جاء به القانون الروماني في بعض أدواره، حيث أباح للدائن أن يسترق المدين؟!! جاء في القانون الروماني المسمى "قانون الألواح الاثني عشر": "أن المدين إذا عجز عن دفع ديونه، يحكم عليه بالرق إن كان حرًا، ويحكم عليه بالحبس أو بالقتل إذا كان رقيقًا" !! (نقل ذلك مؤلف كتاب روح الدين الإسلامي ص 328).(2/87)
ومثل ذلك ما كان معروفًا في المجتمع العربي في الجاهلية، من بيع من أعسر في الدين، لحساب الدائن. وروى بعضهم أن ذلك قد استمر فترة في أول الإسلام، ثم نسخ، ولم يعد للدائن سبيل إلى رقبة المدين (انظر تفسير القرطبي: 3/271). قال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم، إن كنتم تعملون) (البقرة: 280).
النوع الثاني - الغارم لمصلحة الغير
والنوع الثاني من الغارمين فئة من أصحاب المروءة والمكرمات، والهمم العالية، عرفها المجتمع العربي والإسلامي، وهم الذين يغرمون لإصلاح ذات البين، وذلك بأن يقع بين جماعة عظيمة -كقبيلتين أو أهل قريتين- تشاجر في دماء وأموال، ويحدث بسببها الشحناء والعداوة، فيتوسط الرجل بالصلح بينهما، ويلتزم في ذمته مالاً عوضًا عما بينهم، ليطفئ الثائرة، فهذا قد أتى معروفًا عظيمًا، فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة. لئلا يجحف ذلك بسادات القوم المصلحين، أو يوهن عزائمهم، فجاء الشرع بإباحة المسألة فيها، وجعل لهم نصيبًا من الصدقة (الروض المربع: 1/4302). ومن الجميل أن يصرح علماؤنا: أن الغارم لإصلاح ذات البين يعطى من الزكاة لسداد غريمه ولو كان هذا الإصلاح بين جماعتين من أهل الذمة (انظر: مطالب أولى النهى: 2/143).
ومثل هؤلاء المصلحين بين الناس كل من يقوم من أهل الخير في عمل مشروع اجتماعي نافع كمؤسسة للأيتام، أو مستشفى لعلاج الفقراء، أو مسجد لإقامة الصلاة، أو مدرسة لتعليم المسلمين، أو ما شابه ذلك من أعمال البر والخدمة الاجتماعية، فإنه قد خدم في سبيل خير عام للجماعة، فمن حقه أن يساعد من المال العام لها. وليس في الشرع دليل يقصر الغارمين على من غرموا لإصلاح ذات البين دون غيرهم، فلو لم يدخل أولئك في لفظ "الغارمين". لوجب أن يأخذوا حكمهم بالقياس (انظر: تفسير القرطبي: 3/271).(2/88)
ومعنى هذا أن يعطى من استدان من أجل هذه الخدمات الاجتماعية النافعة من مال الزكاة ما يسد به دينه وإن كان غنيًا، كما نص على ذلك بعض الشافعية (ذهب بعض الشافعية إلى أن من استدان لعمارة أو فك أسير أو قرى ضيف ونحوه يعطى مع الغنى إذا كان غناه بملك العقار لا بالنقد. (انظر الروضة للنووي: 2/319)، وقال الرملي: على أنه لو قيل: لا أثر لغناه بالنقد أيضًا، حملاً على هذه المكرمة العام نفعها لم يكن بعيدًا (انظر نهاية المحتاج: 6/155).
وإذا كان النوع الأول قد استدانوا لمصلحة أنفسهم وأعينوا عليها، فهؤلاء قد استدانوا لمصلحة المجتمع وهم أولى بالمعونة، وإذا كان الأولون لا يعطون إلا مع الحاجة، فهؤلاء يعطون ولو مع الغنى (وهذا إن لم يكونوا قد دفعوا من مالهم فعلاً، لأنهم حينئذ لا يكونون مستدينين كما قال العلماء).
وقد ذكرنا في مصرف العاملين عليه حديث: (لا تحل الصدقة إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله عز وجل، أو لعامل عليها، أو لغارم).. الحديث.
وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسأله فيها فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها). ثم قال: (يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك -أي يكف عن السؤال- ورجل أصابته جائحة (كارثة) اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش- أو قال سدادًا من عيش- فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتًا) (رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار: 4/168- طبع العثمانية).(2/89)
والحمالة -بفتح الحاء- ما يتحمله الإنسان ويلتزمه في ذمته ليدفعه في إصلاح ذات البين، والسداد -بكسر السين- ما تسد به الحاجة والخلل، والقوام ما تقوم به حاجة ويستغني به (المصدر السابق).
وقوله فيمن تحمل حمالة: "فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك" دليل على أنه غنى؛ لأن الفقير ليس عليه أن يمسك حتى يصيب قوامًا من عيش (انظر: تفسير القرطبي: 8/184).
"وإنها لروعة من الإسلام أن يمد بالمال كل غارم لإصلاح ذات البين وإقرار السلام والوئام.. وروعة منه أن يمد بالمال والمعونة أصحاب الكوارث والجوائح ويأخذ بيدهم لينهضوا، قبل أن تعرف الدنيا بقرون نظام التأمين على الأشياء والممتلكات ضد الحوادث والأخطار.. وروعة منه أن يفتح ذراعيه بالمعونة للفقير الذي يشهد ثلاثة من ذوى الحجا من قومه أنه قد أصابته فاقة، لا لكل من يظهر الفاقة، ويدعى المسكنة.
وروعة ثم روعة أن يجعل الغاية من إعطاء هذا وذاك أن يصيب قوامًا من عيش، أو سدادًا من عيش، أي ما يقوم بمعيشته ويسد خلته، لا مجرد لقيمات يقيم بها صلبه" (من كتاب "العبادة في الإسلام" للمؤلف ص 221، 222- الطبعة الأولى).
قضاء دين الميت من الزكاة
بقى هنا سؤال: هل يجوز أن يقضى دين الميت من الزكاة كما يقضى دين الحي؟؟.
ذكر الإمام النووي في ذلك وجهين في مذهب الشافعي: أحدهما: لا يجوز قال: وهو قول الصيمري ومذهب النخعي وأبى حنيفة وأحمد.
والثاني: يجوز، لعموم الآية ولأنه يصح التبرع بقضاء دينه كالحي وبه قال أبو ثور (المجموع للنووي: 6/211).
وكذلك روى عن أحمد أنه لا يجوز دفع الزكاة في قضاء دين الميت، لأن الغارم هو الميت، ولا يمكن الدفع إليه. وإن دفعها إلى غريمه وهو الدائن صار الدفع إلى الغريم لا إلى الغارم (المغنى: 2/667).
والقول الثاني: يجوز، لعموم الآية، وهى تشمل كل غارم، حيًا كان أو ميتًا، ولأنه يصح التبرع بقضاء دينه كالحي، وبه قال مالك وأبو ثور (المجموع: 6/211).(2/90)
قال الخرشي في شرحه على متن خليل: ولا فرق في المدين بين كونه حيًا أو ميتًا، فيأخذ منها السلطان ليقضى بها دين الميت. بل قال بعضهم: دين الميت أحق من دين الحي في أخذه من الزكاة. أي لأنه لا يرجى قضاؤه بخلاف الحي (انظر شرح الخرشي وحاشية العدوى عليه: 2/218).
وقال القرطبي (تفسير القرطبي: 8/185): "قال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت، لأنه من "الغارمين" قال -صلى الله عليه وسلم-: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه؛ من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا (الضياع- بفتح الضاد- العيال، وأصله مصدر ضاع، والمعنى: ترك صغارًا ضائعين لفقرهم. فإلي وعلي) (متفق عليه)، وهو مذهب الجعفرية أيضًا (انظر فقه الإمام جعفر: 2/91 - 92).
والذي نرجحه: أن نصوص الشريعة وروحها لا تمنع قضاء دين الميت من الزكاة؛ لأن الله تعالى جعل مصارف الزكاة نوعين: نوع عبر عن استحقاقهم باللام التي تفيد التمليك وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم (وهؤلاء هم الذين يملكون) ونوع عبر عنه بـ "في" وهم بقية الأصناف: (في الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل) .. فكأنه قال: الصدقات في الغارمين ولم يقل: للغارمين.. فالغارم على هذا لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه، وهذا ما اختاره وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية (انظر فتاوى ابن تيمية: 1/299). ويؤيد هذا حديث: (من ترك دينًا أو ضياعًا فإلي وعلي).
القرض الحسن من الزكاة
بقى هنا بحث نتم به الحديث عن هذا المصرف، وهو إعطاء القروض الحسنة من الزكاة: هل يجوزذلك قياسًا للمستقرضين على الغارمين؟؟ أم نقف عند حرفية النص ولا نجيز ذلك، بناء على أن الغارمين هم الذين استدانوا بالفعل.(2/91)
أعتقد أن القياس الصحيح والمقاصد العامة للإسلام في باب الزكاة.. تجيز لنا القول بإقراض المحتاجين من سهم الغارمين. على أن ينظم ذلك وينشأ له صندوق خاص. وبذلك تساهم الزكاة مساهمة عملية في محاربة الربا.. والقضاء على الفوائد الربوية.
وهذا ما ذهب إليه الأساتذة: أبو زهرة وخلاف وحسن في بحثهم عن "الزكاة" معللين ذلك بأنه إذا كانت الديون العادلة تؤدى من مال الزكاة، فأولى أن تعطى منه القروض الحسنة الخالية من الربا، لترد إلى بيت المال (حلقة الدراسات الاجتماعية ص 254). فجعلوه من قياس الأولى.
وإلى مثل هذا الرأي ذهب الباحث العلامة الدكتور محمد حميد الله الحيدر آبادي الأستاذ بجامعة استانبول وباريس وغيرهما، في بحث له بعنوان "بنوك القرض بدون ربا" (نشرته مكتبة المنار بالكويت في سلسة "نحو اقتصاد إسلامي سليم" الحلقة الثانية). وقد أيد رأيه بأن القرآن جعل في ميزانية الزكاة سهمًا للغارمين، وهم المديونون قال: ومن المعلوم أنه يوجد نوعان من المديونين:
1- الذين لا يستطيعون بسبب الفقر المدقع وعدم الوسائل، أن يؤدوا ما عليهم من القرض في أجل مقدر.
2- الذين لهم حاجات مؤقتة. ولهم الوسائل ليؤدوا -في وقت قصير- المساعدة التي تلقوها على وجه الدين (انظر: ص 8 - 9 من البحث المذكور).
يريد الأستاذ أن يجعل هذا الصنف من الغارمين، ولكن كيف وهو قبل أن يأخذ القرض لم يكن غارمًا؟. فالأرجح ما سلكه فقهاؤنا الثلاثة: أبو زهرة وزميلاه أخذًا بقياس الأولى.
الفصل السادس
في سبيل الله
فهرس
تابع الموسعون في معنى سبيل الله
رأي رشيد رضا وشلتوت
فتوى مخلوف
موازنة وترجيح
"سبيل الله" في القرآن
معنى "سبيل الله" إذا قرن بالإنفاق
"سبيل الله" في آية مصارف الزكاة
أين يصرف سهم "سبيل الله" في عصرنا؟
تحرير أرض الإسلام من حكم الكفار
ليس كل قتال في سبيل الله
السعي لإعادة حكم الإسلام جهاد في سبيل الله
صور متنوعة للجهاد الإسلامي في عصرنا
تمهيد(2/92)
مذهب الحنفية
مذهب المالكية
مذهب الشافعية
مذهب الحنابلة
ما اتفق عليه المذاهب الأربعة في هذا المصرف
الموسعون في معنى سبيل الله
ما نقله القفال عن بعض الفقهاء
ما نسب إلى أنس والحسن .. ومناقشته
عند الإمامية الجعفرية
عند الزيدية
رأي صاحب الروضة الندية
آراء المحدثين - القاسمي
عبر القرآن الكريم عن المصرف السابع من مصارف الزكاة بقوله:(وفي سبيل الله) فما المقصود بهذا المصرف؟ ومن هم أهله الذي عنتهم الآية؟
إن المعنى اللغوي الأصلي للكلمة واضح، فالسبيل هو الطريق، وسبيل الله: الطريق الموصل إلى مرضاته اعتقادًا وعملاً.
قال العلامة ابن الأثير: "السبيل في الأصل: الطريق. و"سبيل الله" عام، يقع على كل عمل خالص سُلِكَ به طريق التقرب إلى الله عز وجل، بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات. وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه". (النهاية لابن الأثير: 2/156 - طبع المطبعة الخيرية).
وبهذا التفسير البين من ابن الأثير لكلمة "سبيل الله" يتضح لنا:
1- أن المعنى الأصلي للكلمة لغة هو: كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله فهو يشمل جميع الأعمال الصالحة، فردية كانت أو جماعية.
2- أن المعنى الغالب للكلمة والذي يفهم منها عند الإطلاق هو: الجهاد حتى صار لكثرة استعمالها فيه كأنه مقصور عليها.
وهذا التردد بين المعنيين كان سببًا لاختلاف الفقهاء في تعيين المقصود من هذا المصرف.
ولهذا كان المعنى الثاني داخلاً بإجماع الفقهاء في معنى "سبيل الله".
ولكن الخلاف بين العلماء في أمر آخر، وهو: هل يقصر معنى "سبيل الله" على الجهاد كما هو المتبادر عند الإطلاق؟ أم يتجاوز ذلك فيشمل المعنى الأصلي للكلمة في اللغة، فلا يقف عند حدود الجهاد، بل لا يبقى عمل من أعمال البر والخير إلا دخل فيه؟(2/93)
هذا ما نعرضه فيما يلي مبينين آراء الفقهاء واختلافهم في تحديد المراد الشرعي بهذا المصرف. مرجحين ما نرى أنه أولى بالصواب. وبالله التوفيق.
مذهب الحنفية
قال الحنفية في بيان "سبيل الله":
أريد بذلك - عند أبي يوسف - منقطع الغزاة؛ لأنه المفهوم عند إطلاق هذا اللفظ. والمراد بمنقطع الغزاة: الذين عجزوا عن اللحوق بجيش الإسلام لفقرهم بهلاك النفقة أو الدابة، أو غيرها، فتحل لهم الصدقة وإن كانوا كاسبين، إذ الكسب يقعدهم عن الجهاد.
وعند محمد: المراد بـ "سبيل الله" منقطع الحجاج، لما روي أن رجلاً جعل بعيرًا له في سبيل الله فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحمل عليه الحاج؛ ولأنه في سبيل الله تعالى، لما فيه من امتثال أوامره وطاعته، ومجاهدة النفس التي هي عدو لله تعالى.
وقيل: المراد "طلبة العلم"، واقتصر على هذا التفسير في الفتاوى الظهيرية. واستبعد بعضهم هذا التفسير؛ لأن الآية نزلت وليس هناك قوم يقال لهم "طلبة علم". ورد عليه بأن طلب العلم ليس إلا استفادة الأحكام الشرعية.
وهل يبلغ طالب علم رتبة من لازم النبي -صلى الله عليه وسلم- لتلقي الأحكام عنه، كأصحاب الصُفَّة؟
وفسره الكاساني في "البدائع" بجميع القُرَب والطاعات - كما هو المدلول الأصلي للفظ - فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى، وفي سبيل الخيرات، إذا كان محتاجًا.(2/94)
قال ابن نجيم في البحر: لا يخفى أن قيد الفقر لابد منه على الوجوه كلها. (انظر: الاختيار لتعليل المختار 1/119، والبحر الرائق 2/260، والدر المختار وحاشية رد المحتار عليه:2/83-84 طبع استانبول). وعلق العلامة صاحب المنار في تفسيره (انظر: تفسير المنار: 1/580 - الطبعة الثانية). على كلام صاحب البحر فقال: إنه بهذا القيد أبطل كون "سبيل الله" صنفًا مستقلاً. إذ أرجعه إلى الصنف الأول، وهم الفقراء والمساكين. (ذكر علماء الحنفية مثل هذا الاعتراض وأجابوا عنه بما لا يشفى. فقد نقل عن البحر عن النهاية قال: فإن قلت: منقطع الغزاة والحاج، إن لم يكن في وطنه مال فهو فقير، وإلا فهو ابن السبيل ... قلت: هو فقير، إلا أنه زاد عليه بالانقطاع في عبادة الله تعالى، فكان مغايرًا للفقير المطلق، الخالي عن هذا القيد. أ.هـ (انظر البحر 2/260، ورد المحتار: 2/84).
وأقول: ولكنه على كال حال لم يخرج عن صنف الفقراء. ونقل الآلوسي في تفسيره (3/328) عن بعضهم: أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام. أن من كان غنيًا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة، فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجًا له في إقامته، فيجوز أن يُعطى من الصدقة، وإن كان غنيًا في مصره).
فعلماء المذهب الحنفي - وإن اختلفوا في تعيين المراد بسبيل الله - مجمعون على أن الفقر والحاجة شرط لازم لاستحقاق كل من يعتبر في سبيل الله، سواء أكان غازياً، أم حاجاً، أم طالب علم، أم ساعياً في سبيل الخيرات . ولهذا قالوا: إن الخلاف لفظي للاتفاق على أن الأصناف كلهم يعطون بشرط الفقر فيما عدا العامل .
وقد عرفنا أن الفقير المحتاج له حقه المفروض في الزكاة وإن لم يكن متصفاً بأي من هذه الأوصاف .
فما الجديد الذي أفاده هذا المصرف إذاً ؟ ولماذا جعله القرآن صنفاً مستقلاً ؟.(2/95)
كما أن الحنفية مجمعون على أن الزكاة لا بد أن تُملّك لشخص، فلا يجوز صرفها لبناء مسجد ونحوه كبناء القناطر والسقايات وإصلاح الطرقات، وكرى الأنهار والحج والجهاد وكل ما لا تمليك فيه ككفن الميت وقضاء دَيْنه (رد المحتار: 2/85).
مذهب المالكية
نقل القاضي ابن العربي في "أحكام القرآن" - عند تفسير: (وفي سبيل الله) - عن مالك قال: سبل الله كثيرة، ولكني لا أعلم خلافًا في أن المراد بـ "سبيل الله" ههنا الغزو، من جملة "سبيل الله".
وعن محمد بن عبد الحكم قال: يُعطى من الصدقة في الكراع والسلاح وما يُحتاج إليه من آلات الحرب، وكف العدو عن الحَوْزة؛ لأنه كله في سبيل الغزو ومنفعته. وقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حثمة، إطفاءً للثائرة" (أحكام القرآن: 2/957).
وفي شرح الدردير على "متن خليل": أن الزكاة يُعطى منها المجاهد والمرابط وما يلزمهما من آلة الجهاد، بأن يشتري منها سلاح أو خيل لينازل عليها، ويأخذ المجاهد من الزكاة ولو كان غنيًا؛ لأن أخذه بوصف الجهاد لا بوصف الفقر. ويُعطى منها جاسوس يُرسَل للاطلاع على عورات العدو ويعلمنا بها ولو كان كافرًا. ولكنه - تبعًا لخليل - لم يجز صرف الزكاة لبناء سور حول البلد ليحتفظ به من الكفار، ولا في عمل مركب يقاتل فيها العدو (هذا مع أن الدردير نفسه في شرحه الصغير قيّد المنع من صرف الزكاة في الأسوار والسفن ونحوها إذا كان لغير جهاد في سبيل الله. انظر الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه ص 233 - 234).
وذكر الدسوقي في حاشيته: أن المنع من بناء الأسوار وصناعة المراكب ونحوها إنما هو قول ابن بشير ولم يُعرف لغيره. ومقابله ما ذكر عن ابن عبد الحكم، ولم يذكر اللخمي غيره، واستظهره في التوضيح. وقال ابن عبد السلام: هو الصحيح (انظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 1/497).
ويلاحظ على مذهب المالكية هنا:(2/96)
1- أنهم متفقون على أن "سبيل الله" يتعلق بالغزو، والجهاد، وما في معناه كالرباط. أما الحنفية فقد اختلفوا ما بين الجهاد، والحج، وطلب العلم، وسائر القُرَب.
2- أنهم يرون إعطاء المجاهد، والمرابط ولو كان غنيًا، بخلاف الحنفية. ورأيهم هنا أقرب إلى ظاهر القرآن حيث جعله مصرفًا مستقلاً عن مصرف الفقراء والمساكين. وأقرب إلى السنة، فقد جاء في الحديث: (لا تحل الصدقة لغنى إلا لخمسة) .. وذكر منهم: (الغازي في سبيل الله) وقد مر في الغارمين. وقد ضعف ابن العربي رأي الحنفية في اشتراطهم الفقر في الغازي، وقال: هذه زيادة على النص، وعندهم أن الزيادة على النص نسخ، ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو خبر متواتر! (انظر: أحكام القرآن: 2/957).
3- أن جمهورهم يجيزون الصرف في مصالح الجهاد كالسلاح، والخيل، والأسوار، والسفن الحربية، ونحوها. ولم يقصروا الصرف على أشخاص المجاهدين كما هو مذهب الحنفية الذين يوجبون تمليك الزكاة لشخص معين.
والحق أن رأي المالكية هنا أليق بتعبير القرآن عن هذا المصرف بحرف "في" - لا بـ "لام" التمليك - لأن الظاهر من هذا التعبير أن يكون الصرف في مصلحة الجهاد قبل أن يكون لأشخاص المجاهدين.
مذهب الشافعية
ومذهب الشافعية: أن "سبيل الله" - كما في المنهاج للنووي وشرحه لابن حجر الهيثمي - هم الغزاة المتطوعون الذين لا يتقاضون راتباً من الحكومة، أو بعبارة ابن حجر: لا سهم لهم في ديوان المرتزقة بل هم متطوعة يغزون إذا نشطوا، وإلا فهم في حرفهم وصنائعهم قال: و"سبيل الله" وضعًا: الطريق الموصلة إليه تعالى، ثم كثر استعماله في الجهاد؛ لأنه سبب الشهادة الموصلة إلى الله تعالى، ثم وضع على هؤلاء؛ لأنهم جاهدوا لا في مقابل، فكانوا أفضل من غيرهم (تحفة المحتاج بشرح المنهاج: 3/96، وانظر نهاية المحتاج: 6/155 - 156). فيعطى هؤلاء ما يعينهم على الغزو ولو كانوا أغنياء.(2/97)
ونص الشافعي في "الأم": "ويعطى من سهم "سبيل الله" جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرًا كان أو غنيًا، ولا يعطى منه غيرهم، إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين" (الأم: 2/60 ط طبع بولاق).
وإنما اشترط جيران الصدقة؛ لأنه لا يجوز عنده نقل الزكاة إلى غير بلد المال.
قال النووي في الروضة:
وأما الغازي فيعطى النفقة والكسوة مدة الذهاب والرجوع، ومدة المقام بالثغر وإن طال، وهل يعطى جميع المؤنة أم ما زاد بسبب السفر؟ وجهان.
ويعطى ما يشتري به الفرس إن كان يقاتل فارسًا، وما يشتري به السلاح، وآلات القتال، ويصير ذلك ملكًا له، ويجوز أن يُستأجر له الفرس، والسلاح.
ويختلف ذلك بحسب كثرة المال وقلته. وإن كان يقاتل راجلاً، فلا يعطى لشراء الفرس ..
قال النووي في بعض شروح المفتاح: أنه يعطى الغازي نفقته ونفقة عياله ذهاباً ومقامًا ورجوعًا، وسكت الجمهور عن نفقة العيال، لكن أخذها ليس ببعيد.
وقال: للإمام الخيار: إن شاء دفع الفرس والسلاح إلى الغازي تمليكًا، وإن شاء استأجر له مركوباً، وإن شاء اشترى خيلاً من هذا السهم ووقفها في سبيل الله تعالى، فيعيرهم إياها وقت الحاجة، فإذا انقضت استرد (الروضة للنووي: 2/326 - 327).
وبحث الشافعية هنا فيما إذا عدم الفيء ولم يكن مع الإمام شيء للمرتزقة واحتاج المسلمون إلى من يكفيهم شر الكفار، فهل يعطى المرتزقة من الزكاة من سهم "سبيل الله" ؟ قال النووي: فيه قولان، أظهرهما: لا، بل يجب إعانتهم على أغنياء المسلمين (الروضة للنووي: 2/321).
وإذا امتنع الأغنياء، أو لم يوجد عندهم فضل أموال، ولم يجد الإمام غير أهل الفيء فهل يحل لهم أن يأخذوا من الزكاة كفايتهم؟
استظهر ابن حجر في شرح المنهاج: أن ذلك يحل لهم (تحفة المحتاج: 3/96).
ونلاحظ هنا:(2/98)
أن مذهب الشافعية يوافق مذهب المالكية في قصر هذا المصرف على الجهاد والمجاهدين، وفي جواز إعطاء المجاهد ما يعينه على الجهاد، ولو كان غنيًا، وفي إجازة الصرف على ما يلزم للمجاهدين من سلاح ومعدات.
ولكن الشافعية هنا خالفوا المالكية في أمرين:
1- أنهم اشترطوا أن يكون المجاهدون متطوعة، وليس لهم سهم أو راتب في الخزانة العامة.
2- أنهم لا يجيزون أن يصرف في هذا السهم أكثر مما يصرف على السُّهمان الأخرى من الفقراء والمساكين .. إلخ. بناء على قول الشافعي بوجوب التسوية بين الأصناف، كما سنبينه في الفصل الثامن من هذا الباب.
مذهب الحنابلة
ومذهب الحنابلة - كمذهب الشافعية - أن المراد بـ "سبيل الله" هو الغزاة المتطوعة الذين ليس لهم راتب، أو لهم دون ما يكفيهم، فيُعطى المجاهد منهم ما يكفيه لغزوه. ولو كان غنياً. وإن لم يغز بالفعل رد ما أخذه. ويتوجه عندهم: أن الرباط على الثغور كالغزو كلاهما في سبيل الله.
وذكر في "غاية المنتهى" وشرحه: أنه يجوز للإمام أن يشتري من مال الزكاة فرساً، ويدفعها لمن يغزو عليها، ولو كان الغازي هو صاحب الزكاة نفسه؛ لأنه بريء منها بدفعها للإمام. كما يجوز له أن يشتري منها أيضًا سفنًا ونحوها للجهاد؛ لأنها من حاجة الغازي ومصلحته، وكل ما فيه مصلحة للمسلمين يجوز للإمام فعله؛ لأنه أدرى بالمصالح من غيره.
وهذا بخلاف رب المال فلا يجوز له أن يشتري بزكاته فرسًا يحبسها في سبيل الله، أو عقارًا يقفه على الغزاة؛ لعدم الإيتاء المأمور به (انظر مطالب أولي النهى: 2 / 147 - 148).
أما الحج ففيه روايتان عن أحمد:(2/99)
إحداهما: أنه من سبيل الله، فيعطى الفقير من الزكاة ما يحج به حجة الإسلام أو يعينه فيها، لحديث أم معقل الأسدية: أن زوجها جعل بَكْرًا في سبيل الله. وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرت له، فأمره أن يعطيها وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الحج والعمرة في سبيل الله) (رواه أحمد وأصحاب السنن وهو ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً مجهولاً وراويًا متكلمًا فيه، كما أن فيه اضطرابًا. وأخرج أبو داود الحديث برواية أخرى، وفي إسنادها محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن. (انظر نيل الأوطار: 4/181 - طبع الحلبي).
وقد روي هذا عن ابن عباس، وابن عمر، وهو قول إسحاق أيضًا.
والثانية: أنه لا يصرف من الزكاة في الحج كما هو قول الجمهور، قال ابن قدامة في المغني: وهذا أصح؛ لأن سبيل الله عند الإطلاق إنما ينصرف إلى الجهاد، فإنّ كل ما في القرآن من ذكر سبيل الله إنما أريد به الجهاد إلا اليسير، فيجب أن يُحمل ما في الآية على ذلك؛ لأن الظاهر إرادته به، ولأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين: محتاج إليها كالفقراء والمساكين، وفي الرقاب، والغارمين لقضاء ديونهم، أو ممن يحتاج إليه المسلمون كالعامل، والغازي، والمؤلَّف، والغارم لإصلاح ذات البين. والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه، ولا حاجة بهم إليه ولا حاجة به أيضًا؛ لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفهه الله منها. وخفف عنه إيجابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف. أو دفعه في مصالح المسلمين أولى" (المغني لابن قدامة: 6/47 - طبع الإمام).
وهذا التوجيه النَيِّر العميق، لا يحتاج إلى تعليق.(2/100)
أما الحديث الذي استندت إليه الرواية الأخرى عن أحمد، فقد ضعف سنده، وعلى فرض التسليم بصحته، فقد أجاب عنه بعض الشافعية بأنَّا لا نمنع أن يقال: الحج من سبيل الله، وإنما النزاع في "سبيل الله" في آية: (إنما الصدقات) وحديث: ( لا تحل الصدقة إلا لخمسة) وذكر منها: (الغازي في سبيل الله) يدل على المراد في الآية. على أن في أصل دلالة ذلك الحديث على الدعوى نظرًا؛ لأن الذي فيه إعطاء بعير جُعِلَ صدقة في سبيل الله، كما في رواية، أو أوصى به لسبيل الله - كما في أخرى - لمن يحج عليه، فلو افترضنا أنه بعير زكاة، فيُحتمل أن يكون مَن أعطيه فقيرًا يستحق الانتفاع به، أو أنه أركبه من غير تمليك له ولا تملك (انظر تحفة المحتاج: 3/96).
ما اتفق عليه المذاهب الأربعة في هذا المصرف
يلاحظ مما نقلناه عن المذاهب الأربعة أنها اتفقت في هذا المصرف على أمور ثلاثة:
1- أن الجهاد داخل في سبيل الله قطعًا.
2- مشروعية الصرف من الزكاة لأشخاص المجاهدين، بخلاف الصرف لمصالح الجهاد ومعداته، فقد اختلفوا فيه.
3- عدم جواز صرف الزكاة في جهات الخير والإصلاح العامة من بناء السدود والقناطر، وإنشاء المساجد والمدارس، وإصلاح الطرق وتكفين الموتى، ونحو ذلك. وإنما عبء هذه الأمور على موارد بيت المال الأخرى من الفيء والخراج وغيرها.
وإنما لم يجز الصرف في هذه الأمور لعدم التمليك فيها، كما يقول الحنفية، أو لخروجها عن المصارف الثمانية، كما يقول غيرهم.
أما ما نقل عن "البدائع" من تفسيره بجميع القُرَب والطاعات، فقد اشترط فيه تمليك الزكاة لشخص، فلا تعطى لجهة عامة، كما اشترط أن يكون الشخص فقيرًا لهذا لا يخرج هذا الرأي عن دائرة المضيقين في مدلول "سبيل الله".
وانفرد أبو حنيفة باشتراط الفقر في المجاهد. كما انفرد أحمد بجواز الصرف للحجاج والُعمَّار.(2/101)
واتفق الشافعية والحنابلة على اشتراط أن يكون المجاهدون الذين يأخذون الزكاة من المتطوعين غير المرتبين في الديوان.
واتفق - ما عدا الحنفية - على مشروعية الصرف على مصالح الجهاد في الجملة.
الموسعون في معنى سبيل الله
ومن العلماء - قديمًا وحديثًا - من توسع في معنى "سبيل الله" فلم يقصره على الجهاد وما يتعلق به، بل فسره بما يشمل سائر المصالح والقربات وأعمال الخير والبر، وفقًا للمدلول الأصلي للكلمة وضعًا.
ما نقله القفال عن بعض الفقهاء:
من ذلك ما نبه عليه الإمام الرازي في تفسيره حيث ذكر: أن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: (وفي سبيل الله) لا يوجب القصر على الغزاة. ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في تفسيره عن بعض الفقهاء: أنها أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير: من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: (وفي سبيل الله) عام في الكل (تفسير الفخر الرازي 16/113 )أ.هـ.
ولم يبين لنا من هم هؤلاء الفقهاء، ولكن المحققين من العلماء لا يطلقون وصف الفقيه إلا على المجتهد. كما أن الرازي لم يعقب على نقل القفال بشيء، مما يوحي بميله إليه.
ما نسب إلى أنس والحسن .. ومناقشته:
ونسب ابن قدامة في "المغني" هذا الرأي إلى أنس بن مالك والحسن البصري. فقد قالا: "ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية" (المغني: 2/167).
