رسالة في
حكم الخط المحاذي للحجر الأسود
كتبه
ناصر بن حمد الفهد
ذو الحجة – 1418
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :
فهذا بحث مختصر في حكم الخط المشير إلى الحجر الأسود في صحن المطاف ، والكلام في هذه المسألة له مقدمتان ونتيجة ؛ فالمقدمة الأولى : إثبات أن هذا الخط بدعة ، والمقدمة الثانية:إثبات أن كل بدعة محرمة ، وأما النتيجة فهي أن هذا الخط محرمٌ وغير مشروع ، وحيث إن من المفترض فيمن يقرأ هذا البحث أن يكون مقراً بالمقدمة الثانية وهي في تحريم البدع لذلك لم أطل البحث بإثباتها بل اقتصرت فيه على إثبات المقدمة الأولى وهي في بدعية هذا الخط ، وقد جعلت البحث في أربع قواعد في هذا الباب وهي:
القاعدة الأولى : "أن ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لفعله في عصره وعدم وجود المانع ففعله بدعة"
القاعدة الثانية : "أن ما كان مشروعاً بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعاً بوصف الخصوص والتقييد"
القاعدة الثالثة:"أن كل ما يفضي إلى المحرم فهو محرم"
القاعدة الرابعة:"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"
هذا وما كان في هذا البحث من صواب فمن الله و الحمد لله على ذلك، و ما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه واستغفر الله تعالى عن ذلك ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
تمهيد:
ذكرت في هذا البحث أربع قواعد مستنبطة من النصوص الشرعية و قد ذكرها العلماء في كتبهم ، فأما القاعدتان الأولى والثانية فلإثبات أن هذا الخط بدعة مركبة من وجهين ، وأما القاعدتان الثالثة والرابعة فلإثبات ما ترتب عليه من بدع ومفاسد أخرى .
القاعدة الأولى :
"أن ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لفعله وعدم وجود المانع ففعله بدعة"(1/1)
وهذه القاعدة ضابطٌ مهمٌ جداً في التفريق بين البدعة وغيرها ، إذ إن كثيراً ممن إذا أحدث شيئاً استدل بأمورٍ حدثت بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحصل الاتفاق عليها على ما أحدثه ، وإذا أحكمت فهم هذه القاعدة التي ذكرها العلماء لم تلتبس عليك مسائل الباب بإذن الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :(1)
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم) 2/598..(1/2)
"إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحة ، إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه ؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين، فما رآه الناس مصلحة نظر في السبب المحوج إليه ، فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من غير تفريط منا فهنا يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه ، وكذلك إذا كان لمعارض زال بموته ، وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث ، فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لو كان مصلحة يعلم أنه ليس بمصلحة ، وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخلق فقد يكون مصلحة ... فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه فوضعه تغييرٌ لدين الله ... فمثال هذا القسم الأذان في العيدين فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة ، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته وإلا لقيل:هذا ذكرٌ لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى: {اذكروا الله ذكراً كثيرا}وقوله تعالى : {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} أو قياس على الأذان في الجمعة ، فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع ، بل يقال : ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة ، فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحدٍ أن يزيد في ذلك ... فهذا مثالٌ لما حدث مع قيام المقتضي وزوال المانع لو كان خيراً ، فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وقياس ، ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريطٍ من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما(1/3)
فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذر من أحدثه بأن الناس قد ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم، فيقال له : سبب هذا تفريطك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت قصدك إقامة رياستك ... وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من الشبه والبدع المحدثة"اهـ
وقال رحمه الله تعالى:(1)" والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة بخلاف ما كان تركه لعدم مقتضٍ أو فوات شرط أو وجود مانع وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذٍ كجمع القرآن في المصحف وجمع الناس في التراويح على إمامٍ واحدٍ وتعلم العربية وأسماء النقلة للعلم وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به ، وإنما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم لفوات شرطه أو وجود مانع ، فأما ما تركه من جنس العبادات مع أنه لو كان مشروعاً لفعله أو أذن فيه ولفعله الخلفاء بعده والصحابة فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ويمتنع القياس في مثله ... وهو مثل قياس صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف على الصلوات الخمس في أن يجعل لها أذاناً وإقامة كما فعله المروانية في العيدين"اهـ
وقال أيضاً:(2)"وما أعرض عنه ولم يفعله مع قيام السبب المقتضي لم يكن عبادة ولا مستحباً"اهـ
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى:(3)"إن سكوت الشارع عن الحكم في مسألةٍ ما أو تركه لأمرٍ على ضربين :
__________
(1) الفتاوى)26/172.
