رسالة في الزيادة التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية
الدكتور / عبدالرحمن بن حسن النفيسة
وما إذا كانت تجوز للمسلم
الأخ الدكتور- سيد جهانكير مدير مركز اللغة العربية بمعهد اللغات في مدينة حيدرآباد في الهند.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد تسلمنا كتابكم الأخوي الذي تشيرون فيه إلى أن مسلمي الهند يتبعون المذهب الحنفي، وقد تباينت آراء العلماء هناك حول الزيادة البنكية التي ينص عليها القانون الهندي ؛ فمنهم من يرى جوازها، ومنهم من يرى عدمه. وتسألون عن الرأي الراجح في ذلك، بصرف النظر عما تطرق له الفقهاء في الماضي عن مسألة دار الحرب، ودار الإسلام .
نشكركم أولاً على رسالتكم وعلى مشاعركم الإسلامية، ونرجو لكم ولإخوانكم في المركز الثبات، وأنتم في بلد كبير تحافظون فيه على دينكم، كما نرجو لكم ولإخوانكم في المركز التوفيق في جهودكم العلمية وندعو الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
أما سؤالكم فقبل الجواب عنه تحسن الإشارة بإجمال إلى نظرة الإسلام إلى المال، وحكمه في الربا؛ لأن السؤال الذي يطرحه من لا يعرف حقيقة الإسلام هو: لماذا حرم الإسلام الربا؟ وما هي العلة في تحريمه ؟ وقد يكون الجواب عن هذا سهلاً فيقال: إن الله حرمه لأنه وسيلة يستغل بها الإنسان القوي الإنسان الضعيف لكونه زيادة على البيع الذي أحله الله في قوله عز وجل: وأحل الله البيع وحرم الربا(1). وقد يقال إن الله حرمه لأنه عمل من أعمال الجاهلية، وقد حرم الله هذه الأعمال لفسادها. وقد يقال إن تحريم الربا حكم رباني قضى الله به على عباده فليس لهم خيار فيه لأن الله تعالى قال في محكم كتابه: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (2).(1/1)
وأياً كان التعليل، أو التأويل، فإن الإسلام لما حرم التعدي على المال نظر إليه على أنه وسيلة لحياة الإنسان، ووسيلة لحياة الأمة، وليس وسيلة للجمع والكنز. وقبل أن نبحث هذه الوسائل بإيجاز سنبحث كذلك بإيجاز تحريم التعدي على المال .
لا مراء في أن من طبيعة الإنسان حب المال، وقد أخبر الله عن هذه الطبيعة في قوله عز وجل: فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (3). وقال جل ثناؤه: وتحبون المال حبا جما(1). كلا إن الإنسان ليطغى"(2). أن رآه استغنى(3). وحتى لا يؤدي هذا الطغيان إلى اعتداء الإنسان على مال الآخر، نهى الله نهي تحريم عن هذا التعدي فقال تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون(4). وقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم(5). وقال جل ثناؤه: إن الذين يأكلون أموال اليتامى" ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (6). وقال تقدست أسماؤه: يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله(7). ففي هذه الآيات عدة أحكام، أولها: أن الله حرم أكل المال إذا كان من طرق غير مشروعة كالربا، أو القمار، أو الخداع، أو الغصوب، أو سلب الحقوق أو انتقاصها، أو الرشا، أو الكذب، ونحو ذلك من الأعمال غير المشروعة. وثانيها: أن الله نص على أموال اليتامى بحكم خاص بسبب ضعفهم، وعدم قدرتهم على الدفاع عن حقوقهم؛ فاقتضى ذلك التشديد في عقوبة من يتعدى على أموالهم. وثالث الأحكام: أن الله سمى هذا الأكل بالباطل أي الزائف الزائل. ورابع الأحكام: أن الاستثناء وقع فقط على التجارة المبنية على التراضي، وما عدا ذلك يعد تعدياً وظلماً يجزى عليه صاحبه. وخامس الأحكام: نعت الله للأحبار والرهبان بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله،(1/2)
وذلك لأنهم كانوا يأكلون أموال متبوعيهم بما يفرضون عليهم من الضرائب والأجور والرسوم بحجة حمايتهم لدينهم، والتقرب إلى الله بما يفعلونه مع مخالفتهم في ذلك لأوامر الله، وصدهم أتباعهم عن اتباع الدين الصحيح.
هذا في كتاب الله، أما في سنة رسوله فقد حذر عليه الصلاة والسلام أمته في حجة الوداع من التعدي على الدماء والأموال والأعراض فقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) (1). وهذا يدل على حرمة المال وكون التعدي عليه دون حق من أشد الحرمات وأعظمها عند الله .
المال وسيلة لحياة الإنسان:
المال ليس غاية في ذاته، أو صفته، أو كثرته، وإنما هو وسيلة لحياة الإنسان ذاته لتحقيق رغباته المشروعة؛ فهو ملزم حكماً بالإنفاق على نفسه من ماله، وهذا الإلزام قائم ليس لأنه مشروع فحسب، بل قائم أيضاً بحكم الضرورة لحفظ النفس، بوصف هذا الحفظ من الضرورات الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة. وأسوأ أنواع البخل أن يبخل الإنسان بماله على نفسه؛ فيكون بذلك آثماً لأنه آثر المال عليها مما يتعارض مع الغاية منه، وهو ملزم أيضاً بالإنفاق على ولده، ومن تلزمه نفقته. وأسوأ أنواع البخل أيضاً أن يبخل بماله على ولده فيكون بذلك آثماً لقول رسول الله : (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته)(1).(1/3)
والمال في حياة الإنسان ليس لضروراته فحسب بل لزينته ومتعته فهو زينة فيما أحل الله، وقد سماه الله بهذا الاسم في قوله تعالى: المال والبنون زينة الحياة الدنيا (2). وقوله عزوجل: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(3). ولكن هذه الوسيلة في نوعيها الضروري، وغير الضروري محكومة بالوسطية والاقتصاد في إنفاق المال، لأن الإسراف فيه يعد ضياعاً وتبذيراً له ناهيك بأن الإسراف فيه وسيلة للبحث عنه بأي وسيلة ولو كانت غير مشروعة، وهذا هو ما نهى الله عنه في قوله عزوجل: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (4).
