ضياء السالكين
تأليف
يحيى بن علي الحجوري
مقدمة
للشيخ مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله
الحمد لله حمدا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فقد قرئ علي شطر رسالة ((السفر)) لأخينا في الله الشيخ الفاضل، التقي الزاهد، المحدث الفقيه أبي عبدالرحمن يحيى بن علي الحجوري حفظه الله فوجدتها رسالة مفيدة، فيها فوائد تشد لها الرحال، اشتملت على فوائد حديثية من جرح وتعديل وتصحيح وتضعيف، وعلى فوائد فقهية من استنباط أحكام، وتفسير غريب، وتوضيح مبهم، شأنه في رسائله الأخرى، وإني لأرجو أن ينفع الله به وبمؤلفاته الإسلام والمسلمين.
والأخ الشيخ يحيى هو ذلك الرجل المحبوب لدى إخوانه لما يرون فيه من حسن الاعتقاد، ومحبة السنة، وبغض الحزبية المساخة، ونفع إخوانه المسلمين بالفتاوى التي تعتمد على الدليل.
أسأل الله أن يحفظه، وأن يدفع عنه كل سوء ومكروه، وأن يعيذنا وإياه من فتنة المحيا والممات، إنه على كل شيء قدير.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
مقدمة المؤلف
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: فيقول ربنا سبحانه وتعالى: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم? والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما? يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا(1)}.
ويقول سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم(2)}.
ويقول: {فإن مع العسر يسرا? إن مع العسر يسرا(3)}.
__________
(1) ? ... سورة النساء، الآية:26-28.
(2) ? ... سورة الحج، الآية:87.
(3) ? ... سورة الشرح، الآية:5-6.(1/1)
ويقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)).
ألا وإن من تيسير الله تعالى ورحمته بعباده أن جعل لهم في السفر أحكاما وآدابا يعبدون الله بها على ما تقتضيه أحوالهم تلك المقرونة بالمشاغل الذهنية والجسمية وأتعاب السفر الشاقة، وقد علم الله عز وجل وأخبر في كتابه أن حال الناس لا يخلو من أمرين: إما ظاعن، وإما مقيم، قال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم(1)}.
وإذا كان حال جميع الناس لا يخلو من الأسفار إما لحج أو عمرة أو غير ذلك، كان لزاما على المسلم أن يعرف ما تعبده الله به في هذا الأمر الذي يعتبر من ضروريات الحياة الدنيا، وقد تشعبت في بعض مسائله الأقوال وتبلدت عندها الأذهان(2).
لذا فإني أستعين الله عز وجل في جمع شتات ذلك من الأحكام والآداب الشرعية متحريا بفضل الله ثبوت ما أستدل به في ترجيح الصحيح من القول ودفع ضده، وقد جعلته على الأبواب الفقهية، فأذكر الباب ثم أذكر ما يدل عليه من الكتاب والسنة، ثم أذكر بعض خلاف أهل العلم مع بيان الراجح في المسألة بدليله حسب فهم علماء سلفنا الصالح رضوان الله عليهم.
__________
(1) ? ... سورة النحل، الآية:80.
(2) ? ... قال الإمام الشوكاني رحمه الله: واعلم أن هذه الثلاثة الأبحاث المذكورة في هذا الباب هي من المعارك التي تبلدت عندها الأذهان، وقد اضطربت فيها المذاهب اضطرابا شديدا، وتباينت فيها الأنظار تباينا زائدا. ? من ?الدراري المضية شرح الدرر البهية? ص (93) طبعة الريان. والثلاث المسائل التي ذكرها هي: تحديد مسافة القصر، مدة قصر المتردد، مدة قصر من عزم على إقامة أيام ببلد من البلدان.(1/2)
هذا وإني لأشكر الله عز وجل عل كل نعمة أنعم بها علي ومن أجلها وأعظمها أن حبب إلي علم كتابه وسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ثم أشكر من تعاون معي في إخراج هذا الكتاب بكتاب أو طباعة أو مقابلة أو إرشاد وفي طليعة من يستحق الشكر والتقدير شيخنا ومعلمنا الفاضل العلامة مقبل بن هادي الوادعي رعاه الله.
والحمد لله رب العالمين.
تعريف السفر
السفر لغة: قطع المسافة، والجمع أسفار.
وشرعا: مفارقة محل الإقامة بنية الضرب في الأرض، يقال: قوم سفر وقوم مسافرون. اهـ من ((النهاية)) لابن الأثير و((مفردات الراغب الأصفهاني)).
ذكر السفر في القرآن(1/3)
قال الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر(1)}، وقال الله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر(2)}، وقال الله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة(3)}، وقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا(4)}، وقال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه(5)}، وقال تعالى: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك(6)}، وقال تعالى: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم(7)}، وقال تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة(8)}، وقال تعالى: {وءاخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله(9)}، وقال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض(10)}.
__________
(1) ? ... سورة البقرة، الآية:184.
(2) ? ... سورة البقرة، الآية:185.
(3) ? ... سورة البقرة، الآية:283.
(4) ? ... سورة النساء، الآية:43.
(5) ? ... سورة المائدة، الآية:6.
(6) ? ... سورة التوبة، الآية:43.
(7) ? ... سورة سبأ، الآية:19.
(8) ? ... سورة النساء، الآية:101.
(9) ? ... سورة المزمل، الآية:20.
(10) ? ... سورة المائدة، الآية:106.(1/4)
والضرب في الأرض هو السفر كما في ((لسان العرب)) لابن منظور، وقال الراغب الأصفهاني في ((مفردات القرآن)): والضرب في الأرض هو الذهاب فيها، أي: ضربها بالأرجل قال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا(1)}، وقال سبحانه: {للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف(2)}.
وحال الناس لا يخلو من أمرين: إما مقيم، وإما ظاعن مسافر.
قال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم(3)}.
السفر يشق على النفس
قال الله تعالى عن المنافقين المتخلفين عن الغزو مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة(4)} .
قال أبوعبيد وغيره: الشقة: السفر إلى أرض بعيدة، يقال منه شقة شاقة، وهكذا قال الجوهري والراغب الأصفهاني والقرطبي في تفسيره عند الآية.
وقال موسى عليه الصلاة والسلام لفتاه حين بلغ مجمع البحرين في البحث عن الخضر لأخذ العلم منه: {ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا(5)}، والنصب هو التعب والمشقة، قال الله تعالى لنبيه: {فإذا فرغت فانصب(6)}، أي: اتعب في عبادته واجتهد فيها، قال الراغب: والنصب التعب.
قلت: ومنه الحديث الذي عند البخاري رقم (2820)، ومسلم رقم (2432): عن أبي هريرة رضي الله عنه أن جبريل قال: ?يا محمد بشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب?. أي: ولا تعب.
__________
(1) ? ... سورة آل عمران، الآية:156.
(2) ? ... سورة البقرة، الآية:273.
(3) ? ... سورة النحل، الآية:80.
(4) ? ... سورة التوبة، الآية:43.
(5) ? ... سورة الكهف، الآية:62.
(6) ? ... سورة الشرح، الآية:7.(1/5)
قال القرطبي رحمه الله عند الآية (62) الكهف: فيه مسألة واحدة وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وفيه رد على الصوفية الجهلة الأغمار الذين يقتحمون المهامة والقفار زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الواحد القهار، وهذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه وتوكله على رب العباد، وأن قوله: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الألم والأمراض، وإن ذلك لا يقدح في الرضى ولا في التسليم للقضاء، إذا لم يصدر عن ضجر وسخط. اهـ تعليقه على الآية من ((تفسيره)).
وأخرج البخاري في كتاب الحج رقم (1804)، ومسلم رقم (1927): من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه وشهوته، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله?.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)) عند الحديث ?السفر قطعة من العذاب? قال: أي جزء منه، والمراد بالعذاب: الألم الناشئ عن المشقة، لما يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف.
وقوله: ((يمنع أحدكم طعامه وشرابه وشهوته)) أي: يمنع كمال هذه الأشياء لا أصلها قال: وفي الحديث كراهة التغرب عن الأهل لغير حاجة واستحباب استعجال الرجوع إلى أهله، لا سيما من يخشى عليهم الضيعة بالغيبة ولما في الإقامة في الأهل من الراحة المعينة على صلاح الدين والدنيا. اهـ المراد من ((الفتح)) (3/623) الطبعة السلفية.(1/6)
قلت: فهذا يدل على أن السفر ليس في أصله محبوبا إلى النفوس، ولا له في حد ذاته فضل، ولهذا فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقر من أمر بالتغريب في حق من زنا وهو غير محصن، وإن كان قد يحصل فيه بعض الفوائد غالبا، فقد ذكر الفيروزآبادي وابن منظور والراغب الأصفهاني أن السفر من معانيه كشف الغطاء، ومنه قوله: {والصبح إذا أسفر(1)} أي: تجلى وأشرق نوره، ويقال: أسفرت المرأة الغطاء عن وجهها، وأسفر الرجل العمامة عن رأسه. ومعنى هذا أن السفر يسفر عن الرجال ويكشف عن حالهم، ويجلي صفاتهم من ضعف وقوة، وجبن وشجاعة، وكرم وبخل، ونحو ذلك، وأيضا السفر يجعل المسافر يطلع على أحوال الناس في الكرم وبعض المعاملات الحسنة، فلربما يصلح بها نفسه ويكمل بها نقصه. وأيضا يعرف الناس ما عنده فيفيد أو يستفيد بمخالطتهم، ومنها: التعود على الخشونة وعدم الركود في البيوت، ومنها التعود على السراء والضراء الحاصلة في السفر وغير ذلك.
قال الإمام الشافعي رحمه الله كما في الديوان المنسوب إليه:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى لتفريج هم واكتساب معيشة ... وسافر ففي الأسفار خمس فوائد وعلم وآداب وصحبة ماجد
وقال:
ارحل بنفسك عن أرض تضام بها فالعنبر الخام روث في مواطنه والكحل نوع من الأحجار تنظره لما تغرب حاز الفضل أجمعه ... ولا تكن من فراق الأهل في حرق وفي التغرب محمول على العنق في أرضه وهو مرمي على الطرق فصار يحمل بين الجفن والحدق
قلت: فهذه بعض الفوائد التي تحصل من السفر لا فوائد السفر بذاته، ولم أجد دليلا صحيحا على فضل السفر، أما حديث ?سافروا تغنموا? فكل طرقه ضعيفة، وانظر إن شئت من مصادر ضعفه ((السلسلة الضعيفة)) للعلامة الألباني رحمه الله (ج1 ص277-279)، و((فيض القدير)) للمناوي (ج4 ص81-82).
أنواع أسفار النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ? ... سورة المدثر، الآية:34.(1/7)
قال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد)) (ج1 ص462): وكانت أسفاره -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دائرة بين أربعة أسفار:
1- سفره لهجرته. ... 2- وسفره لجهاده وهو أكثرها.
3- وسفره للعمرة. ... 4- وسفره للحج. اهـ المراد
وقال ابن الجوزي رحمه الله: للإنسان ستة أسفار: سفره من سلالة الطين إلى الصلب، ثم منه إلى الرحم، ثم منه إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الموقف، ثم إلى منزل الثواب أو العذاب.
فإذا علم الإنسان حكم سفر الدنيا فينبغي أن ينظر في المهم وهو ما بقي من أسفاره. اهـ من ((الإعلام)) لابن الملقن (ج4 ص89).
حكم السفر بذاته
لا يوجد دليل صحيح على مدحه ولا ذمه مطلقا في الشرع فيما أعلم، فيبقى أن الأصل فيه الإباحة، وقد يكون واجبا إذا كان لأداء فريضة الحج والهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، أو مستحبا إذا كان لطلب علم شرعي غير واجب عليه تعلمه، أو لزيارة أحد المساجد الثلاثة ونحو ذلك من المستحبات.
وقد يكون محرما إذا شد الرحل إلى قبر لزيارته، أو دعاء المقبور فيه، وكذلك السفر إلى بلاد الكفار لفعل المعصية فيها، أو لفعل المعصية أيا كان فهنا يكون السفر محرما لأنه وسيلة إلى محرم.
وقد يكون السفر مكروها كمن يسافر وحده بغير ضرورة، فعلم أن السفر وسيلة لغاية وله حكمها.
العقيدة والتوحيد في السفر
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1189): حدثنا علي، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومسجد الأقصى?. أخرجه مسلم (1397).
وعن بصرة الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ?لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى?.(1/8)
أخرجه أحمد (6/7)، والنسائي (3/113، 115) وسنده صحيح.
قال في ((عون المعبود)) (ج6 ص12) تقدير الكلام: لا تشد الرحال إلى المساجد إلا إلى ثلاثة، وعلى الوجه الثاني: لا تشد الرحال إلى موضع يتقرب به إلا إلى ثلاثة مساجد.
قلت: فشد الرحال إلى طلب العلم أو إلى التجارة المباحة، أو زيارة رحم أو أخ في الله على قيد الحياة لا يدخل تحت الحديثين المذكورين، فعلى شرعية ذلك أدلة متكاثرة من الكتاب والسنة، وانظر باب فضل السفر لطلب العلم من هذا الكتاب.
تعليم التوحيد والتحذير من تقليد الكفار في السفر
عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط. وكان الكفار ينوطون بسلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة(1)} إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم?.
أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج5 ص218) فقال: حدثنا حجاج، قال: حدثني الليث يعني ابن سعد، قال: حدثنا عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي ثم الجندعي، عن أبي واقد الليثي.. فذكر الحديث.
قال: وحدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سنان به. ومن هذه الطريق أخرجه عبدالرزاق كما في ((المصنف)) (ج11 ص369)، والطبراني في ((الكبير)) (ج3 رقم 3290).
وأخرجه الترمذي في ((جامعه)) (ج4 ص475) رقم (2180) من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري. ومن هذه الطريق أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج15 ص101)، والحميدي في ((مسنده)) رقم (848) (ج2 ص375)، والطبراني في ((الكبير)) (ج3 رقم 3292)، وأبويعلى في ((المسند)) (ج3 ص30).
__________
(1) ? ... سورة الأعراف، الآية:138.(1/9)
والطيالسي في ((مسنده)) رقم (1346) من طريق إبراهيم بن سعد الزهري عن سنان به. وسقط عنده الزهري، وهو مثبت في الأصول الأخرى غير التي ذكرت الحديث من هذه الطريق. ومن هذه الطريق أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) رقم (76).
والطبراني في ((الكبير)) (ج3 ص3294) عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سنان.
وأخرجه ابن حبان (ج15 ص94 رقم 6702 ((الإحسان))) من طريق حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب الزهري به.
وأخرجه الطبراني في ((الكبير)) (ج3 ص244) من طريق ابن إسحاق قال: حدثني الزهري، عن سنان بن أبي سنان به.
وأخرجه أحمد (ج5 ص518)، والطبراني (ج3 رقم 3291) من طريق مالك بن أنس، عن الزهري به.
فهؤلاء سبعة أئمة كلهم ثقات هم ومن دونهم يروون الحديث عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان. وهذا سند صحيح، فمحمد بن مسلم الزهري ثقة حافظ فقيه متفق على جلالته وإتقانه. وقد روى عن سنان بن أبي سنان الديلي في البخاري (ج7 ص426) مقرونا، وأيضا مسلم كما في ترجمة الزهري من ((تهذيب الكمال)) وصح بأن سنانا أخبر الزهري أنه سمع أبا واقد يقول فذكر الحديث كذا عند ابن حبان (ج15 ص94)، والطبري (13 ص82) وسنان ثقة، وثقه العجلي وابن حبان، وروى له الشيخان في ((صحيحيهما)) مقرونا، وروى عنه إمامان جليلان هما الزهري وزيد بن أسلم، وارتضى توثيقه الحافظ ابن حجر في ((التقريب)) والذهبي في ((الكاشف)) والخزرجي في ((الخلاصة)) وغيرهم. وأبوواقد الليثي صحابي جليل فماذا بعد هذا.
قال الترمذي (ج4 ص475): وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة.
قلت: حديث أبي سعيد في البخاري رقم (3456)، ومسلم (2669) بلفظ: ?لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه))، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن?.(1/10)
وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري (ج13 ص300) رقم (7319) بلفظ: ?لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع)) فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ((ومن الناس إلا أولئك?.
وعن عباد بن تميم، أن أبا بشير الأنصاري أخبره أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض أسفاره، قال: فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رسولا في مبيتهم: ((لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت?.
أخرجه مسلم رقم (2115).
وسيأتي ذكره في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السفر.
المسافر إذا علم ببلد فيه وباء لا يقدم عليه
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (5728): حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت إبراهيم بن سعد، قال: سمعت أسامة بن زيد يحدث سعدا عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها))، فقلت: أنت سمعته يحدث سعدا ولا ينكره؟ قال: نعم.
أخرجه مسلم رقم (2218) قال: عن أسامة بن زيد وسعد، فذكر الحديث من حديثهما مقرونان.(1/11)
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (5729): حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبدالحميد بن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، عن عبدالله بن عبدالله بن الحارث بن نوفل، عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبوعبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم، فاختلفوا فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادعوا لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه(1). قال أبوعبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟! فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله، إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)) قال: فحمد الله عمر ثم انصرف. اهـ
أخرجه مسلم رقم (2219).
تحريم التطير في السفر وغيره
__________
(1) ? ... أي رجع إلى المدينة.(1/12)
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?لن ينال الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفره تطيرا?.
قال العلامة الألباني حفظه الله: رواه تمام في ((الفوائد)) رقم (2307) نسختي عن محمد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي الكوفي. قال: حدثنا يحيى ابن داود، قال: حدثنا إبراهيم بن يزيد، قال: حدثنا رقبة بن مصقلة، عن رجاء بن حيوة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعا. قال: وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال الشيخين غير يحيى بن داود بن ميمون الواسطي ذكره ابن حبان في ((الثقات)) (ج9 ص266) وقال: مستقيم الحديث. وإبراهيم بن يزيد هو مردانبه القرشي مولى عمرو بن حريث وهو صدوق. اهـ المراد من ((الصحيحة)) (ج5 ص193).
وذكره المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (ج3 ص620) رقم (4474)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج5 ص118) وقالا: أخرجه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات، وذكره الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (ج10 ص213) وقال: رجاله ثقات، وذكره السيوطي في ((الجامع)) قال المناوي: أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء، وقال الهيثمي تبعا للمنذري: رواه الطبراني بإسنادين أحدهما رجاله ثقات، وقال في ((الفيض)): رجاله ثقات لكن أظن أن فيه انقطاعا، لكن له شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه البزار في أثناء حديث بسند جيد. اهـ من ((فيض القدير)) (ج5 ص304).
قلت: وحديث أبي الدرداء قد ذكره ابن كثير في تفسير آية: 3 من سورة المائدة (ج2 ص13) فقال: روى ابن مردويه، من طريق إبراهيم بن يزيد، عن رقبة، عن عبدالملك بن عمير، عن رجاء بن حيوة، عن أبي الدرداء... فذكر الحديث.
قلت: وفيه ثلاث علل:
الأولى: إبراهيم بن يزيد ليس كما يقول العلامة الألباني إنه صدوق، بل هو ضعيف، قال البخاري: لا يحتجون بحديثه. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الأزدي: عنده مناكير. ولم يوثقه غير ابن حبان. اهـ(1/13)
الثانية: أن عبدالملك بن عمير مدلس ذكره الحافظ في ((مراتب المدلسين)) وأنت تراه قد عنعن.
الثالثة: أن رجاء بن حيوة أرسل عن أبي الدرداء كما في ((جامع التحصيل)).
هذا وإن للحديث شاهدا عند البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج4 ص399) قال رحمه الله: حدثنا محمد بن مرزوق، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا أبوحمزة العطار، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له?.
قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج5 ص117): رجاله رجال الصحيح، خلا إسحاق بن الربيع العطار هو أبوحمزة المتقدم في السند قال الهيثمي: وهو ثقة. وليس كما قال، فقد قال فيه الفلاس: ضعيف الحديث. وقال أبوحاتم: يكتب حديثه، وكان حسن الحديث. وقال ابن عدي: ومع ضعفه يكتب حديثه. اهـ من ((تهذيب التهذيب)) فمثله لا يحسن حديثه.
والحسن الراوي عن عمران هو البصري قد نفى سماعه من عمران جماعة، منهم أبوحاتم وعلي بن المديني، ويحيى القطان، وأثبت ابن معين لقاء الحسن لعمران في حديث البصريين، ولا شك أن القائلين بالنفي أكثر وقولهم أصرح وأبين.
وللحديث شاهد آخر: قال البزار رحمه الله (ج4 ص399) ((كشف الأستار)): حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبوعامر. قال: حدثنا زمعة، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس بلفظ حديث عمران.. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج5 ص117): رواه البزار والطبراني في ((الأوسط)) وفيه زمعة بن صالح ضعيف.
قلت: نعم سنده في ((مجمع البحرين)) (ج7 ص133) مخرجه أبوعامر العقدي وهو ثقة، قال: حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام.. فذكر الحديث.
وسلمة بن وهرام يحسن حديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه، قاله ابن حبان. أما إذا روى عنه زمعة فلا، لأنه يروي عنه مناكير، قاله أحمد بن حنبل، وزمعة ضعيف، ومع هذا فالحديث يصلح في الشواهد.(1/14)
فيصير حديث أبي الدرداء، وعمران بن حصين، وابن عباس، بمجموع الطرق صالحا للاحتجاج والحمد لله.
الملائكة لا يظهر عليهم أثر السفر
عن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)) قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: ((أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) قال: ثم انطلق فلبثت مليا، ثم قال لي: ((يا عمر أتدري من السائل))؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم?. أخرجه مسلم برقم (8) والحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بدون الشاهد الذي ذكرناه من ((صحيح مسلم)) لأجله.
هل المسافر يكتب له ما كان يعمل في إقامته(1/15)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2996): حدثنا مطر بن الفضل، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوام، حدثنا إبراهيم أبوإسماعيل السكسكي، قال: سمعت أبا بردة واصطحب هو ويزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبوبردة: سمعت أبا موسى مرارا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا?.
وأخرجه أبوداود رقم (3091)، وابن أبي شيبة (ج2 ص229)، وأحمد (ج4 ص400، 418) كلهم من طريق إبراهيم بن عبدالرحمن السكسكي، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: ضعيف، وضعفه شعبة، وقال النسائي: ليس بذاك، وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثا منكرا وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، وذكره العقيلي في ((الضعفاء)). فهو ضعيف ومذكور أيضا في ((الإلزامات والتتبع)) للدارقطني ص(231).
وللفظة (المرض) شواهد كثيرة تصح بها، منها حديث أنس أخرجه أحمد (ج3 ص148، 238، 258) من طريق حماد بن سلمة، عن سنان بن ربيعة، عن أنس. قال عفان في حديثه قال: أخبرنا أبوربيعة، قال: سمعت أنس ابن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: اكتب له صالح عمله الذي كان يعمله، فإن شفاه غسله وطهره، وإن قبضه غفر له ورحمه?.
وأبوربيعة هو سنان بن ربيعة الباهلي صدوق فيه لين، روى له البخاري في ((الصحيح)) مقرونا، واعتمده في ((الأدب المفرد)).
وقال ابن معين: ليس بالقوي، وقال أبوحاتم: مضطرب الحديث، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به.
وله شاهد آخر من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?ما من أحد يمرض إلا كتب له مثل ما كان يعمل?. وهو صحيح.(1/16)
وأخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) رقم (500)، وأحمد في ((المسند)) (ج2 ص203)، والحاكم (ج1 ص348) من طريق عاصم بن أبي النجود، عن خيثمة بن عبدالرحمن، عن عبدالله بن عمرو.. فذكر الحديث.
وأخرجه (ج2 ص205.194) من طريق عاصم وأبي بكر بن عباس، عن القاسم بن مخيمرة، عن عبدالله بن عمرو به.
وذكره شيخنا في ((الصحيح المسند)) (ج1 ص548) ولم أجد شاهدا للفظة (أو سافر) المذكورة في الحديث، فتبقى على الضعف والله أعلم.
النصيحة والتعليم في السفر
عن عبدالله بن عمرو قال: تخلف عنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار)).
أخرجه البخاري رقم (60)، ومسلم رقم (241).
عن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذوالقعدة وذوالحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، أي شهر هذا؟)). قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: ((أليس ذا الحجة))؟ قلنا: بلى. قال: ((أي بلد هذا))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس البلدة))؟ قلنا: بلى، قال: ((فأي يوم هذا))؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: ((أليس يوم النحر))؟ قلنا: بلى، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم قال: محمد وأحسبه قال : وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه?.
أخرجه البخاري رقم (67)، ومسلم رقم (1679).(1/17)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص278): حدثنا عبدالرحمن، عن إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، قال: لما أنزلت: {الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: قد نزل في الذهب والفضة ما نزل، فلو أنا علمنا أي المال خير اتخذناه؟ فقال: ((أفضله لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا)). اهـ
ورجال إسناده كلهم ثقات، إلا أنه منقطع، سالم بن أبي الجعد قال البخاري والترمذي وابن المديني: لم يسمع من ثوبان. ومن هذه الطريق أخرجه الترمذي رقم (3094)، وللحديث شاهد في ((مسند أحمد)) (ج5 ص366).
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني سالم، قال: سمعت عبدالله بن أبي الهذيل، قال: حدثني صاحب لي أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((تبا للذهب والفضة)) قال: فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله قولك: ((تبا للذهب والفضة)) ماذا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين على الآخرة?.اهـ
هكذا في ((مسند أحمد)): سالم، والصواب: سلم، لأن شعبة بن الحجاج لم يذكر الحافظ المزي في ((تهذيب الكمال)) أنه روى عن أحد اسمه سالم، وروى عن سلم بن عطية، وذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث عند ترجمة سلم، فلا شك أنه سلم بن عطية، وهو لين الحديث، وباقي رجال السند ثقات، وابن أبي الهذيل وثقه النسائي وغيره، فهو بهاتين الطريقين يصلح للاحتجاج، وله شواهد في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (ج3 ص41، 42) تعطيه قوة.
وأخرجه الحافظ ابن حجر في كتابه ((الإمتاع في الأربعين المتباينة بشرط السماع)) ص (136).
قال: واقتبست منه هذا المعنى فقلت:
من خير ما يتخذ الإنسان في قلبا شكورا ولسانا ذاكرا ... دنياه كيما يستقيم دينه وزوجة صالحة تعينه(1/18)
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2527): حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبدالله بن وهب، أخبرني عاصم بن حكيم، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبدالله بن الديلمي، أن يعلى بن منية قال: آذن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني، وأجري له سهمه، فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي فسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فذكرت له أمره فقال: ((ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى?.اهـ
وسنده حسن كل رجاله ثقات إلا عاصم بن حكيم فصدوق.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يسأل يوم النحر بمنى فيقول: ?لا حرج?.
أخرجه البخاري رقم (1723).
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: وقف رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: ((اذبح ولا حرج)) ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ((ارم ولا حرج)) قال: فما سئل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)).
أخرجه البخاري رقم (1736) باب الفتيا على الدابة عند الجمرة، ومسلم رقم (1306).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رأى رجلا يسوق بدنة فقال له: ((اركبها)) فقال: يا رسول الله إنها بدنة! قال: في الثالثة أو في الرابعة: ((اركبها ويلك أو ويحك?.
أخرجه البخاري رقم (2754)، ومسلم (1323).(1/19)
وعن يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو بالجعرانة وعليه جبة وهو متضمخ بالطيب فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأوحي على النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلما سري عنه قال: ((أين السائل عن العمرة، اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق عنك، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك?.
أخرجه البخاري رقم (1789، 1536)، ومسلم (1180).
قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج5 ص425): حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، حدثني بكير بن عطاء، عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو بعرفة فجاء ناس أو نفر من أهل نجد فأمروا رجلا فنادى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كيف الحج؟ فأمر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رجلا فنادى: ((الحج الحج يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فتم حجه?. وسنده صحيح.
وقال رحمه الله رقم (1949) باب من لم يدرك عرفة: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل، حدثنا عامر، أخبرني عروة بن مضرس الطائي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالموقف يعني بجمع قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيئ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال: رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من أدرك معنا هذه الصلاة(1)وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه وقضى تفثه?.
__________
(1) ? ... يعني صلاة الصبح بمزدلفة كما تقدم في حديث عبدالرحمن بن يعمر، وهذا فيه أن من وقف بعرفة بعد الزوال من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر فقد أدرك الحج. وانظر ?عون المعبود? عند حديث رقم (1941).(1/20)
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص215): حدثنا هشيم، أخبرنا عوف، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس قال: قال لي رسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- غداة جمع: ((هلم القط لي)) فلقطت له حصيات من حصى الخذف فلما وضعهن في يده قال: ((نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين?.
وأخرجه النسائي (ج5 ص268)، وابن ماجه (3029)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص466)، والبيهقي (ج5 ص127) كلهم من طريق عوف بن أبي جميلة، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس به، ورجال إسناده ثقات، وأصله في مسلم رقم (1282) بدون زيادة ?وإياكم والغلو?.
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس)).اهـ
أخرجه البخاري رقم (1542)، ومسلم رقم (1177).
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوم عرفة فسمع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وراءه زجرا شديدا، وضربا وصوتا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: ((أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع?.
أخرجه البخاري رقم (1671)، وبعضه في مسلم رقم (1282).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: حاضت صفية ليلة النفر فقالت: ما أراني إلا حابستكم، قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((عقرى حلقى أطافت يوم النحر))؟ قيل: نعم، قال: ((فانفري?.
أخرجه البخاري رقم (1771)، ومسلم (1211).(1/21)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص33): حدثنا يزيد، أخبرنا كهمس بن الحسن، حدثنا عبدالله بن شقيق، حدثني رجل من عنزة يقال له زائدة أو مزيدة بن حوالة قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر من أسفاره فنزل الناس منزلا ونزل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ظل دوحة فرآني وأنا مقبل من حاجة لي، وليس غيره وغير كاتبه فقال: ((أنكتبك يا ابن حوالة))؟ قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فلها عني، وأقبل على الكاتب، قال: ثم دنوت دون ذلك قال: فقال: ((أنكتبك يا ابن حوالة))؟ قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فلها عني، وأقبل على الكاتب، قال: ثم جئت فقمت عليهما فإذا في صدر الكتاب أبوبكر وعمر فظننت أنهما لن يكتبا إلا في خير فقال: ((أنكتبك يا ابن حوالة))؟ فقلت: نعم يا نبي الله. فقال: ((يا ابن حوالة كيف تصنع في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر))؟ قال: قلت أصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: ((عليك بالشام))، ثم قال: ((كيف تصنع في فتنة كأن الأولى فيها نفجة أرنب))؟ قال: فلا أدري كيف قال في الآخرة، ولأن أكون علمت كيف قال في الآخرة أحب إلي من كذا وكذا.اهـ
وسنده صحيح، يزيد هو ابن هارون الواسطي أرفع من ثقة، وكهمس بن الحسن ثقة، وعبدالله بن شقيق هو العقيلي ثقة في روايته، وزائدة بن حوالة صحابي مذكور في ((الإصابة)) وغيرها ويذكرون له هذا الحديث.(1/22)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب?.
أخرجه البخاري رقم (4347)، ومسلم (ج1 ص196 رقم19) نووي.
فضل الخروج في طاعة الله سفرا كان أو غيره
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبوعامر، حدثنا عبدالله بن جعفر، عن عثمان بن محمد، عن المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ما من خارج يخرج يعني من بيته إلا بيده رايتان، راية بيد ملك، وراية بيد شيطان، فإن خرج لما يحب الله عز وجل اتبعه الملك برايته، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته، فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته)).اهـ
وسنده صحيح، أبوعامر هو العقدي عبدالملك بن عمرو ثقة، وثقه جماعة من المحدثين، وعبدالله بن جعفر هو ابن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة قال أحمد: ثقة ثقة، ووثقه غيره أيضا، وعثمان بن محمد هو ابن الأخنس، قال ابن معين: ثقة. ووثقه البخاري، والمقبري هو سعيد بن أبي سعيد المقبري، وثقه ابن معين، وأبوزرعة وابن المديني والنسائي وغيرهم واسم أبيه كيسان.(1/23)
وسيأتي حديث أبي هريرة عند مسلم رقم (2699) في الباب الذي بعد هذا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة)). وحديث صفوان بن عسال أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ما من خارج يخرج من بيته في طلب علم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها)). وكثير من أحاديث الباب بعد هذا الباب هي من هذا الباب.
السفر لطلب العلم
قال الله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون(1)}.
قال الإمام عبدالرزاق رحمه الله في ((المصنف)) (ج1 ص204) رقم (793): عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: جئت أطلب العلم، قال: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ?ما من خارج يخرج من بيته في طلب علم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع ... ?. الحديث.
أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج4 ص239، 240)، وابن ماجه رقم(266) في المقدمة، وابن خزيمة (ج1 ص97) رقم (193)، والطبراني في ((الكبير)) (ج8 ص56)، وابن حبان في ((صحيحه)) رقم (85) كلهم من طريق عبدالرزاق الصنعاني به، وسنده حسن رجاله كلهم ثقات إلا عاصم بن أبي النجود فحسن الحديث.
__________
(1) ? ... سورة التوبة، الآية:122.(1/24)
قال البخاري رحمه الله رقم (78): حدثنا أبوالقاسم خالد بن خلي قاضي حمص، قال: حدثنا محمد بن حرب، قال: حدثنا الأوزاعي، أخبرنا الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر ابن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه هل سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يذكر شأنه؟ فقال أبي: نعم سمعت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يذكر شأنه يقول: ((بينما موسى في ملإ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلى عبدنا خضر، فسأل السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان موسى صلى الله عليه يتبع أثر الحوت في البحر، فقال فتى موسى لموسى: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، قال موسى: ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا خضرا فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه)).
وأخرجه مسلم رقم (2830).
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة)).
أخرجه مسلم رقم (2699).(1/25)
وقد كانت همة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كبيرة، ونياتهم عظيمة في البحث عن العلم الشرعي حتى قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: والذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه.
أخرجه البخاري رقم (5002)، ومسلم (2462).
وتكاثر الوافدون على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لطلب العلم الشرعي.
فعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل علي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديدا قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها.
رواه مسلم (876).
عن طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته، ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((خمس صلوات في اليوم والليلة)) فقال: هل علي غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))، قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((وصيام رمضان)) قال: هل علي غيره؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع))، قال: وذكر له رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الزكاة قال: هل علي غيرها؟ قال: ((لا، إلا أن تطوع)) قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أفلح إن صدق?.
أخرجه البخاري رقم (46) في الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه، ومسلم رقم (11).(1/26)
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن وفد عبدالقيس لما أتوا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من القوم أو من الوفد))؟ قالوا: ربيعة، قال: ((مرحبا بالقوم أو بالوفد غير خزايا ولا ندامى)) فقالوا: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة. وسألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: ((أتدرون ما الإيمان بالله وحده))؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس، ونهاهم عن أربع عن: الحنتم والدباء والنقير والمزفت وربما قال: المقير وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم?.
أخرجه البخاري في الإيمان رقم (53) باب أداء الخمس من الإيمان، ومسلم رقم (17).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)).
أخرجه البخاري رقم (4388)، ومسلم رقم (52).
وأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج4 ص84) من حديث جبير بن مطعم قال: بينا نحن مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بطريق مكة إذ قال: ((يطلع عليكم أهل اليمن كأنهم السحاب هم خيار من في الأرض)) فقال رجل من الأنصار: ولا نحن يا رسول الله فسكت؟ قال: ولا نحن يا رسول الله فسكت؟ قال: ولا نحن يا رسول الله؟ فقال في الثالثة كلمة ضعيفة: ((إلا أنتم?.
وسنده صحيح على شرط الشيخين.(1/27)
عن عمران بن حصين قال: إني عند النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: ((اقبلوا البشرى يا بني تميم))، قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: ((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم)) قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: ((كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء?.
أخرجه البخاري في التوحيد رقم (7418).
قال البخاري رحمه الله في التوحيد باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله رقم (88): عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالمدينة فسأله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((كيف وقد قيل)) ففارقها عقبة ونكحت زوجا غيره.(1/28)
عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مستخفيا جرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: ((أنا نبي)) فقلت: وما نبي؟ قال: ((أرسلني الله)) فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء)) قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: ((حر وعبد))، قال: ومعه يومئذ أبوبكر وبلال ممن آمن به، فقلت: إني متبعك قال: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)) قال: فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- المدينة وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: ((نعم أنت الذي لقيتني بمكة)) قال: فقلت: بلى، فقلت: يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة. وذكر تمام الحديث.
أخرجه مسلم بطوله رقم (832) في كتاب صلاة المسافرين باب إسلام عمرو بن عبسة.(1/29)
عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رحيما رفيقا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألنا عمن تركنا بعدنا؟ فأخبرناه قال: ((ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم)) وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها ((وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم)).
أخرجه البخاري رقم (631)، ومسلم رقم (674).
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر فقال: ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا يعرفه وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فاضطجع فرآه علي فعرف أنه غريب ... إلخ الحديث.
أخرجه البخاري رقم (3861) في مناقب الأنصار باب إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، ومسلم رقم (2474).
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها الله رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ما هذا))؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((دعوها فإنها منتنة..?. إلخ الحديث.
أخرجه البخاري (ج8 ص648)، ومسلم (ج4 ص1998-1999). وتقدم حديث النهي عن الجرس في السفر.
النصيحة والكتابة في السفر(1/30)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص33): حدثنا يزيد، أخبرنا كهمس بن الحسن، حدثنا عبدالله بن شقيق، حدثني رجل من عنزة يقال له: زائدة أو مزيدة بن حوالة، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر من أسفاره فنزل الناس منزلا ونزل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ظل دوحة فرآني وأنا مقبل من حاجة لي، وليس غيره وغير كاتبه، فقال: ((أنكتبك يا ابن حوالة))؟ قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فلها عني وأقبل على الكاتب، قال: ثم دنوت دون ذلك، قال: فقال: ((أنكتبك يا ابن حوالة))؟ قلت: علام يا رسول الله؟ قال: فلها عني وأقبل على الكاتب، قال: ثم جئت فقمت عليهما فإذا في صدر الكتاب أبوبكر وعمر، فظننت أنهما لن يكتبا إلا في خير، فقال: ((أنكتبك يا ابن حوالة))؟ فقلت: نعم يا نبي الله. فقال: ((يا ابن حوالة كيف تصنع في فتنة تثور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر))؟ قال: قلت: أصنع ماذا يا رسول الله؟ قال: ((عليك بالشام)) ثم قال: ((كيف تصنع في فتنة كأن الأولى فيها نفجة أرنب))؟ قال: فلا أدري كيف قال في الآخرة، ولأن أكون علمت كيف قال في الآخرة أحب إلي من كذا وكذا. اهـ وسنده صحيح يزيد هو ابن هارون الواسطي أرفع من ثقة، وكهمس بن الحسن ثقة، وعبدالله بن شقيق هو العقيلي ثقة في روايته، وزائدة بن حوالة صحابي مذكور في ((الإصابة)) وغيرها ويذكرون له هذا الحديث.
قراءة القرآن في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (4281): حدثنا أبوالوليد، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، قال: سمعت عبدالله بن مغفل يقول: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوم فتح مكة على ناقته -زاد برقم (5047): وهي تسير به- وهو يقرأ سورة الفتح يرجع(1)وقال: ((لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع)).
وأخرجه مسلم (794).
__________
(1) ? ... قال الحافظ: الترجيع ترديد القارئ الحرف في الحلق.(1/31)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يذكر الله في كل أحيانه.
أخرجه مسلم.
الطهارة في السفر
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1 ص471): حدثني محمد بن حاتم، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، كلاهما عن يحيى، قال ابن حاتم: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسان، حدثنا أبوحازم، عن أبي هريرة قال: عرسنا مع نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ليأخذ كل رجل برأس راحلته، فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان)) قال: ففعلنا ثم دعا بالماء فتوضأ ثم سجد سجدتين وقال يعقوب: ثم صلى سجدتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة.اهـ
وقال رحمه الله (ج1 ص472): حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة، حدثنا ثابت، عن عبدالله بن رباح، عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غدا)) فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد، قال أبوقتادة: فبينما رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يسير حتى ابهار الليل وأنا إلى جنبه قال: فنعس رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فمال عن راحلته، فأتيته فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته قال: ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته قال: فدعمته من غير أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الأوليين، حتى كاد ينجفل، فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال: ((من هذا))؟ قلت: أبوقتادة، قال: ((متى كان هذا مسيرك مني))؟ قلت: ما زال هذا مسيري منذ الليلة، قال: ((حفظك الله بما حفظت به نبيه)). وساق الحديث بطوله إلى قوله: ودعا بالميضأة فتوضأ منها.(1/32)
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (182): حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبدالوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، أن نافع بن جبير بن مطعم أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه ومسح على الخفين.
وأخرجه مسلم رقم (274)، وأخرج البخاري رقم (344) حديث عمران وفيه: فدعا بالوضوء فتوضأ، وأخرجه مسلم رقم (682).
المسافر يغتسل من الجنابة
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (344): حدثنا مسدد، قال: حدثني يحيى بن سعيد، قال: حدثنا عوف، قال: حدثنا أبورجاء، عن عمران، قال: كنا في سفر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها فما أيقظنا إلا حر الشمس... -فذكر الحديث بطوله وفيه-: فسقى من شاء واستقى من شاء، وكان آخر ذاك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناء من ماء قال: ((اذهب فأفرغه عليك)).
التيمم في السفر لمن لم يجد الماء
قال الله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا(1)}.
__________
(1) ? ... سورة المائدة، الآية:5-6.(1/33)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (334): حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على التماسه وأقام الناس معه، وليسوا على ماء فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبوبكر ورسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبوبكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على فخذي، فقام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.
وأخرجه مسلم رقم (367).(1/34)
وقال رحمه الله رقم (347): حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا أبومعاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبدالله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبوموسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا أما كان يتيمم ويصلي فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} فقال عبدالله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد، قلت: وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم، فقال أبوموسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا، فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه.
وأخرجه مسلم رقم (368).
المسافر إذا أجنب ولم يجد الماء يتيمم ويصلي
تقدم حديث عمار في باب التيمم في السفر بسنده وفيه أنه أجنب فعلمه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كيفية التيمم.
وقد ذكرنا أحكام التيمم في رسالة مستقلة مطبوعة بحمد الله.
المسافر في البحر له أن يتوضأ منه
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (83): حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق، أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبدالدار، أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: سأل رجل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته?.
هذا حديث صحيح كل رجال إسناده ثقات. وقد أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج2 ص237)، والترمذي رقم (69)، وابن ماجه رقم (386)، والنسائي (ج1 ص176) وغيرهم.(1/35)
قال ابن عبدالبر في ((التمهيد)) (ج16 ص221): وقد أجمع جمهور العلماء وجماعة أئمة الفتيا في الأمصار من الفقهاء أن البحر طهور ماؤه وأن الوضوء جائز به إلا ما روي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص؛ فإنه روي عنهما أنهما كرها الوضوء من ماء البحر ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرض عليه ولا التفت إليه لحديث هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.اهـ
المسافر له أن يمسح على خفيه أو جوربيه ثلاثة أيام بلياليهن
تقدم حديث المغيرة في المسح على الخفين في باب المسافر يتوضأ للصلاة.
وقال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة (ج1 ص175): حدثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا داود بن عمرو، عن بسر بن عبيدالله الحضرمي، عن أبي إدريس الخولاني قال: حدثنا عوف بن مالك الأشجعي، عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر وليلة للمقيم.
وسنده حسن بل صحيح لغيره.
وأخرج الترمذي (ج9 ص517) ((التحفة)) قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين -فذكر الحديث إلى أن قال-: قال: نعم كان يأمرنا إذا كنا سفرا أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة.
وقال الإمام ابن ماجه رحمه الله (ج1 ص184): حدثنا محمد بن بشار، وبشر بن هلال الصواف، قالا: حدثنا عبدالوهاب بن عبدالمجيد، قال: حدثنا المهاجر أبومخلد، عن عبدالرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه رخص للمسافر إذا توضأ ولبس خفيه ثم أحدث وضوءا أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة. وسنده صحيح لغيره.
المسح على ظاهر القدمين(1/36)
قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج1 ص278): حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حفص يعني ابن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يمسح على ظاهر خفيه.
وأبوسحاق هو عمرو بن عبدالله السبيعي عنعنته فيها كلام لكن قد تابعه السدي عن أحمد في المسند رقم (43 و970).
فالحديث صحيح كل رجاله ثقات.
أحاديث معلة في المسح على الخفين للمسافر أكثر من ثلاثة أيام بلياليهن
أخرج الحاكم (ج1 ص180، 181)، والدارقطني في ((السنن)) (ج1 ص195، 196)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (ج1 ص80) وابن ماجه في الطهارة رقم (558)، والبيهقي (ج1 ص280) من طرق مختلفة عن عقبة بن عامر الجهني أنه قدم على عمر بن الخطاب من مصر فقال: منذ كم لم تنزع خفيك؟ قال: من الجمعة إلى الجمعة! قال: أصبت السنة.
أعله الدارقطني في ((العلل)) (ج2 ص110، 111) فقال: رواه موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، أنه مسح من جمعة إلى جمعة على خفيه.. الحديث.
