حَقِيقَةُ
كُرَةِ القَدَمِ
( دِرَاسَةٌ شَرعِيَّةٌ مِنْ خِلالِ فِقْهِ الوَاقِعِ )
تَألِيفُ
ذِيابِ بنِ سَعَدٍ آلِ حَمْدَانَ الغَامِدِيّ
شبكة نور الإسلام
islamlight
"فَسَتَذْكُرُوْنَ مَا أقُوْلُ لَكُمْ وأُفَوِّضُ أمْرِي إلى اللهِ، إنَّ اللهَ بَصِيْرٌ بالعِبَادِ"[غافر44]
قَالَ تَعَالَى : "وذَرِ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا دِيْنَهُم لَعِبًا ولَهْوًا، وغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيا"[الأنعام70]
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ شيءٍ يَلْهُو بِهِ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ باطِلٌ، إلاَّ ثَلاثًا : رَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وتأدِيبَه فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتَهُ أهْلَهُ، فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ " أحْمَدُ
" ولِعْبُ الكُرَةِ إذَا كَانَ قَصَدَ صَاحِبُهُ المَنْفَعَةَ بِحَيْثُ يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الكَرِّ والفَرِّ، ونَحْوِهِ فِي الجِهَادِ، وغَرَضُه الاسْتِعَانَةُ عَلَى الجِهَادِ فَهُوَ حَسَنٌ، وإنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ، فإنَّه يُنْهَى عَنْهُ" ابْنُ تِيْمِيَّةَ
وقَالَ " كُلُّ فِعْلٍ أفْضَى إلى مُحَرَّمٍ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ؛ لأنَّه يَكُوْنُ سَبَبَا للشَّرِ، والفَسَادِ، ومَا ألْهَى، وشَغَلَ عَمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْه" ابْنُ تِيْمِيَّةَ
" لَمَّا كَانَ هُنَاكَ ضَجِيْجٌ، وأصْوَاتٌ كَثِيرةٌ تَمْلأُ البِلادِ بِسَبَبِ التَّشَاجُرِ، والتَّدَافُعِ خَلْفَ كُرَاتٍ كَبِيْرَةٍ، ولَمَّا كَانَتْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ تَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا، ولَمَّا كَانَ اللهُ يُحَرِّمُ كُلَّ هَذِه الشُّرُورِ لِذَلِكَ فأنِّي آمُرُ، وأمْنَعُ بأَمْرِ المُلْكِ : الاشْتِرَاكَ في مِثْلِ هَذِه الألْعَابِ مُسْتَقْبلاً، ومَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ تَكُونُ عُقُوبَتُه السِّجْنَ !" المَلِكُ إدْوَاردْ الثَّانِي(1/1)
" ولِكَيْ تَبْقَى الجَمَاهِيْرُ فِي ضَلالٍ، لا تَدْرِي مَا وَرَاءها، ومَا أمَامَها، ولا مَا يُرادُ بِها، فإنَّنا سَنَعْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ صَرْفِ أذْهَانِها، بإنْشَاءِ وَسَائِلِ المَبَاهِجِ، والمُسَلِّيَاتِ، والألْعَابِ الفَكَهِيَّةِ، وضُرُوْبِ أشْكَالِ الرِّيَاضَةِ، واللَّهْوِ … ثُمَّ نَجْعَلُ الصُّحُفَ تَدْعُو إلى مُبَارَياتٍ فَنِيَّةٍ، ورِيَاضِيَّةٍ" بُرُوتُوْكُولاتُ يَهُوْدَ
" إنَّ أصْلَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) وَثَنيٌّ يُوْنَانِيٌّ، ونَشْرُها بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ نَصْرَانيٌّ صَلِيبيٌّ، وتَطْرِيقُها إلَيْهم يَهُودِيٌّ عَالَمِيٌّ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ؟!" المُؤَلِّفُ
بِسْم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم
الحَمْدُ للهِ الَّذِي أوْجَدَنا مِنْ عَدَمٍ، وكَسَانا مِنْ عُرَى، وأطْعَمَنا مِنْ جُوْعٍ، فَلَهُ الحَمْدُ في الأُوْلَى والآخِرَةِ؛ خَلَقَ لِيُعْبَدَ، وأَكْرَمَ لِيُحْمَدَ، وأَنْعَمَ لِيُشْكَرَ، فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى والصِّفَاتُ العُلَى، لَمْ يَخْلُقْنا عَبَثًا، ولَمْ يَتْرُكْنا هَمَلاً؛ بَلْ لحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وغايةٍ سَامِيةٍ ألاَ وَهِيَ العِبَادَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :"وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبدون"[الذاريات56]، وحَذَّرنا مِنَ الَّذين اتَّخَذُوا دِينَهُم لَعِبًا ولَهْوًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى : "وذَرِ الذين اتَّخذوا دينَهم لَعِبًا ولهْوًا وغرَّتهُم الحياةُ الدُّنيا"[الأنعام70].
وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُه ورَسُوُلُه، أرْسَلَه رَحْمَةً للعَالَمِيْنَ، وحُجَّةً عَلَى النَّاسِ أجْمَعِين، بَعَثَهُ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، فهَدَاهُم بِهِ إلى أوْضَحِ الطُّرُقِ، وأقْوَمِ السُّبُلِ، فصَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ تسْليمًا كَثِيْرًا .(1/2)
أمَّا بَعْدُ : فإنَّ اللهَ سُبْحانَه وتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَه سُدَىً مُهْمَلاً؛ بلْ جَعَلَهُم مَوْرِدًا للتَّكْليفِ، وجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلاً، وأعْطَاهُم : القَلْبَ، والسَّمْعَ، والبَصَرَ، والجَوَارِحَ؛ نِعْمَةً مِنْهُ وتَفَضُّلاً، فَمَنِ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي طَاعَتِهِ، فَقَدْ سَلَكَ بِهَا إلى مَرْضَاةِ اللهِ سَبِيْلاً، ومَنِ اسْتَعْمَلَها فِي مَعْصِيَتِهِ، فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا طَوْيلاً، قَالَ تَعَالَى : " إنَّ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كلُّ أولئك كان عنه مسؤولاً"[الإسراء36].
* * *
وبَعْدُ؛ فَإنَّ الإنْكَارَ عَلَى البَاطِلِ وأهْلِهِ مِنْ شَعائِرِ الإسْلامِ، وطَرائِقِه العِظَامِ، فَكَانَ مِنْ تِلْكُمُ الدَّوَاهِي الظَّلْمَاءِ، والبَلايا العَمْياءِ، والَّتَيَّا والَّتِي … مَا ألْقَتْهُ أيْدِي يَهُودَ فِي بِلادِ المُسْلِمِيْنَ … فَكَانَ مَا كَانَ : تَفْرِيقٌ، وتَضْلِيْلٌ، ونَعَرَاتٌ، وبَغْضَاءُ، وصَدٌّ عَنْ ذِكْرِ الله في غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنْظُومةِ الدَّسائِسِ العُدْوانيَّةِ الَّتِي لَمْ تَفْتأ تَغْرِسُها أيْدٍ نَجِسَةٌ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِيْنَ !
كُلُّ هَذَا مِنْ سَوَالبِ لُعْبةٍ شَيْطَانيَّةٍ مَا كَانَ لَهَا أنْ تَظْهَرَ في أمَّةِ الإسْلامِ؛ فَضْلاً أنْ تَنْتَشِرَ، وتَعْلُوَ على مَسَاحَةٍ كَبِيْرَةٍ مِنْ ثَقَافَاتِ، وطَاقَاتِ، وأَوْقَاتِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ … وذَلِكَ مَاثِلٌ فِي : ( كُرَةِ القَدَمِ ) !(1/3)
فَعِنْدَ هَذَا؛ كَانَ مِنَ الخِزْيِ، والعَارِ أنْ تَغْفَلَ أمَّةٌ كَهَذِهِ ( المُسْلِمِيْنَ ) عَنْ لُعْبَةٍ كَهَذِهِ ( كُرَةِ القَدَمِ)، فَتَغُضَّ الطَّرْفَ، أو قُلْ : تُكَمَّمَ الأفْوَاهُ عَنْ بَيَانِ مَخَاطِرِها عَلَى أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ بَيَاناً نَاصِعاً لا شِيَةَ فِيْهِ، مُوَضِّحَةً مَا هُنَالِكَ مِنْ خُطَطٍ تُنْبِؤُكَ عَنْ حَقِيقَةِ تِلْكُمُ اللُّعْبَةِ النَّكْراءِ !
اللَّهُمَّ ما كَانَ مِنْ مُحَاوَلاتٍ لبَعْضِ أهْلِ العِلْمِ ـ وَفَّقَهُم اللهُ ـ حَيْثُ تَنَاوَلُوْا هَذِهِ اللُّعْبةَ بِطَرَفٍ مِنَ البيانِ؛ إمَّا في فَتْوى، أو رِسَالةٍ، أو مَقَالةٍ(1) …
إلاَّ أنَّ هَذِهِ المُحاوَلاتِ وغَيْرَها حَتَّى سَاعَتِي لَمْ تَأْتِ عَلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ اللُّعْبةِ بِكُلِّ أبْعَادِها وأدْوائِها، واللهُ أعْلَمُ .
لِذَا رَأيتُ لِزَامًا عَليَّ أنْ أكْشِفَ أقْنِعَةً خَرْقاءَ تُرَفْرِفُ فَوْقَ عُقُولِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ بالبَاطِلِ المُمَوَّهِ، ولأهْتِكَ غَاشَيَّةَ الوَبَاءِ المُنْتَشِرِ بِلا رَقِيبٍ يُدَافِعُ، أو طَبِيبٍ يُعَالِجُ، ولأُزِيْلَ الغِطَاءَ ـ إنْ شَاءَ اللهُ ـ عَنْ مَسَارِبِ الهَلاكِ الخَفِيِّ الَّذِي بَدأ بِتَدَسُّسٍ إلى أبْنَاءِ أمَّتِي، وهُمْ فِي غَفَلاتِهم آمِنُونَ، وفِي شَهَواتِهم غَارِقُون !
* * *
__________
(1) ـ سَيَأتِي ذِكْرُ أسْمَاءِ هَذِه الفَتَاوَى، والمَقالاتِ، والكُتُبِ قَريبًا إنْ شَاءَ اللهُ .(1/4)
فَقِفَا نَبْكِي عَلَى رُسُومِ الإسْلامِ، وحَيَاةِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامِ؛ يُوَضِّحُهُ أنَّ طَائِفةً مِنْهُم : بالفَنِّ المَاجِنِ، والغِنَاءِ الفَاتِنِ مُنْشَغِلُون، وآخَرِيْنَ : بِعِمَارَةِ الدُّنيا، وصَرِيفِ القَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ هَائِمُونَ، والبَّاقِيْنَ : بالرِّياضَةِ الَّتِي رَوَّضَتْهُم عَلَى الضَّيَاعِ، والغَفْلَةِ لاهُوْنَ سَاهُوْنَ؛ إلاَّ مَا رَحِمَ ربِّي !
فعِنْدَ هَذا؛ عُذْرًا إذا مَا أرْسَلْتُ للقَلَمِ عَنَانَه حتَّى أبُوْحَ بِشَيءٍ مِنْ بَلايَا ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَسَانِي اسْتَبِقُ فِي هَذِه المُقَدِّمَةِ : بالحُكْمَ قَبْلَ الاحْتِكامِ، وبالهَجْرِ قَبْلَ الكَلامِ !