(2) الفتاوى)27/422.
(3) الاعتصام) 1/466.(1/4)
أحدهما : أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه و لا موجب يقرر لأجله و لا وقع سبب تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين ، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه الرسول صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى كتضمين الصناع ومسألة الحرام والجد مع الإخوة وعول الفرائض ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه صلى الله عليه وسلم إلى تقريره ...
والضرب الثاني:أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمراً ما من الأمور وموجبه المقتضي له قائمٌ وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت(1)إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً ... كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة مقصد الشارع إذ فهم من مقصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه"اهـ
فمما تقدم يتبين أن ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لفعله في عصره وزوال المانع فهو سنة كما أن فعله بدعة ، أما إذا تركه لأن المقتضي لفعله لم يكن موجوداً في عصره أو كان موجوداً ولكن وجد مانع فليس من هذا الباب ، ونزيد هذه القاعدة بياناً بالأمثلة التالية:
__________
(1) ينبغي أن يزاد قيد(ولا يوجد مانع) كما ذكره شيخ الإسلام فيما سبق.(1/5)
المثال الأول لما كان مقتضاه موجوداً ولكن وجد مانع: (صلاة التراويح) فإن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها ثم تركها إلى أن مات وكان المقتضي لفعلها قائماً في وقته صلى الله عليه وسلم ولكن وجد مانع وهو خشيته صلى الله عليه وسلم أن تفرض ، وهذا المانع زال بموته ، ففعلها بعد موته ليس بدعة.
المثال الثاني لما كان مقتضاه غير موجود في عصره صلى الله عليه وسلم ووجد بعده: (جمع القرآن الكريم) فهذا لم يكن المقتضي له موجوداً في عصره صلى الله عليه وسلم فإن القرآن كان ينزل عليه منجّماً بحسب الحوادث ، وإنما وجد المقتضي لجمعه في عهد أبي بكرٍ رضي الله عنه لما استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة فجمعه رضي الله عنه بموافقة جميع الصحابة.
المثال الثالث لما كان مقتضاه موجوداً في عصره صلى الله عليه وسلم ولم يوجد مانع منه : (الأذان للعيدين)فهذا كان سببه قائماً في عصره ولم يوجد مانع من تشريعه ومع ذلك لم يشرعه ففعله بدعة.
فمما سبق يتبين معنى هذه القاعدة والفرق بين البدع التي أحدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيرها مما أحدث بعده وليس ببدعة ، وبعد ذلك يقال:
مما لاشك فيه أن وضع خطٍ أو علامةٍ ليعلم من أراد أن يطوف حول البيت بداية الشوط ونهايته كان مقتضاه موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ولم يوجد مانع من وضعه إذ إن البيت لم يزل معموراً بالطائفين في وقتهم وبعده وكلهم بحاجةٍ إلى يعلموا بداية طوافهم ونهايته والحرص في ذلك الزمان على براءة الذمة وأداء العبادة على وجهها أتم وأبلغ ومع ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة من بعده ولا التابعون والأئمة مما يدل على أن فعله غير مشروع بل المشروع إبقاء الأمر كما كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ومضى عليه الصحابة والتابعون والاكتفاء بالحجر الأسود .(1/6)
فإن قيل : إن المقتضي لهذا الخط غير موجود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ،لأن سبب وضع هذا الخط هو الازدحام الحاصل في المطاف أيام المواسم مما يجعل كثيراً من الطائفين يجدون مشقة في معرفة بداية الشوط ونهايته.