فدلت هذه العبارة على جواز صرف الزكاة في إنشاء الجسور والطرق وإصلاحها، فهي صدقة ماضية .. أي جائزة ومقبولة.(2/102)
ولكن أبا عبيد روى عنهما العبارة المذكورة، دالة على معنى آخر. فقد ذكر أن المسلم إذا مرَّ بصدقته على العاشر، فقبضها منه تجزئه من الزكاة. وكان العاشرون - وهم محصِّلون معينون من قِبَل ولي الأمر - يقفون في الجسور والطرق، ليأخذوا من تجار أهل الحرب المستأمنين وأهل الذمة والمسلمين ما هو مفروض عليهم من ضرائب تجارية، أشبه بما نسميه الآن "الضرائب الجمركية"، فقد كانوا يقفون على الحدود غالبًا. وروى أبو عبيد من أقوال التابعين ومن بعدهم، كإبراهيم والشعبي وأبي جعفر الباقر - محمد بن علي - ما يؤكد هذا المعنى، وهو احتساب ما يأخذه العاشر من الزكاة، وقد جاء عن الحسن نفسه صريحًا. على خلاف ما قال ميمون بن مهران في ذلك: إنه يخرج زكاة ماله، ولا يعتد بما أخذ منه. ولكن أبا عبيد قال: والأمر عندنا على ما قال أنس والحسن وإبراهيم والشعبي ومحمد بن علي، وعليه الناس (انظر الأموال ص 573 - 575).
وكذلك رواه ابن أبي شيبة (في المصنف: (3/166) طبع حيدرآباد، ونص الرواية: ما أخذ منك على الجسور والقناطر فتلك زكاة قاضية). عنهما في "باب من قال: يحتسب بما أخذ العاشر" كما صنع أبو عبيد، وعلى هذا لا تستقيم نسبة الرأي الذي ذكره ابن قدامة إلى أنس والحسن رضي الله عنهما.
عند الإمامية الجعفرية:
وفي "المختصر النافع" من كتب الإمامية الجعفرية. قال: (وفي سبيل الله) وهو كل ما كان قربة أو مصلحة كالحج والجهاد وبناء القناطر، وقيل: يختص بالجهاد (المختصر النافع ص 59 - طبع دار الكتاب العربي - القاهرة).(2/103)
وفي "جواهر الكلام في شرائع الإسلام" وهو من موسوعات الفقه الجعفري، ذكر أن المصالح، كبناء القناطر والمساجد والحج، وجميع سُبُل الخير تدخل في سبيل الله، وأن عليه عامة المتأخرين. وأيد ذلك بأنه مقتضى اللفظ؛ لأن السبيل هو الطريق، فإذا أضيف إلى الله كان عبارة عن كل ما يكون وسيلة إلى تحصيل رضا الله وثوابه، فيتناول الجهاد وغيره (جواهر الكلام: 2/79، وانظر شرائع الإسلام للحلي: 1/87 - طبع دار مكتبة الحياة. وفقه الإمام جعفر : 2/92).
عند الزيدية:
وجاء في "الروض النضير" - من كتب الزيدية - في شرح ما جاء عن الإمام زيد: أن الزكاة لا يعطى منها في كفن الميت ولا بناء مسجد. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولها في صنف "سبيل الله"، إذ هو طريق الخير على العموم، وإن كثر استعماله في فرد من مدلولاته. وهو الجهاد، لكثرة عروضه في أول الإسلام - كما في نظائره - لكن لا إلى حد الحقيقة العرفية، فهو باق على الوضع الأول، فيدخل فيه جميع أنواع القرب، على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة، إلا ما خصه الدليل. وهو ظاهر عبارة "البحر" في قوله: قلنا: ظاهر "سبيل الله" العموم إلا ما خصَّه الدليل (الروض النضير: 2/428، والبحر: 2/182).
فهذا يدل على أن صاحبي "البحر" و"الروض" رجحا التوسع في معنى "سبيل الله".
وفي شرح الأزهار: أنه يجوز في هذا الصنف أن تصرف فضلة نصيبه من الزكاة في مصالح المسلمين العامة. نص على ذلك الإمام الهادي. قال أبو طالب: وإنما يصرف فيهذه المصالح مع غناء الفقراء، فأما لو كان ثَمَّ فقير محتاج كان أحق بالزكاة. ورأي بعضهم أن هذا الشرط على طريق الاستحباب، وإلا فلو صرف مع وجود الفقراء جاز.
ونقل في حواشي الأزهار عن البحر: أن الصرف في المصالح ليس خاصًا بما فضل من سبيل الله، بل يصرف ما فضل من سهام الثمانية في المصالح، كما يُصرف للفقير من أموال المصالح (انظر: شرح الأزهار وحواشيه ص 115 - 116).(2/104)
رأي صاحب الروضة الندية:
وفي الروضة الندية للسيد صديق حسن خان، وهو على مذهب أهل الحديث المستقلين قال: "أما سبيل الله، فالمراد هنا: الطريق إليه عز وجل، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل - لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به. بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقًا إلى الله عز وجل. هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعًا، ثم قال: ومن جملة "سبيل الله" الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية، فإن لهم في مال الله نصيبًا، سواء أكانوا أغنياء أو فقراء. بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين. وبهم تحفظ بيضة الإسلام، وشريعة سيد الأنام" أهـ (الروضة الندية: 1/206 - 207).
آراء المحدثين - القاسمي:
ذكر الشيخ جمال الدين القاسمي - رحمه الله - في تفسيره ما ذكره الرازي من أن ظاهر اللفظ لا يوجب القصر على الغزاة، وما نقله القفال عن بعض الفقهاء في ذلك، ثم ذكر قول صاحب "التاج": "كل سبيل أريد به الله عز وجل - وهو بر - داخل في سبيل الله" (محاسن التأويل: 7/3181 ). وسكت عن هذه النقول، ولم يعقب عليها، وهو يوحي بموافقة ضمنية، أو بعدم الاعتراض.
رأي رشيد رضا وشلتوت:
أما السيد رشيد رضا - صاحب المنار - رحمة الله. فقد قال في تفسير آية المصارف ما نصه:
"التحقيق أن سبيل الله هنا: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد. وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه كالصلاة والصيام، لا من المصالح الدينية الدولية ... ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج، إن لم يوجد لذلك مصرف آخر (تفسير المنار: 1/585 - الطبعة الثانية).(2/105)
وذكر صاحب المنار - بعد ذلك بقليل (المصدر السابق ص 587) - أن سبيل الله يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة. وأوليها وأولها بالتقديم الاستعداد للحرب، لشراء السلاح، وأغذية الجند، وأدوات النقل، وتجهيز الغزاة ( وهذا بالنسبة للحرب الإسلامية والجيوش الإسلامية التي تقاتل لإعلاء كلمة الله فحسب)، وتقدم مثله عن محمد بن عبد الحكم، ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك؛ لأنه لا يملكه دائماً بصفة الغزو التي قامت به، بل يستعمله في سبيل الله، ويبقى بعد زوال تلك الصفة عنه في سبيل الله، ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية، وكذا الخيرية العامة، وإشراع الطرق وتعبيدها، ومد الخطوط الحديدية العسكرية - لا التجارية - ومنها بناء البوارج المدرعة والمطارات الحربية والحصون والخنادق، ومن أهم ما يُنفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام، وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي كما يفعله الكفار في تبشير دينهم. وقد بينا تفصيل هذه المصلحة العظيمة في تفسير قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) (آل عمران: 104) أ.هـ.
وكذا فسر الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله- "سبيل الله" بأنه: "المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، والتي لا يختص بالانتفاع بها أحد، فملكها لله، ومنفعتها لخلق الله، وأولاها وأحقها: التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي، وتحفظ الكرامة، ويشمل العدد والعُدَّة على أحدث المخترعات البشرية، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية، ويشمل تعبيد الطرق، ومد الخطوط الحديدية، وغير ذلك، مما يعرفه أهل الحرب والميدان. ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يُظهرون جمال الإسلام وسماحته، ويفسرون حكمته، ويبلغون أحكامه، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم.(2/106)
"وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذين تواتر - ويتواتر - بهم نقله كما أنزل، من عهد وحيه إلى اليوم، وإلى يوم الدين إن شاء الله" أ.هـ. (الإسلام عقيدة وشريعة ص 97 - 98، طبع الأزهر).
وهو تأييد لما ذهب إليه صاحب المنار رحمه الله.
وعلى هذا الأساس أفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد فكان جوابه: "إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية. أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها، ويحتاجون إلى مسجد آخر، صح شرعًا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه، والصرف على المسجد في تلك الحالة يكون من المصرف الذي ذكر في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم "سبيل الله" .
وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة " سبيل الله" المصالح العامة، التي ينتفع بها المسلمون كافة، ولا تخص واحدًا بعينه، فتشمل المساجد والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها، مما يعود نفعه على الجماعة. وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء (ثم ذكر الشيخ، ما نقله الرازي في تفسيره عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير ... ) إلى أن قال: " وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره، وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق" أ هـ (الفتاوى للشيخ شلتوت ص 219 - طبع الأزهر).
فتوى مخلوف:
وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة. فأفتى بالجواز، مستندًا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى "سبيل الله" (انظر: فتاوى شرعية للشيخ مخلوف الجزء الثاني).
موازنة وترجيح(2/107)
بعد أن ذكرنا أقوال المذاهب الأربعة التي قصر أغلبها "سبيل الله" على الجهاد، وما في معناه، وذكرنا أقوال الآخرين من القدامي والمحدَثين الذي توسعوا في مدلول سبيل الله، يلزمنا أن نبين أي الوجهتين أولى بالصواب وأحق بالترجيح.
لقد اعتمد الموسِّعون على دليل واضح هو المعنى الوضعي الأصلي للفظة "سبيل الله" فهي تشمل كل عمل خيري. وكل ما يعود على المسلمين بالمنفعة، فأجازوا - على هذا - الصرف في بناء المساجد والمدارس والمستشفيات، وفي كل المشروعات الإنشائية الخيرية.
أما الجمهور من فقهاء المذاهب الأربعة، فقد منعوا ذلك معتمدين على دليلين:
الأول: وهو الذي عليه عول الحنفية - أن ركن الزكاة هو التمليك، وهو منعدم في الصرف إلى جهات الخير التي لا ملكية فيها لأحد. والدليل على ركنية التمليك: أن الله تعالى سماها صدقة، وحقيقة الصدقة تمليك المال للفقير (فتح القدير: 2/20).
الثاني: أن الأمور المذكورة من بناء المساجد والمدارس والسقايات ونحوها، ليست من المصارف الثمانية التي حددها القرآن بقوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء) ... الآية، و"إنما" للحصر والإثبات، تثبت المذكور وتنفي ما عداه. ولحديث: (إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء) .... الحديث، وهذا ما اعتمد عليه ابن قدامة في المغني (المغني: 2/167).
أما الدليل الأول ففيه نظر، لما ذكرنا من قبل: أن المصارف التي عبر عنها القرآن بحرف "في" لا يشترط فيها التمليك. وعلى هذا أفتى من الفقهاء من أفتى بجواز إعتاق الرقاب وقضاء دين الميت من الزكاة، مع انعدام التمليك. ثم إن التمليك يتحقق بإعطاء الزكاة لأولي الأمر، وليس بلازم أن يضعها المالك في يد الفقير، فإذا قبضها الإمام أو نائبه، كان له أن يصرفها في هذه الأمور.(2/108)
أما الدليل الثاني القائم على حصر المصارف في ثمانية، فليس بكاف في الرد على المتوسعين، ما دام هؤلاء يقولون: إن هذه الأمور من بناء المساجد وغيرها هي من "سبيل الله" فلم تخرج عن المصارف التي حصرها الله. بـ "إنما" .. ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من "سبيل الله" هل هو خاص بالغزو والقتال - كما هو رأي الجمهور - أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة - كما هو رأي من ذكرنا - وكما يدل عليه عموم اللفظ.
ولكي نحدد هذا المراد تحديدًا دقيقًا، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت، فخير ما يفسر القرآن بالقرآن.
"سبيل الله" في القرآن
ذكرت كلمة: " في سبيل الله" في القرآن العزيز بضعًا وستين مرة (راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). وقد جاء ذكرها على طريقتين:
1- فتارة تجر بحرف "في" (في سبيل الله) .. كما في آية مصارف الزكاة هذه وهو أكثر ما ورد في القرآن، وتارة تجر بحرف "عن": (عن سبيل الله) .. وذلك في ثلاثة وعشرين موضعًا من القرآن.
وفي هذه المواضع جاءت بعد واحد من فعلين إما الصد مثل: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالاً بعيدًا) (النساء: 167) .. (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) (الأنفال36 ). وإما الإضلال مثل: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) (لقمان: 6 ).
2- وحينما تجر بـ "في" - وهو أكثر ما ورد في القرآن - يكون ذلك بعد فعل الإنفاق: (وأنفقوا في سبيل الله) (البقرة: 195 )، أو الهجرة: (والذين هاجروا في سبيل الله) (الحج: 58 )، أو الجهاد: (وجاهدوا في سبيل الله) (البقرة: 218 )، أو القتال أو القتل: (يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون وُيقْتّلون) (التوبة: 11)، (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) (البقرة: 154)، أو المخمصة أو الضرب وما يشبهها. فما المراد بـ "سبيل الله" في آيات القرآن؟(2/109)
إن "السبيل" في اللغة هو الطريق. و"سبيل الله" هو الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته، وهو الذي بعث النبيين ليهدوا الخلق إليه، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (النحل: 125 )، وأن يعلن في الناس: (هذه سبيلي أدعوا إلى الله، على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف:108 ).
وهناك سبيل آخر مضاد، هو سبيل الطاغوت، وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله، وقد قال الله تعالى مقارنًا بين الطريقين وأصحابهما: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) (النساء 76 ).
وسبيل الله: دعاته قليلون، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون: (ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) (الأنفال: 36). (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) (لقمان: 6). (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) (الأنعام: 116). هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه، ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (سورة ص: 26).
وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن "سبيل الله" فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم، وينفقوا أموالهم في "سبيل الله"، وهذا ما فرضه الإسلام، فجعل جزءًا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير " في سبيل الله" . كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في "سبيل الله".
معنى "سبيل الله" إذا قرن بالإنفاق
والمتتبع لكلمة "سبيل الله" مقرونة بالإنفاق، يجد لها معنيين:(2/110)
1- معنى عام - حسب مدلول اللفظ الأصلي يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات. وذلك كقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) (البقرة:261)، وقوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة:262). فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيه مقصور على القتال، وما يتعلق به، بدليل ذكر المن والأذى، وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة، وبخاصة الأذى. وكذلك قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (التوبة: 34) فالمراد بـ "سبيل الله " في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري: 3/172) - لا خصوص القتال. وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها - دون خصوص القتال - داخلاً في دائرة الكانزين والمبشَّرين بالعذاب.
وزعم بعض المعاصرين: أن كلمة " في سبيل الله" إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزمًا، ولا تحتمل غيره مطلقًا (النظام الاقتصادي في الإسلام - تقي الدين النبهاني - من منشورات حزب التحرير ص 208 - الطبعة الثالثة). وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه.(2/111)
2- والمعنى الثاني معنى خاص وهو نُصرة دين الله ومحاربة أعدائه وإعلاء كلمته في الأرض، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق. وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل: "قاتلوا في سبيل الله"، و "جاهدوا في سبيل الله" ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (البقرة: 195). فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه.
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد: (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض، لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى) (الحديد: 10). فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة.
وفي سورة الأنفال قال تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (الأنفال: 60). فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله، ونصرة دين الله، كما صرح بذلك الحديث الصحيح: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري).
وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانًا بالجهاد والغزو. وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى، وإلا لكان مضمون معنى: "جاهدوا في سبيل الله" جاهدوا في الجهاد
"سبيل الله" في آية مصارف الزكاة
وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان: العام والخاص - كما ذكرنا - فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يُذكر لفظه؟(2/112)
إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة، لا تحصر أصنافها فضلاً عن أشخاصها. وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية. كما هو ظاهر الآية، وكما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء)، كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى؛ لأنها جميعًا من البر وطاعة الله، فما الفرق إذن بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه؟
إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن يُنَزَّه عن التكرار بغير فائدة، فلابد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد، وقالوا: إنه المراد به عند إطلاق اللفظ. ولهذا قال ابن الأثير: إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه. كما نقلناه عنه في أول الفصل.
ومما يؤيد ما قاله ابن الأثير. ما رواه الطبراني: أن الصحابة كانوا يومًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأوا شابًا جلدًا، فقالوا: لو كان شبابه وجلده في سبيل الله؟! (قال المنذري في الترغيب (3/4 - طبع المنيرية): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح). يريدون : في الجهاد ونُصرة الإسلام.(2/113)
وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة "سبيل الله" هو الجهاد - يقول كقول عمر في الحديث الصحيح : ( حملتُ على فرس في سبيل الله ) - يعني في الجهاد، وحديث الشيخين: ( لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)، وحديث البخاري: (من احتبس فرسًا في سبيل الله، إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن شبعه، وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة) - يعني حسناته، وحديث الشيخين: (ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)، وحديث النسائي والترمذي وحسنه: (من أنفق في سبيل الله كتبت بسبعمائة ضعف)، وحديث البخاري: (ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله، فتمسه النار) (خرج هذه الأحاديث كلها المنذري في الترغيب - الجزء الثاني - كتاب الجهاد). وغيرها كثير.
ولم يفهم أحد من "سبيل الله" فيها إلا الجهاد.
فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من "سبيل الله" في آية المصارف، هو الجهاد، كما قال الجمهور، وليس المعنى اللغوي الأصلي، وقد أيد ذلك حديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة) .. وذكر منهم الغارم والغازي في "سبيل الله".
ولهذا أوثر عدم التوسع في مدلول "سبيل الله" بحيث يشمل كل المصالح والقربات. كما أرجح عدم التضييق فيه، بحيث لا يقتصر على الجهاد بمعناه العسكري المحض.
إن الجهاد قد يكون بالقلم واللسان، كما يكون بالسيف والسنان. قد يكون الجهاد فكريًا، أو تربويًا، أو اجتماعيًا، أو اقتصاديا، أو سياسيًا. كما يكون عسكريًا.
وكل هذه الأنواع من الجهاد تحتاج إلى الإمداد والتمويل.
المهم أن يتحقق الشرط الأساسي لذلك كله، وهو أن يكون "في سبيل الله" أي في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمته في الأرض، فكل جهاد أريد به أن تكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. أيًا كان نوع هذا الجهاد وسلاحه.(2/114)
يقول الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وفي سبيل الله): "يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقته وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه. وذلك هو غزو الكفار".
والجزء الأول من كلام شيخ المفسرين واضح ومقبول، وهو يشمل كل نفقة في نصرة الإسلام وتأييد شريعته، أما قتال أعداء الله وغزو الكفار، فليس إلا وجهًا واحدًا من أوجه النصرة لهذا الدين.
فالنصرة لدين الله وطريقته وشريعته تتحقق بالغزو والقتال في بعض الأحوال، بل قد يتعين هذا الطريق في بعض الأزمنة والأمكنة لنصرة دين الله. ولكن قد يأتي عصر - كعصرنا - يكون فيه الغزو الفكري والنفسي أهم وأبعد خطرًا وأعمق أثرًا، من الغزو المادي العسكري.
فإذا كان جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة قديمًا، قد حصروا هذا السهم في تجهيز الغزاة والمرابطين على الثغور، وإمدادهم بما يحتاجون إليه من خيل وكراع وسلاح. فنحن نضيف إليهم في عصرنا غزاة ومرابطين من نوع آخر. أولئك الذين يعملون على غزو العقول والقلوب بتعاليم الإسلام، والدعوة إلى الإسلام. أولئك هم المرابطون بجهودهم وألسنتهم وأقلامهم للدفاع عن عقائد الإسلام وشرائع الإسلام.
ودليلنا على هذا التوسع في معنى الجهاد:
أولاً: أن الجهاد في الإسلام لا ينحصر في الغزو الحربي والقتال بالسيف، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن سئل: أي الجهاد أفضل؟ فقال: (كلمة حق عند سلطان جائر) (رواه أحمد والنسائي والبيهقي في الشعب والضياء المقدسي عن طارق بن شهاب، وقال المنذري بعد عزوه للنسائي: إسناده صحيح (التيسير للمناوي 1/182).(2/115)
كما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس، وقال: صحيح، وأقروه كما في التيسير (1/485).
ثانيًا: أن ما ذكرناه من ألوان الجهاد والنشاط الإسلامي لو لم يكن داخلاً في معنى الجهاد بالنص، لوجب إلحاقه به بالقياس. فكلاهما عمل يقصد به نصرة الإسلام والدفاع عنه، ومقاومة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض.
وقد رأينا من فقهاء المسلمين من ألحق بالعاملين على الزكاة من يعمل في مصلحة عامة للمسلمين. قال ابن رشد: والذين أجازوها للعامل وإن كان غنيًا، أجازوها للقضاة ومن في معناهم، ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين (بداية المجتهد: 1/276 - طبع الحلبي).
كما رأينا من فقهاء الحنفية من ألحق بابن السبيل كل من هو غائب عن ماله غير قادر عليه، وإن كان في بلده؛ لأن المعتبر هو الحاجة وقد وجدت.
فلا عجب أن نلحق بالجهاد - بمعنى القتال - كل ما يؤدي غرضه، ويقوم بمهمته من قول أو فعل؛ لأن العلة واحدة، وهي نصرة الإسلام.
ومن قبل رأينا للقياس مدخلاً في كثير من أبواب الزكاة. ولم نجد مذهبًا إلا قال به في صورة من الصور.
وبذلك يكون ما اخترناه هنا في معنى "سبيل الله" هو رأي الجمهور مع بعض التوسعة في مدلوله.
وأود أن أنبه هنا على أن بعض الأعمال والمشروعات قد تكون في بلد ما، وزمن ما وحالة ما - جهادًا في سبيل الله، ولا تكون كذلك في بلد آخر أو وقت آخر أو حال أخرى.(2/116)
فإنشاء مدرسة في الظروف العادية عمل صالح وجهد مشكور يحبذه الإسلام ولكنه لا يعد جهادًا. فإذا كان بلد قد أصبح فيه التعليم وأصبحت المؤسسات التعليمية في يد المبشرين أو الشيوعيين أو اللادينيين العلمانيين، فإن من أعظم الجهاد إنشاء مدرسة إسلامية خالصة، تعلِّم أبناء المسلمين، وتحصنهم من معاول التخريب الفكري والخُلُقي، وتحميهم من السموم المنفوثة في المناهج والكتب، وفي عقول المعلمين، وفي الروح العامة التي توجه المدارس والتعليم كله.
ومثل ذلك يقال في إنشاء مكتبة إسلامية للمطالعة في مواجهة المكتبات الهدَّامة.
وكذلك إنشاء مستشفى إسلامي لعلاج المسلمين، وإنقاذهم من استغلال الإرساليات التبشيرية الجشعة المضللة، وإن كانت المؤسسات الفكرية والثقافية تظل أشد خطرًا، وأبعد أثرًا.
أين يصرف سهم "سبيل الله" في عصرنا ؟
رأينا فيما سبق أن القول المشهور والمعتمد في المذاهب الأربعة: أن سبيل الله معناه الغزو والجهاد بالمعنى العسكري الحربي. وبعبارة أخرى: سبيل الله هي الحرب الإسلامية، مثل حروب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، التي خاضوها باسم الله. وتحت راية القرآن، وهدفهم أن يخرجوا الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق العيش إلى سعة الحياة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
ويتصور بعض الناس أن هذه الحرب ليس لها وجود اليوم، ولم يكن لها وجود منذ أمد طويل. والحروب التي تندلع في أوطان المسلمين اليوم ومنذ زمن ليست حروبًا إسلامية يخوضها مسلمون ضد كفار، إنما هي حروب وطنية قومية يخوضها قوم ضد من اعتدوا على وطنهم أو قومهم. فهي إذن حروب دنيوية لا صلة لها بالدين. ولهذا لا تعتبر "في سبيل الله" فلا يحل للمسلم صرف الزكاة إليها.
هذا ما يتصوره بعض المسلمين ويقولونه. وهو كلام يحتاج إلى تحقيق وتمحيص، حتى يعرف صوابه من خطئه.(2/117)
إن الحرب الإٍسلامية أو الجهاد الإسلامي ليس محصورًا في الصورة التي عرفت في حروب الصحابة، تلك الحروب التي شنت لإزالة القوى الطاغية المتجبرة، التي صدت عن سبيل الله بالعنف، وقاومت دعوة الله بالسيف، وقتلت دعاتها بالظلم والغدر. تلك الحروب التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً في غاياتها ولا في آدابها، ولا في نتائجها وآثارها. فقد كانت حروبًا لتحرير الشعوب من تسلط المتألهين والطواغيت، الذين أرادوا أن يتخذوا عباد الله عبيدًا لهم.
إنها صورة رائعة - ولا شك - للحرب الإسلامية وللجهاد الإسلامي، ولكنها ليست الصورة الوحيدة. فقد شهد التاريخ الإسلامي حروبًا ومعارك أخرى وقف فيها الإسلام وأهله موقف الدفاع عن الذات والحرمات والأرض والمقدسات. وقامت معارك للإسلام مع أعدائه لا تقل قدسية عن معارك الصحابة والتابعين. تلك المعارك التي لمعت فيها أسماء عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين، وقطز، والظاهر بيبرس، وغيرهم. إنها معارك حطين وبيت المقدس وعين جالوت وغيرها. معارك إنقاذ الأرض الإسلامية من أيدي التتار والصليبيين الغزاة.
وإذا كان جهاد الصحابة والتابعين من أجل دعوة الإسلام، فإن جهاد نور الدين وصلاح الدين وقطز من أجل دار الإسلام. والجهاد كما يفرض لحماية العقيدة الإسلامية، يفرض لحماية الأرض الإسلامية. والعقيد الإسلامية كالأرض الإسلامية، كلتاهما يجب أن تحفظ وتصان من كل عدوان.
وإنما نزلت الأرض هذه المنزلة وجعل الدفاع عنها عبادة وفريضة مقدسة ؛ لأنها "دار الإسلام" وحماه ووعاؤه. لا مجرد أنها أرض الآباء والأجداد. فالمسلم قد يهجر وطن آبائه وأجداده على حبه له وتعلقه به إذا لم يكن للإسلام فيه راية ترفع. ولا كلمة تسمع، كما فعل الرسول وأصحابه حين تركوا مكة مهاجرين في سبيل الله.
تحرير أرض الإسلام من حكم الكفار(2/118)
ولا شك أن من أهم ما ينطبق عليه معنى الجهاد في عصرنا هو: العمل لتحرير الأرض الإسلامية من حكم الكفار الذين استولوا عليها، وأقاموا فيها حكمهم بدل حكم الله. سواء أكان هؤلاء الكفار يهودًا، أو نصارى، أم وثنيين، أو ملحدين لا يدينون بدين، فالكفر كله ملة واحدة.
فالرأسمالي والشيوعي، والغربي والشرقي، والكتابي واللاديني، كلهم سواء في وجوب محاربتهم إذا احتلوا جزءًا من ديار الإسلام، يقوم بذلك أدنى البلاد إلى هذا الجزء، يعاونهم الأقرب فالأقرب، حسب الحاجة، إلى أن يشمل الوجوب المسلمين جميعًا، إن لم تقم الكفاية إلا بالجميع.
ولم يبتل المسلمون في عصر، كما ابتلوا اليوم، بوقوع كثير من ديارهم في قبضة الكفرة المستعمرين. وفي مقدمة هذه الديار: فلسطين التي سُلِّطَ عليها شذاذ الآفاق من اليهود. ومثل ذلك كشمير التي تسلط عليها الهندوس المشركون وأريتريا والحبشة وتشاد والصومال الغربي، وقبرص، التي تسلطت عليها الصليبية الحاقدة الماكرة، ومثل ذلك سمرقند وبخارى وطشقند وأزبكستان وألبانيا وغيرها من البلاد الإسلامية العريقة التي تسلطت عليها الشيوعية الملحدة الطاغية.
واسترداد هذه البلاد كلها، وتخليصها من براثن الكفر، وأحكام الكفار واجب على كافة المسلمين بالتضامن، وإعلان الحرب المقدسة لإنقاذها فريضة إسلامية.
فإذا قامت حرب في أي جزء من هذه الأجزاء بهذا القصد، ولهذه الغاية: تخليص البلد من أحكام الكفر وطغيان الكفرة فهي - بلا نزاع - جهاد في سبيل الله، يجب أن يُموَّل ويُعان، وأن يُدفع له قسط من مال الزكاة، يقل ويكثر حسب حصيلة الزكاة من جهة، وحسب حاجة الجهاد من جهة ثانية، وحسب حاجة سائر المصارف الأخرى شدة وضعفًا من جهة ثالثة، وكل هذا موكول لأهل الحل والعقد، وذوي الرأي والشورى من المسلمين، إن وجدوا.
ليس كل قتال في سبيل الله(2/119)
ولكن مما يجب التنبيه عليه أيضًا: أن بعض المسلمين يحسبون أن كل من حمل السلاح ممن يتسمون بأسماء المسلمين يعتبر في " سبيل الله " أيًا كانت وجهته وغايته، وشعاره ورايته، سواء خاض المعركة باسم الله أم باسم غيره من المخلوقين، وسواء أكانت الراية التي يقاتل تحتها إسلامية أم جاهلية. فلا فرق عندهم بين الحرب الإسلامية، والحرب القومية أو الوطنية أو الطبقية!
والذي نؤكده: أن الحرب إنما تكون " في سبيل الله " إذا ارتبطت بدوافع إسلامية، وأهداف إسلامية. أعني أن تكون حربًا لنصرة دين الله وإعلاء كلمته، والدفاع عن دار الإسلام، وكرامة الإسلام. وهذا هو الذي يميز الحرب الإسلامية من غيرها.
فإذا أخليت الحرب من هذا العنصر الروحي، فقد أصبحت حربًا دنيوية عادية، كالتي يخوضها الناس جميعًا، حتى الملاحدة واللادينيون.
فإذا قامت حرب من هذا النوع، لا مكان فيها لله - جل شأنه - ولا لدينه، ولا لكتابه، ولا لرسوله، فلا يجوز أن يصرف فيها درهم واحد من مال الزكاة، بزعم أنها " في سبيل الله "
لنفرض أن جماعة - مثلاً - من الشيوعيين الألبانيين أو الأزبكستانيين قاموا لتحرير بلادهم - الإسلامية الأصل - من الشيوعيين الروس، وحاربوا من أجل ذلك، فهل تُعَدُّ هذه الحرب جهادًا في سبيل الله، يجوز أن يدفع لها من أموال الزكاة؛ لأنها حرب لتحرير أرض إسلامية من أيدي أجانب روس مستعمرين؟
والجواب قطعًا بالنفي؛ لأن الشيوعي الأزبكستاني كالشيوعي الروسي في نظر الإسلام، فهي تتحرر من سلطان طاغوت، لتقع في سلطان طاغوت آخر.
ولا عبرة باختلاف الجنسيات أو الأوطان، ما داموا جميعًا طواغيت، أو أولياء للطاغوت، إنما تكون مثل هذه الحرب جهادًا إذا قام بها مسلمون، همهم أن يطردوا حكم الكفر ليقيموا مكانه حكم الإسلام، ويسقطوا راية الجاهلية ليرفعوا مكانها راية التوحيد.(2/120)
إن الإسلام لا يقدس مطلق الجهاد والقتال، ولكنه يقدس الجهاد والقتال إذا كان في سبيل الله، فالناس - كل الناس - يقاتلون ويجاهدون ويبذلون الأنفس والأموال، دفاعًا عن أنفسهم وحرماتهم وأوطانهم، حتى الفجار ومن لا دين لهم، يقدمون روائع من البطولات والتضحيات في سبيل الدفاع عن ديارهم وأقوامهم، ولا يعتد بشيء من ذلك عند الله.
إنما يتميز المؤمنون عن غيرهم من المقاتلين والمجاهدين، بأنهم يجاهدون في سبيل الله، ويقاتلون في سبيل الله. هذا هو شعارهم، وهذه هي غايتهم.
فهذه الغاية الكريمة المقدسة هي التي قدست جهادهم وحربهم، وجعلته من أعظم العبادات والقربات إلى الله.
فإذا قاتل المسلم لتحرير أرض، فهو لا يقاتل ليحل فيها جنس مكان جنس، أو طبقة محل طبقة، إنما يقاتل ليطرد منها حكم غير الله، وليقوم فيها حكم الله، ويسود فيها شرع الله وتعلو كلمة الله.
وبدون هذا المعنى يفقد القتال نسبه وصلته بالإسلام، ويصبح حربًا دنيوية محضًا. حربًا في سبيل الطين لا في سبيل الدين، وما أعظم الفرق بين الحربين !
