زكاة الشخصية الاعتبارية
( د. أحمد الصادق البشير (1)
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد،،،
فإنَّ الشخصية الاعتبارية من المسائل التي استجدت في هذا العصر، وهي وليدة الفكر القانوني، وقد فرضت نفسها على الحياة الاجتماعية، لما تقوم به من أدوار ومهام لا يستطيع الشخص الطبيعي أنْ يؤديها، ولذلك فهي تحتاج إلى نظرات فاحصة تستكشف جوانبها، وتبين حقيقتها، وتتعرف على رؤية الفقه الإسلامي فيها، وفقاً لنصوصه، ومبادئه، وقواعده، وهو ما سيحاول هذا البحث ـ مستعيناً بالله تعالى ـ أنْ يطرقه مركِّزاً على بيان مدى تحمُّل الشخص الاعتباري للتكاليف الشرعية، وبخاصة الزكاة، وسنهتدي ـ بإذن الله تعالى ـ في هذا البحث بالبحوث التي سبقت في هذا المجال، وبخاصة بَحْثَيْ أ.د. الصِّدِّيق محمد الأمين الضرير، ود. أحمد علي عبد الله.
وسنتناول هذا البحث ـ بعون الله وتوفيقه ـ في المباحث التالية:
المبحث الأول: عن ماهية الشخص الاعتباري وطبيعته في القانون.
المبحث الثاني: ماهيته في القانون السُّوداني والفقه الإسلامي.
المبحث الثالث: صلاحية الشخص الاعتباري للتكليف الشرعي.
المبحث الرابع: ملكية الشخص الاعتباري.
المبحث الخامس: كيفية زكاة الشخص الاعتباري.
.. والله أسأل التوفيق والإعانة ..
.. والحمد لله رب العالمين ..
المبحث الأول
ماهية الشخص الاعتباري وطبيعته في القانون
[1] ماهية الشخص الاعتباري في القانون:
__________
(1) (() أستاذ مشارك، رئيس قسم الفقه وأصوله بكلية الشريعة ـ جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية
(السُّودان ـ أم درمان).(1/1)
الشخص الاعتباري مصطلح حديث في القانون، وله تسميات أخرى (1) ، وكلها تحاول أنْ تُميزه عن الشخص الطبيعي ـ الإنسان من الناحية الإنسانية ـ وتشبهه به من الناحية الاجتماعية، أي ممارسة المناشط الاجتماعية، فالشخص في نظر علماء القانون له عدة مدلولات (2) .
أحدها: أنه هو صاحب الحق كما قال الفقيه الفرنسي ميشو، وهذا يعني أنَّ الشخص في نظر القانون يقتضي وجود كائن أهل لتملك حق خاص به، وتحمُّل الالتزامات التي تقع على كاهله.
ثانيها: أنه الكائن ذو الأهلية، وهؤلاء يربطون بين الشخص والأهلية. فالأهلية هي صلاحية الشخص لوجوب الحقوق له وعليه الالتزامات، وصلاحيته لمباشرة التصرفات الشرعية، ويقولون: إنَّ الشخص في نظر القانون يختلف عنه في نظر الفلسفة والأخلاق، وعلم النفس. فالشخصية في نظر القانون لا تفترض حتماً توافر الصفة الإنسانية، وإنما تعتبر مجرد الصلاحية لدى كائن ما لوجوب الحقوق له أو عليه، وهذه الصلاحية يرى البعض أنَّ مناطها الإرادة الواعية، وهذا المنطق يؤخذ عليه أنه يؤدي إلى إنكار الشخصية على من يفتقد الإرادة العاقلة الواعية كالمجنون والصغير غير المميز.
__________
(1) منها: الشخصية المعنوية، الشخصية القانونية، الشخصية الحكمية، وهي الأدق فقهاً، وقد أشار إلى ذلك د. أحمد علي عبد الله في كتابه: الشخصية الاعتبارية، ص 189.
(2) د. حسن كيرة: مدخل القانون، ص 640، ود. الزغبي: المدخل إلى علم القانون، ص 460، الشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامي، ص 22 وما بعدها.(1/2)
ثالثها: الكائن، ذو القيمة الاجتماعية، الذي له مصالح جديرة بالرعاية والاهتمام، ويهدف إلى تحقيق مقاصد إنسانية، والأصل ثبوت هذه القيمة للإنسان باعتباره صاحب هدف له قيمة اجتماعية، كما أنَّ هذه القيمة يمكن أنْ يعترف بها لغير الإنسان، من الكائنات التي تقوم بغرض تحقيق الأهداف والمصالح الإنسانية، وهذه الكائنات قد تكون جماعة من الأشخاص يضمهم تكوين يرمي إلى تحقيق هدف معين، أو مجموعة من الأموال ترصد لتحقيق غرض معين.
وهذا هو الذي استقر عليه الفقه القانوني الحديث وهو اعتبار الشخص عموماً هو الكائن ذو القيمة الاجتماعية، وهو صاحب الحق ويتفادى الربط بين الشخصية وأهلية الوجوب، وذلك باعتبار أنَّ الشخصية القانونية هي صلاحية كائن ما لأن ينسب إليه الحق والالتزام بصفة عامة، أي صلاحية مجردة، أما أهلية الوجوب فهي مدى هذه الصلاحية من حيث قصورها وشمولها لكل الحقوق والالتزامات، أي صلاحية واقعية فالشخصية تسبق وجود الأهلية، وهي لا توجد إلاَّ كاملة، أما أهلية الوجوب فترجع إلى حالة الشخص كعضو في جماعة ذات قيم معينة، وهي تتساوى بالنسبة للأشخاص العاديين إلاَّ ما ندر، أما بالنسبة للأشخاص الاعتبارية فإنها تتفاوت تبعاً لاختلاف الأغراض والأهداف التي ترمي إليها الشخصية الاعتبارية (1) .
[2] طبيعة الشخص الاعتباري في القانون:
__________
(1) د. حسن كيرة: المدخل إلى القانون، ص 640.(1/3)
الشخص الاعتباري فكرة قانونية حديثة غير واضحة المعالم، الأمر الذي أثار اختلافاً كبيراً بين القانونيين حول طبيعتها وحقيقة وجودها، ويمكن رد هذا الخلاف إلى ثلاث نظريات رئيسة قيلت بشأنها (1) ، تدور بين تكييف الشخص الاعتباري بأنه فرض أو مجاز، وأخرى ترى أنَّ أصل الفكرة تتعلق بقيام الملكية المشتركة، والأخيرة ترى أنها شخصية حقيقية، وتختلف في تحديدها.
النظرية الأولى:
ترى أنَّ الشخص الاعتباري مجرد فرض، أو مجاز، وقوام هذه النظرية وجوهرها أنَّ الشخص في نظر القانون يطلق على الإنسان فقط، لما له من قدرة إرادية. أمَّا إسباغ الشخصية على الجماعات من الناس أو الأشخاص، والأموال، فهو من إنشاء الشارع ليسوغ لها التمتع بالحقوق والصلاحيات لتحمُّل الالتزامات، ولكن عن طريق الافتراض أو الحيلة القانونية لتؤدي مهمتها على غرار الإنسان ذي الإرادة، ويرون أنَّ المشرع صاحب الحق المطلق في إعطاء هذه الشخصية لأي كائن أو حجبها عنه.
ومما يؤخذ على هذه النظرية أنَّ القول بالملكية المفترضة أو المجازية يؤدي إلى وجود الحق دون صاحب حقيقي له، وهو ما يخالف المنطق القانوني، إضافة إلى ربطها بين فكرة (صاحب الحق) وبين وجود الإرادة وهو ما يؤدي إلى القول ـ المرفوض ـ بأنَّ الحق لا يثبت لعديم الإرادة أو ناقصها كالمجنون أو الصبي. والذي قاد أصحاب هذه النظرية إلى ذلك هو التصور الخاطئ للشخصية والربط بينها وبين مدلولها في الفلسفة وعلم النفس والأخلاق، والتي وفقاً لهذا التصور لا تثبت إلا للإنسان.
