تحقيق المقام
في موقف المصلى على الجنازة بالنسبة للمنفرد والإمام
بقلم الفقير إلى عفو الله تعالى
إسماعيل عثمان زين اليمني المكي الشافعي
عفى الله تعالى عنه آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أوضح الأحكام, ووفق لفهمها من اختاره من الأنام. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالشريعة السمحة التي ليس فيها حرج, وعلى آله وصحبه السالكين سبيل الهدى من غير تعسف ولاعوج, وعلى التابعين لهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فكثيرا ما يذاكرني بعض الإخوان من طلبة العلم الشريف في مسألة فقهية هي في الواقع مسألة كمالية ليست واجبة ولا لازمة بل هي هيئة مندوبة, ولكن ربما كثر فيها النزاع وطال, ووقع في فهمها وتطبيقها الخلاف واستطال حتى صار يغلط بعضهم بعضا فيما ليس واجبا ولا فرضا بهذه المسألة هي كيفية وقوف الإمام والمنفرد في الصلاة على الجنازة. وسبب النزاع والخلاف يرجع إلى أمرين: أحدهما سوء الفهم في معنى عبارة بعض الفقهاء, وثانيهما تداول النقل للعبارة حتى صار الخطاء في تفسيرها كأنه ليس بالخطاء.
وها أنا - إن شاء الله - أوضّح منها المراد وأسلك فيها مسلك الرشاد والسداد, فأقول وبالله التوفيق:
قال الإمام أبو داود في سننه "باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه". وساق سند الحديث إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى على رجل فقام عند رأسه وصلى على امرأة فقام عند عجيزتها. فقال له العلاء بن زياد هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل قال نعم.
وفي الصحيحين من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها. قال العلامة الأمير فيه دليل على مشروعية القيام عند وسط المرأة إذا صلى عليها وهذا مندوب. وأما الواجب فإنما هو إستقبال جزء من الميت رجلا أو امرأةً إهـ.(1/1)
وعن الإمام الشافعي رحمه الله أنه يقف خذاء رأس الرجل وعند عجيزتها, لما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس إلخ. يعنى الحديث المتقدم.
دل ذلك على أمرين:
أحدهما واجب, وهو محاذاة الإمام أو المنفرد بجميع بدنه جزءا من بدن الميت أيَّ جزء كان, سواء كان رأسه أو بطنه أو رجله أو غير ذلك.
ثانيهما مندوب ومستحب وهو وقوفه عند رأس الرجل وعند عجيزة المرأة.
والحكمة في ذلك أن الرأس هو أشرف أعضاء الإنسان فاستحب الوقوف عنده بشرط محاذاة المصلى له بجميع بدنه واستحب الوقوف وسط المرأة عند عجيزتها لأنه أستر لها. وفي كلا الحالين رأس الميت - سواء كان رجلا أو امرأة - مما يلي يمين الإمام لاغير.
والأمر الثاني أشار له الفقهاء بقولهم ويندب أن يقف عند رأس الرجل وعجيزة المرأة. وحرصا على حصول المحاذاة الواجبة بيقين قالوا: ويندب أن يكون معظم رأس الرجل عن يمين الإمام أو المنفرد لتتم المحاذاة لكن بعضهم عبر بالضمير بدلا عن الظاهر فقال ويندب أن يقف عند رأس الذكر بحيث يكون معظمه على جهة يمين الإمام. ومن هنا حصل التصرف في العبارة ونشأ الغلط فظن بعضهم أن الضمير في قوله معظمه يعود على الميت حتى إن بعضهم عبر بالظاهر بدل المضمر على هذا الفهم السيئ فقال بحيث يكون معظم الميت عن يمين الإمام. وهذا كله غلط وسوء فهم, وإنما المراد أن يكون معظم رأس الميت الذكر عن يمين الإمام ليحصل كمال المحاذاة المطلوبة.
ومما يؤيد أن ما قلناه هو الصواب وأن عبارة بعض الفقهاء هي خطأ ناشئ عن سوء الفهم وتداول الأيدى للعبارة أنهم قالوا وكذلك إذا صلى على القبر أي فيقف عند موضع رأس الرجل وعند موضع عجيزة المرأة.(1/2)
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر رجل ووقف عند موضع رأسه وعلى قبر امرأة ووقف عند موضع عجيزتها. فلوكان الحال كما يقول بعض أهل الحواشى من الفقهاء أن رأس الذكر عن يسار الإمام لكان المصلى على القبر مستدبرا للقبلة فصلاته باطلة. وحاشا النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي صلاة باطلة مستدبرا للقبلة. وحاشا السلف الصالح بل حاشا المسلمين من ذلك. فيا من يقول إن رأس الميت يكون مما يلى يسار الإمام. افرض أنك تصلى على رجل في قبره بهذه الكيفية وتصور وتخيل نفسك تماما فلا تجد نفسك حينئذ إلا مستدبرا للقبلة.
فعبارة المتون والشروح كلها مقصورة على ما هو المفهوم من الحديث فقط, فيقولون ويندب أن يقف عند رأس الرجل وعجيزة المرأة للإتباع. أما قول بعض أهل الحواشي إن رأس الرجل من جهة يسار المصلى فلا أصل له ولا دليل عليه, بل قد يؤدى في بعض الحالات إلى بطلان الصلاة كما لو صلى على القبر كما سبقت الإشارة إليه.
فهذا هو القول الصحيح في المسألة وعليه عمل الناس في جميع الأمصار. ومن ادعى أن السنة على خلاف عمل الناس فدعواه ظاهرة البطلان بعيدة عن الإتباع مدارها سوء الفهم.
أعاذنا الله من ذلك, وسلك بنا وبجميع المسلمين أوضح المسالك. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا, والحمد لله رب العالمين.
كتب ذلك الفقير إلى عفو الله إسماعيل عثمان زين
لطف الله به آمين في الثالث والعشرين من
مستهل عام عشر وأربعمائة
وألف هجرية.(1/3)
توضيح التعبير
في مسألة الحلق والتقصير
بقلم الفقير إلى عفو الله تعالى
إسماعيل عثمان زين اليمني المكي الشافعي
عفى الله تعالى عنه آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فقه من أراد من عباده في الدين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالحنيفية السمحة القائل: {إِنّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسّرين}، وعلى اله وأصحابه الذين نهجوا من بعده السبيل المستبين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
(أما بعد) فقد دارت مذاكرة بين إخواننا طلاب العلم الشريف ببلد الله الحرام في موضوع "التحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير"، هل يلزم أن يباشره مريد التحلل بنفسه أو يجوز أن يتولاه عنه غيره فيحتاج إلى حلاّق أو مقصّر، فقلت لهم: "إن المنصوص في كتب الفقه أن التحلل من الإحرام يكون بالحلق أو التقصير، سواء باشره بنفسه أو استعان بغيره بلا فرق بين الحالتين شرعا"، فطلب مني بعض الإخوان ذكر نصوص الفقهاء في المذاهب الأربعة في هذا الموضوع لتمام الفائدة، فلبيت الطلب مستعينا بالله تعالى، فقلت:
الحلق والتقصير:
إتفق الفقهاء على أنه لا يباح للمحرم بحج أو عمرة ما كان محظورا عليه حال الإحرام إلا بحلق شعر الرأس وإزالته أو تقصيره قدر أنملة، قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}.(1/1)
وذكر المفسرون أن سبب نزول هذه الأية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عام الحديبية قبل خروجه إلى مكة أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ويحلقون ويقصّرون، فأخبر أصحابه بالرؤيا ففرحوا، فلما خرجوا معه إلى مكة في ذي القعدة سنة ست معتمرين وكانوا ألفا وأربعمائة وساقوا معهم الهدي سبعين بدنة وبلغوا الحديبية بعثت إليه قريش أن يرجع من عامه هذا على أن تخلي قريش إلى مكة في العام القابل ثلاثة أيام فقبل صلى الله عليه وسلم وتم الصلح على هذا وعلى ما كتب في كتاب الصلح، وقد سماه الله فتحا مبينا.