فالجواب: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حج البيت في السنة العاشرة وحج معه مائة ألف من المسلمين وكانوا كلهم يستنون بسنته ويتبعونه في نسكه وهذا العدد هائل بالنسبة إلى سعة المسجد الحرام في ذلك الوقت ، وبالقطع فإنهم لم يكونوا كلهم يطوفون بقرب الحجر الأسود بل منهم القريب ومنهم البعيد ومع ذلك لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مطلق محاذاة الحجر الأسود، وأيضاً فقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت:"شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي " ، فقال:"طوفي وراء الناس وأنت راكبة" ، قالت:"فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذٍ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ {والطور ، وكتابٍ مسطور}" فإذا كانت أم سلمة رضي الله عنها وهي امرأة ضعيفة مريضة طافت خلف الناس هؤلاء وهم صفوف خلف النبي صلى الله عليه وسلم فهي بعيدة عن الحجر الأسود قطعاً وهي راكبةٌ أيضاً ومع ذلك لم يشرع لها الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مطلق محاذاة الحجر الأسود وهذا واضح ، ثم إن الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً في عهد الصحابة وكانوا من أجناسٍ مختلفة من الهند والسند والفرس والروم والقبط والبربر وغيرهم ، وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ومع ذلك لم يزد الصحابة في تعليمهم على ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا الأمر في الطواف على مطلق المحاذاة ولم يجعلوا هناك علامات ولا خطوطاً لبداية الطواف ونهايته ولو كان خيراً لسبقونا إليه .
فإن قيل : فالخط بذاته ليس عبادة حتى يقال بأنه بدعة ، بل هو وسيلة لغايةٍ مشروعةٍ وللوسائل حكم الغايات.
فالجواب من وجهين:(1/7)
الأول: أن البدع قد تكون في العبادة نفسها كصلاة الرغائب مثلاً، وقد تكون في الوسيلة لها كاتخاذ المسبحة للتسبيح بعد الصلوات فهي وسيلة لغايةٍ مشروعةٍ ومع ذلك فهي بدعة ، فالبدع تكون في الوسائل أيضاً ، والخط من هذا الباب .
الثاني:أننا لا نسلم أن كل وسيلةٍ لعملٍ مشروع مشروعة كما سبق التمثيل بالمسبحة ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى(1):"لا يلزم ذلك فقد يكون الشئ مباحاً بل واجباً ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة وهو واجب مع أن وسيلته وهو النذر مكروه منهي عنه ، وكذلك الحلف المكروه مرجوح مع وجوب الوفاء به أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة وهذا كثير جداً ، فقد تكون الوسيلة تتضمن مفسدة تكره أو تحرم لأجلها"اهـ ومن هذا الباب قصة ابن مسعودٍ رضي الله عنه المشهورة مع القوم الذين تحلقوا في المسجد يسبحون الله ويهللونه بوسيلةٍ محدثةٍ فقال:"والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملةٍ أهدى من ملة محمدٍ ، أو مفتتحو باب ضلالة"فقالوا:"والله ياأبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير" فقال:"وكم من مريدٍ للخير لن يصيبه" ، فهؤلاء غايتهم مشروعة ولكن الوسيلة إليها مبتدعة لذلك أنكر عليهم ، والله تعالى أعلم.
القاعدة الثانية:
"أن ما كان مشروعاً بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعاً بوصف الخصوص والتقييد "
بمعنى أن الشارع إذا شرع عملاً وأطلقه ولم يقيّده بشيء فليس لأحدٍ من الناس كائناً من كان أن يقيده بوصفٍ وإن كان هذا الوصف قد يشمله العمل المطلق لأن هذا كما قال أبو شامة الدمشقي رحمه الله تعالى(2):"إن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع"اهـ .
__________
(1) مدارج السالكين)1/116.
(2) الباعث على إنكار البدع والحوادث) ص 166.(1/8)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى(1):"شرع الله ورسوله للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعاً بوصف الخصوص والتقييد فإن العام والمطلق لا يدل على ما يختص بعض أفراده ويقيد بعضها فلا يقتضي أن يكون ذلك الخصوص والتقييد مشروعاً ولا مأموراً به ، فإن كان في الأدلة ما يكره ذلك الخصوص والتقييد كره، وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه ، مثال ذلك : إن الله شرع دعاءه وذكره شرعاً مطلقاً عاماً فقال :{اذكروا الله ذكراً كثيراً} وقال:{ ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} ونحو ذلك من النصوص ، فالاجتماع للدعاء والذكر في مكانٍ معينٍ أو زمانٍ معينٍ أو الاجتماع لذلك تقييد للذكر والدعاء لا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده ولكن تتناوله لما فيه من القدر المشترك ، فإن دلت أدلة الشرع على استحباب ذلك كالذكر والدعاء يوم عرفة بعرفة ، أو الذكر والدعاء المشروعين في الصلوات الخمس والأعياد والجمع وطرفي النهار وعند الطعام والمنام واللباس ودخول المسجد والخروج منه والأذان والتلبية وعلى الصفا والمروة ونحو ذلك صار ذلك الوصف الخاص مستحباً مشروعاً استحباباً زائداً على الاستحباب العام المطلق ... وإن لم يكن في الخصوص أمرٌ ولا نهي بقي على وصف الإطلاق كفعلها أحياناً على غير وجه المداومة مثل التعريف أحياناً كما فعلت الصحابة والاجتماع أحياناً لمن يقرأ لهم أو على ذكرٍ أو دعاءٍ أو الجهر ببعض الأذكار في الصلاة كما جهر عمر بالاستفتاح وابن عباس بقراءة الفاتحة وكذلك الجهر بالبسملة أحياناً ... وهذه القاعدة إذا جمعت نظائرها نفعت وتميز بها ما هي البدع في العبادات التي يشرع جنسها من الصلاة والزكاة والقراءة وأنها قد تميز بوصف اختصاص فتبقى مكروهة لأجله أو محرمة "اهـ.