وإذا كان المال وسيلة لحياة الإنسان في فرديته، فهو وسيلة وضرورة لحياة الأمة في عمومها، لأن الله عز وجل لما أراد من عباده أن يعمروا الأرض في قوله عز وجل: هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها(1). أراد منهم أن يسعوا فيها لتوفير معاشهم في حياتهم عملاً بقوله عز وجل: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض(2). وقوله: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها(3). فالأمة بهذا مأمورة بالعمل من أجل الحصول على المال، ولكن الغاية منه تختلف عن تلك التي يتبناها الفكر الاقتصادي المادي المعاصر، وهي إشباع الرغبات من متع الحياة.(1/4)
الإسلام ينظر إلى المال للأمة على أنه وسيلة لحماية العقيدة، ويتمثل هذا في مدافعة الأعداء كما في قول الله عزوجل: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا(4). وقوله: وجاهدوا في الله حق جهاده(5). وقد عرف المسلمون الأُوَلُ المعنى من المال ؛ فأبو بكر -رضي الله عنه- كان ينفق أمواله في سبيل الله، فيشتري المستعبَدين والمعذَّبين من الرجال والنساء في مكة فيعتقهم، فقال له أبوه أبو قحافة: يا بني إنّيأراك تُعتق رقاباً ضعافاً فلو أنك اعتقت رجالاً جُلداً يمنعونك ويقومون دونك ؟ فقال له أبو بكر: يا أبت إنما أريد ما أريد (1). فنزل فيه قول الله تعالى: فأما من أعطى" واتقى(2). وصدق بالحسنى(3). فسنيسره لليسرى(4). ولم يكن هذا شأن أمية بن خلف أحد مشركي قريش؛ فقد بخل بماله واستغنى به لنفسه فنزل فيه قول الله: وأما من بخل واستغنى(5). وكذب بالحسنى(6). فسنيسره للعسرى(7). وما يغني عنه ماله إذا تردى (8).
وكما كان أبو بكر يبذل المال لحماية العقيدة، كان عثمان -رضي الله عنه- يهدي ثلاث مئة بعير بأحلاسها وأقتابها لجيش المسلمين(9). وكان تجار الصحابة يفعلون ذلك لأنهم يرون أن من وظائف المال حماية العقيدة (10).
والإسلام ينظر إلى المال على أنه وسيلة للعدل والإحسان، وهذا هو معنى قول الله عز وجل: إنما الصدقات للفقراء والمساكين إلى قوله: وابن السبيل فريضة من الله (1). كما ينظر إليه على أنه وسيلة لمواساة المحرومين، والمنقطعين، ومن لا يستطيعون الكسب، وهذا هو معنى قول الله عزوجل: وآتوهم من مال الله الذي آتاكم(2). وقوله جل ثناؤه: والذين في أموالهم حق معلوم(3). للسائل والمحروم (4).
وفي الإجمال ينظر الإسلام إلى المال على أنه لمصلحة الأمة كلها مما يسمى في علم التنمية المعاصر "تنمية الأمة" بما يشمل مرافق حياتها من طرق، وجسور، وتربية، وتعليم، وتطبيب ونحو ذلك مما تحتاجه الأمة، وأجيالها في مراحل حياتهم .(1/5)
وكما ينظر الإسلام إلى المال على أنه وسيلة لحماية العقيدة، ووسيلة للعدل والإحسان والمواساة والتنمية في عمومها ينظر إليه على أنه وسيلة للإنفاق في الوجوه المشروعة، وليس وسيلة للكنز وقد ورد الأمر بالإنفاق في آيات كثيرة من كتاب الله، منها قول الله تعالى: وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه(5). كما ورد البيان فيه بأن الإنفاق مما يتضاعف به الأجر وذلك في قول الله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء(1). وقوله جل ثناؤه: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين(2). وقد جاء الذم لكنز المال وجمعه في آيات عدة؛ فتارة ورد النص صراحة على المآل والعذاب الذي سيؤول إليه من يكنزونه ولا ينفقونه في سبيل الله كما في قول الله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم(3). يوم يحمى" عليها في نار جهنم فتكوى" بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (4).(1/6)
وتارة ورد النص على سوء فعل الذين يجمعون المال لمجرد الجمع والتفاخر به على غيرهم، واعتقادهم أن قوتهم تكمن فيه، وأنه سيمكن لهم في الأرض، ويمنع عنهم العذاب. وقد ذكر الله عدداً من هؤلاء منهم الوليد بن المغيرة المخزومي الذي كان له مال فعتى وطغى، وكان يقول: أنا الوحيد بن الوحيد وليس لي من العرب نظير فقال الله فيه: ذرني ومن خلقت وحيدا(1). وجعلت له مالا ممدودا(2). إلى قوله: سأصليه سقر(3). ومن هؤلاء الأخنس بن شريق، وقيل الوليد بن المغيرة، وقيل جميل بن عامر الثقفي، فقد كان هذا جامعاً للمال، مكثراً له، معرضاً به عن سبيل الله؛ فنزل فيه قول الله: ويل لكل همزة لمزة(4). الذي جمع مالا وعدده (5). يحسب أن ماله أخلده (6). ومن هؤلاء أبو لهب عم رسول الله فلم يغن عنه ماله وكسبه وقوته حيث توعده الله بالعذاب في قوله عزوجل: ما أغنى" عنه ماله وما كسب (7). سيصلى" نارا ذات لهب (8).