النظرية الثانية:
__________
(1) انظر: المسئولية الجنائية للأشخاص الاعتبارية، ص 36-56، ود. حسن كيرة: المدخل إلى القانون، ص 622 وما بعدها.(1/4)
يرى أصحاب هذه النظرية أنَّ فكرة الشخصية الاعتبارية تقوم على نظرية الحقوق بلا صاحب، أو نظرية الملكية المشتركة، والتي ترى أنَّ الشخص الاعتباري هو مجموع أعضاء الجماعة باعتبارهم مالكين مشتركين، وأساس هذه النظرية هو أنَّ الأشخاص الحقيقيين هم وحدهم الذين يصدق عليهم أصحاب الحق، بحسبان أنَّ الحق في نظرهم مصلحة يحميها القانون وعلى أساس أنَّ المصلحة تلازم الإنسان، ولذلك فإنَّ الشخص الاعتباري لا يصلح أنْ يكون صاحب مصلحة، بل المصلحة تخص الذين خصصوه لغاية أو هدف.
وهذه النظرية انتُقدت بحسبان أنَّها تؤدِّي إلى نتائج غير مقبولة، منها: وجود حقوق دون صاحب لها، وربطها بين الشخص والمصلحة وفقاً للتعريف الموضوعي ـ المنتقد ـ للحق وهو كونه مصلحة يحميها القانون، كما أنَّها لا تضع حلاً لمشكلة وجود كائنات تؤدي أدواراً ذات قيمة عظيمة في الحياة.
النظرية الثالثة:
وهي تعرف بنظرية الحقيقة، وهي النظرية التي تبناها الفكر القانوني الحديث واستحسنها كثير من المعاصرين رغم اختلاف أصحابها حول مفهوم الحقيقة للشخص الاعتباري، والتي يقولون بها وقد اختلفوا في ذلك إلى المذاهب التالية:
الأول: يعقد الصلة بين الشخص الاعتباري والشخص الطبيعي على أساس من التماثل بينهما باعتبار أنَّ الأفراد المكونين للشخص الاعتباري يعتبرون بمثابة الخلايا المكونة للشخص الطبيعي، ومما يؤخذ على هذا التصور الإفراط والمبالغة في وصف وبيان حقيقة الشخص الاعتباري، ومساواته بالشخص الطبيعي.
الثاني: حاول أنصار هذا المذهب إثبات حقيقة الشخص الاعتباري عن طريق ما أسموه بنظرية الإرادة الحقيقية، وهي الإرادة الجماعية للأفراد المكونين للشخص الاعتباري، وهي إرادة تغاير في جوهرها الإرادات الفردية المكونة لها، وانتقدت بأنَّ الإرادة ليس وحدها هي التي تكوِّن شخص (الإنسان)، بل الإنسان يكتسب هذه الشخصية حتى ولو كان عديم الإرادة أو ناقصها.(1/5)
الثالث: يرى أنَّ الشخصية الاعتبارية هي مجموعة من النظم الحقيقية التي تكشف عنها الروابط الاجتماعية، ويثبت لها ما لهذه النظم من واقعية، فهي تميز بين المكونات الواقعية للشخصية المعنوية، وبين الشخصية القانونية، والتي لا تعدو مجرد أسلوب للتعبير عنها في المحيط القانوني.
الخلاصة:
بعد أنْ استقر الأمر على الأخذ بنظرية الحقيقة رغم الخلاف حول ماهية هذه الحقيقة، يمكن أن نسوغ النظرة التالية، والتي تقوم على مبادئ أساسية تبيّن هذه الفكرة (الحقيقة) والتصور الأمثل لها، والأقرب للمنطقية والموضوعية، وهي ما يلي:
[1] أنَّ الشخصية في نظر القانون تعني مجرد صلاحية كائن من الكائنات لأن يكون محلاً للحق، وأنَّ هذا الكائن يتعين أنْ يكون متميزاً، وله قيمة اجتماعية معينة، ولا يقصد بهذا الكائن أنْ يكون كائناً حياً حياة طبيعية حسية وعضوية، إذ الحيوان، بل والنبات كائن بهذا المعنى، ولكنه لا يحظى بالشخصية في نظر القانون، لأنه ليس له وجود ذاتي مستقل وحقيقي، على أنْ يؤخذ الوجود الحقيقي بالمعنى الذي يتسع لكل وجود مادي أو معنوي، كما لا يعني هذا أنَّ كل كائن له وجود ذاتي مستقل وحقيقي على هذا النحو يستحق أنْ يتمتع بالشخصية، بل يلزمه لهذا التمتع ـ أيضاً ـ أنْ يمثل قيمة اجتماعية معينة تجعله أهلاً لأن يدخل في الوجود القانوني ككائن له حياة مستقلة يصبح بمقتضاها مركزاً للحقوق والالتزامات، فالشخصية القانونية تتحقق بتحويل الوجود الواقعي لمثل هذه الكائنات إلى وجود قانوني.
[2] التمتع بالحياة القانونية المستقلة يكون بمقدار القيمة الاجتماعية للكائن المعني، فبعض الكائنات التي لها وجود ذاتي واقعي بل وحسي كالحيوانات إذا دخلت مرحلة الوجود القانوني لا تدخل فيه باعتبارها صاحبة حياة قانونية مستقلة، لأنها ليس لها من القيمة الاجتماعية ما يبرر وضعها على رأس مثل هذه الحياة وجعلها مركزاً وصاحبة للحقوق والالتزامات.(1/6)
[3] ينبغي التميز بين الشخص كإنسان وفقاً للنظرة الفلسفية والأخلاقية أو وفقاً لتكوينه العضوي أو الحيوي الخاص وإرادته المستكنة والنشطة، وبين الشخص ككائن له وجود ذاتي ومستقل ويمثل من القيمة الاجتماعية ما يحتم وضعه على رأس حياة قانونية مستقلة، واعتباره صالحاً لأن تسند إليه المهام الحياتية، ويمكن أنْ يلحق بالإنسان ـ بهذا المعنى ـ الأشخاص الاعتبارية، بحسبانها كائنات لها وجودها الذاتي والحقيقي في الحياة الاجتماعية، وتمثل من القيمة الاجتماعية ما يدخلها في نطاق القانون كصاحبة حياة قانونية مستقلة، ومركز للحقوق والالتزامات، ومثل هذه القيمة الاجتماعية تتوافر لهذه الكائنات حينما يصبح وجود هذه الكائنات مفروضاً بالضرورة أمام ضخامة بعض الأهداف الإنسانية المشروعة ذات القيمة الاجتماعية (1) .
__________
(1) انظر: حسن كيرة: مدخل القانون، ص 632.(1/7)
[4] وجود الشخصية القانونية لا يستلزم توافر الإرادة، وإنْ كانت الإرادة متطلبة فليس تطلبها شرطاً لوجود الشخصية، وإنما هو شرط لقدرتها على النشاط الإرادي وإجراء التصرفات القانونية، ولذلك فقد تثبت الشخصية لعديم الإرادة من الأفراد ويباشر عنه نشاطه الإرادي شخص آخر ذو إرادة، وهذه القدرة الإرادية كما تكون فردية فإنه من المتصور أنْ تكون إرادة جماعية، وتمثل إرادة الشخص الاعتباري، وهي إرادة تقوم إلى جانب الإرادة الفردية للأشخاص المكونين له، يتولى الإفصاح عنها وإعلانها والتعبير عنها الأعضاء الذين يحددهم المشرع، أو وثيقة إنشائه، وتضحى هذه الإرادة الجديدة متميزة ومستقلة عن الإرادات الفردية، ويمكن إنزالها أو تصورها في شكل إرادة الشخص الاعتباري ذاته، وتملك هذه الإرادة الجديدة القدرة على التصرُّف، وهي إرادة حقيقية وليست على سبيل المجاز، وتنهض هذه الإرادة الجماعية والمشتركة صنواً للإرادة الفردية وعلى غرارها تماماً طالما أنَّ القانون يحدد ضوابط قيامها وانعقادها واستمرارها وانتهائها (1) .
[5] هذا التصور للشخصية الاعتبارية وبيانها وتميزها عن الشخصية الطبيعية لا ينال منه أنَّ وجود الشخص الاعتباري واكتسابه للشخصية يتوقف على تدخل المشرع واعترافه به، وذلك لأنَّ التدخل ليس مقصوراً عليه وحده، فمن المسلَّم به أنَّ الشخصية الطبيعية تستلزم مثل هذا التدخل والاعتراف به وتتوقف عليه دون أنْ يجادل أحد في صفتها الحقيقية إضافة إلى أنَّ تدخل المشرع للاعتراف بالشخصية بسبب عدم تساوي الكائنات الاجتماعية سواء جماعات الأفراد أو مجموعات الأموال في الأهداف المبتغاة والقيم التي تمثلها.
