فريضة الحج
وجواز النيابة فيها
للدكتور محمد عبد المقصود جاب الله
كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد النبي المصطفى الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد
فقد سألني أحد تلاميذي بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وهو الطالب (سيد حامد سيد إبراهيم) من سنغافورة عن الحج عن الغير وهل يجوز أو لا؟ وهل يجوز لمن يحج عن الغير أن يحج عن أكثر من واحد في سنة واحدة؟
وإني استخير بالله سبحانه وتعالى في الإجابة وهو حسبي ونعم الوكيل فأقول:- وبالله التوفيق-
الحج هو الركن الرابع من أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهي الصلاة والصيام والزكاة والحج لمن استطاع إليه سبيلا.
والأصل في وجوبه قول الله -سبحانه وتعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (من الآية 97من آل عمران).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان"س متفق عليه(1) .
__________
(1) البخاري1/47 ومسلم رقم (16) في الإيمان. انظر شرح السنة للبغوي1/17-18.(1/1)
وقد اتفق الفقهاء على أن الحج يجب على المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع, وشرط الاستطاعة (ملك الزاد والراحلة) وزاد الحنفية أن يكون صحيحاً, وفسر عكرمة الاستطاعة بالصحة, وتفسير الاستطاعة بملك الزاد والراحلة هو ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الدارقطني عن جابر وعبد الله بن عمر وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وأنس وعائشة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما السبيل ؟قال: "الزاد والراحلة" وروى ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: "جاء رجل إلى الني صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه! ما يوجب الحج ؟ قال: "الزاد والراحلة" رواه الترمذي وقال: "حديث حسن", وروى الإمام أحمد حدثنا هشيم عن يونس عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية (3: 97) {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال رجل: يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: " الزاد والراحلة"(1) .
فمن وجب عليه الحج بعد تحقق شروط الوجوب وشروط الأداء حسب ما فصله الفقهاء وجب عليه أداء الحج، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت اللّه تعالى ولم يحج بيت اللّه فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا"(2) .
الحج عن الغير:
اتفق العلماء على أنّ من عليه حجة الإسلام وهو قادر على أن يحج لا يجزئ أن يحج غيره عنه.
__________
(1) المغني لابن قدامة 3/220 المطبعة اليوسفية .
(2) خرجه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب وانظر فتح القدير للشوكاني 1/362-365 .(1/2)
أما إذا كان مريضا مرضا لا يرجى برؤه أو كان شيخا فانياً ووجد من ينوب عنه في الحج ومالاً يستنيبه به لزمه ذلك- عن أبي حنيفة وأَحمد والشافعي وقال مالك: لا حج عليه إلا أن يستطيع بنفسه لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وهذا غير مستطيع- ولأن هذه العبادة لا تدخلها النيابة مع القدرة فلا تدخلها مع العجز كالصوم والصلاة.
واستدل أبو حنيفة وأحمد والشافعي بحديث ابن عباس رضي اللّه عنهما "أن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أَفأحج عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع متفق عليه.
وفى رواية عن ابن عباسأن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فاللّه أحق بالوفاء" رواه البخاري. وهذا دليل على أن الناذر بالحج إذا مات ولم يحج أجزأه أن يحج عنه ولده وقريبه ويجزئه عنه.
واختلف الفقهاء هل من شرط من يحج عن الغير أن يحج عن نفسه أولا؟ جمهور الأمة يرون أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه لحديث ابن عباس الذي خرجه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان " أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال: "ومن شبرمة ؟" قال أخ لي أو قريب لي فقال: "حججت عن نفسك"؟ قال: لا، قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" (1) وجوز ذلك الحنفية محتجين بحديث الخثعمية (2) من غير أن يسألها هل حجت عن نفسها أو لا ؟ .
هذا على خلاف بين الفقهاء في جواز الاستئجار على الحج والطاعات كالأذان وتعليم القرآن ونحوه مما يختص فاعله أًن يكون من أهل القربَة ويتعدى نفعه.
__________
(1) سبل السلام 2/183_184 ، المغني لابن قدامة 3/227_228 .
