من أبحاث فقه السنة
سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء
لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان / الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف
تقديم : الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وزوجاته أمهات المؤمنين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فمن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد جمعت إلى جانب ما امتازت به من المبادئ السامية والمثل العليا، والعقائد السمحة، والأخلاق الكريمة - كثيراً من القواعد التشريعية التي لها صفة الدوام والإستمرار في الشرائع السماوية السابقة.
وتعتبر من أجل تلك القواعد شأناً وأعظمها أثراً؛ السنن التي فطر الله الناس عليها، وجعلها لهم بارزة من السمات التي تميزهم عن غيرهم من مخلوقاته.
ونظراً لأن هذه السنن تعتبر من الأسس الهامة التي اتفقت عليها كل الشرائع لانسجامها مع التكوين الفطري للإنسان؛ كان لها هذا الإهتمام البالغ من بين السنن النبوية الكريمة؛ فقد أفردها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه، وحض على الإلتزام بها، كما أنه ميّزها عن غيرها من السنن بهذا الوصف الرائع الذي يشير إلى أنها لازمة للإنسان باعتباره إنساناً بغض النظر عن لونه أو عنصره أو دينه، وهو وصف الفطرة.
لذلك كانت هذه السنن بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها بوجه خاص لإبراز، ما انطوت عليه من معان سامية وحكم بالغة وقواعد شرعية هامة حتى يتسنى للمسلمين التعرف والعمل بها، فيحرزوا بذلك فضيلة العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن الأنبياء قبله صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين، فنقول وبالله التوفيق:
بعض النصوص الواردة في سنن الفطرة(1/1)
روى الإمام مسلم في صحيحه؛ عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وزهير بن حرب، جميعاً عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن الني صلى الله عليه وسلم قال: " الفطرة خمس. أو خمس من الفطرة: الختان والإستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب ".
كما رواه عن غير طريق سفيان؛ قال: حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحي؛ قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الفطرة خمس " وذكر الحديث (1).
2- وقال أيضاً في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا حدثنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن أبي شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط وحلق العانة، وانتقاص الماء ". قال زكريا: قال مصعب:" ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ". زاد قتيبة: قال وكيع:" انتقاص الماء يعني الإستنجاء" (2).
__________
(1) ج1 ص152 ، 153 : دار التحرير بالقاهرة، ورواه البخاري في صحيحه ج12 ص458 من فتح الباري: مصطفى الحلبي بالقاهرة وأبي داود ج1 ص79 من عون المعبود: المجد بالقاهرة، وابن ماجه ج1 ص125 الطبعة الثانية دار الفكر، والترمذي ج8 ص38 من تحفة الأحوذي؛ المدني بالقاهرة.
(2) صحيح مسلم ج1 ص153 وسنن الترمذي ج8 ص38 من التحفة وسنن أبي داود ج1 ص81 من العون وابن ماجه ج1 ص126 .(1/2)
3- وقال أبو داود حدثنا يحي بن معين: أخبرنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن أبي شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها. ثم ساق الحديث السابق كما في مسلم. إلا أنه ذكر رواية أخرى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب قالا أخبرنا حماد عن عليّ بن يزيد عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من الفطرة: المضمضة والإستنشاق ". فذكر نحوه ولم يذكر: إعفاء اللحية، وزاد : "والختان". قال "والإنتضاح". ولم يذكر انتقاص الماء؛ يعني الإستنجاء ".
قال أبو داود: وروى نحوه عن ابن عباس؛ وقال " خمس كلها في الرأس " وذكر فيه الفرق..
ولم يذكر إعفاء اللحية (1).
وقد أخرج ابن ماجه حديث عمار بن ياسر بنفس اللفظ الذي ساقه به أبو داود. مع تقديم بعض الحروف على بعض (2).
وقد أخرج أبو عوانة في مستخرجه حديث عائشة بلفظ " عشر من السنة "، ذكر فيه الإستننثار بدل الإستنشاق (3).
أولاً: هذه النصوص من حيث الإسناد:
قال الحافظ العراقي: حديث أبي هريرة أخرجه الأئمة الستة فردوه - خلا الترمذي- من طريق سفيان بن عيينة. والترمذي والنسائي، أيضاً، من رواية معمر، والنسائي أيضاً من رواية يونس بن يزيد ثلاثتهم عن الزهري عن ابن المسيب ورواه النسائي من رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة (4) وأقول بل مسلم رواه أيضاً عن غير طريق سفيان. فرواه - كما في الرواية الثانية- عن ابن وهب عن يونس.
__________
(1) انظر عون المعبود ج1 ص81 ، 82 .
(2) انظر سنن ابن ماجه ج1 ص126
(3) فتح الباري ج12 ص456 .
(4) طرح التثريب شرح التقريب ج2 ص72 وانظر أيضاً تحفة الأحوذي ج8 ص33 والنسائي ج1 ص17 مطبعة الحلبي.(1/3)
أما حديث عائشة فقد أخرجه مسلم في صحيحه، وحسنه الترمذي كما أخرجه النسائي وابن ماجه. وقد ضعف النسائي رفعه. فإنه قد رواه موقوفاً على طلق بن حبيب؛ ثم قال: إنه أولى بالصواب من حديث مصعب بن شيبة. قال: ومصعب بن شيبة منكر الحديث (1) وجاء في شرح الترمذي: إن مصعب بن شيبة، لين الحديث؛ ثم نقل بعد ذلك قول الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: مصعب بن شيبة وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما؛ فحديثه حسن وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره: فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ (2).
وقد اختلف فيمن حدث منه النسيان والشك في الخصلة العاشرة، وهي المضمضة، فذكر مسلم وأصحاب السنن؛ أن مصعباً هو الذي نسي العاشرة، ووقع في رواية لمسلم أن الذي نسيها هو زكريا بن أبي زائدة والأول أكثر وأشهر.
وفي سن النسائي عن سليمان التيمي:" وأنا شككت في المضمضة إلا أن سليمان جعل الحديث من قول طلق "، وقال النسائي:" إنه أشبه بالصواب " (3).
والقائل: إلا أن تكون المضمضة؛ يحتمل أن يكون هو مصعب، ويحتمل أن يكون الراوي عنه هو الذي ذكرها.
وقد جزم بعدِّ المضمضة فيها أبو بشر بن إياس الراوي له عن طلق.. وقال النسائي؛ وحديث سليمان التيمي وجعفر بن إياس و أشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة (4).
وكذلك هو ثابت في حديث عمار بن ياسر عند أبي داود وابن ماجه (5).
__________
(1) سنن النسائي ج8 ص110 ، ص111 طبعة مصطفى الحلبي .
(2) تحفة الأحوذي ج8 ص38 وترجمة : مصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عفان ابن أبي طلحة .. العبدري المكي الحجي في تهذيب التهذيب ج1 ص162 وانظر أيضاً سنن النسائي ج8 ص110 ، ص111 مطبعة الحلبي .
(3) النسائي ج8 ص111 مطبعة مصطفى الحلبي .
(4) المرجع السابق .
(5) انظر عون المعبود ج1 ص82 وسنن ابن ماجه ج1 ص126 .(1/4)
وقد وافق النسائي في ترجيح رواية كل من سليمان التيمي وجعفر ابن إياس: الدارقطني في العلل. فقد نقل الحافظ السيوطي عنه قوله: هما أثبت من مصعب ابن أبي شيبة وأصح حديثاً. ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: مصعب بن أبي شيبة أحاديثه مناكير، منها عشرة من الفطرة.
ولا ذكر ابن منده أن مسلماً أخرجه قال: تركه البخاري فلم يخرجه، وهو حديث معلول رواه سليمان التيمي عن طلق ابن حبيب مرسلاً (1).
قال ابن دقيق العيد:لم يلتفت مسلم لهذا التعليل لأنه قدم وصل الثقة عنده على الإرسال - ثم - قال: وقد يقال في تقوية رواية مصعب : إن تثبته في الفرق بين ما حفظه وبين ما شك فيه؛ جهة مقوية لعدم الغفلة. من لا يتهم بالكذب إذا ظهر منه ما يدل على التثبت قويت روايته، وأيضاً لروايته شاهد صحيح مرفوع في كثير من هذا العدد من حديث أبي هريرة الذي أخرجه الشيخان (2).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن (3).
وتقدم ما نقلناه عن الحافظ ابن حجر من قوله في مصعب: وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما؛ فحديثه حسن وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ (4).
أما حديث عمار بن ياسر؛ الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأشار إليه الترمذي (5) فقد صحح أكثر المحدثين إرساله؛ لأنه قد جاء في بعض روايات عن أبيه محمد بن عمار بن ياسر؛ ومحمد بن عمار ليست له صحبة. قاله المنذري في التخليص (6).
وجاء في رواية أخرى عن سلمة عن عمار بن ياسر؛ قال البخاري: إنه لا يعرف لسلمة سماع من عمار (7).
__________
(1) انظر زهر الربى على المجتبى – سنن النسائي ج8 ص113 مطبعة مصطفى الحلبي.
(2) انظر المرجع السابق .
(3) انظر مسند الترمذي ج8 ص38 من تحفة الأحوذي .
(4) انظر تحفة الأحوذي ج8 ص38 وتهذيب التهذيب ج10 ص162 .
(5) عون المعبود ج1 ص82 وابن ماجه ج1 ص126 وتحفة الأحوذي ج10 ص38 .
(6) عون المعبود ج1 ص82 .
(7) طرح التثريب ج2 ص84 والتاريخ الكبير للبخاري ج4 ص77 .(1/5)
أما من حيث المعنى: فلم يزد حديث عمار عما جاء في حديثي أبي هريرة وعائشة سوى ذكر الإنتضاح وقد وردت فيه أحاديث كثيرة بحيث لو ضم بعضها إلى بعض لكانت مقوية له؛ من هذه الأحاديث: ما أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن سفيان بن الحكم الثقفي - أو الحكم بن سفيان الثقفي - قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال يتوضأ – توضأ – وينتضح " (1). وقد اختلف في سماع الثقفي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النمري له حديث واحد في الوضوء. وهو مضطرب الإسناد (2). ومنها: ما جاء عن أسامة بن زيد أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فعلمه الوضوء. فلما فرغ من وضوئه أخذ حفنة من ماء فرش بها نحو الفرج فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرش بعد وضوئه.
رواه أحمد وفيه رشدين بن سعد وثقة هيثم بن خارجة وأحمد بن حنبل في رواية وضعفه آخرون (3).
وقد أخرج ابن ماجه؛ حديث أسامة من طريق أخرى لكن فيها ابن لهيقة - وفيه كلام - (4).
ومنها ما أخرجه: الترمذي وابن ماجه من أبي هريرة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فانتضح " (5).
قال الترمذي: هذا حديث غريب: قال وسمعت محمداً يقول: الحسن بن علي الهاشمي منكر الحديث (6).
ومنها: ما أخرجه ابن ماجه عن جابر قال:" توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضح فرجه " (7). وفيه قيس بن عاصم وهو ضعيف (8).
__________
(1) انظر عون المعبود ج1 ص285 ، 286 .
(2) المرجع السابق .
(3) مجمع الزوائد للهيثمى ج1 ص241 ، 242 الطبعة الثانية
(4) سنن ابن ماجه ج1 ص172 .
(5) ابن ماجه ج1 ص33 وتحفة الأحوذي ج1 ص168 .
(6) بسنن الترمذي ج1 ص169 من تحفة الأحوذي.
(7) سنن ابن ماجه ج1 ص173 .
(8) من تعليق السندي على سنن ابن ماجه ج1 ص173 .(1/6)
وقد أخرج النسائي حديث الحكم السابق فقال فيه: عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة عن منصور عن مجاهد عن الحكم عن أبيه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ حفنة من ماء فقال بها هكذا ووصف شعبة، نضح به فرجه " فذكرته لإبراهيم فأعجبه (1).
ومن شأن هذه الطرق الكثرة: أن يقوي بعضها بعضاً تجعل الحديث صالحاً للعمل به إن شاء الله.
أما أثر ابن عباس الذي أشار إليه أبو داود؛ فقد وصله عبد الرازق في تفسيره والطبري من طريقه بسند صحيح واللفظ لعبد الرازق: أخبرنا معمر بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} الآية (2) قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد؛ في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والإستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة والختان ونتف الإبط. وغسل أثر الغائط والبول بالماء " (3).
وذكر الحافظ ابن حجر أن أبا حاتم قد أخرج أثر ابن عباس هذا من وجه آخر؛ فذكر فيه غسل الجمعة بدل الإستنجاء (4).
ويلاحظ هنا: أن أثر ابن عباس قد زيد فيه في الرواية الأولى على ما جاء في حديثي عائشة وأبي هريرة: الفرق. كما زيد فيه في الرواية الثانية. غسل الجمعة. أما - فما عدا هاتين الخصلتين فهو متفق مع الحديثين السابقين عن عائشة وأبي هريرة.
وهذا الأثر وإن كان موقوفاً على ابن عباس إلا أن السنة الصحيحة قد وردت بكل ما جاء فيه، ونذكر ذلك بإيجاز فيما يلي:
أ – إن ما عدا الخصلتين السابقين: الفرق وغسل الجمعة فمذكور في حديثي أبي هريرة وعائشة كما أشرنا إلى ذلك قريباً.
__________
(1) عون المعبود ج1 ص287 .
(2) سورة البقرة الآية رقم 124 .
(3) عون المعبود ج1 ص83 .
(4) فتح الباري ج12 ص456 .(1/7)
ب - إن خصلة فرق الشعر لها شاهد في عدد من الصحاح؛ فقد أخرج البخاري في صحيحة والنسائي وابن ماجه واللفظ للبخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه. وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد " (1).
ولفظ ابن ماجه والنسائي " وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه " (2).
وقد علل العلامة السندي في تعليقه على سنن ابن ماجه؛ حبه صلى الله عليه وسلم لموافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، قال: لاحتمال استناد عملهم إلى أمره تعالى أو لتألفهم .. وذلك قبل أن يطلع على أحوالهم ويتكشف له أنهم أبغض الناس إلى الله وأن التآلف لا يؤثر فيهم " (3).
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت:" كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم ". قال عبد الله:" في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم " (4).
جـ- أما الغسل يوم الجمعة فقد ثبت وروده في جملة من الأحاديث: نشير إلى بعض الصحيح منها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " (5). ولفظ البخاري: " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " (6).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " متفق عليه (7).
__________
(1) صحيح البخاري ج7 ص209 طبعة صبيح بالقاهرة والنسائي ج8 ص184 إحياء التراث وابن ماجه ج2 ص383 .
(2) النسائي ج8 ص160 وابن ماجه ج2 ص383 .
(3) انظر سنن ابن ماجه ج2 ص383 . بتصرف
(4) صحيح البخاري ج7 ص209 مطبعة صبيح بالقاهرة .
(5) صحيح مسلم ج3 ص3 طبعة دار التحرير بالقاهرة .
(6) صحيح البخاري ج2 ص3 طبعة صبيح بالقاهرة .
(7) صحيح مسلم ج3 ص3 والبخاري ج2 ص3 .(1/8)
أما خصلة الإستنثار التي وردت في حديث عائشة بدل الإستنشاق في مستخرج أبي عوانة فقد وردت في عدد كبير من الأحاديث الصحيحة تشير إلى بعضها فيما:
ما جاء في حديث عبد الله بن زيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:" فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء" (1) ولفظ مسلم "فمضمض ثم استنثر ثم غسل وجهه "(2).
ومنها حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استجمر أحدكم وتراً وإذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر " (3).
ومنها حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا استيقظ أحدكم من منامه فلينتثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه " (4).
ثانياً : عدد خصال الفطرة:
يستفاد مما ذكر: أن العدد - خمس، أو عشر - لا مفهوم له، وأن خصال الفطرة كثيرة، وليست محصورة في الخمس المذكورة في حديث أبي هريرة، أو العشر المذكورة في حديث عائشة؛ فقد وجدنا ثلاث خصال أخرى في حديث عمار والأثر الوارد عن ابن عباس كما وجدنا رابعة فيما أخرجه أبو عوانة في مستخرجه.
وبذلك تبلغ هذه الخصال خمس عشرة خصلة (5).
__________
(1) صحيح البخاري ج1 ص58 مطبعة صبيح بالقاهرة .
(2) صحيح مسلم ج1 ص146 .
(3) صحيح مسلم ج1 ص146 .
(4) المرجع السابق ج1 ص714
(5) فتح الباري ج12 ص456 وشرح الزرقاني على الموطأ ج4 ص285 .(1/9)
وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي:" إن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة ". ثم تعقبه ابن حجر بقوله:" إن أراد خصوص ما ورد بلفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا ينحصر في الثلاثين بل تزيد كثيراً ". فقد أخرج الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه " أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح ". وقد اختلف في ضبط " الحياء " فقيل هي بفتح المهملة وفتح التحتانية وقد ثبت في الصحيحين " الحياء من الإيمان " وقيل هي بكسر المهملة وتشديد النون "الحِنَّاء" فعلى الأول: خصلة معنوية تتعلق بتحسين الخلق. وعلى الثاني: خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزار والبغوي في معجم الصحابة والحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده رفعه " خمس من سنن المرسلين " فذكر الأربعة إلا النكاح وزاد: " الحلم والحجامة " وهكذا (1)..
وأما قول مسلم في حديث أبي هريرة عن طريق يونس بن يزيد عن الزهري. "الفطرة خمس"، وكذلك رواية النسائي من طريق سفيان: "الفطرة خمس"؛ فإن سفيان قد رواه على الشك كما هو عند مسلم من طريقه أيضاً: "الفطرة خمس أو خمس من الفطرة"؛ فإما أن يكون الشك منه أو ممن فوقه أو من الرواة عنه (2).
وقد وقع في رواية أحمد: "خمس من الفطرة "ولم يشك. وكذا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي والنسائي (3). وقد قال ابن دقيق العيد: دلالة مِن على التبعيض: فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر (4).
وقد أجاب العلماء عن هذا الإختلاف الواقع في ذكر عدد خصال الفطرة في الأحاديث السابقة بأجوبة كثيرة من أهمها ما يلي :
__________
(1) فتح الباري ج12 ص458 .
(2) طرح التثريب ج2 ص74 .
(3) فتح الباري ج2 ص456 .
(4) المرجع السابق ج12 ص456 .(1/10)
الأول : ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد ذكر الخمس الواردة في حديث أبي هريرة لبيان شدة الحاجة إليها وأنها أهم من غيرها ويؤكد ذلك حديث ابن عمر عند النسائي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الفطرة: " قص الأظفار وأخذ الشارب وحلق العانة " فاقتصر فيه على ثلاث خصال وقد رواه البخاري بلفظ : " من الفطرة : حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب " (1) فهو من باب قوله صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة " و"الحج عرفة" وهو كثير (2).
الثاني : ... أن يكون قد أعلمه الله تعالى ببعض الخصال فأخبر بها ثم أعلمه بعد ذلك بالزيادة الواردة في الأحاديث الأخرى على تقدير صحتها (3).
ثالثاً : عبارة " سنن الفطرة " بين الوضع اللغوي والإصطلاح الشرعي :
السنن : جمع سُنّة تطلق في الأصل على عدة معان من بينها ما يلي :
1- إنها تطلق على الوجه لصقالته وملاسته:تقول وجه مسنون؛ أي مخروط أسيل كأن قد سنّ اللحم عنه. ومن هذا ما حكاه صاحب الفائق في غريب الحديث؛ " أن النبي صلى الله عليه وسلم حصّه على الصدقة فقام رجل قبيح السُّنَة صغير القِمّة يقود ناقة حسناء جملاء فقال "هذه صدقة" (4).
__________
(1) صحيح البخاري ج12 ص470 من فتح الباري والنسائي ج1 ص15 إحياء التراث.
(2) المرجع السابق وطرح التثريب ج2 ص74 .
(3) طرح التثريب ج2 ص74 وفتح الباري ج2 ص470 .
(4) ج1 ص210 والسنة: الصورة يقال: ما أحسن سنة وجهه. وقيل: سنة الخد صفحته.. والقمة: شخص الإنسان قائماً أو راكباً. يقال : إنه لحسن القمة على الرحل. ونظر أعرابي إلى دينار فقال: ما أصغر قيمتك وأكبر همتك. والجملاء: وهي فعلاء التي لا أفعل لها. كريمة هطلاء . انظر نفس المرجع.(1/11)
2- ومنها: أن السنة تطلق على الطريقة والسيرة حسنة كانت أو سيّئة, ومنه ما جاء في الحديث المشهور: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة "(1) وفي مجمع الزوائد: عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سنّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك. ومن سنّ سنة سيئة فعليها إثمها حتى تترك .. الحديث " رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون (2).
ويرى بعض اللغويين: أن السنة إذا أطلقت إنما يقصد بها: الطريقة المحمودة فقط. جاء في التهذيب: السنة هي الطريقة المحمودة المستقيمة. فإذا قيل فلان من أهل السنة؛ معناه: أنه على الطريقة المستقيمة المحمودة. وهي مأخوذة من السنن وهو الطريق. أو من سننت الإبل؛ أي أحسنت رعيتها والقيام عليها.
__________
(1) الحديث في مسند أحمد ج19 ص 71 من ترتيب المسند للساعاتي.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي ج1 ص178 الطبعة الثانية.(1/12)
أما السنة في لسان الشرع : فإنها إذا أطلقت فيه فإنما يراد بها: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير من غير القرآن. والبعض أضاف: أو كان صفة له صلى الله عليه وسلم كما أضاف الشاطبي ما كان قد سنه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كجمع المصحف وتدوين الدواوين. وما كان عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم (1) مستدلاً بما جاء في الحديث العرباض بن سارية عند أبي داود " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وحديث أبي هريرة من قوله عليه الصلاة والسلام: " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال:" ما أنا عليه وأصحابي " (2) وغير ذلك.
ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة؛ القرآن والحديث، ومنه ما جاء في الحديث:" إنما أُنَسيَّ لأسن " (3) أي إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى الصراط المستقيم وأبين لهم ما يفعلوه إذا عرض لهم نسيان.
__________
(1) الموافقات ج4 ص74 المكتبة التجارية بأول شارع محمد علي بالقاهرة.
(2) أنظر المسألة بطولها في الموافقات للشاطبي ج4 من ص74 إلى ص80 ، والحديثان عند أبي داود. الأول ج12 ص360 من عون المعبود والثاني ج12 ص340 ولفظه عنده.. " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وليس فيه قوله " كلها .." الخ، وفي لفظ آخر عنده من رواية معاوية ابن أبي سفيان " وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة.. " الحديث ج12 ص342 .
(3) الموطأ ج1 ص92 قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه.. ومعناه صحيح في الأصول انظر تنوير الحوالك على موطأ مالك ج1 ص92 الطبعة الأخيرة مطبعة مصطفى الحلبي.(1/13)
وإذا قيل سنة الله: كان المراد: أحكامه وأمره ونهيه. و سنّ الله الأحكام للناس؛ بينها لهم- وسنه الله سنة، أي بينه طريقاً قويماً قال الله تعالى:{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ}(1) أي سنّ الله ذلك في الذين نافقوا الأنبياء وأرجفوا بهم؛ أن يقتّلوا أين ما ثقفوا أو وجدوا (2).