المبحث الثاني
الشخص الاعتباري في القانون السُّوداني والفقه الإسلامي
__________
(1) حسن كيرة: مدخل القانون، ص 632، المسئولية الجنائية، ص 127.(1/8)
القانون هو: "مجموعة القواعد التي تنظم سلوك الأفراد في الحياة الاجتماعية". فهو جزء أصيل من الفقه الإسلامي إن كان مصدره الشريعة الإسلامية كما هو الحال في القوانين السُّودانية الحالية، ومن ذلك قانون المعاملات المدنية السُّوداني لسنة 1984م، والذي بيَّن المقصود بالشخص في مواده الأولى ـ فهو قانون يلتزم أحكام الشريعة الإسلامية ـ لذلك رأينا أنْ نوضح رؤيته مع رؤية الفقه الإسلامي للشخص الاعتباري حتى تتوحد الرؤية، فقد تناول هذا القانون التعريف بالشخص وأنواعه وحقوقه في المواد (17)، (23)، (24) (1) .
فالمادة (17) قد نصت على الآتي:
(الأشخاص نوعان: أشخاص طبيعيون، وأشخاص اعتباريون).
والمادة (23) نصت على أنَّ الأشخاص الاعتبارية هي:
[أ] الدولة ومؤسساتها العامة وغيرها من المنشآت التي يمنحها القانون شخصية اعتبارية.
[ب] الهيئات والطوائف الدينية التي تعترف لها الدولة بشخصية اعتبارية.
[ج] الأوقاف.
[د] الشركات التجارية.
[هـ] الجمعيات والمؤسسات المنشأة وفقاً لأحكام القانون.
[و] كل مجموعة من الأشخاص أو الأموال تثبت لها الشخصية الاعتبارية بمقتضى نص في القانون.
أما المادة (24) فقد بيَّنت حقوق الشخص الاعتباري في البنود الآتية:
[1] الشخص الاعتباري يتمتع بجميع الحقوق إلاَّ ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية وذلك في الحدود التي قررها القانون.
[2] دون المساس بعمومية البند (1) يكون للشخص الاعتباري:
[أ] ذمة مالية مستقلة.
[ب] أهلية في الحدود التي يعينها سند إنشائه والتي يقررها القانون.
[ج] حق التقاضي.
[د] موطن مستقل.
[3] يكون له من يمثله وفقاً لأحكام القوانين الخاصة.
__________
(1) قانون المعاملات المدنية السُّوداني لسنة 1984م.(1/9)
ووفقاً لهذه المواد يتضح أنَّ القانون السُّوداني قد أخذ بنظرية الحقيقة في نظرته للشخص الاعتباري، وقد أقرَّ له بالوجود الذاتي المستقل ووضع له من الأحكام وأعطاه من الصلاحيات ما يستطيع أنْ يباشر بها كل المهام والمناشط الاجتماعية التي يمارسها الإنسان، فهو يقوم بكل ما يقوم به الإنسان ويتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها إلاَّ ما كان منها ملازماً لصفة الإنسان الطبيعية وفي الحدود التي يقرها القانون.
ولم يخالف القانون في ذلك أحكام الشريعة الإسلامية كما ذكر الشيخ الأستاذ الدكتور/ الضرير: "ولا أرى في هذه المواد التي بيَّنت المراد من الشخصية الاعتبارية وحقوقها وخصائصها ما يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية" (1) .
ولنبيِّن فيما يلي نظرة الشريعة الإسلامية للشخص الاعتباري:
أولاً: يذهب معظم المعاصرين من علماء الشريعة الإسلامية (2) ، ممن نظر في هذه المسألة إلى القول بقبول الفقه الإسلامي لفكرة الشخص الاعتباري أو الحكمي كما يسميها د. أحمد علي عبد الله، أخذاً من المصطلح الإسلامي الذي بيَّن الملك الحقيقي والحكمي، وهي أدق لأنها تبعد فكرة الشخص الاعتباري عن المجاز أو الفرض، فهي حقيقة حكمية.
ويرى د. أحمد أنَّ: "الفقه الإسلامي يأخذ بفكرة الشخصية الاعتبارية في أصوله وفروعه، فهو من أسبق القوانين معرفة لفكرة الشخصية الاعتبارية، ولا يعكر هذه النتيجة أنه لم يعرف في لغته هذا الاصطلاح، لأنَّ الأصوليين يقررون أنَّ العبرة بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، فحيث وجد المعنى الذي تصدق عليه هذه الفكرة فذلك غاية الطلب، هذا إلى جانب أنَّ الفقه لم يكن في حاجة إلى أنْ يُسَمِّيَ هذه الفكرة بهذا المصطلح ولا غيره، لأنها تنبثق من أصوله ومصادره العامة كجزء من كل" (3) .
__________
(1) انظر: بحوث المؤتمر العلمي الثاني للزكاة، ص 37.
(2) انظر: د. أحمد علي عبد الله: الشخصية الاعتبارية، ص 156 وما بعدها.
(3) المرجع السابق، ص 241.(1/10)
ويذهب د. أحمد علي عبد الله إلى أنَّ الشخص هو كائن اكتملت له أو فيه المقومات الآتية:
[1] أنْ يكون ذا أثر فعَّال في حياة الإنسان الاجتماعية.
[2] أنْ يكون في وسعه اكتساب الحقوق وتحمُّل الواجبات.
[3] أنْ يكون قابلاً وقادراً على تحمُّل الجزاءات.
والشخص الذي تكتمل له أو فيه هذه المقومات؛ إمَّا أنْ يكون شخصاً حقيقياً أو حكمياً، والأول هو الإنسان، والثاني هو كل كائن سوى الإنسان يكتسب المقومات السابقة اكتساباً صناعياً بجامع مشاركته له في تحقيق أهداف الإنسان الاجتماعية، فيكون شخصاً حكمياً أو اعتبارياً (1) .
وهذه النظرة هي التي استقرت في الفقه القانوني الحديث. وعليه فإنه يمكن القول بأنَّ الفقه الإسلامي قبل بفكرة الشخص الاعتباري من حيث المبدأ وإن اختلفت آراء الفقهاء حول مدى هذا الاعتراف، وما مدى تحمُّل ذمته المالية للالتزامات؟ وهل يمكن القبول بفكرة الإرادة الجماعية المستقلة؟ وهل للشخص الاعتباري عقل يفكر به وإرادة يتصرف بمقتضاها؟ عموماً ما هي صلاحية الشخص الاعتباري؟ هذا ما سنتناوله بتوفيق الله في المباحث التالية.
المبحث الثالث
تكليف الشخص الاعتباري شرعاً
هل الشخص الاعتباري صالح للتكليف الشرعي؟ أي هل يمكن أنْ تكون له أهلية كاملة وجوباً وأداء؟
الأهلية عند الفقهاء نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء.
فأهلية الوجوب هي: أهلية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمُّل الالتزامات ومناطها الذمة.
والذمة لغة: هي العهد والميثاق. واصطلاحاً: هي ما تثبت فيه الحقوق والالتزامات، والأصل فيها أنْ تثبت لشخص الإنسان بمقتضى إنسانيته، وأجاز الفقهاء أنْ تثبت هذه الذمة لغير الإنسان حكماً (2) ، لما ورد في نصوص الأحاديث الشرعية:
__________
(1) انظر: د. أحمد علي عبد الله، ص 241.
(2) الشخصية الاعتبارية، ص 117.(1/11)
[1] عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ذمة المسلمين واحدة، فإنْ جازت عليهم جائزة فلا تخفروها، فإنَّ لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة) (1) .
[2] وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم) (2) .
ولذلك فالذمة كما تثبت للإنسان، تثبت لغيره من الكائنات مجموعة الأشخاص أو الأموال والتي لها أهمية خاصة في حياة الجماعة، حيث تقوم بمهام وتؤدي وظائف تفوق وظائف ومناشط الإنسان الاجتماعية، وذلك مثل: الدولة ومؤسساتها العامة أو الخاصة، والهيئات الخيرية والشركات التجارية.
__________
(1) هذا الحديث صحيح بهذا الإسناد: أخبرنا أحمد بن محمد العنزي، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حديث محجوب بن موسى، حديث أبو إسحاق الفزاري عن عمرو بن مردة عن ابن أبي البحتري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ، مصباح الزجاجة، 3/134.
