ما جاء في لبس خاتم الحديد
أولاً: أدلة المنع
1.قال أبو داوود في سننه : بَاب مَا جَاءَ فِي خَاتَمِ الْحَدِيدِ
حَدَّثَنَا الحسنُ بنُ عَلِيٍّ ومحمدُ بنُ عبدِ العَزِيزِ بنِ أَبِي رِزْمَةَ - الْمَعْنَى- أَنَّ زَيْدَ بْنَ حُبَابٍ أخبرهم عن عبدِ اللَّهِ بنِ مُسْلِمٍ السُّلَمِيِّ المَرْوَزِيِّ أَبِي طَيْبَةَ عن عبد اللَّهِ بنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيهِ خَاتَمٌ مِن شَبَهٍ ؛ فَقَالَ لَهُ : مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ ، فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ ؛ فَقَالَ : مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ ، فَطَرَحَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ ؟ قَالَ : اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا .
وَلَمْ يَقُلْ مُحَمَّدٌ : عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ ، وَلَمْ يَقُلْ الْحَسَنُ : السُّلَمِيَّ الْمَرْوَزِيَّ .
- الحسن بن علي : هو أبو علي الحُلْواني الهذلي الخلَّال نزيل مكة ، ثقة حافظ ثبت ، روى له الجماعة إلا النسائي ، أُخِذَ عليه توقُّفُه في تكفير الواقفة ، وأنه لا ينتقد الرجال ، توفي سنة 242هـ بمكة .
- محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة : هو أبو عمرو المروزى قدم بغداد حاجَّاً وحدَّث بها ، وثقه النسائي والدارقطني وابن حجر وقال أبو حاتم : صدوق ، ووصفه الذهبي في الكاشف : بالحافظ ، روى له الجماعة إلا مسلماً ، توفي سنة 241 هـ .(1/1)
- وقوله: " المعنى " : قال ابن الصلاح في معرفة علوم الحديث: (( وقول أبي داود صاحب السنن ؛ "حدثنا مسدد وأبو توبة - المعنى - قالا: حدثنا أبو الأحوص " ، مع أشباهٍ لهذا في كتابه ، يُحْتَمَلُ أن يكون من قبيل الأول ، فيكون اللفظ لمسدد ويوافقه أبو توبة في المعنى ، ويُحْتَمَلُ أن يكون من قبيل الثاني ، فلا يكون قد أورد لفظ أحدهما خاصة ، بل رواه بالمعنى عن كليهما ، وهذا الاحتمال يقرب في قوله : "حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل المعنى واحد قالا: حدثنا أبان " )) ا.هـ كلام ابن الصلاح .
- زيد بن الحُبَاب : ابن الريان أبو الحسين العُكْلي ، الكوفى خراسانى الأصل ، سكن الكوفة ، وثقه جمع من الأئمة كابن معين وغيره ، أخذوا عليه أحاديث أخطأ فيها على الثوري وتحديثه عن المجاهيل بالمناكير ، روى له الجماعة إلا البخاري فإنما أخرج عنه في جزء القراءة خلف الإمام ، توفي سنة 230 هـ .
- أبو طَيْبَةَ عبد الله بن مسلم السلمي المروزي : قاضي مرو ، من الثامنة ، قال عنه الإمام أحمد – كما في سؤالات المروذي - : ( لا أعرفه ) ، وقال أبو حاتم عنه : يُكْتَبُ حديثه ، ولا يحتج به ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يخطئ ويخالف" ، وذكره البخاري في تاريخه الكبير وسكت عنه ، وقال الذهبي في الميزان : صالح الحديث ، وفي التقريب : صدوق يهم ، وأخرج ابن حبان حديثه هذا في صحيحه ، وروى له أبو داوود والترمذي والنسائي .
- عبد الله بن بريدة : أبو سهل المروزى ، قاضى مرو وأخو سليمان بن بريدة كانا توأمين، وهما ابنا الصحابي الجليل بريدة بن الحُصَيِّب الأسلمي رضي الله عنه ، وعبد الله بن بريدة ثقة من رجال الجماعة أُنكرِت عليه أحاديث حدَّث بها عن أبيه ، وحديثه عن أبيه عند الجماعة ، من الثالثة ، وتوفي سنة 105 هـ وقيل 115 هـ .
- وأما بريدة بن الحصيب رضي الله عنه فتوفي سنة 63 هـ بمرو .(1/2)
- خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ : هو الخاتم من النحاس الأصفر ، والشبه أرفع النحاس وسُمِّيَ بذلك لشبهه بالذهب في لونه ، وعند الترمذي : " خاتم من صفر " .
- مالي أجد منك ريح الأصنام : قال الخطابي والبيهقي في الشعب : لأن الأصنام كانت تتخذ من الشبه .
- حِلية أهل النار : قيل : هو زينة بعض الكفار في الدنيا ، وقيل : زينتهم في النار بملابسة السلاسل والأغلال ، وقيل : إنما كرهه النبي صلى الله عليه وسلم لنتنه .
- ولا تتمَّه مثقالاً : أي لا يكون الخاتم ثقيلاً مبالغاً في وزنه .(1/3)
هذا الحديث : أخرجه أبو داوود - والبيهقي في الشعب من طريقه – وأخرجه الترمذي ، والنسائي – ومن طريقه أبو بشر الدُّولابي في الكنى - ، وأخرجه أبو يعلى في مسنده – كما عزاه إليه الزيلعي وابن حجر ، ولم أجده في المطبوع من مسند أبي يعلى - ، وأخرجه ابن حبان ي صحيحه ؛ كلهم من طريق زيد بن الحباب عن عبد الله بن مسلم أبي طيبة ، وتابع زيداً أبو تميلة يحيى بن واضح – مروزي ، من التاسعة ، من رجال الجماعة ، ثقة - عند الترمذي ، وذكر زيادة خاتم الذهب ، فالظاهر أنها من تفرد أبي تميلة ، وهذا الحديث مروزي مداره على أبي طيبة وإسناده ضعيف لا تقوم به حجة لما تقدم من حال أبي طيبة ؛ ولا ينهض حديثه وحده على تقرير المنع ، ولذا ضعفه الترمذي في سننه فقال: " هذا حديث غريب " ، والنسائي في الكبرى ؛ فقال : " هذا حديث منكر " وقال ابن حجر في الفتح : (( كأنه – أي البخاري -لم يثبت عنده شيء من ذلك – أي النهي -على شرطه )) ا.هـ ، وضعفه ابن عبد البر في التمهيد ، وقال النووي عنه في المجموع : (وفي إسناده رجل ضعيف) ، وضعفه ابن رجب في أحكام الخواتم ، وشكَّك ابنُ حجر في الفتح في صحته ، وقال : ( فإن كان محفوظاً حُمِلَ المنعُ على ما كان حديداً صرفاً ) ، وضعفه الشيخ الألباني من حديث بريدة في ضعيف السنن وفي ضعيف موارد الظمآن ، نعم ؛ صححه بعض أهل العلم كابن حبان في صحيحه ، فقال : ( ذكر الزجر عن أن يتختم المرء بخاتم الحديد أو الشبه ) ، وساقه بإسناده إلى أبي الكريب محمد بن العلاء الهمداني عن زيد بن الحباب به .
والصواب: أن هذا الحديث جاءنا من مرو وتفرَّد به أبو طيبة ، ولا يحتمل لمثله فالحديث ضعيف، وهو من النكارة ليس ببعيد .(1/4)
2. قال إمام السنة الإمام أحمد في موضعين من المسند : حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتما من ذهب فأعرض عنه ، فألقاه واتخذ خاتما من حديد ، فقال : هذا شرٌّ – وفي الرواية الأخرى: أشرٌّ - ؛ هذا حلية أهل النار ، فألقاه فاتخذ خاتما من ورق ؛ فسكت عنه
- يحيى : هو الإمام يحيى بن سعيد القطان الثبت الحافظ المتقن ، توفي سنة 198 هـ .
- ابن عجلان : هو محمد بن عجلان أبو عبد الله المدني ، من الخامسة ، توفي في المدينة سنة 148 هـ ، أخرج له الأربعة ، ومسلمٌ استشهاداً ، والبخاري تعليقاً ، وثقه عامة الأئمة وإنما أخذوا عليه الاضطراب فيما يسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي حديثه عن نافع ، وتابع المثنى بنُ الصباح ابنَ عجلان على حديثه هذا – ذكره ابن رجب في أحكام الخواتم - .
- عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : سند مشهور معروف كتبه العلماء الأئمة وما تركوه ، وحسَّنه بعضُهم ، وأنكروا تفرداته ، تعرف وتنكر .
هذا الحديث : رواه أحمد في مسنده في موضعين بالسند نفسه ، ومسدَّد في مسنده من طريق يحيى ، والبخاري في الأدب المفرد من طريق سليمان بن بلال ، ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان كلاهما من طريق همام بن يحيى ثلاثتهم عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب به ؛ واختصره همَّامٌ بلفظ : " نهى عن خاتم الذهب وعن خاتم الحديد " وهذا إسناد محتمل واختلف العلماء في صحة حديث ابن عجلان هذا ، فالبيهقي استنكر لفظ المسند إذ فيه : أن خاتم الحديد شرٌ من الذهب ، فقال البيهقي : ( وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، مرفوعا في كراهية التختم بالحديد ، وقوله حين اتخذه : هذا أخبث وأخبث ، وليس بالقوي ) ا.هـ ، وحديث ابن عجلان هذا ضعفه أيضاً ابنُ عبد البر في التمهيد ، وغمزه ابن رجب في أحكام الخواتم .(1/5)
واختار بعض أهل العلم صحة هذا الحديث فقال ابن مفلح في الفروع : ( حديث حسن ) ، وجزم بصحته الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد وفي آداب الزفاف .