والفطرة: بكسر الفاء وتسكين الطاء المهملة؛ من الفطْر بمعنى الشق تقول: فطر ناب البعير أي شق اللحم وطلع.
وقيل الأصل فيه: الإبتداء و الإختراع: تقول: فطر الله العالم: أي أوجده ابتداء واخترعه- وفي التنزيل على لسان سيدنا إبراهيم {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفا}(3) والجمع منه: فطور: وفي التنزيل { هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} الآية (4).
والفطرة: هي الحالة منه وصارت تطلق على عدة معان من بينها ما يلي:
أ- صدقة الفطر، وقد اختلف في سبب تسميتها بذلك: فقال الحافظ بن حجر:" لأنها تجب بالفطر من رمضان ".. وقال: ابن قتيبة:" المراد بصدقة الفطر؛ صدقة النفوس، مأخوذ من الفطرة التي هي أصل الخلقة " (5).
__________
(1) سورة الأحزاب الآية رقم 62 .
(2) لسان العرب لابن منظور مادة سنة بتصرف والفائق غريب الحديث. مادة سنة.
(3) سورة الأنعام الآية رقم 79 .
(4) سورة تبارك الذي بيده الملك: الآية رقم3 .
(5) نيل الأوطار ج4 ص202 .(1/14)
ب- الخلقة التي يكون عليها كل مولود أول خلقه في رحم أمه، قال تعالى:{الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}(1) أي خلقني. وقوله تعالى:{وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} الآية (2). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " يعني الخلقة التي فطر عليها في الرحم من سعادة أو شقاوة فإذا ولده يهوديان هوّداه في حكم الدنيا، أو نصرانيّان نصّراه في حكم الدنيا، أو مجوسيان مجّساه في حكم الدنيا، أي أن حكمه في الدنيا حكم أبويه حتى يعبر عنه لسانه، فإن مات قبل بلوغه مات على ما سبق له من الفطرة التي فطر عليها. فهذه هي فطرة المولود (3).
وقال ابن الأثير:" المعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المهيأ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها. وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد.."(4)
وقيل المعنى: كل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به فلا تجد أحداً إلا وهو يقر بأن له صانعاً وإن سماه بغير اسمه ولو عبد معه غيره (5).
جـ- الإبتداء والإختراع: وفي التنزيل العزيز:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} (6) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها "(7).
__________
(1) سورة الزخرف الآية 27 .
(2) سورة يس الآية 22 .
(3) لسان العرب مادة فطر .
(4) النهاية في غريب الحديث ج3 ص457 مادة فطر .
(5) لسان العرب . مادة فطر .
(6) سورة فاطر الآية رقم 1 .
(7) انظر المرجع السابق وانظر أيضاً القاموس للفيروز أبادي ج2 ص114 مادة فطر .(1/15)
وقد اختلف العلماء في بيان المعنى المراد من سنن الفطرة الواردة في هذه الأحاديث التي هي قيد البحث: فقال الحافظ أبو سليمان الخطابي: فسر أكثر العلماء، الفطرة في هذه الأحاديث بالسنة؛ وتأويل ذلك: أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم بقوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية (1)، أول من أمر بها إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم. ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ} الآية (2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمره بعشر خصال ثم عددهن فلما فعلهن، قال:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}(3) يقتدى بك ويستن بسنتك، وقد أمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصاً. وبيان ذلك في قوله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (4) ويقال كانت عليه فرضاً وهن لنا سنة (5).
وبعد أن ذكر العراقي حكاية الخطابي عن أكثر العلماء، بأن الفطرة هي السنة، قال: ويدل عليه: رواية أبي عوانة في المستخرج لحديث عائشة:" عشر من السنة " (6) ومعلوم أن مراده بالسنة: هي الطريقة المحمودة التي استنها الأنبياء عليهم السلام.
ويرى فريق آخر من العلماء أن المواد بالسنة في أحاديث الفطرة؛ هي السنة التي تقابل الواجب عند الفقهاء. وهي: ما طلبه الشارع طلباً غير جازم (7).
__________
(1) سورة الأنعام الآية رقم 90 .
(2) سورة البقرة الآية 124 .
(3) سورة البقرة الآية رقم 124 .
(4) سورة النحل الآية رقم 123 .
(5) عون المعبود ج1 ص79 ، 80 .
(6) طرح التثريب ج1 ص72 .
(7) المرجع السابق .(1/16)
وهذا الرأي غير ظاهر: إذ ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب بعض هذه الخصال، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي قوله في شرح الموطأ: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث - يقصد حديث أي هريرة: خمس من الفطرة - كلها واجبة فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين. إلا أن الحافظ لم يرتض هذا القول من ابن العربي؛ فقد تعقبه بقول أبي شامة: بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة؛ لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف (1).
ويقوي وجهة ابن العربي ما قاله ابن دقيق العيد- نقلاً عن بعض العلماء- من أن الأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه؛ أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه. وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وقد ثبت أن هذه الخصال، أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به .
وقد يناقش هذا، بأن وجوب الإتباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه. بل يتم الإتباع بالإمتثال، فإن كان واجباً على المتبوع كان كذلك في حق التابع وعلى ذلك فيتوقف ثبوت هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام (2).
وسيأتي لهذا الموضوع مزيد من بيان في شرحنا للأحكام التي تستفاد من هذه الخصال - إن شاء الله .
__________
(1) فتح الباري ج12 ص459 .
(2) فتح الباري ج12 ص460 .(1/17)
ويرى فريق ثالث؛ أن المراد بالفطرة هنا: أصل الدين الذي اتفقت عليه كل الشرائع كقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ.. الآية} (1) وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال النووي في شرح المهذب جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق؛ بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث، الدين(2) وهذا الرأي من شأنه أن يقوي وجهة ابن العربي في القول بوجوب الخصال الخمس الواردة في حديث أبي هريرة.
ويرى فريق رابع؛ أن المراد بالفطرة هنا: الإسلام، ومنه قول حذيفة:" لو مت على هذا مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم " (3) وعليه قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ اللبن ليلة الإسراء " أصبت الفطرة " (4).
وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أنه لا تعارض بين هذه المعاني جميعاً حيث قال في بيان الفطرة المرادة هنا: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع وكأنها أمر جبلي فطروا عليها (5)..
رابعاً : أهمية الإستمساك بهذه الخصال :
يترتب على الإستمساك بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية نشير إلى أهمها فيما يلي :
1- في التمسك بهذه الخصال شرف الإتباع لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسنن الأنبياء قبله وقد قال تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (6).
2- المحافظة على الصورة الحسنة التي خلق الله الإنسان عليها والتي أشار إليها في قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} (7) فكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر بها حسنها.
3- استمرار التمسك بهذه الخصال فيه استمرار المحافظة على نظافة المواضع التي تعتبر مصدراً للأذى والرائحة الكريهة في جسم الإنسان فيظل الشخص على طهارة دائمة.
__________
(1) سورة الشورى الآية رقم 13 .
(2) فتح الباري ج12 ص456 .
(3) طرح التثريب ج2 ص72 ، 73 .
(4) المرجع السابق .
(5) فتح الباري ج12 ص456 .
(6) سورة الأنعام الآية رقم 90 .
(7) سورة التغابن الآية رقم 3 .(1/18)
4- في المحافظة على هذه الخصال تحسين لهيئة الإنسان كإنسان قبل أي اعتبار آخر من جنس أو لون أو دين.. وقد سبقت الإشارة إلى قول ابن العربي: أن من ترك هذه الخصال لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين.
5- في التمسك بهذه الخصال محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب لأن الإنسان إذا ظهر في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النفس إليه؛ فيقبل قوله ويحمد رأيه. والعكس بالعكس.
6- في التمسك بهذه الخصال إحسان إلى المخالط والمقارن؛ من أهل أو صديق أو جليس وذلك بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة.
7- قي التمسك بهذه الخصال مخالفة لشعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر.
8- يترتب على العمل بهذه الخصال فوائد بعيدة الأثر، فإن عدم إزالة الأتربة والشوائب التي تعلق بشعيرات الأنف وكذلك الطفيليات التي تتكون داخل القلفة من شأنها أن تسبب للإنسان أضراراً بالغة لها أسوأ الأثر على صحته.
9- كما أن في التمسك بها غلبة للشيطان، وقطع لوساوسه وبعد عن تسويلاته، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلينتثر ثلاث مرات فإنّ الشيطان يبيت على خياشيمه " (1).
خامساً: معاني هذه الخصال وما يتعلق بها من أحكام وآداب:
وسيكون تناولنا لهذه الخصال حسب ترتيبها في كتب الفقه والحديث، أي سنبدأ بالكلام عن الخصال المتعلقة بالطهارة أولاً. و نختم بالخصال المتعلقة بالزينة؛ من باب تقديم التخلية على التحلية.
الخصلة الأولى: انتقاص الماء. بالقاف:
وقد وردت هذه الخصلة في حديث عائشة الذي أخرجه مسلم وبقية الجماعة ماعدا البخاري.
وقد ذكر وكيع - أحد رواة هذا الحديث: أن المراد بانتقاص الماء هو الإستنجاء بالماء (2).
__________
(1) قد أشار كل من الحافظ العراقي والحافظ بن حجر إلى بعض هذه المعاني . طرح التثريب ج2 ص73 والفتح ج12 ص458 .
(2) صحيح مسلم ج1 ص152 .(1/19)
وقال ابن ماجه - أثناء سرده للحديث - بعد ذكر الإنتقاص: يعني الإستنجاء (1). وقال البدر العيني – موضحاً العلاقة بين الإنتقاص والإستنجاء بالماء- : الإنتقاص : انتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير به (2).
وقال أبو عبيد- من علماء اللغة - انتقاص الماء: غسل الذكر بالماء، وذلك أنه إذا غسل الذكر ارتد البول ولم ينزل. وإن لم يغسل نزل منه الشيء حتى يستبرأ (3).
وقيل الصواب: انتفاص الماء بالفاء. والمراد: نضح الماء على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل: نُفْصَة. وجمعها: نُفَص (4).
ولكن تفسير وكيع هو الأشهر والأصوب. وذلك لأن الإستنجاء بالماء هو الذي يساعد على تخلية الذكر من بقايا البول، المترسب في بعض ثنايا الذكر. ويكون ذلك في الوضوء حتى يكون المرء على يقين من عدم نزول شيء من بوله أثناء وضوئه أو بعده.
أما النضح، فإنما يكون بعد الوضوء - على ما سيأتي- وليس المراد منه نقص البول بل الغرض منه إزالة الوسوسة من قلب المؤمن. في الطهارة.
وقد اختلف أهل اللغة في الأصل الذي يرجع إليه استعمال الإستنجاء في إزالة آثار البول والغائط عن السبيلين
فحكى العيني عن صاحب المطالع: أن الإستنجاء: إزالة النجو. وهو الأذى الباقي في فم المخرج وأكثر ما يستعمل في الماء. وقد يستعمل في الأحجار. وأصله من النجو وهو القَشْر والإزالة (5).
ونقل صاحب اللسان عن أبي عبيد: أن النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط. وقد نجا الإنسان والكلب نجواً، والإستنجاء: الإغتسال بالماء من النجو والتمسح بالحجارة منه، وقال كراع، هو قطع الأذى بأيهما كان واستنجيت بالماء والحجارة أي تطهرت بهما.
__________
(1) سنن ابن ماجه ج1 ص126 .
(2) عمدة القارئ ج22 ص45 .
(3) لسان العرب ج8 ص369 حرف الصاد فصل النون .
(4) عمدة القارئ ج22 ص45 والنهاية لابن الأثير ج5 ص97 مادة : نقص .
(5) عمدة القارئ ج1 ص716 طبعة قديمة غير مؤرخة وغير مشار إلى الجهة التي تولت الطبع .(1/20)
وقال الكسائي: يقال: ما أنجي فلان شيئاً وما نجا منذ أيام أي لم يأت الغائط، والإستنجاء: التنظف بمدر أو ماء، واستنجى أي. مسح موضع النجو أو غسله.
وقال بعض العرب: أنجيت قضيباً من الشجرة فقطعته. واستنجيت الشجرة قطع لها من أصلها. ونجا غصون الشجرة نجواً واستنجاها قطعها، قال شمر: وأرى الإستنجاء في الوضوء من هذا لقطعه العذرة بالماء (1).
وحكى ابن الأثير ما جاء في حديث بئر بضاعة " تلقى فيها المحائص وما ينجى الناس " أي يلقونه من العذرة. يقال منه: أنجى ينجى؛ إذا ألقى نجوه ونجا وأنجى، إذا قضى حاجته منه، والإستنجاء، استخرج النجو من البطن. وقيل إزالته عن بدنه بالغسل والمسح (2).
وقيل إن الإستنجاء من الحدث مأخوذ من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض لأنه إذا أراد قضاء حاجته استتر بنجوة من الأرض (3).
والإستنجاء في اصطلاح الفقهاء: هو إزالة النجاسة من السبيلين المعتادين بالماء أو الأحجار أو بهما معاً. سواءً كان الخارج بولاً أو غائطاً أو مذياً أو غير ذلك إذا خرج هذا الغير ملوثاً بالنجاسة (4).
ثبوت الإستنجاء بالماء :
ثبت الإستنجاء بالماء في السنة بأحاديث كثيرة منها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء " (5) .
__________
(1) لسان العرب ج2 ص178 حرف الياء فصل النون .
(2) النهاية ج5 ص178 مادة نجا .
(3) لسان العرب ج20 ص817 حرف الياء فصل النون .
(4) الشرح الصغير ج1 ص96 وفتح القدير ج1 ص212 والمجموع للنووي ج2 ص98 والمراد بالغير: الحصى والدود ونحوهما إذا خرجا من السبيلين .
(5) صحيح مسلم ج1 ص156 وصحيح البخاري ج2 ص292 .(1/21)
وفي رواية أخرى عن أنس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضأة وهو أصغرنا فوضعها عند سدرة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء " (1) وعند البخاري:" إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء "، يعني يستنجي به (2).
إنكار الإستنجاء بالماء :
وقد أنكر ثبوت الإستنجاء بعض الشيعة وبعض الفقهاء مستندين في ذلك إلى بعض الآثار المروية عن بعض الصحابة والتابعين وتابعيهم والتي سنورد بعضها فيما يلي :
أ- ما روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الإستنجاء بالماء. فقال:" إذن لا يزال في يدي نتن ".
ب- وعن نافع ابن عمر: أنه كان لا يستنجي بالماء.
جـ- وعن ابن الزبير: قال:" ما كنا نفعله ".
د- نقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء (3).
هـ - روى مالك عن يحي بن سعيد " أنه سمع سعيد بن المسيب يسأل عن غسل الغائط فقال سعيد:" إنما ذلك وضوء النساء " (4).
و – ونقل عن ابن حبيب من المالكية:" أنه منع الإستنجاء بالماء لأنه مطعوم " (5).
ز – وقيل إن عبارة " يستنجي بالماء " الواردة في حديث أنس المتقدم ليست من لفظ أنس، بل هي من قول أبي الوليد: - أحد الرواة عن شعبة - واستدل على ذلك بأن سليمان بن حرب رواه عن شعبة فلم يذكرها، وقال: فيحتمل أن يكون الماء لوضوئه (6). وعليه فلا يكون في الحديث دلالة على ثبوت الإستنجاء بالماء.
__________
(1) صحيح مسلم ج1 ص156 . والسدرة : الشجرة .
(2) انظر العيني – عمدة القارئ ج1 ص287 .
(3) العيني – عمدة القارئ ج1 ص 287 .
(4) فقه الإمام سعيد مطبوعات ديوان أوقاف العراق ج1 ص49 .
(5) تحفة الأحوذي ج1 ص95 .
(6) فتح الباري ج1 ص261 . وهذا القول منسوب إلى الأصيلي حيث تعقب البخاري استدلالاً له بهذا الحديث على الإستنجاء بالماء وقال : لأن قوله : يستنجي به ليست التيمم ..(1/22)
وما حكاه ابن التين عن أبي عبد الله الملك البوني؛ من أن قوله:" يستنجي بالماء " مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس، فيكون مرسلاً فلا حجة فيه (1).
مناقشة أدلة هذا الفريق والرد عليها :
أ ، ب ، جـ – ما نقل عن حذيفة وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنه ليس فيه نفي ورود الإستنجاء بالماء عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو كراهية فعله. بل غاية ما يفيده؛ أنهم كانوا لا يستعملونه بل كانوا يستعملون الأحجار. أو كان ذلك منهم على سبيل المبالغة لدفع قول من يقول بتعيين الماء لإزالة النجاسة الباقية على أحد السبيلين.
وقد نقل عن ابن عمر "أنه بال بالمزدلفة فأدخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه " (2).
د – أما ما نقل عن مالك من إنكاره ثبوت الإستنجاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام فهو غريب إذ الثابت عن مالك هو تقديم الإستنجاء بالماء، حتى أنه إذا استجمر بالحجارة مرة وصلى فإنه ينبغي أن يستنجي بالماء ذلك لما يستقبل.
قال ابن القاسم: وقال مالك:" لا يستنجى من الريح ولكن إن بال أو تغوط فليغسل مخرج الأذى فقط؛ إن بال؛ فمخرج البول الإحليل، وإن تغوط فمخرج الأذى فقط "(3).
وقال ابن القاسم أيضاً: قلت لمالك؛" فمن تغوط واستنجى بالحجارة ثم توضأ ولم يغسل ما هناك بالماء حتى صلى ". قال:" تجزئه صلاته وليغسل ما هناك بالماء فيما يستقبل" (4).
وكذلك قواعد المذهب المالكي؛ فإنها تقضي بأفضلية تقديم الماء على الأحجار إذا تعذر الجمع بينهما. وبالجملة؛ فإن مراتب الإستنجاء عندهم خمس :
1- ماء وحجر .
2- ماء ومدر. والمدر كل طاهر منق مستوف الشروط غير حجر .
3- ماء فقط .
4- حجر فقط .
5- مدر فقط (5).
__________
(1) فتح الباري ج1 ص262 .
(2) المغنى ج1 ص119 .
(3) المدونة الكبرى ج1 ص8 .
(4) المرجع السابق ج1 ص8 .
(5) الشرح الصغير ج1 ص97 .(1/23)
هـ - أما ما نقل عن سعيد بن المسيب، فاختلف العلماء في بيان المراد منه؛ فقال ابن نافع:" يريد سعيد: أن الإستنجاء بالحجارة بجزء الرجل، وإنما يكون الإستنجاء بالماء للنساء ".
وقال الباجي:" يحتمل عندي وجهين: أحدهما أن يكون سعيد أراد أن ذلك حكم من أحكام النساء من جهة العادة والعمل، وأن عمل الرجال الإستنجاء - والوجه الآخر: أنه يريد ذلك عيب الإستنجاء بالماء " (1).
وقال النووي:" محمول على أن الإستنجاء بالماء لا يجب أو أن الأحجار عنده أفضل ".
وقيل: ربما سعيد اتبع مذهب المهاجرين فهم كانوا يقتصرون في استنجائهم على الأحجار وقد قال ابن عبد البر في الإستذكار:" الإقتصار على الأحجار مذهب معروف عن المهاجرين بخلاف الأنصار فإنهم كانوا يجمعون بين الماء والحجارة ".
وربما كان سعيد لم يصله خبر عن استنجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالماء فاتبع مذهب المهاجرين بدليل ما جاء عند أبي شيبة عن سعيد بن المسيب لما ذكر له الإستنجاء بالماء قال: أنتم فعلتم ذلك؛ هم كانوا يجتزون بالحجارة "(2).
و – أما ما نقل عن ابن حبيب – فإن ثبت ذلك عنه – فإنه شاذ مخالف لقواعد المذهب المالكي التي أشرنا إليها فيما سلف.
ز – أما نسبة عبارة الإستنجاء في حديث أنس المتقدم إلى غيره للوصول إلى عدم إثبات استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء. فهو مردود عليه بما يلي :
أولاً : ترجيم البخاري لحديث أنس السابق بعبارة " الإستنجاء بالماء " والإمام البخاري فقيه ومحدث. وباختياره تصدير الباب بهذه الترجمة: إثبات الإستنجاء بالماء من النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق إثبات اتصال الحديث.
__________
(1) المنتقى شرح الموطأ ج1 ص73 .
(2) فقه الإمام سعيد ج1 ص50 .(1/24)
ثانياً : ما رد به الحافظ بن حجر على هذه الدعوى؛ من أن عقبة رواه من طريق محمد بن جعفر عن شعبة فقال:" يستنجي بالماء " وكذلك الإسماعيلي؛ من طريق ابن مرزوق عن شعبة:" فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها صلى الله عليه وسلم " كما رواه البخاري عن طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة: " إذا تبرر لحاجته أتيته بماء فتغسل به " ولمسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس: " فخرج علينا وقد استنجى بالماء " وبهذا يثبت أن العبارة من قول أنس. وعليه فيكون الحديث صالحاً للإستدلال به على ثبوت الإستنجاء بالماء (1).
كما يتأكد ذلك؛ بما أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" مُرْنََ أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله". قال الترمذي بعد سرده لهذا الحديث: هذا حديث حسن صحيح (2).
وبما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية:{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا .. الآية} (3) بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال:" ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم" فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه – أو قال – مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" هو هذا " رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، إلا أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه (4).
أقول: ابن إسحاق لم يذكره البخاري في الضعفاء وذكره في التاريخ الكبير وقال:" قال لي علي بن عبد الله ابن عيينة؛ قال الزهري: من أراد المغازي فعليه بمولى قيس بن مخرمة هذا ". قال ابن عيينة:" ولم أر أحداً يتهم ابن إسحاق ".
__________
(1) فتح الباري ج1 ص261 ، 262 .
(2) تحفة الأحوذي ج1 ص93 .
(3) سورة التوبة الآية رقم 108 .
(4) مجمع الزوائد ج1 ص212 .(1/25)
وقال:" قال لي عبيد بن يعيش سمعت يونس بن بكير يقول سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المحدثين بحفظه" (1).
وقال فيه الحافظ في التقريب:" مقبول" (2).
وقال الذهبي فيه:" هو صالح الحديث "(3).
وقد روى حديث عويم بن ساعدة أيضاً؛ محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه وقد أخرجه الطبراني في الكبير وفيه شهر بن حوشب. وقد اختلفوا فيه. ولكن وثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة ويعقوب بن شيبة (4).
كما ذكره النووي في المجموع من رواية أبي أيوب وأنس عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وقال:" إسناده صحيح إلاّ أن فيه عتبة بن أبي حكيم وثقة الجمهور ولم يبين من ضعفه سبب تضعيفه. والجرح لا يقبل إلا مفسراً " (5).
