طلاق المكره والغضبان -
: هاني بن عبد الله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }(1) .
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1) }(2) .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدًا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيما (71) }(3) .
... أما بعد :
... فمن أدرى بصلاح النفس من بارئها ، ومن أعرف بحالها من خالقها { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)} (4) إن الذي سوَّى النفس فألهمها فجورها وتقواها لهو أعلم بما يصلحها ويسلك بها سبيل التقوى ، أفترى هؤلاء اللاهثين وراء سراب التقدم والحرية أعلم بالبرية من بارئها ؟ لا والله { والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا (27)} (5) إن في الإسلام لمنهجًا في الحياة فريدًا ، ومسلكًا للسعادة وحيدًا ، فيه سعادة البشرية جمعاء وفيه الحل لجميع مشكلاتها ومعضلاتها .
__________
(1) سورة آل عمران ، الآية 102 .
(2) سورة النساء ، الآية 1 .
(3) سورة الأحزاب ، الآيتان 70 ، 71 .
(4) سورة الملك ، الآية 14 .
(5) سورة النساء ، الآية 27 .(1/1)
وهنا في هذه الورقات سنستعرض آراء جمع من فقهاء الإسلام المبنيَّة على نصوص الوحيين ، في مسألتين مهمتين من مسائل كتاب الطلاق ، وهما طلاق المكره , وطلاق العضبان ، حيث سنستعرض أقوالهم وأدلتهم ، وما نوقشت به ، مستخرجين الرأي الراجح من اجتهاداتهم ، والحقُّ أنني قد توقفت كثيرًا عندما نظرت في أدلة كل قول خاصَّة في المسألة الثانية عندما تتكافأ الأدلة وتتوارد المناقشات على كل قول حتى اطلعت على عبارة من العبارات الفذة التي سطَّرتها يراع العلامة النحرير ، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله ، في ( الختيارات الفقهية ) حيث قال : ( وأكثر من تميَّز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما ، لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أنَّ عنده لا يعرف جوابه فالجواب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى للاجتهاد ... إلى آخر ما قاله رحمه الله ) (1) .
فعملت بقاعدته ، واتبعت مسيرته ، فرجحت ما ظهر لي رجحانه .
أما البحث فقد جعلته في تمهيد وفصلين وخاتمة .
فتناولت في التمهيد ثلاث مباحث :
المبحث الأول : في تعريف الطلاق .
وفيه مطلبان :
الأول : في تعريف الطلاق لغة .
والثاني : في تعريفه شرعًا .
... المبحث الثاني : في أدلة مشروعية الطلاق .
... المبحث الثالث : في الحكمة من مشروعيته .
أما الفصل الأول : فقد قسمته إلى مبحثين بعد التمهيد .
فالتمهيد : في تعريف الإكراه لغةً وشرعًا .
المبحث الأول : أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه .
المبحث الثاني : طلاق المكره ، والأقوال والأدلة والترجيح .
أما الفصل الثاني : فقد قسمته إلى تمهيد ومبحث واحد .
فالتمهيد : في تعريف الغضب وحالاته .
والمبحث في حكم طلاقه ، الأقوال والأدلة والترجيح .
أما الخاتمة فعرضت فيها أبرز النتائج التي استخلصتها من البحث .
__________
(1) الاختيارات نقلاً عن طريق الوصول لابن سعدي ص 125 .(1/2)
... هذا ولتعلم أيها القارئ في هذا البحث والناظر فيه أني لم آل جهدًا في تحرير مباحثه واستيفاء مسائله ، ولكني أرى عملي قاصرًا لقصور كاتبه ، وناقصًا لنقص راقمه ، وفاترًا لفتور مقيده .
... وهذا جهد المقل فإن أصبت فمن الله وحده ، وفَّق وألهم ، وسهَّل ويسّر ، وإن أخطأت فمني الخطأ وأستغفر الله { ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة وإنك أنت الوهاب (8) }(1).
تمهيد
...
المبحث الأول تعريف الطلاق :
المطلب الأول : تعريف الطلاق لغةً :
الطلاق : مصدر طَلَقَت المرأة وطَلُقَت(2) تطلُق طلاقًا فهي طالق . ويدل على الترك والتخلية ، يقال طلَّق البلاد أي تركها ، وأطلق الأسير أي خلاًّه .
ويستعمل في معان أخر فيطلق على الصفو الطيب الحلال فيقال هو لك طلق أي حلال ، ويطلق على البعد يقال طلق فلان إذا تباعد ، ويطلق على الخروج يقال أنت طِلْقٌ من هذا الأمر أي خارج من(3) .
وهذه المعاني المذكورة إذا أمعنا النظر فيها وجدنا بينها وبين مقصود الطلاق ترابطًا واضحًا فالمطلق تارك لزوجته وهو أيضًا قد أحلها لغيره ، وقد باعدها بفراقه لها وقد خرج أيضًا عن العقد الذي كان يربطهما ، فالطلاق قد اجتمعت فيه هذه المعاني جميعًا(4) .
المطلب الثاني : تعريف الطلاق شرعًا :
__________
(1) سورة آل عمران ، الآية 8 .
(2) بفتح اللام وضمها كما قال ثعلب من أهل اللغة ( اللسان 4/2696 ) وهو ما ذكره صاحب المطلع ( 333 ) .
(3) اللسان ( 4/2696 ) ؛ مجمل اللغة ( 3/330 ) ؛ ومعجم مقاييس اللغة ( 3/420 ) وما بعدها ، مادة ( طلق ) .
(4) قال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 9/258 ) عن الطلاق في الشرع : ( وهو موافق لبعض مدلوله اللغوي ) وفيما ذكرته تعقيب عليه ، قال البعلي في المطلع ص ( 333 ) عن الطلاق في الشرع : ( وهو عائد إلى معناه لغة ) أهـ وتجد مثله في الدر النقي ( 3/671 ) .(1/3)
تنوعت عبارات الفقهاء ، وتعددت تعريفاتهم للطلاق في العرف الشرعي ، وقد حرصت على اختيار التعريف الجامع المانع منها وهو : ( حلُّ قيد النكاح ( أو بعضه ) في الحال أو المآل بلفظ مخصوص ) .
وهو الذي عرَّفه به في الدر المختار(1) ، ومعناه متفق عليه بين أهل العلم ، وقد أضفت لتعريفه قيدًا وهو ( أو بعضه ) وفائدته إدخال الطلاق الرجعي(2) .
المبحث الثاني : أدلة مشروعية الطلاق :
دلَّ على مشروعية الطلاق الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }(3)، وقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النسآء فطلقوهمن لعدتهن }(4) .
__________
(1) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين عليه ( 2/414 ) .
(2) انظر : حاشية الروض المربع لابن قاسم ( 6/482 ) ؛ وانظر : أمثلة لتعريفات الطلاق في فتح القدير ؛ وشرح العناية ( 3/325 ) ؛ البهجة في شرح التحفة ( 1/336 ) ؛ وانظر أيضًا : التعريفات ص ( 141 ) ؛ ومعجم لغة الفقهاء ص ( 291 ) .
(3) سورة البقرة ، الآية 229 .