وتابعه مفضل بن فضالة، وابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبدالله ابن الحكيم البلوي، عن علي بن رباح فقالا فيه: أصبت السنة. وخالفهم عمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب، والليث بن سعد فقالوا فيه: أصبت، ولم يقولوا: السنة، وهو المحفوظ.اهـ(1/37)
قلت: والموقوف على عمر أيضا في سنده اختلاف، وذكر الطحاوي الأدلة الصحيحة على التوقيت بالمسح للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ثم قال: فهذه الآثار قد تواترت عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالتوقيت في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، فليس ينبغي لأحد أن يترك مثل هذه الآثار المتواترة إلى مثل حديث أبي عمارة [قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخف؟ قال: ?نعم? قلت: يوما؟ قال: ?نعم? قلت: يومين؟ قال: ?نعم? قلت: ثلاثة؟ قال: ?نعم وما شئت?](1).اهـ
قال أبوزرعة عن أحمد: رجاله لا يعرفون، وقال الأزدي: حديث ليس بالقائم، وقال ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره، وقال الدارقطني: لا يثبت، وقال ابن عبدالبر: لا يثبت وليس له إسناد قائم، ونقل النووي اتفاق الأمة على ضعفه وذكره الجوزقاني في ((الأباطيل)) (ج1 ص384، 385) وانظر ((التلخيص الحبير)) (ج1 ص284، 285).
قال الطحاوي: وأما ما احتجوا به مما رواه عقبة عن عمر رضي الله عنه فإنه قد تواترت الآثار أيضا عن عمر بخلاف ذلك. وذكر جملة من الآثار الثابتة عن عمر أنه يقول في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة. اهـ من ((شرح معاني الآثار)) (ج1 ص83).
فعلم أنه لم يثبت عن عمر مرفوعا ولا موقوفا خلاف ما تواترت عليه الأحاديث الصحاح أنه للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة والحمد لله.
وقريب من هذين الحديثين في النكارة: حديث خزيمة بن ثابت عند أبي داود رقم (157)، والترمذي (158)، وابن ماجه (553)، وابن حبان (ج2 ص312، 311): أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رخص للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن.
__________
(1) ? ... الحديث ما بين القوسين ذكرته أنا تكملة لقوله حديث أبي عمارة فهو هذا الحديث الذي ترى، فقد أشار إليه الطحاوي ولم يذكره في هذا الموضع.(1/38)
قال خزيمة: ولو استزدناه لزادنا. وفي ((سنن ابن ماجه)): ولو مضى السائل على مسألته لجعلها خمسا. قال البخاري: لا يصح عندي لأنه لا يعرف للجدلي سماع من خزيمة. ونقل النووي في ((المجموع شرح المهذب)) (ج1 ص468) الاتفاق على ضعف هذا الحديث.
قلت: وإن كان الاتفاق مخروما ببعض من صححه، لكن لا شك أن الحديث ضعيف فقد أعله أبوزرعة والبخاري والبيهقي والنووي وغيرهم، لا سيما زيادة: ولو استزدناه لزادنا.
أما الحديث بدونها فيصح بشواهده في الباب وانظر ((التلخيص الحبير)) (ج1 ص283، 284).
المسافر إذا أتى الجمعة فليغتسل
وقد ذكرنا في كتاب أحكام الجمعة أن المسافر إذا أتى الجمعة لزمه غسل الجمعة لحديث ابن عمر في ((الصحيحين)) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من أتى الجمعة فليغتسل)).
فراجع البحث هناك إن شئت، وحاصله ما قلناه هنا.
الحائض إذا طهرت في سفرها تنقض رأسها وتمتشط عند غسلها من المحيض
عن عائشة قالت: أهللت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حجة الوداع فكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي، فزعمت أنها حاضت ولم تطهر، حتى دخلت ليلة عرفة فقالت: يا رسول الله هذه ليلة عرفة، وإنما كنت تمتعت بعمرة، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((انقضي رأسك وامتشطي وأمسكي عن عمرتك وأهلي بالحج?.
أخرجه البخاري في ((صحيحه)) باب امتشاط المرأة عند غسلها رقم (316)، ومسلم رقم (1211).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أراد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن ينفر فرأى صفية على باب خبائها كئيبة حزينة لأنها حاضت فقال: عقرى حلقى لغة لقريش إنك لحابستنا، ثم قال: ((أكنت أفضت يوم النحر))؟ يعني الطواف قالت: نعم. قال: ((فانفري إذا?.
أخرجه البخاري رقم (6157)، ومسلم (1211).
الأذان في السفر
الأذان في السفر حال المطر يقال فيه: صلوا في رحالكم(1/39)
قال الإمام عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج1 ص1924): عن الثوري، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المليح بن أسامة قال: صلينا العشاء بالبصرة ومطرنا، ثم جئت أستفتح فقال لي أبي أسامة: رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- زمن الحديبية ومطرنا، فلم تبل أسفل نعالنا فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أن صلوا في الرحال.
وأخرجه ابن أبي شيبة (ج2 ص233) فقال: هشيم، عن خالد، عن أبي المليح، عن أبيه، وذكر الحديث.
وأخرجه أبوداود رقم (1059)، وأحمد (ج5 ص74)، وابن ماجه (936)، وابن خزيمة رقم (1657)، وابن حبان (ج5 ص435)، وابن أبي شيبة (ج2 ص233)، وغيرهم من طرق عن أبي المليح به فكان الحديث صحيحا كما ترى، كل رجاله ثقات والحمد لله.
وليس قول (صلوا في رحالكم) في المطر يختص بالسفر فقد ثبتت أدلة أخرى أنه في السفر والحضر لعذر سقوط المطر.
المسافر يؤذن للصلاة ويقيم
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (630): حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث قال: أتى رجلان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يريدان السفر، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا أنتما خرجتما فأذنا، ثم أقيما، ثم ليؤمكما أكبركما?.
وأخرجه مسلم (674).
وقال رحمه الله رقم (3258): حدثنا أبوالوليد، حدثنا شعبة، عن مهاجر أبي الحسن قال: سمعت زيد بن وهب يقول: سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فقال: ((أبرد ثم قال: أبرد)) حتى فاء الفيء يعني للتلول ثم قال: ((أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم?.
وأخرجه برقم (535)، ومسلم برقم (616) وفيه فأذن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالظهر فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?أبرد?.(1/40)
وأخرج مسلم (ج1 ص472) من حديث أبي قتادة الطويل وفيه أنهم كانوا في مسير ثم ناموا ولما استيقظوا من نومهم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله ركعتين ثم صلى الغداة.
وأخرج أيضا (ج1 ص471) من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- توضأ ثم أمر بلالا فأذن ثم أقام الصلاة.
وقال أبوداود رحمه الله رقم (2203) باب الأذان في السفر: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، أن أبا عشانة المعافري حدثه عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شظية بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة?.اهـ
وسنده صحيح كل رجاله ثقات.
قلت: والحديث محتمل أن هذا الراعي كان في مسافة سفر أو أقل من ذلك، فكأن أبا داود رحمه الله ظهر له أن هذه المسافة مسافة قصر إذ لا دليل على التحديد كما سيأتي.
الصلاة في السفر
المسافرون يصلون جماعة
تقدم حديث مالك بن الحويرث في باب الأذان، وفيه أنه أمرهما أن يؤذنا ثم يقيما الصلاة ثم يؤمهما أكبرهما.
وحديث أبي ذر وأبي قتادة وأبي هريرة وحديث عمران بن حصين في باب غسل الجنب في السفر كلها فيها صلاة المسافرين جماعة وكذا صلاة الخوف شرعت في السفر فصلى بهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جماعة على تلك الكيفيات المعلومة.
وإنما أشرنا إليها ولم نذكرها هنا اختصارا.
المسافر يقصر الصلاة الرباعية(1)فيصليها ركعتين وجوبا
__________
(1) ? ... أما صلاة المغرب والصبح فلا قصر فيهما نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر وغيره.(1/41)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (350): حدثنا عبدالله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
وأخرجه برقم (3935) أنها قالت: فرضت ركعتين ثم هاجر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ففرضت أربعا وتركت صلاة السفر على الأولى.
وأخرجه مسلم (ج1 ص478) عبدالباقي.
وأخرج أحمد في ((المسند)) (ج6 ص272)، وابن حبان في ((صحيحه)) رقم (2338)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (ج11 ص28) من حديث عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث أنها قالت: فرضت الصلاة بمكة ركعتين ركعتين، فلما قدم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- المدينة صلى إلى كل صلاة مثلها غير المغرب فإنها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته الأولى.
فهذا اللفظ فيه بيان أن الصلاة فرضت بمكة ثم زيد في الظهر والعصر والعشاء ركعتين ركعتين وزيد في المغرب ركعة لأنها وتر النهار، ولم يزد على صلاة الصبح لأن القراءة فيها طويلة، وكانت هذه الزيادة بعد هجرته إلى المدينة عن طريق الوحي.
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1102): حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عيسى بن حفص بن عاصم، قال: حدثني أبي، أنه سمع ابن عمر يقول: صحبت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك.
وأخرجه برقم (1101) وفيه قال ابن عمر: صحبت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلم أره يسبح(1)في السفر، وقال ابن عمر قال الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة(2)}.
__________
(1) ? ... أي لم يصل الراتبة في السفر.
(2) ? ... سورة الأحزاب، الآية:21.(1/42)
وأخرجه مسلم (ج5 ص198) نووي بزيادة: فلم يزد أحد منهم في السفر على ركعتين حتى قبضهم الله، وفيه إشكال يظهر في الحديث الذي سنذكره بعده مع توجيهه إن شاء الله.
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1082): حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عبيدالله، قال: أخبرني نافع، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر ومع عثمان صدرا من إمارته ثم أتمها.
وأخرجه برقم (1657)، ومسلم برقم (694).
وأوضح هذا الإشكال ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله رقم (1084): حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا عبدالواحد بن زياد، عن الأعمش، قال: حدثنا إبراهيم، قال: سمعت عبدالرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل ذلك لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع(1)ثم قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
وأخرجه مسلم رقم (695).
فبان الإشكال مع رواية ابن عمر الأولى التي فيها أن عثمان صلى بمنى ركعتين ركعتين حتى قبض، لأن في روايته الأخرى أنه بعد ذلك أتم.
وفي حديث ابن مسعود أن عثمان صلى أربعا في منى، وقد جمع النووي رحمه الله بين هذه الروايات فقال في شرحه على ((صحيح مسلم)) (ج5 ص199): وتأول العلماء رواية حديث ابن عمر أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه الله هذا في السفر، أما في منى فقد كان يقصر من قبل ثم أتم بعد ذلك والروايات بإتمام عثمان محمولة على الإتمام بمنى خاصة، وقد فسر عمران ابن الحصين في روايته إتمام عثمان إنما كان بمنى، وكذا ظاهر الأحاديث التي ذكرها مسلم بعد هذا.اهـ
__________
(1) ? ... أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.(1/43)
ولا مزيد على ذلك، فتبين أن عثمان رضي الله عنه كان إذا سافر قصر وكان يفعل ذلك حتى قبضه الله وأنه كان يقصر في منى في أول إمارته ثم بعد ذلك أتم في آخر أمره في منى.
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1089): حدثنا أبونعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صليت الظهر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين.
وأخرجه مسلم رقم (390).
وعنه رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قلت: كم أقام بمكة؟ قال: عشرا.
أخرجه البخاري (2) رقم (1081)، ومسلم (ج5 ص202) نووي وزاد: خرجنا من المدينة إلى الحج.
عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه بمنى ركعتين.
أخرجه البخاري رقم (1656)، ومسلم (ج5 ص205) نووي.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا.
أخرجه البخاري رقم (1080).
عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
أخرجه مسلم رقم (687).
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص37): حدثنا وكيع، حدثنا سفيان وعبدالرحمن، عن سفيان، عن زبيد الإيامي، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عمر رضي الله عنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(1/44)
وروى أحمد هذا الحديث من طريق يزيد بن هارون فقال فيها ابن أبي ليلى: سمعت عمر يقول ... والحديث من طريق الثوري، عن زبيد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عمر أخرجه النسائي (ج3 ص111)، وقال: عبدالرحمن لم يسمع من عمر.
وأخرجه أيضا (118، 183)، وأخرجه ابن ماجه رقم (1063) وسند الحديث رجاله كلهم ثقات، إلا أنه مختلف في سماع عبدالرحمن بن أبي ليلى من عمر بن الخطاب فتقدم قول يزيد بن هارون في روايته من طريق ابن أبي ليلى أنه قال: سمعت عمر وردها الحافظ ابن حجر فنقل عن ابن أبي خيثمة أن يزيدا تفرد بقول: سمعت، ولم يقل أحد: سمعت عمر غيره، وقد روى الحديث يحيى بن سعيد وغير واحد عن سفيان، عن زبيد، عن عبدالرحمن، عن الثقة عن عمر، ورواه شريك عن زبيد، عن عبدالرحمن، عن عمرو، ولم يقل: سمعت، وقال ابن أبي خيثمة في ((تاريخه)): قد روي سماعه من عمر من طرق وليست بصحيحة، وقال الخليلي في ((الإرشاد)): الحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر، وقال يعقوب بن شيبة: لم يسمع من عمر، وكذا قال ابن معين وغيره.
فالصحيح أنه لم يسمع من عمر فالحديث منقطع وله طريق أخرى متصلة أخرجها ابن ماجه رقم (1064)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص199) من طريق محمد بن بشر العبدي عن يزيد بن زياد أبي الجعد الأشجعي، عن زبيد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن عمر بن الخطاب.. فذكر الحديث. وهذه طريق متصلة لكنها شاذة.
الثوري يروي الحديث عن زبيد، عن عبدالرحمن، عن عمر منقطعا، ويزيد ابن زياد يرويه عن زبيد، عن عبدالرحمن، عن كعب بن عجرة، عن عمر متصلا، ومما لا شك فيه أن الثوري أرجح فهو ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة.(1/45)
ويزيد بن زياد الأشجعي صدوق وقد شذ بوصل هذا الحديث كما ترى، ولهذا فقد أعل أبوحاتم هذه الطريق المتصلة كما في ((العلل)) لابنه (ج1 ص138) فقال: الثوري أحفظ، لكن مشايخ عبدالرحمن بن أبي ليلى بين صحابي جليل، وتابعي كبير في النادر، فالساقط بينه وبين عمر إما أن يكون صحابيا على الغالب ككعب بن عجرة على الرواية الشاذة، أو تابعيا ممن يحسن به الظن، مع أن الأحاديث المتقدمة في ((الصحيحين)) وغيرهما في صلاة السفر أنها ركعتان تشهد للصدر الأول منه وللآخر شواهد موقوفات صحيحة عن جابر وابن عباس وابن عمر سنذكرها إن شاء الله في فصل إذا سهى المسافر فصلى أربعا هل تصح صلاته، والحاصل أن الحديث يصح بشواهده والحمد لله.
وقوله: (والضحى ركعتان) لا ينفي ثبوت ما زاد على ذلك في تلك الأحاديث الصحيحة، لحديث أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى الضحى في بيت أم هانئ ثماني ركعات.
وعن ابن عباس قال: كنا نسير مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين مكة والمدينة لا نخاف إلا الله عز وجل، نصلي ركعتين.
رواه أحمد (ج1 ص101) ((الفتح الرباني))، والنسائي (ج3 ص117، 118)، والترمذي (ج2 ص431) من طريق هشيم، عن منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، عن ابن عباس به مرفوعا، وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات، هشيم هو ابن بشير، أبومعاوية ثقة ثبت روى عن منصور بن زاذان عند الجماعة، ومنصور هو أبوالمغيرة الواسطي ثقة ثبت عابد ومحمد بن سيرين أبوبكر إمام ثقة ثبت عابد كبير القدر، روى عن ابن عباس. وقال ابن معين وأحمد وابن بطال: لا يصح سماعه من ابن عباس، فالحديث معلول، ولهذا ذكره شيخنا في ((أحاديث معلة ظاهرها الصحة)) ص (128).
وعن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم.
أخرجه مسلم (ج5 ص197) نووي.(1/46)
وعن أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?إن الله تعالى وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر، وعن المرضع أو الحبلى?.اهـ
الحديث أخرجه أبوداود رقم (2408)، والترمذي رقم (715)، والنسائي (ج4 ص180، 182)، وابن ماجه رقم (ج1 ص533)، وأحمد في ((المسند)) (ج4 ص347) كلهم من طريق أبي هلال محمد بن سليم الراسبي، عن عبدالله بن سوادة، عن أنس بن مالك الكعبي.
وأبوهلال ضعفه يحيى بن سعيد والبخاري ويزيد بن زريع والنسائي وأبوزرعة وابن سعد والدارقطني وآخرون، ووثقه أبوداود وقال ابن معين: صدوق، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه، وقال الحافظ في ((التقريب)): صدوق فيه لين. اهـ
فهو صالح في المتابعات كما قال ابن عدي، وقد تابعه أيوب السختياني وخالد الحذاء متابعة قاصرة فرويا الحديث عن أبي قلابة، عن أنس الكعبي، أخرجه النسائي كما تقدم والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (ج1 ص423).
وعبدالله بن سوادة ثقة وثقه ابن معين، وقال النسائي: لا بأس به له في الكتب حديثان أحدهما في السحور يعني هذا، وقد تابعه أبوقلابة متابعة تامة كما عند النسائي والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) وأنس بن مالك الكعبي هو الضمري أبوأمية القشيري، روى عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حديثا واحدا وهو هذا الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من ((تهذيب التهذيب)) رواه عنه أبوقلابة وعبدالله بن سوادة قال: وفي سنده اختلاف.
قلت: الاختلاف مذكور في حاشية ((شرح معاني الآثار)) حاصله يدور على الصحابي، فتارة يقال: عنه عن رجل يقال له أنس بن مالك وتارة يقال: عن أحد بني الحريش من بني عامر، وأخرى يقال: عن رجل عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وكل هذا لا يضر فهو رجل واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- له عدة نسب وألقاب اسمه أنس بن مالك الكعبي الضمري القشيري العامري.. إلخ.(1/47)
والحديث قد أخرجه وبين علله وخاصه وعامه ومجمله شيخنا علامة الحديث مقبل بن هادي حفظه الله في ((جامعه الصحيح)) (ج2 ص205) وحكم عليه بالحسن وقد رأيت أنه بالطريق الثانية يرتقي إلى الصحة فهذه الأحاديث من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وفعله مع حديث ?صلوا كما رأيتموني أصلي? وحديث: ?خذوا عني مناسككم? كلها تدل على وجوب قصر الصلاة الرباعية في السفر إلى ركعتين، ولا يعلم لهذا مخالف من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سوى عثمان رضي الله عنه كان يتم في منى، أما بقية أسفاره فيقصر، وثبت أيضا عن عائشة أنها كانت تتم في السفر وتتأول القصر عند الخوف لقول الله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا(1)}.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام له في القصر قال: وأيضا فإن المسلمين قد نقلوا بالتواتر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يصل في السفر إلا ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى أربعا قط، ولكن الثابت عنه أنه صام في السفر وأفطر وكان أصحابه منهم الصائم ومنهم المفطر، وأما القصر فكل الصحابة كانوا يقصرون منهم أهل مكة وغير أهل مكة بمنى وعرفة وغيرهما. اهـ من ((مجموع الفتاوى)) (ج24 ص8-9).
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله: وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفر البتة. اهـ باختصار من ((زاد المعاد)) (ج1 ص464).
وقال ابن حزم: وكون الصلاة المذكورة في السفر ركعتين فرض سواء كان سفر طاعة أو معصية أو لا طاعة ولا معصية أمنا كان أو خوفا. اهـ من ((المحلى)) مسألة (512).
__________
(1) ? ... سورة النساء، الآية:101.(1/48)
وقال الشوكاني رحمه الله بعد عرض قول الفريقين في المسألة: وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب، وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته كما تقدم، ويبعد أن يلازم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- المفضول ويدع الأفضل. اهـ من ((نيل الأوطار)) (ج3 ص202).
قلت: وبهذا قال عمر بن عبدالعزيز، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح والظاهرية أجمعون وغيرهم ممن يطول الكلام بذكرهم، والمقصود هو معرفة الحق في المسألة، وقد تبين جليا أن القصر للمسافر واجب.
وإليك ما استدل به الجمهور على عدم وجوب القصر في السفر وأنه أفضل من الإتمام فقط.
قول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}، قال الشافعي رحمه الله: لا يستعمل (لا جناح) إلا في المباح. ((المجموع للنووي)) (ج4 ص339).
حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فقد أمن الناس فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن ذلك فقال: ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته?. أخرجه البخاري (ج2 ص569) ((الفتح))، ومسلم (ج5 ص196) نووي، قالوا: فالقصر إنما هو صدقة ورخصة وليس بواجب.
قالوا: ثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه أتم الصلاة بمنى وصلى خلفه ابن مسعود وغيره ولو لم يكن الإتمام جائزا لما أقره أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على ذلك.
قالوا: ثبت من حديث أنس الكعبي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?إن الله وضع شطر الصلاة عن المسافر، ووضع الصوم عن الحامل والمرضع?، فهذا الحديث يدل أن الله سبحانه إنما خفف للمسافر، فأذن له في القصر تخفيفا فقط فهو رخصة، كما أن الفطر والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن رخصة للمسافر يجوز له فعله وتركه.(1/49)
قالوا: وقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم.
فهذا حاصل ما لهم من الأدلة على جواز الإتمام في السفر كما ذكر ذلك النووي في ((المجموع)) والشوكاني في ((النيل)) وغيرهما، ورد من قال بوجوب القصر على استدلالهم بما يلي:
أما استدلالهم بالآية {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} فالمقصود بالقصر هنا قصر الصفة في الركوع والخشوع والسجود والتخفيف في القراءة ونحو ذلك، وتشمل قصر العدد قال ابن القيم رحمه الله: والآية قد أشكلت على عمر وعلى غيره فسأل عنها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأجابه بالشفاء وأن هذه صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق. اهـ من ((زاد المعاد)) (ج1 ص466)، ونقل ملخص البحث الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (ج3 ص201).
قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكر بعض الأحاديث الماضية عندنا، قال: فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء: إن المراد من القصر ههنا أي هو قصر الكيفية لا الكمية، وهو قول مجاهد والضحاك والسدي.(1/50)
قلت: بل وقول عائشة وابن عباس كما في ((زاد المعاد)) وعمر وابن عمر وجابر بن عبدالله كلهم ثبت عنهم القول بأن صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر كما سيأتي بيانه إن شاء الله في مسألة من سهى وهو مسافر فصلى أربعا.
وأما حديث عمر ?صدقة تصدق بها عليكم? ففي الحديث نفسه ما يدل على وجوب قبول هذه الصدقة فقال في آخره ?فاقبلوا صدقته?، قال ابن حزم رحمه الله في ((المحلى)) (ج4 ص267): أمر عليه السلام بقبولها فيكون من لا يقبلها عاصيا.
وأما كون عثمان رضي الله عنه أتم في منى فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الله سبحانه لم يلزمنا بطاعة أحد من خلقه دون رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فهو المعصوم دون أفراد أصحابه رضوان الله عليهم قال الله تعالى: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(1)}، وقال سبحانه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(2)}، وقال تعالى: {لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر(3)}.
الثاني: أن عثمان رضي الله عنه قد تأول في إتمامه في منى، واختلفوا في نوع تأويله، فذكر ابن القيم رحمه الله ستة تأويلات كلها عليها انتقاد قال: وأحسن ما اعتذر به عن عثمان رضي الله عنه أنه كان تأهل بمنى، والمسافر إذا أقام بمكان وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم. اهـ من ((زاد المعاد)) (ج1 ص470).
__________
(1) ? ... سورة الحشر، الآية:7.
(2) ? ... سورة النور، الآية:63.
(3) ? ... سورة الممتحنة، الآية:6.(1/51)
قلت: وهذا القول جاء فيه حديث ضعيف كما سنبينه إن شاء الله في مسألة من تزوج في مكان أو كان له ببلد زوجة هل يتم، وأحسن منه أن يقال في ذلك إن عثمان رضي الله عنه اجتهد في فهم الآية {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} ففهم أن القصر يكون في حالة السفر مع الخوف(1)كما فهمت عائشة منها كذلك، وأخطأ هو وعائشة رضي الله عنهما ولم يوافقهما جميع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على هذا الفهم لوجود النصوص المتكاثرة عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على بيان الآية أن المراد بها قصر الصفة كما تقدم، فيكون مأجورا على اجتهاده وبذل وسعه في طلب الحق، ولا يجوز لنا متابعته على الخطأ بعد وضوح الصواب بأدلته الثابتة، وأما كون أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقروه على ذلك فهذا غير صحيح فقد تقدم حديث ابن مسعود أنه حين صلى عثمان بمنى أربعا عد ذلك من المصائب وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقال ابن عمر: تفرقت بكم الأهواء، لكن ابن مسعود يقول: الخلاف شر، فيرى أن جمع الكلمة وطاعة ولي الأمر المسلم أوجب من القصر والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ?صلوا فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم?، وليس القصر للمسافر شرطا في صحة صلاته كما سيأتي في بابه إن شاء الله.
وأما حديث أنس الكعبي ((إن الله وضع شطر الصلاة عن المسافر))، فهذا ينبغي أن يكون دليلا على وجوب القصر في السفر، كما استدل به على ذلك لأنه لا يجوز لأحد أن يزيد في شرع الله ما ليس منه، فالله عز وجل قد وضع نصف الصلاة الرباعية عن المسافر، فزيادة ما وضع الله وتكلف ما لم يعمل به رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- محرمة وشرع غير مأذون به.
__________
(1) ? ... لكن يشكل على ذلك أنه كان يقصر في جميع أسفاره حتى توفي إنما كان يتم في منى فقط= =كما تقدم، والله أعلم.(1/52)
وكون الحامل والمرضع وضع عنهما الصوم ويلزمهما القضاء على الصحيح فلأدلة خارجة عن هذا الحديث منها قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، فيكون الحديث في حق الحامل والمرضع من باب العام المجمل المبين بأدلة أخرى، وأما قولهم القصر تخفيف كما أن الفطر والمسح على الخفين للمسافر ثلاثا تخفيف يجوز فعله وعدمه، فهذا قياس فاسد الاعتبار لأنه يصادم النصوص، فقد ثبت يقينا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صام في السفر وأفطر ومسح على خفيه وغسلهما وكذلك أصحابه فأين الدليل على أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أتم في السفر؟.
وأما استدلالهم بحديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في السفر يقصر ويتم! فالجواب أن الحديث ضعيف السند منكر المتن. أخرجه الدارقطني في ((السنن)) (ج1 ص242)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص142)، من طريق محمد بن يونس الكديمي عن عبدالله بن داود الحريبي الهمداني عن مغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة.
والكديمي كذاب، ومغيرة بن زياد له مناكير.
وله طريق أخرى عند البيهقي فيها طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن عائشة، وطلحة بن عمرو هو ابن عثمان الحضرمي متروك، وله طريق أخرى عند الدارقطني (ج1 ص242) فيها مجهول عين. فهذه طرقه كلها ساقطة.
ومتنه يتعارض مع عشرات الأحاديث الثابتة في ((الصحيحين)) وغيرهما.
ويصدق عليه ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية كما في ((مجموع الفتاوى)) (ج24 ص154) وتلميذه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج1 ص464): إنه كذب على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
والحاصل أن أدلة الجمهور لم تثبت أمام النقد العلمي وأن الراجح وجوب القصر على المسافر كما مضى بأدلته القوية وأقواله الرضية.
هل يشترط للقصر أن يكون في سفر طاعة لله(1/53)
ذهب جمهور العلماء إلى أن العاصي بسفره لا يجوز له القصر في السفر ولا المسح على الخفين ولا الفطر في نهار رمضان، وأنه لا يترخص بهذه الرخصة إلا إذا كان طائعا بسفره مثال ذلك:
أحد مسافر إلى الحج أو العمرة وفي طريقه شرب خمرا هذا طائع بسفره وعاص في سفره، له أن يقصر الصلاة عندهم.
وآخر مسافر لفعل الزنا في بلاد الكفار أو غيرها وفي سفره تصدق على مسكين أو أمر بمعروف ونهى عن منكر ونحو ذلك، فهذا عاص بسفره وطائع في سفره، وليس له أن يقصر عندهم.
وقالوا: الذي يسافر إلى معصية لا ينبغي أن يرخص له ويسهل عليه فيعان على المعصية بالرخص. هذه حجتهم، وأنت لا تكاد تجد دليلا للقائلين بهذا القول سوى مجرد الرأي والاستحسان مع معارضته لنصوص السنة والقرآن، وقد أبان كتاب ربنا سبحانه وتعالى وسنة نبينا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجوب القصر في السفر مطلقا في حق من ضرب الأرض طائعا كان بسفره أو عاصيا، فأين المخصص لعمومات الأدلة السابق ذكرها، وقد قال بالقصر لكل مسافر مطلقا سواء سفر طاعة أو معصية الأوزاعي والثوري والمزني وأبوحنيفة كما في ((المجموع)) للنووي (ج4 ص346) وابن حزم في ((المحلى)) مسألة (512) وصديق حسن خان في ((الروضة الندية)) (ج1 ص375). وكذلك الفطر في نهار رمضان والمسح على الخفين لكل مسلم ضرب في الأرض والحق في المسألة واضح فإن الله عز وجل يقول:{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة(1)}، وفي ((الصحيحين)) من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
أما قول الجمهور أنه يعامل بنقيض قصده فيمنع من رخصة السفر فهذا غير صحيح، لأن معاملة الناس شرعا بنقيض قصدهم ليس إلينا بل إلى الله سبحانه {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله(2)}.
__________
(1) ? ... سورة النساء، الآية:101.
(2) ? ... سورة الشورى، الآية:10.(1/54)
وانظر ((المجموع)) (ج4 ص330)، و((المغني)) لابن قدامة (ج2 ص259).
متى يبدأ المسافر في القصر
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه على أن لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها، واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت، وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يقصر ولو كان في بيته، ومنهم من قال: إذا ركب قصر ثم رجح القول الأول، واستدل بما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه كان في سفر فقصر بأصحابه وهم يرون البيوت، ثم رجع من سفره فقصر بهم وهم يرون البيوت، والأثر علقه البخاري في ((صحيحه)) (ج2 ص569) بصيغة الجزم، وأخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج2 ص530)، والطحاوي في ((معاني الآثار)) (ج1 ص243).
وثبت عن ابن عمر أنه كان يقصر إذا خرج من بيوت المدينة، أخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج2 ص530) من طريقين يشهد أحدهما للآخر قال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج6 ص77) وهو مذهب جماعة من العلماء إلا من شذ. اهـ
قلت: فإذا ثبت أنه إجماع لم يقل بخلافه إلا من شذ فنقول به باطمئنان أن من أراد السفر لا يشرع له القصر حتى يفارق بيوت قريته التي يسكنها، وإذا رجع يقصر حتى يدخلها ولو كان يراها من بعيد ويستدل لذلك أيضا بقول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة(1)}، فعلق الله سبحانه القصر بالضرب في الأرض وبهذا استدل النووي في ((المجموع)) (ج4 ص346) قال: ولا نعلم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قصر في شيء من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة.
قال: وإن اتصلت حيطان البساتين بحيطان البلد ففارق بنيان البلد قصر، ولو اتصلت حيطان البساتين بحيطان بلده وبه قال ابن حزم في ((المحلى)) مسألة (513).
__________
(1) ? ... سورة النساء، الآية:101.(1/55)
قلت: ولو كانت المدينة واسعة بحيث إذا دخل في طرفها لا يصل إلى بيته إلا بعد نصف ساعة أو نحوها، فالحكم كما تقدم أنه إذا خرج لا يقصر حتى يخرج من المدينة كلها، وعند رجوعه يتم وإن دخل في أطرافها كما تقدم برهان ذلك. والله أعلم.
كم المسافة التي تعتبر سفرا
هذه مسألة اختلف فيها اختلافا شديدا على نحو عشرين قولا، حتى قال الإمام الشوكاني رحمه الله في ((الدراري)) ص (144): إنها من المعارك التي تتبلد عندها الأذهان. ونعم لأنها اختلفت فيها الأدلة قال الحافظ في ((الفتح)) (ج2 ص567): وأصح حديث ورد في ذلك حديث أنس في ((صحيح مسلم)) رقم (691): أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين، وحمله بعضهم على أن هذه المسافة التي يبتدأ منها القصر وليس هذا غاية القصر.
وكذا حديث أنس في ((الصحيحين)) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قصر بذي الحليفة كان هذا في أثناء سفر ولم يكن هذا غايته.
قال ابن قدامة في ((المغنى)) (ج3 ص109): والثاني أن التقدير بابه التوقف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما ليس له أصل يرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر. اهـ
واستدل بعضهم بحديث أبي هريرة المتفق عليه: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم))، وبوب عليه البخاري في ((صحيحه)) فقال: باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوما وليلة سفرا، وعند مسلم: مسيرة يوم، وفي رواية: مسيرة ليلة، وعند أبي داود وابن خزيمة: لا تسافر بريدا إلا معها ذو محرم قال ابن خزيمة: البريد 12 ميلا.
قال النووي: مسيرة نصف يوم، وسند الحديث حسن، قال الشوكاني رحمه الله في ((الدراري)): وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه والاحتجاج به مجرد تخمين.(1/56)
وقال صديق حسن خان في ((الروضة)) (ج1 ص377): وتسمية هذا التقدير سفرا لا تنافي تسمية ما دونه سفرا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (24-47-134-135): فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل.اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: ولم يحد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لأمته مسافة محددة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، وأما ما يروى عنه في التحديد باليوم أو اليومين أو الثلاثة فلم يصح منها شيء. اهـ من ((زاد المعاد)) (ج1 ص481).
قلت: والحاصل أنه لا خلاف بين العلماء أنه لا يوجد نص على تحديد مسافة القصر، وكل ذهب إلى ما يراه أقرب الأدلة، فجمهور أهل الحديث قالوا: لا يصح القصر إلا في مسيرة مرحلتين وذلك على مضمون حديث أبي هريرة: ?لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم? قالوا: فإذا سافر إلى مكان وصل إليه بنصف نهار فهذه مرحلة، وإذا رجع إلى بيته استغرق النصف الثاني فهذه مرحلة فيقصر في مسيرة يوم ذهابا أو ذهابا وإيابا، وقال الظاهرية: إذا سافر ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ قصر على ظاهر حديث أنس على أنه فيه اختلاف بين الميل والفرسخ معلوم.
وقال ابن حزم: أقل ما ورد القصر فيه بريد فإذا سافر الإنسان بريدا قصر، وكل هذه الأقوال ليست ثابتة أمام النقد العلمي، لعدم اعتمادها على نص صريح في التحديد.
وأقربها إلى الصواب ما قاله ابن قدامة وابن تيمية وابن القيم وصديق حسن خان وغيرهم أنه يجب الرجوع إلى ما يصدق عليه مسمى السفر ومسمى الضرب في الأرض في عرف الأوائل.
هذا ملخص ما يسر الله به في هذه المسألة أثناء بحث استغرق مني أوقاتا طويلة وملأت به أوراقا كثيرة.
ومن قال بغير ذلك لا أظنه ينتهي إلى حل صحيح.
مدة قصر النازل أثناء سفره
قبل الخوض في هذه المسألة المترامية الأطراف لا بد من ذكر ما هو شبه اتفاق بين أهل العلم فيها وله حالات.(1/57)
الحالة الأولى: أن يكون سائرا في الطريق فهذا لا خلاف أنه يقصر ما دام في سفره، اعتمادا على الأدلة السابقة، نقل عدم الخلاف ابن المنذر وغيره.
الحالة الثانية: المسافر إذا أقام ببلد مترددا لحاجة ينتظر قضائها قال ابن المنذر وابن قدامة في ((المغني)) (ج3 ص153): أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون.
قلت: وكل هذه الإجماعات فيها نظر فالخلاف مشهور في ((مصنف عبدالرزاق)) (ج2 ص533) و((شرح السنة)) أنه إن زاد على أربعة أيام أتم، لأن هذه أقصى مدة ثبتت لدينا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بقي ناويا البقاء لأداء الحج ولم يثبت أكثر من ذلك عنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وقد جاء من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. أخرجه أبوداود رقم (1235)، وأحمد (ج3 ص105)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (2 رقم 4335)، وابن حبان (6 رقم 2749) ((الإحسان))، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص152) كلهم من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان، عن جابر به وهو معل، أعله الدارقطني كما في ((التلخيص الحبير)) (ج2 ص94) وحاصله أن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن ثوبان مرسلا، ووصله الأوزاعي بلفظ: فأقام بتبوك بضع عشرة، ولم يقل: عشرين، وأخرجه بهذا اللفظ البيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص152).
وقد رواه الأوزاعي عن يحيى عن أنس بلفظ: بضع عشرة، فعلم ضعف هذا الحديث وأنه مرسل وفيه اضطراب.(1/58)
وجاء من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقام خمسة عشر يقصر الصلاة، أخرجه أبوداود رقم (1231)، والنسائي (ج3 رقم 1453)، وابن ماجه (ج1 رقم1076)، والبيهقي (ج3 ص151) وجاء عنه عند أبي داود رقم (1230)، وابن حبان (6 رقم 2750): قدم مكة فأقام بها سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة، وجاء من حديث عمران بن حصين أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقام بمكة في غزوة الفتح ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين.
أخرجه أبوداود رقم (1229)، والترمذي (ج2 ص545) رقم (430)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص251) وكل هذه الروايات شاذة ذكرها الحافظ البيهقي وقال: ورواية عكرمة عن ابن عباس أصح من ذلك كله (ج3 ص151) يعني رواية أن النبي أقام تسعة عشر يوما يقصر هي الراجحة، وما سواهما مرجوحة.
وقال الحافظ في ((فتح الباري)): اقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. اهـ من ((فتح الباري)) (ج2 ص654).
وأما الحافظ ابن عبدالبر فأعل حديث ابن عباس من أصله سواء رواية التسعة عشر أو غيرها فقال: وهو حديث مختلف فيه لا يثبت فيه شيء لكثرة اضطرابه، ولم يصب رحمه الله، فالبخاري رحمه الله أعلم منه بالحديث وعلله وقد أخرج حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقام بمكة تسعة عشر يقصر، وأيضا لم ينتقد هذه الطريق الحفاظ الكبار كالدارقطني وأبي حاتم وأبي زرعة.
أخرج ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج2 ص341) قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك بن سلمة، عن ابن عباس، قال: إن أقمت في بلد خمسة أشهر فاقصر الصلاة.
وهذا سند صحيح إلى ابن عباس كل رجاله ثقات، وسماك هذا سمع من ابن عباس كما في ((تاريخ البخاري الكبير)).(1/59)
وقال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا مسعر وسفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبدالرحمن بن مسور، قال: أقمنا مع سعد بن مالك شهرين بعمان يقصر الصلاة ونحن نتم، فقلنا له، فقال: نحن أعلم.
وسنده قابل للتحسين، فحبيب وإن كان مدلسا لكنه متابع عند البيهقي (ج3 ص153).
تابعه ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن المسور، وعبدالرحمن وثقه ابن حبان وروى عنه جمع، وأخرج له مسلم وقال الذهبي في ((الكاشف)): ثقة، فالظاهر أنه معروف وأن ذلك ينتشله من جهالة الحال، وعليه: فالأثر ثابت لدينا وثبت عند ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا شعبة، عن أبي التياح، عن رجل يكنى أبا المنهال قال: قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على سير؟ قال: صل ركعتين.
وسنده صحيح كل رجاله ثقات، وأبوالمنهال هذا هو عبدالرحمن بن مطعم ثقة كما في ((التهذيب)) لابن حجر.
وثبت عنده أيضا بعد هذا الأثر أنه قال لرجل: صل ركعتين وإن قمت عشر سنين. وثبت عنده قال: حدثنا تليد الأعلى، عن يونس، عن الحسن، عن عبدالرحمن بن سمرة أنه شتى بكابل شتوة أو شتوتين يصلي ركعتين.
وبهذا السند نفسه عن الحسن، عن أنس بن مالك أنه أقام بنيسابور سنة أو سنتين يصلي ركعتين، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن مالك قال: قلت لجابر بن زيد: أقيم بتستر السنة والسنتين وأنا شبه الآهل؟ فقال: صل ركعتين. اهـ
وثبت عن علقمة أنه صلى بخوارزم سنتين قصرا. وثبت عن أبي وائل أنه مكث سنتين يصلي قصرا.
وأقول: قد علمت فيما مضى أنه ليس هناك دليل صحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وغاية ما ثبت عنه في حالة التردد حديث ابن عباس في غزوة الفتح أنه قصر تسعة عشر يوما، ولا شك أنه كان مترددا مع أنه ليس فيه أنه لو أقام أكثر لأتم، فكأن هؤلاء السلف رضوان الله عليهم أخذوا من ذلك أنه غير محدود بحد يجب الرجوع إليه، وأنه لو أقام أكثر من تسعة عشر لقصر ما دام مترددا. فقال أكثرهم بذلك والله أعلم.(1/60)
ومما يدل أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يجمعوا على ذلك ما أخرجه البيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص153) من طريق أسامة بن زيد أن ابن شهاب حدثه أن عبدالرحمن بن المسور بن مخرمة قال: خرجت مع أبي وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فوقع الوجع بالشام فأقمنا بالسرغ خمسين ليلة ودخل علينا رمضان، فصام المسور وعبدالرحمن بن الأسود، وأفطر سعد بن أبي وقاص وأبى أن يصوم فقلت: يا أبا إسحاق أنت صاحب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وشهدت بدرا والمسور يصوم وعبدالرحمن وأنت تفطر! فقال: أنا أفقه منهم.
وسنده قابل للتحسين، وأيضا قوله: أنا أفقه منهم، يدل أن هذا الصنيع الذي صنعه إنما هو فهم فهمه من مضمون فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا أن عنده دليلا في المسألة، وإلا لاستدل به.
والحاصل أن الإجماع في المسألة غير صحيح، سواء كان في عصر الصحابة أم بعدهم.
قال العمريطي رحمه الله في ((منظومة الورقات)):
هو اتفاق كل أهل العصر أي علماء الفقه دون نكر
وليعتبر عليه قول من ولد وصار مثلهم فقيها مجتهد
قال الشوكاني رحمه الله: وأما كونه إذا أقام المتردد ببلد قصر إلى عشرين ثم يتم فوجهه أن من حط رحله بدار إقامة ذهب عنه حكم السفر فالواجب الاقتصار في القصر مع الإقامة على المقدار الذي سوغه الشارع وما زاد عليه فللمسافر حكم المقيم يجب عليه أن يتم صلاته لأنه مقيم لا مسافر.
وقد أقام النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تسعة عشر لما فتح مكة يصلي بها ركعتين، قال ابن عباس: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا.
قال الشوكاني: وأقول هذا هو الفقه الدقيق والنظر المبني على أبلغ تحقيق.اهـ من ((الدراري)) و((النيل)) كما تقدم.(1/61)
قلت: وهذه المسألة من المشكلات والذي رجح لدينا فيها هو ما تقدم في الباب أن المسافر إن نزل في الحضر وبقى مترددا لقضاء شغل أو غيره فإنه يقصر لمدة تسعة عشر يوما، وإذا زاد على ذلك أتم، فملازمة الحديث أسلم والله أعلى وأعلم، ولا نرى بأسا على من قال بالقصر للمتردد ولو مضت عليه سنوات لثبوت هذه الآثار عن كثير من السلف ولا شك أن فهمهم أقوى وهم بالشرع أعلم وأدرى.
لكن حيث لا نص في المسألة فللاجتهاد فيها عند الصحابة وغيرهم مجال.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله)) وأخرجه البخاري (3001)، ومسلم (1927).
وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن قام من الليل وإلا كانتا له?.
وسنده صحيح وسيأتي تخريجه ص(181). وشاهدنا من إيراد هذين الحديثين هو أن من نوى الإقامة وصار مقيما غير متردد فقد ارتفع عنه الجهد والثقل وعذاب السفر، فلا يسمى مسافرا شرعا ولا عرفا ولهذا قال الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة...الآية} ففي الآية أن غالب من تكون عليه المشقة وهو مسافر حقيقة هو الضارب في الأرض ومن عدا ذلك فلا يقصر إلا من استثناه الدليل كما تقدم. والحمد لله.
المسافر إذا ضرب في الأرض قصر ولو لم ينو القصر عند الخروج
والمسافر إذا ضرب في الأرض قصر ولو لم ينو القصر عند الخروج، لعدم وجود الدليل على هذا القول.
لكن يجب أن ينوي القصر عند الدخول في الصلاة تفريقا بينها وبين الإتمام، لحديث عمر بن الخطاب المتفق عليه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?إنما الأعمال بالنيات? وهذا قول الجمهور وهو الصحيح. وانظر ((المغني)) لابن قدامة (ج3 ص199).(1/62)
ولا نعني أنه يتلفظ بالنية، فالنية محلها القلب والتلفظ بها بدعة عند جماهير أهل العلم، كما أوضح ذلك جماعة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما رحمهم الله، ونقلنا ذلك بأوسع مما ههنا في كتاب ((بدع الجمعة)).
إذا شرع في الصلاة وهو مسافر على سفينة أو طائرة وفي أثناء صلاته وصل إلى قريته وهو يصلي قصرا فهل يتم لأنه وصل إلى دار إقامته أم يقصر لأنه ابتدأها بنية القصر
قال أبومحمد بن حزم: ومن ابتدأ صلاته وهو مقيم ثم نوى فيها السفر أو ابتدأ صلاته وهو مسافر ثم نوى فيها أن يقيم أتم في كلا الحالين.
برهان ذلك ما ذكرناه من أن الإقامة غير السفر وأنه لا يخرج عن حكم الإقامة مما هو إقامة إلا ما أخرجه نص. اهـ من ((المحلى)) مسألة (516).
كذا قال: والظاهر خلافه وهو أنه إن شرع في الصلاة بنية القصر في حال سفره وهبطت به الطائرة أو وصلت به السفينة إلى بلده قبل أن يفرغ من صلاته كان عليه أن يكملها قصرا وإن شرع في صلاته في الحضر بنية الإتمام ثم رحلت به الطائرة أو السفينة ففارق بيوت قريته أكمل صلاته أربعا حسب ما نوى، بهذا قال ابن قدامة في ((المغني)) (ج3 ص142)، وصاحب ((زاد المستقنع)) في المذهب الحنبلي، وانظر ((المجموع)) للنووي رحمه الله (ج4 ص351).