(2) الاختيار 1/171 ، القوانين الوضعية ص147 .(1/3)
فعلى حين يرى الإمامان أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وابن حزم وعطاء والضحاك وابن قيس والزهري أنه لا يجوز ذلك وحرموا أخذ الأجرة وبه قال ابن مسعود محتجين بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرأ" خرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه الحاكم(1) . وأجاز الإمامان مالك والشافعي وكذلك ابن المنذر الاستئجار على الطاعات محتجين بحديث ابن عباس الذي خرجه البخاري وفيه "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب اللّه" (2) وأخذ أَصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم الجعل على الرقية.
وأرى أنه يجوز الاستنابة في الحج إذا كان من وجب عليه الحج مريضا مرضا لا يرجى برؤه أو مات بعد أن وجب عليه الحج وأوصى به ولا يجوز إلا عن هذين فقط أي من مات بعد الوجوب عليه ومن عجز عجزاً مستمرا إلى الموت.
ويكون ما يتقاضاه النائب عنه من باب النفقة لا من باب الأجرة- لأنه إذا وقع بأجرة لم يكن قربَة ولا عبادة والحج عبادة ولا يجوز الاشتراك في العبادة- فمتى فعله من أجل الأجرة خرج عن كونه عبادة فلم يصح- وإنما يصح على أنه نائب عمن وجب عليه الحج وما يدفع إليه من المال يكون نفقة لطريقه- فلو مات أو أحصر أو مرض أو ضل الطريق لم يلزمه الضمان- نص عليه أحمد لأنه إنفاق بإذن صاحب المال(3) .
هل يجوز لمن يحج عن الغير أن ينوب عن أكثر من واحد في عام واحد؟
__________
(1) سبل السلام 1/127 .
(2) نفس المصدر 3/79 .
(3) المغني لابن قدامة 3/231-232.(1/4)
بعد أن عرفنا أنه يجوز الاستنابة في الحج للعاجز عن أدائه بالموت أو بالعجز بسبب المرض الذي لا يرجى برؤه نقرر أنه يجوز أن ينوب الرجل عن الرجل والمرأة, والمرأة عن الرجل والمرأة باتفاق عامة العلماء- لم يخالف في ذلك إلا الحسن بن صالح- فإنه كره حج المرأة عن الرجل(1) ويرد عليه بحديث الخثعمية التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم "إن فريضة اللّه على عباده في الحج قد أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستملك على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال: "نعم" متفق عليه.
ولا يجوز أن ينوب عن أكثر من واحد في عام واحد بالنسبة لنسك الحج لأن الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. والوقوف بعرفات من ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة إلى فجر اليوم العاشر هو الركن الأعظم. لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة فمن وقف بها ليلا أو نهاراً فقد تم حجه ومن فاته عرفة بليل فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل"(2) وامتداد الوقوف إلى غروب الشمس واجب- فمن أفاض قبل ذلك وجب عليه دم عند أكثر أهل العلم- أبي حنيفة وأحمد وعطاء والثوري وأبي ثور وإبراهيم النخعي وعلقمة بن قيس والشافعي في رواية (3) .
__________
(1) المصدر السابق ص233.
(2) خرجه أبو داود وابن ماجه.
(3) انظر الجوهرة النيرة 1/157 ، الاختيار 1/150 ، بداية المجتهد 1/362 ، كفاية الأخيار 1/136 ، المغني لابن قدامة 3/414.(1/5)
ويرى الإمام مالك أن استمرار الوقوف إلى ما بعد غروب الشمس ركن, فإذا دفع قبل الغروب فلا حج له عنده(1) وحجته ما روى ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفات بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة وعليه الحج من قابل", قال ابن عبد البر: "لا نعلم أحدا من العلماء قال بقول مالك" (2) .
فكيف لمن أراد أن يحج عن أكثر من واحد أن يأتي بالواجب على قول جمهور الفقهاء أو يأتي بالركن على قول مالك رضي الله عنهم جميعاً.