(4) سورة الطلاق ، الآية 1 .(1/4)
وأما السنة : فقوله صلى الله عليه وسلم : (( إنما الطلاق لمن أخذ بالساق )) (1) ، وما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها(2) .
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا(3) .
أما الإجماع : فقد أجمع العلماء على جوازه وهو واقع منذ الصدر الأول في الإسلام إلى هذا الزمان لا ينكره أحد(4) .
والمعقول يؤيد جوازه كما سيأتي في الحكمة من مشروعيته .
__________
(1) رواه ابن ماجة في سننه كتاب ( الطلاق ) باب طلاق العبد ، برقم ( 2081 ) ، والدار قطني في سننه كتاب ( الطلاق والخلع والإيلاء ) ( 4/37 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه الدارقطني مرسلاً عن عكرمة وعن عصمة ابن مالك ، وفي إسناد المرفوع عند الدارقطني أحمد بن الفرج مختلف فيه . انظر : لسان الميزان ( 1/266 ) ، والكامل لابن عدي ( 1/190 ) وفي إسناده عند ابن ماجة ابن لهيعة وهو ضعيف ، وللحديث طرق يقوي بها ، انظر : التعليق المغني ( 4/37 ) وزوائد ابن ماجة بحاشية السنن ، وقد حسن الحديث الألباني في الإرواء ( 2041 ) ، وصحيح سنن ابن ماجة ( 1/355 ) .
(2) رواه أبو داود في سننه كتاب ( الطلاق ) باب في المراجعة رقم ( 2280 ) وابن ماجة في سننه كتاب ( الطلاق ) باب حديثا سويد بن سعيد رقم ( 2016 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإسناده صحيح ، وأخرجه النسائي في سننه كتاب ( الطلاق ) باب الرجعة رقم ( 3560 ) من حديث ابن عمر وإسناده صحيح ، وفي الباب عن أنس وعمار . انظر إن شئت مجمع الزوائد ( 9/244 ) ، وإرواء الغليل رقم ( 2077 ) ، والسلسلة الصحيحة ( 2007 ) ، وانظر : قصة طلاقها في سير أعلام النبلاء ( 2/227 ) , الإصابة ( 4/52 ) .
(3) انظر : نيل الأوطار ( 6/247 ) ، وجمع الفوائد ( 1/671 ) .
(4) ممن نقل الإجماع على مشروعيته ابن قدامة في المغني ( 10/323 ) ، وانظر : ( حاشية الروض المربع ) لابن قاسم ( 6/482 ) .(1/5)
المبحث الثالث : الحكمة من مشروعية الطلاق :
شرع الله الزواج ليكون دائمًا مؤبدًا إذ به تتحقق المنافع والمصالح المرادة منه ، ولا بد لتحقيق أهداف النكاح العظيمة من وجود المودة والتفاهم بين الزوجين فإذا حصل ما يقطع هذه المودة ويفسد هذا التفاهم مما هو واقع وكثير ، لأسباب مشاهدة ، كأن تفسد أخلاق أحد الزوجين فيندفع في تيار الفسق والفجور ويعجز المصلحون عن ردة إلى سواء الصراط ، أو يحدث بين الزوجين تنافر في الطباع وتخالف في العادات أو يلقى في نفس أحدهما كراهية الآخر والسَّأم منه والتبرم من أفعاله وقد يكون الزوج عقيمًا أو قد يصيبه مرض معد خطير أو قد يغيب غيبة لا يعلم فيها حاله ، ولا حياته من موتِهِ ، وقد يصاب بضيق ذلك اليد فلا يستطيع الإنفاق على زوجته وليست بخليه فتنكح غيره .
وهذه الأمثلة وليست من الخيال في شيء تفسد على البيت نظامه وتعكر عليه صفوه ، فينحرف الزوجان في البحث على لذة بديلة أو سكن غير ما يجدانه في نكاحهما ، وينحرف الأولاد حيث لا كافل لهم ولا راعي لشؤونهم ولا قائم بحقوقهم وينشأ الأطفال نشأة يملؤها التشاؤم ، ويغلب عليها الحزن والانطواء في مجتمع أسري كهذا .
لهذه الأمور وغيرها كثير ؛ أباح الله الطلاق ليكون علاجًا لهذا الوضع الرديء ، والحال المفجع ، والخطب الأليم ، الذي أصاب الأسرة التي هي اللَّبنة الأولى لبناء المجتمع .(1/6)
ولأن الإسلام دين رب العالمين الذي هو أعلم بمصالح العباد من أنفسهم ، ولأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان ، فقد حرص على وقاية المجتمعات من كل داهية تفتك به وكل فجيعة تلم به ، وكل نكبة تصيبه ، فقد شرع الطلاق ليتخلص به الزوجان من حياة مقلقة ، وصلة موجعة ، وارتباط مؤلم ، ومن ثم ينقب كل منهما عمّن هو خير من سابقه ، وأجدر بالارتباط به ، قال تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته وكان الله واسعا حكيماً }(1)(2) .
الفصل الأول : طلاق المكره :
تمهيد : تعريف الإكراه :
الإكراه : لغة : هو مصدر أكره يكره إكراهًا ، إذا غصبته وحملته على أمر هو له كاره . فأصل الكلمة يدل على خلاف الرضا والمحبة . قال الفرَّاء : ( يقال أقامني على كره – بالفتح – إذا أكرهك عليه إلى أن قال : فيصير الكره بالفتح فعل المضطر(3) .
تعريف الإكراه شرعًا :
هو حمل إنسان على عمل – أو ترك – بغير رضاه ، ولو تُرك بدون إكراه لما قام به .
__________
(1) سورة النساء ، الآية 130 .
(2) انظر : في هذا المبحث : ( حجة الله البالغة ) ( 2/138 ) ؛ تفسير آيات الأحكام للصابوني ( 1/343 ) وما بعدها ؛ الأحوال الشخصية ص ( 327 ) ؛ تنظيم الأسرة ص ( 76 ) ؛ تنظيم الإسلام المجتمع ص 89 ، كلها لمحمد أبو زهرة . ومن محاسن الدين الإسلامي ص سعدي ص ( 23 ، 24 ) ؛ الفقه الإسلامي وأدلته ( 7/358 ) ؛ الزواج والطلاق وآثارهما للدكتور عبد الودود السريتي ص ( 5 ، 6 ) .
وانظر : في تاريخ الطلاق وأحكامه عند المسلمين وغيرهم ، دائرة المعارف ، للمعلم بطرس البناني ( 11/327 ، 328 ) ؛ دائرة معارف القرن العشرين ، لفريد وجدي ( 5/773 ) وما بعدها .
(3) اللسان ( 5/3865 ) مادة ( كرهَ ) . وانظر : مختار الصحيح ص 237 ؛ معجم مقاييس اللغة ( 5/172 ) ؛ أنيس الفقهاء ص 264 ؛ الدر النقي ( 3/675 ) . انظر : النظم المستعذب في شرح غريب المهذب في حاشية المهذب ( 2/78 ) .(1/7)
وقال بعضهم فعل يفعله إنسان لغيره(1) .. إلخ والمعنى متقارب .