__________
(1) الفتاوى) 20/196.(1/9)
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى(1):"ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليلٍ توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها ، وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حد لها ، ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقتٍ دون وقت ولا حد فيه زماناً دون زمان ماعدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين ، أو ندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول، فإذا خصّ منه يوماً من الجمعة(2)بعينه أو أياماً من الشهر بأعيانها لا من جهة ما عينه الشارع فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف كيوم الأربعاء مثلاً في الجمعة(3)والسابع والثامن في الشهر وما أشبه ذلك ... فلاشك أنه رأي محض بغير دليل ضاهى به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها فصار التخصيص من المكلف بدعة إذ هي تشريع بغير مستند ، ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواعٍ من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً ... فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعاً زائداً"اهـ.
__________
(1) الاعتصام) 1/485.
(2) يعني الأسبوع.
(3) = = = .(1/10)
فإذا تقرر ما سبق ، فاعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شرع في بداية الطواف مطلق محاذاة الحجر الأسود كما اتفقت عليه النصوص التي نقلت وصف طوافه ، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال :"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن أول ما يطوف يخب ثلاثة أطوافٍ من السبع" ، وفي مسلم من حديث جابرٍ رضي الله عنه :"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم البيت أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه رمل ثلاثاً ومشى أربعاً" وفي الصحيح من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال:"طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعيرٍ يستلم الركن بمحجن" وفي رواية:"كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر" وقال أبو الطفيل رضي الله عنه:"رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر" ، والروايات المرفوعة في هذا الباب كثيرة ، وورد عن الصحابة أيضاً نحو ذلك ففي مصنف ابن أبي شيبة أن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه كان يطوف بالبيت حتى إذا حاذى الحجر نظر إليه والتفت إليه فكبر نحوه ، وورد عن التابعين نحو ذلك أيضاً ففي المصنف عن سعيد بن جبير أنه كان إذا مر بالحجر التفت إليه ولم يستلمه ، وعن مجاهد أنه كان إذا مر بالحجر نظر إليه فكبر ، وغيرها من الروايات ، فيظهر من جميع النصوص المرفوعة والموقوفة والمقطوعة أن مشروعية البدء بالحجر الأسود عند الطواف مطلقٌ لم يقيد بموضعٍ دون موضع أو بخطٍ لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، بل يكفي في ذلك مطلق المحاذاة للحجر الأسود ، فتقييد مطلق المشروع من ذلك بلا دليلٍ يدل عليه بدعة كما سبق نقله عن العلماء وكما قال أبوشامة الدمشقي رحمه الله تعالى(1):"إن المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع"اهـ ، وهذا الخط الموضوع في صحن المطاف قد قيد مطلق المحاذاة بلا دليل.
__________
(1) الباعث)ص166.(1/11)
فإن قيل : إن هذا الخط محاذٍ للحجر الأسود فهو داخل في النصوص ولم يخالفها ، وإنما القاعدة المذكورة فيمن خصّص شيئاً بلا دليل كمن خصّص يوماً معيناً أو مكاناً معيناً بصيامٍ أو قيامٍ أو عبادةٍ معينةٍ بلا دليل على تخصيصه بذلك ، أما هنا فقد قامت الأدلة على مشروعية محاذاة الحجر الأسود والخط محاذٍ له وهو المطلوب.
فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: إن الأدلة الشرعية أطلقت المحاذاة للحجر الأسود ولم تقيده بموضعٍ معين لا يتقدم عنه ولا يتأخر ، فمن قيّد هذا المطلق بموضعٍ أو بخطٍ فعليه دليل آخر غير الأدلة العامة المطلقة .