إذا نسي صلاته حال إقامته وذكرها وهو مسافر
نقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن من نسي صلاة وهو حضر وذكرها في السفر أنه يصليها أربعا ((الأوسط)) (ج4 ص368).
وقال الإمام أحمد: أما المقيم إذا ذكرها في السفر فذاك بالإجماع يصليها أربعا. اهـ من ((المغني)) (ج3 ص141).
قالوا: لأن الصلاة قد تعين عليه فعلها أربعا فسافر وهي باقية في ذمته تامة فعليه أداء ما في ذمته.
قلت: وقد خالف الإجماع ابن حزم فقال في ((المحلى)) مسألة رقم (517): يصليها ركعتين. والراجح قول الجمهور كما سيأتي دليله في المسألة التي بعد هذه إن شاء الله.(1/63)
من نسي صلاة في السفر وذكرها في الحضر وهو مقيم
ذهب الإمام أحمد والأوزاعي وداود وإسحاق وأبوثور ورواية عن الشافعي أنه يصليها أربعا احتياطا وذهب مالك والثوري وأصحاب الرأي والحسن وحماد بن سليمان والشافعي في القديم أنه يصليها ركعتين صلاة سفر لأنه إنما يقضي ما فاته، واعترض ابن حزم على هذا القول وانتصر للقول الأول فقال: بل يتمها أربعا، لأن من فاتته صلاته الجمعة لا يصليها إلا أربعا ومن فاتته صلاة في مرض وفرضه يصليها قاعدا فذكرها في حال صحته لا يصليها إلا قائما قال: والقوم أصحاب قياس بزعمهم وهذا مقدار قياسهم، أما نحن فإن حجتنا في هذا إنما هو قول رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها?. أخرجه بهذا اللفظ مسلم (ج5 ص182) النووي من حديث أبي هريرة والبخاري رقم (597) من حديث أنس.
قال: فإنما جعل عليه السلام وقتها وقت أدائها لا الوقت الذي نسيها فيه فكل صلاة تؤدى في سفر فهي صلاة سفر وكل صلاة تؤدى في حضر فهي صلاة حضر ولا بد. اهـ
قلت: وقول من قال بأنه يصليها احتياطا غير صحيح، واستدلال أبي محمد بالحديث فيه نظر لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإن جعل وقتها وقت أدائها كما قال أبومحمد لكن من حيث عدد ركعات الصلاة لا يلزمه إلا أن يصلي ما فاته كما قال مالك والثوري ومن معهما.
ودليلنا على ترجيح هذا القول لفظ الحديث في قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?فليصلها? فإن الضمير في قوله ?فليصلها? عائد إلى الصلاة التي فاتته فليس عليه أن يصلي أكثر مما فاته لهذا الدليل، وهو دليلنا أيضا على المسألة التي تقدمت عكس هذه وقد اجتهد أبومحمد في هذه المسألة حرصا منه على الأخذ بالحديث فأخطأ رحمه الله ونسأل الله السداد.(1/64)
أما إن تركها عمدا أو تكاسلا حتى وصل دار إقامته فيجب عليه أن يصليها تماما لقول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة(1)} وقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- :(( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر)). يعلم أن القصر من خصوصيات السفر إلا من نسي صلاته في السفر فليصلها إذا وصل دار إقامته هي بذاتها.
إذا خرج المسافر فذكر حاجته في بيته فرجع لها فأدركته الصلاة في بيته مع أنه يريد أخذ حاجته فقط ويستمر في سفره
فلا يقصر حتى يفارق بيوت قريته مرة أخرى. وهذا قول الشافعي وبه قطع الجمهور وفي المسألة خلاف، هذا أصحه لقول الله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}. فشرط الله عز وجل السفر لصحة القصر. ورجح هذا النووي في ((المجموع)) (ج4 ص349). وانظر ((المغني)) لابن قدامة (ج3 ص152).
إذا مر المسافر بقرية له فيها أهل ودار(2)فهل يتم أم يقصر
أخرج عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج2 ص524)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج2 ص445)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص364): من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء، أنه قال: سألت ابن عباس أقصر الصلاة إلى عرفة؟ قال: لا، قلت: فإلى منى؟ قال: لا، ولكن إلى جدة وعسفان وإلى الطائف، فإن قدمت على أهل لك وماشية فأتم الصلاة.اهـ
وهذا سند صحيح إلى ابن عباس.
__________
(1) ? ... سورة النساء، الآية 101.
(2) ? ... لو وجد بعض أهله في مكان بغير دار أو مر بدار له لا أهل له فيها فهذا يقصر يقينا وإنما الكلام على من مر على أهل له ودار أثناء طريقه وهو مسافر.(1/65)
وأخرج أحمد في ((مسنده)) (ج1 ص62) قال: حدثنا أبوسعيد يعني مولى بني هاشم، حدثنا عكرمة بن إبراهيم الباهلي، حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ذباب، عن أبيه، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكره الناس عليه فقال: يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم)).
وسنده ضعيف علته عكرمة بن إبراهيم الأزدي الباهلي، قال يحيى بن معين: ليس بشيء.
وقال النسائي: ليس بثقة، وقال يعقوب بن سفيان: منكر الحديث، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به، واتفقوا أنه الأزدي فلينظر من نسبه باهليا.
وعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي ذباب هو وأبوه في ((الثقات)) لابن حبان (ج5 ص16، 101) قال: عدادهما في أهل المدينة، وسكت عنهما البخاري في ((التاريخ الكبير)) (ج5 ص132)، وعزاه ابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج1 ص471) إلى الحميدي في ((مسنده)) من طريق عكرمة به، وعزاه الهيثمي في ((المجمع)) (ج2 ص159) إلى أبي يعلى في ((مسنده)) بلفظ: إذا تأهل المسافر في بلد فهو من أهلها، وقال فيه عكرمة بن إبراهيم: وهو ضعيف.اهـ
قلت: بل ضعيف جدا.
قال أبوالبركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في ((تاريخه)) ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص ابن عباس وأحمد أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما. اهـ المراد من كلام ابن القيم في ((الهدي)).
قلت: الحديث قد بانت علته وأعله الزيلعي في ((نصب الراية)) (ج3 ص271) والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (ج3 ص211) والهيثمي في ((المجمع)) بعكرمة بن إبراهيم، فلا داعي للمدافعة عنه بهذا الكلام الخطابي.(1/66)
قال مالك: إذا مر بقرية فيها أهله أو ماله أتم إذا أراد أن يقيم بها يوما وليلة. وقال الشافعي وأحمد والثوري: يقصر ما لم يجمع إقامة. قال أبوبكر بن المنذر: وقصر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمكة ولعدد منهم بمكة دار أو أكثر وقرابات، قال: وكذا نقول أعني إذا قدم من سفر على أهل ودار أنه يقصر ثبت أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قدم مكة فصلى بها أياما يقصر الصلاة. اهـ من ((الأوسط)) (ج4 ص364).
قلت: والراجح ما ذهب إليه القائلون بالإتمام ويؤيد قولهم أثر ابن عباس المذكور في أول الباب مع ذلك الحديث الضعيف، أما كون النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قصر بمكة فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هو وأصحابه لما قصروا بمكة في حجة الوداع وقبلها يوم الفتح ذلك لأنهم هاجروا منها، وأصبحت ليست دارا لهم، لأن من هاجر من بلد لم يعد بلدا له بعد الهجرة فهم قصروا في غير بلدهم.
وهذا يؤيد القول بأن من نزل بمكان له فيه دار وأهل يصلي كما يصلي المقيم ولا يقصر.
ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري رقم (1588) ومسلم رقم (1351) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال زمن الفتح للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: يا رسول الله أين ننزل غدا في دارك بمكة؟ قال: ((وهل ترك لنا عقيل من دار))؟. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما، وكانا لم يسلما، وباعتبار ترك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها. اهـ المراد من ((الفتح)) (ج3 ص452).
إذا حضرت صلاة وقتها موسع مثل الظهر والعشاء ثم خرج إلى السفر بعد دخول الوقت عمدا ولم يصل فهل يصليها في السفر قصرا أم تماما
قال ابن المنذر في ((الأوسط)): أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن له قصرها. اهـ(1/67)
قلت: الإجماع مخروم خرمه المزني وأبوالعباس وغيرهما كما في ((المجموع شرح المهذب)) (ج4 ص368-369)، ((والمغني)) (ج3 ص143) لكن هذا القول هو الراجح بدليل الآية: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}، فإذا خرج أحد لسفر وضرب في الأرض مع بقاء وقت الصلاة ناله هذا الدليل.
إذا صلى مسافر خلف من لا يدري أهو مسافر أم مقيم ودخل معه في الركعتين الآخرتين من الرباعية
إن غلب على ظنه أنه مسافر وذلك برؤية متاع السفر معه كحقيبة أو كيس به ثياب أو نحو ذلك فهنا يقصر وبعد السلام إن تبين له خلاف ما ظن وظهر أنه مقيم كان عليه أن يكمل ركعتين تمام الأربع متابعة للإمام وامتثالا لقول رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه?.
أخرجه البخاري رقم (722)، ومسلم رقم (414).
وإن لم يغلب على ظنه أحد الأمرين فليدخل مع إمامه بنية القصر كما هو فرض عليه فإن استبان بعد السلام أنه مقيم أتم وإن لم يظهر له بقي على الأصل واكتفى بركعتين. هذا الذي هو في وسعه والله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
وقال بعضهم: له أن ينوي إن أتم إمامه المقيم أتم، وإن قصر إمامه المسافر قصر، وأرى القول الأول أقرب للحق وبه قال النووي في ((المجموع)) (ج4 ص355، 357) وانظر ((المغني)) لابن قدامة (ج3 ص145).
وقد سألت الشيخ عن ذلك فأفتى سدده الله بما تقدم لنا ذكره.
المسافر إذا ائتم بمقيم وجب عليه أن يتم
وعلى ذلك عدة أدلة منها ما أخرجه البخاري رقم (688)، ومسلم (412): من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?إنما جعل الإمام ليؤتم به?، ومنها حديث أبي هريرة المتقدم في المسألة التي قبل هذا بلفظ حديث عائشة وبزيادة ?فلا تختلفوا عليه?.(1/68)
وقال الإمام مسلم رحمه الله رقم (688): حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة. قال: سمعت قتادة، يحدث عن موسى بن سلمة الهذلي، قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج1 ص216) قال: حدثنا محمد بن عبدالرحمن الطفاوي، حدثنا أيوب، عن قتادة، عن موسى بن سلمة، قال: كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا، وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: تلك سنة أبي القاسم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وسنده حسن كل رجاله ثقات، إلا الطفاوي وهو صدوق يهم، وقتادة قد عنعن لكن الحديث أخرجه مسلم كما ترى.
وتقدم حديث ابن مسعود المتفق عليه في باب وجوب القصر على المسافر أنه صلى مع عثمان بمنى أربعا، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتابع عثمان على ما يراه خلاف الصواب في حق المسافر وهكذا ابن عمر تقدم ثبوت ذلك عنه في الباب السابق ذكره.
وهذا قول جمهور العلماء وهو الصحيح وقد نقل الإجماع على هذه المسألة، ولا إجماع يصح في ذلك فقد ساق ابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص338) الخلاف، ثم قال: فمن ادعى الإجماع مع ما ذكرنا من اختلاف فيه قليل المعرفة بالإجماع والاختلاف في هذه المسألة وسواء عندهم أدرك إمامه من أول الصلاة أو دخل معه في أواخرها.
قلت: ولو لم يدرك مع إمامه إلا تكبيرة الإحرام وجب عليه أن يتم كما أن إمامه يتم لحديث أبي هريرة عند البخاري رقم (908)، ومسلم رقم (602) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا?.
إذا صلى مقيم خلف مسافر أتم(1/69)
ثبت في ((مصنف عبدالرزاق)) (ج2 ص540)، و((سنن البيهقي)) (ج3 ص126)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص365) كلهم من طريق ابن شهاب عن سالم، عن أبيه، عن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم يقول: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وجاء أيضا من طريق زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر.
وهذا سند صحيح كما ترى.
وثبت أيضا عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه دخل على رجل من أهل مكة يعوده فحضرت الصلاة فصلى بهم ابن عمر ركعتين ثم التفت إليهم فقال: أتموا.
أخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج2 ص540)، والطحاوي في ((معاني الآثار)) (ج1 ص245) من طريق ابن شهاب عن صفوان بن عبدالله فذكر الأثر، وصفوان هو ابن عبدالله بن أمية ثقة، وجاء من طريق معمر، عن الزهري، عن ابن عمر وقد اختلف في سماع الزهري من ابن عمر، والصحيح أنه سمع منه، قال ابن المديني سمع منه حديثين كما في ((جامع التحصيل)) للعلائي رحمه الله. ولا أظن هذا الأثر منها والحاصل أنها في الشواهد والطريق الأولى كافية في ثبوت الأثر عن ابن عمر.
وبالطريق الثانية يزداد قوة ولم نجد مخالفا لهذين الصحابيين الجليلين بل نقل ابن المنذر عدم الخلاف في ذلك، وكذا ابن عبدالبر وابن قدامة انظر ((الأوسط)) (ج4 ص365)، و((الاستذكار)) (ج6 ص115)، و((المغني)) (ج3 ص146)، و((المجموع)) للنووي (ج4 ص367).
وبما أنه لا يوجد مخالف من السلف لهذين الصحابيين في أصل المسألة فنقول به والحمد لله.
إذا صلى المسافر بالمقيمين ثم سلم من ركعتين هل يقول للمأمومين أتموا الصلاة فإنا قوم سفر أم يسلم ويسكت
جاء من حديث عمران بن حصين قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة، لا يصلي إلا ركعتين ويقول: ((يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر)).(1/70)
أخرجه أبوداود رقم (1229)، والترمذي (ج2 ص430)، وأحمد في ((المسند)) (ج4 ص432)، وابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج3 ص70)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص365)، والطيالسي رقم (858)، وابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج6 ص115)، والبيهقي في ((الكبير)) (ج3 ص151)، والطحاوي في ((الآثار)) (ج1 ص242) كل هؤلاء رووه من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة المنذر بن مالك، عن عمران بن حصين به قال: غزوت مع رسول الله ... فذكر الحديث. وهذا السند ضعيف، علته علي بن زيد كان رفاعا للموقوفات، بل قال يزيد بن زريع: كان رافضيا.
قلت: وهو مع ضعفه فحديثه ليس مطروحا بل يصلح في الشواهد، وقد تقدم في المسألة التي قبل هذه أثران صحيحان عن عبدالله بن عمر وأبيه أنهما كانا يقولان إذا كانا مسافرين وائتم بهما مقيمون: أتموا الصلاة فإنا قوم سفر. فذانك الأثران الصحيحان يشهدان لهذه اللفظة في حديث عمران فيصير الحكم مستقيما أن الإمام المسافر يقول للمأمومين المقيمين بعد أن يسلم: أتموا الصلاة فإنا قوم سفر.
إذا اجتمع مسافر ومقيم فمن أحق بالإمامة
فيه خلاف نقله النووي في ((المجموع)) (ج4 ص277) ولا حاجة لهذا الاختلاف فالحكم في المسألة حديث أبي مسعود عند مسلم رقم (673): قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما)).
سواء كان الأقرأ للقرآن من المسافرين أو المقيمين فهو أحق بالإمامة لهذا الحديث. والأقرأ هو الأحفظ، لحديث عمرو بن أبي سلمة عند ابن الجارود رقم (309) وغيره وسنده صحيح، وفيه قال: وكنت أحفظ القوم فقدموني بين أيديهم.(1/71)
وإذا لم يعلم من هو أقرأ القوم للقرآن تخيروا من يتوسم فيه الصلاح من كبارهم وإلا إذا كان للمقيمين إمام راتب فهو أحق بالإمامة من المسافر لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في آخر هذا الحديث: ((ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)).
إذا سهى المسافر فصلى أربعا هل تصح صلاته
ذهب ابن حزم في ((المحلى)) (ج3) مسألة رقم (512): أنه إن كان عامدا بطلت صلاته وإن كان ساهيا سجد للسهو فقط.
واستدل بحديث عائشة المتقدم برقم (350): أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?فرضت صلاة السفر ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر?. متفق عليه.
وبحديث عمر: ?صلاة السفر ركعتان.. تمام غير قصر?، وبقول ابن عمر: صلاة السفر ركعتان من أبى السنة فقد كفر. وهو صحيح.
وبحديث عمر: ?إنها صدقة تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته?.
قال: فصح أن صلاة السفر فرضها الله ركعتين ثم بلغها في الحضر بعد الهجرة أربعا وأقرت صلاة السفر على ركعتين فإذا قد صح هذا فهي ركعتان لا يجوز أن يتعدى ذلك، ومن تعداه فلم يصل كما أمر الله فلا صلاة له إذا كان عالما بذلك. اهـ
قلت: وهناك آثار لم يذكرها، إليك منها:
جاء من حديث أبي هريرة مرفوعا: ?المتم في السفر كالمقصر في الحضر?. وفي سنده أحمد بن محمد بن المغلس: كذاب. انظر ((نصب الراية)) (ج2 ص190) وذكرناه لبيان حاله فقط.
وجاء عن جابر موقوفا عليه عند ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج2 ص463)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص333) من طريق المسعودي ومسعر عن يزيد الفقير عن جابر بن عبدالله وسنده صحيح مختصرا.(1/72)
وأخرجه ابن المنذر بطوله فقال: حدثنا يحيى بن منصور السلمي الزاهد الحافظ الثقة القدوة وأبوسعيد الهروي محدث هراه كما في ((السير)) للذهبي عن سويد بن نصر المروزي الملقب بالشاه وهو ثقة، عن عبدالله بن المبارك، عن المسعودي وهو حسن الحديث، وابن المبارك روى عنه قبل الاختلاط، عن يزيد الفقير، عن جابر قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر. وهذا سند حسن.
وجاء عن ابن عمر موقوفا قال ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج2 ص449): حدثنا وكيع، قال: حدثنا مسعر، عن سماك الحنفي قال: سمعت ابن عمر يقول: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر.
وسنده حسن وسماك هو: ابن الوليد أبوزميل الحنفي حسن الحديث.
وجاء عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر.
أخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج2 ص519)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص332) وفيه ثوير بن فاختة، كذاب إنما ذكرنا الأثر لمعرفة حاله.
وأخرج ابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص333) قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، قال: حدثنا مسلم، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا أبوحمزة، قال: قلت لابن عباس: ما تطيب نفسي أن أصلي بمكة ركعتين! قال: أفتطيب نفسك أن يصلي الصبح أربعا فإنه كذلك.اهـ
وسنده حسن، مسلم بن إبراهيم هو الفراهيدي ثقة، وعلي بن عبدالعزيز هو البغوي ثقة، وشعبة إمام حجة، وأبوحمزة هو عمران بن أبي عطاء القصاب الواسطي صدوق له أوهام حديثه يحسن إلا إذا علم أنه من أوهامه.
وإليك جملة من الأقوال:
قال مالك: من أتم ناسيا فليعد إن كان الوقت باقيا، فإن خرج الوقت فلا شيء عليه.اهـ من ((الاستذكار)) (ج6 ص66)، و((الأوسط)) (ج4 ص334).
وقال ابن القاسم: من صلى في سفر أربعا ناسيا أو عامدا أو جاهلا فليعد في الوقت، وبه قال سحنون.
وقال الأوزاعي: إذا قام المسافر إلى الثالثة وصلاها ثم ذكر فإنه يلغيها ويسجد للسهو.
وقال أحمد عمن صلى في السفر أربعا: لا يعجبني، السنة ركعتين.(1/73)
وقال الحسن البصري فيمن صلى في السفر أربعا قال: بئس ما صنع وقد قضت عنه صلاته، ثم قال للسائل: لا أم لك ترى أصحاب محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تركوها لأنها ثقلت عليهم. انظر ((الاستذكار)) (ج6 ص67).
وقال القاضي: تفسد صلاته لأنه زاد ركعتين عمدا. ((المغني)) (ج3 ص147).
وقال أصحاب الرأي: إن نواها تطوعا وفصل بينهما بجلوس لا تفسد، وإن خلط الأربع أنها فرض ولم يفصل بينهما بقعود فسدت، كمن صلى في الحضر الثنائية أربعا والرباعية ثمانيا عمدا، وزاد على هذا القول الشوكاني في ((السيل الجرار)) (ج1 ص306) بأنه لا يصح التعلق بما روى عن عائشة أنها كانت تتم في السفر، فإن ذلك لا تقوم به حجة بل الحجة في روايتها لا في رأيها.اهـ
وأقول أيضا: من الأدلة في المسألة مداومة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على القصر في جميع أسفاره مع قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد?.
فالزيادة على ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مردودة على فاعلها غير مقبولة ولا مثاب عليها.
أما جمهور العلماء فقد تقدم قولهم أنهم يرون جواز القصر والإتمام في السفر، مع أن الإتمام عندهم أفضل، وقد سبق بيان عدم نهوض أدلتهم لتثبيت ما قالوه في باب وجوب القصر من هذا الكتاب.
وبعد هذا التقرير أقول: إن من أتم في السفر أربعا يكون آثما لمخالفة فعل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقوله في الأحاديث السابق ذكرها.
أما القول ببطلان صلاته إن تعمد إتمامها في السفر كما تقدم عن ابن حزم وغيره ففي صحته نظر، ذلك لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تتم في السفر كما ثبت ذلك عنها في البخاري رقم (1090)، ومسلم رقم (685) بعد حديثها ?فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر?.
من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال الزهري: قلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت كما تأول عثمان.(1/74)
وتقدم حديث ابن مسعود وابن عمر في ((الصحيحين)): أن عثمان رضي الله عنه كان يتم الصلاة في منى فيصلها أربعا، وصلى خلفه بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ورضي عنهم أجمعين، ولم ينقل عن أحد منهم حكم على صلاة عثمان وعائشة بالبطلان، ولا عن أحد منهم أعاد صلاته بعد ما صلى مع عثمان رضي الله عنه.
وأيضا علمت مما تقدم عن أهل العلم أن المسافر إذا صلى خلف المقيم وجب عليه متابعة المقيم فيصلي أربعا ولا قائل ببطلان صلاته في هذا الحال.
وهذه عدة أمور تعترض القول بالبطلان:
الأول: أنه ثبت عن صحابيين جليلين.
الثاني: أنه لم ينقل عن أحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حكم ببطلان صلاتهما.
الثالث: أنه صلى خلف عثمان جمع كبير من الصحابة ولم يعيدوا مع علمهم أنه يصلي أربعا.
الرابع: أن المسافر إذا صلى خلف المقيم أتم صلاته وجوبا ولا قائل ببطلانها.
فالحاصل أن من تعمد الإتمام في السفر هو آثم وصلاته صحيحة إن شاء الله إذا تبين لك وجوب القصر على الحاج وغيره من المسافرين سواء بمنى أو عرفة أو مزدلفة لثبوت الأدلة على ذلك، وأنه لأجل السفر فيبقى ما يتعلق بالجمع في منى لأهل مكة وغيرهم نذكره إن شاء الله في باب فصل الجمع في السفر ومسائله.
مديم السفر كالملاحين والسائقين ونحوهم يجب عليهم القصر ويجوز لهم الفطر
أما مديم السفر كالملاحين والسائقين ونحوهم فيجب عليهم القصر ويجوز لهم الفطر في نهار رمضان وغير ذلك من رخص السفر للأدلة المتقدمة في باب وجوب القصر، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها ?فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في الحضر?.
فهو شامل لكل من سافر كانت الصلاة في حقه فرضها ركعتين سواء كان بمفرده أو معه أهله حسب التفصيل الآتي في المسألة التي تليها.(1/75)
قال الشافعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم ومالك: أنه يقصر. وقال أحمد في رواية: يتم. وقول الشافعي ومن معه أرجح لدخوله تحت عموم الأدلة. وانظر ((الأوسط)) لابن المنذر (ج4 ص368).
القصر بمنى في الحج لأهل مكة وغيرهم لأجل السفر وليس لأجل النسك
لأنه لم يشرع إلا في السفر ولا دليل على أنه قصر نسك القصر بمنى في الحج لأهل مكة وغيرهم لأجل أنه سفر وليس قصر نسك تقدم ذكر عدة أحاديث في باب وجوب القصر على المسافر منها حديث حارثة بن وهب قال: صلى بنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- آمن ما كان بمنى ركعتين.
أخرجه البخاري (1565)، ومسلم (ج5 ص205) النووي.
وحديث ابن عمر قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأبي بكر وعمر وصدرا من خلافة عثمان بمنى ركعتين.
أخرجه البخاري رقم (1082)، ومسلم (694).
وحديث ابن مسعود قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر وعمر بمنى ركعتين.
أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695) ومع ذلك فقد اختلف العلماء في القصر للحاج بمنى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد كان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما حج بالمسلمين حجة الوداع يصلي بهم ركعتين ركعتين، إلى أن رجع وجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة والمسلمون خلفه ويصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم جمعا وقصرا، وأقام بمنى يوم العيد وإمام منى يصلي بالمسلمين ركعتين ركعتين والمسلمون خلفه يصلي بصلاته أهل مكة وغيرهم، ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا أبوبكر ولا عمر أحدا من أهل مكة أن يصلي أربعا لا بمنى ولا بغيرها، فلهذا كان أصح قولي العلماء أن أهل مكة يجمعون بعرفة ومزدلفة ويقصرون بها وبمنى، وهذا قول عامة فقهاء الحجاز كمالك وابن عيينة وإسحاق وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وقد قيل: يجمعون ولا يقصرون، وهو قول أبي حنيفة والمنصوص عن أحمد.(1/76)
وقيل: لا يقصرون ولا يجمعون، كما يقول من يقول من أصحاب الشافعي وأحمد وهو أضعف الأقوال.
والصواب المقطوع به أن أهل مكة يقصرون ويجمعون هناك كما كانوا يفعلون هناك مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وخلفائه.
وقد تنازع العلماء في قصر أهل مكة خلفه فقيل: كان ذلك لأجل النسك وقيل: بل كان ذلك لأجل السفر، والقول الثاني هو الصواب، والقصر معلق بالسفر وجودا وعدما سواء كان السفر قصيرا أو طويلا. اهـ من ((مجموع الفتاوى)) (ج24 ص10-13) باختصار يسير ولا مزيد عليه.
الجمع بين الصلاتين في السفر
جمع التأخير بين المغرب والعشاء: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. وكان عبدالله يفعله إذا أعجله السير.
أخرجه البخاري رقم (1091)، ومسلم (703) بزيادة: بعد أن يغيب الشفق، بعد قوله: جمع بين المغرب والعشاء.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يجمع بين هاتين الصلاتين في السفر يعني المغرب والعشاء.
أخرجه البخاري رقم (1108، 1110).
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يجمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك.
أخرجه مالك في ((الموطأ)) وأعله ابن عبدالبر بالإرسال فقال: وهذا الحديث هكذا رواه جماعة من أصحاب مالك مرسلا، وقد روى عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقد ذكرنا العلة في إسناد هذا الحديث في ((التمهيد)). اهـ من ((الاستذكار)) (ج6 ص10) و((التمهيد)) (ج2 ص337-339).
قلت: ويشهد له ما قبله من الأحاديث.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خرج من مكة قبل غروب الشمس فجمع بين العشاءين بسرف. قال هشام بن سعد: وبينهما عشرة أميال.(1/77)
أخرجه النسائي (ج1 ص287)، وأبوداود رقم (1215).
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (1215): حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا يحيى بن محمد الجاري، حدثنا عبدالعزيز بن محمد، عن مالك، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف.
حدثنا محمد بن هشام جار أحمد بن حنبل، حدثنا جعفر بن عون، عن هشام بن سعد قال: بينهما عشرة أميال يعني بين مكة وسرف.
وأخرجه النسائي (ج1 ص287) من طريق يحيى الجاري، عن عبدالعزيز الدراوردي به. وأحمد بن صالح هو المصري ثقة حافظ تكلم فيه بغير حجة، ويحيى بن محمد هو ابن عبدالله الجاري حسن الحديث، وقيل له الجاري لأنه كان يسكن ساحل البحر مما يلي المدينة النبوية مكان مرفأ السفن كذا في ((التهذيب)) لابن حجر.
وعبدالعزيز بن محمد هو الدراوردي حسن الحديث في غير العمري، وهو هنا عن مالك إمام دار الهجرة، فليس في الحديث مطعن سوى عنعنة أبي الزبير، وهو مدلس من الثالثة كما في مراتب المدلسين للحافظ ابن حجر وبعضهم يعرض عنها.
وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه النسائي في ((المجتبى)) (ج1 ص286) فقال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن عبدالرحمن شيخ من قريش، قال: صحبت ابن عمر إلى الحمى فلما غربت الشمس هبت أن أقول له: الصلاة، فسار حتى ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم نزل فصلى المغرب ثلاث ركعات ثم صلى ركعتين على أثرها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يفعل.
وكل رجال السند ثقات سوى إسماعيل بن عبدالرحمن هذا المبهم وقد عرف اسمه أنه ابن ذؤيب أو ابن أبي ذؤيب كما في ((التهذيب)) وهو ثقة فالسند ظاهره صحيح.
وأخرجه أحمد (ج5 ص125) ((الفتح الرباني)).(1/78)
فقال رحمه الله: حدثنا ابن نمير، حدثنا حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جمع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين الصلاتين يوم غزا بني المصطلق.
سنده ضعيف فيه حجاج بن أرطأة مدلس وقد عنعن وهو نفسه به تيه كان يقول: أهلكني حب الشرف، وكثر خطؤه، ومن طريقه أخرجه ابن أبي شيبة (ج2 ص458) ولحديثه شاهد قال أحمد رحمه الله (ج5 ص125): حدثنا حسن بن موسى، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير قال: سألت جابرا: هل جمع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين المغرب والعشاء؟ قال: نعم زمان غزوة بني المصطلق.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يجمع بين الصلاتين في السفر.
أخرجه أبويعلى، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج2 ص159): رجاله رجال الصحيح، ونعم فقد أخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج2 ص458)، وأبويعلى (ج9 ص284)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) (ج1 ص330) من طريق عيسى بن عبدالرحمن بن المختار عن ابن أبي ليلى، عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل، عن عبدالله بن مسعود.. وسنده كما يلي:
عيسى ثقة قاله الدارقطني كما في ((التهذيب))، وابن أبي ليلى هو عبدالرحمن أرفع من ثقة، وهزيل هو ابن شراحيل الأودي ثقة فالحديث صحيح.
قال الإمام ابن أبي شيبة (ج2 ص456): حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثمانيا جميعا وسبعا جميعا.
وسنده صحيح كلهم ثقات، جابر بن زيد هو أبوالشعثاء الأزدي ثقة فقيه.
جمع الظهر والعصر تأخيرا(1/79)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1111): حدثنا حسان الواسطي قال: حدثنا المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب.
أخرجه مسلم رقم (704) ولمسلم في رواية أخرى: يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء.
أخرجه البخاري رقم (1107).
ولمسلم: جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء(1)قال سعيد بن جبير: فقلت: لابن عباس ما حمله على ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته.
وأخرج مسلم رقم (706) قال: حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبوالزبير، عن أبي الطفيل عامر عن معاذ قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا.
ورواه قرة بن خالد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل به، وقال معاذ: أراد أن لا يحرج أمته.
وأخرجه مسلم أيضا (ج4 ص1784) مطولا نسخة عبدالباقي.
جمع التقديم قبل السير في السفر
__________
(1) ? ... أي جمع الظهر والعصر، وجمع المغرب والعشاء، وليس معناه أنه جمع الأربعة الفروض سواء كما تقدم بيانه في الأحاديث، وهذا لا خلاف فيه وانظر شرح النووي على مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها حديث رقم (702- 706).(1/80)
قال الإمام أحمد رحمه الله في ((المسند)): حدثنا عبدالرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، عن عكرمة، وعن كريب أن ابن عباس قال: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في السفر؟ قال: قلنا: بلى. قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما. اهـ
وسنده ضعيف جدا قاله شيخنا، علته حسين بن عبدالله بن عبيدالله الهاشمي، قال ابن معين: ضعيف، وقال أحمد: له أشياء منكره، وقال النسائي: متروك واتهم بالزندقة، وأيضا فقد اضطرب فيه فتارة يرويه عن عكرمة وتارة عن كريب وأخرى عنهما وذكر وجوه الاضطراب الدارقطني في ((سننه)) (ج1 ص388-389)، وقال الحافظ بن حجر في ((التخليص الحبير)) (ج2 ص101): واختلف عليه فيه.اهـ وتقدم بحث ذلك في فصل جمع التقديم.
تنبيه: الأدلة في جمع التقديم تشمل يوم الجمعة وغيرها والانفراد عن الأصل بوصف مثل هذا تتداعى الهمم لنقله ومع ذلك لم نجد في التفريق بين الجمعة وغيرها شيء ولا عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم فيبقى على الأصل أنه يجوز جمع العصر مع صلاة الجمعة والتفريق في الجمع بين عصر الجمعة مع ظهرها وبين غيرها من الأيام يحتاج إلى دليل.
جواز الجمع للمسافر إذا كان نازلا سواء جمع تقديم أو تأخير(1/81)
قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الفضائل (ج4 ص1784 رقم 2282): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي، حدثنا أبوعلي الحنفي، حدثنا مالك وهو ابن أنس، عن أبي الزبير المكي، أن أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عام غزوة تبوك فكان يجمع الصلاة فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، حتى إذا كان يوما أخر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج بعد ذلك فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال: ((إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي)) فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((هل مسستما من مائها شيئا))؟ قالا: نعم، فسبهما النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء قال: وغسل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر، أو قال: غزير شك أبوعلي أيهما قال حتى استقى الناس ثم قال: ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ههنا قد ملئ جنانا?.اهـ
والحديث صحيح، أبوعلي الحنفي هو عبيدالله بن عبدالمجيد حسن الحديث، وقد تابعه أبومصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، عن مالك، عن أبي الزبير به، أخرجه البغوي في كتابه ((السنة)) (ج4 ص193)، وعبدالرزاق في ((مصنفه)) (ج2 ص545).(1/82)
ففي قوله: ثم دخل ثم خرج، وقوله: حتى إذا كان يوما أخر الصلاة ثم خرج، دليل أنه كان مقيما أكثر من يوم في أثناء سفره وأنه يدخل مسكنه ويخرج منه عند الصلاة كحال المقيم.(1)
وفيه إشارة إلى أن هذا الجمع جمع تقديم وتأخير من قوله حتى إذا كان يوما أخر الصلاة قال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج6 ص15): ليس في حديث ابن عمر هذا ما يدل على أن المسافر لا يجوز له الجمع إلا أن يجد به السير بدليل حديث معاذ بن جبل لأن فيه أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جمع بين الصلاتين في سفره إلى تبوك نازلا غير سائر، وليس في الحديثين ما يعارض الآخر، إنما التعارض لو كان في حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان لا يجمع بين الصلاتين إلا أن يجد به السير، فحينئذ يكون التعارض لحديث معاذ.
وإنما هما حديثان حكى الراوي لكل واحد منهما الجمع للمسافر بالصلاتين جد به السير أو لم يجد، ولو تعارض الحديثان لكان الحكم لحديث معاذ لأنه أثبت ما نفاه ابن عمر.
__________
(1) ? ... وقد بوب عليه ابن خزيمة (ج2 ص82) في ?صحيحه? فقال: باب الرخصة في الجمع بين الصلاتين في السفر وإن كان المرء نازلا في المنزل غير سائر وقت الصلاة فذكر الحديث من طريق وهب عن مالك به ثم علق على الحديث بكلام مفيد حاصله أنه لا تعارض بين حديث ابن عمر أن النبي ? كان إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء متفق عليه، وبين حديث معاذ هذا أن النبي ? جمع وهو نازل.(1/83)
وقد جاء حديث معاذ هذا في جمع التقديم بلفظ أصرح من هذا عند أبي داود رقم (1220) قال رحمه الله : حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن معاذ بن جبل، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب.
قال أبوداود والبيهقي والدارقطني: لم يرو هذا الحديث إلا قتيبة من هذه الطريق. اهـ
والحاصل أن حديث جمع التقديم جاء عن ابن عباس من ثلاث طرق وهو قابل للتحسين، وعن معاذ بن جبل وعن علي بن أبي طالب (وعن أنس بن مالك من طريقين يصير بها حسنا كما سيأتي بيان ذلك بعد صفحات).
فالحديث بمجموع طرقه صحيح وأصله في ((مسلم)) (ج4 ص1784) عبدالباقي وفيه: فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، حتى إذا كان يوما أخر الصلاة ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا.
وهذا يدل من قوله: فلما كان يوما أخر الصلاة أنه جمع جمع تقديم.
فثبت لدينا جمع التقديم بعرفة بغير خلاف، وفي غيرها أيضا باطمئنان.
أما قول أبي داود: ليس في جمع التقديم حديث قائم، فيحمل أنه بمفرده فقد ترى أن ما من طريق ستأتي إلا وفيها ضعف بين شديد ومنجبر.
وحديث معاذ بن جبل عند أبي داود الذي لفظه صريح في جمع التقديم رجال إسناده كلهم ثقات لكن الحفاظ استنكروه، قال ابن رجب في ((شرح علل الترمذي)) (ج2 ص831): وقد روى قتيبة عن الليث بن سعد حديث الجمع بين الصلاتين في السفر وهو غريب جدا، فاستنكره الحفاظ. اهـ(1/84)
قلت: وأشد من طعن في الحديث هو أبوعبدالله الحاكم النيسابوري في ((علوم الحديث)) ص (119-121) فقال: هذا حديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، لا نعرف له علة نعله بها، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ بن جبل، قال: وقد حدثونا عن أبي العباس قال: كان قتيبة بن سعيد يقول: على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي خيثمة حتى عد قتيبة أسامي سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه. هذا الحديث.
قال الحاكم: فأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه، ولم يبلغنا عن أحد ذكر للحديث علة، قال: فنظرنا فإذا الحديث موضوع ثم ساق بسنده إلى البخاري أنه قال لقتيبة: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ قال: كتبته مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ.اهـ المراد من ((علوم الحديث للحاكم)).
قلت: وخالد هو ابن القاسم أبوالهيثم المدائني مجمع على تركه. قال ابن راهويه: كان كذابا وكتب عنه ابن معين ثم حرق كل ما كتب عنه بعد.
لكن هذه العلة ظنية جدا على فرض ثبوتها عن البخاري، وأعله الترمذي في ((جامعه)) فقال: تفرد به قتيبة والمعروف عند أهل العلم أنه من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ وليس فيه جمع التقديم، وبنحوه هذا أعله أبوسعيد بن يونس كما في ((التلخيص الحبير)) فقال: لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه فغير الأسماء، وأن موضع يزيد بن أبي حبيب أبوالزبير.
وأعله أبوحاتم كما في ((العلل)) لابنه قال: لا يعرفه عن يزيد والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث منكر في الصلاة قبل الزوال للمسافر. اهـ من بحث ما يتعلق بأحاديث جمع التقديم.(1/85)
وقد أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج5 ص241-242)، وأبوداود رقم (1220)، والترمذي (ج2 ص438)، وابن حبان (ج4 رقم 1458، 1593 الإحسان)، والدارقطني في ((السنن)) (ج1 ص392، 393)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص162، 163)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ج12 ص465، 466) كل هؤلاء من طريق قتيبة بن سعيد البغلاني، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن معاذ بن جبل، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب.
قلت: فحاصل ما أعلوه به أن قتيبة وهم فيه، فإما أنه أخطأ في الاسم فأصله عن أبي الزبير عن أبي الطفيل كما في ((مسلم)) وغيره، ووهم قتيبة فقال: عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، وإما أنه كتب الحديث عن الليث مع بعض المدبرين وهو خالد بن القاسم المدائني فأدخل عليه هذا الحديث عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب وهو لا يدري، وكلا الأمرين قال بهما الحفاظ كما تقدم ذكره، وهو وهم كبير وقع لهذا الإمام لكن الكمال لله وحده.
والصواب أنه من حديث الليث، عن أبي الزبير، وقد رواه جمع عن الليث عن أبي الزبير منهم الإمام مالك عن النسائي (ج1 ص285) وزهير بن معاوية وقرة بن خالد عند مسلم (ج1 ص490) وغيرهم، وليس فيه ذكر جمع التقديم.
وخالف هؤلاء كلهم هشام بن سعد عند أبي داود رقم (1208)، والبيهقي (ج3 ص162، 163)، والدارقطني (ج1 ص392) ورواه عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بذكر جمع التقديم، وهذا من العجائب فهو ضعيف ضعفه النسائي، وقال يحيى: لا يحدث عنه، وقال أحمد: لم يكن بالحافظ ولم يكن يحكم الحديث.
فزيادة جمع التقديم من هذه الطريق منكرة ولا شك.(1/86)
قال الحافظ: وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري والعلائي من هذا الوجه وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في ((المستدرك)).
وحديث ابن عباس له ثلاث طرق:
الأولى: فيها الحسين بن عبدالله أشد جرح فيه قول النسائي: متروك، قال شيخنا حفظه الله: بل اتهم بالزندقة.
والثانية في ((مسند يحيى بن عبدالحميد الحماني)) كما في ((التلخيص)) عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس به. وهذه الطريق ضعيفة، يحيى الحماني صاحب ((المسند)) ضعيف بل اتهم بسرقة الحديث، وحجاج هو ابن أرطأة ضعيف أهلكه حب الشرف ومدلس وقد عنعن، والحكم بن عقبة أرفع من ثقة لكنه لم يسمع من مقسم إلا نحو خمسة أحاديث وقد عدها شعبة كما في ((سنن الترمذي)) (ج2 ص406) وليس هذا منها.
والثالثة ذكرها إسماعيل القاضي في ((الأحكام)) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه عبدالحميد، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس نحوه. ذكرها الحافظ في ((التلخيص)).
قلت: وهذه الطريق ضعيفة، فيها إسماعيل بن أبي أويس ضعفه النسائي والدارقطني واللالكائي، وكون البخاري ومسلم أخرجا له مع ضعفه إنما انتقيا ما ثبت عندهما(1)
__________
(1) ? ... تنبيه: قال شيخنا حفظه الله: هذا في البخاري فأين الدليل على أن مسلما انتقى.
... ... قال الحافظ ابن حجر في ?مقدمة الفتح? ص (391): احتج به الشيخان إلا أنهما لم يكثرا من تخريج حديثه، ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين، وأما مسلم فاخرج له أقل مما أخرج له البخاري، قال: ورويناه في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها ما هو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في ?الصحيح? من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره. ?=
= ... ... فهذا برهان على أن البخاري انتقى من حديثه، وأما مسلم فقلنا: إنه انتقى من أحاديثه ما يراه صالحا للحجية ذلك لأنه اشترط الصحة في كتابه ?الصحيح? إلا إذا كان لا يرى ضعفه وفي هذا نظر، فأقوى احتمال أنه فتش عما هو صالح من أحاديثه فأخرجه في ?صحيحه? وترك ما عداه والله أعلم.(1/87)
من حديثه.
وله طريق أخرى عن أنس رواها الطبراني في ((الأوسط)) (ج8 ص272) رقم (7548) قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني، قال: حدثنا هارون بن عبدالله الحمال، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا محمد بن سعدان، قال: حدثنا محمد بن عجلان، عن عبدالله بن المفضل، عن أنس به بزيادة: وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء، ومحمد بن إبراهيم الأصبهاني ثقة، والحمال أرفع من ثقة، ويعقوب بن محمد الزهري ضعيف، قال الحافظ في ((التقريب)): صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء، ومحمد بن سعدان هو الأشهلي وثقه النسائي وابن معين، وابن عجلان صدوق، و(ابن المفضل) صوابه (ابن الفضل) ثقة سمع من أنس كما في ((التهذيب)) فهذا الحديث صالح في الشواهد.
وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند الدارقطني في ((السنن)) (ج1 ص391): قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا المنذر بن محمد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن علي بن الحسين، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ... فذكر الحديث بمثل حديث معاذ.
وهذا سند ضعيف فيه المنذر بن محمد هو القابوسي مذكور في ((الميزان))، قال الدارقطني: مجهول. وأبوه، ومحمد بن الحسين لم أبحث عنهما كثيرا، وقال الحافظ في ((التلخيص)): فيه من لا يعرف.
وله شاهد من حديث أنس بن مالك أخرجه أبونعيم في ((المستخرج على صحيح مسلم)) رقم (1582) (ج2 ص294) قال: حدثنا عبدالله بن محمد ابن جعفر، ومخلد بن جعفر، قالا: حدثنا جعفر، قال: حدثنا جعفر الفريابي، قال: حدثنا إسحاق بن راهويه، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل. وأخرجه البيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص162).(1/88)
قلت: وهذا سند صحيح مخرجه جعفر بن محمد بن الحسن القاضي الفريابي إمام شهير، قال السمعاني في ((الأنساب)): رحل من الشرق إلى الغرب وأدرك العلماء وولي القضاء واجتمع في مجلس إملائه ثلاثون ألفا ممن كان يكتب الحديث.
وإسحاق بن راهويه ثقة حافظ لقبه أحمد بالإمام، وشبابة بن سوار الفزاري ثقة حافظ، والليث ثقة إمام فقيه، وعقيل ثقة ثبت، وابن شهاب إمام متفق على جلالته كثير الرواية عن أنس في ((الصحيحين)) وغيرهما فكلهم أئمة ثقات كما ترى.
وصححه النووي ونقله عنه الحافظ في ((التلخيص)) (ج2 ص103) ثم غمزه بقوله: وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق بن راهويه، لكن له متابع رواه الحاكم في ((الأربعين)) له عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن إسحاق الصاغاني، عن حسان بن عبدالله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس به، والحديث من هذه الطريق في ((الصحيحين)).
قلت: نعم في البخاري رقم (111، 112)، ومسلم (704) وليس فيهما زيادة (والعصر).
