شرح فقه النوازل
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فمع افتتاح هذه الدورة ومع الدرس الأول في هذه الدورة العلمية، أسأل الله تعالى أن يبارك فيها، وأن ينفع بها، وأن يزيدنا جميعا هدى وعلما وتوفيقا، ثم إنني أشكر الإخوة القائمين على تنظيم هذه الدورة في هذا الجامع على ما يقومون به من جهد كبير في تنظيمها، وأخص بالشكر أخي فضيلة الشيخ فهد الحسن الغراب، على ما يقوم به من جهد في تنظيم هذه الدورة وفي غيرها من المناشط العلمية في هذا الجامع، حتى أصبح هذا الجامع بحق منارة من منارات العلم.
أيها الإخوة هذه الدورة العلمية والتي يتوافد فيها أعداد من الإخوة من بلاد شتى، تذكرنا بما أثر عن السلف من الرحلة في طلب العلم، فإن السلف كانوا يرحلون في طلب العلم الشرعي في سبيل تحصيله وجمعه.
وجابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل - رضي الله عنه - رحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديث واحد فقط، من أجل سماع حديث واحد فقط من عبد الله بن أنيس ومكث في هذه الرحلة شهرين، شهرا في الذهاب وشهرا في الإياب، وسافر وحده على بعيره.(1/1)
ولما وصل إلى الشام اعتنقه عبد الله بن أنيس، فقال له جابر بلغني أن عندك حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخشيت أن أموت أو تموت، ولم أسمعه، فقال نعم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، -قلنا وما بهما يا رسول الله؟ -قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قلنا يا رسول الله وكيف ذلك وليس معنا شيء؟ قال: بالحسنات والسيئات " .
هذه القصة ذكرها البخاري في صحيحه معلقا لها بصيغة الجزم لكن أشار إليها مختصرة، ثم لما سمع جابر هذا الحديث رجع إلى المدينة، وهكذا أيضا أبو أيوب الأنصاري رحل من المدينة إلى مصر من أجل سماع حديث واحد فقط، والقصص كثيرة في هذا، ولهذا صنف بعض العلماء في الرحلة في طلب العلم.
وإذا قرأت في ترجمة كثير من علمائنا تجد أنه يذكر في الترجمة ورحل إلى بلاد كذا وكذا وكذا، حتى أصبحت الرحلة في طلب العلم جزءًا من تراجم كبار أهل العلم والمحدثين والفقهاء، ولهذا لا يستكثر الإنسان الحضور إلى مثل هذا المكان ولو أتى من مكان بعيد، وإذا قرأ في تراجم علمائنا وجد أنهم يرحلون إلى ما هو أبعد من ذلك مع أن وسائل المواصلات في زمنهم ليست كوسائل المواصلات في وقتنا الحاضر.
ثم إن العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، كما قال الإمام أحمد قال: طلب العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، ولهذا فإن الاشتغال بطلب العلم الشرعي أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، كما ذكر ذلك أهل العلم، وذلك لأن الاشتغال بطلب العلم الشرعي، نفعه متعد للآخرين، بينما الاشتغال بنوافل العبادات نفعها قاصر على صاحبها.(1/2)
وقد عقد الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه القيم مفتاح دار السعادة، مقارنة بين العلم والمال، وذكر أكثر من مائة وخمسين وجها في تفضيل العلم على المال، ومن عجائب ما ذكر، قال: حتى الكلاب تشرف بالعلم، فإن صيد الكلب المعلم حلال، بينما صيد الكلب غير المعلم حرام { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } (1) فإذا كانت الكلاب تشرف بالعلم فما بالك ببني آدم، ولم يأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم فقال: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) } (2) .
وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- أن لطلب العلم طريقين:
الطريق الأولى: طريق الاجتهاد الشخصي، وذلك بالحفظ والقراءة والتأمل في كتب أهل العلم ونحو ذلك.
والطريق الثانية: أخذ العلم عن أهله مشافهة، وقال: إن هذه الطريق الثانية أنفع الطريقين، وهي المأثورة عن كثير من السلف، والحقيقة أنه لا تغني إحدى الطريقتين عن الأخرى، لا بد من أخذ العلم عن أهله، ولا بد كذلك من بذل الجد والاجتهاد في تحصيل العلم، فإن العلم لا يحصل للإنسان دفعة واحدة وإنما شيئا فشيئا.
ثم إنني أنبه إلى أمر وهو أن بعض الإخوة يحضر دروسا كثيرة وربما دورات كثيرة، ولكنه لا يحصل علما كثيرا، وقد يكون السبب في ذلك أن آلية التحصيل عنده فيها خلل، وذلك أن الناس في الوقت الحاضر قد ضعفت الذاكرة عندهم، ليست كما كان عليه حال العرب من قبل، كان العرب متميزين بقوة الحفظ والذاكرة، حتى إن القصيدة تلقى وهي مكونة من مائتي بيت فأكثر تلقى مرة واحدة فيحفظونها كلهم، بل يستعيبون أن يطلبوا من الملقي أن يعيدها مرة ثانية.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 4.
(2) - سورة طه آية : 114.(1/3)
وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحفظ الشيء من سماعه مرة واحدة، وروي كذلك عن الشعبي، وروي عن عدد من أهل العلم، أما في الوقت الحاضر فكما ترون لا يكاد يوجد أحد يحفظ الشيء من سماعه من مرة واحدة، وحينئذ فلا بد من ضبط آلية تحصيل العلم، ويختار الإنسان الطريقة المناسبة له، إما كتابة، ثم ينظم ما يكتبه، ويراجعه من حين لآخر حتى تستقر المعلومات في ذهنه، أو بالتسجيل، ثم يسمعه من حين لآخر، أو غير ذلك من وسائل التحصيل.
أما أنه يحضر الدروس من غير ضبط للعلم، فإنه سرعان ما ينسى ما سمع، وبالتالي لا يستفيد كثيرا، أقول هذا مع بداية هذه الدورة، ومن أحسن الطرق النافعة هي أن تلخص ما سمعت، ثم تراجعه من حين لآخر، فإن حياة العلم المذاكرة، حياة العلم المذاكرة، لا بد من مذاكرة العلم حتى يستقر.
ثم إنني مع بداية هذه الدورة، أوصي نفسي وإخواني بإخلاص النية لله - عز وجل - في طلب العلم، فإن النية أمرها عجيب، والإخلاص لا يقارن عملا من الأعمال إلا ويكتب له النجاح والقبول والتوفيق، بل إن طلب العلم إذا قارنه نية سيئة عاد وبالا على صاحبه يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة " وذكر منهم: " رجل تعلم العلم وعلمه الناس، وقرأ القرآن " لاحظ تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن " فيؤتى به فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: يا رب تعلمت فيك العلم وعلمته للناس، وقرأت فيك القرآن، فيقال له: كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار " والعياذ بالله.(1/4)
كان معاوية إذا سمع بهذا الحديث بكى بكاءً عظيما، فالآن هذا الذي تعلم العلم لأجل الناس أصبح علمه وبالا عليه كما يقول بعض أهل العلم لو أنه سلم من هذا العلم لكان أحسن له، هذا العلم بهذه النية السيئة كان سببا لأن يكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فلا بد من إخلاص النية لله عز وجل.
فإن قلت: كيف أخلص النية لله تعالى في طلب العلم، ذكر أهل العلم أن إخلاص النية يكون بأن تنوي رفع الجهل عن نفسك، وأن تنوي رفع الجهل عن غيرك، والدعوة إلى الله - عز وجل - والدفاع عن دينه، ولا تنوي بذلك رياءً ولا سمعة ولا طلب محمدة من أحد من البشر.
وبعد ذلك نعود إلى درسنا. كنا في العام الماضي قد كان الدرس عن فقه المعاملات المالية المعاصرة، واحتفى به -ولله الحمد- كثير من الإخوة وحصل بذلك الدرس نفع كثير، ولح علي كثير من الإخوان، أن أخرجه في كتاب وهو سوف يخرج إن شاء الله في كتاب قريبا.
وسألني عدد من الإخوة هل ما ذكر من موضوعات في الدرس الدورة الماضية هل سيذكر منها شيء في هذه الدورة؟ أقول: لا، لن يذكر ولا موضوع واحد، ما ذكرناه العام الماضي لن يعاد ويكرر في هذه الدورة، فإن الدرس في الدورة الماضية كان في المعاملات المالية المعاصرة فقط، وأما الدرس في هذه الدورة فهو في فقه النوازل عامة، في فقه النوازل عامة، وهذا الفقه ينبغي لطالب العلم العناية به، لأنه يلحظ أن كثيرا من طلاب العلم يكون لهم عناية بالفقه المدون في الكتب، ويكون لهم حفظ وضبط وتأصيل، ولكن عندما تأتي المسائل المعاصرة والنوازل يتوقفون فلا تجد عندهم فيها شيئا، وهذا يعتبر خلل عند طالب العلم، لأن هذه النوازل وهذه المسائل المعاصرة يحتاج لها الناس، وتكثر الأسئلة حولها.
ولهذا لا بد لطالب العلم مع ضبطه لكلام الفقهاء المتقدمين أن يعنى بمعرفة الحكم الشرعي في النوازل والمسائل المعاصرة، أو على الأقل أن يعنى بضبط كلام أهل العلم في هذه المسائل وهذه النوازل.(1/5)
والأمة ولله الحمد لا تزال بخير، وعلماؤها يبذلون الجهود الكبيرة في تكييف هذه النوازل وتبيين الحكم الشرعي فيها، هذا الدرس سوف نبدأ إن شاء الله تعالى في الجانب التأصيلي، سوف نجعله في الجانب التأصيلي لفقه النوازل، وفي الدروس القادمة إن شاء الله نبدأ بذكر عدد من النوازل، وسوف أبين إن شاء الله في نهاية هذا الدرس المنهج الذي سوف نسير عليه في دراسة تلك المسائل.
أقول إن من رحمة الله تعالى بالخلق أن أكرمهم بهذه الرسالة المحمدية: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } (1) فأرسل الله تعالى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين جميعا، ومن مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، كما ذكر ذلك الشاطبي وغيره من أهل العلم، من مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فلا تكاد تجد مصلحة إلا دل الشارع عليها، ولا تكاد تجد مضرة إلا نهى الشارع عنها وحذر منها، وقد جعل الله تعالى هذه الشريعة كاملة: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (2) .
يقول أبو ذر - رضي الله عنه - ما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطائر يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علما، وفي حديث سلمان - رضي الله عنه - في صحيح مسلم، قال أحد اليهود لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا يعني آداب قضاء الحاجة، قال سلمان: نعم، ثم ذكر شيئا من الآداب التي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم بها عند قضاء الحاجة، فيتعجب هذا اليهودي يقول: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا.
__________
(1) - سورة الأنبياء آية : 107.
(2) - سورة المائدة آية : 3.(1/6)
وهذه الشريعة الكاملة التي استوعبت جميع ما يحتاج إليه البشر، قد تكفل الله تعالى بحفظها، تكفل الله تعالى بحفظ القرآن: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } (1) ونحن نقرأ كتاب الله تعالى الذي نزل منذ أربعة عشر قرنا، ولم يتغير فيه حرف واحد فقط، وهذا من آيات الله تعالى لأن الله تعالى قد تكفل بحفظه، بينما الكتب الأخرى في التوراة والإنجيل فقد أوكل حفظها للبشر بما استحفظوا من كتاب الله فلم يحفوظها.
أما القرآن فقد تكفل الله تعالى بحفظه، وحفظ القرآن يتضمن حفظ السنة كما قال أهل العلم، حفظ القرآن يتضمن حفظ السنة، أشار إلى ذلك الشاطبي في الموافقات، وعلل ذلك بأنها يعني السنة بيان للقرآن: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } (2) وحفظ المبين يقتضي حفظ البيان لأنه لازم له.
أيضا تكفل الله تعالى بحفظ مجموع أفراد الأمة، بحفظ مجموع أفراد الأمة، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، هذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة، ولا تزال طائفة منها على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى.
ولهذا قال أهل العلم إنه لا يمكن أن يخلو زمان من قائل بالحق، لا يمكن أن يخلو زمان من قائل بالحق يعني إذا نزلت نازلة فلا يمكن أن يطبق جميع العلماء على غير الحق، لا بد من قائل بالحق، لكن من هو القائل بالحق هذا هو الذي يحتاج يعني من طالب علم أن يتحرى ويجتهد في معرفة هذا الحق، لكن لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء الأمة، لا بد من قائل بالحق، لأن هذا من لوازم حفظ مجموع أفراد هذه الأمة، هذه الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء هذه الأمة، ويضل جميع علماء هذه الأمة عن الحق، فلا بد من قائل بالحق.
__________
(1) - سورة الحجر آية : 9.
(2) - سورة النحل آية : 44.(1/7)
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فإن قلت كيف تكون الشريعة شاملة وكاملة مع وجود نوازل لا نص فيها، مع وجود نوازل لا نص فيها؟
أقول في الجواب عن هذا أجاب الشاطبي في الاعتصام، بأن المراد بالكمال في قول الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) إكمال الكليات، إكمال الكليات، فلم يبق قاعدة يحتاج إليها إلا وبينت.
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى فردوا الجزئيات إلى الكليات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مكث في البعثة والرسالة ثلاثا وعشرين سنة فقط، مكث ثلاثا وعشرين سنة بعث وعمره أربعون وتوفي وعمره ثلاث وستون، مكث فقط ثلاثا وعشرين سنة، ومع ذلك بين للأمة جميع ما تحتاج إليه.
وكما قال الشاطبي المقصود بيان الكليات والقواعد التي تحتاج إليها الأمة، والعلماء والفقهاء في كل عصر يردون الجزئيات إلى هذه القواعد وإلى هذه الكليات، وهذا ملحظ مهم سوف نشير إليه إن شاء الله عند دراسة بعض النوازل.
ثم نأتي لتعريف فقه النوازل، نبدأ أولا بتعريف الفقه، فالفقه معناه في لغة العرب: الفهم: { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) } (2) { يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) } (3) يعني يفهموا قولي، فمادة الفقه في لغة العرب تدور حول معنى الفهم: { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) } (4) يعني يفهمون حديثا. ومعناه شرعا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.
(2) - سورة طه آية : 27.
(3) - سورة طه آية : 28.
(4) - سورة النساء آية : 78.(1/8)
والفقه من أشرف العلوم وأنفعها لطالب العلم، وهو العلم الذي يحتاج الناس إليه في حياتهم العملية، وأضرب لهذا مثلا، لو أنك استمعت إلى أي برنامج إفتاء، انظر إلى أسئلة الناس ستجد أن ما لا يقل عن تسعين في المائة منها أو أكثر فقهية، وهذا لا يقلل من شأن العلوم الأخرى، لكن علم العقيدة والفقه هما أهم علمين يحتاج لهما طالب العلم، وبقية العلوم قد يحتاج الإنسان إليها بقدر معين، بقدر معين، لكن الفقه إذا ضبطه الإنسان فإنه ينتفع وينفع.
ولا بد من ربط الفقه عند دراسته بالحديث، ولا يمكن لطالب العلم أن يحقق المسائل الفقهية، وليس له عناية بالحديث، فمن أنفع الطرق ربط الفقه بالحديث، فلا يستغني طالب العلم بالفقه عن الحديث ولا بالحديث عن الفقه، ولكن من أنفع الطرق التي رأيتها للتفقه هو أن ينطلق طالب العلم من كتب الفقه ويرتبط بالحديث، فمثلا يعني يأخذ هذا الباب لو قلنا باب المعاملات يأخذ كل باب من كتب الفقهاء، ثم ينظر ما في هذا الباب من الأدلة يرجع مثلا للصحيحين يرجع للبلوغ، يرجع لكتب الحديث، ويربطها بهذه المسائل الفقهية.
أما لو عكس انطلق من كتب الحديث، ولم يكن له عناية بكتب الفقه، فتفوته مسائل كثيرة مبناها على النظر، لأن هناك بعض الأبواب قد لا تجد فيه إلا حديثا واحدا، وربما بعضها ليس فيها ولا حديث، لو أخذت مثلا باب الشركة في كتب الفقه فيها مسائل كثيرة جدا، بينما كتب الحديث قد لا تجد فيها إلا حديثا واحدا أو حديثين، فمن اقتصر على كتب الحديث وأهمل كتب الفقه يفوته علم كثير، فلا بد من الجمع بين العلمين، والانطلاق في التفقه من كتب الفقه وربطها مع كتب الحديث.
وأما النوازل فمعناها لغة: النوازل جمع نازلة وهي المصيبة الشديدة من مصائب الدهر تنزل بالناس، يقال نزلت بهم نازلة.
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
... ذرعا وعند الله منها المخرج
ومنه القنوت في النوازل يعني في الشدائد التي تحل بالمسلمين.(1/9)
والنوازل معناها اصطلاحا: الحوادث المستجدة التي تتطلب اجتهادا وبيانا للحكم الشرعي، ومن ذلك كلام الحافظ ابن عبد البر في كتابه القيم جامع بيان العلم وفضله، قال: باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، وقال النووي في شرحه على مسلم: قال: وفيه اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول. وابن القيم يقول في إعلام الموقعين: فصل قد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل.
وإنما نقلت هذه النقولات لأن هناك من المعاصرين من قال: إن مصطلح النوازل عند الأقدمين إنه يطلق على جميع الحوادث التي تحتاج إلى فتيا، سواء كانت قديمة أو جديدة، وهذا محل نظر؛ إذ أننا بالتأمل في كتب المتقدمين نجد أنهم يطلقون النوازل على المسائل المستجدة التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، تطلق النوازل على الحوادث المستجدة التي تتطلب اجتهادا وبيانا للحكم الشرعي فيها.
حكم الاجتهاد في النوازل: الاجتهاد في النوازل فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن بقية العلماء، ويدل لذلك قول الله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } (1) وإنما كان فرض كفاية لأنه يتعلق بالعمل وليس بالعامل.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 187.(1/10)
أهمية العناية بفقه النوازل: أقول: إن فقه النوازل من العلوم المهمة التي ينبغي أن يعنى بها طالب العلم، ويلحظ أن مناهج الفقه التي يدرسها طلاب الكليات الشرعية، ومعظم الدروس في المساجد، تقتصر على الكتب التي صنفت في قرون ماضية، وهي لم تكن قديمة حين وضعها واضعوها، وفيها فائدة عظيمة بل لا يستغني عنها طالب العلم، لكنها لا تغني عن معرفة طالب العلم وعنايته بالنوازل بمعرفة الحكم الشرعي في النوازل، أما اقتصاره على تلك الكتب، وعدم عنايته بفقه النوازل، فهذا كما ذكرت في مقدمة هذا الدرس فيه خلل، ولهذا تجد أن بعض طلاب العلم ليس له عناية بهذه النوازل، ومع أن الناس محتاجون إليها، وسنبين إن شاء الله تعالى المنهج الصحيح لدراسة هذه النوازل ومعرفة الحكم الشرعي فيها.
وقد كان السلف على جانب كبير من العناية بالنوازل مع أنهم كانوا يكرهون التسرع في الفتيا، ويود كل واحد منهم أن يكفيه أخوه، قال ابن أبي ليلى، أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.(1/11)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل من أفتى الناس عن كل ما يسألونه إنه لمجنون، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود، وابن عيينة كان إذا سئل عن مسائل الطلاق قال: من يحسن هذا؟! وقال عبد الله بن الإمام أحمد قال: كنت أسمع أبي يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، كنت أسمعه كثيرا يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما عندما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه، وهذه المقولة: أن أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما نقلها ابن القيم في إعلام الموقعين وعلق عليها، وقال: إن الجرأة على الفتيا إما أن تكون من قلة العلم، وإما أن تكون من غزارة العلم وسعته، إما أن تكون من قلة العلم، وإما أن تكون من غزارة العلم وسعته، فإذا قل علم إنسان أفتى ما يسأل عنه بغير علم، خاصة إذا كان عنده جرأة وقلة ورع، قال وإذا اتسع علم إنسان واتسعت فتياه أيضا كان عنده سعة في الفتيا، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الناس في الفتيا.
أقول مع كراهة السلف للتسرع في الفتيا، ومحبة كل واحد منهم أن أخاه قد كفاه، إلا أنهم كانوا يجتهدون في النوازل، بل حصل الاجتهاد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض الصحابة، كما في قصة بني قريظة في الصحيحين، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة " فأدركتهم صلاة العصر اختلفوا في فهم المقصود من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد الحث على المسير، ولم يقصد أننا نؤخر صلاة العصر إلى أن نصل إلى بني قريظة ولو خرج الوقت، وقال آخرون: لا، بل نلتزم بظاهر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصلوا صلاة العصر إلا بعدما وصلوا بني قريظة، بعد خروج وقتها، قال ابن عمر ولم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أيا من الطائفتين.(1/12)
لكن أي الطائفتين أفقه الطائفة الأولى أو الثانية، الأولى أفقه الذين صلوا في الوقت فهموا مقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " فلذلك هذه الطائفة الأولى أفقه، لكن الطائفة الثانية التي أخذت بظاهر النص أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعنف عليها، هذا نوع اجتهاد حصل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومن الاجتهاد في النوازل الذي حصل في عهد الصحابة الاجتهاد في الجد مع الإخوة، لأن هذه المسألة لم تقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما وقعت في عهد الصحابة، فاجتهدوا فيها، كان أبو بكر يقول: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
ومن ذلك أيضا قصة رجوع عمر من الشام لما وقع بها الطاعون، قد ذكر هذه القصة البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: الآن هو أمام نازلة، هو الآن يسير في الطريق إلى الشام أخبر بأن الطاعون وقع بالشام، هل يسير ويذهب للشام، أو أنه يرجع للمدينة؟
فجمع عمر - رضي الله عنه - الصحابة، وكان أول ما بدأ بالمهاجرين، قال: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فاختلفوا، أي بعضهم قالوا: نرى أن تذهب، وبعضهم قال: نرى أن نرجع، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال آخرون: معك بقية الناس وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فاختلفوا فقال عمر: ارتفعوا عني.(1/13)
ثم قال: ادع لي الأنصار، قال: فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال لابن عباس: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة، أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليست إن رعت الخصيبة رعتها بقدر الله، وإن رعت الجدبة رعتها بقدر الله.
قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا سمعتم به - يعني الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف.
فهذه الآن نازلة وقعت بالصحابة رضي الله عنهم، وقع الطاعون وهم في الطريق، وقع الطاعون بأرض الشام وهم في الطريق إليها، هل يستمرون في الذهاب ويقدمون على أرض الشام وبها الطاعون، أم أنهم يرجعون ولا يعرضون أنفسهم لهذا الوباء؟
فعمر - رضي الله عنه - أراد أن يجتهد في هذه النازلة، فانظر إلى منهج عمر - رضي الله عنه - إلى منهجه في الاجتهاد فيها حتى وفق للصواب قطعا، لأن عبد الرحمن بن عوف ذكر هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستشار أولا المهاجرين، ثم استشار الأنصار وحصل الاختلاف، ثم استشار من كان عنده من المهاجرين الأولين من مهاجرة الفتح من مشيخة قريش فلم يختلفوا، فأخذ عمر برأيهم، ثم أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بأن هذا الرأي الذي رآه عمر قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا نوع من الاجتهاد الذي حصل في زمن الصحابة رضي الله عنهم.(1/14)
وانظر هنا إلى عمر كيف إنه لم يجتهد هو بنفسه، ويكتفي باجتهاده بل دعا الصحابة، وهذا يعني أصل للاجتهاد الجماعي الذي سوف نشير إليه، مثل هذه النوازل والقضايا الكبيرة التي تتعلق بمجموع الناس يحسن أن يكون فيها اجتهاد جماعي؛ لأن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى التوفيق، وإلى إصابة حكم الله ورسوله من الاجتهاد الفردي.
الاجتهاد في فقه النوازل في الوقت الحاضر، في الوقت الحاضر تنزل بالمسلمين نوازل، وتستجد مسائل لم تكن معروفة من قبل، بل إننا ربما نقول: إن العصر الذي نعيش فيه هو عصر النوازل، وذلك بسبب ما يشهده العالم اليوم من ما يسمى بالتقدم التكنولوجي والثورة الصناعية الكبيرة في جميع مجالات الحياة، مما أوجد مسائل جديدة، وحوادث، ومستجدات لم تكن معروفة من قبل، ويتعين على فقهاء الأمة بيان الحكم الشرعي فيها.
والواقع أن أكبر إشكالية تواجه كثيرا من العلماء في الوقت الحاضر في مثل هذه النوازل والمسائل صعوبة تصور تلك المسائل تصورا دقيقا، فقد يكون العالم غزيرا في علمه الشرعي، ولكن ينقصه التصور الصحيح لواقع تلك النازلة، ومن هنا تبرز أهمية الاجتهاد الجماعي في تلك النوازل، إذ أنه في الاجتهاد الجماعي يستعان بأهل الاختصاص في النازلة، يستعان بأهل الاختصاص في النازلة المراد بحثها، فإن كانت النازلة طبية يستعان بالأطباء في تصوير هذه النازلة، إذا كانت متعلقة بالاقتصاد استعانوا بالاقتصاديين، إذا كانت متعلقة بالفلك يستعان بالفلكيين، إذا كانت متعلقة بأمور قانونية يستعان بالقانونيين، وهكذا.(1/15)
هذا الاجتهاد الجماعي نحن قلنا إن أصله كان موجودا عند السلف كما مر معنا في قصة عمر في رجوعه من الشام لما وقع الطاعون، وكان عمر - رضي الله عنه - من منهجه أنه كلما نزلت نازلة جمع فقهاء الصحابة واستشارهم، الاجتهاد الجماعي في الوقت الحاضر يتمثل في المجامع الفقهية، والهيئات العلمية، ونشير إلى أبرز هذه المجامع والهيئات، المجامع الفقهية، هناك عدة مجامع، منها: مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، منظمة المؤتمر الإسلامي، هناك مجمع الفقه الإسلامي في الهند، مجمع الفقه الإسلامي في السودان، مجمع الفقه الإسلامي في أوروبا.
لكن أبرز هذه المجامع مجمعان: الأول: المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وهذا المجمع نفع الله تعالى به نفعا كثيرا، وينتقى له نخبة من فقهاء الأمة، وقد عقد دورة قبل نحو شهرين قد شاركت في أعمال هذه الدورة، ورأيت كيف ينظر للنوازل والمسائل، ولعلي يعني أفصل حول هذا المجمع نظرا لأنني قد يعني عايشت جلسات هذا المجمع وكيفية إبداء الرأي في النوازل والمسائل المستجدة، والمسائل التي يبحثها ويدرسها هذا المجمع.(1/16)
جاء في نظام المجمع أن أبرز أهدافه بيان الأحكام الشرعية فيما يواجه المسلمين في أنحاء العالم من مشكلات ونوازل وقضايا مستجدة استنادا إلى مصادر التشريع المعتبرة، وقد كانت بداية تأسيسه أن أوصت به الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي في نظامها الصادر عام 1383 للهجرة، وفي عام 1384 قرر المؤتمر الثاني للأمانة تأسيس المجمع الفقهي الإسلامي، وفي عام 1385 قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي تشكيل هيئة علمية من أعضاء المجلس التأسيسي للرابطة، لدراسة مشروع المجمع الفقهي الإسلامي، وكان ذلك برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- يعني كانت بداية فكرة المجمع وقت الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- وكان على رأس الهيئة العلمية لدراسة مشروع المجمع.
وفي عام 1393 رفعت الأمانة العامة للرابطة ما توصلت إليه الهيئة المذكورة في دراستها لمشروع المجمع إلى المجلس التأسيسي للرابطة، فاتخذ المجلس قرارا جديدا بتأليف مجلس المجمع من عشرة أعضاء، وفي شهر محرم عام 1396 أصدرت الأمانة العامة للرابطة قرارها بتأسيس إدارة خاصة باسم المجمع الفقهي الإسلامي، في عام 1397 أقر المجلس التأسيسي للرابطة نظام المجمع، وتوفي ثلاثة من أعضاء المجمع العشرة قبل انعقاد الدورة الأولى، ثم زيد في عدد أعضاء المجلس إلى اثنين وعشرين عضوا من ثنتي عشرة دولة إسلامية، وعقد المجلس أول دورة، وبدأ نشاطه في شهر شعبان عام 1398.(1/17)
لاحظ الآن كم بين فكرة تأسيسه وبين انعقاد أول دورة يعني كانت فكرة التأسيس 1383، انعقاد أول دورة 1397 كم بينهما من سنة، خمسة عشرة سنة تقريبا، ولكن يعني رغم أن هذه البداية أخذت وقتا إلا أنه لما انعقدت الدورة الأولى انتظمت دورات المجمع إلى وقتنا هذا، لكن بداية الأمر أخذت وقتا طويلا، حتى تبلورت الفكرة، وحتى تأسس هذا المجمع، فبدأت الدورة الأولى عام 1398 وكان رئيس المجمع الفقهي الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله - وبقي رئيسا له إلى أن توفي عام 1402 للهجرة.
ثم رأسه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- إلى أن توفي عام 1420 للهجرة، ويرأسه الآن سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله، وفي عام 1422 زيد في عدد أعضائه إلى ثلاثين عضوا، وقد عقد المجمع ثماني عشرة دورة، كانت الدورة الثامنة عشرة قبل شهرين تقريبا، وناقش فيها الكثير من القضايا والنوازل وأصدر بشأنها مائة قرار، أصدر بشأن هذه النوازل والقضايا إلى نهاية الدورة الثامنة عشرة مائة قرار، وكان يعني هي مائة وواحد لكن هذا القرار الزائد على المائة أرجئ كان عن حول اختيار جنس الجنين، وأرجئ إلى الدورة القادمة، فكانت القرارات التي أصدرها المجمع إلى هذا الوقت مائة قرار.
ويستكتب المجمع عددا من الباحثين والمختصين، ويستعين بعدد من الخبراء في النوازل المراد دراستها وبحثها، وفي الدورة الأخيرة رأيت أن المجمع استعان بعدد من الاقتصاديين وعدد من الأطباء، فكان مثلا بالنسبة للمسألة التي أشرت إليها مسألة اختيار جنس الجنين استعان بعدد من الأطباء الذين كتبوا بحوثا، ثم أتوا وأدلوا بدلوهم في المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع وهذه النازلة.(1/18)
ومن هنا يتبين أهمية هذه المجامع والهيئات العلمية، لأنه يؤتى بالمختصين في النوازل المراد دراستها وبحثها ويستمع لهم، وتحصل مناقشات ومداولات حتى تتضح المسألة للفقيه ويتصورها تصورا كاملا، ثم يبدأ النقاش بين الفقهاء في التكييف الفقهي لتلك النازلة، ثم يصدر في هذه النازلة قرار إن كان هناك خلاف يكون هناك تصويت بالأغلبية، ثم يصدر قرار في تلك النازلة، وتنعقد دورات المجمع كل سنتين.
المجمع الثاني: مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، والدولي هذه أضيفت مؤخرا كان يطلق عليه في السابق مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لكن في الآونة الأخيرة أضيفت كلمة الدولي، وبدأ تأسيسه بقرار من مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، المنعقد في مكة المكرمة في التاسع عشر إلى الثاني والعشرين من ربيع الأول عام 1401 للهجرة، وكان من توصيات المؤتمر تأسيس مجمع فقهي إسلامي، وانعقد المؤتمر التأسيسي للمجمع في السادس والعشرين من شهر شعبان عام 1403 للهجرة وانتخب الشيخ محمد بن جبير -رحمه الله- رئيسا له، والمقر الرسمي للمجمع هو جدة، ولكن تنعقد دورات المجمع في عدد من الدول، تتنقل دورات المجمع وتنعقد في عدد من الدول، لكن المقر الرئيسي له هو مدينة جدة، وهو كمجمع الرابطة يستعين بعدد من الخبراء والمختصين.
ثم انعقدت الدورة الثانية عام 1406 ورأس المجمع الشيخ بكر أبو زيد -حفظه الله- ولا يزال رئيسا له إلى وقت قريب، وسمعت أنه اعتذر عن رئاسة المجمع بسبب مرضه شفاه الله، وسوف ينتخب في الدورة التي ستعقد قريبا، سينتخب رئيسٌ جديدٌ للمجمع، هذا المجمع أصدر عددا من القرارات، وله مجلة ضخمة تقع في أكثر من أربعين مجلدا تباع في المكتبات، ودون في هذه المجلة جميع مناقشات الأعضاء، وجميع البحوث المطروحة في المجمع، ويمكن أن يستفيد منها طالب العلم.
أبرز الهيئات العلمية المعنية بفقه النوازل:(1/19)
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وقد صدر الأمر الملكي بإنشائها في الثامن من شهر رجب عام 1391 للهجرة، ويتفرع عنها لجنة دائمة يختار أعضائها من أعضاء هيئة كبار العلماء، وينعقد مجلس هيئة كبار العلماء كل ستة أشهر، ويبحث النوازل والمسائل والقضايا المستجدة، وقد نشرت بعض بحوث الهيئة وقراراتها. ونكتفي بهذا القدر بالنسبة للهيئات والمجامع العلمية، لكن ما ذكرت هو أبرز الهيئات والمجامع التي تعنى بدراسة فقه النوازل.
أنتقل بعد ذلك إلى المناهج المعاصرة في النظر في النوازل، هناك ثلاثة مناهج في النظر في النوازل والمسائل المستجدة:
المنهج الأول: منهج التضييق والتشديد، وهذا المنهج منهجٌ غير سديد، ولا يتوافق مع هذه الشريعة السمحة التي رفع الله تعالى فيها الحرج عن المكلفين { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (1) { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (2) ولكن تجد بعض المفتين يسلك هذا المسلك، فعندما يسأل عن مسألة من المسائل المعاصرة والمستجدة يفتي بالتحريم في أكثر أجوبته، وكما يقول سفيان: التشديد كلٌّ يحسنه، وإنما العلم الرخص عن الثقات، من السهل على الإنسان أن يقول هذا حرام، ولكن إذا قال هذا حرام أو هذا حلال هذا قول على الله تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } (3) .
فهذا المنهج إذا منهجٌ غير سليم، يقابله المنهج الثاني، وهو منهج التساهل، منهج التساهل والانحلال كما يعبر عن ذلك الشاطبي التساهل والانحلال، والتوسع الزائد. وهذا نلحظه مع الأسف في بعض المفتين، تجد بعض المفتين يتساهل تساهلا كبيرا في كثير من المسائل وأمور الفتيا.
__________
(1) - سورة المؤمنون آية : 78.
(2) - سورة البقرة آية : 286.
(3) - سورة النحل آية : 116.(1/20)
حتى إنه في بعض البنوك يمارس الربا باسم الهيئات الشرعية، ويسمون الربا بغير اسمه، يسمى الربا بدل غرامة تأخير، إذا ماطل المدين يحسبون عليه غرامة يسمونها غرامة تأخير، يقولون هذا بدل عن غرامة التأخير عن مماطلة المدين، وهذا هو ربا الجاهلية بعينه، هذا هو ربا الجاهلية بعينه، فإن ربا الجاهلية عندما يحل الدين يأتي الدائن المدين ويقول: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضى وإلا أخره نظير الزيادة عليه، وهذا يمارس في بعض البنوك باسم بعض الهيئات الشرعية، ويعتبرونه بدلا عن ضرر المماطلة، ولكنه في الحقيقة هو من الربا.
أو ما يمارس أيضا في بعض البنوك باسم رسوم إدارية، وهي في الحقيقة فوائد ربوية، يسمونها رسوما إدارية، وهي في الحقيقة فوائد ربوية، كالرسوم الشهرية التي تؤخذ على بعض البطاقات، رسوم كبيرة يأخذون من العميل مائة وخمسين ريالا، أو مائتي ريال كل شهر، ويسمونها رسوما إدارية.
وهذه في الحقيقة من الربا الصريح، وإن سمي رسوما إدارية، ولكن يعني مع الأسف يمارس هذا باسم الهيئات الشرعية، هذا مثال للتساهل في الفتيا، وهذا أيضا منهجٌ غير سديد، كما أن التشدد في الفتيا التشدد والتضييق منهجٌ غير سديد، فكذلك أيضا التساهل في الفتيا منهجٌ غير سديد.
المنهج الثالث: الاعتدال فلا تشديد ولا تساهل، الاعتدال فلا تشديد ولا تساهل، مع النظر في الأصول والقواعد الشرعية، والنظر كذلك في مقاصد الشريعة، قال الشاطبي -رحمه الله- المفتي البالغ ذروة الاجتهاد هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، قال: والدليل على صحة هذا أن هذا هو الصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم وسط بين طرفين، فإن هذا هو الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة.(1/21)
فإن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، قال: أما طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما طرف الانحلال فكذلك، لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك إلى آخر ما قال.
فالشاطبي -رحمه الله- ينصر هذا المنهج، يقول: إنه هو الطريق المستقيم، الاعتدال، فلا تشدد ولا تساهل، ولكن هذا المنهج هو وإن كان هو المنهج السديد إلا أن العلماء أجازوا للمفتي أن يتشدد في الفتيا على سبيل السياسة، على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، فإذا رأى المفتي شخصا متساهلا في هذه المعاصي فهنا يسلك معه مسلك التشديد، وكذلك أن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو على غيره، ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط.
إذا عرفنا أن المنهج السديد في دراسة النوازل هو أن يسلك طالب العلم مسلك الاعتدال، فلا تشديد ولا تساهل وانحلال، هذا هو المنهج السديد في دراسة النوازل، وأحسب أن هذا المنهج هو الذي تسلكه المجامع الفقهية والهيئات العلمية، فإنها تضم نخبة من الفقهاء، وهم يسلكون هذا المسلك مسلك الاعتدال فلا تشديد على الناس، ولا أيضا تساهل وانحلال في الفتيا.(1/22)
وهناك أمر مهم ينبغي التنبه له عند دراسة النوازل، وهو النظر إلى مقاصد الشريعة، وهو ملحظ مهم جدا، لا بد من النظر إلى مقاصد الشريعة، فعندما تكون النازلة مثلا متعلقة بأمرٍ متعلق بالربا، فننظر إلى مقصد الشريعة، نجد أن الشريعة فيما يتعلق بالربا شددت فيه تشديدا عظيما، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا ومؤكله، وكاتبه وشاهديه، وقد أذن الله تعالى آكل الربا بالحرب حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب بالتمر، كما في حديث سعد بن أبي وقاص عند أصحاب السنن، سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال - عليه الصلاة والسلام -: " أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن " يعني إذا أردت أن تبيع كيلو تمر بكيلو رطب مع التقابض لا يجوز، لماذا؟ لأن هذا الرطب سوف ينقص إذا يبس مع أن الفارق يسير جدا، ومع ذلك منع منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع العينة لأنه ذريعة للربا، وسدت الذرائع الموصلة للربا، فنجد أنه في باب الربا شددت الشريعة فيه، فننظر إلى هذا المقصد ونشدد فيما كان متعلقا بأمر الربا.
لكن لو مثلا يعني نظرنا إلى المسائل التي يلحق الناس فيها حرج ومشقة مثل مسائل مثلا الرمي في الحج يلحق الناس حرج كبير ومشقة، وهنا يسلك مسلك التيسير على الناس، لأن هذا مقصد شرعي، وما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر يوم النحر إلا قال: افعل ولا حرج، ولهذا أجاز العلماء في الوقت الحاضر الرمي بالليل، ومع أن هذا لم يكن موجودا من قبل، لكن اعتبروا أن هذه نازلة، لما كثر الناس وكثر الحجاج، وأصبحوا بالملايين، يعني فاقوا المليون، وهنا نظر الفقهاء في هذا، ونظروا إلى المقاصد الشرعية، وأفتى عامة العلماء في الوقت الحاضر بجواز الرمي ليلا، فإذا لا بد من العناية بالنظر إلى مقاصد الشريعة فيما يتعلق بدراسة النوازل.(1/23)
مدارك الحكم على النوازل، قال ابن القيم -رحمه الله- لا يتمكن المفتي ولا الحاكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، لا يتمكن المفتي ولا الحاكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، الأول: فهم الواقع والفقه فيه، الثاني: فهم حكم الله ورسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، نعم قال ابن القيم: إنه لا يتمكن المفتي ولا الحاكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، الأول: فهم الواقع والفقه فيه، الثاني: فهم حكم الله ورسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.
فلا بد إذا من هذين الفهمين، فلا بد عند النظر للنوازل:
أولا: التصور الصحيح والدقيق للمسألة، وهذا له أثر في الحكم على تلك النازلة، وكما ذكرت إن هذا التصور ربما يكون يشكل على بعض العلماء المعاصرين بسبب تعقد بعض المسائل وتشابكها وتداخلها، ومن هنا فنحن نحتاج إلى الاجتهاد الجماعي عند دراسة النوازل، وذلك حتى يستعان بالمختصين في تلك المسائل وفي تلك النوازل، وحتى لو لم يعني يكن هناك اجتهاد جماعي في بعض المسائل، فلا بد أن يسأل الدارس لتلك النازلة يسأل المختصين عنها حتى يتصورها تصورا صحيحا، وهذا إن شاء الله تعالى سيأتي له أمثلة عند دراسة بعض النوازل.(1/24)
الأمر الثاني: التكييف الفقهي للنازلة، وذلك بأن تصنف النازلة وترد إلى أصل من الأصول الشرعية، تصنف النازلة وترد إلى أصل من الأصول الشرعية، فيعرف ما هو التكييف الفقهي لها، يعني على سبيل المثال ودائع البنوك ما التكييف الفقهي لها؟! هل هي فعلا وديعة كما تسمى؟ فعندما ننظر إلى هذه الوديعة ننظر أنها في التكييف الفقهي لها في قول أكثر العلماء المعاصرين أنها قرض وليست وديعة، لأن الإنسان عندما يعطي البنك هذا المبلغ يتصرف المصرف أو البنك في هذا المبلغ، ويضمنه بكل حال حتى لو تلف من غير تعد ولا تفريط، وهذا من شأن القرض وليس من شأن الوديعة، ولهذا فإن ما يسمى بودائع البنوك عندما تكيف تكييفا فقهيا فإنها قرض وليست وديعة، والعلاقة بين العميل والبنك هي علاقة مقرض بمقترض.
الأمر الثالث: تطبيق الحكم على النازلة، تطبيق الحكم على النازلة التطبيق الصحيح ، التطبيق الصحيح، وهذا أمر في غاية الأهمية، أضرب لهذا مثالا ما يسمى بالشركات المساهمة المختلطة، اختلف فيها العلماء على قولين: سبق أن تكلمنا في الدورة الماضية عن تفاصيل هذا الخلاف، وأقوال العلماء، وأدلتهم فيها، لكن أشير هنا باختصار أقول: إن من أجاز الدخول في الشركات المختلطة، أو بعض من أجاز الدخول في الشركات المختلطة استدلوا بقواعد فقهية صحيحة، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة.
ومن ذلك مثلا قالوا: إذا اختلط المال الحلال بالحرام غلب جانب الحلال، هذه قاعدة صحيحة، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة، لأن من يدخل في الشركات المختلطة ويساهم فيها هو في الحقيقة يملك جزءا من هذه الشركة فتنسب له أعمال الشركة، ومنها التعاملات المحرمة، فهذه قواعد صحيحة يستدلون بها، وهي قواعد فقهية صحيحة، ومقررة عند العلماء، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة، فلا بد أيضا عند دراسة النوازل تطبيق الحكم على النازلة التطبيق الصحيح.(1/25)
تختلف الفتوى في مسألة معينة عن القواعد التي تكون، أو تراعى عند دراسة النوازل، الفتوى في مسألة معينة يراعى فيها حال المستفتي، وحال الزمان، وحال المكان، فلو أتى مثلا مستفتٍ عنده شيء من الوسوسة في الطهارة، أو في أمر معين، فينبغي أن يراعي المفتي حال هذا الإنسان، ولا يفتي هذا الإنسان الذي عنده وسوسة كغيره، وكذلك لو أتى إنسان عنده شيء من التساهل فيراعي حاله، ولكن عندما يقرر حكم شرعي في نازلة فإنها تراعى القواعد التي ذكرها العلماء في دراسة النوازل.
من المزالق عند دراسة النوازل:
أولا: تقسيم النازلة إلى أجزائها، تفكيك النازلة وتقسيمها إلى أجزاء، ومن ذلك على سبيل المثال، التورق المنظم الذي يجري في البنوك، فصورة التورق المنظم أن يأتي الإنسان إلى البنك يريد منه سيولة، فيقول البنك: أنا عندي حديد أو معادن أو غير ذلك من السلع، وأبيعها عليك بالتقسيط، ثم توكلني في بيعها على طرف ثالث، وبعد ساعة أو أقل أو أكثر ينزل في رصيدك ما تريد من السيولة النقدية.(1/26)
هذه الصورة بعض العلماء أجازها؛ لأنه نظر إلى هذه الصورة، وهذه المسألة مفككة نظر للتورق قال: التورق جائز، التوكيل البنكي التوكيل جائز، فهذه وكالة وتورق، وقال بالجواز، لكن لا يصح هذا النظر بهذه الطريقة، بل لا بد أن ننظر إلى صورة المسألة كلية، فننظر إلى أن هذه في الحقيقة هي حيلة على الربا، فالتورق القول الصحيح أنه يجوز، لكن التورق الذي يمارس بهذه الطريقة لا يجوز؛ لأن ترتيب المسألة بهذه الطريقة أخرجها من دائرة الجواز إلى دائرة الحظر، فأصبحت المسألة ما هي إلا حيلة على الربا مجرد أن هذا العميل يعبأ له أوراق، ينزل في رصيده ما أراد من السيولة النقدية، فيعطيه البنك ما أراد من السيولة النقدية، ويثبت في ذمته مبلغا أكثر منه بإجراءات بسيطة بمجرد تعبئة هذه الأوراق ويتولى البنك، كما أنه يبيع عليه هذه السلعة يتولى بيعها على طرف ثالث، هذه النظرة غير صحيحة، وغير مستقيمة، تفكيك المسألة بهذه الطريقة غير مستقيم، فهذا من المزالق في دراسة النوازل.
ومن ذلك أيضا التأثر بضغط الواقع ، التأثر بضغط الواقع، فيتأثر بعض الناس عندما يدرس نازلة من النوازل بضغط الواقع، فيفتي بالجواز مثلا في هذه المسألة بسبب ضغط الواقع، وهذا منهج غير سديد، بل ينبغي أن يبين حكم الله ورسوله، سواء وافق هوى الناس أو خالف هوى الناس، بل ينبغي أن يخضع واقع الناس لحكم الله ورسوله، ولو كان هذا الحكم فيه شدة، فشرع الله تعالى لا يخضع لأهواء الناس، بل ينبغي أن تخضع أهواء الناس لشرع الله تعالى.
ولهذا في الشركات المختلطة لما تأثر بعض الناس بضغط الواقع، يمكن كان قبل سنوات لا يكاد يوجد شركة مساهمة تخلو من التعاملات الربوية، فقال بعض الناس كيف نحرم الأمة من هذه الشركات إذا كان هذا هو واقع الشركات في العالم الإسلامي، فكيف نحرم الأمة من هذه الشركات، فتأثروا بضغط الواقع وأفتوا بالجواز، بجواز الدخول في هذه الشركات مع التطهير .(1/27)
والواقع أننا نقول: إذا كانت هذه الشركات متورطة في الربا، فنقول: الدخول فيها حرام، ولو حرمنا الدخول في جميع الشركات، إذا كانت متورطة في الربا، فالدخول فيها حرام، فلماذا نتأثر بضغط الواقع؟! ينبغي لطالب العلم أن ينظر إلى المسألة بغض النظر عن ضغط الواقع، فلا يؤثر ضغط الواقع عليه لكي يفتي بحكم معين، بل ينبغي أن يجتهد في معرفة حكم الله ورسوله، سواء وافق هوى الناس أو لم يوافق هوى الناس.
وأما المنهج الذي نسير عليه إن شاء الله تعالى في هذه السلسلة من الدروس فنذكر النازلة ونصورها أولا تصويرا دقيقا حتى يتضح المقصود بها، ثم نبين آراء العلماء المعاصرين فيها، ونذكر أدلتهم، ونناقش تلك الأدلة، ونبين القول الراجح فيها، وننقل آراء المجامع الفقهية والهيئات العلمية في تلك النازلة إن وجد فيها شيء من ذلك، على أننا لن نذكر إن شاء الله تعالى في هذه الدروس نازلة إلا وقد سبق أن تكلم فيها أحد العلماء، أو أنه صدر فيها قرار مجمع فقهي أو من هيئة علمية، فلن أتكلم في مسألة لم أسبق إليها؛ لأنني أرى أيضا أن هذا من المنهج السديد عدم التسرع في الحكم على النوازل، عدم التسرع في الحكم على النوازل، لأن هذه النوازل تحتاج إلى تأنٍ وإلى تقليب النظر، وإلى مناقشة، وحتى يتجلى ويتضح الحكم الشرعي فيها.
وسوف نذكر إن شاء الله تعالى أبرز النوازل التي يحتاج إليها الناس في واقعهم سوف نبدأ اعتبارا من الدرس القادم إن شاء الله تعالى بذكر النازلة الأولى، ثم نسير على هذا النهج لنكون مع نهاية هذه السلسلة من الدروس، قد ذكرنا عددا من النوازل التي يحتاج إليها الناس في واقعهم، وأسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا العلم النافع، ويوفقنا للعمل الصالح، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/28)
قال: يا حبذا لو تتكرموا بكتابة جميع وأغلب الهيئات والمجلات والمجامع والدوريات مع كتابة أرقام هواتفهم وصناديق البريد حتى نتمكن من المراسلة لهم والاستفادة من منشوراتهم ومجلاتهم التي لا توجد في الأسواق، ثم تطبع وتوزع على طلاب العلم كي يتم الاستفادة منها، مثل هيئة المحاسبة، ومجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ومجلة الحكمة؟
على كل حال هي موجودة، موجودة، ويعنى بها كثيرا طلاب الدراسات العليا في الكليات الشرعية، لهم عناية كبيرة بفقه النوازل لأن هذه المادة مقررة عندهم، ومجلة مجمع الفقه الإسلامي منظمة المؤتمر الإسلامي موجودة في المكتبات، وكذلك أيضا مجلة الرابطة، وإن كانت يعني ربما لا توجد في كثير من المكتبات لكنها بالإمكان الحصول عليها، أو مراسلة الإخوة في رابطة العالم الإسلامي، أو الاشتراك فيها، فيها اشتراك لمن رغب، فهي موجودة كذلك، نعم، موجودة، الشيخ فهد يقول موجودة عندهم في المكتبة هناك مكتبة ابن القيم.
هيئة المعايير والمحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية لديهم أيضا بحوث جيدة، قد شاركت معهم في واحد من هذه البحوث، وهي أيضا تخضع للاجتهاد الجماعي، هي تخضع للاجتهاد الجماعي ولهم معايير صدرت في هذا، لكنها خاصة بالمعاملات المالية الإسلامية فقط، مجلة الحكمة، ومجلة البحوث الفقهية المعاصرة أيضا موجودة في المكتبات، هناك أيضا بعض المواقع على الإنترنت لها عناية بهذه المسائل.
إذا نزلت نازلة وأنا في صحراء ولم أسمع بفتوى في مكان القبلة، هل أجتهد؟
لا، تحديد القبلة لا يقال أنه نازلة، وهذا ذكره يعني الفقهاء يجتهد الإنسان إذا اشتبهت عليه القبلة يجتهد حتى يعرف القبلة إما بالنظر للشمس، أو غير ذلك من العلامات، ثم يصلي على حسب اجتهاده، وصلاته صحيحة حتى وإن أخطأ، لكن هذا إذا كان في السفر، أما إذا كان في الحضر فكثير من الفقهاء يقولون إن الحضر ليس بمحل للاجتهاد، ليس بمحل للاجتهاد.(1/29)
ويعني هنا مسألة وهي يعني كنت أود التنبيه عليها في الدرس، وهي إذا اختلف المفتون في النازلة، إذا اختلف المفتون في نازلة من النوازل، وهذه مسألة يحتار فيها العامة، نازلة من النوازل يختلف فيها المفتون هذا يقول بالجواز، وهذا يقول بالتحريم، فهل نقول أن هذا العامي يتخير، العامي ليس عنده آلة وقدرة على التخير، فالقول بأنه يتخير مشكل، فكثير من المسائل يختلف فيها العلماء، قل أن تجد مسألة يتفق فيها العلماء، والصواب في هذه المسائل أنه إذا اختلف المفتون فإنه يلزم المستفتي اتباع الأوثق عنده في علمه ودينه وأمانته، نقول: انظر إلى هؤلاء المفتين من الأوثق عندك في علمه ودينه وأمانته؟ إذا قال فلان، يلزمك أن تأخذ بفتياه، هذا هو أصح ما قيل في هذه المسألة.
من عرف من العلماء المعاصرين بالاهتمام بالنوازل المعاصرة، وأي كتبه أضبط وأجمع؟
أنا في رأيي أن النوازل المعاصرة، أحسن من يدرسها المجامع الفقهية، المجامع الفقهية تدرس هذه النوازل بعدما تستكتب بعض الباحثين والخبراء، وتطلب منهم بحوثا في هذه النازلة، أنا أذكر في الدورة الأخيرة في المجمع الفقهي موضوع من الموضوعات كتب فيه سبعة بحوث من فقهاء متخصصين، ثم نوقشت هذه البحوث، ثم بعد ذلك صدر في هذه النازلة قرار.
فالمجامع الفقهية والهيئات العلمية خاصة هيئة كبار العلماء، وكذلك اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، تعنى بدراسة هذه النوازل، والأمة لا تزال بخير ولله الحمد، والعلماء لهم عناية كبيرة بهذه النوازل والمسائل المستجدة، والمهم هو توجيه طلاب العلم إلى العناية بهذا الفقه، العناية بهذا الفقه، وأنت إذا وجد لديك اهتمام بهذا الفقه، فستجد أنه قد كتب فيه، وعني به عناية كبيرة من قبل كبار العلماء في هذا العصر.
ما هي الطريقة لمتابعة المجامع الفقهية، وما يصدر منها من فتاوى؟(1/30)
الطريقة هي متابعة المجلات التي تصدر عن هذه المجامع، فإنها تنشر فيها قرارات هذه المجامع، كذلك أيضا الاتصال ببعض المهتمين بهذه القرارات، وهي أيضا تنشر في الصحف، وفي بعض وسائل الإعلام وبعض المجلات، يعني على سبيل المثال، قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في الدورة الأخيرة نشرت في الصحف، نشرت هذه القرارات في الصحف، وتنشر أيضا في مجلة المجمع، وأيضا توجد في بعض مواقع الإنترنت، المهم أنه توجد إذا وجد لدى طالب العلم الاهتمام بهذا الفقه فإنه سيجد من الوسائل ما يعينه على معرفة تلك القرارات والوصول إليها.
طيب هذا ونسأل الله - عز وجل - للجميع العلم النافع والفقه في الدين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حكم مياه المجاري بعد تنقيتها ومعالجتها من حيث الطهارة والنجاسة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعا ينفعنا.
كنا قد تكلمنا في الدرس السابق عن الجانب التأصيلي لفقه النوازل، ونبدأ في هذا الدرس بدراسة بعض النوازل، ونبدأ بالنوازل المتعلقة بكتاب الطهارة، وبين أيدينا عدد من النوازل، وسوف نبدأ إن شاء الله بالمسألة الأولى.
المسألة الأولى: حكم مياه المجاري بعد تنقيتها ومعالجتها من حيث الطهارة والنجاسة.
ثم المسألة الثانية: أثر التطهير بالبخار في إزالة النجاسة.
والمسألة الثالثة: الأصباغ التي توضع على الشعر حكمها، وأثرها بالنسبة للطهارة.
والمسألة الرابعة: الرموش الصناعية حكمها وأثرها على طهارة المرأة.(1/31)
ونبدأ بالمسألة الأولى: وهي مياه المجاري بعد معالجتها: فنقول مياه المجاري في الوقت الحاضر أصبحت تعالج عبر عمليات كيميائية عن طريق أجهزة متقدمة، وقد ذكر أهل الاختصاص أنها تمر بعدة مراحل، تمر بأربعة مراحل، فتمر على ما ذكره أهل الاختصاص بالتنقية، ثم التهوية، وقتل الجراثيم، والتعقيم، فهي تمر بهذه المراحل الأربع، الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، والتعقيم، هذه هي المراحل التي تمر بها مياه المجاري لتنقيتها.
يقولون المرحلة الأولى: الترسيب، الثانية: التهوية، الثالثة: قتل الجراثيم، الرابعة: التعقيم، فإذا مرت هذه المياه بهذه المراحل الأربع، الترسيب والتهوية وقتل الجراثيم والتعقيم، فإنه لا يبقى للنجاسة أي أثر لا من جهة اللون، ولا من جهة الطعم، ولا من جهة الرائحة، فهل نقول: إن هذه المياه بعد هذه المعالجة أصبحت طاهرة يجوز التوضؤ بها؟
هذه في الحقيقة من النوازل، لأن هذه التنقية على هذا الوجه، لم تكن معروفة من قبل، ولكن يمكن رد هذه المسألة إلى مسألة ذكرها الفقهاء المتقدمون، ذكرها فقهاؤنا رحمهم الله، وهي مسألة هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ وعلى ضوء هذه المسألة يمكن أن نعرف الحكم في هذه النازلة، فنريد أولا نبحث هذه المسألة، وهي هل يتعين الماء لإزالة النجاسة؟ أو أنه لا يتعين فتزول النجاسة بأي مزيل كالشمس والريح ونحو ذلك، فنبحث إذا أولا هذه المسألة المفرع عليها، ثم نعود لبيان حكم النازلة.
فنقول اختلف الفقهاء في هذه المسألة أعني هل يتعين الماء لإزالة النجاسة أو أنه لا يتعين؟ اختلفوا على قولين مشهورين:(1/32)
القول الأول: أنه يتعين الماء لإزالة النجاسة، أنه يتعين الماء لإزالة النجاسة، فلا تزول النجاسة بمزيل آخر غير الماء، وهذا القول هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو مذهب المالكية والشافعية، واستدل أصحاب هذا القول بعموم الأدلة التي تدل على أن الماء مطهر، ومزيل للنجاسة، ومنها قول الله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) } (1) وكذلك ما جاء في الصحيحين في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصب على بوله ذنوبا من ماء أو دلوا من ماء، وأيضا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان هديه في إزالة النجاسة أنه كان يزيلها بالماء إلى غير ذلك مما ورد من أن النجاسة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت تزال بالماء.
القول الثاني في المسألة: أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة، بل يمكن أن تزول النجاسة بأي مزيل، فكما أنها تزول بالماء، فيمكن أن تزول كذلك بالشمس وبالريح وبأي مزيل كان، وهذا هو مذهب الحنفية، وهو رواية عند الحنابلة، وقول عند المالكية والشافعية، وهذا القول هو الذي عليه عامة المحققين من أهل العلم، وهو اختيار المجد ابن تيمية، وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم رحمة الله تعالى على الجميع.
وهذا القول الأخير هو الأظهر في هذه المسألة والله أعلم ، وهو أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة، بل يمكن أن تزول النجاسة بأي مزيل كان، وذلك لأن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد طرأت هذه النجاسة الخبيثة، فمتى ما زالت هذه النجاسة الطارئة بأي مزيل كان، عاد الشيء إلى طهارته، ثم إن إزالة النجاسة من باب اجتناب المحظور، لا من باب فعل المأمور، واجتناب المحظور إذا حصل بأي سبب ثبت به الحكم، ولهذا فإنه لا يشترط لإزالة النجاسة النية، فلو نزل المطر من السماء على نجاسة فإنها تزول.
__________
(1) - سورة الفرقان آية : 48.(1/33)
وأما ما استدل به أصحاب القول الأول من عمومات النصوص التي تدل على أن الماء مطهر وتزول به النجاسة، فغاية ما تدل له تلك الأدلة أن الماء مطهر، لكنها لا تدل على أن غير الماء ليس مطهرا، هي صحيح تدل على أن الماء مطهرٌ لكنها لا تدل على أن غير الماء ليس مطهرا، ولو تأملنا في العمومات التي استدلوا بها: { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) } (1) وما استدلوا به من عمومات الأدلة فهي تدل على أن الماء مطهر، لكن أين الدلالة منها على أن غير الماء ليس بمطهر، ولهذا نقول: إن الصواب في هذه المسألة هو أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة، وأنها يمكن أن تزول بأي مزيل كان بالشمس بالريح وبغيرها.
وعلى ذلك ننزل هذه النازلة على هذه المسألة، فنقول ما دمنا قد رجحنا أن النجاسة تزول بأي مزيل كان فيمكن أن تزول النجاسة بمعالجتها بالطرق الكيميائية، وحينئذ نقول: إن مياه المجاري بعد معالجتها تصبح من المياه الطاهرة، مياه المجاري بعد معالجتها تصبح من المياه الطاهرة، وذلك لأنها في الأصل مياه طاهرة طرأت عليها نجاسة، ثم زالت هذه النجاسة بهذه الطرق الكيميائية بحيث لم يصبح لهذه النجاسة أثر من لون أو طعم أو رائحة، فتكون هذه المياه مياه المجاري طاهرة، وهذا الحكم الذي ذكرته بحث في مجلس هيئة كبار العلماء قديما، وكذلك أيضا بحث في مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وكلا المجلسين مجلس هيئة كبار العلماء، ومجلس مجمع الفقه الإسلامي قرر أن مياه المجاري إذا عولجت فإنها تكون طاهرة.
__________
(1) - سورة الفرقان آية : 48.(1/34)
وبين يدي الآن قرار الهيئة وقرار المجمع الفقهي، وهو القرار الخامس في الدورة الحادية عشر المنعقدة في الثالث عشر من رجب 1409 جاء في القرار، وبعد مراجعة المختصين بالتنقية بالطرق الكيمياوية، وما قرروه من أن التنقية تتم بإزالة النجاسة منه على مراحل أربعة، وهي الترسيب، والتهوية، وقتل الجراثيم، وتعقيمه بالكلور، فلا يبقى للنجاسة أثر في طعمه ولونه وريحه، وهم مسلمون عدول موثوق بصدقهم وأمانتهم، قرر المجمع ما يأتي:
أن مياه المجاري إذا نقيت بالطرق المذكورة، أو ما يماثلها، ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه، صار طهورا يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به، بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها فيه أثر والله تعالى أعلم.
وأيضا قرار هيئة كبار العلماء كان سابقا لقرار المجمع الفقهي، وقرار لهيئة كبار العلماء ذكروا التفريع على مسألة إذا تغيرت النجاسة، إذا تغيرت النجاسة بغير الماء، فجاء فيه بناء على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال التغير بنفسه، أو بإضافة ماء طهور إليه، أو زال تغيره بطول مكث، وتأثير الشمس، ومرور الرياح عليه، أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته، حيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص منها بعدة وسائل إلى آخره، لذا فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة، بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يرى فيها تغير بنجاسة من طعم ولا لون ولا ريح، ويجوز استعمالها في إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل الطهارة بها منها.(1/35)
إذا هي مياه طاهرة يجوز استعمالها في الطهارة، يجوز التوضؤ بها، لكن هل يجوز استعمالها في الأكل والشرب؟ هنا في قرار الهيئة جاءت الإشارة لهذه المسألة، كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك محافظة على النفس، وتفاديا للضرر لا لنجاستها، والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها باستعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل، احتياطا للصحة واتقاء للضرر وتنزها عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع.
إذا هذه المسألة كما ذكرنا هي الحكم في هذه المياه أنها تصبح مياه طاهرة يجوز التوضؤ بها واستخدامها في الطهارة، ولكن الأولى على سبيل الأولوية فقط عدم استخدامها في الأكل والشرب احتياطا، وأيضا لأنها ربما تكون مما تتقذر منه بعض النفوس، هذا هو حاصل الكلام في هذه النازلة.
