رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
للشيخ مصطفي الغلابيني
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم يا ملهم الصواب ، ومانح السداد ، ومنزل الكتاب لهدي العباد ، نسألك
الإعانة والتيسير ، والهداية والرشاد ، إنك على كل شيء قدير ، فاهدنا قويم النجاد ،
أما بعد فإني كاتب في هذه الأوراق اليسيرة ما يتعلق بصلاة الظهر بعد الجمعة كتابة
يرتفع بها ستار الأوهام ، وتنقشع عن وجه الحقيقة سحب الظلام ، مقيمًا على ذلك
البراهين القاطعة والحجج الواضحة الساطعة ، حتى ينجلي الصبح لذي عينين ،
ويزول الغطاء والرين ، فتبدو الشمس من برجها مشرقة الوجه ، زاهرة الطلعة ،
فلا يبقى حينئذ مقول لقائل ولا مجال لمعترض ، فالحق أحق أن يتبع ، وما الحقيقة
إلا بنت البحث ، وما القصد من هذه السطور إلا إظهار الحق وتبيان الصدق ، ولا
بد للحقيقة أن يعلو منارها ويشرق سناؤها ، فتغل كتائب الباطل وتزهق ، وتفشل
أنصاره وتمحق ؛ وقد قال بعض أساتذتنا الأعلام : ( إنما بقاء الباطل في غفلة الحق
عنه ) آخذًا هذا المعنى من قول الله سبحانه : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ( الأنبياء : 18 ) وقوله جل ثناؤه : { إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }
( الإسراء : 81 ) .
والداعي لتحرير هذه الرسالة أن بعض خطباء المساجد في مدينتنا بيروت منع
من صلاة الظهر بعد الجمعة في مسجده , فاعترض عليه بعض الفقهاء الشافعية ,
وحصل في المسألة أخذ ورد , وانقسم طلاب العلم على قسمين , فمنهم من يقول
بمنعها , ومنهم من يقول بوجوبها أو سنيتها , ومضى على ذلك أشهر , والمسألة في
ميدان البحث والانتقاد إلى أن ظهرت في هذه الأيام رسالة في الموضوع للشيخ
المرحوم علي نور الدين الشبراملسي الشافعي حكى فها أقوال الشافعية في المسألة ،
وحكم بأن صلاة الظهر بعد الجمعة مع التعدد إما واجبة مع التعدد لغير حاجة وإما(1/1)
سنة مع التعدد للحاجة ، وقد سعى في هذه الرسالة بعض المنتسبين للعلم وأغرى
بعض المثرين بطبعها وتوزيعها على العوام مجانًا .
وقد جاء في مقدمة الساعي بطبعها من الانتقاد على الخطيب ما لا يحمد ذكره ،
فقد وصفه بأنه فرق كلمة الخاصة , وشوش أذهان العامة , ثم أتبع ذلك بقوله :
( ولا يخفى ما في ذلك من الضرر المبين حيث يؤدي إلى شق عصا المسلمين ) إلى
آخر ما قال . على حين أن العامة لم تشوش أفكارهم ولم تفرق كلمتهم ، وإنما
تحزُّب بعض الفقهاء من أمثاله هو الذي نبه أفكار الخاصة وشتت أذهان العامة ،
على أن هذه المسألة خاصة بالشافعية ومن وافقهم دون غيرهم من المسلمين ، فكيف
يقال أنه شق بعمله هذا عصا المسلمين وفرق كلمتهم . وإني متكلم في هذه المسألة
على ثلاثة أبحاث : البحث الأول في الكلام على تعدد الجمعة . الثاني في الكلام
على الظهر بعد الجمعة . الثالث في عرض المسألة على الكتاب والسنة .