المبحث الأول : أنواع الإكراه وأحكامه وشروطه :
للإكراه أنواع متعددة باعتبارات مختلفة ؛ فيكون في الأفعال ، ويكون في الأقوال ، والإكراه في الأفعال نوعان ملجئ وغير ملجئ .
فأما الملجئ وهو الكامل ، فلا يكون للفاعل إرادة البتة كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلاً فقهره من هو أهوى منه وكبَّله وحمله حتى أدخله فيها فهذا غير مكلف إجماعًا ولا إثم عليه ؛ ولا يحنث عند الجمهور(2) .
وأما غير الملجئ وهو الناقص فهو كمن أكره بضرب أو هذا المكره يستطيع الفعل والترك فهو مختار للفعل ولكن ليس غرضه نفس الفعل وإنما مراده دفع الضرر عن نفسه . وليس هذا مرادنا فأرجع فيه لمضانه(3)
__________
(1) معجم لغة الفقهاء ص ( 85 ) ؛ الطلاق في الشريعة الإسلامية ، للدكتور : أحمد غندور ؛ أصول الفقه ، للشيخ الخضري ص ( 106 ) . وانظر : تكملة فتح القدير ؛ والعناية والكفاية مطبوعان في حاشيته ( 8/166 ) ؛ حاشية ابن عابدين ( 6/128 ) .
(2) المستصفى للغزالي ( 1/91 ) ، شرح مختصر الروضة ( 1/194 ) ؛ وانظر : المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ص ( 58 ) ؛ مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص ( 32 ) ؛ المنتقى من فرائد الفوائد ص ( 148 ) لابن عثيمين ؛ انظر : جامع العلوم والحكم ص ( 375 ) .
(3) روضة الناظر وشرحها ( 1/142 ) ؛ جامع العلوم والحكم ص ( 375 ) ؛ منظومة القواعد الفقهية وشرحها لابن سعدي ص ( 33 ) ؛ والمراجع في الفقرة السابعة وممن تكلم عن المسألة وبحثها العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام ( 2/149 ) وما بعدها . وابن القيم في زاد المعاد ( 5/205 ) ؛ والإعلام ( 3/108 ) ؛ أصول الفقه للخضري ( 106 ) وما بعدها ؛ الموسوعة الفقهية ، إصدار وزارة الأوقاف الكويتية ( 6/98-112 ) . مباحث في النية للعليوي ص ( 35 ) وما بعدها .
... ... وأنبه هنا إلى أنّ مرادنا الإلجاء الذي تناوله الأصوليون لا ما قرره فقهاء الأحناف ، فإنهم يجعلون الملجئ هو التهديد بإتلاف النفس أو عضو منها وغير الملجئ الذي يكون بما لا يفوت النفس أو بعض الأعضاء كالحبس ونحوه ، هذا على أنهم لم يفرقوا بين هذين النوعين في باب الطلاق . وانظر : تكملة فتح القدير ( 8/167 ) ؛ اللباب شرح الكتاب ( 4/107 ) .(1/8)
.
وأما الإكراه في الأقوال :
فقد اتفق العلماء على صحته وأن من أكره على قول محرم إكراهاً معتبرًا أن له أن يفتدي نفسه به ولا إثم عليه ، والإكراه متصور في سائر الأقوال فمتى أكره على قول من الأقوال لم يترتب عليه حكم من الأحكام وكان لغوًا (1) .
وذهب الأحناف إلى التفريق بين ما يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة فيفسخ وما لا يحتمل الفسخ كالطلاق والعتاق والنكاح فهو لازم ، فمن أكره على البيع ففعل فهو بالخيار إن شاء أمضى البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع بخلاف ما لا يحتمل الفسخ(2).
وعدم التفريق أنسب وألبق بأصول الشريعة وأدلتها قال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }(3) قال الشافعي(4) في تقرير الاستدلال بهذه الآية : ( أن الله سبحانه وتعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه أسقط عنه أحكام الكفر ، كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر لأن الأعظم إذا سقط ما هو دونه من باب أولى ) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص ( 376 ) بتصرف واختصار . وانظر : زاد المعاد ( 5/205 ) ؛ مذكرة أصول =
= الفقه ص ( 33 ) ؛ المنتقى من الفوائد ص ( 148 ) ؛ القواعد الفقهية لابن سعدي ص ( 32 ) .
(2) تكملة فتح القدير ، والعناية والكفاية ( 8/166 ) .
... فائدة : نظم ابن كمال الهمام ما يثبت مع الإكراه فقال :
يصح مع الإكراه عتقٌ ورجعةٌ - نكاحٌ وإيلاءٌ طلاقٌ مفارقي
وفيءٌ ظهارٌ واليمين ونذره - وعفوٌ لقتلٍ شابَ عَنهُ مفارقي
انظر : فتح القدير ( 3/344 ) ؛ وانظر في ذلك : الدر المختار ( 2/421 ) ؛ وحاشيته ( 2/423 ) وتجد نظمًا آخر .
(3) سورة النحل ، الآية 106 .
(4) الأم ) له . ونقله عنه المزني في مختصره ، وهو أيضًا في أحكام القرآن له ونقله الصنعاني في سبله ( 3/370 ) .(1/9)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) (1) .
قال ابن القيم : ( ... وعلى هذا فكلام المكره كله لغو لا عبرة به ، وقد دل القرآن على أن من أكره على التكلم بكلمة الكفر على أن الله سبحانه تجازو عن المكره فلم يؤاخذه بما أكره عليه وهذا يراد به كلامه قطعًا وأما أفعاله ففيها تفصيل ... إلى أن قال ... الفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه ، أن الأفعال إذا وقعت لم ترتفع مفسدتها ، بل مفسدتها معها بخلاف الأقوال ، فإنها يمكن إلغاؤها وجعلها بمنزلة أقوال النائم والمجنون ، فمفسدة الفعل الذي لا يباح بالإكراه ثابتة بخلاف مفسدة القول ، فإنها تثبت إذا كان قائلة عالمًا به مختارًا له ) (2) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني ( 497 ) ؛ وابن حبان ( 360 ) ؛ والحاكم ( 2/198 ) وصححه ووافقه الذهبي ؛ وأخرجه ابن ماجة كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي برقم ( 2045 ) لكن سنده منقطع وفي الباب عن ابن عمر وعقبة بن عامر وثوبان كما في نصب الراية ( 2/65 ) ؛ وجامع العلوم والحكم ص ( 371 ) والغالب فيها الضعف لكنها تتقوى بطرقها قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص ( 230 ): ( ومجموع هذه الطرق يظهر أنّ للحديث أصلاً ) اهـ . وقال الشنقيطي في مذكرته ص ( 33 ) : ( وقد تلقاه العلماء بالقبول ، وله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة ) اهـ . وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل ( 82 ) . وفي صحيح سنن ابن ماجة ( 1/348 ) برقم ( 1664 ) .