(حديث منكر في صلاة المسافر الظهر قبل الزوال):
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص113): حدثنا أبومعاوية، حدثنا مسحاج الضبي قال: سمعت أنس بن مالك يقول قال: كنا إذا كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر فقلنا: زالت الشمس أو لم تزل صلى الظهر ثم ارتحل.
سنده ضعيف، علته مسحاج بن موسى الضبي روى عنه جمع، وقال ابن معين وأبوداود: ثقة، وقال أبوزرعة: لا بأس به، وقال: ابن حبان: لا يحتج به، روى حديثا واحدا منكرا، وقال ابن المبارك: من مسحاج حتى أقبل منه، وقال ابن الجوزي: روى عن أنس حديثا منكرا، ثم ذكر هذا الحديث وذكره الذهبي في ((المغني)) في الضعفاء.
فالحاصل أن الحديث منكر، كما قال ابن الجوزي وابن حبان وأنكره ابن المبارك فقال: وما حسن هذا الحديث، أنا أقول كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصلي قبل الزوال وقبل الوقت.اهـ ((التهذيب)) و((السلسلة الصحيحة)) (ج6 ص652).(1/89)
الجمع للمسافر بأذان واحد وإقامتين
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين، وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب.
أخرجه مسلم رقم (1818). مختصرا.
الجمع بعرفة ومزدلفة للمسافر
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص599) رقم (1662) باب الجمع بين الصلاتين بعرفة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصلاة مع الإمام جمع بينهما، وقال الليث: حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم، أن الحجاج بن يوسف عام نزل بابن الزبير رضي الله عنهما سأل عبدالله رضي الله عنه: كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة. فقال عبدالله بن عمر: صدق إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ فقال سالم: وهل تتبعون في ذلك إلا سنته. اهـ
مسألة: لم أجد دليلا على أن الحاج يجمع بين الصلوات بمنى وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ولم يجمع بمنى قبل التعريف(1)ولا جمع بها بعد التعريف أيام منى بل يصلي كل صلاة ركعتين(2).اهـ من ((الرسائل والمسائل)) للإمام ابن تيمية، توزيع دار الباز (ج2 ص273).
كم أيام يقصر المسافر النازل إذا كان مترددا هل سيسافر أم لا
لحديث ابن عباس عند البخاري رقم (1080) قال: أقام النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((فتح الباري)) (ج2 ص655): فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل. اهـ
__________
(1) ? ... أي قبل صعود عرفة.
(2) ? ... يعني يقصر الرباعية.(1/90)
وأما حديث أنس أنهم خرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من المدينة إلى مكة قال: فكان يصلي بنا ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة. قال: وأقمنا بها عشرا.
أخرجه البخاري (1081)، ومسلم (ج5 ص202) نووي.
قال الحافظ: فيستدل به على من نوى الإقامة لأنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان جازما بالإقامة تلك المدة لأداء الحج، ولا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة(1)وحديث أنس في حجة الوداع. اهـ المراد.
قلت: وبقي ما ظاهره الاختلاف مع حديث أنس وهو ما أخرجه البخاري رقم (1085)، ومسلم رقم (1240) من حديث ابن عباس وجابر ابن عبدالله رضي الله عنهما قالا: قدم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من معه الهدي.
فهذان الحديثان حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه بقوا في مكة عشرا يقصرون، وحديث ابن عباس أنهم قدموا في صبح اليوم الرابع وبقوا مقيمين يقصرون بها الرابع والخامس والسادس والسابع أربعة أيام وهم عازمون على البقاء جزما لأداء الحج، وكلا الحديثين في حجة واحدة وهي حجة الوداع وكلاهما متفق عليه، ومن المعلوم قطعا أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع.
قال ابن القيم رحمه الله: ولا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجة الوداع ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، واختلف هل حج قبل الهجرة فروى الترمذي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: حج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثلاث حجج حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر معها عمرة. اهـ
__________
(1) ? ... نعم جاء مصرحا به في ?مسند أحمد?.(1/91)
وقال الترمذي رقم (815): هذا حديث غريب من حديث سفيان لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب، ورأيت عبدالله بن عبدالرحمن روى هذا الحديث في كتبه عن عبدالله بن أبي زياد، وسألت محمدا عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ورأيته لم يعد هذا الحديث محفوظا، وقال: إنما يروى عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن مجاهد مرسلا.اهـ
والحديث أخرجه ابن ماجه رقم (3076)، والدارقطني (ج2 ص278) وذكر ابن ماجه أنه قد جاء من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس.
قلت: والحكم لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث ليس هذا منها، فالحديث ضعيف، وإذا علم أن حجة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم تتعدد وأن حديث ابن عباس وأنس كانا في حجة واحدة مع اختلافهما في الظاهر فإليك ما جمع به أهل العلم بين الحديثين.
قال الحافظ ابن حجر: فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليهن كما قال أنس، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إذا أقام المسافر ببلد قصر أربعة أيام. اهـ من ((الفتح)) (ج2 ص562).
قلت: وقد جمع بهذا الجمع كثير من العلماء غير الحافظ.
وحاصل الأمر أن حكم صلاة من نوى إقامة ببلد عازما على بقاء أيام معلومة منحصر بين حديثين، حديث أنس أنه بقي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عشرا وحديث ابن عباس وجابر أنه قدم في صبيحة الرابع وبقي الرابع والخامس والسادس والسابع مقيما عازما على الإقامة لأداء الحج يقصر مع عزمه على الإقامة تلك المدة، وبعدها بقي يزاول أعمال الحج في بقية الأيام تمام العشرة فهو حينئذ خارج مكة رجع إلى سفره فله حكم المسافر، لأنه غير مستقر فيكون الحكم لحديث ابن عباس وجابر أن من أقام ببلد ناويا المكث فيه أربعا قصر الرباعية.(1/92)
فتبين خطأ ابن عبدالبر رحمه الله في تضعيف حديث ابن عباس، وأن الحديث صحيح في البخاري وغيره بلفظ: تسعة عشر، وأن لفظ سبعة عشر، وخمسة عشر وغيرها من الألفاظ سواء من حديث ابن عباس أو غيره تعتبر كلها شاذة لا يثبت منها شيء كما تقدم، ولهذا فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في ((الفتح)) (ج2 ص562): فالمدة التي في حديث ابن عباس تسعة عشر يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة وكان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل. وسيأتي بيان تلك الأحاديث في الباب الذي بعد هذا.
وقال الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (ج3 ص239) بعد ذكر الخلاف في المسألة قال: والحق أن الأصل في المقيم الإتمام لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر والمقيم غير مسافر، فلولا ما ثبت عنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قصر بمكة وتبوك(1)مع الإقامة لكان المتعين هو الإتمام، فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل وقد دل الدليل على القصر مع التردد إلى عشرين يوما(2)ولم يصح أنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قصر في الإقامة أكثر من ذلك فيقتصر على هذا المقدار، ولا شك أن قصره -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها لكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك.اهـ
وصحح النووي في ((المجموع)) (ج4 ص217، 218) عن أصحابهم أنهم قالوا: يقصر المتردد ثمانية عشر يوما وإن بقى بعدها أتم.
قلت: هذا الحكم منهم أخذا بإحدى الروايات الشاذة، وذلك القول منهم وقوفا عند ظاهر الحديث إلا أنهم أخذوا بحديث مرجوح، والراجح تسعة عشر.
__________
(1) ? ... قلت: أما ما جاء أنه قصر بتبوك عشرين يوما فمعل، كما سيأتي بعد هذا الباب..
(2) ? ... قلت: بل إلى تسعة عشر يوما أما حديث العشرين فمعل.(1/93)
وقال صديق حسن خان في ((الروضة)) (ج1 ص381): وأما مع التردد وعدم العزم على إقامة مدة معينة فلا يزال يقصر المسافر حتى يبلغ مدة إقامته مقدار المدة التي أقامها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمكة بعد الفتح فإن قيل الاقتصار على مدة إقامته -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعدم تجويز القصر فيما زاد عليها لا يصلح للمتمسك به لأنه مجرد فعل لا دلالة فيه على قصر الجواز على تلك المدة، ومن أين لنا أنه لو عرض له ما يوجب إقامته فوق تلك المدة لما قصر الصلاة؟ قلنا له: من زعم جواز القصر فيما زاد عليها فعليه الدليل. اهـ المراد من ((الروضة)) باختصار يسير.
وأنا ذكرت هذا لتعلم أن الخلاف في المسألة قائم بشدة وسيأتي تحريره بعد ثلاثة أبواب إن شاء الله.
قال الخرقي: وإن قال اليوم أخرج وغدا أخرج، قصر، وإن أقام شهرا، قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن من لم يجمع الإقامة مدة تزيد على إحدى وعشرين صلاة فله القصر ولو أقام سنين مثل أن يقيم لقضاء حاجة يرجو نجاحها أو لجهاد أو حبسه سلطان أو مرض.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون. اهـ من ((المغنى)) (ج3 ص153).
وعلى هذا القول آثار عن السلف صحيحة لسنا غافلين عنها فقد أخرج البيهقي في ((السنن الكبرى)) (ج3 ص152) من طريق أبي إسحاق الفزاري عن عبيدالله العمري، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه بقي بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ومعه بعض الصحابة وكانوا مترددين في السفر يمنعهم الثلج من الخروج.(1/94)
وهذا سند صحيح عن ابن عمر وصححه الحافظ في ((الدراية)) (ج1 ص212). وأخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) (2 رقم 433) فقال: عن عبدالله ابن عمر، عن نافع، أن ابن عمر أقام بأذربيجان، فذكر الأثر وهذا سند ضعيف لأن عبدالله هو العمري ضعفه غير واحد من المحدثين، وقال الحافظ في ((التقريب)): ضعيف. وعبدالرزاق روى عن عبدالله هذا الضعيف، وعن أخيه عبيدالله الثقة الإمام، وكلاهما روى عن نافع، والذي يجعلنا نجزم أن الأثر جاء عن عبيدالله العمري الإمام هو أن أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري راوي الأثر عند البيهقي عن عبيدالله لم يرو عن عبدالله الضعيف.
فإما أن يكون الأثر روي عن عبيدالله وأخيه عبدالله كما هو الظن الراجح، لأن عبدالرزاق رواه عن عبدالله، وعبدالرزاق ثقة حافظ وأبا إسحاق الفزاري رواه عن عبيدالله وأبوإسحاق أيضا ثقة حافظ مأمون، وإما أن يكون ما عند عبدالرزاق (عبدالله) خطأ والصواب (عبيدالله)، والأول أقرب وعلى التقديرين فلا يزال الأثر صحيحا والحمد لله.
الجمع بمزدلفة للمسافر بإقامتين
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جمع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر كل واحدة منهما.
أخرجه البخاري رقم (1092).
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سمعه يقول: دفع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من عرفة فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة؟ فقال: ((الصلاة أمامك)) فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما.
أخرجه البخاري رقم (1672)، ومسلم رقم (1286).
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة.
أخرجه البخاري رقم (1674)، ومسلم رقم (1287).(1/95)
الإبراد بالصلاة في السفر
قال البخاري رحمه الله رقم (539) باب الإبراد بالظهر في السفر: حدثنا آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا مهاجر أبوالحسن مولى لبني تيم الله قال: سمعت زيد بن وهب، عن أبي ذر الغفاري قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أبرد)) ثم أراد أن يؤذن فقال له: ((أبرد)) حتى رأينا فيء التلول فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة?.
وأخرجه مسلم رقم (606).
قلت: وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أبرد بالصلاة في الحضر في صلاة الجمعة وغيرها عند اشتداد الحر، وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله في باب المواقيت من صحيحه رقم (533) وما بعده باب الإبراد بالظهر في شدة الحر.
وذكر أربعة أحاديث عن أبي هريرة وابن عمر وأبي سعيد وأبي ذر كلها متفق عليها إلا حديث أبي سعيد فلم يخرجه مسلم.
هل على المسافر جمعة
عمدة هذه المسألة حديث الجمعة حق واجب إلا على أربعة وذكر منهم في بعض الروايات المسافر، والحديث بذكر المسافر أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) (ج1 ص161) قال: حدثنا أحمد بن محمد بن رشدين، قال: حدثنا إبراهيم بن حماد بن أبي حازم، قال: حدثنا مالك بن أبي أنس، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?خمسة لا جمعة عليهم: المرأة، والمسافر، والعبد، والصبي، وأهل البادية?.
قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج2 ص170): فيه إبراهيم بن حماد ضعفه الدارقطني.اهـ(1/96)
والحديث أخرجه الدارقطني في غرائب مالك كما في ((لسان الميزان)) (ج1 ص50) من طريق إسحاق بن الحسن الطحان، عن إبراهيم بن حماد به، وقال: قال الدارقطني: تفرد به إبراهيم بن حماد وكان ضعيفا، وسكت عليه الحافظ في ((التلخيص)) (ج2 ص132) وهو ضعيف كما ترى، وجاء من حديث جابر بن عبدالله عند الدارقطني (ج2 ص3) رقم (1)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص183، 184) من طريق ابن لهيعة، عن معاذ بن محمد الأنصاري، وجاء عن الحسن مرسلا.
قال عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج3 ص174) عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?ليس على المسافر جمعة?. وهذا مرسل صحيح.
وأخرج الطبراني في ((الأوسط)) و((الكبير)) رقم (822)، والدارقطني في ((السنن)) (ج2 ص4) من طريق أبي الحنفي قال: حدثنا عبدالله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?ليس على المسافر جمعة?.
وعبدالله بن نافع قال البخاري: منكر الحديث، وقال الدارقطني والنسائي: متروك، وهذا الأثر ذكرناه لمعرفة حاله لا للاستشهاد به.
وأخرج البيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص183، 184)، والطبراني في ((الكبير)) (ج2 ص51) عن تميم الداري بنحوه: ((ليس على المسافر جمعة)). وأعله أبوزرعة كما في ((العلل)) لابن أبي حاتم (ج1 ص212) فقال: هذا حديث منكر.اهـ
قلت: فيه ثلاثة ضعفاء: ضرار بن عمر، قال يحيى بن معين: فيه نظر، والحكم بن عمر، قال يحيى بن معين: ليس بشيء، وأبوعبدالله الشامي ضعفه الأزدي.(1/97)
وأقوى دليل لدينا على أنه ليس على المسافر جمعة هو أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يكن في أسفاره يصلي الجمعة هو وأصحابه قط، وفي حجة الوداع كانت حجته بيوم الجمعة، وثبت في صحيح مسلم رقم (1218) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خطب الناس يوم عرفة ثم بعد الخطبة أذن بلال ثم أقام قال جابر: فصلى الظهر ولم يقل: صلى الجمعة قال: ثم أقام فصلى العصر، وهذه الصفة تخالف صلاة الجمعة فهي تكون الخطبة فيها بعد الأذان، وفي خطبة عرفة كانت الخطبة قبل الأذان كما في ((صحيح مسلم)).
أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خطب يوم عرفة خطبة واحدة كما في حديث جابر، ومن المعلوم أن للجمعة خطبتين وهذا ثابت بالتواتر القطعي.
أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أسر بالقراءة يوم عرفة، ولم ينقل أنه جهر فلو جهر لنقل جهره، وذكرت السور التي قرأها في ذلك اليوم وعمل بها إلى يومنا هذا، ومن المقطوع به أن صلاة الجمعة يجهر فيها بالقراءة. فهذه أربعة أمور في حديث جابر تخالف صلاة الجمعة تماما.
أن جابرا سمى تلك الصلاة ظهرا.
أن الأذان فيها بعد الخطبة.
أنه خطب فيها خطبة واحدة.
أنه لم يجهر فيها بالقراءة.
فعلم من حديث جابر في ((صحيح مسلم)) مع بعض الأحاديث السابقة التي لم يشتد ضعفها ومرسل الحسن وآثار صحيحة سبق ذكرها أنه ليس على المسافر جمعة، وليس عندنا بحمد الله أدنى شك في هذا القول وقد نقل ابن عبدالبر الإجماع على ذلك فقال في ((الاستذكار)) (ج5 ص76): وأما قوله ليس على المسافر جمعة فإجماع على ذلك لا خلاف فيه.
وقال صديق حسن خان في ((الروضة)): قال صاحب ((المسوى شرح الموطأ)): اتفقوا على أنه لا جمعة على مريض ولا مسافر.اهـ(1/98)
قلت: لا إجماع على المسافر، فقد جنح ابن حزم إلى وجوب الجمعة على المسافر فقال: ولجأ بعضهم إلى دعوى الإجماع على ذلك وهذا مكان هان فيه الكذب على مدعيه، ثم ذكر أقوال المخالفين في ((المحلى)) مسألة (523) لكن الراجح خلاف ما قرره أبومحمد رحمه الله لما قد علمت قبل، وانظر ((المغني)) لابن قدامة (ج3 ص216)، و((المجموع)) للنووي، و((الاستذكار)) لابن عبدالبر (ج5 ص76).
إذا صلى المسافر الجمعة فهل تصح منه
ذهب بعض العلماء أن الجمعة لا تصح من المسافر إذا لم يكن نازلا، واستدل بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد?. متفق عليه.
وبحديث مالك بن الحويرث ?صلوا كما رأيتموني أصلي?. أخرجه البخاري.
قالوا: فالواجب علينا أن نصلي كما صلى، ومن زاد على أمر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وفعله كان معتديا وفعله ذلك رد عليه، وقد كان مقتضى صلاة الجمعة في السفر موجودا في عهده عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل بحرف واحد أنه صلاها في أسفاره والذي يظهر في المسألة أن من صلى الجمعة في السفر وهو غير نازل عمدا كان آثما لمخالفته لفعل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولظاهر الحديث ?من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد?.
وفي حديث جابر رضي الله عنه ?خير الهدى هدى رسول الله ?-صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. أخرجه مسلم رقم (867).
أما القول ببطلان صلاته وخطبته فجمهور العلماء على خلافه، كما لو صلى المسافر صلاة القصر أربعا كان آثما وصلاته صحيحة، وعلى هذا تتنزل الأدلة المذكورة في المسألة لا على البطلان، ولهذا نظائر عند جمهور العلماء.
حكم السفر يوم الجمعة(1/99)
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص224): حدثنا أبومعاوية، حدثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عبدالله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الجمعة ثم ألحقهم، قال: فلما رآه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ما منعك أن تغدو مع أصحابك))؟ قال: فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت غدوتهم)). اهـ
وبهذا اللفظ أخرجه الترمذي (ج2) رقم (527) وضعفه بقوله: غريب، قال شعبة: لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث وعدها وليس هذا الحديث فيما عد فكان هذا لم يسمعه الحكم من مقسم.
واختلف أهل العلم في السفر يوم الجمعة فلم ير بعضهم بأسا في السفر يوم الجمعة ما لم تحضر الصلاة، وقال بعضهم: إذا أصبح فلا يخرج حتى يصلي الجمعة.اهـ
والحديث أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج1 ص224)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج4 ص227)، وضعفه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (ج3 ص187)، والزيلعي في ((نصب الراية)) (ج2 ص200) لأن مداره على حجاج ابن أرطأة ضعيف ومدلس وقد عنعن، ولأن الحكم لم يسمعه من مقسم كما تقدم، وقد ذكرنا فيما مضى مرسل الزهري وآثارا ثابتة بنحوه فيصير الحكم للحديث مع تلك الآثار في جواز السفر يوم الجمعة في أي وقت شاء المسافر ما لم يحضر وقت الجمعة، فيجب عليه السعي إليها كما أمر الله عز وجل في كتابه بقوله: {ياأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}.(1/100)
وبهذا قال جماهير السلف، وأقوال مخالفيهم فيها ضعف أشرنا إليه فيما مضى لا سيما ولا دليل معهم يمنع من السفر يوم الجمعة مطلقا فلا شك عندي في صحة قول الجمهور، وضعف ما سواه وانظر ((زاد المعاد)) (ج1 ص382)، و((المجموع)) للنووي (ج4 ص499)، و((نيل الأوطار)) للشوكاني (ج2 ص491)، و((الأوسط)) لابن المنذر (ج4 ص23).
وقال: حدثنا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، أنه كان يسافر ليلة الجمعة فإذا طلع الفجر لم يسافر.اهـ
وفيه عنعنة ابن إسحاق يضعف بها، وقال: حدثنا أبومعاوية، عن الأعمش، عن خيثمة قال: كانوا يستحبون إذا حضرت الجمعة أن لا يخرجوا حتى يجمعوا، وخيثمة هو ابن عبدالرحمن الجعفي ثقة.
قال أبوبكر بن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص23) بعد ذكر أقوال الفريقين: لا أعلم خبرا ثابتا يمنع من السفر أول نهار يوم الجمعة إلا أن تزول الشمس وينادي المنادي، فإذا نادى المنادي وجب السعي إلى الجمعة على كل من سمع النداء ولم يسعه الخروج عن فرض لزمه فلو أبقى الخروج في يوم الجمعة إلى أن يمضي الوقت كان حسنا.
وقد روينا عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خبرا يدل على إباحة الخروج يوم الجمعة ما لم يحضر الوقت، ثم ذكره من طريق حجاج بن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجه عبدالله بن رواحة وجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، فتخلف عبدالله بن رواحة.
قال عبدالرزاق: عن الثوري، عن ابن أبي ذئب، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مسافرا يوم الجمعة ضحى قبل الصلاة.اهـ
وهذا مرسل صحيح وله طريق ثانية.
وأخرج ابن أبي شيبة (ج2 ص105) قال: حدثنا أبوأسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبدالرحمن بن أبي ذئب، قال: خرجت مع ابن الزبير مخرجا يوم الجمعة فصلى الجمعة أربعا.(1/101)
وقال: حدثنا الفضل، عن ابن أبي ذئب، قال: رأيت ابن شهاب يريد أن يسافر يوم الجمعة ضحوة فقلت له: لا تسافر يوم الجمعة، فقال: إن رسول الله سافر يوم الجمعة.
وجاءت آثار تخالف ما تقدم.
قال ابن أبي شيبة (ج2 ص106): أخبرنا أبومعاوية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة قالت: إذا أدركت ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تصلي الجمعة، وأبومعاوية الضرير قيل عنه مدلس ولا أراه سمع من ابن جريج.
وأخرج من طريق الأسود بن قيس، عن أبيه، قال: أبصر عمر بن الخطاب رجلا عليه أهبة السفر فقال الرجل: إن اليوم يوم جمعة ولولا ذلك لخرجت، فقال عمر: إن الجمعة لا تحبس مسافرا فاخرج ما لم يحن الرواح.
وأخرجه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج2 ص105) من طريق شريك عن الأسود عن أبيه به، وخرجه ابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص21) عن الثوري، عن الأسود، عن أبيه به، فثبت الأثر عن عمر رضي الله عنه، فالأسود ثقة وأبوه قيس العبدي البجلي ثقة كذلك.
وأخرج عن معتمر بن سليمان، عن محمد بن عمر، عن صالح بن كيسان قال: خرج أبوعبيدة في بعض أسفاره بكرة يوم الجمعة ولم ينتظر الصلاة. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق ابن إدريس، عن محمد بن عمرو به، وجاء عن ابن عمر نحوه.
وقال ابن أبي شيبة (ج2 ص105): حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: لا بأس بالسفر يوم الجمعة ما لم يحضر وقت الصلاة.
فاختلفت فيه الآثار، فروى عبدالرزاق الصنعاني في ((المصنف)) (ج3 ص250) عدة آثار قال: حدثنا معمر، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين، أن عمر ابن الخطاب رأى رجلا عليه ثياب سفر بعد ما صلى الجمعة، فقال: ما شأنك؟ قال: أردت سفرا فكرهت أن أخرج حتى أصلي، فقال عمر: إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها.
وكان ابن سيرين يقول ذلك ثبت بالسند إليه.
وقال ابن أبي شيبة (ج2 ص105) حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: لا بأس بالسفر يوم الجمعة، ما لم يحضر وقت الصلاة.(1/102)
المسافر إذا كان نازلا في قرية للضيافة أو الراحة أو نحو ذلك وسمع النداء للجمعة هل يجب عليه حضورها
ظاهر القرآن يدل على أن عليه حضور الجمعة قال الله تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله(1)}.
ولكن تقدم لنا عن جمع من السلف أنهم كانوا يصلون الرباعية ركعتين وهم نازلون، والنازل يسمى مسافرا ولا يعتبر مقيما مطلقا في عرف جميع الناس سواء مكث يوما أو أكثر فهو يعتبر مسافرا، لكن يشكل على هذا أن الوافدين على رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كانوا يحضرون معه الجمعة، ومن ذلك ما ثبت في ((صحيح مسلم)) كتاب الجمعة رقم (876) وبوب عليه النووي رحمه الله باب حديث التعليم في الخطبة قال الإمام مسلم رحمه الله: وحدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال قال: قال أبورفاعة: انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو يخطب قال: فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل علي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديدا قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها.
قلت: فهذا فيه دليل على أن الوفود كانوا إذا وافقوا يوم الجمعة يحضرون خطبة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للجمعة، ولم ينقل أنه أنكر على أحد منهم قط بل أقر هذا الغريب وعلمه مما علمه الله.
__________
(1) ? ... سورة الجمعة، الآية:9.(1/103)
فعلم أن النازل في بلد ينبغي أن يحضر الجمعة استدلالا بهذا الحديث وأشباهه، أما الآية فإن ما بعدها يبين أن المراد بها المقيمين لا المسافرين، وذلك في قوله تعالى: {وذروا البيع}، ولقائل أن يقول: ليس كل الناس يحترفون البيع وهذا صحيح أن المقيمين قد تتفاوت حرفهم، فمنهم البائع، ومنهم الصانع، ومنهم الزارع، وغير ذلك من المهن، لكن الآية خرجت مخرج التغليب حيث أن الأغلب على أصحاب المهن في القرى والمدن البيع، فالزارع والصانع كلهم يحتاجون إلى البيع، وقد قال بعض العلماء: إن من لا تجب عليه الجمعة من أهل الأعذار له أن يبيع حال الخطبة ذكر ذلك القرطبي في ((تفسيره)) لسورة الجمعة فتأمل.
فيكون حضور الجمعة للمسافر النازل ببلد تقام به الجمعة غير واجب وإنما يستحب له ذلك لإقرار النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للوفود على حضورها ولم نعلم تخلف أحد منهم عنها مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولأنها عيد المسلمين ولأن بها ذكر الله عز وجل ?وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده?. أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة مرفوعا.
وأصرح منه في الدلالة حديث أبي هريرة عند البخاري رقم (6408)، ومسلم رقم (2689) وهو طويل وفيه ?إن لله ملائكة يطوفون بالطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا? وفيه: ?هم القوم لا يشقى بهم جليسهم?.
المسافر يصلي إلى سترة
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر فمن ثم اتخذها الأمراء.
أخرجه البخاري في (494)، ومسلم (501).(1/104)
وعنه رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يعرض راحلته فيصلي إليها. وفي رواية: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى إلى بعيره، قلت: أفرأيت إذا هبت الركاب؟ قال: كان يأخذ هذا الرحل فيعد له فيصلي إلى آخرته، أو قال: مؤخرته وكان ابن عمر رضي الله عنهما يفعله.
مسألة: إذا كان للبلد الذي يريد أن يسافر إليه طريقان معلومتان عنده كلتاهما سواء في السهولة والأمن وإحدى الطريقين طويلة يقصر في مثلها والأخرى قصيرة لا يقصر في مثلها ثم سلك الطريق الطويلة تعمدا من أجل أن يقصر الصلاة ويترخص ببقية الرخص. جمهور العلماء أنه يعامل بنقيض قصده فيمنع من رخص السفر مطلقا من القصر والجمع وغيرها، وذهب أحمد والمزني وداود الظاهري أنه يجوز له الترخص بجميع الرخص.
قلت: وقول أحمد وداود الظاهري هو الراجح.
إذا أم مسافر مقيمين ثم حصل له عذر يخرجه من الصلاة كالرعاف ونحوه وخلفه غيره من المقيمين
فليصل بهم المقيم أربعا، وهكذا لو صلى مقيم بمسافرين ثم خلفه مسافر لعذر يكمل بهم الركعتين، إلا إذا كان المقيم قد تجاوز الركعتين من الرباعية فليكمل بهم المسافر أربعا إذا كانت رباعية.(1/105)
ولم نجد لهذه المسألة دليلا ينص عليها فنعود إلى أصلها وهو أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما علم أن بين أهل قباء وهم بنو عمرو بن عوف من الأوس والخزرج حصل بينهم شر فاقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فصلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الظهر ثم قال لبلال: ((إذا حضرت العصر ولم آتك فمر أبا بكر فليصل للناس)) ولما حضرت صلاة العصر وأذن بلال ثم قال لأبي بكر: إن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قد احتبس عن الصلاة فهل لك أن تصلي للناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال وتقدم أبوبكر وكبر فلما دخل في الصلاة وإذا برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يشق الصفوف حتى وقف في الصف الأول فجعل الناس يصفقون، فلما أكثروا التفت أبوبكر فرأى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فرفع يديه وحمد الله واستأخر، وتقدم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأكمل بالناس الصلاة.
والحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع من ((صحيحه)) منها رقم (2693 و7190) ومسلم رقم (421) وزيادة: ((إذا حضرت الصلاة فمر أبا بكر يصلي للناس)).
أخرجها ابن حبان في ((صحيحه)) (6/رقم2261) وأحمد (ج5 ص332) وغيرهما من طرق عن حماد بن زيد، عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهل ابن سعد فذكر الحديث بهذه الزيادة وسندها صحيح كما ترى كل رجاله ثقات أئمة.(1/106)
وشاهدنا من الحديث أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يكن يعلم في صلاة العصر أن أبابكر في أي سورة؟ الفاتحة أم غيرها؟ ولا يعلم أنه في أي آية من السورة فأتم بهم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على قراءته عليه الصلاة والسلام وأوقافه، ففي هذا الحديث دلالة على أن الذي ينوب عن غيره في الصلاة في مثل هذه الحالة لا يلزمه أن يتابع الإمام في القراءة، ويلزمه أن يبدأ من حيث انتهى إمامه، لأن هذا لا سبيل إليه غالبا في السرية، ولم يقل به أحد في الجهرية، وفي الحديث إشارة إلى ما نحن في صدده من أن النائب للإمام لا يلزمه أن يتابع الإمام في القصر وهو مقيم، أو يتابعه في الإتمام وهو مسافر، والله أعلم.
تنبيه: قد ادعى ابن عبدالبر الإجماع أن دخول الإمام الراتب لإتمام الصلاة بالناس ورجوع الإمام المستخلف خاص بالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ورد عليه الحافظ في ((الفتح)) عند حديث رقم (684) بأن الإجماع منقوض ببعض الشافعية القائلين بجواز إتمام الإمام الراتب بالناس ورجوع المستخلف ولو بعد دخوله في الصلاة، وأنه ليس ذلك بخصوصية للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .
قلت: وادعاء الخصوصية لا دليل عليه، فالراجح جواز فعل ذلك في حق كل إمام راتب له أحقية بالإمامة على غيره من حيث القراءة ومعرفة السنة ونحو ذلك، ولو كان ذلك من خصائصه لما أشار إلى أبي بكر أن يكمل الصلاة فأبى تواضعا منه رضي الله عنه.
فإذا علم هذا فلو رجع المقيم إلى الصلاة فأكلمها فليتم أربعا، أما لو رجع المسافر فأتم الصلاة بعد أن تجاوز المقيم الذي نابه فيها الركعة الثانية إلى الثالثة فإنه يتم أربعا، والأولى له في هذه الحالة أن يبقى مأموما حتى لا يصلي أربعا وهو مسافر فيخالف المأمور به فيأثم. والله أعلم.
المسافر بأهله وماله ومتاعه(1/107)
هذه مسألة فيها خلاف، قال ابن قدامة: والملاح الذي يسير في سفينته وليس له بيت سوى سفينته فيها أهله وتنوره وحاجته لا يباح له الترخيص، قال الأثرم: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يسأل عن الملاح أيقصر ويفطر في السفينة؟ قال: أما إذا كانت السفينة بيته فإنه يتم ويصوم، قيل له: كيف تكون بيته؟ قال: لا يكون له بيت غيرها فيها أهله وهو مقيم بها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما من كان معه في السفينة امرأته وجميع مصالحه فهذا لا يقصر ولا يفطر. اهـ من ((مجموع الفتاوى)) (ج25 ص213).
وبهذا قال أبوالنجا في كتابه ((زاد المستقنع)). وقال الشافعي في ((الأم)) (ج1 ص188): إذا كان الرجل مالكا للسفينة وكان فيها منزله وكان معه أهله أو لا أهل له معه فيها، فأحب إلي أن يتم.اهـ
ونقل عنه ابن قدامة أنه قال: يقصر ويفطر لعموم النصوص.
قلت: هذا هو الصواب لحديث أبي هريرة: ((السفر قطعة من العذاب ..))الخ متفق عليه، وبهذا يقول شيخنا العلامة الوادعي حفظه الله.(1/108)
وقد كان ظهر لي في هذه المسألة أنه إن كان هذا الملاح أو غيره ساكنا مستقرا في السفينة عنده أهله وماله ومتاعه ومصالحه كما هو معلوم أن في بعض السفن القصور والدور والأسواق وليس له بيت غيره لسكناه فهذا يعتبر ساكنا قارا في بيته عليه أن يتم وإن كان يسكن في السفينة فترة مزاولة عمله فإذا انقضت خرج منها إلى سكن آخر ولا يعتبرها بيتا وسكنا له فهذا يقصر ما دام باقيا في سفره بالسفينة ولو بقي بها عدة سنين ما دام يشعر بمشقة السفر وعذابه وأنه غير مستوطن لذلك المكان، ولأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يعهد منه قط أنه قصر الصلاة في بيته وإنما كان يقصر إذا خرج منه لسفر وقصر على مقدار ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ من بيته كما في حديث أنس عند مسلم وقصر بذي الحليفة وبينها وبين المدينة نحو ستة أميال ما يعادل بعدها من المسجد النبوي نحو ثلاثة عشر كيلا وعليه فلا يجوز للإنسان أن يقصر في بيته.
هل يصلي المسافر العيدين في السفر
قال القرطبي في ((تفسيره)) تفسير سورة الكوثر عند قوله تعالى: {فصل لربك وانحر}، قال: وأما من قال إنها صلاة العيدين فذلك بغير مكة إذ ليس بمكة صلاة عيد بإجماع فيما حكاه ابن عمر.اهـ
وأخرج ابن أبي شيبة في ((المصنف)) كتاب العيدين (ج2 ص96) باب (33) في القوم يكون في السواد فتحضر الجمعة أو العيد.
قال: حدثنا سهل بن يوسف عن ابن عوف قال: كتبت إلى نافع أسأله عن القوم يكونون في الرستاق(1)ويحضرهم العيد؟ قال: يجتمعون فيصلي بهم رجل وعن الجمعة فكتب إلي: أما العيد فإنهم يصلي بهم رجل وأما الجمعة فلا علم لي. اهـ وسنده إلى نافع صحيح.
وقال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة أنه قال في القوم يكونون في السواد في السفر في يوم عيد الفطر أو أضحى قال: يجتمعون فيصلون ويؤمهم أحدهم.اهـ
__________
(1) ? ... الرستاق: هو السواد.(1/109)
وسنده صحيح وقتادة وإن عنعن فقد قال شعبة: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة.
قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن البصري أنه كان لا يرى أن يصلي أهل السواد العيد.
وقال يحيى بن أبي كثير: يقال: لا جمعة ولا أضحى ولا فطر إلا في حضر مع الإمام.
وقال (ج2 ص97): حدثنا أبوأسامة عن أبي العميس عن علي بن الأقمر قال: خرج مسروق وعروة بن المغيرة فحضرت الجمعة فلم يجمعوا وحضر الفطر فلم يحضروه.اهـ من ((المصنف)) لابن أبي شيبة.
قال الشيرازي رحمه الله: تجوز صلاة العيد للمنفرد والمسافر والعبد والمرأة، وقال في ((القديم والإملاء)): لا يصلي العيد حيث لا يصلي الجمعة.
قال النووي: ولأصحابنا قولان أحدهما لا يصلون لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان بمنى مسافرا يوم النحر فلم يصل، والثاني: يصلون وهو الصحيح لأنها صلاة نفل فجاز لهم فعلها كصلاة الكسوف، ومن أصحابنا من قال يجوز لهم أن يصلوا قولا واحدا.اهـ انظر ((المجموع)) (ج5 ص26).
وقال ابن مفلح في ((الفروع)) (ج2 ص137): ويشترط لصحتها الاستيطان وعدد الجمعة، فلا تقام إلا حيث تقام الجمعة اختاره الأكثر واختار شيخنا لا لأنه عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه لم يصلوها في سفر واعتبر الاستيطان رواية واحدة. اهـ باختصار.
وقال ابن قدامة في ((المغني)) (ج3 ص254): الأعراب لا تلزمهم الجمعة لعدم الاستيطان فالعيد أولى. اهـ
قال المرداوي في ((الإنصاف)) (ج2 ص400): أما الاستيطان والعدد فالصحيح من المذهب أنهما يشترطان، وقال زين الدين المنجي في ((شرح المقنع)) (ج1 ص667): أما كون جميع ذلك من شرط صلاة العيد على رواية فلأنها صلاة بها خطبة راتبة أشبهت الجمعة ولأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وافق العيد في حجة ولم يصل العيد. اهـ(1/110)
قلت: لا ريب أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم ينقل عنه أنه صلى العيد في سفره بمنى عام حجة الوداع ولا غيرها وخير الهدي هديه، فالمسافر لا تجب عليه صلاة العيد ولا تستحب، أما إن صلاها فلا دليل على النهي ولا البطلان، وقد أفتى بجواز صلاة العيد في السفر جمع من أهل العلم والذي يترجح لدينا عدم صلاتها وأن من صلاها لا ننكر عليه لعدم النهي عن ذلك.
هل يكبر المسافر في أيام العيد كالمقيم والمستوطن
نعم لأنه داخل تحت عموم قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات(1)}، وعموم قوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام(2)}.
وهذا قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وغيرهم ذكره ابن المنذر في ((الأوسط)) (ج4 ص307).
صلاة الكسوف في السفر
لم يصل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الكسوف في عمره إلا مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم.
قال الحافظ في ((الفتح)) (ج2 ص529): وقد ذكر جمهور أهل السيرة أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة، وثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف.
وأخرج البخاري رقم (1043، 1060)، ومسلم رقم (915) ما يثبت ذلك من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس لموت إبراهيم فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا حتى ينجلي?.اهـ
__________
(1) ? ... سورة، الآية:203.
(2) ? ... سورة الحج، الآية:34.(1/111)
وقد وردت عدة كيفيات لصلاة الكسوف تدل على تعدد الكسوف وأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاها أكثر من مرة، ولم تصح منها إلا كيفية واحدة هي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلاها مرة واحدة ركعتين في كل ركعة ركوعين وما عدا هذه الكيفية فبين ضعيف وشاذ جزم بذلك جمع من الحفاظ منهم البخاري وأحمد والشافعي والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (ج3 ص87)، و((الكبرى)) (ج3 ص331)، وابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج7 ص100) و((التمهيد)) (ج3 ص331)، وشيخ الإسلام ابن تيمية انظر ((مجموع الفتاوى)) (ج24 ص259-261)، وابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج1 ص456)، والشوكاني في ((نيل الأوطار)) (ج3 ص372).
وانظر ((إرواء الغليل)) (ج3 ص127-132) لمعرفة علل تلك الأحاديث التي بها الكيفيات الأخرى، أما حكم صلاة الكسوف فالراجح عندي أنها واجبة لثبوت الأمر بها عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم في ((الصحيحين)) وغيرهما منها:
حديث المغيرة بن شعبة المتقدم.
حديث عائشة في البخاري رقم (1046)، ومسلم رقم (901) وفيه ?إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا للصلاة?.
وحديث جابر بن عبدالله عند مسلم في الصحيح رقم (904) وفيه ?فإذا رأيتم فصلوا حتى تنجلي?.
وحديث أبي مسعود البدري وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما أخرجه البخاري (ج2 ص611) باب الصلاة في كسوف الشمس، ومسلم رقم (911، 914) في الكسوف وفيها: ((فإذا رأيتموهما فقوموا فصلوا)).
وحديث أبي بكرة عند البخاري في أول كتاب الكسوف رقم (1040) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما كسفت الشمس قام يجر رداءه حتى دخل المسجد فصلى بهم ركعتين حتى تجلت الشمس فقال: ?إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فصلوا?.
وحديث أبي هريرة عند النسائي (ج3 ص139) بسند حسن وفيه: ?فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله عز وجل وإلى الصلاة?.(1/112)
فهذه سبعة أحاديث صحيحة صريحة في الأمر بالصلاة عند رؤية الكسوف وليس هناك ما يصرف هذه الأوامر إلا ما يذكر من حديث طلحة بن عبيدالله في ((الصحيحين)) حين سأل أعرابي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الإسلام؟ فقال: ? ... خمس صلوات في اليوم والليلة?، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: ?لا، إلا أن تطوع?.
وحديث معاذ في ((الصحيحين)) وفيه لما بعث معاذا إلى اليمن قال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?فإن هم أطاعوك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة?، استدل الجمهور بهذين الحديثين على أن الأوامر بالصلاة فيها للاستحباب وليس للوجوب، وأجاب من قال بوجوبها بأن حديث طلحة وحديث معاذ من أوائل أحاديث التشريع وقد حصلت بعد ذلك واجبات أخرى وليس في هذين الحديثين حصر الواجبات كلها كتحية المسجد والكسوف والعيدين وأجاب بعضهم بجواب آخر وهو أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذكر الصلوات الخمس لأنها تتكرر وأما ما عداها من الصلوات الواجبة فإنها تجب بأسبابها وليست واجبة مطلقا ومن التي تجب بأسبابها الكسوف.اهـ
وقد قال بوجوبها من العلماء جمع كثير منهم ابن القيم في كتابه الصلاة ص(15)، وقبله أبوعوانة في ((صحيحه)) (ج2 ص398)، وقال مالك: (إجراؤها مجرى الجمعة)، وأوجبها أبوحنيفة كما في ((فتح الباري شرح صحيح البخاري)).
ونقل الإمام النووي في ((المجموع)) (ج5 ص44) طبعة دار الفكر: أنها سنة مؤكدة بالإجماع. وقلت: ولا شك أنه إجماع الشافعية فقط كما هي عادة النووي في إطلاق لفظة الإجماع على إجماعهم في كثير من المسائل وإلا فقد رأيت الخلاف وأن الراجح الذي تعضده الأدلة هو وجوبها.
قال في ((المجموع)) (ج5 ص45): وتسن للمرأة والعبد والمسافر. اهـ(1/113)
قلت: بل تجب عليهم للأدلة المتقدمة ومن قال غير ذلك فقد افتات عليها وقد انتقد دعوى الإجماع الأمير الصنعاني في ((العدة)) حاشية ((إحكام الأحكام)) (ج3 ص181) فقال: ونقل النووي في ((شرح مسلم)) الإجماع على أنها سنة وفيه نظر فقد صرح أبوعوانة في ((صحيحه)) أنها واجبة وفي صلاة التطوع من ((الحاوي الكبير)) للماوردي وجه أنها فرض كفاية وبه جزم الخفاف.اهـ
صلاة الخوف في السفر
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: خرج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى ذات الرقاع من نخل فلقي جمعا من غطفان فلم يكن قتال وأخاف الناس بعضهم بعضا، فصلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ركعتي الخوف.
أخرجه البخاري (4127)، ومسلم (883).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قبل نجد، فوازينا العدو فصاففنا لهم، فقام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصلي لنا فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين. أخرجه البخاري (942)، ومسلم (839).
عن صالح بن خوات عمن شهد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوم ذات الرقاع صلى صلاة الخوف، أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
أخرجه البخاري (ج7 ص241)، ومسلم (841).
حكم صلاة الاستسقاء في السفر
أما صلاة الاستسقاء فهي نافلة حكمها حكم النوافل في السفر. والنوافل تنقسم إلى قسمين: نوافل مطلقة، ونوافل مقيدة.(1/114)
فالنوافل المطلقة: ثبت أنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصليها في السفر.
قال البخاري رحمه الله رقم (1093.1104): حدثنا علي بن عبدالله، قال: حدثنا عبدالأعلى، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عبدالله بن عامر ابن ربيعة، عن أبيه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصلي على راحلته حيث توجهت به.
وأخرجه مسلم رقم (701) وفيهما أنه قال: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
وعن أنس بن سيرين قال: استقبلنا أنس بن مالك حين قدم من الشأم فلقيناه بعين التمر فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب، يعني عن يسار القبلة فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة فقال: لولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فعله لم أفعله.
أخرجه البخاري رقم (1100)، ومسلم رقم (702).
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة.
أخرجه البخاري (1094)، ومسلم رقم (540).
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته.
أخرجه البخاري (1000)، ومسلم (700).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه قال: وفيه نزلت: {فأينما تولوا فثم وجه الله}.
أخرجه مسلم (ج5 ص209).
عن أم هانئ رضي الله عنها قالت: إن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود.
أخرجه البخاري رقم (1176)، ومسلم رقم (336).(1/115)
فهذه الأحاديث فيها أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصلي النوافل المطلقة في السفر كقيام الليل والضحى وأنه لم يكن يصل الفريضة على راحلته وأنه كان يصلي من النوافل المقيدة الوتر على الراحلة.
وثبت في ((صحيح مسلم)) (ج1 ص471، 472) طبعة عبدالباقي، من حديث أبي هريرة وأبي قتادة: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في سفر فنام هو وأصحابه ولم يوقظهم إلا حر الشمس فدعا بوضوء وتوضأ ثم أذن بلال ثم صلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ركعتين ثم أقيمت الصلاة فصلى الغداة.
وأخرج أحمد في ((مسنده)) (ج4 ص81): من حديث جبير بن مطعم وفيه: فقاموا فتوضئوا وأذن بلال فصلوا الركعتين ثم صلوا الفجر.