التنظيف بالبخار
وننتقل بعد ذلك إلى النازلة الثانية، وهي التنظيف بالبخار، أو ما يسمى بالتنظيف الجاف، التنظيف الجاف، نقول: إن بعض الملابس كملابس الصوف، والمشالح، وأنواع من الملابس يفسدها غسلها بالماء، وتغسل بالبخار، فلو افترضنا أن هذه الملابس وقع عليها نجاسة، هذا المشلح مثلا، أو هذا اللباس من الصوف ونحو ذلك وقع عليها نجاسة فغسلت بالبخار، ومعلوم أنه عند الغسل بالبخار لا تغسل بالماء، وإنما تغسل بالبخار فقط، فهل غسلها بالبخار كاف في إزالة النجاسة الواقعة عليها؟ نقول أولا: التنظيف بالبخار، أو ما يسمى بالتنظيف الجاف حقيقته: أنه عبارة عن إزالة النجاسة والأوساخ بمزيل سائل غير الماء، ثم استعمال بخار الماء، عند الغسل بالبخار يستخدم مزيل سائل غير الماء، ثم يستخدم بعد ذلك بخار الماء.(1/36)
وذلك كيفية ذلك توضع بعض المركبات الكيميائية على الثوب المراد غسله، لإزالة ما علق به من أوساخ أو نجاسة، وبعد وضع هذه المادة تغسل ببخار الماء غسلا لا يصل إلى حد تقاطر الماء، وإنما بالبخار فقط، وفي هذه الطريقة نلاحظ أنه ليس هناك غسل بالماء بالمعنى المعروف، وإنما يعني ليس هناك غسل بالماء بالمعنى الذي يصل إلى حد تقاطر الماء، وإنما توضع هذه المادة، ثم من بعدها يغسل بالبخار، فهل هذا يكفي في إزالة النجاسة؟
هذه المسألة في الحقيقة يمكن تفريعها على المسألة السابقة التي فرعنا عليها النازلة الأولى، وهي هل يتعين الماء لإزالة النجاسة، أو لا يتعين؟ سبق أن ذكرنا خلاف الفقهاء في هذه المسألة وأن القول الصحيح عند عامة المحققين من أهل العلم أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة، وأن النجاسة عين خبيثة طارئة، متى زالت بأي مزيل فإنها يحصل بها إزالة النجاسة وتحصل بها الطهارة التي هي الأصل في الأشياء.
وحينئذ نقول: إنه في هذه المسألة يحصل بهذا التنظيف بالبخار يحصل إزالة النجاسة، والتنظيف بهذه الطريقة يطهرها من النجاسة وتزول عين النجاسة بهذه الطريقة، ولو لم يحصل هناك غسل بالماء فيكون الغسل بالبخار كاف في إزالة النجاسة الواقعة على اللباس. وممن أفتى بهذا من العلماء المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- فقد أفتى بأن الغسل بالبخار كاف في إزالة النجاسة التي توجد على بعض الملابس.
هناك مسألة أخرى متفرعة عن هذه المسألة وهي الأشياء التي وقعت عليها نجاسة لكنه يضر غسلها بالماء، يحصل الضرر من غسلها بالماء، ونمثل لذلك مثلا بالأوراق النقدية معك في جيبك خمسمائة ريال وقعت عليها نجاسة، نفترض مثلا أنها وقعت منك في دورة المياه وأصابتها نجاسة ماذا تعمل؟ لو غسلتها لو غسلت هذه الخمسمائة ريال بالماء فلربما تلفت وتركها إضاعة للمال، فنحن بين أمرين: إما أن تتركها فيكون هذا إضاعة للمال، وإما أن تغسلها فتتلفها بهذا الغسل.(1/37)
ومثل ذلك أيضا الأوراق المهمة لو كان معك مثلا صك أو ورقة مهمة وقع عليها نجاسة سقطت منك مثلا في دورة المياه، وتيقنت أنها قد وقعت عليها نجاسة فكيف تزيل هذه النجاسة؟ لو غسلتها لأتلفتها، فكيف تزال هذه النجاسة؟
نقول: هذه المسألة، يمكن ردها إلى قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهي أن الأشياء التي تتضرر باستعمال الماء يكفي فيها المسح، هذه القاعدة قررها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أن الأشياء التي تتضرر باستعمال الماء يكفي فيها المسح ولا يلزم غسلها.
وبناء على ذلك نقول في مسألتنا: هذه الأوراق النقدية أو غيرها من الأوراق المهمة، إذا وقع عليها نجاسة وكان غسلها بالماء يتلفها، وحينئذ يكفي فيها المسح، يكفي مسحها، ومسحها كاف في إزالة النجاسة الواقعة عليها، وهذا المسح في الواقع تزول به عين النجاسة.
هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة، نحن فرعنا هذه المسألة على القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- ونقول: إن المسح يكفي في إزالة النجاسة في هذه الحال نعم.
ودليله ما ذكرنا أن النجاسة إذا زالت بأي مزيل كان فإنها تزول، يقول: إن النجاسة هنا يمكن إزالتها عن طريق المسح.
أصباغ الشعر والميش الذي تستخدمه بعض النساء
النازلة الثالثة: متعلقة بالأصباغ، أصباغ الشعر، ويتفرع عنها ما يسمى عند النساء بالميش، الميش الذي تستخدمه بعض النساء، وكذلك التشقير، فنبدأ أولا بالكلام عن الأصباغ ويمكن تقسيمها من حيث نوعية الأصباغ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أصباغ نباتية، مثل: الحناء.
القسم الثاني: أصباغ معدنية، تحتوي على مركبات معدنية مثل: الكبريت والرصاص والنحاس ونحو ذلك.
القسم الثالث: مبيضات الشعر أو مشقرات الشعر، وهذه تتم عن طريق استخدام الأوكسجين أو البروكسيد، هذه هي أقسام الأصباغ.
ومن حيث الطهارة يمكن تقسيمها إلى قسمين:(1/38)
القسم الأول: أصباغ ذات لون فقط وليس لها جرم. والثاني: أصباغ لها جرم.
أما القسم الأول وهو الأصباغ ذات اللون فقط، وليس لها جرم، فهذا هو الغالب على الأصباغ، وهذه الأصباغ التي لها لون وليس لها جرم، وليس لها طبقة عازلة تمنع وصول الماء إلى الشعر، هذه لا تؤثر على الطهارة، سواء كانت الطهارة الصغرى أو الطهارة الكبرى، وحينئذ فهي حكمها من حيث الطهارة أنها لا تؤثر على الطهارة.
ومن أمثلة ذلك لون الحناء إذا وضعت المرأة على رأسها حناء فاكتسب لون الحناء، وكذلك أيضا الأصباغ الأخرى التي تستخدمها النساء بحيث يتغير لون الشعر من لون إلى لون آخر فهذه الأصباغ لا تؤثر على الطهارة.
أما القسم الثاني: وهي الأصباغ التي لها جرم أو طبقة بحيث تمنع وصول الماء إلى الشعر هذه يجوز استخدامها حتى يحتاج الإنسان إلى الطهارة الكبرى، فإذا احتاج إلى الطهارة الكبرى وجب إزالتها، فإن كانت مما لا يزول فليس له استخدامها أصلا؛ لأنها تمنع وصول الماء إلى الشعر.(1/39)
ونوضح هذا بمثال مثلا وضع الحناء الرطب على الشعر عندما تضع المرأة على رأسها الحناء، ثم تلفه، ولنفترض أن هذه المرأة وضعت الحناء على رأسها في الليل ثم أرادت أن تصلي صلاة الفجر، فعندما تتوضأ نقول: أن لا بأس أن تمسح من فوق الحنا، لا بأس أن تمسح من فوق الحناء، ولا يلزمها إزالة الحناء في الطهارة الصغرى، يعني في الوضوء، وإنما تمسح من فوقه، والدليل لذلك ما جاء في الصحيحين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبد شعر رأسه في حجة الوداع " والتلبيد شيء شبيه بالصمغ أو العسل، وكان شعر النبي- صلى الله عليه وسلم- طويلا ومدة إحرامه -عليه الصلاة والسلام- كانت خمسة عشر يوما، فإنه أحرم في الخامس والعشرين من ذي القعدة وبقي على إحرامه إلى العاشر من ذي الحجة؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان قارنا فلم يتحلل من إحرامه، فلبد شعر رأسه صيانة لشعره -عليه الصلاة والسلام- من الغبار والأوساخ ونحوها فكان عليه الصلاة والسلام خلال هذه المدة خمسة عشر يوما كان يمسح على هذا التلبيد.
فنقول: ما كان في معناه كالحناء ونحوه، يجوز المسح عليه ولا يلزم إزالته في الطهارة الصغرى، وأما في الطهارة الكبرى فلا بد من إزالته، ففي المثال السابق إذا وضعت المرأة هذا الحناء على شعرها نفترض أنها أرادت أن تغتسل غسل الجنابة أو غسل الحيض فلا بد أن تزيل هذا الحناء من على رأسها؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى الشعر، وهكذا ما كان في معنى الحناء من الأصباغ ذات الطبقة السميكة، إذا هذا هو ما يتعلق بهذه الأصباغ من حيث الطهارة.(1/40)
وننتقل بعد ذلك إلى مسألة متفرعة عن هذه المسألة وهي ما يسمى بالميش، وهي صبغة مشهورة عند النساء، وقبل أن نبين الحكم نريد أن نعرف حقيقة هذه الصبغة، نقول: إن أهل الاختصاص يقولون: إن هذه الصبغة هي عملية تقوم فيها المرأة التي تعمل الميش بسحب اللون من الشعر عن طريق الأوكسجين، فإذا سحب اللون من الشعر فإنه يصبح إما أبيض أو أصفر ثم تختار المرأة ما أرادت من الألوان وتضعه على هذا الشعر، ويقول أهل الاختصاص: إن الصبغة والميش يشتركان في أنهما يتمان عن طريق استخدام الأوكسجين، إلا أن الصبغة تكون نسبة اللون أكثر من الأوكسجين، بينما في الميش تكون نسبة اللون أقل من الأوكسجين.
ونلاحظ هنا أنه ليس هناك طبقة عازلة في هذه العملية وإنما المسألة كلها مسألة تغيير لون، بسحب اللون الأصلي ووضع لون آخر مكانه عن طريق استخدام الأوكسجين وبعض المواد.
فإذا فهمنا الميش بهذه الطريقة نستطيع بعد ذلك أن نعرف الحكم الشرعي فيه، فنقول: إن الميش بهذا التوصيف لا بأس به؛ لأن الأصل في الزينة بالنسبة للمرأة الحل والإباحة، الأصل هو الحل والإباحة في هذا الباب، إلا ما ورد الدليل بمنعه، والميش يكون بغير الأسود؛ لأنه في الحقيقة سحب للون الأسود في الشعر ووضع لون آخر مكانه، وحينئذ نقول: إنه من حيث الحكم لا بأس به.(1/41)
ومن العلماء المعاصرين من منع منه، وقال: إنه يمنع وصول الماء إلى الشعر، ولكن هذا محل نظر؛ إذ إنه من خلال ما ذكره أهل الاختصاص هو مجرد نزع لون من الشعر ثم وضع لون آخر مكانه عن طريق الأكسجين، فالمسألة هي مسألة تغيير لون فقط، فليس هناك طبقة تمنع وصول الماء إلى الشعر، وهذا يؤكد ما ذكرناه في درس الأمس من أهمية تصور المسألة تصورا صحيحا، إذ إنه على ضوء التصور الصحيح للمسألة يكون الحكم الشرعي، فأهل الاختصاص يذكرون أنه ليس هناك طبقة تمنع وصول الماء إلى الشعر، وإنما المسألة كلها مجرد سحب لون واستبداله بلون آخر، ولهذا نقول: إنه لا بأس به، ونقول أيضا: إنه لا يمنع وصول الماء إلى الشعر فلا يؤثر على الطهارة بالنسبة للمرأة.
وننتقل إلى مسألة أخرى متفرعة عن هذه النازلة، وهي ما يسمى بالتشقير، ما يسمى عند النساء بالتشقير، ويكثر سؤال النساء عن هذه المسألة "التشقير" وإذا استمعت إلى أي برنامج استفتاء تجد أنه في الغالب لا يخلو من سؤال عن هذه المسألة.
صفة التشقير: أن تعمد المرأة إلى جزء من شعر الحاجب وتصبغه بلون قريب من لون بشرة وجهها بحيث يظن الرائي لهذه المرأة أنها نامصة وأنها قد رققت حواجبها، وهي في الحقيقة لم تقص شيئا من شعر الحاجب ولكن اللون القريب من البشرة الذي وضعته على جزء من شعر الحاجب أخفى جزءا من هذا الشعر، فأصبحت هذه المرأة المشقرة تشبه النامصة، فهل يعتبر هذا من النمص المحرم، وما أثره على الطهارة ؟
أما أثره على الطهارة فظاهر أنه لا يمنع وصول الماء إلى البشرة ولا إلى الشعر، فحكمه من حيث الطهارة الأمر فيه ظاهر وهو أنه لا يمنع وصول الماء، مجرد تلوين فقط، مجرد تلوين يوضع على هذا الشعر فلا يمنع وصول الماء إلى الشعر ولا إلى البشرة.(1/42)
ولكن حكمه في الأساس اختلف العلماء المعاصرون في حكمه على قولين، ومنشأ الخلاف في هذه المسألة، منشأ الخلاف بين العلماء راجع إلى مسألة أخرى وهي: هل النمص يختص بإزالة الشعر فقط؟ هل النمص يختص بإزالة شعر الحاجبين فقط؟ أو أنه يشمل أيضا ما كان في معناه؟ ومعلوم أن التشقير ليس فيه إزالة للشعر، وإنما فيه تلوين لبعض شعر الحاجب.
فمن العلماء من قال: إن التشقير جائز، قالوا: لأنه ليس بنمص في حقيقة الأمر، فإن النمص هو إزالة شعر الحاجب أو بعضه، فإن النمص هو إزالة شعر الحاجب أو بعضه، وهذا ليس بمتحقق في التشقير، ومن أبرز من قال بهذا القول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
والقول الثاني في المسألة: إن التشقير محرم؛ لأنه وإن لم تنطبق عليه حقيقة النمص فليس فيه قص ولا أخذ لشعر الحاجب، إلا أنه في معنى النمص، فهو في الحقيقة حيلة على النمص، ولهذا لا تكاد تفرق بين المرأة المشقرة، والمرأة النامصة، وذكر أحد المشايخ أنه رأى امرأة من أقاربه مشقرة فأنكر عليها إنكارا شديدا يظن أنها قد نمصت، وبين لها أن النمص من الكبائر، فأخبرته بأنه تشقير وليس بنمص، فتعجب وقال: إن من يرى المرأة مشقرة لا يفرق في الحقيقة بين المرأة المشقرة والمرأة النامصة. قالوا: فيكون التشقير حيلة على النمص، والعبرة في الشريعة بالمعاني والمقاصد.
ومن أبرز من أفتى بهذا القول وهو القول بتحريم التشقير اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فقد أصدرت قبل سنوات فتوى بتحريم التشقير.
والأقرب، والله أعلم، إلى هذه المسألة هو القول الثاني، وهو تحريم التشقير؛ لأنه هو في معنى النمص حقيقة، وهو في واقع الأمر حيلة على النمص، بدل ما تزيل المرأة بعض شعر الحاجب حقيقة لجأت إلى هذه الحيلة بحيث لا يفرق الرائي بين هذه المرأة النامصة، وبين هذه المرأة المشقرة.(1/43)
والأصل في هذه الزينة التي تكون على هذا الوجه الأصل فيها المنع، لهذا " لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - النامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، والفالجة والمتفلجة، طالبات الحسن المغيرات لخلق الله - عز وجل - " هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
هناك مسألة مرتبطة بهذه المسألة وهي تحديد الحاجب بقلم أسود يعني عكس هذه المسألة، تحديد الحاجب بقلم أسود، فهذه المرأة لون شعر حاجبها أسود لكنها فقط تريد زيادة تلوين شعر الحاجب، فنقول: إن هذا لا بأس به؛ لأنه ليس بمعنى النمص، فإن النمص هو ترقيق شعر الحاجب، وهذا إنما هو فقط فيه زيادة تلوين شعر الحاجب، فليس في معنى النمص، ولهذا نقول: إن تحديد الحاجب بقلم أسود إنه لا بأس به؛ لأنه في واقع الأمر إنما هو زيادة تلوين لشعر الحاجب.
الرموش الصناعية
المسألة الرابعة معنا في هذا الدرس، وهي المسألة الأخيرة وهي ما يسمى بالرموش الصناعية، التي تستخدمها بعض النساء وهي عبارة عن شعيرات رقيقة تصنع من بعض المواد البلاستيكية، وتلصق على الجفن بواسطة مادة لاصقة وتسمى بالرموش الصناعية.
أما حكمها من حيث الطهارة، فهي في الواقع لا تمنع وصول الماء إلى داخل الأهداب، فإذا وضع عليها الماء فإن لها فتحات يصل منها الماء إلى رمش العين، فهي من حيث الطهارة ومن حيث الوضوء والغسل نقول: إن هذه الرموش لا تمنع من وصول الماء إلى الرمش.(1/44)
ولكن يبقى السؤال عن حكم وضع هذه الرموش، هل تعتبر من قبيل الوصل المحرم أما لا؟ وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة، وهذا اللعن يقتضي أن الوصل من كبائر الذنوب، وجاء في صحيح البخاري: " أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن ابنتي زوجتها وقد أصابتها الحصبة فانمرق شعر رأسها أفأصل شعرها؟ قال: لا، لعن الله الواصلة والمستوصلة " وهذا يدل على الوعيد الشديد في الوصل وأنه من كبائر الذنوب، حتى هذه المرأة التي أصابها المرض لم يرخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم - لكي تتزين لزوجها فما بالك بغيرها ؟
فنقول: هل وضع هذه الرموش الصناعية يعتبر من قبيل الوصل؟ الظاهر والله أعلم أنها تعتبر من قبيل الوصل؛ لأنها تشبه في الحقيقة وصل الشعر بالشعر.
والوصل يمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يوصل الشعر بشعر طبيعي وهذا محرم باتفاق العلماء.
والقسم الثاني: أن يوصل الشعر بشيء آخر بعيد عن الشعر لا يماثله ولا يشابهه، كأن يوصل بخيوط ونحوها، فهذا لا بأس به، ومن ذلك ما تضعه بعض النساء على الشعر عند لفه وربطه بخيط ونحوه، فمثل هذه الخيوط التي يربط بها الشعر لا بأس بها ولا تعتبر من الوصل، فهذان القسمان الحكم فيهما ظاهر.
القسم الثالث: أن يوصل الشعر بشيء غير الشعر، وإنما يشبه الشعر، كأن يكون مصنوعا من البلاستيك ونحوه، القسم الثالث: أن يوصل بشيء يشبه الشعر، وليس بشعر، كأن يكون مصنوعا من البلاستيك ونحوه، فهو قريب من الشعر ويشبهه في الهيئة والشكل وإن كان ليس بشعر في حقيقة الأمر، فهل نقول إنه في حكم الوصل بالشعر الطبيعي؟ هذا محل خلاف بين العلماء والأقرب، والله أعلم، أنه في حكم الوصل بالشعر الطبيعي؛ لأنه قريب من الوصل بالشعر الطبيعي ويشابه الشعر في الهيئة وفي الشكل.(1/45)
وتفريعا على ذلك نقول: إن الرموش الصناعية هي، والله أعلم، في معنى الوصل المحرم، فيكون استخدامها محرما، يكون استخدامها من قبل النساء محرما، وهذا كما ذكرنا الأصل في هذا هو الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لعن الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والفالجة والمتفلجة المغيرات للحسن " فهذه عندنا فيها هذا الحديث وهو الأصل في هذا الباب.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منع من استخدام الزينة على هذا الوجه، إما من جهة الوصل، أو من جهة الوشم، أو تفليج الأسنان أو بردها، يعني بهذه الطريق منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزينة على هذا الوجه ويدخل في ذلك - والله أعلم - ما يسمى بالرموش الصناعية فتكون من الوصل المحرم.
هذه هي أبرز النوازل التي أردنا أن نطرحها في هذا الدرس، ونكتفي بما ذكرناه في هذا الدرس، والله تعالى أعلم.
يقول: ذكرتم أن مجمع الفقه أصدر مائة قرار فهل هذه القرارات منذ تأسيسه ولا المرة الأخيرة ؟
لا هو منذ تأسيسه، مائة قرار منذ تأسيسه؛ لأنه في كل دورة يصدر خمسة إلى ستة أو سبعة قرارات، فهو في الحقيقة منذ تأسيسه أصدر مائة قرار، في الدورة الأخيرة أصدر خمسة قرارات.
قال: رجل يريد أن يعمل وهو بحاجة إلى العمل لكن يفترض أن يقضي بالجيش ومن شروطه حلق اللحية، ولكن في شيء آخر يدفع رشوة ويأخذ ورق من الجيش فماذا يفعل ؟(1/46)
السؤال يعني فيه إجمال، ولكن حلق اللحية لا شك أنه محرم، وكذلك بذل الرشوة محرم، ولذلك إذا كان لا يستطيع أن يجد عملا إلا عن طريق التحاقه بالجيش واشترطوا هذا الشرط فإنه ينبغي أن يسعى - يعني - أهل الخير خاصة في البلاد الإسلامية إلى إقناع المسئولين بإزالة هذا الشرط، وينبغي أن يكون لأهل الخير مبادرة في ذلك، خاصة أن مثل هذه الشروط مع الأسف إنما تكون يعني في بعض البلاد الإسلامية، ولهذا فإن عليهم مناصحة هؤلاء المسئولين، وحتى لا يلزموا الناس بهذا الشرط.
ولكن إذا وصلت المسألة إن لم يتيسر هذا ووصلت المسألة إلى حال الضرورة فالضرورات تبيح المحظورات، الضرورات تبيح المحظورات إذا وصل الأمر إلى حال الضرورة.
وأما بذل الرشوة فإنه أيضا لا يجوز، لا يجوز أن يبذل رشوة لأجل هذا، والرشوة بذلها وأخذها من كبائر الذنوب لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي. إلا إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى حقه إلا ببذل الرشوة، فمن العلماء من أجاز بذل الرشوة في هذه الحال ويكون الإثم على الآخذ.
ومن أبرز من قال بهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يكون الإثم في هذه الحال على الآخذ، لكن هذه يعني أيضا مقدرة بحالات خاصة، وهي إذا كان للإنسان حق عند آخر ولم يستطع الوصول إلى حقه إلا بهذا الطريق، فحينئذ إذا بذل مالا لأجل الوصول إلى حقه فإن الإثم يكون على الآخذ فقط، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
هناك نازلة كان العلماء السابقون يحرمها، أما الآن فالقليل من يحرمها هل أتى ذلك من ضغط الواقع أم هناك شيء آخر، وهي نازلة التصوير ؟(1/47)
هذه إن شاء الله سنتكلم عنها في درس من الدروس وسنفصل الكلام فيها ونذكر أولا تصويرها، المسألة وبيان حقيقة التصوير ثم تكييفها من الناحية الفقهية، ثم بيان آراء العلماء المعاصرين فيها، ثم القول الصحيح فيها، فنرجئ الإجابة عن هذا السؤال لدرس قادم نتكلم فيه إن شاء الله بالتفصيل عن التصوير، سواء كان تصويرا فوتوغرافيا أو تليفزيونيا سوف نبين ذلك إن شاء الله في أحد الدروس.
هناك من يقول: إن المرافق العامة من حدائق وغيرها من مياه المجاري المكررة فما العمل إذا أردنا الوضوء؟
نحن قلنا: إن مياه المجاري إنها طاهرة بعد تكريرها طاهرة سواء صح ما ذكر الأخ أو لم يصح فلا بأس بالوضوء من مياه الحدائق.
من نمصت وهي لا تعلم الحكم؟ السؤال من أبي إسحاق من فرنسا، من نمصت وهي لا تعلم الحكم ماذا تصنع الآن ؟
تتوب إلى الله - عز وجل - النمص من كبائر الذنوب، ومع الأسف منتشر في أوساط النساء، هذا من المنكرات المنتشرة في أوساط كثير من النساء، وهو من كبائر الذنوب، وبعض النساء يعني تستهين بهذه المسألة، ولكن هو معدود عند أهل العلم من كبائر الذنوب، ويتعين على ولي أمرها من زوج أو أب أن يمنعها عن هذا المنكر.
عرفنا الحكم بالتشقير فهل أمنع الزوجة ؟
نعم، وليها يمنعها عن المحرمات، ونحن ذكرنا أن القول الصحيح في التشقير أنه في معنى النمص.
ما حكم حلق الشعر الموجود بين الحاجبين ؟
لا بأس به، والله أعلم، على الصحيح من قولي العلماء أنه لا يدخل في النمص، أنه لا يدخل في النمص خاصة إذا كان مشوها، والمسألة في محل خلاف من أهل العلم، من اعتبره من النمص، ومنهم من لم يعتبره، والأقرب أنه لا يدخل في النمص.
أليس الميش محرم لأن فيه تشبها بالكافرات ؟(1/48)
أولا: لا بد أن نعرف ضابط التشبه بالكفار، ليس كل مسألة يقال فيها تشبه بالكفار، ما هو ضابط التشبه بالكفار، ضابط التشبه بالكفار أن نفعل ما هو من خصائصهم، ما يختص به الكفار بحيث يعرف أن هذا الشيء خاص بالكفار مثل مثلا لبس القبعة المعروفة عند اليهود، أو لبس الصليب أو نحو ذلك، من أمور يختص بها الكفار.
أما الشيء الشائع المشترك بين الكفار والمسلمين لا يقال: إن فيه تشبهًا، فلا يقال مثلا إن ركوب السيارة فيه تشبه بالكفار؛ لأن الكفار هم أول من ركب السيارة، فالمقصود أن الشيء المشترك بين المسلمين والكفار لا يقال: إن فيه تشبها.
ولهذا حتى في الوقت الحاضر لبس البنطال لا يعتبر تشبها بالكفار؛ لأنه أصبح شائعا ومشتركا بين المسلمين والكفار.
هل تغيير الشعر يدخل في حديث المغيرات خلق الله ؟
أما تغييره بغير الأسود فلا يدخل، تغييره بغير الأسود لا بأس به ولا يدخل، أما تغييره بالأسود فهو محل خلاف بين أهل العلم، محل خلاف بين أهل العلم، فمن أهل العلم من قال: إنه محرم، لحديث: " غيروا شعر هذا وجنبوه السواد " وهو في صحيح مسلم.
ومن أهل العلم من أجاز ذلك، والأقرب هو المنع، هو الذي يفتي به شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن العثيمين، رحمهما الله تعالى، والأقرب هو أنه لا يجوز تغيير الشعر بالسواد لهذا الحديث.
وهذا أيضا سؤال آخر: هل يعتبر تغيير لون الشعر من الأسود إلى الأصفر من تغيير خلق الله ؟
نقول: ليس هو من تغيير خلق الله ولا بأس به.
ما معنى الجرم المذكور في أنواع الأصباغ كي لا تكون الطبقة العازلة ؟(1/49)
يعني الجرم طبقة سميكة تمنع وصول الماء إلى البشرة مثلا: الطلاء الذي تضعه بعض النساء على الأظفار، الطلاء الذي تضعه بعض النساء على الأظافر، يسميه بعض النساء بالمناكير هذا يمنع وصول الماء إلى الأظافر، ولذلك يجوز للمرأة أن تستخدمه ولكن عند الوضوء تحكه، أو مثلا يجوز للمرأة أن تستخدمه أثناء فترة الحيض باعتبار أنها لا تصلي، لكن إذا أرادت الوضوء فلا بد من حكه؛ لأنه يمنع وصول الماء إلى الأظافر، فهذا هو المقصود بالطبقة العازلة.
طيب بعض الأسئلة متكررة ذكرت في الدرس الماضي منهج التساهل والانحلال، ومن الأمثلة: المختلط ولو كان يسيرا، إنه من منهج التساهل والانحلال
لم أذكر هذا مثالا، لم أذكر هذا مثالا للتساهل والانحلال، ولكن لعله اختلط على الأخ السائل، الذي ذكرته مثالا للتساهل هو أخذ غرامة على تأخير سداد الدين في بعض البنوك، بعض البنوك إذا تأخر المدين في سداد الدين الذي عليه يحتسبون عليه غرامة يسمونها غرامة تأخير، وهذه غرامة لا تجوز، هذه غرامة عندي أنها في حكم الربا الصريح.
بل إنه على مدار أربعة عشر قرنا لا يوجد أحد الفقهاء، لا يوجد عالم من العلماء أجازها وإنما أجازها من أجازها من بعض العلماء المعاصرين، وأول من تكلم فيها وأجازها الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- ثم تبعه بعض العلماء المعاصرين.
وقد بحثتها بتوسع هذه المسألة في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة قبل عددين، تجدونها في بحث بعنوان "الزمن في الديون" وهذه المسألة يعني بالذات بحثتها وخرجت إلى القول بتحريمها.(1/50)
هذا يعني ذكرته كمثال للتساهل، ومن ذلك أيضا أخذ ما يسمى برسوم إدارية على القروض، بعض البنوك تمنح قروضا يعطوك مثلا عشرة آلاف ريال، لكن يقولون: نأخذ منك رسما قدره مائتا ريال أو يقل قليلا، أو يزيد قليلا تدفع كل شهر، هذا لا يجوز هذا من الربا الصريح، هذا من الربا الصريح، أنا أعتبره من الربا الصريح، فهو فقط قرض ربوي إلا أنه غطي بهذا الغطاء وسمي الربا برسوم إدارية، هذه الأمثلة التي ذكرتها للانحلال.
أما مسألة الشركات المختلطة ففيها خلاف بين أهل العلم خلاف مشهور بين أهل العلم، ومن قال بالجواز لا يقال إنه سلك مسلك التساهل والانحلال؛ لأن الخلاف فيها قوي أيضا الخلاف في هذه المسألة خلاف قوي، وسبق أن تكلمنا عنها في الدورة الماضية بالتفصيل.
هل تطويل الشعر من السنة ؟
هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والأقرب، والله أعلم، أن تطويل الشعر مثل لبس العمامة ولبس الإزار والرداء، ونحو ذلك، وأن هذه الأمور ترجع إلى عادة الناس في مجتمعاتهم، فإذا كان من عادة الناس تطويل شعورهم، فيطول الإنسان شعره، وإذا كان من عادتهم عدم التطويل كما هو عليه الآن في مجتمعنا، فلا نقول إن تطويل الشعر من السنة، بل ينبغي أن نتبع عادة الناس في هذا؛ لأن هذه الأمور من قبيل العادات.
هذا هو الأقرب والله أعلم في هذه المسألة، خاصة إذا كان أهل البلد على يعني عدم تطويل الشعر، كون الإنسان يطول شعره ربما يؤدي هذا إلى أن يكون شهرة، أن يكون تطويله للشعر شهرة، ونجد أنه قد ورد من النصوص ما يدل على منع الشهرة، وقد نهى النبي، - صلى الله عليه وسلم - عن لباس الشهرة الذي يتميز به الإنسان بين سائر الناس.
فالأقرب والله أعلم أنه يتبع عادة مجتمعه في هذا، سواء كان هذا من جهة لبس العمامة أو من جهة تطويل الشعر، الحكم فيهما واحد فيما يظهر، والله أعلم.(1/51)
قال: نقول هناك دليل أيضا من سقط منه نقود ووقعت عليه نجاسة أنه يمكن إزالة النجاسة بالشمس فمن وقعت منه أوراق مهمة يمكن أن يعرضها للشمس ؟
أخي يمكن تطول المدة وهي ما أزالت النجاسة، على كل حال يكفي فيها المسح، لكن لو يعني أنه وضعها في الشمس وضعها تحت الشمس وزالت النجاسة كفى ذلك، إذا زالت النجاسة بأي سبب فإنها تزول.
إذا ثبت أضرار طبية للميش من تقصف للشعر وغيره ؟
إذا ثبت أن هناك أضرارا من أي شيء سواء من الميش أو من غيره فإنه يمنع منه الإنسان؛ لأن هذه الشريعة أتت بتحصيل المصالح، وبدفع المفاسد والمضار التي تحصل للإنسان، لكن الذي يظهر حسب ما يذكره المختصون أنه ليس هناك يعني أضرار كبيرة من هذه العملية.
أنا أنتف من حاجبي فهل هذا جائز ؟
هذا هو النمص النتف من شعر الحاجب سواء كان نتفا أو قصا هذا هو النمص المحرم.
هذا يقول إن الضرورة تبيح المحظورة، يعني في مسألة حلق اللحية فهل يعني نقول إنه جائز عند الضرورة ؟
نحن نقول: حلق اللحية محرم، لكن إذا ابتلي الإنسان بأن كان في مجتمعات كان بين أمرين بين أن يبقى عاطلا عن العمل وربما يترتب على ذلك مفاسد أخرى، وبين أن يعمل ويتقي الله تعالى ما استطاع، فالذي أرى في مثل هذا أنه يدخل في العمل ويتقي الله تعالى ما استطاع مع بذل النصيحة للمسئولين، وهذا هو التوجيه الذي نسمعه من بعض مشايخنا في مثل هذا، وهو أن الإنسان يدخل في العمل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبذل النصيحة ويتقي الله تعالى ما استطاع.
هذا يقترح التوسع في نوازل الزكاة ؟
لعلنا إن شاء الله تعالى نعرض لبعض النوازل المتعلقة بالزكاة إن شاء الله تعالى في دروس قادمة.
أليس صبغ الشعر بألوان غير لونه الأصلي تغيير لخلق الله ؟
لا ليس تغييرا لخلق الله، صبغ الشعر بغير لونه هو مجرد تغيير للون وليس فيه تغييرا لخلق الله تعالى.
ما حكم المضاربة في الأسهم النقية وهل عليها زكاة ؟(1/52)
ما يسمى بالأسهم النقية، أو الشركات التي خلت قوائمها من التعاملات المحرمة لا بأس بالدخول فيها مضاربة واستثمارا، ولكن ينبغي أن يتصدق من يدخل فيها بشيء من الربح إبراء للذمة؛ لأنه لا يكاد توجد شركة نقية مائة بالمائة.
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن التجارة يشوبها ما يشوبها، وأمر التجار بالصدقة، فقال: " يا معشر التجار إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من اتقى وبر وصدق، فشوبوا أموالكم بالصدقة " أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث صحيح.
فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتعامل بالتجارة بأن يكثر من الصدقة وأن يخلط ماله بالصدقة، وظاهر هذا أن هذه الصدقة تجبر بعض الخلل الواقع في تلك التعاملات التجارية، ولهذا نقول من يدخل في هذه الشركات النقية فعليه أيضا أن يتصدق بشيء من الربح أخذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " فشوبوا أموالكم بالصدقة " .
وأما بالنسبة للزكاة فزكاة الأسهم إن كان المتعامل بالأسهم مستثمرا فإن زكاة الشركة تكفي، والشركات المساهمة عندنا في المملكة العربية السعودية تدفع زكواتها إلى مصلحة الزكاة والدخل وتلزم بذلك إلزاما، وتحول زكواتها إلى مصلحة الزكاة والدخل التي تصرفه مباشرة للضمان الاجتماعي، ولهذا لا يجوز أن يأخذ أحد من الضمان الاجتماعي إلا إذا كان مستحقا للزكاة.
وفي السنوات الأخيرة أصبح يخصص حساب بحيث تؤخذ الزكوات من الشركات المساهمة مباشرة وتوضع في حساب الضمان الاجتماعي، فالشركات الموجودة في المملكة هي تخرج زكواتها، ولهذا من كان مستثمرا، وليس مضاربا يعني مستثمرا فقط يريد الاستفادة من الريع، ومن الربح فهذا تكفي زكاة الشركة، ولا يلزم بأن يخرج الزكاة مرة أخرى.(1/53)
أما إذا كان مضاربا يبيع ويشتري في هذه الأسهم فهذه عروض تجارة، وحينئذ يجب عليه أن يزكي قيمتها، فإذا كان مضاربا فإنه يزكي هذه الأسهم بكل حال، وأما إذا كان مستثمرا فتكفي زكاة الشركة عن هذا الكلام نقوله لمن كان داخل المملكة باعتبار أن الشركات ملزمة بدفع زكواتها.
أما يعني من كان خارج المملكة فلا بد من أن يزكي الأسهم حتى لو كان مستثمرا إذا كانت الشركة لا تدفع الزكاة عنه، هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسطرة وأثرها على الطهارة
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعا ينفعنا، ونسألك اللهم الفقه في الدين.
تكلمنا في الدرس السابق عن جملة من المسائل المتعلقة بالنوازل في العبادات، وفي هذا الدرس سوف نتكلم إن شاء الله عن ثلاث مسائل، أو ثلاث نوازل أخرى في العبادات.
والمسألة الأولى: هي القسطرة وما يسمى بالشرج الصناعي، وأثر ذلك على الطهارة وعلى صحة الصلاة.
المسألة الثانية: الأذان عن طريق المسجل حكمه، وهل تشرع متابعة المؤذن عن طريق المسجل في الإذاعة والتلفاز ونحو ذلك، وحكم إجابة المؤذن إذا نقل الأذان على الهواء مباشرة، والسامع قد أدى الصلاة أو لم يؤد الصلاة.
والمسألة الثالثة: حكم توزيع المياه في المقبرة على المشيعين للجنازة وحكم الشرب من ذلك الماء، هذه ثلاث مسائل سوف نتكلم عنها إن شاء الله تعالى في هذا الدرس، فنبدأ بالمسألة الأولى: وهي ما يسمى بالقسطرة والشرج الصناعي ونحو ذلك، وأثره على الطهارة وعلى صحة الصلاة، فنقول:(1/54)
أولا: نريد أن نبين معنى القسطرة. القسطرة معناها أن يوضع للمريض في مجرى البول قسطار، ومعنى القسطار ماسور بلاستيكي حتى يخرج البول عن طريقه، وذلك لأسباب منها احتباس البول وعدم خروجه، خاصة ممن يعاني من مرض البروستات ونحو ذلك، أو بسبب خروج البول دون إرادة المريض، فلا يتحكم بخروج البول منه أو لغير ذلك من الأسباب.
فهذه القسطرة توضع للذي لا يتبول تبولا طبيعيا إما لأجل انحباس البول أو لأجل عدم التحكم فيه، فيوضع هذا القسطار في ذكره ويكون متصلا بكيس يتجمع فيه هذا البول ويكون هذا الكيس معلقا بسرير المريض أو حوله بصفة دائمة.
وأما ما يسمى بالشرج الصناعي ذلك يكون حينما يصاب الإنسان بمرض في الأمعاء حينما يصاب الإنسان بمرض في أمعائه، ومن أشهر الأمراض التي يستخدم معها الشرج الصناعي سرطان القولون، فيستأصل معه القولون وما حوله، ويفتح في جدار البطن فتحة كي يخرج البراز عن طريقه ويكون هناك علبة يجتمع فيها هذا الغائط ويزال ما بين فترة وأخرى، ويزال من حين لآخر، هذا هو المقصود بالقسطرة والشرج الصناعي.
وبعد أن تصورنا المسألة عرفنا المقصود بهما، نأتي للحكم الفقهي فيهما من جهة الطهارة، أولا: نقول إن هذه المسألة هي تعتبر في حقيقة الأمر نازلة، وإن كان بعض فقهاء الحنفية قد ذكروها، قد ذكرها بعض فقهاء الحنفية المتقدمون أشاروا إلى هذه المسألة على سبيل الافتراض، فافترضوا هذه المسألة . قالوا: لو أن رجلا لم يستطع أن يتبول عن طريق فتحة البول أو الغائط ففتحت له فتحة في بطنه فكيف يكون الحكم؟
والفقهاء رحمهم الله يفترضون أحيانا مسائل لم تكن واقعة في زمنهم، وربما يستبعد الإنسان في زمنهم أن تقع، ولكنها تقع في المستقبل، يفترضون ذلك حتى يكون طالب العلم على تصور لهذه المسائل لو وقعت كما في هذا المثال، وأيضا من باب تمرين الأذهان على فهم تلك المسائل.(1/55)
وهذا يدل على علو كعب الفقه الإسلامي وعلى عظمته، ويدل على أن بعض المسائل التي يفترضها الفقهاء أنها قد تقع في المستقبل، ولهذا استفدنا من افتراضات الفقهاء، رحمهم الله، السابقين لبعض المسائل لكونها قد وقعت وتحققت في زمننا هذا.
هذه المسألة أو هذه النازلة يمكن أن تبنى على مسألة أخرى تكلم عنها العلماء وهي مسألة صاحب الحدث الدائم، السلس، سلس البول، وكالمرأة المستحاضة ونحو ذلك فهل يجب عليهما الوضوء لكل صلاة.
هذه المسألة أعني مسألة صاحب الحدث الدائم، اختلف فيها العلماء على ثلاثة أقوال، القول الأول: وهو أشد المذاهب الأربعة - هو مذهب الشافعية - أن صاحب الحدث الدائم يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، لاحظ هنا لكل صلاة وليس لوقت كل صلاة، وإنما لكل صلاة.
يقابله القول الثاني: - وهو مذهب المالكية - وهو أن صاحب الحدث الدائم، لا يجب عليه الوضوء لكل صلاة، ولا ينتقض وضوؤه، لا ينتقض وضوء ص(4) الحدث الدائم، إلا إذا خرج منه حدث آخر، فمثلا المستحاضة لا ينتقض وضوءها إلا إذا خرج منها ريح ونحوه.
القول الثالث في المسألة، وهو وسط بين القولين وهو مذهب الحنفية والمالكية: وهو أن صاحب الحدث الدائم يجب عليه الوضوء لوقت كل صلاة. هذا نعم مذهب الحنفية والحنابلة، القول الثالث: مذهب الحنفية والحنابلة، بينما القول الأول الشافعية والثاني المالكية، والقول الثالث الذي هو مذهب الحنفية والحنابلة، وهو وسط بين قولين، وهو أن صاحب الحدث الدائم يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة.(1/56)
ما الفرق بين القول الأول والثالث ؟ الفرق أن القول الأول أنه يجب عليه أن يتوضأ لكل صلاة، والثالث لوقت كل صلاة، فالقول الأول أنه متعلق بالصلاة، فلا يصلي بذلك الوضوء إلا فريضة واحدة، لا يصلي به أكثر من فريضة، سواء كانت مؤداة أو مقضية، بينما القول الثالث متعلق ليس بالصلاة، وإنما بوقت الصلاة، فله أن يصلي في هذا الوقت الفريضة المؤداة وله أن يصلي في هذا الوقت ما شاء من الفوائت.
وأما النوافل فعلى كلا القولين يصلي ما شاء، لكن الفرق هو لو كان وجد صلوات فوائت، وأراد أن يقضيها، فعلى القول الأول ليس له ذلك، إنما يصلي فريضة واحدة فقط، والقول الثالث له أن يصلي ما شاء، ما دام في الوقت، فالقول الأول متعلق بالصلاة والقول الثالث متعلق بالوقت.
والأقرب من هذه الأقوال، والله أعلم، هو القول الثالث وهو أن صاحب الحدث الدائم يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة، ويدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمر المستحاضة بأن تتوضأ لوقت كل صلاة " كما جاء عند أبي داود حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وأصله عند البخاري، فقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة -رضي الله عنها قالت: " جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - : لا إنما ذلك دم عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " .
قال هشام بن عروة بن الزبير، قال أبي: " ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " ثم توضئي لكل صلاة وهذا هو موضع الشاهد، ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت.(1/57)
وبين الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح صحة إسناد هذه الرواية موصولة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليست موقوفة على عروة بن الزبير، كما قال بعض أهل العلم، صوب الحافظ ابن حجر صحة هذه الرواية موصولة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليست معلقة كما قال بعضهم، وليست موقوفة على عروة كما قال آخرون.
ومحل الشاهد قوله: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت، وحملها ذلك الحنفية والحنابلة على المقصود: ثم توضئي لوقت كل صلاة. كما جاء ذلك في سنن أبي داود.
فهذا هو القول الأظهر في هذه المسألة، هو أن صاحب الحدث الدائم أنه يتوضأ لوقت كل صلاة، وأخذنا هذا الحكم من هذا الحديث، فصاحب الحدث الدائم يقاس على الاستحاضة، فإن المستحاضة تعتبر صاحبة حدث دائم فيقاس عليها صاحب السلس ونحوه.
فإذا توضأ مثلا لصلاة الظهر فإنه يستمر على طهارته، إلا إذا خرج منه حدث آخر غير هذا الحدث الدائم، لو كان مثلا عنده سلس بول نقول: توضأ بعد دخول الوقت، فلما إذا توضأ بعد دخول الوقت يستمر على طهارته ولو خرج منه البول، إلا إذا خرج منه ناقض آخر من نواقض الوضوء كالريح مثلا.
وعلى ذلك تخرج هذه النازلة، فنقول: إن صاحب القسطرة وكذلك صاحب الشرج الصناعي أو الفتحة التي تكون في جدار البطن، يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة يجب عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة؛ لأن حدثه دائم، لأن حدثه دائم، فيكون حكمه حكم المستحاضة وحكم صاحب السلس، ولا حرج عليه في أن يصلي ولو كان كيس البول معلقا فيه، أو العلبة التي يكون فيها الغائط أيضا متصلة به ومعلقة فيه، وذلك للضرورة؛ لأن هذا الكيس لا يمكن أن ينفك عن المصلي، وحينئذ فلا بأس أن يصلي وهو حامل لذلك الكيس أو معلق به لكن يلزمه أن يتوضأ لوقت كل صلاة، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه النازلة.
الأذان عن طريق المسجل والإذاعة والتلفاز ونحوه(1/58)
المسألة الثانية التي بين أيدينا: هي الأذان عن طريق المسجل ، وقد يستغرب بعض الإخوة طرح مثل هذه المسألة، وأقول: إنها موجودة في بعض البلدان فيكون الأذان عن طريق المسجل، وأذكر أنه قبل أشهر طرحت هذه المسألة في برنامج فقه العبادات في إذاعة القرآن، ونقلت رأي المجمع الفقهي في أنه لا يصح الأذان عن طريق المسجل، ثم ورد إلي اتصال بعض المسلمين في تلك الدولة بأنهم كانوا يؤذنون عن طريق المسجل، وأنه لما سمعوا هذه الحلقة كان لها أثر كبير عليهم وتحولت كثير من المساجد إلى الأذان عن طريق المؤذنين مباشرة وتركوا الأذان عن طريق المسجل.
فأقول: إن هذا موجود في بعض البلدان، بل إنه في الوقت الحاضر وجد من يطرح هذه المسألة كفكرة، ويقول: لماذا لا تربط المساجد كلها بمسجل يؤذن في نفس الوقت ولا حاجة للمؤذنين ما دام أن المقصود هو الإعلام بدخول الوقت فيؤتى بالمسجل وتربط به جميع المساجد وتربط به جميع المساجد.
وإن كان هذا قد وجد في بعض الدول لكن ليس عن طريق المسجل في مصر من قبل شهر في بعض المدن أقر أن يكون الأذان موحدا، لكن ليس عن طريق المسجل، وإنما يؤذن أحد المؤذنين في مسجد وينقل لبقية المساجد في المدينة، لكن مسألتنا هي الأذان عن طريق المسجل خاصة.
كان من أوائل من تكلم عن هذه المسألة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- المتوفى سنة 1389 للهجرة تكلم عنها لما خرجت المسجلات أول ما خرجت في زمنه، وورد استفتاء من أحد الإخوة في بلاد المغرب العربي للشيخ -رحمه الله- فتكلم عن هذه المسألة وشدد فيها، وبين يدي الآن فتوى الشيخ -رحمه الله- وجاء فيها:(1/59)
إن الأذان من أفضل العبادات القولية، ومن فروض الكفايات ومن شعائر الإسلام الظاهرة، التي إذا تركها أهل بلد وجب قتالهم، وهو واجب للصلوات الخمس المكتوبة، كان هو العلامة الفارقة بين بلاد المسلمين وبلاد الكفر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد الإغارة على قوم انتظر حتى تحضر الصلاة، فإن سمع الأذان كف عنهم وإلا أغار عليهم.
قال: وللأذان شروط منها النية، ولهذا فلا يصح من النائم والسكران والمجنون لعدم وجود النية، والنية أن ينوي المؤذن عند أدائه الأذان أن هذا الأذان لهذه الصلاة الحاضرة التي دخل وقتها.
ومن أين للإسطوانات يعني المسجل أن تؤدي هذه المعاني السامية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " متفق عليه. فهل الإسطوانة تعتبر كواحد من المسلمين؟ .
قال: والحقيقة أننا نستنكر استبدال الأذان بالأسطوانات وننكر على من أجاز ذلك لما تقدم، ولأنه يفتح على المسلمين باب التلاعب بالدين ودخول البدع على المسلمين في عباداتهم وشعائرهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
إذا نقول: إنه لا يجوز ولا يصح الأذان عن طريق المسجل، والشيخ اعتبره بدعة، اعتبره بدعة، ولهذا ختم فتواه بهذا الحديث، " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " و " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
أيضا مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بحث هذه المسألة في دورته التاسعة، وأصدر بشأنها قرارا جاء فيه بأن الاكتفاء بإذاعة الأذان في المساجد عند دخول وقت الصلاة عن طريق المسجل أنه لا يجزئ ولا يجوز، ولا يحصل به الأذان المشروع، ونقل قريبا من كلام الشيخ محمد -رحمه الله- ومنها أن النية من شروط الأذان، والنية لا توجد في الأذان عن طريق المسجل، وأن الأذان عبادة بدنية.(1/60)
قال الموفق بن قدامة: وليس للرجل أن يبني على أذان غيره؛ لأنه عبادة بدنية فلا يصح من شخصين في الصلاة، وأن في توحيد الأذان في المساجد بواسطة المسجل عدة محاذير، منها:
أنه يفتح على المسلمين باب التلاعب بالدين، ودخول البدع على المسلمين في عباداتهم وشعائرهم، لما يفضي إليه من ترك الأذان بالكلية والاكتفاء بالتسجيل؛ ولأنه يرتبط بمشروعية الأذان أن لكل صلاة في كل مسجد سننا وآدابا ففي الأذان عن طريق التسجيل تفويت لها وإماتة لنشرها مع فوات شرط النية فيه.
ثم جاء في القرار بناء على ذلك، فإن مجلس المجمع الفقهي يقرر: أن الاكتفاء بإذاعة الأذان في المساجد عند دخول وقت الصلاة بواسطة آلة التسجيل ونحوها لا يجزئ ولا يجوز في أداء هذه العبادة، ولا يحصل به الأذان المشروع، وأنه يجب على المسلمين مباشرة الأذان لكل وقت من أوقات الصلوات في كل مسجد على ما توارثه المسلمون من عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن.
فهذه المسألة إذًا الحكم فيها ظاهر وهو أن الأذان عن طريق المسجل أنه لا يجوز ولا يجزئ وغير مشروع، بل هو من البدع المنكرة، إذا كان يستعاض به عن الأذان عن طريق أحد الناس، ويفتح باب التلاعب بالدين، ولكن قد يقول القائل: هل معنى هذا أنه لا يجوز الأذان عن طريق المسجل مطلقا؟
نقول: نحن الذي قصدناه أن يستعاض بالأذان عن طريق المسجل عن الأذان من أحد الناس في المساجد، هذا هو الذي قصدناه في بحث هذه النازلة، لكن لو جعل الأذان عن طريق المسجل في بعض الأماكن العامة، كالمطارات والمستشفيات وبعض الدوائر الحكومية، نقول: هذا لا بأس به إذا كان يقصد به التذكير، لكن لا بد أن يؤذن أحد الناس، فإذا كان ذلك المستشفى فيه مسجد أو مصلى أو ذلك المطار، أو ذلك المرفق فيه مسجد أو مصلى فلا بد أن يؤذن أحد الناس، ولا يكتفى بالأذان عن طريق المسجل.(1/61)
لكن لو أنه أذيع الأذان عن طريق المسجل من باب التذكير، من باب التذكير، فلا بأس بذلك، فليس معنى قولنا أنه لا يجوز ولا يجزئ الأذان عن طريق المسجل أنه لا يجوز إذاعته في مثل هذه المرافق، وإنما الذي قصدنا أن يستعاض بالأذان عن طريق المسجل عن أن يؤذن أحد الناس في المساجد ويكتفى بالأذان عن طريق المسجل، كما هو موجود وواقع في بعض الدول.
أما لو أذيع الأذان للتذكير لكن في ذلك المسجد، أو في مسجد ذلك المرفق أو في مصلاه يؤذن أحد الناس فلا حرج في ذلك، كما مثلنا بذلك في المستشفيات وفي المطارات، وربما في الطائرة أيضا.
ومثل ذلك أيضا أن بعض الناس يضع في الهاتف المنقول يضع برنامج الأذان، أو في الحاسب الآلي يضع برنامج الأذان من باب التذكير هذا لا حرج فيه ولا بأس به، ولكن الممنوع هو أن يستعاض بالأذان عن طريق المسجل عن أن يؤذن أحد الناس في ذلك المسجد.
الأذان في غير أوقات الصلوات ما حكمه؟ كما لو دخل الإنسان مكانا موحشا وأذن أو جعل الأذان عن طريق المسجل، بعض أهل العلم كره هذا، والظاهر، والله أعلم، أنه لا يكره وأنه لا بأس به إذا وجد له حاجة من تعليم ونحوه؛ وذلك لأنه قد ورد في السنة الأذان في أذن المولود اليمنى، وإن كان في سنده مقال إلا أن له طرقا متعددة يقوي بعضها بعضا ويرتقي بها إلى درجة الحسن.(1/62)
فما دام أنه قد ورد الأذان في أذن المولود هذا يدل على أنه لا بأس أن يؤذن لغير أوقات الصلوات إذا وجد له حاجة، كأن يكون للتعليم، كأن يكون معلم يعلم الطلاب الأذان، يؤذن أو يطلب من أحد الطلاب أن يؤذن، أو أن يدخل مكانا موحشا، ومثل ذلك ما يستخدمه بعض القراء في رقية بعض المرضى فيريد طرد الشياطين بذلك الأذان؛ لأنه قد ورد في السنة " أن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط حتى لا يسمع التأذين " فالشياطين تنفر وتكره الأذان، ولهذا فإنها تهرب إذا أذن المؤذن، فلو أتى به لطرد الشياطين في ذلك المكان الموحش أو في الرقية على مريض أو لأجل التعليم، فلا بأس به لأن لذلك أصلا في السنة وهو الأذان في أذن المولود.
متابعة المؤذن، قلنا متابعة المؤذن سنة، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمتابعة المؤذن أن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن إلا في حي على الصلاة حي على الفلاح، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم السنة أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي بالذكر الوارد: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته " وأما زيادة: إنك لا تخلف الميعاد فغير محفوظة.
وأيضا جاء في صحيح مسلم: " من قال حين يسمع النداء رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا غفر له ما تقدم من ذنبه " ومحل ذلك بعد قول المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله وليس بعد الأذان، عند المحققين محل ذلك عند الشهادتين، إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: وأنا أشهد أن محمدا رسول الله: ثم قال: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا.
متابعة المؤذن إذا نقل الأذان عن طريق الإذاعة والتلفاز ونحوهم؟ نقول: إنه لا يخلو هذا الأذان من ثلاثة أقسام:(1/63)
القسم الأول: أن يكون الأذان منقولا على الهواء مباشرة والسامع له لم يؤد الصلاة بعد، كأن يكون الأذان مثلا هنا في مدينة الرياض منقولا على الهواء مباشرة، ولنقل أذان المغرب ينقل على الهواء مباشرة في إذاعة القرآن ولم تصل بعد صلاة المغرب، وسمعت الأذان ينقل عن طريق الإذاعة، فهنا يشرع إجابة المؤذن في هذه الحال تشرع إجابة المؤذن؛ لأنه أذان منقول على الهواء مباشرة تسمعه في اللحظة نفسها وأنت لم تؤد الصلاة بعد، فحينئذ نقول: السنة في هذه الحال إجابة المؤذن، ولا فرق بين أن تسمع مؤذن المسجد القريب منك عن طريق مكبر الصوت، أو المسجد البعيد عنك عن طريق الإذاعة ونحوها.
القسم الثاني: أن يكون الأذان منقولا على الهواء مباشرة والسامع قد أدى الصلاة، مثال ذلك: يكون الأذان منقولا في الإذاعة والتلفاز من مكة من المسجد الحرام في مكة المكرمة، وأنت قد صليت الصلاة ولنقل مثلا صلاة الظهر أو العصر أو المغرب، فلما صليت الصلاة في المسجد خرجت ففتحت المذياع فسمعت المؤذن يؤذن وقد نقل الأذان من المسجد الحرام بمكة المكرمة على الهواء مباشرة، فهل تشرع إجابة المؤذن في هذه الحال؟
نقول: إنها لا تشرع، لا تشرع إجابة المؤذن في هذه الحال، لكون السامع قد أدى الصلاة، وقد نص على ذلك جمع من الفقهاء، قالوا: إن الإنسان إذا أدى الصلاة ثم سمع مؤذنا يؤذن فلا تشرع له إجابة المؤذن في هذه الحالة؛ وذلك لأن المؤذن يدعو السامع إلى الصلاة، فالمؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهذا السامع قد أدى الصلاة فكيف يجيبه وقد أدى الصلاة؟ لأنه إذا أجابه فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، معنى ذلك أنه سأل الله الإعانة على صلاة قد أداها.
ولهذا نقول إذا كان الأذان منقولا على الهواء مباشرة وأنت قد أديت الصلاة فإنه لا تشرع إجابة المؤذن في هذه الحالة.(1/64)
القسم الثالث: أن يكون الأذان مسجلا وليس منقولا على الهواء مباشرة، وذلك يحصل في الإذاعة والتلفاز، الإذاعة مثلا أذان الظهر والعصر في مدينة الرياض لا ينقل على الهواء مباشرة، وإنما يذاع الأذان مسجلا، ففي هذه الحال لا تشرع إجابة المؤذن؛ لأنه ليس أذانا حقيقيا، وإنما هو تسجيلٌ لصوت رجل قد أذن من قبل، وقد يكون هذا الرجل ميتا، وقد يكون غائبا فهو إذن حكاية صوت، وليس أذانا حقيقيا وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق.
ولهذا نجد أنه في بعض الإذاعات يؤتى بالأذان بصوت الشيخ المنشاوي، الشيخ محمد المنشاوي، والشيخ عبد الباسط، وهما قد ماتا منذ سنوات -رحمهما الله- قد ماتا منذ سنوات فقد يؤتى بالأذان عن طريق المسجل لإنسان قد مات، أو لإنسان غائب فهو في الواقع حكاية صوت، وشيء مسموع لأذان سابق، فنقول في هذه الحال لا تشرع إجابة المؤذن لا تشرع إجابة المؤذن.
هذا هو أحسن ما قيل في هذه المسألة، وهذا التقسيم الذي نقلته لكم هو تقسيم الشيخ محمد بن العثيمين -رحمه الله- فتكون هذه المسألة على هذه الأقسام الثلاثة، ونلخص الكلام فيها فنقول:
إن الحال التي تشرع فيها إجابة المؤذن أن يكون الأذان منقولا على الهواء مباشرة، والسامع لم يؤد الصلاة بعد، وأما ما عدا ذلك فإنه لا تشرع إجابة المؤذن، كما لو كان الأذان عن طريق المسجل، فلا تشرع إجابة المؤذن، وكذا لو كان منقولا على الهواء مباشرة والسامع قد أدى الصلاة فإنه لا تشرع في هذه الحال إجابة المؤذن، هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
حكم توزيع المياه في المقبرة على المشيعين للجنازة وحكم الشرب من ذلك الماء(1/65)
المسألة الثالثة معنا في هذا الدرس: هي توزيع المياه ونحوها في المقبرة على المشيعين في الجنازة، وقد برزت هذه المسألة وكثر السؤال عنها في السنوات الأخيرة خاصة، فأصبح بعض الناس يحضر المياه ويوزعها على المشيعين للجنازة خاصة في وقت شدة الحر كهذه الأيام، وبعض الناس ينكر مثل هذا، فهل هذا الإنكار في محله؟
أقول: اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يكره إحضار الماء إلى المقبرة وتوزيعه على المشيعين، قالوا: لأن الحكمة من تشييع الجنازة وزيارة المقبرة هو القيام بحقوق هذا الميت ودفنه، وتذكر الموت والتخلي عن الدنيا، والتعلق بها من اللباس والطعام والشراب.
قالوا: فالمقبرة لم تجعل للأكل والشرب ونحو ذلك، وإنما شرع اتباع الميت للقيام بحقه والتذكر وانتفاع الميت بالدعاء، وإحضار الماء ونحوه مصادم لهذه الحكمة، فعللوا بهذا التعليل.
القول الثاني: قال بعض أهل العلم أنه لا بأس بإحضار الماء ونحوه، مما يحتاج الناس له، لا بأس بإحضاره إلى المقبرة عند تشييع الجنازة ودفن الميت خاصة في وقت شدة الحر، قالوا: فهذا جائز ولا بأس به من غير كراهة؛ لأن هذا من باب الإحسان إلى الناس.
ومعلوم أن سقيا الناس خاصة في الأماكن التي يحتاجون فيها للسقيا من أفضل الأعمال، وفي المقبرة خاصة في أيام شدة الحر، يحتاج كثيرٌ من الناس إلى السقيا خاصة أنه يوجد منهم من هو كبير في السن أو مريض، كأن يكون مصابا بمرض السكر ولا يتحمل مع شدة الحر العطش، ثم إنه لا مانع يمنع من سقيا الناس في المقبرة، فليس ثمة دليل يمنع من هذا وليس ذلك ذريعة لأمر محرم.
وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة والله أعلم، وأنه لا بأس بإحضار الماء عند تشييع الجنازة، ولا بأس بالشرب من ذلك الماء من غير كراهة؛ وذلك لأنه ليس ثمة دليل يمنع من ذلك.(1/66)
وما ذكر أصحاب القول الأول من أن هذا مصادم للحكمة التي من أجلها شرعت زيارة المقابر واتباع الجنائز، فغير مسلم فليس في ذلك مصادمة للحكمة، إنما هذا إحسان للناس المشيعين لهذه الجنازة، خاصة أن بعضهم قد يتضرر مع شدة الحر وشدة العطش، قد يتضرر وربما يمتنع بعض الناس من تشييع الجنازة لأجل هذا، فالأقرب، والله أعلم، أنه لا بأس بإحضار الماء وتوزيعه على المشيعين ولا بأس بالشرب منه من غير كراهة.
ومن أبرز من قال بذلك من العلماء المعاصرين سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- قال لما سئل عن هذه المسألة قال: لا حرج في جلب الماء البارد للشرب عند دفن الميت، لما في ذلك من الإحسان والمساعدة على الخير، فهذا هو الأظهر والأقرب في هذه المسألة، وحينئذ نقول لا وجه لإنكار من ينكر من بعض الإخوة على من يحضر المياه وتوزيعها على المشيعين للجنازة، وأيضا لا يتحرج الإنسان من الشرب من ذلك الماء؛ لأنه ليس هناك ما يمنع من ذلك، بل إن هذا كما قال الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- من باب الإحسان، هذا من باب الإحسان إلى الناس، ويرجى أن يثاب على ذلك من يفعله؛ لأنه إحسان إلى الناس، والله تعالى يقول: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } (1) .
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة، وإنما اعتبرناها نازلة؛ لأنها لم تكن موجودة من قبل بصورة ظاهرة برزت في الوقت الحاضر خاصة في السنوات الأخيرة، فاعتبرناها نازلة لأجل هذا، ونكتفي بهذا القدر في عرض هذه المسائل.
نعم.. الأمر في ذلك واسع
إذا سمع الشخص أكثر من أذان في وقت واحد عبر المكبرات فمع من يردد ؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 195.(1/67)
الفقهاء وسعوا في هذا، كثير منهم قال: إنه يردد مع من شاء، ولكن الأفضل أن يردد مع المسجد الذي سوف يصلي فيه؛ لأنه عندما يقول المؤذن: حي على الصلاة، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيسأل الله الإعانة على تلك الصلاة، فهو يجيب المؤذن بذلك، ولذلك فالأولى أن يردد مع مؤذن المسجد الذي سوف يصلي فيه.