وبالجملة: فالحديث له طرق كثيرة من شأنها أن يعضد بعضها بعضاً وتجعله صالحاً للإستدلال به على ثبوت الإستنجاء بالماء.
ويستدل لثبوته أيضاً بما جاء في الموطأ عن عثمان بن عبد الرحمن أن أباه حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب يتوضأ بالماء لما تحت إزاره (6) أي أنه سمع قول من قال إن عمر بن الخطاب يفعل ذلك.
الحاصل: أن الإستنجاء بالماء أمر مشروع فعله رسول الله صلى اللّه عليه وسلم واستحسنه وفعله أصحابه رضي الله عنهم ونبين فيما يلي مدى هذه المشروعية بمعنى هل تتقوى هذه المشروعية حتى تصل إلى الوجوب بحيث يتعين استعمال الماء أو تبقى في مجال السنية باعتبار أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعله وداوم عليه ولم يأمر فيه بعزيمة أو تتنزل إلى درجة المندوب أو الأفضل نظراً للأثر الحسن المترتب على استعمال الماء.
حكم استعمال الماء في الإستنجاء:
لمعرفة حكم استعمال الماء في إزالة بقايا النجاسة عن مخرج البول أو الغائط علينا أن نعرض بإيجاز لحكم إزالة النجاسة عنهما: ثم ننتقل منه إلى ما نريد:
__________
(1) التاريخ الكبير للبخاري ج1 ص0 4 .
(2) ج2 ص396 .
(3) ميزان الإعتدال للذهبي ج3 ص468 .
(4) مجمع الزوائد ج1 ص212 .
(5) المجموع ج2 ص103 .
(6) الموطأ ج1 ص33 .(1/26)
يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبو ثور وإسحاق وداود: أن إزالة النجاسة عن أحد المخرجين واجبة لورود الطلب بها بصيغة الأمر مثل حديث عائشة رضي اللّه عنها عند أبي داود قالت: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه " (1). وكذلك حديث أبي هريرة " ليستنج بثلاثة أحجار " (2) والأمر يفيد الوجوب إذا أطلق وليس له صارف كما هنا. وغير ذلك من الأدلة.
ويرى الحنفية ورواية عن مالك؛ ونقل عن المزني من أصحاب الشافعي: أن الإستنجاء سنة لمواظبته صلى اللّه عليه وسلم ولا يجب لحديث أبي هريرة عن النبي على الله عليه وسلم قال:"من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " الحديث، أخرجه أبو داود وأحمد كما أخرجه الطحاوي في الآثار. ذكر ذلك البدر العيني بسنده. ثم قال: فالحديث صحيح ورجاله ثقات ثم رد كلام ابن حزم والبيهقي حول سند هذا الحديث. كما استدل هذا الفريق بأن النجاسة الحادثة بسبب البول والغائط هي كدم البراغيث في عدم وجوب إزالة أثرها، فكذلك عينها. وقال المزني:" لأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني "(3).
ونكتفي بهذا الموجز لبيان آراء الفقهاء بعد أن تبين لنا قوة استدلال الفريق الأول على وجوب إزالة النجاسة الحاصلة على أحد المخرجين من أثر البول والغائط لنقصد إلى ما نريد.
يرى أكثر الفقهاء – باستثناء بعض الشيعة وبعض الفقهاء كابن حبيب الذي يذهب إلى كراهة الإستنجاء بالماء لأنه مطعوم (4)- : أفضلية الجمع بين الماء والأحجار في الإستنجاء بأن يقدم الأحجار لإزالة عين النجاسة المتبقية على المحل ثم يتبعها بالماء لغسل الأثر الباقي بعد إزالة العين.
__________
(1) عون المعبود ج1 ص 61 ، 62 .
(2) عمدة القارئ ج2 ص301 .
(3) عمدة القارئ ج2 ص300 فتح القدير ص212 مصطفى الحلبي .
(4) المجموع ج2 ص103 .(1/27)
ومحل هذه الأفضلية: إن توفر الماء وتوفرت الأحجار وأمكن الجمع بينهما، وإن توفرا معاً وتعذر الجمع بينهما لسبب ما. فالأفضل استعمال الماء فإنه مزيل لعين النجاسة وأثرها معاً، بخلاف الأحجار فإنها غالباً تزيل عين النجاسة ولكن يبقى أثرها.
وهذه الأفضلية في الجمع بين الماء والأحجار التي قال بها جمهور الفقهاء؛ ليس لها سند صحيح من السنة يمكن الإعتماد عليه. وما جاء في بعض الروايات في سبب نزول قوله تعالى:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية} من أن الأنصار كانوا يتبعون الأحجار بالماء، لم يصح منها شيء. قال النووي في رده على صاحب المهذب في استشهاده ببعض هذه الروايات:" وأما قول المصنف : قالوا نتبع الحجارة بالماء. فكذا يقوله أصحابنا وغيرهم في كتب الفقه والتفسير وليس له أصل في كتب الحديث "(1).
ثم قال:" فإذا علم أنه ليس له أصل من جهة الرواية فيمكن تصحيحه من جهة الإستنباط؛ لأن الإستنجاء بالحجر كان معلوماً عندهم يفعله جميعهم. وأما الإستنجاء بالماء فهو الذي انفردوا به فلهذا ذكر، ولم يذكر الحجر لأنه مشترك بينهم وبين غيرهم، ولكونه معلوماً فإن المقصود بيان فضلهم الذي أثنى الله عليهم بسببه. ويؤيد هذا قولهم إذا خرج أحدنا من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. فهذا يدل على أن استنجاءهم بالماء كان بعد خروجهم من الخلاء. والعادة جارية أنه لا يخرج من الخلاء إلا بعد التمسح بماء أو حجر، وهكذا المستحب أن يستنجي بالحجر في موضع قضاء الحاجة، ويؤخر الماء إلى أن ينتقل إلى موضع آخر (2).
وما قاله النووي:" وهكذا المستحب إلى .. الخ ". محل نظر.. لأنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم العادة أو أن بيوت الخلاء كانت ضيقة.. أو لا تتحمل استعمال الماء بها وربما كان هذا في الصحراء حيث الحجر متوفر. ولكن هذا قد يتعذر الآن. لذلك أرى أن تؤخذ أفضلية أتباع الأحجار بالماء على الإطلاق.
__________
(1) المرجع السابق .
(2) المجموع ج2 ص103 .(1/28)
الحالات التي يتعين فيها الإستنجاء بالماء :
أ – يتعين استعمال الماء في الإستنجاء إذا تعدى الخارج المحل المعتاد؛ بأن تنتشر النجاسة إلى الصفحتين في الدبر، أو تمتد إلى الحشفة في الذكر. وذلك لأن الإستجمار بالحجر في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في تكرر غسله كلما أحدث، والرخصة تقدر بقدرها، أمّا ما عدا المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في تكرر غسله كلما أحدث فلا يجزئ فيه إلا الغسل لأن الأمر حينئذ خرج من موضوع الإستنجاء إلى موضع إزالة النجاسة وهي واجبة عند عامة الفقهاء.
وأما ما كان يفعله بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإكتفاء بالأحجار فلعدم موجب استمال الماء عندهم، وهو تجاوز الخارج المحل المعتاد وهذا ما يفهم من قول علي رضي الله عنه: " إن من كان قبلكم كانوا يبعرون بعراً وأنتم اليوم تثلطون ثلطاً فاتبعوا الماء الأحجار " (1) يريد رضي الله عنه: أنههم كانوا يتغوطون يابساً كالبعر لأنهم كانوا قليلي الأكل وأنتم اليوم تثلطون رقيقاً وهو إشارة إلى كثرة الأكل والمآكل وتنوعها وعلى قول علي رضي الله عنه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " يكفي أحدكم ثلاثة أحجار " أي ما لم يتجاوز محل العادة.
ويستعمل الماء هنا لإزالة النجاسة الكائنة على المحل المعتاد والأماكن الأخرى التي وصل إليها عند أكثر الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف اللذين يقصران وجوب الإزالة بالماء للنجاسة الحاصلة على الأماكن الزائدة عن المحل المعتاد، أما المحل المعتاد فيكفي فيه الإستجمار بالأحجار (2).
__________
(1) في لسان العرب : الثلط هو سلح الفيل ونحوه من كل شيء إذا كان رقيقاً.
(2) أقرب المسالك على مذهب مالك ج1 ص98 – المغني ج1 ص114 ، 115 – وفتح القدير ج1 ص215 .(1/29)
2- إزالة المني لمن فرضه التيمم كالمريض أو عادم الماء الكافي لاغتساله فإنه يتعين عليه غسل المني من المخرج بالماء عند أكثر الفقهاء الذين يقولون بنجاسة المني. كما يتعين الماء لغسل المني لمن فرضه الوضوء كأن خرج بلا لذة في حالة اليقظة أو لذة غير معتادة. فإنه يجب عليه إزالة المني عن المخرج قبل أن يشرع في الوضوء (1).
ويسن لمن فرضه الغسل ولكن أراد تأخيره لما بعد النوم، أن يغسل ذكره من المني قبل الوضوء ويشهد لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما " ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" توضأ واغسل ذكرك ثم نم " (2).
ومعلوم أن الواو لمطلق الجمع أي أغسل ذكرك وتوضأ ثم نم وفي رواية أبي نوح عند مالك "فاغسل ذكرك ثم توضأ ثم نم " (3).
وأصرح من ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة ". أي كوضوئه للصلاة (4).
3- إزالة دم الحيض أو النفاس للمريضة التي طهرت منه ولكنها لم تستطع الإغتسال أو تستطيع الإغتسال ولكن عدمت الماء الكافي لذلك فإنها يجب أن تزيل آثار دم الحيض أو النفاس قبل تيممها للصلاة وكذلك الحكم في الإستحاضة إن لم تلازم المرأة كل يوم ولو مرة وإلا فهو معفو كسلس البول (5).
4- إزالة بول المرأة بكراً أو ثيباً لتعديه المخرج عادة. وقد استثني الحنابلة البكر من وجوب استعمال الماء لإزالة البول عن المخرج بحجة أن عذرتها تمنع انتشار البول وكذلك الثيب إذا خرج بشدة لأن حدته تمنع انتشاره حول المخرج (6).
__________
(1) أقرب المسالك ج1 ص98 .
(2) عمدة القارئ ج3 ص245 وأبي داود ج1 ص372 من عون المعبود .
(3) عمدة القارئ ج3 ص245 .
(4) عمدة القارئ ج3 ص245 .
(5) أقرب المسالك ج1 ص98 .
(6) المرجع السابق ج1 ص98 والمغني ج1 ص118 .(1/30)
ويلاحظ أن تعين الغسل هنا وفي الحالات السابقة هو من باب إزالة النجاسة وتعين الماء لإزالة النجاسة محل اتفاق عند أكثر العلماء.
5- إزالة المذي من محل الخارج أو الأماكن الأخرى التي وصل إليها. وقيل بوجوب غسل كل الذكر وقيل كل الذكر مع الأنثيين. فمن أخذ بحديث علي:" سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال:"من المذى الوضوء ومن المني الغسل " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1)-: قال بالإقتصار على موضع المذي فقط.
ومن أخذ بحديث المقداد بن الأسود - " ليغسل ذكره" الحديث ولم يذكر فيه الأنثيين. وقد اختلف في وصله وإرساله – (2) -: قال بالإقتصار على غسل كل الذكر فقط.
ومن أخذ بحديث حزام بن حكيم عن عمه عبد الله الأنصاري الذي جاء فيه:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال:" ذلك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة " (3) قال بغسل الذكر كله والأنثيين.
وقد رد ابن القيم قول ابن حزم بتضعيف هذا الحديث وذكر له شاهداً من حديث عليّ عند أبي عوانة وفيه:" يغسل أنثييه وذكره ويتوضأ " (4).
فهذه هي أهم الحالات التي يتعين فيها استعمال الماء في الإستنجاء وإن كان الحنفية يرون أن المائع الطاهر كالخل وماء الورد يحل محل الماء في حكم إزالة النجاسة المذكورة في الصورة السابقة (5).
أما في غير هذه الحالات وما يماثلها فلا بأس من استعمال الأحجار ونحوها في الإستطابة من البول والغائط ولو مع توفر الماء – وإن كان استعمال الماء أفضل كما أشرنا لذلك فيما تقدم – لثبوت ذلك في السنة.
من قال بتعيين الماء مطلقاً في الإستنجاء وأدلتهم
__________
(1) تحفة الأحوذي ج1 ص372 .
(2) عون المعبود ج1 ص360 .
(3) عون المعبود ج1 ص360 .
(4) المرجع السابق .
(5) فتح القدير ج1 ص192 ص215 .(1/31)
نقل عن بعض أصحاب مالك:" أن الإستجمار بالأحجار لا يكون إلا عند عدم الماء " كما نسب إلى العترة والحسن البصري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي علي الجبائي:القول بعدم اجتزاء الحجارة للصلاة ووجوب الماء وتعيينه في الإستنجاء وأهم أدلتهم ما يلي :
1- قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (1).
2- حديث أنس المتقدم؛ وفيه ثبوت استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء.
3- حديث عائشة:" مُرْن أزواجكنّ أن يستطيبوا بالماء.." الخ وقد تقدم.
4- حديث قباء: وفيه الثناء على أهلها لأنهم كانوا يستنجون بالماء وقد تقدم الكلام عليه. وقد أجيب عن هذه الأدلة بما يلي:
1- بالنسبة للآية، فقد وردت في الوضوء ولا شك أن الماء متعين له ولا يجزئ التيمم إلا عند عدمه.
2- أما حديث أنس؛ ففيه ثبوت الإستنجاء بالماء وليس فيه ما يدل على تعيينه وحصر الإستطابة فيه.
3- أما حديث عائشة ؛ فإنه يفيد ثبوت استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء كما يفيده حث الأصحاب على الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك. والسنة في فعله صلى الله عليه وسلم – لا في قول عائشة رضي الله عنها – وقد ثبت عنه الأمران.
4- حديث قباء – على فرض ثبوته – فهو يفيد استنجاء بالماء أو إتباع الأحجار بالماء وليس فيه قصر الإستنجاء على الماء دون الأحجار (2).
والمعتبر في حد الإستنجاء هو الإنقاء ولا يتقيد بعدد معين إذ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عدد معين ولا أمر به. فالمدار على الإنقاء حتى تذهب لُزوجة النجاسة وآثارها (3).
آداب الإستنجاء :
__________
(1) سورة المائدة الآية رقم 6 .
(2) انظر أدلة المخالفين والرد عليهم ج1 ص120 ، ص121 .
(3) أقرب المسالك ج1 ص97 ، فتح القدير ج1 ص213 ، المغني ج1 ص119 .(1/32)
1- يندب لمن أراد الإستنجاء بالماء: أن يتحوط في ذلك بإحضار الماء الذي يريد استعماله في الإستنجاء أو يؤكد من وجوده في المكان الذي يجلس فيه لذلك؛ لما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام معنا إداوة من ماء " أخرجه البخاري (1). وفي رواية له أيضاً " فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء ".
وقال أبو الدرداء: - موجهاً كلامه لأهل الكوفة – " أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد " (2) يقصد ابن مسعود رضي الله عنهما.
2- كما ينبغي على الشخص ستر عورته عن الناس عند إرادته التكشف للإستنجاء للجماع على حرمة كشف العورة في الجملة. فإذا خشي رؤية الناس لعورته وجب الستر. لما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم – من حديث طويل – " من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا كثيباً من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم " رواه أبو داود (3).
وفي فتح القدير: إنما يستنجي إذا وجد مكاناً يستر فيه نفسه. ولو كان على شط نهر ليس فيه ما يستره لو استنجى بالماء، قالوا يفسق (4).
__________
(1) عمدة القارئ ج2 ص291 ، ص292 .
(2) المرجع السابق ج2 ص 290 .
(3) عون المعبود ج1 ص55 .
(4) فتح القدير ج1 ص215 ومغني المحتاج ج1 ص41 ، وأقرب المسالك ص1 ج91 .(1/33)
3- ألا يمس ذكره بيمينه حال الإستنجاء. وقد عقد الإمام البخاري باباً في صحيحه وترجم له بهذا المعنى حيث قال:( باب النهي عن الإستنجاء باليمين ) ثم ذكر بعد ذلك حديث قتادة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه " (1) بل ينبغي أن يستعمل اليد اليسرى في الإستنجاء لحديث حفصة رضي الله عنها:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ويجعل شماله لما سوى ذلك " (2).
والنهي هنا عن الإستنجاء باليمين إنما هو للتنزيه عند الجمهور وللتحريم عند الإمام أحمد وأهل الظاهر.
وإنما كان للتنزيه عند الجمهور لأن النهي فيه لمعنيين؛ أحدهما: لرفع قدر اليمين، والآخر: أنه لو باشر النجاسة بها فإنه ربما يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك.
وقد حمل أحمد والظاهرية النهي على التحريم لأن النهي إذا أطلق وليس له صارف يكون للتحريم. وقد تشدد أهل الظاهر في هذه المسألة حتى قال الحسين بن عبد الله الناصري، في كتابه (البرهان) على مذهب أهل الظاهر: ولو استنجى بيمينه لا يجزيه، وهو وجه عند الحنابلة وطائفة من الشافعية (3).
__________
(1) عمدة القارئ ج2 ص294 .
(2) أبو داود انظر عون المعبود ج1 ص54 .
(3) عمدة القارئ ج2 ص296 والمحلى ج1 ص125 .(1/34)
4- كما ينبغي عليه إذا أراد الإستنجاء عقب البول أن يستبرئ منه حتى لا ينزل منه شيء بعد الإستنجاء أو بعد الوضوء. وهو يختلف باختلاف الأشخاص، فقد يكون بالمشي بضع خطوات، وقد يكون بالتنحنح قليلاً، وقد يكون بالسلت والنتر الخفيفين؛ والسلت: هو إمرار الإبهام على أعلى القضيب من بدايته والسبابة من أسفله كذلك. ويمرهما معاً ثم ينتره نتراً خفيفاً بضع مرات مع التلطف وعدم الإسترسال في ذلك، حتى لا تسترخي أعصاب القضيب وتسبب له أضراراً كثيرة وأيضاً: حتى لا يصل إلى الوسوسة المضرة بالدين وبعض الناس لا يحتاج في استبرائه إلى شيء من ذلك. وبالجملة: ينبغي على المرء أن يستبرئ حتى يطمئن إلى عدم نزول شيء من البول بعد الإستنجاء أو بعد الوضوء – وقد وردت في الإستبراء أحاديث كثيرة أصحها حديث ابن عباس في قصة صاحبي القبرين فقد جاء فيه: "أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله " وفي الترمذي " لا يستتر من بوله " أي لا يتحفظ منه وعند أبي نعيم " كان لا يتوقى " أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي (1).
وقد اختلف العلماء في حكم الإستبراء؛ فأوجبه المالكية وبعض الحنفية وبعض الشافعية. وقال يندبه الحنابلة وبعض الحنفية وأكثر الشافعية.
وأرى أن يحمل الوجوب على ما إذا تحقق أو غلب على ظنه بمقتضى عادته أنه إذا لم يستبرئ خرج منه شيء بعد التطهر. فإن لم يتحقق أو غلب على ظنه ذلك، فإنه يندب فعله على سبيل التحوط (2).
5- ينبغي لمن أراد الإستنجاء بالماء أن يبل يده التي سيلاقي بها الأذى بالماء حتى تنسد المسام في كفه فلا تتسرب بعض آثار الفضلات في داخلها فيصعب بعد ذلك إزالة الرائحة منها (3).
__________
(1) نيل الأوطار ج1 ص 110 .
(2) مغني المحتاج ج1 ص42 ، أقرب المسالك ج1 ص96 .
(3) أقرب المسالك ج1 ص96 .(1/35)
كما يسن في حقه أيضاً أن يدلك هذه اليد بعد الإستنجاء بتراب ونحوه أو يغسلها بمنظف آخر كصابون وغاسول ونحوهما من المواد المستعملة (1) في النظافة وقد أخرج أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ثور أو ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ " أخرجه أبو داود. كما أخرج ابن ماجه رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم استنجى من تور ثم دلك يده بالأرض " (2).
6- كما ينبغي عليه أن يبدأ بغسل قُبُلهِ أولاً حتى لا يتنجس إذا ما بدأ بغسل دبره أولاً، كما ينبغي عليه أن يسترخي قليلاً عند غسل مقعدته لأنه أعون على الإستنجاء الجيد.
الخصلة الثانية الإنتضاح:
معنى الإنتضاح: اختلف العلماء في تفسير معنى الإنتضاح الوارد في بعض أحاديث الفطرة. وقد حكى ابن العربي أربعة أقوال للعلماء في بيان المراد من عبارة " فانتضح " الواردة في حديث هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" جاءني جبريل فقال يا محمد إذا توضأت فانتضح " (3) وقد تقدم تخريجه:
الأول: معناه إذا توضأت فصب الماء على العضو صباًّ ولا تقتصر على مسحه فإنه لا يجزئ فيه إلا الغسل.
الثاني: معناه: استبرىء الماء بالنتر والتنحنح: يقال: نضحت: استبرأت وانتضحت: تعاطيت الإستبراء له.
الثالث: معناه إذا توضأت فرش الإزار الذي يلي الفرج ليكون ذلك مذهِباً للوسواس.
__________
(1) المرجع السابق .
(2) عون المعبود ج1 ص68 وابن ماجه ج1 ص147 .
(3) الترمذي ج1 ص168 تحفة الأحوذي .(1/36)
الرابع: معناه الإستنجاء بالماء. إشارة إلى الجمع بينه وبين الأحجار. فإن الحجر يخفف الوسخ والماء يطهره، وقد حدثني أبو مسلم المهدي؛ قال:" من الفقه الرائق: الماء يذهب الماء ". ومعناه: أن من استنجى بالحجر فإنه لا يزال البول يرشح فيجد منه البلل فإذا استعمل الماء نسب الخاطر ما يجد من البول إلى الماء وارتفع الوسواس انتهى كلام ابن العربي (1).
وقال صاحب التحفة:" والحق أن المراد بالإنتضاح في هذا الحديث: هو الرش على الفرج بعد الوضوء، كما يدل عليه ألفاظ أكثر الأحاديث الواردة في هذا الباب "(2).
وقال الخطابي في معالم السنن في تعليقه على حديث الحكم بن سفيان الثقفي:" كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا بال يتوضأ- توضأ- ينتضح " .. الإنتضاح ههنا الإستنجاء بالماء وكان من عادة أكثرهم أن يستنجوا بالحجارة لا يمسون الماء ". وقال أيضاً:" وقد يتأول الإنتضاح أيضاً على رش الفرج بالماء بعد الإستنجاء ليدفع بذلك وسوسة الشيطان ". وذكر النووي عن الجمهور:" أن هذا الثاني هو المراد ههنا ". وقال صاحب العون:" قلت: وهذا- إشارة إلى كلام النووي:- هو الحق "(3).