قلت: ولما كان المال وسيلة للإنفاق في سبيل الله، وفي مختلف الوجوه المشروعة ومنها تنمية الأمة، فإن ذلك مما يتعارض مع الربا في غايته لأن هذه الغاية جمع المال وكنزه، والعمل على زيادته. وقد دلت الوقائع المشهودة أن المرابين لا يضعون أموالهم إلا لأجل زيادتها بأخذهم الزيادة على القروض المترتبة على المقترضين، الذين هم في غالبهم من الفقراء والضعفاء؛ وهو ما كان عليه العمل في الجاهلية مما حرمه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد .(1/7)
ولا شك أن المال بهذه الصورة من الربا يتكدس في فئة قليلة من الناس، ولا تستطيع الأمة الاستفادة منه وهذا هو المشاهد في بعض الدول التي يقوم نظامها على الربا؛ ففي بلد واحد في آسيا خمسة ملايين مدين يعدون في حكم الأرقاء لدائنيهم بسبب عجزهم عن سداد ديونهم. وفي بلدان أخرى يوجد ملايين من الناس يعيشون تحت خط الفقر رغم أن هذه البلدان تعد من البلدان المتقدمة. ولا يخفى ما تعانيه اليوم دول عدة من ديون تراكمت عليها بسبب زيادات القروض، ولن تستطيع هذه الدول الخلاص من هذه الديون إلا بعد خمسين أو سبعين سنة على افتراض تحسن ظروفها الاقتصادية، كما لا يخفى ما تعانيه اليوم معظم الشعوب من الفقر، والمجاعة، وتخلف التنمية بسبب النظام الربوي القائم على الاستغلال، وجمع وكنز المال لدى فئة قليلة من الأغنياء. ولهذا بيَّن الله لرسوله محمد أن المال يجب ألا يكون دولة بين الأغنياء قال تعالى: ما أفاء الله على" رسوله من أهل القرى" فلله وللرسول ولذي القربى" واليتامى" والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم(1). والمقصود ألا يكون الفيء الذي رده الله على رسوله من أموال الأعداء (دُوْلَة) أي متداولاً بين الأغنياء. قال الإمام القرطبي في معنى هذه الآية: "فعلنا ذلك في هذا الفيء كي لا تقسمه الرؤساء والأغنياء، والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء، لأن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا أخذ الرئيس ربعها لنفسه، وهو المرباع ثم يصطفي منها أيضاً بعد المرباع ما شاء.. يقول: كي لا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية. فجعل الله هذا لرسوله يقسمه في المواضع التي أمر بها ليس فيه خمس" (2).(1/8)
قلت: هذا من حيث العموم عن نظرة الإسلام إلى المال، أما المسألة محل السؤال وهي الزيادة البنكية التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية، وما إذا كانت تجوز للمسلم، فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن -خلافاً لأبي يوسف- جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب، كما يجوز بيعهم الميتة والمقامرة معهم، واستدلا على ذلك بما ذكر عن مكحول(3) عن رسول الله أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب)(1)؛ وبما ذكر أن مشركي قريش قالوا لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قبل الهجرة حين أنزل الله الجم". غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين(2). ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أنّ الروم تغلب فارس، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: صدق صاحبي، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا (3) على أن نضع بيننا وبينك خطراً فإن غلبت الروم أخذت خطرنا وإن غلبت فارس أخذنا خطرك؟ فخاطرهم أبو بكر -رضي الله عنه- على ذلك ثم أتى رسول الله وأخبره فقال: (اذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد في الأجل)، ففعل أبو بكر -رضي الله عنه- وظهرت الروم على فارس فبعث إلى أبي بكر أن تعال فخذ خطرك فذهب وأخذه، فأتى النبي به فأمره بأكله (4). وهذا القمار -على هذا القول- لا يجوز بين أهل الإسلام، وقد أجازه رسول الله بين أبي بكر، وهو مسلم وبين مشركي قريش لأنه كان بمكة في دار الشرك حيث لا تجري أحكام المسلمين. كما استدل الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بقصة ركانة فقد قال هذا لرسول الله وهما في أعالي مكة: هل لك أن تصارعني على ثلث غنمي فقال رسول الله : (نعم)، وصارعه فصرعه إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردها عليه تكرماً منه (1). وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين قلت: هذا من حيث العموم عن نظرة الإسلام إلى المال، أما المسألة محل السؤال وهي الزيادة البنكية التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية، وما إذا كانت تجوز(1/9)