(2) زاد المعاد ( 5/205 ، 206 ) ؛ وقد أطال ابن حزم في المحلى ( 10/202 ) في الرد عليهم فارجع إليه .(1/10)
إذا تقرر هذا فاعلم أن الإكراه يكون بحق وبغير حق ، فأما الإكراه بغير حق - اعتداءً وتسلطًا - فهو ما سبق فيه البحث ، وأما ما كان بحق فنحو إكراه الحاكم لشخص ببيع مالِه ليوفي دينه ، أو إكراهه موليًا على الطلاق إن أبى الفيئة . فهذا الإكراه غير مانع من لزوم ما أكره عليه(1) .
مسألة شروط الإكراه :
ذكر أهل العلم شروطًا للإكراه منها :
أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب .
أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به ، والعجز عن دفعه والهرب منه .
أن يكون مما يلحق الضرر به . (2)
وهذه الشروط اتفق على اعتبارها المالكية والشافعية والحنابلة ، وزاد بعضهم شروطًا أخرى ، والذي يظهر أن تحديد الإكراه عائد لما يراه الحاكم ، والمفتي ، فما رأى أنه إكراه أبطله لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس(3) .
المبحث الثاني : طلاق المكره :
والمراد بالبحث الإكراه على الطلاق بغير حق هل هو واقع أم لا ؟
فذهب مالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري أن طلاقه غير واقع وقال بهذا القول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عمر وابن الزبير وابن عباس ، وجماعة كثيرون .
__________
(1) انظر : جامع العلوم والحكم ص ( 377 ) ؛ فتح القدير ( 3/344 ) ؛ الشرح الكبير للدردير ( 2/367 ) ؛ المهذب ( 1/78 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ المغني ( 10/351 ) .
(2) الشرح الكبير ( 2/367 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/61 ) ؛ المهذب ( 1/78 ) ؛ مغني المحتاج ( 3/279 ) ؛ المغني ( 10/353 ) ؛ الكشاف ( 5/236 ) .
(3) انظر : الكفاية ( 8/168 ) ؛ والمغني ( 10/353 ) ؛ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة ( 33/110 ) ؛ والقواعد لابن رجب ( 323 ) القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة . والقواعد والأصول الجامعة لابن سعدي ص ( 109 ) . وقد نبه على هذا ابن القيم في إعلامه ( 3/108 ) .(1/11)
وذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى إيقاع هذا الطلاق وقال به الشعبي والنخعي والثوري(1).
وسبب خلافهم هو هل المكره مختارٌ أم لا ؟ فإن المطلق غير مريدٍ لإيقاع الطلاق وهو في الوقت ذاته قد اختار أهون الشرين من الطلاق أو حصول ما أكره به(2) .
استدل الأحناف ومن وافقهم لمذهبهم بما يلي :
ما روي أن رجلاً كان نائمًا فقامت امرأته فأخذت سكينًا فجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه فقالت لتطلقني ثلاثًا أو لأذبحنك فناشدها الله فأبت ، فطلقها ثلاثًا ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال : (( لا قيلولة في الطلاق )) (3) .
حديث أبي هريرة مرفوعًا : (( ثلاثٌ جدهن جد ، وهزلهن جد : النكاح والطلاق والرجعة )) (4)
__________
(1) فتح القدير . الكفاية والعناية ( 3/344 ) ؛ الدر المختار مع حاشيته لابن عابدين ( 2/421 ) ؛ اللباب شرح الكتاب ( 3/45 ) ، ( 4/112 ) ؛ والشرح الكبير مع حاشيته للدسوقي ( 2/367 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/61 ) ؛ المهذب ( 2/78 ) ؛ مغني المحتاج ( 3/289 ) زاد المحتاج للكوهجي ( 3/357 ) ؛ المغني ( 10/350 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ المحلى ( 10/202 ) ؛ والفقه الإسلامي وأدلته للرحيلي ( 7/367 ) . الإمام داود وأثره لعارف أبو عبيد ص ( 651 ) . الأحكام الفقهية في المذاهب الأربعة لعساف ( 2/356 ) .
(2) بداية المجتهد ( 2/61 ) ؛ فتح القدير ( 3/344 ) ؛ جامع العلوم والحكم ص ( 375 ) .
(3) أخرجه العقيلي كما في نصب الراية ( 3/222 ) ؛ وابن حزم في المحلى ( 10/203 ) متصلاً وفي سنده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن ، وروي مرسلاً وليس فيه بقية وفي المتصل والمرسل الغازي بن جبلة قال البخاري : حديثه منكر في طلاق المكره وكذا قال أبو حاتم : انظر لسان الميزان ( 4/479 ) ؛ الكامل لابن عدي ( 6/9 ) نصب الراية ( 3/222 ) .
(4) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الطلاق باب الطلاق على الهزل رقم ( 2194 ) ؛ والترمذي في =
= جامعه كتاب الطلاق باب ما جاء في الجد والهزل رقم ( 1184 ) ؛ وابن ماجة في سننه كتاب الطلاق باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا رقم ( 2039 ) ؛ والحاكم في مستدركه كتاب الطلاق ( 4/18 ) وفي سنده عبد الرحمن بن حبيب قال عنه النسائي منكر الحديث . ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحاكم من ثقات المدنيين التهذيب ( 6/144، 145 ) ؛ الكاشف ( 2/143 ) وقال عنه ابن حجر لين الحديث ؛ التقريب ( 1/476 ) وفي الباب عن فضالة بن عبيد وعبادة بن الصامت وأبي ذر . انظر : تلخيص الحبير ( 3/236 ) ؛ مختصر البدر المنير ص ( 213 ) ؛ التعليق المغني ( 4/19 ) وغالبها ضعاف لكنها تتقوى بطرقها وحسن الحديث الترمذي وابن حجر والألباني في إرواء الغليل ( 1826 ) وصحيح سنن ابن ماجة برقم ( 1658 ) .(1/12)
.
ووجه الاستدلال :
أن الهازل لم يقصد إيقاع الطلاق وإنما قصد اللفظ فقط وقد أوقع طلاقه فدل على أن الطلاق يعتبر فيه مجرد التلفظ به فيقاس المكره على الهازل لأنهما قصدا النطق ولم يردا المعنى(1) .
ما روي عن عمر مرفوعًا : أربع مبهمات مقفولات ليس فيهن رد : النكاح والطلاق ، والعتاق الصدقة ) (2) .
حديث حذيفة وأبيه حين حلفهما المشركون فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم )) (3) .
وجه الاستدلال :
أن اليمين حال الطواعية وحال الإكراه سواء فعلم أنه لا تأثير للإكراه في نفي الحكم المتعلق بمجرد اللفظ كالطلاق(4) .
استدلوا بأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره(5) .
المناقشة :
أما حديث (( لا قيلولة في الطلاقى )) فضعيف كما ذكرت في تخريجه . قال عنه ابن حزم : ( هذا خبر في غاية السقوط ) (6) فيسقط الاستدلال به .
__________
(1) فتح القدير ( 3/344 ) ؛ والعناية بحاشيته ؛ بدائع الصنائع ( 3/99 ) .
(2) ذكره ابن كمال الهمام في فتح القدير ( 3/344 ) ولم أجد له سندًا فيما وقفت عليه من كتب أهل العلم والله تعالى أعلم .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجهاد والسير باب الوفاء بالعهد برقم ( 1787 ) .