فَأقُوْلُ : سُبْحانَ الله!؛ إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الَّتِي لا تَزِيدُ عَلَى بِضْعَةِ (سَنْتِيمِتْراتٍ) فِي القُطْرِ، والمُحِيطِ قَدْ زَادَ حَجْمُها فِي حَياةِ أكْثَرِ أبْناءِ المُسْلِمِيْنَ عَنْ حَجْمِ الكُرَةِ الأرْضيَّةِ؛ إنَّه الهَوَسُ والسَّفَهُ مَعًا !
* * *
فَحَسْبُكَ هَذِه المُهَاتَرَاتُ، واللِّقاءاتُ، والمُبارَيَاتُ ومَا يَحْصُلُ فِيْها مِنْ قَتْلٍ للأوْقَاتِ، وضَيَاعٍ للطَّاقاتِ، وهَدْرٍ للأمْوَالِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَالِكَ مَاسِخَةٍ لِمَا بِقِيَ مِنْ الهَوِيَّةِ الإسْلاميَّةِ !
فانْظُرْ مَثَلاً : حُبٌّ وبُغْضٌ لِغَيْرِ اللهِ، ووَلاءٌ وعَدَاءٌ لا للهِ، وصَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، فَلا أُخُوَّةَ بَيْنَهم إلاَّ مَا سَنَّتْهُ الرِّياضَةُ، ولا ثَقَافَةَ لَهُم إلاَّ مَا أمْلَتْهُ الصَّحَافَةُ !
ومَعَ هَذَا أيْضًا : نَعَرَاتٌ جَاهليَّةٌ، وصَيْحَاتٌ صِبْيانيَّةٌ، وحَرَكاتٌ خَرْقاءُ، وقَبْلَ هَذَا وبَعْدَه : تَصْفِيْقٌ وتَصْفِيْرٌ، وهَمْزٌ وغَمْزٌ، وسَبٌّ ولَعْنٌ … بَلْهَ مَوْتٌ وصَعْقٌ !(1/5)
ومَهْمَا يَكُنْ مِنْ أمْرٍ؛ فَلا شَكَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدْ أصْبَحَتْ بَعْدَ هَذَا المَنْحَى الخَطِيْرِ : مَذْهبًا فِكْريًا، وطَاغُوتًا عَصْرِيًا(1)!
فإنَّا، ونَحْنُ؛ لا نَشُكُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدْ غَدَتْ مَنْبَعَ الضَّلالَةِ، ومَنْجَمَ الجَهَالَةِ؛ فَمِنْها نشأتْ سَحَائِبُ الغَوَايَةِ، وإلَيْها تُقَادُ خَبَائِثُ العَمَايَةِ !
* * *
فَكَانَ مِنْ وَاجِبِ النَّصِيحَةِ لعُمُومِ المُسْلِمِيْنَ : أنْ أُجَرِّدَ القَلَمَ فِي بَيَانِ حُكْمِ، وحَقِيقَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ) ابْتِدَاءً بِنُشُوئِها، ومَخَاطِرِها، وانْتِهاءً بحُكْمِها، وتَقْرِيبِها مُلْتزِمًا فِي كُلِّ ذَلِكَ الاخْتِصارَ، والاعْتِبارَ بُغْيَةَ الفَائِدَةَ، وبُلْغَةَ العَائِدَةَ(2) … تَحْتَ عُنْوَانِ : "حَقِيقَةِ كُرَةِ القَدَمِ"(3).
وعَلَيْه أدْرَجْتُ مَبَاحِثَه، ومَسَائِلَه تَحْتَ أرْبَعةِ أبْوَابٍ، وتَحْتَ كُلِّ بَابٍ فُصُوْلٌ كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ سَيَأتِي لِهَذِه الأحْكَامِ زِيادَةُ تفْصِيلٍ، وبَيَانٍ ص ( ) إنْ شاءَ اللهُ .
(2) ـ لَقَدْ أشَارَ عَلَيَّ كَثِيرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ والحِجَى : أنْ تَكونَ هَذِه الرِّسالةُ مُخْتَصَرَةً ( جِدَّا !) كُلُّ ذَلِكَ رَجَاءَ عُمُومِ الفَائِدَة، ومُرَاعَاةً لفُهُومِ عَامَّةِ عُشَّاقِ الرِّياضةِ؛ وهُوَ كَذَلِك، فتأمَّلْ .
(3) ـ كَمَا أنَّني مِنْ خِلالِ هَذِه الرِّسَالَةِ المُخْتَصَرةِ أرْفَعُ هَذَا المَوْضُوعَ إلِى أهْلِ العِلْمِ، وكَذَا الجامِعَاتِ الإسْلاميَّةِ بِعَامَّةٍ لِدِرَاسَةِ هَذِه الظَّاهرةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، دِرَاسَةً عِلْمِيَّةً، جادَّةً، مجرَّدةً مِنَ المُجَامَلَةِ، والمُوَارَبَةِ … جَامِعَةً بَيْنَ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ، وفِقْهِ الوَاقِعِ : تَارِيْخًا، وحُكْمًا، وآثارًا …إلخ .(1/6)
البَابُ الأوَّلُ : تَنَابيهٌ مُهِمَّةٌ، وفَيْهِ أرْبعُ فُصُوْلٍ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : مَدْخلٌ وتَنْبيهٌ .
الفَصْلُ الثَّاني : خُطُوْرَةُ السُّكُوتِ عَنِ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرةِ .
الفَصْلُ الثَّالثُ : أهميَّةُ فِقْهِ الوَاقِعِ فِي حُكْمِ النَّوازِلِ .
الفَصْلُ الرَّابعُ : إعْمالُ قاعِدَةِ : " الوَسائِلُ لَهَا أحْكامُ المَقَاصِدِ " .
البَابُ الثَّانِي : أحْكَامُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ، وفِيْه سِتَّةُ فُصُولٍ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : تَعْرِيْفٌ بِبَعْضِ المُصْطلَحَاتِ الرِّياضيَّةِ .
الفَصْلُ الثَّانِي : الفَرْقُ بين الكُرَةِ القَدِيمةِ والحَدِيثَةِ .
الفَصْلُ الثَّالثُ : مَشْرُوعِيَّةُ اللَّعِبِ فِي الإسْلامِ .
الفَصْلُ الرَّابِعُ : أقْسَامُ الألْعَابِ، وحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ .
الفَصْلُ الخَّامِسُ : حُكْمُ الألْعَابِ المُباحَةِ .
الفَصْلُ السَّادِسُ : حُكْمُ أخْذِ العِوَضِ فِي الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ .
البَابُ الثَّالِثُ : تَأرِيْخُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ، وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُولٍ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : تأريخُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ .
الفَصْلُ الثَّاني : تأريخُ الألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ ) .
الفَصْلُ الثَّالثُ : تأرِيْخُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
الفَصْلُ الرَّابِعُ : بِدَايَاتُ غَزْوِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادَ الإسْلامِ .
البابُ الرَّابعُ : ( كُرَةُ القَدَمِ ) أحْكامٌ، ومَحَاذِيرُ، وفِيْهِ سَبْعَةُ فُصُولٍ .
الفَصْلُ الأوَّلُ : تَحْرِيْرُ أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
الفَصْلُ الثَّانِي : بَيَانُ الأصْلِ فِي حُكْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
الفَصْلُ الثَّالثُ : المَحَاذِيرُ الشَّرعيَّةُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وفِيْه أكْثَرُ مِنْ أرْبَعِيْنَ مَحْظُوْرًا .
الفَصْلُ الرَّابِعُ : حُكْمُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .(1/7)
الفَصْلُ الخَامِسُ : البَدِيْلُ عَنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
الفَصْلُ السَّادِسُ : الشُّبَهُ حَوْلَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) والرَّدُّ عَلَيْها؛ تَحْتَ عُنْوَانِ " المُنَاظَرَةِ الرِّيَاضِيَّةِ".
الفَصْلُ السَّابِعُ : الشِّعْرُ العَرَبِيُّ، وَ( كُرَةُ القَدَمِ ) .
الفَصْلُ الثَّامِنُ : مُلْحَقُ فَتَاوَى أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
الخَاتِمَةُ، والفَهَارِسُ :
وأخِيْرًا؛ فلَيْسَ مِنْ زَلَّةِ الأذْهَانِ أمَانٌ، ولا مِنْ تَسْطِيرِ البَنَانِ اطْمِئْنَانٌ، وقَدْ قِيلَ : " الكِتابُ كالمُكلَّفِ؛ لا يَسْلمُ مِنَ المُؤاخَذَةِ، ولا يَرْتَفِعُ عَنْهُ القَلَمُ "(1)، فَرَحِمَ اللهُ مَنْ أوْقَفَنِي عَلَى خَطأٍ فَصَحَّحَهُ لا جَرَّحَهُ، وكَانَ لِي عَاذِرًا لا عَاذِلاً؛ واللهُ المُوفِّقُ، وعَلَيْهِ التُّكلانُ .