(2) سنن البيهقي، 8/227، وسنن ابن ماجة، 2/895.(1/12)
وقد ذكر الأستاذ الدكتور/ الضرير بعض آراء العلماء المعاصرين حول ثبوت الذمة شرعاً، وخلص إلى أنَّ أهلية الوجوب التي تعتمد على وجود الذمة قد اختلف الفقهاء في ثبوتها لغير الإنسان، فبعضهم لا يثبتها لغير الإنسان، فالحيوان وما لا حياة له ليس أهلاً لأن يملك ولا ذمة له عندهم، وأثبتها بعضهم لغير الإنسان واستدلوا لرأيهم بالأحكام الثابتة للوقف والمسجد وبيت المال التي تقتضي أنَّ لهذه الجهات حقوقاً قبل غيرها وعليها واجبات مالية يقوم بها من يتولى أمرها، من ذلك أنه يجوز لناظر الوقف أنْ يستدين على الوقف، وأنْ يستأجر له من يقوم بعمارته، فيكون ما يستدينه وما يستحقه الأجير ديناً على الوقف يطالب به من غلته، وإذا أجرّت أعيان الوقف كانت الأجرة ديناً للوقف في ذمة المستأجر. ومن ذلك وجوب النفقة على بيت المال للفقير الذي ليس له قريب تجب نفقته عليه، ومن ذلك أيضاً جواز الهبة للمسجد، ويقبلها الناظر نيابة عنه.
ثم ذكر الأستاذ الدكتور/ الضرير أنَّ العلماء استدلوا أيضاً بأنه ليس في القرآن ولا السنة ما يمنع أنْ تفرض الذمة لغير الإنسان من الشركات والمؤسسات المالية على نحو يناسب هذه الجهات (1) .
ومما سبق يتبيَّن أنَّ الراجح من أقوال العلماء المعاصرين ومما تؤيده النصوص والقواعد هو جواز ثبوت الذمة المالية لغير الإنسان على نحو مناسب.
أما أهلية الأداء ففي ثبوتها عند المعاصرين نزاع، وقد خلص الشيخ الضرير بعد أنْ ناقش مقومات هذه الأهلية إلى عدم ثبوتها لغير الإنسان ولو كانت ناقصة، لأنَّ مناطها هو العقل والإرادة، وهما لا يتصوران في الشخص الاعتباري، وبناءً على ذلك ذهب إلى القول بأنها معدومة بالنسبة للشخص الاعتباري، وقال: (هذا مما لم ينازع فيه أحد) (2) .
هذا الأمر في نظري يحتاج إلى وقفة في النقاط التالية:
__________
(1) بحوث المؤتمر العلمي الأول للزكاة، ص 39.
(2) بحوث المؤتمر العلمي للزكاة، ص 39.(1/13)
أولاً: الذمة التي أثبتها الفقهاء للشخص الحكمي وأوردتها النصوص ذمة حكمية اقتضتها ضرورة وجود هذا الكائن وقيامه بالمهام البشرية التي تنسب لشخص بشري معين، ولا تؤدى دون توافر هذه الذمة إذا كان ذلك كذلك فما الذي يمنع أنْ تكون للشخص الاعتباري أهلية أداء حكمية في حدود معينة تبعاً لمهامه وحاجاته خاصة وهو يباشر كثيراً من التصرُّفات المعتبرة شرعاً باسمه ولحسابه وبإرادته هو لا بإرادة غيره، لأنَّ تصرف الإمام باسم الدولة ينسب إلى الدولة، وهو يمثل إرادة الأمة وليس إرادته الفردية.
ثانياً: كما وردت أدلة تجيز أنْ تكون للأمة ذمة، وردت أدلة يمكن الاستدلال بها على اعتبار الشارع للأُمَّة كشخص حكمي له حياة كحياة الأفراد، وله أجل كحال الأفراد، وتكون مسئولة عن تصرُّفاتها الجماعية تهلك بها وتدمر أو تسعد بها في مجموعها، ومن ذلك:
[1] قول الله سبحانه وتعالى ... [الأعراف: 34].
قال ابن عاشور: "والمراد بالأُمَّة هنا الجماعة التي اشتركت في عقيدة الإشراك... وليس المراد في الآية بأجل الأمة أجل أفرادها وهو مدة حياة كل واحد منها لأنه لا علاقة له بالسياق، ولأنَّ إسناده إلى الأمة يعني أنه أجل مجموعها لا أفرادها ولو أريد آجال الأفراد لقال لكل واحد أو لكل حيّ أجل" (1) .
[2] وقوله تعالى
[الحجر: 4].
يقول ابن كثير: "يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلاَّ بعد قيام الحُجَّة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتها ولا يتقدمون عن مدتهم" (2) .
فابن كثير يرى أنَّ الخطاب القرآني يتحدث عن الأُمَّة والقرية فالأمر أمر مجموعة من الأشخاص تمثلهم القرية أو الأُمَّة، وهي الشخص الحكمي الاعتباري.
__________
(1) محمد الطاهر بن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، 5/104.
(2) تفسير ابن كثير، 2/712.(1/14)
[3] هناك كثير من النصوص التي تتحدث عن حال القرى في مجموعها من ذلك قوله تعالى [الحج: 45]، وقوله تعالى [الطلاق: 8]، وقوله تعالى في القرى التي آمن أهلها كلهم أو معظمهم [يونس: 98].
ثالثاً: دلَّت أقوال الفقهاء على جواز مباشرة الشخص الحكمي لبعض التصرفات المعتبرة شرعاً، وهي لا تصح إلاَّ ممن له أهلية أداء معتبرة، ومن ذلك صحة الإيصاء للمسجد وتملكه للوصية، فقد جاء في "حاشية الدسوقي والشرح الكبير": "وصحَّ الإيصاء للمسجد ونحوه كرباط وقنطرة وصرف في مصالحه، وشرح قوله "وصح الإيصاء للمسجد" أي لصحة تملكه للوصية بخلاف الحيوان والحجر مثلاً فلا تصح له" (1) .
وذكر الدكتور/ أحمد علي عبد الله أنَّه قد وردت في الفقه الإسلامي كثير من الأحكام التي تعد الدولة كياناً متميزاً تستطيع أنْ تعقد العقود وتتحمَّل الالتزامات وتتعامل مع الدول الأخرى بحسبانها عاقداً يتميز بخصائص وتتوافر فيه شروط الشخص الطبيعي، وهي حقوق والتزامات غير مرتبطة بشخص الإمام (2) .
وكل هذا يدلُّ دلالة واضحة على جواز تصرُّفات هذه الأشخاص الاعتبارية في الحدود المشروعة.
رابعاً: قسّم الأصوليون الخطاب التكليفي الواجب إلى: واجب عيني وكفائي. فالعيني يتعلق بأعين الأفراد، أمَّا الكفائي فيتعلق بمجموعهم (3) .
وقد جاء في "الإحكام": "لا فرق عند أصحابنا بين واجب العين والواجب على الكفاية من جهة الوجوب لشمول الواجب لهما، خلافاً لبعض الناس مصيراً منه إلى أنَّ واجب العين لا يسقط بفعل الغير بخلاف واجب الكفاية" (4) .
__________
(1) الشيخ محمد عرفة الدسوقي: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 4/426.
(2) الشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامي، ص 117-156.
(3) الشيخ محمد الأمين بن مختار الشنقيطي، مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر، ص 199.
(4) سيف الدين الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، 1/88.(1/15)
وجاء في شرح "روضة الناظر": "والتحقيق في فرض الكفاية أنه واجب عليهم كلهم يسقط بفعل بعضهم بدليل أنهم إنْ فعلوه كلهم نالوا ثواب الواجب، وإنْ تركوه كلهم أَثِمُوا".
وعليه يمكن القول بأنَّ الخطاب التكليفي يتعلق بمجموع الناس ولا ينتقل إلى أعيان الأفراد إلاَّ إذا قصّر المجموع، ولا يمكن تصور المجموع إلاَّ في صورة الشخص الحكمي أو الاعتباري، فالدولة مخاطبة بتحكيم الشريعة الإسلامية، والخطاب ليس للإمام بمفرده ولا للرعية بأعيانها، وإنما للمجموع الذي يشكل الدولة: الإمام والرعية، فإنْ لم تقم بذلك الدولة يسأل الإمام والأفراد، لكن أصل التعلُّق هو المجموع الذي يمثل الشخص الاعتباري وهو الدولة.