(4) فتح القدير ( 3/344 ) .
(5) الهداية ( 3/344 ) ؛ والعناية وحاشية سعدي جلبي ( بحاشية الهداية ) ؛ وانظر : المغني ( 10/350 ) .
(6) المحلى ( 10/204 ) .(1/13)
وأما استدلالهم بحديث : (( ثلاث جدهن جد ... )) الحديث . وقياسهم المكره على الهازل فهو قياس فاسد فإن المكره غير قاصد للقول ولا لموجبه ، وإنما حمل عليه وأكره على التكلم به ولم يكره على القصد ، وأما الهازل فإنه تكلم باللفظ اختيارًا وقصد به غير موجبه وهذا ليس إليه بل إلى الشارع فإن من باشر سبب ذلك باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يرده ، وأما المكره فإنه لم يرد هذا ولا هذا فقياسه على الهازل غير صحيح(1) .
وأما أثر عمر فإنا لم نعلم سنده ولم نقف على مخرجه حتى نعلم ثبوته وعلى اعتبار صحته فإنه محمول على أن من أوقع الطلاق فإن لا يمكنه أن يعود فيه ، أما المكره فإنه لم يوقع الطلاق وإنما تلفظ به تخلصًا من مكرهه . هم إن الصحيح عن عمر رضي الله عنه إلغاء طلاق المكره(2) . وأما ما روي أن امرأة استلت سيفًا فوضعته على بطن زوجها وقالت والله لأنفذنك أو لتطلقني فطلقها ثلاثًا فرفع ذلك إلى عمر فأمضى طلاقها . فهذا ضعيف لا يثبت عنه رضي الله عنه(3) .
__________
(1) تهذيب السنن لابن القيم ( 6/188 ) بحاشية عون المعبود باختصار . وانظر : إعلام الموقعين ( 3/108 )؛ زاد المعاد ( 5/204 ) ؛ وإغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( 50-61 ) .
(2) زاد المعاد ( 5/206-209 ) ؛ المحلى ( 10/202 ، 203 ) ؛ وانظر : نصب الراية ( 3/223 ، 224 ) .
(3) أخرجه سعيد بن منصور كما في زاد المعاد ( 5/ 208 ) وفي إسناده فرج بن فضالة ضعفه الدارقطني وقال ابن حبان يقلب الأسانيد ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتجاج به . الكاشف ( 2/326 ) ؛ والتهذيب ( 8/234 ، 235 ) .(1/14)
وأما خبر حذيفة وأبيه رضي الله عنهما ، وقياس الطلاق على اليمين باعتبارهما متعلقين بمجرد اللفظ فإن الجواب أن هذا القياس غير صحيح ، فليس الاعتبار في الطلاق خاصًا باللفظ بل لا بد معه من إرادة التكلم بالصيغة والعلم بمدلولها ، ألا ترى أن الشارع لم يمض طلاق النائم والناسي وزائل العقل(1) ، وبهذا يظهر الفرق بينهما ولا قياس مع وجود الفارق .
وأما قولهم هو طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره ، فنقول هذا الدليل أشبه ما يكون بالمصادرة ، فإنه إقرار لتكليف المكره ، ثم إنّ قياسكم المكره على غيره هو في غاية الغرابة يرده ما سنشير إليه من أدلة القول الثاني .
واستدل الجمهور لقولهم بما يلي :
__________
(1) زاد المعاد ( 5/204 ، 205 ) ؛ حكم طلاق الغضبان ص ( 46 ، 61 ، 67 ) ؛ وانظر : المحلى ( 10/205 ) .(1/15)
عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )) (1) . ومن الإغلاق الإكراه لأن المكره مغلق عليه أمره وتصرفه(2)
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ( 6/276 ) ؛ وأبو داود في سننه كتاب الطلاق باب في الطلاق على غضب رقم ( 2193 ) ، وابن ماجة في سننه كتاب الطلاق باب طلاق المكره رقم ( 2046 ) ؛ والحاكم في مستدركه كتاب الطلاق باب لا طلاق في إغلاق ( 2/198 ) ؛ والدارقطني في سننه ( 4/36 ) وفي سنده محمد بن عبيد بن أبي صالح ، وقد وقع في سنن ابن ماجة عبيد بن أبي صالح وهو خطأ كما نبه عليه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ( 7/63 ) وتقريبه ( 1/543 ) ومحمد هذا ضعيف ، وقد تابعه زكريا بن إسحاق ومحمد بن عثمان كما عند الدارقطني والبيهقي والحاكم إلا أن الراوي عنهم قزعة بن سويد وهو ضعيف كما في التقريب ( 2/126 ) والتهذيب ( 8/336 ) وفي الحديث ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن ، انظر : مراتب الموصوفين بالتدليس ص ( 132 ) وتابعه عبد الله بن سعيد الأموي كما عند الحاكم وهو ثقة من رجال الشيخين كما في التقريب ( 1/420 ) . فالحديث حسن إن شاء الله تعالى وقد رمز السيوطي لحسنه كما في الجامع الصغير رقم ( 9905 ) . وحسنه المحدث الألباني في إروائه ( 2047 ) وفي صحيح سنن ابن ماجة ( 1665 ) .
(2) الإغلاق في أصل اللغة بمعنى الحبس والإقفال يقال غَلَق الباب وغلَّقه .
قال تعالى : { وغلَّقت الأبواب } والتضييق أيضًا قال أبو الأسود الدُّؤلي :
ولا أقول لقدر قد غَلِيت ولا أقول لباب الدار مغلوق
... والتعسّر يقال استغلق الباب أي عَسُرَ فتحه . وهذه المعاني المرادة في الحديث ، فالمراد انسداد باب العلم والقصد فيضيق صدره ويتعسر عليه تفكيره ويقفل عنه باب الإرادة وهي المرادة في اللغة كما =
= ... فسرها به صاحب اللسان . وأيد ذلك أهل الغريب فقال القاضي عياض في شرح الحديث : ( .. هو الإكراه وهو من أغلقت الباب .. وقيل الإغلاق الغضب وإليه ذهب أهل العراق .. ) اهـ .
... فيدخل في الإغلاق : المعتوه والمجنون والسكران والمكره والغضبان الذي لا يعقل ما يقول والمدهوش ونحوهم .
... وإليك درة من روائع كلام ابن القيم في إعلام الموقعين ( 3/94 ) :
... ( أما الإغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع والواجب حمل كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي ، فكل من أغلق عليه باب قصده وعمله كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلم في الإغلاق . ومن فسره بالجنون أو السكران أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قصد التمثيل لا التخصيص ولو قدر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجب تعميم الحكم بعموم العلة فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدى بتعديها وانتفى بانتفائها ) .
... مراجع مختارة :
الفائق في غريب الحديث للزمخشري ( 3/72 ) .
مجمع بحار الأنوار لمحمد طاهر الصديقي ( 4/54-55 ) .
مشارق الأنوار للقاضي عياض ( 1/134 ) .
ابن الأثير في كتابه النهاية في غريب الحديث ( 3/379-380 ) .