هل يجوز التأمين على دعاء مسجل لشيخ أو غيره بدرس أو موعظة سابقة ؟
الدعاء كالأذان هو بالحقيقة حكاية صوت، وقد يكون هذا الداعي ميتا، ولهذا فإنه لا يؤمن على هذا الدعاء في هذه الحال؛ لأن هذا شيء مسموع لصوت سابق بشيء سابق، فحكاية صوت هذا الذي يسمعه هو حكاية صوت، ولهذا نقول فيه كما قلنا في الأذان.
يقول: عمن ورد الأذان في أذن الصبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن أبي بكر؟
هو ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن في سند ذلك الحديث مقال لكن له طرق متعددة يرتقي بمجموعها إلى درجة الحسن، والإقامة في أذنه اليسرى، والوارد في الإقامة أضعف من الوارد في الأذان، لكن مجموع ما ورد في ذلك الحديث بمجموع طرقه وشواهده يرتقي به إلى درجة الحسن، فهو عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأورد ذلك ابن القيم -رحمه الله- في تحفة المودود.
كم صيغة للأذان، وما هي صيغة الأذان الصحيحة ؟
ورد في السنة أذان أبي محذورة وأذان بلال، أما أذان بلال فهو الأذان المعروف المشهور عندنا، وأذان أبي محذورة يزاد فيه الترجيع فقط ترجيع الشهادتين، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله بصوت يسمع نفسه فقط ثم يرفع صوته بها، يعني يسر بالشهادتين ثم يرفع صوته بهما. وهكذا أيضا الإقامة، ورد على عدة صفات.(1/68)
وعند المحققين من أهل العلم، يأتي بهذا تارة وبهذا تارة لكن هذا في غير المساجد حتى لا يحدث فتنة وتشويشا في غير المساجد كما لو كانوا مثلا في سفر أو في البرية أو نحو ذلك، فيؤتى ببعض الصفات الواردة في الأذان وفي الإقامة، أما في المساجد فالذي أرى أن يلتزم بالأذان المعهود عند الناس، فمثلا عندنا هنا في المملكة هو أذان بلال، أذان بلال وإقامة بلال، على ما هو مشهور من مذهب الحنابلة، وهو الذي استقر عليه الأمر في المدينة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان بلالا يؤذن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفي على ذلك.
لكن لا شك أن أذان أبي محذورة قد ثبتت به السنة، ولذلك فإذا أذن في غير المسجد كأن يؤذن مثلا في سفر أو في البرية، أو نحو ذلك فيؤتى ببعض الصفات الواردة في الأذان والصفات أيضا التي وردت بها السنة في الإقامة.
ما حكم الأذان الذي يوجه عن طريق المسجل لبعض المؤذنين المتوفين في إذاعة القرآن ؟
هو لا نقول إن ذلك ممنوع لا بأس به لا بأس به؛ لأن غاية ما في الأمر أنه تذكير، تذكير للمستمع لهذه الإذاعة بأنه قد دخل وقت الصلاة، فلا نقول بمنع ذلك لكن بقية الأحكام الشرعية من جهة إجابة المؤذن على التفصيل الذي ذكرنا.
يوجد في دولة من الدول أن الأذان موحد في إحدى دول الخليج بأن يؤذن مؤذن واحد فيستقبل في باقي المساجد، فهل نؤذن بعد الأذان الأول ؟
إذا كان ذلك عن طريق المسجل، فكما سمعتم لا يكفي ولا يجزئ، أما إذا لم يكن عن طريق المسجل بأن أذن مؤذن ثم نقل أذانه على الهواء مباشرة لبقية المساجد، هذا محل نظر واجتهاد.
يوضع الأذان في بعض الجوالات ويقطع أحيانا فهل يأثم من قطعه ؟
لا يأثم، لكن ينبغي لمن وضعه للتذكير أن لا يحمل معه الجوال في مكان ممتهن كدورات المياه مثلا، قد يؤذن المؤذن وهو في دورة المياه، وحينئذ يكون في ذلك نوع امتهان، فإذا كان سوف يعنى بالمحافظة عليه فإنه لا حرج في ذلك إن شاء الله.(1/69)
ما الدليل على أن النية من شروط الأذان وما الدليل على أن الأذان عبادة بدنية ؟
هذا باتفاق العلماء، العلماء مجمعون على هذا؛ لأن الأذان عبادة والعبادة يشترط لصحتها النية؛ لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " هذا باتفاق العلماء.
إذا كان هناك أكثر من أذان وأنا ذاهب إلى المسجد فكيف أردد إذا كان أذن الأول فأجبته وانتهى، وأذن الآخر ؟
الأمر في هذا واسع الأفضل أنك تجيب المؤذن إذا سمعته.
إذا كان في أوقات مختلفة فالأمر هنا واسع ، على أن إجابة المؤذن ليست واجبة وإنما مستحبة ، لكن الأفضل أنك تجيب المؤذن إذا سمعته ، ولو كنت قد أجبت المؤذن الأول ، يعني إذا أجبت المؤذن الأول ثم انتهى ثم وأنت في الطريق سمعت مؤذنا آخر يؤذن فتجيبه كذلك ، وتجيب المؤذن الثالث والرابع ، ولا مانع من هذا ، نص على ذلك بعض الفقهاء ، روي عن الإمام أحمد ، فلا بأس بذلك ، وأنت على أجر وعلى خير ، والأمر في هذا واسع ، لو لم تجب المؤذن لم يكن عليك إثم ولا حرج .
امرأة ينزل معها إفرازات كثيرة فهل تعتبر حالها كحال سلس البول ، وهل يجوز لها أن تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة ؟
نعم إذا كانت هذه الإفرازات تخرج معها بصفة مستمرة، فإن الأصل فيما يخرج من الإنسان من السبيلين الأصل أنه ينقض الوضوء، وما يخرج من المرأة سواء عن طريق المثانة أو عن طريق الرحم ينقض الوضوء، وأما من جهة طهارته، فالصحيح أنه إذا كان من مخرج البول فحكمه حكم السلس ، أما إذا كان من مخرج الولد يعني عن طريق الرحم فالصحيح أنه طاهر ، وهو ما يسميه بعض الفقهاء برطوبة فرج المرأة .(1/70)
هذا من جهة الطهارة والنجاسة لهذا الماء ، ولكن من جهة انتقاد الوضوء به فهو ينقض الوضوء مطلقا ، سواء خرج عن طريق المثانة، عن طريق مخرج البول ، أو عن طريق مخرج الولد ، ينقض الوضوء مطلقا ، وحينئذ إذا كانت هذه الإفرازات كثيرة وتخرج بصفة مستمرة ، فتكون هذه المرأة حكمها حكم صاحب السلس ، تتحفظ وتتوضأ عند دخول وقت كل صلاة ، طيب نكتفي بهذا القدر في الإجابة عن الأسئلة ، ونسأل الله - عز وجل - جميعا العلم النافع والفقه في الدين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الإخبار بوقت الكسوف والخسوف، وأثر ذلك على الأحكام الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، أما بعد:
ففي هذا الدرس معنا ثلاث مسائل من النوازل ، ولا زلنا في النوازل في العبادات:
المسألة الأولى: الإخبار بوقت الكسوف والخسوف ، ونشره في وسائل الإعلام وأثر ذلك على الأحكام الشرعية.
والمسألة الثانية: حكم استثمار أموال الزكاة .
والمسألة الثالثة: حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر في الوقت الحاضر .
ونبدأ أولا بالمسألة الأولى وهي الإخبار بوقت الكسوف والخسوف ، ونشره في وسائل الإعلام ، وأثر ذلك على الأحكام الشرعية ، وقبل أن ندخل في هذه المسألة نعرف الكسوف والخسوف .
الكسوف: يعرفه كثير من الفقهاء بذهاب ضوء الشمس أو بعضه لسبب غير معتاد ، ولكن التعريف الدقيق انحجاب ضوء الشمس أو بعضه لسبب غير معتاد ؛ لأن ضوء الشمس في الحقيقة لا يذهب وإنما ينحجب فقط .
والخسوف: ذهاب ضوء القمر أو بعضه لسبب غير معتاد ، والتعريف الدقيق كما قلنا في الكسوف ، انحجاب ضوء القمر أو بعضه لسبب غير معتاد .
والكسوف والخسوف لهما سببان سبب شرعي وسبب كوني :(1/71)
أما السبب الكوني: فبالنسبة لكسوف الشمس سبب ذلك حيلولة القمر بين الشمس والأرض ، ومعلوم أن القمر أصغر بكثير من الشمس ، وكذلك أصغر من الأرض ؛ ولهذا فإن الكسوف الكلي للشمس لا يمكن أن يعم الكرة الأرضية ، لا يمكن ، وإنما يقع في جزء منها ، نظرا لأن حجم القمر أصغر من الأرض وأصغر من الشمس .
وأما سبب خسوف القمر فهو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر ، فيحدث خسوف القمر ، معلوم أن الأرض أكبر من القمر ؛ ولذلك فإنه يحصل الخسوف الكلي ، يحصل الخسوف الكلي لجميع القمر ، وقد يحصل خسوفا جزئيا له ، هذا هو السبب الكوني المعروف.
وأما السبب الشرعي، فقد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المخرج في الصحيحين ، في قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عباده " .
فالسبب الشرعي إذن هو التخويف للعباد ، فإذن الكسوف والخسوف بمثابة الإنذار للعباد بوقوع العقوبة من الله - عز وجل - ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد حصول الكسوف أو الخسوف بالدعاء والصلاة والاستغفار والتوبة والصدقة والعتق ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال : هذا بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله يخوف الله بهما عباده ، قال هذا بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما -يعني الكسوف والخسوف- سببٌ لنزول عذاب بالناس ، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه .
التخويف إنما يكون بما يخافه الناس ، وإنما يخاف الناس مما يضرهم ، فلولا إن كان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفا ، انتبه لهذه الفائدة ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في قوله عليه الصلاة والسلام " يخوف الله بهما عباده " يقول : هذا بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما سبب لنزول عذاب بالناس فإن الله يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله .(1/72)
وإنما يخاف الناس مما يضرهم ، فلولا إن كان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفا ، قال تعالى : { وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) } (1) وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يزيل الخوف ، أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق ، حتى يكشف ما بالناس وصلى بالمسلمين في الكسوف صلاة طويلة إلى آخر ما قال .
وهذا يدل على أن الكسوف والخسوف يقترنوا في الغالب بما يخاف الناس منه مما يضرهم ، وهذا يعني نراه واقعا أن الكسوف والخسوف يقترن بحدث في الأرض من زلازل أو براكين أو غيرها ، ولله تعالى الحكمة البالغة في هذا ، وأما الإخبار بوقت الكسوف والخسوف فوجه اعتبار هذه المسألة من النوازل هو التقدم في علم الفلك بحيث أصبح معرفة وقت الكسوف والخسوف يكاد يصل إلى درجة القطع .
وكذلك أيضا وجود وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة , فما حكم الإخبار بوقت وقوع الكسوف والخسوف ونشر ذلك في وسائل الإعلام ؟
نقول إن معرفة الكسوف والخسوف ليست من علم الغيب ، إذ لو كانت من علم الغيب لما استطاع البشر معرفة وقت الكسوف والخسوف ، بل هو من العلم الحسي المدرك ، قد كان الناس من قديم الزمان يعرفون وقت الكسوف والخسوف ، وذكر أن الفراعنة قبل أكثر من أربعة آلاف سنة ، يعرفون وقت الكسوف والخسوف بدقة .
وكان في المسلمين من يعرف وقت الكسوف والخسوف ، ولكن لما ارتبط في قرون مضت ارتبط علم الفلك بعلم التنجيم ، فأصبح الذين لهم عناية ومعرفة بعلم الفلك يعرفون بالتنجيم ، وقف كثير من الفقهاء موقفا من هؤلاء ، وإلا لو أن علم الفلك سلم من علم التنجيم فهو علم عظيم .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 59.(1/73)
ولذلك لما انفصل علم الفلك في الوقت الحاضر عن علم التنجيم ، أصبح علما له أثره الكبير في حياة الناس ، وأصبح يدرس في الجامعات وفي تخصصات دقيقة ، لكن في أزمنة مضت وقرون خلت كان هناك ارتباط بين علم الفلك والتنجيم ، فنقول إذا معرفة الكسوف والخسوف كانت معروفة من قديم الزمان .
وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وذكر أن الناس كانوا في زمنه يعرفون ، كان هناك أناس يعرفون وقت الكسوف والخسوف ، وكان مما قال -رحمه الله- قال الشمس لا تكسف إلا وقت استصغاره ، وللشمس والقمر ليالٍ معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف ، كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها .
قال : أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما ، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب ، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه أعظم من صدقه ، فإن ذلك قول بلا علم وبناء على غير أصل صحيح ، فإنه بهذا يرد على بعض الفقهاء الذين قالوا ذلك ، قالوا : إن خبر الحاسب كذبه أكبر من صدقه .
فقال شيخ الإسلام إن هذا ليس بصحيح ، وليس خبر الحاسب الكذب أعظم من الصدق ، بل هو قول بلا علم ، وبناء على غير أصل صحيح ، قال : أما ما يعلم بالحساب ، وأما ما يعلم بالحساب ، فهو مثل العلم بأوقات الفصول كأول الربيع والصيف والخريف والشتاء ، إلى آخر ما ذكر .
ثم قال إن أهل الحساب إذا تواطئوا على وقت للكسوف والخسوف ، فلا يكادون يخطئون ، جعل الله تعالى للكسوف والخسوف لله - عز وجل - في هذا سنة كونية ، وقد ذكروا أن الكسوف والخسوف يتكرر نفسه كل ثماني عشرة سنة وأحد عشر يوما وسبع ساعات ، ولذلك يمكن أن يحسب الكسوف والخسوف ، لعشرات بل لمئات السنين مئات سنين قادمة ، ومئات سنين ماضية، لأنه يتكرر كل ثماني عشرة سنة ، وأحد عشر يوما ، وسبع ساعات وثلاث وأربعين دقيقة .(1/74)
فمن السهل معرفة وقت الكسوف بهذه الطريقة ، ولهذا فإنه في الوقت الحاضر ، أصبحت معرفة وقت الكسوف والخسوف تكاد تصل إلى درجة القطع ، لأنه بهذه العملية يمكن حساب الكسوف والخسوف لعشرات بل مئات السنين القادمة ، ويمكن حسابه بالدقائق ، بالدقيقة حتى بالثانية ، لأنه بهذه العملية الحسابية يسهل جدا معرفة وقت الكسوف والخسوف .
وقد تقدم علم الفلك في الوقت الحاضر تقدما كبيرا ، وكان أصله عند المسلمين الأوائل ، علم الفلك أصوله أخذت من المسلمين ، فإنهم تقدموا في ذلك في وقت ازدهار الحضارة الإسلامية ، ولهذا تجد أن بعض النجوم لا زالت إلى الآن بأسمائها باللغة العربية ، وإن كانت تنطق وتكتب باللغة الإنجليزية مثل الدبران مثلا لا زال بهذا الاسم إلى الآن .
وأذكر هنا يعني أمرا يبين لك أن أصل هذا التقدم في علم الفلك إنما كان من المسلمين وقت ازدهار حضارتهم ، المذنب المسمى بالمذنب هالي اكتشف عام 1682 ميلاديا ، ونجد أن الشاعر أبا تمام قد ذكره في قصيدته في فتح عمورية ، لما قالت امرأة : وامعتصماه فسير المعتصم جيشا لنصرة هذه المرأة ، وأخبره المنجمون في ذلك الوقت بأن كوكبا من جهة الغرب سوف يخرج وربما انهزم لأجل ذلك ، ولكنه لم يلتفت لقولهم وسار بجيشه وانتصر ، وقال أبو تمام قصيدة مشهورة :
السيف أصدق أنباء من الكتب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
...
... في حده الحد بين الجد واللعب
في متونهن جلاء الشك والريب
إلى قوله :
وخوف الناس من دهياء مظلمة
... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
الكوكب الغربي ذو الذنب هو المذنب هالي نفسه ، وأبو تمام توفي سنة 228 للهجرة ، يعني إذا أردنا أن نحولها بالميلادي 843 بينما اكتشف المذنب هالي عام 1682 ، أي أن أبا تمام ذكره قبل أن يكتشف عند الغرب بثمانمائة وخمس وأربعين سنة ، هذا فقط يعني أقدم ما ذكر لنا ، مع أنه يحتمل أنه عرف عند المسلمين قبل ذلك .(1/75)
ولهذا ذكر ابن الأثير في تاريخه وصف هذا المذنب ، وبين كم بقي وأنه كان في جهة الغرب ذكر ابن الأثير أنه ظهر بسنة 222 للهجرة ، المقصود أن المسلمين الأوائل كانوا يعرفونه قبل اكتشافه عام 845 للميلاد ، ومع ذلك لما اكتشفوه بعد أكثر من ثمانمائة سنة سموه باسم الذي اكتشفه وهو هالي ، مع أن المسلمين كانوا يعرفونه قبل أكثر من ثمانمائة سنة ، ولكن كما ذكرت الذي عرفه هؤلاء كانوا يخلطون التنجيم بعلم الفلك .
ولذلك خوفوا المعتصم ، خوفوا المعتصم بظهور هذا المذنب ، لكنه لم يلتفت لقولهم ؛ لأنه ليس له أثر ظهور المذنب في الانتصار في المعركة ، فكان هناك خلط بين التنجيم وبين الفلك ، لكنهم عرفوا متى سيطلع هذا المذنب الذي قيل أنه يتكرر طلوعه كل ست وسبعين سنة ، فهذا يبين لك أن المسلمين الأوائل كانوا يعرفون كان عندهم تقدم في علم الفلك ، وكانوا يعرفون وقت الكسوف والخسوف .
هل الآن المعرفة الدقيقة لوقت الكسوف والخسوف التي قلنا إنها قد تصل إلى درجة القطع ؟ نحن قلنا إنها ليست من علم الغيب ، ولكن هل نقول إن إخبار الناس بوقت الكسوف والخسوف إنه مشروع ؟ قال بعض أهل العلم إنه غير مشروع ؛ لأننا إذا تأملنا الحكمة التي من أجلها حصلت هذه الآيات العظيمة وهي تخويف العباد ، فكونه ينشر ويتنقله الناس بواسطة وسائل الاتصال المختلفة ، هذا يخفف من وقع هذه الآية على قلوب الناس ، فلا تحصل الحكمة التي من أجلها شرع الكسوف ، وهي تخويف العباد ورجوعهم إلى الله - عز وجل - .
وإذا علم الناس بوقت ابتداء وانتهاء الكسوف قبل وقوعه فإنه يخف وقع هذه الآية في نفوسهم ، قالوا : فالأولى أن لا ينشر وقت الكسوف والخسوف قبل وقوعه ، والذي يظهر والله أعلم أن الأولى عدم إخبار الناس بوقت الكسوف والخسوف لما ذكر إلا إذا كان وقت وقوعه وقت غفلة ، إذا كان وقت وقوعه وقت غفلة ويغلب على الظن أن أكثر الناس لن ينتبهوا ولن يصلوا صلاة الكسوف أو الخسوف.(1/76)
فالذي يظهر -والله أعلم- أن الأولى إخبارهم في هذه الحال ، لأجل أن يستعدوا للصلاة ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذكر قال : إذا غلب على ظن الإنسان صدق المخبر بالكسوف والخسوف ، فنوى أن يصلي الكسوف والخسوف يعني صلاة الكسوف والخسوف عند ذلك واستعد ذلك لوقت رؤية ذلك كان هذا حثا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته .
اعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الإنسان إذا غلب على ظنه صدق المخبر بالكسوف والخسوف ، واستعد لذلك أن هذا من باب المسارعة للطاعات ، هكذا نقول إذًا إذا كان هذا في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فكيف بزمننا هذا الذي تقدم فيه علم الفلك .
والذي نستطيع أن نقول إن المخبر قد يصل إلى درجة القطع في إخباره بوقت الكسوف والخسوف ، فربما يقطع السامع بصدق خبر هذا المخبر ، وحينئذ فلا بأس بالاستعداد بالكسوف والخسوف وإخبار الناس بذلك ، كما حصل قبل ثلاثة أشهر كسوف جزئي للشمس ، وكثير من الناس لم يصلوا صلاة الكسوف بسبب أنهم لم يعلموا ؛ لأنه كان في وقت غفلة لم يتنبه له كثير من الناس ، إخبار الناس قبل ذلك حتى يستعدوا ويتهيئوا للصلاة لا بأس به ، بل هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : هو من قبيل المسارعة للطاعات .
أما إذا كان ليس وقت غفلة ويغلب على الظن أن أكثر الناس سوف ينتبهوا وسوف يصلون ، سوف ينتبهون ويصلون ، فالأولى عدم إخبارهم لأجل أن يكون لتلك الآية وقع في نفوسهم، هذا التفصيل هو الذي يظهر في هذه المسألة ، والله تعالى أعلم .
من المسائل المتفرعة عن هذه المسألة إذا أخبر أهل الفلك بوقت وقوع الكسوف والخسوف ، ثم إنه غم كسوف الشمس بسحاب ، أو خسوف القمر غم بسحاب ، فلم نستطع رؤية الشمس كاسفة ، ولا القمر خاسفا ، فإنه في هذه الحال لا تشرع صلاة الكسوف والخسوف ، لا تشرع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علق الأمر بالصلاة على رؤيته قال : " فإذا رأيتم ذلك فصلوا " .(1/77)
ومفهوم هذا الحديث أننا إذا لم نر الكسوف والخسوف فإنه لا تشرع الصلاة ، حتى ولو غلب على الظن صدق المخبر ، فهي إنما تشرع الصلاة إذا رؤيت الشمس كاسفة ، أو رؤي القمر خاسفا .
أيضا من المسائل المتفرعة عن هذه المسألة ، أن هناك خسوفا عند الفلكيين وليس خسوفا بالمعنى الشرعي ، وهو ما يسميه الفلكيون الخسوف الكاذب ، أو الخسوف شبه الظل ، يسميه بعضهم الخسوف الكاذب وبعضهم خسوف شبه الظل ، فهذا الخسوف يسمونه خسوفا ، لكنه من يرى القمر يجد أنه لا يختفي ضوءه ، يبقى ضوء القمر لا يختفي .
فلا يؤثر هذا الخسوف على ضوء القمر ، ولكنهم يسمونه خسوفا بمصطلحهم ، وهذا الخسوف ، خسوف شبه الظل أو الخسوف الكاذب ، لا تشرع الصلاة عنده ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا رأيتم ذلك فصلوا " ونحن لم نر القمر خاسفا ، ولهذا فإنه لا تشرع الصلاة عنده ، وأذكر أنه قبل نحو عشر سنوات ، أعلن في بعض الصحف عن خسوف شبه ظل أو خسوف كاذب ، فقام بعض أئمة الناس وصلوا بالناس صلاة الخسوف ، مع أنه لم يختف ضوء القمر .
وأصدر سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- بيانا في هذا أنكر فيه على من صلى ، وبين أن الصلاة إنما تشرع عند رؤية القمر خاسفا أو الشمس كاسفة ، فينبغي إذا عدم التعجل في إقامة صلاة الخسوف حتى يرى القمر خاسفا ، لأنه أحيانا يكون مقصود المخبر من الفلكيين يكون مقصوده الخسوف الكاذب الذي هو شبه الظل ، وهذا لا تشرع الصلاة عنده ؛ لأنه لا يذهب ضوء القمر ولا بعضه ، ولهذا فإنه لا تشرع الصلاة عنده ، وإن سماه الفلكيون وإن سموه خسوفا ، هذا ما يتعلق بهذه المسألة .
استثمار أموال الزكاة(1/78)
ننتقل للمسألة الثانية وهي : استثمار أموال الزكاة ، الزكاة مصرفها بينه الله - عز وجل - في قوله : { * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } (1) هذه هي مصارف الزكاة ، ولم يكن استثمار أموال الزكاة معروفا على مدار أربعة عشر قرنا ، بل كانت تدفع لهؤلاء الأصناف الثمانية ، أو لبعضهم .
ولكن في الوقت الحاضر مع وجود الجمعيات الخيرية والمراكز الإسلامية طرحت فكرة استثمار أموال الزكاة ، فيقول القائمون على تلك المراكز والمؤسسات والهيئات ، يقولون نحن نجمع من الناس أموالا كبيرة من الزكاة ربما تكون بالألوف بل ربما بالملايين ، فلماذا لا تستثمر أموال الزكاة هذه وتوضع في مشاريع خيرية يكون ريعها للفقراء والمساكين ؟ قالوا : بدل ما نعطي هذا الفقير أو المسكين ، هذا المال فيصرفه مباشرة ، فنحن نستثمر له أموال الزكاة ونعطيه من ريعها .
فطرحت بعض الجمعيات الخيرية وبعض المؤسسات والمراكز الإسلامية هذه الفكرة ، وهذا هو وجه اعتبارها نازلة ، وأنها لم تكن معروفة من قبل على مدار أربعة عشر قرنا لم يكن استثمار الزكاة معلوما ، ولهذا لا نكاد نجد لذلك ذكرا في كتب الفقهاء المتقدمين ، لكنها الآن أصبحت تطرح ، بل وتطرح بقوة من بعض المؤسسات الخيرية .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 60.(1/79)
ومن هنا اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار أموال الزكاة ، فمن العلماء من أجاز استثمار أموال الزكاة وقال إن في هذا الاستثمار مصلحة عظيمة ، وفيه نفع كبير للفقراء والمساكين وأصحاب الزكوات ، قالوا والشريعة الإسلامية قد أتت بتحصيل المصالح ، وما كان فيه تحصيل المصلحة فإن الشريعة لا تمنع منه ، وهذا الاستثمار فيه مصلحة تعود بالدرجة الأولى إلى الفقراء وبقية أصناف الزكاة .
قالوا : فهذا الاستثمار هو استثمار لصالح أهل الزكاة ، فهو أشبه باستثمار أموال اليتامى ونحوهم ، قالوا : ومما يدل لذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع عنده إبل الصدقة ويسمنها ، وهذا نوع استثمار ؛ لأنها تتكاثر بالتوالد ، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول .
القول الثاني في المسألة : أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة مطلقا ، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء ، وأدلة هذا القول :
أولا: أن الله - عز وجل - خص الزكاة بثمانية أصناف ، ذكرهم في قوله : { * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (1) إلى آخر الآية وختم الآية بقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } (2) وحينئذ يجب أن تصرف الزكاة في هذه المصارف الثمانية على الفور ؛ لأن الأصل في الأمر الفورية ، والزكاة عبادة والأصل في العبادات التوقيف .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 60.
(2) - سورة التوبة آية : 60.(1/80)
ثانيا: استدلوا بقول الله تعالى { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } (1) قالوا : والمراد بذلك الزكاة ، وهذا أمر والأمر مطلق يقتضي الفورية ، وقوله : { يَوْمَ حَصَادِهِ } (2) آتوا حقه يوم حصاده هذا يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور وعدم تأخيرها لأجل استثمارها ، وهذه الآية نزلت في مكة ، نزلت في الفترة المكية ، لما كانت الزكاة واجبة من غير تحديد ، فإن الزكاة في مكة فرضت في مكة لكن من غير تحديد ، وإنما كان الإنسان يدفع شيئا من ماله ، ثم في المدينة بينت أنصباؤها ، والشاهد هو قوله يوم حصاده ، فهذا فيه إشارة إلى أن الزكاة إنما تخرج يوم الحصاد ، يعني وقت وجوبها على الفور .
أيضا من أدلتها هذا القول ما جاء في صحيح البخاري عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال " صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر فلما سلم أسرع يعني خرج من المسجد مسرعا ثم دخل البيت ثم لم يلبث أن خرج فقيل له ، فقال : كنت قد خلفت في البيت تبرا -يعني ذهبا- من الصدقة ، فكرهت أن أبيت ولم أقسمه ، فقسمه عليه الصلاة والسلام " قالوا ففي انصراف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العصر بسرعة على وجهٍ ملفت للنظر حتى إن الصحابة سألوه عن سبب إسراعه ، في هذا دليل على أن الزكاة إنما تخرج على الفور وأنه ينبغي المبادرة بإخراجها ، إذ أنه لو جاز التراخي في دفعها لما أسرع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما قال كرهت أن أبيت قبل أن تقسم .
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 141.
(2) - سورة الأنعام آية : 141.(1/81)
أيضا رابعا: قالوا إن هذا المال المستثمر هو مال مستحق للفقراء والمساكين وسائر أصحاب الزكاة ، وهؤلاء هم الذين يجب تمليكهم هذا المال ، وهم إن أرادوا أن يستثمروا أموال الزكاة التي تدفع لهم ، فهذا راجع إليهم ، هذا راجع إليهم ، أما أن يريد الجامع لأموال الزكاة استثمار أموال الزكاة نيابة عنهم فليس له ذلك ، فالأموال الزكوية حق للفقراء والمساكين وسائر الأصناف الثمانية .
فالاستثمار في الحقيقة إنما هو راجع لهم إذا ملكوا هذه الأموال ، فلو أننا ملكنا الفقير أو المسكين مال الزكاة فأراد هذا الفقير أو المسكين أن يستثمره ، فهذا راجع إليه ، أما أن يأتي أحد من الناس أو مؤسسة أو جمعية أو هيئة خيرية ويتدخل ويريد أن يحبس أصل مال الزكاة الواجب تمليكه لهؤلاء ويعطيهم فقط من ريعه حتى يستثمره ، فليس له ذلك ؛ لأنه تصرف في حقهم ، ومن الذي خوله لكي يستثمر حقهم الذي فرضه الله لهم .
أيضا قالوا: إن الاستثمار لا يكون مشروعا إلا إذا كان فيه مخاطرة إذ أن الاستثمار لو كان فيه ضمان لعدم المخاطرة وذلك بأن يكون فيه ضمان عدم الخسارة أو ضمان الربح ، فإن هذا الاستثمار غير جائز ، الاستثمار الذي تضمن معه عدم الخسارة يضمن معه الربح غير جائز، وهذا الاستثمار المبني على المخاطرة في الحقيقة يعرض أموال الزكاة للخسارة .
ربما تستثمر أموال الزكاة في مشروع من المشاريع فيخسر ذلك المشروع ، فتضيع حقوق هؤلاء الفقراء والمساكين ، ثم إن حاجة الفقراء ناجزة ، فيجب إخراجها على الفور ، ولا شك أن استثمارها يحتاج إلى وقت طويل ، فعلى سبيل المثال :(1/82)
رجل دفع الزكاة عشرة آلاف ريال ، لو قيل باستثمارها فلو افترضنا أنها بقيت سنة ، كم سيكون ربحها والريع لها بعد تشغيلها ، في الغالب أنه لا يتجاوز الربع ، لكن لو أننا أعطينا هذه العشرة آلاف فقيرا أو فقراء فإنها تسد حاجة بعض هؤلاء الفقراء من جهة توفير الأكل والشرب والمسكن ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا فيه قضاء لحوائج الفقراء والمساكين ، خاصة أن بعض أصحاب الزكاة من الفقراء والمساكين وغيرهم ربما تكون حاجتهم ملحة ، وحينئذ فهم أولى بصرف هذا المال مباشرة بدلا من استثماره لهم .
هذه هي وجهة نظر الفريقين والأقرب والله أعلم هو القول الثاني وهو أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة .
وممن رجح هذا من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- وذلك لقوة أدلته وأصول وقواعد الشريعة تدل لهذا القول ، وأما ما ذكره أصحاب القول الأول القائلون بجواز استثمار أموال الزكاة من المصلحة فغير مسلم ، بل إن المصلحة تقتضي أن نسلم لأصحاب الزكاة أموال الزكاة وهم الذين يتصرفون فيها .
بل إن القول باستثمار أموال الزكاة للفقراء والمساكين فيه الحقيقة إضرار بهؤلاء الفقراء والمساكين ، إذ أن من الفقراء والمساكين من يعتمد في مأكله ومشربه وفي دفع الإيجار -إيجار المسكن الذي يسكن فيه- يعتمد على الزكاة اعتمادا كاملا أو شبه كامل ، وحينئذ القول باستثمار أموال الزكاة وحبسها لأجل هذا الاستثمار فيه إضرار بهم ، وليس فيه مصلحة ظاهرة .
ولو افترضنا أن فيه مصلحة ، فيقابلها مفسدة ، وهي الإضرار بالفقراء والمساكين , ومن القواعد المقررة في الشريعة أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ثم لماذا لم تطرح هذه المسألة على مدار أربعة عشر قرنا ، خفيت هذه المسألة على الناس على مدار أربعة عشر قرنا ثم يأتي من يطرحها في هذا الزمان .(1/83)
ولا شك أنه كون العلماء لم يذكروها ولم يتطرقوا لها دليل على أنهم لا يرون مشروعية هذا الاستثمار ، والزكاة عبادة ، والعبادات مبنية على التوقيف ، والقول بأن استثمار الزكاة فيه نفع للفقراء على المدى البعيد ، هذا يمكن تحقيقه بوسائل أخرى غير الزكاة ، مجالات أخرى كالوقف مثلا .
فلو جمعت أموال من المحسنين واستثمرت هذه الأموال في وقف ، جمعت أموال من المحسنين من غير أموال الزكاة ، واستثمرت في أوقاف ويكون ريعها للفقراء والمساكين ، فإنه يحقق هذا الغرض ، فلا تتعين أموال الزكاة لتحقيق هذا الغرض ، فهناك مجالات أخرى ووسائل أخرى يمكن أن يحقق من خلالها هذا الغرض كالوقف مثلا ، وبهذا يتبين .
أما قولهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع إبل الصدقة ويستسمنها ، فنقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يجمع إبل الصدقة لأجل صرفها في مصارفها الشرعية ، وليس لأجل استثمارها ، وإنما لأجل أن يصرفها في مصارفها الشرعية .
وبهذا يتبين أن القول الصحيح في هذه المسألة هو ما عليه أكثر أهل العلم من أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة ، وإنما طرحنا هذه المسألة لأنها تثار الآن بقوة من بعض القائمين على الجمعيات والمؤسسات الخيرية ، فيرون أن في هذا الاستثمار مصلحة لأصحاب الزكوات ، ولكن ظاهر النصوص والأصول والقواعد الشرعية يدل على أنه لا يجوز مثل هذا الاستثمار ، وأنه يجب أن تدفع الزكاة على الفور لأصحابها المستحقين لها .
حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر
المسألة الثالثة معنا في هذا الدرس ، متعلقة أيضا بالزكاة وهي حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر ، نقول وردت السنة بإخراج الشعير في زكاة الفطر ، قال البخاري في صحيحه ، باب صدقة الفطر صاعا من شعير ، ثم ساق بسنده عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال : كنا نطعم الصدقة صاعا من شعير .(1/84)
وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند البخاري وغيره ، قال : كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط ، أو صاعا من زبيب ، وفي حديث ابن عمر أيضا عند البخاري وغيره " أمر النبي الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير " .
فنقول لا شك في أن السنة قد وردت بإخراج الشعير في زكاة الفطر ، ولكن في وقتنا الحاضر ، أصبح الشعير في كثير من البلدان ومنها المملكة ، أصبح الشعير علفا للبهائم ، ولم يعد قوتا للناس ، كما كان من قبل ، فهل نقول بجواز إخراج الشعير في زكاة الفطر أخذا بظاهر النص ، أو ننظر للمعنى ، وهو أنه إنما جاز إخراج الشعير لأنه كان قوتا للناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
نقول الذي يظهر هو الثاني وهو أنه إنما كان الشعير مجزئا في زكاة الفطر لقوم كان الشعير قوتا لهم ، فلا نتمسك بظاهر النص في هذه المسألة ، ولهذا لو أنك أعطيت فقيرا أو مسكينا في الوقت الحاضر شعيرا لما انتفع به ، ومن حكمة إيجاد زكاة الفطر أنها طعمة للفقراء والمساكين ، وهذا لا يتحقق إلا حين يكون الشيء المخرج قوتا للناس .
وذكر الشعير في حديث أبي سعيد وفي حديث ابن عمر ذكره ليس على سبيل التعيين ، بل لأنه كان غالب قوت الناس يومئذ ؛ ولهذا جاء في حديث أبي سعيد كنا نخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر صاعا من طعام ، قال أبو سعيد وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر ، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه الاستذكار قال : قال أشهب : سمعت مالكا يقول : لا يؤدي الشعير إلا من هو أكله يؤده كما يأكله .(1/85)
فظاهر هذا أن الإمام مالك يرى أنه لا يخرج الشعير إلا لمن يقتات الشعير ، يكون قوتا له ويأكله ، وفي الوقت الحاضر أصبح الشعير ليس قوتا للناس ، وإنما علفا للبهائم ، وحينئذ نقول : إن الظاهر والله أعلم في هذه المسألة أنه لا يجزئ إخراج الشعير في زكاة الفطر في الوقت الحاضر ، في البلدان التي لم يعد الشعير قوتا فيها للناس ، وإنما أصبح علفا للبهائم ، هذا هو الذي يظهر والله أعلم في هذه المسألة .
وإنما اعتبرناها نازلة لأنها قد وردت في السنة ، ولكن لما تغيرت أحوال الناس بحيث أصبح الشعير ليس قوتا للناس وإنما علفا للبهائم فإن الحكم يدور مع علته ، ولهذا نرى أن عامة العلماء المعاصرين يفتون بهذا ويقررون هذا الحكم ، وكذلك أيضا نقول إنه يجزئ في إخراج زكاة الفطر ما كان قوتا للناس ولو لم يكن مذكورا في هذه الأحاديث ، ومن ذلك مثلا الأرز ، الأرز أصبح هو غالب قوت الناس اليوم ، فيجزئ إخراجه .
ولا نتمسك بظاهر النص ونقول أنه لم يذكر في النص لأنه لم يكن قوت الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا المقصود في زكاة الفطر أن يخرج ما هو غالب قوت الناس ، فنقول في الوقت الحاضر لا يجزئ إخراج الشعير لأنه لم يعد قوتا للناس ، وإنما أصبح علفا للبهائم ، ويجزئ إخراج الأرز وغيره مما أصبح قوت غالب الناس وإن لم يكن مذكورا في هذه الأحاديث ، هذا ما يتعلق بهذه المسألة والله تعالى أعلم نجيب عما تيسر من الأسئلة .
يقول أن ما دام القاعدة أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة لو قال شخص أنا أستطيع الوضوء بغير الماء كبخار الماء مثلا وأي سائل آخر فهل يقبل منه ؟(1/86)
نعم نقول إن هناك فرق بين إزالة النجاسة وبين الوضوء ، فالوضوء إنما يكون بالماء فمن لم يجد الماء فإنه يتيمم ، لقول الله تعالى { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } (1) أما إزالة النجاسة فكما ذكرنا في الدرس السابق لم يرد ما يدل على تعيين الماء لإزالة النجاسة ، وإنما الوارد أن الماء تزول به النجاسة ، لكن ليس هناك دليل يدل على أن الماء يتعين لإزالة النجاسة ولا تزول النجاسة بغيره .
أما الوضوء فقد ورد الدليل الدال على أن الماء يتعين للوضوء وهو قول الله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } (2) فقياس إحدى المسألتين على الأخرى قياس غير صحيح ؛ لأن الوضوء منصوص عليه ، لأنه لا بد أن يكون من الماء ، وإذا لم يجد الإنسان ماء فإنه يتيمم { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } (3) بخلاف إزالة النجاسة فلم يرد ما يدل على تعيين الماء لإزالتها .
ما حكم السقط سقط المرأة ، قال إذا ألزم الأطباء بعمل تنظيف ولم يبق إلا أجزاء يسيرة قد تعدى أربعين يوما وبلغ خمسين يوما تقريبا ، ماذا تفعل من أسقطت جنينها في خمسة أشهر إذا قرر الأطباء ذلك ، وهل يلزمها كفارة ؟
إسقاط الجنين لعلها إن شاء الله تكون موضوعات درس قادم إن شاء الله ، إسقاط الجنين سواء إن كان مشوها أو غير مشوه ، وحكم ذلك وأثره في الأحكام الشرعية سوف يكون إن شاء الله موضوعا لأحد الدروس ، لكن نحن نسير بالتسلسل بدأنا بالنوازل في العبادات ثم ننتقل للمعاملات ، ثم في سائر أبواب الفقه ، وسنذكر إن شاء الله تعالى هذه المسألة في درس قادم.
ذكرتم بالأمس حكم توزيع الماء في المقبرة ، فما حكم توزيع الطعام ؟
__________
(1) - سورة النساء آية : 43.
(2) - سورة النساء آية : 43.
(3) - سورة النساء آية : 43.(1/87)
الذي أرى أنه لا يتوسع في هذا ، إذا كان توزيع الماء فيه محل خلاف بين العلماء ، فتوزيع الطعام أولى بالمنع ، الذي أرى أن الأقرب هو المنع في توزيع الطعام ؛ لأنه ليس له حاجة ، وربما فتح أبوابا من الشر ، أو ربما توسع الناس في ذلك ، ومعلوم أن المقابر ليست محلا لتقديم المآكل والمشارب ونحو ذلك ، ولكن إنما أجزنا توزيع الماء للحاجة لذلك خاصة في بلادنا التي يشتد فيها الحر ، وربما أن كثيرا من الناس أو بعض الناس يحتاج للماء ويعطش خاصة من كان مريضا كالمصاب بمرض السكر وغيره ممن يعطشوا بسرعة ، فأجزنا الماء فقط ، أما التوسع في ذلك فأرى أنه غير مشروع .
يقول نحن جئنا من بلاد بعيدة بعضنا من أوروبا وبعضنا من أفريقيا ، نستفيد من هذه الدروس والحمد لله استفدنا قبل أن نرجع ، نريد مذكرة بعض الدروس ولا تعتذر عن هذا الطلب ؟
على كل حال الإخوان جزاهم الله خيرا القائمين على هذا الجامع قد سجلوا هذه الدروس وهي مسجلة بالصوت ، وأيضا تفرغ بعد مدة ، كما فرغوا دروس الدورة الماضية ، فبإمكان الإخوة التواصل مع موقع الجامع على الإنترنت ، فهذه الدروس تكون موجودة بالصوت ومكتوبة أيضا ، ولعل هذا يحقق غرض الإخوة إن شاء الله .
ما حكم ضرب الدف للرجال ، وسماع النساء لهم ؟
هذا الباب يعني باب المعازف الأصل فيه المنع ، ولهذا جاء في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرا والحرير والخمر والمعازف " وفسر ابن مسعود علم الصحابة قول الله تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } (1) بأن المقصود بذلك الغناء ، والأدلة لهذا كثيرة .
__________
(1) - سورة لقمان آية : 6.(1/88)
والعجب ممن كتب في هذا وحشد أدلة وناقش الأدلة وقال ليس هناك دليل يدل على تحريم الأغاني ، وهذا ليس بصحيح إطلاقا ، لكن مثل هذا الحشد بهذه الطريقة ، ربما يخدع بعض الناس ويغر بعض الناس ، والأدلة على تحريم الأغاني كثيرة ، ولهذا المذاهب الأربعة كلها الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على تحريم الغناء ، والمقام ليس مقام يعني ذكر لهذه الأدلة ابن القيم -رحمه الله- في إغاثة اللهفان ذكر شيئا يعني كثيرا من هذا ، وذكر المفاسد المترتبة على سماع الغناء ، وذكر أنه قرآن الشيطان ، وأنه لا يجتمع مع قرآن الرحمن في هذا .
فالمعازف الأصل فيها المنع ، الأصل فيها المنع ، ومن ذلك الطبول ، فضرب الطبل محرم ، ومن قال بأنه لم يرد فيه شيء ليس بصحيح ، ورد في سنن أبي داود بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة " والكوبة هي الطبل ، ورد فيه نص خاص إنما استثني فقط الدف للنساء خاصة في العرس .
وكذلك أيضا في أيام العيد ، أجيز ضرب الدف في يوم العيد ، فقط يعني في هذه الحالات وألحق بعض أهل العلم حالة ثالثة وهي الحرب إذا احتيج لذلك ، هذه الأحوال الثلاث هي التي استثنيت ، ما عدا ذلك فيبقى على المنع .
قد أقر هذا الحافظ بن حجر -رحمه الله- وقال إن الأصل في هذا الباب المنع، وحينئذ بناء على هذه القاعدة الدف للرجال لا يجوز ، لأن الأصل المنع ولم يرد ما يدل على جواز الدف للرجال ، اللهم إلا يوم العيد ، فإنه قد ورد ما يدل على جواز ضرب الدف يوم العيد كما في حديث الجاريتين لما نهرهما أبو بكر الصديق ، وقال : " أمزمور الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عليه الصلاة والسلام دعهما فإن لكل أمة عيدا وهذا عيدنا أهل الإسلام " فعلل بكونه عيدا .(1/89)
وأنه إنما جاز ضرب الدف في ذلك اليوم لكونه عيدا ، وما عدا ذلك فيبقى على الأصل وهو المنع ، في غير هذه الأحوال الثلاث لا يجوز ضرب الدف ولا الطبل من باب أولى ، ولا المعازف كلها بأنواعها محرمة .
أين يوجد كلام ابن تيمية في الكسوف والخسوف ؟
ابن تيمية له عناية بمسائل الفلك ، ومن يعني العلماء المحققين في هذه المسائل فيما يتعلق بالهلال وبما يتعلق بالكسوف والخسوف ، ومسائل الفلك عموما ، كلامه يوجد في مجموع الفتاوى ، المجلد الرابع والعشرين ، صفحة مائتين وستة وخمسين وما بعدها .
ما ينشر عن وقت الكسوف والخسوف في وسائل الإعلام عنه هل هو محرم أو مكروه؟
لا يصل لدرجة التحريم ، لأنه يخبر عن أمر معلوم ، يخبر عن سنة كونية معلومة ، لكن تبقى مسألة الأولوية ، هل الأولى النشر أو الأولى عدم النشر ، لكن الذي يظهر أنه لا يصل الأمر إلى درجة التحريم .
هل يشترط لصلاة الكسوف والخسوف الرؤية الشخصية أم يجوز أن يخبرك الناس أنهم رأوه ؟
لو أخبرك الناس الثقات بأنهم رأوه في المكان نفسه في المكان الذي أنت فيه فإن هذا يكفي ، لا يلزم أن كل إنسان يراه ، فيمكن مثلا إذا إمام مسجد إذا رآه يكفي ، وبقية الناس يصلون برؤية الإمام وهذا كاف .
أليس أصل العلوم الشرعية الطبيعية كلها من علوم المسلمين ؟
نعم الحضارة الإسلامية يعني أخذ الغرب أصول حضارتهم من الحضارة الإسلامية ، ليس فقط في علم الفلك في كثير من العلوم .
في الفترة الأخيرة أخبر الفلكيون بوقوع كسوف الشمس لكن لم يكن صحيحا ، فكيف نجمع بين ما قلت وما حصل ؟
لا ، هو صحيح كسوف الشمس الذي حصل الذي أخبر به ، هو صحيح لكن ربما أن الأخ لم يتنبه له ، لأن كسوف الشمس أحيانا لا يكون واضحا ، بسبب قوة إضاءة الشمس ، لكن لا أذكر أنه أخبر بأنه سيقع كسوف ولم يقع أبدا ، اللهم إلا الكسوف الكاذب وشبه الظل لأنه هو الذي لا يرى ، ما عدا ذلك فإنها من سنن الله الكونية التي تعلم .(1/90)
وما ذكر الأخ لعله هو الذي لم يتنبه لهذا وإلا لو أنه يعني رأى الشمس بوسيلة من الوسائل التي لا يحصل معها الضرر للعين سيرى الشمس انكسف جزء منها ، ولا يلزم الكسوف الكلي للشمس ، لو انكسف جزء منها شرعت صلاة الكسوف ، ولهذا الفقهاء يعرفون الكسوف بأنه انحجاب ضوء الشمس أو بعضه ، فالكسوف حصل ، ولا يعرف أنه في مرة ولو مرة واحدة أنه أخبر بحصول الكسوف والخسوف ولم يحصل إلا ما ذكرت فقط من الخسوف الكاذب الذي لا يعتبر خسوفا بالمعنى الشرعي .
هل يعتبر مشاهدة مجالس الذكر في التلفاز ، وكذلك مباشرة المسجلة كحضورها ، وهل يحصل للمشاهد الأجر ؟
يرجى أن يحصل له الأجر وفضل الله واسع ، لأنه يعتبر درس علم ، سواء كانت على الهواء مباشرة أو مسجلة ، والمقصود هو حصول الفائدة لهذا المشاهد ، سواء يعني شاهده في التلفاز أو أنه سمع مثلا في الإذاعة أو عن طريق مسجل ، فيرجى له حصول الأجر والثواب، لأن المقصود هو تحقيق الفائدة، وهذا يحقق هذا الغرض .
كيف الدعوة لشخص عندما نصحته قال أنا أكره المطاوعة وهؤلاء فيهم وفيهم ، إذا كنت أصلي والحمد لله وسماع الأغاني قليل ولا أكثر منه ؟(1/91)
أولا : لماذا يكره الاستقامة ؟! هل هو لأجل استقامتهم هل هو لأجل الدين ، أو يعني لسبب آخر ؟ فهؤلاء المستقيمين يجمعهم وصف وهو أنهم استقاموا على دين الله - عز وجل - كراهتهم معنى ذلك كراهة للدين ، والاستهزاء بهم في الحقيقة استهزاء بالدين ، ولهذا لما قال بعض المنافقين ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، يعنون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكذب ألسنا ولا أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء ، ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء ، فقط قالوا هذه الكلمات ، أنزل الله - عز وجل - { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1) لاحظ هنا أنهم استهزءوا بالقراء استهزءوا بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك قال الله تعالى : { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) } (2) .
فالاستهزاء بالمستقيمين وأهل الخير والصلاح لأجل استقامتهم هو في الحقيقة استهزاء بالله وآياته ورسوله ، ولهذا فإنه كفر ولو كان على سبيل السخرية والهزل والمزاح ، وهذا يدل على خطورة هذه المسألة ، فكراهة المستقيمين قل له لماذا يكره هؤلاء المستقيمين ، هل هو لأجل استقامتهم ، أو لماذا ؟! فهذا يعني على خطر عظيم مثل هذه المقولة ، ومثل هذا الكلام ، بل إنه يحب هؤلاء المستقيمين وأهل التقى والصلاح ، ويكره ما يحصل عند بعضهم من بعض التجاوزات لأنهم بشر .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 65-66.
(2) - سورة التوبة آية : 65.(1/92)
لكن أنه يقول بهذا اللفظ أنه يكره جميع المستقيمين وأهل الخير والصلاح ، لا شك أن هذا فيه خطورة على هذا الإنسان ، وأما قوله بسماع الأغاني فتقدم أنه محرم ، وأن الإنسان يكسب به أوزارا ، وآثاما ونكتفي بهذا القدر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
عدم إجزاء الشعير في زكاة الفطر لمن لم يعد الشعير قوتا لهم
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، معنا في هذا الدرس جملة من المسائل المتعلقة بالنوازل والصيام ، وقبل أن نتكلم عنها أنبه على المسألة الأخيرة التي طرحناها في الدرس السابق ، وهي مسألة عدم إجزاء الشعير في زكاة الفطر لمن لم يعد الشعير قوتا لهم، هذه أشكلت على بعض الإخوة من جهة أن الشعير لا يزال قوتا في بعض البلدان .
نحن نقول نحن قيدنا كلامنا بالأمس بمن كان الشعير ليس قوتا لهم ، وإنما أصبح علفا للبهائم ، هؤلاء هم الذين لا يجزئ في حقهم إخراج الشعير ، أما الذين لا يزال الشعير قوتا لهم فلا شك في إجزاء الشعير في زكاة الفطر ، كلامنا بالأمس مقيد بمن كان الشعير لم يعد قوتا لهم ، وإنما أصبح علفا للدواب، وفي بعض البلدان لا يزال الشعير قوتا للناس ، حدثني أحد الإخوة أنه في بعض المناطق هنا في المملكة لا يزال الشعير قوتا للناس ، وحينئذ فيكون الحكم بناء على هذا التفصيل .
فإن قال قائل كيف تقولون بعدم إجزاء الشعير لمن لم يكن قوتا لهم مع أنه قد ورد به النص ؟
نقول : أولا لم يرد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم لو ورد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لربما نقول بأنه يصح مثل هذا الإيراد ، لكن ورد من وصف بعض الصحابة بأنه طعام الناس يومئذ كان التمر والأقط ، وذكروا الشعير ، فإذا تغير طعام الناس ولم يعد الشعير طعاما للناس وقوتا للناس ، فالحكم يدور مع علته .(1/93)
حكم الاعتماد على المراصد الفلكية في رؤية الهلال
معنا في هذا الدرس جملة من المسائل في كتاب الصيام ، وسنتكلم إن شاء الله تعالى أولا : عن حكم الاعتماد على المراصد الفلكية في رؤية الهلال ، ثم نتكلم عن حكم بخاخ الربو وأثره على تفطير الصائم ، وفي معناه أيضا الأكسجين ، استخدام الأكسجين بالنسبة للصائم ، والأقراص التي توضع تحت اللسان للعلاج وفي معناها اللاصقات من النيكوتين التي يستخدمها بعض من يريد الامتناع عن التدخين ، وأيضا استخدام المنظار وأثره على تفطير الصائم ، وغسيل الكلى وأثره على تفطير الصائم .
هذه كما ترون مسائل مستجدة وسوف نقف مع كل مسألة منها .
ونبدأ أولا بالمسألة الأولى : حكم الاعتماد على المراصد الفلكية في رؤية الهلال ، وهذه المراصد التي وجدت في الوقت الحاضر لم تكن موجودة من قبل على هذا النحو الذي هي موجودة عليه ، فهل يصح الاعتماد على هذه المراصد أم لا ؟ قبل أن نتكلم عن هذه المسألة نشير إلى مسألة أخرى تكلم عنها أهل العلم قديما وحديثا .
فهي ليست من النوازل ولكن لارتباطها بهذه المسألة التي بين أيدينا نشير لها إشارة مختصرة ، وهي حكم الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر ، وللعلماء في ذلك قولان :
فأكثر أهل العلم قديما وحديثا على أنه لا يصح الاعتماد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر ، بل حكي إجماعا ، لكن حكاية الإجماع محل نظر ، إذ أن هناك من الفقهاء من خالف في هذه المسألة ، فقد خالف بعض فقهاء المالكية والشافعية ، كما حكى ذلك القرافي وغيره واشتهر عن ابن سريج من الشافعية ، أنه يعتمد على الحسابات الفلكية في إثبات دخول الشهر .(1/94)
ومن أبرز من قال بهذا القول من المعاصرين ، الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- وله رسالة مشهورة في هذا ، ومن العلماء المعاصرين من قال إنه يعتمد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات ، بمعنى : لو قال الفلكيون لا يمكن أن يرى الهلال هذه الليلة فيقول يعتمد على قولهم في هذا ، لكن لو قالوا يمكن أن يرى ، فلا يعتمد . وإنما يعتمد على الرؤية فإن رؤي أثبت دخول الشهر وإلا فلا ، وهذا قال به جمع من العلماء المعاصرين .
والذي يظهر في هذه المسألة -والله أعلم- هو قول الجمهور ، وهو أن الاعتماد إنما هو على الرؤية ، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا الشهر ثلاثين " .
ولكن مع ذلك ينبغي إذا دل الحساب على عدم إمكانية رؤية الهلال أن يتشدد في قبول الشهادة ، فلا تقبل إلا من إنسان موثوق في دينه وأمانته ، وأيضا من إنسان معروف بحدة البصر والخبرة في تحديد منازله ، إذ أن بعض الناس ، بعض من يدعي رؤية الهلال يغلب عليهم التسرع والعجلة والوهم ، وبعضهم ربما رأى كوكبا أو نجما يشبه الهلال فظنه هلالا .
وأذكر أنه في شهر شوال من العام الماضي عام ألف وأربعمائة وست وعشرين ادعى رؤية الهلال خمسة شهود ، ومع ذلك رد مجلس القضاء الأعلى هنا في المملكة جميع شهادة هؤلاء ، وكان الواقع هو كما رآه مجلس القضاء ، فالليلة التي بعدها لم ير الهلال ، يعني هؤلاء ادعوا رؤية الهلال ليلة الثلاثين من رمضان ، والليلة التي بعدها لم يستطع أحد رؤية الهلال حتى ولو بالمراصد الفلكية ، هذا أعطى مؤشرا على أن ما رآه المجلس هو الحق .(1/95)
فيغلب ، بعض الناس ربما يكون ثقة لكنه يهم يرى شيئا يشبه الهلال ، فيقول إنه هلال ، ويشهد بناء على ذلك ، فأقول إن الحساب يمكن أن يعتبر قرينة لا يعتمد عليها ولكن يستأنس بها في دخول الشهر ، والحساب له عدة مجالات ، منها حساب وقت ولادة الهلال ، وحساب وقت غروب القمر ، وحساب مقدار درجات القمر فوق الأفق وقت غروب الشمس إلى غير ذلك من المجالات .
وأقوى هذه المجالات هو حساب وقت غروب القمر ، فإنه من المتفق عليه بين العلماء أنه لا يعتد برؤية الهلال ، إلا إذا رؤي بعد غروب الشمس ، أما لو رؤي قبل غروب الشمس ولو بدقيقة ثم لم ير بعد غروب الشمس ، فلا يعتد به بالإجماع ، وحينئذ فلو دل الحساب الفلكي على غروب القمر قبل غروب الشمس ثم أتى أحد فادعى رؤيته بعد غروب الشمس ، فما الحكم ؟
الواقع أن حساب وقت غروب القمر دقيق جدا ، وقد حدثني أحد المختصين في علم الفلك ، بأن معادلة غروب الشمس هي نفسها معادلة غروب القمر ، وقال : إن من يشكك في حساب غروب القمر فليشكك إذا في حساب غروب الشمس ؛ لأن المعادلة واحدة ، وقد جربت هذا بنفسي وراقبت غروب القمر لعدة شهور ، ووجدته دقيقا يغرب في نفس الدقيقة التي حددت في الحساب ، فهو كغروب الشمس في هذا .
فهذا هو من أقوى القرائن في الحساب الفلكي ، والواقع أنه في سنوات مضت يتقدم شهود فيدعون رؤية الهلال مع أن الحسابات قد دلت على أنه قد غرب ، بل إن بعض أنواع التلسكوبات تتجه مباشرة إلى الهلال ، إذا برمجت تتجه مباشرة إلى الهلال وتتابعه من أول النهار ، فإذا غرب الهلال اتجهت إلى الأرض ، أحيانا تتجه إلى الأرض وتعطي إشارة بغروب القمر ، ومع ذلك يأتي من يشهد برؤية الهلال ، فهل تقبل شهادة هؤلاء ؟(1/96)
نحن قلنا إنه ينبغي أن يتشدد في قبول شهادتهم ، ولكن إذا كانوا أهل ديانة وأمانة وخبرة وحدة نظر ، فإنه من الصعب رد شهادتهم ؛ لأننا قررنا أنه لا يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر ، بل إنه جاء في صحيح مسلم أن الناس تراءوا الهلال زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعضهم هو ابن ليلتين ، وقال بعضهم هو ابن ثلاث ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله أمده لكم لتروه " .
فظاهر هذا الحديث هو أن الله تعالى قد يمد الهلال لكي يراه الناس ، يكون في هذا خرقا لما هو معروف أو معلوم بالسنن ، والله تعالى أعلم ، ولهذا فنتمسك بظاهر النص في هذا ، فنقول المعول عليه هو الرؤية ، ولكن ينبغي أن يتشدد إذا دلت الحسابات الفلكية على عدم إمكانية الرؤية ، ينبغي أن يتشدد في ذلك ، ولا تقبل الشهادة إلا من عرف خبرته في هذا وحدة نظره مع دينه وأمانته .
وهذه المسألة أعني دخول الشهر ، تشكل في بعض البلاد خاصة في بعض البلاد غير الإسلامية والتي يكون فيها جالية إسلامية ، يختلفون اختلافا كثيرا في هذه المسألة ، فأقول إذا أمكن اتحاد المسلمين على رأي فهو المطلوب ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الصوم يوم يصوم الناس ، والفطر يوم يفطر الناس " .
ولكن إذا اختلف الناس في البلد الواحد فحينئذ نقول : إنه ينبغي اتباع البلاد التي تعتمد على الرؤية في إثبات دخول الشهر ، خاصة إذا كان الناس في تلك البلاد في الغرب يعني بأن كانت البلاد التي يريدون اتباعها في الشرق ، فمثلا لو رؤي هلال هنا في المملكة فلا بد أن يرى في البلاد التي تقع غربها ، كبلاد إفريقيا وأوروبا وأمريكا .(1/97)
البلاد التي تقع في الغرب لا بد أن يرى فيها الهلال ، لا يمكن أن يعني يرى الهلال هنا في المملكة ولا يمكن رؤيته في البلاد التي تقع في الغرب ، ما دام أن الرؤية صحيحة فلا بد أن يرى في البلاد التي تقع في الغرب ، ولا يلزم من ذلك رؤيته في الشرق ، فقد يتعذر رؤية الهلال في الشرق ويمكن رؤيته في الغرب .
هذه نبذة موجزة عن هذه المسألة ، ونعود لمسألتنا التي بين أيدينا وهي الاعتماد على المراصد الفلكية في إثبات الشهر ، هذه المسألة بحثها مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة قبل نحو ربع قرن ، وتحديدا عام 1403 للهجرة ، وشكل لجنة من الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- مع بعض المختصين .
ورأت اللجنة عدة أمور أقرها مجلس هيئة كبار العلماء :
ومنها : إنشاء المراصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا مانع منه شرعا .
ومنها : إذا رؤي الهلال بالعين المجردة فالعمل بهذه الرؤية وإن لم ير بالمرصد .
ومنها إذا رؤي الهلال بالمرصد رؤية حقيقية تعين العمل بهذه الرؤية ، ولو لم ير بالعين المجردة ، وذلك لقول الله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } (1) ولعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تصوموا حتى تروه ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " ولقوله عليه الصلاة والسلام : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث ، وهو من رأى الهلال عن طريق المرصد يصدق عليه أنه رأى الهلال ، ولأن المثبت مقدم على النافي .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 185.(1/98)
وهذا الرأي اعتمده مجلس هيئة كبار العلماء ، وأصبح العمل عليه منذ ذلك الحين منذ عام 1403 ، وفي هذا رد على من يقول : إن العلماء لا يرون الاعتماد على المراصد الفلكية ، فهذا غير صحيح ، العلماء قرروا منذ ذلك الحين جواز الاعتماد على المراصد الفلكية ، لا مانع من الاعتماد عليها ، سواء كانت المراصد الفلكية الكبيرة الضخمة ، أو حتى عن طريق المنظار الصغير ، أو ما يسمى بالدربين ، ونحوه .
كل هذا يصح الاعتماد عليه ولو لم ير بالعين المجردة ، وسماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى عندنا في المملكة صرح بهذا كثيرا بأن مجلس القضاء الأعلى يقبل الرؤية عن طريق المراصد الفلكية ، فما يثار من أن العلماء هنا في المملكة لا يقبلون الرؤية عن طريق المراصد غير صحيح البتة ، بل إن العلماء قرروا ذلك من نحو ربع قرن .