فلما لم يتم للمسلمين دخول مكة هذا العام ارتاب المنافقون، وقالوا والله ما حلقنا ولا قصّرنا ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت هذه الأية بأن رؤياه صلى الله عليه وسلم حق وصدق وأنه وأصحابه سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين لا يخافون عدوّهم وسيتمون نسكهم ويتحلل بعضهم بحلق شعور رؤوسهم وبعضهم بتقصيرها.
فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من الكتاب قال لأصحابه قوموا فانحروا البدن ثم احلقوا، فما قام رجل منهم (قالها ثلاثا) ثم قام فدخل على أم سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من أصحابه، فقالت له أخرج ولا تكلم منهم أحدا حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم ونحر بدنه ودعا حالقه خراش بن أمية الخزاعي فحلقه.
فلما رأوه فعل ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق لبعض وبعضهم يقصّر لبعض، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين، قال: يرحم الله المحلقين والمقصرين}.(1/2)
وقوله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه صدقا ملتبسا بالحكمة البالغة. وقوله تعالى: {آمِنِينَ} حال مقارنة للدخول من الواو المحذوفة في {لَتَدْخُلُنَّ} أي آمنين في حال الدخول لا تخافون عدوّكم أن يخرجكم في المستقبل. وقوله تعالى {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} جميع شعورها {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها، حالان مقدّرتان، فلا يرد أن حال الدخول هو حال الإحرام، وهو لا يجامع الحلق والتقصير إهـ كرخي.
وقال العلامة الآلوسي في تفسيره: واستدل بالأية على أن الحلق غير متعين في النسك، بل يجزئ عنه التقصير. وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل، وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء إهـ. أما النساء فقد أخرج أبو داود والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ عَلَى النّسَاءِ الْحَلْقُ، وَإِنّمَا عَلَى النّسَاءِ التّقْصِير} أهـ.
فحاصل ما ذكر أن الحلق والتقصير أمر مطلوب من المحرم عند إرادة التحلل من الإحرام، وأن المطلوب فيه مطلق إزالة الشعر، سواء فعل المحرم ذلك لنفسه بنفسه أو استعان في ذلك بغيره. كل ذلك على السواء، لا فرق فيه بين الحالتين.
ثم اختلف الفقهاء في الحلق والتقصير، هل هو نسك أم لا ؟. ومعنى كونه نسكا أنه ركن من أعمال الحج أو العمرة، ومعنى كونه غير نسك أنه إستباحة محظورات الإحرام، فيتعاطاه المحرم عند إرادة الخروج من الإحرام، وجوبا بعد أن كان ممنوعا منه كسائر محرمات الإحرام. وعلى كل حال فلا بد من الإتيان به، سواء قلنا إنه ركن كما هو معتمد مذهب الشافعية كما سيأتي، أو واجب كما هو مذهب غيرهم. وإليك نصوص فقهاء المذاهب الأربعة:
مذهب الشافعية:(1/3)
هو ركن على المعتمد لتوقف التحلل عليه كطواف الإفاضة. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في المنهاج: "فصل أركان الحج خمسة، الإحرام والوقوف والطواف والسعي والحلق إذا جعلناه نسكا" إهـ. وقال في الفصل الذي قبله: "والحلق نسك على المشهور، وأقله ثرث شعرات حلقا أو تقصيرا أو تنفا أو إحراقا أو قصّا إلخ.". وقال الإمام ابن حجر في التحفة عند قول المنهاج "والحلق" إذا جعلناه نسكا كما هو المشهور لتوقف التحلل عليه مع أنه لابد له إهـ. وقال عند قوله "حلقا أو تقصيرا أو نتفا أو إحراقا أو قصا" أوغيرها من سائر وجوه الإزالة، لأنها المقصود إهـ. فقوله لأنها المقصود يعني الإزالة، فالقصد مجرد الإزالة، سواء أزال المحرم بنفسه أو استعان بغيره، لافرق في ذلك. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في التحرير وشرحه في سرد أحكام الحج " وإزالة شعر من الرأس لتوقف التحلل عليه كالطواف" قال العلامة الشرقاوي (قوله وإزالة شعر) أعم من التعبير بالحلق، والأفضل أن يزيل الجميع دفعة واحدة لا متفرقا إهـ. فقوله والأفضل أن يزيل الجميع أي المحرم نفسه فالفاعل المستتر في يزيل ضمير يعود على المحرم، وهذا هو الأصل، ولو استعان بغيره جاز كما لا يخفى.(1/4)
وخلاصة القول أن هذه العبارات كلها تفيد ثلاثة أمور، الأول أن الحلق أو التقصير ركن على المعتمد في مذهبنا. الثاني أن الواجب في ذلك أقل ما يسمى حلقا أو تقصيرا. الثالث أن الواجب مطلق الإزالة، فيزيل المحرم أي بنفسه وهو الأصل أو بغيره. قال في عمدة الأبرار في أحكام الحج والإعتمار "ثم يزيل ثلاث شعرات فأكثر إلخ."، فقوله ثم يزيل أي هو بنفسه ولو استعان بغيره جاز، وقد تكون الإستعانة بالغير مستحسنة كما إذا اختار حلق جميع رأسه، فإن الإنسان غالبا لا يحسن حلق رأس نفسه فيستعين، بخلاف هذا بالنسبة لحلق المحرم لنفسه. أما حلقه لغيره لحلال أو لمحرم دخل وقت تحلله فجائز أيضا بلا خلاف، ويكفي في ذلك دليلا قصة الحديبية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه رضوان الله عليهم بالتحلل وقد كانوا كلهم محرمين حلق بعضهم لبعض. قال في شرح المواهب ففي البخاري في الشروط فلما فرغ من الكتاب قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا رؤسكم، فوالله ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاثا مرات، فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم فما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح. وفي رواية أبي المليح "فاشتد ذلك عليه، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقال: هلك المسلمون، أمرتهم أن يحلقوا وينحروا فلم يفعلوا، قال فجلى الله عنهم يومئذ بأم سلمة" فقالت يا نبي الله أتحب ذلك ؟ أخرج ثم لا تكلم منهم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا حتى نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا إهـ.(1/5)
قال شيخنا أبو على حسن بن محمد مشاط عافاه الله تعالى في إنارة الدجي: "قلت وفي هذه القصة فوائد، منها جواز تحليل المحرم الذي هو متلبس بحرمات الإحرام غيره بالحلق أو التقصير، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محرمين بالعمرة وحلل بعضهم لبعض بذلك إهـ".