تهذيب السنن لابن القيم ( 6/187 ) حاشية عون المعبود .
إعلام الموقعين له ( 3/94 ) .
فيض القدير ( 6/433 ) للمناوي .
لسان العرب ( 5/3283 ) لابن منظور .
عون المعبود ( 6/187 ) للعظيم آبادي .(1/16)
.
حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه موقوفًا : ( كل طلاق جائز إلاَّ طلاق المعتوه والمكره ) (1) .
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما موقوفًا : ( ليس لمستكره ولا لمجنون طلاق ) (2) .
عن ثابت بن الأحنف أنه تزوج أم ولد لعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : فدعاني عبد الله بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب فجئته فدخلت عليه فإذا سياط موضوعة وإذا قيدان من حديد وعبدان له قد أجلسهما وقال لي : تزوجت أم ولد أبي بغير رضاي ، فأنا لا أزال أضربك حتى تموت ثم قال : طلقها وإلا فعلت ، فقلت هي طالق ألفًا ، فلما خرجت من عنده أتيت عبد الله بن عمر فأخبرته فقال : ليس هذا بطلاق ، إرجع إلى أهلك ، فأتيت عبد الله بن الزبير فقال مثل ذلك(3) .
ولأنه قول حمل عليه بغير حق ، فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أُكره عليها(4) .
هذا وقد قدمنا الأدلة العامة التي استدل بها الجمهور على إلغاء طلاق المكره فراجعها .
الترجيح :
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا مجزومًا به في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران ، قال الحافظ في الفتح ( 9/305 ) وصله البغوي في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن عابس بن ربيعة أن عليًا قال .. فذكره ، وهكذا أخرجه سعيد بن منصور عن جماعة من أصحاب الأعمش عنه ، وصرح في بعضها بسماع عابس بن ربيعة من علي .اهـ .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه معلقًا مجزومًا به ، في كتاب الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران ، قال الحافظ في الفتح ( 9/303 ) وصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور جميعًا عن هشيم عن عبد الله بن طلحة الخزاعي عن أبي يزيد المزني عن عكرمة عن ابن عباس .اهـ .
(3) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الطلاق باب جامع الطلاق ص ( 376 ) برقم ( 1245 ) وإسناده صحيح .
(4) المغني ( 10/351 ) ؛ زاد المعاد ( 5/204 ) .(1/17)
يتبين مما مضى أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من إلغاء طلاق المكره وعدم اعتباره وذلك لأمور :
قوة أدلة الجمهور .
ضعف أدلة الأحناف لما ورد عليها من مناقشة .
أنه الألبق بأصول الشريعة وقواعدها كما مر معنا . وفيه دفع لمفاسد عظيمة ، وإليك ما قاله الشيخ أحمد الدهلوي رحمه الله :
( .. ثانيهما : أنه لو اعتبر طلاقه – أي المكره – طلاقًا لكان ذلك فتحًا لباب الإكراه فعسى أن يختطف الجبار الضعيف من حيث لا يعلم الناس ويخيفه بالسيف ويكرهه على الطلاق إذا رغب في امرأته فلو خيبنا رجاءه وقلبنا عليه مراده كان ذلك سببًا لترك مظالم الناس فيما بينهم بالإكراه .. ) (1) اهـ .
هذا وقد اختار هذا القول جمع من المحققين كابن تيمية(2) ، وابن القيم(3) ، والشوكاني(4) ، وصديق بن حسن القنوجي البخاري(5) ، وغيرهم رحمهم الله .
الفصل الثاني : طلاق الغضبان :
تمهيد : تعريف الغضب وحالاته :
الغضب : مصدر غضب يغضب عضبًا ويقال رجل غضبان وامرأة غضبى وهو نقيض الرضا(6) . ويطلق في العرف على الغيض والانفعال . قال الجرجاني : ( الغضب تغير يحصل عند غليان دم القلب ليحصل عنه التشفي للصدر ) (7) .
حالات الغضب ( تحرير محل النزاع فيه ) :
للغضب ثلاثة أقسام :
__________
(1) حجة الله البالغة ( 2/138 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 33/110 ) ، ومختصر الفتاوى المصرية ص ( 437 ) .
(3) زاد المعاد ( 5/204 ) ؛ وإعلام الموقعين ( 3/108 ) ؛ تهذيب السنن ( 6/187 ) .
(4) نيل الأوطار ( 6/265 ) .
(5) الروضة الندية ( 2/46 ) . لسان العرب ( 5/3262 ) ؛ مختار الصحاح ص ( 199 ) ؛ المصباح المنير ص ( 170 ) .
(6) زاد المعاد ( 5/204 ، 205 ) ؛ حكم طلاق الغضبان ص ( 46 ، 61 ، 67 ) ؛ وانظر : المحلى ( 10/205 ) .
(7) التعريفات ص ( 162 ) ، وانظر : معجم لغة الفقهاء ص ( 332 ) .(1/18)
الأول : أن يحصل للإنسان مبادئ الغضب وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ويعلم ما يقول فهذا يقع طلاقه بلا إشكال فإنه مكلف عالم بأقواله ومريد للتكلم بها(1) .
الثاني : أن يبلغ به الغضب نهايته فيزيل عقله فلا يعلم ما يقول ، وهذا لا يقع طلاقه ، قال ابن القيم ( بلا نزاع ) (2) وذلك أنه لم يعلم صدور الطلاق منه فهو أشبه ما يكون بالنائم والمجنون ونحوهم(3) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص ( 148 ) ؛ إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( 39 ) ؛ زاد المعاد ( 5/215 ) ؛ والفقه الإسلامي وأدلته للرحيلي ( 7/365 ) ؛ وانظر : حاشية ابن عابدين ( 2/427 ) ؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 2/366 ) ؛ ولم أجد للشافعية فيما وقفت عليه شيئاً إلا أن =
= ... إيقاعهم طلاق المكلف ينتظم هذه الصورة أيضًا ، انظر : مغني المحتاج ( 3/279-287 ) ؛ زاد المحتاج للكوهجي ( 3/357 ) ؛ حاشية بحيرمي على الخطيب ( 3/416 ) ؛ المهذب ( 2/77 ) .
(2) زاد المعاد ( 5/215 ) .
(3) إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( ( 39 ) ؛ وانظر : حاشية ابن عابدين ( 2/427 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ الروض المربع وحاشيته ( 6/490 ) .
... ... هذا وقد نص أصحاب أرباب المذاهب الفقهية على أن زائل العقل بغير سكر لا يقع طلاقه ، وهذا الغضبان قد زال عقله بالغضب فتخرج هذه المسألة على أصلهم المذكور . انظر : فتح القدير والكفاية ( 3/343 ) ؛ اللباب - شرح الكتاب - ( 3/40 ) ؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 2/365 ) ؛ بداية المجتهد ( 2/58 ) ؛ المهذب ( 2/77 ) ؛ مغني المحتاج ( 3/287 ) ؛ المغني ( 10/245 ) .(1/19)
الثالث : أن يستحكم الغضب بصاحبه ويشتد به فهو قد تعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره ، فهذا موضع الخلاف محل النظر(1) .