وقبل هذا كله كيف يأتي بالإحرام والنية عنهم جميعاً في وقت واحد وهي شرط أو ركن على اختلاف بين الفقهاء بشرط أن يكون الإحرام من الميقات. وقد نصَ الحنفية على أن "من أحرم على آمِريه ضمن النفقة ومعناه أن رجلاً أمره رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة- فأهل بحجة عنهما فهي عن الحاج ويضمن النفقة، لأنه خالفهما، والمسألة على ثلاثة أوجه: 1- إما أن يكون أحرم عنهما جميعاً .2- أو عن أحدهما غير معين 30- أو أطلق, فإن نواهما جميعاً وهي مسألة الكتاب فقد خالفهما، لأن كل واحد منهما أمره أن يخلص له الحج وأن ينويه بعينه عند الإحرام فإن لم يفعل صار مخالفاً ولا يكون عن أحدهما إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فوقع عن المأمور"(3) .
ونص الحنابلة على أنه " إذا استنابه اثنان في نسك فأحرم به عنهما وقع عن نفسه دونهما لأنه لا يمكن وقوعه عنهما وليس أحدهما بأولى من صاحبه، وإن أحرم عن نفسه وغيره وقع عن نفسه، لأنه إذا وقع عن نفسه ولم ينوِها فمع نية أولى 000" (4) .
__________
(1) بداية المجهد 1/362، المغني لابن قدامة 3/114، الموطأ1/390، القوانين الفقهية ص152.
(2) بداية المجتهد/1/362 المغني لابن قدامة 3/114 الموطأ القوانين الفقهيةص152.
(3) تبين الحقائق للزيلعي2/236.
(4) المغني لابن قدامة3/236.(1/6)
ولا أعتقد هذا إلا قول سائر الفقهاء لحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟" قال: أخ لي أو قريب لي، فقال:" حججت عن نفسك؟" قال: لا، قال: "حج عن نفسك تم حج عن شبرمة". خرجه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان.
والحج هو القصد إلى معظم وهو البيت الحرام، ولو كان الجمع بين النيتين جائزا لقال له عليه الصلاة والسلام: "انو عن نفسك وشبرمة" ولكنه عليه الصلاة والسلام قال له: " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" فدل هذا على أنه لا يجوز الجمع بين نسك واحد وهو الحج عن اثنين في عام واحد.
وإن أفرد الإحرام من الميقات عن واحد ثم أتى بالأركان عنه فكيف يتسنّى أن يحرم عن آخر وآخر وآخر قبل التحلل من الإحرام الأول. ولا يكون التحلل إلاّ برمي جمرة العقبة الأولى ثم الذبح فالحلق الذي يكون به التحلل وهذا قطعاً يكون بعد طلوع فجر يوم النحر وبعد شروق الشمس على ما هو الراجع من أقوال الفقهاء.
وإذا أحرم قبل التحلل يكون رافضا للإحرام الأوّل كما إذا كان محرما بالعمرة ثم نوى الحج يكون رافضا للعمرة ولابد للإحرام لأهل مكة ومن في حكمهم للحج من الحرم أي أنه يجب عليه أَن يترك عرفات ويخرج إلى الحرم الذي حده التنعيم ثم يعود مرة أخرى إلى عرفات فيقف بها ثم يعود مرة أخرى ليحرم عن الآخر وهكذا يكون حجا مكوكيًّا لا إخلاص فيه ولا تفرغ فيه للدعاء وكل همه أن يحصِّل الإحرام عمن قبض منهم الذين يزيدون في بعض الأحيان على العشرة كما أخبرني السائل بذلك.
ثم إن الدماء التي تجب عليه لمجاوزة الميقات وهو ميقات أهل اليمن بالنسبة للهند وسنغافوره وهو (يلملم) ودم لتركه الوقوف بعرفات والإفاضة قبل الغروب على من تجب ؟ إنها تجب على النائب لأنه هو الذي تسبب في ذلك.(1/7)
فليتق الله من يفتي بجواز الحج والاستنابة عن أكثر من واحد في عام واحد حيث لا دليل له لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح أو فاسد. ولا يقال إنه اجتهاد منه، لأنه لا اجتهاد مع النص كما قرر ذلك العلماء.
وما يفعله إنما هو أكل لأموال الناس بالباطل وتضليل للسُّذّج من عوام المسلمين وتغرير بهم.
اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
هذا وبالله التوفيق.
وهو حسبي ونعم الوكيل.(1/8)