وقال الإمام النووي في الإيضاح: "ويجوز للمحرم حلق شعر شعر الحلال، ويحرم على الحلال حلق شعر المحرم، فإن حلق حلال أو محرم شعر محرم أثم". فقوله أثم أي الحالق إذا كان بغير إذن المحلوق له أو قبل دخول وقت تحلله، ولذا قال ابن حجر في الحاشية (قوله شعر محلرم) يشمل ما إذا دخل وقت حلقه، وكذلك بالنسية للمحرم لا للفدية، سواء كان حيّا أو ميتا كما قالوه في الجنائز، فيحرم حلق رأسه بعد موته وإن دخل وقت تحلله، فإن لم يدخل وقت تحلله وجبت الفدية على الحالق خلافا لبعضهم إهـ. فقوله يشمل ما إذا دخل وقت حلقه، وكذلك بالنسية للمحرم أي المحلوق له فيأثم من حلق له بغير إذنه ولوكان الحالق حلالا، ولا فدية عليه لأن الحلق صادف محلا واستحقاقا وهو دخول وقته، أما إذا كان قبل دخول وقت التحلل فيشتركان في الإثم والفدية على المحلوق إن حلق له بإذنه كما نص على ذلك في الإيضاح حيث قال "فإن حلق بإذنه فالفدية على المحلوق" إهـ. هذا حاصل مذهب الشافعية.
ومذهب الحنفية كذلك أيضا بل أصرح في الموضوع. قال في إرساد الساري شرح مناسك الملاّ على قاري ما نصه: "ولو أزال الشعر بالنورة أو الحرق أو النتف بيده أو بأسنانه يعني في التقصير بفعله أو بفعل غيره أجزأه عن الحلق". فيه إيماء إلى أن الحلق أفضل انتهى بالحرف. وهذه العبارة صريحة في موضوعنا كما ترى.(1/6)
ومذهب المالكية كذلك أيضا. قال في جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ما نصه "ثم ندب حلقه" يحتمل أن الندب منصب على تقديم الحلق على التقصير، ويحتمل أنه منصب على تأخير الحلق عن النحر وتقديمه على الإفاضة، وعلى كل فلا ينافي كون الحلق واجبا، وأطلق المصنف الحلق على مطلق الإزالة بدليل قوله "ولو بنورة" أي شيء مخلوط بجير وزرنيخ يزال به الشعر إذ الحلق إنما يكون بالموسى إن عم الحلق المذكور، سواء كان بموسى أو نورة رأسَه، فلا يكفي حلق بعضه ولو أكثره، والتقصير مجز والحلق أفضل إهـ. فقوله "أطلق المصنف الحلق على مطلق الإزالة" أي الشامل لمباشرة الحلق بنفسه لنفسه أو بغره له.
ومذهب الحنابلة كذلك. قال في مطالب أولى النهى شرح غاية المنتهى ما نصه "ثم يحلق لقوله تعالى {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}، وهو أي الحلق أفضل من التقصير إلخ "، فهي كما ترى تعبر بمطلق الحلق أو التقصير من غير تعرض لاشتراط حلاّق أو مقصّر، فهي ظاهرة في جواز الحلق أو التقصير كيفما أمكن، سواء باشر ذلك الإنسان لنفسه بنفسه أو استعان بغيره. والله أعلم.
(وبعد) فالحمد لله قد اتضح المراد وظهر أن المحرم بحج أو عمرة إذا حان وقت تحلله من إحرامه، يتحلل منه بالحلق أو التقصير، سواء كان ركنا كما هو عند الشافعية أو واجبا كما هو عند غيرهم من الأئمة، ويجوز له أن يباشره بنفسه وأن يباشره حلاق أو مقصّر كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الحديبية، وقد ثبت أيضا في رواية مسلم أم معاوية رضي الله عنه قال: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص عند المروة إهـ. راجع فتح الباري.
تمت هذه العجالة - بتوفيق الله - بمكة المكرمة
في العشرين من رجب سنة 1392 هـ
بيد كاتبها إسماعيل عثمان
زين اليمني المكي
عفي عنه.(1/7)
هذه رسالة توضيح المقصود
بأن استعمال مكبّرات الصوت فيمايطلب فيه الجهر
من العبادات "أمر محمود"
بقلم الفقير إلى عفو الله تعالى
إسماعيل عثمان زين اليمني المكي الشافعي
عفى الله تعالى عنه آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شرع لنا الأحكام، وبيّن الحلال من الحرام. والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام القائل: {مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْراً يُفَقّهْهُ في الدّين}. وعلى آله وصحبه والتابعين لهم على النهج القويم والطريق المستقيم.
أما بعد: فيقول الفقير إلى عفو الله تعالى إسماعيل عثمان زين اليمني المكي الشافعي، لطف الله به: سألني بعض المحبين عن حكم مكبّرات الصوت أثناء الأذان وصلاة الجماعة والجمعة وخطبتيها وغير ذلك مما يطلب فيه الجهر وإسماع الغير، لأن بعض من يدعي العلم يرى أن ذلك لا يجوز، لأنه بدعة.
فأقول وبالله التوفيق: إعلم أنه ما من موضوع كائن أو يكون إلى يوم الدين إلا وله حكم في شرعنا المبين، سواء كان نصا أو استنباطا يستنبطه الفقهاء العارفون المشهود لهم بالخيرية الكاملة، ويعرفه العلماء الأذكياء، ذوو الألباب الفاضلة الذين قال الله تعالى فيهم:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}. وقال فيهم: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ }. ثم إن من القواعد المقررة المشهورة بين أهل العلم، خصوصا في مذهب إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى وأصحابه رضوان الله عليهم أن للوسائل حكم المقاصد.
وهذه القاعدة تدخلها الأحكام الخمسة بحسب المقاصد، فمتى كان المقصد واجبا فالوسيلة إليه واجبة، ومتى كان مندوبا فالوسيلة إليه مندوبة، ومتى كان حراما فالوسيلة إليه محرمة، ومتى كان مكروها فالوسيلة إليه مكروهة، ومتى كان مباحا فالوسيلة إليه مباحة.(1/1)
فمن أمثلة ذلك أنه يجب على الخطيب إسماع أربعين من أهل الجمعة أركان الخطبة، فإذا لم يتأتّ ذلك إلا باستعمال المكبر كان استعماله واجبا، لأن ما ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإن تأتى بدون ذلك فاستعماله حينئذٍ مندوب لمزيد الفائدة وتمام الغَرَض. وإذا كان الشارع الحكيم قد طلب في الأذان رفع الصوت وإبلاغه إلى مدى بعيد ونَدَب الوقوفَ على مكان عالٍ كالمنارة مثلا وندب وضع السبابتين في الأذنين لأنه أندى وأبعد للصوت، فيكون استعمال المكبر فيه مندوبا، لأنه مما يستعان به على إبلاغ صوت المؤذن إلى مدى بعيد.