* * *
البحث الأول
في الكلام على تعدد الجمعة
اعلم أن الفقهاء اختلفوا في تعدد الجمعة على قسمين فمنهم من منع التعدد
مطلقًا سواء كان لحاجة أم لا ، وهو غير معتمد في المذهب كما صرحوا به . ومنهم
من أجاز التعدد بشرط الحاجة وهو الصحيح من المذهب ، وعليه أكثر الفقهاء . ثم
اختلف أصحاب هذا القول في تفسير الحاجة على أقوال ؛ فمنهم من قال : الحاجة
باعتبار من يصليها بالفعل ، ومنهم من قال : الحاجة باعتبار من يغلب حضوره .
فعلى هذين القولين يكون التعدد في بيروت ونحوها زائدًا عن الحاجة ؛ لأن الذين
يحضرونها تكفيهم مساجد أقل من المُعدة لها . ومنهم من قال : إن الحاجة باعتبار
من تلزمه الجمعة وهو المعتمد عندهم . فعلى هذا القول المعتمد وما قبله يكون التعدد
في بيروت ونحوها حتى مصر و دمشق لحاجة ، بل هو أقل من الحاجة .
( ولُباب القول ) أنه إن اعتبرتم أن الجمعة في بيروت ونحوها متعددة لغير(1/2)
حاجة فيجب الاقتصار على ما يكفي الناس لا أن نوجب عليهم صلاة الظهر بعدها
لأنها عبادة لم يأمر الله ولا رسوله بها ؛ وإن اعتبرتم أنها متعددة لحاجة بناء على
القول المعتمد فلا لزوم لصلاة الظهر بعدها لأن الإمام حينما دخل بغداد صلى فيها
الجمعة مع تعددها ولم يصل بعدها الظهر . واعلم أن منشأ هذه الأقاويل ما تعارض
من قول الإمام الشافعي وفعله ، فظاهر كلامه أنه لا يجوز التعدد ، وأما دخوله إلى
بغداد ووجوده أهلها يصلونها بمحلين أو ثلاثة ، وعدم إنكاره عليهم وصلاته معهم
سنتين - فهو دليل على إقراره التعدد إن كان لحاجة . وأما من قال : إن سكوته من
باب أن المجتهد لا يرد على مجتهد ، فمنقوض لأنه إن كان لا يجيز التعدد لحاجة
بدليل يُعدُّ سكوته على ذلك من باب رؤية المنكر وعدم إزالته ، ونُجِلُّ الإمام عن
ذلك . وإن كان يجيز التعدد لحاجة فقد قضي الأمر , ومن قال : يحتمل أن الشافعي
صلى الظهر لا الجمعة , أو أنه كان يعيد الظهر بعد الجمعة ؛ نقول له : إن الدين لا
يثبت بالاحتمال , وإن المنقول خلاف ما تحتمل وغير ما تدعي ، ولهذا أجاب عنه
جمهور أصحابه بأن تعدد الجمعة في بغداد إذ ذاك لمشقة الاجتماع لكثرة أهلها ,
وتبعهم الشيخان كالروياني ، قال في الحلية : ( ولا نص فيه للشافعي , ولا يحتمل
مذهبه غيره ) ا هـ أي لم ينص الشافعي على مسألة التعدد في حالة الاضطرار ,
ومذهبه يقتضي جوازه لأن المشقة تجلب التيسير ، وأما قول المزني في المختصر :
( ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد ) فليس فيه ما
يدل على عدم جواز التعدد لحاجة , فينبغي حمله على حالة السعة والاختيار دون
المشقة والاضطرار ، وهي فيما إذا وجد مسجد يجمعهم جميعًا لأن مسألة الإمام في
بغداد دليل على ذلك وصريحة في جواز التعدد عند الافتقار ، فسقط قول من
قال : لا يجوز تعددها ولو في حالة الاضطرار .(1/3)
وشُبهة من قال بعدم جواز تعدد الجمعة هو أنها لم تفعل في زمنه صلى الله
عليه وسلم إلا كذلك أي في مكان واحد , فلو جاز تعددها لحصل ذلك في زمنه عليه
الصلاة والسلام . ونقول في الجواب من وجوه :
الأول : أنه لم يكن من حاجة إلى التعدد لأن مسجد الرسول كان يكفيهم جميعًا
, فلا معنى حينئذ للكثرة لما هو معلوم من أن المسلمين لم يكونوا يبلغون من العدد
ما بلغوه بعد زمان النبي والخلفاء الراشدين , لكن لما اتسعت دائرة الإسلام
وكثرت فتوحاته ودخل الناس فيه أفواجًا أفواجًا في مشارق الأرض ومغاربها -
تعسر عليهم الاجتماع لإقامة الجمعة في مسجد واحد فدعتهم الحاجة إلى تعددها عملاً
بقوله عليه الصلاة والسلام : ( يسروا ولا تعسروا ) وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ( الحج : 78 ) ولأنه إن كان القصد من عدم التعدد
شعار الجمعة فالشعار حاصل أيضًا مع التعدد لحاجة .