سؤال : هل الإمام أحمد يصحِّحُ حديثَ بُرَيْدَة وحديثَ عمرو بن شعيب المتَقَدِّمَيْنِ ؟
سُئِلَ الإمامُ أحمد رحمه الله من أكثر من واحد من تلاميذه عن خواتم الحديد ، وكل أجوبة الإمام أحمد تدل على أنه كان يكرهه شديداً ، وانضاف إلى ذلك في بعض أجوبة الإمام أحمد أنه كان يذكُرُ حديثَ عمرو بن شعيب ، وتارة كان يجزم هو بأن خواتم الحديد حلية أهل النار .
- ففي مسائل إسحاق بن منصور الكوسج قال: ( قلت : الخاتم من ذهب أو حديد يُكره؟ قال: إي والله يُكره ، والحديد يُكره ، قال إسحاق : كلاهما كما قال ) ، قال ابن مفلح في الآداب الشرعية ونحوه في الفروع : (ويُكره للرجل والمرأة خاتمُ حديد وصفر ونحاس ورصاص ؛ نص عليه في رواية إسحاق وجماعة ) ا.هـ .
- وفي الفروع : ( وسأله الأثرم عن خاتم الحديد ، فذكر خبر عمرو بن شعيب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : " هذه حلية أهل النار " ، وابنُ مسعود قال : " لُبْسَةُ أهل النار " ، وابن عمر قال : " ما طَهُرَت كفٌّ فيها خاتم حديد " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بُرَيْدَةَ رضي الله عنه لرجلٍ لبسَ خاتماً من صُفْر : " ما لي أجدُ منكَ ريح الأصنام " ، فقد احتج بخبر بريدة ) ا.هـ كلام ابن مفلح .(1/6)
هذا ما نقله ابن مفلح من جواب الإمام أحمد للأثرم في خاتم الحديد ، وقد سار الحنابلة بعد ابن مفلح على ذكر هذا النقل عن الأثرم ، ويغلب عندي أنهم أخذوه من كلام ابن مفلح ونقله ، بينما نجد أن ابن عبد البر في التمهيد يذكر جواب الإمام أحمد للأثرم بلفظ مختلفٍ تماماً ، فقال ابن عبد البر في التمهيد : ( وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الحميد بن أحمد حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم قال : قلت لأبي عبدالله يعني أحمد بن حنبل : ما ترى في خاتم الحديد ؟ فقال : اختلفوا فيه ؛ لَبِسَهُ ابنُ مسعود، وقال ابن عمر: ما طَهُرَت كفٌّ فيها خاتمٌ من حديد ) ، وهذا الإسناد هو الذي روى من خلاله ابنُ عبد البر أحاديثَ الأثرم وسؤالاته ، وقال عنه ابن عبد البر في موضع آخر : ( وهذا إسناد صحيح كل مذكورٍ فيه ثقة معروف بالعلم ) ، وعبد الله بن محمد شيخ ابن عبد البر هو ابن عبد المؤمن ، وعبد الحميد هو ابن أحمد الوراق ، كما هو ظاهر في سياق أسانيد أخرى من التمهيد ، فالإمام أحمد اقتصر في جوابه هنا على ذكر الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم ولم يذكر غير ذلك ، وهذا ما فعله ابن رجب في كتابه أحكام الخواتم ، إذ ذكر سؤال الأثرم للإمام أحمد ، وكان جواب الإمام أحمد أن ذكر حديث عمرو بن شعيب ، ثم حكى اختلاف الصحابة كما حكاه ابن عبد البر ، ثم قال الإمام أحمد : اختلفوا فيه .(1/7)
والذي تميل له نفسي هو أن ما نقله ابن عبد البر وابن رجب من كلام الأثرم أصح وأظهر ؛ لأن الإمام أحمد يبعد أن يحتج بخبر أبي طيبة أو يذكره مستدلاً به وحالُه من عَرفتَ ، وحديثُه استنكره الترمذي والنسائي وغيرهما، ولأن المعروف عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يلبس خاتم الحديد كما صحَّ عنه وسيأتي ذكرُ الآثار عنه ، ولأن المرداوي يقول في الإنصاف: (إذا علمت ذلك ؛ فالصحيح من المذهب أن المراد بالكراهة هنا: كراهة تنزيه ، قال ابن رجب: عند أكثر الأصحاب) ، فهل يُمكن أن ينضاف ما نقله ابن مفلح عن الأثرم إلى ما نقله الكوسج إلى ما نقله مهنَّا -وسيأتي- ، ثم يذهب أكثر الأصحاب إلى أن المذهب هو كراهة التنزيه فحسب ؟ هذا بعيد . والله أعلم
- وفي الإنصاف : (ونقل مُهَنَّا " أكره خاتم الحديد ؛ لأنه حِليَةُ أهلِ النار " ) ا.هـ .(1/8)
فهذه خلاصة النقول عن الإمام أحمد وعند تأملها يتبين لنا بظهور أن الإمام أحمد ينهى عن خاتم الحديد ، ويكرهه ويراه حلية لأهل النار وهذا ظاهر معروف في نصوص الكتاب ، ومنها قول الله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (غافر:71) ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(سبأ: من الآية33) ، ولكنه إذا تأملنا سؤال الأثرم على ما حكاه ابن عبد البر وابن رجب ، نجد أن الإمام أحمد لا يحتج احتجاجاً ظاهرا بحديث عمرو بن شعيب ؛ فإنه ذكره ثمَّ ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ، ثم ختم جوابه بقوله - كما في نقل ابن رجب - : ( اختلفوا فيه ) ، وعند أئمة الإسلام كأحمد وغيره ليس مع النص الصريح الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم كلامٌ لأحد ، فكيف بعد ذكره الحديث يختم جوابه بقوله : ( اختلفوا فيه ) هذا مما يوهن النص ويضعف دلالته أو ثبوته ولا يكون من أحمد ولا ممن هو أقل قدراً منه إن كان يرى صحة الخبر ، ثم إن الإمام أحمد جزم به معلقاً إلى عمرو بن شعيب ، ولم يذكر الخبر عن الصحابي وهذا فرق ظاهر وطريقة مقصودة ؛ فكأن الإمام أحمد يقول : هذا عمرو بن شعيب يروي حديثاً في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه حلية أهل النار ؛ وبذا أحال الإمام أحمدُ السائلَ الأثرمَ - وهو إمام في الفقه والحديث والعلل - على مذهبه في عمرو بن شعيب ، يتقوَّى كلُّ ماتقدم إن علمنا موقف الإمام أحمد من مرويات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ؛ فقال أبو الحسن الميمونى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ( عمرو بن شعيب له أشياء مناكير ، و إنما يُكْتَبُ حديثُه يُعتبَرُ به ، فأمَّا أن يكون حجة فلا ) ، و قال أبو بكر الأثرم : سئل أبو عبد الله عن عمرو بن شعيب ، فقال : ( أنا أكتب حديثه ، و ربما احتججنا به ، و ربما وجس فى القلب منه شىء ، و مالك يروي(1/9)
عن رجل عنه ) ، وقال أبو داود عن أحمد بن حنبل: ( أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، و إذا شاءوا تركوه ) ، - قال الذهبي معلقاً على عبارة الإمام أحمد المتقدمة - : (هذا محمول على أنَهم يتردّدُون في الاحتجاج به، لا أنهم يفعلون ذلك على سبيل التشهِّي ) ا.هـ .
فهذا موقف الإمام أحمد من مرويات عمرو بن شعيب وعند تأملها نجد موقفه هذا متوافق مع الحديث الذي بين أيدينا وكيف تعامل معه الإمام رحمه الله ، وأما ما نقله الترمذي عن البخاري عن ابن المديني وأحمد وإسحاق وأبي عبيد أنهم يحتجون بخبر عمرو بن شعيب ولا يتركونه ، فهذا النقل تعرض الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء لردِّه بوضوح ؛ ويمكن أن يُرْجَعَ إليه في ترجمة عمرو بن شعيب من السير .
هذا آخر ما ظهر لي في جواب هذا السؤال ، وإن كان ابن مفلح وابن رجب يجزمان باحتجاج الإمام أحمد بحديث عمرو بن شعيب هذا ، بل بالغ ابنُ مِفْلِح وذكرَ أن الإمامَ أحمد يحتج بخبر بريدة ، وهذا بعيد والغالب أنه نشأ بسبب نقل ابن مفلح لسؤال الأثرم وجواب الإمام بالمعنى ؛ والله أعلم .
** وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا سُرَيْجٌ حدثنا عبد الله بن المؤمَّل عن ابن أبي مُلَيْكَة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : أنه لبس خاتماً من ذهب فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه كرهه فطرحه ، ثم لبس خاتماً من حديد ، فقال : هذا أخبث وأخبث فطرحه ، ثم لبس خاتماً من وَرِقٍ فسكت عنه .