وإن قتالاً من هذا النوع لا يستطيع العالِم المسلم الشحيح بدينه أن يفتي بأنه " سبيل الله "، ويجوز للمسلمين أن يدفعوا فيه فريضة زكاتهم. وربما كان الذين يحملون السلاح فيه أشد عداوة للإسلام من الكفار الأصليين.(2/121)
خرج أبو محمد عبد الغني الحافظ بسنده عن عبد الرحمن بن أبي نعم، قال ( كنت جالسًا مع عبد الله بن عمر، فأتته امرأة فقالت له: يا أبا عبد الرحمن .. إن زوجي أوصى بماله في سبيل الله ! قال ابن عمر: فهو كما قال، في سبيل الله ! فقلت (القائل ابن أبي نعْم) : ما زدتها فيما سألت عنه إلا غمًا (يعني أنه لم يجبها جوابًا شافيًا يريحها فيما سألت عنه). قال: فما تأمرني يا ابن أبي نعم؟ آمرها أن تدفعه إلى هؤلاء الجيوش الذين يخرجون، فيعتدون في الأرض ويقطعون السبيل ؟! قلت: فما تأمرها؟ قال آمرها أن تدفعه إلى قوم صالحين، إلى حجاج بيت الله الحرام، أولئك وفد الرحمن، أولئك وفد الرحمن. أولئك وفد الرحمن) (تفسير القرطبي: 8/185. ويبدو أن هذه القصة هي أصل ما روي عن ابن عمر: أن الحج من سبيل الله. حسبما يُفهم من سياق القرطبي لها. وكلام ابن عمر يدل على أن سبيل الله إذا أطلق يفهم منه الجهاد ولكنه صرفها عن هذا المتبادر لما رأى من انحراف أهل الجهاد وفسادهم).
وإذا كان ابن عمر -رضي الله عنهما- تحرج أن يجعل عمل الجيوش في زمنه في سبيل الله -مع أن الجيوش في ذلك العصر لم يكن لها راية غير الإسلام، ولا وجهة غير الإسلام، حتى جيوش الخوارج أنفسهم- فكيف لو رأى ابن عمر جيوشًا لا يُذكر فيها اسم الله، ولا اسم الإسلام، ولا تكاد تقام فيها صلاة أو عبادة لله؟ وكيف لو رأى جيوشًا يقوم توجيهها كله على أساس علماني لا مكان فيه لله ولا لكتابه ولا لرسوله، ولا لدينه، فهي ترفع شعارات جاهلية، وتمجد الكفر وأهله، وتسخر من الدين ودعاته. ولا تفكر في الاتجاه إلى الدين يومًا إلا لتتخذه أداة لتقوية الروح أو إثارة الحماس !
نعود فنقول: إن كل قتال يقوم تحت راية غير راية الإسلام، ولهدف غير نصرة الإسلام، والدفاع عن حرماته قتال غير إسلامي، ومن المجازفة بالدين أن يقال عنه: في سبيل الله.(2/122)
ودليلنا على ذلك ما رواه الجماعة عن أبي موسى قال : سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل رياءً، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (ذكره في المنتقى. انظر نيل الأوطار: 7/226 - 227 - طبع مصطفى الحلبي - طبعة ثانية).
فهذا هو المعيار الفاصل بين جهاد الإسلام، ومعارك الجاهلية. وهذا هو الفارق بين سبيل الله، وسبيل الطاغوت: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"، والمراد بـ "كلمة الله" دعوة الله إلى الإسلام (المصدر السابق).
وليس المسلم مطالبًا أن ينقب عن قلوب الناس، وإنما يحكم عليهم أفرادًا ومنظمات وفقًا لاتجاهاتهم العامة، وشعاراتهم المرفوعة، وراياتهم المنصوبة، وبياناتهم المعلنة، وأما النيات الخفية، والبواعث الباطنية لدى كل فرد، فأمرها موكول إلى الله تعالى.
وبهذا البيان نعلم أن القول بأن كل قتال في هذا العصر ليس بإسلامي، وليس في سبيل الله - لأنه ليس كقتال الصحابة - خطأ وتهور. كما أن القول بأن كل قتال يقوم في بلاد المسلمين - مهما تكن أهداف أهله وشعاراتهم، وأفكارهم واتجاهاتهم - قتال في سبيل الله، هو أيضاً خطأ ومجازفة.
فعلى علماء المسلمين في هذا العصر أن يتقوا الله في فتاويهم، ويتحروا الحق، حتى لا يضيعوا أموال المسلمين في تأييد أناس يعادون الإسلام سرًا وعلانية، ويصفون أحكامه بالبدائية والوحشية، كما يصمون دعاته بالتأخر والرجعية، فربما كان هؤلاء "المسلمون بالأسماء" أضر على دين الإسلام من اليهود والنصارى.
السعي لإعادة حكم الإسلام جهاد في سبيل الله(2/123)
وأحق ما ينبغي أن يصرف إليه سهم في " سبيل الله " في عصرنا ما ذكره العلامة المصلح السيد رشيد رضا -رحمه الله- حيث اقترح تأليف جمعية ممن بقى من أهل الدين والشرف من المسلمين، تنظم جمع الزكاة منهم، وتصرفها - قبل كل شيء - في مصالح المرتبطين بهذه الجمعية دون غيرهم. قال: "ويجب أن يراعى في تنظيم هذه الجمعية: أن لسهم "سبيل الله" مصرفًا في السعي لإعادة حكم الإسلام، وهو أهم من الجهاد لحفظه - في حال وجوده - من عدوان الكفار، ومصرفًا آخر في الدعوة إليه والدفاع عنه بالألسنة والأقلام إذا تعذر الدفاع عنه بالسيوف والأسنة وألسنة النيران" (تفسير المنار: 10/598 - طبعة ثانية).
هذا الكلام البصير، يدل على فقه عميق، وفهم دقيق، للإسلام وللحياة جميعًا. ويجب على دعاة الإسلام أن يعضوا عليه بالنواجذ، فهمًا وتطبيقًا. فإن من البلاهة أن تؤخذ أموال المتدينين لتنفق على الملاحدة، والمتحللين، والعلمانيين !
أجل، إن أهم وأول ما يعتبر الآن " سبيل الله " هو العمل الجاد، لاستئناف حياة إسلامية صحيحة، تطبق فيها أحكام الإسلام كله: عقائد ومفاهيم، وشعائر وشرائع، وأخلاقًا وتقاليد.
ونعني بالعمل الجاد: العمل الجماعي المنظم الهادف، لتحقيق نظام الإسلام، وإقامة دولة الإسلام، وإعادة خلافة الإسلام، وأمة الإسلام، وحضارة الإسلام.
إن هذا المجال هو في الحقيقة أوجب وأولى ما ينبغي أن يصرف فيه الغيورون على الإسلام زكاة أموالهم وعامة تبرعاتهم، فإن أكثر المسلمين - للأسف - لم يفهموا بعد أهمية هذا المجال، وضرورة تأييده بالنفس والمال، ووجوب إيثاره بكل عون مستطاع. على حين لا تعدم سائر المصارف من يمد لها يد المساعدة من الزكاة وغير الزكاة.
صور متنوعة للجهاد الإسلامي في عصرنا(2/124)
وإذا كنا قد اخترنا أن الجهاد الإسلامي لا ينحصر في الجانب المادي العسكري وحده، وأنه يتسع لأنواع أخرى من الجهاد، لعل المسلمين أكثر حاجة إليها اليوم من غيرها، فإننا نستطيع أن نضع عدة صور وأمثلة للجهاد الإسلامي المنشود في هذا العصر.
وقبل عرض هذه الصور والأمثلة أحب أن أوضح حقيقة لها أهميتها هنا.
هذه الحقيقة هي: أن عبء تجهيز الجيوش النظامية وتسليحها والإنفاق عليها، قد كان - منذ فجر الإسلام - محمولاً على الخزانة العامة للدولة الإسلامية، لا على أموال الزكاة. فكان يُنفق على الجيوش والسلاح والمقاتلة من أموال الفيء والخراج ونحوها. وإنما يصرف من الزكاة على بعض الأمور التكميلية، كالنفقة على المجاهدين المتطوعين ونحو ذلك.
وكذلك نرى ميزانية الجيوش والدفاع في عصرنا، فعبؤها يقع على كاهل الميزانية العامة؛ لأنها تتطلب نفقات هائلة تنوء بها حصيلة الزكاة. ولو أن الزكاة حُمِّلت مثل هذه النفقات لكانت جديرة أن تبتلع حصيلتها كلها ولا تكفي.
لهذا نرى أن توجيه هذا المصرف إلى الجهاد الثقافي والتربوي والإعلامي أولى في عصرنا بشرط أن يكون جهادًا إسلاميًا خالصًا وإسلاميًا صحيحًا، فلا يكون مشوبًا بلوثات القومية والوطنية، ولا يكون إسلاميًا مطعمًا بعناصر غربية أو شرقية، يقصد بها خدمة مذهب أو نظام أو بلد أو طبقة أو شخص. فإن الإسلام كثيرًا ما يُتخذ عنوانًا لمؤسسات وأوضاع هي في باطنها علمانية لا دينية، فلابد إذن أن يكون الإسلام هو الأساس والمصدر، وهو الغاية والوجهة، وهو القائد والموجه، حتى تستحق تلك المؤسسات شرف الانتساب إلى الله، ويُعد العمل فيها ولها جهادًا في سبيل الله.
ونستطيع أن نضرب أمثلة شتى لكثير من الأعمال التي تحتاج إليها رسالة الإسلام في هذا العصر، وهي جديرة أن تُعَد بحق جهادًا في سبيل الله.(2/125)
إن إنشاء مراكز للدعوة إلى الإسلام الصحيح، وتبليغ رسالته إلى غير المسلمين في كافة القارات، في هذا العالم الذي تتصارع فيه الأديان والمذاهب، جهاد في سبيل الله.
وإن إنشاء مراكز إسلامية واعية في داخل بلاد الإسلام نفسها، تحتضن الشباب المسلم، وتقوم على توجيهه الوجهة الإسلامية السليمة، وحمايته من الإلحاد في العقيدة، والانحراف في الفكر، والانحلال في السلوك، وتُعده لنصرة الإسلام، ومقاومة أعدائه، جهاد في سبيل الله.
وإن إنشاء صحيفة إسلامية خالصة، تقف في وجه الصحف الهدَّامة والمضللة، لتعلي كلمة الله، وتصدع بقولة الحق، وترد عن الإسلام أكاذيب المفترين، وشبهات المضللين، وتعلم هذا الدين لأهله خاليًا من الزوائد، والشوائب، جهاد في سبيل الله.
وإن نشر كتاب إسلامي أصيل، يحسن عرض الإسلام، أو جانب منه، ويكشف عن مكنون جواهره، ويبرز جمال تعاليمه، ونصاعة حقائقه، كما يفضح أباطيل خصومه، وتعميم مثل هذا الكتاب على نطاق واسع، جهاد في سبيل الله.
وإن تفريغ رجال أقوياء أمناء مخلصين، للعمل في المجالات السابقة بهمة وغيرة وتخطيط، لخدمة هذا الدين، ومد نوره في الآفاق، ورد كيد أعدائه المتربصين به، وإيقاظ أبنائه النائمين عنه، ومقاومة موجات التبشير والإلحاد والإباحية، جهاد في سبيل الله .
وإن معاونة الدعاة إلى الإسلام الحق، الذين تتآمر عليهم القوى المعادية للإسلام في الخارج، مستعينة بالطغاة والمرتدين من الداخل، فتكيل لهم الضربات، وتسلط عليهم ألوان العذاب، تقتيلاً وتعذيبًا وتشريدًا وتجويعًا - إن معاونة هؤلاء على المقاومة والثبات في وجه الكفر والطغيان، جهاد في سبيل الله.
وإن الصرف على هذه المجالات المتعددة لهو أولى ما ينبغي أن يدفع فيه المسلم زكاته، وفوق زكاته، فليس للإسلام - بعد الله - إلا أبناء الإسلام، وخاصة في عصرة غُربة الإسلام !
الفصل السابع
ابن السبيل
فهرس
شروط إعطاء ابن السبيل من مال الزكاة
كم يعطى ابن السبيل؟(2/126)
هل يوجد ابن السبيل في عصرنا؟
صور واقعة لابن السبيل
المشردون واللاجئون
من له مال لا يقدر عليه ولو في بلده
المسافرون لمصلحة
المحرومون من المأوى
اللقطاء
من هو ابن السبيل؟
عناية القرآن بابن السبيل
حكمة العناية بابن السبيل
لون من التكافل الاجتماعي لا نظير له في الأمم والأنظمة
المنشئ للسفر والمنقطع في الطريق
قال الجمهور
وقال الشافعي في ابن السبيل
والذي أراه
من هو ابن السبيل؟
"ابن السبيل" عند جمهور العلماء كناية عن المسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد، والسبيل: الطريق، وقيل للضارب فيه "ابن السبيل" للزومه إياه
كما قال الشاعر:
أنا ابن الحرب ربتني وليدًا
إلى أن شِبْتُ واكتهلت لداتي
وكذلك تفعل العرب، وتسمي اللازم لشيء يعرفه به "ابنه" (تفسير الطبري - بتحقيق محمود شاكر: 14/31).
وعن ابن زيد قال: ابن السبيل المسافر، غنيًا كان أو فقيرًا، إذا أصيبت نفقته أو فقدت. أو أصابها شيء. أو لم يكن معه شيء، فحقه واجب (المصدر السابق).
عناية القرآن بابن السبيل
وقد ذكر القرآن الكريم هذا اللفظ "ابن السبيل" في معرض العطف عليه والإحسان إليه ثماني مرات. ففي القرآن المكي يقول الله تعالى في سورة الإسراء: (وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا) (الإسراء: 26).
وفي سورة الروم: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، ذلك خير للذين يريدون وجه الله) (الروم: 38 ).
وفي القرآن المدني يجعله الله تعالى من مصارف الإنفاق - فرضًا كان أو تطوعًا - قال تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقرب ين واليتامى والمساكين وابن السبيل) (البقرة: 215).
ويأمر بالإحسان في الآية التي سميت آية الحقوق العشرة: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) (النساء 36).(2/127)
ويجعل له حظًا في بيت مال المسلمين من خمس الغنائم: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال: 41).
كما يجعل له حظَا من الفيء: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القرى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر: 7).
ويجعل له سهمًا من الزكاة، وهي الآية التي معنا: (إنما الصدقات).إلى آخرها، وحظًا آخر - بعد الزكاة - في مال الأفراد، ويجعل ذلك من عناصر البر والتقوى: (وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة) (البقرة: 177).
حكمة العناية بابن السبيل
والسر في عناية القرآن بهذا النوع، أن دين الإسلام قد دعا إلى السياحة، ورغَّب في السفر والسير في الأرض لأسباب كثيرة:
( أ ) فهناك سياحة دعا إليها لابتغاء الرزق. قال تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) (الملك: 15). وقال: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله) (المزمل: 20).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: (سافروا تستغنوا) (ذكره المنذري في الترغيب والترهيب جـ 2 في كتاب الصوم، قال: رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات).
( ب ) وهناك سياحة دعا إليها الإسلام لطلب العلم، والنظر والاعتبارات بآيات الله في الكون، وسُنَّته في الخلق عامة، وفي الاجتماع البشري خاصة.
قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (العنكبوت: 20). وكأن في ذلك إشارة إلى البحوث الجيولوجية وتاريخ الحياة وما شابه ذلك.
وقال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) (آل عمران:137)، (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (الحج: 46).(2/128)
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من سلك طريقًا يلتمس فه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة) (قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه مسلم وغيره (كتاب العلم، الترغيب في الرحلة في طلب العلم)، (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع) (رواه الترمذي وحسنه (المصدر نفسه).
وقد ضرب علماء الإسلام الأولون مُثُلاً رفيعة برحلاتهم المنقطعة النظير في سبيل طلب العلم، مما جعل علماء عصرنا ومؤرخيه - من الغرب والشرق - يسجلونه لهم بكل إعجاب وإكبار.
(جـ) وهناك سفر دعا إليه الإسلام للجهاد في سبيل الله، وما سبيل الله إلا الدفاع عن الحَوْزة، وتأمين الدعوة وإنقاذ المستضعفين، وتأديب الناكثين، قال تعالى: (انفروا خفافًا وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (التوبة: 41). ثم تحدث عن المنافقين قال: (لو كان عرضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة، وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) (التوبة: 42).
وقال تعالى يعد المجاهدين بالمثوبة: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديًا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) (التوبة: 121).
وقال -عليه السلام-: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) (البخاري في كتاب الجهاد).
( د ) وهناك سفر دعا إليه الإسلام لأداء عبادته العالمية المتميزة "الحج" إلى بيت الله الحرام، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، قال تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً) (آل عمران: 97)، (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) (الحج: 27 - 28).(2/129)
هذه أنواع من السفر والسياحة والضرب في الأرض، دعا إليها الإسلام، أو حثَّ عليها تحقيقًا لأهدافه في الأرض، وتثبيتًا لتعاليمه بين الناس، وهناك أنواع أخرى، ودين هذا شأنه لا بد أن يعطي عناية خاصة للمسافرين والسائحين، وخاصة من انقطع به الطريق منهم، وانقطع عن ذويه وماله ومسقط رأسه، وأن يأمر بمعونتهم بصفة عامة، وإعطائهم من مال الزكاة وهو مال الجماعة بصفة خاصة، وفي ذلك تشجيع للسياحة والسفر في سبيل الأغراض المشروعة. وإكرامهم لهؤلاء في غربتهم وانقطاعهم، وإثبات لحقيقة المجتمع المسلم المتماسك الذي يشد بعضه بعضًا، ويأخذ بعضه بيد بعض، دون اعتبار لاختلاف الديار، أو بعد المزار.
لون من التكافل الاجتماعي لا نظير له في الأمم والأنظمة
إن عناية الإسلام بالمسافرين الغرباء والمنقطعين لهي عناية فذَّة، لم يُعرف لها نظير في نظام من الأنظمة أو شريعة من الشرائع. وهي لون من ألوان التكافل الاجتماعي فريد في بابه. فلم يكتف النظام الإسلامي بسد الحاجات الدائمة للمواطنين في دولته، بل زاد على ذلك برعاية الحاجات الطارئة التي تعرض للناس لأسباب وظروف شتى كالسياحة والضرب في الأرض. وخاصة في عصور لم تكن في طرق المسافرين بها فنادق أو مطاعم أو محطات مُعَدة للاستراحة كما في عصرنا.
وفي الواقع العملي نجد ابن سعد يروي لنا: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اتخذ في عهده دارًا خاصة أطلق عليها "دار الدقيق"، وذلك أنه جعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزبيب وما يُحتاج إليه، يعين به المنقطع به، والضيف ينزل بعمر. ووضع عمر في طريق السبل ما بين مكة والمدينة ما يصلح من ينقطع به، ويحمل من ماء إلى ماء (طبقات ابن سعد: 3/283 - طبع بيروت).(2/130)
وفي عهد خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز يحدثنا أبو عبيد أنه أمر الإمام ابن شهاب الزهري أن يكتب له السُنَّة في مواضع الصدقة. أي ما يحفظه من سُنَّة الرسول أو سُنَّة الراشدين في المواضع التي تُصرف فيها الصدقة، فكتب له كتابًا مطولاً، قسمها فيه سهمًا سهمًا. ومما جاء في الكتاب عن ابن السبيل قوله: "وسهم ابن السبيل يقسم لكل طرق على قدر من يسلكها ويمر بها من الناس، لكل رجل راحل من ابن السبيل، ليس له مأوى ولا أهل يأوي إليهم، فيطعم حتى يجد منزلاً أو يقضي حاجته. ويجعل في منازل معلومة على أيدي أمناء، لا يمر بهم ابن سبيل له حاجة إلا آووه وأطعموه، وعلفوا دابته، حتى ينفد ما بأيديهم، إن شاء الله" (الأموال ص 580).
فهل رأت البشرية رعاية لذوي الحاجات مثل هذه الرعاية في نظام غير نظام الإسلام، أو في أمة غير أمة الإسلام؟!
المنشئ للسفر والمنقطع في الطريق
وهناك مسألة اختلف فيها الفقهاء: هل ينطبق وصف "ابن السبيل" على المسافر الذي انقطع به الطريق دون غايته فقط؟ أم يشمله ويشمل الذي يريد إنشاء السفر إلى بلد أيضًا؟
قال الجمهور:
إن المنشئ للسفر لا يدخل في وصف ابن السبيل وذلك:
( أ ) لأن السبيل هو الطريق وابن السبيل الملازم للطريق الكائن فيها؛ كما يقال "ابن الليل" للذي يكثر الخروج فيه، والقاطن بلده ليس في طريق، ولا يثبت له حكم الكائن فيها، ولهذا لا يثبت له حكم السفر بعزمه عليه دون فعله.
( ب ) ولأنه لا يُفهم من ابن السبيل إلا الغريب، دون من هو في وطنه ومنزله، وإن انتهت به الحاجة منتهاها.(2/131)
فوجب في رأي الجمهور أن يُحمل المذكور في الآية على الغريب دون غيره، وإنما يُعطى وله اليسار في بلده؛ لأنه عاجز عن الوصول إليه، والانتفاع به، فهو كالمعدوم في حقه، فإن كان ابن السبيل فقيرًا في بلده أعطي للأمرين: لفقره، ولأنه ابن سبيل. ويعطي لكونه ابن سبيل قدر ما يوصله إلى بلده؛ لأن الدفع إليه لهذه الحاجة فيقدر بقدرها (الشرح الكبير - مع المغني 2/702).
وقال الشافعي في ابن السبيل:
هو الغريب المنقطع، والمنشئ للسفر أيضًا، أي من يريد سفرًا ولا يجد نفقة، فيدفع إليهما ما يحتاجان إليه، لذهابهما وعودهما؛ لأن المنشئ للسفر يريده لغير معصية، فأشبه المجتاز المنقطع، لاحتياج كل منهما لأهبة السفر وإن كان إطلاق ابن السبيل على الثاني من باب المجاز (انظر المجموع: 6/214، ونهاية المحتاج: 6/156).
والذي أراه:
أن الرأي الأول أكثر انطباقًا على وصف "ابن السبيل" في الآية، وأقرب إلى هدف التشريع، فليس كل راغب في السفر، أو عازم عليه، يُعطى من مال الزكاة، وإن أراد بسفره منفعة خاصة به، من سعي على معاش أو ترويح عن النفس.
أما رأي الشافعي -رضي الله عنه- فيؤخذ به - فيما أرى - فيمن يسافرون لمصلحة عامة يعود نفعها لدين الإسلام أو للجماعة المسلمة، كمن يسافر بعثة علمية أو عملية يحتاج إليها بلد مسلم، أو يسافر في أي مهمة تعود على الدين والمجتمع المسلم بنفع عام، وعلى أن يقر ذلك من يُعتبر رأيهم من أهل المعرفة والديانة.
ومثل هذا إن لم يكن ابن سبيل بالفعل، فهل ابن السبيل باعتبار ما يكون باعتبار ما عزم عليه، وما قارب الشيء يأخذ حكمه. وفي إعطائه إعانة له على خير عام للملة وللأمة فأشبه الإعطاء في سبيل الله، وأشبه إعطاء الغارمين لإصلاح ذات البين، فلو لم يكن إعطاء بالنص لكان إعطاء بالقياس.
ومما يقوي هذا الذي قلناه: أن ابن السبيل في الآية جاء معطوفًا على مصرف "في سبيل الله" فكأنه قال: في سبيل الله وفي ابن السبيل.(2/132)
وقد ذكرنا أن التعبير القرآني في هذه الآية عن بعض المصارف بكلمة "في" إنما يفيد: أنها مصلحة يدفع "فيها" قبل أن تكون شخصًا يدفع "له" حتى إذا قبض واحد من هؤلاء حصة من الزكاة، فإنما يقبضها بوصفه ممثلاً للمصلحة العامة التي قصد الشارع إلى إقامتها.
ولهذا لا يشترط تمليك هؤلاء الأربعة: (في الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) على الصحيح. وابن السبيل - بناء على ما ذكرنا- يمثل مصلحة عامة، ولا يمثل نفسه، ولهذا يصح ألا يقبض هو القدر الذي يخصه من الزكاة ويعطي منها شركة الطيران أو الملاحة أو الجامعة التي سيذهب إلها، والمؤسسة التي ستنفق عليه ... إلخ.
وقد قال الحنابلة - من أصحاب الرأي الأول - إن كان ابن السبيل مجتازًا يريد بلدًا غير بلده. يُدفع إليه ما يكفيه من مضيه إلى مقصده ورجوعه إلى بلده؛ لأن فيه إعانة على السفر المباح، وبلوغ الغرض الصحيح، لكن يشترط كون السفر مشروعًا؛ إما قربة إلى الله كالحج والجهاد وزيارة الوالدين، وإما مباحًا كطلب المعاش وطلب التجارات. وإن كان السفر للنزهة ففيه وجهان:
أحدهما: يدفع إليه؛ لأنه غير معصية.
والثاني: لا يدفع إليه؛ لأنه لا حاجة به إلى هذا السفر (انظر الشرح الكبير: 2/702 - 703)
فإذا جاز إعطاء المسافر المجتاز حتى يبلغ مقصده إعانة له على بلوغ غرضه، وإن كان لمعيشته هو بل لنزهته، فأولى منه بالعطاء - طبقًا لهذا التعليل نفسه - من يسافر لغرض صحيح من أجل الإسلام والمسلمين.
شروط إعطاء ابن السبيل من مال الزكاة
لإعطاء ابن السبيل من مال الزكاة شروط، بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه:(2/133)
أولها: أن يكون محتاجًا في ذلك الموضع الذي هو به إلى ما يوصله إلى وطنه، فإن كان عنده ما يوصله، فلا يُعطى. لأن المقصود إنما هو إيصاله إلى بلده، بخلاف المجاهد، فإنه يأخذ منها - عند غير الحنفية - وإن كان غنيًا في الموضع المقيم فيه؛ لأن القصد من إعطائه إرهاب العدو، وبدفع الزكاة إلى المجاهد يقوى بأسه على عدو الله.
الثاني: أن يكون سفره في غير معصية، أما من كان سفره في معصية كمن خرج لقتل نفس، أو لتجارة محرمة، أو نحو ذلك، فإنه لا يعطى من الزكاة شيئًا؛ لأن القصد من إعطائه إعانته، ولا يُعان بمال المسلمين على معصية الله، إلا أن يتوب توبة نصوحًا، فيعطى لبقية سفره. إلا أن يخاف عليه الموت، فإنه يعطى ولو لم يتب؛ لأنه وإن عصى هو لا نعصي نحن بتركه يموت (انظر: حاشية الدسوقي:1/498 وقال بعض المالكية: لا يعطى وإن خيف عليه الموت؛ لأن نجاته في يد نفسه بالتوبة. وانظر: حاشية الصاوي 1/233 وقال بعضهم: ينظر في تلك المعصية، فإن كان يريد قتل نفس أوهتك حرمة لم يعط إلا إن تاب وإن خيف عليه الموت (المصدرين المذكورين).
والسفر الذي لا معصية فيه يشمل السفر للطاعة، والسفر للحاجة، والسفر للنزهة.
فأما سفر الطاعة، كالحج والجهاد وطلب العلم النافع، والزيارة المندوبة ونحوها، فلا خلاف في إعطائه؛ لأن الإعانة على الطاعة مطلوبة شرعًا.
وأما السفر لحاجة دنيوية، كالسفر للتجارة وطلب الرزق ونحو ذلك.
فالمعروف عند القائلين بأن ابن السبيل: "هو الغريب المنقطع عن بلده وماله"
- أنه يعطى بلا خلاف؛ لأن فيه إعانة له على حوائج دنياه المباحة، وبلوغ غرضه الصحيح.
وأما عند الشافعية القائلين بأن: "ابن السبيل يشمل المنشئ للسفر من بلده"، ففيه قولان:
أحدهما: لا يعطى؛ لأنه غير محتاج إلى هذا السفر.
والثاني: يعطى؛ لأن الرخص التي ناطها الشرع بالسفر، لم تُفرِّق بين سفر الطاعة والسفر المباح، كقصر الصلاة، والفطر في رمضان. وهو الصحيح.(2/134)
وأما السفر للنزهة والفرجة، فقد اختلف فيه اختلافًا أكثر. وخاصة عند الشافعية والحنابلة.
قال بعضهم: يعطى؛ لأنه سفر في غير معصية.
وقال غيرهم: لا يعطى؛ لأنه سفر غير محتاج إليه، بل هو نوع من الفضول (انظر: المجموع للنووي: 6/214،215 والشرح الكبير المطبوع مع المغني: 2/701، 702).
الثالث: ألا يجد من يقرضه ويسلفه في ذلك الموضع الذي هو فيه، وهذا فيمن له مال ببلده يقدر على سداد القرض منه (انظر في هذه الشروط: شرح الخريشي على خليل: 2/219 ونهاية المحتاج للرملي، 6/156).
وهذا الشرط إنما اشترطه بعض المالكية والشافعية وخالفهم آخرون من علماء المذهبين:
فقد رجح ابن العربي في "أحكام القرآن" والقرطبي في "تفسيره" أن ابن السبل: يعطى من الزكاة ولو وجد من يسلفه. قالا: وليس يلزم أن يدخل تحت منَّة أحد، فقد وجد منَّة الله ونعمته (أحكام القرآن - القسم الثاني - ص 958، وتسفير القرطبي: 8/187).
وقال النووي: لو وجد ابن السبيل من يقرضه لغايته، لم يلزمه أن يقترض منه، بل يجوز صرف الزكاة إليه (المجموع: 6/216).
وقال الحنيفة: الأولى أن يستقرض إن قدر، ولا يلزمه ذلك؛ لجواز عجزه عن الأداء (انظر: فتح القدير: 2/18، ورد المحتار: 2/64).
وهذه علة أخرى تضاف إلى ما ذكره ابن العربي والقرطبي.
فهما علتان تمنعان وجوب الاستقراض على ابن السبيل:
الأولى: أن في الاستقراض قبولاً لمنّة الناس، ولم يكلفه الله ذلك.
الثانية: جواز عجزه عن سداد الدين، وفي ذلك ضرر به وبالدائن.
كم يعطى ابن السبيل؟
( أ ) يعطى ابن السبيل من النفقة والكسوة ما يكفيه مقصده، أو موضع ماله، إن كان له مال في طريقه. هذا إن لم يكن معه مال أصلاً. وإن كان معه مال لا يكفيه أعطي ما يتم به كفايته.
( ب ) ويُهيأ له ما يركبه إن كان سفرًا طويلاً. وقدَّروا السفر الطويل بما تقصر فيه الصلاة، وهو نحو 80 كم، أو كان ضعيفًا لا يقدر على المشي.(2/135)
وإن كان قويًا وسفره دون مسافة القصر، لم يُعط المركوب، ويعطى ما ينقل عليه زاده إلا أن يكون قدرًا يعتاد مثله أن يحمله بنفسه.
قالوا: وصفة تهيئة المركوب: أنه إن اتسع المال اشترى له مركوب. وإن ضاق اكترى له. وإنما قالوا ذلك؛ لأن وسائل الركوب والنقل كانت هي الدواب. فلهذا قالوا: تُشتَرى أو تُكتَرى. أما الآن فقد تطورت وسائل النقل إلى السيارات والقطارات، والبواخر والطائرات، فلا سبيل إلى اشترائها بل يُكتَرى له ما يلائم حاله منها. فمن كان يلائمه ركوب القطار أو الباخرة، لا يُتجشم نقله بالطائرة، حتى لا يرهق مال الزكاة بما يمكن الاستغناء عنه.
(جـ) ويعطى جميع مؤن سفره، لا ما زاد بسبب السفر فقط. وهذا هو الصحيح.
( د ) ويعطى سواء أكان قادرًا على الكسب أم لا.
(هـ) ويعطى ما يكفيه في ذهابه ورجوعه إن كان يريد الرجوع، وليس له في مقصده المال.
وقال بعض العلماء: لا يعطى للرجوع أثناء سفره وإنما يعطى عند رجوعه.
وبعضهم قال: إن كان عزمه أن يصل الرجوع بالذهاب أعطي للرجوع، وإن كان عزمه إقامة مدة لم يعط للرجوع. والصحيح الأول.
( و ) وأما نفقة الإقامة بالمقصد فقد فصل في ذلك الشافعية فقالوا: إن كانت إقامته دون أربعة أيام - غير يومي الدخول والخروج - أعطي لها؛ لأنه في حكم المسافر، وله الفطر والقصر وسائر رخص السفر. وإن كانت أربعة أيام فأكثر - غير يومي الدخول والخروج - لم يعط لها؛ لأنه خرج عن كونه مسافرًا ابن سبيل، وانقطعت رخص السفر، بخلاف الغازي، فإنه يعطى مدة الإقامة في الثغر وإن طالت. والفرق أن الغازي يحتاج إليه لتوقع الفتح، ولأنه لا يزول بالإقامة اسم "الغازي" بل يتأكد، بخلاف المسافر.