الثاني : الحرص على الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم , وسماع خطبه
ومواعظه وأوامره ونواهيه , وأي مسلم يرغب عن الصلاة مع النبي إلى غيره .
الثالث : الحرص على اجتماع الكلمة وعدم التفرق بقدر الإمكان ؛ لأن هذا
من حِكم صلاة الجمعة لا يعدل عنه إلا لضرورة كضيق المصلى الواحد مثلاً . وقد
تفلسف بعضهم , فقال : يجب إقامة الجمعة في مصلى واحد ولو غير مسجد , وإن
حصل بذلك مشقة من حر أو برد أو مطر إلخ . وقد قاس تلك المشقة على مسألة
الجهاد والحج وإن لم يكن بين المقيس والمقيس عليه جامع ، قال بعض الفقهاء
عندنا : وذلك كرمل بيروت ونحوه ، بخ بخ . والجواب عن ذلك أن هذا القول عارٍ
عن الدليل , ومخالف لعمل الإمام الشافعي لأنه لم يأمر أهل بغداد بالاجتماع في غير
المساجد بل أقرهم على التعدد للحاجة إليه .
إني لأعجب من تجويزهم أو إيجابهم الاجتماع للجمعة في غير المسجد إن لم
يمكن فيه لأنهم منعوا التعدد بحجة أنها لم تعدد في زمن الرسول صلى الله عليه(1/4)
وسلم , فكيف يقولون بصحتها في غير المسجد مع أنها لم تفعل في زمن الرسول إلا
في المسجد [1] .
فلعمري إن هذا ترجيح بلا مرجح , فتجويزكم للمسألة الأولى يقتضي تجويز
الثانية وهو التعدد للضرورة , وهو ما أقر عليه الإمام الشافعي ولم ينكره ، فعدولكم
بلا دليل عن عمل الإمام ضرب من التعنت والأوهام .
على أنه لم ينقل عن المعصوم ولا عن الصحابة ما يدل على عدم جواز التعدد ,
وأما من قال : إن عدم التعدد في زمنهم دليل على عدم جوازه ؛ فنقول له : قد
أخطأت المرمى ، فإن كثيرًا من الأمور لم تكن في عهد الرسول ثم دعت الحاجة
والوقت إلى إيجادها ؛ منها أن القرآن لم يكن مجموعًا في عهده صلى الله عليه وسلم ,
ثم رأت الصحابة رضوان الله عليهم أن من اللازم جمعه خشية ضياعه ، وهكذا
الأحاديث الشريفة كانت العلماء تتناقلها في الصدور , ثم رأوا من المصلحة كتبها
في الدفاتر , وهكذا أكثر العلوم الدينية والعربية إلخ ، فهل يقال لا يجوز فعل ما تقدم ؟
نعم لا يجوز أن نخترع أمرًا دينيًّا لم يكن على عهد النبي إذا لم تحوج الضرورة إلى
فعله كصلاة الظهر بعد الجمعة مثلاً .