للمسلم، فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن -خلافاً لأبي يوسف- جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب، كما يجوز بيعهم الميتة والمقامرة معهم، واستدلا على ذلك بما ذكر عن مكحول(3) عن رسول الله أنه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب)(1)؛ وبما ذكر أن مشركي قريش قالوا لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- قبل الهجرة حين أنزل الله الجم". غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين(2). ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أنّ الروم تغلب فارس، فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: صدق صاحبي، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا (3) على أن نضع بيننا وبينك خطراً فإن غلبت الروم أخذت خطرنا وإن غلبت فارس أخذنا خطرك؟ فخاطرهم أبو بكر -رضي الله عنه- على ذلك ثم أتى رسول الله وأخبره فقال: (اذهب إليهم فزد في الخطر وأبعد في الأجل)، ففعل أبو بكر -رضي الله عنه- وظهرت الروم على فارس فبعث إلى أبي بكر أن تعال فخذ خطرك فذهب وأخذه، فأتى النبي به فأمره بأكله (4). وهذا القمار -على هذا القول- لا يجوز بين أهل الإسلام، وقد أجازه رسول الله بين أبي بكر، وهو مسلم وبين مشركي قريش لأنه كان بمكة في دار الشرك حيث لا تجري أحكام المسلمين. كما استدل الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بقصة ركانة فقد قال هذا لرسول الله وهما في أعالي مكة: هل لك أن تصارعني على ثلث غنمي فقال رسول الله : (نعم)، وصارعه فصرعه إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردها عليه تكرماً منه (1). وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين المسلم والحربي والعلة في هذا "أن مال الحربي مباح، ولكن المسلم بالاستئمان ضمن لهم ألا يخونهم وألا يأخذ منهم شيئاً إلا بطيبة أنفسهم، فهو يتحرز عن الغدر بهذه الأسباب ثم يتملك المال عليهم بالأخذ لا بهذه الأسباب، وهذا لأن فعل المسلم يجب حمله على أحسن الوجوه ما أمكن، وأحسن الوجوه هذا القول" (2). أي القول بالتعامل(1/10)
بالربا في دار الحرب بين المسلم والحربي.
هذا ما مناطه التعامل بين المسلم والحربي في دار الحرب، أما بالنسبة للمسلمين في دار الحرب فلا يجوز بينهم إلا ما يجوز في دار الإسلام، لأن مال كل واحد منهم معصوم متقوم .
قلت: وهذا مجمل ما ورد في المذهب الحنفي باختصار (3). أما في مذهب الإمام مالك فقد قال عبد الملك(1) من أصحاب الإمام مالك بما قال به الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد، أما عند الإمام مالك فلا يجوز الربا بين الحربي والمسلم في دار الحرب، ولا في غيره، فإن قال قائل إن غير المسلم لا يخاطب بفروع الشريعة؛ فالمسلم مخاطب بها (2).
وفي مذهب الإمام الشافعي لا فرق في تحريم الربا بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواء جرى بين مُسْلِمَيْنِ أو مسلم وحربي وسواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره (3).
الإسلام ودار الحرب، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواء جرى بين مُسْلِمَيْنِ أو مسلم وحربي وسواء دخلها المسلم بأمان أم بغيره (3).
وفي مذهب الإمام أحمد يحرم الربا بين المسلم والحربي، وبين المسلمين في دار الحرب، كما يحرم بين المسلمين في دار الإسلام، وهو الصحيح في المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وقطع به كثير منهم، ونص عليه الإمام أحمد، وقيل لا يحرم الربا في دار الحرب، وأقرها الشيخ تقي الدين على ظاهرها (4).
وقال بتحريم الربا في دار الحرب جمهور العلماء ومنهم الإمام الأوزاعي، وإسحاق، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة كما أشير إليه.
قلت: والأصل تحريم الربا بين المسلم والحربي، وتحريمه كذلك في دار الحرب للأسباب والأدلة التالية :(1/11)
الدليل الأول- أن الربا محرم في جميع الأديان السماوية بلا استثناء؛ فقد ورد في العهد القديم: إذا أقرضت مالاً لأحد من أبناء شعبي فلا تقف منه موقف الدائن لا تطلب منه ربحاً لمالك(1). وإذا افتقر أخوك فاحمله لا تطلب منه ربحاً ولا منفعة (2). وقد خالف اليهود ذلك فأجازوا أخذ الربا من غير اليهودي مع عدم أخذه بينهم: لا تقرض أخاك ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقترض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلَهك في كل ما تمتد إليه يدك (3).
وقد ذمهم الله على ذلك في قوله تعالى: وأخذهم الربا وقد نهوا عنه(4). حيث إنهم تأولوه بأنواع من الشبه والحيل، وقوله: أكالون للسحت (5). أي المال الحرام ويدخل فيه الربا .