وقال بعضهم: يعطى ابن السبيل، وإن طال مقامه إذا كان مقيمًا لحاجة يتوقع تنجزها (انظر المجموع: 6/215،216 والشرح الكبير ص 701،702).
( ز ) وإذا رجع ابن السبيل وقد فضل معه شيء هل يسترد منه أم لا؟(2/136)
قال الشافعية: نعم، سواء قتر على نفسه أم لا، وقيل: إن قتر على نفسه، بحيث بقي معه هذا الفضل من تقتيره لم يرجع بما فضل. وهذا بخلاف الغازي؛ حيث لا يسترجع منه إذا قتر على نفسه؛ لأن ما يأخذه الغازي يأخذه عوضًا، لحاجتنا إليه وقيامه بالغزو وقد فعل، وابن السبيل يأخذ لحاجته إلينا وقد زالت (المجموع: 6/216).
وقال الحنفية: لا يلزم ابن السبيل التصدق بما فضل في يده عند قدرته على ماله، كالفقير إذا استغنى وعنده شيء من مال الزكاة فلا يلزمه التصدق (انظر: فتح القدير:2/18، ورد المحتار: 2/64).
هل يوجد ابن السبيل في عصرنا؟
ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أن صنف "ابن السبيل" لم يعد له وجود في عصرنا، نظرًا لوجود الوسائل الكثيرة الميسرة لحصول الإنسان على ماله بالقدر الذي يريد من أي مكان في الدنيا، عن طريق الحوالة على البنوك ونحوها (انظر: تفسير المراغي جـ 28، وقد ذكر هذا الرأي في تفسير الآية السادسة من سورة الحشر).
هذا ما ذكره المرحوم أحمد مصطفى المراغي في تفسيره. ولكننا نخالفه ونرى أن ابن السبيل يوجد - رغم ما ذكره من سهولة الحصول على المال من أي بلد - في صور شتى:
1- صور واقعة لابن السبيل:
فمن الناس من يُعَدُّ غنيًا، وليس له رصيد في البنوك، فكيف يحصل مثله على ماله إذا كان بعيدًا عنه؟! ومثله من ينقطع - لظروف وأسباب مختلفة - في قرية نائية، أو صحراء شاسعة. ولا يستطيع الوصول إلى المدينة، حتى يأخذ من البنك ما يريد، فماذا يكون موقفه؟
إن مثل هذا هو ابن سبيل؛ لأنه غني انقطع عن ماله، فاستحق العون وهي صورة وإن كانت نادرة فهي تقع.
2- المشردون واللاجئون:(2/137)
ومن الناس من يجبر على مغادرة وطنه، ومفارقة ماله وأملاكه من قِبَل الغزاة المحتلين، أو الطغاة المستبدين، من الحكام الكفرة وأشباه الكفرة، الذين يضطهدون أهل الخير والصلاح، ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، إلا أن يقولوا: ربنا الله. تجد الرجل من هؤلاء يفر بدينه وحريته من بلده إلى بلد آخر، ويبقى محرومًا من ماله في موطنه، وإن بقي هناك باسمه في البنك أو تحت الحراسة، أو ما شابه ذلك. كما هو شأن كثير من المضطهدين واللاجئين السياسيين.
فماذا يُعَد هؤلاء فيالاصطلاح الفقهي؟
إن لهم مالاً وملكًا في أوطانهم، ولكن لا سلطان لهم- في حاضرهم - عليه، ولا سبيل لهم إليه، فهم أغنياء ملكًا فقراء يدًا. وكل من كان هذا شأنه فهو ابن سبيل.
3- من له مال لا يقدر عليه ولو في بلده:
بل ألحق بعض الفقهاء من الحنفية بابن السبيل، كل من هو غائب عن ماله، غير قادر عليه، وإن كان في بلده، مستدلاً بأن الحاجة هي المعتبرة، وقد وجِدت؛ لأنه فقير يدًا، وإن كان غنيًا ظاهرًا (انظر: رد المحتار: 2/64، والبحر الرائق: 2/260).
قالوا: وإن كان تاجرًا له دين على الناس لا يقدر على أخذه، ولا يجد شيئًا، يحل له أخذ الزكاة؛ لأنه فقير يدًا كابن السبيل (البحر الرائق:2/260).
4- المسافرون لمصلحة:
وإذا أخذنا بمذهب الشافعي الذي يُدخل في ابن السبيل: من يريد سفرًا ولا يجد نفقة، واعتبرنا ما رجحناه من اشتراط أن يكون هذا السفر في مصلحة معتبرة للإسلام أو للجماعة المسلمة - أمكننا أن نجد في عصرنا صورًا كثيرة لهذا الصنف في الطلاب النابهين والصنَّاع الحاذقين، والفنيين المتقنين، وغيرهم ممن يحتاجون إلى بعثات للخارج، للتخصص في علم نافع، أو للتدريب على عمل منتج، يعود أثره بالخير على الدين والأمة.
5- المحرومون من المأوى:(2/138)
كما أن بعض العلماء من الحنابلة أعطى تفسيرًا آخر لابن السبيل يدخل فيه كثيرون حتى في عصرنا هذا، فقد ذكر: أن أبناء السبيل هم السؤّال (انظر: الإنصاف: 3/237). يعني المتسولين الذين يتكففون الناس، ويسألونهم.
ومما يندى له الجبين أننا لا نزال نرى في كثير من البلاد التي ينتسب أهلها إلى الإسلام، أناسًا حُرِموا نعمة المأوى والمسكن، واتخذوا من جوانب الشوارع، وأرصفة الطرقات مأوى لهم، يفترشون ترابها، ويتغطون بهوائها، فهؤلاء "أبناء سبيل" لأن الطريق لكل منهم أمه وأبوه!!
إن هؤلاء وصمة في جبين المجتمع الذي يعيشون فيه، فلا عجب أن يعني بهم القرآن، ويذكرهم بوصف خاص، غير وصف الفقراء والمساكين، ويفرض لهم سهمًا في الضريبة الإسلامية الأولى: الزكاة.
ولا غرابة أن يعطى هؤلاء من مال الزكاة بوصفهم أبناء سبيل، وبوصفهم فقراء أيضًا. فيُعطَون بالوصف الأول ما يُخرجهم عن بنوة الطريق بأن يُهيأ لهم المسكن اللائق بحالهم، ويعطون بالوصف الثاني ما يضمن لهم تمام كفايتهم ويكفل لهم معيشة حسنة، يتحقق لهم فيها إشباع حاجاتهم البشرية من غير إسراف ولا تقتير.
6- اللقطاء:
وذكر السيد رشيد رضا في تفسيره: أن اللقيط يوشك أن يدخل في معنى ابن السبيل، كما ذكر أن بعض أذكياء المعاصرين اختار في رسالة له: أن هذا هو المعنى المراد.
وقوَّى الشيخ رشيد هذا الاختيار - وإن لم يجزم به - بأن اللفظ يتسع للقيط ما يتسع لغيره. وبأن القرآن عنى بأمر اليتيم، والإحسان به لحكمة بالغة، وهي: أن اليتيم يُهمَل أمره بفقد الناصر القوي الغيور، وهو الأب. أو تكون تربيته ناقصة، بالجهل الذي هو جناية على العقل، أو فساد الأخلاق الذي هو جناية على النفس، وهو بجهله وفساد أخلاقه، يكون شرًا على أولاد الناس، يعاشرهم فيسري إليهم فساده. فإذا كان هذا شأن اليتيم فاللقيط أولى وأجدر منه بالإحسان بما ذكرنا من الحكمة والفقه.(2/139)
قال: "وإنما غفل جميع المفسرين عن ذكره، لندرة اللقطاء في زمن المتقدمين منهم، ولا حظ للمتأخرين منهم من التأليف إلا النقل عنهم" (تفسير المنار: 5/94 - طبعة ثانية).
على أن اللقيط إن لم يدخل في معنى "ابن السبيل" فهو داخل في عموم "الفقراء والمساكين" قطعًا، فإن الفقير هو المحتاج، صغيرًا كان أو كبيرًا. فحقه في الزكاة ثابت بيقين.
الفصل الثامن
مباحث حول الأصناف المستحقين
فهرس
ترجيح رشيد رضا
الخلاصة في التوزيع على الأصناف
مذاهب الفقهاء في استيعاب الأصناف
تحقيق صاحب الروضة الندية
ترجيح أبي عبيد
مذاهب الفقهاء في استيعاب الأصناف
ذكر الله تعالى مصارف الزكاة في كتابة الكريم، وحصرها في ثمانية أصناف شرحناها وفصلنا القول في بيانها، وبقي هنا مسألة لا بد من توضيحها، وهي:
هل يجب على مفرِّق الزكاة - سواء أكان المالك أو الحاكم - أن يوزعها على جميع هؤلاء الأصناف الثمانية، وأن يسوِّي بينهم في قدر ما يعطيه؟
هكذا فهم بعض الفقهاء. منهم الإمام الشافعي الذي أطال في تفصيل هذه المسألة في كتاب "الأم" في فصول كثيرة.
قال النووي في المجموع: قال الشافعي والأصحاب -رحمهم الله-: إن كان مفرِّق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة الباقين إن وُجِدوا، وإلا فالموجود منهم، ولا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده، فإن تركه ضمن نصيبه .. وبمذهبنا في استيعاب الأصناف قال عكرمة، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، وداود (المجموع: 6/185).
وعن أحمد رواية أيضًا توافق مذهب الشافعي: أنه يجب تعميمهم والتسوية بينهم، وأن يدفع من كل صنف إلى ثلاثة فصاعدًا؛ لأنه أقل الجمع، إلا العامل؛ لأن ما يأخذه أجرة، فجاز أن يكون واحدًا، وإن تولى الرجل إخراجها بنفسه سقط العامل. وهذا اختيار أبي بكر من الحنابلة (الكافي لابن قدامة: 1/146).(2/140)
واستحب أصبغ - من المالكية - مذهب الشافعي في تعميم الأصناف، حتى لا يندرس العلم باستحقاقهم، ولما فيه من الجمع بين مختلف المصالح لما فيه من سد الخلة والغزوة ووفاء الدين، وغير ذلك، ولما يوجبه من دعاء الجميع (نقل ذلك الصاوي في حاشيته: 1 /334 نقلاً عن الخرشي).
قال ابن عربي: واتفقوا على أنه لا يُعطى جميعها للعاملين فيها (نقل ذلك الصاوي في حاشيته: 1/334 نقلاً عن الخرشي) لأن ذلك إخلال بالمقصود من شرعية الزكاة، وهو سد خلة المسلمين، وسد خلة الإسلام كما قال الطبري.
واعتمد أصحاب الشافعي على أن الله أضاف الصدقة بلام التمليك: (للفقراء والمساكين). إلخ، إلى مستحق حتى يصح منه الملك على وجه التشريك، فكان ذلك بيانًا للمستحقين، وهذا كما لو أوصى لأصناف معينين أو لقوم معينين (أحكام القرآن لابن العربي: 2/947)، فيجب أن يعمهم جميعًا.
واستدلوا من السنة بما رواه أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعته فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم هو فيها فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك حقك).
وخالف الشافعيَّ مالكٌ وأبو حنيفة وأصحابهما، ولم يوجبوا استيعاب الأصناف في القسمة.
وقالوا: إن اللام في الآية ليست لام التمليك، وإنما هي لام الأجل كقولك: هذا السرج للدابة، والباب للدار.
واستدلوا بقوله تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) (البقرة: 271). فلم يذكر لها في الآية مصرفًا إلا الفقراء.
والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم) وهذا نص في ذكر أحد الأصناف قرآنًا وسُنِّة (أحكام القرآن لابن العربي: 2/947).(2/141)
وقد روي أبو عبيد عن ابن عباس أنه قال: (إذا وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف فحسبك، إنما قال الله تبارك وتعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين). وكذا وكذا، لئلا يجعلها في غير هذه الأصناف). ونحوه عن حذيفة.
وعن ابن شهاب قال: أسعدهم بها أكثرهم عددًا وأشدهم فاقة.
وعن إبراهيم قال: ما كانوا يسألون إلا عن الفاقة (الفاقة: الفقر).
وقال سفيان، وأهل العراق (أبو حنيفة وأصحابه): إذا وضعها في صنف واحد من الثمانية أجزأه.
وقال إبراهيم النخعي: إذا كان المال كثيرًا ففرقه في الأصناف. وإذا كان قليلاً فأعطه صنفًا واحدًا. وروى مثل هذا عن عطاء (ذكر هذه الآثار أبو عبيد في "الأموال" ص 576 - 578).
وقال أبو ثور: إن أخرجه صاحبه جاز له أن يضعه في قسم، وإن قسَّمه الإمام استوعب الأصناف.
وقال مالك: "الأمر عندنا في قسم الصدقات أن ذلك لا يكون إلا على وجه الاجتهاد من الوالي. فأي الأصناف كانت الحاجة فيه والعدد، أوثر ذلك الصنف بقدر ما يرى الوالي، وعسى أن ينتقل ذلك إلى الصنف الآخر بعد عام أو عامين أو أعوام، فيؤثر أهل الحاجة والعدد حيثما كان ذلك. وعلى هذا أدركت من أرضى من أهل العلم" (أحكام القرآن: 2/948).
وأوجه الأقوال المذكورة ما قاله النخعي وأبو ثور ومالك وهي - فيما أرى - يكمل بعضها بعضًا.
تحقيق صاحب الروضة الندية(2/142)
وقد حقق ذلك صاحب الروضة الندية فقال: إن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم، واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية، ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم. بل المعنى: أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف، فمن وجب عليه شيء من جنس الصدقة، ووضعه في جنس الأصناف فقد فعل ما أمره الله فيه وسقط عنه ما أوجبه الله عليه. ولو قيل: إنه يجب على المالك - إذا حصل له شيء تجب فيه الزكاة - تقسيطه على جميع الأصناف الثمانية على فرض وجودهم جميعًا، لكان ذلك - مع ما فيه من الحرج والمشقة - مخالفًا لما فعله المسلمون سلفهم وخلفهم. وقد يكون الحاصل شيئاً حقيرًا لو قسم على جميع الأصناف لما انتفع كل صنف بما حصل له، ولو كان نوعًا واحدًا فضلاً عن أن يكون عددًا !!
وحديث زياد بن الحارث الذي قال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء... ) هذا الحديث على فرض صلاحيته للاحتجاج (ففي إسناده مقال) فالمراد بتجزئة الصدقة تجزئة مصارفها، كما هو مصارف الآية التي قصدها -صلى الله عليه وسلم-. ولو كان المراد تجزئة الصدقة نفسها، وأن كل جزء لا يجوز صرفه في غير الصنف المقابل له، لما جاز صرف نصيب ما هو معدوم من الأصناف إلى غيره، وهو خلاف الإجماع من المسلمين.
وأيضًا لو سُلِّم ذلك لكان باعتبار مجموع الصدقات التي تجتمع عند الإمام لا باعتبار صدقة كل فرد، فلم يبق ما يدل على وجوب التقسيط، بل يجوز إعطاء بعض المستحقين بعض الصدقات وإعطاء بعضهم بعضًا آخر.(2/143)
نعم، إذا جمع الإمام جميع صدقات أهل قُطر من الأقطار وحضر عنده جميع الأصناف الثمانية كان صنف حق في مطالبته بما فرضه الله. وليس عليه تقسيط ذلك بينهم بالسوية، ولا تعميمهم بالعطاء، بل له أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر. وله أن يعطي بعضهم دون بعض - إذا رأى ذلك صلاحًا عائدً على الإسلام وأهله. مثلاً إذا جمعت لديه الصدقات، وحضر الجهاد، وحقت المدافعة عن حَوْزَة الإٍسلام من الكفار أو البغاة فإن له إيثار أصناف المجاهدين بالصرف إليهم وإن استغرق جميع الحاصل من الصدقات. وهكذا إذا انقضت المصلحة إيثار غير المجاهدين" أ.هـ. (الروضة الندية: 1/207-209 -بتصرف).
ترجيح أبي عبيد
وهذا ما رجحه أبو عبيد، فقد ذكر ما كتبه الإمام الزهري لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز عن منازل الصدقات ومواضعها، كما جاءت بالسنة، فقال: هي ثمانية أسهم: سهم للفقراء وسهم للمساكين إلى آخر السهام الثمانية.
ثم فصل ما يعطى لكل صنف من الفقراء إلى ابن السبيل، وكيف يقسم السهم على أنواع كل صنف من الأصناف الثمانية، ثم قال أبو عبيد: فهذه مخارج الصدقة إذا جعلت مجزأة، وهذا هو الوجه لمن قدر عليه وأطاقه، غير أني لا أحسب هذا يجب إلا على الإمام الذي تكثر عنده صدقات المسلمين وتلزمه حقوق الأصناف كلها يمكنه كثرة الأعوان على تفريقها. فأما من ليس عنده منها إلا ما يلزم لخاصة ماله فإنه إذا وضعها في بعضهم دون بعض كان جازيًا عنه على قول من سميناه من العلماء.(2/144)
والأصل في هذا هو الحديث المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين ذكر الصدقة فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فتُرَد في فقرائهم) فلم يذكر -صلى الله عليه وسلم- - هاهنا - غير صنف واحد. ثم أتاه مال بعد هذا فجعله في صنف ثان سوى الفقراء وهم المؤلفة قلوبهم: الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وعلقمة بن علاثة، وزيد الخيل، قسم فيهم الذهبية التي بعث بها إليه عليّ من أموال أهل اليمن، وإنما الذي يؤخذ من أموالهم الصدقة.
ثم أتاه مال آخر فجعله في صنف ثالث وهم الغارمون.
ومن ذلك قوله لقبيصة بن المخارق في الحَمالة التي تحمَّل بها: (أقم حتى تأتينا الصدقة فإما أن نعينك عليها، وإما أن نحملها عنك) فأراه -صلى الله عليه وسلم- قد جعل بعض الأصناف أسعد بها من بعض.
فالإمام مخيَّر في الصدقة في التفريق فيهم جميعًا، وفي أن يخص بها بعضهم دون بعض، إذا كان ذلك على وجه الاجتهاد، ومجانبة الهوى والميل عن الحق، وكذلك من سوى الإمام، بل هو لغيره أوسع إن شاء الله" (الأموال ص 581 وما قبلها).
ترجيح رشيد رضا
قال في المنار: إن خلاف السلف وأئمة الأمصار في المسألة يدل على أنه لم يسبق فيها سُنَّة عملية مجمع عليها من عهد الرسول، ولا من خلفائه الراشدين، فدل هذا على أنهم كانوا يرونها من المصالح التي يترجح فيها العمل بما يراه أولوا الأمر في درجة الاستحقاق وقلة المال وكثرته من الصدقات وفي بيت المال.
وأقرب أقوال الأئمة في مراعاة المصلحة قول مالك وإبراهيم النخعي وأبعدها عن المصلحة والنص جميعًا قول أبي حنيفة (قد ذكرنا أن أبا عبيد روى عن ابن عباس وحذيفة مثله. والقول بجواز وضعها في صنف واحد لا ينفي وجوب مراعاة الحاجة والمصلحة في التوزيع، وإن كان ذلك موكولاً إلى ضمير المسلم)، إلا إذا كان المال قليلاً جدًا بحيث إذا أعطاها واحدًا انتفع به، وإذا وزعه على من يوجد من الأصناف، أو علي أفراد صنف واحد كالفقراء، لم يصب أحدًا ما له موقع من كفايته.(2/145)
وأما جواز إعطاء المال أكثر إلى واحد من المستحقين من صنف واحد، فلا وجه له ولا شبهة. والله تعالى قد ذكر أصنافًا بصفة الجمع، فلا يمكن أن يقول أبو حنيفة، ولا من دونه علمًا وفهمًا: "إن إعطاء واحد من صنف واحد يُعَد امتثالاً لأمر الله وعملاً بكتابه، وينبغي لجماعة الشورى من أهل الحل والعقد أن يضعوا في كل عصر وقطر نظامًا لتقديم الأهم فالمهم، إذا لم تكف الصدقات الجميع، ليمنعوا السلاطين والأمراء من التصرف فيها بأهوائهم، وذلك أن بعض الأصناف يوجد في بعض الأزمنة والأمكنة دون بعض، كما أن درجات الحاجة تختلف" (تفسير المنار: 10/593 - طبعة ثانية).
الخلاصة في التوزيع على الأصناف
وخلاصة القول بعد ذكر هذه الآراء والتحقيقات والترجيحات، نعرضها فيما يلي:
1- ينبغي تعميم الأصناف المستحقين إذا كثر المال، ووجدت الأصناف وتساوت حاجاتهم أو تقاربت. ولا يجوز حرمان صنف منهم مع قيام سبب استحقاقه ووجود حاجته. وهذا يتعين في حق الإمام أو السلطة الشرعية التي تجمع الزكوات وتفرقها على المستحقين.
2- عند تعميم الأصناف الموجودين بالفعل من الثمانية، ليس بواجب أن نسوي بين كل صنف وآخر قي قدر ما يصرف له، وإنما يكون ذلك حسب العدد والحاجة. فقد يوجد في إقليم ألف فقير، ولا يوجد من الغارمين أو ابن السبيل إلا عشرة. فكيف يعطى عشرة ما يعطاه ألف؟! لهذا نرى الأوفق هنا ما ذهب إليه مالك، ومن قبله ابن شهاب من إيثار الصنف الذي فيه العدد والحاجة بالنصيب الأكبر (قال الدردير في شرحه الصغير: يُندب إيثار المحتاج على غيره بأن يُخص بالإعطاء، أو يزاد له فيه على غيره، على حسب ما يقتضيه الحال: إذ المقصود سد الحاجة (1/234). خلافًا لمذهب الشافعي.(2/146)
3- يجوز صرف الزكاة كلها لبعض الأصناف خاصة، لتحقيق مصلحة معتبرة شرعًا تقتضي التخصيص. كما أنه عند إعطاء صنف من الأصناف الثمانية لا يلزم التسوية بين جميع أفراده في قدر ما يُعطونه بل يجوز المفاضلة بينهم حسب حاجاتهم. فإن الحاجات تختلف من فرد إلى آخر.
المهم أن يكون التفضل -إن وجد - لسبب ومصلحة لا لهوى وشهوة، ودون إجحاف بالآخرين من الأصناف أو الأفراد (من أجود ما قرأت في ذلك ما في شرح الأزهار (1/518) قال: "ولا يجوز للإمام ذلك التفضيل إذا كان غير مجحف بالأصناف الباقية، فأما إذا كان مجحفًا لم يجز؛ لأن ذلك حيف وميل عن الحق. معنى الإجحاف هنا: أن يعطي أحد الغارمين ما يقضي دينه والآخر دون ما يفي بدينه، أو يعطي أحد ابني السبيل ما يبلغه وطنه والآخر دون ذلك. أو يعطي فقير ما يكفيه وعوله (عياله) والآخر دون ما يكفيه وعوله، من غير سبب مقتض لذلك كأن يكون المفضل مؤلفًا أو نحو ذلك. ويجوز للإمام أن يفضل بعض الأشخاص فيعطيه أكثر مما أعطى غيره لتعدد السبب فيه، الموجب لاستحقاق الزكاة، وذلك نحو أن يكون هذا الشخص فقيرًا مجاهدًا عاملاً غارمًا، فإنه يعطى أكثر من غيره لاجتماع هذه الوجوه فيه"). أهـ
4- ينبغي أن يكون الفقراء والمساكين هم أول الأصناف الذين تصرف لهم الزكاة، فإن كفايتهم وإغناءهم هو الهدف الأول للزكاة، حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر في حديث معاذ وغيره إلا هذا المصرف: (تؤخذ من أغنيائهم، فتُرَد على فقرائهم) وذلك لما لهذا المصرف من أهمية خاصة.
فلا يجوز للحاكم أن يأخذ أموال الزكاة لينفقها على الجيش مثلاً، ويدع الفئات الضعيفة المحتاجة من أهل الفقر والمسكنة يأكلها الجوع والعرى والضياع، ويحرقها الحقد والحسد والبغضاء.
وكل هذا ما لم تطرأ ظروف خاصة مؤقتة تجعل علاجها مقدمًا على علاج الفقر والمسكنة.(2/147)
5- ينبغي الأخذ بمذهب الشافعي في تعيين الحد الأقصى الذي يصرف للعاملين على الزكاة جباية وتوزيعًا. وقد حدده بمقدار "الثمن" من حصيلة الزكاة، فلا يجوز الزيادة عليه، فإن مما يعاب على أكثر الضرائب الوضيعة أن مقدارًا كبيرًا مما يجبى منها ينفق على الإدارات والأجهزة المكلفة بالجباية، فلا تصل المبالغ المحصلة من الممولين إلى الخزانة إلا بعد أن تكون قد نقصت نقصًا ملحوظًا بسبب الإسراف في نفقات الجباية والتحصيل، وما تستلزمه فخامة المناصب، وأناقة المكاتب، والعناية بالمظاهر، والميل إلى التعقيد، من تكاليف جمة وأموال طائلة. وهذا في الحقيقة إنما يؤخذ من الجهات المستحقة التي تُصرف فيها حصيلة ما جبي من المال. وإلا، زيد بقدره على المكلفين المرهقين.
6- عندما يكون مال الزكاة قليلاً، كمال فرد واحد ليس بذي ثروة كبيرة. فهنا يُعطى لصنف واحد، كما قال النخعي وأبو ثور، بل لفرد واحد كما قال أبو حنيفة؛ فإن تفريق هذا القليل على عدة أصناف أو عدة أفراد من صنف واحد، يضيع الفائدة المرجوة من الزكاة. وقد مر بنا في مصرف "الفقراء والمساكين" ترجيح مذهب الشافعي في الإغناء بالزكاة فهو أولى من إعطاء عدد من الأفراد دريهمات لكل منهم، لا تشفي ولا تكفي.
وهذا ما لم يكن العدد الموجود في حاجة شديدة إلى إسعاف بأي شيء ولو قليلاً. فالتفريق أفضل وأولى عندئذ.
الفصل التاسع
الأصناف الذين لا تصرف لهم الزكاة
فهرس
تابع المبحث الرابع : هل تُدفع الزكاة إلى الزوج والوالدين والأقارب؟
هل تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها الفقير؟
دفع الزكاة إلى باقي الأقارب بين المانعين والمجوِّزين
موازنة وترجيح
المبحث الخامس : آل محمد صلى الله عليه وسلم
الأحاديث المروية في تحريم الصدقة على آل محمد صلى الله عليه وسلم
من هم آل محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
ما الحكم إذا حرموا من الغنائم والفيء؟
مناقشة وترجيح
المبحث السادس: الخطأ في مصرف الزكاة
فعند الحنفية(2/148)
وعند المالكية
وعند الزيدية
تمهيد
المبحث الأول: الأغنياء
غنى الولد الصغير بغنى أبيه
المبحث الثاني: الأقوياء المكتسبون
المبحث الثالث : هل تعطى الزكاة لغير المسلم؟
لا يعطى من الزكاة ملحد ولا مرتد ولا محارب للإسلام
إعطاء أهل الذمة من الصدقات
مناقشة دعوى الإجماع على ذلك
موازنة وترجيح
هل يعطى الفاسق من الزكاة؟
كلمة للسيد رشيد رضا
إعطاء الفرق المخالفة من أهل الإسلام؟
المبحث الرابع : هل تُدفع الزكاة إلى الزوج والوالدين والأقارب؟
الصرف إلى الزوجة لا يجوز
الزكاة ضريبة ذات صبغة خاصة. ترمي إلى تحقيق أهداف معينة في حياة الفرد والمجتمع والعالم الإنساني.
فليس لأي إنسان أن يأخذ منها ما لم يكن من أهلها. وليس لرب المال ولا للحاكم أن يصرفها حيث شاء ما لم تصادف محلها.
ومن هنا اشترط الفقهاء، ألا يكون آخذ الزكاة من الأصناف الذين جاءت النصوص بتحريمها عليهم، وعدم اعتبارهم مصرفًا صحيحًا للزكاة.
وهؤلاء الأصناف الذين حُرِّمت عليهم الزكاة هم بالإجمال:
1- الأغنياء.
2- الأقوياء المكتسبون.
3- الملاحدة والكفرة والمحاربون للإسلام بالإجماع. وأهل الذمة عند جمهور الفقهاء.
4- أولاد المزكي ووالداه وزوجته. أما باقي الأقارب ففيهم خلاف وتفصيل.
5- آل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم بنو هاشم وحدهم، أو بنو هاشم وبنو المطلب على الخلاف في ذلك.
ونفصل ذلك في المباحث التالية ...
المبحث الأول
الأغنياء
ذكرنا في بحثنا عن " الفقراء والمساكين": أن فقهاء الإسلام متفقون على أنه لا يعطى من سهم الفقراء والمساكين غنى، لقوله -صلى الله عليه وسلم- : (لا تحل الصدقة لغنى) (مر تخريجهما هناك ).، وقوله لمعاذ (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )(مر تخريجهما هناك).
وقالوا : إن إعطاء الأغنياء منها يخل بحكمة وجوبها، وهو إغناء الفقراء بها، فلم يجز .(2/149)
وهم مع اتفاقهم على هذا الحكم اختلفوا في تحديد معنى الغنى الذي يحرم الأخذ من الزكاة ويمنع منها، وقد فصلنا ذلك في مصرف الفقراء والمساكين فليرجع إليه .
واختلف الفقهاء أيضاُ في بقية الأصناف، فعند الحنفية لا تعطى الزكاة لغني، ولو كان في سبيل الله، أو غارماً لإصلاح ذات البين، عملاً بإطلاق حديث معاذ والحديث الآخر: (لا تحل لغني).
ولم يستثنوا إلا العامل: لأن ما يأخذه إنما هو أجر على عمله. وإلا المؤلفة، ولكن سهمهم سقط بانتشار الإسلام كما قالوا (انظر: فتح القدير على الهداية: 2/21).
أما الأئمة الآخرون فقالوا: إنما اقتصر في حديث معاذ على رده للفقراء لأن ذلك هو المقصود الأهم للزكاة؛ إغناء الفقراء.
ولو كانت الزكاة لا تعطى إلا لفقير ومسكين ما كان هناك معنى لذكر أصناف ستة في آية التوبة بعد الفقراء والمساكين.
وكما أخرجتم العامل عليها وابن السبيل- وإن كان غنيًا في بلده - أخرجوا الغازي الذي لا راتب له في ديوان الجند، والغارم لإصلاح ذات البين.
والواقع أن آية المصارف جمعت بين نوعين من المستحقين:
النوع الأول: من يحتاج من المسلمين وهم: الفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمون لمصلحة أنفسهم وابن السبيل فهؤلاء يعطون لحاجتهم ما تندفع به حاجتهم.
النوع الثاني: من يحتاج إليهم المسلمون، وهم: العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون لمصلحة الغير، وفي سبيل الله. فهؤلاء يُعطون مع الفقر والغنى.
وقد فصل في ذلك الحديث النبوي: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إليه).(2/150)
قال النووي: هذا الحديث حسن أو صحيح رواه أبو داود من طريقين مرسلاً وموصولاً (قال في المجموع (6/206): إسناده جيد في الطريقين، وجمع البيهقي طرقه، وفيها: أن مالكًا وابن عيينة أرسلاه، وأن معمرًا والثوري وصلاه، وهما من جملة الحفاظ المعتمدين، والحديث إذا روي متصلاً ومرسلاً كان الحكم للاتصال على المذهب الصحيح).
غنى الولد الصغير بغنى أبيه
وإذا كانت الزكاة لا تحل لغني أن يأخذها باسم الفقر والمسكنة؛ فإن الإنسان كما يكون غنيًا بنفسه، قد يكون غنيًا بغنى غيره.
فالولد الصغير يُعَدّ غنيًا بغنى أبيه، لا فرق بين الذكر والأنثى في ذلك، بخلاف ما إذا كان كبيرًا فقيرًا، فإنه لا يُعَدُّ غنيًا بيسار أبيه وإن كانت نفقته عليه، كالبنت الفقيرة التي لا زوج لها، والابن الفقير العاجز عن الكسب (انظر الهداية وفتح القدير: 2/23).
والمرأة الفقيرة تُعَدُّ غنية بيسار زوجها، وهي - شرعًا وعُرفًا - منسوبة إليه ومحسوبة عليه ومكفية به، فلا يجوز إعطاؤها من الزكاة؛ لأن ذلك في الحقيقة ينقلب إعطاء للزوج.