ثم إن عدم التعدد في زمانه عليه الصلاة والسلام ليس دليلاً على عدم جواز
التعدد لأنه لم يرد قول يمنعه ، ومن المعلوم المسلَّم المقرَّر أن الأصل في الشيء أن
يكون مباحًا إلا إذا ورد دليل على تحريمه أو كراهته , وأي دليل ورد في ذلك ؟
فالحق الحق عباد الله , فالحق أحق أن يتبع . إن شريعتكم سهلة سمحة لا تكلف فيها
فلا تضيقوا على أنفسكم , فنبيكم يقول : ( الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه )
وقال أيضًا في حديث آخر : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها , وحدّ حدودًا فلا
تنتهكوها , وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) .
فعلمت مما تقدم أن الحق من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى هو جواز تعدد
الجمعة متى دعت الحاجة إلى ذلك , وهو ما تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة , وأن(1/5)
المعتمد في تفسير الحاجة أن العبرة بمن تجب عليهم الجمعة صلوا أم لا , فإن كانوا
لا يكفيهم مصلى واحد صلوا في عدد يكفيهم من المساجد ، وعليه فالمساجد التي تقام
فيها الجمعة في بيروت ومصر وما ضارعهما من المدن متعددة للحاجة , بل هي
أقل من الحاجة إذ لو صلى كل من تلزمهم الجمعة لضاقت عليهم المساجد , وبقي
منهم جمّ بلا صلاة كما هو المشاهد في رمضان والأعياد .
* * *
البحث الثاني
في الكلام على الظهر بعد الجمعة
علمت في البحث السابق الكلام على التعدد وأن الحق جوازه . وإنا ذاكرون
لك في هذا الفصل الكلام على صلاة الظهر بعد الجمعة إذا تعددت ، فنقول : إن ذلك
واقع فيما إذا كان تعددها لغير حاجة , فإن الظهر تلزم بعدها في صور نذكرها لك
قريبًا ، وأما إذا تعددت لحاجة فلا ظهر بعدها مطلقًا بل هي باطلة قطعًا إن صُليت ،
ولا يقال : تُسن الظهر إذا تعددت لحاجة خروجًا من خلاف من أوجبها ؛ لأنا نقول :
بل السنة , بل الواجب تركها مراعاة لمن لم يقل بها لأنها لم يدل عليها دليل , بل
هي مخالفة لعمل الإمام الشافعي رضي الله عنه لأنه لم يصلها في بغداد ولم يؤثر
عنه قول في سنيتها مع التعدد لحاجة , فكيف نترك عمل الإمام ونعمل بغير قوله ,
إن هذا لمن العجب ، على أن التقليد للشافعي لا لهم حتى يخترعوا أقوالاً لم يقلها أو
يخالفوه أو يقولوا بغير قوله , ومع ذلك يقولون : هذا مذهب الشافعي , وما
هو بمذهبه , وقد ذكرت لبعضهم أن كتاب ( الأم ) للإمام الشافعي يطبع في هذه
الأيام , فقال : لا حاجة لنا به لأنه لا يجوز أن نعمل إلا بكلام المتأخرين ، يعني لا
يجوز له تقليد الشافعي ! ! ! فاسمع هذا واعجب .... نعم لو ظهر أن كلام الإمام
مخالف للدليل وكلام أتباعه موافق له يجب أن نترك قول الشافعي ونتبع أتباعه ؛
لأن الشافعي أمر باتباع الدليل حيثما كان , وقد صح عنه أنه قال : ( إذا صح(1/6)
الحديث فهو مذهبي ) ونكون في هذه الحالة أيضًا متابعين للشافعي لا مناقضين له ,
ويفهم هذا السر من يفهمه ويجهله من يجهله ، ولكنهم يخالفونه فيما لا دليل لهم عليه
وذلك من عدم الاطلاع على كلامه , وإهمال كتب المتقدمين التي فيها الخير كله .