ويتأيد ما ذكره النووي من أن الإنتضاح: هو الرش بالماء على الفرج وما يلبسه من السراويل ونحوها بما نقله صاحب التحفة من حديث ابن عباس الذي أخرجه عبد الرزاق في جامعه " أنه شكا إليه رجل فقال إني أكون في الصلاة فيتخيل لي أنه بذكري بللاً. فقال: قاتل الله الشيطان إنه يمس ذكر الإنسان ليريه أنه قد أحدث. فإذا توضأت فانضح فرجك بالماء فإن وجدت فقل هو من الماء ففعل الرجل ذلك فذهب " (4) وهذا الأثر موقوف على ابن عباس رضي الله عنه لما جاء في سنن البيهقي عن سعيد بن جبير: أن رجلاً أتى ابن عباس فذكره (5).
__________
(1) تحفة الأحوذي ج1 ص168 .
(2) المرجع السابق ج1 ص196 .
(3) عون المعبود ج1 ص285 .
(4) تحفة الأحوذي ج1 ص169 .
(5) السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص162 طبعة دار الفكر.(1/37)
كما يتأيد ما ذكره النووي أيضاً بما قال أهل اللغة في تفسير بعض الأحاديث الواردة فيه: قال صاحب النهاية:" من السنن العشر الإنتضاح بالماء " وهو أن يأخذ قليلاً من الماء فيرش به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس وقد نضح عليه الماء ونضح به إذا رش عليه (1).
وقال صاحب اللسان: استنضح الرجل وانتضح: نضح شيئاً من ماء على فرجه بعد الوضوء، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد عشر خلال من السنة وذكر فيها الإنتضاح بالماء. وهو: "أن يأخذ ماء قليلاً فينضح به مذاكيره ومُؤْتَزَرَه بعد فراغه من الوضوء لينفي بذلك عنه الوسواس " (2).
إذا ثبت هذا أقول: استحب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية والحنابلة أن يرش على الفرج أو ما حول من إزار أو سروال أو ثوب؛ قليلاً من الماء ليقطع بذلك وسوسة الشيطان. قال حنبل: سألت أحمد، قلت: أتوضأ واستبرئ وأجد في نفسي قد أحدثت بعده. قال:" إذا توضأت فاستبرئ ثم خذ كفاً من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه فإنه يذهب إن شاء الله "(3).
الخصلة الثالثة من خصال الفطرة: غسل البراجم:
وقد ورد في الأمر بتنقية البراجم من الأوساخ عند الطهارة للصلاة وغيرها، فقد أخرج ابن عدي من حديث أنس:" أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بتعامد البراجم عند الوضوء، وذلك لأن الوسخ إليها سريع.. الحديث". قال العراقي:" إسناده ضعيف "(4) لكن له شواهد من حديث عائشة عند مسلم المذكور في صدر البحث.
وللترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن يسر رفعه:" قصوا أظفاركم، وادفنوا قلائمكم، وتقّوا براجمكم " وفيه عمر بن بلال وهو غير معروف (5).
__________
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر ج5 ص69 مادة نضح .
(2) لسان العرب ج3 ص459 مادة نضح طبعة مصورة عن طبعة بولاق.
(3) مغني المحتاج ج1 ص46 ، فتح القدير ج1 ص213 ، المغني ج1 ص115 .
(4) فتح الباري ج12 ص457 ، وطرح التثريب ج2 ص84 .
(5) المرجعين السابقين .(1/38)
كما روى أحمد في المسند من حديث ابن عباس:" أنه قيل له: يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل. فقال: "ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنّون ولا تقلّمون أظفاركم ولا تقصون شواربكم ولا تتقون رواجبكم " (1).
قال أبو عبيد:" البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها "، وقال ابن سيده؛" البرجمة: المفصل الظاهر من المفاصل .. وقيل الباطن منها ".
وحكى عن صاحب التهذيب:" أن البراجمة: هي البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم: هي المشنّجات في مفاصل الأصابع ". وقال في موضع آخر:" المشنجات في طهور الأصابع، وفي كل أصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام فلها برجمتان ".
وحكى عن الجوهري:" أن البراجم: هي مفاصل الأصابع التي بين الأشاجع والرواجب والأشاجع – جمع أشجع - : وهي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف وقيل عروق ظاهر الكف. والرواجب هي رؤوس السلاميّات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت ".
وقال محقق اللسان:" البراجم: رؤوس السلاميات، والرواجم – الرواجب – بطونها وظهورها ". هذا ما قاله علماء اللغة في بيان معنى البراجم والرواجب والأشاجع (2) ولكني أختار في بيانها ما قاله الإمام الرهوني في حاشيته على الزرقاني حيث قال:" الرواجب: هي مفاصل الأصابع العليا والبراجم: هي الوسطى والأشاجع هي السفلى التي تتصل ظاهر الكف ". وقد نظمها في بيتين من الزجر تقريباً للحفظ قال:
رواجب براجم أشاجع ... ثلاثة مفاصل الأصابع
فأول لأول ثم كذاك ... والبدء من أعلى فحقق ما هناك (3)
__________
(1) المرجعين السابقين.
(2) النهاية لابن الأثير ج1 ص113 مادة برجم لسان العرب ج4 ص312 وانظر معهما فتح الباري ج12 ص458 .
(3) حاشية الرهوني على الزرقاني ج1 ص114 تصوير على طبعة المطبعة الأميرية ببولاق 1306 . والمصور دار الفكر بيروت.(1/39)
ويرجح النووي كلام أبي عبيد وصاحب المحكم:" بأن الرواجب والبراجم جميعاً هي مفاصل الأصابع كلها "(1) وهو ما يفهم من قول الخطابي. بأنها المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ولا سيما ممن لا يكون طري البدن، وقول الغزالي:" كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع في تلك الغضون وسخ فأمر بغسلها " (2).
والحاصل: أن بعض العلماء فسر البراجم: بأنها عقد ظهور الأصابع فقط. ومنهم من فسرها: بأنها عقد بطون الأصابع فقط. ومنهم من فسرها بأنها عقد بطون الأصابع وظهورها.
فعلى رأي الفريقين الأول والثاني يكون بعض العقد قد نص عليها والبعض لم ينص عليها ولكن ما لم ينص عليها أيضاً يتعهدها بالتنقية والتنظيف قياساً على ما نص عليه لوجود العلة فيه وهي تسارع الوسخ إليه.
وقد أدخل العلماء في هذا الباب كل العقد التي تكون مجتمعاً للوسخ سواء كانت في ظهور الأصابع أو بطونها، وسواء كانت في اليدين أو الرجلين كما ألحقوا بها ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع. وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف أو أي موضع شبيه بالبراجم في جميع أجزاء سواء نشأ عن عرق أو غبار أو غيرهما (3).
تنظيف البراجم سنة :
والمراد: أنه يسن في حق المسلم أن يتعاهد هذه المواضع بإظهار ما يخفى من ثنايا هذه العقد، وإمرار الماء عليها ودلكها حتى يتأكد من نظافتها وليس ذلك في حال الوضوء فقط بل في كل ما يرى ضرورة لذلك. وقد أشار الإمام النووي إلى هذا المعنى حيث قال:" وأما غسل البراجم فمتفق على استحبابه. وهو سنة مستقلة غير مختصة بالوضوء " (4).
الخصلة الرابعة : الإستياك :
والإستياك: هو دلك الفم بالسواك أو المسواك.
والسواك أو المسواك : اسم للآلة التي تستعمل في دلك الفم.
__________
(1) المجوع ج1 ص344 .
(2) فتح الباري ج12 ص457 .
(3) تحفة الأحوذي ج8 ص37 المجموع ج1 ص320 دار النصر للطباعة القاهرة.
(4) المجموع ج1 ص347 مطبعة العاصمة.(1/40)
والإستياك مشتق من ساك؛ فإذا قيل : إستاك أو تسوك فلا يذكر الفم.
يجمع السواك على سوك على وزن فعل، مثل كتاب وكتب، وربما همز فيقال فيه: سؤك، ويذكر ويؤنث؛ ففي الحديث " السواك مطهرة للفم "؛ أي يطهر الفم. قال أبو منصور:" ما سمعت أن السواك يؤنث " ثم قال:" والسواك مذكر.." وقوله: "مطهرة للفم"؛ كقولهم الولد مجبنة مجهلة مبخلة (1).
ما يستاك به :
ومشروعية الإستياك تحصل بكل شيء خشن يصلح لإزالة بقايا الطعام والرائحة المتغيرة من الفم، والصفرة التي تعلو الأسنان؛ وذلك كالخرقة أو الخشبة أو الأصابع الخشنة. وقد جاء في سنن البيهقي من حديث أنس أن رجلاً من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله؛ إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء؟ قال: " إصبعاك سواك عند وضوئك تمرهما على أسنانك، إنه لا عمل لمن لا نيّة له ولا أجر لمن لا حُسْبةَ له " (2) الحديث رجاله ثقات إلا أن الراوي له عن أنس بعض أهله غير مسمى وقد ورد في بعض طرقه بأنه النضر بن أنس وهو ثقة. ولفظه: " تجزئ من السواك الأصابع " (3) .
وفيه عيسى بن شعيب البصري. قال فيه عمرو بن علي الفلاّس:" إنه صدوق " وقال ابن حبان:" كان ممن يخطئ حتى فحش خطؤه فاستحق الترك " وله عند البيهقي طريق آخر غير طريق عيسى بن شعيب؛ في إسنادها: إسماعيل بن أبي نصر الصابوني عن محمد الحسن بن محمد المخلدي عن محمد بن حمدون بن خالد عن أبي أمية الطرسوسي، عن عبد الله بن عمر الحمال، عن عبد اللّه بن المثنى عن ثمامة عن أنس، قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:" الإصبع تجزئ من السواك " (4). وفيه عبد الله بن المثنى. قال الحافظ فيه:" صدوق كثير الغلط "(5).
__________
(1) لسان العرب ج12 ص330 صرف الكاف فصل السين.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص41 دار الفكر.
(3) المرجع السابق ج1 ص41 .
(4) السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص41 .
(5) التقريب ج1 ص445 الطبعة الثانية .(1/41)
وقد جزم النووي بصحة إجزاء الإصبع الخشنة في الإستياك سواء كانت إصبع نفسه أو إصبع غيره موافقاً بذلك كثيراً من الفقهاء (1). ومخالفاً للصحيح المشهور عند الشافعية بعدم صحة إجزاء إستياك الإنسان بإصبع نفسه (2).
وعند الحنابلة رأيان في الإستياك بالإصبع والخرقة؛ قيل لا يصيب السنة لأن الشرع لم يرد به ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود. قال صاحب المغني:- بعد ذكر ما تقدم:" والصحيح أنه يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء ولا يترك القليل من السنة للعجز عن تحصيل كثيرها والله أعلم " (3).
وإني لأعجب من موقف الشافعية، إذ يفرقون بين الإستياك بإصبع الغير وإصبع الشخص نفسه فيجيزون الإستياك بإصبع الغير ويمنعون أن يستاك الإنسان بإصبع نفسه؟ والحق أن المدار على الإنقاء وإزالة الرائحة من الفم فإن كان الإصبع خشناً قادراً على ذلك أجزأ الإستياك به وإن كان لا يستطيع ذلك فلا، والله أعلم.
قال ابن عبد البر:" ما جلا الأسنان ولم يؤذها ولا كان من زينة النساء فجائز لاستنان به "(4).
أفضل ما يستاك به:
يرى أكثر العلماء أفضلية الإستياك بعود الأراك، وهو شجر طيب الرائحة ثم بعده، جريد النخل، ثم عود الزيتون، ثم ما له رائحة ذكية، ثم غيره من العيدان مما لم ينه عنه (5).
وقال البعض بأفضلية الإستياك بعود الزيتون وقالوا: هو أفضل من عود الأراك؛ لأنه يطيب الفم (6).
وقد أخرج الطبراني من حديث أبي خبرة الصباحي وله صحبة فذكر حديثاً قال فيه؛" ثم أمر لنا يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأراك فقال: "استاكوا بهذا ".
__________
(1) المجموع ج1 ص341 مطبعة العاصمة. وحاشية الرهوني على الزرقاني ج1 ص147 .
(2) المجموع ج1 ص341 مطبعة العاصمة .
(3) المغني ج1 ص72 مطبعة الفجالة.
(4) المجموع ج1 ص341 مطبعة العاصمة.
(5) حاشية الرهوني ج1 ص147 .
(6) المرجع السابق .(1/42)
وروى الحاكم في المستدرك من حديث عائشة في دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في مرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعه سواك من أراك فأخذته عائشة رضي اللّه عنها فطيبته تم أعطته رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاستن به. وقال العراقي- بعد ذكره لهذا الحديث، والحديث الذي قبله - الحديث أي حديث عائشة في الصحيح وليس فيه ذكر الأراك وفي بعض طرقه عند ا البخاري؛ ومعه سواك من جريد النخل. ثم قال.. وروى أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود " أنه يحتبي سواكاً من الأراك " (1).
ما لا يستاك به:
ويستحب ألاّ يستاك بعود ليّن لا يقلع القلحة ولا يزيل الرائحة، ولا بعود يابس يجرح اللثة بل يستاك بعود وسط بين الليونة واليبوسة ويمكن معالجة اليابس بوضعه في الماء بعض الوقت.
وقد حكى عن ابن عبد البر: كراهة الإستياك بالريحان والقصب لأنهما يسببان بعض الأمراض (2).
وفي المغني: كراهة الإستياك بعود الريحان والآس والأعواد الزكية لما روى عن قبيصة بن ذؤيب؛ قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم:" لا تتحللوا بعود الريحان ولا الرمان فإنهما يحركان عرق الجذام " رواه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ بإسناده، وقيل السواك يضر بلحم الفم (3).
وأضاف بعض العلماء كراهة الإستياك بأعواد التبن والقصب والأشنان- أحد المواد المنظفة- والحلفة وكل ما جهل أصله من الأعواد وقد نظم بعض أهل العلم في ذلك بيتين من الرجز تسهيلاً للحفظ حيث قال:
تجنب من الأشياء سبعاً فلا تكن ... بها أبداً تستاك تنجو من العطب
بحلفة أو رمّان أو ما جهلته ... وريحان أو أشنان أو تبن أو قصب (4)
وحكى ابن عبد البر عن بعض أهل العلم كراهة السواك بشيء يغير الفم ويصبغه بأي لون لما فيه من التشبه بزينة النساء (5).
كيفية الإستياك :
__________
(1) طرح التثريب ج2 ص68 .
(2) المرجع السابق.
(3) المغني ج1 ص72 .
(4) انظر هامش حاشية الرهوني ج1 ص147 .
(5) طرح التثريب ج2 ص68 .(1/43)
استحب العلماء: أن يبدأ المسلم الإستياك من الجانب الأيمن من فمه لما ثبت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتيامن في كل شيء. وأن يكون الإستياك عرضاً في الأسنان حتى لا يدمي لحم لثة وقد وردت بعض الآثار في جعل الإستياك عرضاً في الأسنان منها ما رواه البيهقي في سننه عن ربيعة بن أكثم قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً ويشرب مصّاً ويقول: "هو أهنأ وأمرأ " (1).
قال العراقي: إن ربيعة بن أكثم استشهد بخيبر، فعلى هذا يكون الحديث منقطعاً؛ لأنه من رواية ابن المسيب عنه (2).
كما روى أبو داود في المراسيل وذكره البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا شربتم فاشربوا مصّاً وإذا استكتم فاستاكوا عرضاً "(3).
وعند أبي نعيم من كتاب له في السواك عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً ولا يستاك طولاً " قال العراقي إسناده ضعيف (4) إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يخل أحدها من مقال ولكن يستأنس بها مع الفوائد المترتبة على الإستياك عرضاً؛ للقول بأفضليته.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص40 .
(2) طرح التثريب ج2 ص69 .
(3) السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص40 .
(4) طرح التثريب ج2 ص69 .(1/44)
وأن يكون الإستياك طولاً في اللسان لما جاء في البخاري ومسلم وأبي داود واللفظ له؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:" أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فرأيته يستاك على لسانه". وقال سليمان، قال:" دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وقد وضع السواك على طرف لسانه وهو يقول: " إه إه " (1) وإه: بهمزه مكسورة بعدها هاء ساكنة وفي رواية البخاري: " يقول أعْ أعْ والسواك في فيه كأنه يتهوع " (2) أي كأنه يتقيأ. وعند ابن خزيمة:" عا عا " وفي صحيح الجوزي " إح إح " بكسر الهمز وبالحاء المهملة. وفي مسند أحمد:" واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق " ووصفه غيلان بأنه يستن طولاً. وكل هذه الروايات؛ تفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالسواك إلى أقصى الحلق. وإنما اختلف الرواة في حكاية الصوت الذي كان يخرج من فمه صلى الله عليه وسلم حينما كان يستاك لتقارب مخارج هذه الأحرف (3).
وقد حكى النووي عن بعض أهل العلم كيفية الإستياك؛ قال:" يستحب أن يستاك عرضاً في ظاهر الأسنان وباطنها ويمر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه ويمره على سقف حلقه إمراراً خفيفاً ".
قال:"وأما جلاء الأسنان بالحديد وبردها بالمبرد فمكروه لأنه يضعف الأسنان ويفضي إلى انكسارها، ولأنه يخشنها فتتراكم الصفرة عليها والله أعلم "(4).
__________
(1) الجزء الأول في الحديث من رواية مسدد والجزء الثاني منه من رواية سليمان ، عون المعبود ج1 ص76 .
(4) المجموع ج1 ص340 مطبعة العاصمة .(1/45)
ويستحب غسل السواك بعد الإستعمال لتطييبه وتنظيفه مما علق به من الفم لئلا ينفر الطبع منه بعد ذلك، ولما أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه " (1) والمراد بقول عائشة رضي الله عنها:" فأبدأ به "؛ أي باستعماله في فمي قبل الغسل لتصل بركة فم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ.
ولا بأس من استعمال السواك الواحد لأكثر من شخص لحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر فأوصى إليه في فضل السواك أن كبّر، أعط السواك أكبرهما " (2) قال صاحب العون في تفسير هذه العبارة: أي أوحى إليه أن فضل السواك وحقه أن يقدم من هو أكبر (3) ولعل المعنى المراد هو - والله أعلم - أن الله سبحانه وتعالى بعد أن أوصى إليه ما للسواك من فضل أعلمه بأن من أحكامه: أن يقدم الأكبر فالأكبر إذا اجتمع عدة أشخاص على الإستياك بسواك واحد.
ولا خلاف بين أهل العلم في أفضلية البداءة بالجانب الأيمن من الفم ولكنه قد اختلف هل يباشر المرء الإستياك بيده اليمنى أو اليسرى؟ فنقل عن بعض أهل العلم من متأخري الحنابلة: أن الإستياك يكون باليد اليمنى : لأنه ورد في بعض طرق حديث عائشة المشهور؛ " كان يعجبه التيمن في ترجله وتنعله وتطهره وسواكه " (4) ولأن السواك من باب التطيب وهو يكون باليد اليمنى. وقد نص صاحب المغني على استحباب التيامن في الإستياك. ولكنه لم يفصل مراده منه؛ هل التيامن المستحب هو البداءة بالجانب الأيمن من الفم أو الإستياك باليد اليمنى (5).
__________
(1) عون المعبود ج1 ص78 .
(2) عون المعبود ج1 ص77 .
(3) المرجع السابق .
(4) طرح التثريب ج2 ص71 .
(5) المغني ج1 ص71 .(1/46)
وقال بعض الشافعية: الظاهر أنه يكون باليد اليسرى لأنه من باب إزالة الأذى كالإمتخاط ونحوه وقوى هذا الفريق رأيه هذا بما نقل عن أبي العباس القرطبي من المالكية حيث قال في المفهم:" حكاية عن مالك أنه لا يتسوك في المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم ". وقد أجابوا عن استدلال الفريق الأول: بأن المراد منه: البداءة بالشق الأيمن في الترجل والبداءة بلبس النعل والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهر، والبداءة بالجانب الأيمن من الفم في الإستياك (1).
وبهد أن تبين لنا أن كلا الرأيين يخلو من دليل قوي، وأنه من الناحية العملية: نجد أنه من العسير حمل فائدة السواك على أحد الأمرين: التطيب، أو إزالة القذر بصفة قاطعة؛ لأنه يقوم بالأمرين معاً وإن كان إلى الثاني أقرب. كما أن قيام اليدين بتسويك جانب الفم والأسنان، ظاهراً وباطناً . أمر شاق إن لم يكن متعذراً لذلك ينبغي أن يستاك بما يستطيعه سواء باليد اليمنى أو اليسرى أو هما معاً.
لا بأس من الإستياك أمام الناس:
نقل عن القاضي عياض بأن ذا المروءة لا ينبغي له فعل السواك أمام الناس (2). وهذا محمول على أنه من باب إزالة القذر وربما كان هذا الرأي مستنداً إلى ما تقدم نقله عن الإمام مالك من عدم الإستياك بالمساجد ... وقد رد ابن دقيق العيد هذا القول بأمرين:
الأول: ما ورد من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال:" أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وطرف السواك على لسانه يقول :"أعْ أعْ "والسواك في فيه كأنه يتهوع. وقال: إن بعضهم ترجم على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته ".
الثاني: أن السواك من باب العبادات والقرب فلا يطلب إخفاؤه. و اللّه أعلم (3).
وقد أجيب عن هذين الأمرين بما يلي :
__________
(1) طرح التثريب ج2 ص71 .
(2) حاشية الرهوني ص147 .
(3) هامش حاشية الرهوني ج1 ص147 وهو من تعليق المدني على كنون وهما من علماء المالكية .(1/47)
بالنسبة للأمر الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ الإستياك بحضرة أبي موسى بل كان متلبساً به قبل مجيئه. كما أن أبا موسى واحد لا جماعة وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يستشفى بجميع فضلاته فلا يستقذر ذلك منه بخلاف غيره (1).
أما بخصوص ترجمة النسائي للحديث بقوله:( هل يستاك الإمام بحضرة رعيته ) فقد قال العلامة السندي- تعليقاً على هذه الترجمة - إنها تشير إلى أن الإستياك بحضرة الغير ينبغي أن يكون مخصوصاً بما لا يكون ذلك مستقذراً منه لكونه إماماً ونحوه. والله تعالى أعلم (2) اهـ .
وأما بالنسبة للأمر الثاني فقد أجيب عنه بأن كونه من باب العبادات والقرب لا يدل على فعله بحضرة الناس؛ ألا ترى أن الإستبراء واجب ونتف الإبط مندوب ومع ذلك ينبغي إخفاؤهما (3) وأرى أنه لا بأس من الإستياك بحضرة الناس لثبوت استياكه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى أمام الناس. ولم يكن أبا موسى وحده بل كان معه غيره فقد جاء عن النسائي: عن أبي موسى قال أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك .." الحديث (4).
كما ثبت ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في سنن الترمذي: كان زيد ابن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه " موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استنّ ثم ردّه إلى موضعه " (5).