ولكن مع ذلك منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا لم ير الهلال عن طريق المراصد الفلكية ولو لمرة واحدة ، فما هو السبب في هذا ؟ يعني رغم أن العلماء أقروا هذا وهو الذي عليه العمل ، ومجلس القضاء متوجه لقبول الرؤية عن طريق المراصد الفلكية إلا أنه لم ير الهلال عن طريق المراصد منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا ولو لمرة واحدة ، فما هو السبب في هذا ؟
أحد المختصين في علم الفلك تكلم عن هذه المسألة وذكر السبب في هذا ، وقال : يظن الكثير أن المراصد الفلكية من تلسكوبات وغيرها أنها تحسن فرصة رؤية الهلال ، والواقع قد يكون العكس من ذلك ، ثم علل ذلك من الناحية العلمية ، قال : إن فكرة المراصد تقوم على زيادة كمية الضوء الواصلة من الجسم المراد رصده والمراد به هنا القمر ، لا تكبير حجم ذلك الجسم ، وإنما فقط زيادة كمية الضوء ؛ لأن أغلب الأجرام السماوية بعيدة جدا وإمكانية تكبيرها قد تكون صعبة بالنظر المباشر بالمرصد ، ولكن التكبير يحدث بتصويرها ضوئيا ، ومن ثم تكبير هذه الصورة إلى أقصاها .(1/99)
وفي حالة رصد الهلال فإن القمر يكون قريبا جدا من الشمس ، يعني في ليلة التحري يكون القمر قريبا جدا من الشمس ، وهنا ستكون كمية ضوء الشمس من الكبر بحيث لا يتمكن من ينظر في المرصد من رؤية الهلال بسبب ضوء الشمس الشديد ؛ لأن القمر قريب من الشمس ، فيكون ضوء الشمس هنا كبيرا ، فلا يتمكن الراصد عن طريق المرصد من رؤية الهلال ، بل إنه ربما يؤثر ذلك على عين الراصد .
أما إذا كان القمر بعيدا عن الشمس ، فإمكانية رؤيته البصرية ستكون سهلة ، ولن يقدم المرصد حينئذ كبير خدمة ، قال : وإذا زاد حجم المرصد الفلكي صغرت مساحة المنطقة المرصودة ، وتركزت كمية الضوء الواصلة لعين الراصد في حين أن الرصد بالعين المجردة سيمكن من النظر إلى نصف الأفق تقريبا مما يقلل من كمية الضوء المركزة ، إلى آخر ما ذكر .
ثم قال : وخلاصة القول أن الاستعانة بالمراصد الفلكية في رصد الهلال غير ممكن حاليا ، حسب الإمكانات الموجودة عالميا ، إلا في حالات يمكن للعين البشرية أن ترى فيها ببساطة ، فتبين بهذا السبب في عدم رؤية الهلال عن طريق المراصد ، وهو أن القمر ليلة الرصد ليلة التحري يكون قريبا جدا من الشمس ، وبالتالي لا يمكن رؤية الهلال في هذه الحال بسبب قوة الضوء .
أما إذا كان القمر بعيدا عن الشمس ، فهنا تسهل رؤيته بالعين المجردة ، فلا حاجة لرؤيته عن طريق المراصد ، ولذلك منذ ذلك الحين عند إقرار العلما لجواز استخدام المراصد والاعتماد عليها إلى وقتنا هذا لم ير الهلال عن طريق المراصد ، ولو لمرة واحدة ، فهذا هو يعني السبب .(1/100)
وكما ترون هو يعني الكلام الذي نقلته عن أحد المختصين مقنع في هذا ويؤيده الواقع ، خلاصة الكلام أنه يصح الاعتماد على المراصد الفلكية في إثبات دخول الشهر ، فلو قدر أنها صنعت بطريقة معينة بحيث يمكن رؤية الهلال عن طريقها فلا مانع شرعا من الاعتماد عليها ، ولو لم ير الهلال بالعين المجردة ، إنما فقط الإشكال هو في الاعتماد على الحساب ، أما الاعتماد على رؤية الهلال عن طريق هذه المراصد فلا مانع منه .
قبل أن نتجاوز هذه المسألة يثير بعض الناس أمرا متعلقا بالاعتماد على الحساب ، يقولون : أنتم تعتمدون على الحساب في أوقات الصلوات ، فلماذا لا تعتمدون على الحساب في إثبات دخول الشهر ؟ وأقول : هذا الإيراد ذكره القرافي -رحمه الله- في كتابه الفروق ، في الفرق الثاني والمائة ، كتاب الفروق كتاب قيم ، ذكر هذا الإيراد في كتابه الفروق في الفرق الثاني والمائة ، قال الفرق الثاني والمائة بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها ، وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها بالحساب .
ثم بين -رحمه الله- هذا الفرق ، وقال : إن الله تعالى جعل أسبابا لوجوب الصلوات ، فمتى علم السبب بأي طريق لزم الحكم ، فجعل نصب ، قال : إن الله تعالى نصب زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر ، فمتى ما علم زوال الشمس بأي طريق فحينئذ لزم الحكم ، وهكذا بالنسبة لوقت العصر والمغرب والعشاء والفجر ، فمتى ما علمت هذه الأسباب التي نصبها الشارع لزم الحكم ، إذا علمنا زوال الشمس بأي طريق لزم الحكم ، علمنا أن يصبح طول ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال بأي طريق لزم الحكم ، وهكذا ، فجعل لأوقات الصلوات أسباب ، متى ما علم هذا السبب لزم الحكم ، فيمكن أن نعرف هذا السبب عن طريق الحساب الفلكي .(1/101)
قال : وأما بالنسبة للأهلة ، فلم ينصب صاحب الشرع خروجها خروج الشمس من الشعاع سببا للصوم ، خروجها يعني خروج الأهلة من الشعاع ، يعني من شعاع الشمس ، سببا للصوم ، بل رؤية الهلال خارجا من شعاع الشمس هو السبب ، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي ، قال : فصاحب الشرع لم ينصب نفس خروج الهلال عن شعاع الشمس سببا للصوم .
خلاصة هذا الكلام نقول إن الشارع في أوقات الصلوات نصب أسبابا لدخول الوقت ، فمتى علم هذا السبب بأي طريق دخل الوقت ، ويمكن أن نعرف هذا السبب عن طريق الحساب الفلكي ، أما بالنسبة لدخول الشهر ، فقد جعل الشارع المعول عليه في ذلك هو الرؤية ، ولم يجعل المعول عليه في ذلك هو الحساب ، أو خروج الهلال كما ذكر من شعاع الشمس ، وإنما المعول عليه الرؤيا .
فنجد أنه في دخول الشهر قال : " صوموا لرؤيته " ولم يقل لخروج الهلال من الشعاع ، وإنما قال صوموا لرؤيته ، بينما في وقت صلاة الظهر قال : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } (1) يعني لزوال الشمس ، فهذا هو الفرق ، وبذلك نعرف أنه لا يصح هذا القياس ، لا يصح قياس إثبات دخول الشهر على أوقات الصلوات في الاعتماد على الحساب ، هذا ما يتعلق ببحث هذه المسألة .
حكم استخدام بخاخ الربو ونحوه بالنسبة للصائم
ننتقل بعد ذلك إلى مسألة حكم استخدام بخاخ الربو ونحوه بالنسبة للصائم ، وأثر ذلك في تفطير الصائم .
نقول أولا: إن علاج الربو إما أن يستخدم عن طريق دواء يسمى كبسولات ونحوها ، فهذه تفطر الصائم ، وهذه الكبسولات يكون فيها دقيق ، ولها آلة تضغط ثم تنفجر في الفم ، فيختلط هذا الدقيق الموجود في الكبسولات يختلط بالريق ويبلعه الصائم ، وحينئذ فإن هذا الدواء يفطر الصائم .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 78.(1/102)
والقسم الثاني: وهو الذي نعنيه في بحث هذه المسألة بخاخ الربو ، وهو غاز ليس فيه إلا هواء ، يفتح مسام الشرايين حتى يتنفس المصاب بالربو ، حتى يتنفس بسهولة ، وهذه المسألة اختلف العلماء المعاصرون فيها على قولين:
القول الأول: أن بخاخ الربو ونحوه لا يفطر الصائم ، ولا يفسد الصوم ، ومن أبرز من قال بذلك من العلماء المعاصرين سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد بن عثيمين رحمهم الله تعالى .
وقال بعض العلماء المعاصرين: إن بخاخ الربو يفطر الصائم ، وسبب الخلاف في هذه المسألة هو أن بخاخ الربو مكون من ماء وأكسجين ومواد كيميائية ، ويصل إلى المعدة جزء يسير منها ، فهل هذا الجزء اليسير يفطر الصائم أم لا ؟ فمن قال بأن بخاخ الربو يفطر الصائم قال بأنه قد وصل للمعدة جزء يسير من هذا البخاخ ، وحينئذ يفسد الصوم ، ومن قال بأنه لا يفطر الصائم ، رأى أن هذا الجزء اليسير لا يفسد الصوم .
والقول بأنه لا يصل للمعدة من هذا البخاخ شيء غير صحيح ، المختصون الأطباء يفيدون بأن هذا البخاخ لا بد أن يصل منه جزء يسير إلى المعدة ، ولكن هذا الجزء هو جزء يسير جدا ، وبيان ذلك أن عبوة بخاخ الربو المعتادة تحتوي على عشرة ملي لتر من السائل بما فيه من المادة الدوائية ، وهذه الكمية معدة على أساس أن يبخ منه مائة بخة ، أي أنه في كل بخة يخرج جزء من الملي لتر الواحد وكل بخة تشكل أقل من قطرة واحدة وهذه القطرة وهذا الجزء اليسير أيضا سوف ينقسم إلى أجزاء ، الجزء الأكبر يدخل إلى الجهاز التنفسي ، وجزء آخر يترسب على جدار البلعوم ، والباقي وهو المقصود هنا قد ينزل للمعدة وهو مقدار يسير جدا .(1/103)
والذي يظهر -والله أعلم- هو أن بخاخ الربو لا يفطر الصائم ، وذلك لأن هذا المقدار الذي يصل للمعدة مقدار يسير جدا ، فيعفى عنه قياسا على المتبقي بعد المضمضة والاستنشاق ، فإن المتبقي بعد المضمضة بما يسميه العلماء بملوحة الماء ، قد يختلط بالريق ويبلعه الصائم ، ولم يقل أحد من العلماء بأنه يفطر الصائم ، فإن الصائم عندما يتمضمض يبقى في الفم ملوحة وهذه الملوحة تختلط بالريق ، فيبلعه الصائم ولا يؤثر ذلك على صحة الصيام بالإجماع ، وذلك لأن هذه ملوحة الماء جزء يسير فيعفى عنه .
هكذا أيضا نقول: إن الجزء اليسير الذي يدخل من بخاخ الربو إلى المعدة يعفى عنه ، بل قال بعض المختصين إن هذا الجزء اليسير الذي يصل إلى المعدة ، هو في الحقيقة أقل مما يصل إلى المعدة من المضمضة ، ولهذا قالوا لو أنه تمضمض بماء موسوم بمادة مشعة لاكتشفنا المادة المشعة في المعدة بعد قليل ، فإذا الجزء اليسير الذي يصل للمعدة من بخاخ الربو أقل مما يصل إلى المعدة من ملوحة الماء التي تبقى بعد المضمضة .
وبهذا يتبين أن بخاخ الربو أنه لا يفطر الصائم ، لا يفطر الصائم بناء على هذا التقرير ، وفي معنى بخاخ الربو الأكسجين الذي يستخدمه بعض الناس عندما يكون عنده ضيق نفس ، فيستخدمه لتوسيع للتنفس وتوسيع مجاري الجهاز التنفسي، فمثل هذا أيضًا حكمه حكم بخاخ الربو لا يُفطِّر الصائم، حتى لو وصل جزء يسير جدًّا إلى المعدة فيعفى عنه قياسًا على أثر ملوحة الماء التي تبقى بعد المضمضة، وربما يصل إلى المعدة منها جزء يسير، فكما أنه يعفى عنها فيعفى كذلك عن ما يصل من بخاخ الربو ونحوه، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
الأقراص التي توضع تحت اللسان لمرضى القلب أثناء الصيام(1/104)
المسألة الثالثة: الأقراص التي توضع تحت اللسان، وهي أقراص توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزمات القلبية ونحوها، توضع تحت اللسان للتداوي، إما لعلاج الأزمات القلبية أو لغيرها، وهذه الأقراص تمتص مباشرة بعد وضعها تحت اللسان بوقت قصير، ويحملها الدم إلى القلب، فتوقف أزماته المفاجئة، ولا يدخل إلى الجوف شيء من هذه الأقراص، فهل هذه الأقراص تفسد الصوم، وفي معناها أيضًا استخدام لاصقات النيكوتين التي تساعد على الامتناع عن التدخين، إن هناك لاصقات تحتوي على مادة النيكوتين تفرز تلقائيًّا النيكوتين إذا احتاجه الجسم، وتساعد من أراد الامتناع عن التدخين تساعده على الامتناع عنه، فإذا وضعها الصائم على جلده، فهل تفطر الصائم أم لا؟
هذه المسائل يمكن تفريعها على مسألة أشار إليها بعض الفقهاء وتكلم عنها بعض مشايخنا، وهي مسألة التداوي الذي يصل أثره للجوف، التداوي عن غير طريق الفم والأنف، ويصل أثره للجوف، ذكر هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وذكر خلاف العلماء فيها، وألحق بها التداوي والاحتقان والاكتحال إذا وصل إلى حلقه وجوفه وأحس بطعمه.
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن هذه كلها لا تفطِّر الصائم، قال: الأظهر أن الصائم لا يفطر بالكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة، وهما نوعان من الشجاج، مع أن مداواة الجائفة والمأمومة يستوجب وصول الدواء إلى الجوف، قال: ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، وليس كذلك الكحل والحقنة، ومداواة الجائفة والمأمومة، ثم قال: والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دمًا، ويتوزع على البدن، يعني لو أصاب الإنسان شجة جائفة أو مأمومة أو غيرها من الشجاج فوضع عليه دواء فوصل الدواء إلى الجوف، فهنا وصل الدواء عن طريق الدم إلى الجوف، فهنا يرى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن ذلك لا يحصل به التفطير للصائم.(1/105)
ومثل ذلك في وقتنا الحاضر الإبر غير المغذية مثل إبر الإنسولين، وغيرها، الإبر غير المغذية تجري على هذا الخلاف، والذي يفتي به كثير من مشايخنا أنها لا تفطر الصائم، ومن أبرز من يفتي بذلك الشيخ محمد بن العثيمين -رحمه الله- أن هذه الإبر غير المغذية لا تفطر الصائم؛ لأنها لست أكلًا ولا شربا ولا في معنى الأكل والشرب.
وبناء على هذا التقرير نقول: إن استخدام الدواء عن غير طريق الفم والأنف إنه على القول الصحيح لا يفطر الصائم على ما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لا يفطر الصائم.
وبناء على ذلك فإن استخدام هذه الأقراص تحت اللسان، هي في معنى التداوي عن غير طريق الفم والأنف، ونعني بالتداوي عن طريق الفم، بأن يبتلع ذلك الدواء عن طريق فمه، أو أنه يستخدم عن طريق أنفه، أما هنا في مسألتنا فإنه لا يبتلع الدواء، وإنما يجعل هذه الأقراص تحت لسانه فتمتص مباشرة عن طريق الجلد وتصل للدم. وبناء على ذلك نقول: إن الأقرب -والله أعلم- أنه لا يحصل بها التفطير للصائم، بناء على هذا التقرير وبناء على تخريجها على المسألة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهي التداوي عن غير طريق الفم والأنف.
وعلى ذلك أيضًا يكون الحديث في لاصقات النيكوتين التي يستخدمها من يريد الامتناع عن التدخين، على أنه قبل مدة، صدر فيها فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية برئاسة سماحة المفتي حفظه الله، ورأت اللجنة أن لاصقات النيكوتين يحصل بها التفطير للصائم، وبين يدي الآن فتوى: أجابت اللجنة أنه بعد سؤال المختصين عن حقيقة هذه اللاصقات أفادوا بأنها تمد الجسم بالنيكوتين وتصل إلى الدم، وهذا يبطل الصيام كما يبطله شرب الدخان مباشرة، ولعلهم أخذوا بالرأي الآخر وهو أن التداوي عن غير طريق الفم والأنف أنه يفسد الصوم، والمسألة خلافية كما سمعتم، ولعل فتوى اللجنة كانت على بناء القول الآخر في المسألة.(1/106)
فهذا هو الذي يظهر في هذه المسألة هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - من أن التداوي عن غير طريق الفم والأنف أنه لا يحصل به التفطير للصائم، ومما يؤكد هذا أن كون هذه الأمور تفطر الصائم أمر مشكوك فيه، والأصل صحة الصيام، والأصل صحة الصيام، وعدم فساده ولا نستطيع أن نبطل صيام عباد الله إلا بأمر واضح ظاهر عليه دليل ظاهر. وبناء على ذلك نقول أن الأقرب والله أعلم في هذه الأمور كلها هو أنه لا يحصل بها التفطير للصائم، على أن الخلاف فيها يورث شبهة، إذا لم يحتج إليها الإنسان فالأولى أن يتجنبها وقت صومه.
استخدام المنظار منظار المعدة، لا يفطر الصائم إذا لم يصاحبه إدخال سوائل أو محاليل، ولم يدهن بدهان فإنه لا يفطر الصائم، وقد قرر هذا مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أن إدخال المنظار لا يفطر الصائم، سواء كان منظار المعدة، أو كان منظارًا من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء وإجراء عملية جراحية، واستخدام المنظار مطلقًا لا يفطر الصائم، بشرط أن لا يصحبه إدخال سوائل وألا يكون أيضًا مدهونًا بمادة دهنية، فإنه إذا كان مدهونًا وأدخل عن طريق المعدة يحصل به التفطير للصائم لكن إذا خلا من ذلك خلا من إدخال سوائل أو محاليل، وخلا كذلك من أن يكون مدهونًا فإنه لا يفطر الصائم على ما قرره المجمع الفقهي.
وأيضًا يعني تتمة الفائدة للمسألة السابقة، المجمع الفقهي أيضًا أقر بأن الأقراص العلاجية التي توضع تحت اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها أنها لا تفطر الصائم، ومثل ذلك أيضًا غازات التخدير البنج ما لم يعط المريض سوائل أو محاليل مغذية لا تفطر الصائم، وأيضًا ما يدخل الجسم امتصاصًا من الجلد، كالمراهم والدهانات واللاصقات العلاجية الجلدية، المحملة بالمواد الدوائية والكيميائية لا تفطر الصائم، على ما أقره مجمع الفقه الإسلامي .(1/107)
والمسألة الأخيرة التي معنا غسيل الكلى، هل يحصل به تفطير الصائم أم لا؟ هذه المسألة بحثت في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، وقد كتبت اللجنة إلى بعض المختصين من الأطباء حول حقيقة غسيل الكلى، وجاء في فتوى اللجنة أنه بعد المكاتبات لبعض المختصين ورد ما مضمونه أن غسيل الكلى عبارة عن إخراج دم المريض إلى آلة، وهي ما تسمى بالكلية الصناعية تتولى تنقية الدم ثم إعادته إلى الجسم بعد ذلك، وأنه يتم إضافة بعض المواد الكيماوية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم.
وبعد دراسة اللجنة لذلك، والوقوف على حقيقة الغسيل الكلوي، أفتت اللجنة بأن الغسيل المذكور للكلى يفسد الصيام، بأنه يفسد الصيام، وذلك بسبب هذه الإضافات، وإلا مجرد التنقية قد نقول إنها لا تفسد الصوم، لكن هذه الإضافات لها أثر في إفساد الصوم، وبناء على ذلك نقول إن غسيل الكلى إنه يحصل به التفطير للصائم، فإذا أمكن أن يجعل بالليل وإلا إذا احتاج الإنسان لغسيل الكلى فإنه يفعل باعتبار أنه مريض ، ويقضي ذلك اليوم الذي حصل فيه غسيل الكلى هذه هي أبرز النوازل المتعلقة بكتاب الصيام، والله تعالى أعلم.
هل يجوز أخذ أجرة ومبلغ من المال مقابل تغسيل الأموات وتحضير الكفن وشرائه وتجهيزه وتكفينه؟
نعم، لا بأس بذلك، عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، وقد ذكر الفقهاء حكم يعني أخذ الأجرة على ذلك، ذكر بعض الفقهاء مثل هذا مع أن هذا من فروض الكفاية، ولكن لو قدر أن أحدًا طلب مبلغًا من المال وأعطي مقابل ذلك فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
هل يثبت دوران الأرض والوصول للقمر وما موقف المسلم من هذه الأخبار؟(1/108)
أولا : يعني دوران الأرض، أي كون الأرض تدور أصبحت المسألة قطعية، ذلك أن الأرض صورت عن طريق الأقمار الصناعية وعن طريق الطائرات، والمسألة الآن ليست يعني محلًّا للشك أصلًا، المسألة أصبحت قطعية، بل إنك لو بحثت في بعض مواقع الإنترنت تجد صورا للأرض وهي تدور، قد رأيت هذا بنفسي، تجد صورا للأرض وهي تدور ، ويحسب دوران الأرض الآن في سير الطائرات والمركبات الفضائية وغيرها.
ولذلك أقول إنها أصبحت هذه المسألة من الأمور القطعية، بل إنني أقول إن ابن عاشور في التحرير والتنوير، ذكر أن قول الله تعالى: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } (1) قال إن هذه الآية تدل على دوران الأرض وعُبِّر عن الأرض بالجبال، وقال ولذلك قال ( وترى ) يعني لا يعرفه إلا قلة من الناس من هذه المعلومات، ولم يقل لم يلفت نظر الجميع لذلك، وإنما قال : وترى، فذكر أن المقصود بهذا المرور { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } (2) أن المقصود بذلك دوران الأرض والله تعالى أعلم.
__________
(1) - سورة النمل آية : 88.
(2) - سورة النمل آية : 88.(1/109)
وبكل حال يعني لا يمكن أن تقع مصادمة بين النصوص وبين الأمور القطعية، هذه المسألة أصبحت من الأمور القطعية التي ترى وتشاهد وتحسب، في سير المركبات الفضائية وغيرها، ولذلك فإن إنكارها من قبل طالب العلم يهز الثقة في المعلومات في الوقت الحاضر خاصة، قد يكون العلماء السابقون قد يكونوا معذورين بسبب عدم توفر المعلومات الكافية في هذا، لكن في الوقت الحاضر مع تقدم المعلومات وتيسرها وتصوير الأرض عن طريق الفضاء الخارجي، أصبحت المسألة قطعية، ونعتذر للعلماء السابقين بأنهم لم تتوفر لهم المعلومات الكافية حول هذه المسألة، ولذلك قالوا بعدم دوران الأرض، فالأرض تدور وكذلك الشمس تدور أيضًا { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) } (1) .
وكذلك أيضًا ما ذكر من وصول القمر، لا مانع منه، قد ألف الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- رسالة في هذا وبين أنه ليس في النصوص ما يمنع من وصول القمر، الآن قد وصلوا إلى ما هو أبعد من القمر، فمثل هذه الأمور يعني ليس في النصوص ما يمنع منها، والله تعالى أعلم.
أريد اسم كتاب حتى أستطيع فهم هذه المادة؟
ليس هناك في الحقيقة كتاب معين، الحقيقة أبذل جهدًا في جمع أطراف هذه المادة، فليس هناك كتاب معين، لكن لعل هذه الدورة في الحقيقة توجد كتابًا، لعل هذه الدورة إن شاء الله إذا انتهت توجد كتابًا في هذا.
ما حكم قراءة الكف وحكم فك السحر بالسحر؟
قراءة الكف لا يجوز، هو من أعمال الشعوذة والدجل، وفك السحر بالسحر الصحيح أيضًا أنه لا يجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " سئل عن النشرة فقال : "هي من عمل الشيطان" " وهذا يقتضي تحريم ذلك.
متى تكون رؤية الهلال في المرصد حقيقة؟
إذا رؤي الهلال عن طريق المرصد هي رؤية حقيقية.
كيف نفرق بين الخسوف الكاذب وعدم وجود الخسوف أصلًا؟
__________
(1) - سورة يس آية : 40.(1/110)
ما يسمى بالخسوف الكاذب هو ليس بخسوف شرعًا أصلًا، ليس بخسوف شرعًا، ولكنهم الفلكيون يسمونه خسوفًا باعتبار ما يحصل هناك أن ضوء القمر يبهت قليلًا، ولا يدرك هذا إلا المختصين، ومثل هذا لا يسمى خسوفًا شرعًا ولذلك لا تشرع الصلاة عنده.
ما حكم وضع الزبالة الصغيرة أمام المصلين وجوار المصاحف؟
يعني لا يليق مثل هذا، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحك النخامة، فلا ينبغي أن توضع أمام المصلين.
هل يقطع الرجل -ما هو واضح الخط- من أقام المصلي وهو يصلي دون سترة؟
لعله يقصد مرور الإنسان، أو مرور الرجل أمام من يصلي بدون سترة، هل يقطع الصلاة أم لا، هو لا يقطع الصلاة، ولكنه يؤثر في نقصان أجر المصلي، ولهذا فإن المصلي يدرأه ما استطاع " إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره وأراد أحد من الناس أن يمر بين يديه فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين " إنما الذي ورد بأنه يقطع الصلاة كما في صحيح مسلم، المرأة والحمار والكلب الأسود، هذه الأمور الثلاثة هي التي تقطع الصلاة، وما عداه فإنها لا تقطع الصلاة وإنما تؤثر في نقصان أجر المصلي.
نعم، إذا صلى بسترة طبعًا يكون بينه وبين السترة، أما إذا صلى من غير سترة، فمن العلماء من حدده بثلاثة أذرع، والأقرب، والله أعلم، هو أن الحد في ذلك إلى موضع سجوده، فإذا مر بين موضع سجوده وبين هذا المصلي، فإنه يقطع الصلاة إذا كان من هذه الثلاثة، وينقص من أجر المصلي إذا كان من غيرها، أما إذا كان بعد موضع السجود فإنه لا بأس بالمرور حينئذ، هذا هو أحسن ما قيل.(1/111)
الحرم مستثنى من هذا، وذلك بسبب الزحام الشديد، الصحيح أن الحرم مستثنى، والأصول والقواعد الشرعية تدل لهذا، حتى لو لم يأت لهذا نص خاص، عند الفقهاء قاعدة إذا ضاق الأمر اتسع، ومن يرى كثرة الناس في الحرم، والحرج الذي يلحق الناس لو قيل بأن المرور بين يدي المصلي أنه يقطع الصلاة، يترجح، والله أعلم، أن الحرم مستثنى من هذه المسألة وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، يرى أن الحرم مستثنى من هذه المسألة، وإن كان بعض الفقهاء يخالف في هذه المسألة، إن كان بعضهم يرى أن الحرم كغيره، ولهذا كما البخاري وجماعة من أهل العلم يرون أن الحرم كغيره، ولكن الذي يظهر هو ما ذكرنا، نعم.
ورد في الحديث: " لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان عليه أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه " هل هو أربعين يومًا أو أربعين شهرًا أو أربعين عامًا لم يوضح، المسجد النبوي كغيره، لكن هذا فقط خاص بالمسجد الحرام، ونكتفي بهذا القدر والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اتصال المسعى بالمسجد الحرام وأثر ذلك في الأحكام الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
ففي هذا الدرس معنا ثلاث مسائل في كتاب الحج سوف نتناولها إن شاء الله، وبنهاية هذا الدرس نكون قد انتهينا من النوازل في العبادات، الأسبوع القادم سوف يكون إن شاء الله النوازل في غير العبادات.(1/112)
والمسائل التي بين أيدينا قبل أن ندخل فيها ونتكلم عنها أحب أن أنبه إلى بعض الأمور، وذلك بعد الاطلاع على الأسئلة الواردة من بعض الإخوة، فبعض الإخوة يستشكل إيراد بعض المسائل كيف تعتبر نازلة مع أنها ليست مسائل مستجدة، ونحن قد بينا في أول الدروس، في أول درس بينا المنهج الذي نسير عليه، وقلنا أننا سوف نذكر إن شاء الله المسائل المستجدة والمسائل غير المستجدة، لكن طرأ عليها أمر مستجد يتغير به الحكم، مسائل غير مستجدة لكن طرأ عليها أمر مستجد يتغير به الحكم، فنحن قلنا هذا هو المنهج الذي نسير عليه، وهذا هو المنهج الذي يسار عليه عندنا في الدراسات العليا في قسم الفقه بكلية الشريعة، فعندنا سلسلة في القسم في فقه النوازل في عدد من الأبواب الفقهية، فهذا هو المنهج الذي يسار عليه في الدراسات العليا، هو ما ذكرت لكم من ذكر المسائل المستجدة، أو المسائل غير المستجدة لكن طرأ عليها أمر مستجد يتغير به الحكم.
فعلى سبيل المثال يعني مسألة إجزاء الشعير في زكاة الفطر في الوقت الحاضر عند من لم يعتبره قوتًا، هذه وإن كانت مسألة ليست مستجدة، لكن طرأ عليها أمر مستجد، هو أن كثيرًا من البلدان أصبح الشعير ليس قوتًا عندهم وإنما هو علف للبهائم، فهنا يتغير الحكم عند هؤلاء الذين لم يعد الشعير قوتًا لهم.
الأمر الآخر أن بعض الإخوة يرى أن بعض المسائل التي تطرح ليست لها كبير أهمية وغيرها أهم منها، وأقول إن يعني الإخوة الموجودين هنا في هذا المسجد، والذين يتابعونا عن طريق الإنترنت من بيئات شتى، وربما بعض الإخوة باعتبار بيئته يرى عدم أهمية هذه المسألة لكنها تكون مهمة لآخرين، فلذلك نقول لبعض الإخوة ، وإن لم تكن هذه المسألة مهمة بالنسبة لك فإنها تهم غيرك من إخوانك المسلمين.
المسائل التي بين أيدينا:
المسألة الأولى: اتصال المسعى بالمسجد الحرام وأثر ذلك في الأحكام الشرعية.(1/113)
والمسألة الثانية: اتصال منى بمكة، وأثر ذلك في حكم قصر المقيمين بمكة للصلاة بمنى.
الأمر الثالث: مقطوع الألية في الهدي والأضحية والعقيقة، مقطوع الألية، هل يجزئ في الهدي والأضحية والعقيقة أم لا؟
هذه هي المسائل الثلاثة التي سوف نتناولها إن شاء الله.
نبدأ بالمسألة الأولى وهي اتصال المسعى بالمسجد الحرام: نقول إن المسعى هو علم على المكان الذي تؤدى فيه شعيرة السعي، ابتداء من جبل الصفا وانتهاء بجبل المروة، ولم يكن المسعى عبر التاريخ الإسلامي لم يكن جزءًا من المسجد الحرام، ولا متصلًا به، بل كان منفصلًا عنه تمامًا، وما بين الحائط الشرقي للمسجد الحرام والمسعى ، يعني ما بين المسعى والمسجد الحرام أقيمت المساكن التي نمت وزادت على مر السنين وأنشئت بينهما، يعني بين المسعى والمسجد الحرام أنشئت الأسواق والمدارس والمنازل، ومن أشهر الأسواق التي كانت بين الحرم والمسعى، سوق الكتيبة، كان هذا سوقًا بين المسعى والمسجد الحرام، يسمى سوق الكتيبة، وأطلق عليه بعضهم اسم سوق الوراقين. ومن المدارس التي كانت بين المسجد الحرام والمسعى، من أشهرها مدرسة الشعرابي.
والمسعى نفسه إلى جانب أنه مشعر كان في فترة مضت كان سوقًا كبيرة تمتد على جانبيه الدكاكين والمتاجر والمساكن، وكانت السيارات تسير في بطن الوادي، ومن قبل السيارات البهائم والدواب، بل كان في نفس المسعى، كان يختلط الساعون بالمتسوقين، وهذا أمر معلوم لدى كبار السن.(1/114)
وقد وصف هذا بعض المؤرخين، ومن المؤرخين الذين وصفوا ذلك، محمد طه الكردي في كتابه "التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم" قال ومما ذكر في هذا الكتاب قال: وقفت ساحة المسجد الحرام عند الحد الذي بلغته بعد عمارة السلطان مراد خان عام 984 للهجرة، ولكن البناء حوله لم يتوقف، يعني البناء حول المسجد الحرام يعني ما بين المسجد الحرام والمسعى، بل ظل يزحف إليه حتى اتصلت به المنازل من جميع الجهات، وأصبحت الطرق المؤدية إليه أزقة ضيقة ملتوية، يعني نشأت في هذه المنطقة التي بين المسجد الحرام والمسعى، نشأت هذه المساكن، حتى أصبح يعني الوصول إلى المسعى فيه مشقة.
قال: وأصبحت الطرق المؤدية إليه، يعني إلى المسعى، أزقة ضيقة ملتوية، يجد في اجتيازها الذاهبون إليه والعائدون منه مشقة وعناء خاصة في أيام الحج، قال: وهكذا كانت حال المسعى فقد فصلت المباني الخاصة بينه وبين المسجد الحرام، وأصبح على مر العصور طريقًا تقوم على جوانبه الحوانيت تطؤها السلع المختلفة، وترتفع فوقها المساكن، والباعة المتجولون يعرضون بضائعهم في كل ركن منه، لقد أصبح موضع العبادة سوقًا يختلط قصاده للعبادة بقصد للبيع والشراء فيتزاحمون، حتى صار المسعى شاقًّا خشية التصادم بسبب الزحام إلى آخر ما ذكر.
المقصود أن يعني بعض المؤرخين أشار إلى هذه المسألة، ولعل من أسباب التغاضي عن هذه الظاهرة عبر القرون السابقة هو أن عدد الحجاج كان قليلًا، عدد الحجاج والمعتمرين كان قليلًا، فلم يكن ذلك يسبب مشكلة كبيرة، ولكن لما تكاثر عدد الحجاج والمعتمرين في الوقت الحاضر، وقامت المملكة العربية السعودية في عهد الملك سعود -رحمه الله- بتوسعة المسجد الحرام، ابتدأت أعمال هذه التوسعة عام 1375 للهجرة وهدمت المنازل والدور التي كانت بين المسجد الحرام، وبين المسعى، وعوض أصحابها عوض أصحاب تلك المنازل.(1/115)
ثم فصل المسعى بأسلوب هندسي بحيث بعد إزالة تلك المساكن أصبح متصلًا بالحرم، أصبح متصلًا بالمسجد الحرام بعد إزالة وفصل تلك المنازل عنه، وقسم إلى قسمين قسم يذهب من الصفا إلى المروة، والآخر من يعود من المروة إلى الصفا، وهذا التقسيم حدث مع التوسعة، وإلا فكان في السابق ليس هناك تقسيم، وذلك بسبب كثرة أعداد الحجاج، وهذا من توفيق الله - عز وجل - وهذا مما يذكر من باب الاعتراف لأصحاب الفضل بفضلهم يذكر من محاسن الدولة السعودية عنايتها بالمسجد الحرام.
فاتصل المسعى بهذا، اتصل المسعى بالمسجد الحرام وأزيلت تلك المساكن. لما اتصل الآن المسعى بالمسجد الحرام، هل يتغير الحكم الشرعي، هل نقول إن هذا المسعى الآن أصبح حكمه حكم المسجد الحرام، أو نقول إنه منفصل عنه، تجد في عامة كتب أهل العلم يعتبرون المسعى خارجًا عن المسجد الحرام، ولذلك يجوز للحائض أن تسعى وهي حائض، بينما لا يجوز لها أن تطوف وهي حائض، يعللون ذلك بأن المسعى منفصل عن المسجد الحرام، يجوز للإنسان أن يسعى وهو على غير طهارة، بينما ليس له أن يطوف إلا بطهارة، لكن الآن اتصل المسعى بالمسجد الحرام، فهل نقول إن المسعى يأخذ حكم المسجد الحرام، بعد هذا الاتصال، فهذا وجه اعتبار هذه المسألة نازلة، أنه على مدار القرون الماضية كان المسعى منفصلًا عن المسجد الحرام، والآن اتصل.(1/116)
قبل أن أشير إلى هذه المسألة يعني أشير إلى أيضًا ما دمنا أشرنا إلى الجهود التي قد بذلت في إزالة المساكن والدكاكين التي بين المسعى والمسجد الحرام، أشير إلى أنه أيضًا كان في المسجد الحرام نفسه كان هناك مقامات، مقام للمذهب الحنفي، المقام الحنفي، والمقام المالكي، والمقام الحنبلي، وكان المقام الحنفي يصلي بهم إمام من أتباع مذهب أبي حنيفة، والحنفية يصلون خلفه، والمقام المالكي يصلي بهم إمام من المذهب المالكي، والمقام الحنبلي يصلي بهم إمام من المذهب الحنبلي، فكانت تقام عدة جماعات في المسجد الحرام، يعني لم يكن هناك إمام واحد، بل كان هناك عدد من الأئمة.
الغريب في الأمر أن هذه المقامات موجودة من وقت طويل، وقد ذكر المؤرخ إبراهيم بن عيسى المتوفى سنة 1079 للهجرة، ذكر أن وقت حدوث هذه المقامات غير معروف تحقيقًا، قال: ورأيت ما يدل على أن المقام الحنفي والمالكي كانا موجودين في سنة سبع وتسعين وأربعمائة للهجرة، يعني 497، كان المقام الحنفي والمالكي موجودين، وأن الحنبلي لم يكن موجودًا، قال: ووجدت ما يدل عليه أنه موجود في سنة الأربعين وخمسمائة.
وذكر أيضًا حسين عبد الله با سلامة بأن إحداثها كان القرن الرابع أو الخامس، يعني أن هذه المقامات لها أكثر من تسعمائة سنة، إذا قلنا أن المقام الحنفي والمالكي كانا موجودين سنة 497، ولم تزل إلا قريبًا في وقت الملك عبد العزيز، معنى ذلك أنها بقيت قرابة تسعمائة سنة أو تزيد، فكان الناس في المسجد الحرام يصلون جماعات وأكثر من إمام.(1/117)
طيب ما موقف العلماء، العلماء أنكروا هذا لكن حاولوا إزالة مثل هذه المقامات وتوحيدهم على إمام واحد، لكن لم تجد محاولاتهم، وكتب في هذا كتابات ومؤلفات في إنكار هذا العمل، كيف يكون يعني الناس في المسجد الحرام جماعات وعلى مذاهب، والحنفي لا يصلي خلف المالكي، والمالكي لا يصلي خلف الحنفي، والحنبلي لا يصلي خلف المالكي أو الحنفي، هذا من التفرق، لكن الغريب في الأمر يعني استمرارها هذه المدة الطويلة أكثر من تسعمائة سنة، حتى قيد الله - عز وجل - الدولة السعودية فجمعت الناس على إمام واحد، كان ذلك سنة 1343، لما دخل الملك عبد العزيز -رحمه الله- الحجاز، جمع الناس على إمام واحد.
وفي سنة 1377 أصدر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- مفتي المملكة أصدر فتوى بإزالة المقامات الثلاثة، ولم يكن فيه إلا مقامات ثلاثة، الحنفي والمالكي والحنبلي، الشافعي ليس موجودًا، عام 1377، وأزيلت تلك المقامات وأصبح الناس، ولله الحمد، على إمام واحد، بعدما كانت هذه المقامات موجودة مدة طويلة، وهذا يعني كما ذكرت من باب الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم من محاسن الدولة السعودية.
وقد كان هناك يوجد حفرة عن يمين الواقف أمام باب الكعبة، يسميها العامة حفرة التوبة، كان الناس يقعون في هذه الحفرة يسمونها حفرة التوبة، ثم دفنت أيضًا في ذلك التاريخ دفنت هذه الحفرة، فأصبح يعني الحال على ما هو عليه الآن كان هذا من فضل الله - عز وجل - وتوفيقه.
المسألة التي بين أيدينا الآن اتصال المسعى بالمسجد الحرام، ما أثره في الأحكام الشرعية.
اختلف العلماء في هذه المسألة، فبعض أهل العلم قال إن المسعى لما اتصل بالمسجد الحرام فينبغي أن يأخذ حكم المسجد، فيترتب على ذلك أن الحائض لا يجوز لها أن تسعى وهي حائض ولا أن تمكث في المسعى، وهكذا بالنسبة للجنب، ومن العلماء من قال إنه : وإن اتصل بالمسجد الحرام إلا أنه يبقى مشعرًا منفصلًا عنه.(1/118)
وقد بحثت هذه المسألة في مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في الدورة الرابعة عام 1415 للهجرة، قبل اثني عشر عامًا، واختلف العلماء في المجمع في هذه المسألة، ولكن صدر قرار بالأغلبية بأن المسعى لا يأخذ حكم المسجد، كان يرأس المجمع الفقهي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وجاء في قرار المجمع أن المسعى بعد دخوله ضمن مبنى المسجد الحرام، لا يأخذ حكم المسجد، ولا تشمله أحكامه لأنه مشعر مستقل، يقول الله - عز وجل - { * إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح!$yèx© اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } (1) وقد قال بذلك جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة.
وتجوز الصلاة فيه متابعة للإمام في المسجد الحرام في غيره من البقاع الطاهرة، ويجوز المكث فيه والسعي للحائض والجنب، وإن كان المستحب في السعي الطهارة.
إذًا مجمع الفقه يرى أن الأحكام المدونة في كتب الفقهاء المتقدمين تبقى كما هي من أن الحائض يجوز لها أن تسعى وهي حائض، وأنه لا يشترط الطهارة للسعي، وأنه وإن اتصل بالمسجد الحرام إلا أنه يبقى منفصلًا عنه باعتبار أنه مشعر. هذا هو الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم، وهو الأقرب في هذه المسألة والله تعالى أعلم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 158.(1/119)
ويترتب على هذا أن الساحات الخارجية التي خلف المسعى ليست من المسجد الحرام، لأنه إذا كان المسعى ليس من المسجد الحرام، فمن باب أولى الساحة التي خلفه ليست من المسجد الحرام، ولذلك من أتى لهذه الساحة له أن يجلس من غير أن يأتي بتحية المسجد باعتبار أنها ليست من المسجد الحرام، ولا تأخذ حكم المسجد الحرام، ولكن إذا اتصلت الصفوف فإنها تأخذ حكم المسجد باعتبار اتصال الصفوف، ويكون للمصلي أجر من صلى في المسجد الحرام مائة ألف صلاة، وهذا حتى في غير المسجد الحرام لو افترضنا أن هذا الجامع مثلًا امتلأ بالمصلين يوم الجمعة وصلى بعض الناس خارج الجامع فإن صلاتهم خارج الجامع، تأخذ حكم صلاتهم داخل الجامع ما دامت الصفوف متصلة، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
اتصال منى بمكة وأثر ذلك في حكم قصر المقيمين بمكة للصلاة في منى
المسألة الثانية من نوازل في كتاب الحج: اتصال منى بمكة وأثر ذلك في حكم قصر المقيمين بمكة للصلاة في منى:
نقول : إن منى لم تكن من قبل متصلة بمكة ، بل كان بينها وبين عامر مكة، كان بين منى وعامر مكة جبال وأودية وشعاب، فالمسافة بينهما يطلق عليها سفر عند بعض الفقهاء، كما عند شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجمع من الفقهاء، ولكن في الوقت الحاضر اتصلت منى بمكة، بل إن منى أصبحت تكاد أن تصبح حيًّا من أحياء مكة، بل إن بعض الأحياء بعض أحياء مكة، لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق منى، ومن يذهب إلى منى من أهل مكة لا يحتاج إلى حمل زاد ومزاد، وليس في عرف الناس اليوم أن من يذهب من مكة إلى منى أنه يقول قد سافرت إلى منى، بل هو في انتقاله من مكة إلى منى كانتقاله لأي حي من أحياء مكة، بل بعض أحياء مكة أبعد من منى.(1/120)
فهذا الاتصال لا يمكن أن يقال معه أن المسافة بين منى ومكة مسافة قصر، وهذا يقودنا قبل أن نشير إلى كلام أهل العلم في هذه المسألة، مسألة اتصال منى بمكة، وأثره في القصر بالنسبة لأهل مكة، نشير أولًا إلى آراء العلماء في حكم قصر أهل مكة للصلاة، في حكم قصرهم الصلاة بمنى وبعرفة وبمزدلفة. نقول اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن أهل مكة لا يقصرون ولا يجمعون في هذه المشاعر، ومنها منى، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية، وهو قولٌ عند الحنابلة.
القول الثاني: أنهم يجمعون ولا يقصرون، وهذا هو مذهب الحنفية، قال به طائفة من أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي.
القول الثالث: أنهم يجمعون ويقصرون، يجمعون ويقصرون في منى وعرفات ومزدلفة، يجمعون ويقصرون، وهذا هو مذهب مالك، وهذا القول هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قيم رحمهما الله تعالى.
فإذا نجد أن من الفقهاء من قال أنهم لا يجمعون ولا يقصرون، ومنهم من قال يجمعون ولا يقصرون، ومنهم من قال يجمعون ويقصرون، لكن من قال بأنهم يجمعون ولا يقصرون، أو يجمعون ويقصرون، هل الجمع والقصر هنا لأجل النسك، أو لأجل السفر، خلاف بين أصحاب هذا القول، فمنهم من قال إن سبب الجمع هو النسك، أن الجمع هنا والقصر لأجل النسك.(1/121)
ولكن هذا القول يرد عليه، يرد على القول بأن الجمع والقصر لأجل النسك، يرد عليه إشكالية، وهي أننا لو قلنا بأن هذا الجمع والقصر لأجل النسك فيترتب على هذا أن المكي إذا أحرم في بيته جاز له أن يقصر وأن يجمع، ولا قائل بذلك من العلماء. اتضح المقصود، لو قلنا بأن القصر والجمع لأجل النسك يترتب على هذا أن المكي إذا أحرم في بيته جاز له أن يقصر وأن يجمع وهو في البيت لأنه تلبس بالنسك الآن، ولا قائل بذلك من أهل العلم، فهذا يرد على القول بأنه لأجل النسك، ولذلك فإن هذا القول قول ضعيف، وإن كان بعض العلماء قد تبناه هربًا من الإشكالية الواردة، بعض العلماء المعاصرين تبنى هذا القول هربا من الإشكالية الواردة وهي اتصال منى بمكة، وحينئذ فالصواب أن القصر لأجل السفر وليس لأجل النسك.
وقد تبنى هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ونصره، وهو أن القصر لأجل السفر وليس لأجل النسك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال : إن من تأمل الأحاديث في حجة الوداع وسياقَها علم علمًا يقينيًّا أن الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ولم يفعلوا خلاف ذلك، ولم ينقل أحد قط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال بعرفة أو مزدلفة أو بمنى : يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر، وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة، كما رواه أهل السنن عنه، وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى دليل على الفرق.
إذًا شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن القصر والجمع إنما هو لأجل السفر، وهكذا أيضًا ابن القيم، وهكذا أيضًا هو مذهب المالكية، وإن كان المالكية مذهبهم أن السفر المبيح للترخص، هو ما كان يوم وليلة وهو في حدود ثمانية كيلو متر تقريبًا لكنهم يستثنون هذه المسألة، وإن لم نقف على قول أو تعليل لهم في كتبهم بأن ذلك لأجل النسك.(1/122)
ولكن سبق أن قررنا أن القول بأنه لأجل النسك قول ضعيف فيبقى القول بأن من قال من العلماء بأن أهل مكة يقصرون العلة بذلك السفر، كيف يعتبر سفرًا والمسافة ليست كبيرة بين منى وبين مكة، قرر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وذكر أنه يوجد بين مكة ومنى، يوجد صحراء فيها أودية وشعاب وجبال، وهكذا بينها وبين عرفات وبين مزدلفة، وهذا يسمى على رأي شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبر سفرا.
هذا القول قبل اتصال منى بمكة قول متجه، لكن الآن لما اتصلت منى بمكة هنا تنتفي هذه العلة، معلوم أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وكما قدمنا اتصلت الآن منى بمكة، وتكاد تصبح حيًّا من أحيائها ولا يمكن أن نعتبر المسافة الآن بين منى ومكة مع هذا الاتصال، لا يمكن اعتبارها سفرًا، ولو تأملت يعني هذا التصور وجدت أن الآن منى اتصلت الآن بحي العزيزية، وهذا الاتصال يجعلنا نقول : إن أهل مكة في هذه الحال ليس لهم أن يترخصوا برخص السفر؛ لأن المسافة ما بين منى ومكة لم تعد سفرًا بعد اتصال منى بمكة، لم تعد هذه المسافة سفرًا.
ومن قال بجواز القصر والجمع، فعلل ذلك بأنه لأجل السفر، ولم تعد هذه المسافة في وقتنا الحاضر تعد سفرًا، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى قباء كل سبت، يعني كل أسبوع ويصلي فيه ركعتين في مسجد قباء، والمسافة ما بين مسجده - صلى الله عليه وسلم - وقباء أطول من المسافة التي بين مكة الآن ومنى، ومع ذلك لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى في قباء لم يكن يقصر الصلاة.(1/123)
بل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الذي يرى القصر لأهل مكة في منى يقول: إن مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بمنزلة القرى المتقاربة، عند كل قوم نخيلهم ومقابرهم ومساجدهم قباء وغير قباء، ولم يكن خروج الخارج إلى قباء سفرًا، ولهذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يقصرون في مثل ذلك، والمنتقل في المدينة من ناحية إلى ناحية ليس بمسافر ولا يقصر الصلاة، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في حال المدينة وعواليها وقراها المحيطة بها، فمن باب أولى منى مع مكة في الوقت الحاضر.
فنقول إذًا إن علة قصر أهل مكة في منى إما أن تكون لأجل النسك وهذا قلنا أنه قول ضعيف، أو لأجل السفر، وهذا قول متجه قبل اتصال منى بمكة، وأما بعد اتصال منى بمكة فلم تعد هذه العلة باقية الآن، انتفت علة السفر والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ولهذا نقول إن أهل مكة إذا حجوا فإنهم في منى وفي عرفات وفي مزدلفة لا يقصرون ولا يجمعون، اللهم إلا إذا كان في ترك الجمع حرج كبير، فيجوز لهم الجمع لأجل هذا الحرج، أما القصر فليس لهم القصر مطلقًا.
ويأخذ حكم أهل مكة المقيمين فيها من غير أهل مكة إقامة طويلة، مثل الجنود الذين يقيمون إقامة طويلة ونحوهم فيأخذون حكم أهل مكة في هذا. وهذه المسألة من المسائل التي يكثر السؤال عنها والحكم فيها كما سمعتم على هذا التفصيل، على أن أكثر أهل العلم وجمهور أهل العلم قبل اتصال منى بمكة يرون أن أهل مكة لا يقصرون، فكيف مع اتصال منى بمكة في الوقت الحاضر، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
حكم الأضحية والهدي والعقيقة بمقطوع الألية
المسألة الثالثة، وهي متعلقة بباب الهدي والأضحية والعقيقة، وهي مسألة مقطوع الألية:(1/124)
والألية تضبط هكذا بفتح الهمزة، كما قال ابن منظور في لسان العرب، قال ابن منظور: الألية بالفتح العجيزة للناس وغيرهم، وألية الشاة وألية الإنسان مفتوحة الألف، وقال : ولا تقل إلية فإنها خطأ.
وجه اعتبار هذه المسألة من النوازل، هو أن قطع الألية لم يكن معروفًا ومشتهرًا في المجتمعات الإسلامية، قطع الألية بالنسبة للأغنام لم يكن معروفًا ومشتهرًا، وإن كان قد يوجد لكن لم يكن معروفًا ومشتهرًا، وفي الوقت الحاضر أصبحت كثيرٌ من الأغنام التي ترد خاصة من أستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوربية تأتي وقد استؤصلت أليتها، فهل تجزئ تلك الأغنام مع استئصال الألية هل تجزئ في الهدي والأضحية والعقيقة أم لا؟
بعض الفقهاء المتقدمين أشاروا لهذه المسألة ربما على سبيل الافتراض أو أنها ربما توجد لكن بقلة، وقد أشار لها الموفق ابن قدامة في المغني إشارة مختصرة، فقال رحمه الله: ولا تجزئ ما قطع منها عضو كالألية، ولكن لم يتوسع الفقهاء المتقدمون في هذه المسألة كما ذكرت بسبب أن هذا لم يكن معروفًا ومشتهرًا في المجتمعات الإسلامية، لكن في الوقت الحاضر أصبح هذا كثيرًا، وذلك أن القائمين على تربية تلك الأغنام يرون أن الألية إذا قطعت فإن ذلك يؤدي إلى مردود اقتصادي بالنسبة لهم، فقطع الألية يسبب سمن تلك الأغنام مما يؤدي إلى ارتفاع قيمتها فيكون في ذلك مردود اقتصادي لهم.(1/125)
لما أصبحت تلك الأغنام تأتي وتُستورد، بحث مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة هذه المسألة قبل عشر سنوات، وأصدر فيها قرارًا جاء فيه أن مجلس الهيئة درس موضوع حكم الأضحية والهدي والعقيقة بمقطوع الألية؛ لأن أكثر الأغنام التي ترد إلى المملكة من أستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوروبية مستأصلة أليتها، واطلع المجلس على البحوث المعدة فيه، وعلى الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو دواد والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم والدارمي، والبيهقي والحاكم من طرق متعددة: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بعوراء ولا مقابَلَة - والمقابلة هي التي شقت أذنها من الأمام عرضًا - ولا مدابَرة - وهي التي شقت أذنها من الخلف عرضا - ولا شرقاء - هي التي شقت أذنها طولًا - ولا خرقاء - وهي التي خرقت أذنها " قال زهير أحد رواة الحديث قلت لأبي إسحاق ما المقابلة إلى آخره.
وجاء في بعض طرق حديث علي عند البيهقي: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضحى بعضباء الأذن والقرن " قال قتادة أحد رواة الحديث وسألت سعيد بن المسيب عن العضب فقال : النصف فما زاد، أي قطع النصف فأكثر من الأذن أو القرن، هذا هو الأصل في هذه المسألة.
وقرر المجلس بالأكثرية أنه لا تجزئ الأضحية ولا الهدي ولا العقيقة بمقطوع الألية؛ لأن الألية عضو كاملٌ مقصود، فصار مقطوعها أولى بعدم الإجزاء من مقطوع القرن والأذن، إذًا التعليل أن الألية عضو كامل مقصود، فصار مقطوعها أولى بعدم الإجزاء من مقطوع القرن والأذن، يعني إذا كان مقطوع القرن والأذن لا يجزئ فلا يجزئ مقطوع الألية من باب أولى، فالألية ذات قيمة ومرادة ومقصودة في نفسها.(1/126)
ولهذا عند إكرام الضيف في بعض المجتمعات يرون أن وجود الألية على الذبيحة أنه رمز لإكرام الضيف، وأن تقديم الذبيحة بدون الألية يشعر بالنقص في إكرام ذلك الضيف، لا زال هذا موجودًا عند بعض المجتمعات، وهذا يدل على أن الألية مقصودة ومرادة في ذاتها، فهي عضو مقصود، فإذا كانت عضوًا مقصودًا، فقطعها يجعلنا نقول : إن تلك الأغنام التي قطعت منها لا تجزئ، فهي أولى بعدم الإجزاء من مقطوع الأذن والقرن، إذا كان مقطوع القرن والأذن لا يجزئ، مع أن القرن والأذن قد لا يستفاد منهما، فمقطوع الألية من باب أولى، ولهذا عند الأضحية والهدي والعقيقة ينبغي التأكد من هذا، من أن ما تريد أن تضحي به أو ما تريد أن تهديه أو ما تريد أن تجعله عقيقة تتأكد من أنه ليس مقطوع الألية.
يوجد بعض الأغنام تشبه مقطوع الألية لكنها يكون لها ذيل قصير بأصل خلقتها، بأصل الخلقة، فهذه تجزئ، هذه تجزئ لأنها لم تقطع الألية منها، وإنما أتت هكذا بأصل خلقتها، ومن ذلك بعض الأغنام الأسترالية، بعض الأغنام الأسترالية لا يكون لها ألية، وإنما يكون لها ذيل كذيل البقرة، فهذه التي ليست لها ألية خلقة، وإنما لها ذيل تجزئ في الهدي والأضحية والعقيقة إذا توفرت الشروط الأخرى.
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
وبهذا نكون قد انتهينا من نوازل العبادات، والأسبوع القادم إن شاء الله سوف نتناول مسائل من النوازل المتعلقة بغير العبادات.
نجيب عما تيسر من الأسئلة.
قال: نازلة الرمي بالليل في الحج؟(1/127)
نعم، لم أذكر هذه المسألة أو هذه النازلة باعتبار أن الحكم فيها الآن أصبح مستقرًّا وظاهرًا وليس فيها كثير إشكال، كان الاستشكال في بداية الأمر، لكن استقر الآن رأي عامة العلماء المعاصرين، بجواز الرمي ليلًا، ولا أعرف الآن عالمًا من العلماء المعتبرين الكبار يرى عدم الجواز، فاستقر الأمر على هذا، ولهذا لم نذكرها لأنه قد استقر عليها رأي عامة العلماء المعاصرين؛ لأن الرمي بالليل لم يكن يحتاج له الناس من قبل بسبب قلة عدد الحجاج.
وأذكر أن الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- يذكر أنه يعني في أول موسم الحج يقول : كنا نطوف ونقبل الحجر الأسود في كل شوط، بسبب قلة الناس في ذلك الوقت، يقول: ونقيم بمكان يعني مسجد الخيف ونرى الناس وهم يرمون الجمرة، فكان الناس يعني لم تكن أعداد الحجاج كثيرة، لكن في الوقت الحاضر زاد أعداد الحجاج زيادة كبيرة؛ بسبب أولًا كثرة سكان الكرة الأرضية، سكان الكرة الأرضية تضاعف الآن، وأيضًا بسبب تيسر وسائل المواصلات.
إذا كانت علة القصر والجمع السفر وما فيه مشقة، الآن توجد مشقة بسبب الزحام وكثرة الناس، ألا يكون ذلك سببا للقصر والجمع؟
العلة في القصر والجمع هي السفر، متى ما وجد السفر جاز الترخص برخص السفر، لكن إذا لم يوجد السفر فليس للإنسان الترخص بحجة الزحام والمشقة، الزحام والمشقة نعم قد تكون سببًا للجمع، لا للقصر، فالقصر لا بد من وجود علة السفر، لا بد، أما الجمع فيجوز عند وجود الحرج مطلقًا سواء وجد السفر أو لم يوجد، لما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر " فسئل ابن عباس عن ذلك فقال: أراد أن لا يحرِّج أمته، فدل ذلك على أنه إذا وجد الحرج جاز الجمع، إذا وجد الحرج بترك الجمع جاز الجمع في هذه الحال، أما القصر فإنه لا بد من وجود السفر.(1/128)
وهل يحد السفر مسافة معينة أو لا يحد؟
اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا، والمذاهب الأربعة على أنه يحد، ومنهم من حدد بالزمان، ومنهم من حدد بالمسافة، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وجماعة من أهل العلم، يرون عدم التحديد وأن ذلك راجع للعرف، ولكن الواقع أن العرف لا ينضبط، ولذلك تجد أن أحيانًا يخرج مجموعة من طلاب العلم، إلى مكان ويختلفون، بعضهم يقول : إن العرف يدل على أن هذه المسافة السفر، وآخرون يقولون : إن العرف يدل على أنها ليست بسفر.
والأقرب، والله أعلم، في هذه المسألة هو ما عليه جمهور أهل العلم من تحديد المسافة، بما ورد في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم " فهنا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أقل مدة للسفر، قال : مسيرة يوم وليلة، ولو كان السفر يصدق على أقل من هذه المدة لذكره؛ لأن السياق يقتضي ذلك، ومسيرة يوم وليلة يعبر عنه بعض الفقهاء من فقهاء الحنابلة بمسيرة يومين قاصدين بسير الإبل المحملة، وهي تعادل تقريبًا ثمانين كيلو مترا.
هذا هو الأقرب في هذه المسألة وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، أولًا لهذا الحديث.
ثانيًا: لأن هذا قد أثر عن بعض الصحابة ومنهم ابن عباس وابن عمر، فكانا يقولان يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد، وأربعة برد تعادل ثمانين كيلو مترا تقريبًا، ولا شك أن الصحابة هم أعلم الناس بشريعة الله، وأعلم الناس بمراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلم الناس بمدلول لغة العرب، فالأقرب هو التحديد بنحو ثمانين كيلو مترا، هذا هو الأقرب في هذه المسألة.
ما حكم الجماعات التي تقام في المسجد الحرام، وهل يصح أن تقام جماعتان أو ثلاثة في وقت واحد؟(1/129)
أما إقامة أكثر من جماعة في وقت واحد فهذا غير مشروع، هذا غير مشروع، ولكن إذا أقيمت الجماعة الأولى ثم أتى مجموعة فالصحيح أنه يشرع لهم أن يقيموا جماعة أخرى بعد الجماعة الأولى، وإن كان المسألة فيها خلاف، لكن هذا هو الأقرب، والله أعلم، وهو الذي عليه أكثر العلماء، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بالناس وقد دخل رجلٌ قال: " من يتصدق على هذا فيصلي معه؟ " المعلوم أنه إذا صلى معه أحد كانت جماعة أخرى بعد الجماعة الأولى التي أمهم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن هذا لا بأس به لكن يكون هذا بصفة عارضة لا يكون بصفة مستمرة.
رأيت كتابًا في هذا الموضوع فقه النوازل هل اطلعتم عليه؟
نعم الكتاب الذي أشار الأخ السائل اطلعت عليه، وفقط فيه جمع لبعض كلام العلماء المعاصرين.
هل إسدال اليد بعد الرفع من الركوع سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الظاهر، والله أعلم، أن اليدين بعد الرفع من الركوع يكون وضعهما على هيئة وضعهما قبل الركوع، أي أنه يضع اليد اليمنى على اليسرى على صدره، هذا هو الأقرب في هذه المسألة.
الإيجار المنتهي بالتمليك ما حكمه؟
سبق أن تكلمنا عنه في الدورة الماضية في العام الماضي بالتفصيل، فلعل الأخ السائل يرجع إلى موقع الجامع على الإنترنت وسيجد الجواب المفصل عن هذا السؤال.
إذا دفن الميت وجاء قوم يصلون عليه هل يصلون جماعة أم فرادى؟
يصلون عليه جماعة، يصلون عليه جماعة ولا حرج في ذلك.
في زماننا هذا أليس الأفضل أن تخرج زكاة الفطر مالًا - يقصد نقدا - حتى يستفيد المستحقون من هذا النقد؟(1/130)
نقول هذا الإيراد يرد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت النقود موجودة، فكان هناك الدراهم والدنانير، ولا شك أنها أنفع للفقراء من الطعام، لأن الفقير يستطيع أن يشتري بهذه الدراهم والدنانير ما شاء من طعام وغيره، ومع ذلك فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بإخراج زكاة الفطر طعامًا، وهكذا كان هو الذي عليه العمل في القرون الثلاثة المفضلة.
ثم إن إخراج زكاة الفطر نقدًا يجعل المسألة لا فرق بين زكاة الفطر، وبين زكاة المال، لو قلنا بجواز إخراجها نقدًا، لم يعد هناك فرقٌ بين زكاة الفطر، وبين زكاة المال، ثم أيضًا زكاة الفطر شعيرة، ولا بد من إبراز هذه الشعيرة في المجتمعات الإسلامية، وإخراجها نقدًا، لا تبرز معه هذه الشعيرة، تصبح كأنها صدقة خفية كسائر الصدقات، بينما إخراجها طعامًا يجعلها شعيرة ظاهرة يراها الناس، ويراها الصغير والكبير، وعامة الناس، فتبرز هذه الشعيرة في المجتمع، وهذا أمر مقصود شرعًا.
كل هذه المعاني تفوت مع إخراجها نقدًا، ثم أيضًا إن الغالب أنه عند إخراجها نقدًا أنها لا تصل لمستحقيها قبل صلاة العيد، وإن كان قد يقال أنه ربما بعض الناس يكون عندهم تحر، لكن من خلال التجربة وجدنا أن الذين يجمعون زكاة الفطر نقدًا، يحصل منهم شيء من التفريط فلا تصل إلى مستحقيها قبل صلاة العيد، وبكل حال فالسنة قد دلت على أنها إنما تخرج طعامًا لا نقدًا.
طيب، من صلى في الشقق القريبة من الحرم هل له مائة ألف صلاة، وهل من صلى بمسجد قريب من الحرم له ذلك؟(1/131)
هذه مسألة خلافية وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من صلى في المسجد الحرام فإن صلاته تعدل مائة ألف صلاة، مائة ألف صلاة حسبها بعض العلماء كالنحَّاس وغيره قالوا إنها تعدل ما لو صلى الإنسان الصلوات الخمس خمسًا وخمسين سنة وبضعة أشهر، يعني عمر طويل الصلاة الواحدة فقط، يعني لو صليت فريضة واحدة تعدل ما لو صليت هذه الفريضة خمسًا وخمسين سنة وأشهرًا، وهذا يدل على فضل الصلاة في المسجد الحرام.