وظاهر الرواية عند الحنفية يجيز إعطاء امرأة الغني من الزكاة، سواء فرض لها النفقة أم لا. وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز: لأنها مكفية بما تستوجبه على الغني من النفقة، حالة اليسار والإعسار، فالصرف إليها كالصرف إلى ولد الغني الصغير (المرجع نفسه وشرح العناية على هامش الهداية). وفرق علماء الحنفية بين زوجة الغني وولده: أن استيجابها النفقة بمنزلة الأجرة، بخلاف وجوب نفقة الولد الصغير؛ لأنه سبب عن الجزئية فكان كنفقة نفسه، فالدفع إليه كالدفع إلى نفس الغني (المرجع نفسه ص 24).
وأجاز بعض الشافعية إعطاء زوجة الغني الفقيرة وولده الفقير من الزكاة، مع قيام الزوج والأب بالنفقة، وخالفهم آخرون على عدة أقوال (المجموع: 6/191).
ومن هذه الأقوال: أن كل من وجبت نفقته على غني من ولد أو زوجة أو قريب، تحرم عليه الزكاة؛ لأنه مكفي بنفقته، والغنى هو الكفاية.(2/151)
وعند المالكية: أن الفقير الذي وجبت نفقته على غني، تحرم عليه الزكاة ولو لم يجر النفقة عليه بالفعل؛ لأنه قادر على أخذها منه بالحكم والقضاء.
واستثنوا من ذلك ما إذا كان الغني لا تمكن الدعوى عليه أو يتعذر الحكم عليه (انظر شرح الخرشي على خليل: 2/214).
والذي أرجحه ما قلته أولاً إن ولد الإنسان الصغير وزوجته هما اللذان يعدان غنيين بغنى الأب والزوج، فالولد مع أبيه والزوجة مع زوجها وحدة لا تتجزأ، ولأن نفقتهما وجبت وجوبا بيِّنًا بالكتاب والسنة، فهما مكفيان كفاية دائمة لازمة مستقرة. فلا يجوز إعطاء الزكاة لهما، ولا يجوز لهما الأخذ، بخلاف سائر الأقارب، فللحكومة أن تتولى الإنفاق عليهم من الزكاة أو غيرها من مواردها وتغنيهم عن نفقة أقاربهم، وللأفراد المسلمين أن يعطوهم من زكاتهم ما يقضون به حاجات لا تسدها النفقة، أو ما يغنيهم عن النفقة بالكلية وخاصة على مذهب من يقول بإعطاء كفاية العمر للفقير والمسكين (راجع: بحث "كم يعطى الفقير والمسكين من الزكاة" ؟ - الفصل الأول ص 603). فهذا شيء أعمق وأوسع مدى مما تؤديه نفقة القريب على القريب.
المبحث الثاني
الأقوياء المكتسبون
وكما جاءت الأحاديث بتحريم الزكاة على الغني جاءت بتحريمها على ذي المرة السوي، (والمرة: الشدة والقوة. والسوي: المستوي الأعضاء، أي أن جسمه سليم من العاهات. وإنما حرمت الزكاة على القوي؛ لأنه مُطالب أن يعمل ويكفي نفسه بنفسه لا أن يقعد ويتكل على الصدقات. فإذا كان قويًا ولكنه لا يجد عملاً فهو معذور، ومن حقه أن يُعان من الزكاة، حتى يتهيأ له العمل الملائم، وفي الحديث الآخر: (لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) (ذكر في البحر: (2/175) قولاً للشافعي أنه يشترط في الفقير الضعف والزمانة وعدم السؤال وهذا الحديث يرد عليه. ووقوفها على الزمني باطل كما قال ابن العربي، وقد تقدم) وقد مر بنا بحث ذلك في مصرف "الفقراء والمساكين".(2/152)
وخالف الحنفية في ذلك فقالوا: يجوز دفع الزكاة إلى من يملك أقل نصاب وإن كان صحيحًا مكتسبًا؛ لأنه فقير، والفقراء هم المصارف، ولأن حقيقة الحاجة لا يوقف عليها، فأدير الحكم على دليلها وهو فقد النصاب. وقال ابن الهمام: وعند غير واحد: لا يجوز للكسوب، لما قدمناه من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي)، وقوله للرجلين اللذين سألاه فرآهما جلدين: (أما إنه لا حق لكما فيها، وإن شئتما أعطيتكما) وأجاب بأن الحديث الثاني دلّ على أن المراد حرمة سؤالهما لقوله: ( وإن شئتما أعطيتكما) ولو كان الأخذ محرمًا لم يفعله (انظر: الهداية وفتح القدير: 2/28).
وقد مر بنا هذا الحديث من قبل وفيه: (وإن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) وإنما قال لهما ذلك: لأنه لم يعرف حقيقة حالهما وليس كل جلد قوي يكون مكتسبًا ما يكفيه، فلهذا أعطاهما بعد أو وعظهما وأرشدهما إلى أن الغني والمكتسب لاحق لهما في الزكاة.
وهذا هو اختيار أبي عبيد؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- جعل الغنى والقوة على الاكتساب عدلين، وإن لم يكن القوي ذا مال، فهم الآن سيان؛ إلا أن يكون هذا القوي مجدودًا عند الرزق محارفًا (يطلب الرزق ولا يجده) وهو في ذلك مجتهد في السعي على عياله، حتى يعجزه الطلب، فإذا كانت هذه حاله، فإن له حينئذ حقًا في أموال المسلمين، لقوله الله تبارك وتعالى: (وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم) (الذاريات: 19) روي عن ابن عباس في هذه الآية: المحروم: المحارف (الأموال ص577).
المبحث الثالث
هل تعطى الزكاة لغير المسلم؟
لا يعطى من الزكاة ملحد ولا مرتد ولا محارب للإسلام(2/153)
أجمع المسلمون على أن الكافر المحارب لأهل الإسلام لا يعطى من الزكاة شيئًا (نقل هذا الإجماع في البحر الزخار: 2/185 ) وسند هذا الإجماع قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) (الممتحنة: 9).
ولأنه حرب على الإسلام وأهله، عدو للحق وحزبه، وكل معونة تتحول إلى خنجر يطعن به الدين، أو يقتل به المؤمنين، وليس من الدين ولا من العقل أن يعطى الناس من أموالهم لقتل أنفسهم أو الاعتداء على مقدساتهم.
ومثله الملحد الذي ينكر وجود الله، ويجحد النبوة والآخرة. فهذا بطبيعته حرب على الدين، فلا يعطى من أموال أهل الدين.
وكذلك المرتد المارق من الإسلام بعد ما دخل فيه؛ لأنه في نظر الإسلام لا يستحق الحياة، وقد اقترف جريمة الخيانة العظمى بارتداده عن الدين؛ ومفارقته لجماعة المسلمين. قال -عليه الصلاة والسلام-: (من بدل دينه فاقتلوه) (رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن ابن عباس).
إعطاء أهل الذمة من الصدقات
أما أهل الذمة وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم ممن يعيشون بين ظهراني المسلمين، حيث دخلوا في ذمتهم، وخضعوا لسلطان دولتهم، وقبلوا جريان أحكام الإسلام عليهم، واكتسبوا بذلك التبعية لدار الإسلام، أو ما يشبه "الجنسية" بلغة عصرنا، فهؤلاء في صرف الزكاة والصدقات إليهم، خلاف وتفصيل، نوضحه فيما يلي:
الإعطاء من صدقة التطوع:
لا جناح على المسلم أن يعطي غير المسلم من أهل الذمة مما يتطوع به من الصدقات رعاية للرابطة الإنسانية، ولحرمة العهد الذي بينهم وبين المسلمين. وكفرهم بالإسلام لا يمنع من البر بهم والإحسان إليهم - ما داموا غير محاربين للمسلمين - قال تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذي لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8).(2/154)
وقد نزلت هذه الآية ردًا على تحرج بعض المسلمين من برِّ أقاربهم المشركين.
وقبل هذا ما رواه عن ابن عباس: أنهم كانوا يكرهون الصدقة على أنسابهم وأقربائهم من المشركين، فسألوا فرخِّص لهم، ونزلت هذه الآية (ابن كثير: 4/349 - طبع الحلبي). (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) (البقرة: 272).
ومعنى (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) - كما قال ابن كثير (الجزء الأول ص 224)- أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب: ألبرٍّ أو فاجر؟ أو مستحق أو غيره؟ وهو مثاب على قصده، ومستند هذا تمام الآية: (وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
وقد مدح الله الأبرار من عباده بقوله: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا) (الإنسان: 8).
وقد كان الأسرى حينئذ من أهل الشرك، كما جاء عن الحسن وغيره (مصنف ابن أبي شيبة: 4/39-40).
الإعطاء من صدقة الفطر:
وقريب من صدقة التطوع، صدقة الفطر، والكفارات والنذور؛ فقد أجاز أبو حنيفة ومحمد وبعض الفقهاء صرفها إلى أهل الذمة، لعموم الأدلة مثل قوله تعالى في الصدقات: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم) (البقرة: 271). من غير فصل بين فقير وفقير.
ومثل قوله -تعالى- في الكفارات: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم) (المائدة: 89). (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا) (المجادلة: 4). من غير فصل بين مسكين ومسكين.
ولأن هذا من باب إيصال البر إليهم وما نهينا عنه.
ومع ذلك قالوا: إن صرف هذه الأشياء إلى فقراء المسلمين أفضل بلا ريب، لما فيه من إعانة المسلم على طاعة الله.(2/155)
واشترط أبو حنيفة ألا يكون غير المسلم عدوًا محاربًا للمسلمين؛ لأن الصرف إليه حينئذ يقع إعانة له على قتال أهل الإسلام، وهذا لا يجوز (انظر: بدائع الصناع: 2/49).
ونقل أبو عبيد وابن أبي شيبة عن بعض التابعين: أنهم كانوا يعطون الرهبان من صدقة الفطر (الأموال ص 613، 614 والمصنف: 4/39).
الإعطاء من زكاة الأموال لا يجوز عند الجمهور:
أما زكاة الأموال من العشر ونصف العشر وربع العشر، فالجمهور الأعظم من العلماء على أنه لا يجوز دفع شيء منها لغير مسلم، حتى قال ابن المنذر: أجمعت الأمة: أنه لا يجزئ دفع زكاة المال إلى الذمي، واختلفوا في زكاة الفطر (انظر: المجموع للنووي: 6/228، والإجماع المذكور في غير المؤلفة قلوبهم).
وأقوى ما استدل به الجمهور لمذهبهم: حديث معاذ: (إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم)، فقد أمر برد الزكاة في فقراء من تؤخذ من أغنيائهم، وهم المسلمون، فلا يجوز وضعها في غيرهم.
مناقشة دعوى الإجماع على ذلك
ولكن دعوى الإجماع الذي نقله ابن المنذر غير مسلَّمة هنا، فقد نقل غيره عن ابن سيرين والزهري. أنهما جوَّزا صرف الزكاة إلى الكفار (المجموع للنووي: 6/228).
وذكر السرخسي في المبسوط: أن زفر صاحب أبي حنيفة يجيز إعطاء الزكاة للذمي، قال السرخسي: وهو القياس؛ لأن المقصود إغناء الفقير المحتاج عن طريق التقرب، وقد حصل، ولكنه رد على قول زفر بحديث معاذ (انظر: المبسوط: 2/202).
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن زيد أنه سئل عن الصدقة: فيمن توضع؟ فقال: في أهل مِلَّتكم من المسلمين وأهل ذمتهم، وقال: (وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم في أهل الذمة من الصدقة والخُمس) (مصنف ابن أبي شيبة: 4/40).(2/156)
والظاهر من السؤال أنه عن الصدقة الواجبة وهي الزكاة، أو يحتملها مع التطوع، مع أن الصدقات التي كانت تجمع عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقسم منها على أهلها، إنما هي الزكوات في الغالب. ولكن الخبر مرسل.
وروى ابن أبي شيبة أيضًا بسنده عن عمر في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء ...) (التوبة: 60). قال: هم زمني أهل الكتاب (مصنف ابن أبي شيبة: 4/40).
ومن الوقائع المشهورة : ما رواه أبو يوسف عنه أنه فرض للشيخ اليهودي من بيت مال المسلمين ما يصلحه، مستدلاً بآية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين). قال: "وهذا من مساكين أهل الكتاب" (انظر ص 126 من الخراج - طبع السلفية (الثانية)، ومثل هذا ما رواه البلاذري في تاريخه، ص 177: أن عمر بن الخطاب مر - عن مقدمة الجابية من أرض دمشق - بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا الصدقات وأن يجري عليهم القوت. فالظاهر من الصدقات هنا: أنها الزكاة المفروضة. وهي التي تكون تحت يد الولاة، حتى يجزوا منها القوت).
قال صاحب "الروض النضير" (الجزء الثاني ص 426 ) بعد ذكر ما رواه ابن أبي شيبة عن عمر: ففيه دلالة أن مذهب عمر جواز صرفها في أهل الكتاب، وقد نقل صاحب المنار من الزيدية نحوه، وحكاه في "البحر" (البحر الزخار: 2/185) عن الزهري وابن سيرين، قال: وحجتهم عموم لفظ "الفقراء" في الآية.
وروى الطبري (تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر:14/308 )عن عكرمة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين). قال: "لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، إنما المساكين مساكين أهل الكتاب" (علق الأساتذة أبو زهرة وعبد الرحمن حسن وخلاف على هذا التفسير - الذي يقول بأن المساكين هم مساكين أهل الكتاب - أنه يفيد فائدتين:
إحداهما: أن الفقير والمسكين صنفان متغايران، لا يغني ذكر أحدهما عن ذكر الآخر في الآية.(2/157)
وثانيهما: أنه يجوز إعطاء الزكاة إلى المساكين من أهل الذمة، بشرط أن يكونوا عاجزين عجزًا مطلقًا؛ لأن القادرين كانت تؤخذ منهم الجزية، وليس من المعقول أن تؤخذ منهم الجزية، ويعطوا من الزكاة (انظر: حلقة الدراسات الاجتماعية ص 252).
وقَيَّد بعضهم جواز إعطاء الزكاة للذمي بما إذا لم يجد المزكي مسلمًا يستحقها كما حكي ذلك الجصاص عن عبيد الله بن الحسن (أحكام القرآن: 3/315 - طبع الآستانة). وهو قول بعض الإباضية (شرح النيل: 2/123).
موازنة وترجيح
قلنا: إن أقوى ما استدل به الجمهور لمذهبهم حديث معاذ، والحديث متفق على صحته، ولكن دلالته على ما قالوا غير قاطعة، فالحديث يحتمل أن الزكاة تؤخذ من أغنياء كل إقليم وتُرَد على فقرائه، وهم باعتبار الإقليمية والمواطنة والجوار يُعَدون من الفقراء المنسوبين إلى أولئك الأغنياء، ومن هنا استدلوا بهذا الحديث على نقل الزكاة من بلد إلى بلد لا يجوز.
وعموم الأدلة التي ذكرها الحنفية في جواز صرف صدقة الفطر وما معها، من الآيات التي لم تفصل بين فقير وفقير، ولا بين مسكين ومسكين - يشهد لما روي عن عمر والزهري وابن سيرين وعكرمة وجابر بن زيد وزفر. وكذلك آية الممتحنة التي تقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم) (الممتحنة: 8). وقد قالوا: إن ظاهر هذا النصر يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم؛ لأن أداء الزكاة بِرُّ بهم، لولا ما دلّ عليه حديث معاذ (انظر البدائع: 2/49).
وقد تبين لنا: أن دلالة حديث معاذ لا تقاوم عموم النصوص الأخرى، وما فهم عمر -رضي الله عنه- في آية: (إنما الصدقات) من شمولها للمسلمين وغير المسلمين.(2/158)
فالذي أراه بعد موازنة الأدلة: أن الأصل في الزكاة أن تعطى لفقراء المسلمين أولاً؛ لأنها ضريبة مفروضة على أغنيائهم خاصة، ولكن لا مانع من إعطاء الذمي الفقير من الزكاة إذا كان في أموالها سعة، ولم يكن في إعطائه إضرار بفقراء المسلمين. وحسبنا في هذا عموم الآية، وفعل عمر، وأقوال من ذكرنا من الفقهاء، وهذه قمة من التسامح لم يرتفع إليهما دين من قبل.
وهذا إذا كان يعطى باسم الفقر والحاجة، أما إذا أعطي تأليفًا لقلبه، وتحبيبًا للإسلام إليه، أو ترغيبًا له في نصرته والولاء لأمته ولدولته، فقد رجحنا الأدلة الناصعة من كتاب الله وسنة رسوله جواز ذلك، وبقاء هذا السهم إلى ما شاء الله، وإن كنا اخترنا أن التأليف وإعطاء المؤلفة قلوبهم، إنما هو من شأن الحكومة الإسلامية لا من شأن الأفراد، ويمكن أن تقوم الجمعيات الإسلامية في ذلك مقام الحكومات.
ولا بد أن أنبه هنا على أن رأي من قالوا بعدم إعطاء الذمي من الزكاة ليس معناه تركه للجوع والعري، كلا، بل يُعان من موارد بيت المال الأخرى كالفيء وخُمس الغنائم والمعادن والخراج وغيرها. وقد ذكر أبو عبيد في "الأموال" كتاب عمر بن عبد العزيز لعامله على البصرة وفيه: "وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب. فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه .." (الأموال ص 46). ومعنى "أجر عليه": اجعل له شيئًا جاريًا، وراتبًا دوريًا. والجميل حقًا أنه لم يدع أهل الذمة حتى يطلبوا هم المعونة، بل طلب الخليفة من الوالي أن يبادر هو فينظر في حالاتهم ومطالبهم، فيسدها من بيت المال. وهذا هو عدل الإسلام.
هل يعطى الفاسق من الزكاة؟(2/159)
أما الفاسق فأجازوا إعطاءه من الزكاة ما دام باقيًا على أصل الإسلام، استصلاحًا لحاله، واحترامًا لآدميته، ولأنها تؤخذ منه فيجوز أن ترد عليه، فيدخل في عموم الحديث: (تؤخذ من أغنيائهم فتُرَد على فقرائهم) (انظر البحر الزخار: 2/186) وهذا ما لم يأخذ هذه الزكاة للاستعانة بها على فسقه ومعصيته. كأن يشتري بها خمرًا، أو يقضي بها وطرًا محرمًا؛ لأنه لا يُعان بمال الله على معصية الله. ويكفي في ذلك غلبة الظن. ولهذا قال بعض المالكية: لا يجزئ دفع الزكاة لأهل المعاصي إن ظن أنهم يصرفونها فيها ولا جاز الإعطاء لهم (انظر: الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 1/492 وهو موافق لمذهب الجعفرية كما في فقه الإمام جعفر: 2/93. والإباضية كما في النيل وشرحه: 2/131 - 1).
وعند الزيدية: الفاسق - كالغني - لا تحل له الزكاة، ولا يجزئ صرفها إليه، إلا إذا كان من العاملين عليها أو المؤلفة قلوبهم (شرح الأزهار: 1/520 - 521).
والراجح عندي أن الفاسق الذي لا يؤذي المسلمين بفسقه، ولا يتحداهم بفجوره ومعاصيه، لا بأس بإعطائه من الزكاة، وإن كان الصالحون والمستقيمون أولى بالإجماع. وأما الفاجر المستهتر، المتبجح بإباحيته، المجاهر بفسقه، فلا ينبغي أن يعطى من مال الزكاة حتى يقلع عن غيه، ويعلن توبته. فإن أوثق عرا الإيمان: الحب في الله والبغض في الله (معنى حديث رواه أحمد وابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان ورمز له السيوطي بالحسن في الجامع الصغير)، (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة: 71).
ومن مقتضى ذلك ألا يمد المجتمع المسلم يد المعونة إليه وهو ينخر عظامه بمعاصيه. ويعالنه بمآثمه، ويتحدى شعوره العام. ولا يقال: إن في هذا قسوة على أهل الفسق والمعصية، وتعريضهم لأن يهلكوا جوعًا في مجتمع مسلم، وقد جاء الإسلام بالسماحة والرحمة والعفو والصفح.(2/160)
فإن الصفح والعفو إنما يجوز في الإساءة الشخصية. أما من أساء إلى المجتمع كله، وإلى الدين وأهله، فلا ينبغي أن يعفى عنه، ولا يملك أحد العفو عنه. وإنما يستحق الرحمة من رحم نفسه. وهو يملك ذلك بالتوبة، فأما إذا استمرأ المعصية، وأصر على طاعة الشيطان، وركوب الضلال، والاستخفاف بالمجتمع وقيمه ومُثُله، فليمت جوعًا ولا كرامة. ومن أهان نفسه لا يُكرم. ومن لا يرحمها لا يرحم.
وكيف يستحق الرحمة والمعونة إنسان يؤثر أن يهلك جوعًا وعريًا. على أن يصلي، أو يصوم، أو يدع الخمر والقمار؟ أو على الأقل بعد ذلك، ويعزم عليه.
ولكن إذا كان لهذا الفاسق المجاهر أسرة يعولها، فيجب أن تُعطى من الزكاة، ولا تؤخذ بذنبه. كما قال تعالى: (ولا تكسب كل نفسه إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الأنعام: 164).
وسئل ابن تيمية عن إعطاء الزكاة لأهل البدع أو لمن لا يصلي، فقال:
"ينبغي للإنسان أن يتحرى بها المستحقين من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم. من أهل الدين، المتبعين للشريعة، فمن أظهر بدعة أو فجورًا، فإنه يستحق العقوبة بالهجر وغيره، والاستتابة، فكيف يُعان على ذلك" ؟ (مجموع فتاوى ابن تيمية: 25/87).
وفي تاركي الصلاة قال: "ومن لم يكن مصليًا أمر بالصلاة، فإن قال: أنا أصلي، أعطي، وإلا لم يُعط" (المرجع السابق ص 89).
يعني أنه إذا أظهر توبة، ووعد بأن يصلي، صُدِّق في ذلك وأعطي.
وفي "الاختيارات" قال شيخ الإسلام: "لا ينبغي أن تُعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله؛ فإن الله تعالى فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين أو لمن يعاون المؤمنين (كالعاملين عليها والمجاهدين في سبيل الله) فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطى شيئًا حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة" (الاختيارات ص 61).
كلمة للسيد رشيد رضا(2/161)
ونختم هذه المسألة بكلمة نيِّرة للمصلح الإسلامي رشيد رضا في هذا الموضوع. قال في التفسير (الجزء العاشر ص 596 - 597):
"من المعلوم بالاختبار أنه قد كثر الإلحاد والزندقة في الأمصار التي أفسد التفرنج تربيتها الإسلامية وتعليم مدارسها. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن المرتد عن الإسلام شر من الكافر الأصلي، فلا يجوز أن يعطى شيئًا من الزكاة، ولا من صدقة التطوع. وأما الكافر الأصلي غير الحربي فيجوز أن يعطى من صدقة التطوع دون الزكاة المفروضة (أي على رأي الجمهور).
"والملاحدة في أمثال هذه الأمصار أصناف: منهم من يجاهر بالكفر بالله إما بالتعطيل وإنكار وجود الخالق، وإما بالشرك بعبادته. ومنهم من يجاهر بإنكار الوحي وبعثة الرسل أو بالطعن في النبي -صلى الله عليه وسلم- أو في القرآن أو في البعث والجزاء. ومنهم من يدعي الإسلام بمعنى الجنسية السياسية ولكنه يستحل شرب الخمر والزنا وترك الصلاة وغيره من أركان الإسلام، فلا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج البيت الحرام مع الاستطاعة، وهؤلاء لا اعتداد بإسلامهم الجغرافي، فلا يجوز إعطاء الزكاة لأحد ممن ذكر، بل يجب على المزكي أن يتحرى بزكاته من يثق بصحة عقيدتهم الإسلامية، وإذعانهم للأمر والنهي القطعيين في الدين، ولا يشترط في هؤلاء عدم اقتراف شيء من الذنوب فإن المسلم قد يذنب ولكنه يتوب. ومن أصول أهل السنة أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب ولا ببدعة عملية أو إعتقادية هو فيها متأوَّل لا جاحد للنص.
وإن الفرق عظيم بين المسلم المذعن لأمر الله ونهيه إذا أذنب والمستحل لترك الفرائض واقتراف الفواحش، فهو يصر عليها بدون شعور ما بأنه مكلف من الله بشيء، ولا بأنه قد عصاه، وأنه يجب عليه أن يتوب إليه ويستغفره.(2/162)
"ولا ينبغي إعطاء الزكاة لمن يشك المسلم في إسلامه. وما أدري ما يقول فيمن يراهم بعينه في المقاهي والحانات والملاهي يدخنون أو يسكرون في نهار رمضان حتى في وقت صلاة الجمعة، وربما كان الملهى تجاه مسجد من مساجد الجمعة؟ هل يُعَد هؤلاء من المسلمين المذنبين؟ أم من الملاحدة الإباحيين؟ مهما يكن ظنه فيهم فلا يعطهم من زكاة ماله شيئًا بل يتحرى بها من يثق بدينه وصلاحه إلا إذا علم أن في إعطاء الفاسق استصلاحًا له فيكون من المؤلفة قلوبهم".
إعطاء الفرق المخالفة من أهل الإسلام؟
يطلق أهل السنة على الفرق المخالفة لهم، المنفصلة عنهم اسم "أهل البدع" أو "أهل الأهواء".
والبدع نوعان: بدعة مكفِّرة، وهي التي تخرج بصاحبها من الإيمان إلى الكفر. والطوائف تختلف في ذلك بين متطرف ومعتدل، وبدعة مفسِّقة، وهي التي يفسق بها صاحبها ولا يكفر، وهو فسق فكر واعتقاد (ويسمى فسق تأويل أيضًا) لا فسق عمل ولا سلوك.
فما حكم إعطاء الفقراء والمستحقين من أهل الفرق المخالفة؟
الحق أن أهل السنة هم أعظم فرق الأمة تسامحًا في ذلك. فهم - فيما عدا البدع التي يرونها مكفرة ومخرجة من الإسلام (انظر على سبيل المثال: حاشية ابن عابدين: 2/75 )- يجيزون دفع الزكاة لكل مسلم من أهل القبلة، إذا كان من أهل الصلاح والاستقامة. ولا شك أن أهل السنة يفضلون إعطاء الزكاة لمن كان متبعًا لسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بعيدًا عن البدع، ولو كان من المنتسبين إليهم، فكيف من غيرهم؟. وإنما الكلام هنا في الجواز والإجزاء وعدمه.
فعند الشيعة الإمامية الجعفرية: يشترط أن يكون المعطى من الشيعة الاثني عشرية، لقول الإمام: "لا تعطى الصدقة والزكاة إلا لأصحابك".
ولا يستثنى من هذا الشرط إلا المؤلفة قلوبهم؛ لأن المفروض فيهم الكفر أو النفاق، كما يستثنى من تعطي له الزكاة بدافع المصلحة العامة لا لسد خلته ودفع حاجته الخاصة.(2/163)
كما أشار الشيخ مغنْيّة في "فقه الإمام جعفر" إلى أن هذا الشرط خاص بالزكاة فقط، أما الصدقات المستحبة فيجوز إعطاؤها لكل محتاج (فقه الإمام جعفر الصادق: 2/93).
هذا مع أن النص الذي اعتمد عليه الشيخ هنا عن إمام المذهب -رضي الله عنه- منع إعطاء الصدقة والزكاة جميعًا، ولا يحسن تفسير الصدقة بالمفروضة وإلا لم يكن لعطف الزكاة عليها معنى.
على أن الصحبة الواردة في النص - إن صحّت الرواية - يمكن تفسيرها بالمعنى الأعم الذي يشمل كل مسلم.
وقد جاء عن بعض آل البيت ما يؤيد هذا العموم.
ذكر البحراني في "الحدائق" عن أبي جعفر الباقر -رضي الله عنه-: أن رجلاً جاء إليه وقال له: رحمك الله، اقبض مني هذه الخمسمائة درهم، فضعها في مواضعها فإنها زكاة مالي. قال الإمام: بل خذها أنت، وضعها في جيرانك الأيتام والمساكين، وفي إخوتك من المسلمين (المرجع السابق: 2/97).
فهذا نص عن أبي الإمام الصادق لم يقيد السائل بشيء إلا أن يبحث عن أمرين: الحاجة، والإسلام. فأخوة الإسلام فوق كل اعتبار. والمؤمنون كلهم إخوة بعضهم لبعض.
وعند الإباضية خلاف في جواز إعطائها للمسلم غير المتولي (الملتزم بالمذهب).
قال بعضهم: إذا علم أنه فقير ولم يعلم أنه مخالف ولا موافق أعطاه، وأجازها بعض للمخالف، وقيل: إن كان بين أظهرنا جاز، وقيل: يعطيه منها إن كان قريبًا للمعطي. قال في شرح النيل: والصحيح أنها لا تعطى إلا لمتولي، وإن لم يوجد فموقوف فيه، وإلا فلمتبرأ منه، وإلا فلمخالف ورع في مذهبه، ويُقدَّم من لا يطعن فينا وبعده من قل طعنه، وبعده الطاعن كثيرًا، وإلا فلنصراني، وإلا فلصابوني (لعله لصابئ) وإلا فليهودي، وإلا فلمجوسي، وإلا فلصنمي، وذلك كله مع عدم الإمكان، وخوف فجأة الموت، وعدم وجود سبيل بنحو إرسال (شرح النيل: 2/123).
ويلاحظ أن هذه القيود الأخيرة جعلت من الصعب خروجها عن أهل المذهب.
وأما الزيدية ففي مجموع الفقه الكبير:
قال زيد بن علي (عليه السلام):(2/164)
لا تعط من زكاة مالك القدرية (القدرية: تطلق قديمًا على الذين قالوا: إن الأمر أنف، أي لم يسبق به علم الله تعالى، ولا يعلم الحوادث إلا بعد وقوعها، لا قبل ذلك، وأول من قال به معبد الجهني كما في صحيح مسلم، كما تطلق على المعتزلة، وإطلاق الأول هو المراد هنا، والإمام زيد من التابعين، فالمظنون أنه أدركهم). ولا المرجئة (يطلق المرجئ على من ترك القطع بوعيد الفساق، وعلى هذا جماعة من السلف، كان يطلق على الذي يقول بالإيمان بلا عمل يعمله. وأنه لا تضر مع الإيمان معصية. كما لا تنفع مع الكفر طاعة، والإرجاء في اللغة التأخير، والقائل بذلك قد أخر الإيمان عن العمل، والإطلاق الأخير أنسب بمراد الإمام زيد). ولا الحرورية (نسبة إلى حروراء: موضع بظاهر الكوفة اجتمع فيه أوائل الخوارج ثم شاع استعماله في كل خارجي، ويسمون: المحكمة والشراة، ويجمعهم إكفار علي وعثمان)، ولا من نصب حربًا لآل محمد (من نصب لهم القتال بالسيف بغياً وعدوانًا واستحلالاً، وهذا يعمهم وغيرهم ولكنه في حقهم أشد، وأما المخالفة في المسائل الاجتهادية التي لم يقع فيها ثبوت إجماعهم، وبعض مسائل أصول الدين مما كانت الشبهة فيها قوية من الجانبين، فلا يكون فادحًا. (النظر الروض النضير: 2/89 - 90) -صلى الله عليه وسلم-.
قال في الروض النضير : فيه أن مذهب الإمام (عليه السلام) عدم جواز صرف الزكاة إلى فاسق التأويل، وهو قول الهادي، والقاسم، والناصر.
وحجتهم: أن الخطاب في "أغنيائكم" متوجه إلى المؤمنين. لئلا يعان على ما فيه معصية.
قال: وذهب جماعة من السلف إلى جواز ذلك.
ففي مصنف ابن أبي شيبة بإسناده إلى فضيل قال: سألت إبراهيم (النخعي) عن أصحاب الأهواء، فقال: ما كانوا يسألون إلا عن الحاجة.
وقال به أيضًا المؤيد بالله، والإمام يحيى، والحنفية، الشافعية، لعموم لفظ "الفقراء"، ولأنها تؤخذ منه، فترد في فقرائه، للخبر.(2/165)
قال الإمام يحيى وأحد قولي الشافعي: إلا من كان فسقه بما يضر المسلمين، كالباغي والمحارب ونحوهما. فلا يجوز الصرف إليهم؛ إذ في ذلك إعانة على تخذيل أمر الإمام. والحيلولة بينه وبين القيام بأمر المسلمين. (الروض النضير: 2/423).
المبحث الرابع
هل تُدفع الزكاة إلى الزوج والوالدين والأقارب؟
الحكم في هذه المسألة
إذا كان القريب بعيد القرابة ممن لا تلزم صاحب الزكاة نفقته، فلا حرج في إعطائه من زكاة قريبه سواء إعطاء القريب نفسه، أم غيره من المزكين، أو الإمام أو نائبه، أعني إدارة توزيع الزكاة، وسواء أعطي من سهم الفقراء أو المساكين أم من غيرهما.