وثالثاً لم يرد نهي عن الرسول عليه الصلاة والسلام لأحد من الصحابة عن الإستياك بالمسجد أمام الناس بالرغم من كثرة المستعملين له وإدامتهم عليه. والله أعلم.
فوائد السواك:
__________
(1) المرجع السابق .
(2) حاشية السندي على شرح السيوطي على سنن النسائي ج1 ص9 دار إحياء التراث بيروت .
(3) هامش حاشية الرهوني ج1 ص147 .
(4) سنن النسائي ج1 ص10 دار التراث بيروت.
(5) تحفة الأحوذي ج1 ص108 .(1/48)
الأصل في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" السواك مِطْهَرةٌ للفم مَرضاة للرب " (1).. قال النووي: حديث صحيح رواه أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة إمام الأئمة في صحيحه والنسائي والبيهقي في سنتهما وآخرون بأسانيد صحيحة، وذكرهم البخاري في صحيحه في باب الصيام - تعليقاً- بصيغة لجزم (2).
وقد نقل العراقي ما رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد في الحسنات " وهو من السنة يجلو البصر ويذهب الحضرة ويشد اللثة. ويذهب البلغم ويطيب الفم. وزاد البيهقي في رواية أخرى " ويصح المعدة " وفي بعض طرقه عند غير البيهقي " ويزيد في الفصاحة " قال البيهقي: تفرد به خليل ابن مرة وليس بالقوى. وقد قال فيه أبو زرعة:" شيخ صالح.." وقال ابن عدي:" يكتب حديثه "(3) وقد نظم الحافظ بن حجر قصيدة في بيان فضائل السواك ذكر فيها نحواً من ثلاث وثلاثين فائدة، دينية وصحية واجتماعية من فوائد السواك من شاء فليرجع إليها (4).
حكم الإستياك:
__________
(1) سنن النسائي ج1 ص10 دار إحياء التراث وسنن البيهقي ج1 ص34 .
(2) المجموع ج1 ص330 مطبعة العاصمة .
(3) طرح التثريب ج2 ص67 .
(4) هامش حاشية الرهوني ج1 ص148 .(1/49)
ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب السواك ونقل هذا عن داود الظاهري وإسحاق بن راهويه. كما نقل أيضاً عن داود؛ أنه يقول بوجوبه مع عدم بطلان الصلاة بتركه. أما ما نقل عن إسحاق؛ فإنه يذهب إلى بطلان الصلاة لو ترك عمداً (1) وقد استدل لهما بما أخرجه أبو داود بسنده إلى عبد الله بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال:" أرأيت توضِئَ ( تَوضُّؤَ ) ابن عمر لكل صلاة طاهر أو غير طاهر عم ذاك؟ فقال: حدَّثنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء لكل صلاة طاهراً وغير طاهر فلما شق ذلك عليه، أُمِرَ بالسواك لكل صلاة "(2) .
وجه الدلالة في الحديث قوله:" أمر بالسواك لكل صلاة ". والأمر يقتضي الوجوب والأمر له أمر لأمته حتى يقوم الدليل على التخصص.
وأيضاً استدل لهما: بالأحاديث التي جاءت في السواك بصيغة الأمر كحديث أبي أمامة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:" تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم.. الحديث" (3).
وكذلك بما رواه البزار في مسنده من حديث العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" تدخلون عليّ قلحاً استاكوا " ورواه أحمد في مسنده من حديث تمام بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما لي أراكم تأتوني قلحاً استاكوا " وما رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس مرفوعاً:" عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم.. الحديث " (4).
ويجاب عن حديث ابن أبي عامر بأنه قد تكلم فيه بأن في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن وبأنه على فرض صحته فإنه يفيد الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم دون أمته - وإن كان هذا محل نظر سنعرض له قريباً.
__________
(1) المنتقى ج1 ص130 المجموع ج1 ص333 مطبعة العاصمة والمغني ج1 ص71 .
(2) عون المعبود ج1 ص73 ، ص74 .
(3) ابن ماجه ج1 ص124 .
(4) طرح التثريب ج1 ص63 .(1/50)
أما الإستدلال بالأحاديث الأخرى التي جاءت بصيغة الأمر فقد قال: العراقي:" لم يصح منها شيء " أما حديث أبي أمامة ففيه علي بن زيد الألهاني وهو ضعيف جداً، وأما حديث أبي العباس وحديث تمام ففيهما أبو علي الصقلي وهو مجهول. وأما حديث ابن عباس فتفرد به الخليل بن مرة وهو منكر الحديث وقد سبق ما قيل فيه قريباً.
والمعتمد عند المالكية والحنفية أنه مندوب عند كل وضوء أما الشافعية والحنابلة وعدد من كبار المالكية بأنه سنة وقد صرح الشافعية والحنابلة بأنه سنة عند كل صلاة.
وقد علل الحنفية عدم القول بالنسبة عند كل وضوء: بأنه ليس هناك ما يدل على مواظبته صلى الله عليه وسلم عند كل وضوء. ثم ذكروا الأحاديث الواردة في ذلك وقالوا: غاية ما تفيده الندب فقط (1).
أما المالكية: فقد عللوا ذلك بما جاء في حديث " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " وفي بعض الروايات " عند كل وضوء " وبما أن الأمر المنفي في الحديث؛ هو الأمر المقتضي للوجوب لا غير، فبقي الأمر المفيد للندب. إذ هو لا مشقة فيه. أو كما قال الباجي: فالمراد هنا - أي المنفي - :الوجوب واللزوم دون الندب فقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى السواك وليس في الندب إليه مشقة لأنه إعلام بفضيلته واستدعاء لفضله لما فيه من جزيل الثواب (2).
أما الشافعية والحنابلة: فقد استدلوا على القول بالسنة، بحثه صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليه وترغيبه فيه وندبه إليه وتسميته إياه بالفطرة (3).
__________
(1) فتح القدير ج1 ص16 .
(2) المغني ج1 ص71 .
(3) المنتقى ج1 ص130 .(1/51)
والواقع أنه ليس هناك فرق كبير بين القولين: بالسنية والندبة - إذ يعرّف كل من السنة والمندوب عند الفقهاء: بأنه ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. غاية ما في الأمر أن البعض يشترط لإطلاق الحكم بالنسبة حصول المواظبة عليه من النبي صلى الله عليه وسلم والبعض الآخر لا يشترط ذلك بل يكفي عنده حصول الفعل منه صلى الله عليه وسلم ولو مرة أو صدور الأمر به لا على سبيل الحتم والإلزام، بل على سبيل الترغيب والإرشاد.
وعلى أية حال: فإن التفرقة بين الأمرين، من اصطلاحات الفقهاء، وكما قيل: لا مشاحة في الإصطلاح لكن ما ينبغي التعويل عليه. أن جميع الفقهاء بما فيهم ابن حزم (1)- ما عدا ما نقل عن داود وإسحاق - متفقون على أن السواك ليس بواجب. والعمدة في الإستدلال على ذلك؛ بالحديث المخرج في الصحيحين؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لولا أن أشق على المؤمنين - وفي حديث زهير: على أمتي - لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " (2).
وفي الموطأ من حديث ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة: " لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء " (3) كما أخرج البخاري رواية "مع كل وضوء" تعليقاً. وأسندها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصححها.
وبما أن " لولا " حرف امتناع لوجود؛ أي لولا وجود المشقة من وجوب استعمال السواك عند كل صلاة أو عند كل وضوء؛ لحصل الأمر بذلك، وبما أن المشقة حاصلة فقد امتنع الأمر المقتضى للوجوب وبقي حال السواك على ما كان عليه من الندب إليه والحث والترغيب فيه.
__________
(1) المحلى ج2 ص297 .
(2) صحيح مسلم ج1 ص151 .
(3) المنتقى ج1 ص130 .(1/52)
وقد استند علماء الحنابلة والشافعية ومعهم ابن حزم على الرواية الأولى التي جاءت بلفظ "عند كل صلاة " في قولهم بمشروعية السواك عند كل صلاة. كما اعتمد المالكية والحنفية وبعض الشافعية على الرواية الثانية التي جاءت بلفظ " مع كل وضوء " في القول؛ بأن السواك مشروع عند كل وضوء وقد تأول بعض علماء الفريق الثاني الحديث الأول، وقالوا: إنه على تقدير عند وضوء كل صلاة.
وقد أكثر الفريقان من إيراد الحجج المؤيدة لدعوى كل منهما ودفع الإعتراضات الواردة عليها. إلا أنه يمكن القول بأن الإستياك عند كل صلاة وإن كان أقوى سنداً لذكر دليله في الصحيحين وغيرهما فإن القول الثاني أنسب عملاً؛ لما علمنا أن السواك يندب غسله قبل الإستعمال أو بعده وقد قالت عائشة رضي الله عنها:" كنا نعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آنية مخمرة من الليل؛ إناء لطهوره وإناء لسواكه وإناء لشرابه " رواه ابن ماجه (1) وهذا لا يتوافر غالباً في موطن الصلاة.
كما سبقت الإشارة إلى أن بعض العلماء قد كره الإستياك في المسجد بدعوى أن الإستياك من باب إزالة القذر والمساجد منزهة عن ذلك.
وقد حاول بعض علماء الفريق الأول إيجاد مخرج لذلك حيث قالوا: وهذا - أي فعله عند كل صلاة - لا يقتضي ألاّ يعمل إلا في المسجد حتى يتمشى هذا التعليل، بل يجوز أن يستاك ثم يدخل المسجد للصلاة وقد روى الطبراني في معجمه عن صالح بن أبي صالح عن زيد بن خالد الجهني قال:" ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك. ومن كان في المسجد وأراد أن يصلي جاز أن يخرج من المسجد ثم يستاك ثم يدخل ويصلي ". ثم ذكر هذا البعض أيضاً:" أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يروحون إلى المسجد والسُوك خلف آذانهم " (2).
__________
(1) المغني ج1 ص72 وابن ماجه ج2 ص335 .
(2) تحفة الأحوذي ج1 ص104 .(1/53)
بذلك كله نقول: بأنه يستحب الإستياك عند كل من الوضوء والصلاة إذا كان هناك فارق في الزمن بينهما. أما لو كانت الصلاة عقب الوضوء فالسواك عند المضمضة في الوضوء كاف عند إعادته مرة أخرى مع الصلاة لأنه يطلق عليه حينئذ أنه تسوك عند الصلاة أو مع الصلاة والله أعلم.
الحكمة من مشروعية السواك عند الصلاة :
ذكر الحافظ العراقي أنه قد ورد مرفوعاً عند البزار في مسنده من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه يتسمع لقراءته فيدنو منه أو كلمة نحوها – حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم للقرآن " ثم قال: رجاله رجال الصحيح إلاّ أن فيه فضيل بن سليمان النميري وهو وإن أخرج له البخاري ووثقه ابن حبان؛ فقد ضعفه الجمهور، وآخر الحديث عند ابن ماجه، من قول علي - إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك، وفيه بحر بن كثير السقا؛ ضعيف جداً وقد رفعه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه (1).
أقول قد ذكره البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي عبد الرحمن السلمي موقوفاً على عليّ رضي الله عنه بلفظ:" أمرنا بالسواك " وقال:" إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك فقام خلفه يسمع القرآن ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك "(2) زاد صاحب كنز العمال بعد هذا: " فطيبوا ما هنالك " (3).
وذكر صاحب التحفة - نقلاً عن المنذري في الترغيب - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إليّ من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك " رواه أبو نعيم في كتاب السواك بإسناد جيد (4).
__________
(1) طرح التثريب ج1 ص66 وسنن ابن ماجه ج1 ص125 .
(2) السنن الكبرى ج1 ص38 .
(3) هامش المرجع السابق .
(4) تحفة الأحوذي ج1 ص105 .(1/54)
كما روى عن جابر رضي اللّه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك " رواه أبو نعيم أيضاً بإسناد صحيح (1).
وقد ذكر البيهقي في السنن عدداً من الأحاديث بهذا المعنى عن عائشة رضي اللّه عنها ولم يخل واحد منها من مقال في إسناده (2).
مدى مشروعية السواك في حقه صلى الله عليه وسلم :
ذهب بعض أهل العلم إلى أن السواك كان واجباً في حقه صلى الله عليه وسلم واستدل بذلك بما رواه أبو داود من حديث عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء.. الحديث وقد تقدم. وفيه " أمر بالسواك لكل صلاة " قال العراقي: في إسناده محمد بن إسحاق وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس. فلا يصلح للإحتجاج به (3).
وقد دلّ على نفي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد في مسنده من حديث واثلة ابن الأسقع قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: " أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب عليّ " قال العراقي: وإسناده حسن. ومعلوم أن الخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح (4).
الأوقات التي تتأكد فيها مشروعية السواك:
مشروعية السواك عامة؛ بمعنى أنه يستحب فعله في كل وقت تظهر الحاجة فيه إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " الحديث. والأحاديث الأخرى التي وردت في الأمر به والحث عليه بصيغة عامة. إلا أنه يتأكد استحبابه في عدة أوقات من أهمها ما يلي:
أ- مشروعيته عند الوضوء وعند الصلاة وقد تقدم بيان ذلك.
__________
(1) المرجع السابق .
(2) السنن الكبرى ج1 ص38 .
(3) طرح التثريب ج2 ص7 .
(4) طرح التثريب ج2 ص70 .(1/55)
ب- عند قراءة القرآن. نظراً لأن الفم طريق للقرآن فينبغي أن ينظف مما به من قذر أو كراهية رائحة كما أنه يقطع البلغم ويزيد في الفصاحة ويساعد على النطق الصحيح للحروف. ويشهد بذلك الحديث السابق: " السواك مطهرة للفهم.. الحديث" (1).
جـ- عند دخول المنزل لأنه سيتعامل مع أهله ويقترب منهم وربما تأذوا من رائحة فمه وقد أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك " (2) . ولأبي داود بلفظ " قلت لعائشة: بأي شيء كان يبدأ الرسول صلى اللّه عليه وسلم إذا دخل بيته ؟ قالت: بالسواك " (3).
د- عند الإستيقاظ من النوم سواء كان ذلك بالليل أم بالنهار؛ نظراً لما يطرأ على الفم من التغير في المدة التي يكون فيها الشخص نائماً بسبب ما يتصاعد من الأمعاء من الأبخرة وبقايا الفضلات المترسبة بين الأسنان. ويتأكد السواك إذا كان القيام بالليل للتهجد لحديث حذيفة عند مسلم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك" وفي رواية أخرى له:" كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك " (4).
ولأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا يتسوك قبل أن يتوضأ " (5).
وقد سكت عنه أبو داود. وقال المنذري: في إسناده علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج به. ولكن هذا من فضائل الأعمال التي جوز العلماء العمل فيها بالحديث الضعيف.
هـ - عند الإنصراف من صلاة الليل. لما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل ركعتين ركعتين ثم ينصرف فيستاك " (6).
__________
(1) المجموع ج1 ص334 مطبعة العاصمة وطرح التثريب ج1 ص66 .
(2) صحيح مسلم ج1 ص152 .
(3) عون المعبود ج1 ص86 .
(4) صحيح مسلم ج1 ص152 .
(5) عون المعبود ج1 ص84 .
(6) ابن ماجه ج1 ص124 .(1/56)
أقول: ربما كان هذا عند إرادته النوم بعد الصلاة لأن كثرة القراءة والحديث تغير رائحة الفم، فإذا أراد أن ينام أحب أن يطهر الفم من الرائحة المتغيرة ومما تجمع على الأسنان من اصفرار أو تغير أو غير ذلك ويشهد لذلك حديث ابن عباس عند أبي داود ومسلم والنسائي. واللفظ لأبي داود قال:" بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ من منامه أتى طهوره فأخذ سواكه فاستاك ثم تلا هذه الآيات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}(1) حتى قارب أن يختم السورة أو ختمها ثم توضأ فأتى مصلاه وصلى ركعتين ثم رجع إلى فراشه فنام ثم استيقظ ففعل مثل ذلك كل ذلك يستاك ويلي ركعتين ثم أوتر " (2).
وقد جاء ذلك صريحاً في حديث جابر عند ابن عدي في الكامل:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه " قال العراقي - بعد ذكره لهذا الحديث - في إسناده؛ حرام بن عثمان وهو متروك (3).
وبالجملة فإن السواك يتأكد عند تغير في رائحة الفم أو تلون الأسنان بالإصفرار. فإذا شعر المرء بتغير في لون أسنانه أو رائحة فمه فإنه يستحب له الإستياك وقد ذكر العلماء عدداً من الحالات التي يكثر فيها التغير المذكور منها؛ الأكل، وعدم الأكل لمدة طويلة وبعد شراب حلو. وبعد كثرة قراءة أو حديث وعدم الكلام لمدة طويلة وقد استحب بعضهم بين كل ركعتين من صلاة الليل، ويوم الجمعة، وقبل النوم وبعد الوتر، وعند الأكل، وعند الإستيقاظ من النوم، وقد وردت أكثر هذه الحالات في السنة وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم (4) والله أعلم.
مدى مشروعية السواك للصائم :
__________
(1) سورة آل عمران الآية رقم 190 .
(2) عون المعبود ج1 ص85 .
(3) طرح التثريب ج2 ص66 .
(4) عمدة القارئ ج6 ص182 والمجموع ج1 ص334 مطبعة العاصمة وطرح التثريب ج2 ص66 .(1/57)
قال جمهور أهل العلم بمشروعية السواك لكل صلاة، أو عند كل وضوء حسبما بينا سابقاً سواءً كان المرء مفطراً أو صائماً .
والمشهور من مذهب الشافعية: أنه يكره للصائم الإستياك من بعد الزوال إلى غروب الشمس وقال الحنابلة بنفي استحبابه للصائم من بعد الزوال إلى غروب الشمس كذلك. وهل يكره عندهم؛ فيه روايتان بالكراهة وعدمها، كما نفى استحبابه للصائم بعد الزوال كل من إسحاق وأبي ثور.
وقد استدل الجمهور أولاً: بعموم الأحاديث الصحيحة الواردة في الحث على السواك عند كل صلاة، وعند كل وضوء، وكلما دخل بيته .. إلى غير ذلك.
وثانياً: بقوله صلى الله عليه وسلم - عند ابن ماجه - " من خير خصال الصائم السواك "، وبما قاله عامر بن ربيعة:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم "، قال الترمذي عنه: هذا حديث حسن (1).
وثالثاً: نقل هذا القول عن عدد من الصحابة والتابعين منهم: عمر وعائشة وابن عباس وعروة وابن سيرين والنخعي (2).
أما الفريق الآخر فقد استدل أولاً بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " قال الترمذي: هذا حديث حسن (3) وإزالة المستطاب مكروه كدم الشهيد وشعث الإحرام (4).
وثانياً: بما نقل عن عمر رضي الله عنه من قوله:" يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك"، ونقل هذا القول أيضاً عن عطاء ومجاهد (5) وللفريقين أدلة أخرى غير ما ذكرناه ولكنها ضعيفة.
__________
(1) المغني ج1 ص73 تحفة الأحوذي ج3 ص418 .
(2) المغني ج1 ص72 ، 73 .
(3) وابن ماجه أيضاً ج1 ص502 .
(4) المغني ج1 ص72 .
(5) المغني ج1 ص72 والمجموع ج1 ص334 ، 335 مطبعة العاصمة .(1/58)
والمختار هو مشروعية السواك للصائم والمفطر أول النهار وآخره لأن بعض أدلتهم نص في الموضوع بخلاف حديث أبي هريرة فإنه ليس نصاً فيه بل غاية ما يفيده استحباب عدم تغير رائحة فم الصائم المستطابة عند الله تعالى. والواقع أن رائحة المنبعثة من فم الصائم لا يزيلها السواك؛ لأنها ناتجة عن خلو المعدة وعمل السواك مقصور على إزالة الرائحة الطارئة على الفم.
وقد نقل صاحب التحفة ما رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن غنم قال:" سألت معاذ بن جبل: أتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت غدوة وعشية. قلت: إن الناس يكرهون عشية ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "؟ فقال سبحان الله. لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لا بد بقي للصائم خلوف وإن استاك. وما خار (1) الذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شرّ إلا من ابتلى ببلاء منه بداً انتهى.." ثم نقل عن الحافظ في التلخيص الحبير: أن إسناد هذا الأثر جيد (2).
الخصلة الخامسة من خصال الفطرة: المضمضة :
المضمضة : إدخال الماء في الفم وإدارته فيه وطرحه. وقد أكثر الفقهاء: إن سنة المضمضة تتحقق بمجرد إدخال الماء في الفم أما إدارة الماء في الفم فهي سنة المبالغة في المضمضة وعلى هذا يكون المراد من المضمضة - إذا أطلقت في الوضوء - أمرين: إدخال الماء في الفم، ومجه فيه. وقال البعض: إن المضمضة هي إدخال الماء في الفم ومجه ولا تتحقق المضمضة إلا بذلك وعلى أي حال فالخلاف لفظي بين الفريقين (3).
حكم المضمضة :
__________
(1) في التحفة - وما كار - وليس لها معنى ظاهر وغلب على ظني أنها تحريف من لقط - وما خار - الذي أثبته والله أعلم.
(2) تحفة الأحوذي ج3 ص419 .
(3) المنتقى ج1 ص34 المجموع ج1 ص404 ، 405 فتح القدير ج1 ص16 .(1/59)
يرى الحنابلة: أن المضمضة واجبة لأنها تابعة للوجه وغسل الوجه واجب وذلك في الوضوء والغسل. وحكى هذا القول عن ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق.
وقال مالك والشافعي:" المضمضة سنة في كل من الوضوء والغسل " وروى هذا عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وهناك رواية عن أحمد بن حنبل بأن المضمضة سنة في الوضوء واجبة في الغسل.
وقال الحنفية والثوري:" المضمضة سنة في الوضوء واجبة في الغسل "(1) وقد استدل من ذلك قال بسنية المضمضة بعدد من الأدلة من أهمها ما يلي:
1- ثبوت مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها برواية اثنين وعشرين صحابياً وقد عدد صاحب فتح القدير أسماء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث والكتب التي أخرجتها (2).
2- قال تعالى:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية (3) والوجه عند العرب ما حصلت به المواجهة، وداخل الفم عضو باطن لأنه لم تحصل به المواجهة.
3- كما احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي :" توضأ كما أمرك الله ". وموضع الدلالة أن الذي أمر الله به غسل الوجه - وهو ما حصلت به المواجهة دون باطن الفم كما أشرنا لذلك فيما سبق.
قال النووي:" هذا الدليل - مشيراً إلى هذا الحديث - من أحسن الأدلة .. لأن هذا الأعرابي صلى ثلاث مرات فلم يحسنها فعلم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أنه لا يعرف الصلاة التي تفعل بحضرة الناس وتشاهد أعمالها. فعلّمه واجباتها وواجبات الوضوء؛ فقال له:" توضأ كما أمرك الله " ولم يذكر سنن الصلاة والوضوء لئلا يكثر عليه فلا يضبطها، فلو كانت المضمضة واجبة لأعلمه بها فإنه مما يخفى، لاسيما في حق هذا الرجل الذي خفيت عليه الصلاة التي تشاهد فكيف الوضوء الذي يخفى (4).