خامساً: تحدث الأصوليون عن خطاب المعدوم وأنه يصح تكليفه وذلك بخطاب المعدوم، والشخص الحكمي وإنْ كان موجوداً إلاَّ أنه في حكم المعدوم على أقل تقدير، وهو مؤهل لهذا الخطاب بأفراده الذين يشكلون عقله وإرادته، فقد جاء في "مذكرة أصول الفقه": "قد دلَّت النصوص الصحيحة على خطاب المعدومين من هذه الأُمَّة تبعاً للموجودين منها) (1) .
وقال الآمدي: "مذهب أصحابنا جواز تكليف المعدوم... وربما أشكل فهم ذلك مع إحالتنا لتكليف الصبي والمجنون والغافل والسكران لعدم الفهم للتكليف، والمعدوم أسوأ حالاً من هؤلاء في هذا المعنى، لوجود أصل الفهم في حقهم وعدمه بالكلية في حق المعدوم، وكشف الغطاء عن ذلك أننا لا نقول بكون المعدوم مكلفاً بالإتيان بالفعل حالة عدمه، بل معنى كونه مكلفاً حال العدم قيام الطلب القديم بذات الرب تعالى للفعل في المعدوم بتقدير وجوده وتهيئة لفهم الخطاب، فإذا وجد مهيئاً للتكليف صار مكلفاً بذلك الطلب والاقتضاء القديم" (2) .
__________
(1) محمد الأمين مختار الشنقيطي: مذكرة أصول الفقه، ص 200.
(2) سيف الدين الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، 1/131.(1/16)
فإذا أمكن تصوُّر تكليف المعدوم بالخطاب القديم وذلك بتقدير وجوده فيما يستقبل وتهيئة لفهم الخطاب فلما لا نتصور تكليف الموجود الحكمي المتهيئ للفهم في حدود هذا التهيؤ؟ وهذا ما يراه الباحث.
سادساً: ألا يمكن تصور الفهم والإرادة لغير الإنسان؟ خاصة وأنَّ للدولة وكثير من الأجهزة والمؤسسات إرادة تتميز بها عن إرادات من يمثلها، ولها قدرة في مباشرة تصرفاتها في الأطر المحددة لها، ولها عقل تفكر به؟
هذه أشياء حكمية لكنها موجودة، ومناط أهلية الأداء هي الإرادة والعقل، فما الذي يمنع أنْ تكون هنالك إرادة حكمية وعقل حكمي يحددها المشرع كما هو الحال في الشخص الطبيعي؟
فالعقل والإرادة هما أشياء متصورة لا تعرف حقيقة وجودها إلاَّ بمظان منها تصرفات الشخص ومدى تمييزه للأشياء وهكذا، وما يعتبر مظنة للعقل والإرادة يتوافر في الشخص الحكمي أو الاعتباري حسب أحواله ومهامه.
لكل ما ذكر فإنَّ الذي يظهر هو جواز أنْ يكون للشخص الاعتباري أهلية أداء في حدود اختصاصاته ومهامه يمكن أنْ يباشر بها تصرفاته الشرعية ويتحمَّل بها بعض الالتزامات والتكاليف الشرعية التي لا تتعلق بالبدن ولا تُعَدُّ من قبيل العبادة المحضة. والله أعلم.
المبحث الرابع
ملكية الشخص الاعتباري
[1] ضرورة الملك التام لوجوب الزكاة:
من شروط الزكاة التي ذكرها الفقهاء الملك التام، فقد جاء في "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير": "إنَّ شروط وجوب الزكاة خمسة، منها تمام الملك" (1) . وقد أشار إليها صاحب "المغني" بقوله: "ويشترط للوجوب ثلاثة أشياء: الحول، والنصاب، والتمكن من الأداء" (2) .
__________
(1) ابن عرفة: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 2/436.
(2) ابن قدامة: المغني، 2/539.(1/17)
والتمكُّن من الأداء هو الملك التام المقصود عند الفقهاء، وقد ذكره بهذا المعنى الزيدية كما بيَّن ذلك د. يوسف القرضاوي، حيث ذكر أنَّ الزيدية يقصدون بالملك التام التمكُّن، فاشترطوا في الزكاة أنْ يكون النصاب مُتَمَكَّناً منه في جميع الحول أو في حكم المتمكن منه وذلك حيث يكون مرجواً غير ميؤس (1) .
وجاء في "المجموع شرح المهذب" قال: "قال المصنف ـ رحمه الله ـ ولا تجب فيما لا يملكه ملكاً تاماً كالماشية التي في يد مكاتبه، لأنه لا يملك التصرُّف فيه كمال الأجنبي" (2) .
وجعل صاحب "المجموع" هذا الشرط شرطاً في المال وليس صفة للشخص، حيث قال: " قال المصنف ـ رحمه الله ـ: ولا تجب الزكاة إلاَّ على الحر المسلم، قوله: "ولا تجب الزكاة إلاَّ على الحر المسلم"، ولم يقل تام الملك كما قاله في "التنبيه"، وهذا الذي قاله هنا حسن، لأنَّ مقصوده في هذا الفصل بيان صفة الشخص الذي تجب عليه الزكاة، وكونه تام الملك صفة المال" (3) .
وبيَّن صاحب "المجموع" مقصود الملك بأنه القدرة على التصرف في الشيء.
وعليه فإنَّ شرط الملك التام من شروط وجوب الزكاة كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء (4) .
[2] مفهوم شرط الملك التام:
الملك التام هو ما يكون فيه العين مملوكة لصاحبها رقبة ومنفعة، وهو يخول لصاحبه حق التصرف المطلق في الشيء (5) ، وحق الانتفاع والاستقلال.
والملك التام قسم من الملك، وهو اختصاص يمكن صاحبه شرعاً من أنْ يستبد بالتصرف والانتفاع عند عدم المانع الشرعي (6) . فالملك ينقسم إلى قسمين: ملك تام وملك ناقص.
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: فقه الزكاة، 1/149، نقلاً عن شرح الأزهار، 1/452.
(2) النووي: المجموع، 5/339.
(3) المرجع السابق، 2/326.
(4) القرضاوي: فقه الزكاة، 1/146.
(5) د. أحمد فرح حسين: الملكية ونظرية العقد، ص 34.
(6) د. رمضان السيد و"آخرون": المدخل إلى دراسة الفقه الإسلامي، ص 458.(1/18)
فالملك عند الفقهاء يكون تاماً إذا كان شاملاً للعين والمنفعة جميعاً، ويكون ناقصاً إذا كان واقعاً على أحدهما العين أم المنفعة (1) .
وقد جاء في عبارات بعض الفقهاء أنَّ المقصود بالملك التام كشرط لوجوب الزكاة هو التمكن من الأداء أو القدرة على التصرف، وعليه يمكن القول بأنَّ الملك التام يقصد به عند الفقهاء الآتي:
[1] ملكية العين والمنفعة معاً.
[2] التمكُّن من الأداء.
[3] القدرة على التصرُّف.
وكل هذه المعاني يكمل بعضها بعضاً، فالذي يملك عين الشيء ومنفعته يختص بها دون غيره، ويستطيع أنْ يتصرف فيها ويتمكن من أنْ يؤدي الحق الذي عليه منهما العين والمنفعة.
والملك التام يُكتسَب بسبب من أسباب التملُّك التي ذكرها الفقهاء، والتي أجملوها في (2) :
[أ] الاستيلاء على المباح.
[ب] العقود الناقلة.
[ج] الخلفية.
[د] الشفعة.
وأرى أنَّ الذي يحصل له الملك بأي صورة من الصور التي ذكرت آنفاً يكون مالكاً ملكاً تاماً.
[3] تملُّك الشخص الاعتباري:
الأصل أنَّ الذي يتملك هو الإنسان، ويمكن انتقال هذا الأصل للشخص الاعتباري بحيث يصبح متملكاً تملكاً تاماً، وذلك بالنظر لما ورد من الفقهاء وما ذكره العلماء بشأن وجود ذمة للشخص الاعتباري، ومن ذلك قولهم بصحة الإيصاء للمسجد وللوقف، وصحة مباشرة الدولة ومؤسساتها والشركات للتصرُّفات المعتبرة، علماً بأنَّ الملك التام لا علاقة له بالإرادة أو العقل أو صحة التصرُّف أو عدمه، وإنما يثبت للشخص بمقتضى ما لديه من ذمة، أي أهلية وجوب كاملة، وقد تبيَّن فيما سبق أنَّ الفقه الإسلامي قد أجاز فكرة الذمة الحكمية للشخص الاعتباري في أصوله وفروعه، وبناءً على ذلك يصح القول بصلاحية الشخص الاعتباري لأن يتملك ملكاً تاماً متى توافر سبب من أسباب التملُّك.
