تقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الزواج فطرة الله، وسنة الحياة، يصونُ العين، ويحفظ الفرج، ويطفئ الشهوة، ويطرد الهواجس، ويعصم من الانحراف، إنه الطريق الفطري لمواجهة الميول الجنسية، ووسيلة الطهر والاستقامة والعفاف، فبه تسكن النفس، وتحصل المودة والرحمة، وتحفظ الصحة، وهو دعامة العمران، ورباط الأسرة وقوام المجتمع.
من أجل ذلك: حرصَ الإسلامُ أشدَّ الحرص على تيسير الزواج، وإزالة عقباته، وتذليل صعابه؛ حماية للمجتمع بأسره من الفساد والانحلال والتردي فِي مهاوي الرذيلة والضلال، ومن ثَمَّ رغَّب الإسلام فِي تقليل تكاليف الزواج، وشرعَ تعددَ الزوجات، وهيأ قيامَ الأسرة على أسس قوية متينة، وكفل لها أسباب سعادتِها واستمرارها، وأساليبَ مواجهة المشاكل داخلها؛ ليحول دون سقوطها.
وهنا: نلحظُ أن الإسلامَ حين حذر أولياءَ النساء أن يَردُّوا من يرضَون أخلاقهم ودينَهم؛ فإنه رغَّبَ الأولياءَ كذلك أن يعرِضوا بناتَهم وأخواتَهم على أهل الخير والصلاح، بل ذهب الإسلامُ إلى أبعدَ من هذا، فشرع للنساء أن يعرضن أنفسهن على الأكفاء، أهل البر والتقوى، وفق الضوابط الشرعية، من غير ما تَبَذُّلٍ أو امتهانٍ، وكلُّ هذا من أجل ترويج سلعة الزواج وتكثيره وتيسيره.
على أن عرضَ الرجل موليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح أضحى من السنن الغائبة المستغربة الَّتِي هجرها أكثر المسلمين، ومن ثَمَّ كانت هذه المساهمة فِي إحياء هذه السنة الثابتة فِي الإسلام.
وقد قسمت هذه الرسالة إلَى بابيْن:
F الباب الأول: عرض الرجل موليته على الرجل الصالح.
F الباب الثانِي: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.
والله أسأل أن تكون مباركة، ولوجهه خالصة، وللجنة مُدنية، وعن النار مبعدة.
والحمد لله رب العالمين.
أبو عبد الرحمن
خالد بن علي بن محمد العنبري(1/1)
السبت 21 جمادى الأولى 1424’
الفصل الأول
عرض الرجل موليته على الرجل الصالح في القرآن الكريم
عرض صالح مدين ابنته على موسى - عليه السلام - :
قال الله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}. [القصص:27].
هاهو موسى - عليه السلام - يخرج من مصر خائفًا يترقب، وينتهي به السفر الشاق الطويل إلَى ماء مدينَ، وهنالك يلقى ابنتي شيخٍ صالحٍ، قد بلغ من الكبر عتيًّا، فَرَقَّ لهما موسى، وسقى عنهما، ثُمَّ رجعتا سراعًا على غير العادة، وقَصَّا على أبيهما ما فعل موسى، فبعث إحداهما إليه لتدعوه، ثُمَّ عرض أبوهما عليه الزواج من إحداهما مقابل أن يرعى عنه ماشيته ثَمانية أعوام، فإن زادها إلَى عشرٍ فهو تفضلٌ من موسى وإحسانٌ.
وهكذا يعرض الشيخ الصالح فِي غير ما تَحَرُّجٍ ولا تلعثمٍ ولا التواءٍ ابنته على موسى المهاجر الغريب، فليس شرطًا أن يكون من بنِي وطنه أو جلدته، وإنَّما كافيه خُلقهُ ودينهُ، وحسبه قوته وأمانته، إنه يعرضُ بناءَ أسرة وإقامة بيت، وليس فِي هذا ما يدعو إلَى الخجل أو الحرج.
بيد أن المفسرين قد اختلفوا فِي هذا الشيخ الصالح الذي عرض ابنته على موسى - عليه السلام - ، من هو؟.
والمشهور: أنه شعيب.
والحق: أنه شيخ صالح من أهل مدين، ليس شعيبًا النَّبِي؛ لعدم تصريح القرآن بذلك، ثُمَّ إن شعيبًا لَم يكن معاصرًا لموسى، وإنَّما كان قبله بزمن غير قليل؛ لأن شعيبًا قال لقومه: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنْكُم بِبَعِيدٍ} [هود:89]. وكان هلاك قوم لوط فِي زمن الخليل - عليه السلام - بنص القرآن فِي غير ما آية، وبين الخليل وموسى مدة طويلة، تزيد على أربعمائة سنة.(1/2)
وقد قام البرهان الساطع على أن موسى - عليه السلام - قضى أتَمَّ الأجلين وأكملهما وأوفاهما، وذلك فيما أخرجه الإمام البخاري (1) عن سعيد بن جبير، قال: $سألني يهودي من أهل الحِيرة: أيُّ الأجلين (2) قضى موسى؟ قلتُ: لا أدري حَتَّى أقْدِمَ على حبر العرب (3) فأسأله. فقدمتُ، فسألتُ ابن عباس فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما -يعنِي: عشر سنين-، إن رسول الله (4) ج إذا قال فعل#.
وبِمثل هاتيك السهولة فِي الحياة، وذلك اليسر؛ سار المجتمع الإسلامي الأول، يبنِي بيوتًا سعيدة، ويقيم كيانات قوية متماسكة، كما تجلى ذلك فِي عرض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسعيد بن المسيب وغيرهما بناتَهم على أهل الخير والصَّلاح، وما هذا إلا ثَمرة من ثَمرات المنهج الإسلامي الميسر الشديد التيسير، الذي يأخذ فِي اعتباره فطرة هذا الكائن البشري بكل مقوماتِها، ويعرف مداخل النفس الإنسانية ومخارجها، ودروبَها ومنحنياتِها، وبِمثل هذا يحيا الإنسان حياة سعيدة آمنة، سهلة مريحة، يجد فيها على الخير أعوانًا.
إن هذا الجيل يعانِي من التعقيد وربقة التقاليد الباطلة، ولا مخرج إلا بتطبيق النهج الإسلامي كاملاً غير منقوص.
فحينذاك: تجد النفوسُ المسلمة الاسترواحَ والطمأنينة والعيشة الهنيةَ والحياة الطيبة بحق.
__________
(1) البخاري (5/342) (52) كتاب الشهادات، (28) باب: من أمر بإنجاز الوعد. رقم (2784).
(2) أي: المشار إليها فِي قوله تعالى: {ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ}.
(3) كان حبر العرب: ابن عباس، فِي مكة المكرمة.
(4) المراد برسول الله: من اتصف بذلك، ولَم يُرد رسولاًً بعينه.(1/3)
وبِهذه الآيةِ المباركةِ: سنَّ القرآن سُنَّة حميدة وطريقة مثلى فِي أمر النكاح، تسايرُ الفطرة وتبشر بوضاءة الحياة ويُسْرِهَا ونظافتها، فلا جرم أن نجد السلف الصالح وقد انتشر بينهم العرض وكثر، بحيث أصبح من مألوفات الأمور ومحاسن العادات، ونجد علماء الإسلام ينتزعون من هذه الآية دليلاً على مشروعيته وفضله.
قال القرطبِي -رحمه الله-: $فِي هذه الآية: عَرْضُ الولي بنته على الرجل، وهذه سنة قائمة، فمن الحسن عرضُ الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح# (1) .
وقال الشوكانِي -رحمه الله-: $فِي هذه الآية: مشروعية عَرْض ولي المرأة لَها على الرجل، وهذه سنة ثابتة فِي الإسلام# (2) .
FFFFF
الفصل الثاني
عرض الرجل موليته على الرجل الصالح في السُّنَّة المطهرة
F عمر يعرض ابنته:
أخرج البخاريُّ فِي باب: "عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير"، والنسائيُّ فِي باب: "عرض الرجل ابنته على من يرضى":
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن: (13/271) دار الكتاب العربِي.