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِهِ الأمِيْنِ
وكتَبَهُ / ذِيابُ بنُ سَعَدٍ آل حَمْدانَ الغامِدِي
فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ لعَامِ ألْفٍ وأرْبَعْمائَةٍ وثَلاثٍ وعِشْرِيْنَ مِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
15/10/1423هـ
* * *
البابُ الأوَّلُ
الفَصْلُ الأوَّلُ : مَدْخلٌ، وتَنْبيهٌ
الفَصْلُ الثَّاني : خُطُورةُ السُّكُوتِ عَنِ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرةِ
الفَصْلُ الثَّالثُ : أهميَّةُ فِقْهِ الوَاقِعِ فِي حُكْمِ النَّوَازِلِ
الفَصْلُ الرَّابعُ : إعْمَالُ قاعِدَةِ : " الوَسائِلُ لها أحْكامُ المَقَاصِدِ "
الفَصْلُ الأوَّلُ
مَدْخَلٌ
__________
(1) ـ انظر"صُبْحُ الأعْشَى" لأبي العَبَّاسِ القَلَقَشَنْدِي (1/10) .(1/8)
وآحَسْرَتَاهُ!؛ عَلَى قُلُوبٍ وَاجِفةٍ يومَ غَدَتْ ميِّتةً لا حَياةَ فِيْها ولا حِرَاكَ … اللَّهُمَّ إلاَّ مَا وَافَقَ شَهَواتِها ولَذَّاتِها؛ ولَوْ كَانَ فِيْهِ سُخْطُ الرَّبِ وغَضَبُه، فَهِيَ بَعْدَ هَذَا لا تُبَالِي فِي أيِّ وَادٍ تَسْلُكُ، وبأيِّ أرْضٍ تَهْلَكُ ؟، قَدْ تَعَبَّدَتْ لِغَيْرِ اللهِ، ونَدَّتْ عَنْ شَرْعِ اللهِ … فَحُبُّها لِغَيْرِ اللهِ، وبُغْضُها لا للهِ، فالْهَوَى إمَامُهَا، والشَّهْوَةُ قَائِدُها، والجَهْلُ سَايِسُها، والغَفْلَةُ مَرْكَبُها، وهَكَذَا فالدُّنْيا تُسْخِطُها، والهَوَى يَصُمُّها عَمَّا سِوَى البَاطِلِ !!، فَهِيَ فِي دُنْيَاها كَمَا قِيْلَ فِي لَيْلَى :
عَدُوٌّ لِمَنْ عَادَتْ وسِلْمٌ لأهْلِها ومَنْ قَرَّبَتْ لَيْلَى أحَبُّ وأقْرَبا
نَعَمْ؛ هَذِهِ القُلُوبُ قَدِ ارْتَكَسَتْ فِي عُبُودِيَّاتٍ مَا لَها مِنْ قَرَارٍ، فَهِيَ تُوَالِي كُلَّ مَنْ يُوصِلُها إلى شَهَواتِها ولَذَّاتِها … فَكَانَ مِنْ تِلْكُمُ القُلُوبِ المَيِّتَةِ لا كُلِّها : أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ اتَّخَذُوا ( كُرَةَ القَدَمِ ) إلَهًا مِنْ دُوْنِ اللهِ، فَعَلَيْها يُوَالُوْنَ، ومِنْ أجْلِها يُعَادُونَ، فَقَدْ أحَبُّوْها أكْثَرَ مِنْ حُبِّهِم للهِ، ورَسُولِهِ، والمُؤْمِنِيْنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحبِّ الله والذين أمنوا أشدُّ حبًا لله"[البقرة165].(1/9)
وقَدْ يَظُنُّ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ بوَاقِعِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليَوْمَ : أنَّ هَذَا الكَلامَ تَهَجُّمٌ، ورَجْمٌ بالغَيْبِ عَلَيْها، واسْتِخْفَافٌ بِها، والحَقِيقةُ أنَّني لَسْتُ ضِدَّ ( الرِّياضَةِ ) كوَسِيلَةِ تِهْذِيْبٍ وتَرْوِيْحٍ، ولَكِنَّنِي ضِدُّها كوَسِيلةٍ لإلْهَاءِ المُسْلِمِيْنَ، وتَبْدِيدِ ثَرَوَاتِهم، وإهْدَارِ طَاقاتِهم فِيْما لا طَائِلَ تَحْتَه؛ بَلْ كُلُّ هَذَا عَلَى حِسَابِ قَضَاياهُمُ الإسْلاميَّةِ، فِي حِيْنَ أنَّ المُسْلِمِيْنَ اليَومَ أحْوَجَ ما يَكُونُونَ ( ضَرُورَةً ) إلى مُرَاجَعَةِ حِسَابِاتِهم، والعَوْدَةِ إلى دِيْنِهم، والاصْطِفاَفِ فِي وَجْهِ العَدُوِّ الغَاشِمِ الَّذِي مَا زَالَ حَتَّى سَاعَتِي هَذِه (وآسَفَاه!) وهُوَ يَسْتَبِدُّ بِبِلادِ المُسْلِمِيْنَ، ويَسْتَبِيحُ دِمَاءهُم : فَقَتْلٌ هُنا، ودَمَارٌ هُنَاكَ، وتَجْوِيعٌ هُنُالِك … وأعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وأنْكَى : أنَّ ثمَّةَ أصْوَاتٍ إسْلاميَّةً تَنْعِقُ مِنْ هُنا وهُنَاك مُسَانِدَةً، أو مُعزِّزَةً لِتِلْكُمُ الفَعَلاتِ، والهَجَماتِ الكُفْرِيَّةِ ( الحُرُوبِ الصَّليبيَّةِ )!، فإلى اللهِ المُشْتَكَى، وهُوَ المُسْتعانُ عَلَى مَا يَصِفُوْنَ !
* * *
وبَعْدَ هَذَا؛ أفلا يَسْتَحِي الرِّياضِيُّونَ مِنْ وَاقِعِهم المَشِينِ، وهُمْ بَعْدُ في خَوْضِهم يَلْعَبُوْنَ ؟!، وألا يَكْفِيهِمُ الصُّورُ المُخْزِيةُ الَّتي يُشَاهِدُوْنَ ؟!، أمْ لَمْ يَأْنِ لَهُم أنُ يَقُولُوا : إنَّا مُنْتَهُوْنَ ؟!(1/10)
إنَّها سُؤُلاتٌ لا تَحْتاجُ إلى إجَابَاتٍ؛ اللَّهُمَّ إلاَّ إذَا صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْه، وقَالُوا : إنَّا بَرِيئونَ اليَوْمَ مِنْ أهْلِ الغِشِّ الخائِنِيْنَ الَّذِيْنَ يَتَقَامَرُونَ بِدِينِنا، ويَضْحَكُونَ عَلَى مَآسِيْنَا … إنَّهُم سَدَنةُ الرِّياضَةِ، وصُنَّاعُها سَوَاءٌ كَانُوا : أصْحَابَ نَوَادٍ، أو أقْلامَ صَحَافةٍ، أو مُنظِّمِي دَوْرَاتٍ : فالكُّلُّ غَاشٌّ ظَلُومٌ، ومِعْوَلُ هَدْمٍ فِي جِسْمِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ … فَهَذَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ قَدْ لَعَنَ : آكِلَ الرِّبا، ومُوَكِّلَه، وكَاتِبَه، وشَاهِدَيْه، وكَذَا شَارِبَ الخَمْرِ، وحَامِلَها، وعَاصِرَها، والمَحْمُولَةَ إليه … فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ ؟
نَعَمْ؛ فَلَقَدْ أصْبَحَتْ فَرَحَاتُ، وانْتِصَارَاتُ أرْبَابِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أعْظَمَ مَكَانةً، وأجَلَّ قَدْرًا مِنْ الانْتِصَارِ عَلَى اليَهُوْدِ فِي فِلِسْطِيْنَ، كَمَا أنَّ هَزِيْمَتَهم أشَدُّ وَقْعًا مِنْ تَقْتِيْلِ، وتَشْرِيْدِ مَلايِيْنَ المُسْلِمِيْنَ!
فَعِنْدَ هَذَا لا تَثْرِيْبَ إذْ أضْحَى وَلاؤُهُم وعَدَاؤُهُم وَفْقَ قَضَايا سَاذَجَةٍ تَافِهَةٍ هَزِيلَةٍ، أشْبَهَ مَا تَكُوْنُ بتَصَرُّفاتٍ صِبْيانِيَّةٍ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ .
* * *(1/11)
كَمَا أنَّه لَمْ يَنْتَهِ بِهِم هَذَا الهَوَسُ الرِّياضيُّ إلى هَذَا الحَدِّ الهَابِطِ؛ بلْ دَفَعَهُم إلى تَقْلِيبِ الحَقَائقِ، والتَّلاعُبِ بالألْفاظِ الشَّرعيَّةِ، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ أحَدُ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَوْمَ شَبَّهَ المُنْتَخَبَ الكُوَيْتِيَّ بَعْدَ تَصَدُّرِهِ عَلَى فِرَقِ آسِيا، وذَهَابِهِ إلى أسْبانيا بأنَّه : شَبِيهٌ بفَتْحِ الأنْدَلُسِ، كَمَا عَقَدَ مُقارَنَةً بَيْنَ صَقْرِ قُريشٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلِ، واللاعِبِ فَيْصَلٍ الدَّخِيْلِ، وجَعَلَ أيْضًا أفْرَادَ المُنْتخَبِ الكُوَيْتِيِّ فِي مَصَافِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، حَيْثُ تَلا قَوْلَه تَعَالَى : "رجالٌ صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه " الآية،(1)، وآخَرُ يَصِفُ أحَدَ اللاعِبِينَ بأنَّه : مَعْبُودُ الجَمَاهِيرِ، وثالثٌ ورَابِعٌ(2) … إنَّها مَأسَاةُ جِيْلٍ نَشَأَ عَلَى اللَّهْوِ وسَفَاسِفِ الأُمُورِ !، فإلى اللهِ تُرْجَعُ الأمُوْرُ .
__________
(1) ـ انظر "مجلة المجتمع" العدد(522) في (19/2/1402هـ ) .
(2) ـ هُنَاكَ الكثيرُ والكَثِيرُ مِنْ مَنْظُومةِ هَذِه التُّرُّهاتِ، والمُغالطاتِ المَقِيتَةِ … ممَّا يَصْلُحُ أنْ يكونَ كِتابًا مُظْلمًا، والشَّاهِدُ عَلَى ذَلِك ما تَلْفِظُه وتَذْكُرُه الجرائدُ اليوميَّةُ بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ ممَّا هُو مَشْهُورٌ بينَ عامَّةِ النَّاسِ !(1/12)
ومِنْ سَوالِفِ هَذِهِ المَخَارِقِ الجَوْفاءِ مِمَّا هُوَ مِنْ شَأنِ، وشَاكِلَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَا ذَكَرَه ابنُ كَثيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي حَوَادِثِ (334هـ) زَمَنَ دَوْلةِ بني بُوَيْهٍ ( الشِّيعيَّةِ ) فِي خِلافَةِ المُطِيْعِ للهِ!، مَا نَصُّهُ : " … واسْتَقَرَّ مُعِزُّ الدَّوْلةِ بمَدِيْنَةِ السَّلامِ بَغْدَادَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي اسْتِعْمَالِ السُّعَاةِ لِيُبَلِّغُوا أخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أخْبَارَه، فَغَوَى العَامَّةَ فِي ذَلِك، وعَلَّمُوا أبْناءهُم ذَلِك، حَتَّى كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْطَعُ نيِّفًا وثَلاثِيْنَ فَرْسَخًا فِي يَوْمٍ، وأعْجَبَهُ المُصَارِعُونَ، والمُلاكِمُونَ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أرْبَابِ هَذِه الصِّناعاتِ الَّتِي لا يُنْتَفَعُ بِهَا إلاَّ كُلُّ قَلِيْلِ العَقْلِ، فَاسِدِ المُرُوْءةِ، وتَعَلَّمُوا السِّبَاحَةَ ونَحْوَها، وكَانَتْ تُضْرَبُ الطُّبُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ويُصُارَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ، والكُوْسَاتُ ( الطُّبُولُ ) تُدَقُّ حَوَلَ سُوْرِ المَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيْه، وهَذِهِ رُعُونةٌ شَدَيْدَةٌ، وسَخَافةُ عَقْلٍ مِنْهُ، ومِمَّنْ وَافَقَهُ على ذَلِكَ"(1).
__________
(1) ـ "البداية والنهاية" لابنِ كَثِيْرٍ (15/169-170) .(1/13)
قُلْتُ : ما ذَكَرَهُ ابنُ كثيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُنَا كَانَ مِنَ السَّعي، والمُصَارَعَةِ المُباحةِ ظَاهِرًا؛ ورُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ مِنْ شَأنِ الجِهَادِ المَحْمُودِ؛ إلاَّ أنَّ ابنَ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ نَظَرَ إلى مَا اقْتَرَنَ بِهَذِه المُباحاتِ مِنَ المُحرَّمَاتِ، والسَّخَافَاتِ المَمْجُوْجَةِ : كالتَّعَصُّبِ الممْقُوتِ، والإلْهَاءِ المَذْمُوْمِ، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ بقَوْلِه : " وكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَلِيمًا كَرِيْمًا عَاقِلاً، وكَانَتْ إحْدَى يَدَيْه مَقْطُوعةً، وهُوَ أوَّلُ مَنْ أحْدَثَ السُّعاةَ بَيْنَ يَدَيْ المُلُوْكِ؛ ليَبْعَثَ بأخْبارِه إلى أخِيْهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ إلى شِيْرَازَ سَرِيْعًا، وحَظِيَ عِنْدَه أهْلُ هَذِه الصِّناعَةِ، وتعلَّمَ أهْلُ بَغْدَادَ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُم يَجْرِي فِي اليَوْمِ الوَاحِدِ نَيِّفًا وأرْبَعِيْنَ فَرْسَخًا، وكَانَ فِي البَلَدِ سَاعِيانِ مَاهِرانِ، وهُمَا : ( فَضْلٌ، ومَرْعُوْشٌ )، يَتَعَصَّبُ لِهَذَا عَوَامُ أهْلِ السُّنَّةِ، ولِهَذَا عَوَامُ أهْلِ الشِّيعَةِ، وجَرَتْ لَهُمَا مَنَاصِفُ ومَوَاقِفُ"(1).