__________
(1) المرجع السابق، ص 459.
(2) المرجع السابق، ص 460.(1/19)
كما أنه ينبغي التمييز بين الملك التام والملكية العامة، وأنَّ الملكية العامة لا تتعارض مع الملك التام، فكل منهما قسم باعتبار معين، فقد يكون الشيء مملوكاً ملكية عامة وتامة وقد يكون غير ذلك، فتقسيم الملك إلى عام وخاص بالنظر إلى تعلُّق الملك، هل بشخص معين أم بمجموعة من الناس؟ أما التقسيم إلى ملك تام وناقص فبالنظر إلى أجزاء الشيء المتملك، هل يقع تملكه على جزئية ومن ثم يُعَدُّ ملكاً تاماً أم على جزء منه فيعدُّ ملكاً ناقصاً؟
لذا فجميع الأشخاص الاعتبارية عامة أو خاصة يجوز لها أنْ تتملك ملكية تامة، أمَّا الملكية العامة فلا تكون إلاَّ للأشخاص العامة أي التي ترعى مرافق عامة تخص مجموع الناس وليس أفراداً معينين، كما أنَّ الملكية المقصودة في الزكاة ـ والله أعلم ـ هي الحيازة الفعلية للشيء، والتي تمكن من الأداء والتصرف في الشيء، وهذا يؤيده ما ذهب إليه الفقهاء بشأن زكاة الدَّيْن، ومفهوم الملكية عند الزيدية، وما جاء في "المغني".
[4] ملكية الشركات:
الشركات من الأشخاص الاعتبارية، وقد أُجيز أنْ تكون لها ذمة مالية، وكذلك لها أهلية في الحدود التي تمكنها من مباشرة تصرُّفاتها المشروعة، وليس في ذلك تعارض مع النصوص أو القواعد العامة كما تبيَّن فيما سبق، ولكن الإشكال في أصل وجودها ومساهمة أعضائها فيها، هل يُعَدُّ بمثابة نقل ما يملكون إلى الشركة أم أنهم مالكون لموجودات الشركة ملكاً تاماً، ولا تستطيع الشركة أنْ تتصرف فيما تملك إلاَّ نيابة عن المساهمين، والذي أراه ـ والله تعالى أعلم ـ:
[1] إنَّ الشركة مالكة ملكية تمكنها من مباشرة التصرف فيما يخصها، وبمقتضى ذلك تقوم بمباشرة التصرُّفات باسمها ولحسابها وبإرادتها، رغم أنها تكونت من الشركاء.
[2] ملكية الشركة لما تحت يدها يمكن أنْ نقول أنها ملكية محدودة خاصة تمكنها من أنْ تتصرف فيما تحت يدها.(1/20)
[3] ملكية الشركاء لأموال الشركة ملكية عامة أو مشاعة بقدر أسهمهم في الشركة، ولا تصبح ملكية تامة خاصة ومحددة إلاَّ بالإفراز، ولذلك فإنهم يملكون ما يعبّر عن هذه الملكية وهي الأسهم، فملكيتهم للسهم ملكية تامة، وملكيتهم لموجودات الشركة ملكية مشاعة، وذلك مثل الأوراق المالية والتجارية والتي لها قيمة مأخوذة مما تمثله هذه الأوراق.
[4] الملكية التي أرى أنها مطلوبة في الزكاة هي الملكية التي تمكن صاحبها من مباشرة التصرُّف فيما تحت يده خاصة، وأنَّ أمر الزكاة منظور فيه إلى مصالح الفقراء والمساكين، لأنَّ لهم حقاً في المملوك، وهو أحد تفسيرات الملكية التامة كما ذكر الزيدية وورد في "المغني" لابن قدامة.
وقد ذهب الشيخ الأستاذ الدكتور/ الضرير إلى القول بأنَّ "الفقه الإسلامي يقبل الشخصية الاعتبارية من حيث المبدأ، ولكنه لا يقبل كل الأحكام التي يقررها القانون للشخصية الاعتبارية، ومن الأحكام التي يرفضها الفقه الإسلامي ما يقرره القانون من أنَّ الأموال التي يكتتب بها المساهمون تكون ملكاً للشركة، أي أنَّ السهم يخرج من ملك المساهم ويدخل في ملك الشركة بمجرد مساهمته في الشركة، هذا القول غير مقبول شرعاً وعملاً، غير مقبول لأنَّ السهم في الشركة حصة شائعة في موجودات الشركة مملوكة للمساهم، ولا يوجد سبب من أسباب نقل الملكية بنقله إلى الشركة، وغير مقبول عملاً:
[أ] المعمول به أنَّ المساهم يتصرف في سهمه بالبيع، وهذا دليل بقائه في ملكه.
[ب] المساهم يستحق ربح أسهمه سنوياً ويتحمَّل خسارتها، وهذا دليل بقائه في ملكه.
[ج] الشركة إذا صفيت يستحق المساهم في موجوداتها بنسبة أسهمه في الشركة، فبأي سبب ينتقل الملك إليه إذا كانت هذه الموجودات مملوكة
للشركة (1) ؟
__________
(1) مجلة المؤتمر العلمي لبحوث الزكاة، ص 42-43.(1/21)
ولا خلاف مع الشيخ الضرير فيما ذهب إليه من تملك المساهم لأسهمه تملكاً تاماً بالمعنى العام، بحسبان أنَّها تمثل جزءً من موجودات الشركة ويستطيع أنْ يباشر عليه التصرُّفات المشروعة وتترتب عليها الآثار الشرعية.
أمَّا نفي التملُّك عن الشركة تماماً فهذا موضع نظر، لأنَّ للشركة ذمة قد أجازها بعض العلماء، ومقتضى هذه الذمة أنَّ الشركة تستطيع أن تملك، وتملك مباشرة وهذه الملكية التي للشركة هي ملكية ضعيفة ضعف ذمتها الحكمية، ويمكن تسميتها بالملكية الحكمية، والتي فعلاً وواقعاً تستطيع بها مباشرة التصرُّفات المعتبرة شرعاً، وقد ذهب بعض الفقهاء كالزيدية وصاحب "المغني" إلى تفسير الملك التام المطلوب بأنَّه هو التمكُّن من الأداء حيث اشترطوا أنْ يكون النصاب متمكناً في جميع الحول أو في حكم المتمكن (1) .
وفي "المغني" أنَّ شروط الوجوب ثلاثة: الحول، والنصاب، والتمكن من الأداء (2) .
وهذه الأقوال تؤكد أنَّ الملك المطلوب هو الذي يمكِّن صاحبه من مباشرة التصرف على الشيء، وهذا يتفق مع الرأي القائل بوجوب الزكاة على شخص المدين، لأنه متمكن من مباشرة التصرُّف على الدَّيْن موضوع الأداء، خاصة إذا حال عليه الحول ولم يحن موعد السداد، وهذا الرأي أقرب إلى تحقيق مصالح الفقراء وحصولهم على حقوقهم التي تعلقت بالمال في أي يد كانت (3) .
ويدعمه أيضاً ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون رغم عدم تكليفهما (4) .
المبحث الخامس
زكاة الشخصية الاعتبارية
__________
(1) د. القرضاوي: فقه الزكاة، 1/149، نقلاً عن شرح الأزهار، 1/452.
(2) ابن قدامة: المغني، 2/539.
(3) د. القرضاوي: فقه الزكاة، 1/155.