وسنده صحيح.
وجاء من حديث بلال عند ابن خزيمة (ج2 ص99)، والدارقطني (ج1 ص381) لكنه ضعيف من طريق أبي جعفر الرازي وفيه لين عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن بلال. وابن المسيب لم يدرك بلالا.
فهذه الأحاديث تدل على أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه كانوا يصلون ركعتي الصبح الراتبة في السفر، ولم يثبت أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى من النوافل المقيدة غير الوتر وركعتي الصبح الراتبة، أما النوافل المطلقة فقد كان يصليها في السفر وصلاة الاستسقاء منها لا مانع من صلاتها في السفر ولا من الخطبة فيها إذا احتيج إلى ذلك.
يستحب للمسافر التوجه للقبلة براحلته عند تكبيرة الإحرام
ويستحب للمسافر عند تكبيرة الإحرام لصلاة النافلة أن يوجه راحلته إلى القبلة ثم بعد ذلك يصلي حيث توجهت به.
قال أبوداود رحمه الله رقم (1225): حدثنا مسدد، حدثنا ربعي بن عبدالله بن الجارود، حدثني عمرو بن أبي الحجاج، حدثني الجارود بن أبي سبرة، حدثني أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه.اهـ(1/116)
وسنده حسن، وأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج3 ص203)، وقال باستحباب ذلك الإمام الشافعي وأحمد وأبوثور انظر ((فتح الباري)) (ج2 ص575)، و((عون المعبود)) (ج4 ص66 طبعة دار الكتب) وذكر الحديث ابن القيم في ((زاد المعاد)) ثم قال: وفيه نظر وسائر من وصف صلاته -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على الراحلة اطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها كعامر بن ربيعة وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا والله أعلم. اهـ
قلت: بعد ثبوت الحديث كما رأيت فينبغي الجمع بين الأدلة وعدم إهدار إحداهما كما هو مذهب الجمهور والجمع ممكن أن تلك الأحاديث فيها الجواز وهذا الحديث فيه مجرد أفضلية لمن استطاع ذلك وإلا فلا حرج أن يصلي إلى أي جهة.
واختلف العلماء هل تصلى النافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير؟ وأقول: لا داعي لذكر أقوالهم في المسألة فكل ما هو سفر وتجوز فيه صلاة النافلة على الراحلة نقل الإجماع على جوازها في السفر الإمام الترمذي في ((جامعه)) (ج2 ص183).
أما في الحضر فلا دليل على صلاة النافلة على الراحلة ولا ينبغي ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها في ((الصحيحين)): ?من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد?، ولمسلم: ?من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد?.
كيف يفعل المسافر إذا صلى على راحلته
قال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى (ج2 ص281) رقم (351) قال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع ويحيى بن آدم، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: بعثني النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع.
وأخرجه أبوداود رقم (1227)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج2 ص5)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج4 ص189) كلهم من طريق سفيان عن أبي الزبير به وسنده حسن لأن أبا الزبير صرح بالتحديث عند البيهقي.(1/117)
المسافر يندب له أن يصلي بعد الوتر ركعتين أحيانا
لحديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن هذا السفر جهد وثقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين فإن قام من الليل وإلا كانتا له?.
أخرجه الدارمي (ج1 ص374)، وابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج2 ص159) من طريقين، وابن حبان (ج6 ص315)، والطبراني في ((الأوسط)) (ج7 ص225) رقم (6435)، من طرق عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن شريح بن عبيد عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعا ورجال الإسناد ثقات خلا معاوية بن صالح الحضرمي فصدوق.
وأخرجه الدارقطني في ((السنن)) (ج2 ص36)، والطحاوي في ((معاني الآثار)) (ج1 ص341)، والطبراني في ((الكبير)) (ج2 ص92) رقم (1410)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) (ج1 ص333) من طريق عبدالله بن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح به، وشريح أثبت روايته عن عبدالرحمن بن جبير، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (ج23 ص59) وكلاهما حضرمي وقد تعاصرا فالحديث حسن.
وقال بالاستحباب إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في ((صحيحه)) (ج2 ص159). وآخرون.
المسافر لا يجوز له أن يصلي الفريضة على المراكب البرية ولا لغير القبلة إلا لعذر
لحديث جابر المتقدم، وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة.
وحديث ابن عمر وفيه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يسبح(1)على الراحلة قبل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. وانظر بقية الأحاديث في النافلة في السفر.
قال الحافظ ابن حجر (ج2 ص620): قال ابن بطال: أجمع العلماء على اشتراط ذلك وأنه لا يجوز لأحد أن يصلي الفريضة على الدابة من غير عذر، حاشا ما ذكر في صلاة شدة الخوف.
__________
(1) ? ... أي يصلي النافلة.(1/118)
وقال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج6 ص125): وانعقد الإجماع على أنه لا يجوز أن يصلي أحد فريضة على الدابة من غير شدة الخوف.اهـ ولا مزيد عليه.
للمسافر أن يصلي الفريضة في السفينة والطائرة:
أخرج الحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص275) من طريق الفضل بن دكين عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: سئل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن الصلاة في السفينة كيف أصلي فيها؟ قال: ?صل قائما إلا أن تخاف الغرق?.اهـ
وأخرجه الدارقطني في ((السنن)) (ج1 ص151)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) (ج1 ص329) من طريق رجل مبهم عن جعفر بن برقان به، وقال الحاكم بعد أن أخرجه: وهو شاذ بمرة.
وقد ذكر عبدالرزاق في ((المصنف)) عدة آثار في هذا المعنى منها:
قال رحمه الله عن ابن جريج عن عطاء قال: يصلون في السفينة قياما إلا أن يخافوا أن يغرقوا، وجاء عن إبراهيم أنه قال: تصلي في السفينة قائما فإن لم تستطع فقاعدا تتبع القبلة حيثما كنت.
أخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) وكل رجاله ثقات إلى إبراهيم.
وقال رحمه الله (ج2 ص582): عن الثوري عن حميد الطويل عن عبدالله ابن أبي عتبة قال: كنت مع جابر بن عبدالله وأبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي هريرة في سفينة فأمنا الذي أمنا قائما ولو شئنا أن نخرج لخرجنا.
وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق مروان بن معاوية به، وعزاه الشوكاني في ((النيل)) (ج3 ص226) إلى ((سنن سعيد بن منصور)) بهذا اللفظ فهذا السند ثابت إلى جماعة من الصحابة كما ترى.
وأقوى من هذا كله حديث عمران في ((البخاري)) رقم (1117): أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال له: ?صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب?.
فهذا عام في الصلاة في السفينة وغيرها، قال الشوكاني رحمه الله: وليس راكب السفينة كراكب الدابة لتمكنه من الاستقبال.(1/119)
قلت: ما هذا على إطلاقه أن كل راكب في الطائرة يمكن يعرف القبلة فإن عرفها بنفسه أو بالسؤال عنها أو آلة تدل عليها أو نجم أو بالنظر للشمس أو غير ذلك فهنا يجب عليه تحري القبلة قدر المستطاع.
وإن لم يقدر على شيء من وسائل معرفة القبلة وخشي فوات الوقت وجب عليه أن يصلي على أغلب ظنه والله يقول: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وليس في وسعه أكثر من ذلك.
وإذا لم يستطع السجود على أرض الطائرة لضيق المكان بالمقاعد صلى ما استطاع قائما وما لم يستطع قاعدا لحديث أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم?. متفق عليه.
وعليه فإنه ممكن أن يقرأ وهو قائم ثم يركع وإذا أراد أن يسجد جلس وأكمل السجود جالسا هذا كله حسب استطاعته وإن صلى كل الصلاة قاعدا فنرجو أن تصح صلاته لحديث عمران المتقدم: ?صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا?. متفق عليه.
الأذكار دبر المكتوبات مستحبة في السفر والحضر
لأدلة عامة كثيرة منها ما أخرجه مسلم برقم (591): عن ثوبان قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقال: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام?.
وفي البخاري رقم (6330)، ومسلم رقم (593) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: ?لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد?. أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة.(1/120)
وفي مسلم برقم (594) من حديث عبدالله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون?.
وأخرج البخاري رقم (6329)، ومسلم رقم (595) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم))؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ((تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين?.
وفي مسلم رقم (597) من حديث أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر?.
وفيه برقم (596) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه: عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة?.
وأخرج أبوداود رقم (1522) عن معاذ بن جبل أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك والله إني لأحبك فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك?. وسنده صحيح كل رجاله ثقات.(1/121)
ففي هذه الأدلة استحباب ذكر الله دبر الصلوات المكتوبات في الحضر والسفر، ونقل الإمام النووي رحمه الله الاتفاق على ذلك فقال في ((المجموع)) (ج3 ص428): اتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم رحمهم الله على أنه يستحب ذكر الله تعالى بعد السلام ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد والمرأة والمسافر وغيرهم. اهـ المراد وهو كما قالوا رحمهم الله.
الصوم في السفر
عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فقال لرجل: ((انزل فاجدح(1)لي)) قال: يا رسول الله الشمس. قال: ((انزل فاجدح لي)) قال: يا رسول الله الشمس. قال: ((انزل فاجدح لي)) فنزل فجدح له فشرب ثم رمى بيده ههنا ثم قال: ((إذا رأيتم الليل أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم?. أخرجه البخاري رقم (1941)، ومسلم (1101).
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر?.
أخرجه البخاري رقم (1943)، ومسلم (1121).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان، فكان ابن عباس يقول: قد صام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر.
أخرجه البخاري رقم (1948)، ومسلم (1113).
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: ((ما هذا))؟ فقالوا: صائم، فقال: ((ليس من البر الصوم في السفر?.
أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).
__________
(1) ? ... هو خلط الماء باللبن.(1/122)
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وابن رواحة.
أخرجه البخاري رقم (1945)، ومسلم (1122).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نسافر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم.
أخرجه البخاري (1947)، ومسلم (1118).
واختلف العلماء في صوم رمضان في السفر، فقال بعض الظاهرية ونقل عن الزهري والنخعي: أن صيام المسافر لا يجزئ عنه وإن صام في السفر فعليه قضاؤه في الحضر.
واحتجوا بقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}، قالوا: فالواجب عليه القضاء من أيام أخر غير التي صامها وهو مسافر.
واستدلوا بحديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: ((أولئك العصاة، أولئك العصاة?.
أخرجه مسلم (1114).
واستدلوا بحديث جابر في الباب المتقدم ?ليس من البر الصيام في السفر?.
وذهب الجمهور إلى جواز الصيام في السفر واستدلوا بالأحاديث التي ذكرنا في المسألة منها حديث حمزة الأسلمي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال له: ?إن شئت فصم وإن شئت فافطر?. وحديث أنس: كنا نسافر مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.(1/123)
وحديث أبي الدرداء أنه لم يكن فيهم غير رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وعبدالله بن رواحة ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على أحد منهم، وأجابوا عن الاستدلال بالآية بأن فيها تقدير محذوف وهو لفظة: فأفطر من الآية {فمن كان منكم مريضا أو على سفر}، فأفطر فعدة من أيام أخر وإن لم يفطر فلا قضاء عليه.
وأما حديث ?أولئك العصاة? فقيده أن الصيام قد شق عليه فأفطر ومن لم يفطر بعد مشقة الصيام عليه في السفر كان عاصيا، لأن هذا تشدد في محل جواز الأمرين وكذلك حديث ?ليس من البر الصيام في السفر?، هذا عند المشقة.
فعلم أن الراجح قول الجمهور وهو جواز الصيام والفطر في السفر.
انظر ((فتح الباري)) (ج4 ص183)، و((شرح النووي على مسلم)) (ج7 ص230)، و((نيل الأوطار)) (ج4 ص251)، و((الروضة الندية)) (ج1 ص547).
أيهما أفضل الصوم أم الفطر في السفر لمن لا مشقة عليه
اختلفوا أيضا في هذه المسألة، فقال أكثر العلماء منهم مالك والشافعي وأبوحنيفة: إن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم تلحقه مشقة من صومه في السفر.
واحتجوا بصوم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في السفر ومعه ابن رواحة وأيضا فالصوم تحصل به براءة الذمة في الحال وهو من المسارعة إلى الخيرات المأمور بها، والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ?بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم?.
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رقم (118).
وذهب أحمد وإسحاق والأوزاعي: أن الفطر أفضل لحديث ابن عمر: ?إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه? وقد تقدم تخريجه.
وذهب آخرون أن المسافر مخير مطلقا ويستوي في السفر الأمران الفطر والصوم.
وذهب عمر بن عبدالعزيز ورجحه أبوبكر بن المنذر: أن أفضلها أيسرهما لقول الله تعالى: {يريد الله بكم اليسر}، ورجح الحافظ في ((الفتح)) (ج4 ص183)، والنووي في ((شرح مسلم)) (ج7 ص229) قول الجمهور.(1/124)
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية في ((الفتاوى)) (ج25 ص214) قول أحمد: أن الفطر أفضل.
وقال ابن قدامة في ((المغني)) (ج3 ص150): والأفضل عند إمامنا رحمه الله الفطر وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وابن المسيب والشعبي والأوزاعي وإسحاق.اهـ
وأرى والله أعلم أن القول بتساوي الأمرين أرجح لما قد علمت من ثبوت أدلة الفريقين وحديث: ?إن الله يحب أن تؤتى رخصه?، قد ذكرنا أن أدلة الجمهور تعارضه وكون النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صام في السفر هو وعبدالله بن رواحة، وأيضا هو أفطر في النهار كما تقدم الحديث في أول باب الصوم في السفر فيبقى تساوي الأمرين والله أعلم.
لا اعتكاف في السفر ولو كان المسافر نازلا
قال عفان: أخبرنا ثابت، عن أبي رافع عن أبي: أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يعتكف في العشر الأواخر في رمضان، فسافر سنة فلم يعتكف فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يوما.
ورواه عبدالله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (ج5 ص141) قال: حدثنا هدبة بن خالد قال حدثنا حماد به، ورواه ابن ماجه رقم (1770)، والحاكم (ج1 ص439)، والبيهقي (ج4 ص314) وإسناده صحيح كما ترى.
حديث أبي بن كعب وأنس: كان إذا كان مقيما اعتكف وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين.
أما حديث أنس فأخرجه أحمد (ج3 ص104) قال: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس... فذكر الحديث، ومن طريق أحمد أخرجه ابن حبان رقم (3662، 3664)، وابن خزيمة (2226)، والبيهقي (ج4 ص314) كلهم من طريق ابن أبي عدي به، ورواية حميد الطويل عن أنس منها ما سمعها من أنس ومنها ما هو بواسطة ثابت عن أنس كما في ((جامع التحصيل)) فعلمت الواسطة وهو ثقة فلا ضير والحمد لله.
أما حديث أبي بن كعب فأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج5 ص141) قال: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي وحسن بن موسى وعفان قالوا حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت به.
المسافر إذا أقام ببلد أربعة أيام فما دون هل له أن يفطر(1/125)
اختار شيخ الإسلام في ((الفتاوى الكبرى)) (ج4 ص338) أن له أن يفطر كما له أن يقصر.
والمتردد في السفر الذي يقول أسافر اليوم أسافر غدا يفطر تسعة عشر يوما، ويصوم ويتم إذا زاد على ذلك حكمه كالقصر، فمتى أبيح القصر أبيح له الفطر في نهار رمضان.
كيف يصنع المقيم إذا أصبح صائما ثم نوى السفر
له ثلاث حالات: الأولى: أن يفطر في بيته ثم يسافر.
لحديث محمد بن كعب أنه قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفرا وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل فقلت له سنة؟ قال: سنة. ثم ركب.
أخرجه الترمذي (ج3 ص163) من طريقين عن محمد بن جعفر قال: حدثني زيد بن أسلم قال: حدثني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب.. فذكر الحديث.
وسنده صحيح. محمد بن جعفر هو ابن أبي كثير قد صرح به الترمذي وهو ثقة، ومحمد بن كعب هو أبوحمزة القرظي ثقة عالم فكل رجال السند ثقات.
الحالة الثانية: أن يفطر بعد خروجه من بيته، وهذه الحالة وإن كان حديثها غير متين لكن ليس هناك ما يمنعها، فعن عبيد بن جبر قال: كنت مع أبي بصرة الغفاري صاحب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفينة من الفسطاط في رمضان فدفع ثم قرب غداه قال جعفر في حديثه: فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة قال: اقترب، قلت: ألست ترى البيوت؟ قال أبوبصرة: أترغب عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ قال جعفر في حديثه: فأكل.
أخرجه أحمد (ج6 ص398)، وأبوداود رقم (2412)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص246) وسنده يدور على يزيد بن أبي حبيب عن كليب ابن ذهل عن عبيدالله بن حنين قال: ركبت مع أبي بصرة... فذكر الحديث. وعند أبي داود بواسطة جعفر بن جبر قال: كنت مع أبي بصرة... فذكر الحديث. وهذا كله خطأ.(1/126)
والصواب: عبيد بن جبر كما في ((التهذيب)) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: عبيد بن جبر الغفاري أبوجعفر المصري مولى أبي بصرة الغفاري روى عن مولاه في الفطر وهو يرى البيوت في ((السنن))، وعنه كليب بن ذهل الحضرمي ذكره ابن حبان في ((الثقات))، وقال ابن خزيمة: لا أعرفه. اهـ المراد.
قلت: مجهول وروى عنه كليب بن ذهل مجهول كما في ترجمتيهما من ((التهذيب)) و((الميزان)). وذكر له أبوداود وأحمد في المصدرين السابقين شاهدا من حديث دحية الكلبي بنحوه، وفيه منصور الكلبي المصري قال ابن المديني: مجهول لا أعرفه. وقال ابن خزيمة: لا أعرفه. وباقي رجاله ثقات. ويغني عنه حديث ابن عباس الآتي في الحالة الثالثة.
وحديث أنس صحيح بذاته لا يحتاج إلى شاهد قال الإمام الشوكاني رحمه الله بعد ذكر حديث أنس وأبي بصرة: والحديثان يدلان على أنه يجوز للمسافر أن يفطر قبل خروجه من الموضع الذي أراد السفر منه، وقال ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)): هذا حديث صحيح ولم يقل به إلا أحمد، أما علماؤنا فمنعوا ذلك وحديث أنس صحيح يقتضي جواز الفطر. اهـ المراد.
وقال ابن القيم في ((زاد المعاد)) (ج2 ص56): وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت وذكر الحديثين. اهـ وهذه سنة ثابتة كما ترى.
والحالة الثالثة: أن يمضي في سفره صائما فإذا احتاج إلى الفطر أفطر في أي وقت من النهار شاء، وقد تقدم حديث ابن عباس في باب الصوم في السفر: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أفطر في النهار في عسفان، وبه قال أحمد والشعبي وإسحاق والمزني، قال الحافظ: والحديث نص في الجواز وهو قول الجمهور وقطع به أكثر الشافعية. اهـ من ((الفتح)) (ج4 ص181).(1/127)
قال الشوكاني في ((النيل)) (ج4 ص255): وهذا هو الحق لحديث جابر في مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه(1). اهـ المراد.
وجوب الفطر على المسافر إذا قدم على قتال الكفار
إذا قدم المسافرون على قتال الكفار كان الفطر واجبا لحديث أبي سعيد الخدري عند مسلم رقم (1120)، أنه قال: سافرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)) فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: ((إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا)) وكانت عزمة، فأفطرنا ثم قال: لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعد ذلك في السفر. اهـ
وبهذا قال الشوكاني، وصديق حسن خان في ((الروضة)) (ج1 ص549)، والحديث نص في ذلك.
المسافر إذا وصل محل إقامته أثناء النهار لا يلزمه أن يمسك بقية يومه
لقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر(2)}، ولحديث أنس بن مالك الكعبي الذي عند أحمد وأصحاب السنن أنه قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو يتغدى فقال: ((ادن فكل)) قلت: إني صائم قال: ((اجلس أحدثك عن الصوم أو الصيام، إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم?.اهـ
__________
(1) ? ... تقدم أنه في مسلم رقم (1114).
(2) ? ... سورة البقرة، الآية:184.(1/128)
وتقدم تخريجه في باب وجوب القصر على المسافر ص(68) وبينا هناك أنه صحيح بشواهده، وبهذا القول قال جماعة من السلف، قال ابن قدامة رحمه الله في ((المغني)) (ج4 ص387 تحقيق التركي): وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر بغير عذر، أو المفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع، أو المفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب ونحوهم يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافا فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا كالحائض أو النفساء والمسافر والصبي والمجنون والكافر والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان: (أي عند أحمد) قلت: أصحها أنه لا يلزمه كما في ((الإنصاف)) للمرداوي (ج2 ص288) قال في مسافر قدم مفطرا ثم جامع لا كفارة عليه. اهـ
وبهذه الرواية قد قال جماعة غير أحمد منهم الشافعي ومالك وجابر بن زيد وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من أكل في أول النهار فليأكل في آخره. اهـ(1/129)
قلت: وهذا هو الراجح وقد ذكر الأدلة على ترجيحه، وأما حديث سلمة بن الأكوع في ((صحيح البخاري)) رقم (1924) أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمر من لم يأكل يوم عاشوراء فليمسك. فهذا في حق من لم يعلم بأن غدا يوم صوم واجب أو نسي ذلك أو أو.. إلخ ما ذكره ابن قدامة فيما سبق ونقل عليه عدم الخلاف، فدليله هذا الحديث وليس متنزلا على من أبيح له الفطر في أول النهار بالقرآن والسنة، وإذا أردت المزيد من الأقوال في ذلك فانظر ((بداية المجتهد)) (ج5 ص 17) مع الهداية و((المجموع شرح المهذب)) (ج6 ص215) و((المدونة)) للإمام مالك (ج1 ص202) لكن إذا أحب أن يمسك في الظاهر أمام الناس حتى لا يسيء به الظن من لا يعرف عذره، وأيضا ربما يراه بعض الجهال فيقتدون به لا سيما إن كان من أهل العلم والفضل ولم يعلموا أنه معذور فلا بأس أن يمسك في ظاهر الأمر، ويلزمه قضاء ذلك اليوم الذي أفطره بعذر، أما أن نوجب عليه الإمساك بغير دليل في الموضوع فلا.
المسافر إذا لم يستطع القضاء حتى مر عليه رمضان آخر هل عليه مع القضاء كفارة
ثبت عند عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج4 ص234) عن أبي هريرة وجاء مرفوعا، قال البيهقي: ورفعه ليس أشهر. اهـ من ((السنن والآثار)) (ج3 ص401).
وصح عن ابن عباس عند البيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص243)، والدارقطني في ((السنن)) من طريق ابن عيينة عن يونس عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عباس كما في ((فتح الباري)): أنهما قالا: يقضي، يصوم الذي أدرك ثم يقضي الأول ويطعم عن كل يوم أفطره من الأول مسكينا.
وذكر هذا الإمام البخاري في ((صحيحه)) (4) باب (40) من الصيام بصيغة التمريض فقال: وقال إبراهيم إذا أفطر حتى جاء رمضان آخر يصومهما ولم ير عليه إطعاما ويذكر عن أبي هريرة مرسلا، وابن عباس أنه يطعم ولم يذكر الله تعالى الإطعام إنما قال: {فعدة من أيام أخر}.اهـ(1/130)
فعلم أن قول البخاري رحمه الله هو أنه ليس على المفطر إطعام وإنما عليه القضاء فقط لظاهر الآية.
قلت: وهذا هو الصحيح في المسألة لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ثبت عنها في ((البخاري)) رقم (1950)، ومسلم رقم (1146) أنها قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، [لشغلي من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-].
والزيادة الأخيرة أشار الحافظ إلى شذوذها وقيل: إنها مدرجة من كلام يحيى بن سعيد الأنصاري. ولا علينا من الزيادة هنا ثبتت أم لم تثبت، شاهدنا في الحديث أن قضاء رمضان ليس على الفور وإنما على التراخي(1)هذا من باب الجواز وهو خلاف الأفضل لما قد سبق من الأدلة على المسارعة بأعمال الخير وعدم بالتراخي، قال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج10 ص228): والذي نحن في صدده هو الإطعام على المفطر في القضاء حتى يدخل رمضان الثاني أو أكثر. اهـ قال الحافظ (ج4 ص191): وأما الإطعام فليس فيه ما يثبته ولا ينفيه، وقال ص (190): ولم يثبت فيه شيء مرفوع، وإنما جاء عن جماعة من الصحابة، ونقل الطحاوي عن يحيى بن أكثم أنه قال: وجدته عن ستة من الصحابة لا أعلم لهم فيه مخالفا. اهـ
قال الحافظ: وهو قول الجمهور، وخالف في ذلك إبراهيم النخعي وأبوحنيفة وأصحابه ومال الطحاوي إلى قول الجمهور. اهـ المراد من ((الفتح)).
وقال الشوكاني في ((النيل)) (ج4 ص235): وقد رجح في البحر عدم الوجوب لأن الأصل البراءة.
وقال الشيرازي في ((المهذب)): إذا كان عليه قضاء رمضان أو بعضه فإن كان معذورا في تأخير القضاء بأن استمر مرضه أو سفره ونحوهما جاز له التأخير ما دام عذره ولو بقي سنين ولا تلزمه الفدية. اهـ المراد (ج2 ص624).
__________
(1) ? ... مع العلم أن الحديث ليس فيه أن عائشة كان يمضي عليها رمضان الثاني ولم تقض. وإنما ذكرنا الحديث على جواز تأخير الصوم الواجب لسبب العذر.(1/131)
قال النووي في ((شرح مسلم)): فلو أخر القضاء بلا عذر إلى رمضان آخر أثم ولزمه صوم رمضان الحاضر، والفدية عن كل يوم من الفائت نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب إلا المزني، ولو أخره حتى مضي رمضانان أو رمضانات هل تتكرر الفدية فيه وجهان أصحهما تتكرر. اهـ
قلت: وإلزام الناس بالكفارة شرع يحتاج إلى دليل ولا دليل يثبت على ذلك، فيبقى على البراءة الأصلية وهو عدم إلزامهم بالإطعام كما قال النخعي وبوب عليه البخاري ونص عليه الشوكاني وآخرون.
المسافر إذا مات وعليه صوم صام عنه وليه
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من مات وعليه صيام صام عنه وليه?.
أخرجه البخاري رقم (1952) باب من مات وعليه صوم، ومسلم رقم (1147) باب قضاء الصيام عن الميت (ج8 ص23) نووي، زاد البزار (ج1 ص482 من ((الكشف))): ((صام عنه وليه إن شاء))، وزيادة: ((إن شاء)) ضعيفة لأنها من طريق ابن لهيعة وأشار البزار إلى نكارتها فقال: وهو في الصحيح خلا قوله ((إن شاء)).
قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن عبدالرحيم، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: ((نعم)) قال: ((فدين الله أحق أن يقضى?.(1/132)
أخرجه البخاري رقم (1953)، ومسلم (ج7 ص25 نووي رقم1148) وفي رواية لهما: أن امرأة جاءت فقالت: إن أمي ماتت وفي رواية أخرى لهما: أنها قالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضي عنها؟ قال: ?نعم?. وفي رواية للبخاري: وعليها صوم خمسة عشر يوما. ورواية للترمذي (ج3 رقم 716): وعليها صوم شهرين متتابعين؟ فقال: ?لو كان على أمك دين?. وذكر الحديث من طريق أبي سعيد الأشج وأبي كريب عن أبي خالد الأحمر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل ومسلم البطين به، وفي رواية ((الصحيحين)) من طريق زيد بن أبي أنيسة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير به، وقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر.
وهذه الألفاظ لا يخفى ما فيها من الاختلاف وقد أجاب عنه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (ج4 ص230) فقال: وقد ادعى بعضهم أن هذا الحديث اضطرب فيه الرواة عن سعيد بن جبير فمنهم من قال: إن السائل امرأة، ومنهم من قال: إنه رجل، ومنهم من قال: إن السؤال وقع عن نذر والذي يظهر أنهما قصتان وأما الاختلاف في كون السائل رجلا أو امرأة والمسئول عنه أختا أو أما فلا يقدح في موضع الاستدلال من الحديث لأن الغرض منه مشروعية الصوم أو الحج عن الميت ولا اضطراب في ذلك.اهـ
قلت: نعم لا مانع من تعدد الحالات وتنوع الأسئلة في ذلك لا سيما وجل الروايات في ((الصحيحين)) أو أحدهما.
وعن بريدة رضي الله عنه قال: بينا أنا جالس عند رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت قال: فقال: ((وجب أجرك وردها عليك الميراث)) قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال: ((صومي عنها)) قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها؟ قال: ((حجي عنها?.
أخرجه مسلم (ج8 ص25 نووي رقم1149)، وأبوداود رقم(3309)، والترمذي رقم (667)، ثم قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم أن الرجل إذا تصدق بصدقة ثم ورثها حلت له. اهـ(1/133)
واختلف في المسألة، فذهب الجمهور أن من مات وعليه صوم يندب لوليه أن يصوم عنه، وقال الظاهرية: يجب على وليه أن يصوم عنه أي صوم كان عليه سواء كان قضاء أو نذرا أو كفارة ومن لم يكن له ولي استؤجر عنه من رأس ماله من يصوم عنه أوصى بذلك أو لم يوص وهذا مقدم على ديون الناس لأن دين الله أحق أن يقضى. انظر ((المحلى)) لابن حزم مسألة (775)، و((فتح الباري)) (ج4 ص228) طبعة الريان.
وهذا قول أصحاب الحديث وجماعة من محدثي الشافعية، قال البيهقي في ((الخلافيات)): هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في صحتها فوجب العمل بها.اهـ من ((الفتح)).
ثم ساق عن الشافعي قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وذهب أحمد وإسحاق وأبوداود السجستاني والليث وأبوعبيد أنه لا يصام عن الميت إلا النذر إن مات وعليه نذر، وقالوا: حديث عائشة وبريدة مطلق: من مات وعليه صوم صام عنه وليه، يحمل على المقيد من حديث ابن عباس (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر)، وفي رواية: (إن أمي نذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرا فلم تصم حتى ماتت أفأصوم عنها؟) قال: ?صومي عنها?.
والواقع أن الحكم لعموم حديث عائشة وبريدة أن من مات وعليه صوم صام عنه وليه وأن حديث ابن عباس لا يتعارض مع هذا الحكم ولا يخصص هذا العموم.
قال الحافظ: وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة مستقلة سأل عنها من وقعت له وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى نحو هذا العموم حيث قيل في آخره: فدين الله أحق أن يقضى. اهـ من ((الفتح)) (ج4 ص228).
وقال الشوكاني في ((النيل)) (ج3 ص180): يعني أنه من التنصيص على بعض أفراد العام فلا يصلح لتخصيصه ولا لتقييده كما تقرر في الأصول. اهـ
وثبت رجحانه ورجحه النووي في ((المجموع)) (ج4 ص341.340)، و((شرح مسلم)) (ج8 ص25).
وفي المسألة قول ثالث: أنه لا يصام عن الميت مطلقا لا نذرا ولا قضاء ولا كفارة وبه يقول مالك.(1/134)
قال ابن عبدالبر في ((الاستذكار)) (ج10 ص168): وهو أمر مجمع عليه عندنا.اهـ
قلت: وهو قول الحنفية وهو ضعيف وأدلته غير قوية فمنها ما أخرجه الترمذي (ج3 ص96) رقم (718) فقال رحمه الله: حدثنا قتيبة، حدثنا عبثر ابن القاسم، عن أشعث، عن محمد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا?.
قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، والصحيح عن ابن عمر موقوفا، وأشعث هو ابن سوار، ومحمد هو عندي ابن عبدالرحمن ابن أبي ليلى(1). اهـ
وأخرجه ابن ماجه رقم (1757) وقال: عن محمد بن سيرين، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج6 ص327)، وقال: اتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر بعذر سفر أو مرض ثم لم يفطر في القضاء بأن دام عذره حتى مات أنه لا شيء عليه.اهـ باختصار.
وعلة هذا الحديث أشعث بن سوار فهو ضعيف، ومحمد هو ابن أبي ليلى على الصحيح وهو سيئ الحفظ جدا، وتركه أحمد ويحيى لكثرة أوهامه ومناكيره، وقال ابن خزيمة في ((الصحيح)) (ج3 ص273): إن صح الخبر فإن القلب من أشعث بن سوار لسوء حفظه، والدارقطني والحافظ ابن حجر وثقه انظر ((التلخيص الحبير)) (ج2 ص399).
وجاء عن عائشة أنها قالت: لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم. أخرجه البيهقي في ((الكبير)) (ج4 ص257) من طريق عمارة بن عمير عن امرأة مبهمة عن عائشة.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد.
__________
(1) ? ... وجزم بأنه ابن أبي ليلى ابن خزيمة في ?صحيحه? (ج3 ص273) عند هذا الحديث ورجحه البيهقي (ج4 ص257).(1/135)
أخرجه النسائي في ((الكبرى)) (ج2 ص17)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص257) من طريق حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس وهذا سند صحيح إلى ابن عباس كل رجاله ثقات، والحاصل أنه لم يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في النهي عن الصوم عند الغير شيء وإنما ثبت موقوفا على ابن عباس وابن عمر وجاء موقوفا على عائشة قال الحافظ ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (ج2 ص399): والحديث الصحيح أولى بالاتباع.اهـ
قلت: ولا يجوز تقديم قول أحد على قول الله ورسوله {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
حاصل المسألة:
من مات وعليه صوم صام عنه وليه أي صوم كان.
أنه يجب على الولي أن يصوم عن وليه إن مات وعليه صوم لظاهر الأمر، وبه قال ابن حزم كما تقدم، وقال صديق حسن خان في ((الروضة)) (ج1 ص551): أقول والله أعلم: إنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم سواء أوصى أو لم يوص كما هو مدلول الحديث ومن زعم خلاف ذلك فليأت بحجة تدفعه. اهـ
أنه إن صام عنه أولياؤه ما فاته من الأيام في يوم واحد أجزأ ذلك قاله الحسن البصري كما في ((صحيح البخاري)) باب رقم (42) من كتاب الصوم، وقال النووي في ((المجموع)) بالإجزاء، وقال ابن حزم في ((المحلى)) مسالة (776): فإن صامه بعض أوليائه أجزأ لعموم الخبر في ذلك وإن كانوا جماعة فاقتسموه جاز ذلك أيضا إلا أنه لا يجزئ أن يصوموا كلهم يوما واحدا لقول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر}، فلا بد من أيام متغايرة.اهـ المراد
قلت: لو صاموا عنه يوما واحدا يدخل تحت الآية فعدة من أيام أخر ولا يصام عنه أكثر من يوم واحد، فالظاهر أن الصحيح ما قاله الحسن البصري والنووي أنه يجزئ عنه لو فاته رمضان كله واجتمع ثلاثون واحدا وصاموا في يوم واحد قضاء لا أداء، والله أعلم.(1/136)
مسألة: إن مات في سفره وقد مضت عليه أيام من رمضان أو كان عليه صيام واجب فمات قبل التمكن من قضائه لسفر أو مرض؟
فليس عليه صيام ولا غيره هذا القول هو الراجح ويدعمه الدليل الواضح. وبه قال ابن حزم في ((المحلى)) مسألة رقم (776)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص253)، والشيرازي والنووي في ((المجموع)) (ج4 ص338)، وقال النووي: وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه يقول الخرقي وابن قدامة ونقله عن أكثر أهل العلم وانظر ((المغني)) مسألة رقم (505) (ج4 ص398) و((شرح السنة)) للبغوي (ج6 ص327) فقد نقل الاتفاق على ذلك أيضا.
ولا شك أن المسافر ليس عليه القضاء حال سفره ولا المريض حال مرضه ولا يكون الصوم لازما في حقه ولا تشغل به ذمته إلا إذا تمكن من القضاء بعد الشفاء أو الإقامة وفرط ولم يقض فهنا يشمله اللفظ ويكون مات وعليه صوم ويصوم عنه وليه وقد رأيت الاتفاق فيه.
المسافر إذا أفطر في رمضان وجب عليه القضاء حال إقامته متتابعا إن شاء أو متفرقا
والمسافر الذي قد أفطر في سفره وجب عليه أن يقضي في حال إقامته، وله أن يقضي صومه متتابعا إن شاء وله أن يقضي متفرقا. وانظر ((النيل)) (ج3 ص232 دار القلم)، و((الإرواء)) (ج4 ص94)، و((الروضة)).
أما الأحاديث المرفوعة فقد قال الإمام البيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص259) بعد ذكر بعضها قال: لم يصح شيء من ذلك.
وأما الآثار في ذلك: فروى عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج4 ص241) آثارا في المسألة مختلفة.
قال: عن معمر عن الزهري عن سالم عن عمر في قضاء رمضان قال: صمه كما أفطرته. وقال: عن ابن جريج قال: حدثني الزهري عن سالم عن أبيه قال: صمه كما أفطرته، وهذا الأثر صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه.(1/137)
من قال: لا بأس بتفريقه: قال ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج3 ص32): حدثنا يحيى بن سليم الطائفي عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سئل عن تقطيع قضاء صيام رمضان؟ فقال: ?ذاك إليك أرأيت لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء والله أحق أن يعفو ويغفر?.
من هذه الطريق أخرجه البيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص259)، والدارقطني كلاهما أخذاه عن ابن أبي شيبة من طريق الطائفي وهو ضعيف تركه أحمد، وقال النسائي: منكر الحديث، وذكره البيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (ج3 رقم 2538) من طريق أبي حسين رجل من أهل مكة عن موسى بن عقبة عن صالح بن كيسان قال: قيل يا رسول الله.. فذكره، وهذا المتابع للطائفي مبهم ولم أجده فيمن روى عنه عبدالله بن وهب وقد اختلف فيه على موسى بن عقبة فتارة يرويه عن محمد بن المنكدر وتارة عن صالح بن كيسان والخلل من الرواة عن موسى بن عقبة فهذا المرسل ضعيف.
وجاء من حديث ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?إن شاء تابع وإن شاء فرق?.
أخرجه الدارقطني (ج2 ص193)، وقال: لم يسنده غير سفيان بن بشر.
قلت: وهو مذكور في ((الجرح والتعديل)) (ج4 ص228) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا حفص عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: لا بأس بقضاء رمضان متفرقا. وأخرجه مالك في ((الموطأ)) عن الزهري عن ابن عباس وأبي هريرة اختلفا قال أحدهما: يفرق، وقال الآخر: لا يفرق، هكذا في ((الفتح)) وسنده عند الدارقطني ضعيف (ج2 ص192)، و((الفتح)) (ج4 ص223)، وحفص هو ابن غياث كما في ((السنن والآثار)) للبيهقي (ج3 ص406).
فهذا سند لا بأس به مع عنعنة ابن جريج وهو مدلس، وفي الطريق الثانية الزهري لم يسمع من أبي هريرة كما في ((جامع التحصيل))، لكن الطريق الأولى ثابتة مع غيرها في الباب.(1/138)
قال: حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه قال أنبأني بكر عن أنس رضي الله عنه قال: إن شئت فاقض رمضان متتابعا وإن شئت متفرقا. وبكر هو ابن عبدالله المزني ثقة، فالسند صحيح إلى أنس وبقيت آثار وأقوال في ((مصنف أبي بكر بن أبي شيبة)) (ج3 ص32-34) هذه أحسنها.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت: {فعدة من أيام أخر متتابعات} فسقطت (متتابعات).اهـ
أخرجه الدارقطني (ج2 ص192)، والبيهقي (ج4 ص258) من طريق الدارقطني، وكلهم أخذوه عن عبدالرزاق من ((المصنف)) (ج4 ص242) عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة به، وله طريق أخرى عند الدارقطني عن الزهري قال: قالت عائشة فذكره.. فالأثر ثابت عنها بالطريق الأولى وعنعنة ابن جريج مختلف فيها.
قال البيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص258): قولها: فسقطت. تريد: نسخت. لا يصح له تأويل غير ذلك.
وقال الحافظ في ((الفتح)) (ج4 ص223): وهذا يشعر بعدم وجوب التتابع فكأنه كان أولا واجبا ثم نسخ ولا يختلف المجيزون للتفريق أن التتابع أولى. اهـ
وبوب البخاري في ((صحيحه)) باب متى يقضي قضاء رمضان قال: وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}.
قلت: قد علمت ثبوت سنده فيما مضى وأخرجه عبدالرزاق (ج4 ص243).
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح عن موسى ابن يزيد بن موهب عن أبيه عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل أنه سئل عن قضاء رمضان قال: أحص العدة وصم كيف شئت. اهـ
وثبت عند عبدالرزاق (ج4 ص243) مع من تقدم ذكرهم من الصحابة وغيرهم عن سعيد بن المسيب وطاوس بن كيسان وعبيد بن عمير وابن محيريز ومجاهد بن جبر كلهم قالوا بمعنى واحد: إن شاء تابع وإن شاء فرق. اهـ(1/139)
وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله فقضاؤهن متفرقات أو مجتمعات وذلك لأن الله جل ثناؤه يقول: {فعدة من أيام أخر}، ولم يذكرهن متتابعات.اهـ من ((السنن والآثار)) للبيهقي (ج3 ص405)، وهو قول أهل المدينة منهم مالك، وقال به الثوري والأوزاعي وإسحاق وأبوحنيفة والشعبي ومن الفقهاء المتأخرين ابن قدامة في ((المغني)) (ج3 ص150)، والنووي في ((المجموع)) (ج6 ص336) وغيرهم كثير.
وهذا هو الراجح؛ جواز التفريق، والتتابع أفضل بلا خلاف(1)لقوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}، وقوله: {فاستبقوا الخيرات}، ولحديث: ?بادروا بالأعمال?. رواه مسلم عن أبي هريرة ولعمومات أخرى.
وقد استدل بها داود الظاهري وأبومحمد بن حزم في ((المحلى)) مسألة رقم (768) على وجوب التتابع ثم رجح جواز التفريق وقال عن أثر عائشة (فسقطت متتابعات) قال: سقوطها يسقط حكمها لأنه لا يسقط القرآن بعد نزوله إلا بإسقاط الله تعالى له: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.اهـ
ولم يثبت حديث في وجوب التتابع فيما نعلم عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. فقد أخرج الدارقطني في (ج2 ص192)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج4 ص259): عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?من كان عليه صوم من رمضان فليسرده سردا ولا يقطعه?.
وسنده ضعيف، فيه عبدالرحمن بن إبراهيم الراوي عن العلاء بن عبدالرحمن، ضعيف ضعفه الدارقطني، ونقل البيهقي تضعيفه عن ابن معين والنسائي وهو في ((الميزان)) للذهبي، قال يحيى: ليس بشيء، وذكر هذا الحديث من مناكيره.
وجاء من حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سئل عن قضاء رمضان؟ فقال: ?يقضيه تباعا وإن فرقه أجزأه?. أخرجه الدارقطني (ج2 ص192) وهو من طريق محمد بن عمر الواقدي وهو كذاب.
سفر المرأة
__________
(1) ? ... نقل عدم الخلاف ابن عبدالبر في ?الإستذكار? (ج10 ص228) والحافظ في ?الفتح?.(1/140)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1862): حدثنا أبوالنعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: ((اخرج معها?.
أخرجه البخاري (ج4 رقم 1862)، ومسلم رقم (1341).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم?.
أخرجه البخاري رقم (1087)، ومسلم رقم (1338).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة?، أي محرم.
أخرجه البخاري رقم (1088)، ومسلم رقم (2355).
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثنتي عشرة غزوة قال: أربع سمعتهن من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأعجبنني وآنقنني ((أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم)).
أخرجه البخاري رقم (1864)، ومسلم (ج2 ص976).
فهذه أربعة أحاديث من ((الصحيحين)) في تحريم سفر المرأة بغير محرم سواء لأداء فريضة الحج أو غير ذلك، وبذلك قال الإمام أحمد: نقله عنه الحافظ في ((الفتح)) (ج4 ص76).(1/141)
أما ما يتعلق باختلاف الروايات في الأحاديث المذكورة في المدة التي تعتبر سفرا لا يحل للمرأة أن تسافر فيها إلا مع ذي محرم فقد أجاب عنها أهل العلم، وقد بوب النووي رحمه الله في ((شرح مسلم)) باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، وجمع هذه الروايات كلها، قال: وقال العلماء اختلاف هذه الروايات لاختلاف السائلين واختلاف المواطن وليس في النهي عن الثلاث تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد، قال البيهقي رحمه الله: كأنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سئل عن سفر المرأة ثلاثا بغير محرم فقال: ?لا?، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال: ?لا?، وسئل عن سفرها يوما فقال: ?لا?، وكذا البريد فأدى كل منهم ما سمعه وكله صحيح وليس في هذا كله تحديد أقل ما يسمى سفرا، فالحاصل أن كل ما يسمى سفرا تنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريدا أو غير ذلك لرواية ابن عباس المطلقة ?لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم?، وهذا يتناول جميع ما يسمى سفرا. اهـ المراد من ((شرح النووي عل مسلم)) (ج9 ص103-104).
قلت: تقدم تخريج حديث ابن عباس هذا من ((الصحيحين)) أنه مطلق في أي سفر: لا يحل للمرأة أن تسافره إلا بمحرم.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق لاختلاف التقييدات. اهـ المراد ((الفتح)) (ج4 ص75).
وعلم الصواب أن كل ما يسمى سفرا لا يحل للمرأة أن تسافر إلا بزوج أو محرم لحديث ابن عباس فبه تجتمع الروايات ويعمل بها معا وقد عرف أهل العلم المحرم.
قال الحافظ: وضابط المحرم عند العلماء من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها، وبالمباح أم الموطوءة بشبهة وابنتها وبحرمتها الملاعنة، واستثنى أحمد ممن حرمت على التأبيد مسلمة لها أب كتابي فقال: لا يكون محرما لها لأنه لا يؤمن أن يفتنها عن دينها إذا خلا بها.(1/142)
ومن قال: إن عبد المرأة محرم لها يحتاج أن يزيد في هذا الضابط ما يدخله، وقد روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعا ?سفر المرأة مع عبدها ضيعة? لكن في إسناده ضعف.اهـ
وبهذا عرفه النووي في ((شرح مسلم)) (ج9 ص105).