فَإذَا عُلِمَ هَذَا؛ فَكَيْفَ بابْنِ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ والْحَالَةُ هَذِه لَوْ رَأى ( كُرَةَ القَدَمِ )، ومَا عَلَيْه طُلابُها المُتَعَصِّبِوْنَ الَّذِيْنَ هُم ( غَالبًا ) طُغَامُ النَّاسِ وشُذَّاذُهم !، مَعَ مَا فِيْها مِنْ مُوْبِقَاتٍ، وحَمَاقَاتٍ مَا تَفُوقُ مَا ذَكَرَهُ دَرْكًا وهُوَّةً ؟!
* * *
تَنْبِيْهٌ
__________
(1) ـ السابق (15/306)، والمناصفُ : جَمْعُ مَنْصَفٍ، وهو : اخْتِلاسُ الحَقِّ بِحِيلةٍ !(1/14)
كَانَ مِنْ جَادَّةِ القَوْلِ أنْ نَقِفَ مَعَ خَطَلِ، وخَطَرِ مَا تُفرِزُه ( كُرَةُ القَدَمِ )؛ كَيْ نَكْشِفَ حَقِيْقَةً مُؤلِمَةً أحْسِبُها قَدْ تَخْفَى عَلَى عَامَّةِ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ بَلْ بَعْضِ طُلابِ العِلْمِ، وهِيَ مَا كُنَّا نَخْشَاهُ ولا نَرْضَاهُ، واللهُ المُسْتَعَانُ .
فأقُوْلُ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) حَقًّا قَدْ أخَذَتْ مَنْحًى خَطِيْرًا ( جِدًّا ! ) فِي سَنَوَاتِها الأخِيْرَةِ، وذَلِكَ فِيْمَا اكْتَنَفَها مِنَ مُحَرَّمَاتٍ؛ بَلْ كَبَائِرَ قَدْ يَصِلُ بَعْضُها إلى دَرَجَةِ الشِّرْكِ عَيَاذًا باللهِ !، ومِنْ هُنَا كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا أنْ نَحْكُمَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليَوْمَ بأنَّها : مَذْهبٌ فِكْرِيٌّ، وطَاغُوْتٌ عَصْرِيٌّ !
* أمَّا كَوْنُها مَذْهبًا فِكْريًّا؛ فَيُوَضِّحُه : أنَّ ظُهُوْرَ المَذَاهِبِ الفِكْرِيَّةِ البَاطِلَةِ عَلَى مَرِّ التَّارِيْخِ الإسْلامِيِّ كَانَتْ كَثِيْرَةً جِدًّا لا يَجْمَعُها زَمَانٌ ولا مَكانٌ؛ إلاَّ أنَّها وللهِ الحَمْدُ مَعَ كَثْرتِها الكاثِرَةِ لَمْ تَزَلْ فِي زَوَالٍ وانْدِراسٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إلاَّ مَا جَمَعَ ثَلاثَةَ أمُوْرٍ، وهِيَ باخْتِصَارٍ :
الأوَّلُ : وُجُودُ أنْصَارٍ، وأعْوَانٍ ( ورُبَّمَا كَانُوا أهْلَ عِلْمٍ فِي الجُمْلةِ ! ) مِمَّنْ لَهُمْ يَدٌ فِي نَشْرِ، ونَصْرِ مَا هُمْ عَلَيْه مِنَ البَاطِلِ .
الثَّاني : وُجُودُ كُتُبٍ حَافِظَةٍ لِهَذِه الأفْكَارِ الباطِلَةِ .
الثَّالِثُ : وُجُودُ أتْبَاعٍ لِهَذِه الأفْكارِ سَوَاءٌ كَانُوا دُوَلاً، أو جَمَاعَاتٍ، أو أفْرَادًا .
فإذَا عُلِمَ هَذَا، فَلا تَثْرِيْبَ حِينَئِذٍ أنْ تَتَبَوَّأ ( كُرَةُ القَدَمِ ) هَذِه الأيَّامِ مَنْزِلاً مِنْ مَنَازلِ المَذَاهِبِ الفِكريَّةِ دُوْنَ شَكٍّ، وذَلِكَ لِمَا يَلِي :(1/15)
أوَّلاً : أنَّ أعْوَانَها، وأنْصارَها هَذِه الأيَّامُ لَمْ يَشْهدِ التَّارِيْخُ لَهُ نَظِيْرًا، فَحَسْبُكَ أنَّهُم أكْثَرُ حُكَّامِ، ومَشَاهِيرِ بِلادِ الدُّنيا، كَمَا أنَّهَا لَمْ تَسْلَمْ مِنْ أحْكَامِ بَعْضِ المُتَعَالِمِيْنَ مِمَّنْ سَخَّرُوا فَتَاوِيْهِم فِي إلْبَاسِ (كُرَةِ القَدَمِ ) ثَوْبًا شَرْعِيًّا !
ثانيًّا : أنَّ قَنَواتِها الإعْلاميَّةَ، وكُتُبَها الرِّياضِيَّةَ مَا يَفُوقُ الحَصْرَ، فانْظُرْ مَثَلاً : ( التِّلفازَ )، والمِذْيَاعَ، والصَّحافَةَ، والجَرائِدَ، والمَجَلاتِ؛ كَيْفَ وهِيَ تَنْفُخُ صَباحًا مَسَاءً فِي تَرْويجِ، وتَزْينِ (كُرَةَ القَدَمِ)(1)؟!
ثَالِثًا : أنَّ أتْبَاعَها، ومُشَاهِدِيها مَا يَعْجَبُ مِنْه الإنْسَانُ العَاقِلُ؛ حَتَّى إنَّكَ لَوْ أقْسَمْتَ : أنَّ أكْثَرَ أهْلِ الأرْضِ أتْبَاعٌ وهُوَاةٌ لَهَا؛ لَمَا أثِمْتَ أو حَنِثْتَ !، فَعِنْدَ هَذَا لا تَعْجَبْ إذَا قِيْلَ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ) أصْبَحَتْ مَذْهبًا فِكْريًّا !
__________
(1) ـ ومَمَّا كَانَ آخِرًا لا أخِيْرًا؛ مَا تَنَاقَلَتْه الأخْبَارُ السَّائِرَة عَنْ وُجُودِ قَنَاةٍ رِياضيَّةٍ تُبَثُّ مَسَاءَ كُلِّ يَوْمٍ مِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ حتَّى السَّاعَةِ الثَّانِيةِ عَشَر!، عَبْرَ ( تِلْفَازِ ) بِلادِ الحَرَمَيْنِ، حَامِلَةً في رِسَالتِها كُلَّ ما هُوَ مِنْ شَأنِ الرِّياضَةِ، فإلى اللهِ المُشْتَكَى !(1/16)
أمَّا كَوْنُها طَاغُوتًا عَصْرِيًّا؛ فَيْوَضِّحُه : أنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ كَمَا عَرَّفَه ابنُ القيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " كُلُّ مَا تَجَاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّه : مِنْ مَعْبُوْدٍ، أو مَتْبُوْعٍ، أو مُطَاعٍ، … ثمَّ قَالَ : فَهَذِه طَوَاغِيتُ العَالَمِ : إذا تأمَّلْتَها، وتأمَّلْتَ أحْوَالَ النَّاسِ مَعَها، رَأيْتَ أكْثَرَهُم أعْرَضَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى إلى عِبَادَةِ الطَّاغُوْتِ، وعَنْ طَاعَةِ اللهِ، ومُتَابَعَةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ إلى طَاعَةِ الطَّاغُوْتِ ومُتابَعَتِه!"(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ هَذَا يَتَّضِحُ لَنَا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) هَذِه الأيَّامَ : قَدْ تَجَاوَزَ النَّاسُ بِهَا الحَدَّ تَجَاوُزًا ألْبَسَها ثَوْبَ الجَاهِليَّةِ، وكَسَاهَا سِرْبالاً مِنْ جَرَبٍ؛ فَغَدَتْ عِنْدَئِذٍ طَاغُوْتًا عَصْرِيًّا باسْمِ الرِّياضَةِ !
__________
(1) ـ "إعْلامُ المُوَقِّعِيْنَ" لابنِ القَيِّمِ (1/53)، و"مُخْتَصَرُ الصَّوَاعِقِ المُرْسَلَةِ" (2/353) للموصلي .(1/17)
وهَلْ بَعْدَ هَذَا يَشُكُ ذُو لُبٍّ حَصِيفٍ مَا يَجْرِي، ويَتَجَارَى هَذِه الأيَّامَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ : حُبٍّ وبُغْضٍ، ووَلاءٍ وعَدَاءٍ، ونَصْرٍ وغُلْبٍ، وسَبٍّ ولَعْنٍ، وهَمْزٍ ولَمْزٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مُوقَوِّمَاتِ العُبُوْدِيَّةِ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى؟!؛ بَلْ لا أُبَالِغُ إذَا قُلْتُ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدِ ارْتَسَمَتْ فِيْها مِنْ مَعَانِي الطَّاغُوتيَّةِ مَا يَتَضَاءلُ عَنْدَها كَثِيْرٌ مِنَ الطَّوَاغِيْتِ الَّتِي عُرِفَتْ فِي غَابِرِ الأزْمَانِ، فَتَأمَّلْ يَا رَعَاكَ اللهُ، ولا تَلْتَفِتْ بَعْدَ هَذَا إلى مَرْضَى القُلُوبِ، وسَمَاسِرةِ الإعْلامِ، وسَدَنةِ الرِّياضَةِ، ومَا يَلْقُونَه مِنْ نَفَثَاتٍ مَسْمُومةٍ، وتَصَارِيفِ الأقْلامِ الشَّاقَّةِ فِي قُلُوبِ سَائِمَةِ الرِّياضِيِّينَ أخَادِيْدَ لا بَوَاكِيَ لَهَا، ولا طَبِيْبٍ يُعَالجُ إلى آخِرِ ذَلِكُمُ الغُلْبِ الفَاجِرِ !
* * *
ومَعَ هَذَا فإنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَمْ تَنْفَرِدْ بِهَذَا وذَاكَ؛ بَلْ هِيَ إحْدَى الطَّوَاغِيْتِ الثَّلاثَةِ، وثَالِثَةُ الأثَافِي الَّتِي أفْسَدَتْ الدِّيْنَ والدُّنْيَا عَلَى أكْثَرِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّام ( بَعْدَ الشِّرْكِ !)، وهِيَ :(1/18)
الأوَّلُ : الغِنَاءُ بِجَمِيْعِ صُوَرِهِ(1).
__________
(1) ـ إنَّ غِنَاءَ أهْلِ زَمَانِنا أسْوَءُ حَالاً، وأرْذَلُ مَقَالاً؛ فَهُوَ لا يُقَارَنُ بتَّةً بِمَا كَانَ عَلَيْه أهلُهُ فِي العُصُورِ الماضِيَةِ الَّتِي صَاحَ بِهْم أهْلُ العِلْمِ كَافَّةً تَحْذِيرًا وتَنْفِيرًا، أمَّا غِناءُ اليَوْمَ فَهُو غِنَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مُحرَّماتٍ كَثِيْرةٍ؛ حَتَّى اسْتَقَرَّ مُسْتنقعًا آجِنًا مِنَ الرَّذَائِلِ، والمُجُوْنِ مِثْلُ : المُوسِيقَى، والرَّقْصِ، والنِّسَاءِ المُتهتِّكاتِ، والكَلِمَاتِ المَاجِنَاتِ مِنْ وَصْفٍ للخُدُودِ والنُّهُودِ، والعُيُونِ والمَدْفُونِ، وتَهْييجٍ للصُّدُودِ والوُعُودِ، ثُمَّ المُصِيْبَةَ كُلَّ المُصِيْبَةِ إذَا عَلِمَ الجَمِيعُ أنَّ هَذِه الرُّعُوناتُ كُلُّها لا تُقالُ إلاَّ فِي التَّشَبُّبِ، والتَّهتُّكِ بنِسَاءِ المُسْلِمِيْنَ، فلَكُمُ الوَيْلُ ممَّا تَصِفُونَ !، ومَنْ أرَادَ زِيَادَةَ بَيَانٍ عَنْ مَفَاسِدِ الغِنَاءِ؛ فلْيَنْظُرْ كِتَابَ " الرَّيْحِ القَاصِفِ عَلَى أهْلِ الغِنَاءِ والمَعَازِفِ" للمُؤلِّفِ .(1/19)
الثَّاني : القَنَوَاتُ الإعْلامِيَّةُ بِجَمِيعِ أشْكالِها(1).