أما في الديانة النصرانية فقد اتفق رجال الكنيسة على تحريم الربا، فأحدهم يقول إن المرابين يفقدون شرفهم في الحياة وليسوا أهلاً للتكفين بعد موتهم، والآخر يقول إن من يقول إن الربا ليس معصية يعد ملحداً خارجاً عن الدين (1).(1/12)
أما في ديننا الإسلامي فالربا محرم في جميع صوره، والأصل في تحريمه الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول. أما الكتاب فقول الله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى" فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(2). يمحق الله الربا ويربي الصدقات(3). وقوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين(4). فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله (5). وفي هذه الآيات عدة أحكام أولها- أن الله وصف أكلة الربا بأنهم لا يقومون من قبورهم أو يوم القيامة إلا كمثل قيام من مسه الشيطان فأصبح مجنوناً تختلط مشيته، وتتعثر حركاته ؛ فيكون هذا الوصف علامة له ينظر إليه الناس بها يوم بعثهم وحسابهم. وثانيها- نفي الوصف والمماثلة بين البيع والربا؛ ذلك أن المشركين من العرب كانوا يقولون إن الربا أو الزيادة عند حلول الأجل شبيه بأصل الثمن الذي جرى الاتفاق عليه في أول العقد، فمن كان عليه دين، عليه أن يقضيه أو يزيد في الثمن، فأنكر الله ذلك وحرمه، وكذب تأويلهم بوصفهم له بصفة البيع فقال وأحل الله البيع وحرم الربا. وثالث الأحكام- أن من سمع قول الله في تحريم الربا والتزم بهذا التحريم وأعلن توبته منه فإن الله سيعفو عما مضى من فعله، فإن عاد ومات على تعاطيه بالربا فقد كفر وأصبح من أصحاب النار. ورابع الأحكام- أن الله حَكَمَ -وحكمه الحق- بأنه يمحق الربا أي يذهب بركته، وقد يكون هذا المحق ظاهراً بما يحصل للمرابين من ذهاب أموالهم التي جمعوها من الربا، وقد يكون هذا المحق غير ظاهر بما يتعرض له المال من قلة البركة، وقد يكون هذا المحق مؤجلاً لصاحبه بما سيناله في الآخرة من العقوبة. وخامس الأحكام- العفو عما قد قبض من الربا وعدم فسخه بعد نزول(1/13)
آيات التحريم مع تحريم ما تمت العقود عليه قبل نزول هذه الآيات، وهذا هو معنى قول الله تعالى: وذروا ما بقي من الربا. وآخر الأحكام- وصف الله لمن لم يتب من تعاطي الربا بالمحارب له أي المعادي له ولرسوله، ولا شك أن معاداة الله ورسوله من أشد الذنوب والخطايا وأعظمها، وفي هذا قال تعالى: إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم(1). وقال عز وجل: إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين (2).
وأما تحريم الربا في السنة فقد أكد رسول الله تحريمه في حجة الوداع حيث قال: (ألا أن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنّه موضوع كله)(3). والأحاديث في تحريمه وتعظيم هذا التحريم كثيرة منها ما رواه أبو جحيفة أن رسول الله لعن آكل الربا وموكله (4). وفي رواية ابن مسعود: وكاتبه وشاهده وقال هم سواء (5). وما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: (اجتنبوا السبع الموبقات ومنها أكل الربا) (6). وما رواه ابن حنظلة غسيل الملائكة أن رسول الله قال: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية) (7).
وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة في سلفها على أن الربا من أشد الحرمات، وأعظم الخطيئات، فقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه (1). وقد روي عن الإمام مالك أن رجلاً جاء إليه فقال: يا أبا عبدالله إني رأيت رجلاً سكران يتعاقر يريد أن يأخذ القمر، فقلت امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشر من الخمر، فقال له الإمام مالك ارجع حتى أنظر في مسألتك، فأتاه من الغد فقال ارجع حتى انظر في مسألتك فأتاه من الغد فقال له: امرأتك طالق إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشر من الربا لأن الله أذن فيه بالحرب (2).(1/14)
وفي رواية ابن وهب عن الإمام مالك أن العالية بنت أنفع زوجة أبي إسحاق الهمداني الكوفي السبيعي أم يونس بن إسحاق قالت خرجت أنا وأم محبة إلى مكة فدخلنا على عائشة -رضي الله عنها- فسلمنا عليها فقالت لنا: ممن أنتن ؟ قلنا من أهل الكوفة قالت: فكأنها أعرضت عنا فقالت لها أم محبة: يا أم المؤمنين كانت لي جارية وإني بعتها من زيد بن أرقم الأنصاري بثمانمائة درهم إلى عطائه، وأنه أراد بيعها فابتعتها منه بستمائة درهم نقداً. قالت: فأقبلت علينا فقالت: بئسما شريت وما اشتريت فأبلغي زيداً أنه أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب، فقالت لها أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي قالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى" فله ما سلف (1).
ومن السلف من شدد في عقوبة الربا بوصف صاحبه محارباً لله ولرسوله ؛ فجعلهم بهرجاً (مستباحين) أينما ثقفوا (2). أما ابن خويز منداد(3) فيرى أن أهل بلد لو اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: فأذنوا بحرب من الله ورسوله (4).