(2) فتح القدير: (4/169).(1/4)
$أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله ج، فتوفِي بالمدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر فِي أمري. فلبثتُ ليالي ثُمَّ لقينِي، فقال: قد بدا لِي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق، فقلتُ له: إن شئتَ زوجتك حفصة بنت عمر. فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلَيَّ شيئًا، وكنتُ أوْجَدَ عليه منِّي على عثمان، فلبثتُ ليالي، ثُمَّ خطبها رسول الله ج، فأنكحتها إياه، فلقينِي أبو بكر فقال: لعلك وَجَدْتَ عليَّ حين عرضتَ عليَّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئًا. قال عمر: نعم. قال أبو بكر: فإنه لَم يَمنعنِي أن أرجع إليك فيما عرضتَ عليَّ إلا إنِّي كنتُ علمتُ أن رسول الله ج ذكر أن يتزوجها، فلم أكن أفشي سرَّ رسول الله ج، ولو تركها رسول الله ج قبلته# (1) .
لقد كان صحابة رسول الله ج جماعة فريدة مختارة، وقمة سامقة، ومنارة وضيئة، وستبقى هذه الجماعة نموذجًا يُحتذى، ومثلاً أعلى للقرون المسلمة، تَسْتَلْهِمُ منهم الفهم القويم والتطبيق الصحيح للإسلام، قرآنًا وسنةً.
ويبين هذا الحديث: بعض صفات هذه الجماعة المثلى، وأحوال هذا الجيل الفريد، إن عمر يعرضُ حفصة على عثمان، ثُمَّ أبِي بكر، فِي هدوء واطمئنان، من غير ما تَحَرُّجٍ أو تلعثمٍ، كالذي يعرضُ المألوفَ من الأمر، فما كان من عثمان إلا أن ارتقى إلَى الأفق الذي ارتقى إليه عمرُ من قبل، فيعتذر فِي هدوء وتقدير لعمر، فقد بدا له أن لا يتزوج، ولعله بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النَّبِي ج لحفصة، فصنع كما صنع أبو بكر من بعد، مِنْ تَرْكِ إفشاء ذلك؛ خشية أن يعدل رسول الله ج عن زواجها، فيقع فِي قلبِ عمرَ انكسارٍ، وهو السبب نفسه الذي جعل أبا بكر يصمت ولَم يرجع إلَى عمر بشيء.
__________
(1) البخاري: (9/81)، رقم (5122). النسائي: (6/78)، رقم (3248).(1/5)
بيد أن العجيب: أن ابنة أبِي بكر تحت رسول الله ج، ولَم يَمنع ذلك أبا بكر من معرفة ما عزم عليه النَّبِي ج، بل إنه ج أَعْلَمَ أبا بكر -والد زوجته- قبل أن يُعلم عمرَ، الذي سيكون الكلام معه فِي الخطبة.
وفِي ذلك يقول ابن بطال: $كان إسرار النَّبِي ج تزويج حفصة لأبِي بكر على سبيل المشورة، أو لأنه علم قوة إيْمان أبِي بكر، وأنه لا يتغير بذلك؛ بكون ابنته عند النَّبِي ج، وكتمان أبِي بكر لذلك؛ خشية أن يبدو للنَّبِيِّ ج فِي نكاحها أمر، فيقع فِي قلب عمر ما وقع فِي قلبه لأبِي بكر# (1) .
على أن وجْدَ عمر وتأثره مما جُبلت عليه الطبائع البشرية، وهو تأثر محدد مؤقت، لا يجرُّ إلَى منكر من القول أو الفعل، أما وَجْدُهُ أكثر على أبِي بكر؛ فَلِمَا كان بينهما من أكيد المودة؛ ولأن النَّبِي ج كان آخى بينهما؛ ولكون أبِي بكر سكت ولَم يُعد جوابًا بينما اعتذر عثمان -رضي الله تعالَى عنهم جميعًا-.
والحديث صريح الدلالة -كما يقول الحافظ فِي الفتح-: $على جواز عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيْرَه وصلاحه، وأنه لا استحياء فِي ذلك، وأنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجًا؛ لأن أبا بكر كان حينئذٍ متزوجًا# (2) .
فالمهم: أن يكون كُفْئًا صالِحًا.
ونستفيد كذلك من الحديث: أنه ينبغي على من عُرض عليه الزواج أن يقدر الولِيَّ العارضَ حق قدره، ويحمدَه على ذلك ويشكره؛ لاقتدائه بالسلف الصالح فِي هذا العرض؛ ولإحسانه الظن به حين عرضَ موليته عليه، فإذا لَم يرغب فِي المعروضة عليه؛ فليتلطف فِي الاعتذار للولِيِّ العارض؛ لئلا يعطلَ المرأةَ عن غيره.
__________
(1) عمدة القاري: (16/307).
(2) فتح الباري: (9/83).(1/6)
ويؤخذ من الحديث كذلك: أنه إذا تأيمت المرأة أو طُلقت؛ فمن الْحسن والْخَير للمرأة أن يسعى لَها وليها وأقاربُها فِي الزواج، وذلك بعرضها على أهل الْخَير والصلاح، لاسيما وقد كثرت العوانسُ والمطلقاتُ والأراملُ كثرةًً بالغةً فِي زماننا، بحيث أصبحن يُمثلن مشكلةًً اجتماعية، ليس لَها من حلٍّ سوى فتح أبواب الزواج على مصاريعها، وذلك بتيسير المهور، وتخفيف تكاليف الزواج كافة، وعرض الرجل موليته على أهل الْخَير والصلاح، والترغيب فِي التعدد، خاصةً بعد أن تضاعف عددُ النساء جدًّا فِي البلاد الإسلامية، فأصبح تعددُ الزوجات ضرورة اجتماعية ولا مفر؛ حماية للمجتمع بأسره من الفساد والانحلال والتردي فِي مهاوي الرذيلة والفاحشة.
وعلى الأرامل والمطلقات خاصة أن لا يضيعن فرصة للزواج، ولا يُفوِّتْنَ على أنفسهن وأسرهن ومجتمعهن الخير الكثير المترتب على الزواج، من صيانة المجتمع من الانحراف وشيوع الفاحشة، وزيادة نسل المسلمين وغير ذلك.
والمرأةُ العاقلةُ: هي الَّتِي تبادرُ إلَى الزواج بعد موت زوجها أو طلاقها؛ لكي تغضَ بصرها؛ وتحفظَ فرجَها، وليس فِي هذا -بالنسبة للأرملة- تنكرًا للزوج الأول، كيف وقد فعلتْه الصحابياتُ الفُضليات؟! فأزواج النَّبِي كُن كلُّهن ثيبات إلا عائشة.
F أسْماء بنت عميس:(1/7)
وهذه أسماءُ بنت عميس، أختُ أُمِّ المؤمنين ميمونة لأمها، أسلمت قبل دخول النَّبِي ج دار الأرقم، وهاجر بِها زوجُها جعفر بن أبِي طالب إلَى الحبشة، فولدت له هناك ثلاثة: عبد الله، ومُحمَّدًا، وعونًا، فلما هاجرت معه إلَى المدينة سنة سبعٍ، واستشهد يوم مُؤتة؛ تزوجَ بِها أبو بكر الصديق، فولدت له مُحمَّدًا وقت الإحرام بحجة الوداع بذي الحليفة، فقال لَها النَّبِي ج: $اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي#. ولَمَّا تُوفِي خليفةُ رسول الله وشيخ أصحابه: الصديق أبو بكر - رضي الله عنه - ؛ أوصى أن تغسله، فغسلته، ثُمَّ تزوجَها عليُّ بن أبِي طالب، فولدتْ له يَحيَى.