الثَّالثُ : الألْعَابُ الرِّياضيَّةُ؛ لاسِيَّمَا ( كُرَةُ القَدَمِ )(2)!
* * *
__________
(1) ـ إنَّ القَنَوَاتِ الإعْلامِيَّةَ حَقًّا تُعْتَبَرُ قَنَواتِ إفْسَادٍ، وتَزْيِيْنٍ للشَّهَواتِ، وتَرْوِيجٍ للبَاطِلِ بِما تَعْنِيهِ الكَلِمَةُ، وهَذَا ما عَلَيْه غَالِبُ وأكْثَرُ بِلادِ العَالَمِيْنَ ( والحُكْمُ للغَالِبِ )، فَدُوْنَكَ : الشَّبَكَةَ العَنْكَبُوتِيَّةَ ( الإنْتَرْنِتْ )، وما تَبثُّه مِنْ إباحيَّاتٍ، وكُفريَّاتٍ، والدُّشوش ومَا تَحْتَوِيه مِنْ عُريٍ ومُجونٍ، والتِّلفازَ ومَا فِيْه مِنْ غِنَاءٍ، وغَرَامٍ، وخلاعةٍ، والصَّحافةَ : مِنْ جَرَائِدَ سَاذَجَةٍ، ومَجَلاتٍ هَابِطَةٍ … فَعِنْدَها لا نَشُكُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ أنَّ القَنَوَاتِ الإعْلامِيَّةَ بِجَمِيْعِ أشْكَالِها : هِيَ مَعَاوِلُ هَدْمٍ، وتَقْويضٍ لرُسُومِ الإسْلامِ، وتَخْرِيْبٍ لأخْلاقِ المُسْلِمِيْنَ، فَهِي مَرْكبُ الرَّذيلةِ برَّا، وجَوَّا، وبَحْرًا، عِلْمًا أنَّ تَارِيخَ القَنَوَاتِ الإعْلامِيَّةِ في أمَّةِ الإسْلامِ : تَارِيخٌ مُظْلِمٌ، وتَدَهْورٌ فِي التَّيهِ والجَهْلِ، وهَكَذَا حَتَّى أحْكَمَتْ عَلَى المُسْلِمِيْنَ عُقُولهَم وقُلُوبَهم فَلا دِينًا أقَامُوه، ولا دُنْيَا عَمَرُوها، وعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُومُ يا أرْبابَ الإعْلامِ !
(2) ـ أمَّا الألْعَابُ الرِّياضيَّةُ : فَلَيْسَتْ عَنْ جَارَتَيْها بِبَعِيْدٍ : إلْهَاءٌ لأبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، وتَفْرِيغٌ لِطَاقاتِهم، وتَبْدِيْدٌ لأمْوَالِهم، وتَضْلِيْلٌ لِعُقُولِهم، وتَجْهِيلٌ لأمُوْرِ دِيْنِهم إلى آخِرِ ذَلِكَ مَمَّا هُوَ مَسْطُورٌ فِي هَذِه الرِّسَالَةِ . ولا يُخالفُ هَذَا إلاَّ جَاهِلٌ، أو مُكَابِرٌ أعْمَاهُ مَنْصِبُه، أو شُهْرتُه!(1/20)
أمَّا إذَا سَألْتَ أخِي المُسْلمُ عَنْ الأسْبابِ المُفْضِيَةِ إلى تَفْريقِ، وتَمْزيقِ الأمَّةِ الإسْلاميَّةِ فَهِيَ كَثِيْرَةٌ جِدَّا؛ أُجْمِلُها لَكَ فِي أُمُورٍ :
الأوَّلُ : إلْغاءُ الخِلافَةِ الإسْلاميَّةِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ السِّياسيَّةُ .
الثَّاني : انْتِشَارُ الشِّرْكِيَّاتِ فِي أكْثَرِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ العَقَائِدِيَّةُ .
الثَّالِثُ : انْتِشَارُ المَذَاهبِ الفَاسِدَةِ : كالعِلْمانيَّةِ، والحَدَاثَةِ، والعَصَبيَّاتِ الجَاهِلِيَّةِ : كالقَوْميَّةِ والوَطَنيَّةِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ الفِكْرِيَّةُ الطَّائِفِيَّةُ .
الرَّابِعُ : العَصَبِيَّاتُ المَمْقُوتَةُ فِي المَذَاهِبِ الفِقْهيَّةِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ المَذْهَبِيَّةُ .
الخَامِسُ : القَوْلُ فِي دِيْنِ اللهِ بالرَّأي والعَقْلِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ العَصْرَانِيَّةُ العَقْلانِيَّةُ .
السَّادِسُ : انْتِشَارُ وتَزْيِيْنُ الشَّهَوَاتِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ الأخْلاقِيَّةُ .
السَّابِعُ : فَسَادُ العُلَماءِ، والحُكَّامِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ الدِّينِيَّةُ، والدُّنْيوِيَّةُ مَعًا .
الثَّامِنُ : تَوْسِيْدُ الأمُوْرِ إلى غَيْرِ أهْلِها، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ فِي الأمَانَةِ، والخِيَانَةِ مَعًا.
التَّاسِعُ : التَّحَاكمُ إلى القَوَانِيْنِ الوَضْعيَّةِ الكُفْرِيَّةِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ المُنَازَعَاتُ التَّحَاكُميَّةُ .
العَاشِرُ : تَمْرِيْرُ مُخَطَّطاتِ أهْلِ الكُفْرِ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِيْنَ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتِ المُنَازَعَاتُ فِي جَمِيْعِ مَا ذُكِرَ … إلخ !
* * *
الفَصْلُ الثَّاني
خُطُورَةُ السُّكُوتِ عَنِ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرةِ(1/21)
إنَّ تَرْكَ الإنْكَارِ عَلَى المَنْهِيَّاتِ الشَّرْعيَّةِ، لا سِيَّمَا مَا هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ عَامَّةِ المُسْلِمِيْنِ وسَوَادِهم؛ يُعَدُّ ارْتِكَاسًا فِي العِلْمِ، وجِنَايَةً عَلَى التَّشْرِيعِ الإسْلامِيِّ، ومَسْخًا لِمَعَالِمِ الدِّيْنِ الحَنِيْفِ عَيَاذًا باللهِ مِنْ ذَلِكَ !
يَقُوْلُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : إنَّ كَثِيْرًا مِمَّا عَلَيْه النَّاسُ مِنَ العَادَاتِ ونَحْوِها، إذَا لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهم فِيْه، عَادَ مُسْتَحْسَنًا عِنْدَهُم؛ بَلْ رُبَّمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُم إجْمَاعًا لا يَجُوْزُ إنْكَارُه، بِمَثَابَةِ مَنْ إذَا قِيْلَ لَهُمْ : تَعَالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللهُ وإلى الرَّسُولِ، قَالُوا : حَسْبُنا مَا وَجَدْنَا عليه آبَاءنا(1).
وقَالَ أيْضًا : " فإذَا سُوِّغَ فِعْلُ القَلَيْلِ مِنْ ذَلِكَ أدَّى إلى فِعْلِ الكَثِيْرِ، ثُمَّ إذَا اشْتُهِرَ الشَّيءُ دَخَلَ فِيْهِ عَوَامُ النَّاسِ، وتَنَاسَوْا أصْلَهُ حَتَّى يَصِيْرَ عَادَةً للنَّاسِ؛ بَلْ عِيْدًا، حَتَّى يُضَاهَى بِعِيْدِ الله؛ بَلْ قَدْ يُزَادُ عَلَيْه؛ حَتَّى يَكَادَ أنْ يُفْضِيَ إلى مَوْتِ الإسْلامِ، وحَيَاةِ الكُفْرِ"(2).
__________
(1) ـ انظر"اقْتِضَاءَ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ" لابن تيميَّةَ ( 2/87 ) بِتَصَرُّفٍ .
(2) ـ السابق ( 1/531 ) .(1/22)
وهَذَا الإمَامُ الشَّاطِبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ يُعَزِّزُ مَا نَحْنُ بِصَدَدِه بِقَوْلِهِ : " وأصْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ سُكُوْتُ الخَوَاصِ ( العُلَمَاءِ ) عَنِ البَيانِ، أو العَمَلِ بِه عَلَى الغَفَلَةِ، ومِنْ هُنَا تُسْتَشْنَعُ زَلَّةُ العَالِمِ؛ فَقَدْ قَالُوا : ثَلاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّيْنَ : زَلَّةُ عَالِمٍ، وجِدَالُ مُنَافِقٍ بالقُرْآنِ، وأئِمَّةٌ مُضِلُّونَ"(1).
وكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ وَبَالُهُ عَلَى العَالَمِ ( إلى أنْ قَالَ ) والثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ المَفْسَدَةِ الحالِيَّةِ : أنْ يَعْمَلَ بِها العَوَامُ، وتَشِيعُ فِيْهم، وتَظْهَرُ فِيْمَا بَيْنَهُم؛ فَلا يُنْكِرُها الخَوَاصُ، ولا يَرْفَعُونَ لَهَا رَأسًا، وهُمْ قَادِرُوْنَ عَلَى الإنْكَارِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا .
فالعامِيُّ مِنْ شَأنِه إذَا رَأى أمْرًا يَجْهَلُ حُكْمَهُ يَعْمَلُ العامِلُ به فَلا يُنْكَرُ عَلَيْه؛ اعْتَقَدَ أنَّه جَائزٌ، وأنَّه حَسَنٌ، أو أنَّه مَشْرُوعٌ؛ بِخِلافِ مَا إذَا أُنْكِرَ عَلَيْه؛ فإنَّه يَعْتَقِدُ أنَّه عَيْبٌ، أو أنَّه غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أو أنَّه لَيْسَ مِنْ فِعْلِ المُسْلِمِيْنَ .
هَذَا أمْرٌ يَلْزَمُ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ بالشَّرِيعةِ؛ لأنَّ مُسْتَنَدَه الخَوَاصُ، والعُلَمَاءُ فِي الجَائِزِ مَعَ غَيْرِ الجَائِزِ .