وقد بينت السنة النبوية الشريفة قوائد ذلك، وإن منها أنه لا يبلغ مدى صوت المؤذن شيئا، جِنًّا أو إنسا، حيوانا أو جمادا إلا شهد له يوم القيامة كما سيأتى. ومن الفوائد أيضا أن الشيطان يشرد ويهرب عند سماع الأذان فكلما كان المدى بعيدا كانت الفائدة أكثر. ولا ينبغى الإغترار بما يقوم به الآن بعض من يدعى العلم من الإنكار على بعض الأمور التي لها دَخَلٌ في أحكام الدين، ولها به إتصالٌ قويٌّ متين مدّعيا أن ذلك بدعة، لأنه ليس من فعل السلف. وهؤلاء الكثير منهم يلهجون بلفظ السلف ولا يعرفون من هم المستحقون لهذا الوصف، ويلهجون بالدليل وهم لا يعرفون كيفية الإستدلال به، ولا يحسنون الإستفادة من معناه، ولا يعلمون أن الأخذ بالدليل يحتاج إلى أهل لذلك، بحيث يعرفون الصالح للإستدلال وغير الصالح، يعرفون هل هو صحيح أو حسن، ثم يعرفون هل هو محكم أم منسوخ، ثم يعرفون عام أو خاص. وإذا كان عاما ينظرون هل له مخصص أم لا، ويعرفون هو مطلق أم مقيّد، ويعرفون هل هو مما أطبق أهل العلم على العمل بمقتضاه، وإلا فهو شاذ متروك ولو كان في أعلى درجة الصحة.(1/2)
وهاك نصَّ الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وهو من فضلاء السلف وخيارهم. قال رحمه الله تعالى: كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف، لأن تركهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لما هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعهم علمٌ به انتهى. فهكذا يكون جواب أهل العلم والإتصاف. ولا عبرة بأهل الجهل والجراءة والإعتساف وإن كثروا، فقد جاء في الأحاديث الصحيحة ـأنه في آخر الزمان يقل العلم ويكثر الجهل، وقد أصبح الكثير الآن يدعى العلم وليس له من عُدّةٍ سوى الجراءة والتمسك بالشواذ والإستدلال بما لا يعرف المقصود منه أو بالنفي للدليل ولا يدرى هذا المسكين أن عدم دليل الفعل ليس دليلا للمنع. فأمثال هؤلاء يعتبر الواحد منهم شخصيةً مؤذيةً وفتنةً تمشى على رجلين آخذٌ بالشاذّ من القول أو بالقول المهجور فَقَاهَتُهُ بالتشهّى ودعواه بلا برهان. والله المستعان.(1/3)
ولنذكر هنا نبذة يسيرة من كلام الفقهاء الشافعية في متونهم وشروحهم الدال على طلب زيادة مدى الصوت لزيادة الإبلاغ، ففي مغنى المحتاج الجزء الأول صفحة 128: "ويسن للأذان مؤذن حر لأنه أكمل من غيره صيِّتٌ أي عالى الصوت لقوله صلى الله عليه وسلم في خبر عبد الله بن زيد {أَلْقِهِ عَلَى بِلاَلٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا} أي أبعد ولزيادة الإبلاغ" انتهى. وفي صغحة 127: "ويسن أن يؤذن على موضع عال كمنارة وسطح لخبر الصحيحين: {كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤَذّنَانِ: بِلاَلٌ وَابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَىَ هَذَا}، ولزيادة الإعلام" انتهى. وفي فتح الجواد الجزء الأول صفحة 104: "ويبالغ في الجهر مالم يُجْهِدْ نفسَهُ، لأمره صلى الله عليه وسلم برفع الصوت، وعلله بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ إلا شهد له يوم القيامة" انتهى. وعبارة شرح المهذب المسمى بالمجموع للإمام النووي رحمه الله تعالى: "الثانية يستحب أن يؤذن على موضع عال، من منارة أو غيرها. وهذا لا خلاف فيه، واحتج له الأصحاب بما ذكر المصنف، وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: {كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُؤَذّنَانِ: بِلاَلٌ وَابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُوْمٍ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَىَ هَذَا} رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر وعائشة، وهذا لفظ مسلم. وعن عروة بن الزبير عن إمرأة من بني النجار قالت: {كانَ بَيْتِيْ أَطْوَلَ بَيْتٍ حَوْلَ المَسْجِدِ، فَكَانَ بِلاَلٌ يُؤَذِّنُ عَلَيْهِ الفَجْرَ} رواه أبو داود.(1/4)
وقد صارت آلة مكبرات الصوت مُغْنِيَةً عن الصعود على موضع عالٍ كالمنارة وأشباهها، وذلك ظاهر بلا خفاء ومستحب بلا مراء. والحاصل من جميع ما ذكرناه ونقلناه في هذه الوريقات أن استعمال مكبّرات الصوت في الأذان وغيره مما يطلب فيه الجهر أمرٌ محمودٌ شرعًا، وهذا هو الحق والصواب. والله الهادى إلى سواء السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. والحمد لله رب العالمين. وحرر في الخامس من الثاني من الثالث من الرابع عشر من الخامس عشر هجرية.(1/5)
رفع الإشكال وإبطال المغالاة
في حكم الوليمة من أهل الميت بعد الوفاة
تأليف
فضيلة الشيخ العلامة المدرس ببلد الله الحرام
الشيخ إسماعيل عثمان زين اليمني المكي
حفظه الله وعافاه آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده للتفقه في الدين وهداهم بنور البصيرة إلى استنباط الأحكام الشرعية من كتابه وسنة نبيه سيد المرسلين. وحفظهم من إجحاف المقصرين وغلوّ الغالين، فصاروا بذلك هم الأمة الوسط الذين لم يقولوا عن جهل ولا شطط. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالحنيفية السمحة السهلة التي ليس فيها حرج. وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا المنهج الصحيح من غير عوج. وعلى التابعين لهم إلى يوم الدين.(1/1)
أما بعد: فقد طلب مني من يعز على أن أكتب عن الحديث الوارد في مشكاة المصابيح وفي سنن أبي داود وفي السنن الكبرى للبيهقي وفي دلائل النبوة له. وهو حديث كما ستراه اشتمل على فوائد جمة وأحكام مهمة. فأقول مستعينا بالله تعالى. قال في مشكاة المصابيح في باب المعجزات ص 544: وعن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه. فلما رجع استقبله داعي امرأته فأجاب ونحن معه فجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فيه ثم قال أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها. فأرسلت المرأة تقول يا رسول الله إني أرسلت إلى النقيع وهو موضع يباع فيه الغنم ليشتري لي شاة فلم توجد فأرسلت إلى جارٍ لي قد اشترى شاة أن يرسل إليّ بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمي هذا الطعام الأسرى. رواه أبو داود والبيهقي في دلائل النبوة إهـ. هذا لفظ الحديث في المشكاة. وكتب المعلق عند قوله "داعى امرأته" أي امرأة الميت. وفي سنن أبي داود في كتاب البيوع ما نصه: "حدثنا ابن العلاء أنا ابن إدريس أنا عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى آخر الحديث المذكور في المشكاة، إلا أنه قال "فلما رجع استقبله داعي امرأة" أي بتنكير امرأة. قال صاحب عون المعبود: "كذا في النسخ الحاضرة". وفي المشكاة: "داعى امرأته" بالإضافة إلى الضمير. قال القاري: "أي زوجة المتوفى"، ثم قال صاحب عون المعبود في آخر شرح الحديث: "والحديث سكت عنه المنذري" إهـ.(1/2)