أما الحنابلة ومن معهم فقد احتجوا على وجوب المضمضة بعدد من الأدلة أهمها ما يلي:
__________
(1) المغني ج1 ص85 وفتح القدير ج1 ص16 وحاشية الرهوني ج1 ص124 .
(2) فتح القدير ج1 ص16 ، 17 .
(3) سورة المائدة الآية رقم 6 .
(4) المجموع ج1 ص411 طبعة العاصمة.(1/60)
1- إن الفم من الوجه والوجه غسله واجب (1).
وقد نوقش هذا الإستدلال: بأن الفم وإن كان جزءاً من الوجه إلا أنه جزء باطن منفصل عنه بدليل أن له عبادة مستقلة وهي المضمضة ولم يشترك مع الوجه في آداب العبادة الخاصة به.
2- كما احتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم المضمضة والإستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وأخرجه الدارقطني في سننه (2).
والوجه الثاني: إنه لو صح فإنه يحمل على كمال الوضوء (3) للجمع بين الأدلة.
3- كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيه المضمضة ومداومته صلى الله عليه وسلم عليها دليل على وجوبها لأن فعله يصلح أن يكون بياناً وتفصيلاً للوضوء المأمور به في كتاب الله تعالى (4).
ونوقش هذا الإستدلال بأن مجرد المواظبة لا تصلح دليلاً على الوجوب إلا إذا حفّت بها قرائن تفيد أن هذا الفعل مطلوب على سبيل الحتم والإلزام وقد واظب صلى الله عليه وسلم على غسل الكفين في ابتداء الوضوء ولم يقل أحد إن غسلهما واجب (5).
كما احتج للحنفية ومن معهم على وجوب المضمضة في الغسل دون الوضوء بعدد من الأدلة من أهمها ما يلي:
1- حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " تحت كل شعرة جنابة؛ فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة " وبما أن للفم بشرة فيجب غسله (6).
وقد أجيب عن هذا الإستدلال: أولاً: بأن هذا الحديث ضعيف لأنه من رواية الحارث بن وجيه وهو ضعيف منكر الحديث. ويجاب عنه ثانياً: بما قاله الخطابي:" من أن البشرة عند أهل اللغة ظاهر الجلد.. وداخل الفم ليس من البشرة كما يجاب " ثالثاً: بأنه على فرض صحته، فإنه يحمل على الإستحباب جمعاً بين الأدلة (7).
__________
(1) المغني ج1 ص88 .
(2) المغني ج1 ص88 .
(3) المجموع ج1 ص411 مطبعة العاصمة. والسنن الكبرى للبيهقي ج1 ص52 .
(4) المغني ج1 ص89 .
(5) المجموع ج1 ص412 مطبعة العاصمة.
(6) المرجع السابق ج1 ص410 .
(7) المرجع السابق ج1 ص413.(1/61)
2- كما احتج لهم أيضاً بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه جعل المضمضة والإستنشاق ثلاثاً للجنب فريضة " (1).
وقد أجيب عنه: بأنه ضعيف وعلى فرض صحته فإنه يحمل على الإستحباب جمعاً بين الأدلة.
3- كما احتج لهم ثالثاً: بحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ترك موضع شعرة من الجنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار "، قال علي رضي الله عنه: فمن ثم عاديت رأسي وكان يجز شعره " .. حديث حسن. رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن (2) فترك جزء ولو يسير ولو كان بمقدار موضع شعرة استحق هذا الوعيد الشديد.
وقد أجيب عنه بأنه محمول على الشعر الظاهر جمعاً بين الأدلة ويدل قول عليّ رضي الله عنه: "فمن ثم عاديت رأسي "(3).
لذلك ترجح القول بأن المضمضة سنة مؤكدة في الوضوء والغسل.
ويستحب أخذ الماء للمضمضة باليد اليمنى لما جاء في حديث عثمان رضي الله عنه، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه أخذ الماء للمضمضة بيمينه " رواه البخاري ومسلم (4).
الجمع بين المضمضة والإستنشاق :
ذهب عدد من أهل العلم إلى الجمع بين المضمضة والإستنشاق من كف واحدة وقالوا: إنه السنة وينبغي المصير إليه. واستندوا في ذلك إلى جملة من الأحاديث: من بينها ما يلي:
أ- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق " (5).
ب- حديث عبد الله بن زيد:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثاً " (6).
__________
(1) المرجع السابق ج1 ص410 .
(2) المرجع السابق ج1 ص410 وأيضاً السنن الكبرى ج1 ص175 وعون المعبود ج1 ص412 .
(3) المرجع السابق ج1 ص413 .
(4) صحيح البخاري ج1 ص5 طبعة صبيح بالقاهرة وصحيح مسلم ج1 ص141 .
(5) صحيح البخاري ج1 ص46 طبعة صبيح.
(6) الترمذي ج1 ص122 ومسلم ص145 .(1/62)
ونوقش هذا الإستدلال: بأنه يحتمل أنه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد ويحتمل أنه فعل ذلك بكف واحدة بمياه. والمحتمل لا تقوم به حجة .
ويعقب على هذه المناقشة: بأن هذا الإحتمال قد يرد على حديث عبد الله بن زيد لكن يبعد وروده على حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وذهب فريق آخر إلى الفصل بين المضمضة والإستنشاق لأنه أبلغ في التنظيف. واستدل بعدد من الأحاديث من بينها ما يلي:
أ- حديث طلحة عن أبيه عن جده قال:" دخلت يعني على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره. فرأيته يفصل بين المضمضة والإستنشاق ". أخرجه أبو داود وسكت عنه (1).
وقد اختلف المحدثون في جد طلحة: هل كانت له صحبة أم لا. قال يحي ابن معين:" المحدثون يقولون قد رآه، وأهل بيت طلحة يقولون ليست له صحبة "، وأنكره يحي القطان وابن عيينة (2).
ب- ولأبي داود أيضاً عن طريق ابن أبي مليكة عن عثمان، أنه رآه دعا بماء بميْضأة فأصفاها على يده اليمنى ثم أدخلها في الماء فتمضمض ثلاثاً واستنثر ثلاثاً - الحديث - ثم قال:" أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ " (3).
جـ- وللترمذي عن أبي حية قال:" رأيت علياً توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً.. وقال في نهايته: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الترمذي :" هذا حديث حسن صحيح "(4).
وقد نوقشت كل هذه الإستدلالات، بأنها وإن كانت قوية لكن أحاديث الجمع أقوى منها فهي أولى بالإتباع.
والواقع أن هذا الخلاف ليس وارداً في بيان الجواز؛ فالمضمضة والإستنشاق يصحان سواء بالجمع بينهما في كف واحدة بالفصل بينهما. ولكن الخلاف حاصل في الأفضلية.
__________
(1) عون المعبود ج1 ص233 السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص51 .
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص51 .
(3) عون المعبود ج1 ص184 .
(4) تحفة الأحوذي ج1 ص164 ، 165 ، 166 .(1/63)
واختار عدد من العلماء أن التعدد في الكيفية محمول على الخيار بين الأمرين قال البدر العيني: "الأحسن أن يقال: إن كل ما روى من ذلك، في هذا الباب محمول على الجواز "(1) وهو المختار .. والله أعلم.
ويسن تثليث المضمضة؛ لأن أكثر الأحاديث الواردة في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت بالتثليث. وقد وردت قليلاً بمرّة أو مرتين لبيان الجواز. كما تستحب المضمضة بعد تناول أي شيء يترك أثراً في الفم لحديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فدعا بماء فمضمض، وقال: "إن له دسماً " (2).
الخصلتان السادسة والسابعة : الإستنشاق والإستنثار :
وقد ورد كل من الإستنشاق والإستنثار في كثير من الأحاديث التي حكت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما جاء الأمر بها في عدد آخر:
من ذلك في مسلم من حديث عبد الله بن زيد: " فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات" (3). ومنها حديث أبي هريرة عند مسلم أيضاً: " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر" (4).
معنى الإستنشاق والإستنثار لغة :
جاء في لسان العرب: يستنشق في وضوئه: أي يبلغ الماء خياشيمه وهو من استنشاق لريح إذا شممتها مع قوة وانتشق الماء في أنفه واستنشقه: صبّه فيه.
وأما الإستنثار: فقد حكى عن ابن الأعرابي :" أنه الإستنشاق ". وقال ابن الأثير:" نثر ينثر بالكسر: إذا امتخط. واستنثر: استفعل منه: أي استنشق الماء ثم استخرج ما في الأنف بالنفس "(5).
__________
(1) عمدة القارئ ج3 ص9 .
(2) سنن الترمذي ج1 ص296 من تحفة الأحوذي قال الترمذي بعد ذكره هذا حديث حسن صحيح.
(3) صحيح مسلم ج1 ص145 .
(4) المرجع السابق ج1 ص146 .
(5) لسان العرب ج12 ص231 مادة تشق النهاية ج5 ص15 مادة نثر.(1/64)
وقد نقل العراقي عن ابن عبد البر قوله في التمهيد:" إن الإنتثار: دفع الماء بريح الأنف ثم قال: وقد روى ابن القيم وابن وهب عن مالك: قال: الإستنثار أن يجعل يده على أنفه ويستنثر. قيل لمالك: أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك وقال: إنما يفعل ذلك الحمار" (1).
وإذا علم أن وضع اليد على الأنف في حالة الإنتثار مطلوب للمساعدة على كمال الفعل؛ فالأفضل أن تستعمل اليد اليسرى في ذلك. وقد جاء في الحديث الصحيح " كانت يده صلى الله عليه وسلم اليسرى لخلائه وما كان من أذى " (2) كما روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عليّ رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ".. فأدخل يده في الإناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى يفعل ذلك ثلاثا " (3).
وقد ترجم النسائي لذلك فقال: بأي اليدين يستنثر ؟ ثم ذكر حديث علي السابق مختصراً. وقال في آخره:" هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم " (4).
أما الإستنشاق فيكون باليد اليمنى كالمضمضة؛ فقد جاء في حديث عثمان رصي الله عنه: ".. ثم أدخل يمينه في الوضوء فتمضمض واستنشق .. ثم قال في آخره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا " (5).
حكم الإستنشاق والإستنثار :
الإستنشاق والإستنثار كل منهما سنة عند جمهور الفقهاء محتجين بنفس الأدلة السابقة لهم في المضمضة.
__________
(1) طرح التثريب ج2 ص54 .
(2) المجموع ج1 ص406 مطبعة العاصمة .
(3) السنن الكبرى ج1 ص48 .
(4) سنن النسائي ج1 ص67 دار إحياء التراث – بيروت.
(5) المرجع السابق ج1 ص65 .(1/65)
وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الإستنشاق فرض في الوضوء والغسل للأحاديث الصحيحة الواردة فيهما بصيغة الأمر: من ذلك: حديث أبي هريرة عند البخاري: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه الماء ثم لينثر .." الحديث (1) .. وعند مسلم من حديث أبي هريرة: " إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر" (2) والأمر يقتضي الوجوب. هذا من جهة ومن جهة أخرى: فإن الأنف يستمر مفتوحاً وليس له غطاء يستره بخلاف الفم. لذلك كان القول بوجوب الإستنشاق والإستنثار دون المضمضة هذا على إحدى الروايتين عند الحنابلة أما الرواية الأخرى فهي على وجوب كل من المضمضة والإستنشاق والإستنثار. وقد تقدم الكلام على المضمضة (3).
وذهب الظاهرية إلى أن الإستنشاق والإستنثار: فرضان في الوضوء وليسا كذلك في غسل الجنابة. وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأحمد بن حنبل. وليس كذلك، فمذهب أحمد - كما أسلفنا- يذهب إلى الوجوب في الوضوء والغسل. وقد اتفق مع أحمد بن حنبل في ذلك: أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وابن أبي ليلى وإسحاق (4).
__________
(1) عمدة القارئ ج3 ص16 والسنن الكبرى ج1 ص49 .
(2) صحيح مسلم ج1 ص146 والسنن الكبرى ج1 ص49 .
(3) المغني ج1 ص88 .
(4) طرح التثريب ج2 ص53 والمغني ج1 ص88 والمحلى ج2 ص69 ، 70 .(1/66)
وقد حكى ابن حزم الأمر بوجوب الإستنشاق والإستنثار عن جماعة من السلف: فروى عن علي بن أبي طالب قوله:" إذا توضأت فانتثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث ". وعن شعبة:" قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض أو يستنشق؟ قال: يستقبل ". وعن شعبة أيضاً عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض يستنشق؟ قال:" أحب إليّ أن يعيد - يعنى الصلاة- " وعن وكيع عن سفيان الثوري عن مجاهد:" الإستنشاق شطر الوضوء ". وروى عن حماد بن أبي سليمان وبن أبي ليلى قالا جميعاً:" إذا نسي المضمضة والإستنشاق في الوضوء أعاد "- يعنون الصلاة- وعن الزهري:" من نسي المضمضة والإستنشاق في الوضوء أعاد "- يعني الصلاة. ثم قال:" وشغب قوم: بأن الإستنشاق والإستنثار ليسا مذكورين في القرآن وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره اللّه تعالى ؟.. " ثم رد على ذلك بقوله: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الله تعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية (1). فكلما أمر به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فاللّه تعالى أمر به " (2).
وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن الإستنشاق واجب في الطهارة الكبرى دون الصغرى.
__________
(1) سورة النساء الآية رقم 80
(2) المحلى ج2 ص70 ، 71 دار الإتحاد العربي للطباعة القاهرة .(1/67)
وقد تقدمت أدلة القائلين بالوجوب كما تقدمت مناقشتها. ويمكن تلخيصها فيما يلي: أن الأمر الوارد فيها يحمل على الندب لحديث الترمذي الذي رواه محسناً والحاكم مصححاً من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:" توضأ كما أمرك الله تعالى ". فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الإستنشاق، ولأنه قد ورد الأمر بالإستنثار ومع ذلك لم يقل أحد بوجوبه غير الظاهرية.، رواية عن أحمد ولا يعتد برأيهم في القول بوجوبه لمخالفتهم الإجماع. أما الاحتجاج بمواظبته صلى الله عليه وسلم على الاستنشاق فلا يصلح دليلا على وجوبه لأنه صلى الله عليه وسلم قد واظب على غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء في الوضوء وعلى الإستنثار ومع ذلك فهما من سنن الوضوء عند غالبية الفقهاء. وأما ما نقل عن الفقهاء في طلب إعادة الصلاة ممن نسي المضمضة والإستنشاق، فيحمل على إعادتها ندباً ويؤيده التعبير بلفظ: أحبّ إلى.
أما تفرقة أبي حنيفة ومن معه بين الوضوء والغسل في حكم الإستنشاق: فقد تم بيان أدلتهم؟ مناقشتها في مناسبة الكلام على المضمضة فلا داعي لإعادتها (1).
الحكمة من الإستنشاق والإستنثار:
أ- إزالة آثار الشيطان الذي يبيت على خياشيم المرء لما جاء في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:" إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات. فإن الشيطان يبيت على خياشيمه " (2).
وقد حمل بعض العلماء الحديث على الحقيقة: بمعنى أن الشيطان يبيت حقيقة على الخياشيم، والخياشيم جمع خيشوم وهو أعلى الأنف.
وحمله آخرون على الإستعارة : لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم: قذارة توافق الشيطان. قال صاحب المفهم:" وهذا على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستبشع إلى الشيطان.."
__________
(1) فتح القدير ج1 ص16 ، 17 عمدة القارئ ج1 ص15 وطرح التثريب ج2 ص53 .
(2) صحيح مسلم ج1 ص147 .(1/68)
وحمله فريق ثالث: على الأثر المرتب على مبيت الشيطان.. وهو تكسيله عن القيام للصلاة فيكون معناه متوافقاً مع معنى الحديث الآخر:" يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد.. الحديث" (1)
ب- تنظيف الأنف مما يعلق به ليساعد على حسن القراءة ولتنقية مجرى النفس الذي تكون به التلاوة وتصح معه مخارج الحروف.
جـ- فيهما فائدة صحية هامة: فإنما يفرزه الأنف من مادة لزجة مع الغبار الذي يتجمع على شعيرات الأنف يعتبر تربة خصبة لتكاثر الجراثيم التي ما تفتأ تفتك بصحة المرء. فالمواظبة على تنظيفه عدة مرات في اليوم- يعتبر وقاية له.
د- قال بعض العلماء: الحكمة من المضمضة والإستنشاق وتقديمهما مع غسل الكفين على الأفعال الواجبة في الوضوء: حتى يعرف المتوضئ بذلك أوصاف الماء الثلاثة: هي الرائحة والطعم واللون. وهل هو متغير أم لا. قال العراقي: بعد حكاية هذا القول:" هذا وإن كان محتملاً فإنه لا دليل عليه، والعلة المنصوصة في الإستنشاق- يشير بذلك إلى الحكمة الأولى الواردة في حديث أبي هريرة- أولى "(2).
__________
(1) الموطأ ج1 ص146 الطبعة الأخيرة مصطفى الحلبي.
(2) طرح التثريب ج2 ص53 وعمدة القارئ ج1 ص16 .(1/69)
من أبحاث فقه السنة
سنن الفطرة
بين المحدثين والفقهاء
"الحلقة الثالثة"
لفضيلة الدكتور أحمد ريّان
أستاذ مساعد بكلية الحديث
الخصلة الثالثة عشرة: إعفاء اللحية:
واللحى: بكسر اللام وحكي ضمها بالقصر والمد - جمع لحية - بكسر اللام فقط.
وهي اسم لما ينبت من الشعر على الذقن والعارضتين(1).
واللَّحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحي. ويقال التحى الرجل: صار ذا لحية وكرهه بعضهم، قال ابن سيده النسب إلى ذي اللحية: لحوي، ويقال رجل لحيان: إذا كان طويل اللحية(2).
وقد جاء الأمر بإعفاء اللحية في أحاديث كثيرة صحيحة، منها ما جاء بلفظ الإعفاء كحديث ابن عمر عند البخاري: "انهكوا الشوارب واعفوا اللحى"(3)، وعند مسلم "احفوا الشوارب واعفوا اللحى"(4)، وحديثه أيضا عند مسلم بلفظ: "أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية"(5)،وكذلك حديث عائشة عند مسلم "عشر من الفطرة" ,منها: إعفاء اللحية(6).
ةةة ة
كذلك قد جاء الأمر بالإعفاء في بعض الأحاديث بلفظ "أوفوا اللحى" كما هو عند مسلم من حديث ابن عمر(7)، وبلفظ "وفروا اللحى" كما هو من حديثه عند البخاري(8).
وقال النووي: "وكل هذه الروايات بمعنى واحد". وبيان ذلك:
أن الإعفاء معناه الترك، وترك التعرض للحية بقص أو حلق يترتب عليه تكثيرها فهو من إقامة السبب مقام المسبب.
وذهب البعض: إلى أنها بمعنى: وفروا وكثروا، وصوبه صاحب الفتح ومعنى أرخوا اللحى: يعني أطيلوها.
ومعنى أرجوا وأرجئوا: أي لا تحلقوا بل أخروا حلقها.
وأما معنى وفروا اللحى: فهو من التوفير، وهو الإبقاء، أي اتركوها وافرة.
__________
(1) فتح الباري جزء 12ص471، ولسان العرب جزء:20 ص108 مادة لحا.
(2) لسان العرب ج20 ص108، ص109 مادة لحا.
(3) فتح الباري ج12 ص473.
(4) صحيح مسلم ج1 ص153.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.
(7) صحيح مسلم ج1ص153.
(8) صحيح البخاري ج12 ص471 فتح الباري.(2/1)
أما رواية أوفوا: فمعناها: اتركوها وافية.
ما تحقق به سنة اللحية:
وقد اختلف أهل العلم فيما تتحقق به سنة اللحية؛ فذهب فريق منهم إلى أنها لا تتحقق إلا إذا تركت وشأنها بحيث لا يؤخذ منها شيء أصلا إلا في حج أو عمرة.
وقد استند هذا الفريق إلى ما يلي:
أ – الأحاديث الصحيحة التي جاءت في طلبها بلفظ الإعفاء وما في معناه، وبصيغة الأمر.
ب - ما أخرجه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب"، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه"(1).
وبما أن ابن عمر هو راوي الحديث؛ فتصرفه يعتبر بيانا للمعنى المراد من الحديث، وعلى هذا فلا يجوز الأخذ من اللحية أبدا بل تترك على حالها إلا في حج أو عمرة.
ج ـ ما أخرجه أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: "كنا نعفي السّبال إلا في حج أو عمرة"(2)، والسبال: جمع سَبَلة - بفتحتين - وهي ما طال من شعر اللحية، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري.
وقد ذهب إلى هذا الرأي من التابعين: الحسن وقتادة؛ حيث قالا: يتركها عافية لقوله صلى الله عليه وسلم: "واعفوا اللحى"(3).
وقد نسب العراقي هذا الرأي للجمهور، وقال إنه مذهب الشافعي وأصحابه(4).
وذهب فريق آخر إلى جواز الأخذ منها بشرط ألا ينقص طولها عن قبضة اليد بمعنى أنه يجوز له أخذ ما زاد على قبضة اليد أما إذا كانت أقل من قبضة فلا يجوز الأخذ منها، وقد استدل هذا الفريق بما يلي:
__________
(1) فتح الباري ج12 ص471.
(2) عون المعبود ج1 ص255.
(3) المجموع ج1 ص349 مطبعة العاصمة.
(4) طرح التثريب ج2 ص83.(2/2)
أ - ثر ابن عمر السابق وفيه: "كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه"، قال الحافظ في كيفية الاستدلال لهذا الفريق بهذا الأثر: "لذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التقصير بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه"(1).
وقد نقل بدر الدين العيني عن الإمام الطبري قوله: "فإن قُلْتَ: ما وجه قوله : "اعفوا اللحى"؛ وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعا منه لظاهر قوله: "اعفوا اللحى"؛ فيتفاحش طولا وعرضا ويسمج حتى يصير للناس حديثا ومثلا.
ثم قال:
"قد ثبتت الحجة عن ر سول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاءها وواجب قصها على اختلاف من السلف في مقدار ذلك وحدِّه. فقال بعضهم: حدُّ ذلك أن يزاد على قدر القبضة طولا وأن ينتشر عرضا فيقبح.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا ترك لحيته حتى كبرت فأخذ يجذبها ثم قال: "ائتوني بحلمتين ثم أمر رجلا فجز ما تحت يده"، ثم قال له: "اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع".
وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل وعن ابن عمر مثله"(2).
وممن استحسن هذا الرأي : الشعبي وابن سيرين(3).
أما الفريق الثالث: عطاء فإنه يرى جواز الأخذ منها طولا وعرضا بغير حد مقدر ما لم يفحش الأخذ وينتهي إلى تقصيصها كما كانت تفعله الأعاجم.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص471.