__________
(1) ـ هَذَا قَوْلُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، أخْرَجَه الدَّارِمِيُّ فِي "السُّنَنِ" (1/71)، وأبو نُعَيْمٍ فِي "الحِلْيَةِ" (4/196)، وابنُ عَبْدِ البَرِّ فِي "جامِعِ بَيَانِ العِلْمِ وفَضْلِه" (2/979)، وقَدْ صَحَّحَهُ ابنُ كَثِيْرٍ فِي "مُسْنَدِ الفَارُوقِ" (2/662) .(1/23)
فَإذَا عُدِمَ الإنْكَارُ مِمَّنْ شَأنُه الإنْكارُ، مَعَ ظُهُورِ العَمَلِ وانْتِشَارِه، وعَدَمِ خَوْفِ المُنْكِرِ، ووُجُودِ القُدْرَةِ عليه، فَلَمْ يُفْعَلْ؛ دَلَّ عِنْدَ العَوَامِ عَلَى أنَّه فِعْلٌ جَائِزٌ لا حَرَجَ فِيْه، فَنَشَأَ فِيْه هَذَا الاعْتِقَادُ الفَاسِدُ بتأوِيْلٍ يَقْنَعُ بِمِثْلِهِ مَنْ كَانَ مِنَ العَوَامِ، فَصَارَتِ المُخَالَفَةُ بِدْعَةً، كَمَا فِي القِسْمِ الأوَّلِ .
وقَدْ ثَبَتَ في الأصُولِ أنَّ العَالِمَ فِي النَّاسِ قائِمٌ مَقَامَ النَّبِيِّ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والعُلَماءُ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ، فَكَمَا أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الأحْكَامِ بِقَوْلِه، وفِعْلِه، وإقْرَارِه، كَذَلِكَ وَارِثُهُ يَدُلُّ عَلَى الأحْكَامِ بِقَوْلِه، وفِعْلِه، وإقْرَارِه"(1).
__________
(1) ـ "الاعْتِصَامُ" للشَّاطِبي (2/464-466) .(1/24)
وقَالَ الشَّيْخُ حَمَدُ بنُ عَتِيقٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " إنَّ المُدَاهِنَ، الطَّالِبَ رِضَا الخَلْقِ، أخْبَثُ حَالاً مِنَ الزَّانِي، والسَّارِقِ، والشَّارِبِ، قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : وَلَيْسَ الدِّيْنُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ بَلْ بالقِيَامِ مَعَ ذَلِكَ بالأمُوْرِ المَحْبُوْبَةِ للهِ، وأكْثَرُ الدَّيِّنِيْنَ لا يَعْبَئُوْنَ مِنْها، إلاَّ بِمَا شَارَكَهُم فِيْه عُمُوْمُ النَّاسِ؛ وأمَّا الجِهَادُ، والأمْرُ بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، والنَّصِيْحَةُ للهِ، ورَسُوْلِه، وعِبَادِه، ونُصْرَةُ اللهِ، ورَسُوْلِه، وكِتَابِهِ، ودِيْنِهِ، فَهَذِه الوَاجِبَاتُ لا يَخْطُرْنَ بِبَالِهم؛ فَضْلاً عَنْ أنْ يُرِيْدُوا فِعْلَها؛ فَضْلاً عَنْ أنْ يَفْعَلُوها، وأقَلُّ النَّاسِ دِيْنًا، وأمْقَتُهم إلى اللهِ مَنْ تَرَكَ هَذِه الوَاجِبَاتِ، وإنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيِا جَمِيْعًا، وقَلَّ مَنْ يُرَى مِنْهُم مَنْ يَحْمَرُّ وَجْهُه، ويَتَمَعَّرُ فِي اللهِ، ويَغْضَبُ لحُرُمَاتِه، ويَبْذُلُ عِرْضَه فِي نُصْرَةِ دِيْنِه، وأصْحَابُ الكَبَائِرِ أحْسَنُ حالاً عِنْدَ اللهِ مِنْ هَؤُلاءِ . انتهى .
فَلَوْ قُدِّرَ : أنَّ رَجُلاً يَصُوْمُ النَّهَارَ، ويَقُوْمُ اللَّيْلَ، ويَزْهَدُ فِي الدُّنْيا كُلِّها، وهُوَ مَعَ ذَلِكَ لا يَغْضَبُ، ولا يَتَمَعَّرُ وَجْهُه، ويَحْمَرُّ للهِ، فَلا يَأمُرُ بالمَعْرُوْفِ، ولا يَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، فَهَذَا الرَّجُلُ مِنْ أبْغَضِ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ، وأقَلُّهم دِيْنًا، وأصْحَابُ الكَبَائِرِ أحْسَنُ حَالاً عِنْدَ اللهِ مِنْهُم .(1/25)
وقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ لا أتَّهِمُ، عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ، إمَامِ الدَّعْوَةِ النَّجْدِيَّةِ ( مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الوَهَّابِ )، أنَّه قَالَ مَرَّةً : أرَى نَاسًا يَجْلِسُوْنَ فِي المَسْجِدِ عَلَى مَضَاجِعِهم، يَقْرَؤونَ، ويَبْكُوْنَ، فإذَا رَأوْا المَعْرُوْفَ لَمْ يَأمُرُوا بِهِ، وإذَا رأوْا المُنْكَرَ لَمْ يَنْهَوْا عَنْه، وأرَى أنَاسًا يَعْكِفُوْنَ عِنْدَهم، يَقُوْلُوْنَ : هؤلاءِ لِحًى غَوَانِمُ؛ وأنا أقُوْلُ : إنَّهُم لِحًى فَوَائِنُ، وقَالَ السَّامِعُ : أنا لا أقْدِرُ أقُوْلُ أنَّهُم لِحًى فَوَائِنُ، فَقَالَ : الشَّيْخُ : أنَا أقُوْلُ : إنَّهُم مِنَ العُمْيِ البُكْمِ .
ويَشْهَدُ لِهَذا مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أنَّ السَّاكِتَ عَنِ الحَقِّ شَيْطَانٌ أخْرَسُ، والمُتَكِلِّمُ بالبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، فَلَوْ عَلِمَ المُدَاهِنُ السَّاكِتُ، أنَّه مِنْ أبْغَضِ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ، وإنْ كَانَ يَرَى أنَّه طَيِّبٌ، لَتَكَلَّمَ، وصَدَعَ؛ ولَوْ عَلِمَ طَالِبُ رِضَا الخَلْقِ، بتَرْكِ الإنْكَارِ عَلَيْهم، أنَّ صَاحِبَ الكَبَائِرِ أحْسَنُ حَالاً عِنْدَ اللهِ مِنْه، وإنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِه صَاحِبَ دِيْنٍ أصْلاً لَتَابَ مِنْ مُدَاهَنَتِه، ونَزَعَ، ولَوْ تَحَقَّقَ أنْ يَبْخَلَ بلِسَانِه عَنِ الصَّدْعِ بأمْرِ اللهِ : إنَّه شَيْطَانٌ أخْرَسُ، وإنْ كَانَ صَائِمًا قَائِمًا زَاهِدًا، لَمَا ابْتَاعَ مُشَابَهَةَ الشَّيْطَانِ بأدْنَى الطَّمَعِ .
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوْذُ بِكَ مِنْ كُلِّ عَمَلٍ يُغْضِبُ الرَّحْمَنَ، ومِنْ كُلِّ سَجِيَّةٍ تُقَرِّبُنا مِنَ التَّشَبَّهِ بالشَّيْطَانِ، أو نُدَاهِنُ فِي دِيْنِنا أهْلَ الشُّبُهَاتِ، والنِّفَاقِ، والكُفْرَانِ؛ وصَلِّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وآلِهِ، وصَحْبِهِ وسَلِّمَ"(1).
__________
(1) ـ "الدُّرَرُ السَّنِيَّة" (8/77-79 ) .(1/26)
وقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وتَرْكُ ذَلِكَ ( أيْ : الأمْرِ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ ) عَلَى سَبِيْلِ المُدَاهَنَةِ، والمُعَاشَرَةِ، وحُسْنِ السُّلُوكِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مَمَّا يَفْعَلُه بَعْضُ الجَاهِلِيْنَ أعْظَمُ ضَرَرًا، وأكْبَرُ إثْمًا مِنْ تَرْكِهِ لِمُجَرَّدِ الجَهَالَةِ، فإنَّ هَذَا الصِّنْفَ رَأَوْا أنَّ السُّلُوكَ، وحُسْنَ الخُلُقِ، ونَيْلَ المَعِيشَةِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بِذَلِكَ، فَخَالَفُوا الرُّسُلَ واتْبَاعَهُم، وخَرَجُوا عَنْ سَبِيلِهِم ومِنْهاجِهِم؛ لأنَّهم يَرَوْنَ العَقْلَ إرْضَاءَ النَّاسِ عَلَى طَبَقاتِهم، ويُسَالِمُونَهم، ويَسْتَجْلِبُون مَوَدَّتَهم ومَحَبَّتَهم، وهَذَا مَعَ أنَّه لا سَبِيْلَ إلَيْه!، فَهُوَ إيْثَارٌ لِلْحُظُوظِ النَّفْسانِيَّةِ، والدَّعَةِ، ومُسَالَمَةِ النَّاسِ، وتَرْكِ المُعَادَاةِ فِي اللهِ، وتَحَمُّلِ الأذَى فِي ذَاتِهِ .
وهَذَا فِي الحَقِيْقَةِ هُوَ الهُلْكَةُ فِي الآجِلَةِ، فَمَا ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ لَمْ يُوَالِ فِي اللهِ، ويُعَادِ فِيْه، فالعَقْلُ كُلُّ العَقْلِ مَا أوْصَلَ إلى رِضَا اللهِ ورَسُولِهِ، وهَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُرَاغَمَةِ أعْداءِ اللهِ، وإيْثَارِ مَرْضَاتِه، والغَضَبِ إذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُه؛ والغَضَبُ يَنْشَأُ مِنْ حَياةِ القَلْبِ، وغَيْرَتِه وتَعْظِيْمِه، وإذَا عُدِمَ الحَياءُ، والغَيْرَةُ، والتَّعْظِيْمُ، وعُدِمَ الغَضَبُ والاشْمِئْزَازُ، وسَوَّى بَيْنَ الخَبِيْثِ والطَّيِّبِ فِي مُعَامَلَتِه، ومُوَالاتِه، ومُعَادَاتِه، فأيُّ خَيْرٍ يَبْقَى فِي قَلْبِ هَذا ؟!"(1).
__________
(1) ـ "الدُّرَرُ السَّنِيَّة" (8/70 ) .(1/27)
فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ رَأى المُنْكَرَ، أن يُنْكِرَه بِحَسَبِه، فالَّذِي يَسْكُتُ عَنْ إنْكَارِ المُنْكَرِ خَوْفًا، أو هَيْبَةً مِنْ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ، يَكُوْنُ مُدَاهِنًا فِي دِيْنِ اللهِ، واللهُ عَزَّ وجَلَّ قَدْ حَرَّمَ المُدَاهَنَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : "ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون"[القلم9]. فالمُنْكَرُ إذَا خَفِيَ لَمْ يَضُرَّ إلاَّ صَاحِبَه، وإذَا فَشَا، ولَمْ يُنْكَرْ ضَرَّ العَامَّةَ كُلَّهُم(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ ما ذَكَرْنَاهُ هُنَا؛ كَانَ حَقًّا لازِمًا عَلَى أهْلِ العِلْمِ أنْ يَجْتَهِدُوا حَثِيثًا فِي بَيَانِ حُكْمِ (كُرَةِ القَدَمِ ) لا سِيَّمَا أنَّ خَرْقَها قَدِ اتَّسَعَ، وشَرَّها قَدِ اسْتَوْضَعَ؛ حَيْثُ رَكَضَ أكْثَرُ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ وَرَاءها وُحْدانًا وزَرَافاتٍ لا يَلْوُنَ عَلَى أحَدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ : فَعَلَيْها يُمْسُونَ ويُصْبِحُونَ، ويُحِبُّونَ، ويُبْغِضُونَ …!، ومِنْ هُنَا انْعَقَدَتْ آصِرَةُ التَّعَصُّبِ الكُرَوِيِّ، وبَلَغَتْ تُزَاحِمُ شَيْئًا فَشَيْئًا؛ حَتَّى غَزَتْ بَلاطَ الوُلاةِ، والحُكَّامِ، ومَدَارِسِ التَّعْليمِ، وانْصَرَفَ النَّاسُ إلَيْها كالعُنُقِ الوَاحِدِ … فَيَا للإسْلامِ !