وفي السنن الكبرى للبيهقي ج 5 ص 335 ما نصه: "أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عمرو بن مطر ثنا يحيى بن محمد قال وجدت في كتابي عن عبيد الله بن معاذ ثنا أبي ثنا شعبة عن مزاحم بن زفر عن ربيع بن عبد الله سمع رجلا سأل بن عمر إن لي جارا يأكل الربا أو قال خبيث الكسب وربما دعاني لطعامه أفأجيبه قال نعم. وأخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل أنا أبو عثمان البصري ثنا محمد بن عبد الوهاب أنا يعلى بن عبيد ثنا مسعر عن جواب التميمي عن الحارث بن سريد قال جاء رجل إلى عبد الله يعني ابن مسعود فقال إن لي جارا ولا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما وأنه يدعوني فأحرج أن آتيه وأتحرّج أن لا آتيه فقال ائته أو أجبه فإنما وزره عليه. قال الشيخ جواب التيمي غير قوي. وهذا إذا لم يعلم أن الذي قدم إليه حرام. فإذا علم حراما لم يأكله كمالم يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة التي قدمت إليه. فيما أخبرنا أبو علي الروذباري أنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد بن العلاء ثنا ابن إدريس أنا عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها فأرسلت المرأة إني أرسلت إلى النقيع يشتري لي شاة فلم توجد فأرسلت إلى جاري قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعميه الأساري" إهـ. فالكلام على الحديث المذكور من حيث الرواية باختصار وإيجاز فهو أنه حديث ثابت في بعض أمهات السنة المعتبرة.(1/3)
ورواه الأئمة والحفاظ منهم سكتوا عن أي مطعن في متنه أو سنده فدل على أنه لا يقصر عن رتبة الحجية في الأحكام. فهو إما صحيح أو حسن وكل منهما بقسميه المعروفين عند أهل العلم بالحديث وأصوله حجة يحتج به في الحلال والحرام وغيرهما من أولى. فرواية الإمام أبي داود له وسكوته عنه دليل على صلاحيته لذلك. وذلك جار على اصطلاحه في سننه أن ما سكت عليه من الأحاديث فهو صالح. ومعنى كونه صالحا أنه صالح للإحتجاج به. وسكون الحافظ البيهقي في سننه مستدلا به على ثبوت ما يدل عليه من الحكم في باب البيع يدل على ذلك أيضا بالأولى ورجال إسناده كلهم ثقات.(1/4)
فأما شيخ أبي داود الذي هو محمد بن العلاء فهو أبو كريب محمد ابن العلاء الهمداني. قال في فتح الباري: "مشهور بكنيته أكثر من اسمه" إهـ. وهو شيخ البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب الأمهات الست. وفي هامش فتح الباري ما نصه: "محمد بن العلاء بن كريب الهمداني، وكنيته أبو كريب، روى عنه الجماعة وآخرون، وهو صدوق لا بأس به، وهو مكثر وقد مات سنة ثمان وأربعين ومائتين" إهـ. وكذلك ذكر ترجمته الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب ج 9 ص 385، ونصه: "محمد بن العلاء بن كريب الهمداني، أبو كريب الكوفي الحافظ، روى عن عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث وأبي بكر بن عياش" إلخ. فيكفي في معرفة جلالة هذا الإمام وقدره بين الأئمة من أهل الحديث أنه شيخ البخاري وغيره وأنه يلقب بالحافظ. وأما ابن إدريس الذي هو شيخ محمد بن العلاء فهو كما ذكره في تهذيب التهذيب ج 5 ص 144: "عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن ابن الأسود الأودي الزعافري، أبو محمد الكوفي. روى عن أبيه وعمه داود والأعمش ومنصور وعبيد الله بن عمرو إسماعيل بن أبي خالد وأبي مالك الأشجعي وداود بن أبي هند وعاصم بن كليب وابن جريج وابن عجلان وابن إسحاق والمختار بن فلفل وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق ومالك ويزيد بن أبي بردة والحسن بن عبيد الله النخعي والحسن بن فرات وحصين بن عبد الرحمن وربيعة بن عثمان وشعبة وليث بن بن أبي سليم وأبي حيان التيمي ويزيد بن أبي زياد وغيرهم. وعنه مالك بن أنس وهو من شيوخه وابن المبارك ومات قبله ويحيى بن آدم، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وابنا أبي شيبة، والحسن بن الربيع البجلي، وأبو خيثمة، وأبو سعيد الأشج، وعمرو الناقد، ومحمد بن عبد اللَّه بن نمير، وأبو كريب، وأبو موسى محمد بن المثنى، ويوسف بن بهلول التميمي، والحسن بن عرفة، وأحمد بن عبد الجبار العطاردي، وجماعة. وقال أحمد: كان نسيج وحده.(1/5)
قال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: ابن إدريس أحبّ إليك أو ابن نمير؟ فقال: ثقتان، إلا أن ابن إدريس أرفع منه، وهو ثقة في كل شيء. إلى آخرما ذكره في التهذيب فراجعه.
وأما عاصم تالذي هو شيخ ابن إدريس فذكر في التهذيب أيضا ص 55 أنه: عَاصِمُ بنُ كُلَيْب بن شِهَاب بن المَجْنُون الجَرْمِي الكُوفِي. روى عن: أبيه، وأبي بردة بن أبي موسى، وعبد الرحمن بن الأسود، ومحارب بن دثار، وعلقمة بن وائل بن حجر، ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهم. وعنه: ابن عون، وشعبة، والقاسم بن مالك المزني، وزائدة، وأبو الأحوص، وشريك، والسفيانان، وأبو عوانة، وعلي بن عاصم الواسطي، وغيرهم. قال الأثرم عن أحمد: لا بأس بحديثه. وقال ابن معين، والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. وقال الآجري: قلت لأبي داود: عاصم بن كليب ابن من؟ قال: ابن شهاب،كان من العباد، وذكر من فضله، قلت: كان مرجئاً ؟ قال: لا أدري، وقال في موضع آخر: كان أفضل أهل الكوفة. وقال شريك بن عبد اللَّه النخعي: كان مرجئاً. وذكره ابن حبان في "الثقات". قال أحمد بن صالح المصري: يعدّ من وجوه الكوفيين الثقات، وفي موضع آخر: هو ثقة مأمون. وقال ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد. وقال ابن سعد: كان ثقة يحتج به، وليس بكثير الحديث، توفي في أول خلافة أبي جعفر إهـ.(1/6)
وأما أبوه وشيخه كليب فذكر في التهذيب أيضا ج 8 ص 445 أنه: كُلَيْبُ بنُ شِهَاب بن المَجْنُون الجَرْمِي، وفي نسبه اختلاف. روى عن: أبيه، وخاله الفلتان بن عاصم، وعمر، وعلي، وسعد، وأبي ذر، ومجاشع بن مسعود، وأبي موسى، وأبي هريرة، ووائل بن حجر، وغيرهم. روى عنه: ابنه عاصم، وإبراهيم بن مهاجر. قال أبو زرعة: ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقة، ورأيتهم يستحسنون حديثه و يحتجون به. وقال النسائي: كليب هذا لا نعلم أحداً روى عنه غير ابنه عاصم وغير إبراهيم بن مهاجر، وإبراهيم ليس بقوي في الحديث. وقال الآجري عن أبي داود: عاصم بن كليب عن أبيه عن جده ليس بشيء، الناس يغلطون يقولون: كليب عن أبيه ليس هو ذاك. وقال في موضع آخر: وعاصم بن كليب كان من أفضل أهل الكوفة. وذكره ابن حبان في "الثقات". قلت: وقال: يقال إن له صحبة. وقال ابن أبي خيثمة، والبغوي: قد لحق النبي صلى الله عليه وسلم. وذكره ابن مندة، وأبو نعيم، وابن عبد البر في الصحابة، وقد بينت في "الإصابة" سبب وهمهم في ذلك انتهى ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.