ومما يدل على رُجحان عقلها، وشدة ذكائها: ما أخرجه ابن سعد وابن السكن وأبو نعيم بسند صحيح عن الشعبِي، قال: $تزوجَ عليٌّ أسماء بنت عميس، فتفاخر ابناها: مُحمَّدُ بن جعفر، ومُحَمَّدُ بن أبِي بكر، فقال كل منهما: أنا أكرم منك، وأبِي خيرٌ من أبيك. فقال لَها عليٌّ: اقضِ بينهما. فقالت: ما رأيتُ شابًّا خيرًا من جعفر، ولا كهلاً خيرًا من أبِي بكر. فقال لَها عليٌّ: فما أبقيتِ لنا! ولو قلت غير الذي قلتِ لمقتُّكِ# (1) .
F أم كلثوم بنت عقبة:
وهاتيكَ أُمُّ كلثوم بنتُ عقبة، أسلمتْ بِمكةَ، وبايعتْ قبل الهجرة، وهي أول من هاجر من النساء بعد أن هاجرَ رسولُ الله ج إلَى المدينة.
__________
(1) طبقات ابن سعد: (8/285)، حلية الأولياء: (2/75)، سيَر أعلام النبلاء: (2/286)، الإصابة: (4/226).(1/8)
قال ابن سعد: $ولَم نعلم قرشيةً خرجت من بين أبويها مسلمةً مهاجرةً إلَى الله ورسوله إلا أم كلثوم بنت عقبة، خرجتْ من مكة وحدها، حَتَّى قدِمت المدينةَ فِي هُدْنة الحديبية، فخرج فِي أثرِها أَخواها، فقدما المدينة مِنَ الغد يوم قدمت، فأرادا أن يَرُدَّاهَا، فقالت أم كلثوم: يا رسول الله، أنا امراةٌ، وحالُ النساءِ إلَى الضعفاءِ ما قد علمت، فتردَنِي إلَى الكفار يفتنونِي فِي دينِي، ولا صبر لِي. فأنزل الله -تبارك وتعالَى-: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيْمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}. [الممتحنة:10]. ولَم يكن لَها زوجٌ بِمكةَ، فتزوجها زيدُ بن حارثة، فولدتْ له، وقُتِلَ يوم مؤتة، فتزوجَها الزبير بن العوام، فولدتْ له زينب، فلما طلقها؛ تزوجها عبدُ الرحمن بنُ عوف، فولدتْ له إبراهيمَ وحميدًا، ومات عنها، فتزوجها عمرو بن العاص، فماتت عنده -رضي الله عنها-# (1) .
F جميلةُ بنتُ عبد الله بن أُبَيٍّ:
$وتلك جميلةُ بنتُ عبد الله بن أُبَيٍّ، أسلمت، وبايعت، وكانت تحت حنظلة بن أبِي عامر، الملقب بغسيل الملائكة، فقتل عنها بأحد شهيدًا وهي حامل، فولدت له عبدَ الله بن حنظلة، فتزوجها ثابتُ بنُ قيس، فولدت له ابنه مُحمَّدًا، ثُمَّ اختلعتْ منه، فتزوجَها مالكُ بن الدُّخشم، ثُمَّ حبيبُ بن يَسَاف# (2) .
$وهذي سُكينةُ بنتُ الحسين بنِ علي بنِ أبِي طالب:
__________
(1) طبقات ابن سعد: (8/230).
(2) طبقات ابن سعد: (8/382)، فتح الباري: (9/310).(1/9)
تزوجها مصعبُ بنُ الزبير بنِ العوام، ابتكرها؛ فولدتْ له فاطمة، ثُمَّ قُتل عنها، فتزوجَها عبدُ الله بنُ عثمان بنِ عبد الله بنِ حكيم بن حزام، وولدتْ له ثلاثة، فمات عنها، فتزوجها زيد بنُ عمرو بنِ عثمانَ ابنِ عفانَ، فمات عنها، فتزوجها إبراهيمُ بنُ عبد الرحمن بن عوف# (1) .
F سُبيعة الأسلمية:
ومما يدل أيضًا على مسارعة نساء الصحابةِ - رضي الله عنهم - إلَى الزواج: ما أخرجه مالك فِي الموطإ، ورواه البخاري من طريقه، عن الْمِسْوَر بن مَخْرمة: $أن سُبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها (2) بليالٍ، وعدة الْمُتوفَّى عنها زوجها: أن تضع حملها كما قال تعالى: {وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. فجاءت النَّبِيَّ ج، فاستأذنته أن تُنكح، فأذن لَها، فنُكحت# (3) .
وفِي رواية الموطإ: $فقال لَها رسول الله ج: قد حللتِ، فانكحي مَنْ شئتِ# (4) .
قال ابن حجر: $فِي هذا الحديث: جوازُ تجمل المرأةِ بعد انقضاءِ عدتِها لمنْ يَخطِبُها؛ لأن فِي رواية الزهري الَّتِي فِي المغازي: "فقال: ما لك تجملت للخطاب". وفِي رواية ابن إسحاق: "فتهيأت للنكاح، واختضبت". وفِي رواية معمر، عن الزهري، عند أحمد: "فلقيها أبو السنابل وقد اكتحلت". وفِي رواية الأسود: "فتطيبت، وتصنعت"# (5) .
والحق: أن المرأة الَّتِي تَمتنع عن الزواج تفوِّت على نفسها فضلاً كبيرًا وثوابًا عظيمًا رتبه الشارع على خدمة الزوج، والقيامِ بشئونه، وغضِ بصره، وتحصين فرجه، وكذا ما تتعرضُ له من متاعب الحمل والنفاس والرضاع وتربية الأولاد.
__________
(1) طبقات ابن سعد: (8/475).
(2) زَوْجُهَا: سعد بن خولة، توفي فِي حجة الوداع، وهو ممن شهد بدرًا.
(3) تزوجت فتًى من قومها، اسمه: أبو البشر بن الحارث، ويقال: إن أبا السنابل تزوجها بعده.
(4) الموطأ: (2/590)، البخاري: (9/379)، (5320).
(5) فتح الباري: (9/385).(1/10)
ينضافُ إلَى هذا: السكنُ والمودةُ والرحمةُ والعفةُ والسترُ مِمَّا تجده المرأةُ فِي ظل الزواج.
فالحق: أن المرأة لا يمكنُ أن تستغنِيَ عن الرجل بأي حالٍ من الأحوال، وكذا الرجلُ لا غنًى له عن المرأة، فلا ينبغي لمن رُزقَتْ العقل والحكمة أن تَمتنع عن الزواج بحالٍ، فَقَمِنٌ وحريٌّ بِها أن لا ترد الرجل الصالح، بغض البصر عن كونه متزوجًا أو لا، المهم أن ترضى دينه وخلقه وكفى.
لقد زاد عدد النساء على عدد الرجال حَتَّى تجاوز نسبة أربع إلى واحد فِي بعض البلدان، فإذا قورن ذلك بانخفاض عدد الزيجات بالمؤشرات الحالية، فهذا أمر وبيل العاقبة، وخيم المغبة، لا تؤمن لواحقه وأعطابه المتوالية.
والإسلام: نظام إيجابِي، يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، يُشَرِّعُ لواقعه وضروراته، ويُشَرِّعُ لملابسات حياته المتغيرة فِي شتَّى البقاع، وشتَّى الأزمان، وشتَّى الأحوال.
وبإزاء هذا الكم الهائل المتضاعف من النساء؛ نجد أنفسنا أمام خيارين اثنين:
? فإما أن يكتفي كل رجل بامرأة وتبقى أكثر النساء بدون زواج.
? وإما أن نأخذ بنظام تعدد الزوجات الذي شرعه الإسلام.
ولا شك أن الخيار الأول ضد الفطرة، وضد الطاقة، فلا غنًى للمرأة عن حاجتها الفطرية إلَى الحياة الزوجية الَّتِي تلبِّي فيها مطالب الغريزة والجسد والروح، من السكن والمودة والأنس بالعشير.
ومن ثَمَّ فالخيار الإسلامي المتمثل فِي تعدد الزوجات هو الحل الأقوم لهذه المشكلة، هذا إلَى جانب ما فِي نظام تعدد الزوجات من منافع عظيمة، وفوائد جمة، للرجل والمرأة والمجتمع بأسره، ليس هنا محل تفصيلها.