فَمَنْ لهؤلاءِ الهائِمِيْنَ فِي بَيْدَاءِ التَّيْهِ والغَفْلةِ ؟! ألَيْسَ كَانَ حَتْمًا لازِبًا عَلَى أهْلِ العِلْمِ أنْ يَصِيحُوا في وُجُوهِ أرْبابِ، ومُروِّجِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِكُلِّ ما يَمْلِكُونَ مِنْ سَبِيْلٍ؟؛ ليُوقِفُوا هَذِه البَلايَا والآذَايَا الَّتِي مَرَجَتْ بأُمُوْرِ، وحَيَاةِ أبْناءِ المُسْلِمِيْنَ ؟ ألَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ نُصْحِ الأمَّةِ، وإبْرَاءِ الذِّمَّةِ ؟؛ بَلَى والَّذِي فَلَقَ الحبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ !
__________
(1) ـ "الدُّرَرُ السَّنِيَّة" ( 11/4 ) .(1/28)
فَسُكُوتُ أهْلِ العِلْمِ عَنْ مِثْلِ هذه اللُّعْبَةِ الدَّهْياءِ، والكُرَةِ الشَّوْهاءِ أمْرٌ لا تَبْرُكُ عليه الإبِلُ؛ بَلْ هَذَا بَكْلٌ مِنْ البَكْلِ !
* * *
فإذَا عُلِمَ هَذَا؛ كَانَ الكَلامُ أيْضًا عَنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بالبَاطِلِ، أو التَّرَخُّصِ فِي الفَتَاوَى مُسايَرَةً للضُّغُوطِ السِّيَاسِيَّةِ، أو الانْهِزَامَاتِ النَّفْسيَّةِ الَّتِي تُمْلِيْها نَفَثَاتُ المُرْجِفِيْنَ المُخَذِّلِيْنَ مَمَّنْ قَتَلَتْهُم الشُّهْرَةُ الخَفِيَّةُ، أو أسَرَتْهُم المَدَنِيَّةُ الغَرْبيَّةُ … فعِنْدَ ذَلِكَ طَارَتْ فَتَاوَاهُم تَحْرُثُ الأرْضَ بَلاقِعَ، وتُحَارِبُ المُصْلِحِيْنَ الذَّادِّيْنَ عَنْ حِيَاضِ الإسْلامِ فَرَاقِعَ !
فَمَا أحْسَنَ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ بَكْرُ أبْو زَيْدٍ ـ حَفِظَهُ اللهُ ـ : " ولأمْرِ خَيْرٍ يُرِيدُه اللهُ فِي هَذِه الطَّائِفَةِ الذَّادَّةِ عَنْ دِيْنِ اللهِ، وشَرْعِه يَنَالُهم أنْوَاعٌ مِنَ الآذَايا والبَلايَا – زِيَادَةً فِي مُضاعفَةِ الأجْرِ، وخُلُوْدِ الذِّكْرِ .
ومِنْ أَسْوَأها، نَفَثَاتُ المُخَذِّلِيْنَ المُقَصِّرِيْنَ مِنْ أهْلِ السُّنةِ، فَتَرَى المُثْخِنَ بِجِرَاحِ التَّقْصِيْرِ، الكَاتِمَ للحَقِّ، البَخِيْلَ بِبَذلِ العِلْمِ، إذَا قَامَ إخْوَانُه بِنُصْرَةِ السُّنةِ يُضِيْفُ إلى تَقْصِيْرِه مَرَضَ التَّخْذِيلِ، ومِنْ وَرَاءِ هَذَا لِيُوجِدَ لِنَفْسِه عِنْدَ المُنَاشدَةِ، والمُطَالَبَةِ : العُذْرَ فِي التَّولِّي يَوْمَ الزَّحْفِ عَلَى مُعْتَقَدِه !
وهَكَذَا تُلاكُ هَذِه الظَّاهِرَةَ المُؤْذِيَةَ بِصَفَةٍ تُشْبهَ الحَقَّ، وهِيَ بَاطِلٌ مَحْضٌ !(1/29)
وهَذِه الظَّاهِرَةُ إنَّما تُنْتَشَرُ، لِقُصُورِ الفَهْمِ، وضَعْفِ القُدْرَةِ، وتَقَلُّصِ عِلْمِ الوَحْي، وأنْوَارِ النُّبُوَّةِ، والرُّكُوْنِ إلى الدُّنيا، والإغْمَاضِ عَلَى أثَرةٍ، وإقْذَاءٍ فَكَانَ الوَقْتُ وَقْتَ فَتْرَةٍ فِي ذَلِكَ الأمْرِ، إذْ العُلَمَاءُ يَقِلُّونَ تَارَةً، ويَكْثَرُونَ أُخْرَى .
فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ : إذَا أظْهَرَ المُبْطِلُوْنَ أهْوَاءهُم، والمُرْصِدُونْ فِي الأمَّةِ : وَاحِدٌ يُخَذِّلُ، ووَاحِدٌ سَاكِتٌ؛ فَمَتَى يَتَبيَّنُ الحَقُّ ؟
ألاَ إنَّ النَّتِيْجَةَ تُسَاوِي : ظُهُورُ الأقْوَالِ البَاطِلَةِ، والأهْوَاءِ الغَالِبَةِ عَلَى الدِّيْنِ الحَقِّ بالتَّحْرِيْفِ والتَّبْدِيْلِ، وتَغْيِيْرُ رُسُومِه فِي فِطَرِ المُسْلِمِيْنَ . فَكَيْفَ يَكُوْنُ السُّكُوْتُ عَنِ البَاطِلِ إذاً حَقًّا ؟، واللهُ يَقُوْلُ : " بَلْ نَقْذِفُ بالحقِ عَلَى الباطلِ فَيَدْمَغُه فإذا هو زَاهقٌ ولكم الويلُ ممَّا تَصِفُون "[الأنبياء 18].
ألاَ إنَّ السُّكُوْتَ عَنْ كُلِّ مُبطِلٍ وباطِلِه أبَدًا : هُوَ هُنَا أبْطَلُ البَاطِلِ، وخَوْضٌ فِي بَاطلِ الإثْمِ وظَاهِرِه، فَيَا للهِ كَيْفَ يَؤُوْلُ " التَّخْذِيْلُ " إلى مَكِيْدَةٍ للإسْلامِ يَصِيْرُ بِهَا نِهَاباً للأهْوَاءِ .
ألا إنَّه لَوْلا تَكَفَّلُ اللهِ بِحِفْظِ دِيْنِه، وبَعَثَ حُرَّاسَه وحُمَاتَه، لَشَقَّتْ هَذِه الأهْوَاءُ فِي قُلُوبِ المُسْلِمِيْنَ أخَادِيْدَ لا بَقَاءَ مَعَها للإسْلامِ صَافِيًا فِي نُفُوسِهم، ولا حَوَاضِنَ لَهُ . ولأصَابَتْ هَذِه الهَجَمَاتُ الشَّرِسَةُ مِنَ الدِّيْنِ مَقْتَلاً لا بَوَاكيَ لَهُ "(1).
* * *
الفَصْلُ الثَّالثُ
أهميَّةُ فِقْهِ الوَاقِعِ فِي حُكْمِ النَّوازِلِ
__________
(1) ـ انظر " الردُّ عَلَى المُخَالِفِ " للشيخ بكر أبو زيد (14-16) .(1/30)
لا شَكَّ أنَّ فِقْهَ الوَاقِعِ أصْلٌ أصِيْلٌ، وأسَاسٌ مَتِيْنٌ فِي التَّشْرِيْعِ الإسْلامِي، والفِقْهِ فِي دِيْنِ اللهِ سُبْحَانَه؛ بَلْ هُوَ مَيْدَانُ الرَّاسِخِيْنَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ فِي فَهْمِ الأحْكَامِ، ومَعْرِفَةِ الحَلالِ مِنَ الحَرَامِ، وهُوَ كَذَلِكَ !
وعَلَيْه؛ فإنَّ مَعْرِفَةَ فِقْهِ الوَاقِعِ عِنْدَ النَّوَازِلِ هُوَ العَدْلُ الَّذِي أرَادَهُ اللهُ تَعَالَى، والحَقُّ الَّذِي سَنَّهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَمَنْ جَهِلَه، أو تَجَاهَلَه فَقَدْ حَكَمَ عَلَى الشَّرِيْعةِ بالتَّنَاقُضِ، والمُنَاقَضَةِ وحَاشَاهَا !، لِذَا وَجَبَ عَلَى أهْلِ العِلْمِ أنْ يُدْرِكُوا حَقِيْقَةَ فِقْهِ الوَاقِعِ عِنْدَ تَوْظِيْفِ الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي النَّوَازِلِ المُسْتَحْدَثَةِ؛ وإلاَّ وَقَعْنا فِي حَيْصَ بَيْصَ، وأوْقَعْنَا المُسْلِمِيْنَ فِي وَادِي تُضُلِّلَ .
وعَلَى اللهِ المُشْتَكَى!؛ إذْ أبِيْنا الاعْتِبارَ إلاَّ بِبَعْضِ أهْلِ زَمَانِنَا !؛ فَهُوَ واللهِ : المَوْتُ الأسْوَدُ، والهِيَاطُ والمِيَاطُ !
* * *(1/31)
فانْظُرْ يَا رَعَاكَ اللهُ؛ هُنَا وهُنَاكَ لِتَرَى بأُمِّ عَيْنِكَ بَعْضَ الفَتَاوَى الارْتِجَاليَّةِ الَّتِي فُضَّتْ بَكَارتُها اغْتِصَابًا، وكُتِبَتْ شَهَادَتُها غِلابًا، " سَتُكْتَبُ شَهَادتُهم ويُسْألُون"[الزخرف19]، فَكَمْ هُنَالِكَ مِنْ فَتْوَى بَارِدَةٍ : تُغْتَصَبُ بِها نَوَازِلَ هَيْجَاءَ، وأُخْرَى : عَصْماءَ تُوَظَّفُ لِهُلْكَةٍ دَهْمَاءَ !، وعِنْدَ التَّمْحِيْصِ والتَّخْلِيْصِ : نَجِدُ الكُلَّ يَحْطُبُ فِي حَبْلِهِ ( منفَعَتِه ! )(1)، فالأُوْلَى مِنْهُما : قَدْ ألْبَسُوْهَا لِبَاسَ السِّياسَةِ،، والثَّانِيَةُ : قَدْ حنَّطُوْهَا بِكَلِمَةِ حَقٍّ أُرِيدَ بِها بَاطِلٌ !! فَهَذَا واللهِ! : هُوَ الفِقْهُ الوَاقِعُ، لا فِقْهُ الوَاقِعِ !
* * *
ومَهْما يَكُنْ مِنْ أمْرٍ؛ فَقَدْ كَفَانا تَرْسِيمَ فِقْهِ الوَاقِعِ تَرْسِيْمًا عِلْمِيًّا سَلَفيًّا مَا ذكَرَه الإمَامُ الهُمَامُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ مَمَّا يَجْدُرُ بِطالِبِ العِلْمِ أنْ يَعَضَّ عَلَيْه بالنَّوَاجِذِ لِنُدْرَةِ وُجُودِه، وعِزَّةِ تَأْصِيلِه، وذَلِكَ عِنْدِ قَوْلِه : " ولا يَتَمَكَّنُ المُفْتِي، ولا الحَاكِمُ مِنَ الفَتْوَى، والحُكْمِ بالحقِّ إلاَّ بِنَوْعَيْنِ مِنَ الفَهْمِ:
أحَدُهُمَا : فَهْمُ الوَاقِعِ والفِقْهُ فِيْه، واسْتِنْباطُ عِلْمِ حَقِيْقَةِ مَا وَقَعَ بالقَرَائِنِ، والأمَارَاتِ، والعَلامَاتِ؛ حَتَّى يُحِيْطَ بِهِ عِلْمًا .