(4) المرجع السابق، 1/127 وما بعدها.(1/22)
زكاة الشخصية الاعتبارية هو الموضوع الأساس في البحث، وما سواه مقدمات ضرورية له، وممن تناول هذه المسألة الأستاذ الدكتور/ الضرير قاصراً الأمر على الشركات بخاصة كأهم أنواع الشخصيات الاعتبارية التي ثار الجدل بشأن زكاتها وأفرادها، وقد ذهب الشيخ الضرير إلى أنَّ الزكاة لا تجب على الشخص الاعتباري لكونه غير مكلف من جهة، ولأنه غير مالك للنصاب، وكذلك لعدم تحقُّق شرط الإسلام في الشخص الاعتباري لكونه ليس أهلاً للتكليف، ولا يمكن أنْ يوصف بأنه مكلّف أو غير مكلّف. ثم ذكر رأي الدكتور/ شوقي إسماعيل شحاتة والذي يرى وجوب الزكاة على الشركات كشخصية اعتبارية، بحسبان أنَّ الشركة المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة، وبناءً على أنَّ الزكاة تكليف متعلق بالمال نفسه فإنها تجب على الشخص الاعتباري حيث لا يشترط التكليف الديني وأساسه البلوغ والعقل، قياساً على زكاة الماشية وأنَّ الخلطة فيها قد خصت بخصوصية تراجع الخلطاء فيما بينهم بالسوية على التفصيل الذي ذكره، وأنَّ الشركة في المال هي شركة أموال بالمفهوم المعاصر، وليست شركة أشخاص، وأنَّ الشركة في الماشية تكون على وجه المخالطة لا الملك ومؤداها أنَّ الزكاة تجب في مال الشركة المجتمع ككل وليس في مال كل شريك على حده وانفراد.
وعلى هذا القول لا يعفى من زكاة الأسهم في الشركات المساهمة أحد من المساهمين ولو كانت حصته سهماً واحداً (1) .
ثم ذكر الأستاذ الدكتور/ الضرير أهم أدلة د. شحاتة على رأيه القائل بوجوب الزكاة على الشخصية الاعتبارية (الشركات)، وهي:
[أ] الشركات المساهمة لها شخصية اعتبارية مستقلة.
[ب] الزكاة تكليف متعلّق بالمال نفسه.
[ج] لا يشترط في المكلّف بالزكاة التكليف الديني الذي أساسه البلوغ والعقل.
[د] القياس على زكاة الماشية الخلطة.
__________
(1) بحوث المؤتمر العلمي الأول للزكاة، ص 42-43.(1/23)
وقد اتفق الأستاذ الدكتور/ الضرير مع د. شحاته على الثلاثة الأولى وخالفه في الرابعة، لعدم توافر الملك التام للشركة، وقال: إنَّ حديث الدكتور عن زكاة الماشية وما يترتب على الخلطة يدل على أنَّ الأسهم في شركات المساهمة مملوكة للمساهمين وليست مملوكة للشركات، لأن الأسهم لو كانت مملوكة للشركة فإنَّ الحديث عن الخلطة لا يكون له محل، لأنَّ المالك يكون واحداً هو الشركة، ولا مكان للخلطاء. ومضى إلى القول بأنَّ استدلال د. شوقي على وجوب الزكاة على الشركة قياساً على زكاة الماشية غير مفهوم، لأنَّ الشركة إذا كانت تخرج الزكاة أصلاً عن نفسها لأنها مالكة للسهم فإنَّ الخلطة لا تتحقق، وإنَّما تتحقق الخلطة وتحتاج إلى بيان الحكم فيها إذا كانت الزكاة واجبة على المساهمين والشركة تخرجها نيابة عنهم.
وهذا الاعتراض أراه غاية في الوجاهة، لأنَّ القول بالخلطة يدل على أنَّ هناك ملاكاً للمال الخليط، ولم يكن د. شحاتة في حاجة إلى هذا القياس ما دام أنه يرى تعلق الزكاة بالشركة دون المساهمين.
ثم أورد الأستاذ الدكتور/ الضرير رأيه في المسألة، وهو أنَّ المساهم هو المالك للأسهم وأنَّ الشركة تخرج الزكاة نيابة عنه وليس للشركة أنْ تخرج زكاة أسهمه إذا لم يوافق على ذلك. ويرى أنَّ هذا الرأي هو الصواب والذي يجب الأخذ به (1) .
وهو موضع نظر لما ذهب إليه د. شحاتة في بعض أدلته، ولما سنذكره في رأي د. أحمد علي عبد الله، ومؤيدات سنسوقها لاحقاً بإذن الله تعالى.
__________
(1) انظر: بحوث المؤتمر الأول للزكاة، ص 57. ويرى بروفيسور الضرير أنَّ هذا الرأي هو الذي أخذ به مؤتمر الزكاة الأول في دولة الكويت (1404هـ ـ 1984م)، ومجمع الفقه الإسلامي المنعقد بجدة في (1408هـ ـ 1988م). والذي يظهر لي أنَّ هذه القرارات قد تعلقت بزكاة الأسهم، وموضوع البحث يتعلق بزكاة الشخص الاعتباري، والأمر يحتاج إلى تفصيل في بحث قادم ـ إنْ شاء الله تعالى ـ.(1/24)
فدكتور أحمد علي عبد الله يتفق مع د. شحاتة فيما ذهب إليه من القول بتعلق الزكاة بالشركة وليس المساهمين، ويرى د. أحمد أنه إذا كانت الشخصية هي الخاصية التي يصبح بموجبها الشخص متمتعاً بالحقوق، وملتزماً بالواجبات، وأهلاً للإلزام والالتزام، فإنَّ الشخصية الاعتبارية مكلّفة قانوناً وشرعاً، ولها أهلية تمكنها من أداء كل الالتزامات الواجبة في حقها، وهو ما خلصنا إليه في مبحث سابق. ويرى بناءً على ذلك أنه يجوز فرض الزكاة مباشرة على الشركات ذات الشخصية الاعتبارية، وأنَّ الزكاة عبادة وحق مالي ولذلك أوجبها جمهور الفقهاء على عديمي الأهلية وناقصيها لهذا الاعتبار مع عدم صلاح أهليتهم بشرط التوجه بالزكاة إلى الله تعالى، وينبغي معاملة الشخص الاعتباري ذات المعاملة (1) .
وفي رأيي أنَّ هذه الحُجَّة من أقوى الحجج التي يمكن أنْ تساق في هذه المسألة، وذلك لأنَّ الرأي الراجح عند الفقهاء والتي يؤيده كثير من النصوص والأدلة هو وجوب الزكاة على الصبي والمجنون (2) ، وهما ناقصا الأهلية ـ أي أهلية الأداء ـ أو عديماها، وهو القدر المتفق عليه بالنسبة للشخص الاعتباري، وقد نظروا في ذلك إلى الأدلة التي أوجبت الزكاة في المال بغض النظر عن صاحبه، والأدلة التي نظرت إلى المصلحة المتحققة من إخراج الزكاة، وإنها حق الفقير والمسكين، وسنذكر فيما يلي ما يؤكد هذه الحُجَّة ويدلل على جواز أخذ الزكاة من الشخص الاعتباري، وهي:
__________
(1) بحوث المؤتمر العلمي الأول للزكاة، ص 57.
(2) د. القرضاوي: فقه الزكاة، 1/126-138، انظر المسألة تفصيلاً.(1/25)
[1] ما جاء في "الإحكام في أصول الأحكام" قوله: "فإنْ قيل: إذا كان الصبي والمجنون غير مكلّف فكيف وجبت عليهما الزكاة والنفقات والضمانات؟ وكيف أمر الصبي المميز بالصلاة؟ قلنا: هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل الصبي والمجنون، بل بماله أو بذمته، فإنه أهل للذمة بإنسانيته المتهيئ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ" (1) .
ومما لا خلاف فيه بين الفقهاء أنَّ للشخص الاعتباري ذمة مالية كذمة الصبي والمجنون، والزكاة كما ورد متعلقة بالمال والذمة، ولا اعتبار لأهلية الأداء فيها من جهة، وهذا ما جاء في "المبسوط": "فأصل الوجوب ثابت بإيجاب الله تعالى، وسبب الوجوب ما جعله الشرع سبباً وهو المال، والواجبات تضاف إلى أسبابها، ولكن المال سبب باعتبار غنى المالك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - : (أعلمهم أنَّ الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) (2) .
[2] وكذلك فإنَّ إيجاب الزكاة على مال الصبي أو المجنون ـ وهما عديما أو ناقصا الإرادة ـ قد نظر فيه إلى المصلحة المتحققة من الزكاة، وأخذ الزكاة من مال الشخصية الاعتبارية يحقق هذه المصلحة بصورة أكبر، واعتبار هذا المقصد ورد في "المجموع": "قال الإمام المعتمد أنَّ مقصود الزكاة سد خلة الفقير من مال الأغنياء شكراً لله تعالى، وتطهيراً للمال، ومال الصبي قابل لأداء النفقات والغرامات، إذا ثبت هذا فالزكاة عندنا واجبة في مال الصبي والمجنون بلا خلاف، ويجب على الولي إخراجها من مالها" (3) .