الوجه الثاني: إن تخصيص بداية الطواف بهذا الخط داخلٌ في القاعدة قطعاً ، وتوضيح ذلك : إن محاذاة الحجر الأسود أمرها واسع لا كما يوهمه هذا الخط من أن الطائف لا يكون محاذياً للحجر الأسود إلا إذا وصل إليه ، فإن المحاذاة إنما تضيق إذا اقتربت من الحجر الأسود وتتسع كلما ابتعدت عنه على كل المذاهب حتى من تشدّد في المحاذاة فأوجب محاذاة الحجر بكل البدن ورؤية ضلعي البيت فإن هذا يتحقق من مواضع متعددة أوسع مما يوهمه هذا الخط الذي حجّر واسعاً وإليك رسماً تقريبياً يبين المقصود من هذا الكلام :(1/12)
فإذا تبين هذا اتضح أنهم قيّدوا مطلق المشروع من المحاذاة بخطٍ لا دليل لهم على تعيينه ، كما لو خصّص أحدٌ يوماً بعينه بصيامٍ لا دليل له على تعيينه فإنه يقال له : هذا التخصيص بدعة ، ولو استدل بمشروعية الصيام ، لقيل له: إن مطلق الصيام مشروع أما تقييده بهذا اليوم بعينه فلا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة ولكن تتناوله لما فيه من القدر المشترك ، والتخصيص للشارع لا للمكلف ، وكذلك لو أن أحداً خصّ يوماً بصلاةٍ بلا دليل إلا مشروعية الصلاة المطلقة ، لقيل له مثل ما قيل للأول تماماً، ففي المسألتين السابقتين لا نرد عليه بنفي مشروعية الصلاة أو الصيام بل نطالبه بدليل التخصيص ولا نكتفي بالدلالات المطلقة، وكذلك مسألتنا تماماً : فلو استدل من قال بمشروعية هذا الخط بمشروعية محاذاة الحجر الأسود لقيل له :إن المشروع مطلق المحاذاة من أي موضعٍ كان ، أما هذا الخط المعين فلا تدل عليه الدلالة العامة المطلقة بخصوصه وتقييده ولكن تتناوله لما فيه من القدر المشترك ، والتخصيص للشارع لا للمكلف فتعيينه بهذه الصورة بدعة ، والله تعالى أعلم.
القاعدة الثالثة:
"كل ما أفضى إلى محرمٍ فهو محرم"(1/13)
وهذه القاعدة من باب سد الذرائع وأدلتها كثيرةٌ جداً ، فقد ذكر شيخ الإسلام ما يقرب من ثلاثين دليلاً عليها وقال(1):"وشواهد هذه القاعدة أكثر من أن تحصر" ، وذكر ابن القيم تسعة وتسعين دليلاً وقال(2):"وباب سد الذرائع أحد أرباع التكاليف فإنه أمرٌ ونهي والأمر نوعان:أحدهما مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود ، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه ، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسدة ، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين"اهـ ، وقال الشاطبي(3):"والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم و التحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة"اهـ.(4)
__________
(1) الفتاوى)3/140.
(2) إعلام الموقعين) 3/149-171.
(3) الموافقات)3/85.
(4) وانظر في الباب كتاب (سد الذرائع في الشريعة الإسلامية)لمحمد هشام البرهاني فإنه أجمع كتابٍ تناول هذه المسألة حسب علمي.(1/14)
فإذا تقرر هذا : فاعلم أن من أعظم مفاسد هذا الخط أن كثيراً من الجهال جعلوه موضعاً يلتمسون منه البركة فيتمسحون به ويتحرون الصلاة فوقه ومثل هذا العمل بدعة ووسيلة إلى الشرك ، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى(1)-تعليقاً على حديث ذات أنواط-:"ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك ، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها"اهـ، وقد رأينا هذه الأمور الثلاثة تعمل عند هذا الخط ، وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى(2):"وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها العامة ، أو يعلقون بها خرقاً ،أو غير ذلك ، أو يأخذون ورقها يتبركون به ، أو يصلون عندها ، أو نحو ذلك فهذا كله من البدع المنكرة ، وهو من عمل أهل الجاهلية ، ومن أسباب الشرك بالله تعالى "اهـ(3)، ومنه هذا الخط ، وكلام العلماء في هذه المسألة كثير ، ورحم الله أبا بكرٍ الطرطوشي حين قال(4):"فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها"اهـ.