ولكن هل هذا خاص بالمسجد أو أنه يشمل الحرم كله، فيشمل المساجد القريبة من المسجد الحرام، ويشمل منى، ويشمل مزدلفة، هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم، والأقرب، والله أعلم، أن هذا الفضل خاص بالمسجد الحرام، أن هذا الفضل خاص بالمسجد؛ لأنه جاء في صحيح مسلم في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلاة في مسجدي هذا، تعدل ألف صلاة فيما سواه، إلا مسجد الكعبة " قوله إلا مسجد الكعبة فيه إشارة إلى أن الفضل إنما يختص بمسجد الكعبة فقط، ولا يشمل جميع منطقة الحرم، فهذا هو الأقرب، وإن كانت الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في غير الحرم.
ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - لما أقام بالحديبية، كان إذا أراد أن يصلي دخل في حدود الحرم، الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في غير الحرم، لكن كلامٌ عن الفضل الخاص، وهو مائة ألف صلاة، هذا الظاهر، والله أعلم، أنه إنما يختص بمسجد الكعبة فقط، نعم هذه مسألة أخرى يعني هو المسجد الحرام يطلق أيضًا على الحرم: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } (1) المقصود به الحرم كله، وليس المقصود المسجد فقط، هذه يحددها السياق، لكن الفضل الظاهر، والله أعلم، أنه خاص بالمسجد.
هل الطابق الثاني من المسعى بنفس أجر السعي بالطابق الأرضي؟
__________
(1) - سورة التوبة آية : 28.(1/132)
نعم، الطابق الثاني حكمه حكم المسعى في الدور الأرضي ولأن الهواء له حكم القرار، وهكذا بالنسبة للطواف، وهكذا بالنسبة للصلاة أيضًا، أنت عندما تصلي للكعبة ربما تصلي في مكان مرتفع، أو مكان منخفض فلا تصلي إلى بناء الكعبة، لكنك تصلي إلى يعني الهواء مقابل لقرار الكعبة، هكذا أيضًا نقول بالنسبة للمسعى، فالطابق الثاني حكمه حكم المسعى الأرضي ولا وجه للتحرج في الطابق العلوي في المسعى، لا وجه للتحرج.
قال: وإذا كان هذا صحيحًا نرجو الاقتراح على القائم على الحرم إضافة مسعى طابق ثالث؟
موجود، موجود مسعى في الدور الثالث فما اقترحه الأخ هو موجود.
هل الذنوب في مكة مضاعفة كما أن الحسنات مضاعفة؟
الذنوب تضاعف بالكيف، وأما الحسنات تضاعف بالكم والكيف، لأن الله تعالى قال: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) } (1) هذا دليل على تضعيف السيئات والذنوب، وأما الحسنات فإن أجرها مضاعف بالكم والكيف، لأن الحسنات يضاعف أجرها بفضل الزمان والمكان.
ما حكم الرمي قبل الزوال وهل يعد ذلك من النوازل؟
الرمي قبل الزوال الخلاف فيه قديم، ليست المسألة مسألة جديدة، ولا تعتبر نازلة، فأكثر أهل العلم على أنه لا يجزئ الرمي قبل الزوال، وذهب عطاء، وهو قول عند الحنابلة، إلى أنه يجزئ، وبعضهم قيد ذلك بيوم النحر الأول يعني في يوم الثاني عشر.
والذي أرى أنه ينبغي أن يحث الناس على السنة، والعلماء متفقون على أن السنة أن يكون الرمي بعد الزوال، والقول بأن ذلك يسبب حرجًا وضيقًا، الواقع أن الحرج والضيق يحصل باستعجال الناس في الذهاب، وليس بسبب ضيق فترة الرمي، ولذلك لو ذهبت إلى الجمرات بعد الزوال بساعتين فقط فإنك لا تجد زحامًا، يعني لو ذهبت الساعة الثالثة، لا تجد زحامًا، بعد العصر لا تجد زحامًا عند الجمرات، إنما تجد الزحام وقت الزوال، والسبب في هذا تعجل كثير من الحجاج في الذهاب.
__________
(1) - سورة الحج آية : 25.(1/133)
ولهذا لو قيل أيضًا بجواز الرمي قبل الزوال، فإن هذا الزحام الذي يكون عند الزوال، سوف ينتقل للزحام عند طلوع الفجر، وبكل حال المسألة خلافية، والقول بجواز الرمي قبل الزوال قول قوي، ليس قولًا ضعيفًا قول قوي، قال به عطاء بن أبي رباح الذي قيل : إنه أفقه الناس في المناسك، وتبقى المسألة محل نظر واجتهاد.
ما رأيكم في الخطوط الموجودة في المساجد التي يقف عليها المصلون، والخط المحاذي للحجر الأسود؟
أما الخط المحاذي للحجر الأسود فقد أزيل، الحمد لله، أزيل لأنه ليس لأنه من غير المشروع، وإنما لأنه يسبب الزحام، وجد أن هذا الخط يسبب الزحام لأن كثير من الحجاج ينظر لهذا الخط ثم يقف، ولهذا وجد أثر ذلك لما أزيل هذا الخط، يعني خف الزحام نسبيًّا، فهذا الخط الموجود المحاذي للحجر الأسود قد أزيل والحمد لله.
وأما الخطوط في المساجد هي وسيلة لاستقامة الصف، هي إذًا من الوسائل، ولا بأس بها، الوسائل التي تعين على استقامة الصف لا حرج فيها.
ولا يقال إن هذا لم يكن موجودًا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان الناس في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - كانوا يصلون على الحصباء، فقد يكون يعني وضع الخطوط في كل وقت قد يكون فيه شيء من المشقة والحرج، لكن مع وجود الفرش في وقتنا الحاضر ووضع هذه الخطوط لا شك أنها تعين على استقامة الصف، ولو أنه لم توجد هذه الخطوط لربما كان هناك اعوجاج في بعض الصفوف وعدم استقامة، فهي من باب الوسائل المعينة على استقامة الصف، من باب الوسائل المعينة على تحقيق أمر مطلوب شرعًا.
رجل يطوف في سطح المسجد الحرام، ومع شدة الزحام دخل في المسعى وأكمل جزءًا من الطواف في المسعى ما صحة طوافه؟(1/134)
في الحقيقة، هذا السؤال مرتبط بمسألتنا، ويشترط لصحة الطواف أن يكون داخل المسجد الحرام، ونحن قررنا الآن أن المسعى منفصل عن المسجد الحرام، وأنه خارج المسجد، بناء على ذلك من كان يطوف وكان جزء من طوافه في المسعى، خاصة في الدور الثاني، الدور الثاني أحيانًا يضيق المطاف بالناس، فبعض الناس يكمل طوافه من جهة المسعى، هل يصح الطواف في هذه الحال أو لا يصح؟
بناء على القواعد المقررة لا يصح الطواف، لماذا؛ لأنه أدى جزءًا من الطواف خارج المسجد الحرام، ومن شروط صحة الطواف أن يكون داخل حدود المسجد، ولكن بعض أهل العلم أجازه للضرورة، وقالوا بصحة الطواف في هذه الحال للضرورة، وللاتصال أيضًا، فكما أنه تصح الصلاة مع اتصال الصفوف لمن كان خارج المسجد، فكذلك أيضا الطواف.
قد أجاز ذلك سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، أما الشيخ محمد بن عثيمين، فأذكر أني سألته في منى عن هذه المسألة فقال بأنه لا يصح الطواف، لكن نقل لي أحد الإخوة أنه في آخر حياته قال بصحة الطواف للضرورة، للضرورة، هذا هو الأقرب، الأقرب أنه يصح الطواف، وذلك أنه من القواعد المقررة أنه : إذا ضاق الأمر اتسع.
ومن ينظر إلى شدة زحام الناس، وكثرة الحجاج، وينظر إلى أصول القواعد الشرعية القاضية برفع الحرج عن المكلفين، هذا كله يؤيد القول بصحة الطواف في هذه الحال، ولكن ينبغي للإنسان أن يحرص على ألا يوقع نفسه في هذه المسألة التي فيها إشكالات، وفيها خلاف كثير بين أهل العلم، وربما نقول إنه على قول كثير من أهل العلم لا يصح طوافه، لكن لعل الأقرب أنه يصح طوافه بسبب يعني للضرورة في هذه الحال.
لو ذكرتم القول الراجح في حكم الرمي قبل الزوال؟
تكلمنا عن هذه المسألة.
هذا الحكم أي ارتفاع حكم السفر لأهل مكة هل يطبق على ميقات ذي الحُليفة لأهل المدينة كون هذا المكان متصلا؟(1/135)
نعم، هو متصل الآن، ذو الحليفة يكاد يكون متصلا بالمدينة، فلا تعتبر مسافة ما بين ذو الحليفة والمدينة مسافة قصر.
إذا رجحنا أن علة القصر والجمع بالمشاعر هو السفر كيف نقول بأن مسافة القصر تحدد بأربعة برد؟
نعم هذا يرد على قول المالكية، المالكية يحددونها بأربعة برد، بنحو ثمانين كيلو مترا، لكنهم يجيزون لأهل مكة القصر والجمع، فهذا السؤال الذي طرحه السائل يرد على مذهب المالكية في هذه المسألة، أنتم تحددون مسافة السفر بهذه المسافة، لماذا تجيزون لأهل مكة القصر والجمع؟ قالوا: اقتداء بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أهل مكة معه كانوا يقصرون، ويجمعون، ولكن هذا محل نظر، هذا يعني القول محل نظر، وسبق أن قررنا أن الصواب أنهم لا يترخصون برخص السفر، فلا يجمعون ولا يقصرون إلا الجمع عند الحرج والمشقة فإنه يجوز.
أسئلة متكررة
ما حكم الأغنام مقطوعة الخصية؟
هذه يجوز الأضحية بها والهدي والعقيقة بل يستحب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين موجوئين أي خصيين، وذلك أن الكبش إذا خُصي يطيب لحمه يصبح لحمه طيبًا، وهذا أمر معروف عند أرباب المواشي، وربما أيضًا سمن بسبب هذا الخصى، فهو يعني أمر مرغوب عند أرباب المواشي، ولذلك فإنه نقول لا بأس بالأضحية والهدي والعقيقة بالخصي بل ربما نقول إن ذلك مستحب، وبكل حال فقد وردت به السنة.
هل يقصر الرباعية من خرج من المدينة ووصل ذو الحليفة، خاصة إن لم يتصل؟(1/136)
أجبنا عن هذا وقلنا : إنه لا يقصر، لكن يا إخوان هنا تنبيه، بالنسبة للمسألة التي ذكرت وهي مسافة أربعة برد ثمانين كيلو مترا تقريبًا، كيف تحسب هذه المسافة، اللوحات الموجودة على الشوارع يحسبون المسافة من وسط المدينة، بينما شرعًا تحسب المسافة من مفارقة العمران، وليس من وسط المدينة، ولذلك فإن اللوحات الموجودة على الشوارع لا يعتمد عليها في تحديد المسافة، انتبهوا لهذه المسألة، لا يعتمد عليها في تحديد المسافة، فمثلًا لو أردت سافرت مثلا من الرياض إلى مكان يعني إلى مكان خارج الرياض، وتريد أن تعرف هل هو مسافة قصر أم لا، وأردت أن تحسب المسافة، تبدأ في حسابها بعد مفارقة عمران الرياض، تبدأ في حساب المسافة، واللوحات الموجودة على الشوارع إنما تحسب المسافة من وسط المدينة.
هل السفر في اليوم والليلة يعني أن يسافر في نفس اليوم ثم يرجع؟
لأ، المقصود لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة، المقصود السير في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت العرب تسير على الإبل، ولذلك ضبط هذا الفقهاء بسير الإبل المحملة، وهي تعادل تقريبًا أربعة برد وبالكيلو مترات ثمانين كيلو مترا تقريبًا هذا هو المقصود، من قطع هذه المسافة، ولو في وقت وجيز بالطائرة مثلًا، يستطيع أن يذهب إلى مكان بعيد ويرجع في نفس اليوم لأنه يعتبر مسافرًا، المهم أن يقطع هذه المسافة.
نحن نذهب لمهمات إلى مكة في الحج لمدة خمسة عشر يومًا محددة المدة ابتداء وانتهاء ما حكم قصر الصلاة؟
مسألة إقامة المسافر، إذا أقام المسافر في بلد هل يترخص برخص السفر، أم لا، هذه من المسائل الحقيقة المشكلة، من المسائل المشكلة، والتي اختلف فيها الفقهاء اختلافًا كثيرًا، قد ذكر النووي فيها أكثر من عشرين قولًا، وإنما قلت من المسائل المشكلة؛ لأنها لم يرد فيها نص ظاهر، والقول بإطلاق المدة في الترخص يرد عليه إشكالات كثيرة.(1/137)
على سبيل المثال، مثلًا عندنا في المملكة هنا، يوجد أكثر من سبعة ملايين من الإخوة المقيمين، لو قلنا بإطلاق المدة، فمعنى ذلك أن هؤلاء وهم يشكلون قرابة ثلث المجتمع، يجوز لهم الفطر في نهار رمضان، ويقصرون الصلاة ويجمعونها، هذا مشكل، القول بتحديد المدة، هذا أيضًا يرِد عليه ما الدليل على هذا التحديد؟ يعني محددة بأربعة أيام، يرِد عليه ما الدليل على هذا التحديد؟ قالوا إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أربعة أيام، لكن الظاهر أن هذه الإقامة حصلت اتفاقًا، ولهذا فإن هذه من المسائل المشكلة.
ولكن الذي يظهر، والله أعلم، أن الأقرب في هذه المسألة هو ما عليه جماهير أهل العلم، وهو أن الإقامة، إقامة المسافر، إذا كانت في حدود أربعة أيام فأقل فله أن يترخص برخص السفر، أما إذا كانت أكثر من أربعة أيام فليس له الترخص، وذلك لأن العرب إنما تسمي الإنسان مسافرًا إذا أسفر وبرز للصحراء، قالوا : وما كانت العرب تسمي الإنسان مسافرًا إذا أقام في بلد، ولكن الشريعة تفرق بين اليسير والكثير، فتتسامح في اليسير، في مسائل كثيرة.
ومنها مثلًا على سبيل المثال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " " لا يحل لامرأة أن تحدَّ على غير زوجها أكثر من ثلاث " " لا يحل للمهاجر أن يقيم بعد طواف الصدر أكثر من ثلاث " مسائل كثيرة تجد أن ثلاثة أيام فرق بين القليل والكثير، هي الحد الفاصل بين القليل والكثير، فالذي يظهر، والله أعلم، أنه إذا كانت إقامة المسافر يسيرة في حدود ثلاثة أيام، وإذا حسبنا يومي الدخول والخروج نقول في حدود أربعة أيام فإنه يترخص برخص السفر، أما إذا كانت إقامة المسافر أكثر من أربعة أيام فإنه ليس له أن يترخص برخص السفر.(1/138)
هذا إذا عرف مقدار إقامته، أما إذا كان له حاجة لا يدري متى تنقضي بل يقول اليوم أرجع، غدًا أرجع، هذا يقصر ولو طالت به المدة، ولو بقي أشهرًا أو سنين، لكن من كان يعرفُ مدة إقامته، ولو على سبيل التقريب، كالطلاب مثلا ومن له أيضا عقد عمل ونحو ذلك، فهؤلاء قد عرفوا مقدار إقامتهم، وحينئذ فالأقرب أنه إذا كانت إقامتهم أكثر من أربعة أيام فليس لهم الترخص برخص السفر.
وبناء على ذلك الإخوة الذين قدموا لهذه الدورة وإقامتهم أكثر من أربعة أيام، على هذا القول أنهم لا يترخصون برخص السفر، هذا هو قول جماهير أهل العلم، وهو أيضًا الأحوط في المسألة، وهو الأحوط في المسألة لأن إطلاق المدة كما ذكرت لكم، يرد عليه إشكالات كثيرة.
ذبحت عقيقة مقطوع الألية من أستراليا فهل أذبح أخرى؟
نعم، لا تجزئ هذه الأضحية، فعلى القول الصحيح الذي قررناه، أنها لا تجزئ هذه العقيقة، وأنت إذا يعني أعدت ذبح هذه العقيقة مأجور على ذلك إن شاء الله.
إذا باع شخص ثمر نخيله فعلى من تكون الزكاة؟
صاحب النخل إذا بدا الصلاح في هذا الثمر فإن عليه أن يزكيه، تجب الزكاة على صاحب النخل، إلا إذا شرط البائع على المشتري دفع الزكاة، فإنها تكون على المشتري حينئذ بمقتضى هذا الشرط، لكنها في الأصل تكون على صاحب النخل.
إذا كان بعض الرطب لا يكون له تمر جيد فهل تخرج الزكاة من الرطب؟
الواجب في الزكاة أن تكون من وسط المال، هذا المقدار الواجب، والمستحب أن تكون من أطيب المال، ولا يجوز أن تكون من رديء المال، يعني عندنا الآن رديء المال، وجيد المال، ووسط المال، المقدار الواجب الوسط لقول الله تعالى: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } (1) .
__________
(1) - سورة المائدة آية : 89.(1/139)
المستحب طيب المال، الرديء لا يجوز إخراجه في الزكاة: { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ } (1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا } (2) - يعني لا تقصدوا -: { الْخَبِيثَ } (3) -يعني: الرديء- فلا يجوز إخراج الرديء في الزكاة.
بعض الأغنام مقطوعة الألية، ليس لها ألية، بل ذيل فلو قطع لا تكون الذبيحة فقدت شيئا مهما، الخلاف ما لها ألية فإنها تفقد عضوا مقصودا، فهل يفرق بين قطع الألية وقطع الذيل؟
هذا السؤال جيد، قطع الذيل أيضا هو في حكم قطع الألية؛ لأن الذيل عضو مقصود، ويدافع به الحيوان عن نفسه، وإذا كان قطع القرن، والأذن يتسبب في عدم إجزاء تلك البهيمة، فقطع الذيل من باب أولى.
أيهما أكثر نفعا للحيوان: القرن أو الذيل؟
الحقيقة أنه قد يكون في بعض الأحيان، قد يكون الذيل أكثر نفعا؛ لأنه يدافع به الحيوان عن نفسه، ولذلك فهو عضو مقصود، فقطع الذيل إذا مقطوع الذيل لا يجزئ في الأضحية، والهدي، والعقيقة، وهذا نص عليه الفقهاء.
هل يشمل عدم قصر أهل مكة بمنى ومزدلفة وقت الحج لو أفاض أحد منهم من عرفة إلى مزدلفة، هل نقول: إنه لا يقصد؟
نعم، المقصود الآن وقت الحج، المقصود في بحث هذه المسألة وقت الحج، فمن كان من أهل مكة لا يترخص برخص السفر في منى، ولا في عرفات، ولا في مزدلفة، وبعض أهل العلم يقصر هذا الحكم بمنى فقط، باعتبار أنها اتصلت، بينما عرفة ومزدلفة لم تتصل.
هل الاعتكاف في المسعى يجرى عليه معتكف؟
نحن قلنا: إن المسعى ليس جزءًا من المسجد الحرام، وحينئذ لا يصح الاعتكاف في المسعى؛ لأن من شروط صحة الاعتكاف أن يكون في المسجد، أن يكون الاعتكاف في المسجد.
هل يجوز الطواف من خلف المسعى؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 267.
(2) - سورة البقرة آية : 267.
(3) - سورة البقرة آية : 267.(1/140)
لا يصح الطواف من خلف المسعى؛ لأنه من شروط صحة الطواف أن يكون داخل المسجد الحرام.
قال: نرجو من فضيلتكم كلام شيخ الإسلام في مسألة القصر لأجل السفر وليس لأجل النسك؟
هو موجود في مجموع الفتاوى، كما في المجلد الرابع والعشرين، في مجموع الفتاوى، نعم في المجلد الرابع والعشرين صفحة 44 - 45، ونكتفي بهذا القدر، الشيخ عبد الرحمن قال: إنه لن يأتي فنكتفي بهذا القدر، ونسأل الله - عز وجل - للجميع التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
النوازل في النكاح
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فكنا قد تكلمنا عن جملة من المسائل المتعلقة بالنوازل في العبادات، وأما النوازل في المعاملات فسبق أن تكلمنا عنها في الدورة الماضية، وخصصنا لها الحديث في الدورة الماضية بعنوان المسائل المالية المعاصرة، وهي موجودة ومحفوظة في موقع الجامع على الإنترنت بالصوت، وأيضا مكتوبة؛ ولذلك فإننا لن نعيد الكلام فيها، وذكرت لكم في أول الدورة أنها - إن شاء الله تعالى - ستكون في كتاب بعد مراجعتها، ربما أيضا إضافة بعض الموضوعات الجديدة لها، ولعلها في غضون بضعة أشهر يخرج هذا الكتاب إن شاء الله، ولهذا فلن نتكلم عن النوازل في المعاملات لهذا السبب.
أما النوازل في النكاح، في كتاب النكاح، فهي لأن أحكام النكاح معروفة ومدونة في كتب الفقهاء، ولكن قد توجد صيغ وأنواع من النكاح، وتسمى بأسماء معينة من الفقهاء ومن ذلك ما عرض في الدورة الأخيرة، الدورة الثامنة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي: الأنكحة المستحدثة وموقف الشريعة منها، وقد شاركت في أعمال هذه الدورة تقريبا، ودرس المجمع أنواعا من العقود درس أنواعا من الأنكحة وهي نكاح المسيار، ونكاح الأصدقاء، والزواج المؤقت بإنجاب، والزواج بنية الطلاق.(1/141)
أما النكاح بنية الطلاق، أو الزواج بنية الطلاق، موجود من قديم، والكلام عنه في كتب أهل العلم معروف، وهكذا أيضا الزواج المؤقت بالإنجاب لا يعد كذلك من النوازل، ولهذا فإننا لن نفصل فيهما، وسوف نشير إليهما إشارة مختصرة إن شاء الله، والذي سوف نتكلم عنه في هذا الدرس، هو ما يسمى بنكاح أو زواج المسيار، وزواج الأصدقاء، فما المراد بهما، وما الحكم فيهما؟ قبل أن نبين المراد بهما، أقول: إنه بعد صدور قرار المجمع تناول بعض الكتاب في الصحافة وغيرها، تناول بعض الكتاب وغيرهم في الصحافة وغيرها من الوسائل الإعلامية، تناول هذا الموضوع بالذات من قرارات المجمع، وتكلم عنه أناس غير متخصصين في علوم الشريعة، وربما بعضهم انتقض قرار المجمع في هذا، ولكن السبب هو جهلهم بأحكام الشريعة، الأحكام الشرعية ليست مبنية على العواطف والأهواء، وإنما مبناها على الدليل والبرهان، والنظر في الأصول والقواعد الشرعية.
نبدأ ببيان معنى نكاح، أو زواج المسيار:
أولا: وجه كونه نازلة أن هذا النوع من النكاح غير معروف عند الفقهاء المتقدمين بصيغته الحالية وبمسماه الحالي، وإن كان الفقهاء يبحثون مسائله مفردة، وأما اجتماع صوره، وبهذا الاسم فلم يكن موجودا عند الفقهاء المتقدمين، وبهذا الاعتبار يسمى نازلة تحتاج إلى نظر، وإلى دراسة من فقهاء العصر، وله شبه بما ذكره الفقهاء من نكاح النهاريات والليليات، نكاح النهاريات والليليات موجود في كتب الفقه، ومعنى نكاح النهاريات والليليات: أن يتزوج رجل من امرأة تعمل خارج منزلها، وترجع إلى زوجها نهارا، يتزوج رجل من امرأة تعمل خارج منزلها ليلا وترجع إلى بيت زوجها نهارا، أو العكس: تعمل نهارا وترجع إلى منزل زوجها ليلا، هذا النكاح اختلف فيه الفقهاء، فمنهم من قال: إنه نكاح غير صحيح، وقد روي ذلك عن الإمام أحمد، وكذلك أيضا هو مشهور من مذهب المالكية.(1/142)
وقال بعضهم: إن هذا النكاح صحيح؛ لأنه مكتمل الأركان والشروط، وهو نكاح صحيح، وهذا هو الأقرب والله أعلم، لكن نكاح المسيار يختلف عن نكاح النهاريات والليليات، فالمسيار على وزن: مفعال من السير، وهو المشي، وأطلق الناس على هذا النوع من النكاح هذه التسمية؛ لأن الرجل يسير فيه إلى المرأة ما بين حين وآخر، وليست المرأة هي التي تسير إليه مرة واحدة، وتستقر في البيت، ولكن الرجل هو الذي يسير إلى المرأة من حين لآخر.
وأكثر ما يستعمل هذا المصطلح عند الناس في دول الخليج، يستخدمون هذا المصطلح، ولهذا إذا ذهب إنسان إلى آخر يقال: سير عليه، يعني سار إليه وجلس عنده للزيارة، فيقولون: سير عليه، ومن هنا سمي هذا النكاح بالمسيار؛ لأن الرجل يسير إلى المرأة في أوقات من حين لآخر، يسير للمرأة من حين لآخر، وعرف المجمع الفقهي نكاح المسيار بأنه: إبرام عقد زواج تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والقسم، تتنازل فيه المرأة عن السكن والنفقة والقسم، أو بعض منها، وترضى بأن يأتي الرجل إلى دارها في أي وقت شاء من ليل أو نهار، ولاحظ هنا أن المجمع أولا لم يسم هذا العقد بنكاح المسيار، وأذكر أنه في مناقشات المجمع كان هناك توجه من بعض العلماء إلى أن يسمى باسمه، ورأى آخرون ألا يسمى باسمه حتى لا يشجع هذا النوع من النكاح، وإن قلنا بجوازه؛ لأنه ليس هو النكاح المنشود، وقرر المجمع، الأغلبية أن لا يسمى وإنما يوصف فقط فهذا إذا هو وصفه، ولاحظ هنا أنه ليس فيه شرط على المرأة، وإنما مجرد محض تنازل منها، فهي التي تتنازل عن بعض حقوقها، من السكن والنفقة والقسم.(1/143)
وأما ما يسمى بنكاح الأصدقاء فهو في الحقيقة هو شبيه بنكاح المسيار، لكن على الطريقة الأوروبية، كما يقال، فيقال: إن أول من ابتكر صيغته الشيخ عبد المجيد الزنداني هو أول من ابتكر صيغته، ثم شاع وانتشر، وعرفه المجمع بأنه: إبرام عقد زواج على أن تظل الفتاة في بيت أهلها، ثم يلتقيان متى رغبا في بيت أهلها، أو في أي مكان آخر، حيث لا يتوافر سكن لهما ولا نفقة، فزواج الأصدقاء شبيه بالمسيار من جهة أنه ليس هناك نفقة ولا سكنى للمرأة، ولكن المسيار المرأة تتنازل عن السكن، ولكن قد تهيئ هي لنفسها سكنا أو يهيئ لها أهلها، أو ربما يهيئ لها الزوج، ويلتقيان في هذا السكن، أو في هذه الدار، بينما في زواج الأصدقاء ليس هناك سكن أصلا، وإنما يلتقيان إما في بيت الأهل، أو في أي مكان.
وما يسمى بزواج الأصدقاء هذا هو شائع في البلاد الأوروبية على وجه الخصوص، وقد ذكر لنا بعض الفقهاء الذين لهم اتصال بالمسلمين في أوروبا بأن تكاليف المعيشة عندهم باهظة، وتوجد بعض الأسر المحافظة، ويكون في بعض هذه الأسر شاب، وفي أسرة أخرى شابة، وتريد الأسرتان تزويج هذا الشاب بهذه الشابة؛ ليتحقق الإحصان والإعفاف لهما في تلك البلدان، ولكن لا يستطيع هذا الشاب والشابة توفير السكن، ولهذا يتزوجان بهذه الطريقة بأن لا سكن ولا نفقة، وإنما يلتقيان متى شاءا إما في بيت أهلها أو في أي مكان آخر يحدداه.(1/144)
وبهذا نعرف أن الحكم فيهما واحد، الحكم في المسيار والأصدقاء أنه واحد؛ لأنهما يجتمعان في أن الزوجة تتنازل عن حقها في القسم، والمبيت، والنفقة، والسكنى، وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذين النكاحين على قولين مشهورين؛ القول الأول: أن هذا النكاح جائز وصحيح، وإن كان خلاف الأولى، واستدلوا لذلك فقالوا: إن هذا النكاح مستكمل لجميع أركانه وشروطه، هو نكاح قد تم بإيجاب وقبول بشروطه المعروفة من رضا الطرفين، ووجود الولي والشهود، ووجود المهر فيه، فهو نكاح قد استكمل أركانه وشروطه وانتفت الموانع، فيكون نكاحا صحيحا.
واستدلوا كذلك بما جاء في الصحيحين: أن أم المؤمنين سودة -رضي الله عنها - لما كبر سنها، وخشيت أن يطلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهبت ليلتها لعائشة، -رضي الله عنها - وهبت ليلتها لعائشة، وقالت: يا رسول الله، قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومين، يومها، ويوم سودة، ووجد دلالة أن سودة بهبتها يومها لعائشة، وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك أن في هذا دلالة على أن من حق الزوجة: على أن الزوجة لها أن تسقط حقها، أو بعض حقها الذي جعله الشارع لها، كالمبيت، والسكن، والنفقة، ووجه الدلالة أن قصة سودة تدل على أن الزوجة لها أن تسقط حقها، أو بعض حقها الذي جعله الشارع لها من المبيت أو النفقة أو السكن ونحو ذلك.(1/145)
أيضا استدل أصحاب هذا القول بأن هذا النوع من النكاح فيه مصالح كثيرة، فهو يؤدي إلى إحصان وإعفاف كل من الزوجين، وهذه المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح تقبله برضاها فهي ليست مجبرة عليه، وكونها تقبل بهذا النوع من النكاح فتكون زوجة خير من أن تبقى بدون نكاح؛ لأن الغالب أن المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح تكون عندها ظروف معينة، بحيث تقل الرغبة فيها، ولهذا فإنها تتنازل عن بعض حقوقها حتى يرغب فيها فيكون في هذا إحصان وإعفاف لها، ولزوجها، وفي إباحة هذا النوع من النكاح إسهام في التقليل من العنوسة ومصالح أخرى، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول.
وذهب بعض العلماء المعاصرين، إلى أن هذا النوع من النكاح غير جائز، واستدلوا لذلك بما يأتي قالوا: أولا: إن هذا الزواج لا يحقق الأهداف المنشودة من النكاح الشرعي، فليس فيه سوى التمتع بين الزوجين، والزواج في الإسلام له مقاصد أوسع وأعمق من هذا، من السكن والمودة، والرحمة، والإنجاب، وغير ذلك فهذا النوع من النكاح لا يحقق المقصود الشرعي من النكاح في الإسلام.
ثانيا: قالوا إن هذا النوع من النكاح ما هو إلا وسيلة لابتزاز المرأة؛ لأن المرأة التي تقبل بهذا النوع من النكاح هي في الغالب امرأة لها ظروف معينة، فيكون الزوج بهذا الزواج قد ابتز هذه المرأة، واستغل ظروفها، وهذا معنى ممنوع شرعا، أيضا قالوا: إن الغالب على هذا النوع من النكاح هو الكتمان والسرية، وهذا يتنافى مع ما هو مطلوب شرعا من إعلان النكاح، أيضا قالوا: إن هذا النوع من النكاح فيه شبه بنكاح المتعة، وزواج المحلل، وهما محرمان؛ فإن نكاح المتعة قد أجمع أهل السنة على تحريمه، وكذلك نكاح المحلل، فقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلِل والمحلَل له، وسماه التيس المستعار، قالوا: فهذا النوع من النكاح فيه شبه بهما.(1/146)
أيضا قالوا: إن هذا النوع من النكاح فيه امتهان لكرامة المرأة وهو غير لائق بها، حيث يجعل الرجل هذه المرأة قنطرة لقضاء متعته وشهواته، فهو غير لائق؛ ولذلك فهو ممنوع شرعا، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول.
وبعد أن عرفنا رأي الفريقين، الذي يظهر -والله أعلم - هو أن القول الراجح هو القول الأول وهو: أن نكاح المسيار، ومثله ما يسمى بنكاح الأصدقاء أنه نكاح جائز ما دام مستوفيا لأركانه وشروطه، وإن كان خلاف الأولى، وهذا هو ما أقره مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، حيث جاء في القرار: " هذان العقدان، والمراد بهما: المسيار والأصدقاء وأمثالهما صحيحان، إذا توافرت فيهما أركان الزواج وشروطه، وخلوه من الموانع، ولكن ذلك خلاف الأولى، فنحن الآن لدينا نكاح مكتمل الأركان والشروط وخال من الموانع، ففيه ولي، وفيه شهود، وفيه مهر، وخال من الموانع، فلا نستطيع أن نمنع هذا النوع من النكاح ما دام قد اكتملت أركانه وشروطه، وانتفت موانعه.
والمرأة من حقها أن تتنازل عن بعض الحق الذي جعله الشارع لها، ولهذا سودة -رضي الله عنها - تنازلت عن ليلتها فهو حق لها تنازلت عنه، وقبل منها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التنازل، فغاية ما في الأمر أن هذين النوعين من النكاح قد تنازلت فيه المرأة عن بعض حقوقها، وأما ما ذكره المانعون مما سمعتم فنأتي لها: نأتي لهذه الاستدلالات واحدا واحدا.(1/147)
أما قولهم: إن هذا الزواج لا يحقق المقصود شرعا من النكاح والهدف من النكاح، وأن المقصود من النكاح في الإسلام ليس هو مجرد المتعة، وإنما له مقاصد من السكن والمودة إلى آخر ما ذكر، فنقول: نحن نسلم بهذا، ولكن نقول: إن هذا النوع من النكاح ليس هو الزواج المنشود، ليس هو الزواج المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن، وما لا يدرك كله لا يترك كله، فتحقيق النكاح للمقاصد الشرعية، قد لا يتأتى حتى مع النكاح المشروع، يعني غير نكاح المسيار، فمن جهة أولا الإنجاب: هب أن رجلا تزوج امرأة عاقرا لا تنجب، أو أن امرأة تزوجت رجلا عقيما، لم يتحقق الإنجاب وهو من مقاصد النكاح، فهل معنى هذا أن هذا النكاح غير صحيح؟ أبدا، أيضا هب أن رجلا تزوج امرأة سيئة الخلق: نكدت عليه عيشه، ولم يجد معها المودة، والسكن، والرحمة، فلم يتحقق المقصود من هذا النكاح، فهل نقول: إن هذا النكاح إنه غير صحيح؟ فأحيانا الزواج الشرعي لا يتحقق منه مقاصد النكاح، وليس ذلك مبررا لإبطاله، فنحن نقول: إن هذا ليس هو الزواج المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن.
وما ذكر من أن هذا الزواج لا يحقق مقاصد النكاح لا يقتضي إبطاله؛ فإن الزواج الشرعي قد لا يحقق كثيرا من مقاصد النكاح كما مثلنا، وتجد من الناس من يتزوج امرأة وتسوء العشرة بينهما، ويبقى فقط مجرد زوج لا يعاشرها، ولا يجد معها المودة، والسكن، والرحمة، وهذا كله لا يقتضي إبطال ذلك النكاح.(1/148)
وأما قولهم: إن هذا النكاح هو وسيلة لابتزاز المرأة فهذا غير صحيح وغير مسلم؛ إذ أن المرأة يشترط رضاها، فإذا لم ترض بهذا النكاح أو بغيره فإن النكاح غير صحيح، ولهذا ثبت أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرت بأن أباها زوجها وهي كارهة، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرد نكاحها فرضيت بعد ذلك به، وقالت: أردت أن أبين أن للنساء حقا؛ فرضا المرأة شرطٌ، فما دام أن المرأة قد رضيت بهذا النوع من النكاح فكيف يكون وسيلة لابتزازها، وبعض النساء التي يكون لها ظروف معينة، وقد لا يرغب فيها من كثير من الرجال، هي بين أمرين: إما أن تقبل بهذا النوع من النكاح، وإما أن تبقى بدون زواج.
ويذكر أحد المشايخ أن امرأة اتصلت به، وذكرت أن لها ظروفا معينة، وأن عندها أولادا، وأنها بين هذين الأمرين: هل تقبل بهذا النوع من النكاح، أو تبقى بدون زواج؟ ولا شك أن قبولها بهذا النوع من النكاح أنه أولى من بقائها بدون زواج، فربما أن هذا الزوج الذي تزوجها بطريق المسيار أنه يرغب فيها، فتكون أما لأولاده، فإذا القول بأن هذا الزواج فيه ابتزاز للمرأة غير مسلم.
وأما القول بأنه يشبه نكاح المتعة والمحلل فغير صحيح؛ إذ أن نكاح المتعة هو نكاح مؤقت لمدة معينة، ومقابل مهر أو أجر معين، وبمجرد انتهاء هذه المدة ينتهي النكاح تلقائيا، وأما نكاح المسيار، ومثله الأصدقاء فهو زواج دائم، لا يتحدد بمدة معينة، ولا ينتهي إلا بطلاق، أو فسخ، أو خلع، وهكذا أيضا بالنسبة لنكاح المحلل، فالقول بأن هذين النوعين من النكاح شبيهان به غير صحيح؛ إذ أن زواج المحلل زواج غير مقصود، ولا هدف للزوج في هذا الزواج إلا أن يحلل هذه المرأة لزوج آخر، فهو غير مقصود لذاته؛ وإنما جعل هذه المرأة قنطرة ليعبر عليها، وليحللها لرجل آخر، فنكاح المحلل نكاح مراد لتحقيق هدف رجل آخر.(1/149)
أما نكاح المسيار ومثله الأصدقاء فهو زواج مقصود، قد تفاهم عليه الرجل والمرأة وقصداه، وهو زواج دائم، فالقول بأن فيه شبها من نكاح المتعة أو المحلل غير صحيح، وأما ما ذكر من أن فيه كتمانا وسرية، بأن فيه كتمانا وسرية، فنقول: الكتمان والسرية، ليست من لوازم هذين النوعين من النكاح، أحيانا يكون نكاح المسيار ليس متكتما عليه، وربما يكون متكتما عليه نسبيا عن الزوجة فقط وأهلها، وإلا فإنه يكون فيه شهود، ووجود شاهدين في عقد النكاح هو الحد الأدنى للإعلان، فما دام أنه يوجد فيه شهود فلا يقال: إن فيه كتمانا، نعم لو كان بدون شهود، وبدون إعلان هذا هو نكاح السر الذي لا يصح عند كثير من أهل العلم، لكن نكاح المسيار، ومثله الأصدقاء يوجد فيه شهود، فما دام أنه قد وجد فيه شهود: شاهدان على الأقل فهذا هو الحد الأدنى لإعلان النكاح.
وأما القول بأن هذا النكاح فيه امتهان لكرامة المرأة، وهذا هو الذي ركز عليه بعض كتاب الصحافة وغيرهم، قالوا: إن هذا النوع من النكاح فيه امتهان لكرامة المرأة، وأنه غير لائق اجتماعيا؛ حيث إن الرجل يجعل هذه المرأة قنطرة لقضاء متعه وشهواته، فنقول أولا: القول بأن فيه امتهانا لكرامة المرأة غير صحيح؛ إذ أن هذه المرأة يشترط رضاها، هذه المرأة يشترط رضاها بهذا النوع من النكاح، والعفة والإحصان لها قيمة كبيرة في الشريعة الإسلامية، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال " فالعفة والإحصان أمر مقصود في النكاح، بل هو من أعظم مقاصد النكاح، ولكن بعض الناس يخلطون بين كون الشيء غير جائز شرعا، وبين كونه غير مقبول اجتماعيا، فكونه غير مقبول اجتماعيا لا يقتضي عدم صحته، ونضرب لهذا أمثلة:(1/150)
زواج المرأة مثلا من سائقها؛ من سائق سيارتها، هو من الناحية الشرعية إذا اكتملت أركانه وشروطه، وخلا من الموانع زواج صحيح، لكنه اجتماعيا غير لائق فلا يخلط بين الأمرين. زواج الرجل من خادمته كذلك هو غير لائق اجتماعيا لكنه من الناحية الشرعية إذا كان بولي، واكتملت جميع أركانه، وشروطه، وخلا من الموانع هو زواج صحيح من الناحية الشرعية. زواج أيضا رجل كبير قد جاوز الستين بامرأة صغيرة، قد يكون غير مقبول اجتماعيا، لكنه من الناحية الشرعية صحيح إذا اكتملت أركانه وشروطه، أو العكس، زواج رجل شاب بامرأة كبيرة في السن، هل نقول: إن هذا الزواج غير صحيح؟ هو زواج صحيح من الناحية الشرعية؛ اكتملت أركانه، وشروطه، وخلا من الموانع، وإن كان غير لائق اجتماعيا؛ فلا يخلط بين كون الشيء غير لائق اجتماعيا، وبين كونه غير جائز من الناحية الشرعية، فبعض الناس يرى أن نكاح المسيار والأصدقاء أنه غير لائق اجتماعيا، ويبني على ذلك أنه لا يجوز من الناحية الشرعية وهذا غير صحيح؛ إذ أنه لا تلازم بينهما.
أيضا أمر آخر ذكره بعض من قال بعدم صحة نكاح المسيار والأصدقاء، قال: إنه، إن الله تعالى جعل القوامة للرجل على المرأة، وفي هذين النوعين من النكاح لا تتحقق القوامة، ولكن نقول: إن الله تعالى جعل للرجال القوامة على النساء بأمرين: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } (1) فالقوامة جعلها الله تعالى بأمرين؛ الأمر الأول: { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } (2) والمراد به ما خص الله به الرجال من القدرة على التحمل والصبر والمسئولية أكثر من المرأة، ونكاح المسيار والأصدقاء لا يسقط هذا الأمر، فتبقى المسئولية على الزوج، ويبقى التفضيل موجودا بالنسبة له.
__________
(1) - سورة النساء آية : 34.
(2) - سورة النساء آية : 34.(1/151)
وأما الأمر الثاني وهو: { وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } (1) فيكفي هنا أن الزوج يدفع المهر، ويدفع الصداق، فهو قد أنفق من ماله، ولهذا فإنه يستحق القوامة بمجرد الدخول قبل بدء النفقة اليومية، وبهذا كما ترون ليس هناك في الحقيقة حجة ظاهرة لمن منع هذا النوع من النكاح، فالصواب هو: أن هذا النكاح أنه صحيح وجائز إذا اكتملت أركانه وشروطه وخلا من الموانع، وإن كان خلاف الأولى؛ لأنه ليس هو الزواج المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن.
وبعض الناس يرى أن، يعني أن تسمية النكاح بالأصدقاء أنها غير مناسبة، وعلى كل حال لا مشاحة في الاصطلاح، المهم معرفة حقيقة هذا النكاح وحكمه الشرعي، سواء سمي نكاح أصدقاء أو سمي بغير ذلك، وهكذا أيضا بالنسبة لنكاح المسيار، المهم معرفة حقيقته وحكمه الشرعي بغض النظر عن الأسماء والمصطلحات، هذا النوع من النكاح نحن قلنا: إن المرأة تتنازل فيه عن حقها في السكن والنفقة والمبيت، ولكن لو أن الرجل هو الذي اشترط عليها ذلك، اشترط عليها أن لا نفقة لها، أو أن لا يطأها، فعند كثير من أهل العلم النكاح صحيح والشرط باطل، النكاح صحيح والشرط باطل، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهناك قول بأنه يبطل النكاح، ولكنه قول مرجوح، فإذا كان على سبيل الشرط، وليس على سبيل التنازل من المرأة فإن هذا الشرط غير صحيح والنكاح صحيح، وإنما كان الشرط غير صحيح؛ لأنه ينافي مقتضى عقد النكاح، ولكن إذا كان بمجرد تفاهم، وتتنازل فيه المرأة عن بعض حقوقها فهو نكاح المسيار الذي قصدناه، ونحن قلنا: إنه لا بأس به، بعدما عرفنا حقيقة نكاح ما يسمى بالمسيار والأصدقاء والحكم فيهما.
ننتقل للكلام عن بعض الأنكحة، التي نبين حقيقتها حتى لا تشتبه بهذين النوعين من النكاح، هناك في بعض الدول، نكاح يسمى بالنكاح أو الزواج العرفي، فما معنى الزواج العرفي وما حكمه؟.
__________
(1) - سورة النساء آية : 34.(1/152)
الزواج العرفي المقصود به، المقصود بالزواج العرفي: هو عقد مستكمل الأركان والشروط إلا أنه لا يوثق رسميا بالمحاكم الشرعية، أي أنه زواج مكتمل لجميع أركانه وشروطه، إلا أنه غير موثق رسميا لدى الجهات المختصة، وهذا النوع من النكاح عقد صحيح، ولا إشكال فيه من الناحية الشرعية، وكونه غير موثق لا يؤثر في صحته؛ لأنه ليس من شروط النكاح أن يثبت في وثيقة رسمية، فهو إذا من الناحية الشرعية نكاح صحيح وإن كان غير موثق لدى الجهات المختصة، وإن كان المطلوب هو توثيقه؛ حفظا للحقوق، ولكن عدم التوثيق لا يؤثر في صحته، هذا هو المقصود بالزواج أو النكاح العرفي، هذا هو المشهور من هذا المصطلح، ولكن قد يطلق الزواج أو النكاح العرفي أيضا في بعض البلدان على الزواج بدون ولي، بأن يتفق رجل مع امرأة على أن يتزوجها عن طريق مأذون أو محامٍ، ويكون بدون ولي، وهذا نكاح غير صحيح؛ لأن النكاح بدون ولي نكاح غير صحيح، " وأيما امرأة نكحت بلا ولي فنكاحها باطل باطل باطل "
من تمام الفائدة أن نذكر العقود الأخرى التي ذكرت في قرار المجمع: النكاح أو الزواج المؤقت بالإنجاب؛ الزواج المؤقت بالإنجاب: هو عقد مكتمل الأركان والشروط إلا أن أحد العاقدين يشترط في العقد أنه إذا أنجبت المرأة فلا نكاح بينهما، أو أن يطلقها، وقرر المجمع أن هذا الزواج فاسد؛ لوجود معنى المتعة فيه؛ لأن التوقيت كما يكون بمدة معلومة كشهر فإنه يكون كذلك بتحديده بالإنجاب، فالتوقيت يكون بمدة معلومة كشهر، أو بمدة مجهولة كالإنجاب، وهذا يصيره نكاح متعة وهو محرم، فإذا الزواج المؤقت بالإنجاب زواج غير صحيح.(1/153)
الزواج بنية الطلاق: هو زواج توافرت فيه أركان النكاح وشروطه، ولكن أضمر الزوج في نفسه طلاق المرأة بعد مدة معلومة، نوى، عقد الزوج على هذه المرأة وهو ينوي طلاقها بعد مدة معلومة، أو حتى بعد مدة مجهولة، كإتمام دراسته، أو تحقيق الغرض الذي قدم من أجله، فهو إذا نكاح مكتمل الأركان والشروط إلا أن الزوج نوى طلاق هذه المرأة بعد مدة معلومة أو مجهولة، وهذا النوع اختلف الفقهاء فيه، كما ذكرت في أول الدرس أنه ليس هذا من النوازل هو موجود، وفي كتب الفقه بحثه موجود في كتب الفقه، اختلف العلماء فيه، وقد ذكر الموفق ابن قدامة في المغني: أن أكثر العلماء على صحته، ومن أشهر من قال بصحة هذا النكاح وجوازه: سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله.
والقول الثاني: أنه نكاح غير صحيح، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء المعاصرين، ومنهم الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-، وهذا القول هو الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي، جاء في قرار المجمع: وهذا النوع من النكاح على الرغم من أن جماعة من العلماء أجازوه، إلا أن المجمع يرى منعه؛ لاشتماله على الغش والتدليس، إذ لو علمت المرأة أو وليها بذلك لم يقبلا بهذا العقد، ولأنه يؤدي إلى مفاسد عظيمة وأضرار جسيمة، تسيء إلى سمعة المسلمين، فالإشكال في هذا النكاح هو مكتمل الأركان والشروط، لكن هو فقط فيه الغش لهذه المرأة أو وليها؛ لأنه لا يخلو إما أن تعلم المرأة أو وليها بأن هذا الزوج سوف يطلقها أو لا تعلم، فإن علمت بذلك فإنه يكون نكاح متعة، يعني علمت بأن هذا الزوج سوف يطلقها يكون نكاح متعة، يكون كأن هذين الزوجين اتفقا على نكاح مدة معينة، على أن يكون هذا النكاح مدة معينة.(1/154)
وإن كانت المرأة أو وليها لا يعلمان بأن هذا الزوج سوف يطلقها، فإنه يكون قد غشهما، وإذا كان لك بنت أو أخت فتزوجها رجل، ثم طلقها، وعلمت فيما بعد أن هذا الرجل قد نوى طلاقها عند العقد فلا شك أنك تعتبره قد غشك، وغش موليتك، بل تعتبر أن هذا جناية كبيرة، فالغش فيه ظاهر، ولكن المجيزين له قالوا: إن هذا الرجل قد ينوي نكاحها، ثم يرغب فيها، ولكن لا تبنى العقود على مثل هذه الاحتمالات.
ثم أيضا إن بعض الناس قد أساء في استخدام هذا النوع من النكاح، واستغلال فتوى المجيزين، فبعض الناس يسافر إلى بعض البلدان، ويتزوج عدة مرات يتزوج ثم يطلق، ويتزوج ثم يطلق عدة مرات، ولا شك أن هذا ينافي مقاصد النكاح شرعا، وفيه تلاعبٌ بأحكام الدين، وفيه استهانة بالنكاح الذي سماه الله - عز وجل - { مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) } (1) ولهذا فإن الأظهر والله أعلم في هذه المسألة هو: عدم صحة النكاح بنية الطلاق وهو الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسائل، طيب نجيب عما تيسر من الأسئلة، وإن كان بودنا أن تكون الأسئلة متعلقة بالدرس. طيب.
هل أن من شروط النكاح الكفاءة؟
الكفاءة الصحيحة أنها تشترط فقط في الدين، الدين فلا يتزوج الرجل بامرأة كافرة غير كتابية، ولا تتزوج المرأة بكافر مطلقا، أما غير الدين فالصحيح أنه لا يشترط: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (2) وزينب وهي قرشية تزوجت بزيد بن حارثة وهو من الموالي.
يقول عند الأذان مع وجود الميكرفونات والأجهزة التي تسمع من مكان بعيد، ما حكم الالتفات عن يمين ويسار عند الحيعلتين؟
__________
(1) - سورة النساء آية : 21.
(2) - سورة الحجرات آية : 13.(1/155)
الالتفات عند الحيعلتين لا شك أنه قد وردت به السنة، ولكن مع وجود مكبرات الصوت في الوقت الحاضر، الذي أرى في هذه المسألة أن المؤذن يلتفت التفاتا يسيرا بالقدر الذي يصيب به السنة، ولا يلتفت التفاتا يؤدي إلى ذهاب الصوت أو إضعافه؛ لأن المقصود من الأذان إبلاغ الناس بدخول وقت الصلاة، فإذا التفت التفاتا يضعف الصوت، فإن هذا يتنافى مع هذا المقصود، ولكن يلتفت التفاتا يسيرا بحيث يصيب السنة، ولا يضعف معه الصوت.
لكن ما المقصود بالالتفات، لماذا يلتفت المؤذن؟ لماذا، يعني ما المقصود الشرعي لا بد أن ننظر لمقاصد الشريعة، ما المقصود من الالتفات؟ المقصود إبلاغ الناس، إبلاغ من عن يمينه وعن يساره، وهذا متحقق بمكبر الصوت فننظر للمقصد الشرعي من هذا الحكم، لا بد من النظر عند تقرير الأحكام الشرعية، لا بد من النظر إلى مقاصد الشريعة.
هل الإسبال يقع على الإزار فقط، أو يشمل القميص والبنطال أم هو عام؟
نعم هو يشمل اللباس كله، ليس خاصا بالقميص أو البنطال، هو يشمل اللباس كله، فكما يكون الإسبال في الثوب يكون في القميص، يكون في المشلح، يكون في البنطال في جميع أنواع اللباس، أما إذا كان عن خيلاء فهو مجمع على تحريمه؛ فهو من كبائر الذنوب، وإذا كان الإسبال بغير قصد الخيلاء فمحل خلاف، والصحيح أيضا أنه محرم.
عند التحويل إلى بلدي، والحوالة بالريال استلامها بالريال في بلدي، لكن المحول يأخذ على كل ألف عشرة ريالات قلَّت أو كثُرت، هل هذا من الربا؟
بل ليس هذا من الربا، هذا مقابل خدمة، ولا تلزم البنوك ولا غيرها من المؤسسات المالية بأن تخدم الناس مجانا، فكونهم يخدمون هذا الإنسان بهذا التحويل لا بأس أن يأخذوا رسما مقابل هذه الخدمة.
هل يجزئ دفع زكاة المال لترميم مسجد، وتغيير فرشه، ومكيفاته، وتعديل؟(1/156)
الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن الله تعالى جعل الزكاة لثمانية أصناف فقط: { * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) } (1) فلا يجوز أن تصرف الزكاة لغير هذه المصارف الثمانية، ولننظر هل المسجد من هذه المصارف الثمانية، وبعض أهل العلم قال بذلك قال: إنه يدخل في قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (2) وجعلوا: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يشمل جميع أنواع القرب، وجميع أنواع البر، ولكن هذا قول مرجوح، وبحثت هذه المسألة في مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة، وصدر فيها قرار بالأغلبية بأن المقصود بقوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) أي الجهاد في سبيل الله، المقصود بقوله: { فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) الجهاد في سبيل الله.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 60.
(2) - سورة التوبة آية : 60.
(3) - سورة التوبة آية : 60.
(4) - سورة التوبة آية : 60.(1/157)
وأما القول بأنه في جميع وجوه البر فلا يكون لهذا التحديد معنى، لو قلنا في جميع وجوه البر، لقال: { * إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } (1) في سبيل الله، ولا داعي إلى أن يقول: { لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } (2) وبقية الأصناف؛ لأنا لو قلنا: إن في سبيل الله: في جميع وجوه البر شملت الفقراء، وشملت المساكين، وشملت الغارمين، شملت ابن السبيل، ولكن هذا التحديد وهذا التقسيم يدل على أن قوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (3) ليس المقصود به في وجوه البر كما قال أصحاب هذا القول، وإنما المقصود بقوله: { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } (4) المقصود به الجهاد في سبيل الله؛ ولهذا فالصواب أن الزكاة لا تدفع في بناء المساجد أو ترميمها أو فرشها؛ لأنها لا تدخل في هذه الأصناف الثمانية.
وهكذا حلقات تحفيظ القرآن لا تدخل في هذه الأصناف الثمانية، ادفع لها من غير الزكاة، الزكوات حق لمن فرضه الله - عز وجل - في هذه الآية فقط، حق لهؤلاء المذكورين في هذه الآية، وهم هؤلاء الأصناف الثمانية.
رجل يعطى من جهة عمله هدايا، ويترك له حرية التصرف فيها حسب ما يراه للزوار والزبائن فهل يحق له الأخذ من هذه الهدايا لنفسه، أو أصحابه، أو أقاربه علما بأن هؤلاء من الزبائن؟
__________
(1) - سورة التوبة آية : 60.
(2) - سورة التوبة آية : 60.
(3) - سورة التوبة آية : 60.
(4) - سورة التوبة آية : 60.(1/158)
جاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا لجلب أموال الصدقة من الناس فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، يعني لما أراد أن يجمع الصدقة أهداه الناس هدايا، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب على المنبر ليبين الحكم للأمة، فقال: " ما بال الرجل نستعمله فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منها شيئا إلا أتى به يوم القيامة إن كان بعيرا له رغاء... "إلى آخر الحديث، وهو مخرج في الصحيحين.
فهنا وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهي قوله: " أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ " هذه قاعدة، فنقول الآن: هذا الموظف لو أنه جلس في بيت أبيه وأمه هل ستأتيه هذه الهدايا؟ الواقع لا، لن تأتيه هذه الهدايا، ولذلك لا يجوز له أن يأخذها، ولاحظ أن هذا الرجل الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذ الزكوات فقط من أصحابها، ومع ذلك أهدي له هدايا، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين هذا الحكم، وخطب على المنبر، وهذا يدل على الوعيد الشديد في مثل هذه المسألة؛ ولذلك فإنه لا يجوز أخذ الهدايا في مثل هذه الحال، والقاعدة هي لو جلس هذا الموظف في بيت أبيه وأمه فينظر هل سيهدى إليه شيء؟ إن كان الجواب نعم، وأن هذا المهدي تربطه به علاقة قديمة أو صداقة أو قرابة، ولو جلس في بيت أبيه وأمه سيهدي له، حينئذ نقول له: هذه الجائزة لا بأس بأخذها، لكن لو أنه لو جلس في بيت أبيه وأمه لم يهد إليه هذا المهدي لا يجوز له أخذ هذه الهدية، ومثل ذلك المدير لا يجوز أن يأخذ من الموظفين هدايا؛ لأن هذا المدير لو جلس في بيت أبيه وأمه لم يهد إليه هذا الموظف شيئا.(1/159)
ومثل ذلك أيضا المعلم مع طلابه، لا يجوز له أن يأخذ هدايا منهم؛ لأن هذا المعلم لو جلس في بيت أبيه وأمه لم يهد له هذا الطالب هدية، فهذه قاعدة عظيمة في هذا الباب، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام -: " أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ " فإذا أشكل عليك شيء من المسائل في هذا الباب فطبق عليه هذه القاعدة، فقل: هذا الرجل لو جلس في بيت أبيه وأمه أيهدى إليه شيء أم لا؟ إن كان نعم سوف يهدى إليه، وأن هذه الهدية لسبب آخر فلا بأس أما إذا كان لن يهدى إليه لو جلس في بيت أبيه وأمه، فحينئذ لا يحل له أن يأخذ هذه الهدية، ونكتفي بهذا القدر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مسألة حكم إسقاط الجنين المشوه خلقيا ومسألة البصمة الوراثية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعا ينفعنا.
معنا في هذا الدرس مسألتان: المسألة الأولى حكم إسقاط الجنين المشوه خلقيا.
والمسألة الثانية: حكم البصمة الوراثية أي الحمض النووي، وأحكامها الشرعية.
ونبدأ بالمسألة الأولى وهي: حكم إسقاط الجنين المشوه خلقيا، ووجه اعتبارها نازلة: هو أنه في الوقت الحاضر أصبح يمكن معرفة تشوه الجنين عن طريق الأشعة، وأصبح يمكن للأطباء معرفة ما إذا كان هذا الجنين سيولد مشوها أم لا، وذلك عن طريق الأشعة بأنواعها، ولهذا إذا تشوه هذا الجنين، وأنه سيولد مشوها، وسيكون لو ولد وعاش عبئا على والديه وعلى أسرته، فهل يجوز إسقاطه في هذه الحال أو لا يجوز؟ قبل أن نتكلم عن هذه المسألة نذكر بعض الأمور التي لا بد من تقديمها قبل بحث هذه المسألة، وهي:(1/160)
أن نفخ الروح إنما يكون بعد مضي مائة وعشرين يوما على الحمل، كما جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: " حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق، فقال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك- فأربعون وأربعون، وأربعون أصبحت مائة وعشرين، أي أربعة أشهر- ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " متفق عليه، فهذا الحديث ظاهر الدلالة في أن نفخ الروح إنما يكون بعد مائة وعشرين يوما، وهذا التحديد مهم بالنسبة لبحث المسألة.
ولكن قد جاء في حديث حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - وهو في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة " هكذا لفظ الحديث: " فيقول: يا رب، أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، فيقول: أي رب أذكر أم أنثى فيكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص " رواه مسلم، فهذا الحديث حديث حذيفة: أن هذه الكتابة تكون بعد أربعين أو خمس وأربعين يوما، بينما في حديث ابن مسعود أن ذلك يكون بعد مائة وعشرين يوما، وكلا الحديثين من جهة السند صحيح: حديث ابن مسعود في الصحيحين، وحديث حذيفة في صحيح مسلم، فكيف نجمع بينهما؟.(1/161)
تكلم عن ذلك ابن القيم -رحمه الله- في كتابه القيم "شفاء العليل"، وجمع بين هذين الحديثين، قال: فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق العبد وأجله وشقاوته وسعادته، وهو في بطن أمه، واختلفت في وقت هذا التقدير: ففي حديث ابن مسعود أنه يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم، وفي حديث حذيفة أنه بعد أربعين يوما أو خمسة وأربعين يوما، قال ابن القيم: وكثير من الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله، وأن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو العلقة، وأن الملك الذي ينفخ فيه، يعني الروح فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة، يعني بعد مائة وعشرين يوما، فيؤمر عند نفخ الروح بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقاوته أو سعادته، وهذا تقدير بعد تقدير، فهذا تقدير غير التقدير الذي كتبه الملك الموكل بالنطفة، فيقدر الله سبحانه شأن النطفة حين تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق، ويقدر الله شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما، فهو تقدير بعد تقدير، فاتفقت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدق بعضها بعضا.(1/162)
فيريد ابن القيم بهذا أن يقول: إنه بعد أربعين يوما يكون هناك تقدير: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وبعد مائة وعشرين يوما يكون هناك تقدير آخر، هو تقدير بعد تقدير ولا منافاة بينهما، كما أنه أيضا يسبقهما تقدير، وهو المذكور في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " وكما أنه يكون هناك تقدير في ليلة القدر: { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) } (1) { أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) } (2) فإذا لا منافاة بين هذه الأحاديث وإنما يقال: إن هذا تقدير بعد تقدير، لكن لاحظ هنا أن حديث حذيفة لم يذكر فيه نفخ الروح، إنما ذكر في حديث ابن مسعود، فيكون إذا نفخ الروح بعد مائة وعشرين يوما، وهو الذي يهمنا في بحث هذه المسألة.
فنقول بشأن مسألتنا، وهي: إسقاط الجنين المشوه، هذه المسألة بحثت في مجلس هيئة كبار العلماء، وفي مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وصدر فيها قرار من مجلس الهيئة، وقرار من المجمع، والقراران متقاربان في تقرير الحكم الشرعي، فنقول أولا: كما جاء في قرار الهيئة والمجمع، إذا كان الحمل، أولا قاعدة عامة: لا يجوز إسقاط الحمل في مختلف مراحله إلا لمبرر شرعي، وفي حدود ضيقة جدا؛ حتى في طور الأربعين لا بد من مبرر شرعي، وأما إسقاط الحمل؛ خشية المشقة في تربية الأولاد، أو العجز عن تكاليف معيشهم، أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد، فهذا لا يعتبر مبررا شرعيا، فيكون الإسقاط لأجل هذا الغرض غير جائز، وقد نص على هذا في قرار الهيئة، أن الإسقاط خشية المشقة في تربية الأولاد أو العجز عن تكاليفهم أو الاكتفاء بما لدى الزوجين من أولاد أنه غير جائز ولو كان في طور الأربعين الأولى.
__________
(1) - سورة الدخان آية : 4.