F أم حبيبة تعرض أختها:(1/11)
أخرج البخاري أيضًا فِي باب: "عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير"، ومسلم، وغيرهما، عن أم حبيبة بنت سفيان -زوج النَّبِي ج-، قالت: $يا رسول الله، أنكح أختِي بنت أبِي سفيان، فقال: أوتُحبين ذلك؟ فقالت: نعم، لست لك بِمُخْلية (1) ، وأَحَبُّ مَنْ شاركنِي فِي خير أختِي. فقال النَّبِي ج: إن ذلك لا يحل لِي. قلتُ: فإنا نُحدَّث أنك تريد أن تنكح بنت أبِي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟!. قلت: نعم. فقال: لو أنَّها لَم تكن ربيبتِي فِي حجري (2) ما حلت لِي، إنَّها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتنِي وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن# (3) .
$هاهي ذي أم المؤمنين أم حبيبة، تعرض أختها على رسول الله ج، وكأن هذا كان قبل أم حبيبة بِحرمة الجمع بين الأختين، أو ظنت أن جوازه من خصائص النَّبِي ج# (4) .
وقد أخذ البخاري وغيره من هذا الحديث: جواز عرض الإنسان أخته على أهل الخير والصلاح.
وواضح أن مطابقة الحديث لترجمة الباب عند البخاري قول أم حبيبة: $يا رسول الله، أنكح بنت أبِي سفيان#.
وهكذا أورد البخاري عَرْضَ الإنسان ابنته على أهل الخير فِي الحديث الأول، وعَرْضَ الأخت فِي الحديث الثانِي.
F أعرابِي يعرض ابنتَه:
__________
(1) أي: لست بِمنفردة عنك، ولا خالية من ضرة.
قال ابن الأثير فِي النهاية (2/74): "أي: لَم أجدك خاليًا من الزوجات غيري".
(2) معناه: أنَّها حرام عليَّ لسببيْن:
-كونُها ربيبة, والربيبة: بنت الزوجة. -وكونُها بنت أخي فِي الرضاعة.
(3) البخاري: (9/43)، رقم (5101)، وذكر طرفًا منه برقم (5123)، مسلم: (2/1072)، رقم (1449).
(4) فتح الباري: (9/47 )، عمدة القاري: (16/284).(1/12)
أخرج أبو يعلى بإسناد قوي عن الفضل بن العباس، قال: $كنت رِدْفَ رسول الله ج وأعرابِيٌّ معه امرأةٌ حسناء، فجعلَ الأعرابِيُّ يعرضُها على رسولِ الله ج؛ رجاءَ أن يتزوجَها، قال الفضلُ: فجعلتُ ألتفتُ إليها، وجعلَ رسولُ الله ج يأخذُ برأسي فيلويَه# (1) .
إنه ينظر للمرأة بِحضرة رسول الله ج، وليتعلم الدعاةُ، والآمرون بالْمعروف، والناهون عن الْمنكر: الرفق والْحلم من رسول الله ج، فلم يقل له: يا خبيث، لا تنظر إلَى النساء. {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.
ويبدو أن هذي الواقعة كانت فِي حجة الوداع، وقت كان الفضل رديف النَّبِي ج من مزدلفة إلَى منًى، وأن المرأة كانت محرمة، والمحرمة لا يجب عليها تغطية وجهها، بيد أنه يجوز لَها أن تغطي وجهها بشيء غير النقاب، ويستحب ذلك عند مرور الرجال كما فِي حديث أسْماء: $كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نَمتشط قبل ذلك فِي الإحرام# (2) .
إن الحديث يشير إشارةً واضحةً، لا لبس فيها ولا غموض، إلَى أن العَرْضَ كان من مألوفاتِ الأمور ومحاسنِ العادات على عهد رسول الله ج، ويشير كذلك إلَى صراحته النظيفة، وأن ليس فيه من تَحَرُّجٍ أو إذلالٍ، أو ما يخدشُ الكرامةَ وعزةَ النفس.
أمٌّ تعرض ابنتها:
ولَم يكن الرجال فقط يقومون بعرض بناتِهم ومولياتِهم، بل النساء كذلك كن يفعلن هذا، فهذه أمٌّ تعرض ابنتها:
__________
(1) رواه أبو يعلى، قال الهيثمي فِي مجمع الزوائد (4/280): "ورجاله رجال الصحيح". وقال ابن حجر فِي الفتح (4/68): "إسناده قوي".
(2) إسناده صحيح: أخرجه ابن خزيْمة فِي صحيحه: (4/203)، وأخرجه الحاكم فِي المستدرك: (1/454)، وقال: "صحيح على شرط الشيخيْن ولَم يخرجاه". ووافقه الذهبِي، وانظر فتح الغفور بتضعيف حديث السفور "للمؤلف".(1/13)
أخرج أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن، عن أنس - رضي الله عنه - : $أن امرأة أتتِ النَّبِيَّ ج، فقالت: يا رسول الله، ابنةٌ لَي كذا وكذا ... -فَذَكََرَتْ من حُسْنها وجمالِها-، فآثرتُك بِها. فقال: قد قبلتها. فلم تزل تَمدحُها حَتَّى ذكرت أنَّها لَم تَصْدَعْ، ولَم تشتكِ شيئًا قط -يعنِي: أنَّها لَم تَمرض أبدًا- فقال: لا حاجة لِي فِي ابنتك# (1) .
ولعل النَّبِي ج لَمَّا عَلِمَ أنَّها لَم تمرض، ولَم تشتكِ؛ أدرك أن فِي دينها رقة، وفِي إيْمانِها ضعفًا؛ فردها، وهو القائل ج: $يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان فِي دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان فِي دينه رقةً ابتُليَ على قدرِ دينه# (2) .
__________
(1) إسناده حسن: أخرجه أحمد: (3/155)، وأبو يعلى: (7/232) من طريق عبد الله بن بكر السهمي، عن سنان بن ربيعة، عن الحضرمي، وقال الهيثمي فِي مجمع الزوائد (2/297): "رجاله ثقات".
قلت: الحضرمي هو ابن لاحق، قال ابن حجر: "لا بأس به". وسنان: حسن الحديث، ذكره الذهبِي فِي ذكر أسْماء مَنْ تُكُلِّمَ فيه، وهو مُوثَّقٌ، وقد قال فِي خطبة كتابه: "فهؤلاء حديثهم إن لَم يكن فِي أعلى مراتب الصحيح؛ فلا ينْزل عن رتبة الحسن". وسقط حرف [عن] فِي مسند أبِي يعلى بيْن "سنان بن ربيعة" و"الحضرمي".
(2) إسناده حسن: أخرجه أحمد: (1/172)، والترمذي: (2398)، والنسائي فِي الكبرى: كتاب الطب، وابن ماجه: (4023) من طريق عاصم بن أبِي النجود، عن مصعب بن سعد، عن أبيه به، وعاصم حديثه فِي مرتبة الحسن، وله شاهد منقطع من حديث أبِي سعيد الخدري.(1/14)
وكأن الحافظ الهيثمي ارتأى هذا الذي رأيت؛ فذكر فِي باب "فيمن لَم يَمرض" (1) حديث أنس السابق، وأعقبه بحديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - الذي يقول فيه: $دخل أعرابِي على النَّبِي ج، فقال النَّبِي ج: أخذتك أم ملدم؟ قال: وما أم ملدم (2) ؟ قال: حرٌّ يكون بين الجلد واللحم. قال: ما وجدت هذا قط. قال: فهل وجدت هذا الصداع؟ قال: وما الصداع؟ قال: عِرْقٌ يضرب على الإنسان فِي رأسه. قال: ما وجدت هذا قط. فلما ولَّى؛ قال رسول الله ج: مَنْ أحبَّ أن ينظر إلَى رجل مِنْ أهل النار فلينظر إلَى هذا# (3) .