(2) عمدة القاري ج22 ص47.
(3) المجموع ج1 ص349.(2/3)
ومن هذا الفريق: عطاء فقد نقل عنه قوله: "لا بأس بأن يأخذ من لحيته من طولها وعرضها إذا كبرت" وعلته: كراهة الشهرة وفيه تعريض نفسه لمن يسخر به واستدل بحديث عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" قال الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث: "هذا حديث غريب". ثم قال بعد ذلك: "وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث لا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث…ولا نعرفه إلا من حديث ابن هارون ورأيته حسن الرأي في عمر بن هارون"(1)..
ونقل عن القاضي عياض قوله: "يكره حلقها وقصها وتحذيفها.."، قال: "وأما الأخذ من طولها فحسن" وقال: "تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره قصها..وجزها.." وقال: "وكره مالك طولها جدا"(2).
وسئل مالك عن اللحية إذا طالت جدا قال: "أرى أن يؤخذ منها ويقص"(3).
وفي المذهب المالكي قولان في مقدار الأخذ: المعروف منهما: أنه لا حد للأخذ فيقتصر على ما تحسن به الهيئة، ومقابله: يأخذ ما يزيد على القبضة (4).
تعليق عام على الآراء السابقة وأدلتها:
الناظر في الأدلة السابقة التي استندت إليه الطائفة الأولى: يرى أنها أقوى سندا وأصرح دلالة من أدلة الفريقين الأخيرين اللذين يريان جواز الأخذ من اللحية مع اختلافهما في المقدار الذي يجوز الأخذ عنده.
كما أن إرسال اللحية - إلى حد معلوم - يكسب المرء وقارا في مسته وثباتا في عواطفه، كما أن في اللحية عصمة للشباب والكهول إذ يصبح المرء ذا اللحية أكبر من سنه، وأجل مقاما من درجته، وأكثر احتراما بين أترابه.
__________
(1) تحفة الأحوذي ج8 ص44، عمدة القاري ج22 ص47.
(2) طرح التثريب ج2 ص83.
(3) شرح الزرقاني على الموطأ ج4 ص334.
(4) العدوي علي أبي الحسن ج2 ص346.(2/4)
ولكن ما يحتاج إلى تأمل هو: هل المعاني التي تدل على عليها ألفاظ الإعفاء والتوفير والإبقاء ونحوها من الألفاظ التي جاءت في أحاديث طلب اللحية: مرادة على إطلاقها، وبتعبير آخر: هل المطلوب من كل مسلم ترك الأخذ من لحيته مدى حياته إلا إذا ذهب مرة أو مرات إلى الحج؟ ومن يذهب إلى الحج قليل إلى مجموع المسلمين، فمعنى ذلك أن غالبية المسلمين يجب عليهم ترك لحاهم تطول إلى ما شاء الله.
ما يتبادر إلى فهمي - والله أعلم - أن التوفير أو الإعفاء المأمور به، مقيد بما إذا لم تطل اللحية طولا فاحشا بحيث يشوه سمت صاحبه ويجعله هدفا لأعين الناس وأضحوكة في أفواه السفهاء، أو بحيث تصير اللحية علامة مميزة له دون الناس لا يعرف إلا بها.
لذلك نرى أن فعل عمر رضي الله عنه مع الرجل الذي ترك لحيته تطول دون حد، ثم عدم إنكار الصحابة على عمر في هذا التصرف؛ دلالة على أن المعنى الذي تدل عليه هذه الألفاظ ليس على إطلاقه بل هو مقيد بما إذا لم يفحش، كما أن توفيرها إلى هذا الحد تتحقق فيه العلة التي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحية لأجلها، وهي مخالفة أهل الكتاب والمشركين الذين يحلقون لحاهم أو يقصرونها، ونستبعد عدم وصول شيء من هذه الأحاديث إلى عمر كما نستبعد نسيانه لها.
من جهة أخرى فقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة، أنهما كانا يأخذان من لحيتهما ما يزيد على القبضة مع أنهما قد رويا أحاديث الأمر بالإعفاء مما يدل على أن الأمر ليس على إطلاقه.
قد يقال: إن الثابت عن ابن عمر: أنه كان يأخذ ما يزيد على قبضته في الحج أوالعمرة. نقول: فمن أين أخذ ابن عمر جواز الأخذ في النسك مع أن الأحاديث التي جاءت في الإعفاء مطلقة لم تستثن حالة النسك، والنسك قد نص فيه على الأخذ من شعر الرأس حلقا أو تقصيرا.(2/5)
وعلى ذلك نقول: إن التحديد بالقبضة أو ما يقاربها زيادة أو نقصا، هو المعيار الذي ينبغي أن يصار إليه، مع عدم الإنكار على من يزيد على ذلك بشرط ألا يفحش وإلا أمر بالأخذ منها لأن هذا يتنافى مع الأمر بالزينة التي أمر الله الناس بالأخذ في أسبابها في قوله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث طويل لقيس بن بشر التغلبي عن أبيه: "نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جُمّته وإسبال إزاره"، فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذ شفرته فقطع بها جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه"، وفيه أيضا: " إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش" أخرجه أبو داود وسكت عنه(2)، والفحش كل ما يشتد قبحه من ذنوب ومعاصي، ويكثر وروده في الزنا، وكل خصلة قبيحة فاحشة من الأقوال والأفعال.
والتفحش هو تكلف الفحش وتعمده في الهيئة الرديئة والحالة الكثيفة داخلة أيضا تحت التفحش والتفحش وإن الله جميل يحب الجمال(3).
الخصال المكروهة في اللحية:
ذكر الإمام النووي في المجموع عددا من الخصال المكروهة في اللحية نقلا عن الإحياء للغزالي الذي كان قد نقلها بدوره عن قوت القلوب لأبي طالب المكي، وفيما يلي بيان لهذه الخصال مع بيان سبب كراهتها وموقف العلماء منها إن وجد.
الخصلة الأولى: خضاب اللحية بالسواد، والأصل في كراهة الخضاب بالسواد ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة"(4).
__________
(1) سورة الأعراف الآية رقم 31.
(2) عون المعبود ج11 ص149.
(3) عون المعبود ج11 ص149.
(4) عون المعبود ج11 ص266.(2/6)
وعند أحمد من حديث قصة إسلام أبي قحافة : "…فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غيروهما وجنبوه السواد"(1).
لذلك قال أكثر العلماء بكراهة الخضاب بالسواد…وقال النووي: "والصحيح بل الصواب: أنه حرام". ثم حكى عن مذهب الشافعية عدم التفرقة في المنع بين الرجال والنساء، وحكى عن إسحاق بن راهوية أنه رخص فيه للمرأة: أن تتزين به لزوجها (2).
وقد رخص في الخضاب بالسواد طائفة من السلف، منهم سعد بن أبى وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد، واختاره ابن أبي عاصم من كتاب الخضاب له، وأجاب عن حديث ابن عباس السابق؛ بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن قوم هذه صفتهم، وعن حديث جابر السابق في قصة إسلام أبى قحافة؛ بأن ذلك في حق من صار شيب رأسه مستبشعا ولا يطرد ذلك في حق كل أحد(3).
وقد رخص فيه بعض العلماء إذا كان المرء مجاهدا، لما فيه من إدخال الرهبة في نفوس الأعداء بإظهار الشباب وما ينطوي عليه ذلك من مظهر القوة(4).
الخصلة الثانية: تبييض اللحية بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة، وإظهارا للعلو في السن لطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم، أو لقبول حديثه وإيهام اللقاء بالمشايخ.
الخصلة الثالثة: خضابها بحمرة أو صفرة تشبها بالصالحين ومتبعي السنة وعلة الكراهة هنا هي النية السيئة أما الأصل في الخضاب بالتحمير أو التصفير فهو محمود وقد حث عليه صلى الله عليه وسلم فقد نقل أحمد في المسند بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله صلى اللّه عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: "يا معشر الأنصار: حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب"(5).
__________
(1) نيل الأوطار ج1 ص141.
(2) المجموع ج1 ص352 مطبعة العاصمة.
(3) عون المعبود ج11 ص267 بإيجاز.
(4) المجموع 1 ص350 مطبعة العاصمة.
(5) عون المعبود ج11 ص267.(2/7)
الخصلة الرابعة: نتفها من أول طلوعها وتحفيفها بالموسى إيثارا للمرودة واستصحابا للصبا وحسن الوجه، وتعتبر هذه الخصلة أقبح الخصال المكروهة في اللحية.
الخامسة: نتف الشيب؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم عند أبي داود: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يصيب شيبة في الإسلام - قال عن سفيان: إلا كانت له نورا يوم القيامة وقال في حديث يحيى: إلا كتب الله له بها حسنة وحط بها عنه خطيئة"(1).
وعن الترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نتف الشيب وقال إنه نور المسلم" وقال: هذا حديث حسن(2).
قال ابن العربي: "وإنما نهى عن النتف دون الخضب لأن النتف فيه تغيير الخلقة من أصلها بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر إليه"(3).
السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن.
السابعة: الزيادة فيها والنقص منها، قال الغزالي: تكره الزيادة في اللحية والنقص منها وهو أن يزيد في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه أوينزل فيحلق بعض العذارين(4).
الثامنة: تسريحها تصنعا ورياء لأجل الناس.
أقول :اعتبار التسريح من الخصال المكروهة إذا كانت تصحبه نية الرياء وحب الثناء والتظاهر بمظهر العجب والخيلاء، أما التسريح لأجل النظافة وتحسين الهيئة فهو أمر محمود، فقد أخرج مالك عن عطاء بن يسار قال: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس واللحية فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بيده أن أخرج كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هذا خيرا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان"(5)، والثائر: الشعث: بعيد العهد بالدهن والترجل.
__________
(1) عون المعبود ج11 ص256.
(2) تحفة الأحوذي ج8 ص108.
(3) عون المعبود ج11 ص256.
(4) المجموع ج1 ص350 مطبعة العاصمة.
(5) الموطأ ج4 ص338 من شرح الزرقاني.(2/8)
وكذلك حديث أبي قتادة الأنصاري الذي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "إن لي جمة أفأرجلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ونعم وأكرمها"(1)، الحديث رجال إسناده رجال الصحيح(2).
وأيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له شعر فليكرمه" قال في الفتح: وإسناده حسن وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات.
قال الشوكاني بعد ذكره لحديث أبي هريرة وما قاله الحافظ بشأنه: فيه دلالة على استحباب إكرام الشعر بالدهن والتسريح(3).
الخصلة التاسعة: ترك اللحية شعثة منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه، وأيضا كانت هذه الخصلة من الخصال المكروهة لأجل النية السيئة، أما من شغل عنها بعمل أو مرض أو غير ذلك حتى تشعثت فأرجو ألا يكون عليه بأس.
الخصلة العاشرة: النظر إلى اللحية إعجابا وخيلاء غرة بالشباب أو فخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب(4).
حكم اتخاذ اللحية:
فيما تقدم عرفنا أن اتخاذ اللحية سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد هنا بيان موقع هذه السنة من الأحكام التكليفية الخمسة المعروفة لدى أكثر الفقهاء : الوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والإباحة.
وإنما قلت أكثر الفقهاء: لأن بعضهم يعتبر الأحكام التكليفية ستة، باعتبار السنة من بين الأحكام ليست مندرجة في الوجوب أو الندب، وبعضهم يعتبرها سبعة: الفرض، والوجوب، والندب، والحرمة، والكراهة، والكراهة التحريمية، والكراهة التنزيهية، والإباحة.
فهل إطلاق لفظ السنة على اللحية، يقصد به معنى السنة عند الفقهاء، وهي ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، أو ما طلبه الشارع طلبا غير جازم أو الأمر الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يأمر فيه بعزيمة، حسب اصطلاح كل منهم في بيان السنة.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) نيل الأوطار ج1 ص148.
(3) نيل الأوطار ج1 ص146.
(4) طرح التثريب ج2 ص83، والمجموع ط ص35.(2/9)
أو أن هذا الإطلاق: باعتبار أن مشروعية السنة إنما ثبتت بواسطة السنة؟
واضح من استعراضنا للأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة وما انطوت عليه من الأوامر المشددة؛ إن إطلاق السنة على اللحية: هو أن مشروعيتها ثبتت بالسنة، وأن حكم اتخاذها واجب وأن إزالتها نهائيا بالموسى أو بالنورة أو بأي مزيل آخر حرام.
وقد شدد بعض العلماء النكير على فاعل ذلك: قال أبو شامة: "وقد حدث قوم يحلقون لحاهم وهو أشد مما نقل عن المجوس: إنهم كانوا يقصونها"(1).
وإني لأعجب من قول القاضي عياض: "يكره حلقها وقصها وتحريقها"(2): إذ سوى بين إزالتها وبين تقصيرها، وقد ثبت التقصير - على الأقل- من بعض الصحابة؛ لكن لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يحلق لحيته ولو مرة واحدة.
كما أعجب لبعض أهل العلم الذين يحلقون لحاهم ويدّعون أن سنة اللحية كانت خاصة بسكان الجزيرة العربية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه من المسلم فقها وأصولا أن فعله صلى الله عليه وسلم الأصل فيه التشريع إلا لقرينة دالة على الخصوصية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى أن طلب اللحية جاء بألفاظ الأمر الصريحة المقتضية للوجوب، والتي لا يمكن تأويلها أو ليّها إلى مثل هذه الدعوى، كما أننا لم نعثر على أي قرينة يمكن أن تكون صارفة لهذه الأوامر عن ظاهرها.
وأما ذكر إعفاء اللحية مع سنن الفطرة؛ فقد قلنا: إن المراد من لفظ السنة في الحديث، هو الطريقة وليس هو المعنى الذي قصده الفقهاء من السنة: ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه..الخ.
__________
(1) فتح الباري ج2 ص472.
(2) هذه اللفظة وجدت هكذا في كثير من النسخ ووجدت في بعضها بلفظ: تحذيفها، فعلى الأول: تكون بمعنى التقصير وعلى الثاني تكون بمعنى أخذ جوانبها بالموسى، ولا أدري أي المعنيين أراد القاضي عياض.(2/10)
وقد صرح علماء المالكية بحرمة الحلق قولا واحدا حيث قال العدوي: "إن حلق اللحية بدعة محرمة"(1) إلا أنهم قد اختلفوا في حكم تقصيرها والمختار عندهم أنه يستحب تقصيرها إن طالت جدا، فإن لم تطل أو طالت قليلا وحدثت مبالغة في القص بحيث صار الشخص مثلة - عند أهل الاعتبار- فإن القص يحرم في هذه الحالة وإن لم يحصل تجاوز في القص ولم تحصل به مثلة فإنه خلاف الأولى(2).
الحكم فيما إذا نبتت للمرأة لحية:
اختلف الفقهاء فيما إذا نبتت للمرأة لحية أو شارب أو عنفقة فحكي عن الإمام الطبري: أنه لا يجوز لها حلق شيء من ذلك ولا تغيير شيء من خلقتها بزيادة ولا نقص(3).
وحكى النووي عن مذهب الشافعية أنه يستحب لها حلق ذلك(4).
وقال العدوي المالكي: ويجب على المرأة إزالة ما في إزالته جمال ولو شعر اللحية إن نبتت لها لحية(5).
الحكمة من مشروعية إعفاء اللحية:
تنطوي مشروعية إعفاء اللحية على كثير من الحكم الجليلة والمعاني العظيمة وقد أشرنا إليها فيما سبق ويمكن تلخيص هذه الحكم فيما يلي:
1- تعتبر اللحية عنوانا بارزا على رجولة الرجل ومروءته وشجاعته.
2- اللحية تكسب الرجل ثباتا في عواطفه ورزانة في مواقفه وحكمة في تصرفاته مع أهله وغيرهم.
3- تعتبر اللحية حارسا أمينا على نزعات القلب وخلجات الشيطان فإذا ما وسوس الشيطان وزيّن للمرء الاقتراب من معصية تذكر هيئته موقف الناس منه.
4- اللحية شعار المسلمين فمن حافظ عليها فقد حافظ على شعار هام من شعارات الإسلام.
5- في إرسال اللحية مخالفة لأهل الكتاب والمجوس وغيرهم من ملل الكفر.
الخصلة الرابعة عشرة: فرق شعر الرأس:
__________
(1) العدوي على أبي الحسن ج2 ص345.
(2) العدوي على أبي الحسن ج2 ص346.
(3) المجموع ج1 ص349 العاصمة.
(4) المرجع السابق.
(5) العدوي على أبي حسن ج2 ص345.(2/11)
الفرق - بإسكان الراء - تفريق بين الشيئين حين يتفرقا، والفرق: الفصل بين الشيئين، وقوله تعالى: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً}(1)، قال ثعلب: هي الملائكة تُزَيّل بين الحلال والحرام، وقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}(2)، أي فصلناه وأحكمناه.
ورّق الشعر بالمشط: يَفرُقه، يفرِقه فرقا، وفرَّقه: سرحه، والفرق: موضع المفرق من الرأس، وفرق الرأس: ما بين الجبين إلى الدائرة.. ومفرَقه كذلك وسط الرأس.
وقولهم للمفرق: مفارق: كأنهم جعلوا كل موضع منه فرقا فجمعوه على ذلك، ومنه قول عائشة رضي الله عنها عند البخاري: "كأني أنظر إلى وبيصة الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم…الحديث"(3).
ونقل الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض قوله: "الفرق هو فرق شعر الرأس بعضه عن بعض وكشفه عن الجبين، والسدل هو إرسال اشعر وعدم ضم جوانبه"(4).
__________
(1) سورة المرسلات الآية رقم: 4.
(2) سورة الإسراء الآية رقم: 106.
(3) عمدة القارئ ج22 ص56، لسان العرب ج12 ص176 مادة فرق.
(4) فتح الباري ج12 ص484.(2/12)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام يخالف ما كان عليه المشركون من العوائد وكانوا يفرقون شعورهم، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل فيه وحي؛ على اعتبار أنهم أهل دين في الجملة، وقيل: كان يوافقهم فيما لم ينزل فيه شيء؛ رغبة في استئلافهم وميلهم إليه واتباعهم لشريعته، وكانوا يسدلون شعورهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسدل شعره أولا مخالفة للكفار وموافقة لأهل الكتاب، فلما انتشر الإسلام وأسلم المشركون وظل أهل الكتاب على ما هم عليه وكفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم جحدا وعنادا خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سدلهم الشعر وكان يفرقه ويأمر زوجاته أن يفعلن ذلك به؛ ففي حديث ابن عباس عند البخاري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد"(1).
وفي الموطأ سدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ما شاء الله ثم فرق بعد ذلك"(2).
حكم الفرق:
حكى الحافظ ابن حجر عن القاضي عياض: أن الفرق سنة واستند إلى أنه هو الذي استقر عليه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويفهم مما حكاه الحافظ عن بعض العلماء، أن الفرق واجب وأنه قد نسخ به السدل، ووجهه: أنه قد جاء في حديث ابن عباس: "كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"، فالظاهر أنه فرق بأمر من الله، وقد حكى عن عمر بن عبد العزيز، كما جزم بذلك الحازمي.
أقول إن الظاهر الذي حكاه الحافظ قد صرح به في رواية معمر إذ جاءت بلفظ: "ثم أمر بالفرق" ومعلوم أن الأمر إذا أطلق يستفاد منه الوجوب.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص483.
(2) الموطأ ج2 ص232.(2/13)
وقد عقب القرطبي على هذا القول بقوله: "الظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب موافقة أهل الكتاب بقصد الاستئلاف فلما لم يؤثر فيهم ذلك، أحب مخالفتهم ففرق، وحينئذ يكون الفرق مستحبا، وما جاء في الحديث بلفظ الأمر؛ لا يبعد عن ذلك لأن الأمر يشمل الواجب والمندوب".
كما أن دعوى النسخ ليست واردة إذ لو كان السدل منسوخا لتركه الصحابة رضي الله عنهم أو أكثرهم، لكن المنقول عنهم أن بعضهم كان يفرق والبعض الآخر كان يسدل شعره ولم يعب بعضهم على بعض.
لذلك قال الجمهور باستحباب الفرق اتباعا لما كان عليه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو المختار.
وقد حكى الحافظ ا بن حجر رأي النووي بقوله: قال النووي: الصحيح جواز السدل والفرق(1).
ولكن الموجود في المجموع له: قوله: يستحب فرق شعر الرأس لحديث ابن عباس وذكر الحديث(2).
ولعله أطلق الجواز لما هو أعم من المباح المستوي الطرفين؛ فقد يطلق الجواز على ما يقابل الحرام حيث يراد به ما يشمل المكروه والمندوب والمباح، أو كان يرى أولا الجواز الذي يراد به المباح المستوي الطرفين، ثم تبين له بعد ذلك أنه مستحب فصرح به في المجموع وهو من آخر أعماله رحمه الله.
الخصلة الخامسة عشرة: الختان:
الختان - بكسر الخاء- من الختن وهو موضع القطع من الذكر والأنثى ومنه الحديث : "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل".
ويطلق الختان على الذكر والأنثى، وقيل الختْن للرجال والخفاض للإناث، ويقال لقطعهما: الإعذار والخفض.
والختانة: صناعة الخاتن، والختن: فعل الخاتن الغلام(3).
__________
(1) فتح الباري ج12 ص484.
(2) المجموع ج1 ص353.
(3) لسان العرب ج16 ص295 مادة ختن.(2/14)
وقد عرفه بعض العلماء بأنه: قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص(1)، والمراد به بالنسبة للرجل: هو قطع الجلدة التي تغطى الحشفة بحيث تنكشف الحشفة كلها، وقيل: يكفي قطع شيء من القلفة وإن قلّ بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، وصحح القول الأول(2).
وبالنسبة للمرأة قطع جزء من الجلدة التي توجد فوق مخرج البول وتشبه عرف الديك(3).
وقد استحب العلماء في ختان الرجل: العمل على استئصال الجلدة التي تغطى الحشفة بحيث يكون القطع من عند أول الحشفة، أما في المرأة فينبغي الاقتصار على أخذ جزء يسير ولا يبالغ في القطع، أخذا بحديث أم عطية رضي الله عنها: أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل" ولا تنهكي: بفتح التاء والهاء، أي لا تبالغي في القطع وفي رواية: "أشمي ولا تنهكي" شبه القطع اليسير بإشمام الرائحة والنهك المبالغة فيه.
والحديث أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي(4) قال الحافظ ابن حجر: وله شاهدان من حديث أنس ومن حديث أم أيمن عند أبي الشيخ في كتاب العقيقة وآخر عن الضحاك بن قيس عند البيهقي(5).
وتزعم العرب أن الغلام إذا ولد في القمر فسخت له فلقته أي اتسعت فصار كالمختون، وقد استحب العلماء من الشافعية فيمن ولد مختونا أن يمر بالموسى على الموضع من غير قطع امتثالا للأمر.