المبحث الأول : حكم طلاق الغضبان :
اختلف العلماء في طلاق الغضبان على التفصيل السابق على قولين :
فذهب الأحناف وبعض الحنابلة أن طلاق الغضبان لَغْوٌ لا غبرة به(2) .
وذهب المالكية والحنابلة أن طلاق الغضبان واقع معتبر(3)
__________
(1) هذا التقسيم لأنواع الغضب هو تقسيم ابن القيم له كما في إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ص ( 39 ) ؛ زاد المعاد ( 5/215 ) ؛ وقد نقله الرحيباني في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى ( 5/322 ) ؛ وابن عابدين في حاشيته ( 2/427 ) ؛ وقد قارن بينه وبين رأي الأحناف ، ونقله أيضًا الجزيري في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ( 3/294 ) .
(2) حاشية ابن عابدين ( 2/427 ) ؛ وانظر : الفقه الإسلامي وأدلته ( 7/365 ) ؛ وطلاق الغضبان ص ( 32 ) ؛ الفروع لابن المفلح ( 6/340 ) .
(3) حاشية الشرح الكبير ( 2/366 ) ؛ كشاف القناع ( 5/235 ) ؛ شرح منتهى الإرادات ( 3/120 ) ؛=
= ... مطالب أولي النهى ( 5/352 ) ؛ الروض المربع وحاشيته ( 6/490 ) ، وقد نسبت هذا القول للحنابلة لاتفاق الإقناع والمنتهى عليه وما اتفقا عليه فهو المذهب .
... ... أما الشافعية فإني قد خرجت على مذهبهم إلغاء طلاق العضبان إذ لم أجد لهم نصًا كما أشرت من قبل . وخرجت على اشتراطهم القصد في الطلاق ، مغني المحتاج ( 3/287 ) ، وهذا الغضبان قد حال غضبه بينه وبين نيته ، وكذا على اشتراطهم في المطلق الاختيار وإلغائهم طلاق زائل العقل ، المهذب ( 2/77 ) .
... ... وكذا أن الشافعي لا يوقع الطلاق بالكناية في حال الغضب بلا نيته كما ذكره صاحب المغني ( 10/361 ) ، هذا ويشكل عليه أمران :
... الأول : أنهم أوقعوا الطلاق بصريح لفظه بلا نية ، مغني المحتاج ( 3/279 ) .
... والثاني : أن إيقاع طلاق الغضبان هو الذي يفهم من كلام ابن حجر ونقله في الفتح ( 9/301 ) . ولله الأمر من قبل ومن بعد .(1/20)
.
الأدلة :
استدل الأحناف ومن وافقهم بعدة أدلة :
إن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا طلاق ولا عتاق في إغلاق )) (1) . والإغلاق يتناول الغضبان فإنه قد انغلق عليه رأيه(2) .
قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } قال ابن عباس : ( لغوا اليمين أن تحلف وأنت غضبان ) (3) فلما رفع الله المؤاخذة عن الغضبان فيما تلفظ به علمنا إلغاءه لكلامه ومنه طلاقه(4) .
قوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } وما يتكلم به الغضبان في حال شدة غضبه من طلاق ونحوه هو من نزغات الشيطان فإنه يلجئه إلى أن يقول ما لم يكن مختارًا فلا يترتب عليه حكمه(5) .
ويدل عليه حديث عطية السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الغضب من الشيطان )) (6) .
حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا نذر في غضب وكفَّارته كفارة يمين )) (7) .
__________
(1) سبق تخريجه وهو حديث حسن .
(2) مشارق الأنوار للقاضي عياض ( 1/134 ) وقد سبقت الإشارة إليه .
(3) أخرجه ابن جرير في تفسيره والبيهقي في سننه وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير ( 1/268 ) وفي سنده من لم أعرفهم .
(4) طلاق الغضبان ص ( 32 ) .
(5) طلاق العضبان ص ( 35 ) .
(6) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الآداب باب ما يقال عند الغضب برقم ( 3774 ) ؛ وأحمد في مسنده ( 4/226 ) .
(7) أخرجه النسائي في سننه كتاب الأيمان والنذور باب كفارة النذر برقم ( 3841 ) وما بعده ؛ وأحمد في مسنده ( 4/433 ، 440 ) وغيرها . والحاكم في مستدركه ( 4/305 ) ؛ والبيهقي في سننه ( 10/70 ) ومداره على محمد بن الزبير وهو متروك ، التقريب ( 2/161 ) ؛ التهذيب ( 9/167 ) . فهو حديث ضعيف جدًا ، وضعفه الألباني في الإرواء ( 8/211 ) .(1/21)
فإذا كان النذر الذي أثنى الله على من أوفى به قد أثر الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده فالطلاق أولى وأحرى(1) .
حديث أبي بكرة مرفوعًا : (( لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان )) (2) . ولو لا أن الغضب يؤثر في قصده وعلمه لم ينه عن الحكم حال الغضب فدل على نفي القصد فيبطل قوله ومنه طلاقه(3) .
أن السكران بسبب مباح طلاقه غير واقع لأنه غير قاصد للطلاق ومعلوم أن الغضبان كثيرًا ما يكون أسوأ حالاً من السكران(4) .
المناقشة :
1- ... أما حديث عائشة رضي الله عنها في الإغلاق فإنه خارج محل المنزاع إذ هو في الإغلاق ،
والإغلاق ليس هو محض الغضب . قال ابن القيم : ( قال شيخنا : الإغلاق إنسداد باب العلم والقصد عليه ) (5) وهذا طلاقه غير واقع بالاتفاق وهو الحالة الثانية من تقسيم الطلاق .
2- ... أما تفسير ابن عباس فغير صحيح . قال ابن رجب : ( لا يصح إسناده ) (6) ، هذا وقد نقل عنه في تفسير الآية غير ذلك فقد أخرج ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير ( 1/268 ) عن سعيد بن جبير عنه أن لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك قال ابن رجب : ( صح عن غير واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة وفيها الكفارة ) (7) .
__________
(1) طلاق الغضبان ص ( 41 ) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأحكام باب هل يقضي القاضي وهو غضبان برقم ( 7158 ) ؛ ومسلم في صحيحه كتاب الأقضية باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان ( 1717 ) ؛ والترمذي في جامعه كتاب الأحكام باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان رقم ( 1324 ) ؛ وأحمد في مسنده ( 5/52 – 182 )
(3) طلاق الغضبان ص ( 43 ) .
(4) طلاق الغضبان ص ( 45 ) .
(5) تهذيب السنن ( 6/187 ) .
(6) جامع العلوم والحكم ص ( 149 ) .
(7) المصدر السابق ص ( 149 ) ؛ وانظر : تفسير ابن كثير ( 1/268 ) ؛ وعون المعبود ( 9/116 ) حيث ذكرا عددا من الروايات فيه تؤيد ما قاله .(1/22)
3- ... أما القول بأن ما يتكلم به الغضبان هو من نزغات الشيطان فلا يترتب عليه حكمه ، فهذا غير صحيح فإن معناه أن ما كان أثرًا لنزغات الشيطان فلا حكم له وهذا ظاهر البطلاق فإن غالب معاصي ابن آدم وسيئاتهم إنما هي من نزغات الشيطان ووساوسه أعاذنا الله وأياكم منها .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من أقوال وأفعال فلو لا أنه مكلف مؤاخذ لما أمر بذلك والله تعالى أعلم(1) .