$وليس معنَى هذا الحديث أن كل من عافاه الله من الأمراض يكون من أهل النار ولابد، ولكن النَّبِي ج أراد إعلام أمته أن المرء لا يكاد يتعرى عن الذنوب والمعاصي، وأن النار تَجِبُ له بذلك إن لَم يتفضل الرَّبTعليه بالعفو والمغفرة، وقد جعل الله الأمراض والمصائب وسائر أصناف البلاء سببًا للعفو والمغفرة# (4) .
FFFFF
الفصل الثالث
عرض الرجل موليته على الرجل الصالح في عهد السلف الصالح
لقد كان عرضُ الرجلِ ابنتَه أو أختَه على أهل الخير والصلاح مشهورًا بين السلف الصالح، يعملون به مِن غير ما حرجٍ أو ترددٍ، يجعلونه من معالي الأمور وأشرفها، ومحاسنِ العادات وأطيبها.
__________
(1) مجمع الزوائد: (2/297).
(2) هي الحمى.
(3) إسناده حسن: أخرجه أحمد: (2/232)، والبخاري فِي الأدب المفرد: (495)، والنسائي فِي السنن الكبرى: كتاب الطب، باب: عيادة النساء للرجال، وأخرجه البزار: (778- كشف الأستار)، وابن حبان: (5905- الإحسان- موارد الظمآن)، والحاكم فِي المستدرك: (1/347)، وقال: "صحيح على شرط مسلم". ووافقه الذهبِي، كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة به، ومحمد بن عمرو حديثه حسن، روى له البخاري مقرونًا بغيره، ومسلم فِي المتابعات.
(4) ذكر نحوه ابن حبان كما فِي الإحسان: (4/252).(1/15)
أخرج أبو نعيمٍ فِي "حليةِ الأولياء"، والذهبِيُّ فِي "سير أعلام النبلاء" عن كثير بن المطلب بن أبِي وداعة قال: $كنتُ أجالسُ سعيدَ بن المسيب، ففقدنِي أيامًا، فلما جئته، قال: أين كنت؟ قلتُ: تُوفِيَت أهلي؛ فاشتغلت بِها -يعنِي: بتجهيزها وغسلها ودفنها-. قال سعيد: ألا أخبَرتَنا فشهدناها. ثُمَّ قال: هل استحدثتَ امرأة؟ لا ينبغي للرجل أن يجلس بدون زوجة، لاسيما هذا الزمان. فقلتُ: يرحمك الله، ومن يزوجنِي وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا. فقلت: أوتفعل؟! قال: نعم. ثُمَّ تَحمَّد سعيدٌ، وصلى على النَّبِي ج، وزوجنِي على درهمين أو ثلاثة، فقمتُ وما أصنعُ من الفرح، فصرتُ إلَى منْزلي، وجعلتُ أتفكرُ فيمن أستدين، فصليتُ المغربَ إلَى منْزلي، وكنتُ وحدي صائمًا، فقدمت عشائي أُفطر، وكان خبزًا وزيتًا، فإذا بابِي يُقرع.
فقلتُ: من هذا؟
فقال: سعيد.
قال ابن أبِي وداعة: فأفكرت فِي كل واحد اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لَم يُرَ أربعيْن سنة إلا بيْن بيته والمسجد، فخرجتُ، فإذا سعيدُ بن المسيب، فظننت أنه قد بدا له -يعنِي: أنه راجع أمر زواج ابنته-، فقلت: يا أبا مُحمَّد، ألا أرسلت إلَيَّ فآتيك؟
قال: لا، أنت أحقُّ أن تؤتى، إنك كنت رجلاً عزبًا، فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك.
فإذا هي قائمةٌ من خلفه فِي طوله، ثُمَّ أخَذَ بيدِها، فدفَعَها فِي الباب، وردَّ الباب، وانصرف، فسقطت المرأةُ من الحياء، فاستوثقتُ من الباب، ثُمَّ وضعتُ القَصعةَ فِي ظل السراج لكي لا تراه، ثُمَّ صعدت إلَى السطح، فرميتُ الجيران، فجاءونِي.
فقالوا: ما شأنك؟
قلت: ويحكم! زوجنِي سعيد بن المسيب ابنته اليوم، وقد جاء بِها على غفلة.
فقالوا: سعيد بن المسيب زوجك؟!
قلت: نعم، وهاهي فِي الدار.(1/16)
قال ابن أبِي وداعة: فنَزلوا هم إليها، وبلغَ أمي، فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلَى ثلاثة أيام. قال: فأقمتُ أيام، ثُمَّ دخلت بِها، فإذا هي من أجمل الناس، وإذا هي أحفظُ الناس لكتاب الله، وأعلمُهُم بسنةِ رسول الله ج، وأعرفهم بحق الزوج، فمكثت شهرًا لا يأتينِي سعيد، ولا آتيه، فلما كان قُرْب الشهر؛ أتيت سعيدًا وهو فِي حلقته، فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ السلام، ولَم يكلمْنِي حَتَّى تَقَوَّضَ أهلُ المجلس، فلما لَم يبقَ غيري؛ قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خيرًا يا أبا مُحَمَّد، على ما يُحب الصديق، ويكره العدو. قال: إن رابك شيء فالعصا.
قال ابن أبِي وداعة: فانصرفتُ إلَى منْزلي، فوجه إلَيَّ بعشرين ألف درهم!.
قال الراوي عبد الله بن سليمان: وكانت بنتُ سعيدِ بن المسيب خطبها عبدُ الملك بن مروان -الخليفةُ الأمَوي- لابنه الوليد بن عبد الملك حين ولاه العهد، فأبَى سعيد بن المسيب أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حَتَّى ضربه مائة سوط فِي يوم بارد، وصبَّ عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف# (1) .
إن هذه القصة مليئة بالعظات والعبر، وتعكس يُسْرَ حياة السلف وهدوءها وهناءها، ولا أقول: متَى نرجع إلَى ما كانوا عليه؟ وإنَّما أقول: متَى نرتقي إلَى ما كانوا عليه حَتَّى نسعد بالحياة كما سعدوا؟.
وقد قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك.
قال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبي.
فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان إني قد هويتك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني.
فأحضرت أباها -وكان فقيرًا- فزوجني منها وفرح بذلك.
فلما دخلت إليها رأيتها عوراء عرجاء مشوه.
وكانت لِمحبتها لي تَمنعنِي من الخروج، فأقعد حفظًا لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئًا، وكأني على جمر الغضا من بغضها.
__________
(1) حلية الأولياء: (2/167)، سير أعلام النبلاء: (4/233).(1/17)
فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتَّى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قلبها (1) .
FFFFF
تمهيد
لقد ارتفع الإسلامُ بالمرأة إلَى مستوًى رفيعٍ طاهرٍ كريْمٍ، ووثب بِها وثبةً كبرى فريدةً فِي تاريخ البشرية جمعاء، فأنشأ لَها من القيم والحقوق والاعتبارات والضمانات ما يكفل لَها حياةً كريْمةً فاضلة سهلة ميسرة، تجد فيها السعادة والهناء وراحة البال. ...
وإذا كان الأصل أن الرجل هو الذي يتولى اختيار شريكة حياته، وذلك بأن يخطبها من وليها، فترضى المرأة، أو تأبَى، ولا يجوز إجبارها على الزواج بِحالٍ.
وفِي ذلك يقول ابن قيم الجوزية بعد أن ذكر الأحاديث الصحيحة الدالة على عدم جواز إنكاح المرأة بغير رضاها: $لا تُجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها ... فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها فِي أقل شيء من مالِها إلا برضاها، ولا يُجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها ... ومعلوم أن إخراج مالِها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بِمن لا تختاره بغير رضاها ... ولا يَخفى مصلحة البنت فِي تزويْجها بِمن تَختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لَها به، وحصول ضد ذلك بِمن تبغضه، وتنفر عنه، فلو لَم تأتِ السُّنَّةُ الصحيحة بِهذا القول؛ لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره# (2) .
فهاهي وثبةٌ أخرى بالمرأة حين يشرع لَها الإسلامُ أن تختارَ هي بنفسها الرجلَ الذي ترغبُ فيه، وذلك بأن تعرضَ نفسَها عليه؛ لتستشرف معه حياة أفضل، يتعاونان معًا فِي ظلها على السعادة والبر والتقوى.