- سُرَيْجٌ : هوسريج بن النعمان بن مروان الجوهرى اللؤلؤى ، أبو الحسين البغدادى ، أصله من خراسان ، من العاشرة ،توفي سنة 217 هـ ، روى له الجماعة إلا مسلماً ، وثقه ابن معين وابن سعد والدارقطني وابن حبان والذهبي ، ووثقه أبو داوود ، وزاد : ( حدثنا عنه أحمد بن حنبل ، غلط في أحاديث ) ، وقال النسائي : ليس به بأس ، وفي التقريب : ثقة يهم قليلاً .(1/10)
- عبد الله بن المؤمل : هو عبد الله بن المؤمل بن وهب الله القرشى المدني ويقال : المكي ، من السابعة ، توفي سنة 160 هـ ، ضعفه عامة الأئمة وجزموا بنكارة حديثه بل ترك بعضهم حديثه لكثرة النكارة فيها ، وقد ذكر ابن عدي في الكامل أحاديث كثيرة منكرة لابن المؤمل ثم قال : (( ولابن المؤمل هذا غير ما ذكرت من الحديث ، وعامة ما يرويه الضعف عليه بَيِّن )) ا.هـ .
- ابن أبي مليكة : هو عبد الله بن عبيد الله بن أبى مُليكة المكي ، من الثالثة ، توفي سنة 117 هـ ، من رجال الجماعة ، ثقة فقيه ، وحديثه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه في الصحيحين .
- هذا الحديث : إسناده ضعيف ، والنكارة فيه ظاهرة من ابن المؤمل إذ جعله من حديث ابن أبي مُليكة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، بينما رواه الثقات الأثبات من أصحاب ابن عجلان عن ابن عجلا فجعله من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وابن المؤمل ممن أخذ عن عمرو بن شعيب فلعله دخل عليه حديثُ عمرو بن شعيب بحديث ابن أبي مُليكة ، فلا قيمة لهذه المتابعة إذ الأظهر أن المعروف طريق عمرو بن شعيب ، وطريق ابن المؤمل عن ابن أبي مليكة خطأٌ .
3. وقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا عمار بن أبي عمار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في يد رجل خاتما من ذهب فقال : " أَلْقِ ذا " ، فألقاه ، فتختم بخاتم من حديد ، فقال : " ذا شرٌ منه " ، فتختم بخاتم من فضة فسكت عنه .
- عفان : هو ابن مسلم أبو عثمان الصفار االبصري الحافظ الثبت ، من رجال الجماعة ، من العاشرة ، توفي سنة 219 هـ .
- حماد : هو ابن سلمة بن دينار البصري ، من الثامنة ، توفي سنة 167 هـ ، روى له الجماعة إلا البخاري تعليقاً ، وهو إمام ثقة .(1/11)
- عمار بن أبي عمار : هو أبو عمر المكي ، من الثالثة ، توفي بعد 120 هـ ، روى له الجماعة إلا البخاري ، ووثقه أحمد وأبو داوود وأبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان ، وأنَّى لمثله أن يدرك عمراً رضي الله عنه ، فهذا السند منقطع بين عمار وعمر رضي الله عنه فهو لم يسمع منه وجزم بذلك الهيثمي في مجمع الزوائد والمتقي الهندي في كنز العمال ، ولا تعويل عليه إذ الثقات الأثبات ممن رواه عن عمر سمع من عمر رضي الله عنه أو لم يسمع منه إنما رواه عنه موقوفاً عليه من غير أن يرفعه الفاروق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
4. قال الطبراني في الأوسط والكبير – ومن طريقه أبو نعيم في معرفة الصحابة - : حدثنا أحمد قال : نا أبو جعفر قال : نا عباد بن كثير الرملي ، عن شميسة بنت نبهان ، عن مولاها مسلم بن عبد الرحمن قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم « يبايع النساء عام الفتح على الصفا ، فجاءت امرأة كأن يدها يد الرجل ، فأبى أن يبايعها حتى ذهبت فغيرت يدها بصفرة ، وأتاه رجل في يده خاتم من حديد » ، فقال : « ما طهَّرَ اللهُ يداً فيها خاتمٌ من حديد » .
- أحمد : هو أحمد بن عبد الرحمن بن عقال الحراني ، له ترجمة في الكامل لابن عدي وفي الميزان ولسانه ، وهو من شيوخ ابن عدي أيضاً ، وذكر له في الكامل حديثاً منكراً وردَّ الكذب عنه وقال : (وهو ممن يُكتب حديثُه) ، وتابع ابنُ حجر ابنَ عدي على هذا ، وابن عقال لم ينفرد بهذا الخبر بل تابعه عمرو الناقد عند البخاري في التاريخ الكبير عن النفيلي .
- أبو جعفر : هو النفيلي عبد الله بن محمد بن على بن نفيل الحراني ، من العاشرة ، توفي سنة 234 هـ ، وهو ثقة حافظ ثبت ، روى له الجماعة إلا مسلماً .
- عباد بن كثير الرملي : هو الفلسطينى الشامى ، روى له ابن ماجه ، وضعفه عامة الأئمة رحمهم الله بل تركه جماعة ، وقال الحاكم : روى أحاديث موضوعة .(1/12)
- شميسة بنت نبهان : لم أر من ترجم لها ، ولذا قال الهيثمي في مجمع الزوائد : ( لم أعرفها ) ، مع أنه قد ذكرها أبو الحجاج المزي في شيوخ عباد بن كثير ، وذكر حديثها هذا البخاري في التاريخ الكبير من رواية النفيلي به ، وكل من ترجم لمسلم بن عبد الرحمن في الصحابة إنما ذكر حديث شميسة هذا عنه ، ومثلها لا تطمئن النفس لروايتها ، إذ يكاد يجزم الناظر أن جهالة عينها لا ترتفع ؛ وكيف ترتفع وعباد الرملي المتروك انفرد عنها بالرواية وليس لها في دواوين الإسلام إلا هذا الحديث ؟ ، ولذا قال ابن حبان في ترجمة مسلم بن عبد الرحمن في الثقات : (( مسلم بن عبد الرحمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما طهَّرَ اللهُ كفاً فيه خاتم من حديد " ، حديثه عند شميسة بنت نبهان وما أراه بمحفوظ )) ا.هـ كلامه .
- هذا الحديث : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وعزاه الهيثمي في المجمع لمسند البزار ، وقال : " وفيه شميسة بنت نبهان ولم أعرفها ، وبقية رجاله ثقات " ا.هـ ، وهذا بعيد جداً لما تقدم من حال عباد بن كثير ، وقد رجعت إلى كشف الأستار فوجدت الحافظ البزار يرويه من طريق عباد أيضاً عن شميسة ، وقال : " لا نعلم روى مسلمٌ إلا هذا " ، فهذا الحديث واهٍ ضعيف جدا ً، لا يعوَّلُ عليه في احتجاج ولا استشهاد .
5. قال ابن وهب في جامعه : أخبرني أبو صخر أن يزيد بن قسيط حدثه : أنَّ رجلا من الأنصار قعد عند عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وهو متختِّمٌ بخاتم من ذهب ؛ فمسح لحيته ، فلما رآه عمرُ رضي الله عنه قال : حليةٌ من نار ، فرجع الرجل فتختم بخاتم من حديدٍ ، فلما رآه عمر رضي الله عنه قال : حلية أهل النار ، فرجع الرجل فتختم بخاتم من ورق ، فلمَّا رآه عمر رضي الله عنه سكت .(1/13)
- أبو صخر : هو حميد بن زياد المدني ، أبو صخر الخراط ، سكن مصر ، من السادسة ، توفي سنة 189 هـ ، روى له الجماعة إلا البخاري ففي الأدب المفرد ، والنسائي ففي مسند علي ، قال عنه أحمد : ليس به بأس ، ووثقه ابن معين والعجلي والدارقطني وابن حبان ، وضعفه ابن معين مرة أخرى وضعفه النسائي وعدّ ابن عدي في الكامل بعض مناكيره ، ولذا قال الذهبي في الكاشف : مختلف فيه ، وفي الميزان : ( وقال ابن عدى: هو عندي صالح الحديث، إنما أنكر عليه حديثان ، ثم إن ابن عدى ذكر حميد بن صخر في موضع آخر فضعفه ) ا.هـ من الميزان ، وفي التقريب: صدوق يهم .
- يزيد بن قسيط : هو يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثى المدني ، من الرابعة ، ولد سنة 32هـ - أي بعد وفاة الفاروق رضي الله عنه بعشر سنين - ، وتوفي سنة 122هـ في المدينة ، وهو ثقة من رجال الجماعة .
هذا السند ظاهر الانقطاع كما هو ظاهر من ترجمة يزيد بن قسيط فهو لم يدرك عمر رضي الله عنه .
**وقال ابن وهب : وأخبرني أسامة بن زيد قال : سمعت مكحول الدمشقي يقول : دخل عوف بن مالك الأشجعي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه خاتم من ذهب فضرب عمر رضي الله عنه يده وقال : ارمِ بهذا ، فرمى به ، فقال عمر رضي الله عنه: ما أرانا إلا قد أوجعناك وأهلكنا خاتمك ، ثم جاء الغد وعليه خاتم من حديد ؛ فقال : استبدلت حلية أهل النار ، قال : فرمى به ، ثم جاء الغد وعليه خاتم من وَرِق ؛ فسكت عنه .