وأما المعقول في تحريم الربا فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان على الأرض، وأمره بإعمارها شرع له الأحكام التي تحكم وجوده، ومن هذه الأحكام إقامة العدل، وتحريم الظلم، واستغلال الإنسان للإنسان، ولا شك أن الربا وسيلة مطلقة لاستغلال
الضعفاء، وظلمهم، حيث يوجد اليوم ملايين من البشر هم بمثابة الأرقاء عند دائنيهم، مما يتنافى مع ما شرعه الله للإنسان، فاقتضى هذا فساد الربا حكماً وعقلاً لمنافاته لأحكام الله، وشرعه وحكمته في خلقه .(1/15)
الدليل الثاني: ضعف المرجع في جواز الربا في دار الحرب: الأساس -كما نعلم- في القول بجواز الربا في دار الحرب حديث مكحول عن رسول الله أنّه قال: (لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب)، وهذا الحديث مرسل، وفي المرسل ومدى حجيته، وقبوله كلام طويل فالمشهور عند الأحناف صحته مطلقاً (1). وقال به الإمام مالك والإمام أحمد وآخرون، وقد رده الإمام الشافعي وآخرون قال الإمام النووي: إن مذهب الشافعي والمحدثين أو جمهورهم وجماعة من الفقهاء أنه لا يحتج بالمرسل إلا إذا انضم إليه ما يعضده (2). والحجة في رد المرسل أنه "صح أن التابعين أو كثيراً منهم رووا عن الضعيف، وغير الضعيف، فهذه النكتة عندهم في رد المرسل لأن مرسله يمكن أن يكون سمعه ممن يجوز قبول نقله، وممن لا يجوز، ولا بد من معرفة عدالة الناقل فبطل لذلك الخبر المرسل للجهل بالواسطة.. وقيل ولو جاز قبول المراسيل لجاز قبول خبر مالك والشافعي والأوزاعي، ومثلهم إذا ذكروا خبراً عن النبي ، ولو جاز ذلك فيهم لجاز فيمن بعدهم إلى عصرنا، وبطل المعنى الذي عليه مدار الخبر"(3). والحجة أيضاً لدى من رده أن المسلمين أجمعوا على أن الشهادة لا يجوز فيها إلا الاتصال والمشاهدة، فكذلك الخبر يحتاج من الاتصال والمشاهدة إلى مثل ما تحتاج إليه الشهادة إذ هو باب في إيجاب الحكم واحد (1).(1/16)
هذا من حيث حجية المرسل عموماً. أما حديث مكحول فذكر الإمام الزيلعي الحنفي أنه غريب قال: وأسند البيهقي في المعرفة في كتاب السير عن الشافعي قوله قال أبو يوسف إنما قال أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله أنه قال: (لا ربا بين أهل الحرب أظنه قال: وأهل الإسلام) قال الشافعي وهذا ليس بثابت ولا حجة فيه (2). وقال فيه الإمام ابن قدامة: ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول (حديث مكحول) لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به (3).
وخالف في ذلك من المتأخرين المحدث ظفر أحمد العثماني التهانوي، فيرى أن قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن أقوى ما يكون رواية ودراية، وليس مبناه على مرسل مكحول وحده، بل له على ذلك دلائل عديدة قوية، وله سلف فيه من إبراهيم النخعي في جواز الربا في دار الحرب ووافقه على ذلك سفيان الثوري.
ثم يستدرك فيقول: "مع ذلك فلا شك في كون التوقي عن الربا أحسن وأحوط وأزكى وأحرى خروجاً من الخلاف، وهو الذي ذهب إليه شيخنا حكيم الأمة (1) وأفتى به واختاره ترجيحاً لقول أبي يوسف والجمهور" (2).
قلت: وأما قصة رهان أبي بكر مع المشركين فقد قيل إن رسول الله قال لأبي بكر هذا سحت فتصدق به(3). ولو فرض أن رسول الله أجازه على قول من قال بذلك فهذا كان قبل نزول تحريم الرهان في قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (4). وفي هذا السياق روي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه وقع للمشركين جيفة في الخندق فأعطوا بذلك للمسلمين مالاً فنهى رسول الله عن ذلك (5)، وهذا دليل على تحريم التعامل بما هو محرم سواء بين المسلمين وغيرهم، أو بين المسلمين أنفسهم، لأن العلة في المنع هو فساد المحل الذي يتم التعامل فيه .(1/17)
وما ينطبق على مسألة أبي بكر مع المشركين ينطبق على مسألة ركانة، فقد كان هذا من أشد الناس قوة في جسمه؛ فطلب من النبي أن يصارعه على ثلث غنمه وقال: يا محمد إن صرعتني آمنت بك فصارعه رسول الله فصرعه عدة مرات فأسلم على الفور. وقيل إنه أسلم عام الفتح وقد رد عليه رسول الله غنمه كلها (1).
والاستدلال بهذه القصة -كما هو في قصة أبي بكر -رضي الله عنه- أن ركانة كان مشركاً وقد راهنه رسول الله في مكة وهي ما زالت تحت المشركين، فاقتضى هذا جواز الرهان مع المشركين في ديارهم، وما يجوز فيه الرهان في دار الشرك يجوز فيه الربا ... ويرد على هذا أن هذه الحادثة كانت قبل نزول تحريم الرهان، ولم يكن هدف نبي الله الحصول على غنم ركانة، بل كان هدفه أن يبين أن قوة الإسلام المتمثلة في جسده عليه الصلاة والسلام تصرع الوثنية والشرك المتمثلة في جسد ركانة، ولهذا رد عليه الصلاة والسلام غنمه تكرماً منه. وما كان رسول الله ليفعل ذلك إلا لهذا السبب مع كرهه عليه الصلاة والسلام لهذا الرهان، حتى قبل نزول تحريمه بوصفه وجهاً من وجوه الميسر وعملاً فاسداً من أعمال الجاهلية .