__________
(1) صيد الخاطر لابن الجوزي (349).
(2) زاد المعاد: (5/97).(1/18)
وليس معنَى هذا أن تَخلعَ المرأةُ لباس حيائها، أو تَمتهن كرامتَها، بل تعرضُ نفسها وفق الضوابط الشرعية والآداب المرعية، وعلى من يُقدِّر هذا العرض منها، ويحمدُها عليه، ويرتفعُ إلَى الأفق الذي ارتفعت إليه هي من قبل، حين عرضت عليه نفسها للزواج بِها، فيقبلها قبولاً حسنًا، أو يردها ردًّا جميلاً.
إنَّها بعضُ الآفاق السامية الَّتِي يرفع الإسلامُ قلوبَ المسلمين إليها، ويروضهم عليها.
على أن هذا الأمر لا تقومُ به إلا من جرَّدت نفسَها لله، وأُشربت الإيْمان فِي قلبها، فاستسلمت للهTظاهرًا وباطنًا، فهو أمر يدل على فضلها، وكرم نفسها، وقوة إيْمانِها، وقُربِها من ينابيع النبوة الصافية.
فما أدلة جواز ذلك؟.
وكيف تقوم المرأة بعرض نفسها؟.
وماذا يعقب هذا الاختيار؟.
FFFFF
الفصل الأول
عرض المرأة نفسها في السيرة والسُّنَّة المطهرة
F خديْجة تعرضُ نفسَها على رسول الله ج:
هذه خيرُ نساء الأرض فِي عصرِها، خديْجةُ بنتُ خُويلد -رضي الله عنها- تَختار خير الأولين والأخرين ج زوجًا لَها، رغبة فِي صلاحه وأمانته وحسن أخلاقه، فتعرض عليه نفسها.
وفِي ذلك يقول ابن إسحاق: $وقد كانت خديْجة بنتُ خويلد امرأة تاجرة، ذاتَ شرف ومال، تستأجرُ الرجالَ فِي مالِها، وتضاربُهم إياه بشيءٍ تجعله لَهم، وكانت قريش قومًا تُجَّارًا، فلما بلغها عن رسول الله ج ما بلغها: من صدق حديثه، وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه؛ بعثت إليه، فعرضت عليه أن يَخْرجَ فِي مالٍ لَها إلَى الشام تاجرًا، وتُعْطِيَهُ أفضلَ ما كانت تعطي غيرَه من التجار، مع غلامٍ لَها، يقال له: ميسرة. فقبِله رسول الله ج منها، وخرجَ فِي مالِها ذلك، وخرج معه غلامُها ميسرة حَتَّى قدم الشام.(1/19)
وكانت خديجة امرأةً حازمة شريفةً لبيبة، فلما أخبرها ميسرة بِما أخبرها به؛ بعثت إلَى رسول الله ج، فقالت له: يابن عم، إنِّي قد رغبتُ فيك؛ لأمانتك؛ وحسنِ خُلقِكَ؛ وصدقِ حديثك. ثُمَّ عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذٍ أوسطَ نساء قريشٍ نسبًا، وأعظمَهن شَرَفًا، وأكثرَهن مالاً، كل رجال قومها كان حريصًا على ذلك منها، فلما قالت ذلك لرسول الله ج؛ ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمُّهُ حمزةُ بنُ عبد المطلب - رضي الله عنه - حَتَّى دَخَلَ على خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوجها#. ...
قال ابن هشام: $وأصدقها رسول الله ج عشرين بكْرةً، وكانت أول امرأة تزوجها رسولُ الله ج، ولَم يتزوج عليها غيرَها حَتَّى ماتت# (1) .
وروى أميرُ المؤمنينَ فِي الحديث مُحَمَّدُ بنُ إسماعيل البخاري، فِي باب: "عرض المرأةِ نفسها على الرجل الصالح" حديثين اثنين:
الأول: عن ثابت البنانِي قال: $كنتُ عند أنسٍ وعنده ابنة له، فقال أنس: جاءت امرأة إلَى رسول الله ج تعرض عليه نفسها، قالت: يا رسول الله، ألك بِي حاجة؟ قالت بنت أنس: ما أقل حياءها، واسوءتاه! قال والدها أنسٌ: هي خيرٌ منك، رغبت فِي النَّبِي ج؛ فعرضت عليه نفسَها# (2) .
الثانِي: عن سهلِ بن سعيد الساعدي، قال: $جاءت امرأةٌ إلَى رسول الله ج، فقالت: يا رسول الله، جئتُ أَهَبُ لك نفسي. فنظرَ إليها رسولُ الله ج، فصعَّد النظرَ فيها، وصوَّبه (3) ، ثُمَّ طأطأ رسولُ الله ج رأسَه، فلما رأتِ المرأةُ أنه لَم يقضِ فيها شيئًا؛ جلست.
فقام رجل من أصحابه، فقال: يا رسول الله، إن لَم يكن لك بِها حاجةٌ فزوجنيها.
فقال: فهل عندك من شيء؟
قال: لا والله يا رسول الله.
فقال: اذهب إلَى أهلك، فانظر هل تجدُ شيئًا؟ فذهب ثُمَّ رجع.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام: (1/212 - 215).
(2) البخاري: (9/80)، حديث: (5120).
(3) صعد النظر وصوبه: أي: نظر إلَى أعلاها وأسفلها، يتأملها. انظر النهاية: (3/30).(1/20)
فقال: لا والله، ما وجدتُ شيئًا.
فقال رسولُ الله ج: انظر ولو خاتَمًا من حديد.
فذهب ثُمَّ رجع، فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتَم من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل: ما له رداء- فلها نصفه.
فقال رسول الله ج: ما تصنعُ بإزارك؟! إن لبستَه لَم يكن عليها منه شيء، وإن لبسَتْه لَم يكن عليك منه شيء. فجلسَ الرجل حَتَّى طال مَجلسه، قام، فرأه رسول الله ج موليًا، فأمر به فدُعي، فلما جاء، قال: ماذا معك من القرآن؟
قال: معي سورةُ كذا وسورةُ كذا -عَدَّدَهَا-.
فقال: تقرؤهن عَنْ ظهر قلب؟.
قال: نعم.
قال: اذهب فقد مُلِّكْتهَا بِما معك من القرآن# (1) .
والأحاديث تدلُّ دلالة واضحة على أن اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله ج كن أكثرَ من واحدةٍ كما روى البخاري وغيره عن عائشة، قالت: $كنت أغار من اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله ج، وأقول: أتَهبُ المرأةُ نفسها ... # (2) الحديث.
غير أن النَّبِي ج لَم يستنكح امرأة وهبت نفسها، فلم يكن عنده ج امرأة إلا بعقد نكاح أو ملك يَمين، على الراجح من أقوال أهل العلم؛ لأن ذلك مردودٌ إلَى مشيئته كما قال تعالَى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
وروى ابن أبِي حاتِم وابن جرير (3) بسند حسن -كما يقول ابن حجر (4) - عن ابن عباس، قال: $لَم يكن عند رسول الله ج امرأة وهبت نفسها له#.
__________
(1) البخاري: (9/80)، حديث: (5121). مسلم: (2/1041)، حديث: (1425)، وهذا لفظه.
(2) البخاري: (8/385)، حديث: (4788).
(3) تفسير الطبري: (12/23).
(4) فتح الباري: (8/386).(1/21)
ولعلَّ الحكمة فِي ذلك -والله أعلم-: خشية النَّبِي ج أن يكثر اللائي يهبن أنفسهن لو استنكح امرأة منهن، فيردَّهنَّ؛ فيحزنَّ، أو يقبلهن؛ فتكثر أزواجه جدًّا؛ فتزداد شواغله ومسئولياته، فلا ريب أن كثرة كاثرة من الصحابيات الجليلات يردن أن يحظين بشرف الزواج منه ج، فيكنَّ أمهات للمؤمنين، وأزواجًا للنَّبِيِّ الأمين فِي جنات النعيم.