القاعدة الرابعة:
"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"
__________
(1) فتح المجيد ) 138.
(2) الفتاوى)27/136.
(3) وانظر بقية كلامه على مسائل التبرك والتمسح وتحري بعض البقاع بالصلاة .
(4) الحوادث والبدع) ص 33.(1/15)
وهي قاعدة مشهورة من أدلتها المرفوعة الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم :"فإذا نهيتكم عن شئٍ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " ، وقد سبق ذكر قول الشاطبي رحمه الله تعالى(1):"والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة"اهـ ، والقاعدة هنا ليست على إطلاقها فقد تكون المصلحة راجحة وتتضمن مفسدة مرجوحة فلا تدخل فيها ، وإنما الكلام فيما إذا كانت المفسدة هي الراجحة أو كانتا متساويتين ، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى(2):"الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ، ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما"اهـ(3)، وقال(4):"إن الفعل إذا اشتمل على مفسدة منع منه إلا إذا عارضها مصلحة راجحة"اهـ.
فإذا تقرر ما مضى ، فاعلم بأن المفاسد المترتبة على هذا الخط كثيرة نجملها فيما يلي:
المفسدة الأولى: وهي اتخاذ كثير من الجهال له موضعاً للتبرك والتمسح وتحري الصلاة عنده وهذه بدعة ووسيلة إلى الشرك كما سبق تفصيله في القاعدة الثالثة.
المفسدة الثانية: كون هذا الخط بدعة مركبة من وجهين:
الأول: أنه لم يتخذه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا السلف مع وجود المقتضي له في عصرهم وقد سبق تفصيل هذا في القاعدة الأولى.
الثاني: أن هذا تخصيص لما أطلقه الشارع بلا دليل كما سبق تفصيله في القاعدة الثانية.
__________
(1) الموافقات)3/85.
(2) الفتاوى)30/193، وانظر في تعارض المصالح والمفاسد 20/48-61،29/48،228،483،492.
(3) وانظر في ذلك : (الأشباه والنظائر)للسيوطي ص 87، ولابن نجيم ص 90 .
(4) الفتاوى)29/483.(1/16)
المفسدة الثالثة:أنه سبّب حرجاً على المسلمين من جهة التزام كثير منهم الابتداء منه والانتهاء إليه والتحرّج من عدم الوقوف عنده والوصول إليه مع أن الأمر في ذلك واسع مادام محاذياً للحجر الأسود ، وهذا الخط لم يعرفه السلف ولم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة حتى يلتزم المسلم به.
المفسدة الرابعة:أنه سبّب حرجاً على المسلمين وتضييقاً لهم من جهة الازدحام الحاصل بسببه إذ إن كثيراً ممن يطوف يقف عنده إذا وصل إليه ، وكثير ممن يريد الطواف يشق الصفوف حتى يصل إلى هذا الخط مما جعله موضعاً مكتظاً بالناس عائقاً للطائفين ، فإن قيل : حتى لو لم يكن هذا الخط موجوداً فلا بد لمن أراد الطواف من محاذاة الحجر الأسود فالزحام حاصل به وبدونه ، فالجواب: أن الأمر في ذلك واسع لا كما يوهمه هذا الخط أن الطائف لا يكون محاذياً للحجر الأسود إلا إذا وصل إليه فلا يحصل مثل هذا الازدحام وقد سبق تفصيل ذلك في القاعدة الثانية .
وبعد:
فإذا نظرت إلى هذه المفاسد المترتبة عليه ، ثم نظرت إلى المصلحة من وضعه وهو إعانة الطائفين على معرفة بدء الطواف عن يقين لما ترددت في الحكم بإزالته لأن المفاسد أرجح من هذه المصلحة الموهومة بأضعافٍ مضاعفة ، ويقال في هذه المصلحة المذكورة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى(1):"فإن كل ما يبديه لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "اهـ ، وكما قال الشاطبي رحمه الله تعالى(2):"إن المعنى المقتضي للإحداث وهو الرغبة في الخير كان أتم في السلف الصالح وهم لم يفعلوه ، فدل على أنه لا يفعل"اهـ.
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
لمزيد من الرسائل تفضل بزيارة موقع ناصر بن حمد الفهد
http://www.al-fhd.com
__________
(1) الاقتضاء)2/598.
(2) الاعتصام)1/475.(1/17)