أما القريب الوثيق القرابة - كالوالدين والأولاد والإخوة والأخوات والأعمام والعمات ... إلخ ففي جواز إعطائهم من الزكاة تفصيل:
فإذا كان القريب يستحق الزكاة لأنه من العاملين عليها أو في الرقاب أو الغارمين أو في سبيل الله، فلقريبه أن يعطيه من زكاته ولا حرج؛ لأنه يستحق الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه، ولا يجب على القريب - باسم القرابة - أن يؤدي عنه غُرمه، أو يتحمل عنه نفقة غزوه في سبيل الله، وما شابه ذلك.
وكذلك إذا كان ابن سبيل يجوز أن يعطيه مئونة السفر.
أما المؤلفة قلوبهم فليس إعطاؤهم من شأن الأفراد، بل من شأن أولي الأمر، كما بينَّا ذلك من قبل.
أم إذا كان القريب الوثيق القرابة فقيرًا أو مسكينًا فهل يعطي من سهم الفقراء والمساكين في الزكاة؟ وللإجابة على ذلك يجب أن نعرف من المعطي؟(2/166)
فإذا كان الذي يوزع الزكاة ويعطيها هو الإمام أو نائبه، أو بتعبير عصرنا: إذا كانت الحكومة هي التي تتولى جباية الزكاة وصرفها، فلها أن تعطي ما تراه من أهل الحاجة والاستحقاق، ولو كان من تعطيه هو ولد المزكِّي، أو والده أو زوجه (انظر أحكام القرآن لابن العربي ص 965)؛ لأن صاحب الزكاة يدفعها إلى ولي الأمر المسلم، قد أبلغها محلها وبرئت ذمته منها، وأصبح أمر توزيعها منوطًا بالحكومة؛ إذا لم يعد لمال الزكاة بعد جبايته صلة ولا نسب بمالكه من قبل، إنما هو الآن مال الله أو مال المسلمين.
وإذا كان القريب فقيرًا أو مسكينًا وكان من يعطيه هو القريب نفسه، فلابد أن ننظر في درجة قرابته، ومن يكون هو لهذا القريب؟ فإن كان هذا الفقير أبًا للمزكي أو أمًا، أو ابنًا، أو بنتًا - وكان من يجبر على النفقة عليهم - بأن كان موسرًا - فلا يجوز الصرف إلى أحد منهم من زكاته.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يُجبر فيها الدافع إليهم على النفقة عليهم ولأن دفع زكاته إليهم يغنيهم عن نفقته، ويسقطها عنه، ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه، فلم تجز، كما لو قضى بها دينه (انظر: المغني لابن قدامة: 2/647).(2/167)
ولأن مال الولد مال لوالديه. ولهذا جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أنت ومالك لأبيك) (تفسير ابن كثير: 3/305، والحديث رواه أحمد في المسند من ثلاثة طرق - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - وصححها الشيخ شاكر. انظر الأحاديث (6678) و (6902) و(7001) الجزء 11، 12). كما رواه ابن ماجه عن جابر، ورجاله ثقات، والطبراني عن سمرة وابن مسعود بإسناد ضعيف، كما في التيسير للمناوي: 1/378. كما اعتبر القرآن بيوت الأبناء بيوتًا للآباء؛ إذ قال تعالى (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) (النور: 61 ).أي بيوت أبنائكم (تفسري القرطبي: 12/ 314)لأنه لم ينص عليهم في الآية كبقية الأقارب، ولأن أكل الإنسان من بيته ليس في حاجة إلى نص في رفع الحرج عنه.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه) (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة بإسناد حسنة الترمذي، وصححه أو حاتم، كما في التيسير: 1/311، ورواه أحمد أيضًا بنحوه بسند صحيح، وهو جزء من حديث رقم (6678) و(7001).
ومن هنا قال علماء الحنفية: إن منافع الأملاك متصلة بين الوالدين والأولاد، فلا يقع الأداء تمليكًا للفقير من كل وجه، بل يكون صرفًا إلى نفسه من وجه، ولقوة الصلة بينهم لم تجز شهادة بعضهم لبعض (انظر: بدائع الصنائع:2/49).
وكذلك لا يجوز دفع الزكاة إلى الأولاد؛ لأنهم جزء منه، والدفع إليهم كأنه دفع إلى نفسه. ولا يعكر على ذلك الحديث الذي رواه البخاري وأحمد عن معن بن يزيد قال: أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند المسجد، فجئت فأخذتها، فقال: والله ما إياك أردت، فجئت فخاصمته إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن) إذ الظاهر من هذه الصدقة أنها صدقة تطوع - كما قال الشوكاني - وليست الزكاة المفروضة (انظر: نيل الأوطار:4/189).(2/168)
ولم يخالف في ذلك إلا ما نقل عن محمد بن الحسن ورواية عن أبي العباس من الشيعة: أنها تجزئ في الآباء والأمهات، وأيد ذلك جماعة من متأخري الزيدية، فجوزوا صرفها في جميع القرابة من الأصول والفصول وسائر ذوي الرحم. واحتجوا بأن الأصل شمول العمومات لهم، ولا مخصص صحيح يخرجهم عنها (الروض النضير: 2/421). كما روي عن مالك: أنه يجوز الصرف في بني البنين وفيما فوق الجد والجدة (نيل الأوطار: 4/189). وكأن ابن المنذر وصاحب البحر -رحمهما الله- لم تصح عندهما هذه الروايات، إذا حكيا الإجماع على أنه لا يجوز صرف الزكاة في الأصول - من الآباء والأمهات والأجداد والجدات - والفصول - من الأولاد وأولاد الأولاد (انظر البحر الزخار: 2/186).
والحجة التي ذكرها ابن المنذر وغيره هي سند هذا الإجماع، وذلك "أن دفع زكاته إليهم يغنيهم عن نفقته ويسقطها عنه، ويعود نفعها إليه فكأنه دفعها إلى نفسه".
وقد قيد ابن المنذر نقل الإجماع على عدم جواز الدفع إلى الوالدين بالحال التي يجبر فيها الدافع إليهم على النفقة عليهم. فإذا لم تتحقق هذه الحال - بأن كان الولد معسرًا - وملك نصابًا وجبت فيه الزكاة - فقد قال النووي: إذا كان الولد أو الوالد فقيرًا أو مسكينًا وقلنا في بعض الأحوال: " لا تجب نفقته"، فيجوز لوالده وولده دفع الزكاة إليه من سهم الفقراء والمساكين، لأنه حينئذ كالأجنبي (المجموع: 6/229).
وقال ابن تيمية: يجوز صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا، وإلى الوالد وإن سفل، إذا كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم. أيد ذلك بوجود المقتضى للصرف (وهو الفقر والحاجة) السالم عن المعارض (أي لم يوجد مانع شرعي يعارض هذا المقتضى) قال ابن تيمية: وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وإذا كانت أم فقيرة، ولها أولاد صغار لهم مال، ونفقتها تضر بهم. أعطيت من زكاتهم (اختيارات ابن تيمية ص 61 - 62).
الصرف إلى الزوجة لا يجوز(2/169)
وما قيل في الوالدين والأولاد يقال في الزوجة أيضًا. ولهذا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الرجل لا يعطي زوجته من الزكاة، وذلك لأن نفقتها واجبة عليه، فتستغني بها عن أخذ الزكاة، فلم يجز دفعها إليها، كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها (انظر المغني: 2/649، ونيل الأوطار: 4/188).
ثم إن الزوجة من زوجها كأنه نفسه أو بعضه، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا) (الروم: 21). وبيت زوجها هو بيتها كما قال الله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن) (الطلاق: 1 .. وهي بيوت الزوجية، التي هي ملك الأزواج عادة).
وما قاله بعضهم (انظر: المجموع: 6/229 - 230، ونيل الأوطار: 4/188، والروض النضير: 2/420). من جواز صرف الزوج من زكاته إلى زوجته فلا يعتد به؛ لأنه في الحقيقة إنما يعطي باليمين ليأخذ بالشمال.
هل تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها الفقير؟
أما دفع الزوجة من زكاتها إلى زوجها الفقير أو المسكين فقد ذهب أبو حنيفة وبعض الفقهاء إلى أنه لا يجوز؛ لأن الرجل من امرأته، كالمرأة من زوجها، وقد منعنا إعطاء الرجل للزوجة كذلك إعطاء المرأة زوجها.
ولكن قياس إعطاء الزوج على إعطاء الزوجة قياس غير صحيح ويرده العقل والنظر، كما يرده النقل والأثر.
أما العقل والنظر فما قال أبو عبيد : أن الرجل يجبر على نفقة امرأته وإن كانت موسرة، وليست تُجبر على نفقته وإن كان معسرًا، فأي اختلاف أشد تفاوتًا من هذين؟ (الأموال ص 588).
وقال ابن قدامة في بيان وجه الجواز: ولأنه - أي الزوج - لا تجب نفقته عليها، فلا يمنع دفع الزكاة إليه كالأجنبي، ويفارق الزوجة؛ فإن نفقتها واجبة عليه، ولأن الأصل جواز الدفع، ولا إجماع، وقياسه على من ثبت المنع في حقه غير صحيح لوضوح الفرق بينهما، فيبقى جواز الدفع ثابتًا (المغني: 2/650).(2/170)
وأما النقل والأثر فما رواه أحمد والشيخان عن زينب امرأة عبد الله ابن مسعود قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تصدقن يا معشر النساء، ولو من حليكن)، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد (كناية عن الفقر) وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالصدقة فائته فاسأله، فإن كان كذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال عبد الله: ائته أنت. قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاجتي حاجتها، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ألقيت عليه المهابة ... فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام حجورهما؟ ولا تخبر من نحن ... فدخل بلال فسأله. فقال: (من هما) ؟ فقال: امرأة من الأنصار، وزينب، فقال: (أي الزيانب) ؟ فقال: امرأة عبد الله. فقال: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة)، رواه أحمد والشيخان. ولفظ البخاري: (أيجزئ عني أن أنفق على زوجي، وعلى أيتام في حجري)؟ (انظر: نيل الأوطار: 4/187 - 188).
قال الشوكاني: استدل بهذا الحديث على أنه يجوز للمرأة أن تدفع زكاتها إلى زوجها، وبه قال الثوري والشافعي وصاحبا أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك وعن أحمد، وإليه ذهب الهادي والناصر والمؤيد بالله - وهذا إنما يتم دليلاً بعد تسليم أن هذه الصدقة صدقة واجبة، وبه جزم المازري، ويؤيد ذلك قولها: (أيجزئ عني)؟، وفهم آخرون من الحديث أنه في صدقة التطوع بدليل قوله: (ولو من حليكن) وتأولوا معنى: (أيجزئ عني) أي في الوقاية من النار. كأنها خافت أن صدقتها على زوجها لا تحصل لها المقصود من تحصيل الثواب، ودرء العقاب.
قال الشوكاني في ذلك: والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها. أما أولاً: فلعدم المانع من ذلك، ومن قال: إنه لا يجوز فعليه الدليل.(2/171)
وأما ثانيًا : فلأن ترك استفصاله -صلى الله عليه وسلم- لها ينزل منزل العموم - فلما لم يستفصلها عن الصدقة: هل هي تطوع أو واجب ؟ فكأنه قال: يجزئ عنك فرضًا أو تطوعًا (نيل الأوطار: 4/188).
دفع الزكاة إلى باقي الأقارب بين المانعين والمجوِّزين
أما سائر الأقارب من أخ وأخت وعم وعمة وخال وخالة ..إلخ، فقد اختلف الفقهاء في دفع الزكاة إليهم بين الجواز والمنع اختلافًا كثيرًا. فمن مجوِز للدفع إلى الجميع، ومن مانع للجميع أو للبعض دون البعض.
والذين منعوا اختلفوا أيضًا في الأساس الذي يبنون عليه حكم المنع.
فمنهم من نظر إلى الضم العملي للقريب إلى الأسرة، فما دام قد ضم إلى عياله أصبح حكمه حكم زوجته وولده، فلم يجز دفع الزكاة إليه.
ومنهم من نظر إلى إجبار الحاكم على النفقة، فما لم يصدر حكم قضائي يلزمه ينفقه قريبه، فله أن يعطيه من زكاته.
ومنهم من نظر إلى لزوم النفقة شرعاً؛ فمن كانت تلزم المزكي نفقته شرعًا لا يجوز له دفع الزكاة إليه، ومن لا تلزم نفقته يجوز. والقائلون بهذا أيضًا اختلفوا فيمن هو القريب الذي تلزم نفقته فلا يجوز دفع الزكاة إليه؟
روى أبو عبيد بسنده عن إبراهيم بن أبي حفصة قال: سألت سعيد بن جبير قلت: أعطي خالتي من الزكاة؟ قال نعم ما لم تُغْلِق عليها بابًا (انظر: الأموال ص 582 -583: يعني ما يضمها إلى أسرته وعياله): يعنى ما لم يضمها إلى أسرته وعياله .
وروي عن الحسن قال: يضع الرجل زكاته في قرابته ممن ليس في عياله (المرجع السابق).
ولم ير الشافعي وجوب النفقة إلا على الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا.(2/172)
وأضيق منه في إيجاب النفقة مذهب مالك الذي لم يوجب النفقة إلا على الأب لأولاده من صلبه، الذكور حتى يبلغوا (ولهذا سئل الشيخ عليش المالكي عن طالب علم بالغ قادر على الكسب؛ هل يجزئ أباه إعطاؤه زكاة ماله؟ فأجاب بجواز ذلك. لسقوط نفقته عنه ببلوغه قادرًا عليه واستحقاقه أخذها. أي لاشتغاله بالعلم. (فتح العالي المالك: 1/129). والإناث حتى يتزوجن، ويدخل بهن أزواجهن، بخلاف ولد الولد فلا نفقة لهم على جدهم، كما لا تلزمهم النفقة على جدهم. وتلزم الولد النفقة على أبويه الفقيرين كما يلزم الزوج نفقة امرأته ونفقة خادم واحدة لها، ولا تلزم نفقة أخ ولا أخت ولا ذي قرابة ولا ذي رحم محرم منه (انظر المدونة الكبرى: 1/256 - المطبعة الخيرية - الطبعة الأولى سنة 1324هـ). وإذًا فمن عدا الوالدين الأولاد من الأقارب يجوز دفع الزكاة إليهم في مذهب مالك (المرجع السابق).
المجوزون لإعطاء الزكاة للأقارب:
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز دفع الزكاة إلى الأقارب - ما عدا من استثنينا من الوالدين والأولاد - فمنهم من بنى ذلك على أن النفقة لا تجب على القريب لقريبه، إلا من باب البر والصلة لا الإلزام والإجبار. ومنهم من رأى وجوب النفقة، ولم يرها - مع ذلك - مانعة من إعطاء الزكاة. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، والإمام يحيى، وهو الرواية الظاهرة عن أحمد. قال ابن قدامة: رواها عنه الجماعة. قال في رواية إسحاق بن إبراهيم، وإسحاق ابن منصور، وقد سأله: يعطي الأخ والأخت والخالة من الزكاة؟ قال يعطي كل القرابة إلا الأبوين والولد، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال: أبو عبيد: هو القول عندي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) (رواه الخمسة إلا أبا داود)، فلم يشترط نافلة ولا فريضة، ولم يفرِّق بين وارث وغيره. ولأنه ليس من عمودي نسبه، فأشبه الأجنبي (المغني: 2/648).(2/173)
وقد روى ابن أبي شيبة وأبو عبيد هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين: فعن ابن عباس قال: يعطي الرجل قرابته من زكاته إذا كانوا محتاجين.
وعن إبراهيم: أن امرأة ابن مسعود سألته عن زكاة حلى لها (وكان يرى في الحلي الزكاة) فقالت: أعطيه بني أخ لي أيتام ففي حجري؟ قال: نعم.
وقال سعيد بن المسيب: إن أحق من دفعت إليه زكاتي يتيمي وذو قرابتي.
وسئل الحسن: أخي أأعطيه زكاة مالي؟ قال: نعم وحبًا.
وسئل إبراهيم: امرأة لها شيء أتعطي أختها من الزكاة؟ قال: نعم.
وعن الضحاك قال: إذا كان لك أقارب فقراء فهم أحق بزكاتك من غيرهم.
وعن مجاهد قال: لا تُقبل ورحمه محتاجة (انظر هذه الأقوال في مصنف أبي شيبة: 4/47 - 48، الأموال: ص 581 - 582).
موازنة وترجيح
والذي نرجحه بعد ذكر هذه الأقوال والمذاهب هو الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم منذ عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم من جواز دفع الزكاة إلى القريب ما لم يكن ولدًا أو والدًا. وهو الذي رجحه أبو عبيد في الأموال.
وحُجَّتنا في ذلك:
أولاً: عموم النصوص التي جعلت صرف الزكاة للفقراء دون تمييز بين قريب وأجنبي مثل آية: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) .. وحديث: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فإن هذه العموميات تشمل الأقارب، ولم يرد مخصص صحيح يخرجهم عنها، بخلاف الزوجة والوالدين والأولاد فقد خصصوا منها بالإجماع الذي ذكره ابن المنذر وأبو عبيد وصاحب البحر، وبالأدلة التي ذكرناها هناك.(2/174)
وثانيًا: ما ورد في الأقارب خاصة من النصوص المرغبة في الصدقة عليهم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الصدقة على المسكين صدقة، وهى على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة) (رواه أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان والحاكم والدارقطني، وحسنه الترمذي (نيل الأوطار: 4/189)، والصدقة تطلق على الزكاة كما عرفنا، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) (رواه أحمد والطبراني عن أبي أيوب ورويا نحوه عن حكيم بن حزام، ذكره في مجمع الزوائد وقال: إسناده حسن، وكذلك رواه الطبراني في الكبير عن أم كلثوم بنت عقبة ورجاله رجال الصحيح (الروض النضير: 2/422). والكاشح هو المضمر للعداوة. وكذلك ما رواه الطبراني والبزار عن عبد الله بن مسعود (في الحديث الذي ذكرناه من قبل من رواية الشيخين وأحمد) أن امرأته قالت لبلال: اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام من امرأة من المهاجرين ولا تبين له، وقل له: هل لها من أجر في زوجها من المهاجرين ليس له شيء وأيتام في حجرها. وبنو أخيها، أن تجعل صدقتها فيهم؟ فأتى بلال النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (نعم لها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة) (رواه الطبراني في الأوسط، ورواه البزار بنحوه، وفيه حجاج بن نصر وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام، ورجال البزار رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد: 3/116 وهو أيضًا في صحيح ابن حبان. (انظر الروض النضير:2/422). وقد ذكرنا أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل بمنزلة العموم في المقال، كما حقق علماء الأصول.
أما قولهم: إنه بالدفع يجلب إلى نفسه نفعًا، ويسقط عن نفسه فرضًا فهذا حق بالنسبة إلى الزوجة والأولاد والوالدين؛ لأن المنافع بينهم متصلة وهم شركاؤه في ماله، ونفقتهم واجبة عليه وجوبًا بيَّنًا بالكتاب والسنة.(2/175)
أما بقية الأقارب، فالذي أختاره: أن نفقتهم إنما تلزم القريب إذا لم يكن هناك في مال المسلمين ما يغنيهم: من الزكاة والفيء والخُمس وسائر موارد بيت المال الأخرى، فهنا يُلزم القريب الموسر بالنفقة، ولا يدع قريبه يهلك جوعًا وعريًا. وكذلك إذا لم توجد الحكومة التي تجمع الزكاة، وتقوم بكفالة العيش للفقراء، فإن على القريب الغني أن يكفي قريبه الفقير، ولا يتركه فريسة للعوز والحاجة، ولا حرج عليه أن تتحقق هذه الكفاية كلها أو بعضها مما وجب عليه من زكاة.
لأن الواجب هو كفاية القريب، وسد حاجته، وتفريج كربته، صلة لرحمه، ووفاء بحقه، ولم يرد ما يمنع أن تكون الزكاة من موارد هذه الكفاية. كيف ولو كانت الحكومة هي التي تجبيها لتولت هي الإنفاق على هؤلاء الفقراء من مال الزكاة وغيرها؟ فكأن الفرد المسلم في هذه الحالة نائب عن الإمام أو الدولة في الإنفاق على أقاربه وكفايتهم، من الزكاة التي كان الأصل أن تتولى جمعها وتفريقها عليهم.
على أن من العلماء من لم ير تعارضًا بين لزوم نفقة القريب وإعطائه من الزكاة، فقالوا بوجوب النفقة للأقارب بشروط خاصة، ومع هذا أجازوا دفع الزكاة إليهم.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فقد رأوا أن لزوم النفقة لا يمنع إعطاء الزكاة، وإنما المانع هو اتصال منافع الأملاك بين المؤدي والمؤدى إليه، فلا يتحقق التمليك الذي هو عندهم ركن الزكاة، ويكون المزكي كأنما دفع إلى نفسه قالوا: وهذا لا يتحقق إلا بين الإنسان وأولاده، وآبائه وأمهاته، ولهذا لا تجوز شهادة بعضهم لبعض بخلاف بقية الأقارب؛ فالدفع إليهم يتحقق به التمليك؛ لانقطاع منافع الأملاك بينهم، ولهذا تجوز شهادة بعضهم لبعض (انظر: بدائع الصنائع: 2/49 - 50).(2/176)
وقال صاحب "الروض النضير" من متأخري الزيدية: "وما ذكروه من التعليل بأن فيه إسقاط ما يلزمه من النفقة المستقبلة، فمع كونه فاسد الاعتبار (لمصادمته الأحاديث التي رغبت في الصدقة على الأقارب) للمانع أن يقول: "صرفه للواجب في القريب لم يسقط شيئًا قد لزمه؛ لأن نفقة القريب إنما تجب وقتًا فوقتًا" (الروض النضير: 2/423).
وقال الشوكاني: الأصل عدم المانع، فمن زعم أن القرابة أو وجوب النفقة مانعان، فعليه الدليل، ولا دليل (نيل الأوطار: 4/189).
المبحث الخامس
آل محمد -صلى الله عليه وسلم-
الأحاديث المروية في تحريم الصدقة على آل محمد -صلى الله عليه وسلم-
روى أحمد ومسلم عن المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: (أنه والفضل بن العباس انطلقا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله جئناك لتؤمِّرنا على هذه الصدقات، فنصيب منها ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس فقال: (إن الصدقة لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس)، وفي لفظ لهما: (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ذكره في المنتقى (نيل الأوطار: 4/175).
وروى أبو داود والترمذي، وصححه عن أبي رافع قال: ولَّي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال (أي لأبي رافع) اتبعني نصب منها.
فقلت: حتى أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألته فقال لي: (إن مولى القوم من أنفسهم، وإنا أهل البيت لا تحل لنا الصدقة) (انظر: المجموعة: 6/167، 168).
وكان أبو رافع مولى للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وروى البخاري في "باب ما يُذكر في الصدقة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ( من حديث أبي هريرة قال: أخذ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه - وكان طفلاً - فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كخ كخ) ليطرحها. ثم قال: (أما شعرت إنا لا نأكل الصدقة) ورواه مسلم أيضًا.(2/177)
قال الحافظ: في رواية مسلم: (إنا لا تحل لنا الصدقة)، وفي رواية معمر: (إن الصدقة لا تحل لآل محمد)، وكذا عند أحمد والطحاوي من حديث الحسن بن علي نفسه. قال: كنتُ مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فمر على جرين من تمر الصدقة، فأخذت منه تمرة، فألقيتها في فِيِّ، فأخذها بلعابها فقال: (إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة) وإسناده قوي (الفتح: 3/228).
وجملة الأحاديث المذكورة تدل على أن الصدقة لا تحل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا لآله، ولكن من هم آل محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وما نوع الصدقة التي لا تحل لهم؟
في ذلك خلاف كثير نذكره فيما يلي، ثم نعقب عليه بما نرى رجحانه في هذا المقام.
من هم آل محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
ذكر الحافظ في "الفتح" والشوكاني في "النيل" (انظر فتح الباري: 3/227، ونيل الأوطار: 4/182 - 184). اختلاف الفقهاء في المراد بالآل هنا:
فقال الشافعي وجماعة من العلماء: إنهم بنو هاشم وبنو المطلب، واستدل الشافعي على ذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشرك بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى، ولم يعط أحدًا من قبائل قريش غيرهم، وتلك العطية عوض عوضوه بدلاً عما حُرموه من الصدقة، كما أخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم قال: مشيتُ أنا وعثمان بن عفان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله، أعطيتَ بني المطلب من خُمس خيبر وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم واحد).
وأجيب عن ذلك بأنه إنما أعطاهم ذلك لموالاتهم، لا عوضًا عن الصدقة.
وقال أبو حنيفة ومالك والهادوية: هم بنو هاشم فقط. وعن أحمد في بني المطلب روايتان. وعن غيره: بنو غالب بن فهر. كذا في الفتح.(2/178)
والمراد ببني هاشم: آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس وآل الحرث، ولم يدخل في ذلك آل أبي لهب؛ لما قيل من أنه لم يسلم أحد منهم في حياته -صلى الله عليه وسلم-، ويرده ما في جامع الأصول: أنه أسلم عتبة ومعتب ابنا أبي لهب عام الفتح، وسُرَّ -صلى الله عليه وسلم- بإسلامهما، ودعا لهما، وشهدا معه حنينًا والطائف، ولهما عقب عند أهل النسب.
قال ابن قدامة: لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة. وكذا قال أبو طالب من أهل البيت، حكي ذلك عنه في البحر، وكذا حكي الإجماع ابن رسلان.
وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة، وقيل عنه: تجوز لهم إذا حُرِموا سهم ذوي القربى. حكاه الطحاوي.
ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم.
قال في الفتح: وهو وجه لبعض الشافعية.
وحكي فيه أيضًا عن أبي يوسف: أنها تحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم، وحكاه في البحر عن زيد بن علي والمرتضى وأبي العباس الإمامية. وحكاه في الشفاء عن ابني الهادي والقاسم العياني.
وقال الحافظ: وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه.
قال الشوكاني: والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع، وقد قيل: إنها متواترة تواترًا معنويًا. ويؤيد ذلك قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى) (الشورى: 23 ). وقوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر) (سورة ص: 86 ). ولو أحلها لآله أوشك أن يطعنوا فيه.(2/179)
ولقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103)، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم-: (أن الصدقة أوساخ الناس) (قال الحافظ: يؤخذ من هذا جواز التطوع دون الفرض، وهو قول أكثر الحنفية، والمصحح عند الشافعية والحنابلة. وأما عكسه "جواز الفرض دون التطوع" فقالوا: إن الواجب لا يلحق بأخذه ذلة، بخلاف التطوع. ووجه التفرقة بين بني هاشم وغيرهم: أن موجب المنع رفع يد الأدنى على الأعلى، فأما الأعلى على مثله فلا (الفتح: 3/227). كما رواه مسلم.
وأما ما استدل به القائلون بحلها للهاشمي من الهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث بإسناده كله من بني هاشم (أن العباس بن عب المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: نعم). فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته.
وفضلاً عما نقله الإمامان ابن حجر والشوكاني، نذكر هنا بعض ما جاء في كتب المذاهب الأربعة لتمام الفائدة.
في "مجمع الأنهر" في فقه الحنفية قال: وعن الإمام أبي حنيفة: لا بأس بصرف الكل (الفرض والتطوع) إليهم.
وعنه: جواز دفع الزكاة إليهم.
وفي الآثار لمحمد: وعن الإمام روايتان، قال محمد: وبالجواز نأخذ؛ لأن الحرمة مخصوصة بزمانه عليه الصلاة والسلام.
وفي در المتقى: وعن الإمام جواز دفع الهاشمي زكاته لمثله.
وعنه: الجواز في زماننا مطلقًا. قال الطحاوي: وبه نأخذ وأقره القهستاني وغيره. (انظر: مجمع الأنهر، وبهامشه در المنتقى ص 224).
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه يجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين (مطالب أولي النهى: 2/157)، وإليه ذهب الجعفرية (فقه الإمام جعفر: 9/94 وفيه (ص 95): أن الزكاة المستحبة من سائر الناس تجوز لهم مثل زكاة التجارة، وما عدا الحنطة والشعير والتمر والزبيب من الزروع والثمار.(2/180)
وأشد المذاهب في ذلك هو مذهب الزيدية الذين لم يجوزوا الزكاة من الهاشمي لمثله - على المعتمد عندهم - وجعلوا أكل الميتة للهاشمي مقدَّمًا على أخذ الزكاة. قالوا: فإن كان تناول الميتة يضره أخذ من الزكاة على سبيل الاستقراض، ويرد ذلك متى أمكنه. وهذا كله في المضطر الذي خشي التلف والهلاك من الجوع أو العطش أو العري ونحوه (شرح الأزهار وحواشيه: 1/520 - 523).
ما الحكم إذا حرموا من الغنائم والفيء؟
ويعرض هنا سؤال مهم وهو: ما الحكم إذا خلا بيت المال من الغنيمة والفيء أو استولى عليه من لا يعطيهم منه شيئًا؟ قال بعض المالكية: محل عدم إعطاء بني هاشم إذا أعطوا ما يستحقونه من بيت المال، فإن لم يعطوه وأضر بهم الفقر أعطوا منها. وإعطاؤهم أفضل من إعطاء غيرهم.
وقيد بعضهم جواز هذا الإعطاء بحال الضرورة، وهي الحال التي يباح فهم فيها أكل الميتة. ومعنى هذا التعبير أن التحريم باق، وإنما جاز للضرورة كسائر المحرمات.
وقال غيره: قد ضعف الدين في هذه الأعصار المتأخرة، فإعطاء الزكاة لهم أهمل من تعاطيهم خدمة الذمي والكافر والفاجر (حاشية الصاوي: 1/232. وفتح العلي المالك: 1/141).
وقد نقلنا آنفًا بعض ما جاء عن الحنفية:
وقال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية: إن مُنعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم؛ لأنها إنما حُرموا الزكاة لحقهم في خمس الخمس، فإذا منعوا الخمس وجب أن يدفع إليهم.
وذكر النووي عن الرافعي: أن محمد بن يحيى صاحب الغزالي كان يفتي بهذا (المجموع: 6/ 227 - 228).
وكذا رجح ابن تيمية والقاضي يعقوب من الحنابلة جواز أخذهم من زكاة الناس إذا منعوا من خمس الغنائم والفيء، لأنه محل حاجة وضرورة (مطالب أولي النهى: 2/157).
وهو مذهب الإمامية الجعفرية أيضًا (فقه الإمام جعفر: 2/95).(2/181)
ولم يوافق الجمهور على إعطاء الزكاة لبني هاشم (وحدهم أو مع بني المطلب على الخلاف السابق) وإن مُنعوا الخمس. مستدلين بأن الزكاة إنما حُرِّمت عليهم لشرفهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس (المجموع: 6/227).
مناقشة وترجيح
والذي أراه أن القول بإعطاء الزكاة لأقارب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في زماننا أرجح وأقوى؛ لحرمانهم من خمس الغنائم والفيء، الذي كان يعطى منه لذوي القربى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- تعويضًا من الله لهم عما حُرِّم عليهم من الصدقة.
وسهم ذوي القربى هو المذكور في قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال: 41). وقوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) (الحشر: 7).
والقول بأن الزكاة حُرمت عليهم لشرفهم ليس بقوي. والأولى أن يكون ذلك لدفعهم عنه ونصرتهم له، حتى اشترك في ذلك مسلمهم وكافرهم. وهذا يعضد قول الشافعي في ضم بني المطلب إلى بني هاشم، فإنهم جميعًا صبروا معه على الأذى والجوع، ودخلوا الشِعْب ووقفوا في وجه قريش ومقاطعتهم الظالمة. وإذا سقط العوض - وهو سهم ذي القربى - لسبب من الأسباب، كخلو بيت المال، أو لاستبداد الحكام بما فيه، وجب ألا يُحرموا من الزكاة، وإلا انقلبت المزية التي لهم ضررًا عليهم.(2/182)
وإذا كان كثير من العلماء قد ذهبوا إلى سقوط سهم ذوي القربى بعد موت الرسول، وصيرورته لقرابة الخليفة بعده، أو صرفه في السلاح والجهاد (روى أبو عبيد وأبو يوسف في الخراج وابن جرير في تفسير آية الأنفال (واعلموا أنما غنمتم) عن الحسن بن محمد بن الحنفية - وقد سئل عن سهم الرسول وسهم ذي القربى - فقال: اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال قائلون: سهم القرابة لقرابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال قائلون: لقرابة الخليفة. وقال قائلون: سهم النبي -صلى الله عليه وسلم- للخليفة بعده. قال: فأجمع رأيهم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله قال: فكانا على ذلك خلافة أبي بكر وعمر. (انظر الأموال ص 332 وانظر أيضًا: بداية المجتهد: 1/390 - 391 - طبع الحلبي). بل إن على بن أبى طالب لما استخلف سلك به سبيل أبى بكر وعمر ( الأموال - المرجع نفسه ) .