وأما حديث عمران فهو ضعيف كما سبق .
وأما حديث أبي بكرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كلف الحاكم حال غضبه فدل على عدم خروجه عن التكليف ؛ ثم إن الحكم يرتبط بحق الغير وليس كالطلاق فإنه مختص باللافظ فقط .
وأما قياسه على السكران فهو صالح للمرتبة الثانية دون ما نحن بصدده وذلك لأن السكران غير عالم بما يقول . قال تعالى : { يا ايها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ، وتقدم أن صاحب المرتبة الثانية هو من بلغ به الغضب نهايته فأزال عقله حتى لا يعلم ما يقوله والله تعالى أعلم .
وقد استدل المالكية والحنابلة لقولهم بما يلي :
__________
(1) من ذلك حديث (( إذا غضب أحدكم فليتوضأ )) أخرجه أبو داود في سننه كتاب الأدب باب ما يقال عند الغضب برقم ( 4774 ) ؛ وأحمد في مسنده ( 4/226 ) عن عطية بن سعد .(1/23)
عن خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها فغضب فظاهر منها وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه وضجر ، وإنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت تشكوا إليه ما تلقى من سوء خلقه فأنزل الله آية الظهار وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفارة في قصة طويلة(1) . فهذا الرجل ظاهر في غضبه فألزم بالكفارة ولم يلغه لكونه غضبانًا والظهار كالطلاق(2) .
عن أبي العالية أن خولة غضب زوجها فظاهر منها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته . قالت إنه لم يرد الطلاق فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه وذكر القصة وفي آخرها قال فحول الله الطلاق فجعله ظهارًا(3) .
قال ابن رجب في جامعه ص ( 149 ) : ( فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى حينئذ أن الظهار طلاق وقد قال إنها حرمت عليه بذلك يعنى لزمه الطلاق فلما جعله الله ظهارًا مكفرًا ألزمه بالكفارة ولم يلغه ) (4) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه كتاب الطلاق باب الظهار رقم ( 2063 ) ؛ والحاكم في مستدركه ( 2/481 ) ؛ والبيهقي في سننه ( 7/382 ) ورجاله ثقات . وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أحمد في مسنده ( 6/46 ) ؛ وابن جرير في تفسيره ( 28/5 ) وغيرهم .
(2) انظر : جامع العلوم والحكم ص ( 149 ) ؛ وزاد المعاد ( 5/325 ) .
(3) أخرجه ابن أبي حاتم كما في ابن كثير ( 4/321 ) ، ابن حجر ( 28/5 ) ، والبيهقي ( 7/392 ) . وله شاهد عن ابن عباس عند البيهقي أيضًا .
(4) قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى الظهار طلاقًا نص عليه في رواية ابن أبي حاتم ، وفيه : ( وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يطلق امرأته قال أنت علي كظهر أمي .. ) الحديث ، وذكر ذلك ابن حجر في الفتح ( 9/342 ) ، وابن القيم في زاد المعاد ( 5/325 ) ، وقال إن أوس بن الصامت إنما نوى به الطلاق وذكره ابن كثير في تفسيره ( 4/321 ) .(1/24)
وقد يرد على الحديثين اعتراض بأن المراد به الحالة الأولى حيث يكون الغضب في مبادئه فأقول قد ورد الحديث بذكر الغضب مطلقًا عامًا إذ إنه لم يستفصل وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، فتدخل الحالات الثلاث فيه ويكون كل من طلق في غضب ألزم بطلاقه ، وخص الإجماع الحالة الثانية حين يبلغ الغضب أشده فتخرج ، وتبقى الحالتان الأخريات مرادتين بهذا الحديث .
ما روي عن مجاهد عن ابن عباس أن رجلا قال له إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان فقال ابن عباس لا أستطيع أن أحل لك ما حرم الله عليك عصيت ربك وحرمت عليك امرأتك(1) .
قول الحسن : ( طلاق السنة يطلقها واحدة طاهرًا من غير جماع وهو بالخيار ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض ، فإن بدا له يراجعها كان أملك بذلك ، فإن كان غضبان ففي ثلاث حيض أو ثلاثة أشهرٍ إن كانت لا تحيض ، ما يذهب غضبه ) (2) .
أن القاعدة الفقهية تقول : ( دلالة الأحوال تختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها وتترتب عليها الأحكام بمجردها ) (3) .
قال ابن رجب في قواعده : ( يتخرج على القاعدة مسائل منها : كنايات الطلاق في حالة الغضب والخصومة لا تقبل دعوى إرادة غير الطلاق بها ) اهـ .
وفيما ذكره خلاف ذكره صاحب المغني ( 10/360 ) وهذا في كنايات الطلاق ففي صريحه أولى وأحرى ، قال في المغني : ( والغضب هاهنا يدل على قصد الطلاق فيقوم مقامه ) اهـ .
الترجيح :
يتبين مما مضى أن الراجح هو ما ذهب إليه المالكية والحنابلة ومن وافقهم من إيقاع الطلاق على الغضبان على التفصيل المذكور وذلك لأمور :
قوة أدلتهم .
__________
(1) أخرجه الدارقطني في كتاب الطلاق ( 4/13 ) ، والجوزجاني وإسناده صحيح وصححه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 9/275 ) .
(2) أخرجه القاضي إسماعيل كما في جامع العلوم والحكم ص ( 149 ) .
(3) القواعد لابن رجب ص ( 322 ) ، القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة .(1/25)
صراحتها وقوة صلتها بالمسألة .
ضعف أدلة المخالفين لما ورد عليها من المناقشة .
أن القاعدة الشرعية أن الأصل في الأبضاع التحريم فالواجب التثبيت في أمرها والتنبّه لها(1) .
وقد اختار هذا القول من المحققين ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى والله أعلم .
الخاتمة :
بعد هذه الجولة الماتعة في كتب أهل العلم من فقهاء ومحدثين ومفسرين وأصوليين نخلص هنا إلى أمور :
وقوع طلاق المكره بحق دون المكره بغير حق .
الغضبان الذي لم يغم عليه فطلاقه واقع .
وهنا أنبه إلى أن الطلاق إنما شرع لحل قيد الزوجية عند تعذر إتمام الزواج والبقاء عليه فلا ينبغي أن يجعل وسيلة لأمور أخرى كما يفعله بعض الجهلة كأسلوب تهديد ، أو وسيلة تأديب أو طريقة تربية ، أو يمينًا يحلف عليها في كل حال فإن هذا كله من اتخاذ آيات الله هزوًا والله المستعان .
والحمد لله أولاً وآخرًا ، وصلى الله على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا .
__________
(1) ممن ذكر هذه القاعدة السيوطي في الأشباه والنظائر ص ( 135 ) ؛ وابن سعدي في رسالته في القواعد الفقهية ص ( 32 ) .(1/26)