- أسامة بن زيد : هو أسامة بن زيد الليثى المدني لا ابن أسلم كما وقع التصريح بذلك في رواية ابن سعد في الطبقات ، والليثي هو من أكثر عنه ابن وهب – مع أنه يروي عن الاثنين معاً - وهو من ذَكَره أبو الحجاج المزي في تلاميذ مكحول ، من السابعة ، توفي سنة 153 هـ ، خفيف الضبط وله مناكير معروفة ، روى له الجماعة إلا البخاري تعليقاً ، ومسلماً استشهاداً .(1/14)
- مكحول الشامي : هو الإمام الدمشقي الكبير ، من الخامسة ، توفي سنة مائة وبضع عشرة ، لم يدرك عمر رضي الله عنه ، ولم يسمع من عوف بن مالك وهو كثير الإرسال عن الصحابة إلا مروياته عن نفر يسير ، وعوف سكن الشام في دمشق وتوفي سنة 73 هـ في خلافة عبد الملك بن مروان .
هذا الأثر : أخرجه ابن سعد في الطبقات أيضاً من طريق أسامة بن زيد الليثي به ، وهو كالذي قبله منقطع .
***وقال عبد الرزاق في مصنفه ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان : عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى على رجل خاتماً من ذهب ، فأمره أن يُلقيَه ، فقال زياد : يا أمير المؤمنين ! إن خاتمي من حديد ، قال : ذلك أنتن وأنتن " .
هذا السند : مرسل بصري صحيح إلى ابن سيرين ولكنه فيه انقطاع بينه وبين عمر رضي الله عنه فابن سيرين لم يدرك الفاروق رضي الله عنه ، وقوله : " أنتن وأنتن " ، إن أراد أنه أشر وأخبث من الذهب فهذا معنىً مرفوض ويكون علامة على نكارة الأثر ، وإن قصد أنه أنتن من الذهب لما يكون له من رائحة وصدأ ، فهذا يدل على أن الحديد لا يأخذ التشديد في النهي كما هو الحال في الذهب ، ويكون كما سيأتي في كلام البيهقي وغيره أن الحديد إنما كرهه من كرهه لرائحته ونتنه ، وهذا المعنى الثاني أظهر من كلام الفاروق عمر رضي الله عنه ، وهو ما فهمه ابن سيرين الراوي عنه ؛ إذ روى ابن أبي شيبة في مصنفه عنه بسند صحيح أنه سئل عن خاتم الحديد فقال : لا بأس إلا أن يكره ريحه .
**** وقال مسدد في مسنده – نقلاً عن المطالب وإتحاف الخيرة - : ثنا يحيى ، عن ابن أبي عروبة ، حدثنى قتادة ، عن قزعة ، عن عبدالرحمن- صاحب السقاية – قال : " دخل زياد على عمر رضي الله عنه وفي يده خاتم من ذهب فقال عمر رضي الله عنه : اتخذتم حِلَق الذهب ؟ قال أبوموسى : لكن خاتمي من حديد ، فقال عمر رضي الله عنه: ذلك أنتن (أو) أخبث، من كان منكم متختماً فليتختم بخاتم فضة "(1/15)
- قزعة : هو قَزَعَة بن يحيى أبو الغادية البصري قدم دمشق ، من الثالثة ، روى له الجماعة ، ووثقه العجلي وابن حبان وابن حجر .
- عبد الرحمن صاحب السقاية : هو عبد الرحمن بن آدم البصرى ، من الثالثة ، روى له مسلم وأبو داوود ، قال عنه ابن معين : لا بأس به ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وفي التقريب : صدوق ، ولم يذكر الأئمة له سماعاً أو رواية عن عمر رضي الله عنه ، وإنما ذكروا روايته عن جابر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة رضي الله عنهم ،فالظاهر أنه لم يسمع من عمر رضي الله عنه .
هذا الأثر : أخرجه ابن سعد في الطبقات أيضاً من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن ابن أبي عروبة به ، وهومرسل بصري صحيح إلى من أرسله .
***** وقال أبوبكر بن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن سفيان عن طارق عن حكيم بن جابر أن عمر رضي الله عنه رأى على رجل خاتم حديد فكرهه .
- طارق : هو طارق بن عبد الرحمن البجلى الأحمسى الكوفي ، من الخامسة ، من رجال الجماعة اختلف في توثيقه وتضعيفه ، وفي التقريب : صدوق يهم ، وسفيان هو الثوري .
- حكيم بن جابر : هو حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسى الكوفى ، من الثالثة ، توفي سنة 82 هـ وقيل : 95 هـ،روى له النسائي وابن ماجه ، وقد جزم البخاري في تاريخه الكبير بسماعه من عمر رضي الله عنه .
هذا السند : قوي متصل إلى عمر رضي الله عنه وصح الخبر عنه بهذا السند القوي و يقويه كل ما تقدَّم من المراسيل كمرسل مكحول الشامي ومرسل ابن سيرين ومرسل صاحب السقاية البَصْرِيَّيْنِ ومرسلُ يزيد بن قسيط المدني .
6. قال ابن وهب في جامعه : وحدثني مالك عن صَدَقةَ بن يسار قال : سألت سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم ، فقال : البسه ؛ وأخبر الناس أني قد أفتيتك به ، قال : وقال لي مالك بن أنس في التختم بالحديد والنحاس : لم أزل أسمع أن الحديد مكروه فأما غيره فلا .
- مالك : إمام دار الهجرة ، أبو عبد الله ، من السابعة ، توفي سنة 179 هـ .(1/16)
- صدقة بن يسار : هو الجزري سكن مكة ، من الرابعة ، توفي سنة 132هـ ، وثقه أحمد وابن معين وابن سعد والفسوي وأبو داوود والنسائي وابن حبان وابن حجر ، روى له الجماعة إلا البخاري والترمذي .
* هذا السند : صحيح جليل إلى مالك وإلى سعيد بن المسيب رحمهما الله ، فصح النهي والكراهة عن جماعة من التابعين والأئمة كمالك وصحَّ أيضاً عن عطاء بن أبي رباح عند ابن أبي شيبة في مصنفه .
ثانيا : أدلة الجواز
1. ما رواه الشيخان من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في قصة الواهبة نفسها ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد نكاحها : " التمس ولو خاتماً من حديد " .
وبوَّب عليه البخاري في صحيحه : ( باب خاتم الحديد ) ، فقال ابن حجر : ( كأنه لم يثبت عنده شيء من ذلك على شرطه – أي في النهي عن خاتم الحديد - ، وأما قول ابن حجر : ( استُدِلَّ به على جواز لبس خاتم الحديد ، ولا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس ، فيحتمل أنه أراد وجودَه لتنتفع المرأة بقيمته ) ، فكلام ابن حجر وتعقُّبُهُ فيه بُعد فالحديث ظاهر الدلالة في جواز خاتم الحديد للبسه لا لمجرد الاتخاذ ، وإلا حينئذ أيُّ حديدة غير مصنعة خير من خاتم الحديد ولكانت أيسرَ على الرجل ، ولذا تعقَّب الآباديُّ في عون المعبود كلام ابن حجر ، فقال : ( ولا يخفى ما فيه من الضعف والوهن ) ، وقال الشيخ ابن عثيمين في فتاوى نور على الدرب : ( وهذا دليل على جواز التختم بالخاتم – أي الحديد - إذ أن الخاتم لا ينتفع به إلا بالتختم ، فلولا أنه جائز ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم :" التمس ولو خاتما من حديد" ) ا.هـ ، وقد جرى الاستدلال بهذا الحديث على جواز التختم بالحديد جمعٌ من أهل العلم كالبخاري – كما تقدم – وابن عبد البر في الاستذكار والنووي في المجموع وابن رجب في أحكام الخواتم وجماعة كبيرة لم أعتن بحصرهم .(1/17)
2. قال أبو داوود في سننه : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادُ بْنُ يَحْيَى وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالُوا حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ أَبُو عَتَّابٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَكِينٍ نُوحُ بْنُ رَبِيعَةَ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُعَيْقِيبِ وَجَدُّهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ أَبُو ذُبَابٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ قَالَ فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِهِ قَالَ وَكَانَ الْمُعَيْقِيبُ رضي الله عنه عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- ابن المثنى : هو محمد بن المثنى العنزي أبو موسى الزمن البصري ، من العاشرة ، توفي في البصرة سنة 252 هـ ، وهو ثقة ثبت حافظ ، روى له الجماعة .
- زياد بن يحيى : هو أبو الخطاب العدنى البصرى ، من العاشرة ، توفي سنة 254 هـ ، ثقة ، من شيوخ الجماعة .
- الحسن بن علي : هو الخلال ، ثقة حافظ ، وتقدم .
- سهل بن حماد : هو العَنْقَزيُّ أبو عتَّاب البصري ، من التاسعة ، توفي سنة 208 هـ ، روى له الجماعة إلا البخاري ، وهو صدوق .