وقد قال بعض الفقهاء عندنا معرضًا بالمانعين من صلاة الظهر بعد الجمعة :
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى } ( العلق : 9-10 ) على أني أفسح صدري
وأفتح أذني لسماع اعتراضه , وأجيبه عليه , وإن كان كلامه مما لا ينبغي أن يرد
عليه , فأقول : أرأيت أيها الفقيه لو أن إنسانًا صلى الظهر ست ركعات مثلاً أتدعه
يصلي أم تمنعه ؟ أرأيت لو أن جاهلاً صلى نفلاً ليس له سبب متقدم أو مقارن في
وقت من الأوقات المحظور فيها ذلك أتبيح له الصلاة أم تحظرها ؟ أرأيت أرأيت
إلخ ..
ولنرجع إلى بحثنا فنقول : إن مذهب الشافعي عليه الرحمة في هذه المسألة أن
الجمعة إن تعددت لغير حاجة في البلد الواحد في مواضع ، فالجمعة للسابق ويصلي
الباقون الظهر لفساد جمعتهم ، وإن أشكل السابق أعادوا كلهم ظهرًا , ولو أعادت
طائفة منهم الجمعة أجزأهم ذلك ، ومسألة الإشكال لا تتأتى إلا إذا اجتمعوا وتذاكروا
فظهر لكل فريق منهم ما أوقع في نفسه الريب والشك في سبقه بالجمعة ، وأما قبل
الاجتماع بالفريق الآخر الذي أقام جمعة ثانية وثالثة والتحدث معهم فلا يحصل الشك
، يدل على ذلك ما قاله الشافعي وهو قوله : ( ولو أشكل ذلك عليهم فعادوا فجمعت
منهم طائفة ثانية في وقت الجمعة أجزأهم ذلك ) ا هـ فهل يستقيم ذلك إلا بعد
الاجتماع والتحدث ؟ وإلا فكيف يحكمون بفساد جمعتهم كلهم بدون تثبت ؟ وأما إذا
لم يُعلم السابق ولم يحصل إشكال بل صلى كل فريق ظانًّا أنه السابق , ولم يطرأ
عليه ما شككه بسبقه فلا ظهر عليه وجمعته صحيحة , وهذه الصورة لم ينص عليها
الشافعي , فينبغي حملها على ما قلناه لأن الأصل عدم سبق غيره له , ولم يكن هناك(1/7)
ما يعارضه فيبقى ما كان على ما كان .
على أنه لو فرضنا أن الجمعة في بيروت ونحوها متعددة لغير حاجة - وإن
كان الواقع خلافه بناء على القول المعتمد - فلا تلزم بعدها الظهر أيضًا , والسبب
في ذلك عدم معرفة السابق بالجمعة وعدم الشك بالسبق ؛ لأن كل إنسان يصلي ظانًّا
أنه السابق , ويذهب لأشغاله , ولم يكن هناك اجتماع ولا تحادث في السابق حتى
يعلموا فساد جمعتهم أو الشك في صحتها , بل من الغريب أن الداخل إلى المسجد
من الطلبة أو العامة موطن نفسه على صلاة الظهر بعد انقضاء صلاة الجمعة بدون
تثبت ولا تحقق ، معتقدين أن الجمعة لا تجزئهم لأنها صارت عادة لهم قضى بها
التقليد الأعمى الصرف . وكيف يجوز أن يصلي المرء صلاة معتقدًا أنها لا تجزئه !
لعمري لم ينقل عن الشافعي ولا أصحابه ما يجيز ذلك بل ولا عن أحد من الأئمة
اللهم إلا بعض الفقهاء المتأخرين ، الذين لا يجوز تقليدهم لأحد من المسلمين .