قلت: لا دليل يثبت على جواز سفر المرأة مع عبدها والله أعلم، سواء كانت شابة أو كبيرة السن لعموم الأدلة المتقدمة وكذا سفرها مع النسوة عرضة للفتنة وبه قال النووي في ((شرح مسلم)) (ج9 ص104-105).
فالمرأة ناقصة عقل ودين كما أخبر المعصوم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فممكن أن يتسلط بعض ذئاب البشر على مجموعة من النساء في السفر لا سيما إن حصل ما يعرقل السير ولا يكون المحرم لواحدة منهن محرما للجميع على الصحيح.
وليس في إذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لنساء النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعد موته بالحج في آخر حجة حجها عمر ما يصرف هذا القول، لأمور: منها أن عمر رضي الله عنه قد بعث معهن عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف كما في البخاري رقم (1860)، وكان عثمان ينادي أن لا يدنو أحد منهن ولا ينظر إليهن وهن في الهوادج على الإبل فإذا نزلن أنزلهن في صدر الشعب فلم يصعد إليهن أحد ونزل عثمان وعبدالرحمن بذنب الشعب..إلخ تلك الروايات التي ذكرها الحافظ في ((الفتح)) (ج4 ص73)، فهذه حراسة مشددة على نساء رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومع ذلك فقد خالفهن بعض نسائه الأخريات فامتنعن من الحج بعد موته مع أمن الطريق وعدم الفتنة والحراسة المشددة فقد ثبت من حديث أبي واقد الليثي أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لنسائه في حجة الوداع: ?هذه ثم ظهور الحصر(1)?.
__________
(1) ? ... سيأتي بيان هذا الحديث.(1/143)
أخرجه أبوداود رقم (1722)، وأحمد في ((المسند)) (ج5 ص219 218)، والطبراني في ((الكبير)) (ج3 ص252) من طريق سعيد بن منصور ومحمد بن النوشجان والنفيلي وإبراهيم بن حمزة الزبيري كلهم عن عبدالعزيز الدراوردي عن زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه والدراوردي وزيد بن أسلم ثقتان وواقد بن أبي واقد قيل إن له صحبة أثبت صحبته أبوداود وابن مندة في كتاب الصحابة وكناه أبا مراوح وقال: قال أبوداود له صبحة.اهـ
فالسند صحيح كما ترى وقد صححه الحافظ ابن حجر في ((الفتح)) (ج4 ص74) وله شاهد من حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد في ((المسند)) (ج6 ص324)، والطبراني في ((الكبير)) (ج24 ص33-34 رقم89) من طرق صحيحة عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن رسول الله لما حج بنسائه قال: ?إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر)) وكانت سودة وزينب بنت جحش تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((هذه ثم ظهور الحصر)) كما في ((مسند أحمد)) (ج6 ص324) وغيره.
وأخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص5) من طريق قبيصة عن سفيان عن صالح مولى التوأمة به، ثم قال: وأحسبه عن سفيان عن ابن أبي ذئب عن صالح لكن هكذا قال قبيصة.
قلت: قبيصة في سفيان فيه ضعف، ورواية الجماعة أصح ورجح الهيثمي في ((المجمع)) أن قبيصة أسقط ابن أبي ذئب وذكره أصح كما قال البزار وله طريق أخرى عنده، قال حدثنا الفضل بن سهل قال حدثنا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد قال حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة به، ورجال السند كلهم ثقات إلا صالح بن نبهان مولى التوأمة فحديثه يقبل التحسين إذا روى عنه الكبار قبل أن يختلط ومنهم ابن أبي ذئب كما نص على ذلك ابن معين أنه روى عنه قبل أن يخرف فثبت الحديث بحمد الله.(1/144)
وله شاهد آخر من حديث أم سليم رضي الله عنها أخرجه أبويعلى في ((مسنده)) (ج12 ص312) رقم (6885) قال الهيثمي في ((المجمع)) (ج3 ص214): رجاله ثقات، وقال محقق ((مسند أبي يعلى)): إسناده حسن، وقال العلامة الألباني في ((الصحيحة)) (ج5 ص526): رجاله ثقات خلا محمد بن خالد الحنفي قال الحافظ: صدوق يخطئ، وذكره المنذري في ((الترغيب)) وقال رواه الطبراني في ((الكبير)) وأبويعلى ورجاله ثقات.
وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني في ((الأوسط)) (ج8 ص450 رقم7926) من طريق عاصم بن عمر العمري وهو ضعيف قال ابن عدي: ومع ضعفه يكتب حديثه أي في الشواهد كما هو هنا والحمد لله.
وأما معنى الحديث فقال شرف الحق العظيم آبادي في ((عون المعبود)): الحصر بضمتين وتسكن الصاد تخفيفا جمع حصير وهو ما يفرش في البيوت أي عليكن لزوم البيت ولا يجب عليكن مرة أخرى بعد ذلك الحج، والحديث استدل به أيضا على عدم جواز الحج لأزواج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعد حجة الوداع. اهـ المراد من ((عون المعبود)) (ج3 ص101) أول كتاب المناسك.
وقال ابن الأثير في ((النهاية)): مادة: حصر، وفيه أفضل الجهاد وأحمله حج مبرور ثم لزوم الحصر وفي رواية أنه قال لأزواجه: ?هذه ثم لزوم الحصر?، أي أنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الحصر هي جمع الحصير الذي يبسط في البيوت.اهـ
وقال صاحب ((المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود)) قوله: هذه ثم ظهور الحصر أي هذه الحجة التي فرضها الله عليكن ثم ألزمن البيوت بعدها ولا تخرجن وعلى هذا عملت سودة بنت زمعة وزينب بنت جحش من أزواجه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقالتا: لا تحركنا دابة بعد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. اهـ المراد (ج10 ص259).(1/145)
وبعد هذا تعلم أن حج بعض أزواج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعد موته وإن كن مجتمعات ومع أمن الفتنة إلا أنه خلاف الأولى وأنه ما كان ينبغي لهن ذلك وكون عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة وافقوا على هذا هو اجتهاد من غير معصوم فلا حجة فيه ملزمة ولهم الأجر على اجتهادهم كما في حديث عمرو ابن العاص: ?إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر?. متفق عليه.
مسألة:
هل للمرأة أن تهاجر من دار الحرب بغير محرم؟
قال القاضي عياض واتفق العلماء على أنه ليس لها أن تخرج في غير الحج(1)والعمرة إلا مع ذي محرم إلا الهجرة من دار الحرب فاتفقوا على أن عليها أن تهاجر منها إلى دار الإسلام وإن لم يكن معها محرم. اهـ من ((شرح مسلم)) (ج9 ص104).
قال البغوي في ((شرح السنة)) (ج7 ص21 تحقيق الأرناؤوط): أما الكافرة إذا أسلمت في دار الحرب أو الأسيرة المسلمة إذا تخلصت من أيدي الكفار فيلزمها الخروج من بينهم بلا محرم وإن كانت وحدها إذا اجترأت ولم تخف من الوحدة، زاد غيره أو امرأة انقطعت من الرفقة فوجدها رجل مأمون فإنه يجوز له أن يصحبها حتى يبلغها الرفقة. انظر ((فتح الباري)) (ج4 ص76) و((المغني)) لابن قدامة (ج3 ص238).اهـ
__________
(1) ? ... أما الحج والعمرة فقد اختلف العلماء في جواز سفر المرأة إليه وسبق ذكر الراجح أنه لا يجوز لها ذلك مع ذكر الأدلة.(1/146)
وهذا لم أر فيه خلافا لأن المهاجرات من الصحابة على عهد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يكن لكل واحدة منهن محرم كيف وهي تلتمس غفلتهم وتنطلق فلربما تبعها زوجها أو وليها فلا يردها لهم رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا علم صدق إيمانها كما أمره الله بذلك في قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن(1)}. ولم ينكر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا أحد من الصحابة رضوان الله عليهم على صفوان بن المعطل حمله لعائشة على راحلته حين انقطعت في الطريق كما في حادثة الإفك.
النكاح في السفر
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1411): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا أبوفزارة، عن يزيد بن الأصم، حدثتني ميمونة بنت الحارث أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها وهو حلال قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس.اهـ
وفي البخاري رقم (5114)، ومسلم رقم (1410) من حديث ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها وهو محرم.
وفي البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها في عمرة القضاء. اهـ
__________
(1) ? ... سورة الممتحنة، الآية:10.(1/147)
والصحيح أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها وهو حلال ورجحه جماعة من الحفاظ، قال ابن عبدالبر بعد ذكر حديثي ابن عباس وميمونة قال: فأما تزويج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ميمونة فقد اختلفت فيه الآثار المسندة واختلف في ذلك أهل السير والعلم في الأخبار وأن الآثار في أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها حلالا أتت متواترة من طرق شتى، عن أبي رافع مولى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وسليمان بن يسار وهو مولاها ويزيد الأصم وهو ابن أختها وهو قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبدالرحمن وابن شهاب وجمهور علماء المدينة: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها وهو حلال وما أعلم أحدا من الصحابة روى عنه أنه عليه الصلاة والسلام نكح ميمونة وهو محرم إلا ابن عباس وحديثه بذلك صحيح ثابت إلا أن يكون معارضا مع رواية غيره فيسقط الاحتجاج بكلام الطائفتين وتطلب الحجة من غير قصة ميمونة وإذا كان كذلك فإن عثمان بن عفان قد روى عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه نهى عن نكاح المحرم(1)ولا معارض له. اهـ المراد من ((الاستذكار)) (ج11 ص257-260).
قال الحافظ في ((فتح الباري)) (ج9 ص165): لكن الوهم إلى الواحد أقرب إلى الوهم من الجماعة.. وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد.
وقال النووي في ((شرح مسلم)) (ج9 ص194): هكذا رواه أكثر الصحابة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوجها حلالا رواه أبورافع وميمونة وغيرهما وهم أعرف بالقصة لتعلقهم به(2)، بخلاف ابن عباس ولأنهم أضبط من ابن عباس وأكثر. اهـ المراد
__________
(1) ? ... هو في مسلم برقم (1409) باب تحريم نكاح المحرم وكراهة خطبته.
(2) ? ... كذا في شرح النووي عند الحديث المرقوم ولعل الصواب: لتعلقهم بها، أي: بالقضية، والله أعلم.(1/148)
وعلم أنهم وهموا ابن عباس في روايته لحديث أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوج ميمونة وهو محرم لأن صاحبة القصة وغيرها رووا خلاف ذلك.
والمقصود أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تزوج وهو مسافر سواء كان محلا أو محرما كما في ((مسلم)) رقم (1411): قال زيد بن الأصم: تزوجها حلالا وبنى به حلالا وماتت بسرف في الظلة التي بنى بها فيها.
أما رواية أنه تزوج بها بالمدينة قبل أن يخرج فأخرجه مالك في ((الموطأ)) (ج1 ص348): عن سليمان بن يسار أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.. فذكره مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، فلا ينبغي أن يعارض به المتصلات الصحاح.
عشرة الزوجة في السفر
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص264): حدثنا عمر أبوحفص المعيطي، قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: ((تقدموا)) فتقدموا ثم قال لي: ((تعالي حتى أسابقك)) فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: ((تقدموا)) فتقدموا ثم قال: ((تعالي حتى أسابقك)) فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: ((هذه بتلك?.اهـ
وأخرجه أبوداود رقم (2578)، وابن ماجه رقم (1979)، والنسائي في ((عشرة النساء)) (58)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (ج5 ص143)، وابن حبان رقم (4691) كلهم من طريق سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
وهذا سند صحيح على شرط الشيخين.
عقد النكاح عن طريق الهاتف(1/149)
أفتى بعض أهل العلم كما في ((فتاوى إسلامية)) (ج3 ص154): أنه لا ينبغي في عقود النكاح في الإيجاب والقبول والتوكيل على المحادثات الهاتفية تحقيقا لمقاصد الشريعة ومزيد عناية في حفظ الفروج والأعراض حتى لا يعبث أهل الأهواء ومن تحدثهم أنفسهم بالغش والخداع وذلك نظرا لما كثر في هذه الأيام من التغرير والخداع والمهارة في تقليد بعض الناس بعضا وإحكام محاكاة غيرهم في الأصوات حتى إن أحدهم يقوى على أن يمثل جماعة من الذكور والإناث صغارا وكبارا ويحاكيهم في أصواتهم ولغاتهم المختلفة. اهـ المراد.
وهذه وجهة نظرهم والذي يظهر أن هذه المسألة كمسألة الطلاق في السفر التي سنذكرها في باب الطلاق وأنه متى تؤكد يقينا أن هذا هو صوت ولي هذه المرأة المعقود عليه أو صوت الخاطب الذي يقول: قبلت، صح العقد لعدم وجود دليل على اشتراط المشافهة، وإن حصل أدنى شك في صوت أحدهما حرم العقد بالظن وعدم التيقن حتى لا يحصل شيء مما ذكروه، فلا يمنع ذلك مطلقا ولا يباح مطلقا، والله أعلم.
العرس والبناء والوليمة في السفر(1/150)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (371): حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن علية، قال: حدثنا عبدالعزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وركب أبوطلحة وأنا رديف أبي طلحة فأجرى نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فلما دخل القرية قال: ((الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)) قالها ثلاثا قال: وخرج القوم إلى أعمالهم فقالوا: محمد، قال عبدالعزيز: وقال بعض أصحابنا: والخميس يعني الجيش قال: فأصبناها عنوة فجمع السبي فجاء دحية الكلبي رضي الله عنه فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي قال: ((اذهب فخذ جارية)) فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك. قال: ((ادعوه بها)) فجاء بها فلما نظر إليها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((خذ جارية من السبي غيرها)) قال: فأعتقها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وتزوجها فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له من الليل، فأصبح النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عروسا فقال: ((من كان عنده شيء فليجئ به)) وبسط نطعا فجعل الرجل يجيء بالتمر وجعل الرجل يجيء بالسمن قال: وأحسبه قد ذكر السويق قال: فحاسوا حيسا فكانت وليمة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(1/151)
أخرجه البخاري في ستة وثلاثين موضعا من ((صحيحه)) أولها رقم (371) في الصلاة باب ما يذكر من الفخذ، ومسلم في الجهاد باب غزوة خيبر (ج3 ص1426).
وعن أنس رضي الله عنه قال: أقام النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بين خيبر والمدينة ثلاثا يبنى عليه بصفية بنت حيي فدعوت المسلمين إلى وليمته فما كان فيها من خبز ولا لحم، أمر بالأنطاع فألقى فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته.
نفوذ طلاق المسافر إذا تؤكد من صوته في الهاتف أو كتابته في رسالة يشهد عليها عدول
نفوذ طلاق المسافر إذا تؤكد من صوته في الهاتف أو من كتابته في الرسالة ونحو ذلك فعن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: أرسل مروان قبيصة بن ذؤيب إلى فاطمة بنت قيس فسألها فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن فخرج معه زوجها فبعث إليها بتطليقه كانت بقيت لها وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملا فأتت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ?لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا..?. الحديث.
أخرجه مسلم (ج2 ص1114) في الطلاق باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها، وأحمد (ج6 ص414)، وأبوداود (2290)، والنسائي (ج6 ص210) والشاهد من الحديث قولها كما في رواية مسلم أنه طلقها البتة وهو غائب وإقرار النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذلك.
البيوع في السفر(1/152)
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن محارب، سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: بعت من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعيرا في سفر فلما أتينا المدينة قال: ((ائت المسجد فصل ركعتين)) فوزن قال شعبة: أراه فوزن لي فأرجح، فما زال معي منها شيء حتى أصابها أهل الشأم يوم الحرة(1).اهـ
أخرجه البخاري في الهبة باب الهبة المقبوضة رقم (2604)، ومسلم رقم (1600) في المساقاة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فكنت على بكر صعب لعمر فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمر ويرده، ثم يتقدم فيزجره عمر ويرده، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لعمر: ((بعنيه)) قال: هو لك يا رسول الله. قال: ((بعنيه)) فباعه من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((هو لك يا عبدالله بن عمر تصنع به ما شئت?. أخرجه البخاري في البيوع باب إذا اشترى شيئا فوهب في ساعته قبل أن يتفرقا رقم (2115).
الرهن في السفر
قال الله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه(2)}.
__________
(1) ? ... الحرة: هي الأرض ذات الحجارة السود، ويوم الحرة يوم مشهور في الإسلام وهو يوم أنهب المدينة يزيد بن معاوية عسكره من أهل الشام الذين ندبهم لقتال أهل المدينة مع الصحابة والتابعين. ? من ?جامع الأصول? (ج1 ص444) و?معجم البلدان? (ج2 ص245).
(2) ? ... سورة البقرة، الآية:283.(1/153)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: يقول تعالى: {وإن كنتم على سفر}، أي: مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى ولم تجدوا كاتبا يكتب لكم، قال ابن عباس: أو وجدوا ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما، فرهان مقبوضة، أي: فليكن الكتاب رهانا مقبوضة في يد صاحب الحق واستدل به آخرون من السلف أن الرهان لا يكون مشروعا إلا في السفر قاله مجاهد وغيره(1). اهـ
وأراد بـ(غيره) الضحاك بن مزاحم كما في ((تفسير ابن جرير))، لكن لم يثبت عنه القول بتخصيص الرهن في السفر لأنه من طريق جويبر بن سعيد وهو متروك كما في ((التهذيب)) للحافظ ابن حجر، ومجاهد أيضا راوي القول عنه ابن أبي نجيح ولم يسمع منه التفسير(2)كما في ((جامع التحصيل)) وغيره، فنقل الإجماع في المسألة غير بعيد قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا خالف في أن الرهن جائز في السفر والحضر إلا مجاهدا ونقله ابن قدامة في ((المغني)) (ج6 ص444)، والنووي في ((شرح مسلم)) (ج11 ص40) حكى هذا القول عن العلماء كافة إلا مجاهدا وداود الظاهري وقال الشوكاني في ((النيل)) في أول كتاب الرهن: والأحاديث المذكورة فيها دليل على مشروعية الرهن وهو مجمع على جوازه، وفيها دليل على صحة الرهن في الحضر وهو قول الجمهور والتقييد بالسفر خرج مخرج الغالب، وخالف مجاهد وأهل الظاهر والضحاك فقالوا: لا يشرع إلا في السفر والأحاديث ترد عليهم.اهـ
__________
(1) ? ... نقله الحافظ عن الضحاك والظاهرية في ?الفتح? (ج5 ص140).
(2) ? ... مسألة: سماع ابن أبي نجيح من مجاهد فإنه لم يسمع، غير أن يحيى بن سعيد القطان يقول: إن ابن أبي نجيح قد أخذ التفسير من مجاهد بواسطة القاسم بن أبي بزة وهو ثقة، ذكر هذا= =إبراهيم بن الجنيد في سؤالاته لابن معين ص (323) وفي ?الجرح والتعديل? (ج5 ص203) وكان سفيان يصحح تفسير ابن أبي نجيح. ? والله أعلم.(1/154)
قلت: نعم، لا خلاف في جوازه في السفر لدلالة القرآن على ذلك وهو جائز في الحضر على الراجح لحديث أنس في البخاري رقم (2508) قال: رهن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله.
وحديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعا من شعير.
أخرجه البخاري رقم (2513)، ومسلم (1603) ولا داعي لذكر أسماء من رجح هذا القول لضعف ضده.
الشهادات في السفر
قبول شهادة الكافر ويمينه على الوصية في السفر عند عدم وجود المسلم وما لم يظهر كذبه، قال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ? فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين(1)}.
قال القرطبي في قوله: {أو آخران من غيركم}: أي: أو شهادة آخرين من غيركم، فـ(من غيركم) صفة لآخرين، وهذا الفصل هو المشكل في الآية والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الكاف والميم في قوله: {منكم} ضمير للمسلمين، {أو آخران من غيركم} للكافرين، فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية وهو الأشبه بسياق الآية مع ما تقرر من الأحاديث وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل وهم أبوموسى وعبدالله بن مسعود(2)وابن عباس.
__________
(1) ? ... سورة المائدة، الآية: 106-107.
(2) ? ... في ?تفسير القرطبي? وبعدالله بن قيس وهو خطأ والتصويب من ?تفسير ابن كثير?.(1/155)
فمعنى الآية من أولها إلى آخرها على هذا القول أن الله تعالى أخبر أن حكمه على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين فإن كان في سفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن معه أحد من المؤمنين فليشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإن أقدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به حق وما كتما فيه شهادة، وحكم بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، وهذا معنى الآية على مذهب أبي موسى وابن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد ابن جبير وأبي مجلز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وغيرهم، ومن الفقهاء سفيان الثوري والقاسم بن سلام وأحمد بن حنبل كلهم يقولون {من غيركم} يعني الكفار. اهـ من ((الجامع لأحكام القرآن)) (ج6 ص328-329).
القول الثاني: أن قوله سبحانه: {أو آخران من غيركم} منسوخة، هذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن أدلتهم قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}، وقد أجمع العلماء أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم، قال القرطبي: وما ذكروه صحيح إلا أن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم، وقال ابن جرير وابن كثير وغيرهم ممن تقدم ذكره: الآية محكمة ومن ادعى نسخها فعليه البيان. اهـ انظر ((تفسير ابن كثير)).
القول الثالث: أنها محكمة لكن معنى {منكم} أي من عشيرتكم وقرابتكم {أو آخران من غيركم} أي: من غير القرابة والعشيرة، نقل هذا عن الحسن وعكرمة والزهري.
قلت: وفيه بعد وتكلف ترده الآية نفسها فإن في أولها نادى الله عز وجل المؤمنين بقوله: {يا أيها الذين آمنوا}، وعلى هذا القول فمن غيركم لا يكونون عدولا لأنه قال: ذوا عدل منكم.(1/156)
وعليه أيضا أنه يلزم الشاهدين من المؤمنين اليمين بعد الصلاة على شهادتهما تلك ومع ذلك ينتظر ظهور كذبهما فإن ظهر حلف من أولياء الميت الموصي رجلان وتهدر شهادة المسلمين الأولين وهذا لا نظير له في الشريعة الإسلامية فما أبعده من قول ولا أراه يثبت عن هؤلاء الأئمة فإن ثبت فهو خطأ منهم واضح جلي، فعلم ثبوت القول الأول الذي تكاثرت عليه الآثار والأقوال الثابتة عن الصحابة وغيرهم وذلك بالشروط المذكورة في الآية:
أن يكون في السفر دون الحضر.
أن يكون في الوصية خاصة.
عند عدم وجود المسلمين.
أن يحلفا عند قدومهما بعد الصلاة على صدق شهادتهما إذا حصل شك فيهما.
أنهما إن عثر منهما كذب أو خيانة حلف رجلان من أولياء الميت الموصي وهدرت شهادتهما وغرما ما أخذا من ((الوصية)). اهـ وانظر ((تفسير ابن جرير)) و((ابن كثير)) وغيرها من التفاسير عند الآية: 107، المائدة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما(1)من فضة مخوصا من ذهب فأحلفهما رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ثم وجد الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت}.
أخرجه البخاري في الوصايا (ج5 ص409) رقم (2780)، وأبوداود (3606)، والترمذي (ج4 ص101) وهو مذكور في ((أسباب النزول)) لشيخنا حفظه الله عند الآية، وأخرج أبوداود نحوه برقم (3605) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وسنده قوي.
الصيد في السفر
__________
(1) ? ... الجام الإناء.(1/157)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (4360): حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ونحن ثلاثمائة راكب وأميرنا أبوعبيدة عامر بن الجراح نرصد عيرا لقريش فذكر الحديث بطوله وفيه: فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر كهيئة الكثيب الضخم فأقمنا عليه شهرا.
أخرجه البخاري في الصيد باب قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} وفي الشراكة في الطعام والنهد، ومسلم رقم (1935).
وعن عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: غزونا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد.
أخرجه البخاري رقم (5495) ومسلم (1952).
وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خرج حاجا فخرجوا معه فصرف طائفة منهم فيهم أبوقتادة فقال: ((خذوا ساحل البحر حتى نلتقي)) فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبوقتادة لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبوقتادة على الحمر فعقر منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها وقالوا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلما أتوا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وقد كان أبوقتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبوقتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها قال: ((أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها))؟ قالوا: لا، قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها?.اهـ
أخرجه البخاري رقم (1824)، ومسلم رقم (1196).
حمل الزاد في السفر
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا. أخرجه البخاري رقم (2983)، ومسلم (1935).(1/158)
وعن أبي هريرة أو عن أبي سعيد قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((افعلوا)) قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((نعم)) قال: فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير قال: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عليه بالبركة ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم)) قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة?.
رواه مسلم (45.27).
وعن عبدالرحمن بن عابس عن أبيه قال: قلت لعائشة أنهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث؟ قالت: ما فعله إلا في عام جاع الناس فيه فأراد أن يطعم الغني الفقير، وإن كنا لنرفع الكراع فنأكله بعد خمس عشرة.
أخرجه البخاري في الأطعمة رقم (5423)، ومسلم (1971).
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا نتزود لحوم الهدي على عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى المدينة.
أخرجه البخاري رقم (5424)، ومسلم رقم (1972) (ج3 ص1563) في الأضاحي باب ما كان السلف يدخرون في بيوتهم وأسفارهم من الطعام واللحم وغيره.(1/159)
وفي حديث عائشة الطويل في هجرة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأبي بكر إلى المدينة قالت عائشة: وصنعنا للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأبي بكر سفرة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين.
أخرجه البخاري بطوله في مناقب الأنصار رقم (3095) باب هجرة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه وتقدمت أدلة لهذا الباب في الذي قبله.
حمل الزاد على الرقاب في السفر أخف من حمله بالأيدي
قال البخاري رحمه الله رقم (2983): حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا عبدة، عن هشام، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا.. الخ.
وأخرجه مسلم رقم (1935).
وتقدم باب حمل الزاد في السفر، وإنما ذكرنا هذا الباب لكون حمله على الرقاب عند تعذر حمله على الرواحل أخف من حمله بالأيدي، وانظر ((فتح الباري)) (ج6 ص130).
الطعام عند القدوم من السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3089): حدثني محمد، أخبرنا وكيع، عن شعبة، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما قدم المدينة نحر جزورا أو بقرة.
وأخرجه ومسلم (715).
قال الحافظ في الفتح (ج6 ص194) عند هذا الحديث: قوله: (باب الطعام عند القدوم) أي: من السفر، وهذا الطعام يقال له: النقيعة بالنون والقاف، قيل: اشتق من النقع وهو الغبار، لأن المسافر يأتي وعليه غبار السفر، وقيل: النقيعة من اللبن إذا برد، وقيل غير ذلك. وكان ابن عمر يفطر أول قدومه من السفر لأجل الذين يغشونه للسلام عليه فيترك الصيام لذلك، قال ابن بطال: فيه إطعام الإمام والرئيس أصحابه عند القدوم من السفر وهو مستحب عند السلف. اهـ
الطب والمداواة في السفر(1/160)
الحجامة: قال البخاري رحمه الله (5695) باب الحجم في السفر والإحرام: حدثنا مسدد، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس وعطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: احتجم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو محرم.
وأخرجه مسلم رقم (1202) في الحج باب جواز الحجامة للمحرم.
عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى.
أخرجه البخاري في الجهاد رقم (2883).
عن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقزان القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.
أخرجه البخاري رقم (2880) ومسلم (1811).
الأضحية في السفر
قال الإمام النسائي رحمه الله (ج7 ص219): أخبرنا هناد بن السري في حديثه عن أبي الأحوص، عن عاصم بن كليب، عن أبيه قال: كنا في سفر فحضر الأضحى فجعل الرجل منا يشتري المسنة بالجذعتين والثلاثة فقال لنا رجل من مزينة: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فحضر هذا اليوم فجعل الرجل يطلب المسنة بالجذعتين والثلاثة فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني?.
وأخرجه من طريق شعبة عن عاصم عن أبيه به، وسنده حسن من أجل كليب بن شهاب والد عاصم، وباقي رجال إسناده ثقات.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حجة الوداع ضحى عن أزواجه بالبقرة.
أخرجه البخاري رقم (5548) باب الأضحية للمسافر والنساء، ومسلم رقم (1211).
قال الحافظ: قوله: (ضحى عن أزواجه بالبقرة)، ظاهر في أن الذبح المذكور كان على سبيل الأضحية. اهـ من ((الفتح)) (ج9 ص3-5).
فالأضحية سنة مؤكدة في حق المقيم والمسافر.
القسمة في السفر(1/161)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3066): حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، عن قتادة، أن أنسا أخبره قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين.
وأخرجه ومسلم (1253).
وقال البخاري رحمه الله رقم (2821، 3148):حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله الأويسي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، أن محمد بن جبير قال، أخبرني جبير بن مطعم رضي الله عنه، أنه بينا هو مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ومعه الناس مقبلا من حنين علقت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا?.
وهو بهذا اللفظ محتمل أن يكون قسم بينهم في السفر، وقد جاء حديث مرسل أنه نزل(1)ونزل الناس معه فأقبلت هوازن فقالوا: جئنا نستشفع بالمؤمنين إليك وبك إلى المؤمنين... إلخ.
ذكره الحافظ في ((الفتح)) (ج6 ص254). فذكر القصة وسكت عليه الحافظ.
اللباس في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (182): حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا عبدالوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: أخبرني سعد بن إبراهيم، أن نافع بن جبير بن مطعم أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر وأنه ذهب لحاجة له، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين.
وأخرجه في اللباس باب الجبة في السفر رقم (2918)، ومسلم رقم (274).
هل لباس الحرير لمن حكه جلده أو أوجعه خاص بالسفر؟
__________
(1) ? ... أي: نزل في الطريق ليقسم بينهم.(1/162)
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج3 ص1646) في كتاب اللباس: حدثنا أبوكريب محمد بن العلاء، حدثنا أبوأسامة، عن سعيد بن أبي عروبة، حدثنا قتادة أن أنس بن مالك أنبأهم أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رخص لعبدالرحمن بن عوف والزبير ابن العوام في القمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما.
وذكره من طريق محمد بن بشر حدثنا سعيد بن أبي عروبة به، ولم يذكر (في السفر).
ومن طريق وكيع عن شعبة عن قتادة به ومحمد بن جعفر عن شعبة به بدون ذكر السفر، وكلا الروايتين متفق عليها فهي أيضا عند البخاري في كتاب الجهاد باب في الحرير في الحرب.
قال الحافظ ابن حجر: ثم المشهور عن القائلين بالجواز أنه لا يختص بالسفر وعن بعض الشافعية يختص وقال المهلب: لباس الحرير لإرهاب العدو وهو مثل الاختيال في الحرب. اهـ المراد من ((الفتح)) (ج6 ص101).
وقال الإمام النووي: وأما قوله الحكة فهي بكسر الحاء وتشديد الكاف وهي الجرب أو نحوه ثم الصحيح عند أصحابنا والذي قطع به جماهيرهم أنه يجوز لبس الحرير للحكة ونحوها في السفر والحضر جميعا، وقال بعض أصحابنا: يختص بالسفر وهو ضعيف. اهـ من ((شرح مسلم)) (ج14 ص53).
قال العلامة الشوكاني رحمه الله قال: والتقييد بالسفر بيان للحال الذي كانا عليه لا للتقييد، وقد جعل السفر بعض الشافعية قيدا في الترخيص وهو ضعيف. اهـ
واختاره ابن الصلاح لظاهر الحديث عند الجمهور والحديث يدل على جواز لبس الحرير لعذر الحكة والقمل عند الجمهور وقد خالف في ذلك مالك(1)والحديث حجة عليه ويقاس غيرهما من الحاجات عليهما وإذا ثبت الجواز في حق هذين الصحابيين ثبت في حق غيرهما ما لم يقم دليل على اختصاصهما بذلك. اهـ المراد من ((النيل)) (ج2 ص99).
وما رجحه الشوكاني وغيره من جواز لبس الحرير لقصد العلاج به من حكة ومرض جلد في السفر وغيره هو الراجح.
__________
(1) ? ... فقال: يمنع لبس الحرير للرجال مطلقا.(1/163)
قلت: ويتعقب في قوله (والقمل) وفي إلحاق غير الحكة بها في إباحة لبس الحرير، نعم قد جاء عند مسلم في رواية: (لحكة بهما أو وجع) ولفظة (أو وجع) تشمل غير الحكة لكنها محمولة على الرواية المتفق عليها لرجحانها أو على ما علم من الأمراض الجلدية أن علاجه بلبس الحرير، وليس كل من به وجع من الأوجاع الداخلية أو الخارجية ذهب يلبس الحرير.
لبس العمامة السوداء في السفر
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1358): حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، وقتيبة بن سعيد الثقفي، قال يحيى: أخبرنا، وقال قتيبة: حدثنا معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دخل مكة وعليه عمامة سوداء.
السرعة في السير إذا لم يخف ضررا
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2999): حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، عن هشام، قال: أخبرني أبي، قال: سئل أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سئل عن مسير النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حجة الوداع قال: فكان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص، والنص فوق العنق.
وأخرجه ومسلم (1286).
قال ابن الأثير في ((النهاية)): أصل (النص) أقصى الشيء وغايته، ثم سمي به ضرب من السير سريع. اهـ من مادة: نصص، ومادة: عنق.
المسافر يتفقد راحلته ويرفق بها
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1926): حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبدالعزيز يعني ابن محمد، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فبادروا بها نقيها، وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام بالليل?.
أخرجه مسلم باب مراعاة مصلحة الدواب في السير.(1/164)
قال النووي رحمه الله في ((شرح مسلم)) (ج13 ص69): نقيها بكسر النون وإسكان القاف هو المخ ومعنى الحديث الحث على الرفق بالدواب ومراعاة مصلحتها، فإن سافروا في الخصب قللوا عليها السير وتركوها ترعى في أثناء السفر فتأخذ حظها من الأرض بما ترعاه منها وإن سافروا في القحط عجلوا السير ليصلوا المقصد وفيها بقية من قوتها ولا يلحقها الضرر فربما كلت ووقفت. اهـ
قلت: وهكذا تفقد المراكب الحديثة كالسيارات والطيارات أهم من تفقد الدواب في السفر لخطورة عطبها على من فيها وغيرهم.
الإرداف في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2984): حدثنا عمرو بن علي، حدثنا أبوعاصم، حدثنا عثمان بن الأسود، حدثنا ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله يرجع أصحابك بأجر حج وعمرة ولم أزد على الحج؟ فقال لها: ((اذهبي وليردفك عبدالرحمن)) فأمر عبدالرحمن أن يعمرها من التنعيم.
أخرجه البخاري باب إرداف المرأة خلف أخيها، ومسلم رقم (1211).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت رديف أبي طلحة وإنهم ليصرخون بهما جميعا، الحج والعمرة.
أخرجه البخاري رقم (2986)، ومسلم (690).
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفا أسامة بن زيد.. الحديث.
أخرجه البخاري رقم (2988)، ومسلم (1329).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أردف الفضل فأخبر الفضل أنه لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة.
أخرجه البخاري رقم (1685)، ومسلم (1280).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان ردف النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من عرفة إلى المزدلفة ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى قال: فكلاهما قالا: لم يزل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
أخرجه البخاري رقم (1686)، ومسلم (1281).(1/165)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحدا بين يديه، والآخر خلفه.
أخرجه البخاري رقم (5965)، ومسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من خيبر وإني لرديف أبي طلحة وهو يسير، وبعض نساء رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رديف رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
أخرجه البخاري رقم (5968)، ومسلم، وأخرجه البخاري في الجهاد بلفظ: (ومع النبي صفية يردفها على راحلته) وذكرنا في باب استقبال المسافر بعض الأحاديث من هذا الباب غير ما ههنا وهي كثيرة قد جمعها بعض العلماء في كتاب مستقل.
وقال أبوداود رقم (2639): حدثنا الحسن بن شوكر، حدثنا إسماعيل ابن علية، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، أن جابر بن عبدالله حدثهم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.اهـ
وأخرجه البغوي في ((شرح السنة)) (ج11 ص29) من طريق أبي الزبير عن جابر به، ورجاله بين صدوق وثقة، إلا أن أبا الزبير مدلس وقد عنعن، لكنه في الشواهد ومن شواهده حديث جابر الذي سنذكره في باب أمير المسافرين يتفقد رفقته، وقد رأيت بعد ذلك أن أبا الزبير صرح بالتحديث في هذا السند نفسه.
الهبة في السفر
أخرج البخاري باب الهبة المقبوضة وغير المقبوضة رقم (2604) قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن محارب، سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يقول: بعت من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعيرا في سفر فلما أتينا المدينة قال: ((ائت المسجد فصل ركعتين)) فوزن قال شعبة : أراه فوزن لي فأرجح.
وأخرجه مسلم رقم (1600) في المساقاة.(1/166)
وأخرج البخاري في البيوع باب إذا اشترى شيئا فوهب في ساعته قبل أن يتفرقا رقم (2115) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه: فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?بعنيه يا عمر? فقال: هو لك يا رسول الله فباعه منه فقال لي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?هو لك يا عبدالله فاصنع به ما شئت?.
الإمارة في السفر
قال الإمام أحمد رحمه الله في ((مسنده)) (ج2 ص176-177): حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، قال: حدثنا عبدالله بن هبيرة، عن أبي سالم الجيشاني، عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا يحل أن ينكح المرأة بطلاق أخرى، ولا يحل لرجل أن يبيع على بيع صاحبه حتى يذره، ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم، ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة يتناجى اثنان دون صاحبهما?.اهـ
وسنده كل رجاله ثقات إلا عبدالله بن لهيعة ففيه ضعف، وأبوسالم الجيشاني اسمه سفيان بن هانئ وهو ثقة مخضرم.
وقال أبوداود رحمه الله رقم (2609): حدثنا علي بن بحر، حدثنا حاتم ابن إسماعيل، حدثنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم?.
وأخرجه برقم (2608) بنفس السند: عن أبي سعيد الخدري، وأخرجه البغوي في ((شرح السنة)) من طريق حاتم به، وأخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص267) من طريق حاتم عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر به ورجاله ثقات، وأخرجه البيهقي (ج5 ص257) من طريق حاتم عن ابن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد.
والذي أخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص266) من طريق محمد بن الزبرقان عن ثور بن يزيد عن مهاصر بن حبيب عن أبي سلمة عن أبي هريرة بلفظ: ?إذا سافرتم فليؤمكم أقرؤكم وإن كان أصغركم، وإذا أمكم فهو أميركم?.اهـ(1/167)
وسنده ضعيف فقد أخرجه عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج5 ص165) وابن أبي شيبة (ج1 ص379) من طريق ثور بن يزيد عن مهاصر بن حبيب مرسلا، قال أبوسلمة: قال رسول الله.. فذكر الحديث، وأخرجه في (ج2 ص390) رقم (3812) من طريق ثور بن يزيد عن مهاجر بن ضمرة وهو خطأ، والصواب مهاصر بن حبيب كما تقدم.
وأعل الحديث أبوحاتم وأبوزرعة كما في ((العلل)) لابن أبي حاتم (ج1 ص84) ورجحا إرساله، وكذا الدارقطني في ((العلل)) (ج9 ص326-327) وكذا حديث: ?إذا أمكم فهو أميركم?. رواه ابن عجلان عن نافع واختلف عنه، فرواه حاتم بن إسماعيل عن ابن عجلان عن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة وأبي سعيد مرفوعا، وخالف يحيى بن القطان فرواه عن ابن عجلان عن نافع عن أبي سلمة مرسلا، وهو الصواب. اهـ
وجاء عند الحاكم (ج1 ص443)، وابن خزيمة (ج4 ص141)، والبزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص267) عن عمر بن الخطاب مرفوعا وسئل عنه الدارقطني في ((العلل)) (ج2 ص151) فقال: هو حديث يرويه القاسم بن مالك المزني والحسين بن علوان عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر مرفوعا وخالفهما عبدالواحد بن زياد وأبومعاوية وغيرهما فرووه عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر قوله وهو الصواب فرجح وقفه كما ترى.
ومن الطريق الموقوفة أخرجه البيهقي في ((الكبرى)) (ج9 ص359)، وأخرج عبدالرزاق (ج2 ص390) قال عبدالرزاق: عن ابن جريج قال أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير قال: لقي عمر بن الخطاب ركبا يريدون البيت فقال: من أنتم؟ فأجابه أحدثهم سنا فقال: عباد الله المسلمون، قال: من أين جئتم؟ قال: من الفج العميق، قال: أين تريدون؟ قال: البيت العتيق، فقال عمر: من أميركم؟ فأشار إلى شيخ منهم، فقال عمر: بل أنت أميرهم.اهـ وسنده صحيح.(1/168)
وأخرج الطبراني في ((الكبير)) (ج9 ص185) قال: حدثنا محمد بن حيان المازني قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال أنبأنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله وهو ابن مسعود قال: إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم ولا يتناجى اثنان دون صاحبهم. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج5 ص256): ورجاله رجال الصحيح.
قلت: وليس بصحيح فعمرو بن مرزوق ليس من رجال الصحيح وهو ثقة وشيخ الطبراني، قال الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله في كتابه ((مشايخ الطبراني)): الشيخ الصدوق محدث، ولم نجد من وصفه بهذا من المتقدمين وبقية رجاله ثقات.
فبهذه الشواهد يصير الحديث صحيحا والحمد لله، والإمارة في السفر ثابتة في جميع مغازي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه في ((الصحيحين)) وغيرهما ومن ذلك حديث علي الآتي في إمارة عبدالله بن حذافة السهمي.
أمير المسافرين يتفقد رفقته
لحديث كعب بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما وصل تبوك قال: ?ما فعل كعب لا أراه?. أخرجه البخاري (4418) بطوله، ومسلم (2769) مختصرا.
وحديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: كان رسول الله يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم.
عند أبي داود والحاكم (حسن) كما تقدم في باب الإرداف.
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (5079): حدثنا أبوالنعمان، حدثنا هشيم، حدثنا سيار، عن الشعبي، عن جابر بن عبدالله، قال: قفلنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من غزوة فتعجلت على بعير لي قطوف، فلحقني راكب من خلفي فنخس بعيري بعنزة كانت معه فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فإذا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((ما يعجلك))؟ قلت: كنت حديث عهد بعرس، قال: ((أبكرا أم ثيبا))؟ قلت: ثيبا، قال: ((فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك)) قال: فلما ذهبنا لندخل قال: ((أمهلوا حتى تدخلوا ليلا أي عشاء لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)).(1/169)
وجمع الحافظ بين هذا الحديث وبين ما سيأتي في باب النهي أن يطرق الرجل على أهله ليلا أن هذا محمول على من علم خبر مجيئه والعلم بوصوله، انظر ((الفتح)) (ج9 ص123) شرح حديث رقم (5080).
أمير السفر يطاع في المعروف
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (7145): حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا سعد بن عبيدة، عن أبي عبدالرحمن، عن علي رضي الله عنه قال: بعث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سرية وأمر عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن تطيعوني؟ قالوا: بلى قال: قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبا وأوقدتم نارا ثم دخلتم فيها، فجمعوا حطبا فأوقدوا نارا فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: إنما تبعنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فرارا من النار أفندخلها، فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه، فذكر للنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف?.
وأخرجه مسلم (1840).
الأمير يخطب في رفقته ويتعاهدهم بالنصح والوصايا في السفر(1/170)
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (2408) في كتاب فضائل الصحابة: حدثني زهير بن حرب، وشجاع بن مخلد، جميعا عن ابن علية، قال زهير: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثني أبوحيان، حدثني يزيد بن حيان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: ((أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)) فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
الشورى في السفر(1/171)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (4178، 4179): حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، قال: سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني معمر، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، يزيد أحدهما على صاحبه قالا: خرج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة وسار النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك فقال: ((أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين)) قال أبوبكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: ((امضوا على اسم الله?.
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (ج7 ص45): حدثنا سهل بن عثمان وأبوكريب محمد بن العلاء، جميعا عن أبي معاوية، قال أبوكريب: حدثنا أبومعاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد شك الأعمش قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((افعلوا)).(1/172)
قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((نعم)) قال: فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة قال: ويجيء الآخر بكف تمر قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير قال: فدعا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عليه بالبركة ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم)) قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة?.
وأخرج البخاري رقم (5729) ومسلم رقم (2219) من حديث ابن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبوعبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادعوا لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. وذكر بقية الحديث.
القضاء في السفر(1/173)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2973): حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا سفيان، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- غزوة تبوك فحملت على بكر فهو أوثق أعمالي في نفسي، فاستأجرت أجيرا فقاتل رجلا فعض أحدهما الآخر فانتزع يده من فيه ونزع ثنيته فأتى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأهدرها فقال: ((أيدفع يده إليك فتقضمها كما يقضم الفحل)).
وأخرجه ومسلم رقم (1647).
حكم الحدود في السفر
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (4408): حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني حيوة بن شريح، عن عياش بن عباس القتباني، عن شييم بن بيتان ويزيد بن صبح الأصبحي، عن جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطاة في البحر فأتي بسارق يقال له: مصدر قد سرق بختية فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((لا تقطع الأيدي في السفر، ولولا ذلك لقطعته?.اهـ(1/174)
وأخرج الترمذي رقم (1450) في الحدود باب لا تقطع الأيدي في الغزو، والنسائي (ج8 ص91) باب القطع في السفر، وأحمد في ((المسند)) (ج4 ص181)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج3 ص591)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ج1 ص210) من طريق شييم بن بيتان عن جنادة بن أمية عن بسر ابن أرطاة به مرفوعا، وشييم ثقة وثقه ابن معين وابن حبان، وجنادة بن أمية وثقه العجلي والواقدي على أن بعضهم قال أنه صحابي وبسر بن أرطاة صحابي صغير على الصحيح أثبت صحبته الحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) و((التهذيب)) وقال: وفي ((سنن أبي داود)) بإسناد مصري قوي عن جنادة بن أمية عن بسر فذكر الحديث لا تقطع الأيدي في السفر ، ولاه معاوية وكانت له آثار غير محمودة، وأثبت صحبته الدارقطني فقال: له صحبة ولم تكن له استقامة، وقال ابن عدي: لا أعرف له إلا هذين الحديثين وأسانيده من أسانيد الشام ومصر لا أدري بإسناديه هذين بأسا، قال يحيى بن معين: كان رجل سوء.