وحكى ابن الحاج المالكي قولين في المسألة: القول السابق عن الشافعية وقول آخر لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأن هذه مؤنة كفانا الله إياها فلا حاجة تدعو إلى فعلها ولأن كشف العورة من كبير أو صغير لا يباح إلا لضرورة شرعية والضرورة معدومة في هذه الحالة(6).
__________
(1) تحفة الأحوذي ج8 ص34.
(2) المجموع ج1 ص356 مطبعة العاصمة.
(3) المرجع السابق.
(4) عون المعبود ج14 ص183،ص184.
(5) فتح الباري ج12 ص460.
(6) المدخل ج3 ص296 الطبعة الثانية دار الفكر.(2/15)
وقال ابن الحاج: واختلف في حق النساء: هل يخفضن مطلقا أم يفرق بين نساء أهل المشرق ونساء أهل المغرب، فنساء أهل المشرق يؤمرن به لوجود الفضلة عندهن من أصل الخلقة ونساء أهل المغرب لا يؤمرن به لعدمها عندهن وذلك راجع إلى مقتضى التعليل فيمن ولد مختونا، فكذلك: سواء بسواء، يقصد أنه يجري في هذه المسألة القولان السابقان فيمن ولد مختونا(1).
أقول: قد قطع الشيخ أبو محمد الجويني في المسألة المقيس عليها: حيث قال: لو ولد مختونا بلا قلفة فلا ختان؛ لا إيجابا ولا استحبابا..
ثم قال: فإن كان من القلفة التي تغطي الحشفة شيء موجود وجب قطعه، كما لو ختن ختانا غير كامل فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يَبِين جميع القلفة التي جرت العادة بإزالتها في الختان(2).
حكم الختان:
نظرا لعدم ورود نصوص صريحة - ثابتة- من الشارع توضح مدى مشروعية الختان، فقد اختلفت آراء الفقهاء فيه اختلافا كبيرا حسب ما وصل إلى كل منهم من الأخبار الدالة على مدى هذه المشروعية، ونشير فيما يلي - بإيجاز- إلى أهم الآراء في حكم الختان ثم نذكر أدلة كل منهم إن شاء الله تعالى.
ذهب الشافعي وأكثر أصحابه إلى أن الختان واجب للرجال والنساء، وروي هذا القول عن عطاء إذ نقل عنه قوله: لو أسلم الكبير لا يتم إسلامه حتى يختتن، كما نقل هذا الرأي أيضا عن سحنون من المالكية.
وروي عن أبى حنيفة قولان: أحدهما: بأنه واجب وليس بفرض.
ثانيهما: بأنه سنة يأثم تاركه.
وذهب مالك وأكثر العلماء إلى أنه سنة في حق الرجال والنساء، وفي كتب كثير من المالكية: بأنه سنة في حق الرجال مستحب في حق النساء، ونقل هذا الرأي عن بعض الشافعية وعن أبي حنيفة.
وذهب أحمد بن حنبل إلى أنه واجب في حق الرجال سنة في حق النساء.
كما أن هناك وجها عند الشافعية يذهب إلى أنه ليس بواجب في حق النساء(3).
__________
(1) المرجع السابق.
(2) المجموع ج1 ص359.
(3) المجموع ج1 ص256 فتح الباري ج12 ص460 طرح التثريب ج2 ص75.(2/16)
وبالجملة فقد انحصرت الأقوال في ثلاثة آراء.
الأول: واجب في حق الرجال والنساء.
الثاني: واجب في حق الرجال سنة في حق النساء.
الثالث: سنة في حق الرجال والنساء.
مستند كل رأي من هذه الآراء الثلاثة:
استند من يقول بالوجوب مطلقا إلى عدد من الأدلة من أهمها ما يلي:
الأول: قال تعالى: {… أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}(1) وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث إبراهيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم"(2).
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن هي خصال الفطرة، ومنها: الختان، والابتلاء: إنما يقع غالبا بما يكون واجبا.
وقد نوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يتم الاستدلال بهذا الحديث إلا إن كان إبراهيم عليه السلام قد فعله على سبيل الوجوب؛ إذ من الجائز أن يكون قد فعله على سبيل الندب، فيحصل الامتثال باتباعه على وفق ما فعل فيكون مندوبا، وقد قال تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(3)، وقد تقرر في الأصول أن أفعاله بمجردها لا تدل على الوجوب، كما أن باقي الكلمات العشر ليست واجبة.
__________
(1) سورة النحل الآية رقم133.
(2) صحيح البخاري ج8 ص81.
(3) سورة الأعراف الآية رقم 158.(2/17)
وقد أجيب عن هذه المناقشة: بأن إبراهيم عليه السلام لا يفعل ذلك في مثل سنه إلا عن أمر من الله.. وقد نقل الحافظ ابن حجر عن أبي الشيخ في العقيقة من طريق موسى بن علي بن رباح عن أبيه "أن إبراهيم عليه السلام أمر أن يختتن وهو حينئذ ابن ثمانين سنة، فعجل واختتن بالقدوم، فاشتد عليه الوجع فدعا ربه، فأوحى الله إليه: إنك عجلت قبل أن نأمرك بآلته، قال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك..." ثم قال بعد ذلك.. والاستدلال متوقف على أنه كان في حق إبراهيم عليه السلام واجبا.. فإن ثبت ذلك استقام الاستدلال به وإلا فالنظر باق(1).
الثاني: ما أخرجه أبو داود من حديث كليب جد عثيم بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ألق عنك شعر الكفر واختتن" أخرجه أبو داود، قال الحافظ ابن حجر سنده ضعيف، وقد قال ابن المنذر لا يثبت فيه شيء(2).
الثالث: جواز كشف العورة من المختون، وجواز نظر الخاتن إليها وكلاهما محرم في الأصل، فلو لم يجب الختن لما أبيح ذلك(3).
وقد نوقش هذا الاستدلال من قبل القاضي عياض: بأن كشف العورة مباح لمصلحة الجسم. والنظر إليها مباح للمداواة، وليس ذلك واجب إجماعا، وإذا جاز في المصلحة الدنيوية كان في المصلحة الدينية أولى، بل قد يترك الواجب لغير الواجب كترك الإنصات للخطبة بالتشاغل بركعتي التحية وكترك القيام في الصلاة لسجود التلاوة، ومن أمثال ذلك كثير(4).
الرابع: احتج الخطابي بأنه من شعار الدين وبه يعرف المسلم من الكافر حتى لو وجد مختون بين جماعة قتلى غير مختونين، صلي عليه ودفن في مقابر المسلمين.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص463، والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص326.
(2) فتح الباري ج12 ص463، والسنن الكبرى ج8 ص324.
(3) المرجع السابق ج12 ص463.
(4) طرح الترثيب ج2 ص75، فتح الباري ج12 ص462.(2/18)
وقد نوقش هذا الاستدلال بأن شعائر الدين ليست كلها واجبة، ما ادعاه في المقتول مردود لأن اليهود وكثيرا من النصارى يختنون فليقيد ما ذكر بالقرينة(1).
الخامس: أن القلفة تحبس النجاسة فتمنع صحة الصلاة، كمن أمسك نجاسة بفمه.
وقد أجيب عن هذا بأن الفم في حكم الظاهر بدليل أن وضع المأكول فيه لا يفطر به الصائم، بخلاف داخل القلفة فإنه في حكم الباطن، وقد صرح أبو الطيب البصري بأنه عذر مغتفر عند الشافعية.
هذه هي أهم الأدلة التي استند إليها من أوجب الختان للرجال والنساء، وقد ذكرنا عقب كل دليل ما نوقش به ليتبين مدى صلابة كل دليل وقوته على الاحتجاج به.
أما الرأي الثاني الذي يذهب إلى وجوبه على الرجال دون النساء فيمكن تقويته بالأدلة التي استند إليها الفريق الأول:
أما احتجاجه على أنه سنة للنساء فقد استدل له بحديث شداد بن أوس رفعه: "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد فيه الحجاج بن أرطاة ولا يحتج به.
وأخرجه الطبراني في مسند الشافعي عن طريق سعيد بن بشر عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس، وسعيد بن بشر مختلف فيه.
وأخرجه أبو الشيخ والبيهقي من وجه آخر عن ابن عباس، كما أخرجه أيضا البيهقي من حديث أبي أيوب.
ونقل عن ابن عبد البر في التمهيد: هذا الحديث يدور على حجاج بن أرطاة وليس ممن يحتج به(2).
وجه الدلالة عند من استدل به: أن التفرقة قد وقعت في الحديث بين ختان الرجال والنساء، فدل ذلك على افتراق الحكم وبما أنه قد ثبت بالفعل بالأدلة السابقة وجوب الختان في حق الرجال، فيقابله: أنه سنة في حق النساء.
وقد أجيب عن ذلك بمنع أن السنة هي التي تقابل الواجب فقد يكون المقابل هو المندوب.
ومن جهة أخرى: فالسنة في الحديث: هي الطريق، وليست بمعنى السنة عند الفقهاء.
يضاف إلى ذلك ما قيل في ضعف الحديث.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص462.
(2) فتح الباري ج12 ص461، وعون المعبود ج14 ص186، والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص325.(2/19)
أما الفريق الثالث فقد استدل له بحديث: "الفطرة خمس" وهو حديث صحيح، وقد ذكر الختان من الخمس.
وجه الدلالة فيه: أنه قد اتفق أكثر الفقهاء على أن ما ذكر من الختان من السنن، وبما أن الختان قد ذكر معها فيكون سنة.
وقد نوقش هذا الاستدلال بأنه بالاقتران وهو ضعيف.
وقد جاء في الجوهر النقي نقلا عن شرح العمدة: الاستدلال بالاقتران في هذا المكان قوي لأن لفظ الفطرة لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة فلو فرقت في الحكم أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب وفي بعضها لإفادة الندب لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين .. وإنما يضعف دلالة الاقتران إذا استعملت (الجمل في الكلام)(1) ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين كما جاء في الحديث: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة" فاستدل به بعض الفقهاء على أن اغتسال الجنب في الماء يفسده لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه(2).
وقد أجيب بأنه لا مانع من جمع المختلفي الحكم بلفظ أمر واحد كما في قوله تعالى: { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}(3) فإيتاء الحق واجب والأكل مباح.
وقد ردت هذه الإجابة: بأن هناك فرق بين الأية والحديث:
إذ أن الحديث تضمن لفظة واحدة استعملت في الجميع فتعين أن يحمل على أحد أمرين: الوجوب أو الندب بخلاف الآية فإن صيغة الأمر تكررت فيها والظاهر الوجوب فصرف في أحد الأمرين بدليل وبقي الآخر على الأصل،
__________
(1) هكذا والمعنى غير واضح ولعل الأصح: في جملة من الكلام.
(2) الجوهر النقي للعلامة علاء الدين بن علي بن عثمان المرديني الشهير بابن التركماني على حاشية كتاب السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص323.
(3) سورة الأنعام الآية رقم 141.(2/20)
وقد عقب الحافظ ابن حجر على هذا الرد بقوله: "إنما يتم على طريقة من يمنع استعمال اللفظ الواحد في معنيين، وأما من يجيزه كالشافعية فلا يرد عليهم"(1).
كما استدل أيضا لهذا الفريق بالحديث السابق "الختان سنة للرجال مكرمة للنساء"وقد تقدم بيان وجه الدلالة منه وما ورد عليه من مناقشة(2).
كما أنه يمكن أن يستدل له ثالثا: بحديث اختتان إبراهيم عليه السلام المتقدم.
وجه الدلالة فيه: ثبوت اختتان إبراهيم عليه السلام ويزيده ثبوتا ما جاء في الموطأ "كان إبراهيم أول الناس ضيّف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص الشارب"(3).
والحديث وإن ذكره مالك موقوفا على سعيد بن المسيب، فقد قال الحافظ السيوطي: وصله ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة مرفوعا(4).
وبما أنه لم يثبت الاستدلال بهذا الحديث على الوجوب فأقل ما يستفاد منه أنه سنة نظرا لأننا قد أمرنا باتباع ما كان يفعله إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}.
قال الشوكاني: والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب، والمتيقن السنية كما في حديث (خمس من الفطرة) ونحوه والواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه(5).
وهذا القول هو المختار؛ إلا أني أعتقد أن الختان في حق النساء أقل تأكيدا منه في حق الرجال؛ لما حكاه ابن عبد البر في التمهيد بقوله: "والذي أجمع عليه المسلمون أن الختان للرجال"(6).
ولضعف الحديث الوارد في حقهن، ولأن المشاهد أن حاجة النساء إلى الختان أقل بكثير من حاجة الرجال إليه والله أعلم.
__________
(1) فتح الباري ج12 ص461.
(2) السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص325 ونيل الأوطار ج1 ص135.
(3) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج2 ص219 الطبعة الأخيرة.
(4) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج2 ص219.
(5) نيل الأوطار ج1 ص435.
(6) عون المعبود ج14 ص190.(2/21)
وقد توسع ابن القيم في هذا الموضوع فمن أراد المزيد فعليه الرجوع إليه(1).
وقت الختان:
لم يرد في السنة - فيما أعلم - حديث ثابت في تحديد وقت للختان، لذلك حاول بعض الفقهاء أن يضع تحديدا؛ إما لأنه وجد حديثا ضعيفا فحاول أن يستند إليه - من باب: شيء خير من لا شيء - أو كان مراعاة لمصلحة المختون وسنوجز القول في بيان آراء هؤلاء العلماء ومستند كل فريق فيما يلي:
ذهب الشافعية إلى أن الختان له وقتان وقت وجوب ووقت استحباب، أما الوجوب فيبدأ من وقت البلوغ على الفور، أما وقت الاستحباب فيبدأ منذ الصغر، فإن لم يختن يوم السابع فيوم الأربعين، فإن كان لا يحتمل أُخّر للسنة السابعة فإن لم يختتن حتى بلغ وجب حينئذ الختان في حقه إلا أن يكون ضعيفا وعلم أن الختان يتلفه: فإن الوجوب يسقط..
وهل يحسب يوما الولادة من السبعة أيام؟ وجهان:
قال أبو علي بن أبي هريرة يحسب، وقال الأكثرون لا يحسب؛ فيختن في السابع بعد يوم الولادة.
وذكر النووي: أن ختان الصبي في وقت الصغر مستحب وليس بواجب، وقال: هو المذهب الصحيح المشهور في المسألة(2).
وعند الشافعية وجهان آخران: أحدهما: أنه يجب على الولي ختانه في الصغر لأنه من مصالحه(3)، وقد فسر أبو الفرج السرخسي العلة في ذلك بقوله: في ختان الصبي وهو صغير مصلحة من جهة أن الجلد بعد التمييز يغلظ ويخشن فمن ثم جوز الأئمة الختان قبل ذلك(4).
والوجه الثاني: أنه يحرم ختانه قبل عشر سنين لأن ألمه فوق ألم الضرب ولا يضرب على الصلاة إلا بعد عشر سنين، وقد ضعف النووي هذا الوجه، وقال عنه ليس بشيء وهو كالمخالف للإجماع(5).
ونقل ا بن المنذر عن الحسن ومالك كراهة الختان يوم السابع لأنه فعل اليهود.
__________
(1) تحفة المودود بأحكام المولود طبعة دار الكتب العلمية لبنان من ص127-إلى 141.
(2) المجموع ج1 ص357.
(3) المجموع ج1 ص357.
(4) فتح الباري ج12 ص463.
(5) المجموع ج1 ص357.(2/22)
وقال مالك: يحسن إذا أثغر أي ألقى ثغره وهو مقدم أسنانه وذلك يكون في السبع سنين وما حولها.
وسئل مالك عن حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن حسنا وحسينا لسبعة أيام"، فقال: لا أدري ولكن الختان طهرة فكلما قدمها كان أحب إلي(1).
ونقل النووي عنه: عامة من رأيت: الختان ببلدنا إذا أثغر الصبي، كما نقل عن الليث بن سعد : يستحب بابن سبع سنين إلى عشر سنين، ونقل عن أحمد قوله: لم أسمع فيه شيئا(2).
من هنا نتبين أنه لم يرد حديث صحيح في توقيت الختان، وأن القول بوجوبه وقت البلوغ ليس عليه دليل وربما كان متمسك هذا الفريق حديث سعيد بن جبير عند البخاري.. قال: "سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك" أي يبلغ(3).
وليس فيه دلالة على الوجوب: إذ كل ما يدل عليه أن عادتهم كانت كذلك. على أنه قد اختلف في سنه يوم وفاته صلى الله عليه وسلم من عشر سنين إلى ثلاث عشرة سنة إلى خمس عشرة سنة وقد صوب أحمد بن حنبل أنه كان ابن خمس عشرة سنة وقال ابن القيم: "والذي عليه أكثر أهل السير والأخبار أن سنه كان يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة.. ثم قال: وعندي أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قبل البلوغ بحيث يبلغ مختونا فإن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به(4).
والمختار ما قال به ابن المنذر: ليس في الختان خبر يرجع ولا سنة تتبع والأشياء على الإباحة(5).
وزاد ابن القيم نقلا عن ابن المنذر: ولا يجوز حظر شيء منها إلا بحجة ولا نعلم مع منع أن يختتن الصبي لسبعة أيام حجة(6).
__________
(1) فتح الباري ج12 ص461.
(2) المجموع ج1 ص359.
(3) نيل الأوطار ج1 ص136، وصحيح البخاري ج8 ص81 طبعة صبيح بالقاهرة.
(4) تحفة المودود ص142.
(5) الجوهر النقي، انظر حاشية السنن الكبرى ج8 ص327.
(6) تحفة المودود ص145.(2/23)
قال ابن الحاج: قد مضت عادة السلف أنهم كانوا يختنون أولادهم حين يراهقون البلوغ. لكن قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين يوم السابع أو نحوه، والأمر في ذلك قريب، فأي شيء فعله المكلف كان ممتثلا،وذلك راجع إلى مقتضى التعليل لأن الصغير ليس بمكلف والقطع منه قبل تكليفه: فيه إيلام له بما لا يلزمه في الوقت، وأما ختانه حين المراهقة فهو متعين لأن كشف عورته بعد البلوغ محرم لكن يدخل عليه في ذلك الألم الشديد والبطء في البرء بخلاف الصغير فإن ألمه خفيف وبرأه قريب(1).
مقتضى ما تقدم: أنه يراعى في وقت الختان مصلحة الصبي ومصلحته تتطلب ختانه وهو صغير قبل أن يكبر وتكبر الآلام معه.
على أنه يراعى في التوقيت كذلك حماية الصبي من حيث الصحة وحالة والديه من جهة إمكانهما القيام على رعايته أثناء الختان و بعده حتى يبرأ.
ختان الخنثى المشكل:
قال بعض علماء الشافعية: إن الخنثى المشكل يجب ختانه في فرجيه جميعا، لأن أحدهما واجب ولا يتوصل إليه إلا بختناهما.
وقال بعض آخر بعدم ختان الخنثى المشكل؛ لأنه يترتب عليه أن يُجرح على الإشكال وهو لا يجوز واستظهر النووي القول الثاني وقال إنه المختار(2).
وأقول إن الخنثى يعطى حكم غيره في الختان لعموم الأدلة. إذ ليس فيها مخصص لمولود دون غيره. على أنه يختن في فرجيه جميعا إن تساويا في النمو وإلا بأن كان أحدهما ناميا دون الآخر فإنه يختن في النامي لأن هذا النمو غلّب انتماءه إلى أحد الجنسين والله أعلم.
وقد صرح المالكية بأن الشخص إذا لم يختن قبل بلوغه فإنه يؤمر بختن نفسه بعد البلوغ ولو كان خنثى مشكلا(3).
إظهار ختان الذكر وإخفاء الأنثى:
__________
(1) المدخل ج3 ص296.
(2) المجموع ج1 ص358.
(3) العدوي على أبي الحسن ج2 ص345.(2/24)
قال ابن الحاج يستحب في ختان الذكر إظهاره وفي ختان الأنثى إخفاؤه، وأما الدعوة إلى الختان، فقد صرح بعض العلماء باستحبابها كما تندب الإجابة لها، وقد حكى هذا القول عن أحمد والشافعي وأبى حنيفة وأصحابه.
وقال العنبري تجب إجابة كل دعوة لعموم الأمر به فإن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرسا كان أو نحوه" أخرجه أبو داود(1) ونسب ابن حزم الوجوب إلى جمهور الصحابة والتابعين مستدلا بالحديث السابق وبما ورد في معناه(2).
والمختار الاستحباب؛ لأن الأمر ورد بجوب إجابة الوليمة إذا كان لعرس: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب" رواه ابن ماجه(3)، وقال عثمان بن أبي العاص: "كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ندعى إليه"(4).
أجرة الختان:
أجرة ختان الطفل في ماله؛ فإن لم يكن له مال فعلى من عليه نفقته(5).
الحكمة من كون الختان من سنن الفطرة:
الختان إلى جانب كونه سنة من أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام التي بينها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثنا عليها فإنه يشتمل على معان سامية وحكم جليلة نجمل بعضها فيما يلي:
1- في الختان فائدة صحية هامة فقد ثبت أن القلفة إذا لم تقطع في الوقت المناسب: فإنه يتكون يتكون تحتها خلايا (ميكروبية 9) تتكاثر باستمرار وتسبب أضرارا بالغة الشدة والخطورة على الشخص ولذلك يكون العلاج الطبي من المختصين هو الأمر بإزالة القلفة فورا..
__________
(1) عون المعبود ج10 ص204.
(2) المحلى ج1 ص22، ص204. دار الاتحاد العربي للطباعة - القاهرة.
(3) سنن ابن ماجه ج1 ص591 الطبعة الثانية دار الفكر.
(4) المغني ج7 ص286.
(5) المجموع ج1 ص358.(2/25)
2- عند التبول تتسلل بعض قطرات البول إلى التجويف الموجود بين القلفة وبين رأس الذكر، وهذه القطرات إلى جانب كونها مرتعا خصبا للجراثيم في هذه المنطقة، فإنها كثيرا ما يخرج بعضها بعد التطهر فتصيب النجاسة الثوب والبدن كما أنها تسبب كثيرا من الوسوسة لدى الشخص إذ يظن أنها خارجة من الذكر فيعيد وضوءه المرة بعد الأخرى.
3- إزالة القلفة لها تأثير طيب على المعاشرة الزوجية.
4- هذا كله إلى جانب كون الختان شعارا هاما من شعارات الإسلام إذ به يفرق بين المسلم وغيره، لأن الغالب؛ أنه لا يحافظ على الختان إلا المسلمون، والله اعلم.
وبعد؛ فبجهد المقل وما أتيح من مراجع وما أمكن اقتناصه من الوقت حاولت جاهدا تجلية ما تضمنته هذه السنن النبوية الكريمة من آداب وأحكام وتشريعات؛ فأرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه كما أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتقبله مني وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، كما أتوجه إليه تعالى برجاء المغفرة لما يكون قد وقع فيه - عن غير قصد - من زلل أو خطأ؛ إنه نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.(2/26)