مهما يكن من أمر؛ فإن من لطائف البخاري -كما يقول ابن المنير-: $أنه لَمَّا عَلِمَ الخصوصية فِي قصة الواهبة؛ استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه، وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح؛ رغبة فِي صلاحه، فيجوز لَها ذلك# (1) .
على كل حال: فإن حوادث العَرْضِ هذه خلخلت بعض المقولات الَّتِي كانت فِي عداد المسلمات، وفِي طليعتها: أن خطبة المرأة للرجل بِعَرْضِ نفسها عليه؛ عَيْبٌ، لا يَجوز مُجرد التفكير فيه.
F الفرق بين العرض والهبة.
على أن ثِمةَ فرقًا بين الهبة والعرض:
فالْهبةُ: تكون بغير مهر، ودون ولِي، ولا يَجوزُ لغير النَّبِي ج.
بِخلاف العرضِ: فلابد فيه من مهرٍ وولِي، ويجوزُ لغير النَّبِي ج.
قال ابن دقيق العيد: $وقولُها: "وهبتُ نفسي لك" مع سكوت النَّبِي ج: دليلٌ لِجواز هبة المرأة نكاحها له ج كما جاء فِي الآية، فإذا تزوجها على ذلك صح النكاح من غير صداقٍ: لا فِي الحال، ولا فِي المآل، ولا بالدخول، ولا بالوفاة، وهذا هو موضع الخصوصية، فإن غيره ليس كذلك، فلابد من المهر فِي النكاح، إما مسمًّى، أو مهر المثل# (2) .
فالعرض: نكاح شرعي، تَعرضُ المرأةُ فيه نفسَها على من تراه كفئًا صالِحًا، بِمهرٍ وولِيٍّ.
F أقوال العلماء فِي دلالات أحاديث اللائي وهبن أنفسهن:
__________
(1) المصدر السابق: (9/81).
(2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: (4/47).(1/22)
قال ابن حجر: $وفِي الحديثين دلالة على جواز عرض المرأة نفسها على الرجل، وتعريفه رغبتها فيه، وأن لا غضاضة عليها فِي ذلك، وأن الذي تعرض المرأةُ نفسَها عليه بالاختيار، لكن لا ينبغي أن يصرِّح لَها بالرد، بل يكفي السكوت -أي: سكوته-؛ لأن هذا السكوت أليَن فِي صرف المرأة، وأأدب من الرد بالقول# (1) .
قال العينِي: $فيه دليلٌ على جواز عَرْضِ المرأة نفسها على الرجل الصالح، وتعرف رغبتها فيه؛ لصلاحه وفضله؛ أو لعلمه وشرفه؛ أو لخصلة من خصال الدين، وأنه لا عارٌ عليها فِي ذلك، بل ذلك يدلُّ على فضلها، وبنت أنس - رضي الله عنه - نظرت إلَى ظاهر الصورة، ولَم تدرك هذا المعنَى حَتَّى قال أنس: "هي خيرٌ منك". وأما الَّتِي تعرض نفسها على الرجل؛ لأجل غرضٍ من الأغراضِ الدنيوية؛ فأقبحُ ما يكون من الأمر، وأفضحه# (2) .
قال ابن دقيق العيد: $فِي الحديث دليل على عرض المرأة نفسها على من تُرجى بركته# (3) .
قال القسطلانِي: $فيه جوازُ عرضِ المرأة نفسها على الرجل الصالح، وأنه لا عار عليها فِي ذلك، بل فيه دلالة على فضيلتها، نعم، إن كان لغرض دنيوي؛ فقبيحٌ# (4) .
قال المهلب: $فيه أن على الرجل أن لا ينكحها إلا إذا وجد فِي نفسه رغبة فيها؛ ولذلك صعَّد النظر فيها؛ وصوَّبه# (5) .
F حكم عرض المرأة نفسها للزواج بين الجواز والاستحباب:
وإذا كان هؤلاء صرحوا بالجواز، فإن الإمام النووي قد صرح بالاستحباب.
فقال -تعليقًا على حديث سهل-: $فيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح؛ ليتزوجها# (6) .
__________
(1) فتح الباري: (9/81).
(2) عمدة القاري: (16/305).
(3) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: (4/47) .
(4) إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري: (8/44).
(5) فتح الباري: (9/81).
(6) صحيح مسلم بشرح النووي: (9/212).(1/23)
واستحسن ذلك ابن العربِي والقرطبِي فقالا: $فمن الحسن عرض الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح؛ اقتداءً بالسلف الصالح# (1) .
بيد أن الجواز أقرب للأدلة منها للاستحباب؛ إذ الأخير يحتاج إلَى أمر زائد عما تفيده.
مهما يكن من أمر: فالأحاديث تشير إشارةً واضحةً، لا لبس فيها ولا غموض، إلَى أن العَرْضَ كان من مألوفاتِ الأمور ومحاسنِ العادات على عهد رسول الله ج، وتشير كذلك إلَى صراحته النظيفة، وأن ليس فيه من تَحَرُّجٍ أو إذلالٍ، أو ما يخدشُ الكرامةَ وعزةَ النفس.
FFFFF
الفصل الثاني
ضوابط عرض المرأة نفسها للزواج
وإذا كان الشرع المطهر قد أباح للمرأة المسلمة أن تعرض نفسها للزواج على الرجل الذي ترغب فيه، وترضى القران به، وجعل ذلك من حقوقها المشروعة -فإنه فِي الوقت نفسه شرع لذلك ضوابط نافعة، شأنه فِي هذا شأن جميع تشريعاته الحكيمة العادلة.
أهم هذه الضوابط: ما تتابع عليه جماعة العلماء من القطع بكون الرجل الذي تَعْرِضُ عليه نفسها للزواج ليس فاسقًا أو فاجرًا، بل موصوفًا بالدين والأخلاق، أو بعبارة العينِي: $أن يكون ذلك لصلاحه وفضله؛ أو لعلمه وشرفه؛ أو لخصلة من خصال الدين# (2) .
وإذا رجعنا إلَى ما سبق من النقولات عمن نقلنا؛ ألفينا هذا الشرط فِي جميعها.
ويؤكد ذلك أيضًا: تراجم أو عناوين الأبواب الَّتِي جاءت تحتها الأحاديث السابقة فِي كتب السنة.
فإمام المحدثين مُحَمَّدُ بن إسماعيل البخاري -على سبيل المثال- جعل ترجمة الباب الثالث والثلاثين من كتاب النكاح: "باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح".
قال ابن عابدين -من الفقهاء الأحناف-: $والمرأة تختار الزوج الدَّينَ، الحسن الخلق، الجواد الموسر، ولا تتزوج فاسقًا# (3) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربِي: (3/1467)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبِي: (13/271).
(2) عمدة القاري: (16/305).
(3) حاشية ابن عابدين: (3/9).(1/24)
أما إذا كان هذا العرض من المرأة ليس من أجل دين أو خلق أو علم أو تقوى؛ فقد ذمه العلماء جدًّا، وقَبَّحُوه!.
يقول العينِي: $وأما الَّتِي تعرض نفسها على الرجل؛ لأجل غرضٍ من الأغراضِ الدنيوية؛ فأقبحُ ما يكون من الأمر، وأفضحه# (1) .
وثانِي هذه الشروط: أن يكون العرض بطريقة شرعية، فلا يجوز أن تختلي به؛ لتخبره برغبتها فِي الزواج منه، أو أن تتخلى عن حيائها حين تعرضُ عليه نفسها، أو نحو ذلك مما لا ينبغي.
كما أن الأمر يحتاج منها إلَى مراعاة الأعراف والعادات السائدة فِي مجتمعها؛ وذلك لتفادي المفاسد الَّتِي قد تترتب على عَرْضِ نفسها على أحد الرجال للزواج، فيمكن أن يتم هذا العرض للزواج بطرائق عدة، كالاتصال بأخت الرجل، أو إحدى قريباته؛ لكي ترغبه فِي خطبتها، أو ليكن ذلك بواسطة أحد الموثوق فيهم من أهلها، كأبيها أو أخيها أو وليها، فمن حق المرأة على وليها أن يبحث لَها عن زوج صالح، وأن يعرضها عليه.