وأما قوله "عن رجل من الأنصار" فلا شك أن ذلك الرجل من الصحابة فلا يضر الجهل في تعيين اسمه ونسبه وحاله، لأن الصحابة كلهم كلهم عدول وهم الواسطة في نقل الشريعة الغراء من حضرة سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى من بعدهم حتى وصلت إلينا. فجزاهم الله عنا خيرا ورضي عنهم وأرضاهم آمين.(1/7)
وأما من حيث الدراية، ففي الحديث فوائد وأحكام. منها أن فيه علما من أعلام نبوة سيد المرسلين ومعجزة من معجزات خير الخلق أجمعين. وهي الإخبار عن حال الشاة وأنها أخذت ببيع فاسد غير صحيح لغير رضا مالكها. ولأجل ذلك ذكره صاحب المشكاة في المعجزات والحافظ البيهقي في دلائل النبوة. ومنها أن بيع الفضولي باطل غيرصحيح، ولأجل ذلك ذكره أبو داود في كتاب البيع. ومنها أن ما كان من العقود فيه شبهة ينبغي اجتنابه استبراء للدين وبعدا عن الوقوع في الحرام ولأجل ذلك ذكره أبو داود في باب اجتناب الشبهات. ومنها مسألة مهمة ولأجلها كانت كتابة هذه الرسالة، وهي ما يصنعه أهل الميت من الوليمة ودعاء الناس إليها للأكل فإن ذلك جائز كم يدل عليه الحديث المذكور بل هو قربة من القرب لأنه إما أن يكون بقصد حصول الأجر والثواب للميت، وذلك من أفضل القربات التي تلحق الميت باتفاق. وإما أن يكون بقصد إكرام الضيف والتسلي عن المصاب وبعدا عن إظهار الحزن، وذلك أيضا من القربات والطاعات التي يرضاها رب العالمين ويثيب فاعلها ثوابا عظيما. وسواء كان ذلك يوم الوفاة عقب الدفن كما فعلته زوجة الميت المذكورة في الحديث أو بعد ذلك. فالحديث نص صريح في مشروعية ذلك، وأما استحسانه والترغيب فيه وأنه قربة وطاعة فمستفاد من معنى المشروعية وحكمتها جريا على قواعد أهل الشرع وأصولهم. ولا ينافي ذلك الحديث المشهور، وهو قوله صلى الله عليه وسلم {اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم}. لأن هذا الحديث يختمل أن يكون خاصا بآل جعفر رضي الله عنه وعنهم أجمعين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى من شدة حزنهم أنهم لا يستطيعون أن يصنعوا لأنفسهم طعاما فأمر أهل بيته أن يصنعوا لهم ذلك، لأن الخطاب في الحديث لبعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ذلك حينما بلغه حال آل جعفر رضي الله عنهم.(1/8)
فحينئذ يكون هذا الحديث إنما خصوصية لآل جعفر وواقعة عين فلا ينهض به الاستدلال على منع الوليمة من أهل الميت ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم من مات له ميت فلا يولم ولا يطعم الناس ولم يجئ في الحديث نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الميت عن الوليمة وأن بطعموا غيرهم. بل الذي جاء في الحديث أن أهل الميت أولموا وأطعموا ودعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه فأجاب دعوتهم وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم إلا أخذ الشاة بغير بيع صحيح وبغير رضا مالكها. وقد جاء أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليه ثم قالت كلوه الحديث كما في البخاري. ومن ينظر في قواعد الشرع بالنظر الصحيح يرى أن لا محذور في وليمة أهل الميت إذا صنعوها وأطعموا غيرهم تقربا إلى الله عز وجل وتسليا عن المصاب وإكراما للضيف النازلين عليهم للتعزية، ولكن قيده الفقهاء رحمهم الله تعالى بأن لا يكون من مال الورثة القاصرين، وذلك لعدم صحة تبرعهم، لا لأن الوليمة مذمومة من حيث هي بل هي محمودة. وهي إحدى الولائم المشروعة وتسمى بالوضيمة بالضاد المعجمة. وما جاء عن جرير رضي الله عنه من قوله كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة فمحمول على ما إذا كان مع إظهار الحزن ووجود الجزع. ويؤيد ذلك قوله من النياحة، لأن ذكر النياحة يدل على أن الاجتماع المذكور إنما صار مذموما من حيث أن فيه شائبة حزن فصار بذلك كأنه نوع من أنواع النياحة. أما إذا خلا عن ذلك فلا مرية في استحسانه جمعا بين الأحاديث. ويكون بذلك قد انتظمت الأدلة وتم الاستدلال وزال بما ذكرناه وجه الاشكال.(1/9)
وما يذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى في كتبهم في مبحث الجنائز من قولهم: ويسن لجيران أهل الميت تهيئة طعام يشبعهم يومهم وليلتهم إهـ محمول على ما ذكرناه من أن ذلك في حق من غلب عليه الحزن كآل جعفر رضي الله عنهم، وليس لهم دليل على كراهة الوليمة من أهل الميت مطلقا إلا ما ورد من حديث آل جعفر وحديث جرير. وكأنهم لم يطلعوا على حديث عاصم بن كليب عن أبيه الذي هو نص في الجواز.