(2) - سورة الدخان آية : 5.(1/163)
ثانيا: إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوما، فإنه لا يحل إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة، وذلك لأنه قد نفخت فيه الروح، وأصبح إنسانا فإسقاطه هو في الحقيقة قتلٌ لإنسان، ولكن إذا كان بقاؤه فيه خطر مؤكد على حياة الأم فهل يجوز إسقاطه في هذه الحال؟ اختلف العلماء المعاصرون في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه لا يجوز إسقاطه ولو كان فيه خطر محقق، ولو ماتت أمه ببقائه، ومن أبرز من قال بهذا القول: الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله - قالوا: ما دام أنه قد نفخت فيه الروح لا يحل إسقاطه بأي حال من الأحوال، حتى لو قرر الأطباء أنه إن لم يسقط ماتت أمه، فإنه لا يحل إسقاطه، وعللوا لذلك: بأنه لا يجوز لنا أن نقتل نفسا لاستبقاء نفس أخرى، وإسقاطه بعد مائة وعشرين يوما هو قتل لنفس، قال الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-: فإن قال قائل: إذا أبقيناه وماتت الأم فسيموت هو أيضا فيحصل بذلك قتل نفسين، وإذا أخرجناه فلربما تنجو الأم؛ فالجواب أننا إذا أبقيناه وماتت الأم بسببه، ومات هو بعد موت أمه فإن موت أمه ليس منا، بل من عند الله - عز وجل - فهو الذي قضى عليها بالموت بسبب هذا الحمل، أما إذا أجهضنا الجنين الذي كان حيا، ومات بالإجهاض، فإن إماتته من فعلنا ولا يحل ذلك لنا، فأصحاب هذا القول يرون أن إسقاطه بعد مائة وعشرين يوما فيه تعدٍ على إنسان، وقتل لإنسان من أجل استبقاء إنسان آخر، هذا هو حاصل استدلالهم.(1/164)
القول الثاني في المسألة: أنه إذا ثبت من الأطباء الموثوقين أن بقاء الجنين فيه خطر مؤكد على حياة الأم، وأنه سوف يتسبب في موتها لو بقي بعد استنفاذ كافة الوسائل لإنقاذ حياته فإنه يجوز إسقاطه في هذه الحال، وقد أخذ بهذا القول مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة، ومجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، وعللوا ذلك بأن إسقاطه في هذه الحال فيه دفع لأعظم الضررين، وجلب لأعظم المصلحتين، وذلك لأن عندنا في هذه المسألة ضرران: وهو موت الأم، أو موت هذا الجنين، وموت الأم أعظم ضررا من موت الجنين، وذلك أن حياة الأم متيقنة، وبقاء هذا الجنين حيا بعد الولادة أمر مشكوك فيه، فموت الأم أعظم ضررا، قالوا: فيجوز إسقاطه دفعا لأعظم الضررين، وهذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة، والله أعلم، ولكن ذلك بشروط ليس على إطلاقه، وإنما بشروط، وهي ما أشرنا إليها في هذا القول، وهو: أن يكون هناك اتفاق بين الأطباء بأن بقاء هذا الجنين فيه خطر مؤكد على حياة الأم، وأنه لو بقي فسوف يتسبب في وفاتها، فإذا اتفق الأطباء على ذلك، واستنفذت جميع الوسائل لإنقاذ حياته، ولم يمكن ذلك إلا بإسقاطه؛ استنقاذا لحياة الأم جاز إسقاطه في هذه الحال، هذا هو الأقرب لهذه المسألة والله أعلم.
وأما ما ذكره أصحاب القول الأول: من أنه ليس لنا قتل نفس لاستبقاء نفس أخرى، فنحن نقول: نحن الآن عندنا نفسان: عندنا الأم، وعندنا هذا الجنين، فلو لم يسقط هذا الجنين لتسبب في وفاة الأم، ووفاة الأم أعظم ضررا، فحينئذ يجوز إسقاطه في هذه الحال دفعا لأعظم الضررين.(1/165)
الحال الثانية: قبل مرور مائة وعشرين يوما على الحمل، والحمل علقة أو مضغة، إذا أثبت الأطباء بأن الجنين في هذه المرحلة مشوه تشويها خطيرا، وغير قابل للعلاج، وأنه إذا بقي فستكون حياته سيئة وآلاما عليه وعلى أهله، ففي هذه الحال يجوز إسقاطه بناء على طلب الوالدين، وذلك لأن هذا الجنين في هذه المرحلة لم تنفخ فيه الروح، وليس بإنسان، إنما هو مضغة أو علقة فيجوز إسقاطه.
الحال الثالثة: أن يكون في الأربعين الأولى في طور الأربعين الأولى، فيجوز إسقاطه إذا وجد في ذلك مصلحة شرعية، أو دفع ضرر متوقع، ومن ذلك أن يكون هذا الجنين لو عاش لكان مشوها خلقيا، فهنا لا بأس بإسقاطه في طور الأربعين الأولى، فنجد هنا أن العلماء على هذا التدرج يشددون فيما إذا كان ذلك الإسقاط بعد مائة وعشرين يوما، ثم المرحلة الثانية: إذا كان مضغة وعلقة، يشددون تشديدا أقل من التشديد الأول، أما في الأربعين الأولى: إذا كان نعم إذا كان مضغة وعلقة فيشددون تشديدا أقل من التشديد الأول، أما إذا كان في الأربعين الأولى فلا يشددون كثيرا في المسألة، ولذلك يجوز الإسقاط في الأربعين الأولى، ولو لغرض غير، يعني كونه مشوه الخلقة، كما لو اغتصبت امرأة مثلا، وحملت فيجوز الإسقاط في طور الأربعين الأولى، ويعتبر هذا من المصلحة.(1/166)
ونحن قلنا: إنه يجوز الإسقاط في طور الأربعين الأولى إذا وجد في ذلك مصلحة شرعية، هذا إذا كان في طور الأربعين الأولى، يشتد الأمر إذا كان مضغة أو علقة، ويشتد الأمر أكثر إذا تجاوز مائة وعشرين يوما، وهنا قرار هيئة كبار العلماء أخذ بهذا التدرج على هذه المراحل الثلاث، وأما المجمع الفقهي فحصر المسألة في أمرين؛ لأنه قرار المجمع الفقهي هو فقط في إسقاط الجنين المشوه خلقيا، فقال: إذا كان بلغ مائة وعشرين يوما فأكثر لا يحل إسقاطه إلا إذا كان في بقائه خطر مؤكد على الأم فيجوز، إذا كان أقل من مائة وعشرين يوما يجوز ذلك إذا كان مشوها تشويها خطيرا غير قابل للعلاج، وهذا بالنسبة للطفل المشوه.
وقرار هيئة كبار العلماء فصل في ذلك: بين ما إذا كان ذلك بعد مائة وعشرين يوما، فلا يحل إلا إذا كان في بقائه خطر مؤكد على أمه، إذا كان في طور المضغة والعلقة، لا يحل إلا إذا كان مشوها خلقيا، في طور الأربعين الأولى يجوز ذلك لوجود مصلحة شرعية معتبرة، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة، والتي يكثر السؤال عنها، فيكون الجواب بناء على هذا التفصيل، والله تعالى أعلم.(1/167)
المسألة الثانية التي معنا: هي مسألة البصمة الوراثية، أو ما يسمى الحمض النووي، البصمة الوراثية أو الحمض النووي، وهذه البصمة نريد أولا أن نعطي تعريفا بها، هذه البصمة الوراثية هي: البنية الجينية، نسبة إلى الجينات، أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه، هذه البصمة والتي يرمز لها بـ DNA هي المادة المورثة الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية، والجينات أو المورثات الحية: هي الأحماض الأمينية الموجودة لدى كل إنسان، وذلك أن الاكتشافات الطبية قد دلت على أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان يوجد فيها ستة وأربعون من الصبغات التي يطلق عليها الكروموسومات، وهذه الكروموسومات تتكون من المادة الوراثية الحمض النووي، وكل واحد من هذه الكروموسومات يحتوي على عدد كبير من الجينات الوراثية، وقد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة مائة ألف مورث جيني في الخلية الواحدة فقط.
وهذه المورثات الجينية هي التي تتحكم في صفات الإنسان، والطريقة التي يعمل بها، وأثبتت التجارب الطبية أن كل إنسان يمتلك جينوما بشريا يختص به دونما سواه، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره، كبصمات الأصابع بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر، ولهذا جرى إطلاق عبارة بصمة وراثية؛ للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذا من عينة الحمض النووي، الذي يحمله الإنسان عن أبيه وأمه، فإن كل شخص يحمل في خليته الجينية ستة وأربعين من صبغات الكروموسومات، يرث نصفها وهو ثلاثة وعشرون كرموسوما عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، وثلاثا وعشرين أخرى يرثها عن أمه بواسطة البويضة، فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به، لا تتطابق مع كروموسومات أبيه وأمه من كل وجه، وإنما خليطا منهما.(1/168)
وقد أمكن في الوقت الحاضر، يعني يمكن للأطباء إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما، أو نفيه من خلال إجراء الفحص على جيناته الوراثية، وأثبتت التجارب أنها تصل في حالة النفي إلى حد قريب من القطع، مائة بالمائة، أما في حال الإثبات فتصل إلى ذلك، لكن بنسبة أقل، هذه نبذة مختصرة عن البصمة الوراثية أو الحمض النووي، هذه المسألة بحثت في مجمع الفقه الإسلامي أيضا لرابطة العالم الإسلامي، وصدر فيها قرار، وجاء في القرار: بأن البحوث والدراسات قد أفادت بأن البصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة تمتاز بالدقة لتسهيل مهمة الطب الشرعي، ويمكن أخذها من أية خلية بشرية، من الدم أو من اللعاب، أو من المني، أو البول أو غيره.
وأيضا جاء في قرار المجمع: أن نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، أو في نفيهم عنهما، وكذلك في إسناد العينة من الدم، أو المني، أو اللعاب التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها، فهي أقوى بكثيرٍ من القيافة العادية، والخطأ في البصمة الوراثية ليس واردا من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري، أو في عوامل التلوث ونحو ذلك.
إذا هذا توصيف للبصمة الوراثية، وأنها في نتائجها تصل إلى درجة قريب من القطع، وأن الخطأ فيها وارد، والخطأ الوارد ليس بسبب البصمة في حد ذاتها، وإنما بسبب التعامل معها: الجهد البشري، ويترتب على ذلك الأحكام الشرعية، وهي مهمة عندنا في هذه، يعني في بحث هذه المسألة، جاء في قرار المجمع أولا: " لا مانع شرعا من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة في إثبات الجرائم التي ليس فيها حد ولا قصاص؛ لخبر: " ادرءوا الحدود بالشبهات " وذلك يحقق العدالة والأمن في المجتمع، ويؤدي إلى نيل المجرم عقابه، وتبرئة المتهم، وهذا مقصد مهم من مقاصد الشريعة".(1/169)
فيمكن إذا أن يعتمد على، أو تعتبر البصمة الوراثية وسيلة من وسائل الإثبات في الجرائم التي ليس فيها حد ولا قصاص، وتعتبر بهذا من البينة، والبينة كما قال ابن القيم -رحمه الله-: اسم لما يبين الحق ويظهره، ولا تختص البينة بشهادة الشهود، بل تكون البينة بشهادة الشهود، وتكون بغير الشهادة من القرائن، وقرر ذلك ابن القيم - رحمه الله -، وذكر أن بعض القرائن أقوى من شهادة الشهود، خاصة إذا اجتمع أكثر من قرينة، فالبينة إذا: اسم لما يبين الحق، فإذا أتت عدة قرائن وبينت الحق تعين الأخذ بها، ولا يقال: إن البينة منحصرة في شهادة الشهود، فالشريعة لا تبطل حقا، ولا تكذب دليلا، ولا تبطل أمارة صحيحة، وقد أمر الله تعالى في خبر الفاسق: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (1) ولم يقل: فردوه، أمر الله تعالى في خبر الفاسق بالتبين والتثبت، ولم يأمر برده؛ فإن الفاسق قد يقوم على خبره شواهد من الصدق، شواهد تدل على صدقه، وحينئذ يجب قبوله والعمل به.
فإذا يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات الجرائم، في اعتبارها وسيلة لإثبات الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص، وإنما استثنيت الحدود الشرعية؛ لأنها تدرأ بالشبهات، فلا تعتبر البصمة الوراثية وسيلة لإثباتها مع هذا، ولكن في غير ذلك يمكن أن تعتبر وسيلة من وسائل إثبات الجريمة.
ثانيا: أن استعمال البصمة الوراثية في مجال النسم لا بد أن يحاط بمنتهى الحذر، والحيطة والسرية، فهذا قاعدة عامة في هذا، ولذلك لا بد أن تقدم النصوص والقواعد الشرعية على البصمة الوراثية، ويتفرع عن هذا الاعتماد على البصمة الوراثية في إثبات النسب أو في نفي النسب، أما في نفي النسب فجاء في قرار المجمع: لا يجوز شرعا الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، ولا يجوز تقديمها على اللعان.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 6.(1/170)
فلو أن شخصا شك في نسب ابنه إليه فذهب وحلل الحمض النووي أو البصمة الوراثية، فوجد أنه لا ينسب إليه، فإنه لا يعتمد على هذا شرعا في نفي النسب، وإنما إذا أراد أن ينفي هذا الولد عنه فالطريق الشرعي لذلك ما هو؟ اللعان، الطريق الشرعي أن يلاعن زوجته، على الصفة التي ذكرها الله تعالى في أول سورة النور، فإذا لاعن زوجته فإنه لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى أمه، فلا يعتمد إذا على البصمة الوراثية في نفي النسب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الولد للفراش " فما دامت أمه فراشا لهذا الرجل فهو ينسب إليه شاء أم أبى، وليس هناك إلا طريق واحد لنفيه وهو اللعان.
وأما في إثبات النسب ففي ذلك تفصيل: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعا، ويجب على الجهات المختصة منعه، وفرض العقوبات الزاجرة؛ لأن في ذلك المنع حماية لأعراض الناس وصونا لأنسابهم، إذا استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من النسب، هذا لا يجوز؛ هذا يفتح أبوابا من الشر على المجتمع، يفتح أبوابا من الشر، وبعض الناس عنده وسوسة، وربما تكون نفسيته غير سوية، وإذا كان هذا يحصل من بعض الناس في مسائل الطهارة، وربما أيضا في مسائل، يعني يسيرة، فكيف بإثبات النسب! لو فتح هذا الباب فإنه سيندفع أناس عندهم وسوسة، وربما يكون عندهم شيء من الاضطراب في النفسية إلى التأكد من نسب أولادهم، وتفتح أمور من الشر على الناس؛ ولهذا فإنه ينبغي سد هذا الباب، فيقال: لا يجوز استخدام البصمة الوراثية بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة، ولكن يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب في حالات:(1/171)
الحالة الأولى: حالات التنازع على مجهول النسب، بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء، سواء كان التنازع على مجهول النسب بسبب انتفاء الأدلة، أو بسبب تساويها، أو بسبب الاشتراك في وطء الشبهة، ونجد أن الفقهاء يذكرون هذا في باب اللقيط فيقولون: إذا ادعى إنسان نسب آخر فإنه يلحق به؛ لأن الشريعة تتشوف لحفظ الأنساب، لكن إذا ادعاه أكثر من واحد، أتى اثنان وادعيا نسب هذا الطفل فإلى أيهما ننسب؟ قال الفقهاء: فإنه يؤتى بالقائف، ومن ألحقه به لحقه، فإن ألحقته القافة بواحد منهما لحقه، ولكن فرض الفقهاء في هذا مسألة، ومسألة قد وقعت، وقعت في زمن الصحابة، وهي: إذا ألحقت القافة هذا الطفل باثنين فأكثر: اثنان ادعيا نسب هذا الطفل، أتينا بالقافة قالوا: نرى أنه يشبه هذا ويشبه هذا، فألحقت القافة هذا الطفل باثنين، فما الحكم في هذه المسألة؟ اختلف فيها العلماء على قولين: القول الأول وهو قول الجمهور، وهو: أنه يلحق بهما جميعا، فيقال: فلان بن فلان آل فلان، وابن فلان آل فلان، هكذا قال الفقهاء، وهو رأي الجمهور: الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
وقد ورد في ذلك أثر رواه سعيد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعا فجعله عمر بينهما، وهذه القصة قال عنها ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد قال: إن إسنادها في غاية الصحة، وروي نحوها عن علي - رضي الله عنه - وقال ابن القيم: لا يعرف في الصحابة من خالف عمر وعليا، بل حكم بهذا عمر في المدينة بحضرة المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر، فيلحق إذا بهما جميعا، ولأنه كما يقال من النظر، كما ينعقد الولد من ماء الرجل والمرأة، فلا مانع عقلا من أن ينعقد الولد من ماء رجلين.(1/172)
والقول الثاني: في المسألة وهو مذهب الشافعية، قالوا: إنه لا يمكن أن يلحق ولد بأبوين، لا يمكن، ولا يمكن أن يكون للإنسان أكثر من أب واحد؛ لأن الله تعالى أجرى العادة بأن يكون للإنسان أب واحد كما أن له أما واحدة، ولهذا فإنه لا يمكن أن يوجد للإنسان أكثر من أب واحد، هذا الخلاف قائم وموجود بين الفقهاء، في الوقت الحاضر قد لا نحتاج لمثل هذا الخلاف، وإنما نستطيع أن نرجح: هل هذا الولد ابن لهذا الذي قد ادعى أو للآخر عن طريق البصمة الوراثية أو الحمض النووي، يمكن أن نرجح هذا.
والأطباء في الوقت الحاضر يقولون: لا يمكن أن ينعقد الولد من ماء أبوين، وحينئذ يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية أو الحمض النووي في الترجيح في هذه الحال، تكون البصمة الوراثية مرجحة عند هذا الخلاف، وهذا هو الذي قد عني في قرار المجمع في حالات التنازع على مجهول النسب، بمختلف صور التنازع التي ذكرها الفقهاء.
أيضا الحالة الثانية: حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات، ومراكز رعاية الأطفال ونحوها، وكذا الاشتباه في أطفال الأنابيب، يحصل أحيانا في بعض المستشفيات اشتباه في المواليد، وكذلك أيضا في مراكز رعاية الأطفال أطفال الأنابيب، فعند هذا الاشتباه يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات النسب.
أيضا ثالثا: يمكن أن يستفاد من البصمة الوراثية في إثبات النسب في حال ضياع الأطفال، واختلاطهم بسبب الحوادث، أو الكوارث، أو الحروب، وتعذر معرفة أهلهم، أو وجود جثث لم يمكن التعرف على هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين، وهنا يعني جاء في قرار المجمع: " يوصي المجمع أن تمنع الدولة إجراء الفحص الخاص بالبصمة الوراثية إلا بطلب من القضاء، وأن يكون في مختبرات للجهات المختصة، وأن يمنع القطاع الخاص من مزاولة هذا الفحص؛ لما يترتب عليه من المخاطر الكبرى "، وهذا هو الذي عليه العمل في المملكة.(1/173)
وصدر في هذا قرار من مجلس الوزراء: بأن يكون التحليل عن طريق البصمة الوراثية بأمر قضائي، وذلك كما ذكرنا لما يحف ذلك من المخاطر العظيمة؛ لأنه لو فتح هذا المجال، وهذا الباب للناس لاندفع أناس إلى التأكد من إثبات نسب أولادهم إليهم، فتنفتح أبواب من الشر على الناس؛ ولهذا فهذه التوصية التي أوصى بها المجمع عمل عليها العمل هنا في المملكة، فيكون التحليل عن طريق البصمة الوراثية في حدود ضيقة، ويكون ذلك أيضا بأمر قضائي، يكون ذلك بطلب من القاضي، ويمنع من مزاولة البصمة الوراثية القطاع الخاص، ويكون ذلك خاصا بالقطاع الحكومي في حالات ضيقة في حدود الضرورة؛ لأن فتح هذا الباب فيه خطورة كبيرة، وفيه فتح لأبواب من الشر، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة وهذه النازلة، ونكتفي بهذا القدر، ونجيب عما تيسر من الأسئلة.
يقول: الأطباء قد يثبتون الحمل بعد الجماع بساعتين فهل يجوز إسقاطه؟
إذا وجد في ذلك مصلحة، إذا وجد في ذلك مصلحة.
إذا كان العلماء اختلفوا في جواز العزل هل يجوز أو لا يجوز؟
وإن كان الصحيح جوازه ، لكن ما بالك بالحمل إذا انعقد إذا انعقد الحمل فإذا لا يجوز الإسقاط في قول الأربعين الأولى حتى فيما ذكره السائل بعد الجماع بساعات إلا عند وجود مصلحة شرعية .
هل يمكن تحديد تشويه الطفل أو الجنين في طور الأربعين الأولى؟
هذا يرجع للأطباء ، والذي أعرفه أنه حتى الآن لا يمكن ذلك في طور الأربعين الأولى ، لكن قد يوجد ذلك في المستقبل ، والطب كما ترون فيه تقدم كبير ، فيحتمل أن يوجد ذلك في المستقبل .
هل ولد الزنا إذا كان قبل مائة وعشرين يوما يجوز إسقاطه وهل فيه مصلحة؟(1/174)
نعم ، قبل مائة وعشرين يوما الذي يظهر أنه يجوز إسقاطه في هذه الحال ، ويعتبر ذلك مصلحة إذا يعني رؤي ذلك ، رؤي أن المصلحة في إسقاطه خاصة إذا كانت الأم قد اغتصبت ونحو ذلك ، فيجوز إسقاطه باعتبار أنه ليس بإنسان بعد لم تنفخ فيه الروح ، وعند كثير من أهل العلم يدخل هذا في المصلحة المعتبرة شرعا بالضوابط .
أين نجد الكلام الذي تكلمت عنه في الحمض النووي؟
موجود في بحوث المجمع الفقهي الإسلامي ، عند إصدار قرار كان هناك مجموعة من البحوث ؛ لأن طريقة المجمع أن يستكتب باحثون وأطباء أيضا ، يعني فقهاء وأطباء في المسألة المراد دراستها ، وتجمع هذه البحوث ويحصل مناقشات مستفيضة ، ثم يصدر القرار ، فهذه المعلومات نقلتها من بعض البحوث ، من بعض بحوث المجمع ، وأيضا هناك بعض الكتابات الموجودة المعاصرة ، وعندنا في قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام رسالة دكتوراة في الهندسة الوراثية .
إذا أسقط الجنين على أن بقاءه سوف يهلك أمه فهل بعد إسقاطه تجب فيه الدية؟
هو في الحقيقة هنا يعتبر قتلا لإنسان ودية الجنين كما ورد في الحديث غرة عبد أو أمة ، يعني قيمة العبد أو الأمة .
هل يعتبر الإجماع في المجمع الفقهي إجماعا في هذا الزمان؟
لا يعتبر إجماعا هو رأي لطائفة من الفقهاء يمثلون عددا من فقهاء العالم الإسلامي ، لكنه ليس إجماعا ، وقد يكون الصواب في خلاف رأي المجمع وسيأتي لهذا ذكر ، هذا سأذكره إن شاء الله تعالى لعل في مسألة الموت الدماغي ، الموت الدماغي صدر فيه قرار من مجمع الرابطة ، ومن المجمع الدولي ، واختلف المجمعان ، وسوف نبين إن شاء الله تعالى الراجح منهما فليس كل قرار المجمع يكون هو الصواب المقطوع به ، لكنه يعطي مؤشرا على ذلك والغالب أنه يعني قرارات المجمع لا تصدر إلا بعد دراسات وبحوث ومناقشات مستفيضة .
الأسئلة متكررة ، هل تثبت الجريمة إذا لم يكن هناك شهود ، هل تثبت بالتصوير عن طريق الفيديو؟(1/175)
معلوم أن التصوير يدخله في الوقت الحاضر التزوير بشكل كبير ، ويتفنن في ذلك ؛ لهذا فإنه لا يثبت عن طريق التصوير ؛ لأنه في الإمكان تركيب الصور ، والتفنن في هذا يعني معروف ، لكن يمكن أن يستأنس بها ، يستأنس بها فقط مع الأدلة الأخرى ، لكن أن يثبت بهذا الطريق وحده فهذا غير ممكن ، هذا غير ممكن بسبب أنه يدخله التزوير ، لكن يمكن يعتبر قرينة يستأنس بها ، لا يعتمد عليها .
هناك إشكال كيف نعرف أن الله يعلم الغيب ، ونحن الآن نعرف الجنين ذكرا أو أنثى؟
أولا : خذها قاعدة لو كان من علم الغيب لما استطاع البشر أن يعرفوه ، فهذا دليل على أن معرفة البشر لهذا ليس من علم الغيب ، والله تعالى هو الذي أقدر البشر على ذلك ، وكما أن الله تعالى يطلع بعض خلقه يطلع الملائكة يطلع الملك الذي يؤمر بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ، فلا مانع أن يطلع بعض البشر على هذا الجنين ، ولا يكون في ذلك معرفة لعلم الغيب ، والله تعالى يقول : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } (1) لا يختص ذلك بكونه ذكرا أو أنثى ، بل يشمل جميع الأوصاف : كونه ذكرا أو أنثى ، كونه على وصف كذا أو كذا ، يشمل جميع الأوصاف ، ولا يختص ذلك بكونه ذكرا أو أنثى ، وكما أن الله تعالى أطلع الملك على ذلك فلا مانع من أن يطلع بعض البشر على ذلك .
ما حكم الرسوم الشهرية للجوال التي تفرضها الشركة على المشتركين؟
لا بأس بها هذه الرسوم رسوم مقابل خدمة ، فلا حرج فيها ولا بأس بها .
بعض الناس يتكلمون ويفتون بالنشرة ، ويقولون بجوازها إذا استخدمت كل الوسائل الشرعية للعلاج ولم يُشْفَ أن يذهب للسحرة ويطلب منه فك السحر بالسحر؟
__________
(1) - سورة لقمان آية : 34.(1/176)
القول بجواز النشرة بإطلاق هذا يفتح باب الشعوذة والسحر على الناس ؛ لأن كل من يذهب إلى دجال أو مشعوذ أو ساحر ، سوف يدعي أنه إنما ذهب نشرة ، وبالتالي ينفتح هذا الباب ، وإن كان العلماء قد اختلفوا في النشرة ، والأقرب هو أنها لا تجوز ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها فقال : " هي من عمل الشيطان " ولكن حيث إن المسألة فيها خلاف أقول : من كان له اجتهاد في هذه المسألة وأراد أن يفتي بها ، فينبغي أن يفتي فتوى خاصة لشخص معين يعرف أنه حالته وصلت إلى مرحلة الضرورة ، وأيضا يعرف أنه لن يكون عنده مسايرة لذلك الساحر أو الدجال أو المشعوذ في دجله وشعوذته ، يعني في حالات خاصة ، أما أن يفتح الباب للعامة بإطلاق فلا شك أن هذا فيه خطورة كبيرة ، ويفتح بابا ، أبوابا من الشر ، يفتح باب الشرك الأكبر ، لأن كل من ذهب لهذا المشعوذ أو لهذا الساحر سوف يدعي أنه إنما ذهب إليه لأجل فك السحر ، لأجل النشرة ، وبالتالي يقع الناس في الشرك وفي الشعوذة وفي الدجل ، بسبب فتح هذا الباب ، على أن القول الصحيح في النشرة أنها لا تجوز ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها فقال : " هي من عمل الشيطان "
هل يجوز منع الحمل أساسا للاكتفاء بما لدى الزوجين من الأولاد؟
منع الحمل لا يجوز لكن تنظيم الحمل يجوز ، تنظيم الحمل لا بأس به ، ومن ذلك العزل فإن العزل فيه نوع تنظيم للحمل ، وقد قال جابر : كنا نعزل والقرآن ينزل ، يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهم على هذا ، فتنظيم الحمل لا بأس به ، وأما منعه بإطلاق فإن هذا لا يجوز نعم .
على كل حال ينبغي أن يسد هذا الباب ، ينبغي سد هذا الباب .
هذا أيضا أكثر من سؤال متكرر في فك السحر بالسحر . لو كان في ولادة الحمل السليم من العيوب خطر على حياة الأم لضعفها ومرضها؟
تكلمنا عنه .
هل يعمل بالحمض إذا تنازع في الطفل شخصان؟
نعم يعمل بهذا ويعتبر مرجحا .
هل يصلى على الجنين إذا أسقط؟(1/177)
إذا كان بعد مائة وعشرين يوما فيصلى عليه ؛ لأنه إنسان نفخت فيه الروح فيصلى عليه ، ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ، أما إذا كان قبل مائة وعشرين يوما فلم تنفخ فيه الروح بعد ، فليس بإنسان ولهذا فإنه لا يصلى عليه ، وإنما يدفن من غير أن يصلى عليه لأنه لم تنفخ فيه الروح بعد .
امرأة حملت من الزنى وبعد أن تبين لأقاربها أنها حامل اجتمعوا عليها ضربا حتى أسقطت الحمل؟
على كل حال ما دام أنها أسقطت انتهى الأمر .
ما الضابط في تشوه الجنين؟
الضابط في هذا مرجعه إلى الأطباء أهل الاختصاص الأطباء أهل الاختصاص هم الذين يقررون مسألة تشوه الجنين .
هل بالإمكان استخدام الحمض النووي في تحديد والد الطفل اللقيط؟
في الأحوال المعتادة هذا لا يجوز ؛ لأن هذا فيه فتح أبواب الشر والتشكيك والوسوسة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وضع لنا قاعدة : " الولد للفراش " إذا شك هذا الرجل في ولده وأراد أن ينفيه ، فليس له إلا أن يلاعن ليس له إلا الملاعنة ، أما أن يأتي ويطلب استخدام هذا الحمض ، فهذا لا يجوز كما جاء في قرار المجمع أن هذا لا يجوز ، إنما يلجأ إليه عند التنازع ، التنازع في إثبات النسب ، يعني يقول هذا يدعي أن هذا ابنه ، والآخر يدعي أن هذا ابنه فهو لا يلجأ إليه ، أما أن شخصا ينسب لوالديه فيأتي إنسان ، ويريد أن يتأكد من صحة النسب ، فهذا لا يجوز .
ولا تقدم البصمة على لا تقدم على اللعان ، بل نقول : إذا أردت أن تنفي هذا الولد ، فليس لك من طريق شرعي سوى اللعان ؛ ملاعنة الزوجة ، وليس هناك طريق آخر .
ما حكم العزل وما حدوده الشرعية ، وهل ورد العزل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/178)
نعم ، العزل لا بأس به ، العزل جائز ، قول جابر - رضي الله عنه - " كنا نعزل والقرآن ينزل" . وفي معنى العزل استخدام المرأة لبعض موانع الحمل لأجل تنظيم الحمل ، هذا لا بأس به ، بشرط أن لا يكون في ذلك ضرر كبير عليها ، فهذا كله لا بأس به .
وأما قول السائل : وهل العزل موجود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فالجواب : نعم هو موجود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان بعض الصحابة يفعله ، وجابر يقول : " كنا نعزل والقرآن ينزل" ، ونكتفي بهذا القدر والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مسألة التصوير
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
معنا في هذا الدرس مسألة ونازلة من النوازل المهمة ، والتي يتكرر السؤال عنها ، وتعم بها البلوى ، وهي من أبرز نوازل هذا العصر الذي نعيش فيه ، وهي التصوير ، التصوير بأنواعه ، التصوير الفوتوغرافي والتليفزيوني وما في معناهما ، أو ما يعبر عنه بكلمة التصوير الآلي .(1/179)
وقبل أن ندخل في بحث هذه المسألة أقول : إن النصوص قد وردت بتحريم التصوير والتشديد فيه ، وظاهر هذه النصوص يدل على أن التصوير من كبائر الذنوب ، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " متفق عليه ، وحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة " متفق عليه ، وحديث أبي جحيفة - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المصور " أخرجه البخاري في صحيحه .
وحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا تعذبه في جهنم " رواه مسلم ، هذه النصوص ، وما جاء في معناها تدل على تحريم التصوير مطلقا ، سواء كانت الصور لها ظل أو ليس لها ظل ، أي سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة ، وسواء كانت في حائط أو في ستر أو في قميص ، أو في مرآة أو في ورق أو غير ذلك ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين ما له ظل وغيره ، وإنما أطلق .(1/180)
وقد جاء في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى التصاوير على ستر عندها تلون وجهه وهتكه ، وقال : " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله " وهذا الحديث يدل دلالة ظاهرة على أن الصور التي ليس لها ظل ، أنها تدخل في عموم الوعيد ؛ لأن هذا الستر إنما هو صور منقوشة ، جاء في صحيح مسلم أنها صور لخيل ، استثنى العلماء من تصوير ذوات . . . من التصوير عموما ، استثنوا أمورا فأجازوا فيها التصوير : الأمر الأول : تصوير غير ذوات الأرواح ، مروي ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فإنه يجوز تصوير الشجر والحجر والجبل ونحو ذلك ، من الأمور الجائزة ، ولا تدخل في التصوير المحرم .
ثانيا: إذا كانت الصور ممتهنة ، فإنها تجوز ، مثل أن تكون وسادة أو غطاء أو سفرة ، أو نعالا حذاء ، ونحو ذلك ، ويدل لهذا أنه جاء في حديث عائشة السابق في قصة الستر الذي فيه صور ، قالت عائشة : فجعلنا منه وسادة أو وسادتين . وفي حديث أبي هريرة ، أن جبريل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في القصة المشهورة قال : " فمر برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ، ومر بالستر فليقطع منه وسادتان منبوذتان توطئان " أخرجه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح من جهة الإسناد . فهذا يدل على أن الصور إذا كانت ممتهنة أنها جائزة .(1/181)
الأمر الثالث مما استثناه العلماء من التصوير: لعب البنات ، وألعاب الأطفال عموما ، ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : " كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت صواحب يلعبن معي : "جاء عند أبي داود والنسائي بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كشف الستر ، ورأى تلك الألعاب قال: " ما هذا يا عائشة ، قالت : بناتي . قالت : ورأى فيها فرسا له جناحان ، فقال : ما هذا؟ قلت : فرس له جناحان ، ألم تسمع أن لسليمان خيل لها أجنحة ، فضحك - عليه الصلاة والسلام - ولم ينكر عليها " وهذا هذه المسألة محل خلاف بين العلماء ، فمنهم من قال : إن هذا منسوخ ، ولكن الصحيح أنه لم ينسخ ، وهو قول جماهير أهل العلم ، أنه يجوز ذلك للصغار ، وأنه يجوز للصغار من الصور ما لا يجوز للكبار .
والحكمة في ذلك قيل: إن ألعاب الصغار فيها نوع امتهان فتكون من القسم الذي ذكرناه ، وهو الصور الممتهنة ؛ لأن الصور إذا كانت مع الطفل ، فلا يظن أنها تعظم ، وإنما تكون صورا ممتهنة ، وقيل : إن الحكمة أن فيها تدريبا للصغار خاصة إذا كن فتيات ، ففيها تدريب لها على أمر بيوتهن .
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: استدل بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات ، وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور ، وبه جزم عياض ونقله عن الجمهور ، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات ؛ لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن ، هذه مقدمة بين يدي بحث هذه المسألة .
نعود بعد ذلك لمسألتنا وهي النازلة التي بين أيدينا وهو التصوير الآلي بأنواعه سواء كان تصويرا فوتوغرافيا أو تصويرا تليفزيونيا ، وقبل أن نذكر أقوال العلماء في هذه المسألة نريد أن نلقي الضوء على كيفية التصوير ، كيفية عمل التصوير ؛ لأن فهم هذا مهم جدا لمعرفة الحكم الشرعي ؛ ولأنه وقع خلط في بعض المسائل بسبب عدم فهم صورة المسألة فهما صحيحا .(1/182)
وسبق أن ذكرنا في أول الدورة أن فهم الفقيه للصورة الحقيقية للمسألة على وجه دقيق مهم جدا في تقرير الحكم الشرعي ، وأكبر إشكالية تواجه الفقهاء المعاصرين هو تصوير المسألة تصويرا واضحا ودقيقا ، ولهذا فإنه يقع في كثير من الأحيان الخلاف بسبب عدم الاتفاق على التصوير الدقيق للمسألة ، فأقول : لفهم عملية وطبيعة التصوير من أثرٍ في الحكم فلعلي ألقي الضوء على كيفية التصوير ؛ حتى يتبين الأمر ويتضح بشكل جلي .
التصوير بأنواعه سواء كان فوتوغرافيا أو تليفزيونيا يشبه نظام الرؤية في العين ، بل إنه اقتبست فكرة التصوير من عين الإنسان ، عين الكائن الحي عموما ، كما أنه اقتبست فكرة الطيران من الطائر وكيف يطير ، هكذا أيضا التصوير هو يشبه نظام الرؤية في العين ، ولهذا يسميه بعض الباحثين بالعين الصناعية ، والإنسان عندما يرى الأشياء بعينه هل يصدر من العين أشعة ، هل يصدر من العين أشعة الضوء لكي يرى بها الأشياء؟ أم أن الأشياء التي يراها هي التي تنعكس منها أشعة الضوء لتسقط على العين؟
الجواب ما هو؟ الأول أو الثاني؟ الثاني ، لا شك أن الجواب الثاني ، ولهذا لا يمكن للعين أن ترى في الظلمة ، لو كانت تصدر من العين أشعة لترى بها الأشياء لرأى الإنسان في الظلام ، والواقع أن الإنسان لا يمكن أن يرى في الظلمة ، فهذا يدل على أن الأشياء التي تراها العين تنعكس منها أشعة فتسقط على العين فترى العين الأشياء ، ولهذا يقولون : إن العين لا ترى في الظلمة ، أما في الأماكن المضاءة ، فإن أشعة الضوء في ذلك المكان تنعكس على العين .(1/183)
آلة التصوير هي في الحقيقة مأخوذة فكرتها من عين الكائن الحي ، وتحتوي آلة التصوير في مقدمتها على عدسة ، أو على مجموعة عدسات تقوم مقام الجسم البلوري في عين الإنسان ، وخلف هذه العدسة يوجد في كثير من أنواع آلات التصوير يوجد فتحة يمكن التحكم باتساعها ، وهي التي تضبط نسبة الضوء التي يسمح لها بالدخول إلى الفيلم ، تقوم هذه الفتحة مقام القزحية في عين الإنسان والتي تتحكم بنسبة الضوء الداخل إلى الشبكية ، والفيلم الحساس في آلة التصوير إذا كانت آلة التصوير فوتوغرافية يعني كاميرا أو على لوح الميجا في التصوير التليفزيوني يقوم مقام الشبكية في العين ، لاحظ كل شيء في آلة التصوير "التصوير الآلي" يقابل الشيء في العين ، فهذا الفيلم أو هذا اللوح يقوم مقام الشبكية في العين ، فعند ضغظ زر التصوير يدخل الضوء المنعكس عن الجسم المراد تصويره إلى داخل الآلة عبر العدسة ، حتى يسقط هذا الضوء على الفيلم ، أو على لوح الميجا في التصوير التليفزيوني ، والذي قلنا : إنه شبيه بالشبكية في عين الإنسان .
هذا الفيلم أو هذا اللوح يكون مطليا بمادة حساسة تتأثر بالضوء ، تتكون من أملاح الفضة ، تتكون من أملاح الفضة ثم يخضع هذا الفيلم للمعالجة الكيميائية وتظهر الصورة المرادة ، وهذا في التصوير الفوتوغرافي ، أما في التصوير التليفزيوني ، فإنه عند سقوط الضوء المنعكس على لوح الميجا يسري تيار كهربائي في الحبيبات عليه فتتكون إشارات كهربائية ترسل على شكل موجات كهرومغناطيسية عبر هوائي الإرسال لتنتشر في الفضاء وتستقبلها هوائيات الاستقبال لأجهزة التليفزيون ، ثم تتحول هذه الإشارات الكهرومغناطيسية إلى أجهزة التليفزيون ، وأجهزة التلفاز هذه تحولها إلى إلكترونات وتترجمها في النهاية إلى صورة .(1/184)
فنجد بهذا أن فكرة التصوير الفوتوغرافي والتليفزيوني ، فكرة واحدة لكن التصوير التليفزيوني تتحرك فيه الصورة بسرعة ، بحيث لا يظهر ذلك التحريك السريع للمشاهد ، ووجه هذا أن الباحثين اكتشفوا خاصية في العين استطاعوا من خلال هذه الخاصية اكتشاف التصوير التليفزيوني ، ما هي هذه الخاصية؟
هذه الخاصية تسمى عند أهل الاختصاص بالخاصية الانطباعية ، التي تعني أن الصورة المشاهدة تبقى منطبعة على شبكية العين من واحد إلى ستة عشرة مرة في الثانية ، في الثانية الواحدة لاحظ ، بمعنى أن المشهد لو احتجب عن العين ست عشرة مرة ، والمشهد أمام العين في مدة ثانية واحدة ، فإن المشهد يظل في مرأى العين طبيعيا وتربط العين الصور بعضها ببعض فتراها صورة واحدة متواصلة الظهور ، يعني لو عرض عليك هذه الصورة ست عشرة مرة في ثانية واحدة ، لاحظ أنها في ثانية في زمن قصير جدا لا تظهر هذه الحركة السريعة لا تظهر لك ، فاستفادوا من هذه الخاصية في العين ، فجعلوا المشهد صورا متوالية سريعة ، بمعدل ست عشرة صورة في الثانية وقد تزيد فتصل إلى خمس وعشرين صورة في الثانية ، ولهذا فإن التصوير التليفزيوني هو نفسه التصوير الفوتوغرافي ، لكنه مسرع سرعة كبيرة تصل ما بين ست عشرة إلى خمس وعشرين مرة في الثانية ، بحيث لا يظهر ذلك التحريك السريع لا يظهر للعين .(1/185)
ولهذا تجد أنه في بعض الأحيان عندما يحصل خلل في البث التليفزيوني ويتوقف يتوقف على صورة فوتوغرافية ، وبهذا يتبين أنه لا فرق بين فكرة التصوير الفوتوغرافي والتصوير التليفزيوني ، وبه نعرف أن من فرق بينهما في الحكم الشرعي فأجاز التليفزيوني وحرم الفوتوغرافي أن هذا مبني على تصور غير دقيق لعملية التصوير ، بل إنه يلزم من أجاز التصوير التليفزيوني أن يجيز التصوير الفوتوغرافي ويلزم من حرم التصوير الفوتوغرافي أن يحرم التصوير التليفزيوني ، أما التفريق بينهما في الحكم فهو يشبه أن يكون تناقضا ؛ لأن فكرتهما في الأساس هي في الحقيقة فكرة واحدة ، لكن في التليفزيوني تسرع الصورة ، من ست عشرة مرة إلى خمس وعشرين في الثانية الواحدة .
لكن بعض العلماء الذين فرقوا بينهما رأوا أن الفوتوغرافي تكون الصورة فيه ثابتة ، بينما التليفزيوني لا تبقى ثابتة بل تختفي بمجرد إطفاء جهاز التلفاز ، ولكن هذا الفرق في الحقيقة فرق غير مؤثر ولا يقوى لأن يكون مبررا للتفريق بينهما ؛ لأن هذا الفرق يخضع لطبيعة استخدام كل منهما ، وإلا فإن فكرة عملهما في الأساس واحدة .(1/186)
وأقول : يلزم من قال بأن هذا الفرق مؤثر ، أنه لو أمكن إخفاء الصور الفوتوغرافية يكون حكمها حكم الصور التليفزيونية ، وهذا لا يقول به أصحاب هذا القول ، وقد وجد هذا بالفعل في الوقت الحاضر ففي بعض أنواع الهواتف المحمولة الآن ، بعض أنواع الهواتف المنقولة ، يمكن إبراز الصور الفوتوغرافية ، ويمكن إخفاؤها داخل جهاز الهاتف ، هذا التصوير أيها الإخوة أفادنا الآن في معرفة طبيعة التصوير ، وأنه حبس لهذه الأشعة التي تصدر من الأجسام وتقع على عدسة التصوير ، وأنه لا فرق بين التصوير الفوتوغرافي والتليفزيوني من حيث العمل ، والفكرة إلا أن التليفزيوني تكون الصورة فيه مسرعة بدرجة كبيرة ، والفوتوغرافي ليس كذلك ، وحينئذ فلا بد أن يكون حكمهما واحدا والتفريق بينهما لا وجه له ؛ لأن فكرتهما واحدة ، فإذا كان فكرتهما واحدة فيتعين أن يكون حكمهما واحدا .
اختلف العلماء المعاصرون في حكم التصوير الآلي بأنواعه ، على قولين مشهورين:
القول الأول: أن التصوير بأنواعه سواء كان فوتغرافيا أو تليفزيونيا ، أنه محرم كسائر أنواع التصوير اليدوي ، ولكن يجوز منه ما تدعوا إليه الضرورة أو تقتضيه المصلحة كالتصوير لأجل بطاقة الأحوال ورخصة القيادة ، والدراسة والوظيفة ونحو ذلك ، ومن أبرز من ذهب إلى هذا القول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله .
والقول الثاني في المسألة: أن هذا التصوير بأنواعه سواء كان فوتوغرافيا أو تليفزيونيا ، أنه لا يدخل في التصوير المحرم ، وأنه جائز ولا بأس به ، ومن أبرز من قال بهذا القول الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله .
ونأتي لأدلة أصحاب كل قول ، أما القول بالتفريق بينهما فنرى أنه قول ضعيف لا يستقيم ، لأننا لما شرحنا عملية كيف تتم عملية التصوير ، رأينا أن الفكرة واحدة ، ولهذا فإننا نستبعد القول بالتفريق بين التليفزيوني والفوتوغرافي .(1/187)
أدلة القول الأول القائلون بتحريم التصوير الفوتوغرافي أو التليفزيوني التصوير الآلي عامة ، قالوا : إن هذا التصوير لا يخرج عن كونه نوعا من أنواع التصوير ، ولذلك فإنه يسمى تصويرا لغة وشرعا وعرفا ، قالوا : أما كونه يسمى تصويرا لغة ، فلأن الصورة معناها في اللغة الهيئة والشكل ، وهذا يصدق على هذا النوع من التصوير ، وأما كونه يطلق عليه تصوير شرعا فلأن النصوص جاءت بشأن الصور والتصوير عامة ، فتشمل كل ما يسمى تصويرا ، وأما كونه يسمى تصويرا عرفا فلأن هذا مما تعارف الناس على أنه تصوير ، ويسمونه تصويرا ، ويسمون الآلة آلة تصوير ، ويسمون من يقوم بضغط الزر مصورا .
وثانيا: قالوا إن هذا التصوير الآلي هو ليس مجرد التقاط للصورة التي خلقها الله وإنما يقوم المصور بعمل وبجهد فيقوم بتصويب الآلة نحو الهدف واتخاذ الإجراءات التي تكون أثناء عملية التصوير ، حتى تنتج الصورة بالإضافة إلى الجهد الذي يبذله صناع الآلة في صنعها وإعدادها ، وما يقوم به المصور بعد التقاط الصورة من التحميض ونحو ذلك ، فهو يقوم بعمل ، فهو يشبه من يقوم بالتصوير غير الآلي ، كل منهم يقوم بعمل لإيجاد هذه الصورة ، ثم إنه لا أثر للاختلاف في وسيلة التصوير وآلته ، وإنما العبرة بوجود الصورة ، فمتى وجدت وكانت هذه الصورة لذوات الأرواح وجد الحكم وهو التحريم .
ثالثا: قالوا إن التصوير الفوتوغرافي هو إنما هو تطور لمهنة التصوير اليدوي كما تطورت سائر المهن والصناعات ، فكما أن كثيرا من المصنوعات كانت قديما تصنع باليد ، ثم أصبحت الآن تصنع آليا هكذا الصور ، كانت في السابق تكون يدويا ، وتطورت في الوقت الحاضر فأصبحت آليا ، وحكمهما واحد .(1/188)
رابعا: قالوا إن الأحاديث التي وردت بالوعيد الشديد في التصوير قد جاء فيها التنصيص على علة المضاهاة قالوا : ووجود المضاهاة في التصوير الآلي أكثر من غيره من أنواع التصوير ، فالمضاهاة في هذا النوع من التصوير شديدة ، لمطابقتها للمصور ، هذه أبرز أدلة هذا القول .
أما القائلون بالجواز فوجهتهم قالوا:
أولا: إن التصوير الآلي شبيه تماما بالصورة التي تظهر على المرآة ، أو على الماء أو على أي سطح لامع ، ولم يقل أحد من أهل العلم بأن صورة الإنسان على المرآة ونحوها أنها حرام ، والصور الفوتوغرافية والتليفزيونية هي في الحقيقة كصورة الإنسان في المرآة إلا أنها قد ثبتت بسبب تقدم الصناعة والتطور التكنولوجي ، فإذا كنتم ستحرمون التصوير الآلي ، يقول أصحاب هذا القول إذا كنتم ستحرموا التصوير الآلي فحرموا إذا صورة الإنسان في المرآة ؛ لأنها تظهر الصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - .(1/189)
وثانيا: قالوا : إن التصوير الآلي ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به النصوص ، ووجه ذلك أن التصوير هو مصدر: صور يصور ، أي جعل هذا الشيء على صورة معينة ، كما قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } (1) وقال سبحانه : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } (2) فالمادة تقتضي أن يكون هناك فعل في نفس الصورة ؛ لأن ما كان على صيغة فعل في اللغة العربية هذا هو مقتضاه ، ونقل الصورة بالآلة ليس على هذا الوجه ، فلم يحصل من المصور تخطيط بيده يشابه خلق الله تعالى ، وغاية ما في الأمر أنه سلط الآلة على هذا الشيء الذي يريد تصويره فانطبع بالصورة خلق الله على الصفة التي خلقها الله تعالى ، قالوا : كما أنه لو صور إنسان كتابة شخص آخر بالآلة بآلة التصوير ، لا يمكن أن يقال : إن هذه الصورة أنها كتابة المصور ، وإنما هي كتابة الأول ، وإنما هي كتابة الأول ، نقلت بواسطة الآلة إلى ورقة أخرى ، وهذا بعكس ما لو نقلها الثاني بيده فإنه يقال : إنها كتابة الثاني ، وإن كان الكلام للكاتب الأول ، لأنه حصل منه في هذه الحال عمل وكتابة بيده .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 6.
(2) - سورة غافر آية : 64.(1/190)
فالتصوير الآلي ليس فيه تشكيل ولا تخطيط ولا تفصيل ، وإنما هو حبس للصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - وأنقل هنا كلام الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله- في هذا أو بعض كلامه قال : " إذا كان التصوير بآلة فوتوغرافية فلا يدخل في التصوير ولا يستطيع الإنسان أن يقول : إن فاعله ملعون ؛ لأنه لم يصور في الواقع فإن التصوير مصدر صور يصور فالمادة تقتضي أن يكون هناك فعل في نفس الصورة ، ومعلوم أن نقل الصورة بالآلة ليس على هذا الوجه ، وإذا كان ليس على هذا الوجه فلا نستطيع أن ندخله في اللعن ، ونقول : إن هذا الرجل ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه كما يجب علينا التورع في إدخال مظاهر اللفظ عدم دخوله فيه يجب علينا التورع في منع ما لا يتبين لنا دخول اللفظ فيه ؛ لأن هذا إيجاب وهذا سلب ، فكما نتورع في الإيجاب نتورع أيضا في السلب ، وكما نتورع في السلب يجب أن نتورع في الإيجاب ، قال :
فالمسألة ليست مجرد تحريم ولكن سيترتب عليها العقوبة ، فهل نشهد أن هذا معاقب باللعن وشدة الظلم ، وما أشبه ذلك؟ لا نستطيع أن نجزم إلا بشيء واضح ، ولهذا يفرق بين رجل أخذ الكتاب الذي خطته يده وألقاه في الآلة الفوتغرافية ، وحرك الآلة فانسحبت الصورة ، فيقال : إن هذا الذي خرج بهذا الورق رسم الأول ويقال هذا خطه ، ويشهد الناس عليه ، وبين أن آتي بخطك أقلده بيدي أرسم مثل حروفه وكلماته ، فأنا الآن حاولت أن أقلدك وأن أكتب كما كتبت ، وأصور كما صورت ، أما المسألة الأولى فليس مني فعل إطلاقا ولهذا يمكن أن أصور في الليل ويمكن أن يصور الإنسان وقد أغمض عينيه ، ويمكن أن يصور الرجل الأعمى فكيف نقول : إن هذا الرجل مصور؟ فالذي أرى أن هذا لا يدخل تحت اشتقاق المادة صور بتشديد الواو فلا يستحق اللعن " . انتهى كلامه رحمه الله .(1/191)
هذه وجهة الفريقين في هذه المسألة ، وعندما نريد الترجيح ، أقول : إن الخلاف في هذه المسألة لا يرجع إلى الخلاف في أصلها ، وهو حكم التصوير فجميع العلماء متفقون على تحريم التصوير ، بل على أنه من كبائر الذنوب ، لكن الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى تحقيق المناط ، إلى تحقيق مناط المسألة ، هل التصوير الآلي سواء كان فوتوغرافيا أو تليفزيونيا ، هل هو داخل في التصوير المحرم شرعا؟ أو أنه غير داخل وإن سمي تصويرا في عرف الناس إلا أنه ليس تصويرا بالمعنى الشرعي؟ وجميع العلماء متفقون على أن تسمية الأشياء بغير حقيقتها لا تغير من الحكم شيئا فالعبرة بالحقيقة وليست بالأسماء؟
وحينئذ إذا أردنا أن نرجح في هذه المسألة وننظر إلى ، فلا بد من النظر ليس إلى مسمى هذا العمل ، وإنما إلى حقيقته ، لا بد من النظر إلى حقيقة التصوير ، وذلك بالنظر إلى العلة التي لأجلها حرم التصوير ، فما هي العلة التي لأجلها حرم التصوير؟ ثم ننظر في مدى انطباق هذه العلة على هذا النوع من التصوير .
هناك علة منصوص عليها وتكاد تكون محل اتفاق بين العلماء ، وهي المضاهاة بخلق الله ، وقد جاء منصوصا عليها في حديث عائشة -رضي الله عنها - : " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله " متفق عليه ، وفي حديث أبي هريرة : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة " متفق عليه ، فإذا العلة المنصوص عليها هي علة المضاهاة ، يعني المحاكاة والمشابهة لخلق الله ، هناك علة هي محل خلاف ، وهي أن التصوير وسيلة للغلو في الصور ، وربما جر ذلك إلى عبادتها وإلى تعظيمها من دون الله ، لا سيما إذا كانت لمن يحبهم الناس ويعظمونهم ، ممن جمع بين العلم والديانة أو نحو ذلك .
ولهذا كان شرك قوم نوح ، وهو أول شرك وقع في بني آدم ، كان بسبب الصور ، لكن ما هي الصور التي وردت في قصة قوم نوح؟(1/192)
جاء عن ابن عباس ، في تفسير ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا أنها أصنام قوم نوح ، أن هذه الأصنام التي هي أصنام قوم نوح ، قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون إليها أنصابا ، لاحظ أنها أنصاب وسموهم بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت ، نسخ العلم النسخ : هو تبديل الشيء بغيره ، والمراد هنا تبديل علم سبب نصب هذه الصور من تذكر أحوالهم إلى عبادتهم ، فظنت الأجيال التي أتت بعدهم أنهم إنما نصبوا هذه الأنصاب لأجل عبادتها فعبدوها من دون الله .
لكن لاحظ هنا أن الذي ذكر في حديث ابن عباس أنهم نصبوا أنصابا ، والأنصاب : هي جمع نصب وهو ما ينصب من عصا أو حجر أو غيرها ، فهي مجرد أحجار منصوبة فقط ، فليست صورا على المعنى المعروف ، هي مجرد أحجار منصوبة ، ومنه قول الله -عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } (1) قال ابن عباس ومجاهد وعطاء : الأنصاب هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها .
__________
(1) - سورة المائدة آية : 90.(1/193)
فإذا الأنصاب التي نصبت لأولئك الصالحين ليست صورا بالمعنى الشرعي ، ولكنها حجارة ، وسميت هذه الحجارة باسم فلان وهذه باسم فلان وهذه باسم فلان ، حتى إذا انقرض هذا الجيل وأتى جيل بعده ، لم يعرفوا السبب الذي لأجله نصبت هذه الحجارة ، فظنوا أنهم عبدوها ، ظنوا أنهم كانوا يعبدونها من دون الله فوقعت عبادة الأصنام من دون الله تعالى ، وحينئذ نقول : إن هذه العلة يعني ليست علة ظاهرة للتصوير ، لماذا؟ لأن كل ما يؤدي إلى الغلو يكون محرما وإن كان ليس تصويرا ، كل ما أدى إلى الغلو والتعظيم من دون الله يكون ممنوعا وإن لم يكن تصويرا ، ولذلك فإن العلة المنصوص عليها هي علة المضاهاة .
فننظر الآن إلى هذه العلة هل هي منطبقة في التصوير الفوتوغرافي ، أو أنها غير منطبقة ، المضاهاة معناها المحاكاة والمشابهة ، والواقع أن التصوير الفوتوغرافي الذي شرحنا كيفيته ليس فيه محاكاة ولا مشابهة ، وإنما فيه تسليط للأشعة على الجسم المراد تصويره ، فتنبعث من هذا الجسم أشعة ثم تلتقط من قبل عدسة التصوير ، وتثبت بطريقة كيميائية ، هذه الصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - فهي ليس فيها مضاهاة في الواقع ، وإنما فيها نقل للصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - ولهذا كان الناس قديما هنا في المملكة لا يسمونها صورة ، وإنما يسمونها عكس ويسمون الصور عكوسا ، ولهذا بعضهم يقول : إن هذا هو الاسم الصحيح لها إنها عكس وليست صورة ، عكس للصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - .
وهذا هو القول الراجح والله أعلم في هذه المسألة، أن هذا النوع من التصوير التصوير الآلي بأنواعه لا يدخل في التصوير المحرم شرعا، وأما ما ذكره أصحاب القول الأول من أدلة، فهي ترجع إلى ثلاثة:(1/194)
أولا: قولهم إنها تسمى صورة لغة وشرعا وعرفا ، هذا محل نظر ، نقول أولا : كونها تسمى صورة لغة ، الصورة مدلولها اللغوي واسع ؛ فإنها تطلق على كل هيئة وشكل ، وأما شرعا : فتسميتها بصورة بالمعنى الشرعي محل نظر ، وتسميتها عرفا كما ذكرنا تسمية غير دقيقة ، وتسمية الأشياء بغير مسماها الحقيقي لا ينقل الحكم ، ولا يؤثر في الحكم ، ولهذا لو أن الناس سموا الخمر لو سموه تسمية أخرى كأن سموه مثلا الخمر مشروبا روحيا فهل معنى ذلك أن الخمر لا يكون محرما؟ أبدا بل إنه جاء في سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها " فلو سمى الناس الخمر بغير اسمه لا ينقله هذا من حكم التحريم ، ولو سمى الزنا بغير اسمه لا ينقله من حكم التحريم .
فتسميتها صورة ، هذا ليس مبررا للقول بتحريمها ، ولهذا فإن صورة الإنسان في المرآة تسمى صورة ، وينظر يقال : نظر الإنسان إلى صورته في المرآة ، هل معنى ذلك أن صورة الإنسان في المرآة محرمة لكونها تسمى صورة؟ أبدا لم يقل بهذا أحد من أهل العلم ، فنقول : إن تسميتها صورة من باب التجوز في العبارة ، وإلا فإنها عكس ، وتسميتها صورة لا ينقل ، لا يؤثر في الحكم .(1/195)
وأما القول بأن المصور يبذل جهدا وعملا ، فهذا غير مؤثر في الحكم أيضا ، كونه يبذل أو لا يبذل لا يؤثر المهم تحقق علة التصوير ، هل تتحقق علة التصوير؟ سواء بذل جهدا أو لم يبذل ، ولذلك فإن من ينظر إلى صورته في المرآة قد يبذل جهدا لكي ينظر إلى صورته في المرآة ، فبذل الجهد أو عدم بذله لا يؤثر في الحكم في هذه المسألة ، وأما ما ذكره أصحاب هذا القول بأن علة التصوير وهي مضاهاة تنطبق على هذا النوع من التصوير ؛ لأن فيها مضاهاة شديدة فغير مسلم ؛ لأن المضاهاة هي المحاكاة والمشابهة ، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " ؛ ولهذا فإن يعني الناس عندما يرون الصورة بالآلة لا يتعجبون ، هم يعرفون أنها إنما نقلت بهذه الآلة لكن لو أن أحدا من الناس رسم صورة هذا الإنسان وكان رسمه دقيقا يتعجب الناس ، كيف استطاع هذا الإنسان أن يرسم هذه الصورة ، فالقول بأن علة المضاهاة متحققة غير صحيح ، بل إنها غير متحققة ؛ لأنها إنما هي في الحقيقة حبس للصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - .
فالتصوير الآلي بأنواعه هو في الحقيقة شبيه لصورة الإنسان في المرآة إلا أن هذه الصورة قد ثبتت وعولجت بطرق كيميائية وطرق معينة فخرجت على هذا النحو .
ثم إن القول بتحريم التصوير الآلي يقتضي تأثيم أكثر الأمة ، وأنهم قد ارتكبوا كبيرة من كبائر الذنوب ، وأنهم ملعونون على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - من يفعل مثل تلك الصور ، وهذا القول فيه خطورة بالغة في أمر لم يتضح اتضاحا نستطيع أن نجزم معه بالتأثيم لأكثر الناس ، ثم إننا قد قررنا أنه لا فرق بين التصوير الفوتوغرافي والتصوير التليفزيوني ، وهذا يلزم منه أن كل من خرج في التلفاز سواء في القناة الإسلامية أو في غيرها ، يلزم منه أنه يبيح التصوير بأنواعه ؛ لأن مجرد خروجه يلزم منه ذلك ، حتى وإن خرج في قناة إسلامية .(1/196)
وكذلك أيضا من وجد في بيته تلفاز ، يلزم منه أنه يرى هذا الرأي وإلا إذا كان يرى التحريم ومع ذلك أدخل التلفاز إلى بيته أو خرج في قناة يكون قد عرض نفسه للوعيد الشديد ووقع في كبيرة من كبائر الذنوب ، ونحن نرى الآن أن أكثر العلماء المعاصرين ، يخرجون في القنوات فهذا يدل على أنهم يرون هذا الرأي ، وإن كان هذا ليس مبررا في الحقيقة ، ليس هذا تبريرا للقول بالجواز أو تأثرا بضغط الواقع ، ولكن أقول يعني يشبه أن يكون هذا الرأي الأخير هو المستقر عند أكثر العلماء المعاصرين ، إنما أوردت هذا الإيراد لأقول : إنه يشبه أن يكون هو الرأي المستقر في الآونة الأخيرة ؛ لأن بعض الأمور عندما تأتي في أول الأمر لا تتضح اتضاحا كاملا ثم بعد مدة من الزمن يستقر فيها رأي من الآراء مثل الأوراق النقدية ، أول ما خرجت وبرزت اختلف فيها أهل العلم اختلافا ظاهرا ، ثم استقر الآن رأي العلماء المعاصرين على أنها نقد مستقل بذاته ، وأن العلة فيها الثمنية ، استقر هذا الرأي عند العلماء المعاصرين ، فأقول :
يعني العلماء أكثر العلماء المعاصرين الآن أقول أكثرهم وليس جميعهم أكثر العلماء المعاصرين استقر عندهم هذا الرأي ، ومع ذلك يبقى الرأي الآخر محل يعني تقدير ، وقول لبعض الأفاضل والفقهاء ، لكنني أقول : من يرى الرأي الثاني وهو تحريم التصوير فتلزم منه هذه اللوازم التي ذكرت ، أنه لا يجوز أن يدخل التلفاز إلى بيته مطلقا ولو قناة إسلامية ، وأنه لا يخرج في أي قناة مطلقا ، هذا مما يلزم على القول الأول .
أما القول الثاني فأصحابه يقولون: إن هذا ليس هو التصوير المحرم شرعا ، فنحن نتفق معكم على أن التصوير من كبائر الذنوب وأنه محرم لكن هذا ليس هو التصوير المحرم شرعا ، وإنما هذا حبس للصور الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - بطريقة معينة تعالج بكيفية معينة ، هذا هو باختصار حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة ، وإلا الكلام يعني فيه أطول من هذا .(1/197)
يبقى تبقى مسألة وهي أفلام الكارتون ، أفلام الكارتون : هي في الحقيقية ليس فيها نقل للصورة الحقيقية التي خلقها الله - عز وجل - وإنما فيها تصوير باليد ، فعلة المضاهاة فيها واضحة وظاهرة ؛ لأن في أفلام الكارتون ترسم ذوات الأرواح ، فهو من التصوير المحرم ، لكن إذا كانت الفئة المستهدفة بهذه الأفلام ، إذا كانت هم الأطفال الصغار ، فالذي يظهر والله أعلم أن هذا لا بأس به ؛ لما ورد من جواز ذلك بالنسبة للصغار ، ونحن قلنا : إنه يتسامح في شأن الصغار بالنسبة للصور ما لا يتسامح في شأن الكبار ، فإذا كان الفئة المستهدفة والمقصود من الأفلام الكرتونية الصغار ، فالذي يظهر والله أعلم أخذا من حديث عائشة أن هذا لا بأس به .