الدليل الثالث: أن الربا محرم لعينه، وغايته؛ وهذا التحريم يشمل أي صفة يكون عليها. والمحرم يبقى على تحريمه في إطلاقه -مالم يستثن منه وليس هنا استثناء- ولا يتأثر هذا التحريم بالزمان أو المكان؛ فنحن حين نقول إن الزنى محرم ندرك حكماً وعقلاً أن الله حين حرمه أراد حماية عباده من الفحشاء، واختلاط الأنساب، والأمراض، وإذا خفيت هذه الحكمة على أناس بحكم جهلهم بحقيقة مراد الله فقد شاهدوا أثرها في هذا الزمان من خلال انتشار الأمراض القاتلة في مرتكبي الفواحش من الزناة ونحوهم .(1/18)
ولما كان الزنى محرماً لعينه وغايته -كالربا- فليس من المعقول أن يقال بتحريمه في مكان، وإباحته في مكان آخر، أو إباحته بين ناس، وتحريمه بين آخرين، أو بين أهل دين وبين أهل دين آخر. لأن الله تعالى لما وضع الأحكام والشرائع أراد أن يحكم بها سلوك عباده جميعاً، وهذا الحكم لا يمكن تجزئته . ولما كان الخمر أيضاً محرماً لعينه ولغايته فلا يمكن لعاقل أن يقول إن هذا النوع منه جائز، وهذا النوع الآخر منه محرم، لأن الحكم فيه وفي أصنافه وأنواعه واحد وهكذا في مختلف الأحكام الأخرى .
الدليل الرابع: أن الدار لا تعد دار حرب في المذهب الحنفي إلا بالشروط التالية: أولها- أن تجري أحكام الشرك فيها على الاشتهار. الشرط الثاني- ألا يحكم فيها بحكم أهل الإسلام، فلو أجريت فيها أحكام المسلمين وأحكام أهل الشرك لا تعد دار حرب. الشرط الثالث- ألا يتخلل بينهما بلدة من الإسلام. الشرط الرابع- ألا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمناً بأمانه الأول الذي كان ثابتاً قبل استيلاء الكفار، للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد الذمة(1).
وبحكم هذه الشروط تعد الهند متصلة بدار الحرب في بعض الجهات وبدار الإسلام في بعضها الآخر (2). فلا تنطبق عليها إذاً هذه الشروط، وبالتالي لا مجال للقول بجواز الربا فيها بين المسلمين وغيرهم.
ويجدر القول أيضاً أن مسألة دار الحرب ودار الإسلام في هذا الزمان لم تعد كما كانت ؛ فما من دولة غير إسلامية إلا وتتصل في الغالب بدار الإسلام، ويأمن فيها المسلم على نفسه، ناهيك بما أصبح في هذا العصر يحكم الدول من عهود ومواثيق أصبحت بموجبها الدول مسالمة لبعضها؛ فلا محل إذاً للاستشهاد بهذه المسألة .
وعلى هذا فإن الزيادة التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية مما يعد في حكم الربا المحرم، لا فرق في ذلك بين بلد إسلامي وغير إسلامي .
إشكالية الاستثمار:(1/19)
القول بتحريم الربا الذي تتعامل به البنوك أياً كان موقعها، وأياً كانت هويتها يدفع بالمسلم العادي إلى التساؤل عما يفعل بماله المودع في هذه البنوك هل يتخطى حاجز التحريم رغم معرفته بعظم أمر الربا أم يترك ماله تستثمره البنوك وتستحل زيادته وقد تُصْرَفُ هذه الزيادة فيما يعود عليه وعلى أمته بالضرر ؟
إشكالية لا مناص من حلها، وقد رأى فريق من الفقهاء المعاصرين هذا الحل في أخذ الزيادة، والتصدق بها رغم أن الصدقة لا تحل إلا من طيِّب المال، وربا البنوك ليس منه. ويجد هذا الرأي حجته في الواقع، وفي المآل؛ أما الواقع فهو ما يجب التعامل معه بهذا الحل رغم بساطته حتى يتبين للأمة مخرجاً من هذا الواقع. وأما المآل فإن أخذ هذه الزيادة سينفع الأمة إذا تم التصدق به على فقرائها، أو جمعياتها .
وقد أخذ بهذا الرأي مجلس مجمع الفقه الإسلامي في منظمة المؤتمر الإسلامي في جوابه على استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بما يلي: "بخصوص التصرف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية:
يحرم على البنك أن يحمي القيمة الحقيقية لأمواله من آثار تذبذب العملات بواسطة الفوائد المنجرة من إيداعاته. ولذا يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام كالتدريب والبحوث، وتوفير وسائل الإغاثة، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء وتقديم المساعدة الفنية لها، وكذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية" (1).
ومع أن هذا الحل يساعد في حل إشكالية الواقع في مسألة الربا إلا أنه لا يساعد في حل إشكالية الاستثمار؛ فليس الإشكال مجرد مئات أو آلاف من الدراهم يستثمرها صاحبها في البنك، ويأخذ زيادتها، ويتصدق بها؛ وإنما هو مليارات من الدراهم تتكدس في مختلف البنوك في البلاد غير الإسلامية، وقد يكون مجرد إرشاد أصحابها إلى التصدق بها غير كاف لإقناعهم .(1/20)
وخلال السنوات الماضية نشأ في بعض البلاد الإسلامية بنوك وضعت كل استثماراتها لمعايير تعتمد على أحكام الشريعة الإسلامية كالمضاربة والمرابحة وغيرها. وجرياً في البحث عن احتواء أصحاب المال ذوي الحساسية من الإيداع، أو الاستثمار في البنوك التي تتعامل بالربا أنشأت هذه البنوك أقساماً خاصة للخدمات المصرفية تعتمد في استثمارها على أحكام الشريعة الإسلامية، مع إخضاع هذه الخدمات لرقابة لجان شرعية مكونة من ذوي الاختصاص في الشريعة الإسلامية. ومع أن البنوك الإسلامية وأقسام الخدمات المشار إليها القائمة في البنوك التي تتعامل بالربا لا تزال في طور التجربة، فإنها تلاقي إقبالاً من بعض المستثمرين. ومع أن الحكم على هذه التجربة قد يستغرق زمناً طويلاً إلا أنها بلا شك تعد خطوات رائدة في سبيل البحث عن سبل للاستثمار تبتعد في المآل عن هذه البنوك، وتفتح للإنسان -أياً كانت ديانته- آفاقاً يتخلص بها من الربا الذي أرهقه بعد أن تدرج معه منذ ثلاثة آلاف سنة وكان السبب في فقره وبؤسه .