- نوح بن ربيعة : أبو مَكِين الأنصاري مولاهم البصري ، من السادسة ، توفي سنة 153 هـ ، وروى له أصحاب السنن أبو داوود والنسائي وابن ماجه ، ووثقه أحمد وابن معين وأبو داوود وأبو زرعة وابن حبان ؛ وزاد : يخطئ ، وقد ذكره العقيلي في الضعفاء وذكر له خبراً منكراً ، وقال : ( ولا يتابع على حديثه ، ولا يعرف إلا به ) ، وقال الذهبي : (وثقه غير واحد، وله حديث غريب ، قال العقيلى: لا يتابع عليه ، وقال البخاري: نوح عن أبى مجلز، وعنه ليث بن أبى سليم ؛ منكر الحديث .... ثم ساق له الذهبي خبراً آخر منكراً ) ، وكذا نقل ابن حجر في تهذيبه تجريح البخاري لنوح بن ربيعة وليس هو في التاريخ الكبير – فالله أعلم - .(1/18)
والذي يظهر والله أعلم أن نوح بن ربيعة صدوق محتج به لا ينزل عن رتبة الاحتجاج ، وهذا بشهادة الأئمة الكبار الذين وثقوه وفيهم أحمد وابن معين وحدَّث عنه الإمام المتقن يحيى القطان وغيره من الأئمة الكبار كحماد بن سلمة وحماد بن أسامة وأبي داوود الطيالسي ويزيد بن زريع ووكيع بن الجراح ، فمثله لا يُرَدُّ حديثُه بل هو في دائرة المقبول المحتج به ، وأما النكارة في الحديث الذي ذكره العقيلي فالعهدة فيه على صفوان بن هبيرة تلميذ أبي مكين ، فهو لين الحديث كما قال ابن حجر في التهذيب ، وقال عنه أبو حاتم : شيخ ، بل إن العقيلي نفسه ذكر هذا الخبر المنكر في ترجمة صفوان بن هبيرة في كتابه الضعفاء ، وقال أيضاً : (صفوان بن هبيرة المخدج ولا يتابع على حديثه ، لا يعرف إلا به ، بصري رحمه الله ....ثم ساق خبره ، ثم عاد فقال : ولا يعرف إلا عنه ) ، وأما النكارة في الحديث الذي ساقه الذهبي في الميزان ، فقد بيَّن الذهبي نفسه مصدر النكارة فقال رحمه الله : ( وقال البخاري: " نوح عن أبى مجلز، وعنه ليث بن أبى سليم ؛ منكر الحديث " ....... ثم ساق الذهبي سند هذا الخبر ، فقال : ( أبو بكر بن عياش عن ليث عن نوح عن حميد بن لاحق عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " خُيِّرَت أسماءُ بين أزواجها الثلاثة في الجنة ، فاختارت الذى مات موتا ، وكان أحسنهم خلقا " ، هكذا قال : " حميد بن لاحق " ، فإن كان عَنى به أبا مجلز فإنه لم يدرك أبا ذر، وإلا فهو مجهول ) ا.(1/19)
هـ كلام الذهبي ، وبذا دارت النكارة على أسباب هي: إما ليث بن أبي سليم ، وإما : أبو مكين ، وإما : الواسطة الساقطة بين أبي مجلز وأبي ذر ، وإما : جهالة لاحق بن حميد إن لم يكن هو أبا مجلز ، ولجلالة كلام البخاري في النفس فلا يبعد أن يكون الوهم من أبي مكين ، ولكن إن جمعنا كلام أهل العلم فيه تبين لنا أن نوح بن ربيعة لا ينزل عن رتبة الاحتجاج ، ولذا قال الذهبي في الكاشف : ( ثقة ) ، وقال ابن حجر في التقريب : ( صدوق ) .
- إياس بن الحارث بن المعيقيب : هو إياس بن الحارث بن معيقيب بن أبى فاطمة الدوسى ، حجازي ، من الثالثة ، ليس له غير هذا الحديث في السنن ، رواه أبو داوود والنسائي ، ولم يذكر البخاري في تاريخه الكبير ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولا ابن حبان في الثقات ولا المزي في تهذيبه راويا عنه إلا أبا مكين ، وجزم عبد الحق – كما نقله ابن حجر في اللسان- بأنه لا يروي عنه غيرُ أبي مكين ، وإياس ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال ابن حجر في التقريب : صدوق ، وهو يروي هذا الحديث عن جده لأبيه المعيقيب ، لا عن جده لأمه ، وإنما ذكر أبو مكين أبا ذباب كالتنبيه على أن إياس يروي عن جديه لأبيه وأمه وهذا من حديثه عن جده لأبيه المعيقيب رضي الله عنه ، ونبَّه على هذا صاحب عون المعبود ، فلا يُتَوَهَّم أن المعيقيب يروي عنه هذا الحديث كلٌ من إياس حفيده وأبي ذباب ، فهذا الظاهر غير مراد هنا كما هو ظاهر في سياق الآخرين ممن أخرج الحديث وأسنده ، وكما هو ظاهر في كتب التخريج والأطراف ، وعلى كلٍّ فإياس ليس بمجهول عين فعينه معروفة ، ومثله مستور .(1/20)
- المعيقيب : هو المعيقيب بن أبي فاطمة الدوسي صحابي جليل أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، شهد بدراً ، وكان على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كما جزم أهل التاريخ والسير ، وكان على بيت المال في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، واختُلف في وفاته ، هل كانت في خلافة عثمان أو علي رضي الله عنهم ؟ حديثه قليل ، وليس له في الكتب الستة إلا حديثان ؛ حديث مسح الحصى في الصلاة ، وهذا الحديث .
- ملويٌّ عليه فضة : أي معطوفا عليه الفضة – كما في عون المعبود - .
- قَالَ : فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِهِ : الظاهر والله أعلم أن هذا من قول إياس بن الحارث ، كما يدل عليه السياق : ( قَالَ : فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِهِ ، قَالَ : وَكَانَ الْمُعَيْقِيبُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ، فقائل : (قال) ، هو أبو مكين ، وأراد بقال إياسَ بنَ الحارث ، ويدل على ذلك رواية النسائي والبخاري في تاريخه الكبير والطبراني وأبو الشيخ وغيرهم : (عَنْ جَدِّهِ مُعَيْقِيبٍ، قَالَ:كَانَ خَاتَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ ، فَرُبَّمَا كَانَ فِي يَدِي) ، فهنا القول أسند إلى المعيقيب من أوله ، فهو قائل : ( فربما كان في يدي ) .
- وكان المعيقيب على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم : أي أمينا عليه(1/21)
هذا الحديث: أخرجه أبو داوود والنسائي ؛ وبوَّب عليه في الصغرى : (( لُبْسُ خاتَمٍ حديدٍ مَلْوِيٌّ عليه بفضة )) والبخاري في تاريخه الكبير – ترجمة معيقيب - والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وأبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وابن عساكر في تاريخ دمشق وأبو نعيم في معرفة الصحابة ، وزاد: ( وهو الذي سقط من معيقيب ) ، وهذا الحديث إسناده جيد ، ومثله يمشَّى لإياس بن الحارث مع أنه لم يُذكر له غيرُ هذا الحديث ، فهذا الخبر الذي يُروى ليس هو من أصول الأحكام ولا من مهمات المسائل ، وكم من خبرٍ يرويه البخاري في صحيحه وفيه من خفَّ ضبطه أو له ما يُنْكر ويعتذر له ابن حجر في هدي الساري بأن هذا ليس من أصول الأحكام أو أنه من باب الفضائل والآداب ونحو ذلك ، وهذا خبر يرويه عن جده في أمر اشتهر في أسرتهم وخص النبيُّ صلى الله عليه وسلم جدَّ إياس به ، بل يَذكُرُ إياس أن هذا الخاتم ربما جعله جدُّه المعيقيب في يده ، وصنيع كثير من أهل العلم يدل على قبولهم لهذا الخبر والعمل به 1- فقال عنه النووي في المجموع : ( إسناده جيد ) ، وقال ابن مفلح في الفروع : ( إسناده جيد إلى إياس ، وإياس تفرد عنه نوح بن ربيعة ، ولم أجد فيه كلاما ) ، وابن حجر قد ذكر هذا الحديث في الفتح وأشار إلى تقويته وذكر له شواهد كلها تدل على لبس النبي صلى الله عليه وسلم لخاتم الفضة المخلوط مع الحديد الملوي عليه ، ومنها مرسل مكحول بسند صحيح إليه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه ابن أبي شيبة في مصنفه ( 6/64 ) وابن سعد في الطبقات ، ومنها حديث خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الطبراني في الكبير والحاكم وفيه انقطاع ، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى ، وتابع ابنَ حجر على هذا جمعٌ من الشراح كملا القاري في المرقاة والآبادي والمباركفوري في شرحيهما ، 2- ثم إنه قد ذكر غيرُ واحد من(1/22)
أئمة الحديث والتاريخ والسير أن المعيقيب كان على خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظاً له أميناً عليه ، فجزم بذلك كبار الأئمة ممن ألَّف في التاريخ والرجال كالبخاري في تاريخه الكبير وابن حبان في الثقات والكلاباذي في رجال البخاري وخليفة بن خياط في تاريخه وابن عساكر في تاريخ دمشق والنووي في تهذيب الأسماء واللغات والذهبي في عامة كتبه كالسير والعبر وتاريخ الإسلام ، وجزم بذلك عامَّةُ من ألَّف في الصحابة كأبي نعيم وابن عبد البر وابن الأثير ، وجمعٌ ممن ألَّف في السيرة النبوية كابن حزم في جوامع السيرة وابن القيم في زاد المعاد وابن كثير في السيرة النبوية – مع إنكاره لفظ الحديد في حديث المعيقيب كما سيأتي – وغيرهم ممن جاء بعدهم ؛ وهؤلاء إنما جزموا بهذا ونصوا عليه من غير تردد إنما هو من الحديث الذي بين أيدينا ، نعم ؛ قد وقع عند البخاري ومسلم - واللفظ لمسلم - من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : " اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب ثم ألقاه ، ثم اتخذ خاتماً من ورِقٍ ونقش فيه محمد رسول الله ، وقال : لا يَنْقُشْ أحدٌ على نَقْشِ خاتَمي هذا ، وكان إذا لبسه جعل فصَّه مما يلي بطن كفه ، وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس " ، ولكن هذا ليس بالصريح في أن معيقيباً رضي الله عنه كان على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما الذي يدل على هذا صراحة هو حديث إياس عن جده .(1/23)
تنبيه : حديث المعيقيب رضي الله عنه قد ضعفه بعض أهل العلم كالحافظ عماد الدين ابن كثير رحمه الله في السيرة النبوية ، وإنما اعتمد رحمه الله في تضعيفه على ما أخرجه البخاري ومسلم كلاهما من حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه ومن حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ، وهذا ظاهره أن جميع الخاتم من فضة ليس فيه شيء من الحديد ، بل جاء في بعض ألفاظ الصحيح من حديث حميد عن أنس رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتَمَهُ من فضَّةٍ وكان فَصُّهُ منه " ، ووقع عند أبي داوود: " كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة كلُّهُ فَصُّهُ منه " ، فقال ابن كثير رحمه الله : ((وهذه الأحاديث التى أوردناها أنه عليه السلام كان له خاتم من فضة ، تردُّ الأحاديث التى قدمناها في سنني أبى داود والنسائي من طريق أبى عتاب سهل بن حماد الدلال ، عن أبى مكين نوح بن ربيعة، عن إياس بن الحارث بن معيقيب بن أبى فاطمة، عن جده قال: " كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من حديد ملوِيٌّ عليه فضة " ، ومما يزيده ضعفاً الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبى طيبة عبدالله بن مسلم السُّلَمِي المروزى ، عن عبدالله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه ، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبَه فقال : مالي أجد منك ريح الأصنام ؟ فطرحه ، ثم جاء وعليه خاتم من حديد ، فقال : مالي أرى عليك حلية أهل النار ؟ فطرحه ، ثم قال : يا رسول الله من أي شيءٍ أتخذه ؟ قال : اتخذه من وَرِقٍ، ولا تتمَّه مثقالاً )) ا.هـ كلام الحافظ ابن كثير وهو كلام ظاهر وفيه قوة ؛ خاصة إن علمنا أن إياس أحسن أحواله أن نقول هو معروف العدالة،وأما الضبط فليس له إلا حديث يسير جداً، فلا يُعرَفُ ضبطه.