وأما إذا كانت الفئة المستهدفة هم الكبار ، فإن هذا لا يجوز ، ولهذا فإن ما يرى من أفلام كرتونية ورسوم كريكاتيرية هذه محرمة ، وهذا مع الأسف يوجد حتى في بعض القنوات الإسلامية أفلام كرتونية تكون المستهدف فيها الكبار ، وهذه لا تجوز ، هذه من الصور الممنوعة المحرمة ؛ لأنها في الحقيقة والمضاهاة فيها ظاهرة ، وعلة التصوير منطبقة عليها تماما ، وهي للكبار وليست للصغار .
وهكذا أيضا ما يوجد في بعض الصحف والمجلات من الرسوم الكاريكاترية ، هذه الرسوم أيضا من الصور المحرمة ؛ لأن المضاهاة فيها متحققة ، هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة ونكتفي بهذا القدر فيها والله تعالى أعلم .
ما رأيك بالجوال الذي يحتوي على كاميرا بلوتوث؟
هو على الخلاف الذي ذكرناه لكن أيضا ممكن يعني نطبق عليه ما يجري ، يعني حتى لو قلنا بالجواز ورجحنا الجواز فنقول : إذا كانت هذه الصور صورا للنساء وصورا محرمة يكون فيها كشف للعورات أو نحو ذلك فإن هذا لا يجوز حتى لو قلنا بجواز التصوير .(1/198)
ثم أيضا حتى لو قلنا بجواز التصوير ، الصور الفوتوغرافية لا يجوز تعليقها حتى لو قلنا بجواز التصوير ، لماذا؟ لأنها وسيلة للغلو وتعظيمها ، فلا يجوز تعليق الصور الفوتوغرافية حتى على القول بالجواز ، ولهذا كان الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - وهو من أصحاب القول الثاني يقول بعدم جواز تعليق الصور ؛ لأنها تتحقق فيها العلة الثانية ، وهي أنها وسيلة للغلو فيها وتعظيمها ، وربما يعني يؤدي إلى مفاسد يؤدي ذلك إلى مفاسد ، فنقول : إن هذه الصور لا يجوز تعليقها .
ما حكم تحنيط الحيوانات ووضعها في المنازل والمكاتب وهل هي داخلة في تحريم التصوير؟
التحنيط ليس تصويرا ، التحنيط تأخذ حيوانا موجودا خلقه الله - عز وجل - لكن يوضع عليه مواد تحفظه عن التعفن والتحلل ، فليس هو من التصوير في شيء هو صورة حيوان خلقه الله -عز وجل .
ولكن يبقى النظر ، إذا كان التحنيط فيه مصلحة فلا بأس به ، أما إذا كان ليس فيه مصلحة ، فيكون داخلا في إضاعة المال .
هل لرسم ذوات الأرواح على الورق حرام؟
نعم ، رسم ذوات الأرواح محرم ، وهو ما يسمى بتصوير ما لا ظل له ، ولهذا لما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة ، ورأى صورا على الستر ، ما هي هذه الصور؟ هي رسومات رسومات لخيل ، ومع ذلك تلون وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهتكه وقال: " إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله " فلا شك أن الرسومات هذه لذوات الأرواح لا تجوز ، ولهذا ينبغي ينبه يعني الطلاب في المدارس والمعلمين بأنه لا يجوز رسم ذوات الأرواح ، وإذا احتاج للرسم يرسمون مع طمس الوجه ، إذا طمست معالم الوجه جاز ذلك ، كما في حديث جبريل أنه أمره بأن يقطع رأس التمثال ، فالمهم هو طمس معالم الوجه إذا طمست معالم الوجه جاز ذلك .(1/199)
ولذلك في مادة التربية الفنية يمكن يعني رسم ذوات الأرواح مع طمس معالم الوجه ، أما رسمها مع يعني وجه ذوات الأرواح ، مع وجوه ذوات الأرواح فإن هذا يدخل في التصوير المحرم شرعا .
يقوم التلفاز ببث صلاة الجمعة في المساجد الكبيرة وهذا يقتضي أن يتحرك المصور وقت الخطبة هل يعتبر هذا من اللغو؟
نعم ينبغي في مثل هذا أن تثبت آلة التصوير ؛ لأن أيضا يعني مس آلة التصوير وقت الخطبة يشبه أن يكون من مس الحصى ، يشبه مس الحصى الذي قال - عليه الصلاة والسلام : " من مس الحصى فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له " ولهذا يمكن أن يتحقق الغرض وهو نقل الصلاة والخطبة للناس ، بتثبيت آلة التصوير ، ويمكن يوضع أكثر من آلة ، يوضع أكثر من آلة وتحقق المراد، أما أن المصور يقوم ويحرك الصورة ، هذا الذي يظهر أنه في معنى مس الحصى.
يقول كلام الشيخ ابن عثيمين أين أجده؟
موجود في كتبه ، وفي شرح كتاب التوحيد ، وأيضا في الشرح الممتع.
الرسوم الكاريكاترية؟
نحن بينا حكمها وقلنا : إنها من التصوير المحرم .
ما حكم تصوير النساء ولو لم يرها إلا المحارم؟
الذي أرى أنه لا يجوز؛ لأنه وسيلة في الحقيقة لأن يراها الأجانب ، حتى وإن تحفظ الإنسان عليها فترة من الزمن فقد يمضي على ذلك زمنٌ أو قد تضيع وتسرق فتكون وسيلة لأن يراها الأجانب.
طيب الأسئلة كثيرة ولكن ولما الشيخ وصل نكتفي بهذا القدر ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
مسألة الحقوق المعنوية ومسألة الكحول المستهلكة في الغذاء والدواء
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، ونسألك اللهم علما نافعا ينفعنا.(1/200)
معنا في هذا الدرس مسألتان : المسألة الأولى : الحقوق المعنوية ، كحق المؤلف والاسم التجاري ، والعلامة التجارية ، وحق إنتاج البرامج الحاسوبية وغيرها ، وسوف نسلط الضوء ، أو نركز على حق من هذه الحقوق ، وهو حق إنتاج البرامج الحاسوبية ، وحكم نسخها ، والمسألة الثانية : الكحول المستهلكة في الغذاء والدواء ، حكمها وأثرها في حل ذلك الغذاء أو الدواء .
ونبدأ بالمسألة الأولى : وهي الحقوق المعنوية ، والحقوق المعنوية : هي حقوق ترد على شيء غير مادي ، سواء كان نتاجا ذهنيا كحق المؤلف في المصنفات ، وحق المخترع في مخترعاته ، وحق إنتاج البرامج الحاسوبية ، أم كان ثمرة لنشاط يجلب له العملاء ، كحق التاجر في الاسم التجاري والعلامة التجارية ، ونحو ذلك ، هذه تسمى الحقوق المعنوية .
وهذه الحقوق لم تبرز في المجتمع الإسلامي في القرون الماضية رغم نشاط حركة التأليف ، وذلك لأن المؤلف كان يحرص على نشر كتابه بكافة الطرق ؛ لأن الكتب كانت تستنسخ بخط اليد ، ولم تكن الطباعة موجودة فكان نسخ الكتاب هو مساهمة في نشره ، فكان مؤلفو الكتب في الأزمنة الماضية ، يودون نشر كتبهم باستنساخها ، ولهذا لم تبرز فكرة استحقاق الشخص لما ينتجه من أشياء غير مادية ، وكان المؤلف يبتغي الأجر والثواب من الله - عز وجل - ولم تبرز مسألة أو فكرة استحقاق ما ينتجه ، استحقاق الشخص مقابل ما ينتجه من عوض مادي ، لم يكن ذلك بارزا ، وإن كان المؤلفون في الأزمنة الماضية حريصين على نسبة الآراء إلى أصحابها ، لكن فكرة استحقاق العوض على التأليف ، الحقوق المعنوية عموما لم تكن بارزة في تلك الأزمنة .(1/201)
أما في هذا القرن الذي نعيش فيه ، فقد استجد التعامل لهذه الحقوق والتعارف عليها ، مما استلزم تنظيمها ، ووضع الضوابط والأنظمة لها ، وقد انتشرت هذه الأنظمة والقوانين انتشرت أولا في الغرب ثم انتقلت إلى البلاد الإسلامية ، ويقع التساؤل عن الحكم الشرعي لهذه الحقوق بعد تنظيمها ووضع القواعد والضوابط المنظمة لها ، وقد حفلت كتب القانون بالحديث عن هذه الحقوق ، واتفق القانونيون على اعتبارها من الحقوق المالية .
وأما الأمر في الفقه الإسلامي ، فإن دائرة الملك في الفقه الإسلامي أوسع منها في القانون ، فلا يشترط في الفقه الإسلامي أن يكون محل الملك شيئا ماديا ، لا يشترط أن يكون شيئا ماديا معينا بذاته في الوجود الخارجي ، وإنما هو كل ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع ، ولهذا فإن تعريف المال عند جمهور الفقهاء ، تعريف المال :
"ما كان له قيمة بين الناس وجاز الانتفاع به في حال السعة والاختيار" وكل ما كان له قيمة معتبرة بين الناس ، وينتفع به في غير حال الضرورة ، يعني في حال السعة والاختيار فإنه يعد مالا عند الجمهور ، فهذا هو المعيار في اعتبار المال أن يكون له قيمة ، وأن ينتفع به ، وبناء على هذا فإن محل الحق المعنوي ، والذي يسمى عند القانونيين بالشيء غير المادي ، داخل في مسمى المال في الفقه الإسلامي ؛ لأن له قيمة وينتفع به ، فمسمى المال يسع الأشياء غير المادية ، التي ينتفع بها انتفاعا مشروعا .
على أن محل الملك في الحق المعنوي عند التدقيق ليس هو المنفعة ، وإنما هو شيء غير مادي تحصل منه منافع لصاحبه ، شيء غير مادي تحصل منه المنفعة لصاحبه ، وبعد ذلك نقول : إن هذه الحقوق المعنوية ما دمنا قد اعتبرناها مالا ، فإنها تكون حقوق خاصة لأصحابها ، ويجوز لهم المعاوضة عليها ، وتكون حقوقا مصونة ، لا يجوز التعدي عليها .(1/202)
وقد درس مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي هذا الموضوع أعني الحقوق المعنوية ، وصدر فيها قرار من المجمع ، جاء فيه : أولا الاسم التجاري والعنوان التجاري والعلامة التجارية والتأليف والاختراع ، والابتكار : هي حقوق خاصة لأصحابها ، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة لتمول الناس لها ، وهذه الحقوق يعتد بها شرعا فلا يجوز الاعتداء عليها .
ثانيا: يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري ، أو العلامة التجارية ، ونقل أي منها بعوض مالي ، يعني إما ببيع أو بإجارة كل ذلك جائز ، ومثله حقوق المؤلف يجوز للمؤلف أن يبيع حقه على دار نشر ، إما مطلقا أو مقيدا بمدة معينة أو طبعة معينة كل هذا جائز ؛ لأنها حقوق معتبرة شرعا ، وهذا التصرف جاء في قرار المجمع إذا انتفى الغرر والتدليس والغش ، باعتبار أن ذلك حقا ماليا .
ثالثا: حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعا ، ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها ، فيكون إذا حق التأليف من الحقوق المعنوية المعتبرة شرعا ، وحينئذ لا يجوز التعدي على هذا الحق ، ولئن كان في أزمنة سابقة ، كان نسخ الكتاب يعد خدمة له ، وكان العرف قائما بين الناس بأن نسخ الكتاب لا يعتبر تعديا على حق المؤلف بل إن المؤلف يشكر ربما يشكر هذا الناسخ لكونه ساهم في نشره ، لكن الأمر في الوقت الحاضر اختلف فاستنساخ الكتاب ونشره وطبعه بغير إذن المؤلف يعتبر تعديا على حقه ، يعتبر تعدٍّ على حق المؤلف ، هذه هي أبرز الأحكام المتعلقة بالحقوق المعنوية .(1/203)
وننتقل بعد ذلك إلى واحد من هذه الحقوق المعنوية ، أفردناه بالذكر لأهميته ، ولكثرة التساؤلات حوله ، وهو : حكم نسخ برامج الحاسب الآلي نقول أولا : برامج الحاسب الآلي بأنواعها لها قيمة مالية يعتد بها شرعا ، وسبق أن قررنا أنها من الحقوق المعنوية ، وحينئذ يجوز لأصحابها التصرف فيها ، سواء كانوا من المنتجين أو الوكلاء يكون التصرف إما بالبيع أو بالإجارة أو الشراء ، أو غير ذلك .
وهذه البرامج باعتبار أنها من الحقوق المعنوية تعتبر حقوقا مالية لأصحابها فهي مصونة شرعا ولا يجوز الاعتداء عليها ، ورعاية لحقوق المنتجين لها الذين بذلوا جهودا وأموالا في إنتاجها إلا إذا أذن أصحابها في ذلك فإذا كتب على البرنامج عبارة الحقوق محفوظة ، أو أية عبارة تفيد هذا المعنى ، فإنه لا يجوز استنساخها وبيعها ، وبيع تلك النسخ المستنسخة لأن في ذلك تعدٍ على حق المنتج فإن النسخ منفعة والمنفعة مالٌ ولا يجوز أخذ مال أحدٍ إلا بإذنه .
وهذه البرامج الحاسوبية كما ذكرنا هي تأخذ وقتا وجهدا كبيرا ومالا من المنتجين لها فعندما يقوم المنتج بإدخال عشرات وربما مئات بل في الوقت الحاضر ربما تصل إلى آلاف الكتب في منتج واحد لا شك أنه قام هذا المنتج بجهد كبير ، في الحصول على هذه الكتب أولا ، إما بشراء أو باستعارة ، ثم بكتابة تلك الكتب وربما يكون بعضها مخطوطا ، ثم بمراجعتها أكثر من مرة إلى غير ذلك من الجهد الذي يقوم به هذا المنتج ، والذي يبذل معه مالا ووقتا ، وجهدا كبيرا .(1/204)
فعندما يأتي بعض الناس ويقومون بنسخ ذلك البرنامج ، وبيعه بسعر زهيد ، فلا شك أن في هذا إضرارا كبيرا بالمنتج ، ويتسبب في إيقاع الخسارة به ، وليضع الإنسان نفسه مكان ذلك المنتج ، الذي بذل في إنتاج هذا البرنامج مالا ووقتا وجهدا ، ثم يأتي بعض الناس وينسخه ويبيعه بسعر زهيد ألا يعد ذلك تعد على حقه ، لا شك أن هذا فيه تعد كبير على حق ذلك المنتج ، ولهذا فإنه ما دامت أن الحقوق محفوظة للمنتج ، فلا يجوز استنساخ تلك البرامج .
وقد صدر في هذا فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، وقد سأل المستفتي سؤالا جاء فيه : " إنني أعمل في مجال الحاسب الآلي ومنذ بدأت العمل أقوم بنسخ البرامج للعمل عليها دون أن أشتري النسخ الأصلية ، علما بأنه توجد عبارات تحذيرية مؤداها أن حقوق النسخ محفوظة ، وقد يكون صاحب البرامج مسلما وقد يكون كافرا ، فهل يجوز النسخ بهذه الطريقة"؟
فكان الجواب : " لا يجوز نسخ البرامج التي يمنع أصحابها نسخها إلا بإذنهم " ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " المسلمون على شروطهم " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل مالٌ امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " ولقوله - صلى الله عليه وسلم - " من سبق إلى مباح فهو أحق به " سواء كان ص(4) هذه البرامج مسلما أو كافرا غير حربي ؛ لأن حق الكافر غير الحربي محترم كحق المسلم ، فنجد هنا في فتوى اللجنة أن نسخ هذه البرامج لا يجوز ؛ لأن التعدي فيه على حق الآخرين ظاهر ، وأن هذا شمل ما إذا كان المنتج مسلما وهذا ظاهر ، وكذلك إذا كان كافرا معصوم الدم والمال ، وهو الكافر غير الحربي ، وذلك أن الكافر ينقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأول: الذمي وهو الذي يعيش في بلاد المسلمين ويقر على دينه مقابل بذل الجزية للمسلمين ، وهذا لا وجود له في الوقت الحاضر .(1/205)
القسم الثاني: المعاهد الذي يكون بينه وبين المسلمين عهد ، بأي صورة من صور العهد ، وهذا هو حال أكثر الكفار الذين يدخلون البلاد الإسلامية .
القسم الثالث: المستأمن ، وهو الكافر الحربي إذا أعطي الأمان ، ممن؟ إما من ولي الأمر أو من أي مسلم أو مسلمة ، حتى أنه يصح أن يكون الأمان من امرأة ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ؟ " و " ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم " الكافر الحربي الذي يعطى الأمان أيضا يكون معصوم الدم والمال .
يبقى القسم الرابع والأخير: وهو الكافر الحربي الذي بيننا وبينه حرب ، وليس بيننا وبينه أي عهد ولا ميثاق ، هذا هو الذي دمه هدر وماله هدر ؛ لأنه مطلوب قتله أصلا في المعركة ، فدمه هدر وماله هدر ، وبهذا نعرف أن أموال الكفار في جميع الأقسام معصومة إلا في القسم الأخير وهو الكافر الحربي وهكذا دماؤهم ، والتعدي على دماء الكفار وأموالهم إذا كانوا معصومي الدم والمال من كبائر الذنوب كما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل معاهدا بغير حق لم يرح رائحة الجنة " ؛ لأن دين الإسلام دين عظيم يحترم العهود والمواثيق ، بل لا تجد دينا من الأديان يحترم العهود والمواثيق مثل دين الإسلام ، حتى إن الله - عز وجل - يقول : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } (1) يعني انبذ إليهم عهودهم ولا تباغتهم ؛ لأن الإسلام ليس دين غدر وخيانة ، وإنما هو دين احترام العهود والمواثيق .
المقصود أن مال الكافر إذا كان غير حربي كما ورد في فتوى اللجنة هو مال محترم ، مال محترم كمال المسلم ، إذا كان حربيا فإن ماله يكون هدرا وبناء على ذلك نقول : إن هذه البرامج التي ينتجها مسلمون أو كفار معصومي المال لا يجوز استنساخها .
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 58.(1/206)
وقد سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - عن هذه المسألة حكم نسخ برامج الكمبيوتر من شرائط أصلية؟ فأجاب : بأن الشركة إذا لم تحتفظ لنفسها بالحق فجاز ذلك يجوز ذلك ، أما إذا احتفظت لنفسها بالحقوق قال : يجب أن نكون نحن المسلمين أوفى العالم بما يجب -يعني- من العهود ، والمعروف أن النظام إذا احتفظ الإنسان بحقه فإنه لا أحد يعتدي عليه ؛ لأنه لو فتح هذا الباب لخسرت الشركة خسارة بليغة ، وقد يكون هذا برنامجا صرف عليه أموال كثيرة باهظة ، فإذا نسخ ووزع صار يباع بسعر زهيد فيحصل ضرر على هذا المنتج ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " لا ضرر ولا ضرار " قال : وأرجو أن يفهم المسلمون أن أوفى الناس بالذمة والعهد هم المسلمون ، حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر من الغدر وأخبر بأنه من صفات المنافقين ، وقال الله تعالى : { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } (1) .
وليس كل كافر يكون ماله حلالا ودمه حلالا ، إلا الكافر الحربي ، أما من كان بيننا وبينه عهد ولو بالعهد العام فهو معاهد ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة " والمسلمون أوفى الناس بالعهد ، إذا الحكم في هذه المسائل ظاهر كما ترون ، وفقهاء العصر شبه متفقين على تقرير هذا الحكم .
إذا أراد الإنسان أن ينسخ برنامجا لنفسه يعني عنده نسخة أصلية ويريد أن ينسخ لنفسه نسخة أخرى ، فهذا لا بأس به ؛ لأنه قد اشترى النسخة الأصلية ، لكن يريد أن ينسخ لنفسه نسخة أخرى ، قال الشيخ محمد العثيمين : إذا أراد إنسانٌ أن ينسخ لنفسه فقط دون أن يصيب الشركة بأذى ، الظاهر إن شاء الله أن هذا لا بأس به ، ما دمت لا تريد بذلك الريع ، وإنما تريد أن تنتفع به وحدك فأرجو أن لا يكون في هذا بأس ، قال الشيخ -رحمه الله- على أن هذه ثقيلة علي لكني أرجو أن لا يكون فيها بأس .
__________
(1) - سورة النحل آية : 91.(1/207)
إذا كان هذا النسخ شخصيا للإنسان فالظاهر أن هذا لا بأس به لأنه لا يعد في عرف الناس تعديا على حقوق المنتج ؛ ولأن هذا الإنسان قد اشترى النسخة الأصلية لكنه أراد أن ينسخها نسخة أخرى لنفسه ، بعض البرامج يوضع عند تشغيلها عبارة : أقسم بالله العظيم أن هذه النسخة أصلية ، أو أن لا أقوم باستنساخ هذه النسخة ، أو أي عبارة ، فهذا القسم عندما يقوم الإنسان بالموافقة عليه فالظاهر والله أعلم أن هذا القسم يلزمه حكمه ، يلزم هذا الذي وافق عليه حكمه ، فكأنه قد تلفظ بالقسم ، ويترتب عليه ما يترتب على القسم من أحكام .
هذا هو الذي يظهر في هذه المسألة ؛ لأنه عندما يوافق الإنسان على هذه العبارة معنى ذلك كأنه تلفظ بها ، ولهذا قال الفقهاء: لو أن رجلا قيل له أطلقت امرأتك؟ قال : نعم ، أو أنه كتب نعم يقع الطلاق إذا نواه ، هكذا أيضا إذا قيل له : يعني اكتب موافقة على هذه العبارة أقسم بالله العظيم ، ويأتي بعبارة يرى المنتج فيها حفظ حقوقه ، الظاهر أن هذه العبارة يلزم حكمها لهذا الذي قد وافق عليها ، هذا ما يتعلق بهذه المسألة .
المسألة الثانية التي معنا : هي مسألة الكحول المستهلكة في الغذاء والدواء ، هذه الكحول توجد بنسبة ضئيلة في بعض الأغذية وبعض الأدوية ، ويثير بعض الناس حولها إشكالات ، توجد في الخميرة التي توضع في الخبز ، توجد فيها نسبة من الكحول ، أيضا توجد في بعض المشروبات الغازية ، مثل البيبسي والكولا ، توجد فيها نسبة ضئيلة من الكحول ، ولو دققت في كثير من المواد الغذائية المحفوظة -يعني المعلبات- تجد أنها لا تخلوا من نسبة ضئيلة من الكحول ، توجد في كثير من الأدوية ، توجد نسبة ضئيلة من الكحول في كثير من الأدوية التي تستخدم فما حكم هذه النسبة؟ هل نقول : إنها معفو عنها شرعا ، أو نقول : إن ما أسكر كثيره فقليله حرام؟(1/208)
أولا: نقول إن الكحول تحريف لاسم الغول ، الكحول تحريف لكلمة الغول ، ونقل الغربيون هذا اللفظ عن العرب محرفا ، العرب كانت تسميها الغول ، ومنه قول الله - عز وجل - عن خمر الجنة : { لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) } (1) فالغول معناه في اللغة العربية : هو ما ينشأ عن الخمر من صداع وسكرٍ ؛ لأنها تغتال العقل ، وشراب الكحول الذي يؤدي للإسكار هذا لا إشكال في أنه محرم ومن كبائر الذنوب ، وهذا بإجماع المسلمين ، والكثير والقليل في ذلك سواء ، فقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا قاعدة في هذا ، فقال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ولكن يوجد في الوقت الحاضر كما ذكرت يوجد أغذية وأدوية تكون فيها نسبة ضئيلة من الكحول ، وهذه النسبة نسبة مستهلكة ، بحيث إن من أكثر من ذلك الغذاء المشتمل على هذه النسبة ، أو ذلك الدواء فإنه لا يسكر فما حكم هذه الأغذية؟ وكما مثلنا بمثال الأغذية بالخميرة التي توجد في الخبز ، يوجد بها نسبة ضئيلة من الكحول ، المشروبات الغازية ، مثل الكولا ونحوها يوجد بها نسبة ضئيلة من الكحول ، كثير من أنواع الأدوية لا تخلو من ذلك .
هذا يقودنا إلى معرفة الحكم الشرعي في الخمر إذا استهلكت في مائع ، بحيث لو أكثر الإنسان من شرب هذا المائع لم يسكر ، فما حكم ذلك؟ ما حكم شرب هذا المائع الذي فيه هذه الخمر المستهلكة؟ وهذا ما يسميه بعض العلماء المعاصرين ، يسمون هذا بنظرية الاستهلاك ، نظرية الاستهلاك معناها : اختلاط العين لغيرها على وجه يفوت الصفات الموجودة فيها والخصائص المقصودة منها بحيث تصير كالهالكة وإن كانت باقية .
__________
(1) - سورة الصافات آية : 47.(1/209)
وهذا ينطبق على الخمر إذا استهلكت في مائع بحيث لو أكثر الإنسان من شرب هذا المائع لم يسكر ، وينطبق كذلك على وقوع نجاسة قليلة في ماء كثير ، بحيث لا يظهر بهذه النجاسة أي أثر من لون أو طعم أو رائحة ، فهذا تتناول هذه النظرية نظرية الاستهلاك فتمتزج هنا عين خبيثة بعين طيبة ، ويكون الغالب للعين الطيبة ، بحيث لا يكون هناك أي أثر من لون أو طعم أو ريح ، للعين الخبيثة .
وهذه النظرية مقررة في الفقه الإسلامي، ومن أحسن من تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وقرر بأن العين الخبيثة إذا استُهلِكت فإنها لا يكون لها حكم.
قال -رحمه الله-: الصواب في هذا أن الله حرم الخبائث التي هي الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك، فإذا وقعت هذه في الماء أو غيره واستهلكت لم يبق هناك دم ولا ميتة ولا لحم خنزير أصلا، قال: كما أن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربا للخمر، والخمرة إذا استحالت بنفسها وصارت خلا كانت طاهرة باتفاق العلماء.
لاحظ هنا شيخ الإسلام ابن تيمية كأنه يتكلم عن مسألة موجودة في زمننا الآن، يقول: إن الخمر إذا استهلكت في المائع لم يكن الشارب لها شاربا للخمر، يعني أنها يُعفى عنها، قال: وهذه الأدهان والألبان والأشربة، وغيرها من الطيبات، والخبيثة قد استهلكت واستحالت فيها أي فلا تحرُم، فكيف يحرم الطيب الذي أباحه الله، ومن الذي قال إنه إذا خالطه الخبيث واستهلك فيه واستحال أنه قد حرُم؟ وليس على ذلك دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا قياس. لاحظ أن شيخ الإسلام ينصر هذا القول بقوة، وهو أن العين الخبيثة إذا استحالت في شيء مباح طاهر فإن هذه العين الخبيثة لا يبقى لها أي أثر ويكون هذا مباحا، ولهذا قال: إنه ليس على القول بالتحريم دليل لا من كتاب ولا من سنة، ولا إجماع ولا قياس.(1/210)
ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث بئر بُضاعة لما ذُكر له أنه يُلقى فيها الحِيَض ولحوم الكلاب والنتن، قال: " الماء طهور لا ينجسه شيء " وقال في حديث القلتين: " إنه إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " وفي اللفظ الآخر: "لم ينجسه شيء"، وقوله: " لم يحمل الخبث " يبين أن تنجيسه بأن يحمل الخبث، أي بأن يكون الخبث فيه محمولا، وذلك يبين أنه مع استحالة الخبث لا ينجس الماء.
انتهى كلامه -رحمه الله- منقولا من مجموع الفتاوى مجلد 21، صفحة 501 - 502.
فإذًا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقرر لنا هذه النظرية وهي نظرية الاستهلاك، وبهذا التقرير يتبين أن هذه الكحول إذا كانت مستهلكة في الغذاء أو الدواء بحيث إن الإنسان لو أكثر منها لم يسكر، فإنها حينئذ لا يكون لها أثر، ويكون استخدام ذلك الغذاء والدواء مباحا ولا بأس به ولا يتحرج الإنسان منه البتة. وقد صدر في هذا قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، بشأن الأدوية المشتملة على الكحول، وجاء في القرار: "لا يجوز استعمال الخمرة الصرفة دواء بأي حال من الأحوال لقول النبي - - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " ".
ثانيا: يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة، تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرا خارجيا للجروح، وقاتلا للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية، ولاحظ هنا أن استعمالها في الدواء وفي الغذاء لا بد أن يكون بنسب مستهلكة، لكن استعماله في التطهير لا يتقيد ذلك بأن يكون بنسب مستهلكة، ولذلك استعمالها في المطهرات قد يكون بنسبة ليست نسبة مستهلكة، فيجوز ذلك خاصة مع أن الراجح أنها ليست بنجسة، أن الخمر طاهرة وليست بنجسة، وحينئذ لا بأس باستعمالها مطهرا خارجيا للجروح وقاتلا للجراثيم.(1/211)
سئل الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- عن هذه المسألة قال: دخول الكحول في الأدوية التي لا تشرب أو تؤكل جائز استخدامها، كما صرح ابن تيمية في جواز استخدام النجس في غير الأكل والشرب، مع أن الخمر ليست بنجسة ونجاستها على الصحيح نجاسة معنوية، قال: أما إذا كانت الأدوية تشرب وتؤكل ويؤدي كثيرها إلى الإسكار فقليلها حرام. لاحظ بهذا الشرط إذا كان كثيرها يؤدي إلى الإسكار فقليلها حرام، أما الكحول من الأدوية التي لا يمكن أن يشرب وهو في هذه الحال لا يسكر فلا يضر دخول بعض الكحول في تركيبها، وهذا جائز لأن العلة في التحريم استخدام الخمر كدواء هو في حالة وجود وصف التحريم وهو الإسكار. قال الشيخ - رحمه الله -: وإلا لحرم الخبز والخبز فيه شيء من الكحول في الخميرة.
والخلاصة، أن الكحول إذا كانت نسبتها مستهلكة، بحيث إن الإنسان لو أكثر من شرب هذا المائع الذي فيه هذه النسبة المستهلكة، فإنه لا يسكر فإن هذه النسبة من الكحول تكون مغتفرة، يعني أنه لا يترتب عليها أي حكم، ولا يترتب عليها حكم من جهة التحريم، ويجوز ذلك المطعوم أو المشروب ولا يتحرج الإنسان منه.
ما ذكر من وجود نسبة من الكحول مستهلكة في المشروبات الغازية، مثل: الكولا والبيبسي، هذا وجدته مكتوبا في بعض البحوث، واتصلت بأحد الاستشاريين في الأغذية بمستشفى الملك فيصل التخصصي قريبا فقال: إنهم حللوا هذا وجدوا أن هذا غير صحيح، أنه ليس فيها أي نسبة من الكحول، قال: وعلى تقدير أن وجد فيها نسبة فنحن لا نعتبرها كحولا لأنها نسبة مستهلكة، والذي يهمنا في هذا هو الحكم الشرعي، فنقول يعني سواء وجدت أو لم توجد فشربها جائز فهي من الحلال الطيب، حتى لو قدرنا وجود نسبة مستهلكة فيها فإنها لا تؤثر ما دامت هذه النسبة مستهلكة، والضابط في الاستهلاك هو أنه لو أكثر الإنسان منه لم يسكر، هذا هو الضابط لو أكثر الإنسان منه لم يسكر.(1/212)
مشروب البيرة، البيرة لها أنواع، فمنها ما هو يسكر مباشرة وهذا لا شك في تحريمه، وهذا لا يوجد ولله الحمد عندنا في المملكة، ومنها ما تكون فيه نسبة من الكحول بحيث لو أكثر الإنسان من شرب البيرة لسكر، وهذه أيضا محرمة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ومنها أنواع وهي الموجودة عندنا في المملكة تكون النسبة فيها مستهلكة، تكون نسبة الكحول فيها مستهلكة بحيث لو أكثر الإنسان منها لم يسكر، لم يحصل الإسكار، وهذه هي الموجودة عندنا في المملكة.
فالبيرة الموجودة عندنا في المملكة لا بأس بشربها باعتبار أن نسبة الكحول الموجودة فيها مستهلكة، بحيث لو أكثر الإنسان منها لم يحصل الإسكار. على أنني سألت الطبيب الذي قلت لكم أني سألته قريبا، سألته عن البيرة التي عندنا فقال نحن حللناها عندنا في مستشفى الملك فيصل التخصصي ولم نجد بها أي نسبة من الكحول ولو واحد من ألف، لكن على كل حال هي أنواع، قد يوجد في بعض الأنواع دون بعض، لكن لو وجد ذلك، وكانت النسبة مستهلكة فنقول: إن شربها جائز ولا حرج فيه فهي كالأمثلة الأخرى التي أشرنا إليها كالخميرة التي توجد في الخبز، الكحول المستهلكة التي توجد في الأدوية، كل هذه نقول إنه إذا اختلطت بمائع أو بمطعوم أنها لا تؤثر في حرمته، بل نقول إن هذا المطعوم أو المائع يبقى حلالا من الطيبات، ولا يتحرج الإنسان في تناوله.(1/213)
وأما قول بعض الناس، أو استدلال بعض الناس بحديث: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " نقول: نعم نحن نلتزم بهذه القاعدة، لكن إذا كان كثيره مسكرا فلا بد أيضا من الوقوف عند النص. إذا كنت لو أكثرت من هذا الشيء لحصل إسكار نعم، نقول: قليله حرام، لكن إذا كنت لو أكثرت من هذا الشيء لم يحصل الإسكار فلا نقل إن قليله حرام، هذا كالنجاسة تماما، النجاسة إذا كانت قليلة بحيث لم يبق لها أثر من لون أو طعم أو رائحة فإنها لا تؤثر في نجاسة الماء يكون الماء طهورا، هكذا أيضا بالنسبة لهذه الكحول التي توجد بنسب مستهلكة، ونكتفي بهذا القدر في عرض هذه المسألة.
طيب نجيب عما تيسر من أسئلة:
ما حكم حفظ الحقوق في أشرطة القرآن أو أشرطة الدروس العلمية؟
إذا كان المنتِج قد بذل جهدا فيها فلا بأس، إذا كان المنتج قد بذل جهدا فيها ووضع حقا له لا حرج في ذلك، لأن أيضا القول بأنه يلزم المنتج بذلها من غير عوض، يعني فيه ما فيه، كون هذا الإنسان قد بذل جهدا ووقتا، ولا يلزم الإنسان بأن يبذل ماله لغيره مجانا.
ما حكم التبرع بالأعضاء؟
هذا إن شاء الله سيأتينا في الدرس القادم.
هلا ذكرتم قرار هيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه الإسلامي عن حكم التصوير الآلي؟
لا أعرف أنه صدر في هذا قرار، سمعت الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يذكر أن المجمع الفقهي أجاز التصوير التليفزيوني، ولكن بحثت في جميع قرارات المجمع وهي كلها موجودة عندي لم، يعني، أجد قرارا في هذا، فيحتمل أن هذا، يعني، جرى فيه مناقشة من غير إصدار قرار، جميع قرارات المجمع الفقهي وهي في ثماني عشرة دورة، كلها اطلعت عليها لم أجد قرارا في هذا، لكن سمعت شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- يقول إن المجمع الفقهي أجاز التصوير التليفزيوني للمصلحة، ويحتمل أن هذا كان فيه مناقشات كانت في المجمع، لكن لا أعرف أن في هذا قرار لا من الهيئة ولا من المجمع.(1/214)
ما الحكم في تشغيل القنوات مثل قناة المجد عبر أجهزة أخرى؟
ما كان من القنوات مشفرا فأيضا يدخل فيما ذكرناه من الحقوق المعنوية، ما كان مشفرا لا يجوز التحايل عليه واستخدام أجهزة أخرى لأجل فك التشفير؛ لأن هذا فيه تعد على حقوق أصحاب القناة، وهم يبذلون جهدا في تلك القنوات وأموالا طائلة، ولا شك أن فك التشفير بأي طريقة فيه تعد على حقهم. وإذا أردت أن يتضح لك الحكم جليا ضع نفسك مكان المنتِج، أو صاحب الحق، ضع نفسك مكانه، هل ترضى بهذا العمل؟ إذا كنت لا ترضى لو كنت منتِجا، فكذلك أيضا، يعني، ينبغي لك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك، فإذا كنت لا ترضى هذا العمل لنفسك لو كنت أنت المنتِج، فكذلك أيضا ينبغي أن لا ترضاه لإخوانك المسلمين، فهذا يعني يدخل في الحقوق المعنوية التي هي معنا في هذا الدرس، ففك التشفير بأي طريقة، وأصحابها قد منعوا من ذلك فيه تعد على حقوقهم، فهو لا يجوز.
إذا كان البرنامج الأصلي غير مسوق مبالغ في سعره؟
هذا بعض العلماء قالوا إذا كان مبالغا في سعره، وكان يعني برنامجا علميا يجوز، لكن هذا محل نظر، محل نظر، فحتى لو كان مبالغا في سعره يبقى حقا لصاحبه، يبقى حقا لصاحبه، فما الذي يبيح التعدي على هذا الحق.
ما حكم البيرة التي تشرب الآن وهي موجودة في المحلات التجارية، علما بأنه مكتوب عليها خالية من الكحول؟
البيرة الموجودة عندنا في المملكة لا بأس بها؛ لأنها لا تخلو إما أن لا يكون فيها كحول البتة، كما ذكر أحد الأطباء، وإما أن يكون فيها نسبة مستهلكة، وعلى كلا التقديرين فهي جائزة، لكن التي، يعني، موجودة في بعض الدول خارج المملكة، بعضها مسكر يسكر مباشرة، وبعضها كثيره مسكر، والقاعدة أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.
هل يجوز نسخ البرامج للانتفاع الشخصي بغير قصد البيع؟
نعم نحن قلنا إن هذا جائز.(1/215)
بعض الأشرطة الصوتية والمحاضرات الدعوية مفيدة، وأيضا برامج الحاسب الآلي فهل يجوز نسخها للتوزيع الخيري إذا كانت حقوق الطبع محفوظة؟
إذا كانت حقوق الطبع محفوظة لا، لا يجوز هذا ولو كان لأجل الدعوة، لا بد من أخذ إذن أصحابها.
إذا لم يُكتب على الشريط وترك هكذا دون تحديد لحقوق الطبع؟
إذا لم يُكتب عليه ولم يُتعارف عند الناس بأن حقوق هذا البرنامج محفوظة فحينئذ الظاهر أن أصحابه لم يريدوا حفظ هذا الحق، وحينئذ فلا بأس باستنساخه.
هل يستوي هذا وبرنامج فقه العبادات الذي سيصدر قريبا في كتاب مطبوع كفقه المعاملات؟
إن شاء الله تعالى يعني كل هذه برامج فقه العبادات والمعاملات، ثم تخرج إن شاء الله تعالى لكنها تحتاج إلى وقت، وفقه العبادات لم يكتمل، يعني لا زال لم يكتمل بعد، لا زلنا في شروط الصلاة، لم نصل إلا إلى شروط الصلاة فقط، إذا اكتمل إن شاء الله، لعله إن شاء الله يكون في كتاب.
ما حكم استخدام العطورات المشتملة على كحول؟
العطورات المشتملة على كحول إذا كانت نسبة مستهلكة لا إشكال في جوازها، إذا كانت نسبة يعني ليست مستهلكة نسبة كبيرة، فترجع إلى مسألة أخرى وهي حكم الخمر، هل هي طاهرة أو نجسة؟ فالجمهور على أنها نجسة، القول الثاني أنها طاهرة، وهو اختيار شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله- وهو الأقرب، لأنه ليس هناك دليل يدل على نجاسة الخمر، ولما حرِّمت الخمر أراقها الصحابة في سكك المدينة، ولو كانت نجسة لما أراقوها.(1/216)
وليس هناك دليل أصلا يدل على نجاستها. أما قول الله - عز وجل - { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } (1) المقصود بذلك النجاسة المعنوية بدليل أنها قُرِنت بالميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد من أهل العلم أن هذه نجسة نجاسة حسية، وإنما المقصود بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية، ولهذا فالصحيح في هذه المسألة هو أن الخمر ليست نجسة وإنما هي طاهرة.
وبناء على ذلك فلا بأس باستخدام العطورات المشتملة على كحول بناء على هذا القول، ولو تورع الإنسان ولم يستخدمها كان ذلك حسنا، يعني بعض أهل العلم يقول حتى، يعني، على القول بأنها ليست نجسة يتورع عن استخدامها خروجا من الخلاف وأخذا بعموم قول الله تعالى: { فاجتنبوه } وهذا حسن.
هذا سؤال متعلق بالبصمات؟
تكلمنا عنها، يعني المسائل التي تكلمنا عنها في الدروس ترد فيها بعض الأسئلة ونحاول يعني لا نجيب عليها وإنما نحيل السائل للدرس، وهو محفوظ في موقع الجامع على الإنترنت.
هذا أيضا يسأل عن إدخال قناة المجد عن طريق بعض الأطباق؟
تكلمنا عن هذا.
هل يجوز نسخ بعض الأشرطة لبعض الأصدقاء، ولا سيما التي ليس لها وجود والتي تعتبر بمثابة النادرة؟
أما إذا كانت الحقوق محفوظة فلا، إذا كانت الحقوق محفوظة فلا، أما إذا لم تكن محفوظة فلا بأس.
هل يجوز تنزيل بعض المؤلفات القديمة عبر الإنترنت؟
نعم، إذا لم يكن هناك لم تطبع ويكون هناك حقوق محفوظة للمحقق، فلا بأس، أو أن من أراد تنزيلها أخذها حققها من مخطوط، وأراد تنزيلها على الإنترنت فلا بأس، المقصود أن لا يكون هناك تعد على حق آخر، إذا لم يكن هناك تعد على حق آخر جاز ذلك، إذا كان في تعد على حقوق آخرين لم يجز هذا، هذه هي القاعدة والضابط في هذا.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 90.(1/217)
ما حكم صلاة الجمعة في السجون حيث إني رأيت هذا مثل السؤال في أحد المواقع بالإجازة كما أن ابن رجب ذكر أنه لا يصلى الجمعة في السجن وقال لا أعلم في ذلك خلافا؟
نعم، هذا صحيح، ما نقله عن ابن رجب صحيح، ابن رجب في فتح الباري ذكر أنه لا يعلم خلافا في أنه لا يُشرع إقامة الجمعة في السجون، ولكن الواقع أن المسألة فيها خلاف، وعندهم القائمون على السجون عندهم تعليمات في هذا من العلماء.
ما حكم من نسخ من برامج الحاسب من نسخته الأصلية لمصلحة غيره وليس لنفسه؟
حتى وإن كان لمصلحة غيره لا يجوز نسخ ما كان فيه حقوق محفوظة؛ لأن في هذا تعد على حق الغير، تعد على حق أخيك المسلم، أو حتى كما قلنا حتى الكافر معصوم المال أيضا يكون فيه تعد عليه، معصوم الدم والمال فيه تعد عليه، إذا كان في تعد بهذا النسخ لا يجوز لأي سبب كان، لأي غرض، فالنسخ يعني يُمنع بإطلاق ما دام أنه يوجد فيه تعد على حق الغير، فقط التي هي يعني رخص فيها إذا أراد الإنسان أن ينسخ لنفسه فقط، إذا أراد أن ينسخ لنفسه، وقد يقول بعض الناس إن في هذا تضييقا وتحجيرا، لكن نقول إن في هذا حفظا للحقوق، حفظ الحقوق لأصحابها، والمنتجون يبذلون جهودا كبيرة في إنتاج البرامج، فينبغي أن تحفظ الحقوق لأصحابها.
ما حكم رسائل الجوال التي يرد فيها ذكر من الأذكار: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وبعد ذلك يقول هي أمانة في رقبتك تصل إلى خمسة أو عشرة أو إلى أي عدد ويمكن أن يكون مكلفا على الشخص؟
أولا: إذا قال هي أمانة، ما يلزمك أن ترسلها، على أي صفة كانت تلك الرسالة؛ لأن هذا إلزام من طرف واحد، أنت لم تلتزم بهذا، لم تلتزم له بهذا.(1/218)
ثانيا: انظر محتوى الرسالة، وتعرِض على أهل العلم إن كان محتواها صحيحا، وإلا أيضا لا تنشر، لكن إذا كان محتواها جائزا فأنت بالخيار، حتى لو قال: إنها أمانة، أو أتى بعبارة تفيد تحميلك المسئولية، فإنها لا يلزمك إرسالها، لأنك لم تلتزم لأنك لم تلتزم له بهذا الشيء.
ما حكم من يقتبس بعض الفوائد من كتب القدماء ويضعها في كتاب يعود ريعه لعمل خيري؟
لا بأس بهذا لأنه كما ذكرنا كتب المتقدمين كان المتقدم يحب نسخ هذه الكتب ونشرها، لأنها لم تكن المطابع موجودة عندهم، فاقتباس فوائد منها ثم جمعها في كتاب لا بأس بذلك، وعلى ذلك عمل الناس، التأليف الآن قائم كثير منه بالنقل والاقتباس من كتب أخرى، فإذا لم يكن هناك نسخ للكتاب كاملا، وأراد الإنسان أن يقتبس منه مع عزوه إلى مصدره، فإن هذا لا بأس به بل هو من نشر العلم.
ونكتفي بهذا القدر والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
موت الدماغ وأحكامه الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
معنا في هذا الدرس ثلاث مسائل من النوازل، المسألة الأولى: موت الدماغ وأحكامه الشرعية، المسألة الثانية: حكم نقل الأعضاء، المسألة الثالثة: حكم سحب أجهزة الإنعاش عند موت الدماغ ونحوه.
ونبدأ بالمسألة الأولى وهي مرتبطة بالمسألة الثانية بل إن المسألة الثانية حكمها متفرع عن حكم المسألة الأولى، وهاتان المسألتان موت الدماغ ونقل الأعضاء من النوازل المشكلة، وقد حصل فيها اضطراب ليس على مستوى كبار العلماء، بل على مستوى المجامع الفقهية. فنجد على سبيل المثال أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي يرى أن موت الدماغ أنه موت حقيقة بينما لا يرى ذلك مجمع الرابطة، وقرار هيئة كبار العلماء في ذلك فيه إجمال، فيما يتعلق بنقل الأعضاء.(1/219)
ولهذا فإن هذه المسألة من النوازل المشكلة في هذا العصر، وتحتاج إلى دقة نظر وفهم، وتصور دقيق لواقع المرضى بعد النزول في الميدان ومراقبة أحوال المرضى الذين حُكِم عليهم بأنهم قد توفوا دماغيا فتحتاج هذه النوازل إلى تصور دقيق قبل النظر الشرعي، ثم تحتاج إلى تحرير للمصطلحات، لأن الموت الذي يعنيه العلماء وفقهاء الشريعة، يختلف عن الموت الذي يعنيه الأطباء، وهذا يؤكد على ما ذكرناه في أول الدورة، من أنه عند النظر في النوازل لا بد من تحرير المصطلحات ومن التصور الدقيق للمسألة، إذ أن أكبر الإشكالات التي تواجه الفقيه عند النظر في النوازل هو الفهم والتصور الصحيح والدقيق لها، إذ أن التصور إذا كان غير دقيق، فيترتب على ذلك أن يكون الحكم على هذه النازلة غير دقيق كذلك.
هذه النازلة من أحسن المراجع فيها رسالة دكتوراه عندنا في قسم الفقه بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بعنوان "حكم نقل الأعضاء في الفقه الإسلامي" للشيخ يوسف الأحمد، وقد نزلت في الأسواق قريبا، وقد استقصى فيها الباحث استقصى النظر في هذه المسألة وتفرغ أياما لمراقبة أحوال المرضى والاتصال بالأطباء وسؤالهم، وكذلك أيضا الرجوع للمجلات العالمية المحكمة في هذه الموضوعات، وإنما أشرت لهذا المرجع نظرا للاضطراب الذي أشرت إليه حتى على مستوى المجامع الفقهية كما سنبين ذلك إن شاء الله.
نبدأ أولا بالمسألة الأولى: وهي موت الدماغ ووجه العلاقة بين مسألة موت الدماغ ونقل الأعضاء. نحن قلنا إن بينهما ارتباطا وعلاقة وثيقة، فما وجه هذا الارتباط؟ وما وجه هذه العلاقة؟(1/220)
نقول: إن الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان كالكبد والقلب والرئتين هذه الأعضاء لا يمكن نقلها من الأحياء؛ لأن نقلها من الأحياء، يعتبر قتلا لهم، ولا يمكن نقلها من عموم الموتى؛ لأن هذه الأعضاء تتلف خلال دقائق إذا توقف عنها الدم، بخلاف الميت دماغيا، فإنه يتنفس بواسطة جهاز التنفس، وقلبه ينبض، فلا تزال هذه الأعضاء تتروى بالدم، ويمكن حينئذ أخذها وهي بحالة جيدة، ولهذا فإن الركن الأساس في نقل الكبد والقلب وغيرها من الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان هو وجود الميت دماغيا، الذي يمكن النقل منه.
ويرى الأطباء أن المصدر الوحيد لأخذ الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان هو الميت دماغيا، وإذا خرجنا بنتيجة وهي أن الموت الدماغي ليس موتا حقيقيا فإن هذا يساوي عند الأطباء، يساوي إغلاق باب التبرع بالقلب والكبد، ونحوها من الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان. ومن هنا تتبين خطورة هذا الموضوع، إذا قلنا إن الموت الدماغي ليس موتا حقيقيا بالمعنى الشرعي، فمعنى ذلك أن هذا يغلق باب التبرع بالأعضاء. فإذا مسألة موت الدماغ هي منعطف كبير في موضوع نقل الأعضاء، ومن هنا يتبين الارتباط الوثيق بين هاتين المسألتين.
قبل أن نبين هل موت الدماغ هو موت حقيقي بالمعنى الشرعي أم لا، نريد أن نحرر مصطلح الموت، ما معنى الموت؟ الموت شرعا: هو مفارقة الروح للبدن، هذه هي حقيقة الموت، متى ما فارقت الروح بدن الإنسان حصل الموت والوفاة، وهذا المعنى للموت هو الذي تقتضيه الأدلة من الكتاب والسنة، وتتابع على ذكره أهل العلم. قال النووي -رحمه الله-: الموت هو مفارقة الروح، قال ابن القيم: الموت، هو مفارقة الروح للبدن، وهكذا عرفه الحافظ ابن حجر، وتتابع على هذا جمع من أهل العلم على تعريف الموت بمفارقة الروح للبدن. ولكن مفارقة الروح للبدن هي أمر غيبي غير مشاهد، كيف نعرف بأن روح هذا الإنسان قد فارقت بدنه؟(1/221)
ذكر الفقهاء علامات لذلك، علامات للموت أي لمفارقة الروح للبدن. ومن العلامات التي ذكرها الفقهاء انقطاع التنفس، وإحداد البصر أي غيبوبة سواد العينين، وانفراج الشفتين فلا ينطبقان، وارتخاء القدمين فلا ينتصبان، وميل الأنف وانخساف الصدغين، وانفصال الكفين، وامتداد جلدة الوجه. ولم يذكر توقف القلب لوضوحه، لأنه أمر معلوم وواضح، يعني لا نجد في كتب الفقه توقف القلب لكن لم يذكر ذلك لوضوحه.
ثم إن الفقهاء قد ذكروا أنه لا يثبت موت الإنسان إلا بعد تحقق العلم اليقيني بالموت، فلا يحكم على أحد بالموت بالشك أو غلبة الظن، بل لا بد من اليقين، ولهذا نجد أن الفقهاء ينصون على ذلك. قال الموفق ابن قدامة: إذا تيقن موته أغمضت عيناه إلى آخره. وقال ابن القيم -رحمه الله-: إذا شك هل مات مورثه فيحل ماله أو لم يمت لم يحل له المال حتى يتيقن موته، فنجد أن الفقهاء ينصون على أنه لا بد من تيقن الموت، فلا يعتبر في ذلك الشك أو غلبة الظن.
أما علامات الموت عند الأطباء، فالعلامات الأساسية عندهم: توقف القلب، وتوقف التنفس، وتوقف الجهاز العصبي، ونشاط الدماغ، وتحدث تغيرات بعد الوفاة، أولا: يحدث ارتخاء، الارتخاء الأولي للعضلات، وكذلك أيضا برودة الجسم، نتيجة لتوقف العمليات الحيوية الكيميائية المولدة للحرارة، وكذلك أيضا يحدث تغير للون الجلد والأنسجة، ثم يعقب ذلك التيبس وهو يعقب ارتخاء العضلات التيبس بجسم الميت. ثم بعد ذلك تأتي مرحلة التعفن بعد التيبس وهو نهاية التغيرات التي تحدث بالجثة بعد الوفاة، ويؤدي ذلك إلى انتفاخ الجثة وخروج السوائل وتغير الرائحة. يقول الأطباء بأن الارتخاء هو أول ما يكون بعد الوفاة مباشرة ويستمر من نصف ساعة إلى ساعتين، ثم يبدأ الجسم بالتيبس التدريجي ويكتمل التيبس بعد مضي ثماني ساعات.(1/222)
وأما علامة إحداد البصر فالذي يحصل للميت هو ذهاب لزوجة العين ويبقى الجفن على حاله، فإذا فاضت روحه والجفن مفتوحا بقي كذلك، وإذا فاضت روحه والجفن نازلا بقي على حاله، ولهذا تجد بعض الأموات عيناه شاخصتان مفتوحتان، وبعضهم ليستا كذلك يكون قد أغمض عينيه، وعلى حسب الحال التي يموت عليها. هذه علامات الوفاة وإنما ذكرناها لعلاقتها بهذه النازلة، وهي الموت دماغيا.
الميت دماغيا حاله في الحقيقة ظاهرها يدل على الحياة، فالميت دماغيا قلبه ينبض والدورة الدموية تعمل عنده، وجميع أعضاء البدن ما عدا الدماغ تقوم بوظائفها، كالكبد والكلى، والبنكرياس والجهاز الهضمي والنخاع الشوكي وغير ذلك، كل هذه الأجهزة تعمل لدى الميت دماغيا، وتقوم بوظائفها، إنما فقط الذي تعطل عنده هو الدماغ، ولذلك فإن الميت دماغيا يتبول ويتغوط، ويتعرق يخرج منه العرق، وحرارة جسمه ربما تكون مستقرة كحرارة الحي، أي سبع وثلاثين درجة تقريبا، وربما تضطرب إما بارتفاع أو انخفاض، وهذا يدل على الحياة في بدنه، وقد يصاب بالرعشة، وقد يصاب بخفقان القلب وبارتفاع الضغط وبانخفاضه، بل قد يتحرك حركة يسيرة كحركة أطراف اليدين أو القدمين.
وقد ذكر أخونا الشيخ يوسف في كتابه في رسالة الدكتوراه التي أشرت إليها أنه وقف على حالات ورأى فيها، حالات المتوفين دماغيا، كيف أن حرارة الجسم عندهم مستقرة على سبع وثلاثين، معلوم أن الميت يبرد جسمه، ورأى بعض المتوفين دماغيا وهو يتعرق ويتحرك؛ ولهذا فإنه عند عملية استئصال أعضائه لنقلها إلى إنسان آخر يخدر يأتي طبيب التخدير ويحقنه بدواء، ويبقى طبيب التخدير في مكان لمراقبة المريض في نبضه، وضغطه وغير ذلك، فإذا انخفض الضغط عنده حقنه بدواء يرفع الضغط، فيستجيب بدن الميت دماغيا لذلك. ومع هذا الوصف الذي سمعتم، ظاهر هذا أنه لا زال حيا، إنما فقط تعطل الدماغ عنده.(1/223)
وحتى لو سلمنا جدلا بأن هذه الأوصاف المذكورة أنها لا تدل على الحياة، فأقل ما يمكن أن توصف به أنها محل شك وتردد، ومحل خلاف، فمن الناس من يراه من أهل الحياة، ومن الناس من يراه من الأموات، وإذا كان كذلك فلا يُحكم بموته، وقد نقلنا كلام الفقهاء بأنه لا يحكم بوفاة الإنسان حتى يتيقن موته، والأصل هو بقاء الحياة، ولا ننتقل عن هذا الأصل إلا بيقين.
وبهذا يتبين أن موت الدماغ ليس موتا حقيقيا، بالمعنى الشرعي، وإن سماه بعض الأطباء موتا هو قد يسمى موتا باصطلاحهم، باصطلاح الأطباء، ولكن الذي يهمنا هو هل يسمى ميتا بالمصطلح الشرعي، الذي هو مفارقة الروح البدن، الذي يظهر، والله أعلم، أنه ليس بميت من الناحية الشرعية، وأن وجود هذه الأوصاف التي ذكرت أنها تدل على أن الروح لا زالت باقية لم تفارق البدن، ولهذا فإن جميع الأعضاء تعمل عنده ما عدا الدماغ، جميع الأعضاء من الكبد والكلى، والرئتين، تعمل عنده، فهو يتنفس وينبض قلبه، ويتغوط، ويتعرق، فكيف يقال بأنه قد مات وحاله كذلك، ولهذا فإنه يعتبر حيا ولم تفارق الروح البدن.
وننتقل بعد ذلك لآراء العلماء المعاصرين في هذه المسألة، ومن أغرب الآراء في هذه المسألة هو رأي مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، حيث اعتبروا الموت الدماغي موتا من الناحية الشرعية. جاء في قرار المجمع: يعتبر شرعا أن الشخص قد مات وتترتب عليه جميع الأحكام المقررة شرعا للوفاة إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
واحد: إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تاما وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
ثانيا: إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذت دماغه في التحلل.(1/224)
ويعني هذا القرار كان محل استغراب لكثير من العلماء، ولكن صدر بعده قرار لمجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بعده بسنة، يعني قرار مجمع منظمة المؤتمر كان في 1407، بينما صدر بعده قرار لمجمع الرابطة 1408 بعده بسنة تقريبا، بأن الميت دماغيا لا يحكم بموته شرعا إلا إذا توقف التنفس والقلب توقفا تاما. وأيضا بمثل هذا قرر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة، بأنه لا يعتبر موتا شرعا، جاء في قرار الهيئة برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- أنه لا يجوز شرعا الحكم بموت الإنسان الموت الذي تترتب عليه أحكامه الشرعية، بمجرد تقرير الأطباء أنه مات دماغيا حتى يعلم أنه مات موتا لا شبهة فيه، تتوقف معه حركة القلب والتنفس مع ظهور الأمارات الأخرى الدالة على موته لأن الأصل حياته، فلا يعدل عنه إلا بيقين.
والصواب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، ومجلس هيئة كبار العلماء، من أن الموت الدماغي لا يعتبر موتا من الناحية الشرعية، حتى يتوقف القلب والتنفس، وتظهر أيضا العلامات الأخرى للموت.
هذه المسألة هل يعتبر موتا من الناحية الشرعية أو لا يعتبر لها أثر كبير في المسألة التالية، وهي حكم نقل الأعضاء.(1/225)
فنقول: نقل الأعضاء، الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان كما أشرت إلى هذا في مقدمة الدرس، لا تؤخذ من الأحياء، ولا تؤخذ من الموتى، أما كونها لا تؤخذ من الأحياء فلأنها لو أخذت من الأحياء لمات هذا الحي، لو أخذت كبده أو قلبه لمات، وهذا أمر بدهي، ولا تؤخذ من الموتى، لأن هذه الأعضاء تتلف خلال وقت يسير من توقف التروية الدموية تتلف خلال وقت يسير. وأمامي الآن جدول للأعضاء، وكم مدة بقاء العضو بدون تبريد، وبقاء العضو بعد التبريد، فالدماغ مدة بقائه بدون تبريد، أربع دقائق، وبعد التبريد عدة ساعات، القلب مدة بقاء القلب بدون تبريد بضع دقائق، وبعد التبريد ساعتان فقط، الكبد مدة بقاء الكبد بدون تبريد ثمان دقائق، بعد التبريد ثمان ساعات، الكلى بدون تبريد خمس وأربعون دقيقة، بعد التبريد ثنتان وسبعون ساعة، البنكرياس بدون تبريد عشرون دقيقة بعد التبريد اثنى عشرة ساعة.
فإذا هذه الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان نجد أنها لا تبقى طويلا، بدون تبريد تبقى دقائق، بعد تبريدها سويعات، أقصى ما يصل البنكرياس إلى ثنتين وسبعين ساعة. ومن المستحيل في العادة الطبية إدراك العضو خلال هذه الفترة، ثم إن بقاء الدم في العضو بعد توقف الدورة الدموية، يؤدي إلى تجلط الدم في الأوعية الدموية الدقيقة، مما يؤثر على سلامة العضو ومناسبته للزراعة؛ ولهذا فإن أحسن، بل هو الطريق الوحيد لنقل الأعضاء هو الميت دماغيا، وذلك أن الميت دماغيا تقطع منه هذه الأعضاء، وتستأصل حتى لا يحدث تجلط للدم فيها، يحقن العضو من خلال الشريان الرئيسي بسائل أبيض مبرد ليطرد الدم من الأعضاء منعا للتجلط وليساعد في حفظها، فإذًا ليس هناك طريق لنقل الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان إلا من الميت دماغيا، الأحياء غير وارد، الأموات كما ذكرنا، ما تبقى الأعضاء بعد الموت مدة طويلة، وإنما مدة يسيرة لا يتمكن من خلالها الأطباء نقل العضو إلى إنسان آخر.(1/226)
لكن يستثنى من ذلك القرنية والجلد والعظام، فإنها بالتجميد والتبريد قد تبقى لمدة طويلة، أما بدون التبريد تبقى أربعا وعشرين ساعة فقط من موت الإنسان، لكن بتبريدها قد تبقى مدة طويلة، ولهذا فإنها يمكن بهذا التبريد نقلها من الأموات، ونقل القرنية والجلد والعظام من الأموات لا إشكال فيه، لا إشكال في جوازه، قد صدر فيه قرار من هيئة كبار العلماء، بعد النظر في هذا الموضوع، قرر المجلس بالأكثرية، جواز نقل قرنية عين من إنسان بعد التأكد من موته، وزرعها في عين إنسان مسلم، مضطر إليها وغلب على الظن نجاح عملية زرعها، ما لم يمنع أولياؤه ذلك، بناء على قاعدة تحقيق أعلى المصلحتين، وارتكاب أخف الضررين، وإيثار مصلحة الحي على مصلحة الميت، فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه والانتفاع بذلك في نفسه، ونفع الأمة به، ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنية عينه شيء فإن عينه إلى الدمار والتحول إلى رفاة، وليس في أخذ قرنية عينه مُثْلة ظاهرة، فإن عينه قد أغمضت وطُبِّق جفناها أعلاها على الأسفل.
فإذًا نقل القرنية ومثلها الجلد والعظام من ميت إلى حي لا بأس به. ونحن قلنا من ميت إلى حي لأن ذلك متصور طبيا ولا إشكال فيه، ولذلك من الميت للحي لا إشكال فيه، لكن بقية الأعضاء لا يتصور طبيا أن تنقل من ميت إلى حي، لأنها لا تبقى بعد الوفاة إلى مدة يسيرة لا يتمكن الأطباء من خلالها النقل، ولهذا فإن ليس هناك مصدر إلا نقلها من المتوفى دماغيا.
إذا نحن قلنا: إن هذه الأمور الثلاثة الجلد والعظام والقرنية، قلنا نقلها من الميت موتا شرعيا إلى الحي لا بأس به، أما نقل الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان من الميت دماغيا فهذا النقل له حالتان:(1/227)
الحال الأولى: أن يكون النقل من مسلم، والذي يظهر، والله أعلم، في هذه المسألة أن ذلك محرم ولا يجوز، لأن أعضاء هذا المتوفى دماغيا إذا أخذت فإنه سيموت موتا شرعيا، فأعضاؤه لا تؤخذ في الحقيقة إلا بقتله، فهذا النقل يؤدي إلى قتل هذا الإنسان. فإنسان أعضاؤه تعمل ما عدا الدماغ جميع أعضائه تعمل ما عدا الدماغ، ويبول ويتغوط ويتعرق ويتنفس وينبض قلبه، وحرارته كحرارة السليم، وقد ترتفع وقد تنخفض ثم نأتي وننقل أعضاءه فيؤدي هذا إلى وفاته وموته موتا شرعيا، هذا في الحقيقة قتل له وتعد على إنسان له حرمته، ولهذا فإن نقل الأعضاء من مسلم الذي يظهر، والله أعلم، أنه لا يجوز، بل إن صاحب البحث الذي أشرت إليه اعتبره قتل عمد، اعتبره قتل عمد موجب للقصاص. على كل حال هي المسألة يعني خلافية لكن هذا هو الظاهر من هذا التوصيف.