إن الإخوة مسلمي الهند وغيرهم من المسلمين الذين يواجهون إشكالية الاستثمار في البنوك التي تتعامل بالربا، ربما يجدون أن عليهم التعايش مع تجربة البنوك الإسلامية إن وجد منها في بلدهم، أو في بلاد أخرى. ويبقى على فقهاء الأمة وخبراء الاقتصاد الإسلامي فيها عبء كبير في تطوير الصيغ الشرعية التي يطمئن من خلالها المسلم على أنه سيجد لماله مجالاً حلالاً وآمناً ومربحاً لاستثماره.
وخلاصة ما سبق ذكره ما يلي:
- أن الله حرم التعدي على المال، وجعل التعدي عليه مساوياً للتعدي على الدم والعرض. والأصل في ذلك قول رسول الله في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام).
- المال ليس غاية في ذاته أو صفته أو كثرته وإنما هو وسيلة لحياة الإنسان لتحقيق رغباته المشروعة .(1/21)
- وكما أن المال وسيلة وضرورة لحياة الإنسان، فإنه أيضاً وسيلة مهمة لحياة الأمة في عمومها، لأن الله -عز وجل- لما أراد من عباده إعمار الأرض أراد منهم أن يسعوا فيها لتوفير معاشهم في حياتهم، وقد عرف المسلمون الأُوَلُ المعنى الشرعي من المال بوصفه وسيلة للعدل والإحسان، ووسيلة للمواساة، ووسيلة لحماية الدين، ووسيلة للمصالح العمومية للأمة .
- حرم الإسلام كنز المال والتفاخر به أو الطغيان بسببه، ولهذا فإن مراد الإسلام منه يتنافى مع الربا في غايته، لأن هذه الغاية جمع المال وكنزه والعمل على زيادته. وقد دلت الوقائع المشهودة أن المرابين لا يضعون أموالهم إلا لأجل زيادتها بأخذهم زيادة على القروض المترتبة على المقترضين، الذين هم في غالبهم من الفقراء والضعفاء، وهو ما كان عليه العمل في الجاهلية مما حرمه الله في كتابه وعلى لسان رسوله محمد .
- أمّا الزيادة البنكية التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية فيرى الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن جواز أخذ الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب، ومذهب الأئمة مالك والشافعي وأحمد على خلاف ذلك، وقال بخلافه أيضاً جمهور العلماء ومنهم الإمام الأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة .
- قلت: والأصل تحريم الربا بين المسلم والحربي وتحريمه كذلك في دار الحرب للأسباب التالية :
أولاً- أن الربا محرم في جميع الأديان السماوية بلا استثناء، والأصل في تحريمه في الإسلام الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
ثانياً- ضعف المرجع في جواز الربا في دار الحرب، وكل ما ورد فيه حديث مكحول، وهذا الحديث مرسل، وفي المرسل ومدى حجيته وقبوله كلام طويل، وقال الفقهاء عن هذا الحديث إنه غريب ومجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به .(1/22)
ثالثاً- أن الربا محرم لعينه وغايته، وهذا التحريم يشمل أي صفة يكون عليها والمحرم يبقى على تحريمه في إطلاقه - مال يستثن منه وليس هنا استثناء - ولا يتأثر هذا التحريم بالزمان أو المكان ، فحين نقول إن الزنى محرم ندرك حكماً وعقلاً أن الله حين حرمه أراد حماية عباده من الفواحش ، واختلاط الأنساب .
والأمراض ، ولما كان هذا محرماً لعينه وغايته كحال الربا فلا يقال بتحريمه في مكان وإباحته في مكان آخر ولا يقال أيضاً بإباحته بين الناس وتحريمه بين آخرين أو بين أهل دين وبين أهل دين آخر ، لأن الله تعالى لما وضع الأحكام والشرائع أراد أن يحكم بها سلوك عباده جميعاً وهذا الحكم لا يمكن تجزئته.
رابعاً: أن الدار لا تعد دار حرب في المذهب الحنفي إلا بثلاثة شروط هي : أن تجرى أحكام الشرك فيها على الاشتهار ، وألا يحكم فيه بحكم أهل الإسلام وألا يتخلل بينهما لبلدة من بلاد الإسلام وبحكم هذه الشروط تعد الهند متصلة بدار الحرب في بعض الجهات وبدار الإسلام في بعضها الآخر ، فلا تنطبق عليها إذا هذه الشروط ، وبالتالى لا مجال للقول بجواز الربا ، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن مسألة دار الحرب في هذا الزمان لم تعد كما كانت. فما من دولة غير إسلامية إلا وتتصل بالغالب بدار الإسلام ويأمن فيها المسلم على نفسه، و ناهيك بما أصبح في هذا العصر يحكم الدول من عهود ومواثيق .
وعلى هذا فإن الزيادة التي تدفعها البنوك في البلاد غير الإسلامية مما يعد في حكم الربا المحرم ، لا فرق في ذلك بين بلد إسلامي وغير إسلامي ، وهذا ما عليه جمهور العلماء .(1/23)