ولكن هنا وقفات مع كلام الحافظ ابن كثير ، إذ هو متعقَّبٌ من غير ما وجه :(1/24)
الوجه الأول : أنه ثبت في صحيح السنة الاختلاف في فصِّ خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء عند البخاري من طريق حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتمه من فضةٍ وفصُّهُ منه ، فهذا يُبيِّنُ أن الفصَّ كان من فضة أيضاً ، ووقع عند مسلم من طريق ابن شهاب الزهري عن أنسٍ رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتمَ فضة في يمينه فيه فص حبشي ، كان يجعل فَصَّهُ ممَّا يلي كفَّه " ، والحديثان رواهما أبو داوود والترمذي أيضاً وحكم على كل واحد منهما بقوله : " حسن صحيح غريب من هذا الوجه "، وقال النسائي في الكبرى: "ذكر الاختلاف على أنس في فص خاتم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وموضعه من يده" ، وروى الأحاديث المتقدمة وسكت عنها ولم يُعلَّ شيئاً منها ، وحمل كثيرٌ من أهل العلم هذا الاختلاف في الروايات على التعدد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له غير ما خاتم ولم يكن يجمع بينها في اللبس ، وخُتم على كل واحد منها : ( محمد رسول الله ) ، قال البيهقي في شعب الإيمان : (( وفي هذا الحديث دلالة على أنه كان خاتمان أحدهما فصه حبشيا ، والآخر فصه منه ، وفي حديث معيقيب أنه كان له خاتم من حديد ملوي عليه فضة ، فربما كان في يده ، وليس في شيء من الأحاديث أنه ظاهر بينهما ، وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يكره لبس الخواتيم في اليدين ولبس خاتمين في يد واحدة ، وزعم أنَّه مستهجنٌ في حميد العادات ورضي الشمائل ، وليس من لباس العِلِّيَة من الناس ، ولم يستحسن أن يتختم الرجل إلا بخاتم واحد منقوش ، فليس للحاجة إلى نفسه لا لحسنه وبهجة لونه )) ، وقال الحافظ ابن حجر : " إما أنْ يُحْمَلَ على التعدد ، وحينئذٍ فمعنى قوله : ( حبشي ) أي كان حجرا من بلاد الحبشة ، أو على لون الحبشة ، أو كان جَزَعَاً أو عقيقاً لأنَّ ذلك قد يُؤتى به من بلاد الحبشة ، ويُحْتَمَلُ أن يكون هو الذي فَصُّهُ منه ونُسِبَ إلى(1/25)
الحبشة لصفةٍ فيه ، إما الصياغة وإما النقش " ا.هـ .
قلت : الاحتمال الأول هو الظاهر المتبادر من ذكر فص الحبشة ، وهو ما جزم به البيهقي وابن الأثير في غريب الحديث – في مادة ( حبش ) – بل جزم بعضهم – كما حكاه عنهم السيوطي - بأنه ( الزبرجد ) ، وعلى كلٍ فهذه النقول كلها تؤكد أنه ليس من المستبعد أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم خواتيم متعددة ، منها الفضي الذي فصُّهُ منه ، ومنها الفضي الذي فصُّه حبشي ، ومنها الفضي الذي فيه شيءٌ من الحديد ، كلها استعملها النبي صلى الله عليه وسلم ولبسها ، ولا حاجة لنا حينئذٍ لتضعيف شيءٍ من الروايات ، ولذا جزم ابن حجر رحمه الله عندما ذكر حديث المعيقيب بالتعدد ، وهو ما جزم به السيوطي في رسالته : ( الجواب الحاتم عن سؤال الخاتم ) ، ومضى جمعٌ من شراح السنن على هذا من غير اختلاف بينهم .(1/26)
الوجه الثاني : أن الجمع بين الأحاديث ممكن يسير حتى لو لم يُقل بالتعدد ، فوَصْفُ ابن عمر وأنس رضي الله عنهما لخاتم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من فضة هذا ما ظهر لهما لأن الفضة التوت على الحديد فأخفت عامَّته ، أو هذا ما كان الغالب على الخاتم ، وأما المعيقيب فكان يباشر خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ويحفظه وربما لبسه فهو أعلم بتفصيل خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من غيره فكان يعلم بوجود شيءٍ من الحديد في خاتم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما لفظ حديث أبي خيثمة زهير بن معاوية عن حميد عن أنس رضي الله عنه عند أبي داوود : " كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة كلُّه فصُّه منه " ، فهذا كما تقدم بناءً على ما ظهر لأنسٍ رضي الله عنه ، على أن لفظة : ( كله ) فيها نظر بالغ ، فكبار الثقات من أصحاب أنس يروونه عنه ولم يذكروا هذه اللفظة كما في الصحيحين كقتادة والزهري وعبد العزيز بن صهيب وثابت البناني ، وكذا يرويه الرواة عن حميد من غير هذه الزيادة ، فهي زيادة من أبي خيثمة زهير بن معاوية أو من بعض تلاميذه وإنما رويت على المعنى .
فالخلاصة مما تقدَّم : أن حديث المعيقيب رضي الله عنه حديث حسن مقبول عند أهل العلم ما رأيت أحداً أنكر منه شيئاً قبل الحافظ ابن كثير رحمه الله - والله أعلم - .
3.قال ابن سعد في طبقاته : أخبرنا الفضل بن دكين، أخبرنا إسحاق عن سعيد أن خالد بن سعيد رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يده خاتم له ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا الخاتم ؟ فقال : خاتم اتخذته ، فقال : اطرحه إليَّ ، فطرحه ، فإذا خاتم من حديد ملويٌّ عليه فضة ، فقال: ما نقشه؟ فقال : محمد رسول الله ، قال: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلبسه فهو الذي كان في يده .
- الفضل بن دُكين : هو الإمام المعروف أبو نعيم ، شيخ البخاري وأبي محمد الدارمي وابن أبي شيبة والرازيين .(1/27)
- إسحاق : هو إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي القرشي ، وبيَّن ذلك بوضوح رواية الطبراني والحاكم ، وهو من شيوخ الفضل بن دُكين كما ذكره أبو الحجاج المزي .
وإسحاق بن سعيد من السابعة ، توفي سنة 170 هـ وقيل بعدها ، ووثقه النسائي وابن حبان وابن حجر ، وقال أحمد والدارقطني : ليس به بأس ، وهو من رجال الشيخين .
- سعيد : هو سعيد بن عمرو والد إسحاق ، أبو عثمان الأموي الدمشقي الكوفي ، من الثالثة ، مات بعد 120 هـ ، روى له الجماعة إلا الترمذي ، ووثقه أبو زرعة والنسائي وابن حبان وابن حجر ، وقال أبو حاتم : صدوق .
- خالد بن سعيد : هو خالد بن سعيد بن العاص بن أمية أبو سعيد القرشي عمُّ سعيد بن عمرو ، صحابي جليل ، وهو أحد السابقين الأولين ، تقدمت وفاته في معركة أجنادين سنة 13 هـ ، فرواية سعيد بن عمرو عنه مرسلة كما بينه المزي رحمه الله .