يبقى الإشكال فيما إذا كان النقل من كافر وليس من مسلم، فإن كان الكافر حربيا فلا إشكال في جواز النقل منه، لأنه مطلوب قتل هذا الكافر، مطلوب قتله في المعركة أو في أي مكان وهو الكافر الذي ليس بينه وبين المسلمين عهد ولا ميثاق ولا أمان، وبينه وبين المسلمين حرب، فهذا الكافر الحربي لا إشكال أيضا في جواز النقل منه، أما إذا كان الكافر معاهدا أو معصوم الدم عموما سواء كان بعهد أو بأمان، وهؤلاء الكفار هم يعني معظم الكفار الذين يراد نقل أعضائهم، فهذا محل إشكال، فمن العلماء من قال: بجواز النقل، ومنهم من قال: إن الكافر في هذه الحال كالمسلم؛ لأن دمه معصوم، فكيف يسوغ نقل أعضائه لأن نقل أعضائه يعني قتلا له في الحقيقة، ومنهم من فرق فقال إذا كان هذا الكافر المعصوم الدم في بلاد الكفار فنقل العضو جائز إلى بلاد المسلمين، لأن نقل العضو في هذه الحال ليس فيه نقض للعهد الذي بيننا وبينهم، وقوانينهم تسمح بهذا، أما إذا كان نقل العضو من كافر معاهد في بلاد المسلمين، فإنه لا يجوز لأن هذا يعتبر قتلا له.(1/228)
والمسألة عندي في الكافر المعاهد عموما سواء كان في بلاده أو في بلاد المسلمين محل إشكال وتردد، ولذلك ليس عندي ترجيح فيها، فأنا متوقف في هذه المسألة لأن الحكم فيها متردد بين أن يقال بالجواز باعتبار أن هذا كافر وفي نقل أعضائه للمسلمين مصالح عظيمة، بل فيها استنقاذ لنفوس مسلمين، ويمكن أن يعيشوا بهذه الأعضاء مدة طويلة. ونحن نرى الآن من يعيش بالكبد سنوات قد تزيد على عشر سنوات، ففي ذلك استنقاذ لحياة المسلمين، واستنقاذ حياة المسلم أمر مطلوب، وهذا كافر وأنظمة بلاده تسمح بذلك، وقد يقال: إن هذا النقل كما قررنا هو في الحقيقة تعد عليه وقتل له، وما دام معصوم الدم فما الذي يبيح قتله بهذه الطريقة، فالمسألة محل نظر يتجاذبها هذان النظران، ولهذا لم يظهر لي رجحان أي منهما، تبقى محل اجتهاد ونظر، والله تعالى أعلم. هذا هو حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة.
وأما المسألة الثالثة: وهو حكم سحب الأجهزة من الميت دماغيا.
قبل أن ننتقل للمسألة الثالثة، بالنسبة لقرار هيئة كبار العلماء في نقل الأعضاء، الذي ورد في قرار الهيئة، وبين يدي الآن قرار الهيئة هذا هو عليه توقيع المشايخ، الذي ورد في قرار الهيئة:
قرر المجلس بالإجماع جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان حي مسلم إلى نفسه، إلى نفسه لا إشكال في ذلك، لكن قرر بالأكثرية جواز نقل عضو أو جزئه من إنسان ميت، لاحظ من إنسان ميت، إلى مسلم إذا اضطر إلى ذلك وأُمنت الفتنة في نزعه ممن أخذ منه وغلب على الظن نجاح زرعه فيمن سيزرع فيه.
ثانيا: جواز تبرع الإنسان الحي بنقل عضو منه أو جزئه إلى مسلم مضطر لذلك.(1/229)
تلاحظ هنا في قرار الهيئة أن النص في جواز نقل الأعضاء إنما هو من إنسان ميت، ولم ينص فيه على أنه ميت دماغيا، ولهذا فإنه لا تصح النسبة لهيئة كبار العلماء بجواز نقل الأعضاء بإطلاق، وإنما القرار الذي ورد فيه نقل الأعضاء من إنسان ميت. ولعل المقصود به في الأعضاء التي يمكن أن تبقى بعد وفاة الإنسان كالقرنية مثلا، لكن لم ينص فيه على الميت دماغيا وهو المقصود ولهذا فكما ذكرت النسبة لهيئة كبار العلماء بأنهم يجيزون نقل الأعضاء نسبة غير دقيقة.
المسألة الثالثة: هي مسألة سحب أجهزة الإنعاش من المتوفى دماغيا، والميئوس منه عموما.
وهذه المسألة تكاد تتفق آراء العلماء المعاصرين على جواز ذلك، وأنه لا مانع من سحب هذه الأجهزة إذا قرر ثلاثة من الأطباء الثقات فأكثر، إذا قرروا أن هذا المريض قد تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا، أو ما كان في معنى ذلك. وقد صدر في ذلك قرارات من مجلس هيئة كبار العلماء، ومن مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، ومن مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي. جاء في قرار مجمع منظمة المؤتمر الإسلامي:
إذا تعطلت جميع الوظائف الدماغية تعطلا نهائيا وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذت دماغه في التحلل ففي هذه الحال يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة المركبة. ومثل ذلك أيضا جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، لكن مجمع الرابطة قيد ذلك بأن تُقرر لجنة من ثلاثة أطباء فأكثر. نص القرار: المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش، يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء اختصاصيين خبراء أن هذا التعطل لا رجعة فيه وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آليا بفعل الأجهزة المركبة.(1/230)
وأيضا مثل هذا ورد في قرار هيئة كبار العلماء: إذا قرر ثلاثة أطباء فأكثر متخصصون، رفع أجهزة الإنعاش عن المريض فإنه يجوز - الموضح حالته - فإنه يجوز اعتماد ما يقررونه من رفع أجهزة الإنعاش. فنجد أن يعني تكاد آراء العلماء المعاصرين تتفق على أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن هذا الميت دماغيا أو من كان في معناه ممن حكم الأطباء بتعطل الوظائف عنده، وأنه ميئوس من رجوعه، أو ميئوس من أن يُشفى في علم الأطباء وإلا فالله تعالى على كل شيء قدير، لكن عندهم أن مثل هذه الحالة أنها ميئوس منها، فإذا قرر ثلاثة أطباء فأكثر ذلك، جاز رفع أجهزة الإنعاش عنه، لأنه لا يُلزم استنقاذ هذا المريض الذي هذه حاله، ولأن وضع هذه الأجهزة لا يفيد في هذا الاستنقاذ، وقد يكون له كلفة كبيرة، وضع هذه الأجهزة عليه مدة طويلة قد يكون فيها نفقات وكلفة لإنسان قد تعطلت الوظائف عنده، أو تعطل الدماغ عنده، ولهذا فإن آراء العلماء المعاصرين تكاد تتفق على هذا.
فإن قال قائل: وما الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة نقل الأعضاء؟ أنتم قلتم: إن نقل الأعضاء من مسلم لا تجوز، لا يجوز نقل الأعضاء باعتبار أن هذا الميت دماغيا، لا يزال حيا ونقل الأعضاء معناه قتله، فلماذا تمنعون هذه الصورة وتجيزون رفع أجهزة الإنعاش؟ نقول: إن بينهما فرقا، ففي مسألة نقل الأعضاء فيه تعد على هذا الإنسان، فيها قتل له في الحقيقة، بنقل أعضائه أما في مسألة رفع أجهزة الإنعاش فليس فيها تعد عليه هو قلبه لا يعمل إلا بهذا الجهاز ولا يلزم هذا الطبيب بوضع أجهزة الإنعاش، إذا كان لا يتنفس إلا بهذا الجهاز، فإنه لا يلزم وضع هذا الجهاز له لكي يتنفس عن طريقه، ما دامت حالته ميئوسا منها، فهو فقط عندما تُسحب منه أجهزة الإنعاش يترك، فيموت غالبا، مثل هذا، ولهذا فبين المسألتين فرق.(1/231)
بقي قبل أن نختم هذه المسألة هل يمكن للميت دماغيا أن يعيش؟ أما على مستوى الأطفال فيمكن، أما على مستوى الأطفال فهذا ممكن وكثير في الحقيقة، ولهذا نجد أن الأطباء يستثنون الأطفال من هذا، لأن الطفل عنده خاصية إمكان رجوع الدماغ إلى العمل بعد التعطل حدثني أحد المشايخ بأن طفلا كان قد قرر الأطباء بأنه قد مات الدماغ عنده، ثم بعد ذلك عاش وأنه قد قابله، قابل هذا الطفل الذي قد ماتت دماغه عنده، وتحدث معه، مع أنه قد قرر الأطباء بأنه قد مات دماغيا. فعند الأطفال هذا ممكن وموجود وواقع عند الكبار البالغين، فقد قيل إنه ممكن، وكثير من الأطباء ينفي هذا، والمسألة تحتاج إلى توثيق.
وجد حالات لأناس حُكم عليهم بأنهم متوفين دماغيا ثم عاشوا، لكن قد قيل بأن الخطأ كان في تشخيص هذه الحالات أصلا من البداية، كان خطأ في التشخيص، أن الطبيب الذي شخص بأن هذا المريض مات دماغيا كان تشخيصه غير صحيح. فهذه المسألة هل يمكن أن يعيش الميت دماغيا تحتاج إلى مزيد توثيق، وإلا نحن نسمع حكايات في هذا لكنها تحتاج إلى يعني مزيد من الدقة والتوثيق في هذا. أما الأطفال فهذا موثق عالميا حتى على المستوى العالمي، موجود هذا وموثق لدى الأطباء، لكن الذي لم يوثق هو مسألة عودة المتوفى دماغيا عند الكبار البالغين.
هذه في الحقيقة نبذة مختصرة عن هذه النوازل وإلا الكلام فيها أكثر بكثير مما ذكرناه، لكنها تعطي خلاصة لآراء العلماء المعاصرين في هذه النوازل، ونكتفي بهذا القدر فيها.
ننتقل للأسئلة.
إذا بقي الشخص المتوفى دماغيا مدة طويلا يقال إنه يتعذب ويكون عالة على أهله بكثرة مصاريفه؟(1/232)
نحن قلنا إنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش، وحينئذ نقول: لو أذن أهله برفع أجهزة الإنعاش فلا بأس بذلك، لكن لو قرر الأطباء رفع أجهزة الإنعاش، أو عدم إنعاشه إذا احتاج لذلك ورفض الأهل فهل يأثم الأطباء بهذا؟ هذا السؤال وجه لهيئة كبار العلماء إذا قرر الأطباء عدم الإنعاش في الحالة السابقة، وهي إذا كان المريض مصابا بحالة عجز شديد مثل الشلل الدماغي، حيث إنه لا يحرك رجليه أو يديه، ومصاب بتخلف عقلي شديد ولا يرجى شفاؤه، وقرر الأطباء عدم الإنعاش ورفض الأهل فما هو الحكم؟ وما هو الإجراء القضائي لو اشتكى الأهل الأطباء لتسببهم في موت الطفل؟
وكان الجواب من هيئة كبار العلماء جواب السؤال الثاني: إذا قرر الأطباء المختصون رفع الأجهزة في الحالة المذكورة، فإنه لا يلتفت إلى معارضة الأهل لا يلتفت إلى معارضة الأهل، يعني أن الأطباء يملكون هذا بناء على هذا القرار، وهذا قد يعني يكون محل إشكال في الحقيقة، قد يكون محل إشكال لكن لا يلزم الأطباء بإنعاش هذا الإنسان الذي وصلت حاله إلى هذه المرحلة، لأن إنعاشه وبقاء الأجهزة عنده مكلف، مكلف اللهم إلا إذا أخذ أهله هذا المريض، وعالجوه على حسابهم، هذا ربما يختلف الحكم، نقول: إن الأطباء يلزمهم الالتزام بتعليمات الأهل في هذا، لكن لو كان مستشفى حكوميا، وكان بقاء هذا المريض مدة طويلة مكلفا ففي هذه الحال بناء على قرار هيئة كبار العلماء أنه يجوز رفع أجهزة الإنعاش عنه في هذه الحال.
قال: سمعت الشيخ ابن عثيمين يقول لا يجوز التبرع بالأعضاء؟
نعم، كنت أريد أن أنبه على هذا، فاتنا هذا، وجزاه الله خيرا الأخ السائل، الشيخ محمد العثيمين يرى أنه يحرُم نقل الأعضاء، والتبرع بها، يرى أنه يحرم ويشدد في هذا، وأما سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فهو متوقف في هذه المسألة، ونُقل عنه أيضا القول بالتحريم، ولكن رأيه المحرر في قرار هيئة كبار العلماء التوقف.
العقل هل هو بالدماغ أو بالقلب؟(1/233)
ظاهر النصوص أن العقل بالقلب وليس بالدماغ؛ لأن الله تعالى قال: { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } (1) وقال: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } (2) ظاهر هذا أن العقل في القلب وليس في الدماغ، ولكن المقصود بالقلب القلب المرتبط بالروح، القلب المرتبط بالروح، ليس فقط مجرد العضلة، وهذا لا يُورد علينا إيراد أنه عند زراعة قلب كافر لمسلم أن هذا المسلم يبقى على إسلامه ولا يتأثر ولا يتغير، نقول المقصود بالقلب المرتبط بالروح.
هناك مجمعان للفقه الإسلامي؟
هناك في الحقيقة مجامع ليس مجمعان، هناك عدة مجامع، هناك مجمع الفقه الإسلامي في الهند، ومجمع الفقه الإسلامي في السودان، ومجمع الفقه الإسلامي الأوروبي، لكن أبرز المجامع هذان المجمعان، هو مجمع الرابطة، ومجمع منظمة المؤتمر، ومجمع الرابطة في الجملة أقوى لأنه يضم نخبة من فقهاء العالم الإسلامي، وفي كلٍ خير.
ما حكم نقل أحد الأعضاء من الأحياء بحيث لا يتسبب في وفاته مثل نقل إحدى الكليتين؟
الذي يظهر أن هذا لا بأس به، الذي يظهر، والله أعلم، ليس هو محل الخلاف، والذي يظهر أن النقل من الحي إذا كان لا يتسبب في ضرر عليه مثل الكلية، فلا بأس بذلك؛ لأن الإشكال الذي طرح في مسألة نقل الأعضاء هو في نقل الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان مثل الكبد والقلب، لكن إذا كان في عضو لا تتوقف عليه حياة الإنسان وكان هذا الإنسان حيا فهي محل خلاف بين العلماء، من العلماء من يرى أن ذلك لا يجوز لأن هذه الأعضاء ملك لله - عز وجل - وليست ملكا للإنسان، ومنهم من يرى الجواز في هذا، والذي يظهر هو الجواز لأن في هذا مصلحة عظيمة، فيها مصالح عظيمة، وهذا الحي لا يتضرر، نحن شرطنا أن لا يتضرر بهذا النقل، وهو لا يتضرر بهذا النقل وينتفع به غيره.
__________
(1) - سورة الحج آية : 46.
(2) - سورة الحج آية : 46.(1/234)
إذا جاز سحب أجهزة الإنعاش من الميت دماغيا فلم لا يجوز نقل الأعضاء من هذا الشخص لأنه بالنهاية المصير إلى الموت؟
إذا مات جاز نقل الأعضاء، لكن إذا مات لا يمكن نقل الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان، نحن ذكرنا أنها لا تبقى مدة طويلة، دقائق معدودة لا يتمكن الأطباء من خلالها النقل، هذا النقل يحتاج إلى عملية، ويحتاج إلى يعني أمور تحتاج إلى وقت، فإذا مات لا يمكن نقل هذه الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان، وقبل أن يموت يرد علينا إشكالية أن هذا الميت دماغيا لا يزال حيًّا، فنقل أعضائه في هذه الحال هو قتل له في الحقيقة، هذه هي الإشكالية في هذه المسألة.
من القائلين بأن الميت دماغيا ميت شرعا؟
نحن قلنا مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي يرى هذا، ومجلس هيئة كبار العلماء أيضا يرى هذا بأن الميت دماغيا، نعم، ليس بميت من الناحية الشرعية، مجلس هيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة. أما من يرى أنه ميت من الناحية الشرعية فهو مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
قال: ذكرتم أن نقل الأعضاء التي تتوقف عليها حياة الإنسان لا يمكن لميت الدماغ، مع أنه من المعروف أنه يمكن نقلها من الأحياء إذا تطابقت الأنسجة؟(1/235)
لو نقلت من الأحياء لمات هذا الحي، لو نقل قلب إنسان حي هل يعيش؟ ما يمكن، نقلت كبده هل يعيش؟ ما يمكن، هذا معروف بداهة، لكن لعل قصد السائل لو نقل ما توصل إليه الطب الحديث في الوقت الحاضر، أنه يمكن نقل بعض العضو، مثل جزء من الكبد، حيث إن هذا الحي يبقى يعيش، فالظاهر في هذا أنه لا بأس به، الذي يظهر أن هذا لا بأس به، لأن هذا فيه مصلحة عظيمة، وليس فيه ضرر كبير على هذا الحي الذي نُقل منه هذا يعني الجزء من العضو، فإذا كان من الحي فالأمر سهل، لأنه لا يمكن أن ينقل ما يتسبب في وفاته، وإنما ينقل ما لا يتسبب في وفاته، وأيضا يُشترط شرط آخر أن لا يكون عليه ضرر كبير، ألا يكون عليه ضرر كبير في هذا النقل، لكن نقل أجهزة بأكملها هذا غير ممكن، نقل قلب بأكمله نقل كبد هذا غير ممكن.
أين أجد قرارات هيئة كبار العلماء، ومجمع الفقه الإسلامي للرابطة؟
قرارات هيئة كبار العلماء موجودة هي مطبوعة ويمكن أخذها من دار الإفتاء، ومجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي مطبوعة قراراته في كتاب أيضا، جمعت قراراته كلها في كتاب وموجود في المكتبات.
هل وقع من مات دماغيا أفاق؟
سبق أن أجبنا عن هذا.
رفع الأجهزة عن الميت دماغيا ونقل العضو منه، كلاهما يؤدي إلى وفاة المريض، فلماذا لا يستفاد من العضو للحفاظ على حياة آخر؟
لا يمكن أن يستفاد من العضو إلا قبل رفع الأجهزة، وهذا هو الإشكال في المسألة، إذا رفعت الأجهزة سيموت موتا شرعيا، وإذا مات توقف الدم، ولا يمكن في خلال هذه الفترة القصيرة بعد وفاته، نقل العضو، لأنه كما قلنا يحتاج إلى وقت يحتاج إلى إجراء عملية للنقل، فهنا يعني الإشكالية في هذه المسألة، لأنه لا يمكن الاستفادة من الأعضاء إلا قبل وفاته من الناحية الشرعية، فتكون الأجهزة لا تزال عليه، أما لو رفعت الأجهزة مات من الناحية الشرعية وبالتالي لا يمكن نقل هذه الأعضاء.
قال: رفع الأجهزة لا يعد قتلا؟(1/236)
لا، رفع الأجهزة لكن في حالة خاصة، الميت دماغيا رفع الأجهزة عنه لا يعتبر قتلا له؛ لأن هذا المستشفى ليس ملزما بوضع هذه الأجهزة، وما قتله، هو فقط رفع أجهزة موجودة عنده، لها كلفة وتحتاج نفقات، فرفع هذه الأجهزة عنه، ولا يعتبر هذا قتلا له في الحقيقة، أما لو كان يمكن استنقاذه بهذه الأجهزة، إن كان يمكن استنقاذه بهذه الأجهزة فنعم، يجب أن تبقى هذه الأجهزة لأن رفعها عنه يعتبر قتلا له، لكن إذا كان لا يمكن استنقاذه وهذه الأجهزة لو بقيت ستبقى مدة طويلة وتحتاج إلى نفقات.
فالظاهر أن هذا المستشفى ليس ملزما من الناحية الشرعية بأن تبقى هذه الأجهزة في هذا المريض الذي قد قرر الأطباء بأنه قد تعطل الدماغ عنده أو تعطلت أعضاؤه أو بعض أعضائه تعطلا لا رجعة فيه، تعطلت تعطلا لا رجعة فيه بحيث إنه ميئوس من شفائه عند الأطباء، ففي مثل هذه الحال أيضا إلزام المستشفى بتحمل نفقات هذا المتوفى دماغيا مدة قد تكون مدة طويلة قد تكون سنين، لو حسبت النفقات المترتبة على وجود هذه الأجهزة لوجدت نفقات كبيرة، فإلزام أيضا المستشفى ببقاء هذه الأجهزة على هذا المريض، فيه إشكال أيضا، ولهذا فنحن نقول فقط ترفع هذه الأجهزة التي وضعت فيه، هم يقولون نحن وضعنا أجهزة في هذا المريض نحن نسحبها ونرفعها فقط، ولا يعتبر هذا قتلا له، وبين المسألتين فرق كبير. والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حكم اللحوم المستوردة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.(1/237)
هذا هو الدرس الأخير معنا في هذه السلسلة من الدروس في هذه الدورة المباركة، وسوف يكون حديثنا في هذا الدرس عن حكم اللحوم المستوردة. فقد أصبحت اللحوم في الوقت الحاضر تُصدَّر إلى بلاد المسلمين من بلدان شتى، وهذا التصدير نشأ بفضل تقدم وسائل المواصلات، وتقدم الآلات التي تذبح بها هذه الحيوانات المصدرة، ووجود وسائل تبريد لحفظ تلك اللحوم. فأصبح يمكن نقل تلك اللحوم بأنواعها، سواء كانت من الأغنام أو الأبقار أو الطيور أو غيرها، أصبح يمكن نقلها من أقصى الشرق أو أقصى الغرب، أو من أي مكان من الأرض، أصبح يمكن نقلها إلينا، فهذا الاستيراد وهذا النقل لهذه اللحوم، بهذه الطريقة لم يكن معروفا في العصور الماضية، وإنما وجد في هذا العصر الذي نعيش فيه، ومن ثم فهي تعتبر نازلة تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها. وقبل أن نتكلم عن آراء العلماء المعاصرين في هذه المسألة نقدم بمقدمة نبين فيها حكم ذبائح أهل الكتاب، فنقول:
إن ذبائح أهل الكتاب قد أحلها الله تعالى لنا في كتابه الكريم فقال سبحانه: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } (1) والمراد بالطعام في هذه الآية ذبائحهم، وبهذا فسر الآية ابن عباس - رضي الله عنهما- ومجاهد وسعيد بن جبير، وعطاء والحسن رحمهم الله تعالى، فسروا المراد بالطعام في هذه الآية بأنه الذبائح، فيكون معنى الآية { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } (2) أي وذبائح الذين أوتوا الكتاب حل لكم وذبائحكم حل لهم، وهذا الحكم متفق عليه بين العلماء، فذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين. والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، فهذا الحكم خاص بهم.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 5.
(2) - سورة المائدة آية : 5.(1/238)
أما ذبائح الكفار من غير اليهود والنصارى، فإنها لا تحل للمسلمين في قول عامة أهل العلم. ولكن يقول بعض الناس إن كثيرا من أهل الكتاب في الوقت الحاضر، قد حرفوا دينهم فلم يبقى لهم من دينهم إلا اسمه، بل كثير منهم أصبح ليس متمسكا بدينه، وإنما فقط ينتسب إليه مجرد انتساب، فهم أشبه باللادينيين أو الملاحدة، فهل تحل ذبائحهم للمسلمين، وهم بهذا الوصف؟
نقول: نعم ما داموا ينتسبون لأُمَّة يهودية أو نصرانية، فتحل ذبائحهم، وإن كانوا قد حرَّفوا وبدَّلوا، والدليل على ذلك أن اليهود والنصارى وقت نزول القرآن كانوا كافرين بكثير من أصول الإيمان الواردة في التوراة والإنجيل، فكان اليهود كافرين بنبوة بعض الأنبياء، كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ويقتلون الأنبياء بغير حق، وحرفوا كثيرا من أحكام التوراة، وكان جماعة منهم يقولون: عزير ابن الله، إلى غير ذلك من المخالفات الكثيرة لأصول دينهم، وكذلك النصارى، كانوا يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ويقولون: إن المسيح ابن الله، تعالى الله تعالى عن ذلك، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وكانوا يكفرون بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك من المخالفات لأصول دينهم.
ومع هذا كله، سمى الله تعالى اليهود والنصارى مع هذه المخالفات سماهم أهل كتاب، وأحل ذبائحهم، ونكاح نسائهم المحصنات أي العفيفات للمسلمين، ولم يكن كفرهم وشركهم، وتحريفهم لكتبهم، لم يكن مانعا من إجراء أحكام أهل الكتاب عليهم، لم يكن هذا مانعا من إجراء أحكام أهل الكتاب عليهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون ذلك مانعا من إجرائها عليهم إلى يوم القيامة. وبهذا نعرف أن هؤلاء إذا كانوا ينتسبون لأُمَّة يهودية أو نصرانية، فإنهم يكونون أهل كتاب.(1/239)
ويشترط في ذبائح أهل الكتاب، ما يشترط في ذبائح المسلمين، وحينئذ فإذا كان أهل الكتاب يذبحون لغير الله أو لا يذكون الذكاة الشرعية فإن ذبائحهم لا تحل لنا، لأن ذلك لو وقع من مسلم، لم تحل ذبيحته، فإذا وقع ذلك من كتابيٍّ فمن باب أولى ألا تحل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: الأشبه بالكتاب والسنة في ذبائح أهل الكتاب التي أُهِلَّ بها لغير الله، الأشبه في ذلك ما دل عليه كلام أحمد من الحظر، وذلك لأن قوله: { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } (1) { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } (2) عموم محفوظ لم تخص منه صورة، بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب، فإنه يشترط له الذكاة المبيحة، فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته، لأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم، والمسلم لو ذبح لغير الله لم تبح ذبيحته، فكذلك الذمي، إلى آخر ما قال. المقصود أن ما يشترط في ذبيحة المسلم، يشترط في ذبيحة الكتابي من باب أولى.
والذبائح المستوردة، لا يخلو إما أن تكون مستوردة من بلاد أهل الكتاب، أو من غيرهم، أما الذبائح المستوردة من غير أهل الكتاب، المستوردة من بلاد الشيوعية يعتنق أهلها الشيوعية أو البوذية، أو أي دين غير دين أهل الكتاب فإنها لا تحل للمسلمين ذبائحهم، لا تحل للمسلمين ذبائحهم. وهذا الحكم أيضا يكاد يكون محل اتفاق بين أهل العلم.
وحينئذ يبقى النظر في ذبائح أهل الكتاب خاصة، الذبائح المستوردة من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى، وأكبر إشكالية في هذه الذبائح، أكبر إشكالية في اللحوم المستوردة إلينا، هي أنها لا تذكى الذكاة الشرعية، فتصعق بالكهرباء قبل ذبحها، فما حكم هذا الحيوان إذا زهقت الروح قبل الصعق أو بعده؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 173.
(2) - سورة المائدة آية : 3.(1/240)
أقول: هذه المسألة وهي ذبح الحيوان المأكول بواسطة الصعق الكهربائي، درسها مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي وأصدر فيها قرارا جاء فيه:
أولا: إذا صعق الحيوان المأكول بالتيار الكهربائي، ثم بعد ذلك تم ذبحه أو نحره، وفيه حياة فقد ذُكي ذكاة شرعية، وهذا بغض النظر عن كون الصعق يباح أو لا يباح، وهذا سنأتي له، لكن إذا صُعق ثم ذبح، فقد ذُكي ذكاة شرعية، إذا صُعق وبقيت فيه حياة ثم ذُبح فقد ذُكي ذكاة شرعية، وحل أكله لعموم قول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } (1) .
ثانيا: إذا زُهقت روح الحيوان المصاب بالصعق الكهربائي قبل ذبحه، يعني كان زهوق الروح قبل الذبح، فإنه ميتة يحرم أكله لعموم قول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } (2) .
ثالثا: إذا صُعق الحيوان بالتيار الكهربائي عالي الضغط فهذا الصعق تعذيب للحيوان قبل ذبحه أو نحره، والإسلام ينهى عن هذا ويأمر بالرحمة والرأفة بالحيوان. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحد أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته " رواه مسلم.
أما إذا كان التيار الكهربائي منخفض الضغط وخفيف المس، بحيث لا يعذب الحيوان، وكان في ذلك مصلحة لتخفيف ألم الذبح عنه وتهدئة عنفه ومقاومته، فلا بأس بذلك مراعاة للمصلحة. فيكون إذًا عندنا في هذا مسألتان، المسألة الأولى: حكم هذه الذبائح التي تذبح عن طريق الصعق الكهربائي، والمسألة الثانية: حكم الصعق الكهربائي نفسه.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.
(2) - سورة المائدة آية : 3.(1/241)
أما الذبائح التي تُذبح عن طريق الصعق الكهربائي فإن أُدركت وفيها حياة بعد الصعق ثم ذُبحت حل أكلها لعموم قول الله تعالى: { إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } (1) أما إن زهقت الروح قبل الذبح، زهقت الروح بعد الصعق وقبل الذبح فإنها ميْتة، أو أنها موقوذة لأن الموقوذ هو الذي يموت بالضرب، هذه قد ضربت عن طريق الكهرباء فهي إما ميتة أو موقوذة فتكون محرمة.
الصعق الكهربائي نفسه إن كان عالي الضغط فلا شك أن فيه تعذيبا للحيوان وإيلاما له فلا يجوز، أما إن كان خفيف الضغط بحيث إنه لا يتسبب في تعذيب الحيوان كان فيه مصلحة فلا بأس به. والوسم في غير الوجه جائز للحيوانات، مع أن فيه نوع إيلام لها لكن لما كان فيه مصلحة كبيرة كان جائزا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسِمُ إبل الصدقة. إذا كان هذا الصعق خفيف الضغط فلا بأس به، هذا ما يتعلق بمسألة حكم الصعق.
ننتقل بعد ذلك إلى واقع هذه الحيوانات التي تُستورد لحومها إلينا التي تُورَّد لحومها إلينا، واقعها هل هي تذكى ذكاة شرعية، أو أنها لا تذكى الذكاة الشرعية؟
أقول: اختلف الناس في هذا، واضطربت شهادات الشاهدين لتلك الذبائح، فبعض الشهادات تفيد بأنها تُذكى الذكاة الشرعية، وكثير منها يفيد بأنها لا تذكى الذكاة الشرعية، وأذكر نماذج لكلا الفريقين.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.(1/242)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- أعدت بحثا في هذا وقد كاتبت وزير التجارة والصناعة في ذلك الوقت، وطلبت منه توضيحا حول هذه المسألة فبعث خطابا لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وأفاد بأن الأجهزة المختصة في وزارة التجارة وفي مصلحة الجمارك أنها تحرص دائما على التثبت من صحة شهادات الذبح على الطريقة الإسلامية، وكونها مصدقة من سفارات المملكة إن وجدت أو سفارات الدول الإسلامية الأخرى، وأن هذه السفارات على معرفة بالجهات التي تصدر هذه الشهادات، سواء كانت جمعيات إسلامية أو مؤسسات فردية.
ثم قال إن هذه البلدان توفر الذبح على الطريقة الإسلامية، وتفعل ذلك حرصا على تصريف منتجاتها في العالم الإسلامي الواسع، ولحاجتها الماسة إلى العملة الصعبة، ولأنهم يدركون أن لهم منافسين من بلدان أخرى، فيعملون عادة إلى الكتابة إلى الجهات الرسمية في البلدان الإسلامية لاستشارتهم حول منتجاتهم.
ثم قال وكما أننا حريصون على توافر الشروط الصحية، فكذلك أيضا نحن حريصون على توافر الشروط الشرعية في الذبح، فهذه إفادة تفيد بأن هذه الذبائح التي ترد إلينا أنها إنما تكون على الطريقة الشرعية. ولكن بعض الدعاة وطلاب العلم، لهم إفادات تخالف هذا، وبعضها يوافق هذا. فمن الإفادات التي تخالف هذا ما ذكره أحد الدعاة وقد كتب خطابا لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- ذكر واقع ما شاهده في تلك البلاد بعد زيارته لبعض الشركات.
ومما ذكر بالنسبة للدجاج، ذكر أنه يُعلق من أرجله بآلة تسير به إلى رجل بيده سكين، ويقطع بها رقابها بسرعة بالغة وتمشي بها الآلة إلى ماء ساخن تُغمس فيه، وتُنظف ثم تُعاد للتصدير. وقد يُغمس الدجاج في الماء الساخن قبل انتهاء موته، وهنا تَرد الإشكالية، قد يُغمس الدجاج في الماء الساخن قبل انتهاء موته لزيادة سرعة الذابح وسرعة سير الآلة.(1/243)
ويقول: أشك في الذابح هل هو مسلم أو كتابي، أو وثني أو ملحد. قال: ويُكتب على الغلاف ذُبح على الطريقة الإسلامية، ويصدق على ذلك من لم يشاهد الذبح بنفسه ولا بنائبه. لكن هذا المصدق يأخذ أجرة ذلك لأن وزارة التجارة تطلب من المستوردين كتابة ما يفيد بأن هذه اللحوم قد ذُبحت على الطريقة الإسلامية.
ثم وَصَف أيضا الذبح في شركة أخرى قال بأنها كسابقتها، من تعليق أرجلها وغمسها بسرعة في ماء ساخن قبل انتهاء حياتها، وأنه يُكتب عليها ذُبح على الطريقة الإسلامية ويصدق من جمعيتين إسلاميتين بأجرة.
ثم وصف ما شاهده من ذبح الأبقار بأنها تصعق بالكهرباء ثم تُسلخ دون أن يخرج منها دم. قال: ثم بين لهم الأطباء أن في بقاء الدم خطرا فصاروا يضربونها ضربة غير مميتة بمطرقة في رأسها فإذا سقطت عُلقت من أرجلها بآلة رافعة، ثم يُشق جلد الرقبة ثم يُقطع الوريد بسكين آخر وينزل الدم بغزارة إلى أن يفارق الحياة.
وأيضا شاهد آخر من الدعاة يصف الذبح بأنه في مصنع لتعليب اللحوم بأنهم يصعقون الأغنام بالكهرباء على كل حال، ويكتبون على صناديقها، مذبوحة على الطريقة الإسلامية. وأيضا داعية يصف الذبح في شركة من أكبر الشركات العالمية للحوم البقر والدواجن قريبا مما ذكرنا، قال بأنه يذبح الطير معلقا من قدمه، مما يجعل قطع الوريدين يتحقق في الغالب، ولكن المحذور يبقى قائما، وهو أن الآلة تغمس الذبيحة في الماء الساخن المغلي قبل أن تفارق الروح، كما أنه ليس من المؤكد في هذه الشركة أن الذابح كتابي.(1/244)
ولكن شاهد آخر في بلد آخر وصف الطريقة التي تُذبح بها الأغنام بأنها طريقة شرعية، فيقول إنه ذهب من المركز الإسلامي إلى مقر الشركة، واطلع على كيفية ذبح الأغنام، قال: فوجدنا أن آلة تعلق الأغنام إلى أعلى، ويقوم رجل بسكين حادة ليذبح رأس الذبيحة تماما على الشريعة الإسلامية لأنه يقطع الوريدين والمريء معا، إلا أن الأمر متوقف على الذابح هل هو كتابي أم لا، ويقوم المركز الإسلامي بتقديم شهادة خطية على أن الذبح جرى على الطريقة الإسلامية.
فتجدون الآن هذه الشهادات مختلفة، بعضها يصف الذبح بأنه تتوافر فيه الشروط وبعضها يصفه بأنه ليس كذلك، والأكثر أكثر الشهادات على أنها لا تتوافر فيها الشروط الشرعية ، فأحببت أن أنقل لكم هذه الشهادات ليتبين أن النقل مضطرب ومختلف فيما يتعلق بتوافر الشروط ، وعلى ذلك يترتب الحكم الشرعي عندما يكون الترجيح .
أقوال العلماء المعاصرين في هذه اللحوم المستوردة :
أولا : إذا قدر التحقق من أن هذه اللحوم تذبح على الطريقة الشرعية ، فلا إشكال في حلها ، لا إشكال في حلها ؛ لأنها من ذبائح أهل الكتاب ، وقد أحل الله تعالى لنا ذبائحهم ، وكذلك أيضا إذا أمكن التحقق من أنها لا تذبح بالطريقة الشرعية فلا إشكال في أنها لا تحل لنا ، ولكن في الغالب وهو الأكثر أنها تجهل الحال ، يجهل حال هذه اللحوم المستوردة هل هي مذكاة على الطريقة الشرعية ، أم لا ؟ وهذه اللحوم مجهولة الحال ، للعلماء المعاصرين فيها قولان :
القول الأول : أنها مباحة فيحل أكلها ، وإن كان الورع تركَ ذلك ، إلا أنها من حيث الحكم مباحةٌ ، ويباح أكلها ، ومن أبرز من قال بهذا القول سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- ، وكذلك الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله- ، وبه أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وسننقل فتياها في آخر بحث المسألة .(1/245)
واستدل أصحاب هذا القول بعموم الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } (1) قالوا : فالأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل إلا إذا علمنا أنهم قد ذبحوها على غير الوجه الشرعي .
وقد جاء في فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- لما سئل عن هذه المسألة قال : قال الله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } (2) وهذه الآية أوضحت لنا أن طعام أهل الكتاب مباح لنا ، وهم اليهود والنصارى إلا إذا علمنا أنهم ذبحوا الحيوان المباح على غير وجه مشروع، كأن يذبحوه بالخنق أو الكهرباء ، أو ضرب الرأس ونحو ذلك فإنه بذلك يكون منخنقا أو موقوذا فيحرم علينا ، كما تحرم المنخنقة والموقوذة التي ذبحها المسلم على هذا الوجه ، أما إذا لم نعلم الواقع فذبائحهم حل لنا عملا بالآية الكريمة .
وكذلك أيضا الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله- له فتوى قريبة من هذا ، وهي : أن الذبائح إذا وردت من أمة يهودية أو نصرانية فهي حل لنا إلا إذا علمنا بأنها ذبحت على غير الوجه المشروع قال -رحمه الله- : " إذا علمنا أن الذبح وقع ، ولكن نجهل كيف وقع بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو ذبيحة مقطوعة الرأس ، ولا نعلم على أي صفة ذبحوها ، ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد ، ولكن النصوص الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تقتضي حله ، وأنه لا يجب السؤال تيسيرا على العباد ، وبناء على أصل الحل " .
ثم ذكر بعض الأدلة ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة التي أتته بها إليه اليهودية الشاة المسمومة ، وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز وشعير وإهالة سنخة ، وفي كلتا القصتين لم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية الذبح ، وهل ذكر اسم الله عليه أم لا ؟ .
__________
(1) - سورة المائدة آية : 5.
(2) - سورة المائدة آية : 5.(1/246)
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها : " أن قوما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - سموا عليه أنتم وكلوا ، قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر " فأباح النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه ، ومعلوم أن ذكر اسم الله على اللحم شرط لحله ، وقرينة الشك موجودة لقول عائشة : " وكانوا حديثي عهد بالكفر " ومعلوم أن حديث العهد بالكفر قد يجهلون التسمية .
وإحلال النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك مع الشك ، في وجود شرط الحل وهو التسمية ، وقيام قرينة على هذا الشك ، وهي كونهم حديثي عهد بكفر ، دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل ، وبناء على ذلك فما يرد مما يذبحه اليهود أو النصارى غالبه مما جهل كيف وقع ذبحه ، فيكون تحديد المقام فيه إجراءه على أصل الحل وعدم وجوب السؤال عنه .
فهنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والشيخ محمد يقرران : أن الأصل الحل ، لاحظ هنا هذا التأصيل لأنا سيأتينا في القول الثاني تقرير أن الأصل الحظر ، فتأصيل المسألة مهم جدا ، فلاحظ هنا أصحاب هذا القول يقرران أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل إلا إذا علمنا أنهم ذبحوه على غير الوجه المشروع ، فأقول : انتبه لهذا التأصيل ؛ لأنه سيأتينا في أدلة القول الثاني ، تقرير أن الأصل الحظر الأصل في اللحوم الحظر ، فتأصيل المسألة مهم جدا .
ننتقل إلى القول الثاني : وهو أن النوع من الذبائح محرم ؛ لأن الأصل في الحيوانات التحريم ، لاحظ هذا الأصل يقابل الأصل الذي ذكره أصحاب القول الأول ، قالوا : لأن الأصل في الحيوانات التحريم ، فلا يحل شيء منها إلا بذكاة شرعية متيقنة تنقلها من التحريم إلى الإباحة ، قالوا : وحصول الذكاة على الوجه الشرعي في هذه اللحوم أمر مشكوك فيه فتبقى على الأصل وهو التحريم .(1/247)
ومن أبرز من قال بهذا القول الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- وكذلك أيضا بحث هذه المسألة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- في رسالة الدكتوراه التي أعدها ، رسالة الدكتوراه للشيخ كانت عن الأطعمة وأحكام الأطعمة والذبائح والصيد ، فالشيخ -حفظه الله- بحث هذه المسألة بتوسع في كتابه في رسالة الدكتوراه له، ورجح القول بتحريم هذه الذبائح ، وهذا النوع من الذبائح .
ووجهة هذا القول قالوا : إن الأصل في الأبضاع والحيوانات التحريم ، فلا يحل البضع إلا بعقد صحيح مستجمع لأركانه وشروطه ، كما لا يباح أكل لحوم الحيوانات إلا بعد تحقق تذكيتها ممن هو أهل للتذكية .
وقالوا : فإن الله -سبحانه وتعالى- حرم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة والموقوذة والمتردية ، والنطيحة وما أكل الذبح إلى ما ذكي ، قالوا: هذا دليل على أن الأصل في الحيوان التحريم ، إلا ما ذكاه مسلمون أو أهل كتاب ، وتحقق من تذكيته على الوجه المشروع .
قالوا فما يرد إلينا من اللحوم المستوردة من بلاد أهل الكتاب فإذا تحقق من كونهم يذبحون على الطريقة الشرعية لا إشكال في حله ، ولكن الواقع أن تلك اللحوم المستوردة إنما تستورد من بلاد جرت العادة عندهم أو عند أكثرهم أنهم يذبحون بالصعق وبالخنق وبضرب الرأس ، وحينئذ نكون في شك من حل هذه الذبائح ، ونبقى على الأصل وهو التحريم ؛ تغليبا لجانب الحظر ، قالوا : فقد اجتمع مبيح وحاظر في هذه الذبائح فيغلب جانب الحظر .(1/248)
قالوا : ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أرسلت كلبك المعلَّم ، وذكرت اسم الله عليه فكل ، فإن وجدت معه كلبا آخر فلا تأكل " ففي هذا الحديث بين - عليه الصلاة والسلام - أن من يصيد بكلبه المعلم إذا وجد معه كلبا آخر فإنه لا يأكل من صيد كلبه ؛ تغليبا لجانب الحظر ، لأنه اجتمع في هذه الصورة مبيح ، وهو إرسال الكلب المعلم ، وغير مبيح ، وهو اشتراك الكلب الآخر ، فغلب جانب الحظر .
وجاء في رواية : " وإن وقع في الماء فلا تأكل ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك " لأنه حينئذ يقع التردد بقتله ، هل قتله السهم الذي أرسلته ، إذا كان الصيد عن طريق السهم ، أو أنه غرق في الماء ، فاجتمع مبيح وحاظر فغلب جانب الحظر سواء عند إرسال الكلب المعلم مع وجود كلب آخر ، أو عند إرسال السهم وسقوطه في الماء وغرقه ، قالوا : فهذا دليل لما ذكرناه من الأصل ، وهو أن الأصل في الحيوانات التحريم .
قالوا : وأما حديث عائشة : " سموا أنتم وكلوا " فهذا ورد في قوم مسلمين إلا أنهم حديثو عهد بكفر بخلاف ما يرد لنا من ذبائح أهل الكتاب ، وهي محل شك في تذكيتها على الوجه المشروع ، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول .(1/249)
والذي يظهر في هذه المسألة والله أعلم ، نقول : أولا : لا شك أن الورع والاحتياط هو اجتناب تناول هذه اللحوم المستوردة ، والبعد عنها ؛ لأن ما أثير حولها يورث شبهة قوية ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فالورع والاحتياط هو أن لا يتناول المسلم هذه اللحوم المستوردة ، وهذا باتفاق العلماء ، حتى أصحاب القول الأول الذين قالوا إنها مباحة يرون أن الورع تجنبها ، أن الورع تجنبها خاصة مع وجود البديل ، والبديل موجود في البلاد الإسلامية ، وحتى غير البلاد الإسلامية يوجد هناك من يذبح على الطريقة المشروعة من المسلمين ، أو حتى من أهل الكتاب ، فالبديل موجود ولله الحمد ، ما دام البديل موجودا فلماذا يلجأ الإنسان إلى هذه اللحوم التي هي محل شك ؟ لِلَّهِ قد قال - عليه الصلاة والسلام - : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " هذا من حيث الورع .
وأما من حيث الحكم الشرعي ، فالذي يظهر والله أعلم هو أن القول الراجح في هذه المسألة هو القول الأول : وهو أنها مباحة ، وذلك لأن الأصل في ذبائح أهل الكتاب هو الحل ، أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب هو الحل إلا إذا علمنا بأنهم قد ذبحوها على وجه غير مشروع .
وهذا الأصل أولى من الأصل الذي ذكره أصحاب القول الثاني وهو أن الأصل في الحيوانات التحريم ؛ لأن هذا القول ، وهو الأصل في الحيوانات التحريم إنما ينطبق على حيوان شك في حله من حرمته ، وهنا نقول الأصل الحرمة ، لكن هذه حيوانات مباحة في الأصل : أغنام أو أبقار أو دواجن ، هي مباحة بالأصل ، ولكن الشك إنما أتى في كيفية الذبح ، فليس الشك واردا في أصل الحيوان حتى نقول الأصل في الحيوانات التحريم ، إنما أتى الشك في كيفية ذبح حيوانات مجمع على حلها ، وحينئذ لا يرد الأصل الذي ذكره أصحاب القول الثاني ، فالأقرب للأصول والقواعد الشرعية هو التأصيل الذي ذكره أصحاب القول الأول .(1/250)
وأما حديث عدي في إرسال الكلب المعلم ، أيضا الرمي بالسهم ، ووقوع الصيد غريقا في الماء ، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأكل منه ، ، هذا إنما ورد في الصيد خاصة .
وأما في الذكاة فقد ورد فيها والذبائح ورد فيها نصوص أخرى ، ومنها حديث عائشة : " إن قوما يأتوننا بلحم ، ولا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا أنتم وكلوا " ، وكانوا حديثي عهد بالكفر . فهذا نص في هذه المسألة وهو أنه حصل الشك في شرط الحل وهو التسمية ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجراء الأمر على الأصل وهو الحل ، ولهذا قال : " سموا أنتم وكلوا " مع أيضا كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبائح أهل الكتاب ، فهذا يدل على أن الأصل الذي ذكره أصحاب القول الأول ، أولى من الأصل الذي ذكره أصحاب القول الثاني .
وبهذا صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- جاء في الفتوى : " أن الأصل في ذبائح المسلمين وأهل الكتاب الحل ، حتى يثبت ما يخرجها عن ذلك إلى التحريم ، والأخبار عما يستورد من الذبائح من دول الكفار لم تزل مختلفة ومضطربة ، حتى إن وزير التجارة ما زال ينكر بقوة ما يشاع عن اللحوم والمعلبات المستوردة إلى المملكة بأنها ذبحت ذبحا غير إسلامي .(1/251)
وعلى هذا لا تكفي هذه الإشاعات لخروج المستوردات مما ذكر عن أصل الإباحة فيها إلى التحريم ، ومع ذلك من ارتاب فيها تركها احتياطا عملا بحديث : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ما ذكر حول أن هذه الذبائح تذبح بطريقة غير شرعية ، هي كما جاء في الفتوى مختلفة ومضطربة ونقلت لكم شيئا من هذا ، نقلت لكم شهادات لبعض الدعاة بأنها تذبح على الطريقة الشريعة ، وشهادات في أنها تذبح على غير الطريقة الشرعية ، وإن كانت شهادات الذين يقولون بأنها تذبح على غير الطريقة الشرعية إنها هي يعني أكثر وأشهر لكن تبقى مع ذلك هذه الشهادات مختلفة ومضطربة ، وربما بعض الحاضرين يعرف شيئا من هذا ، لكن مع ذلك فيه اختلاف واضطراب .
ومع هذا الاختلاف والاضطراب ، لا تقوى شهادات من قال بأنها تذبح على غير الطريقة المشروعة ، لا تقوى لنقل الحكم من الإباحة إلى التحريم ، ولهذا نقول : إن الورع هو عدم الأكل من هذه اللحوم ، لكن لا يستطيع الإنسان أن يفتي بتحريم هذا الأكل ويحرمها على غيره ؛ لأن عندنا أصل وهو الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل حتى يرد ما ينقلها من الحل إلى الحرمة ، ومثل هذه الشهادات المضطربة والمختلفة غير كافية لنقلها من الإباحة إلى الحرمة .
وينبغي للمسلمين في البلاد التي تستورد منها اللحوم ، والمسلمين في البلاد الإسلامية عموما أن يلجئوا تلك الشركات التي تقوم بذبح هذه الذبائح إلى إيجاد مجازر خاصة بالمسلمين ، ونحن المسلمين نستطيع أن نفرض على الشركات المنتجة ما نريده ، الشركات بينها تنافس كبير في الوصول إلى المستهلك واسترضائه ، ولذلك فإنها تحرص على معرفة ماذا يريد ، ونحن المسلمون أكثر من ألف مليون ، فينبغي أن نفرض رغبتنا في إيجاد مجازر خاصة بالمسلمين تذبح فيها الذبائح على الطريقة الشرعية مستوفية لجميع شروط الذكاة .(1/252)
وقد ذكر بعض الدعاة أنهم أبدوا ملحوظات لبعض تلك الشركات ، وأنها تجاوبت وطلبت مقترحات المسلمين لذبح تلك الذبائح بالطريقة التي يريدها المسلمون ، وأقول : إذا كان اليهود يحرصون على أن يكون الذبح متفقا مع عقيدتهم ومبادئهم ، فخصصوا لذلك عمالا ومجازر ، يذبحون لهم كما يريدون ، فنحن المسلمين أحق بذلك وأولى لأن المسلمين أولا أكثر عددا ، ولذلك فإن الشركات تحرص على كسبهم وعلى استرضائهم ، فينبغي أن يفرض المسلمون كلمتهم في هذا ، سواء المسلمون الذين يعيشون في تلك البلدان ، أو المسلمون الذين يستوردون تلك اللحوم ، فينبغي أن يكون لهم مبادرة في تصحيح الوضع القائم في تلك الشركات لكي يذبحوا على الطريقة الشرعية ، أو يخصصوا مجازر للمسلمين لذبح تلك الذبائح على الطريقة المشروعة .
وحاصل الكلام في هذه المسألة أن الورع والاحتياط تجنب تناول تلك اللحوم ما دامت ترد على ذلك الوصف ، ولكن من حيث الحكم الذي يظهر -والله أعلم- هو أن الأصل الحل حتى يتحقق الإنسان أن هذه الذبائح بعينها أنها لم تستوفِ شروط الذكاة الشرعية ، فحينئذ تنتقل من الحل إلى الحرمة والله تعالى أعلم .
وبهذا نكون قد انتهينا مما أردنا عرضه في هذه السلسلة من الدروس ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، طيب نجيب على ما تيسر من الأسئلة
أحد الإخوة قال: شكر الله لكم على ما قدمتم في هذه الدورة ، والله لقد استفدنا فائدة بالغة من هذا الدرس.(1/253)
على كل حال نشكر الإخوة جميعا على هذا الحضور المتميز ، ونشكر القائمين على تنظيم هذه الدورة المباركة وحسن الترتيب ، وكذلك أيضا حفظ دروس هذه الدورة ، وهذا هو أمر مهم جدا ، فهذه الدروس محفوظة في موقع الجامع على الإنترنت ، من فاته شيء من هذه الدروس فبإمكانه أن يرجع إليها ؛ لأن أحيانا قد لا نتمكن من يعني التمهل لأجل كتابة بعض الإخوة ، وربما بعض الإخوة يتضايق من هذا ، لكن ربما لأجل ضيق الوقت ، ورغبتنا في تغطية هذه النوازل هو السبب في هذا .
فالذي فاته شيء لعله يرجع إلى موقع الجامع ، فهذه الدروس محفوظة الآن بالصوت ، وستنزل إن شاء الله بعد فترة مكتوبة ، فنشكر الإخوة القائمين على تنظيم هذه الدورة ، على رأسهم فضيلة إمام الجامع الشيخ فهد الغراب على هذه العناية الكبيرة بهذه الدروس ، والتيسير للوصول إلى المعلومة ، وإلى ما قيل في هذه الدروس كلها بأقرب طريق ، وحفظ هذه الدروس لمن رغب في الاستفادة منها .
هل حكم التصوير ومن يقوم بالتصوير سواء أم بينهما فرق ؟
لا شك أن الذي يقوم بالتصوير أنه أشد إذا كان هذا التصوير من النوع المحرم ، وسبق أن تكلمنا عن هذا الموضوع بالتفصيل في درس سابق .
عند شرائنا كرتون دجاج وجدنا فيها أن أحد الدجاج لم تذبح رقبتها كما هي ، وقمنا برمي هذه الدجاجة ؟
هذا صحيح هذا مما يؤكد ما أثير حولها من شكوك ، وأيضا ذكر الشيخ صالح الفوزان في كتابه أنه قد وجد سمك مستورد وكتب عليه ذبح على الطريقة الإسلامية ، أي نعم ، الأخ نعم يذكر السردين كذلك أنه ذبح على الطريقة الإسلامية .
هل الذي نقل خبر كيفية الذبح منعوا من سؤال حال الذابح أكتابي أم هو ؟
يعني ما أدري يعني صحيح يعني إيراد الأخ في محله ، لكن لم يذكر هذا ذكرت شهاداتهم مع الشك في كون الذابح ، ربما لأنه لم يتيسر لهم الوصول للمعلومة الصحيحة .
هل رفع اليدين عند دعاء المشايخ عند ختم الدروس من البدع ؟(1/254)
رفع اليدين الأصل أنه مشروع ، قد ورد في سنن أبي داود بسند صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا " لا إلا في المواضع التي لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع يديه فيها ، مثل خطبة الجمعة في غير الاستسقاء ، لا يشرع رفع اليدين إلا في الاستسقاء فقط ، وكذلك أيضا بعد صلاة الفريضة لا يشرع رفع اليدين ، وإلا فالأصل أن رفع اليدين مشروع ، نعم ، يعني فات وقت الدعاء أي نعم نعم ، ظاهره إن هذا لا بأس به إذا مضى وقت بعد الفراغ من الفريضة لا بأس برفع اليدين .
إذا كانت ذبيحة مجهولة ذبحها المصلي أو تارك الصلاة ؟
أما إذا كانت في بلاد المسلمين ، والأصل أن الذين يتولون الذبح هم مسلمون فتجرى على هذا الأصل ، وهو أن الأصل فيها الحل .
يقول قوله : بأن الذبائح المجهولة الأصل فيها الحل قد يقول قائل إذا اجتمع مبيح وحاظر فإنه يغلب جانب الحظر خصوصا في المطعومات ، وهذه قاعدة شرعية ، وهناك قاعدة شرعية أخرى ، وهي الشك في الأمر يوجب الرجوع إلى الأصل ؟
هذه وجهة أصحاب القول الثاني ، وقد ذكرتها فتعارضت عندنا الآن أصول ، تعارض عندنا الأصل الذي ذكره أصحاب القول الأول ، وهو أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل إلا إذا علمنا بأنهم قد ذبحوها على الطريقة المحرمة ، والأصل الذي ذكره أصحاب القول الثاني : وهو أن الأصل في الحيوانات التحريم ، وإذا اجتمع حاظر ومبيح ، غلب جانب الحظر فيها ، فتعارض عندنا أصلان .(1/255)
فالذي يظهر والله أعلم ، أن التأصيل الذي ذكره أصحاب القول الأول هو الأقرب للأصول والقواعد الشرعية ؛ لأن ما ذكره أصحاب القول الثاني إنما يرد على تلك الحيوانات إذا اختلف في حلها هل هي مباحة أو محرمة لكن هذه الحيوانات مجمع على حلها ، هي أغنام أو أبقار أو دواجن ، لكن وقع الشك في كيفية الذبح فقط ، فتجرى على الأصل وهو أن الأصل في ذبائح أهل الكتاب كما أن الأصل في ذبائح المسلمين الحل إلا إذا علمنا بأنها قد ذبحت على وجه غير مشروع .
ما حكم أطفال الأنابيب وهل هي من النوازل ؟
أنا كنت أريد أن أعرضها لكن ضاق الوقت ، على كل حال هي فيها صور جائزة ، إذا تحقق من كون الحيوانات المنوية والبويضة من الزوجين ، فيجوز ذلك صدر فيه قرار المجمع الفقهي بجواز تلك يعني أطفال الأنابيب إذا تحقق من كون الحيوان المنوي والبويضة من الزوجين ، وكان في ذلك ضبط للمسألة بحيث لا يقع اختلاط للأنساب ، فإذا كان هناك ضبط للمسألة كما عليها الحال عندنا في المملكة هناك يعني ضبط لهذه العملية ، واحتياط كبير ، فالذي يظهر أنه لا بأس باستخدام تلك الأنابيب وصدر فيها قرار المجمع الفقهي .
هل يجوز أكل ذبيحة تارك الصلاة أو من عنده بدعة مكفرة ؟
تارك الصلاة بالكلية لا تحل ذبيحته ، أما إذا كان يصلي أحيانا الصحيح أنه لا يكفر وحينئذ تحل ذبيحته .
وهذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم إذا كان تارك الصلاة يصلي أحيانا ويترك أحيانا هل يكون كافرا أو لا يكون ؟ الأقرب والله أعلم أنه لا يكون كافرا ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ، ترك الصلاة " ولم يقل ترك صلاة .(1/256)
ولأنه قد جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح : أن رجلا من ثقيف أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبايعه على صلاتين فقبل منه ، وإنما قبل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك للتدرج في الدعوة ، من باب التدرج : لأنه كونه يصلي صلاتين أحسن من كونه لا يصلي ، وجاء في وفد ثقيف لما بايعوه على ترك الجهاد والصدقة قبل منهم ذلك ، وقال : " إذا أسلموا سيجاهدون ويتصدقون " وهذا من الحكمة في الدعوة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتدرج معهم ، فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل من هذا الرجل صلاتين في أول الأمر حتى يطمئن قلبه ، ويستقر في قلبه الإيمان دليل على أنه لا يكفر ؛ إذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكفر ، فهذا من أظهر الدلائل على أن من كان يصلي أحيانا ويترك أحيانا أنه لا يكفر ، وبعض أهل العلم يكفره ، لكن هذا هو الأقرب من حيث الدليل والله تعالى أعلم .
وهكذا من كانت بدعته مكفرة لا تحل ذبيحته ، أما من كانت بدعته مفسقة وليست مكفرة فيبقى مسلما وتحل ذبيحته .
هذا أيضا سؤال قريب من السؤال السابق ، ما حكم الذبح بالمنشار الكهربائي الذي يقتل العدد الكثير في وقت يسير ؟
إذا كان يحصل به إنهار الدم ، إذا كان يحصل بأن كان بآلة حادة يحصل بها إنهار الدم فلا بأس ؛ لأنه لا فرق بين هذا المنشار وبين السكين ، المهم حصول إنهار الدم ، " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه " .
يقول : ما انهمك فيه بعض الناس من المأكولات الأجنبية خصوصا الهمبورجر قد سألت بعض الباحثين في المصطلحات عنه فقال : هو من الخنزير ؟(1/257)
على كل حال هذه اللحوم التي ترد هي ليست لحوم خنزير فيما نعلم ؛ هي لحوم أبقار أو أغنام ، والأصل فيها الحل تجري كما ذكرنا على المسألة ، وكون الإنسان يا إخوان يتورع لنفسه هذا شيء ، كونه يحرم على الناس شيء آخر ، فلا بد من الحذر عند إطلاق الحكم الشرعي ؛ لأن بعض الناس تأخذه العاطفة فيتسرع في إطلاق الأحكام الشرعية ، والله تعالى يقول : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) } (1) فكون الإنسان يتورع لنفسه هذا مطلوب الورع ، فإذا شك في حل هذا فإنه يتورع لنفسه ، ولكن كونه يحرم على الآخرين لا بد من الدليل ، وإلا وقع في المحظور والقول على الله تعالى بغير علم .
كيف نعرف الشركات التي تذبح على الطريقة الإسلامية والتي لا تذبح ؟
يعني هذا الإجابة عن هذا السؤال صعبة التعرف عليها ليس سهلا ، ولكن تبقى الشكوك تدور حول ما يستورد ، ولذلك فإن الورع أن الإنسان يكتفي بما يذبحه المسلمون مما تتوفر فيه شروط الذكاة ، أما ما يستورد فنحن على القول الراجح قلنا الأصل فيه الحل الأصل فيه أنه مباح إلا إذا ورد شيء ينقل الحكم من الإباحة إلى التحريم وذلك إذا تحققنا من كونها لم تستوف شروط الذكاة الشرعية .
دقيقة بس ننتهي من المكتوب أولا .
هناك دول ليست من أهل الكتاب ، وإنما هي علمانية ما حكم ذبائحها ؟
إذا كانت تنتسب لأمة يهودية أو نصرانية فهم أهل كتاب ، ولو كان الحكم فيها حكما علمانيا ، كثير من الدول الغربية الحكم فيها حكم علماني ، لكن أكثر الناس فيها ينتسبون إما يعني لليهود أو للنصارى وهو الأغلب ، الأغلب أنهم ينتسبون إلى النصارى .
الأخ هذا سؤال يقول دلونا على كتاب في فقه النوازل يمكن الرجوع إليه ؟
__________
(1) - سورة النحل آية : 116.(1/258)
الحقيقة ليس هناك كتاب يجمع هذه كلها ، لكن هناك كتيبات للشيخ بكر أبو زيد في النوازل ، وهناك أيضا مجلات مجمع الفقه الإسلامي ذكرتها في أول الدورة موجود فيها عدد من مسائل النوازل مما ذكرناه في هذه الدورة وغيرها ، فهذه بالإمكان الرجوع إليها ، وهناك أيضا رسائل علمية في النوازل ، ولعل أيضا هذه الدورة تكون فكرة أو بذرة لكتاب في فقه النوازل ، طيب خلوا الأسئلة الشفهية بعد ما ننتهي دقيقة بس حتى نختم .
إذا حلف شخص ثم قال بعد حلفه إن شاء الله ، ثم لم يفعل ما حلف عليه فهل عليه شيء ؟
هذا ورد فيه حديث ، حديث صحيح هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث " فمن قال : إن شاء الله بعد حلفه لا يحنث أبدا ، ولذلك الفقيه لا يحنث أبدا إن كان عنده فقه لا يمكن أن يحنث ؛ لأنه دائما إذا حلف قرن الحلف بقوله : إن شاء الله وبذلك لا يحنث ، وهذا أمر سهل ويسير إذا احتجت للحلف فاقرن حلفك بقولك : إن شاء الله ، وبذلك لا تحنث أبدا ، ونكتفي بهذا القدر من الإجابة على الأسئلة ، ونسأل الله - عز وجل - للجميع الفقه في الدين والعلم النافع والتوفيق لما يحب ويرضى ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/259)