فينبغي أن يكون قولهم بإباحة المعوض، وهو الزكاة. ومما يقوي هذا الرأي أن جملة الأحاديث التي استدل بها جمهور العلماء على تحريم الزكاة على بني هاشم إلى يوم القيامة، وأضاف بعضهم إليهم بني المطلب. بل جعلوا مواليهم وعتقاءهم بمنزلتهم في الحكم، ليست صريحة الدلالة على هذا الحكم.
والحق أن الذي ينظر في هذه الأحاديث نظرة مجردة من العصبية والتقليد والتأثر بشهرة الحكم وجلالة القائلين به، يتبين له غير ما ذهبوا إليه.(2/183)
( أ ) فأما حديث المطلب بن ربيعة: فإن فتيين من بني هاشم أرادا أن يوليهما النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصدقات، فيصيبا منها كما يصيب الناس من المنفعة، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسد عليهما هذا الباب، وأن يجعل من آل بيته وأقاربه قدوة للناس في البذل والتضحية لا في الغنم والانتفاع. وقد قال لهم يوم فتح مكة، وقد طلبوا من السدانة والسقاية، فأعطاهم السقاية لما فيها من غُرم وكلفة، وقال: (إنما أوليكم ما ترزءون لا ما ترزؤون) (سيرة ابن هشام: 4/32 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد).
ولفظ البخاري: (إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد) وهذا إنما يدل على كراهة التنزيه والتنفير من مقاربة هذا العمل الذي هو مظنة لأخذ ما لا يحل كما فعل ابن اللتبية. ولهذا أبى عبادة بن الصامت وغيره أن يقبلوا الولاية على الصدقات لما فيها من خطر التعرض لما لا يجوز.
وهذه الولاية مبناها على التشديد؛ لأنها متعلقة بمال عام هو مالك للجماعة، وحق للمحتاج من المسلمين أو من يحتاج إليه المسلمون، فأي زيادة يأخذها العامل عما يستحق تُعد مزاحمة للفقراء والمحتاجين في خالص حقهم، وأكلاً لمال الجماعة بالباطل.
ومع ورود هذا الحديث فإن كثيرًا من العلماء في المذاهب المتبوعة أجازوا أن يكون العامل من بني هاشم كما ذكرنا ذلك في سهم "العاملين عليها" وحديث أبي رافع يؤكد هذا المعنى، ويبين أن إبعاد آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقاربه عن شئون الصدقة ليس لشرف النسب، ولكن لدفع التهمة، وقطع ألسنة المفترين، ووضع الأسوة الحسنة، وتربية الآل ومواليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل المغارم، لا الطمع في المغانم. ولو كان المنع للشرف ما دخل الموالي في المنع.(2/184)
( ب ) وأما حديث الحسن بن علي وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أما شعرت إنا لا نأكل الصدقة)، وفي رواية مسلم: (لا تحل لنا الصدقة)، فالذي يبدو لي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله بوصفه إمام الجماعة ورئيس الدولة. فإن اجتماع الصدقات عنده لا حلها له ولا لأهل بيته، لأنها ملك المسلمين جميعًا. ومن هنا روي أن عمر شرب من لبن الصدقة خطأ فتقيأه (رواه مالك في الموطأ في كتاب الزكاة).
ولهذا قال في "البحر": ولا تحل للإمام، كالرسول، ولتقيؤ عمر لبن الصدقة (البحر الزخار: 2/184).
( ج ) وإذا غضضنا الطرف عن هذه الأسباب والملابسات التي وردت فيها هذه الأحاديث ونظرنا إلى مجرد ألفاظها، فماذا تدل عليه كلمة "آل محمد"؟ هل تدل حتمًا على ذرية بني هاشم وحدهم أو مع بني المطلب إلى يوم القيامة؟
ليس هناك دليل حاسم على ذلك؛ فآل محمد هنا كآل إبراهيم، وآل عمران في الآية الكريمة: (إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) (آل عمران: 33 ). فآل عمران هنا: مريم وابنها عيسى، وآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وليس المراد ذريته إلى يوم القيامة فقد قال تعالى في إبراهيم وإسحاق (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) (الصافات: 113 ). ومن ذرية إبراهيم مخربة العالم من اليهود.
ومثل هذا قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون) (القصص: 8 ). (وأغرقنا آل فرعون) (البقرة: 50 ). (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) (غافر: 45).
فهل يفهم من آل فرعون إلا هو وحده أو مع أهل بيته وألصق الناس به وأخصهم؟ وهنا "آل محمد" ينبغي أن يقصر على أهل بيته من أزواجه وأولاده وأسباطه وأقرب الناس إليه، وهذا حكم خاص بهم حال حياته -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء ذلك عن الإمام أبي حنيفة: وأخذ به صاحبه محمد بن الحسن.
وكما ذكر صاحب "البحر الزخار" أنه أحد أقوال مالك: ووجهه أنها حُرِّمت لدفع التهمة وقد زالت بوفاته -صلى الله عليه وسلم- (البحر: 2/184).(2/185)
وبهذا يسقط ما استدل به الشوكاني من مثل قوله: (قل ما أسألكم عليه من أجر) (الفرقان: 57 ). ولو أحلها لهم لأوشك أن يطعنوا فيه. فإن هذا إنما يكون في حياته -صلى الله عليه وسلم-. وأما بعد وفاته، فهم كغيرهم من المسلمين، تؤخذ الزكاة من أغنيائهم، وترد على فقرائهم.
وإنما قلنا هذا لأمرين:
الأول: أن الشرع الإسلامي في جملة أحكامه لم يميز أقارب النبي -صلى الله عليه وسلم- على غيرهم من الناس، بل أعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط؛ هم كذلك في الحقوق والواجبات، والمغارم والعقوبات. وقد قال عليه الصلاة والسلام (وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (متفق عليه).
الثاني: وهو الأهم أن الزكاة في الإسلام فريضة لازمة، وحق معلوم، وضريبة مقررة، يتولى الإمام أخذها وصرفها لمن يستحقها، فلا منَّة فيها لأحد على أحد. وما دام الآخذ يأخذها بحقها، فلا جناح عليه.
والعجيب أن بعض الفقهاء -بل أكثرهم- حرم الزكاة المفروضة على الهاشميين وأباح لهم صدقات التطوع مع أن المنة فيها أظهر.
ولو صح تحريم الصدقة على آل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة. لكانت صدقة النفل. وهذا ما نقله الحافظ عن بعض الفقهاء واستدلوا له بأن الواجب لا يلحق آخذه ذلة. بخلاف التطوع.
وقد تبين لنا مما سبق أن لا إجماع في المسألة، حتى لا يُتهم من أجاز لهم الزكاة بخرق هذا السور المنيع.
وقد رأينا أن الجواز منقول عن أبي حنيفة، واختيار صاحبه محمد، وهو وجه لبعض الشافعية وقول عند المالكية.
على أن في بعض الروايات المنقولة ما يساعد القائلين بالجواز المطلق. من ذلك ما ذكره في "البحر" أنه -صلى الله عليه وسلم- تصدق على أرامل بني المطلب، ورده صاحب البحر بأنه صدقة نفل (البحر: 2/184).(2/186)
كما أن أبا داود روى في سننه عن ابن عباس قال: بعثني أبي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في إبل أعطاها إياه من الصدقة. وفي رواية "أتي ببدلها" (رواه أبو داود في باب الصدقة على بني هاشم، وسكت عنه هو والمنذري، وأخرجه النسائي (انظر مختصر السنن: 2/246). وقد أجاب النووي عن هذا الحديث من وجهين:
أحدهما: أن يكون قبل تحريم الصدقة على بني هاشم ثم صار منسوخًا بما ذكرناه.
الثاني: أن يكون قد اقترض من العباس للفقراء إبلاً، ثم أوفاه إياها من الصدقة، وقد جاء في رواية أخرى ما يدل على هذا. وبهذا الثاني أجاب الخطابي. والله تعالى أعلم (المجموع: 6/227).
ولا شك أن الأولى الأخذ بظاهر الحديث دون ارتكاب التأويلات أو القول بالنسخ.
ويلوح لي أن الإمام البخاري لم يثبت عنده هذا الحكم حديث صحيح السند، صريح الدلالة. ولهذا عنون له بقوله "باب ما يُذكر في الصدقة للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم-" فعبارة: "ما يذكر" تدل على التضعيف والشك.
وهذا من جهة النقل. فإذا نظرنا إلى حكمة التشريع وجدناها ظاهرة في تحريمها عليه وعلى آله في حياته. فإنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن ينزه نفسه وآله عن أخذ الصدقات، ليضرب للمسلمين مثلاً عاليًا في التعود على التعفف، لا على الأخذ، ويكون ذلك تطبيقًا للمبدأ الرفيع الذي أعلنه: (اليد العليا خير من اليد السفلى) (رواه البخاري في باب الاستغناء عن المسألة من كتاب الزكاة من حديث حكيم بن حزام). فإن إعطاء المال من غير مبادلة عين أو نفع فيه نوع من المنة والفضل للمعطي على الآخذ، وقد لا تظهر هذه المنة بالنظر لعامة الناس الذين يتولى الإمام القبض عنهم من الأغنياء، ثم الصرف لهم. أما الإمام نفسه الذي يباشر القبض من المؤمنين للصدقات، فأولى به ألا يحمِّل عنقه هذه المنة؛ وأهل بيته بمنزلته في ذلك.(2/187)
وفي هذا الحكم سر آخر نبه عليه علامة الهند الدهلوي، وهو: أنه إن أخذها لنفسه وجوّز أخذها لخاصته، والذين يكون نفعهم بمنزلة نفعه، كان مظنة أن يظن الظانون ويقول القائلون في حقه ما ليس بحق، فأراد أن يسد هذا الباب بالكلية، ويجهر بأن منافعها راجعة إليهم، وإنما تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، رحمة بهم، وتقريبًا لهم من الخير، وإنقاذًا لهم من الشر" (حجة الله البالغة: 2/512 ) أما تحريم الزكاة على الآل إلى يوم القيامة، فلا يظهر فيه ما ذكرنا من السر والحكمة.
والعجب ممن حرموا الزكاة على بني هاشم والمطلب ولم يجوزوا لهم أخذها، ولو مُنعوا خُمس الخُمس؛ في بيت المال؛ لعدم هذا الخمس، كما في هذا الزمن، أو لاستبداد الولاة به، كما في أزمنة مضت - كيف يصنع الفقراء والمحتاجون من هؤلاء، إذا لم يعطوا من الزكاة حتى لهذه الضرورة؟، وهل من إكرام آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتركوا حتى يهلكوا جوعًا، ولا يعطوا من مال الزكاة الذي هو حق معلوم؟
ولهذا أفتى جماعة من علماء المذاهب الأربعة وغيرها بجواز أخذهم من الزكاة إن مُنعوا الخمس؛ لأنه محل حاجة وضرورة (انظر: شرح غاية المنتهى: 2/157)، بل قال بعض المالكية: إن إعطاءهم في هذه الحالة أفضل من إعطاء غيرهم (حاشية الصاوي على الشرح الصغير:1/660 - طبع دار المعارف). وهذا هو الصحيح والله أعلم.
المبحث السادس
الخطأ في مصرف الزكاة
ما الحكم إذا أخطأ المزكي مصرف الزكاة؟
إذا أخطأ المزكي وأعطى زكاته من ليس مصرفًا صحيحًا دون علمه؛ ثم تبين له خطؤه فهل يجزئه ذلك وتسقط عنه الزكاة؟ أم إن الزكاة لا تزال دَيْنًا في ذمته، حتى يضعها موضعها؟
اختلف أنظار الفقهاء في هذه المسألة:
فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو عبيد: يجزئه ما دفعه ولا يطالب بدفع زكاة أخرى.(2/188)
فعن معن بن يزيد قال: كان أبي أخرج دنانير يتصدق بها فوضعها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فأتيته بها. فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لك ما نويت يا يزيد، ولك ما أخذت يا معن) رواه أحمد والبخاري.
والحديث يحتمل أن تكون الصدقة نفلاً، إلا أن لفظ (ما) في قوله: (لك ما نويت) يفيد العموم.
ولهم أيضًا في الاحتجاج حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال رجل (من بني إسرائيل): لأتصدقن الليلة بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق (أي وهو لا يعلم) فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على سارق. فقال: اللهم لك الحمد (حمد الله على تلك الحال، لأنه لا يحمد على مكروه سواه)، لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية. فقال: اللهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على غني. فقال اللهم لك الحمد على زانية وعلى سارق وعلى غني! فأتى (أي رأى في منامه) فقيل له: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته. وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زناها. وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل) (رواه أحمد والبخاري ومسلم).
ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للرجل الذي سأله الصدقة: (إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك) وأعطى الرجلين الجلدين وقال: (إن شئتما أعطيتما منها ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب). ولو اعتبر حقيقة الغني ما اكتفى بقولهما، كما قال في "المغني" (المغني: 2/667).
وفي مقابل هؤلاء المتساهلين تشدد جماعة فذهبوا إلى أنه لا يجزئه درع الزكاة إلى من لا يستحقها إذا تبين له خطؤه وأن عليه أن يدفعها مرة أخرى إلى أهلها؛ لأنه دفع الواجب إلى من لا يستحقه فلم يخرج من عهدته. كديون الآدميين.
ومذهب الشافعي أميل إلى التشديد، كما في "الروضة" (الروضة: 2/328 )، وغيرها.(2/189)
ومذهب أحمد: إذا أعطى الزكاة من يظنه فقيرًا؛ فبان غنيًا ففيه روايتان:
رواية بالإجزاء ورواية بعدمه (المغني: 2/668).
فأما إن بان الآخذ عبدًا أو كافرًا أو هاشميًا، أو ذا قرابة للمعطي، ممن لا يجوز الدفع إليه لم يجزئه الدفع إليه. رواية واحدة؛ لأنه يتعذر معرفة الفقير من الغني دون غيره كما قال تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) (البقرة: 273 ).
وبين هؤلاء وأولئك نجد الفقهاء من فصَّلوا وفرَّقوا بين صورة وأخرى، فأجازوا بعضها ومنعوا بعضًا.
فعند الحنفية:
من دفع زكاته بعد تحر واجتهاد، لمن ظنه مصرفًا صحيحًا لها، فظهر أنه غني أو ذمي أو ظهر أنه أبوه أو ابنه أو امرأته أو هاشمي، صحَّت زكاته وليس عليه إعادتها؛ لأنه أتى بما في وسعه.
فأما لو ظهر أنه كافر حربي - ولو مستأمنًا - فروي عن أبي حنيفة أنها تجزئه ولا إعادة؛ لأنه أتى بما في وسعه أيضًا. وفي رواية أخرى أنها لا تجزئ وهو قول أبي يوسف. لأن صلة الحربي لا تكون برًا شرعًا، ولذا لم يجز دفع صدقة التطوع إليه فلم يقع قُربة، فتجب الإعادة.
ولو دفع بغير تحر ولا شك - بأن لم يخطر بباله أنه مصرف أولا - ثم ظهر خطؤه - بأن تبين له أنه غير مصرف - لم يجز وعليه الإعادة؛ لأنه فرَّط في بذل وسعه، فلو لم يظهر له شيء فهو على الجواز.
أما لو تحرى فدفع لمن ظنه غير مصرف، أو شك ولم يتحرّ، لم يجز حتى يظهر أنه مصرف، فإن بان صوابه جاز في الصحيح..
قالوا: ولو كان المدفوع إليه جالسًا في صف الفقراء يصنع صنعهم، أو كان عليه زيهم، أو سأله فأعطاه، كانت هذه الأسباب بمنزلة التحري. حتى لو ظهر غناه لم يُعِد.
وهل يسترد ما أخذ خطأ؟
أما الحربي فلا. وأما الهاشمي ففيه روايتان. وأما الولدُ الغني فنعم، وهل يطيب له؟ فيه خلاف. وإذا لم يطب، فقيل: يتصدق، وقيل: يرد على المعطي (الدر المختار وحاشيته: 2/73 - 74).
وعند المالكية:(2/190)
إذا اجتهد فدفع الزكاة لغير مستحق في الواقع مثل غني وكافر، مع ظنه أنه مستحق. فإن أمكن ردها أخذها منه إن كانت باقية، أو أخذ عوضها منه إن فاتت بسبب منه كأكل وبيع وهبة، سواء غرَّة الآخذ في هذه الحالة أم لا.
وأما إذا فاتت بسبب سماوي، نظر، فإن كان الآخذ غرّ الدافع وخدعه بأن أظهر له الفقر وهو غني، أو الإسلام وهو كافر، وجب أن يرد عوضها له. و إن لم يغره فلا شيء على الآخذ، ويجب على الدافع إعادة الزكاة مرة أخرى، حيث لم تجزئه الأولى، إذ لم تصادف أهلها وهم الفقراء المسلمون. وهذا في حالة دفع الأفراد بأنفسهم إلى أهل الزكاة.
أما إذا دفع الإمام أو نائبه باجتهاد فتبين أنه أخذها غير مستحق، فتجزئ ولا يغرم الإمام عوضها للفقراء، لأنه اجتهد لمصلحة المسلمين، واجتهاده حكم لا يتعقب. حتى ذكر بعضهم أنها تجزئ ولو أمكن ردها. واعترض هذا بأن كلام أهل المذهب يفيد أنها تنزع من يد من دفع له الحاكم - إذا كان غير مستحق - إن أمكن، وهو ظاهر؛ إذ كيف تكون الزكاة بيد الأغنياء، ولا تنزع من أيديهم؟
فالإمام في هذا كالوصي ومقدم القاضي، حيث اتفقوا على أنها تجزئ في حقهما إن تعذر الرد دون أن يغرما شيئًا، وإن أمكن الرد وجب اتفاقًا (الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي: 1/501 - 502).
مصر- وعند الزيدية:
من أعطى زكاته غير مستحق لها إجماعًا، أو في مذهبه الذي يعتنقه لزمه إخراج زكاته مرة أخرى، ولا يعتد بالأولى فليست زكاة. والذين لا يستحقون بالإجماع هم الكفار والأصول والفصول والغني غنىً مجمعاً عليه، فهؤلاء إذا دفع إليهم لزمته الإعادة - سواء دفع إليهم عالمًا بالتحريم أم جاهلاً، وسواء دفع إليهم ظنًا منه أن الكافر مسلم، والولد والوالد أجنبيان، والغني فقير، أم لم يظن ذلك، فإنه بعيد بكل حال.(2/191)
وأما الذين هم مختلف فيهم، فنحو القرابة الذين تلزم نفقتهم والغني غنىً مختلفًا فيه، فإنه إذا دفع إليهم، ومذهبه أنه لا يجوز، ودفع إليهم عالمًا بأنهم القرابة، وأن مذهبه المنع لزمته الإعادة كالمجمع عليه.
وإن دفع إليهم جاهلاً بالتحريم، أو جاهلاً مذهبه أو ظنًا منه أنهم أجانب أو أن الغني فقير لم تلزمه الإعادة، لأن الجاهل في مسائل الخلاف معذور كالناسي، أو المجتهد المخطئ (شرح الأزهار وحواشيه: 526،527، وانظر البحر: 2/187).
والذي أختاره في هذه الصور: أن من تحرى واجتهد فأخطأ ولم يضع زكاته في محلها، فهو معذور، ولا يتحمل تبعة خطئه؛ لأنه بذل ما في وسعه، كما قال الحنفية. (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) (البقرة: 286). ولن يضيع أجره على الله كالرجل الذي وضع صدقته في يد سارق وزانية وغنى.
وأما إذا قصَّر في التحري، ولم يبال من صرف إليه زكاته وتبين أنه أخطأ المصرف الصحيح، فعليه أن يتحمل تبعة خطئه الناشئ عن تقصيره وتفريطه، ويلزمه إعادة الزكاة مرة أخرى، حتى تقع موقعها، لأنه حق لأهلها من الفقراء والمساكين وسائر المستحقين، ولا تبرأ ذمته إلا بإعطائها إليهم، أو إلى نائبهم وهو الإمام، قدر وسعه.
وفي كلتا الحالين يجب على من أخذها وعلم أنها زكاة وهو ليس ممن يستحقها أن يردها، أو يرد عوضها إن كان قد استهلكها، ولا يأكل حق أهلها، فيأكل في بطنه نارًا. وهذا إذا تأكد له أو غلب على ظنه أنه ليس من أهلها، وإلا كانت له، كما إذا أخذها ولم يعلم أنها زكاة وتلفت في يده.
وأما حديث: (لك ما أخذت يا معن) فلعله كان أهلاً لها، وإن كره أبوه ذلك. وإذا أخطأ الإمام مصرف الزكاة فلا ضمان عليه. لأنه أمين على مصلحة المستحقين، عليه أن يستردها ممن أخذها إن كانت في يده، على نحو ما قال المالكية.
الباب الخامس
طريقة أداء الزكاة
فهرس
نقل الزكاة إلى غير بلد المال
تعجيل الزكاة وتأخيرها
مباحث متفرقة حول أداء الزكاة
تمهيد
علاقة الدولة بالزكاة(2/192)
مكانة النية في الزكاة
دفع القيمة في الزكاة
تمهيد
عرفنا في الأبواب الماضية وجوب الزكاة، وعرفنا على من تجب. وفيم تجب من الأموال، ومقدار ما يجب في كل منها، كما عرفنا: لمن تُصرف الزكاة، والأصناف المستحقين لها، والأصناف الذين لا يجوز أن تُصرف إليهم.
وبقي علينا أن نعرف كيفية أداء الزكاة: هل يتولى المكلَّف أداءها بنفسه إلى مستحقيها أم تتولاها الدولة وولي الأمر؟ وهل هذا في كل الأموال أو في بعضها دون بعض؟ وما الحكم إذا تخلى ولي الأمر عن أخذ الزكاة أو طلبها وكان ظالمًا أو كافرًا؟
وهل تُشترط النيَّة في أداء الزكاة؟ وما الحكم إذا أخذها السلطان قهرًا بدون نيِّة من المكلف؟ وهل يجوز لولي الأمر أو للمكلف نقل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخر؟ وما حدود ذلك؟
وهل يجوز دفع القيم في الزكاة أم يجب إخراج عين المنصوص عليه ولا بد؟
وهل يجوز تأخير الزكاة إذا وجبت؟ وما الحكم إذا أخرَّها؟ وهل تسقط بالتأخير، وما حكم تعجيلها؟ وهل يجوز كتمان الزكاة؟ وما عقوبة من كتمها؟ وما حكم التهرب أو الفرار من الزكاة، والاحتيال لإسقاطها؟ إلى غير ذلك من المباحث المتعلقة بأداء الزكاة والاحتيال لإسقاطها؟ إلى غير ذلك من المباحث المتعلقة بأداء الزكاة وإخراجها.
كل هذه الأسئلة وما يتصل بها. نفصِّل الجواب عنها في الفصول التالية من هذا الباب، الذي عقدناه لهذا الغرض.
الفصل الأول
علاقة الدولة بالزكاة
فهرس
من يتولى أمر الزكاة في عصرنا؟
أقوال المذاهب فيمن كتم الزكاة أو امتنع منها أو ادعى أداءها
عند الحنفية
عند المالكية
عند الشافعية
الإجماع على تأديب الممتنع وأخذها منه قهرًا
عقوبة الممتنع بمصادرة نصف ماله وما فيه من خلاف
مناقشة وترجيح
عند الحنابلة
عند الزيدية
دفع الزكاة إلى السلطان الجائر
رأى المجوزين
رأي المانعين مطلقًا وأدلتهم
رأي القائلين بالتفصيل
التزام الحاكم للإسلام شرط
مسئولية الدولة عن شئون الزكاة
دلالة القرآن على ذلك(2/193)
الأحاديث النبوية
السُنَّة العملية للنبي والخلفاء الراشدين
فتاوى الصحابة
من أسرار هذا التشريع
بيت مال الزكاة
الأموال الظاهرة والأموال الباطنة ومن يلي زكاتها
رأي الحنفية
رأي المالكية
الشافعية
الحنابلة
رأي الزيدية
رأي الإباضية
رأي الشعبي والباقر وأبي رزين والأوزاعي
موازنة وترجيح
رأي أبي عبيد ومناقشته
مسئولية الدولة عن شئون الزكاة
الزكاة - كما تبين لنا - حق ثابت مقرر (فَرِيضَةً مِّنَ الله)، ولكنه - في الأصل - ليس حقًا موكولاً للأفراد، يؤديه منهم من يرجو الله والدار الآخرة، ويدعه من ضعف يقينه بالآخرة، وقلَّ نصيبه من خشية الله، وغلب حب المال في قلبه على حب الله.
كلا؛ إنها ليست إحسانًا فرديًا، وإنما هي تنظيم اجتماعي تشرف عليه الدولة، ويتولاه جهاز إداري منظم، يقوم على هذه الفريضة الفذة، جباية ممن تجب عليهم، وصرفًا إلى من تجب لهم.
دلالة القرآن على ذلك:
وأبرز دليل على ذلك: أن الله -تعالى- ذكر هؤلاء القائمين على أمر الزكاة جمعًا وتفريقًا، وسماهم (العَامِلينَ عَلَيْهَا)، وجعل لهم سهمًا في أموال الزكاة نفسها، ولم يحوجهم إلى أخذ رواتبهم من باب آخر، تأمينًا لمعاشهم، وضمانًا لحسن قيامهم بعملهم، قال تعالى: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالَمسَاكِين وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ، فَريضَةً مِّنَ اللَّهِ، واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60).
وليس بعد هذا النص الصريح في كتاب الله مجال لترخص مترخص، أو تأول متأول، أو زعم زاعم، وخاصة بعد أن جعلت الآية هذه الأصناف وتحديدها (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ)، ومن ذا الذي يجرؤ على تعطيل فريضة فرضها الله؟!(2/194)
وقال -تعالى- في نفس السورة التي ذكر فيها مصارف الزكاة: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ) (التوبة: 103).
وقد ذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف إلى أن المراد بالصدقة في هذه الآية الزكاة، كما بيَّنا ذلك في الباب الأول.
وأظهر دليل على ذلك: أن مانعي الزكاة في عهد أبي بكر تعلقوا بهذه الآية، وأنها تدل على أن الذي يأخذ الزكاة هو النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه يعطيهم بدلها الصلاة عليهم، ولم يرد عليهم أحد من الصحابة بأن الآية في غير الزكاة الواجبة، وكذلك كان موقف أئمة الإسلام من بعدهم في رد شبهتهم. وكل ما قالوه: أن الخطاب في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يلي أمر المسلمين من بعده، حسبما فصَّلناه من قبل.
الأحاديث النبوية:
هذا ما جاء في كتاب الله. أما السنة النبوية:
ففي حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذًا إلى اليمن قال له: (أعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) (رواه الجماعة عن ابن عباس).
وشاهدنا من هذا الحديث هو قوله -عليه السلام- في تلك الصدقة المفروضة: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فبين الحديث أن الشأن فيها أن يأخذها آخذ ويردها راد، لا أن تُترك لاختيار من وجبت عليه.(2/195)
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: استدل به على أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها، إما بنفسه، وإما بنائبه، فمن امتنع منهم أخذت منه قهرًا" (فتح الباري للحافظ ابن حجر: 3/23 في شرح حديث وصية معاذ من صحيح البخاري كتاب الزكاة: باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد إلى الفقراء حيث كانوا). ونقلها الشوكاني بنصها في نيل الأوطار (نيل الأوطار: 4/124 - طبع مصطفى الحلبي (الثانية).
وقد جاءت أحاديث كثيرة في توجيه هؤلاء العاملين على الزكاة. وكانوا يسمون السعاة أو المصدقين وقد ذكرنا شيئًا من ذلك في مصرف "العاملين عليها" من الباب السابق. كما جاءت أحاديث كثيرة أخرى في بيان واجب المكلفين بالزكاة نحو هؤلاء المصدقين، سنذكر أهمها قريبًا.
السُنَّة العملية للنبي والخلفاء الراشدين:
وهذا الذي جاءت به السنة القولية، أكدته السنَّة العملية والواقع التاريخي الذي جرى عليه العمل في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- . والخلفاء الراشدين من بعده.
قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" عند تخريج ما ذكره الإمام الرافعي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده كانوا يبعثون السعاة لأخذ الزكاة: هذا مشهور.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة: بعث عمر على الصدقة.
وفيهما عن أبي حميد: استعمل (استعمله: جعله عاملاً على الزكاة أو غيرها، أي واليًا على شئونها). رجلاً من الأزد يقال له "ابن اللتيبة".
وفيهما عن عمر: أنه استعمل ابن السعدي.
وعن أبي داود: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا مسعود ساعيًا.
وفي مسند أحمد: أنه بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقًا.
وفيه: أنه بعث عقبة بن عامر ساعيًا.
وفيه من حديث قرة بن دعموص: بعث الضحاك بن قيس ساعيًا.
وفي المستدرك: أنه بعث قيس بن سعد ساعيًا.
وفيه من حديث عبادة بن الصامت: أنه -صلى الله عليه وسلم- بعثه على أهل الصدقات. وبعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ساعيًا.(2/196)
وروى البيهقي عن الشافعي: أن أبا بكر وعمر كانا يبعثان على الصدقة. وقد أخرجه الشافعي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري بهذا، وزاد: ولا يؤخرون أخذها في كل عام.
وقال في القديم: وروى عن عمر: أنه أخَّرها عام الرمادة، ثم بعث مصدقًا فأخذ عقالين (العقال: يراد به هنا زكاة العام). عقالين.
وفي الطبقات لابن سعد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث المصدقين إلى العرب في هلال المحرم سنة تسع. وهو في مغازي الواقدي بأسانيده مفسرًا (انظر: التلخيص: 2/159، 160- طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة).
وذكر ابن سعد أسماء هؤلاء المصدقين وأسماء القبائل التي بعثوا إليها. فبعث عيينة بن حِصن إلى بني تميم يصدقهم.
وبعث بريدة بن الحصيب إلى أسلم وغفار يصدقهم. ويقال: كعب بن مالك.
وبعث عباد بن بشر الأشهلي إلى سُليم ومُزَينة.
وبعث رافع بن مكيث إلى جُهينة.
وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة.
وبعث الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب.
وبعث بُسر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب.
وبعث ابن اللتيبة الأزدي إلى بني ذبيان.
وبعث رجلاً من سعد هُذَيم على صدقاتهم.
قال ابن سعد: وأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصدقيه أن يأخذوا العفو منهم ويتوقوا كرائم أموالهم (طبقات ابن سعد: 2/160- طبع بيروت).
وذكر ابن إسحاق جماعة آخرين بعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قبائل وأقاليم أخرى من جزيرة العرب.
فبعث المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء، فخرج عليه العَنسيّ وهو بها.
وبعث زياد بن لَبِيد إلى حضرموت.
وبعث عدي بن حاتم إلى طي وبني أسد.
وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة.
وفرَّق صدقات بني سعد على رجلين: فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية.
وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين.
وبعث عليًا إلى نجران، ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم (زاد المعاد: 2/472).(2/197)
وفي التراتيب الإدارية للكتاني نقل عن ابن حزم في جوامع السير، وعن ابن إسحاق والكلاعي في السيرة، وعن ابن حجر في الإصابة جملة من أسماء الصحابة الذين استعملهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ولاية الصدقات أو كتابتها.
قال ابن حزم في كتابه "جوامع السير": كان كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصدقات الزبير بن العوام، فإن غاب أو اعتذر كتب جهم بن الصلت وحذيفة بن اليمان (التراتيب الإدارية ص 398).