- هذا الحديث : رواه الحاكم أيضاً في مستدركه والطبراني في الكبير كلاهما من طريق يحيى الحماني عن إسحاق بن سعيد ، وصححه الحاكم فتعقبه الذهبي بأن يحيى الحماني ضعيف ، وبه أعلَّ الهيثميُّ الحديثَ في مجمع الزوائد أيضاً ، ومما تقدم يتبيَّن أن الحماني ليس علة الحديث لأن الفضل بن دكين تابعه عند ابن سعد في الطبقات ، وإنما الحديث ضعيف لأنه منقطع بين سعيد بن عمرو وبين عمه خالد بن سعيد ، ولا بأس به في الشواهد ، فهو مقوٍّ لحديث المعيقيب المتقدم .(1/28)
4. قال الطبراني في الأوسط : حدثنا مطلب بن شعيب ، ثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث بن سعد عن عمرو بن الحارث ، عن بكر بن سوادة ، عن أبي النجيب ، عن أبي سعيد الخدري قال : أقبل رجلٌ من البحرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يردَّ عليه السلام ، وكان في يده خاتم من ذهب ، وعليه جبة حرير ، فانصرف الرجل محزوناً ، فشكا ذلك إلى امرأته ، فقالت له : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كره جُبَّتَكَ وخاتَمَك فألقهما ، فألقاهما ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردَّ عليه السلام قال : يا رسول الله ، أتيتُكَ آنفاً فأعرضتَّ عنِّي ؟ فقال: " إنه كان في يدك جمرة من نار " قال : لقد جئتُ إذاً بجمرٍ كبير ، فقال : " إن ما جئت به ليس بأجدى عنك من حجارة الحرة ، ولكنه متاع الحياة الدنيا " قال : فبماذا أتختَّم ؟ قال : " حلقة من وَرِق ، أو حديد ، أو صفر " .
- مطلب بن شعيب : ترجمته في الكامل لابن عدي وميزان الاعتدال واللسان ، وهو مروزيٌّ سكن مصر، وحدَّث عن سعيد بن أبى مريم وعبد الله بن صالح ، ذكره ابن عدي في الكامل وذكر له حديثاً واحداً منكراً ، ثم قال : ((لم أرَ له حديثاً منكراً غير هذا ،... وسائر أحاديثه عن أبي صالح مستقيمة )) ا.هـ كلام ابن عدي ، وقال ابن حجر في اللسان : ((وقد أكثر الطبراني عن مطلب هذا ، وهو صدوق)) ثم ذكر ابن حجر توثيقَ أبي سعيد بن يونس له في تاريخ مصر .
- عبد الله بن صالح : أبو صالح المصري ، كاتب الليث كثير الغلط ، ولذا ليَّنه عامة الأئمة .
- الليث بن سعد وعمرو بن الحارث : إمامان حافظان مصريان ثقتان ثبتان .
- بكر بن سوادة : هو بَكر بن سَوَادة بن ثُمَامة الجُذامي المصرى ، ثقة فقيه مفتٍ من الثالثة ، مات سنة بضع وعشرين ومائة ، روى له الجماعة إلا البخاري تعليقاً .(1/29)
- أبو النُجيب : اسمه ظَليم بالفتح أبو النجيب – وقيل بالتاء أبو التجيب - العامري المصري ، مولى عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، من الرابعة ، توفي سنة 88هـ بأفريقية ، كان فقيها ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ولم يذكر المزيُّ راوياً عنه إلا بكر بن سَوَادة ، وفي التقريب : مقبول .
- هذا الحديث : فيه ضعف ومداره على راويين ضعيفين ، وتفرد عبد الله بن صالح وأبي النُجيب بمثله لا يحتمل .
5. قال البيهقي في الشعب : وروينا عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رُئِيَ وفي يده خاتم من حديد ، وهذا وصله ابن أبي شيبة وابن سعد في الطبقات عن ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال : ( أخبرني من رأى على عبد الله خاتماً من حديد ) ، ثم قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن الأعمش قال : ( رأيت على إبراهيم خاتم حديد ) .
فهذه أسانيد صحيحة إلى إبراهيم النخعي ، وتابع الأعمشَ على هذا أبو معشر كما عند ابن سعد في الطبقات بسند صحيح أيضاً ، وفيه : ((عن إبراهيم أن ابن مسعود كان خاتمه من حديد )) ، ومراسيل إبراهيم النخعي إلى ابن مسعود مأمونة قوية لا يضرُّ عدمُ العلمِ في الواسطة بينهما .
وبهذا نعلم ثبوت الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم في لبس خاتم الحديد ؛ فليس بينهم اتفاق على قول واحد في هذا الباب ، وروى ابن عبد البر في التمهيد بإسناده إلى أبي بكر بن الأثرم أنه قال : ( قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل : ما ترى في خاتم الحديد ؟ فقال : اختلفوا فيه ؛ لبسه ابن مسعود ، وقال ابن عمر : ما طهرت كف فيها خاتم من حديد ) .(1/30)
وأثر النخعي الصواب فيه أنه من فقهه وفقه ابن مسعود رضي الله عنه ، وأما ما رواه ابن سعد في الطبقات ؛ فقال : أخبرنا جرير بن عبد الحميد الرازي عن مغيرة عن فرقد عن إبراهيم قال:" كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حديداً ملوياً عليه فضة" ، فهذا المرسل لاتعويل عليه ولا يحتج به ، فهو منكر من جهتين : 1- أن راويه عن إبراهيم هو فرقد بن يعقوب السبخى ، أبو يعقوب البصرى وهو ضعيف الحديث عند عامة الأئمة ، والثقات الأثبات إنما يروونه عن النخعي كما تقدم من قوله ، ومن فعل ابن مسعود رضي الله عنه . 2- أن فرقد خالف منصور بن المعتمر الذي رواه عن النخعي مرسلاً عند ابن سعد في الطبقات بلفظ : " كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فضى ، وفيه : محمد رسول الله " ، فهنا ابن المعتمر يرويه مرسلاً بذكرِ الفضة فحسب ، وهو أصح عن النخعي .
- وقد صح الأثر عن جماعة من التابعين في لبس وجواز خاتم الحديد ، منهم : ابن سيرين كما رواه عنه ابن أبي شيبة بسند صحيح وتقدم ، وكذا : صحَّ عن الحارث بن لقيط النخعي الكوفي وهو تابعيٌّ كبيرٌ شهدَ القادسية ووثقه العجلي وابن حبان ، بل عدَّه ابن حجر في التقريب من المخضرمين ، ومنهم : أبو السوار العدوي حَسَّان بن حُرَيْث البصري ، من كبار التابعين ، روى له البخاري ومسلمٌ والنسائي ، ووثقه ابن سعد وأبو داوود والنسائي .
ثالثا : أقوال أهل العلم
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال ، دون تفريق في خاتم الحديد بين الرجال والنساء :(1/31)
القول الأول : تحريم خاتم الحديد والمنع من لبسه ، قال ابن بطال في شرحه على البخاري : ( خاتم الحديد كان يُلبَسُ فى أول الإسلام ثم أمر النبى صلى الله عليه وسلم بطرحه ) ، ونحوه في كلام ملا القاري في المرقاة ، وصحح أحاديث النهي لطُرُقِها ، وحمل حديث سهل رضي الله عنه على المبالغة دون قصد الترخيص فيه ، وحمل حديث المعيقيب على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختم به ولا يلبسه ، ولكنه اقتصر على الجزم بالكراهة ، وذكر تصريح الحنفية بالقول بكراهة خاتم الحديد ، والتحريم هو ماجزم به جمع من أئمة الحنفية كالبابرتي في العناية شرح الهداية وابن الهمام في شرحه على الهداية أيضاً وابن عابدين في حاشيته الدر المحتار وغيرهم وذكروا أن هذا هو ظاهر قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني في الجامع الصغير: ( ولا يتختم إلا بالفضة ) ، واكتفى بعض الحنفية كالكاساني في البدائع بإطلاق الكراهة والنهي ولم أرَ تصريحاً منهم بنفي التحريم ، فالظاهر أن من أطلق الكراهة والنهي منهم إنما أراد التحريم .
والتحريم هي رواية في مذهب الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه وحكاها ابن مفلح والمرداوي ، فقول السيوطي في رسالته - الجواب الحاتم عن سؤال الخاتم – : ( وأما التختم بسائر المعادن ماعدا الذهب فغير حرام بلا خلاف لكن هل يكره ؟ وجهان ) ، فنفيه الخلاف على عدم التحريم تساهل منه رحمه الله .
وتحريم خاتم الحديد هو مذهب الشيخ الألباني رحمه الله كما في سلسلة الهدى والنور ، ولكنه قصر التحريم على خاتم الحديد دون غيره من حلية الحديد كالسلاسل والأساور ونحوها ، وحجته في ذلك أن هذه من المغيبات ومن الأمور التوقيفية التي لا يتجاوز فيها مورد النص .(1/32)
قلت : حيث قيل بالنهي ، فلا يقتصر النهي على الخاتم من حديد على الصحيح ، بل كل ما تحلَّى به الناس من الحديد فهو داخل في النهي يشمله النص عند التأمل ، فالحديث المروي أن خاتم الحديد حلية أهل النار مفهوم المعنى ظاهر الدلالة ، فلأيِّ شئٍ يُحلَّوْنَ به ويلبسونه إلا ليتلهَّبَ عليهم ناراً ، وهذا حاصل لهم في السلاسل والأغلال أيضاً، فهي في صورتها أشبهت الحلية وفي حقيقتها ناراً تلهَّبُ ؛ نسأل الله السلامة .