وكون بعض روايات الحديث المذكور في سنن أبي داود وغيرها بتنوين امرأة من غير إضافة إلى الضمير يكفي فيه رواية المشكاة التي فيها لفظ امرأته بالإضافة إلى ضمير زوجة الميت كما قاله في المرقاة مبنية للإجمال ورافعة للإشكال كما هو المعروف بين أهل العلم من حمل المطلق على المقيد والمجمل على المبين والعام على الخاص لاسيما والدليلان قائمان سندا ومتنا، والنظر في قواعد الشرع يقضى بما قلناه فلا حاجة إلى التنفير مما ظاهره القربة والطاعة، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى.(1/10)
قال العلامة القاري في المرقاة بعد ذكر حديث عاصم بن كليب المذكور ما نصه: "هذا الحديث بظاهره يرد على ما قرره أصحاب مذهبنا من أنه يكره اتخاذ الطعام في اليوم الأول أو الثالث أو بعد الأسبوع كما في البزازية. وذكر في الخلاصة أنه لا يباح اتخاذ الضيافة عند ثلاثة أيام. وقال الزيلعي ولا بأس بالجلوس للمصيبة إلى ثلاث من غير ارتكاب محظور من فرش البسط والأطعمة من أهل الميت. وقال ابن الهمام يكره اتخاذ الضيافة من أهل الميت. والكل عللوا بأنه شرع في السرور لا في الشرور. قال وهي بدعة مستقبحة. روى الإمام أحمد وابن حبان بإسناد صحيح عن جرير ابن عبد الله قال كنا نعدّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعهم الطعام من النياحة إهـ. فينبغي أن يقيد كلامهم بنوع خاص من اجتماع يوجب استحياء أهل بيت الميت فيطعمونهم كرها أو يحمل على كون بعض الورثة صغيرا أو غائبا أو لم يعرف رضاه أولم يكن الطعام من عند أحد معين من مال نفسه لا من مال الميت قبل قسمته ونحو ذلك. وعليه يحمل قول قاضي خان يكره اتخاذ الضيافة في أيام المصيبة، لأنها أيام تأسف فلا يليق بها ما يكون للسرور، وإن اتخذ طعاما للفقراء كان حسنا انتهى كلام القاري رحمه الله تعالى. وهذا كله كما هو ظاهر فيما إذا لم يوص الميت باتخاذ الطعام وإطعامه للمعزين الحاضرين، وإلا فيجب ذلك عملا بوصيته وتكون الوصية معتبرة من الثلث أي ثلث تركة الميت.(1/11)
قال في التحفة ج 3 ص: 207 أثناء كلام ساقه ومن ثم خالف ذلك بعضهم فأفتى بصحة الوصية بإطعام المعزين وأنه ينفذ من الثلث وبالغ فنقله عن الأئمة إهـ. واعتمد ذلك العلامة الباجوري. ففي الجزء الأول من حواشيه على ابن قاسم ص 369 ما نصه: مسألة كثيرة الوقوع. وهي أنه متى كان في الورثة محجور عليه بأن كان فيهم قاصر أوسفيه حرم التصرف في شيء من التركة كنحو السبح والجمع وغير ذلك إلا إن أوصى به (وخرجت من الثلث) وعند المالكية تعتبر العادة، فما جرت به العادة كان بمنزلة الموصى به إهـ. وكذلك العلامة القارى الحنفي استظهر في المرقاة صحة الوصية بذلك من الثلث.
أقول فقول صاحب المرقاة فينبغي أن يقيد كلامهم إلخ هو جار على ما عليه أهل السنة والجماعة من أن التحسين والتقبيح شرعيان وليسا بالعقل، وحينئذ إذا لم يوجد ما هو مستقبح شرعا في الوليمة المذكورة مثل كونها من مال القاصرين أو بغير رضا بعض الورثة أو مع إظهار الحزن والتأسف فهي حينئذ مستحسنة شرعا، لأنها إما إكرام للضيف من المعزين وغيرهم وإكرام الضيف فضيلة. وإذا استصحب معه قصد التسلى من المصاب كان ذلك أفضل. وإما لقصد التصدق عن الميت وإيصال الثواب إليه، فهي حينئذ مستحبة شرعا وفضيلة بالإتفاق. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله إن أمي افتلتت روحها وأظنها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها ؟ قال: نعم. تصدق عنها فلها أجر إهـ. ففي هذا دليل واضح ونص صريح فيما قاناه. رزقنا الله تعالى سلوك سبيل الهداية، وجنبنا أسباب الجهل والغواية، وجعلنا بأنوار شرعه مهتدين وبهدي نبيه متمسكين ومقتدين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/12)
إعلام الزمرة السيارة
بتحقيق حكم الصلاة في الطيّارة
بقلم الفقير إلى عفو الله تعالى
إسماعيل عثمان زين اليمني المكي الشافعي
عفى الله تعالى عنه آمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أوضح أحكام الدين، واختص بفقهها وفهم مدلولاتها من اختاره من المؤمنين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث بالشريعة الغراء والمَحَجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها منيرة للمستبصرين. وعلى آله وصحبه وتابعيهم بحسن اليقين إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذه رسالة مختصرة، وعبارة محرّرة حداني إلى تسطيرها اختلاف كثير من طلبة العلم في مسألة هي من الدين بمكان عظيم. وذكرها والبحث فيها مما يتصدر كتب الفقه وغيرها من كتب الدين. وهي جزئية من جزئيات الصلاة التي هي ثاني أركان الإسلام، ومفزع المؤمنين إلى ربهم كل يوم وليلة عدة مرات. ومتاح عظيم للعبد يناجى فيها ربه بلذيذ المناجات.
وقد تضمنت الشريعة المطهرة بيان أحكامها حملة وتفصيلا، وقام العلماء الأعلام بضبط هيئتها وبيان قوانينها بضوابط تكفل بيان ما قد يحدث من حوادث العصر ونوازل الدهر إلى يوم الدين.
وقد يكون حكم الحادث منصوصا مسطورا في كتبهم، يسهل تناوله للذكيّ والغبيّ، وقد يكون لقوة ظهوره وبداهة معرفته لا يحتاج إلى تسطير فهو في حكم المنصوص عند الأذكياء من أهل العلم. ومن هذا القبيل اشتراط كون المصلى متصلا بقرار الأرض مباشرة أو بواسطة سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا، وسواء كان ماشيا أو راكبا أو محمولا، فلا بد أن يكون متصلا بقرار الأرض ولو على ظهر دابة أو سرير محمول على أعناق الرجال أو على قمة جبل أو على أغصان شجرة. أما إذا كان معلقا في الهواء فلا تصح الصلاة حينئذٍ ولو كان محمولا في شيء كصندوق لعدم نسبته إلى القرار ولو بالواسطة.(1/1)
ومن هنا يأتي الكلام على مسألة الصلاة في الطيارة التي هي مقصود هذه الرسالة. وهي من النوازل العصرية، والمسائل الحالية، كثيرة الوقوع، ولكنها داخلة تحت العبارات السابقة واللاحقة كما ستعرفه إن شاء الله. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" الحديث. وهو وارد مورد الامتنان، فيفيد عموم الأحوال.
وعبارة فتح الوهاب شرح منهج الطلاب في أركان الصلاة: "وثالثها قيام في فرض بنصب ظهر ولو باستناد إلى شيئ كجدار"، قال العلامة الجمل (قوله كجدار) أي وإن كان بحيث لو رفع لسقط لوجود اسم القيام. نعم لو استند بحيث يمكنه رفع قدميه بطلت صلاته لأنه معلق نفسه وليس بقائم، ومنه يؤخذ قول بعضهم يجب وضع القدمين على الأرض فلو أخذ اثنان بعضديه ورفعاه في الهواء حتى صلى لم تصح صلاته إهـ.
وعبارة شرح الروض الجزء الأول صفحة 136 (فرع) يشترط في صحة صلاة الفريضة الإستقرار إلخ. قال المحشي (قوله يشترط في صحة صلاة الفريضة الإستقرار) فلو حمله رجلان ووقفا في الهواء أو صلى على دابة سائرة في هودج لم تصح صلاته إهـ.
وفي فتح الجواج شرح الإرشاد ومن ثم قال العبادي يجب وضع القدمين على الأرض فلو أخذ اثنان بعضديه ورفعاه في الهواء حتى صلى لم تصح إي فلا بد من الإعتماد ولو على أحدهما إهـ.