قلت: هو قد أثبت صحبته الدارقطني والحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) وابن الأثير في ((أسد الغابة)) وابن عبدالبر في ((الاستيعاب)) وإن كان أذنب فعلى نفسه ولنا حديثه فلا يزال صحابيا عدلا، وقد صحح حديثه هذا المناوي في ((فيض القدير)) وقبله السيوطي في ((الجامع)) وكذا الضياء المقدسي في ((المختارة)) والحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) كما تقدم، وقال الترمذي: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي لا يرون أن يقام الحد في الغزو ويحضره العدو ومخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو فإذا خرج الإمام من دار الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه. اهـ(1/175)
قلت: والذين رووه عن عياش بن عباس عن شييم به بلفظ: (لا تقطع الأيدي في السفر) أرجح من الذين رووه بلفظ (في الغزو) فلا ينبغي أن يخصص الحكم في الغزو وأمام العدو فقط وإنما انفرد ابن لهيعة عن عياش بلفظ (في الغزو) وخالفه حيوة بن شريح عند أبي داود والنسائي وسعيد بن يزيد عند أحمد، فعلم أن الحكم عام أنه لا ينبغي أن تقطع يد السارق في السفر مطلقا.
أما حديث عبادة: (أقيموا حدود الله في الحضر والسفر والقريب والبعيد). فهو ضعيف قد بينا ضعفه في تحقيق أحاديث ((إصلاح المجتمع)) وأذكر الآن أن فيه ربيعة بن ناجد مجهول وله طرق أخرى ضعيفة.
آداب السفر
الاستخارة للسفر
قبل السفر المباح أو عند التأرجح بين سفرين مباحين(1)أيهما يقدم، قال الإمام البخاري رحمه الله في الدعوات من ((صحيحه)) رقم (6382): حدثنا مطرف بن عبدالله أبومصعب، حدثنا عبدالرحمن بن أبي الموال، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، إذا هم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمي حاجته)). اهـ
__________
(1) ? ... مباحين أو مستحبين.(1/176)
قال الحافظ رحمه الله: قوله (في الأمور كلها)، قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به أو يقتصر عليه. اهـ المراد من ((الفتح)) (ج11 ص184).
المسافر يتزود لسفره
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1523): حدثنا يحيى بن بشر، حدثنا شبابة، عن ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى(1)}.
أخرجه البخاري (ج4 ص127).
قال الحافظ في الفتح (ج3 ص 384) قال المهلب في هذا الحديث من الفوائد: إن ترك السؤال من التقوى، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا، أي: تزودوا واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك. اهـ
وانظر باب التأهب للسفر الطويل فقد ذكرنا هناك قطعة من حديث كعب بن مالك، وفيه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه تجهزوا وأخذوا أهبة سفرهم.
المسافر يخفف القراءة في الصلاة
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (791): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا طالب بن حبيب، حدثنا عبدالرحمن بن جابر يحدث عن حزم بن أبي ابن كعب أنه أتى معاذ بن جبل وهو يصلي بقوم صلاة المغرب في هذا الخبر قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يا معاذ لا تكن فتانا، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف، وذو الحاجة، والمسافر?.
ورجال سنده كلهم ثقات إلا طالب بن حبيب فقال عنه الحافظ في ((التقريب)): صدوق يهم. وقال البخاري: فيه نظر، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به، وذكره ابن حبان في ((الثقات)).
__________
(1) ? ... سورة البقرة، الآية:197.(1/177)
وللحديث شاهد عن أبي داود رقم (1462) قال: حدثنا أحمد بن عمرو ابن السرح، أخبرنا ابن وهب، أخبرني معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن القاسم مولى معاوية، عن عقبة بن عامر قال: كنت أقود برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ناقته في السفر فقال لي: ((يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا)) فعلمني: {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} قال: فلم يرني سررت بهما جدا، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الصلاة التفت إلي فقال: ((يا عقبة كيف رأيت?.
ومعاوية هو ابن صالح الحضرمي حسن الحديث، والعلاء بن الحارث ثقة وثقه ابن معين وابن المديني وأبوداود وغيرهم كثير، والقاسم هو ابن عبدالرحمن الشامي وثقه ابن معين والعجلي وزاد: وليس بالقوي، وقال ابن حبان: مستقيم الحديث، وذكروا أنه روى عنه العلاء هذا وجماعة آخرون أحاديث مقاربة.
قلت: وحديثه يحسن لا سيما في رواية العلاء وأمثاله عنه، ومع الذي قبله يصير جيدا.
كان السلف الصالح يكثرون السفر إلى بيت الله
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص78): حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان ابن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء قالا: كانا يكثران السفر نحو هذا البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى وقال: ((إنك لن تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه?.
أخرج أحمد (ج5 ص79) قال: حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا سليمان ابن المغيرة به. وسنده صحيح كل رجاله ثقات، سليمان ثقة قاله ابن معين وقال ابن سعد: ثقة ثبت، وقال سليمان بن حرب: ثقة مأمون من أفاضل البصريين.(1/178)
وحميد بن هلال هو ابن هبيرة ثقة عالم، وأبوقتادة هو العدوي مختلف في صحبته، وقال بعضهم: تابعي ثقة، وأبوالدهماء اسمه قرفة بن بهيس مختلف في صحبته، وقال بعضهم: تابعي ثقة وكلهم بصريون.
فأبوقتادة وأبوالدهماء على بعد قطرهما من البيت وشقة السفر عليهما مع ذلك كانا يكثران السفر إلى البيت الحرام.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السفر
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2675): حدثنا أبوصالح محبوب بن موسى، أخبرنا أبوإسحاق الفزاري، عن أبي إسحاق الشيباني، عن ابن سعد قال غير أبي صالح عن الحسن بن سعد ، عن عبدالرحمن بن عبدالله، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش فجاء النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((من فجع هذه بولدها، ردوا ولدها إليها)) ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرق هذه))؟ قلنا: نحن، قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار?.
وأخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (382)، والحاكم (ج4 ص239) من طريق الحسن بن سعد، عن عبدالرحمن بن عبدالله عن أبيه، وهذا سند صحيح فالحسن وعبدالرحمن ثقتان وابن مسعود صحابي جليل.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (2613) من حديث هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أنه مر على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) فدخل على الأمير فحدثه فأمر بهم فخلوا.
المسافر يتحرى النفقة من المال الحلال(1/179)
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1015): وحدثني أبوكريب محمد بن العلاء، حدثنا أبوأسامة، حدثنا فضيل بن مرزوق، حدثني عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك?.
قال النووي رحمه الله عند هذا الحديث: معناه أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك، وقوله: وغذي بالحرام فأنى يستجاب له، أي: من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له. اهـ
الإيثار في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (4128): حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبوأسامة، عن بريد بن عبدالله بن أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في غزوة ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه، فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، وكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا.
وأخرجه مسلم (1816).
وقد ذكرنا حديث أبي سعيد الخدري في باب الشورى في السفر وفيه أنهم جمعوا ما عندهم من الطعام من قليل وكثير ثم جعلوه في إناء واحد وأكلوا.
وأخرج البخاري رقم (2486) ومسلم رقم (2500) حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن الأشعريين إذا أرملوا أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم)). اهـ(1/180)
وأخرج مسلم رقم (1728) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ جاء رجل فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا فضل له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له... الخ)).
وتقدم أن ذكرنا في باب الإرداف في السفر جملة أحاديث، والإرداف يعتبر إيثارا لمن لا راحلة له، وانظر باب إعانة الرفيق في السفر فقد ذكرنا فيه حديث جابر بن عبدالله أنهم كانوا في غزوة فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن من إخوانكم من لا مال له ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة)).
المسافر يستأذن والديه قبل السفر
وأخرج أبوداود رقم (2530)، والحاكم في ((المستدرك)) (ج2 ص103، 104)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج9 ص26)، وابن حبان (ج2 ص165) ((الإحسان))، كلهم من طريق عبدالله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجلا هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من اليمن فقال: يارسول الله إني هاجرت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?هل لك أحد باليمن؟? قال: أبواي، قال: ?أذنا لك? قال: لا، قال: ?فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما?.
وسند هذا الحديث ضعيف، علته دراج بن سمعان فيه ضعف وبروايته عن أبي الهيثم يشتد ضعفه. وأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج3 ص75، 76) من طريق دراج به، وهو وإن كان ضعيفا لكن يشهد له الحديث المتقدم قبله في ((الصحيحين)) بلفظ: ?فيهما فجاهد?، ورواية مسلم: ?ارجع إليهما فأحسن صحبتهما?.
قال جمهور العلماء: لا يلزم استئذان الوالدين قبل السفر إلا إذا كانا مسلمين. وهل يلحق الجد والجدة بالأبوين في الأذن منهما؟ الأصح عند الشافعية نعم. اهـ بتصرف يسير من ((فتح الباري)) (ج6 ص140).(1/181)
قلت: الأمر بالاستئذان في الحديث بالوالدين ولفظ الوالدين مثنى لا يتناول إلا الأب والأم. والله أعلم.
الوصية قبل السفر المخوف
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج5 ص355): حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده?. اهـ
وأخرجه مسلم رقم (1627).
قال النووي رحمه الله (ج11 ص84): وقد أجمع المسلمون على الأمر بها، لكن مذهبنا ومذهب الجمهور أنها مندوبة لا واجبة، لكن إن كان على الإنسان دين أو حق، أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، ويستحب تسجيلها وأن يكتبها في صحته ويشهد عليه فيها، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها. اهـ باختصار يسير.
البحث عن الرفقة قبل السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص137) رقم (2998): حدثنا أبوالوليد، حدثنا عاصم بن محمد قال: حدثني أبي، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده?.اهـ
وأخرج البخاري قبله حديث جابر بن عبدالله قال: ندب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير ثلاث مرات فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لكل نبي حواري، وحواري الزبير?. وبوب عليه البخاري باب هل يبيت الطليعة وحده.
قال الحافظ ابن حجر: فيه جواز سفر الرجل وحده للضرورة، وأن النهي عن السفر وحده إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك، وحيث تكون المصلحة لا تنتظم إلا بالانفراد كإرسال الجاسوس والطليعة والكراهة فيما عدا ذلك، ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الأمن من الضرر وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة. اهـ من ((الفتح)) بتصرف يسير.(1/182)
توديع المسافر أهله ومن له حق عليه ووصية المسافر قبل خروجه
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص115): باب التوديع وقال ابن وهب: أخبرني عمرو، عن بكير، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعث وقال لنا: ((إن لقيتم فلانا وفلانا لرجلين من قريش سماهما فحرقوهما بالنار)) قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال: ((إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما?.اهـ
وأخرجه البخاري رقم (3016) فقال: حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن بكير، عن سليمان بن يسار به، دون قوله: ثم أتينا نودعه. ووصله أبوبكر الإسماعيلي في ((مستخرجه)) فقال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا حرملة، قال: حدثنا ابن وهب به.
ورواه النسائي في ((السير)) عن الحارث بن مسكين، ويونس بن عبدالأعلى كلاهما عن ابن وهب به. انظر ((تغليق التعليق)) للحافظ ابن حجر (ج3 ص450).
وفيه الوصية للمسافر قبل خروجه وكما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنك ستأتي قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)).
المسافر يستودع الله أهله وماله وما أراد(1/183)
قال الإمام أحمد رحمه الله في ((المسند)) (ج2 ص87): حدثنا عبدالرحمن، حدثنا سفيان، عن نهشل بن مجمع، عن قزعة، عن ابن عمر، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إن لقمان الحكيم كان يقول إن الله عز وجل إذا استودع شيئا حفظه?.
وأخرجه النسائي في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (516) فقال: أخبرنا واصل بن عبدالأعلى، عن فضيل، عن نهشل بن مجمع به.
وأخرجه برقم (517) فقال: حدثنا الحسن بن إسماعيل بن سليمان، قال: أخبرنا عبده، عن سفيان الثوري، عن نهشل به.
وهذا سند صحيح، مداره على نهشل بن مجمع الضبي، وقد قال عنه تلميذه سفيان الثوري: حدثني نشهل بن مجمع وكان مرضيا، ووثقه ابن معين وأبوداود كما في ((تهذيب التهذيب)) وقزعة هو ابن يحيى ثقة وابن عمر صحابي جليل كما قد عرفت.
الدعاء للمسافر بالتثبيت والهداية
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3020): حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، حدثنا إسماعيل، حدثنا قيس، قال: قال لي جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ألا تريحني من ذي الخلصة)) وكان بيتا في خثعم يسمى الكعبة اليمانية، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال: ((اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا?.
وأخرجه مسلم (2476).
المسافر يودعه أهله
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2601): حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي جعفر الخطمي، عن محمد بن كعب، عن عبدالله الخطمي قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا أراد أن يستودع الجيش قال: ((أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم?.
وسنده صحيح كل رجاله ثقات.(1/184)
وأخرج ابن ماجه رقم (2826)، وأحمد في ((المسند)) (ج2 ص403)، والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (507) كلهم من طريق الحسن بن ثوبان أنه سمع موسى بن وردان يقول: أتيت أبا هريرة أودعه فقال: ألا أعلمك يا بن أخي شيئا علمنيه رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أقوله عند الوداع قلت: بلى... فذكر الحديث نحوه. وسنده حسن، الحسن بن ثوبان مصري صدوق عابد فاضل، وموسى بن وردان قاضي مصر وثقه أبوداود وضعفه ابن معين والدارقطني وقال أبوحاتم: لا بأس به وهو كما قال رحمه الله.
وهناك أحاديث في الباب تركناها اكتفاء بهذين الحديثين. انظرها إن شئت في ((كنز العمال)) للهندي (ج6 ص702-703). ولابد من معرفة حالها.
المسافر عند خروجه من بيته يتوكل على الله
قال الله عز وجل: {فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين(1)}.
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (5094): حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن منصور، عن الشعبي، عن أم سلمة قالت: ما خرج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: ((اللهم أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي?.
وأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج6 ص322.318.306)، وابن ماجه رقم (3884)، والنسائي (ج8 ص268)، والترمذي رقم (3427) من طرق عن منصور عن الشعبي عن أم سلمة. وهذا سند صحيح بلا أدنى شك، فمنصور هو ابن المعتمر أبوعتاب الكوفي ثقة ثبت متعبد صالح لا يختلف فيه أحد عمش من البكاء كما في ترجمته من ((تهذيب التهذيب)).
والشعبي هو عامر بن شراحيل أبوعمرو الكوفي ثقة فقيه فاضل مشهور. قال علي بن المديني: لم يلق أبا سعيد ولا أم سلمة كذا في ترجمته من ((التهذيب)) والصحيح أنه سمع منها فقد أثبت سماعه منها أبوداود كما في ((سؤالات الآجري)) له رقم (171) والمثبت مقدم على النافي لحصول العلم الزائد لديه بما أثبته.
__________
(1) ? ... سورة آل عمران، الآية:159.(1/185)
وقال أبوداود رحمه الله رقم (5094): حدثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله قال: يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فتتنحى له الشياطين?. اهـ
وأخرجه الترمذي رقم (3426)، والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) (89)، وابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) (75)، وابن حبان في ((صحيحه)) (ج3 رقم 822 الإحسان)، كلهم من طريق ابن جريج عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن أنس به. وابن جريج مدلس ذكره الحافظ من الطبقة الثالثة وقد عنعن في المصادر المتقدمة كلها.
وأخرجه الترمذي في ((العلل الكبير)) (ج2 ص910) باب رقم (407) في الدعوات وقال: سألت محمدا عن هذا الحديث؟ فقال: حدثوني عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج بهذا الحديث ولا أعرف لابن جريج عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة غير هذا الحديث ولا أعرف له سماعا منه.اهـ
وعلى هذا فما جاء في ((موارد الظمآن)) ص(590) رقم(2375) من تصريح ابن جريج بالتحديث قال: حدثنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة يخالف جميع النسخ المتقدمة مع أن الراوي له عن ابن جريج هو حجاج بن محمد في الأصل رقم(822) كما تقدم فيكون الخطأ إما مطبعي أو حصل لأبي بكر الهيثمي رحمه الله عند النقل من الصحيح فعلم أن التصريح بالتحديث غير معتمد لثلاثة أمور:
الأول: أنه خالف ما في أصله.
الثاني: أنه خالف جميع الأصول التي ذكرت الحديث.
الثالث: أن جزم الحفاظ مقدم على التصريح في نسخة من النسخ التي حظنا منها الوجادة لا غير.(1/186)
إذا عرفت أن الحديث منقطع بين ابن جريج وإسحاق بن عبدالله، فإليك شواهده: قال الإمام ابن ماجه رحمه الله رقم (3886): حدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا ابن أبي فديك، حدثني هارون بن هارون، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا خرج الرجل من باب بيته أو من باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال: بسم الله قالا: هديت، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قالا: وقيت، وإذا قال: توكلت على الله قالا: كفيت، قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي وكفي ووقي?.اهـ
وسنده كل رجاله ثقات إلا هارون بن هارون بن الهدير القرشي ففيه ضعف وهو علة هذا الحديث.
وله متابع آخر: قال رحمه الله رقم (3885): حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبدالله بن حسين بن عطاء بن يسار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا خرج من بيته قال: ((بسم الله لا حول ولا قوة إلا بالله التكلان على الله?.
علته عبدالله بن حسين ضعيف أشد ما قيل فيه قول البخاري: فيه نظر، ومن طريقه أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) رقم (1197)، والحاكم (ج1 ص519).
وله شاهد آخر: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وجدت لحديث أنس شاهدا قوي الإسناد لكنه مرسل، عن عون بن عبدالله بن عتبة: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال.. فذكر الحديث. انظر ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (ج1 ص335-336).
وله شاهد آخر: عن عثمان، أخرجه ابن السني في ((عمل اليوم والليلة)) ص(231) رقم (490)، وأحمد في ((المسند)) (ج1 ص65) من طريق أبي جعفر الرازي عن عبدالعزيز بن عمر عن صالح بن كيسان عند أحمد عن رجل عن عثمان، وعند الدينوري عن صالح بن كيسان عن ابن لعثمان بن عفان قال: قال رسول الله.. فذكر الحديث نحوه.(1/187)
وهو ضعيف فيه أبوجعفر لين، وفيه رجل مبهم. فبهذه الشواهد يصير الحديث حسنا والحمد لله.
القيلولة في السفر إذا احتاج المسافر لذلك
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص97): حدثنا أبواليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، حدثنا سنان بن أبي سنان، وأبوسلمة أن جابرا أخبره (ح) وحدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي، أن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر فنزل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تحت شجرة فعلق بها سيفه ثم نام فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن هذا اخترط سيفي فقال: من يمنعك؟ قلت: الله، فشام السيف فها هو ذا جالس)) ثم لم يعاقبه.
وأخرجه مسلم رقم (843) وكان هذا قبل أن يؤمروا بالاجتماع عند النزول وعدم التفرق كما سيأتي.
كراهية تفرق المسافرين عند النزول حال سفرهم
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2628): حدثنا عمرو بن عثمان الحمصي، ويزيد بن قبيس من أهل جبلة ساحل حمص، وهذا لفظ يزيد قالا: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبدالله بن العلاء أنه سمع مسلم بن مشكم أبا عبيدالله يقول: حدثنا أبوثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزلوا منزلا قال عمرو: كان الناس إذا نزل رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- منزلا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)) فلم ينزل بعد ذلك منزلا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم. اهـ
وسنده صحيح كل رجاله ثقات غير أن الوليد بن مسلم مدلس وقد عنعن في هذه الطريق.(1/188)
وقد أخرج الحديث أحمد في ((المسند)) (ج4 ص193)، والنسائي في ((الكبرى)) رقم (8856)، والحاكم (ج2 ص115)، وابن حبان (ج6 رقم 2690) الإحسان، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج9 ص152) من طريق الوليد بن مسلم به، وقد صرح الوليد بن مسلم بالتحديث عند أحمد وابن حبان فأمنا من تدليسه وصح الحديث والحمد لله.
الأمير يتأخر في السير فيردف الضعيف ويتفقد أحوال رعيته في السفر
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2639): حدثنا الحسن بن شوكر، حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان، عن أبي الزبير، أن جابر ابن عبدالله حدثهم قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يتخلف في المسير فيزجي(1)الضعيف ويردف ويدعو لهم.
وأخرجه البيهقي في ((الكبرى)) (ج5 ص257)، والحاكم (ج2 ص115) من طريق الحجاج بن أبي عثمان وهو ثقة حافظ، وأبوالزبير صدوق وقد صرح بالتحديث فكان الحديث حسنا.
كيفية نوم المسافر بالليل وقبل الفجر
عن أبي قتادة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا كان في سفر فعرس بليل اضطجع على يمينه، وإذا عرس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه.
أخرجه مسلم رقم (683).
وقال النووي: قال العلماء: إنما نصب ذراعه لئلا يستغرق في النوم فتفوت صلاة الصبح عن وقتها أو عن أول وقتها.
الإسراع في المشي يخفف التعب على المسافر
قال الإمام البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص263): حدثنا محمد بن معمر، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: شكا ناس الشقة في السفر فدعا لهم وقال: ?عليكم بالنسلان?(2)فانتسلنا فوجدناه أخف علينا.
__________
(1) ? ... أي يسوقهم، كما في ?جامع الأصول? لابن الأثير (ج5 ص23).
(2) ? ... قال ابن الأثير النسلان: الإسراع في المشي. ? من ?النهاية?.(1/189)
وأخرجه الحاكم في ((المستدرك)) (ج1 ص443) و(ج2 ص101) من طريق روح بن عبادة عن ابن جريج به. وروح ثقة فاضل، وابن جريج كذلك وجعفر بن محمد صدوق إمام معروف بالصدق والصحيح أنه ثقة وأبوه ثقة فاضل فهذا السند صحيح كل رجاله ثقات.
وقد أخرجه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج4 ص139) رقم (2536) فقال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبدالوهاب بن عبدالمجيد، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر.. فذكر الحديث.
وأخرجه أبويعلى في ((مسنده)) (ج3 ص400-401)، والحاكم (ج2 ص101).
ما يقول المسافر إذا نزل منزلا
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (2708): حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، (ح) وحدثنا محمد بن رمح واللفظ له، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الحارث بن يعقوب، أن يعقوب بن عبدالله حدثه أنه سمع بسر بن سعيد يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك?.
وفي رواية: ((إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه)).
ما يقول المسافر إذا رأى قرية يريد دخولها(1/190)
قال الإمام النسائي رحمه الله في ((عمل اليوم والليلة)) ص (367): أخبرنا محمد بن نصر، قال: حدثنا أيوب بن سليمان بن بلال، قال: حدثني أبوبكر، عن سليمان، عن أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، أنه كان يسمع قراءة عمر بن الخطاب وهو يؤم الناس في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من دار أبي جهم، قال كعب الأحبار: والذي فلق البحر لموسى إن صهيبا حدثني أن محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: ?اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها?. وحلف كعب بالذي فلق البحر لموسى أنها كانت دعوات داود حين يرى العدو.
سند الحديث صحيح كل رجاله ثقات.
الانتضال وتعلم الرماية في السفر والموعظة والتعليم(1/191)
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1844): حدثنا زهير بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال زهير: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبدالرحمن بن عبدرب الكعبة، قال: دخلت المسجد فإذا عبدالله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر?.
وصية المقيم للمسافر
قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج5 ص3445): حدثنا موسى بن عبدالرحمن الكندي الكوفي، حدثنا زيد بن حباب، أخبرني أسامة بن زيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله إني أريد أن أسافر فأوصني؟ قال: ((عليك بتقوى الله والتكبير على كل شرف))، فلما أن ولى الرجل قال: ((اللهم اطو له الأرض وهون عليه السفر?.(1/192)
أخرجه الترمذي (ج5 رقم 3445)، والنسائي في ((عمل اليوم والليلة)) رقم (505) باب ما يقول الشاخص، وابن أبي شيبة (ج12 ص517)، وابن ماجه رقم (2771)، وأحمد (ج2 ص325، 331، 443، 476)، وابن خزيمة، وابن حبان في ((الموارد)) (2378)، والبيهقي في ((السنن)) (ج5 ص251)، والحاكم (ج2 ص98) كلهم من طريق أسامة بن زيد الليثي عن سعيد المقبري به، وأسامة بن زيد الليثي يصلح في الشواهد، وثقه ابن معين وقال ابن عدي: لا بأس به، وقال أحمد: ليس بشيء، وضعفه يحيى القطان وقال النسائي: ليس بالقوي.
وللحديث شاهد من حديث أنس عند ابن السني رقم (502-503)، يصير به حسنا.
دعوة المسافر مستجابة ما لم يحصل لها مانع
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (1536): حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدستوائي، عن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم?.
وأخرجه الترمذي (ج4 ص314)، وأبوجعفر الذي روى عن أبي هريرة يقال له أبوجعفر المؤذن لا نعرف اسمه وقد روى عنه يحيى بن أبي كثير غير حديث. اهـ
أخرجه ابن ماجه رقم (3862)، والطيالسي رقم (2517)، وأحمد (ج2 ص258، 348، 478، 517، 523)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (32، 481)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج5 ص195)، وابن حبان (ج6 ص416 ((الإحسان)))، والطبراني في ((الدعاء)) رقم (1313، 1314، 1323، 1324) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي جعفر الأنصاري المؤذن، ويحيى مدلس عده الحافظ في مراتب المدلسين من الثانية، لكنه قد صرح بالتحديث عن أبي جعفر هذا عند أحمد (ج2 ص348)، وأبوجعفر صرح بالسماع من أبي هريرة في ((الأدب المفرد))، و((مسند أحمد)) و((مسند الطيالسي)) وغيرها.
وأبوجعفر قال بعضهم: إنه الباقر وهذا غير صحيح كما رده الحافظ في ((التهذيب)) وذلك لعدة أمور:(1/193)
أن الباقر لا يقال له المؤذن، وقد قيل في هذا في بعض الروايات المؤذن.
أن هذا صرح بالسماع من أبي هريرة في عدة مصادر والباقر روايته عن أبي هريرة منقطعة، لأنه ولد سنة ستة وخمسين، وأبوهريرة مات سنة سبع وخمسين، وقيل تسع وخمسين، فمتى يكون سمع منه؟ أبعد مولده بسنة؟!
فعلم أن أبا جعفر في السند هو المؤذن كما أثبته الترمذي والمزي وابن حجر، وهو المؤذن تقدم لك أنه مجهول وهذا الحديث مذكور عند ترجمته وهو علته.
لكن للحديث شاهد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال الإمام أحمد رحمه الله في ((مسنده)) (ج4 ص154): حدثنا عبدالرزاق، قال: حدثنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن عبدالله بن زيد الأزرق، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?غيرتان إحداهما يحبها الله والأخرى يبغضها..?. وذكر الحديث وفيه قال: ?وثلاثة مستجاب لهم دعوتهم المسافر والوالد والمظلوم..? الخ.
وسنده ضعيف فيه عنعنة يحيى بن أبي كثير وتقدم أنه مدلس من الثانية واختلف في سماعه من زيد بن سلام، والصحيح أنه سمع منه، أثبت سماعه منه أبوحاتم في ((المراسيل)) لابنه ص (187)، والإمام أحمد كما في ((جامع التحصيل)) قال: ما أشبهه ورواية معمر عن يحيى غير متبينة، حدث عن يحيى بالبصرة ففيه عنه أغاليط. انظر ((سؤالات الآجري)) لأبي داود رقم (1043).
وعبدالله بن زيد الأزرق مجهول. انظر ((الميزان)) و((الثقات)) لابن حبان (ج5 ص15) قال: عنده في أهل دمشق ولم يذكر فيه أبوحاتم ولا البخاري جرحا ولا تعديلا. ومن طريقه عن معمر عن يحيى به.
أخرجه الخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ج12 ص380-381)، وابن القطان في ((بيان الوهم والإيهام)) (ج4 ص624). فالحديث ضعيف.(1/194)
وله شاهد آخر عن أنس عند البيهقي في ((الكبرى)) (ج3 ص345) بلفظ: ?ثلاث دعوات لا ترد، دعوة الوالد ودعوة الصائم ودعوة المسافر?. من طريق أبي العباس الأصم وهو ثقة عن إبراهيم بن بكر المروزي قال: حدثنا السهمي يعني عبدالله بن بكر قال حدثنا حميد الطويل عن أنس.. فذكره مرفوعا.
وأخرجه ابن أبي شيبة (ج10 ص429) من طريق السهمي عن هشام الدستوائي عن يحيى عن أبي جعفر عن أبي هريرة.. فذكره مرفوعا.
وأنت ترى أن إبراهيم بن بكر المروزي روى الحديث عن السهمي عن حميد عن أنس. وابن أبي شيبة رواه عن السهمي عن الدستوائي عن يحيى عن أبي جعفر عن أبي هريرة وإبراهيم بن بكر المروزي قال ابن الجوزي: إبراهيم ابن بكر ستة في الحديث لا نعلم منهم ضعيفا غير هذا. اهـ من ((المتروكين)) (ج1 ص27).
وقال الذهبي في ((الميزان)): متروك ولو سمى لنا ابن الجوزي الباقين لأفادنا. قال الحافظ ابن حجر في ((اللسان)) عند ترجمة إبراهيم بن بكر: هذا قد ذكرهم الخطيب في ((المتفق والمفترف)) ومنه نقل ابن الجوزي ثم ذكر الحافظ الستة كلهم.اهـ
ولا شك أن ابن أبي شيبة أشهر ومن أثنى عليه أكثر بل المروزي بجانبه لا يذكر وروايته عن أنس تنكر، فعاد الحديث إلى أبي هريرة واستقر فإياك بمثل هذا الشاهد أن تغتر به.
وقد ذكر البزار رحمه الله كما في ((كشف الأستار)) (ج4 ص39) حديث أبي هريرة من طريق إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة ?ثلاثة حق على الله أن لا يرد لهم دعوه..?. وذكر منهم المسافر.
وإبراهيم بن خثيم متروك كما في ((مجمع الزوائد)) (ج10 ص146) فأنا الآن لها أقوى أن أقول بالاحتجاج بهذا الحديث، لكن تقدم لنا في حديث أبي هريرة عند مسلم في باب المسافر يتحرى النفقة الحلال وفيه: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذكر الرجل يطيل السفر يمد يديه يا رب يا رب.. إلخ. الحديث.
ففيه شاهد للفظة المسافر من هذا الحديث فتصير صالحة للحجية.(1/195)
كراهة الاختلاف في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (7172): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا العقدي، حدثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، قال: سمعت أبي، قال: بعث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أبي ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا?.
أخرجه مسلم (1733). وتقدم حديث معاذ في وصية المسافر: ?إنك تقدم على قوم أهل كتاب..? إلخ. متفق عليه.
لا بأس بالسرعة من غير خطورة إذا رأى المسافر قريته
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1886): حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل ابن جعفر، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها من حبها أي المدينة .
استقبال كبير القوم إذا قدم من سفر
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (2428): حدثنا يحيى بن يحيى، وأبوبكر بن أبي شيبة، واللفظ ليحيى، قال أبوبكر: حدثنا، وقال يحيى: أخبرنا أبومعاوية، عن عاصم الأحول، عن مورق العجلي، عن عبدالله بن جعفر قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه، فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مكة استقبلته أغيلمة بني عبدالمطلب فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه.
أخرجه البخاري (ج10 ص395) باب الارتداف على الدابة باب الارتداف ثلاثة على الدابة.
إذا أطال المسافر الغيبة ورجع إلى بلده لا يطرقن على أهله ليلا وليأتهم في أول النهار أو آخره(1/196)
قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الإمارة رقم (1928): وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد يعني ابن جعفر، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن جابر بن عبدالله قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقا.
وفي رواية: نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يلتمس عثراتهم.
أخرجه البخاري (ج9 ص339) في النكاح باب لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية.
قال الإمام النووي رحمه الله: ومعنى هذه الروايات كلها أنه يكره لمن طاله سفره أن يقدم على امرأته ليلا بغتة، فأما من كان سفره قريبا تتوقع امرأته اتيانه ليلا فلا بأس، وإذا اشتهر قدومه وعلمت امرأته وأهله أنه قادم معهم وأنهم الآن داخلون.
قلت: وقد تقدم في باب أمير المسافرين يتفقد رفقته، قول الحافظ في الجمع بين هذا الحديث وذاك بنحو ما ذكره النووي هنا.
المعانقة عند القدوم من السفر
قال الإمام الطبراني رحمه الله في ((الأوسط)) (ج1 ص101) رقم (97): حدثنا يحيى بن خالد بن حيان الرقي، قال: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا عبدالسلام بن حرب، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي ذكره ابن أبي يعلى في ((طبقات الحنابلة)) رقم (81)، وابن مفلح في ((المقصد الأرشد)) (ج1 رقم 187)، والعليمي في ((المنهج الأحمد)) (ج1 رقم 307) كلهم قالوا: روى عن إمامنا أحمد ولم يذكروا فيه جرحا ولا تعديلا.
يحيى بن سليمان الجعفي روى عنه جمع واعتمده البخاري في ((صحيحه)) ووثقه الدارقطني والعقيلي وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به له أحاديث مناكير وضعفه النسائي فقال ليس بثقة.اهـ(1/197)
فقد تعارضت فيه الأقوال والوسط في حاله أنه حسن الحديث ما لم يكن من أخطائه كما حكم عليه الحافظ في ((التقريب)) أنه صدوق يخطئ، وباقي رجال السند ثقات.
وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج8 ص36): رجاله رجال الصحيح وقال الحافظ المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (ج3 ص423) رقم (4007): رواه الطبراني ورواته محتج بهم في الصحيح.
وذكر البيهقي في ((الكبرى)) (ج7 ص100) بسند صحيح عن الشعبي قال: كان أصحاب محمد إذا التقوا صافحوا، فإذا قدموا من سفر عانق بعضهم بعضا.
وأخرج أحمد في ((المسند)) (ج3 ص495) والبخاري في ((الأدب المفرد)) رقم (973) حديث جابر من طريق عبدالله بن محمد بن عقيل سمع جابر بن عبدالله وذكر قصة رحلته إلى عبدالله بن أنيس شهرا إلى مصر من أجل حديث: لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، قال: قلت: وكيف قال: إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما أي الحسنات والسيئات.
والحديث حسن وقد توبع عبدالله بن محمد بن عقيل.
وشاهدنا فيه هنا أن عبدالله بن أنيس لما خرج على جابر اعتنق كل منهما الآخر كما في الحديث فثبتت المعانقة من فعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في القدوم من السفر ولا مخالف لذلك منهم.
وحديث أنس في أول الباب نص في ذلك.
المرأة تستقبل زوجها إذا قدم من سفر عند دخوله البيت(1/198)
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (4153): حدثنا وهب بن بقية، أخبرنا خالد، عن سهيل يعني ابن أبي صالح، عن سعيد بن يسار الأنصاري، عن زيد ابن خالد الجهني، عن أبي طلحة الأنصاري قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تمثال)) وقال: انطلق بنا إلى أم المؤمنين عائشة نسألها عن ذلك، فانطلقنا فقلنا: يا أم المؤمنين إن أبا طلحة حدثنا عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بكذا وكذا، فهل سمعت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يذكر ذلك؟ قالت: لا ولكن سأحدثكم بما رأيته فعل، خرج رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض مغازيه وكنت أتحين قفوله، فأخذت نمطا كان لنا فسترته على العرض(1)فلما جاء استقبلته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الحمد لله الذي أعزك وأكرمك. فنظر إلى البيت فرأى النمط فلم يرد علي شيئا، ورأيت الكراهية في وجهه فأتى النمط حتى هتكه ثم قال: ((إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن)) قالت: فقطعته وجعلته وسادتين وحشوتهما ليفا فلم ينكر ذلك علي.
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن سهيل بإسناده مثله.
وسنده حسن، سهيل صدوق وأبوه ثقة، وسعيد بن يسار أرفع من ثقة وزيد بن خالد الجهني وأبوطلحة صحابيان جليلان، ومن طريق جرير عن سهيل أخرجه مسلم (ج3 ص1666) رقم (2107) بدون زيادة (فاستقبلته) وزادها عثمان بن أبي شيبة ووهب بن بقية وهما إمامان.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في غزو فلما دخل استقبلته فأخذت بيده فقلت: الحمد لله الذي نصرك وأعزك وأكرمك.
أخرجه ابن السني في ((عمل اليوم والليلة)). وسنده حسن.
أذكار الرجوع من السفر
__________
(1) ? ... الخشبة المعترضة بسقف البيت.(1/199)
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1345): وحدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن علية، عن يحيى بن أبي إسحاق، قال: قال أنس بن مالك: أقبلنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنا وأبوطلحة وصفية رديفته على ناقته، حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة.
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2995): حدثنا عبدالله، قال: حدثني عبدالعزيز بن أبي سلمة، عن صالح بن كيسان، عن سالم بن عبدالله، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا قفل من الحج أو العمرة ولا أعلمه إلا قال: الغزو يقول كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا ثم قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده?.
أخرجه مسلم رقم (1344).
تعجيل المسافر الرجوع إلى أهله وإذا رجع فليبدأ بالمسجد
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص193): حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن محارب بن دثار، قال: سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فلما قدمنا المدينة قال لي: ((ادخل المسجد فصل ركعتين?.
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3088):حدثنا أبوعاصم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب، عن أبيه وعمه عبيدالله بن كعب، عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا قدم من سفر ضحى دخل المسجد فصلى ركعتين قبل أن يجلس. وفي رواية: بدأ بالمسجد.(1/200)
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3000): حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني زيد هو ابن أسلم، عن أبيه قال: كنت مع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بطريق مكة، فبلغه عن صفية بنت أبي عبيد شدة وجع، فأسرع السير حتى إذا كان بعد غروب الشفق ثم نزل فصلى المغرب والعتمة يجمع بينهما وقال: إني رأيت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا جد به السير أخر المغرب وجمع بينهما.. الحديث.
أخرجه مسلم رقم (703).
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3001): حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله?.
أخرجه مسلم رقم (1927).
عن عروة بن مضرس الطائي قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالموقف يعني بجمع قلت: جئت يا رسول الله من جبل طيئ أكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه?.
أخرجه أبوداود (1950)، والترمذي (ج1 ص169)، وابن ماجه (3016)، والنسائي (ج5 ص263)، وأحمد (ج4 ص262.261.15)، وابن الجارود (467)، والطيالسي (1282)، والحاكم (ج1 ص463) كلهم من طريق عامر بن شراحيل الشعبي قال: أخبرني عروة بن مضرس به، وهذا سند صحيح على شرط الشيخين، فالشعبي أرفع من ثقة، وعروة صحابي جليل.
آداب قضاء الحاجة في السفر(1/201)
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (342): حدثنا شيبان بن فروخ، وعبدالله ابن محمد بن أسماء الضبعي، قالا: حدثنا مهدي وهو ابن ميمون، حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، عن عبدالله بن جعفر قال: أردفني رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل.
أخرجه أبوداود (2549)، وأحمد (ج1 ص204)، وسيأتي في باب الأمر بالمعروف في السفر.
وتقدم حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في باب اللباس في السفر أنه قال كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر وأنه ذهب لحاجته ولما رجع جعل مغيرة يصب الماء وهو يتوضأ.
وأخرج البخاري رقم (181) ومسلم (1280) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب فقضى حاجته، قال أسامة: فجعلت أصب عليه الماء ويتوضأ، فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ قال: ((المصلى أمامك)). ففي هذه الأحاديث أن المسافر إذا أراد أن يقضي حاجته يبتعد عن طريق الناس ويستتر عن رؤيتهم.
كل الناس في الدنيا مسافرون فينبغي أن يدركوا ذلك
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج11 ص233) باب قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل?: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا محمد بن عبدالرحمن أبوالمنذر الطفاوي، عن سليمان الأعمش، قال: حدثني مجاهد، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.(1/202)
زاد البغوي في ((شرح السنة)): ?وأعد نفسك من أهل القبور?. وهي زيادة ضعيفة منكرة يرويها الليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عبدالله بن عمر وخالف الأعمش وغيره، مع أنه لم يسمع من مجاهد فهي زيادة ضعيفة ولو لم يخالف فيها فكيف وقد خالف الثقات.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال: ((ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها?.
أخرجه أحمد (ج1 ص391، 441)، وابن ماجه (4109)، والترمذي في الزهد (ج4 ص588، 2377)، وابن حبان (2526)، والحاكم (ج4 ص310) من طرق عن المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله بن مسعود قال: نام رسول الله.. فذكر الحديث.
وقد رواه عن المسعودي جماعة منهم وكيع ويزيد بن هارون وزيد بن الحباب وجعفر بن عون وغيرهم وبعضهم سمع منه قبل الاختلاط وهو في ذاته صدوق وباقي رجال السند ثقات، فالحديث حسن.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه ومدة سفره هي عمره الذي كتب له، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار.
ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر، فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالما غانما ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاء، فقطعوا تلك المراحل بما يسخط الرب ومعاداته ومعاداة رسله وأوليائه ودينه والسعي في إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة دعوة غيرها. اهـ المراد من ((طريق الهجرتين)) (185-186).(1/203)
ومن أدلة هذا الباب ما أخرجه مسلم رقم (223) من حديث الحارث الأشعري بلفظ: ((كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها))، وقد صح من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه عند أحمد في ((المسند)) (ج3 ص321) وعبدالرزاق في ((المصنف)) (ج11 ص345) جامع معمر من طريق عبدالله بن خثيم عن عبدالرحمن بن سابط عن جابر بن عبدالله أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لكعب بن عجرة: ((يا كعب بن عجرة الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها)).
والشاهد من الحديث لفظ الغدو فإنه يدخل فيه السفر وغيره.
القادم من السفر يقبل أبناءه
حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا قدم من سفر قبل ابنته فاطمة.
أخرجه الطبراني رقم (4117)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ج3 ص460).
قال ابن أبي شيبة: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا حسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس... فذكر الحديث.
وهو عند الطبراني من طريق أسود بن حفص المروزي قال: حدثنا حسين ابن واقد به.
ويزيد بن أبي سعيد النحوي ثقة، فسند الحديث حسن كما ترى.
المسافر إلى أرض العدو لا يحمل مصحفا إلا إذا أمن عليه من الامتهان
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 رقم 2990): كراهية السفر بالمصحف إلى أرض العدو وهم يعلمون القرآن: حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن نافع، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
وأخرجه مسلم (ج3 ص1490-1491) وزاد: مخافة أن يناله العدو. وفي رواية له: فإني لا آمن أن يناله العدو.
قال الحافظ رحمه الله: أشار البخاري بذلك إلى أن المراد بالنهي عن السفر بالقرآن السفر بالمصحف خشية أن يناله العدو لا السفر بالقرآن نفسه.(1/204)
وقال ابن عبدالبر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه واختلفوا في السفر بالمصحف مع العسكر الكبير المأمون عليه فمنع من ذلك مالك مطلقا وأدار الشافعي الكراهة مع الخوف وجودا وعدما ونقل الحافظ عدم الخلاف في تحريم بيع المصحف من الكافر لكونه يتمكن من الاستهانة به. اهـ من ((الفتح)) (ج6 ص156).
وقال النووي: وفيه النهي عن المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار للعلة المذكورة في الحديث وهي خوف أن ينالوه فينتهكوا حرمته فإن أمنت هذه العلة بأن يدخل في جيش المسلمين الظاهرين عليهم فلا كراهة ولا منع منه حينئذ لعدم العلة هذا هو الصحيح وبه قال أبوحنيفة والبخاري وآخرون، واتفق العلماء أنه يجوز أن يكتب إليهم كتاب فيه آية أو آيات والحجة فيه كتاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى هرقل. اهـ المراد من ((شرح مسلم)) (ج13 ص14). والزيادة على هذا القول عبث.
الذكر والدعاء عند الركوب على الراحلة لمن أراد السفر
قال تعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ? لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين(1)}.
__________
(1) ? ... سورة الزخرف، الآية:12-14.(1/205)
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج9 ص110): حدثني هارون بن عبدالله، حدثنا حجاج بن محمد، قال: قال ابن جريج: أخبرني أبوالزبير أن عليا الأزدي أخبره أن ابن عمر علمهم أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: {((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ? وإنا إلى ربنا لمنقلبون} اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل، وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون?.اهـ
وعن عبدالله بن سرجس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال.
أخرجه مسلم (ج9 ص111) نووي، وأخرجه أحمد (ج5 ص83) بلفظ ?اللهم أصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا?. وسنده حسن ((مفردات الكلمات الغريبة)).
قال النووي: مقرنين مطيقين وعثاء بفتح الواو وسكون العين المهملة هي الشدة والكآبة هي تغير النفس من حزن وغيره، والمنقلب المرجع، والحور بعد الكور معناه الرجوع من الاستقامة أو الزيادة إلى النقص أو الرجوع من الخير إلى شيء من الشر.
من أنواع أذكار الركوب للسفر(1/206)
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2602): حدثنا مسدد، حدثنا أبوالأحوص، حدثنا أبوإسحاق الهمداني، عن علي بن ربيعة قال: شهدت عليا رضي الله عنه وأتي بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات ثم قال: سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك، فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: ((إن ربك يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري(1)?.