القول الثاني: كراهة خاتم الحديد دون تحريم ، وهو قول جمهور أهل العلم ، فالكراهة هو المعتمد عند المالكية لا التحريم كما صرح بذلك النفراوي في الفواكه الدواني في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني ، وتقدم قول الإمام مالك : (لم أزلْ أسمعُ أنَّ الحديدَ مكروهٌ فأما غيرُه فلا ) ، والكراهة هو المشهور في مذهب الإمام أحمد واختارها أكثر الأصحاب ، بل نصَّ أصحابُ الموسوعة الفقهية الكويتية على أن هذا هو اتفاقٌ من الفقهاء ، ولعلهم أرادوا المشهور من المذاهب الأربعة إذ نقلوا بعد ذلك تصريح النووي بالإباحة .(1/33)
وللبيهقي رحمه الله تفصيل حسن في شعب الإيمان وتبعه عليه ابن حجر في الفتح ، فقال البيهقي : (ويشبه أن يكون هذا النهي نهي كراهية وتنزيه ، فكُرِه الخاتم من الشبه وقال: " أجد منك ريح الأصنام "، ولأن الأصنام كانت تُتَّخَذُ من الشَّبه ، وكُرِهَ الخاتمُ من الحديد من أجل ريحه ، وقال :" أرى عليك حلية أهل النار" ، أنه زيّ بعض الكفار الذين هم أهل النار ؛ والله أعلم ، فقد رُوِّينا في الحديث الثابت عن سهل بن سعد رضي الله عنه : أن رسول الله قال للذي أراد أن يزوِّجَه : " التمس ولو خاتما من حديد "....ثمَّ ذكر رحمه الله حديث المعيقيب ، ثم قال : وهذا لأن بالفضة التي لويت عليه لا يوجد ريح الحديد فيشبه أن ترتفع الكراهية بذلك ) ا.هـ من الشعب وهذا كلامه أيضا في كتابه الآداب ، فتحصَّل من كلامه رحمه الله كراهية التختم بالحديد الخالص ، وأن علة الكراهة هي ريحه ، فحيث خُلِطَ الحديدُ بغيره وأُمِنَ النتن زالت الكراهة ، وهذا التفصيل لا أظن القائلين بالكراهة يخرجون عنه .(1/34)
القول الثالث : جواز لبس خاتم الحديد مطلقا دون كراهة ولا تفصيل ، وأصحاب هذا القول إنما يضعفون أحاديث النهي ، ويستدلون بأحاديث الجواز المتقدمة أو بعضها ، قال ابن عبد البر في التمهيد : ( وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب وخاتم الحديد ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خاتم الذهب وخاتم الحديد : جمرة من نار ، أو قال : حلية أهل النار ، وقد روي مثلُ هذا مرفوعاً ولا يتصلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن عمر ، وليس بثابت ، والأصل أن الأشياء على الإباحة حتى يثبت النهي ؛ وهذا في كل شيء ، إلا أن النهي عن التختم بالذهب صحيح ولا يُختلف في صحته ) ا.هـ ، وقال ابن رجب في رسالته أحكام الخواتم : ( والصحيح عدم التحريم ، فإن الأحاديث فيه لا تخلو عن مقال ، وقد عارضها ما هو أثبت منها ) ا.هـ ، وقال النووي في شرحه على مسلم – في شرح حديث الواهبة نفسها - : ( وفي هذا الحديث جوازُ اتخاذ خاتم الحديد ، وفيه خلاف للسلف حكاه القاضي، ولأصحابنا في كراهته وجهان: أصحهما : لا يُكره لأن الحديث في النهي عنه ضعيف ) ا.هـ ، وكذا حكى النووي في المجموع القولين عن الشافعية في كراهته وعدم كراهته ، ثم رجح عدم الكراهة .
قلت : والقول بالجواز مطلقاً هو قول أبي سعد المتولي في كتابه التتمة – كما ذكره النووي عنه – وهو ما مشى عليه متأخرو الشافعية في كتبهم بعد النووي رحمهم الله جميعا .(1/35)
وممن نصَّ على الجواز اللجنة الدائمة للإفتاء (ج24/65) ، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في أشرطة نور على الدرب وحكم على أحاديث النهي بالشذوذ ؛ فقال: ( أما حديث أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى على إنسان خاتم من حديد قال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار) ، ولما رأى خاتم من صفر قال: (ما لي أرى عليك ريح الأصنام) فهما حديثان شاذان مخالفان لهذه الأحاديث الصحيحة، والشاذ عند أهل العلم يعتبر ضعيفاً لمخالفته الأدلة الشرعية ) ا.هـ كلامه رحمه الله – يراجع موقع الشيخ الرسمي - ، وممن قال بالجواز الشيخ ابن عثيمين في المتأخر من فتاويه إذ نص على الجواز ؛ وكان قبل ذلك يرى الاحتياط في تركه .
رابعاً : الخلاصة والترجيح
? أحاديث النهي عن التختم بالحديد هي أحاديث ضعيفة منكرة لا يصح منها شيء ، على ما اختاره البخاري وابن عبد البر والنووي وابن رجب والشيخ ابن باز رحم الله الجميع ، وغاية ما يصحُّ في هذا الباب مما يصلح لأن يُحتَجَّ به هو الأثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأصح الألفاظ عنه في النهي هو لفظ ابن أبي شيبة من طريق حكيم بن جابر الأحمسي الكوفي ، وفيه : " أن عمر رأى على رجل خاتم حديد فكرهه " .
? أحاديث الجواز صحَّ منها حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وهو متفق عليه وكفى به جلالة ؛ وهو حديث ظاهر الدلالة على جواز التختم بالحديد كما تقدم ، وصحَّ أيضاً حديث المعيقيب رضي الله عنه فهو سند جيد وله شاهد عن مكحول مرسلاً وشاهدٌ عن خالد بن سعيد الأموي رضي الله عنه عند ابن سعد في الطبقات ، وصحَّ أيضاً أثرُ ابنِ مسعود رضي الله عنه وقد جزم به عنه الإمام أحمد كما تقدم في سؤال الأثرم .(1/36)
? خاتم الحديد هو أردأ وأدنى التحلِّي عند النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ، ولذا جاء حديث سهل : " التمس ولو خاتماً من حديد " ، فهذا مبالغة في تقليل المهر والقناعة بالحقير اليسير ، ولذا أصح ما يقال في توجيه قوله صلى الله عليه وسلم: " حلية أهل النار " – لو صحَّ - وأثر الفاروق عمر رضي الله عنه أنَّ كراهة هذا الخاتم لرائحته ونتنه ، وهذا ما فهمه ابن سيرين عنه رحمه الله إذ هو أحد من روى الكراهة عن الفاروق عمر رضي الله عنه ، ثم قال ابن سيرين في موضع آخر : ( لا بأس – أي بخاتم الحديد - إلا أن يكره ريحه ) ، وبهذا نعلم أن القول بكراهة التنزيه قول قويٌّ له حظ من الأثر والنظر ، فالحديد يصدأ وله نتن ورائحة كريهة ويؤذي الجلد ويترك آثاراً على الجسم خاصة مع الحرّ وكأنها تعذيب للبدن ، وهو حلية للكفار في نار جهنم يُكْسَوْنَ الحديد في مختلف أجزاء البدن فيعذِّبهم الله به يوم القيامة إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ؛ فيُكره لبس الحديد والتحلي به لهذه المعاني كلها .
? مع القول بقوة كراهة التنزيه في التحلي بالحديد ؛ إلا أن هذه الكراهة كما قال الإمام البيهقي تزول بأن يخلط الحديد مع غيره بحيث لا يكون الحلي حديداً صرفاً ، ويدل على هذا الأثر والنظر ، فمن الأثر: حديث المعيقيب رضي الله عنه ، ومن النظر: أنه من المعلوم أن الحديد إن طُلِيَ بموادَّ عازلة أو خُلِطَ بغيرِه من المعادن كالألمنيوم والنيكل فإنَّ نَتَنَهُ يُؤْمَنُ ولا تكون له رائحة أو صدأ أو سخونة على الجسد ، وبهذا يتبين لنا أن ما يستعمل من الحديد في بعض الحليّ كالإكسسوارات والساعات ومن باب أولى النظارات وغيرها مما ليست من الحلي كل هذا من الجائز المباح الذي لا شبهة فيه ولا كراهة .(1/37)
? كل ما قيل في الحديد فهو يقال أيضاً في النحاس والرصاص ، على أن النحاس والرصاص أخفُّ حكماً من الحديد ، إذ لم يرد فيهما شيء يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام رضي الله عنه ، وغاية ما ورد إنما هو حديث بريدة رضي الله عنه في النحاس الأصفر ولا يصح ، فاستخدام النحاس والرصاص وغيرهما في التحلي جائز من باب أولى .
هذا آخر ما أحببت كتابه في هذا البحث وأسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت في عامة مباحثه ، وأن يرزقني الإخلاص في القول والعمل . والحمد لله رب العالمين
كتبه : أبو عبد الله عمر صبحي حسن قاسم
وكان الفراغ منه في : 3 / رمضان / 1429 هـ
الموافق : 3 / 9 / 2008م(1/38)