هذا وممن يقول بعدم لزوم الظهر بعدها من علماء الشافعية الأحياء عَلَمان من
أعلامهم , وبحران من بحورهم لا يمكن أن ينكر فضلهما أو يجحد علمهما , وهما
الأستاذ العلامة الفقيه المحدث الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي مدينتنا بيروت ,
والشيخ الفقيه الزاهد المفضال خاتمة المحققين في المذهب الذي أطلق عليه لقب
الشافعي الصغير الشيخ عيسى الكردي ، المتوطن في دمشق الشام . وقد نقل
الموجبون لصلاتها عن كتاب الكفاية للأستاذ مفتي بيروت المتقدم ما يدل على
وجوبها أو سنيتها , وألحقوة برسالة الشبراملسي بعد طبعها وتوزيعها , فإن كانوا
يعتبرون أن كلامه ليس حجة فلا قيمة إذن لهذا النقل ولا حجة لهم به , وإن كانوا
يعتبرون أنه حجة ، فنقول لهم : إنه كتب ذلك مسايرة للفقهاء المتأخرين وقد رجع
عن هذا القول كما صرح بذلك لمن استفتاه بهذا الخصوص ، وقوله في المسألة هو
ما فصلناه سابقًا , وقد ألف بهذا الخصوص رسالة مطولة جوابًا لسائل سأله أسمعني
إياها .(1/8)
وقد نقل عدد من أهالي بيروت أن الفهامة المحدث الفقيه علامة وقته المرحوم
الشيخ محمد الحوت الكبير البيروتي صاحب التآليف النافعة لم يكن يصلي الظهر
بعد الجمعة أبدًا ، وكذا ولده العالم الزاهد الشيخ عبد الرحمن أحد القائلين بوجوبها ,
قد ثبت بإقراره أنه لا يصليها في مناظرة جرت بينه وبين بعض القائلين بعدم
مشروعيتها ، وقد راقبته مرات فلم أره يصليها .
وقد رأيت في كتاب الأجوبة العراقية للشيخ الآلوسي العلامة الشهير صاحب
التفسير كلامًا في الموضوع , قال بعد أن أورد كلام متأخري الشافعية ما نصه :
وكنت إذ أنا شافعي مقلدًا هذا القول ( وهو جواز تعددها في البلد الواحد ) فلم أكن
أصلي الظهر بعد الجمعة . نعم كنت أحيانًا أصليها في بيتي , وأنكر في قلبي على
من يصليها في الجامع بجماعة لما كنت أسمع من كثير من العوام ما يدل على
اعتقادهم أن الله تعالى فرض على العباد يوم الجمعة وليلتها ست صلوات . وما
كنت أرى منشأ لذلك أظهر من إلزام كثير من الشافعية لإقامة الظهر في المسجد
الجامع بجماعة . وأنا اليوم أرى صلاة الظهر بعدها في البيت للاشتباه في تحقق
بعض شروط الصحة , وإني ليضيق صدري ولا ينطلق لساني ) ا هـ .
________________________
(1) اللهم إلا ما ورد من إقامتها في غيره إذ كان النبي مسافرًا مع الصحابة في بعض الأسفار , ولا
حجة لهم به ؛ لأن ذلك كان في السفر لا الحضر , فإن قالوا : نحن نخرج لضرورة الضيق ؛ فنقول
لهم : نحن نعدد للضرورة نفسها , والمسألتان سواء ، على أنهم لا يعملون بهذا الحديث لأنهم
يوجبون لصحة الجمعة أربعين مقيمين , والصحابة إذ ذاك مسافرون فاحتجاجهم بشيء منه وطرح
الآخر ضرب من البعد عن الحق , وسيأتي معنا توضيح المقام في البحث الثالث إن شاء الله اهـ منه
.
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 7 ] الجزء [ 24 ] صـ 941 16 ذو الحجة 1322 ـ 20 فبراير 1905 ))
رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة
البحث الثالث(1/9)
في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله
اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم ، والعمل بسنة رسوله الرؤوف
الرحيم ، قال تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد : 24 )
وقال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } ( الحشر : 7 )
وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما:
كتاب الله وسنة رسوله ، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا
على الله ورسوله ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ( النساء : 59 ) وقال أيضًا : { إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }
( النور : 1 ) وقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } ( النساء : 65 ) فهذه الآيات
ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله،
وحكم الله كتابه ، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث ، ولا
يقال : إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً ؛ لأنا نقول :
(إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف
ومشاجرة ، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب ؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام
رسوله دون سواهما من الخلق ؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ(1/10)
وقد يصيب ؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس - رضي الله عنه - : ( ما منا
إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر ) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى
الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم -
جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب
والسنة ، فما وافقهما عمل به ، وما خالفهما نبذه وراء ظهره .
ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم
فقط ؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على
كتاب الله وسنة رسوله ، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا ، وعرفنا أنه لم يرد نص
يمنعه من القرآن ولا الأحاديث ، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه .
وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ( الجمعة : 9 ) ، ثم قال : { فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ( الجمعة : 10 ) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد
انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم
يقل إن تعددت فصلوها ، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه
قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد ، بل كان يذهب
ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية ؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل
على ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : ( أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته ) رواه الجماعة ، وعنه ( أنه(1/11)
إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا ، وإذا كان
بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد )
رواه أبو داود ، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية : ( وأخرج أبو عبيد وابن
المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني ، قال : رأيت عبد الله
ابن بر المازني صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الجمعة خرج فدار
في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي
شىء تصنع هذا ، قال : إني رأيت سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - هكذا
صنع وتلا هذه الآية ( فإذا قضيت الصلاة ) إلخ ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق
بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار
مطلق غير مقيد .
وأما السنة السَّنية ، والأحايث النبوية ، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك
ويناقضه كل التناقض ، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول
بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه
وسلم - بحكم قوله تعالى : { اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } ( المائدة : 3 ) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها .
هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة
الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا
عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة ، وأما كونها
لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا ، ولما
هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول ، على أن إيجابكم عدم التعدد ؛ لأنها لم تعدد
في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد ؛ لأن النبي -(1/12)
صلى الله عليه وسلم - كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل
منكم بذلك والمسألتان سواء[*] .
فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة
وإنما هو حكمة من حِكَمِها ، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة ، ولا ظُهر بعدها
سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك ، بل الوراد خلافه فقد
روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه . قال ذلك
الشعراني في ( كشف الغمة ) .
وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من
الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة[1] :
عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا
يوم الجمعة فجاءت عير من الشام ، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر
رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة ، { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا
وَتَرَكُوكَ قَائِماً } ( الجمعة : 11 ) الآية ، رواه أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وفي
رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانفض الناس إلا
اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية ( وإذا رأوا ... إلخ ) رواه أحمد والبخاري ،
فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا
يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة ، كيف أن
النبي -عليه الصلاة والسلام - لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر ؟ لأن جمعته غير
صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً ، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم
بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم ، أو أن تقولوا يحتمل
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر أو أعاد الجمعة ، والحال أنه لم
يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا : حقًّا إن صلاة الظهر بعد
الجمعة بدعة لا تجوز ؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير[**].(1/13)
ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة ، بل على عدم مشروعيتها يوم
الجمعة مطلقًا ، صليت الجمعة أم لم تصل ، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد
الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة ، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم
يثبت ذلك وهاك النصوص :
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه ، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا ؟ قال : ( نعم صلى العيد أول النهار ثم
رخص في الجمعة ؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع ) رواه أحمد وأبو داود وابن
ماجه وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال : ( اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون )
رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان ، قال ( اجتمع عيدان على عهد ابن
الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل
للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس ؛ فقال : ( أصحاب السنة ) رواه النسائي
وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال : ( اجتمع يوم
الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما
ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر ) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل
إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم ، وفيما روي عن ابن عباس ،
وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال : ( لا بأس إذا قام شعار
الجمعة بغيره ) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة ، وإن
كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن
شهاب : ( الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك ، أو
امرأة ، أو صبي أو مريض ) وفي حديث أبي هريرة ، وحديث جابر ( ذكر
المسافر) .
وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق ، وحديث(1/14)
النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه : أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه
المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر ، وإليه ذهب عطاء حكى
ذلك عنه في البحر ، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل ، وأنت خبير
بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة ، فإيجاب
صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل ، ولا دليل يصلح
للتمسك به على ذلك فيما أعلم ) . اهـ
وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول
عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر ، في كل قرية ومصر ، اللهم إلا من
كان محبًا للحقيقة منهم .
قال في كشف الغمة : وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ترك صلاة
الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو
نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ ) فأنت ترى أنه لم يأمره
بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة ، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك
والخير في الاتباع والشر في الابتداع .
( الخلاصة )
اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي ، وأن
الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة ، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا
مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على
التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه
بدقة وإنصاف ، والله أعلم .
هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب ،
فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس ، وأنور من البدر ، ومن الأدلة
الساطعة ، والبراهين الناصعة ، ما أزال عن وجه الحقيقة الغشاء ، فبدت وضّاحة
الجبين ، غَرَّاء الطلعة ، وفيها كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد ، فاجعلها اللهم
خالصة لوجهك الكريم .
________________________
((1/15)
*) اللهم إلا ما ورد عن صلاته إياها في المسجد لمطر وقع كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود
وابن ماجه والحاكم وذلك لعذر كما رأيت . ا هـ منه .
(1) اختلف العلماء في صلاة الجمعة هل فرضت بطريق الأصالة ، أم بطريق البدل عن الظهر فمنهم
من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني ، وهذه الأحاديث التي سنسردها لك تؤكد مذهب القائلين بأنها
فرضت بطريق الأصالة لا البدل إلا حديث العير فليس فيه دليل لهم .
(**) وقد علمت من هذا الحديث أن الأربعين ليسوا بشرط في صحة الجمعة فلو صلاها رجلان في
مكان لم يكن فيه غيرهما لفعلا ما يجب عليهما ، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة ، وإن تركا
الخطبة فهي سنة فقط ؛ لأنه لم يرد ما يدل على وجوبها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (الجمعة
واجبة على كل قرية ، وإن لم يكن فيها إلا أربعة) ، وما رُوي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه
قال : (أول جمعة جمع بنا أسعد بن زرارة في بقيع الخصمان قيل لكعب كم كنت يومئذ ، قال أربعون
رجلاً فجمع بنا قبل مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة) ، فهو مما لا يستدل به على عدم
صحتها ، بأقل من العدد المذكور ؛ لأن الجمهور على أن وقائع الأعيان لا تصلح دليلاً للعموم ، ولذا
قال الشعراني الشافعي في كشف الغمة قال شيخنا - رضي الله عنه - (والظاهر أن العدد المذكور
ليس بشرط ولو كان أسعد وجد دون الأربعين لجمع بهم وأقام شعار الجمعة فهي واقعة حال) ولذلك
اختلفت مذاهب العلماء في العدد ، فذهب ابن عباس - رضي الله عنهما - إلى أن الجمعة تصح من
الواحد وذهب إبراهيم النخعي ، وداود وأهل الظاهر إلى أنها تصح من اثنين ، وذهب أبو حنيفة
وسفيان الثوري - رضي الله عنهما - إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام إلى آخر ما قال وأما
الرجولية والإقامة والحرية فهي شروط لوجوبها دون صحتها إذ لا تجب الجمعة على المرأة والمسافر(1/16)
والرقيق لحديث أبي داود الآتي ولكن إن فعلوها تصح منهم فلو صلى رقيقان أو مسافران الجمعة مثلا
أحدهما إمام والآخر مأموم صحت منهما ، وقد ورد أن النبي صلى الجمعة في بعض أسفار مع
الصحابة فلو كان يشترط في صحتها الإقامة لما فعلها الرسول ولا تحضرني الآن ألفاظ الحديث .
(( مجلة المنار ـ المجلد [ 8 ] الجزء [ 1 ] صـ 24 غرة المحرم 1323 ـ 7 مارس 1905 ))(1/17)