تبين إذن: أنه يمكن أن يتم هذا العرض بطرائق عدة، كالاتصال بأخت الرجل، أو إحدى قريباته، أو أن يكون هذا العرض عن طريق أبيها أو أخيها أو وليها أو أحد من الصالحين، حفاظًا على حيائها، وصونًا لَها عن عرض نفسها مباشرة على الرجل، فإن لَم تجد وسيلة إلا عرض نفسها بنفسها؛ فلا حرج.
FFFFF
الفصل الثالث
ما يتبع عرض المرأة نفسها للزواج
إذا عرضت المرأة نفسها للزواج مِمن ترغب فيه؛ لصلاحه؛ أو أخلاقه؛ أو علمه؛ أو أدبه، وأخبرته بذلك بطريقة شرعية؛ فينبغي أن يتبع ذلك ما يلي:
__________
(1) عمدة القاري: (16/305).(1/25)
فبالنسبة للمرأة: فعليها أن تكتفي بِهذا العرض، ثُمَّ لتتولى عن هذا الرجل، وتبتعد عنه؛ لتدع له فرصةً للدراسة والتفكير والاستخارة، فلا يليق بِها مثلاً أن تلح عليه، بل عليها أن تنصرف عنه كليةً حَتَّى ينتهي الأمر سلبًا أم إيجابًا، فلم يبق عندها ما تفعله، حَتَّى فِي حالة رضاه بِهذا العرض، فعليه أن يتقدم إلَى وليها؛ لخطبتها؛ وإتْمام مشروع الزواج بِها.
أما بالنسبة للرجل: فعليه أن يرتقِيَ إلَى الأفق الذي ارتقت إليه هي من قبل، ويُقَدِّرَ هذا العرض حق قدره، ولا يستهجنه، فيحسن الظن بِها، بل يشكرها على هذا العرض الذي يدل على فضلها، وكرم نفسها، وقوة إيْمانِها، واقتدائها بنساء السلف الصالح.
ثُمَّ يتبع ذلك أمور:
أن ينظر من بدنِها إلَى ما يدعوه إلَى نكاحها، فإن رسول الله ج صعَّد النظرَ فِي المرأة الَّتِي وهبت نفسها، وصوَّبه، ثُمَّ طأطأ رأسَه.
قال النووي -رحمه الله-: $أما صعَّد؛ فبتشديد العين، أي: رفع، وأما صوَّب؛ فبتشديد الواو، أي: خفض، وفيه دليل لجواز النظر لمن أراد أن يتزوج امرأة، وتَأَمُّله إياها# (1) .
نقل الأمير الصنعانِي عن ابن التين -رحمه الله- قوله: $دل الحديث على جواز النظر من الرجل وإن لَم يكن خاطبًا؛ لإرادة التزوج.
قال الصنعانِي: يريد أنه ليس جواز النظر خاصًّا للخاطب، بل يجوز لمن تخطبه المرأة، فإن نظره ج إليها دليل أنه أراد زواجها بعد عرضها عليه نفسها، وكأنه لَم تعجبه فأعرض عنها# (2) .
فإذا لَم يجد فِي نفسه رغبة فِي الزواج بِها؛ فلا ينبغي له أن يقدم على زواجها.
قال المهلب: $فيه أن على الرجل أن لا ينكحها إلا إذا وجد فِي نفسه رغبة فيها، ولذلك صعَّد النظر فيها، وصوَّبه# (3) .
ثُمَّ هو مخير بين موقفين:
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: (9/212).
(2) سبل السلام: (595).
(3) فتح الباري: (9/81).(1/26)
الأول: السكوت، فإن سكوته سيشعرها بعدم رغبته كما حدث للَّتِي وهبت نفسها للنَّبِيِّ ج، وما من شك أن هذا أفضل؛ لأنه فعله ج، وهو أرفق بالمرأة، وأكثر لطفًا.
قال النووي -رحمه الله-: $وفِي الحديث: أنه يستحب لِمن طُلبت منه حاجة لا يمكنه قضاؤها أن يسكت سكوتًا يفهم السائل منه ذلك، ولا يخجله بالمنع إلا إذا لَم يحصل الفهم إلا بصريح المنع، فيصرح# (1) .
الثانِي: أن يصرح بعدم رغبته بطيب من الكلام وحسن من القول كما قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
وليس للرجل بعد ذلك أن يذيع فِي الناس أنَّها قد عرضت نفسها عليه، لاسيما إذا كانت قد أسرت بالعرض إليه، فليس ذلك من أخلاق النبلاء.
وإذا نظر إليها ووجد فِي نفسه ميلاً إليها ورغبة فِي الزواج بِها؛ تقدم إلَى أوليائها؛ لخطبتها؛ وإتْمام موضوع الزواج، شأنه شأن غيره من الرجال مِمن يريد الزواج، فعَرْضُ المرأة نفسها عليه لا يغير شيئًا من أحكام النكاح ومراسمه.
فإذا تَمَّ الزواج بِها، ثُمَّ حصل اختلاف بينهما، فليس ينبغي له أن يلومها، أو أن يعيرها بِعَرْضِ نفسها عليه، فليس هذا من شيم الصالحين، كما أن التعيير لا يكون على جميل الأفعال. ... ...
وبعد:
فهذا آخر ما وفق الله سبحانه فِي تأليف هذه الرسالة، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والله أسأل أن تؤتِي ثِمارها الطيبة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالَمين.
FFFFF
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
تقدمة ... 5
الباب الأول: عرض الرجل موليته على الرجل الصالح
F الفصل الأول: عرض الرجل موليته على الرجل الصالح في القرآن الكريم ... 9
اختلاف المفسرين فِي تعيين صالح مدين ... 10
قضاء موسى أتَم الأجلين: عشرة أعوام ... 10
F الفصل الثاني: عرض الرجل موليته على الرجل الصالح في السُّنَّة المطهرة ... 13
عمر بن الخطاب يعرض ابنته ... 13
إذا تأيمت المرأة ينبغي لوليها المسارعة فِي عرضها ... 16
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: (9/212).(1/27)
على الأرامل والمطلقات أن لا يضيعن فرصة للزواج ... 16
المرأة العاقلة هي الَّتِي تبادر إلَى الزواج بعد موت زوجها ... 17
أسماء بنت عميس تزوجت جعفرًا، ثُمَّ أبا بكر، ثُمَّ عليًّا ... 17
أم كلثوم بنت عقبة بن أبِي مُعيط ... 18
جميلة بنت عبد الله بن أُبَي ... 19
سكينة بنت الحسين ... 19
سبيعة بنت الحارث الأسلمية ... 19
المرأة الَّتِي تَمتنع عن الزواج تُفَوِّتُ على نفسها فضلاً كبيرًا ... 20
تعدد الزوجات هو الحل الأقوم إزاء عدد النساء ... 21
أم حبيبة تعرض أختها ... 22
أعرابِي يعرض ابنته ... 23
أمٌّ تعرض ابنتها ... 24
إعراض النَّبِي ج عن الزواج بامرأة لَم تَمرض ... 25
F الفصل الثالث: عرض الرجل موليته على الرجل الصالح في عهد السلف الصالح ... 27
حكاية سعيد بن المسيب ... 27
حكاية أبي عثمان النيسابوري ... 30
الباب الثاني: عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح
تَمهيد ... 33
F الفصل الأول: عرض المرأة نفسها في السيرة والسُّنَّة المطهرة ... 36
الفرق بين العرض والهبة ... 40
أقوال العلماء فِي دلالات أحاديث اللائي وهبن أنفسهن ... 41
حكم عرض المرأة نفسها للزواج بين الجواز والاستحباب ... 42
F الفصل الثاني: ضوابط عرض المرأة نفسها للزواج ... 44
F الفصل الثالث: ما يتبع عرض المرأة نفسها للزواج ... 47
الفهرس ... 53(1/28)