وأخرجه أحمد (ج1 ص97، 115، 128)، والترمذي رقم (3446) في الدعوات باب ما يقول إذا ركب الناقة، والطيالسي رقم (132)، وابن حبان (ج6 ص415 ((الإحسان)))، والنسائي في ((اليوم والليلة)) رقم (502)، والدينوري ص (234)، والحاكم (ج2 ص99) من طرق عن أبي إسحاق السبيعي به، وأخرجه الحاكم (ج2 ص98) من طريق المنهال بن عمرو عن علي بن ربيعة به.
فصار مخرج الحديث علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي وهو ثقة وثقه النسائي وابن نمير والعجلي وغيرهم كما في ((التهذيب)) وأثبت سماعه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه البخاري في ((تاريخه الكبير)) (ج6 ص273) فكان الحديث صحيحا باطمئنان.
وهذا الحديث فيه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- دعا بهذا الدعاء مطلقا بغير قيد لفظة سفر، فيحمل المطلق على المقيد، وهو أن هذا الدعاء يشرع لمن ركب راحلته مريدا السفر، أما من ركب راحلته لغير سفر فلا يقول ذلك، والآية وإن كانت تعم المسافر وغيره لكن حديث ابن عمر وعبدالله بن سرجس وغيرهما يخصصانها والله أعلم.
__________
(1) ? ... كذا في بعض المصادر المذكورة وفي بعضها ?لا يغفر الذنوب إلا أنت?.(1/207)
من أذكار الخروج إلى السفر
قال الإمام أبويعلى رحمه الله (ج3 ص226): حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا جرير وهو ابن عبدالحميد عن فطر، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا خرج إلى سفر قال: ?اللهم بلاغا يبلغ خيرا، مغفرة منك ورضوانا، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم هون علينا السفر، واطو لنا الأرض، اللهم أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب?.
ومن طريقه أخرجه أبوبكر الدينوري في ((اليوم والليلة)) رقم (493). وسنده صحيح كل رجاله ثقات إلا فطر بن خليفة وقد وثقه يحيى بن سعيد ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل والنسائي وابن سعد والعجلي والساجي وأبوزرعة.
وإنما تكلم فيه بعضهم بسبب المذهب لأنه رمي بالتشيع وقد أخرج له البخاري حديث عبدالله بن عمرو: ((ليس الواصل بالمكافئ)) مقرونا بالأعمش والحسن. انظر ((هدي الساري)) (581)، طبعة دار الحديث.
المسافر لا يصحب معه كلبا ولا جرسا ولا يستمع مزامير الشيطان
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج3 ص1672): حدثنا أبوكامل فضيل بن حسين الجحدري، حدثنا بشر يعني ابن مفضل، حدثنا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس?.
وحدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل يعنون ابن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((الجرس مزامير الشيطان?.
وأخرج البخاري رقم (952) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبوبكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاول الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين فقال: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(1/208)
وهذا وهما ليستا بمغنيتين وأيضا تذكران شعر الحروب الذي يعتبر خاليا عما يمرض القلوب ومع ذلك سماه أبوبكر مزامير الشيطان وقد نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن السفر مع رفقة فيها جرس لأن الجرس مزامير الشيطان فعلم من ذلك أنه لا يجوز السفر مع رفقة تستمع مزامير الشيطان من الأغاني المحرمة التي تصف الخدود والقدود وتغضب ربنا المعبود.
وقد اتفق جمهور السلف رحمة الله عليهم على تحريمها فقال الإمام مالك: إنما يفعله عندنا الفساق، وكذا قال إبراهيم بن المنذر. وقال سعيد بن المسيب: إني لأبغض الغناء، وقال الشعبي: الغناء ينبت النفاق في القلب.
وفسر ابن مسعود وغيره قول الله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم}، بأن لهو الحديث الذي ينتج عنه الضلال هو الغناء.
وثبت في ((صحيح البخاري)) كتاب الأشربة حديث أبي مالك الأشعري: ?ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف?. وهو معلق عند البخاري بصيغة الجزم وموصول خارج الصحيح قد بينا ذلك في تخريج ((إصلاح المجتمع)). وانظر ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم رحمه الله، و((الاستقامة)) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ج1 ص294)، و((منهاج السنة)) (ج3 ص439)، وكتاب ((تحريم آلات الطرب)) للعلامة الألباني حفظه الله.
وكن أيها المسلم لنفسك ناصحا أمينا قبل أن يأتي عليك يوم تقول فيه {ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين}.
يشرع سماع الشعر المباح أو الحداء في السفر(1/209)
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص553) كتاب الأدب باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنيهاتك قال: وكان عامر رجلا شاعرا، فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا فاغفر فداء(1)لك ما اقتفينا وألقين سكينة علينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا وثبت الأقدام إن لاقينا إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
__________
(1) ? ... قال الحافظ ابن حجر رحمه الله (ج7 ص465): وقد استشكل هذا الكلام لأنه لا يقال في حق الله، إذ معنى فداء لك: نفديك بأنفسنا وحذف متعلق الفداء للشهرة، وإنما يتصور الفداء لمن يجوز عليه الفناء، وأجيب عن ذلك بأنها كلمة لا يراد بها ظاهرها. ?(1/210)
فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من هذا السائق))؟ قالوا: عامر بن الأكوع، فقال: ((يرحمه الله)) فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله لولا أمتعتنا به، قال: فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة، ثم إن الله فتحها عليهم فلما أمسى الناس اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ما هذه النيران على أي شيء توقدون))؟ قالوا: على لحم، قال: ((على أي لحم))؟ قالوا: على لحم حمر إنسية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((أهرقوها واكسروها)) فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ قال: ((أو ذاك)) فلما تصاف القوم كان سيف عامر فيه قصر فتناول به يهوديا ليضربه ويرجع ذباب سيفه فأصاب ركبة عامر فمات منه، فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- شاحبا، فقال لي: ((ما لك))؟ فقلت: فدى لك أبي وأمي زعموا أن عامرا حبط عمله؟ قال: ((من قاله)) قلت: قاله فلان وفلان وفلان وأسيد بن الحضير الأنصاري، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((كذب من قاله، إن له لأجرين وجمع بين إصبعيه إنه لجاهد مجاهد قل عربي نشأ بها مثله?
وأخرجه مسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط وافر قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقا بالألحان التي تستحل عليها الموسيقى وفيه نظر. اهـ من ((فتح الباري)) (ج10 ص559).
وسبق بيان تحريم الغناء في السفر وغيره بيانا موجزا مع الإحالة إلى مصادر البحث الكافية في الباب الذي قبل هذا.(1/211)
تنبيه: وقد جاء في ((عمل اليوم والليلة)) للنسائي رقم (532)، والدينوري رقم (512): أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في مسير فقال لابن رواحة: ?أنزل فحرك الركاب?، فقال: يا رسول الله قد تركت ذلك، فقال له عمر: اسمع وأطع فرمى بنفسه فقال:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا فانزلن سكينة علينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا وثبت الأقدام إن لاقينا
ورجال إسناده كلهم ثقات غير أن فيه عنعنة عمر بن علي المقدمي وهو مدلس من الرابعة كما في ((مراتب المدلسين)) للحافظ ابن حجر فبها يضعف هذا الحديث.
وفي البخاري (ج1 ص456)، ومسلم رقم (2323) من حديث أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان له حاديا يقال له (أنجشة) وكان حسن الصوت فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?رويدك يا أنجشة سوقا بالقوارير?. وفي رواية: ?رويدك لا تكسر القوارير?.
قال قتادة: يعني ضعفة النساء.
حكم السمر للمسافر بعد صلاة العشاء إذا احتاج له
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص412): حدثنا عفان، حدثنا شعبة، أخبرني منصور، قال: سمعت خيثمة، عن عبدالله، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((لا سمر إلا لأحد رجلين: لمصل أو مسافر?.اهـ
وأخرجه (ج1 ص463) فقال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة قال: سمعت منصورا، عن خيثمة بن عبدالرحمن به.
ومنها أخرجه الطيالسي رقم (365)، وأبونعيم في ((الحلية)) (ج4 ص121)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ج14 ص286) وخيثمة بن عبدالرحمن لم يسمع من عبدالله بن مسعود كما في ((جامع التحصيل)) فهو منقطع.
وأخرجه أحمد (ج1 ص444) فقال: حدثنا يحيى، عن سفيان الثوري، قال: حدثني منصور، عن خيثمة، عمن سمع ابن مسعود به، وبهذا السند أخرجه الترمذي في ((جامعه)) (ج5 ص71)، وأبونعيم (ج4 ص121)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (ج1 ص561) ورجح البخاري هذه الطريق كما في ((العلل الكبير)) للترمذي(1).
__________
(1) ? ... وهو خطأ، والتصويب من ?معجم الطبراني?.(1/212)
وأخرجه أبويعلى في ((المسند)) (ج9 ص257) رقم (5378) فقال: حدثنا أبوخيثمة، قال: حدثنا جرير بن عبدالحميد، عن منصور، عن خيثمة، عن رجل من قومه عن عبدالله بن مسعود.. فذكر الحديث.
وأخرجه الطبراني في ((الكبير)) (ج10 ص217) و((الأوسط)) (ج6 ص337) قال: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف الصيرفي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن(1)منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زياد بن حدير، عن عبدالله بن مسعود به مرفوعا، ومن طريق الطبراني أخرجه أبونعيم في ((الحلية)) وعنده زياد بن حدير، ورجال الطبراني محمد بن عبدالله الحضرمي هو الملقب بمطين حافظ كبير ثقة. انظر ترجمته في ((تذكره الحفاظ)) رقم (662)، وإبراهيم بن يوسف الصيرفي قال موسى بن إسحاق: ثقة، وقال مطين وغيره: صدوق. انظر ((التهذيب)) و((الميزان)). وقال النسائي: ليس بالقوي فحديثه يقبل التحسين، وزياد بن حدير هو الأسدي ثقة وثقه الدارقطني وأبوحاتم وغيرهما والباقون كلهم ثقات مشهورون، لكن حبيب بن أبي ثابت مدلس ذكره الحافظ ابن حجر في مراتب المدلسين من الثالثة وقد عنعن.
فالحاصل أن الحديث روي من طريق خيثمة بن عبدالرحمن عن ابن مسعود وهذه الطريق منقطعة لعدم سماع خيثمة من ابن مسعود وباقي السند ثقات. وروي من طريق خيثمة عن رجل عن ابن مسعود أو عمن سمع ابن مسعود وهذه الطريق ضعيفة لعدم معرفة هذا المبهم الراوي عن ابن مسعود وإلا فباقي السند ثقات. وروي من طريق حبيب بن أبي ثابت عن زياد بن حدير عن ابن مسعود وسنده ضعيف لعنعنة حبيب وهذه الطريق شاذة، فشعبة والثوري وعمرو بن قيس يروون الحديث عن منصور عن خيثمة بن أبي ثابت عن زياد عن ابن مسعود فالحديث ضعيف.
__________
(1) ? ... في الأصل: ابن منصور، وهو خطأ، والتصويب من ?الحلية? لأبي نعيم.(1/213)
فالغلط من عند هذا الصيرفي حيث خالف الأئمة الذين رووه عن الثوري وشعبة كعفان ومحمد بن جعفر وغيرهما وجعله من حديث ابن عيينة عن منصور ولو فرضنا أن ابن عيينة خالف الثوري وشعبة وعمرو بن قيس الذين يروونه عن منصور عن خيثمة ورواه هو عن منصور عن حبيب لكان ابن عيينة شاذا أيضا، فرجع الحديث إلى الطريق التي فيها رجل مبهم وهي ضعيفة كما تقدم ومن دونه لا ندري.
وله شاهد عند أبي يعلى في ((المسند)) (ج8 ص289) قال: حدثني أبوعبدالله الأنصاري، عن عائشة موقوفا ضعيفا لأن الأنصاري مجهول لم يذكر فيه البخاري ولا أبوحاتم جرحا ولا تعديلا.
ويعود الحكم عاما للمسافر وغيره سواء إذا كان في طلب العلم أو فيما هو طاعة لله فالأصل فيه الجواز لحديث ابن عمر قال: صلى بنا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: ?أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد?.
أخرجه البخاري رقم (116) باب السمر في العلم.
وحديث ابن عباس: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام ثم قال لميمونة: ?نام الغليم? ثم قام يصلي.. إلخ.
أخرجه البخاري رقم (117).
وحديث أنس في البخاري (ج7 رقم 3805) باب منقبة أسيد بن حضير وعباد بن بشير أن رجلين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خرجا من عند النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ليلة مظلمة وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما.
ما يقول المسافر إذا أسحر(1/214)
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج17 ص39) في كتاب الأدعية رقم (2718): حدثني أبوالطاهر، أخبرنا عبدالله بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: ((سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار?.
وأخرجه أبوداود في ((سننه)) رقم (5086)، والدينوري في ((اليوم والليلة)) رقم (514).
معنى الكلمات الغريبة في الحديث:
أسحر: قام في السحر أو انتهى في سيره إلى السحر.
سمع سامع: بفتح ميم سمع وتشديدها معناه بلغ سامع قولي هذا لغيره وعلى تخفيف الميم من سمع وكرها معناه شهد شاهد على حمدنا لله تعالى على نعمه وحسن بلائه.
صاحبنا: أي كن معنا معية خاصة واحفظنا وأحطنا واكلأنا وأفضل علينا بجزيل نعمك واصرف عنا كل مكروه.اهـ من ((شرح النووي على مسلم)) بتصرف يسير في معنى قوله صاحبنا.
إعانة الرفيق في السفر
قال الإمام مسلم رحمه الله رقم (1728): حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا أبوالأشهب، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن في سفر مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((من كان معه فضل ظهر(1)فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له?، فذكر من أصناف المال ما ذكره حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل.
__________
(1) ? ... الظهر ما يركب عليه من الدواب في السفر.(1/215)
وقال أبوداود رحمه الله رقم (2534): حدثنا محمد بن سليمان الأنباري، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر بن عبدالله حدث عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه أراد أن يغزو فقال: ((يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم قوما ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة، فما لأحدنا من ظهر يحمله إلا عقبة كعقبة يعني أحدهم)) قال: فضممت إلي اثنين أو ثلاثة قال: ما لي إلا عقبة كعقبة أحدهم من جملي. اهـ
وأخرجه الحاكم في ((المستدرك)) (ج2 ص90) من طريق عبيدة بن حميد، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر به. وسنده صحيح كل رجاله ثقات، عبيدة بن حميد وثقه ابن معين والموصلي وابن سعد والدارقطني وآخرون وضعفه الساجي وابن المديني بغير حجة فالصحيح أنه ثقة، والأسود ابن قيس العبدي ثقة وثقه ابن معين والنسائي والعجلي والفسوي وأبوحاتم وغيرهم، ونبيح العنزي هو ابن عبدالله أبوعمرو وثقه أبوزرعة والعجلي وابن حبان فهو ثقة ولا يضره ذكر ابن المديني له في جملة المجهولين مع توثيق أبي زرعة وغيره له.
وانظر شيئا من أحاديث هذا الباب في باب الإيثار في السفر.
المسافر ينزل في الطريق فيستريح ويصلي النافلة إن شاء
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2551): حدثنا محمد بن المثنى، حدثني محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن حمزة الضبي، قال: سمعت أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: كنا إذا نزلنا منزلا لا نسبح حتى تحل الرحال.
وسنده حسن على شرط مسلم رجاله كلهم ثقات إلا حمزة بن عمرو الضبي الراوي عن أنس فصدوق.
قوله: (لا نسبح) قال ابن الأثير في ((جامع الأصول)) (ج5 ص21): أراد بالتسبيح صلاة الضحى، والمعنى أنهم كانوا مع اهتمامهم بأمر الصلاة لا يباشرونها حتى يحطوا الرحال ويريحوا الجمال رفقا بها وإحسانا إليها.
وقال النووي في ((رياض الصالحين)): لا نسبح أي: لا نصلي النافلة. اهـ(1/216)
وإطلاق النووي للسبحة في عموم النافلة أصح فقد تقدم حديث ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يسبح على راحلته. أي يصلي عليها النافلة، وثبت أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- صلى السبحة الضحى ثمانيا. أخرجه مسلم، وقالت عائشة: ما سبح سبحة الضحى وإني لأسبحها. أخرجه البخاري ومسلم.
وتقدم حديث أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصلي سبحته حيثما توجهت به راحلته. وأخرجه مسلم. فالسبحة تطلق في السنة على أي نافلة وتطلق على صلاة الضحى مقيدة بذكر صلاة الضحى.
السفر بالليل فيه بركة
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2571): حدثنا عمرو بن علي، حدثنا خالد بن يزيد، حدثنا أبوجعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل?.
سند الحديث ضعيف، علته أبوجعفر الرازي فيه ضعف يزداد ضعفه بروايته عن الربيع بن أنس، أما عمرو بن علي فهو الفلاس ثقة حافظ كان من نبلاء المحدثين، وخالد بن يزيد هو الأزدي العتكي حسن الحديث، قال أبوزرعة والنسائي: لا بأس به، وقال القواريري: كان أوثق من أخيه الوليد. وأبوجعفر الرازي هو عيسى بن ماهان تقدم أنه ضعيف، الربيع بن أنس البكري قال أبوحاتم والعجلي: صدوق لكن كانوا ينتقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه لأن في حديثه عنه اضطرابا. انظر ((التهذيب)) لابن حجر.
وللحديث شاهد عن أنس بن مالك أيضا عند الحاكم (ج1 ص614) بطريق أخرى قال: حدثنا أبوبكر بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن غالب، قال: حدثنا رويم بن يزيد، قال: حدثنا الليث بن سعد (ح) وحدثنا أبوالنضر الفقيه، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل العنبري، قال: حدثنا محمد بن أسلم العابد، قال: حدثنا قبيصة، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه.. فذكر الحديث مرفوعا.(1/217)
وأخرجه أبونعيم في ((الحلية)) (ج9 ص250) من طريق محمد بن أسلم به. والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (ج8 ص429) من طريق الليث بن سعد به. وابن خزيمة في ((صحيحه)) (ج4 ص147) وأعله الدارقطني بالإرسال فقال: المحفوظ عن ليث مرسلا. وكذا أعله أبوزرعة بالإرسال فقال: أعرفه من حديث رويم عن الليث هكذا. انظر ((علل ابن أبي حاتم)) (ج2 ص254).اهـ
فكان لحديث أنس طريقان إحداها ضعيفة والأخرى مرسلة والضعف فيهما منجبر.
وله شاهد عن جابر، قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص305): حدثنا محمد بن مسلمة، عن هشام، عن الحسن، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?إذا سرتم في الخصب فأمكنوا الركاب..?. فذكر الحديث وفيه: ?وعليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بليل?. وأخرجه (ج3 ص382) من طريق أخرى عن هشام عن الحسن البصري عن جابر به.
ومنها أخرجه ابن السني في ((اليوم والليلة)) رقم (524) وهذه الطريق فيها ضعف فالحسن لم يسمع من جابر صرح بذلك في ((مصنف عبدالرزاق)) (ج5 ص161) ونفى سماعه منه جماعة. انظر ((جامع التحصيل)) للعلائي، وهشام ابن حسان ثقة ثبت لأن روايته عن الحسن وعطاء فيها مقال لأنه كان يرسل عنهما، وهذا لا يضر فقد قال ابن عيينة: كان أعلم الناس بحديث الحسن، وقال ابن علية: ما كنا نعده في الحسن شيئا كما في ((التهذيب)) لابن حجر فصار قول ابن علية معارضا، وهشام أمام كلام ابن علية لا ينزله في الحسن عن رتبة الاحتجاج وغاية ما عللوا به أنه ضعيف في الحسن، قالوا: عامة روايته عن الحسن أخذها عن حوشب.
قلت: وحوشب ممن روى عن الحسن اثنان: حوشب بن عقيل الجرمي ثقة، وحوشب بن مسلم الثقفي محتج به، فهو إن أرسل عن أحد الحوشبين لا يزال صالحا في الشواهد.(1/218)
وله شاهد آخر، قال عبدالرزاق في ((المصنف)) (ج5 ص163): حدثنا الثوري، عن محمد بن عجلان، عن أبان بن صالح، عن خالد بن معدان، عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?إن الله رفيق يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين على العنف?. فذكر الحديث وفيه: ?وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار?.
ومحمد بن عجلان صدوق يحسن حديثه، وأبان بن صالح هو القرشي ثقة إلا أني لم أجد من أثبت سماعه عن خالد بن معدان لكنه عاصره كثيرا وقد توبع كما سيأتي، وخالد بن معدان ثقة إلا أنه يرسل كثيرا، ولم أجد من أثبت سماعه من أبيه وهو محتمل للأمرين وأبوه معدان بن أبي كرب قال الطبراني في ((الكبير)) (ج20 ص365): يقال له صحبة وذكر هذا الحديث من طريق ابن جريج، عن زياد، عن خالد بن معدان عن أبيه به، وهذا السند قال الهيثمي في ((المجمع)) (ج8 ص19): رجاله رجال الصحيح. اهـ وفاته أن ابن أبي حاتم قد أعله بالإرسال. انظر ((علله)) (ج2 ص330). وله شاهد آخر عند الطبراني من حديث عبدالله بن مغفل بنحوه. قال الهيثمي في ((المجمع)) (ج3 ص313): رجاله ثقات.اهـ فبهذه الشواهد يصير الحديث حسنا والحمد لله.
المسافر إذا صعد كبر وإذا هبط سبح
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 رقم 2994): حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن سالم، عن جابر رضي الله عنه قال: كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا تصوبنا سبحنا.(1/219)
وقال رحمه الله (2995): حدثنا عبدالله قال: حدثني عبدالعزيز بن أبي سلمة، عن صالح بن كيسان، عن سالم بن عبدالله، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا قفل من الحج أو العمرة ولا أعلمه إلا قال: الغزو يقول كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا ثم قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)).
وأخرجه مسلم (1344) وجزم بلفظة الغزو.
المسافر يرفق بنفسه وبصوته
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2992): حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنه معكم إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده?.
أخرجه مسلم رقم (2704).
ومعنى: (اربعوا على أنفسكم)، قال النووي: بفتح الباء الموحدة أي: ارفقوا بأنفسكم.
الرجل يخدم أصحابه في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2888) في كتاب الجهاد باب فضل الخدمة في السفر: حدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة، عن يونس بن عبيد، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صحبت جرير بن عبدالله فكان يخدمني وهو أكبر من أنس، قال جرير: إني رأيت الأنصار يصنعون شيئا لا أجد أحدا منهم إلا أكرمته.
وعند مسلم (2513): آليت أن لا أصحب أحدا منهم إلا خدمته.(1/220)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2889): حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، حدثنا محمد بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب، أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى خيبر أخدمه، فلما قدم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- راجعا وبدا له أحد قال: ((هذا جبل يحبنا ونحبه)) ثم أشار بيده إلى المدينة قال: ((اللهم إني أحرم ما بين لابتيها كتحريم إبراهيم مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا?.
أخرجه مسلم (1365).
وقال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2890): حدثنا سليمان بن داود أبوالربيع، عن إسماعيل بن زكرياء، حدثنا عاصم، عن مورق العجلي، عن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر?.
أخرجه مسلم رقم (1119) في كتاب الصيام.
فضل حمل متاع الصاحب في السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله (2891): حدثني إسحاق بن نصر، حدثنا عبدالرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((كل سلامى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة?.
وأخرجه مسلم (1009).
شرعية سفر الرجل بامرأته وإن كان له أكثر من واحدة أقرع بينهن(1/221)
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (2879): حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا عبدالله بن عمر النميري، حدثنا يونس، قال: سمعت الزهري، قال: سمعت عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وعلقمة بن وقاص، وعبيدالله بن عبدالله، عن حديث عائشة، كل حدثني طائفة من الحديث قالت: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه، فأيتهن يخرج سهمها خرج بها النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بعد ما أنزل الحجاب.
أخرجه مسلم رقم (2770).
قال النووي رحمه الله في ((شرح مسلم)) (ج17 ص119) عند الحديث المرقوم ضمن فوائد حديث الإفك هذا: فيه وجوب الإقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن، وأنه لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات وهذا مجمع عليه، الفائدة الخامسة: جواز سفر الرجل بزوجته. اهـ المراد.
الرفق بالنساء في السير
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (6162): حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس وأيوب، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في سفر وكان غلام يحدو بهن يقال له أنجشة فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير?.
أخرجه مسلم (ج4 ص1811-1812 عبدالباقي).
قال الإمام أحمد رحمه الله في ((المسند)) (ج6 ص264): حدثنا عمر أبوحفص المعيطي، قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجت مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: ((تقدموا)) فتقدموا، ثم قال لي: ((تعالي حتى أسابقك)) فسابقته فسبقته فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس: ((تقدموا)) فتقدموا، ثم قال: ((تعالي حتى أسابقك)) فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: ((هذه بتلك?.اهـ(1/222)
أخرجه أبوداود (ج1 ص403)، والحميدي في ((مسنده)) (ج5 ص261)، والنسائي في ((عشرة النساء))، وابن ماجه (ج1 ص610) وسنده صحيح، وصححه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (ج2 ص40)، والألباني في ((آداب الزفاف)) ص (276).
اتخاذ الدليل في السفر لمن لم يعرف الطريق
عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين.. فذكرت الحديث بطوله وفيه قالت: واستأجر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأبوبكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا، والخريت الماهر بالهداية(1).
أخرجه البخاري (ج7 رقم 3905) مناقب الأنصار باب هجرة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه.
من هو ابن السبيل
قال الله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل(2)}.
قال ابن كثير: ابن السبيل هو المسافر المجتاز الذي فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده وكذا الضيف.
وقال تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل(3)}، وقال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا(4)}، وقال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا(5)}.
__________
(1) ? ... أي بالدلالة على الطريق.
(2) ? ... سورة البقرة، الآية:177.
(3) ? ... سورة البقرة، الآية:215.
(4) ? ... سورة النساء، الآية:36.
(5) ? ... سورة النساء، الآية:43.(1/223)
قال علي بن طلحة وابن عباس ومجاهد والحكم: {إلا عابري سبيل} إلا المسافر فله أن يتيمم ويصلي عند عدم وجود الماء. كذا في ((تفسير ابن كثير)) و((تفسير القرطبي)) عند الآية.
وقال تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل(1)}، وقال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل(2)}.
قال الراغب في ((مفردات القرآن)): ابن السبيل المسافر البعيد عن منزله نسب إلى السبيل لممارسته إياه.اهـ وكذا قال ابن كثير والقرطبي عند تفسير هذه الآيات المذكورة أن ابن السبيل هو المسافر.
فيؤخذ من هذه الآيات:
أن إعطاء المسافر المنقطع ما يوصله إلى بلده من البر.
أن أحق ما ينفقه الإنسان من الخير على بعض المستحقين ومنهم المسافر.
أن إعطاء المسافر المنقطع من الإحسان الذي أمر الله به.
أن المسافر إذا أجنب ولم يجد الماء يتيمم ويصلي.
أن المسافر المنقطع له حظ من خمس الغنيمة.
أن المسافر المنقطع عن النفقة من المستحقين للزكاة.
التأهب للسفر الطويل
في حديث كعب بن مالك الطويل.. قال: ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة(3)غزاها رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد.
أخرجه البخاري رقم (4418)، ومسلم (2769).
وفي هذا الحديث نفسه أن كعبا قال: فتجهز رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والمسلمون معه، وانظر باب المسافر يتزود لسفره، فقد ذكرنا فيه حديث ابن عباس في سبب نزول قول الله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
__________
(1) ? ... سورة الأنفال، الآية:41.
(2) ? ... سورة التوبة، الآية:60.
(3) ? ... غزوة تبوك كما في الحديث نفسه.(1/224)
المسافر يحتاج إلى مال يتبلغ به في سفره
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (3464): حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام، حدثنا إسحاق بن عبدالله، قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة، أن أبا هريرة حدثه أنه سمع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. (ح) وحدثني محمد، حدثنا عبدالله بن رجاء، أخبرنا همام، عن إسحاق بن عبدالله، قال: أخبرني عبدالرحمن بن أبي عمرة، أن أبا هريرة رضي الله عنه حدثه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى بدا لله عز وجل أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس قال: فمسحه فذهب عنه فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر هو شك في ذلك إن الأبرص والأقرع قال: أحدهما الإبل وقال: الآخر البقر، فأعطي ناقة عشراء فقال: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملا وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله، فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع(1/225)
في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فرد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري فقال: قد كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)).
أخرجه مسلم رقم (2964).
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (6520): حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة?.
الحديث أخرجه مسلم رقم (2792).
لا تسافر المرأة إلا مع محرم أو زوج
قال الإمام البخاري رحمه الله رقم (1862): حدثنا أبوالنعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو، عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: ((اخرج معها?.
أخرجه البخاري (ج4 رقم 1862)، ومسلم رقم (1341).
وقد تكلمنا على هذه المسألة باستفاضة في (سفر المرأة).
السفر يوم الخميس مستحب لمن أراد السفر
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص113): حدثني عبدالله بن محمد، حدثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- خرج يوم الخميس في غزوة تبوك وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.(1/226)
وفي رواية: لقلما كان رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس. انفرد به بهذا اللفظ البخاري دون مسلم. انظر ((تحفة الأشراف)) للحافظ المزي (ج8 ص310) و((المعجم المفهرس)) مادة (5) و((التلخيص الحبير)) لابن حجر (183) بتخريج أبي عاصم، والحديث في مسلم أيضا رقم (2769) (ج4 ص2120) في كتاب التوبة باب توبة كعب بن مالك بطوله دون اللفظ الذي ذكرناه.
السفر في أول النهار فيه بركة
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2606): حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، حدثنا يعلى بن عطاء، حدثنا عمارة بن حديد، عن صخر الغامدي، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله.اهـ
وأخرجه الترمذي في ((جامعه)) رقم (1212)، وحال الحديث حسن ولا يعرف لصخر الغامدي عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- غير هذا الحديث، وأحمد (ج3 ص416، 417، 431، 432) و(ج4 ص384، 390، 391)، والطيالسي رقم(2034)، وابن ماجه رقم (2236)، والدارمي (ج2 ص214)، والبغوي في ((شرح السنة)) (ج11 ص20) كلهم من طريق يعلى بن عطاء عن عمارة ابن حديد عن صخر بن وادعة به مرفوعا.
وسنده ضعيف فيه عمارة بن حديد البجلي، قال أبوزرعة: لا يعرف، وقال أبوحاتم وابن السكن وابن حجر وابن عبدالبر كلهم قالوا: مجهول. اهـ
وله شواهد أشار إليها الترمذي في ((جامعه)) (ج3 ص517) فقال: وفي الباب عن علي وابن مسعود وبريدة وأنس وابن عمر وابن عباس وجابر وقد روى الثوري عن شعبة عن يعلى هذا الحديث. اهـ(1/227)
زاد المنذري رحمه الله في ذكر من روى هذا الحديث أبا هريرة وعبدالله بن سلام والنواس بن سمعان وعمران بن حصين ونبيط بن شريط وزاد في حديثه (يوم خميسها) وأوس بن عبدالله وعائشة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وفي كثير من أسانيدها مقال وبعضها حسن وقد جمعتها في جزء وبسطت الكلام عليها.اهـ كلامه من((الترغيب والترهيب)) (ج2 ص515 تحقيق مستو).
وقال ابن طاهر في ((تخريج أحاديث الشهاب)): رواه جماعة من الصحابة ولم يخرج شيء منها في ((الصحيح)) وأقربها إلى الصحة والشهرة هذا الحديث. وحديث بريدة صححه ابن السكن وذكره ابن الجوزي في ((العلل المتناهية)) عن جماعة (ج1 ص315-323) وقال: لا يثبت منها شيء وضعفها كلها.
وقال أبوحاتم: لا أعلم في ?اللهم بارك لأمتي في بكورها? حديثا صحيحا. انظر ((العلل)) لابن أبي حاتم (ج2 رقم 23). وزيادة ?يوم خميسها? في هذا الحديث قال أبوزرعة: مفتعلة. اهـ من ((التلخيص الحبير)) (ج4 ص184).
وذكر ابن القطان في ((بيان الوهم والإيهام)) بعض هذه الأحاديث (ج3 ص485-488) وأبان ضعفها.
وأحسن ما ذكر حديث بريدة الذي صححه ابن السكن ساقه بسنده فقال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا أوس بن عبدالله المروزي، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه ثم قال: وهو على أصل المؤلف لا بأس به وليس هو عندي بصحيح وأعله بأوس بن عبدالله فقال: هو منكر الحديث.
قلت: هو مترجم في ((الميزان)) للذهبي، قال الدارقطني: متروك، وقال البخاري: فيه نظر.
وحديث علي بن أبي طالب رضي الله ذكر له ابن الجوزي في ((العلل)) طريقين إحداها فيها عبدالرحمن بن إسحاق أبوشيبة الواسطي قال ابن معين: متروك، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وقال البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص79): لا نعلمه عن علي مرفوعا إلا بهذا الإسناد.(1/228)
والثانية فيها عبدالصمد بن موسى أبوإبراهيم الهاشمي يروي مناكير كما في ترجمته من ((الميزان)) والراوي عنه هنا ولده إبراهيم متكلم فيه وفيها انقطاع يروي الحديث جعفر بن محمد الصادق عن أبيه محمد بن علي بن الحسين عن جده علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين هو زين العابدين لم يدرك جده علي بن أبي طالب كما في ((التهذيب)) لابن حجر.
وحديث ابن مسعود عنده فيه أحمد بن إسحاق أبوجعفر ليس بذلك وعلي بن عابس الأزرق ليس بشيء بل قال ابن حبان: متروك. انظر ((ميزان الاعتدال)).
وحديث عائشة أخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص79) فقال: حدثنا إبراهيم بن سعد الجوهري، قال: حدثنا إسماعيل بن قيس من ولد زيد بن ثابت، قال: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ?باكروا طلب الرزق فإن الغدو بركة?.اهـ
قلت: رجال سنده ثقات إلا إسماعيل بن قيس قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج4 ص61): ضعيف.
قلت: هكذا قال النسائي وآخرون، أما البخاري والدارقطني فقالا فيه: منكر الحديث. كما في ((الميزان))، ومثله يصلح في الشواهد ورواه الطبراني في ((الأوسط)) (ج5 ص417 بتحقيق الطحان) من طريق عمار بن رجاء قال: حدثنا عفان بن سيار الباهلي، عن محارب بن دثار، عن عائشة به.
ورجال إسناده كلهم محتج بهم بين ثقة وصدوق، فعمار وعفان وخلف قيل فيهم صدوق كما في ((التهذيب)) لابن حجر، و((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم وكذا سيار الباهلي ومحارب ثقة بلا رفع لكن لم أجد من أثبت روايته عن عائشة ففي النفس شيء من ذلك.(1/229)
وحديث أنس أخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص80) من طريق عنبسة بن عبدالرحمن عن شبيب عن أنس به، وزاد ?في بكورها يوم خميسها? قال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الإسناد وعنبسة لين الحديث، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (ج4 ص61): متروك، بل قال أبوحاتم: كان يضع الحديث كما في ((الميزان)).
وحديث عبدالله بن سلام أخرجه أبويعلى والطبراني في ((الكبير)) عزاه إليه الهيثمي في ((المجمع)) (ج4 ص61) وقال: فيه هشام بن زياد ضعيف جدا.
قلت: هو متروك، انظر ((التقريب)) لابن حجر.
وحديث ابن عباس أخرجه البزار كما في ((كشف الأستار)) (ج2 ص80) وفيه عمر بن مساور قال أبوحاتم: ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث. انظر ((الميزان)).
وحديث جابر عند الطبراني في ((الأوسط)) (ج1 رقم 1000) قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا الهيثم، قال: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا به. وهذا سند حسن لا غبار عليه وأبوالزبير وإن عنعن فلا يضر لأن الراوي عنه الليث وإذا روى عنه الليث قبلت عنعنته لأنه لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر كما في ترجمته من شيوخ الطبراني قال الهيثمي في ((المجمع)) (ج4 ص62): رجاله ثقات إلا شيخ الطبراني لم أعرفه.
قلت: هو مترجم في ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (ج13 ص244) وقال: المحدث الإمام لقبه الطبراني ببيت المقدس روى عن الهيثم بن جميل. والهيثم بن جميل أبوسهل البغدادي الحافظ قال أحمد: ثقة من أصحاب الحديث، ووثقه الدارقطني والحربي والعجلي وغيرهم. اهـ والليث بن سعد إمام كما عرفت وأبوالزبير صدوق من أجله يحسن الحديث ولولاه لكان صحيحا بذاته لكنه صحيح بشواهده المتقدمة وله شواهد أخرى تعمدنا تركها حين تيقنا من ثبوت الحديث والحمد لله.
أما قول أبي حاتم: لا أعلم في ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)) حديثا صحيحا، فيحمل أنه على الانفراد أو على اصطلاحه في الرجال.(1/230)
وأما ابن الجوزي فقد ذكر حديث جابر من طريق أبي بكر الهذلي وهو كذاب ولم يذكره من هذه الطريق الضعيفة فحكم على ما عنده وكل ما ذكره من تلك الطرق الضعيفة التي لا تخلو من ضعف عند الاجتماع تصلح.
تحريم النهبة في السفر وغيره
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2705): حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبوالأحوص، عن عاصم يعني ابن كليب، عن أبيه، عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: ((إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة(1)) الشك من هناد .اهـ
وسنده حسن رجاله ثقات إلا كليبا والد عاصم فصدوق، وأخرجه أحمد في ((المسند)) (ج5 ص367) فقال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت رجلا من بني ليث قال: أسرني ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فكنت معهم فأصابوا غنما فانتهبوها فطبخوها قال: فسمعت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول: ((إن النهبى أو النهبة لا تصلح فأكفئوا القدور?. وهو صحيح بما قبله رجاله ثقات إلا سماك بن حرب فصدوق يحسن حديثه ومن طريق سماك بن حرب أخرجه ابن ماجه (3938)، وعبدالرزاق في ((المصنف)) (18841)، والحاكم (ج2 ص134)، والطيالسي (1195)، والطبراني في ((الكبير)) (1380.1371).
المسافر إذا جاع وأتى على بستان أو ماشية بها لبن هل يحل له أن يأخذ منه بغير إذن صاحبه
__________
(1) ? ... قال ابن الأثير: النهب الغارة والسلب. ? من النهاية. وقال الخطابي: إنما نهى عن النهب بأخذ ما يأخذ على قدر قوته لا على قدر استحقاقه، فيؤدي إلى أحدهم يأخذ فوق حقه. ? من ?عون المعبود?.(1/231)
قال الإمام أبوداود رحمه الله رقم (2619) من كتاب الجهاد من سننه باب في ابن السبيل يأكل من الثمر ويشرب من اللبن إذا مر به قال: حدثنا عياش بن الوليد الرقام، حدثنا عبدالأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب أن نبي الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، فإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه فليستأذنه، وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل?.اهـ
وسنده ضعيف لعنعنة قتادة والحسن البصري وقد اختلف في سماعه من سمرة وأثبته علي بن المديني فقال: سماع الحسن من سمرة صحيح.
لكن تقدم ذكر العلة فيه وله شاهد آخر عند ابن ماجه رقم (2300) قال: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ((إذا أتيت على راع فناده ثلاث مرار فإن أجابك وإلا فاشرب في غير أن تفسد، وإذا أتيت على حائط بستان فناد صاحب البستان ثلاث مرات فإن أجابك وإلا فكل في أن لا تفسد?.(1/232)
وأخرجه ابن حبان (ج12 ص77) ((الإحسان)) فقال: أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى -أبويعلى الموصلي- قال: حدثنا أبوخيثمة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا الجريري، عن أبي نضرة به بلفظ: ?فإن أجابه وإلا فليأكل ولا يحملن شيئا?، وهو عند أبي يعلى في ((المسند)) رقم (1244، 1287)، وأحمد (ج3 ص21)، والحاكم (ج4 ص132)، والبيهقي (ج9 ص359) كلهم من طريق يزيد بن هارون الواسطي عن سعيد الجريري عن أبي نضره به، ورجال إسناده كلهم ثقات إلا أن الجريري اختلط بآخره ويزيد بن هارون روى عنه بعد الاختلاط لكنه متابع فقد تابعه علي بن عاصم عن الجريري به، عند أحمد في ((المسند)) (ج3 ص85-86)، والطحاوي في (ج4 ص240)، والبيهقي في ((الكبرى)) (ج9 ص360) وحماد بن سلمة عن سعيد الجريري به، عند البزار. انظر ((تهذيب السنن)) لابن القيم (ج3 ص426) فكان مخرج الحديث هو أبونضرة عن أبي سعيد وأبونضرة ثقة، فالحديث صحيح بحمد الله.
وله شاهد آخر أيضا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- سئل عن الرجل يدخل الحائط؟ قال: ?يأكل غير متخذ خبنة?.
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في ((المسند)) (ج2 ص221، 180) مطولا، وأخرجه النسائي (ج8 ص85) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا سند حسن.
وأخرج الترمذي في ((جامعه)) رقم (1287)، وابن ماجه رقم (2301) من طرق عن يحيى بن سليم الطائفي، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إذا مر أحدكم بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة?.
ويحيى بن سليم صدوق سيئ الحفظ ضعيف في عبيدالله العمري وهو هنا عنه. انظر ترجمته من ((التهذيب)) للحافظ ابن حجر.(1/233)
وله شاهد من حديث عباد بن شرحبيل عند أبي داود رقم (2620) قال: حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن عباد بن شرحبيل قال: أصابتني سنة فدخلت حائطا من حيطان المدينة ففركت سنبلا فأكلت وحملت في ثوبي فجاء صاحبه فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال له: ((ما علمت إذ كان جاهلا، ولا أطعمت إذ كان جائعا أو قال : ساغبا)) وأمره فرد علي ثوبي وأعطاني وسقا أو نصف وسق من طعام. اهـ
وسنده صحيح كل رجاله ثقات وأبوبشر هو جعفر بن إياس، وفي الباب أحاديث أخرى أشار إليها الترمذي في ((جامعه)) (ج3 ص583) وآثار ذكرها البيهقي في ((الكبرى)) (ج9 ص359-351) تركناها اكتفاء بما تقدم ذكره من الأحاديث الثابتة التي كما يقول الحافظ في ((الفتح)) (ج5 ص90): والحق أن مجموعها لا يقصر عن درجة الصحيح وقد احتجوا في كثير من الأحكام بما هو دونها.
قلت: والأصل أن مال المسلم على المسلم حرام كما ثبت بذلك قواطع الأدلة إلا من أصابته مجاعة واضطر لأكل ما يسد جوعه من مال الغير فيكون ذلك على حسب القيود المذكورة في هذه الأحاديث وهي أولا: أن ينادي صاحبها. ثانيا: لا يتخذ خبنة. ثالثا: أنه لا يجد أو لا يستطيع شراء ذلك. رابعا: أن لا يفسد ذلك الذي أخذ منه. وإليك ما ذكروه في المسألة من الأقوال:
حكم هذه المسألة عند أهل العلم:
اختلف في ذلك، ذهب جمهور العلماء إلى المنع مطلقا لعموم الأدلة في تحريم مال المسلم، منها حديث أبي بكرة وابن عمر في ((الصحيحين)): ?إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام?. ومنها حديث: ?كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه?. عن أبي هريرة وأخرجه مسلم.(1/234)
ومنها حديث: ?لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه?. أخرجه البيهقي وغيره بإسناد صحيح من حديث ابن عباس، وبوب البخاري في ((صحيحه)) (ج5 ص88) باب لا تحتلب ماشية أحد بغير أذنه وذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: ?لا يحلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع ماشيتهم طعامهم?. وأخرجه مسلم في اللقطة قال النووي رحمه الله في ((شرح مسلم)) (ج12 ص28) باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها ونقل عن الجمهور تحريم ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: وذهب كثير من السلف إلى الجواز مطلقا وقال أحمد: إذا لم يكن للبستان حائط جاز له الأكل من الفاكهة الرطبة ولو لم يحتج لذلك سواء كان مسافرا أو غير مسافر وخصه بعضهم بالمسافر.
ورجح ابن القيم في ((تهذيب السنن)) (ج3 ص421-426) جواز أكل المحتاج من البستان وليس عليه دفع القيمة سواء لضرورة أو غيرها بشرط نداء صاحب البستان لطلب إذنه فإن لم يوجد أكل ولا يحمل معه شيئا.
أما الجمع بين الأحاديث الدالة على المنع وبين هذه الأحاديث الدالة على الإباحة فقد ذكر الحافظ في ((الفتح)) (ج5 ص89) عدة أوجه منها:
أن الإذن مخصوص بابن السبيل والمنع فيما سواه، ومنها أن الإذن خاص بالمضطر والمنع فيما سواه، ومنها أن الإذن محمول على ما إذا علم أن صاحب المال تطيب نفسه بالأكل من بستانه، ومنها أن المنع مخصوص بحالة الحمل أكثر مما يأكل أو يشرب والإذن في حال من يأكل أو يشرب حاجته ولا يحمل معه شيئا لاسيما عند الاحتياج وعدم القدرة على الشراء من مثله أو عدم وجود صاحب البستان وطلب الإذن منه.اهـ(1/235)
وهذا الأخير أقرب والقول به عندي أصوب وسواء كان ذلك في الحضر أو السفر لظواهر الأدلة وأقواها ما أخرجه البخاري رقم (3908) في مناقب الأنصار باب هجرة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه، ومسلم رقم (2009) في الأشربة من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال أبوبكر الصديق لما خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من مكة إلى المدينة مررنا براع وقد عطش رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: فحلبت له كثبة من لبن فأتيته بها فشرب حتى رضيت. وبوب عليه النووي باب جواز شرب اللبن ومع ذلك فقد أتى بتأويلات للحديث غير مرضية. انظر إن شئت في ((شرح مسلم)) (ج13 ص180).(1/236)