وقال (المرجع السباق ص 396-398): ترجم في الإصابة للأرقم بن أبي الأرقم الزهري فذكر: أن الطبراني خرج: أنه -عليه السلام- استعمله على السعاية. وترجم فيها أيضًا كافية بن سبع الأسدي فنقل عن الواقدي: أن المصطفى -عليه السلام- استعمله على صدقات قومه. وترجم أيضًا لحذيفة بن اليمان الأزدي، فنقل عن ابن سعد: أنه -عليه السلام- بعثه مصدقًا على الأزد، وترجم في الإصابة أيضًا لكهل بن مالك الهذلي فذكر أن المصطفى -عليه السلام- استعمله على صدقات هذيل، وترجم فيها أيضًا لخالد بن البرصاء، فذكر أن أبا داود والنسائي أخرجا من طريق معمر عن الزهري عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا جهم بن حذيفة مصدَّقًا، وترجم لخالد بن سعيد بن العاص الأموي أن المصطفى -عليه السلام- استعمله على صدقات مذحج. وترجم أيضًا لخزيمة بن عاصم العكلي فذكر أن ابن قانع روى من طريق سيف بن عمر عن الميسر بن عبد الله بن عدس أن عدسًا وخزيمة وفدا علي النبي -صلى الله عليه وسلم- فولى خزيمة على الأحلاف، وكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله لخزيمة بن عاصم: إني بعثتك ساعيًا على قومك فلا يُضاموا ولا يُظلموا" ذكره الرشاطي، وقال: أهمله أبو عمر، وترجم أيضًا لسهم بن منجاب التميمي فنقل عن الطبري أنه كان من عمال النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات بني تميم فمات المصطفى -عليه السلام- وهو على ذلك، وترجم لعكرمة بن أبي جهل، فنقل عن الطبري: أن(2/198)
النبي -عليه السلام- استعمله علي صدقات هوازن عام وفاته، وترجم لمالك بن نويرة فذكر أنه كان من أرداف الملوك وأنه -صلى الله عليه وسلم- استعمله على صدقات قومه، وترجم لمتمم بن نويرة التميمي فقال: بعثه -عليه السلام- على صدقات بني تميم، وفي ترجمة مرداس بن مالك الغنوي أنه -عليه السلام- ولاه صدقة قومه" أهـ.
وبهذا يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غطى الجزيرة -تقريبًا- بسعاته، ومصدِّقيه ليتولوا هذه الفريضة من أهلها، ويوزعوها على مستحقيها.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يزوَّدهم - كما ذكرنا من قبل - بالنصائح، والتعليمات اللازمة لهم في معاملة أرباب الأموال، ويوصي دائمًا بالرفق بهم، والتيسير عليهم دون تهاون في حق الله.
كما كان يُحذِّر هؤلاء السعاة أشد التحذير من تناول شيء من المال العام بغير حق مهما يكن قليلاً. وكان يحاسب بعضهم أحيانًا. كما قيل: إن ابن اللتيبة لما قدم حاسبه [عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن اللتيبة - رجلاً من الأزد - على الصدقة، فجاء بالمال فدفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: هذا لكم، وهذههدية أهديت إلىّ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك، فتنظر أيهدي إليك أم لا" ؟! (رواه الشيخان واللفظ لمسلم)].
قال ابن القيم: وكان في هذا حُجَّة على محاسبة العمال (الولاة) والأمناء، فإن ظهرت خيانتهم عزلهم وولى أمينًا (زاد المعاد، والمرجع السابق).
وهذا كله يدلنا بوضوح على أن أمر الزكاة كان منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من شئون الدولة واختصاصها. ولهذا حرص الرسول -عليه السلام- أن يعين لكل قوم أو قبيلة يدخلون في الإسلام مصدَّقًا يأخذ من أغنيائهم الزكاة، ويفرقها على مستحقيها. وكذلك خلفاؤه من بعده.(2/199)
ولهذا قال العلماء: "يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء من بعده كانوا يبعثون السعاة؛ ولأن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث من يأخذ.." (المجموع: 6/167، والروضة: 2/210).
أما أرباب الأموال من أفراد الشعب، فيجب عليهم أن يساعدوا هؤلاء السعاة على أداء مهمتهم، ويؤدوا إليهم ما وجب عليهم ولا يكتموهم شيئًا من أموال زكاتهم. هذا ما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما أمر به أصحابه.
عن جرير بن عبد الله قال "جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إنِّ أناسًا من المصدِّقين (جباة الصدقة) يأتوننا فيظلموننا ! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أرضوا مُصدِّقيكم) (رواه مسلم في صحيحه).
وعن جابر بن عتيك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيأتيكم ركب مبغضون، فإذا أتوكم فرحبوا بهم، وخلوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليها، فإن تمام زكاتكم رضاهم، وليدعوا لكم) (رواه أبو داود كما في نيل الأوطار: 4/155- طبع العثمانية، وقال المناوي في الفيض: "لا ريب أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل ظالمًا قط، بل كانت سعاته على غاية من تحرى العدل؛ كيف ومنهم علىّ وعمر ومعاذ؟ ومعاذ الله أن يولي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ظالمًا! فالمعنى: سيأتيكم عمالي يطلبون منكم الزكاة، والنفس مجبولة على حب المال، فتبغضونهم وتزعمون أنهم ظالمون، وليسوا بذلك، فقوله: "إن ظلموا" مبني على هذا الزعم. ويدل على ذلك لفظ "إن" الشرطية، وهي تدل على الفرض والتقدير، لا على الحقيقة.
وقال المظهري: لما عم الحكم جميع الأزمنة قال: كيفما يأخذون الزكاة لا تمنعوهم وإن ظلموكم، فإن مخالفتهم مخالفة للسلطان؛ لأنهم مأمورون من جهته، ومخالفة السلطان تؤدي إلى الفتنة وثورانها.(2/200)
ورد المناوي هذا القول بأن العلة لو كانت هي المخالفة جاز كتمان المال، لكنه لم يجز، لقوله في حديث: "نكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون؟ قال: لا "أما سعادة غيرنا (كذا ولعل الصواب: غيره) أي النبي -صلى الله عليه وسلم- فإغضاب ظالمهم واجب وإرضاؤه فيما يرومه بالجور حرام". (انتهى من فيض القدير: 1/475).
وعن أنس -رضي الله عنه- : أن رجلاً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك فقد برئتُ منها إلى الله ورسوله؟ قال: (نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله، ولك أجرها، وإثمها على من بدَّلها) (نسبة في المتقى إلى أحمد (نيل الأوطار المرجع السابق). (15- فقه الزكاة/2).
فتاوى الصحابة:
وعن سهل بن أبي صالح عن أبيه قال: "اجتمع عندي نفقة فيها صدقة - يعني بلغت نصاب الزكاة - فسألت سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري أن أقسمها، أو أدفعها إلى السلطان؟. فأمروني جميعًا أن أدفعها إلى السلطان، ما اختلف عليَّ منهم أحد".
وفي رواية: "فقلت لهم: هذا السلطان يفعل ما ترون (كان هذا في عهد بني أمية) فأدفع إليهم زكاتي؟! فقالوا كلهم: نعم فادفعها". (رواها الإمام سعيد بن منصور في مسنده) (كما قال النووي في المجمع).
وعن ابن عمر -رضي الله عنه- ما قال: (ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله أمركم، فمن بر فلنفسه، ومن أثم فعليها).
وعن قزعة مولى زياد بن أبيه أن ابن عمر قال: (ادفعوها إليهم وإن شربوا بها الخمر) قال النووي: رواهما البيهقي بإسناد صحيح أو حسن (هذه الأحاديث والآثار كلها ذكرها الإمام النووي في "المجموع": 6/162-164).
وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لمولى له - وهو على أمواله بالطائف: كيف تصنع في صدقة مالي؟
قال: منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان.
قال: وفيم أنت من ذلك؟! (أنكر عليه أن يفرقها بنفسه).
فقال: إنهم يشترون بها الأرض ويتزوجون بها النساء !!(2/201)
فقال: ادفعها إليهم؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرنا أن ندفعها إليهم" (رواه البيهقي في السنن الكبير) (المرجع السابق).
هذه الأحاديث الصريحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الفتاوى الحاسمة من صحابته الكرام، تجعلنا ندرك، بل نوقن: أن الأصل في شريعة الإسلام أن تتولى الحكومة المسلمة أمر الزكاة فتجبيها من أربابها، وتصرفها على مستحقيها، وأن على الأمة أن تعاون أولياء الأمر في ذلك، إقرارًا للنظام، وإرساءً لدعائم الإسلام، وتقوية لبيت مال المسلمين.
من أسرار هذا التشريع
"وربما قال قائل: إن الشأن في الأديان أن توقظ الضمائر، وتحيى القلوب، وتضع أمام أبصار الناس مثلاً أعلى، ثم تحاول أن تقودهم بزمام الشوق إلى مثوبة الله، أو تسوقهم بسوط الخشية من عقابه، تاركة لأصحاب السلطان أن يحددوا وينظموا ويطالبوا ويعاقبوا، فهذا من شأن السلطة السياسية، وليس من مهمة التوجيه الديني!
والجواب: أن هذا قد يصح في أديان أخرى، ولكن لا يصح أبدًا في الإسلام، فإنه عقيدة ونظام، وخلق وقانون، وقرآن وسلطان.
ليس الإنسان مشطورًا في الإسلام: شطر منه للدين وشطر آخر للدنيا، وليست الحياة مقسومة: بعضها لقيصر وبعضها لله. وإنما الحياة كلها والإنسان كله، والكون كله لله الواحد القهار.
جاء الإسلام رسالة شاملة هادية، فجعلت من هدفها تحرير الفرد وتكريمه، وترقية المجتمع وإسعاده، وتوجيه الشعوب والحكومات إلى الحق والخير، ودعوة البشرية كلها إلى الله: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله.
وفي هذا الإطار جاء نظام الزكاة فلم تُجعل من شئون الفرد، بل من وظيفة الحكومة الإسلامية، فوكل الإسلام جبايتها وتوزيعها على مستحقيها إلى الدولة لا إلى ضمائر الأفراد وحدها، وذلك لجملة أسباب لا يحسن بشريعة الإسلام أن تهملها:(2/202)
أولاً: إن كثيرًا من الأفراد قد تموت ضمائرهم أو يصيبها السقم والهزال فلا ضمان للفقير إذا ترك حقه لمثل هؤلاء.
ثانياً: في أخذ الفقير حقه من الحكومة لا من الشخص الغني، حفظ لكرامته وصيانة لماء وجهه أن يراق بالسؤال، ورعاية لمشاعره أن يجرحها المن أو الأذى.
ثالثًا: إن ترك هذا الأمر للأفراد يجعل التوزيع فوضى، فقد ينتبه أكثر من غني لإعطاء فقير واحد، على حين يُغفل عن آخر، فلا يفطن له أحد، وربما كان أشد فقرًا.
رابعًا: إن صرف الزكاة ليس مقصورًا على الأفراد من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل؛ فمن الجهات التي تُصرف فيها الزكاة مصالح عامة للمسلمين، لا يقدرها الأفراد، وإنما يقدرها أولو الأمر وأهل الشورى في الجماعة المسلمة، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، وإعداد العدة والعدد للجهاد في سبيل الله، وتجهيز الدعاة لتبليغ رسالة الإسلام في العالمين.
خامسًا: إن الإسلام دين ودولة، وقرآن وسلطان. ولا بد لهذا السلطان وتلك الدولة من مال تقيم به نظامها، وتنفذ به مشروعاتها. ولا بد لهذا المال من موارد، والزكاة مورد هام دائم لبيت المال في الإسلام" (من كتبانا "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام" ص 94-95).
بيت مال الزكاة
ومن هنا نعلم أن الأساس في النظام الإسلامي أن يكون للزكاة ميزانية خاصة، وحصيلة قائمة بذاتها، ينفق منها على مصارفها الخاصة المحددة، وهي مصارف إنسانية وإسلامية خالصة، ولا تُضم إلى ميزانية الدولة العامة الكبيرة التي تتسع لمشروعات مختلفة، وتُصرف في مصارف شتَّى.(2/203)
ولقد أشارت آية مصارف الزكاة من سورة التوبة إلى هذا المبدأ حين قررت أن العاملين عليها يأخذون مرتباتهم منها. فمعنى هذا أن يكون لها ميزانية مستقلة، يُنفق على إدارتها منها، كما بينا ذلك في مصارف الزكاة. وذلك ما فهمه المسلمون منذ أقدم العصور. فقد جعلوا للزكاة بيت مال قائمًا بذاته. إذ قسموا بيوت المال في الدولة الإسلامية إلى أربعة أقسام، فصلها فقهاء الحنفية في كتبهم.
أولها: بيت المال الخاص بالصدقات، وفيه مثل زكاة الأنعام السائمة، وعشور الأراضي، وما يأخذه العاشر من تجار المسلمين المارين عليه.
الثاني: بيت المال الخاص بحصيلة الجزية والخراج.
الثالث: بيت المال الخاص بالغنائم، والركاز (عند من يقول: إنه ليس من الزكاة، ولا يُصرف في مصارفها).
الرابع: بيت المال الخاص بالضوائع، وهي الأموال التي لا يُعرف لها مالك، ومنها التركات التي لا وارث لها، أو لها وارث لا يرد عليه كأحد الزوجين، ودية المقتول الذي لا ولي له، واللقطات التي لم يُعرف لها صاحب (انظر المبسوط: 3/18، والبدائع: 2/68، 69، والدر المختار وحاشية رد المحتار عليه: 2/59، 60).
الأموال الظاهرة والأموال الباطنة ومن يلي زكاتها
قسم الفقهاء الأموال التي تجب فيها الزكاة إلى ظاهرة وباطنة: فالظاهرة هي التي يمكن لغير مالكها معرفتها وإحصاؤها، وتشمل الحاصلات الزراعية من حبوب وثمار، والثروة الحيوانية من إبل وبقر وغنم.
والأموال الباطنة هي النقود وما في حكمها، وعروض التجارة. واختلفوا في زكاة الفطر، فألحقها بعضهم بالظاهرة وبعضهم بالباطنة.(2/204)
فأما القسم الأول - وهو المال الظاهر - فقد اتفقوا - تقريبًا - على أن ولاية جبايته وتفريقه على مستحقيه لولى الأمر في المسلمين، وليس من شأن الأفراد، ولا يُترك لذممهم وضمائرهم وتقديرهم الشخصي، وهو الذي تواترت الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث رسله وعماله لتحصيل الواجب عليهم فيه، وهو الذي يُجبر المسلمون على أدائه للدولة، ويُجاهدون على منعه (انظر: الأموال: ص531). ولهذا قال أبو بكر في شأن قبائل العرب التي أبت أن تدفع إليه الزكاة التي كانوا يدفعونها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه) وهذا كان في الأموال الظاهرة، وبخاصة الأنعام.
أما القسم الثاني - وهو الأموال الباطنة من نقود وعروض تجارة - فقد اتفقوا على أن للإمام أن يتولى أخذها، ويقوم بتوزيعها على أهلها؛ ولكن هل يجب عليه ذلك؟ وهل له أن يُجبر الناس على دفعها إليه وإلى موظفيه؟ وأن يقاتلهم على ذلك، كما فعل أبو بكر؟
هذا ما اختلف فيه الفقهاء، وفيما يلي أهم أقوال المذاهب في ولاية الزكاة:
رأي الحنفية:
فعند الحنفية: ولاية الأموال الظاهرة إلى الإمام، لا إلى الملاك، لآية (خُذْ مِنْ أمْوَالِهٍمْ صَدَقَةً) (التوبة: 103). ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها. ولأن ما للإمام قبضة بحكم الولاية، لا يجوز دفعه إلى المولىَّ عليه، كما في ولي اليتيم (انظر: المغني: 2/643- طبع المنار).
وأما الأموال الباطنة فهي مفوضة إلى أربابها، وقد كانت في الأصل للإمام، ثم ترك أداؤها إليهم منذ عهد عثمان -رضي الله عنه-، حيث رأي المصلحة في ذلك، ووافقه الصحابة - كما سيأتي - فصار أرباب الأموال كالوكلاء عن الإمام، وإن لم يُبطل ذلك حقه في أخذها. ولهذا قالوا: لو علم السلطان من أهل بلدة أنهم لا يؤدون زكاة الأموال الباطنة، فإنه يطالبهم بها، وإلا فلا، لمخالفته الإجماع (حاشية ابن عابدين: 2/5).(2/205)
وأموال التجارة في مواضعها من الأموال الباطنة، فإذا كانت منقولة من إقليم إلى إقليم ومرّ بها التاجر على العاشر فقد التحقت بالظاهرة، ووجب دفعها إليه. والعاشر هو من نصبه الإمام على الطريق للمسافرين ليأخذ الصدقات وغيرها من التجار المارين بأموالهم عليه. قالوا: وما ورد من ذم العشَّار محمول على الآخذ ظلمًا (المرجع السابق ص41-42).
رأي المالكية:
وقال المالكية: تدفع الزكاة وجوبًا للإمام العدل في أخذها وصرفها، وإن كان جائرًا في غيرهما، سواء أكانت ماشية أم حرثًا أو عينًا (نقدًا) فإن طلبها العدل فادعي إخراجها لم يُصدق.
وهل الدفع لمثل هذا الإمام واجب أو جائز فقط؟
ذكر الدردير في شرحه الكبير أنه واجب. واعترضه الدسوقي في حاشيته بأنه مكروه، كما في التوضيح وغيره.
وإنما الواجب اتفاقًا هو الدفع إلى العدل في الأخذ والصرف وفي غيرهما (الشرح الكبير بحاشية الدسوقي: 1/503-504).
وقال القرطبي: "إذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف، لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض (النقد) ولا غيره، وقد قيل: إن زكاة الناض على أربابه، وقال ابن الماجشون: ذلك إذا كان الصرف للفقراء والمساكين، فإن احتيج إلى صرفها لغيرهما من الأصناف، فلا يفرق عليهم إلا الإمام" (تفسير القرطبي: 8/177).
الشافعية:
وعند الشافعية: للمالك أن يفرق زكاته بنفسه في الأموال الباطنة، وهي: الذهب والفضة وعروض التجارة، وزكاة الفطر (وفيها وجه أنها من الأموال الظاهرة).
وأما الأموال الظاهرة والغلات الزراعية والمعادن، ففي جواز تفريقها بنفسه قولان، أظهرهما وهو الجديد: يجوز، والقديم: لا يجوز، بل يجب صرفها إلى الإمام إن كان عادلاً، فإن كان جائرًا فوجهان، أحدهما: يجوز ولا يجب، وأصحهما: يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله.(2/206)
قالوا: ولو طلب الإمام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه بلا خلاف، بذلاً للطاعة، فإن امتنعوا قاتلهم الإمام، وإن أجابوا إلى إخراجها بأنفسهم، فإن لم يطلبها الإمام ولم يأت الساعي، أخّرها رب المال ما دام يرجو مجيء الساعي، فإذا أيس فرق بنفسه.
وأما الأموال الباطنة فقال الماوردي: ليس للولاة نظر في زكاتها، وأربابها أحق بها، فإن بذلوها طوعًا قبلها الوالي، فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها بنفسه فهل له أن يقول: إما أن يدفع بنفسك، وإما أن تدفع إلىَّ حتى أفرِّق؟ فيه وجهان يجريان في المطالبة بالنذور والكفارات.
قال النووي: "الأصح وجوب هذا القول إزالة للمنكر" (الروضة: 2/205-206).
الحنابلة:
وعند الحنابلة: لا يجب دفعها إلى الإمام، ولكن له أخذها، ولا يختلف المذهب -كما قال في المغني- أن دفعها إلى الإمام جائز، سواء أكان عادلاً أو غير عادل، وسواء أكانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. ويبرأ بدفعها إليه، سواء تلفت في يد الإمام أو لم تتلف، صرفها في مصارفها أو لم يصرفها، لما جاء ذلك عن الصحابة. ولأن الإمام نائب عنهم شرعًا، فبريء بدفعها، لما جاء ذلك عن الصحابة. ولأن الإمام نائب عنهم شرعًا، فبريء بدفعها إليه، كولي اليتيم إذا قبضها له، ولا يختلف المذهب أيضًا في أن صاحب المال يجوز أن يُفرقها بنفسه.
وإنما الخلاف في المذهب: أيُّ ذلك أحب وأفضل: أن يفرقها المالك بنفسه، إذا لم يطلبها الإمام، أم يدفعها إلى الإمام العادل ليقوم بصرفها في محلها؟
قال ابن قدامة في "المغني":
"يُستحب للإنسان أن يلي تفرقة الزكاة بنفسه، ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقها، سواء أكانت من الأموال الظاهرة أو الباطنة. قال الإمام أحمد: أعجب إلى أن يخرجها، وإن دفعها إلى السلطان فهو جائز.
وقال الحسن ومكحول وسعيد بن جبير وميمون بن مِهران: يضعها رب المال في موضعها.(2/207)
وقال الثوري: احلف لهم واكذبهم ولا تعطهم شيئًا إذا لم يضعوها مواضعها، وقال: لا تعطهم.
وقال عطاء: أعطهم إذا وضعوها مواضعها. فمفهومه: أنه لا يعطيهم إذا لم يكونوا كذلك.
وقال الشعبي وأبو جعفر. إذا رأيت الولاة لا يعدلون فضعها في أهل الحاجة من أهلها.
(ويلاحظ أن هذه الأقوال في الولاة الجائرين فلا تؤيد ما قاله صاحب المغني).
قال: وقد روى عن أحمد أنه قال: أما صدقة الأرض فيعجبني دفعها إلى السلطان، وأما زكاة الأموال - كالمواشي- فلا بأس أن يضعها في الفقراء والمساكين.
فظاهر هذا: أنه استحب دفع العُشر خاصة إلى الأئمة، وذلك لأن العُشر قد ذهب قوم إلى أنه مؤونة الأرض، فهو كالخراج، يتولاه الأئمة، بخلاف سائر الزكاة.
قال: والذي رأيت في الجامع قال: أما صدقة الفطر فيعجبني دفعها إلى السلطان.
ثم قال أبو عبد الله - يعني الإمام أحمد - قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب ويشربون بها الخمور؟! قال: ادفعها إليهم.
وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: دفع الزكاة إلى الإمام العادل أفضل، وهو قول أصحاب الشافعي.
ثم ذكر ابن قدامة قول من يوجب دفعها إلى الإمام في كل الأموال، وقول من يوجب ذلك في الأموال الظاهرة كمالك وأبي حنيفة وأبي عبيد، مستدلين بما ذكرناه من قبل بآية: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ) (التوبة: 103). ومقاتلة أبي بكر والصحابة عليها...إلخ.
ورد عليهم بقوله: ولنا على جواز دفعها بنفسه أنه دفع الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فأجزأه، كما لو دفع الدين إلى غريمه، وكزكاة الأموال الباطنة، ولأنه أحد نوعي الزكاة، فأشبه النوع الأخر، والآية تدل على أن للإمام أخذها، ولا خلاف فيه، ومطالبة أبي بكر بها؛ لكونهم لم يؤدوها إلى أهلها، ولو أدوها إلى أهلها لم يقاتلهم عليها؛ لأن ذلك مختلف في إجزائه، فلا تجوز المقاتلة من أجله، وإنما يطالب الإمام بحكم الولاية والنيابة عن مستحقيها فإذا دفعها إليهم جاز؛ لأنهم أهل رشد، بخلاف اليتيم.(2/208)
وأما وجه فضيلة دفعها بنفسه، فلأنه إيصال الحق إلى مستحقيه، مع توفير أجر العمالة، وصيانة حقهم من خطر الخيانة، ومباشرة تفريج كربة مستحقها، وإغنائه بها، مع إعطائها للأولى من محاويج أقاربه وذوي رحمه، وصلة رحمه بها، فكان أفضل، كما لو لم يكن آخذها من أهل العدل.
قال ابن قدامة: فإن قيل: فالكلام في الإمام العادل؛ إذ الخيانة مأمونة في حقه.
قلنا: الإمام لا يتولى ذلك بنفسه، بل يفوضه إلى سعاته، ولا تؤمن منهم الخيانة، ثم ربما لا يصل إلى المستحق - الذي قد علمه المالك من أهله وجيرانه - شيء منها. وهم أحق الناس بصلته وصدقته ومواساته (انظر: المغني: 2/641-644- طبع المنار (الثالثة).
رأي الزيدية:
وعند الزيدية: أن ولاية الزكاة إلى الإمام ظاهرة وباطنة، ولا ولاية لرب المال فيها مع وجود الإمام العادل. وفسروا الظاهرة بزكاة المواشي والثمار ومثلها الفطرة والخراج والخمس ونحوها. والباطنة زكاة النقدين وما في حكمها كالسبائك وأموال التجارة. وهذا بشرط مطالبته بها.
واستدلوا بآية: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ) (التوبة: 103). وبحديث: تؤخذ من أغنيائهم ونحوه، وببعثه -صلى الله عليه وسلم- للسعاة. وبفعل الخلفاء. وهذا بخلاف الكفَّارات والنذور والمظالم فلا ولاية للإمام عليها، وإنما هي من شأن الأفراد، إلا أن يتقاعدوا عن إخراجها فيلزمهم الإمام بذلك.
والفرق: أن الزكاة ونحوها وجبت بإيجاب الله تعالى. بخلاف الكفَّارات ونحوها فإنها وجبت بسبب من المكلف.
وإذا ثبت أن أمر الزكاة إلى الإمام، فمن أخرج زكاته إلى غير الإمام بعد أن وقع الطلب من الإمام لم يجزه التي أخرجها ولزمه إعادته، ولو كان حال الإخراج جاهلاً بأن أمرها إلى الإمام أو بمطالبته بها؛ لأن جهله بالواجب لا يكون عذرًا في الإخلال به.(2/209)
واعترض بعضهم بأن الذي لا يُعذر بجهله هو الواجب المجمع عليه أما المختلف فيه فالجهل فيه كالاجتهاد، له وجه. وفي كون ولاية الزكاة إلى الإمام في الأموال كلها خلاف، ومقتضى هذا أن تجزئه مع الجهل بالحكم.
ورد على هذا بأن الخلاف المذكور إنما هو عدم الطلب من الإمام، فأما مع مطالبته فأمرها إليه بالإجماع، وتسليمها إليه لازم (شرح الأزهار وحواشيه: 1/527-529).
فإن لم يكن في الزمان إمام، أو كان موجودًا، لكن رب المال في غير جهة ولايته، فرَّقها المالك المرشد في مستحقها (والمرشد هو البالغ العاقل) وغير المرشد كالصبي والمجنون ومن في حكمهما - كالمغمي عليه والمفقود - يخرجها وليه بالنية (شرح الأزهار: 1/534-535).
رأي الإباضية:
وعند الإباضية: أمر الزكاة - إذا كان الإمام ظاهرًا - إلى الإمام، ولا يقسم غني زكاته بنفسه، وإن فعل أعادها، وتجزئه إن أمره الإمام بتفريقها، كذلك نائب الإمام وعامله.
وعندهم قول بإجزائها إذا أعطاها بغير أمر الإمام وأجاز فعله، وقول آخر بأنها تجزئه مطلقًا، إلا إن طالبه بها، فإنه يعيدها له، ولو طالبه بعد علمه بأنه قد أعطاها.
واستدل لهذا القول الأخير بأن ابن مسعود -رضي الله عنه- طلب الزكاة من زوجته، فلولا جواز إعطائها إذا أعطيت بغير إذن الإمام لم يطلبها.
وأما قولها: لا، حتى أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنما امتنعت مخافة ألا يجوز للمرأة أن تعطي زوجها وبنيها زكاتها.(2/210)
واستدل من أوجب إعطاءها للإمام بقول أبي بكر -رضي الله عنه- : (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه). فأباح قتالهم بل اعتقده فريضة واجبة على منعهم الزكاة منه، فشمل ما لو منعوها لكونهم قد أعطوها في أهلها، أو لكونهم أرادوا أن يعطوها لأهلها بأنفسهم، أو لكونهم لا يعطونها مطلقًا، إنكارًا لها، وهو الواقع في نفس الأمر إذ قالوا: لا نجعل في أموالنا شركاء، وارتدوا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص سببه، ولفظه هنا علق فيه القتال على المنع عمومًا (شرح النيل: 2/137-138).
رأي الشعبي والباقر وأبي رزين والأوزاعي:
وممن قال بدفعها إلى الإمام: الشعبي، ومحمد بن علي - الباقر - وأبو رزين، والأوزاعي؛ لأن الإمام أعلم بمصارفها، ودفعها إليه يبرئه ظاهرًا وباطنًا، ودفعه إلى الفقير لا يبرئه باطنًا؛ لاحتمال أن يكون غير مستحق لها، ولأنه يخرج من الخلاف، وتزول عنه التهمة. وكان ابن عمر يدفع زكاته لمن جاءه من سعاة ابن الزبير، أو نجدة الحروري، وقد روى عن سهيل عن أبي صالح قال: أتيتُ سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال، وأريد أن أخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى، فما تأمرني؟ فقال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر، فقال مثل ذلك، فأتيت أبا هريرة، فقال مثل ذلك، فأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك. ويروى نحوه عن عائشة -رضي الله عنها- (انظر: المغني: 2/642-643- طبع المنار (الثالثة).
موازنة وترجيح:
قبل أن أرجح وأختار ما أراه بعد هذه النقول من الأقوال والمذاهب، أود أن أشير إلى أن فقهاء المذاهب جميعًا - رغم اختلافهم على تفصيلات كثيرة - كالمتفقين على أمرين أساسيين:
الأول: أن من حق الإمام أن يطالب الرعية بالزكاة. في أي نوع من أنواع المال، ظاهر أو باطن، وخاصة إذا علم من حال أهل بلد أنهم يتهاونون في إيتاء الزكاة، كما أمر الله، وهذا ما أكده علماء الحنفية.(2/211)
ولهذا قال بعض الفقهاء: إن الخلاف في كون أمر الزكاة إلى الإمام إنما هو مع عدم الطلب منه، فأما مع مطالبته، فأمرها إليه بالإجماع (انظر: شرح الأزهار: 1/529).
وحتى لو قلنا بثبوت الخلاف، فإن مطالبته وإلزامه بها ترفع الخلاف، لأن حكم الإمام في أمر اجتهادي وتبنيه له يرفع الخلاف فيه كقضاء القاضي (انظر: البحر: 2/190).
الثاني: وهذا أمر قطعي لا ريب فيه ولا خلاف: أن الإمام أو ولي الأمر إذا أهمل أمر الزكاة ولم يطالب بها، لم تسقط التبعة عن أرباب المال، بل تبقى في أعناقهم، ولا تطيب لهم بحال، ويجب عليهم أداؤها بأنفسهم إلى مستحقيها؛ لأنه عبادة وفريضة دينية لازمة، بل لو اجترأ حاكم ما أن يقول: قد أعفيتكم منها، أو أسقطتها عنكم - في الأموال المجمع عليها - لكان قوله باطلاً وكلامه هدرًا، وظل كل مسلم مسئولاً عن إخراجها إلى أهلها.
وإذا ثبتت هاتان الحقيقتان باتفاق، فقد بقي هنا أمر اختلفوا فيه؛ وهو ما يتعلق بالأموال الباطنة، وهل ولايتها إلى الإمام أم إلى الأفراد.
والذي أراه أن النصوص والأدلة الشرعية، التي جعلت الزكاة من شئون الإمام أو الحكومة المسلمة، لم تفرق بين مال ظاهر ومال باطن، وأن الواجب على الحكومة المسلمة - متى وجدت - أن تتولى أمر الزكاة، تحصيلاً وتوزيعًا. هذا هو الأصل في تلك الفريضة، كما يتبين ذلك فيما يلي:(2/212)
( أ ) قال الإمام الرازي في تفسيره لآية: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) (التوبة: 60). "دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام ومَن يلي من قِبَله، والدليل عليه: أن الله -تعالى- جعل للعاملين سهمًا فيها، وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات، فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات، وتأكد هذا النص بقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) (التوبة: 103). فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يُعرف بدليل آخر. ويمكن أن يُتمسك في إثباته بقوله تعالى: (وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات: 19). فإذا كان ذلك الحق حقًا للسائل والمحروم، وجب أن يجوز دفعه إليه ابتداء" (التفسير الكبير للرازي: 16/114).
على أن هذه الآية التي ذكرها الرازي لا تصلح مُتَمَسَّكًا؛ لأن حق السائل والمحروم ثابت أيضًا في الأموال الظاهرة بلا شك، ومع ذلك دلت الدلائل على أنها من شأن الإمام لا من شئون الأفراد، كما بين هو نفسه.
( ب ) وقال المحقق الحنفي الشهير كمال الدين بن الهمام: إن ظاهر قوله تعالى: (خّذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ... الآية، يوجب حق أخذ الزكاة مطلقًا للإمام (يعني: في الأموال الظاهرة والباطنة). وعلى هذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخليفتان من بعده. فلما ولى عثمان، وظهر تغير الناس، كره أن يفتش السعاة على الناس مستور أموالهم، ففوض الدفع إلى الملاك نيابة عنه، ولم يختلف الصحابة عليه في ذلك. وهذا لا يُسقط طلب الإمام أصلاً. ولذا لو علم أن أهل بلد لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها (فتح القدير لابن الهمام: 1/487- طبع بولاق).(2/213)