__________
(1) الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام، 1/130.
(2) الميسوط للسرخسي، 2/149، وانظر: المنتقى للباجي، 2/110.
(3) النووي: المجموع، 5/330.(1/26)
وكذلك الشخص الاعتباري إذا توافرت شروط الزكاة الأخرى يجب إخراج الزكاة من ماله وعلى مَنْ يمثله إخراجها عنه، وقريباً من هذا النظر ما جاء عن الإمام أحمد، والذي قال: "لا أعرف عن الصحابة شيئاً صحيحاً أنها لا تجب، ولأنَّ المقصود من الزكاة سد الخلة وتطهير المال، ومالها قابل لأداء النفقات والغرامات كقيمة ما أتلفاه، وليست الزكاة محض عبادة حتى تختص بالمكلَّف والمخاطب بالإخراج وليهما" (1) .
[3] اتضح لنا قبلاً أنه لا مانع من ثبوت أهلية الأداء حكماً للشخص الاعتباري كالذمة، وذلك فيما لا يتعلق بالعبادات المحضة كالصلاة والصوم أو ما يتعلق بالبدن، والزكاة ليست عبادة محضة ولا تتعلق بالبدن، فقد جاء في "المغني": "الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون لوجود الشرائط الثلاثة فيها، وتخالف الصلاة والصوم، فإنها مختصة بالبدن وبنية الصبي ضعيفة عنها، والمجنون لا يتحقق منه نيتها والزكاة حق يتعلق بالمال فأشبه نفقة الأقارب والزوجات وأروش الجنايات وقيم المتلفات" (2) .
[4] إضافة إلى ذلك فقد أورد د. أحمد علي عبد الله بعض الأدلة التي تؤيد هذا الرأي، والتي منها أنَّ الشخص الاعتباري له حق التقاضي مدعياً ومدعى عليه، بالإضافة إلى أنَّ موضوع أداء الزكاة فيه مصلحة لجباية الزكاة من منبعها وبتكاليف قليلة موازنة بما يمكن أنْ يتكلفه الديوان فيما إذا طلب منه أنْ يلاحق كل مساهم (3) .
وهذه مصلحة معتبرة، ومقصود الشريعة هو مراعاة مصالح العباد المشروعة.
__________
(1) مغني المحتاج، 1/408.
(2) ابن قدامة: المغني، 3/493.
(3) بحوث المؤتمر العلمي الأول للزكاة، ص 57.(1/27)
[5] هناك أيضاً نظرة جديرة بالاهتمام، وهي التي تفسر الملك التام بالتملُّك من الأداء والقدرة على التصرُّف حتى ولو كان المال في يده ديناً في ذمته إذا لم يحن موعد سداده، فالمال أصلاً مملوك للدائن، وهو ليس متمكناً من أدائه وقت وجوب الزكاة، أما المدين فهو متمكن من أدائه، فإذا لم نقل بوجوب الزكاة في هذا المال فقد أسقطنا حق الفقير والمسكين، كما أنَّ الفقهاء قد أجازوا أخذ الزكاة من الخلطة مراعاة للتمكن من الأداء في الأخذ، وهو ما يمكن مراعاته في زكاة الشركات بخاصة وهي تمثل مجموع أموال الشركاء، لكنهم ليسوا متمكنين من مباشرة التصرُّف فيها، وأداء الشركات للزكاة عنهم يسقط عنهم أداءَها.
[6] إننا إذا لم نَقُلْ بصلاحية الشخصية الاعتبارية للملك الحكمي هذا، وهو الذي يعطيها قدراً من التصرف في أموالها؛ نكون قد جردنا الشخصية الاعتبارية من مباشرة التصرُّف في أموالها تماماً، علماً بأنَّ تصرُّف المساهم في سهمه لا أثر له على موجودات الشركة، فالموجودات لا تتأثر حقيقة إلاَّ بتصرُّفات الشخص الاعتباري، وهو ما ينبغي ملاحظته، وقد جاز للشخص أنْ يقوم بهذه المهام استقلالاً وفق ضوابط المشروعية كما هو الحال بالنسبة للشخص الطبيعي.
[7] إنَّ وجوب إخراج الزكاة على الشركات بخاصة والشخصية الاعتبارية بعامة يمكن تكييفه بالواجب الكفائي، مثل وجوب تحكيم الشريعة على الدولة المسلمة وأخذ الزكاة وغير ذلك، فإذا قامت به الشركة تحقق مقتضى التكليف وإلاَّ أثم الجميع ـ إدارة الشركة والمساهمون ـ إذا لم يقوموا بزكاة ما لديهم من مال الشركة.
لكل ما سبق فلا أرى ـ والله أعلم ـ في وجوب أخذ الزكاة من مال الشخص الاعتباري إذا توافر شرطيْ النماء والنصاب على وجه الخصوص ما يتعارض مع نصوص الشرع وقواعده، وقد تبيَّن من أقوال الفقهاء ما يؤيِّد ذلك.
الخاتمة:(1/28)
إنَّ هذا البحث قد بدأ ببيان تصوُّر لفكرة الشخص الاعتباري لدى القانونيين ـ وهم أهل الفكرة ـ وقد أورد ما قيل بشأنها من نظريات وآراء والتطوُّرات التي مرَّت بها هذه النظرية حتى استقرت على أنَّ الشخص الاعتباري هو شخص حقيقي، أي له وجود حقيقي بحسبانه كائناً اجتماعياً كالإنسان، وأنَّ الوجود يتسع للمحسوسات والمعنويات بشرط أنْ تكون هذه الكائنات لها من القيمة الاجتماعية والأهداف الإنسانية ما يستوجب تمتعها بالشخصية وهي ذات إرادة حكمية وذمة مالية مستقلة عن ذمم مَنْ كوّنها.
ثم تناول البحث نظرة القانون السُّوداني للشخص الاعتباري، وبخاصة قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م، والذي لا يتعارض مع الفقه الإسلامي، وتبيَّن أنَّ نظرته تتفق مع ما ذهب إليه الفقه الحديث، وقد حدَّد أنواع الأشخاص الاعتبارية وخصائصها وأنَّ لها ذمة مالية مستقلة وأهلية محددة، وأنَّه يتصف بصفات الإنسان عدا تلك التي تلازم الإنسان في طبيعته.
وهذا ما يؤيِّده الفقه الإسلامي، وقد بيّنا الأدلة على ذلك وما ذكره الفقهاء بشأن الذمة المالية للدولة الإسلامية والأُمَّة والأوقاف وغيرها وصحة مباشرتها للتصرُّفات، وهو ما يؤكِّد على أنَّ للشخص الاعتباري أهلية أداء حكمية كما له ذمة مالية حكمية يكاد يجمع عليها الفقهاء، وأنَّ له إرادة حكمية مستقلة عن إرادات الشركاء أو مَنْ يكونونه، وبمقتضى ذلك ثبت في البحث جواز أنْ يكلف الشخص الاعتباري شرعاً في حدود هذه الأهلية بشرط ألا يتعلَّق التكليف بالبدن أو يكون من قبيل العبادات المحضة، فهو أهل لأن يسأل في ماله وأنْ يتصرف فيه وأنْ يوصي به إلى غير ذلك.(1/29)
كما تناول البحث شرط التملُّك التام بحسبانه من الشروط التي ثار حولها جدل، وخلص البحث إلى عدة مدلولات لهذا الشرط منها أنه بمعنى التمكُّن من الأداء كما ذهب إلى ذلك الزيدية وصاحب "المغني"، ومنها أنَّه القدرة على التصرُّف وتفسير تملُّك الشركات بهذا المعنى سائغ ومقبول على أقل تقدير.
وبناءً على هذه المقدمات فقد خلص البحث إلى تعلُّق وجوب الزكاة بمال الشركة مباشرة بحسبان أنَّ الزكاة متعلِّقة بالمال كما هو الحال في زكاة الصبي والمجنون، وأنَّ المصلحة تقتضي ذلك، وأنها متمكنة من المال وقادرة على التصرُّف فيه، ويصح أنْ تكلف في حدود المال، وهو تكليف لا يتعلَّق بالبدن، وليس من قبيل العبادات المحضة.
والله تعالى أعلم، ونسأله تعالى أنْ يغفر لنا زلاتنا ويعفو عن تقصيرنا، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ..(1/30)