وفي المجموع للإمام النووي رحمه الله (فرع) في مسائل تتعلق بالقيام - إلى أن قال - هذا في استناد لا يسلب اسم القيام فإن استند متكئاً بحيث لو رفع عن الأرض قدميه لأمكنه البقاء لم تصح صلاته بلا خلاف لأنه ليس بقائم بل معلق نفسه بشيئ إهـ.
فحاصل هذه العبارات أن الواجب في الصلاة إتصال المصلى بقرار الأرض مباشرة أو بواسطة سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا. نعم الفريضة يشترط فيها وجوب الإستقرار بخلاف النافلة على الدابة أو نحوها وهي سائرة كما لا يخفى على من له ملكة فقهية ومعرفة بمدارك المسائل ورويّة.(1/2)
وقد اطلعت على رسالة للشيخ العلامة على بن حسين المالكي المكي سماها حكم الصلاة في الطيارة قرر فيها بطلان الصلاة في الطيارة لعدم التمكن من السجود على الأرض أوما اتصل بها. ونجن نثبتها هنا حرفيا ويكون إستدلالنا بما جاء فيها بالأولى لأنه إذا كان البطلان لعدم السجود على الأرض أو ما اتصل بها فلأن يكون أيضا لعدم اتصال المصلى بقدميه بما ذكر من باب أولى لأن السجود قد عهد فيه الإكتفاء بالإيماء عند العجز لكن اتصال المصلى بقرار الأرض ولو بواسطة لم يغتفروه ولا في حال من الأحوال إذ هو مدلول منطوق الحديث السابق.
وهاك نص الرسالة المذكورة: {"حكم الصلاة في الطيارة" بسم الله الرحمن الرحيم استدل فقهائنا المالكية بقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت الأرض مسجدا" الحديث، على أن حقيقة السجود شرعا هي ما عرفه به بعضهم بقوله مس الأرض أو ما اتصل بها من ثابت بالجبهة إهـ. واحترز بقوله أو ما اتصل بها عن نحو السرير المعلق. وبقوله من ثابت عن الفراش المنفوش جدا. ودخل به السرير الكائن من خشب لا من شريط. نعم أجازه بعضهم للمريض. وظاهر قوله ما اتصل بها ولو كان أعلى من سطح ركبتي المصلى وذلك كالمفتاح أو السبحة ولو اتصلت به والمحفظة وهو كذلك. نعم الأكمل خلافه، هذا هو الأظهر كما في عبد الباقي وغيره. أنظر مجموع الشيخ الأمير. أفاده دسوقي على مختصر الدردير. والحاصل كما في فتاوى والدي الشيخ حسين أن المرتفع عن الأرض إن كان ارتفاعه كثيرا فلا يجزئ السجود عليه كما تفيده المدوّنة وهو المعتمد خلافا لقول غير واحد إنه مكروه.(1/3)
وأما إن كان ارتفاعه قليلا كسبحة ومفتاح ومحفظة فلا خلاف في صحة السجود عليه وإن كان خلاف الأولى. وأما السجود على الأرض المرتفعة فمكروه فقط. وأما السجود على غير المتصل بالأرض كسرير معلق فلا خلاف في عدم صحته أي السجود عليه إهـ. قلت وذلك لأن السجود عليه ليس بسجود شرعيّ إذ حقيقته كما علمت أن يكون على الأرض أو ما اتصل بها. والسرير المعلق لم يتصل بالأرض. ومنه يعلم بالأولى أن سجود راكب الطيارة التي حدث في هذا الزمان ركوبها في الأسفار للأقطار البعيدة في صلاته فرضا أو نفلا مستقبلا جهة القبلة لا خلاف في عدم صحته. وعليه فالواجب على راكبها أن يجمع جمع تقديم بين الظهرين وبين العشائين. إذا أراد ركوبها بعد دخول وقت الأولى أو يؤخرها الآخرة وقت الثانية إذا ركبها قبل دخول وقت الأولى. ويتفق مع مأمور سيرها على ذلك وعلى نزوله لصلاة الصبح آخر وقتها وإلا صدق عليه قول الإمام مالك (أيركب حيث لا يصلى أو يخرجها عن وقتها ويل لمن ترك الصلاة) أي حقيقة أو حكما، إذ صلاته بها مع ما علمت ليست بصلاة بل هي معدومة شرعاً، والمعدوم شرعا كالمعدوم حسًّا فافهم تغنم. هذا تحقيق المقام فاحفظه. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. انتهت الرسالة المذكورة حرفيا.
إذا تقرر هذا وهو عدم صحة الصلاة في الطيارة بمعنى عدم إجزائها وأنها لا تسقط الفرض عن المكلف فأقول - وبالله التوفيق للصواب -: إنه يجب على راكب الطيارة إذا دخل وقت الصلاة وهو فيها معلق في الهواء ولم يغلب على ظنه أنها تهبط إلى الأرض قبل خروج الوقت أن يصلي فيها كيف أمكنه ولو جالسا في الكرسيّ بالإيماء ويكون ذلك لحرمة الوقت لا غير. فإذا نزل إلى قرار الأرض قضى تلك الصلاة. وفائدة صلاته في الطيارة لحرمة الوقت أنه لو مات قبل التمكن من القضاء لا يؤاخذ في الآخرة، لأنه قد عمل مقدوره وما في وسعه.(1/4)
وقول الشيخ العلامة على بن حسين المالكي في رسالته (ويتفق مع مأمور سيرها على ذلك وعلى نزوله لصلاة الصبح أخر وقتها) هذا مستحيل عادة فلا يمكن أن يطاع أي راكب مهما كان بل ولا يصدر طلبه من أي راكب لأن الذي استقر عليه نظام سير الطيران كما هو معلوم جليا عدم مراعاة الأمور الدينية وبالأخص أوقات الصلوات ولا يؤخذ ذلك في الإعتبار أصلا بل الذي يشاهد في بعض رحلات الطيارة أن الكثير من ركابها يخرجون عن الحشمة وعن الآداب الإسلامية وقد يكون فيها الكثير من الكفار فيجري فيها شرب الخمور ويقع فيها من كثير من النساء التعرى والسفور وتحمير الوجوه بالدمام والإسفيذاج وتزجيج الحواجب والأجفان بما يسمونه بالمكياج، أجفانها مطلية بألوان الرصاص وأظفارهن كأنها من نحاس فهن يمثلن حلية أهل النار. كل ذلك قصدا للفتنة وتحديا وأمنا لمكر الله عز وجل. وتارة تضع البرنيطة على رأسها وتارة ترفعها وتظهر ذوائبها وعقاصها ولا يدخل قلوبَهم خوف الله وخشيته ولا ينظرون إلى أنهم معلقون في الهواء بين السماء والأرض يخشى عليهم بطشه وسطوته. ولكن سبحان الله الحليم الصبور.
نسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين لاستخضار خشيته في كل وقت وحين. اللهم احفظنا بحفظك التام يا ذا الجلال والإكرام. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد مسك الختام وعلى آله وصحبه البررة الكرام
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيام. سبحان
ربك رب العزة عما يصفون
وسلام على المرسلين
والحمد لله رب
العالمين.
كتبه الفقير إلى رحمة ربه المنان
إسماعيل عثمان زين
لطف الله به(1/5)