__________
(1) ـ هُنَاكَ مَجْمُوْعَةٌ مِنَ الكُتُبِ المُعَاصِرَةِ، والفَتَاوَى النَّازِلَةِ فِي سَاحَةِ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ شَاهِدَةٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ مِنْ تَسَيُّبٍ فِي الأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ !(1/32)
والنَّوْعُ الثَّاني : فَهْمُ الوَاجِبِ فِي الوَاقِعِ، وهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ، أو عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ فِي هَذَا الوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أحَدُهُما عَلَى الآخَرِ .
فَمَنْ بَذَلَ جُهْدَه، واسْتَفْرَغَ وُسْعَه فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أجْرَيْنِ، أو أجْرًا !
فالعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بمَعْرِفَةِ الوَاقِعِ، والتَّفَقُّهِ فِيْهِ إلى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ ورَسُولِه"(1).
* * *
* أمَّا تَعْرِيفُ فِقْهِ الوَاقِعِ(2): فَهُو عِلْمٌ يَبْحَثُ فِي فِقْهِ الأحْوالِ المُعاصِرَةِ مِنَ العَوَامِلِ المُؤَثِّرَةِ فِي المُجْتَمَعاتِ، والقُوَى المُهَيْمِنَةِ عَلَى الدُّوَلِ، والأفْكارِ المُوَجَّهَةِ لِزَعْزَعَةِ العَقِيدَةِ، والسُّبُلِ المَشْرُوعَةِ لِحِمَايَةِ الأمَّةِ ورُقُيِّها فِي الحَاضِرِ والمُسْتَقْبلِ .
* أسَاسُ هَذَا العِلْمِ :
يَتَصَوَّرُ بَعْضُ طُلابِ العِلْمِ أنَّ فِقْهَ الوَاقِعِ عِلْمٌ جَدِيْدٌ، وثَقَافَةٌ حَدِيثةٌ، وهَذَا قُصُورٌ فِي التَّصَوُّرِ، ونَقْصٌ في العِلْمِ، لأنَّ أسَاسَهُ في القُرْآنِ، والسُّنَّةِ، وكَلامِ سَلَفِ الأمَّةِ، ففِي سُوْرَةِ الأنْعَامِ يَقُوْلُ سُبْحَانَه وتَعَالَى : "وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ ولتستبين سبيل المجرمين"[الأنعام 55]، ومِنْ فِقْهِ الوَاقِعِ اسْتَبَانَتْ سَبِيلُ المُجْرِمين، ومَعْرِفَةُ أهْدَافِهِم ومُخَطَّطاتِهِم؛ لِهَذا جَاءتْ كَثِيْرٌ مِنَ الآياتِ مُفَصِّلَةً ومُبَيِّنَةً سُبُلَ أعْدَاءِ اللهِ، وفَاضِحَةً لِمآرِبِهم وغَاياتِهم .
__________
(1) ـ "إعلامُ المُوَقِّعِيْنَ " لابن القيم ( 1/87 ) .
(2) ـ لَقَدِ اسْتَفَدتُ مِنْ غُرَرِ مَبَاحِثِ مَا سَطَّرَهُ الشَّيْخُ نَاصِرُ العُمَرُ، في كِتَابِهِ "فِقْهِ الوَاقِعِ" .(1/33)
ـ أمَّا السنَّةُ فَقَدْ حَفِلَتْ بكَثَيْرٍ مِنَ الوَقَائِعِ، والشَّواهِدِ الَّتي تَدُلُّ عَلَى عِنَايةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ بِهَذا الجَانِبِ .
فَهَا نَحْنُ نَرَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ يُوَجِّهُ المُسْتَضْعَفِين مِنْ صَحَابَتِه بالهِجْرَةِ إلى الحَبَشَةِ، وهَذَا بُرْهانٌ سَاطِعٌ على مَعْرِفَتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم بِمَا يَدُورُ حَوْلَه، وأحْوَالِ الأمَمِ المُعَاصِرَةِ له .
فلِماذَا لَمْ يُرْسِلِ الصَّحابةَ إلى فَارِسَ، أو الرُّومَ، أو غيرِهم ؟!، ولِمَاذَا اخْتَارَ الحَبَشَةَ دُوْنَ سِوَاها ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم بِقَوْلِه : " إنَّ فِيْها مَلِكًا لا يُظْلَمُ عِنْدَه أحَدٌ"(1)!
وهَا نَحْنُ نَرَى المَرْحَلِيَّةَ فِي الدَّعْوةِ مُلائِمَةً للوَاقِعِ الَّذِي تَعِيشُه، ونَجِدُه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ يَخْتَارُ المَدِيْنَةَ مَكانًا لِهِجْرَتِه، ويَتَعامَلُ مَعَ جَمِيعِ الأطْرَافِ المَوْجُودَةِ فِيْها، وحَوْلَها بأُسْلُوبٍ يُنَاسِبُ أحْوَالَها !
وعِنْدَما أرْسَلَ صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ مُعَاذًا إلى اليَمَنِ قَالَ لَهُ : " إنَّكَ تَأتِي قَوْمًا أهْلَ كِتَابٍ"، وهَذَا مِنْ إدْرَاكِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ وَاقِعَ كُلِّ بَلَدٍ، وما يَحْتَاجُ إلَيْه، ولِذَلِكَ قَالَ لَهُ : " فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهم إلَيْه شَهَادَةُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ …"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
وكَذَلِكَ نَلْمَسُ عُمْقَ هَذَا العِلْمَ فِي غَزَواتِه، ورَسَائِلِه صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ إلى الأمَمِ، والمُلُوكِ، والقَبائِلِ(3).
__________
(1) ـ انظر "سِيْرَةَ ابنَ هِشَامٍ" (1/397)، وإسنادُه حَسَنٌ .
(2) ـ أخرجه البخاري (1458)، ومسلم (19) .
(3) ـ انظر "فِقْهَ الوَاقِعِ" للشيخ ناصر العمر (10-15) .(1/34)
ومِنَ أقْوَى الأدِلَّةِ عَلَى عِنَايِةِ الكِتابِ، والسُّنةِ بِفِقْهِ الوَاقِعِ : قِصَّةُ فَارِسَ والرُّومَ، وفِيْها يَبْرُزُ اهْتِمامُ الصَّحابَةِ أيْضًا بِهَذَا العِلْمِ، وإدْرَاكِهِم لأهَمِّيتِه، والقِصَّةُ كَمَا وَرَدَتْ فِي سُورَةِ الرُّومِ(1) : أنَّه قَامَتْ حَرَبٌ بَيْنَ فَارِسَ والرُّومَ فانْتَصَرَ الفُرْسُ عَلَى الرُّومِ، وهُنا حَزِنَ المُسْلِمُون لِهَذَا الأمْرِ، فَقَامَ أبو بَكْرٍ رَضِي اللهُ عَنْه، ورَاهَنَ أحَدَ المُشْرِكين عَلَى انْتِصَارِ الرُّوْمِ عَلَى الفُرْسِ، وحَدَّدَ لِذَلِكَ أجَلاً قَصِيْرًا، فأخْبَرَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ بِذَلِكَ فأقَرَّهُ، وأمَرَه بِزِيادَةِ مُدَّةِ الأجَلِ إلى عَشْرِ سِنِيْنَ، فَفَعَلَ أبو بَكْرٍ، وجَاءتْ الآياتُ فِي سُورَةِ الرُّومِ : " ألم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين * لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم"[الرُّوم 1-5].
ويَبْرُزُ فِقْهُ الوَاقِعِ فِي هَذِه القِصَّةِ فِيْما يَلِي :
1ـ أنَّ القَضِيَّةَ بَيْنَ فَرِيْقَيْنِ كَافِرَيْنِ، ومَعَ ذَلِكَ خَلَّدَها القُرْآنُ الكَرِيْمُ لأثَرِها المُبَاشِرِ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِيْنَ .
2ـ اهْتِمامُ المُسْلِمِيْنَ بِهَذِه القَضِيَّةِ، وحُزْنُهم عِنْدَما انْتَصَرَتْ فَارِسُ، وفَرَحُهم عِنْدَما انْتَصَرَ الرُّومُ.
3ـ مُعَايَشَةُ أبي بَكْرٍ لِهَذِه الأحْدَاثِ، والمُرَاهَنَةُ عَلَى انْتِصَارِ الرُّومِ .
4ـ إقْرارُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم لأبِي بِكْرٍ؛ بَلْ طَلَبَه أنْ يَمُدَّ فِي الأجَلِ؛ لأنَّ ( البِضْعَ ) إلى عَشْرَ سَنواتٍ .
__________
(1) ـ انظر "تفسيرَ ابنِ كَثِير" سورة الروم .(1/35)
والقَضِيَّةُ لَيْسَتْ قَضِيَّةً سِياسِيَّةً بَحْتَةً كَمَا يَتَصَوَّرُ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ؛ بَلْ هِيَ قَضِيَّةُ مَبْدأٍ، فانْتِصَارُ المُلْحِدِيْنَ الوَثَنِيِّيْنَ عَلَى أهْلِ الكِتَابِ يُؤَثِّرُ عَلَى المُسْلِميْنَ، وأنَّ انْتِصَارَ أهْلِ الكِتَابِ عَلَى أهْلِ الشِّرْكِ : مُؤْذِنٌ بانْتِصَارِ المُسْلميْنَ عَلَى أهْلِ الكِتَابِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لأنَّهم هُمُ الَّذِيْنَ عَلَى الحَقِّ .
وهَاهُوَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ : " لَسْتُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخْدَعُنِي"، أي لَسْتُ بالْمَاكِرِ المُخَادِعِ، ولَكِنَّه لا يُمْكِنُ أنْ يَخْدَعَهُ المَاكِرُ المُرَاوِغُ !، فالمُسْلِمُ كَيِّسٌ فَطِنٌ، وَاعٍ مُدْرِكٌ لِمَا حَوْلَه .
والعُلَماءُ مِنْ سَلَفِ هَذِه الأمَّةِ كَانُوا خَيْرَ مِثَالٍ لِحُسْنِ تَعَامُلِهم مَعَ وَاقِعِهم، فالإمَامُ أحْمَدُ بِنُ حَنْبلٍ فِي فِتْنَةِ القَوْلِ بِخَلْقِ القُرآنِ، وشَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْميَّةَ فِي مَوْقِفِه مِنَ التَّتَارِ، وابنُ القَيَّمِ فِيما دَوَّنَه عَنْ فِقْهِ الوَاقِعِ، وحاجَةِ المُفْتِي إلَيْه، والعِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ فِي مَوَاقِفِه الخالِدَةِ مِنَ النَّصَارَى، ومَنْ حَالَفَهُم .
كَمَا أنَّ الشَّيخَ عَبْدَ الرَّحمنِ ابنَ سَعْدِي ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِه أنَّ فِقْهَ المُسْلِمِ لِوَاقِعِه مِنْ لَوَازِمِ مَعْرِفَةِ " لا إلَهَ إلاَّ اللهُ "، عَلَى مَعْنَاهَا الصَّحِيحِ، ولِمَ لا ؟ وبِفِقْهِ الوَاقِعِ يِكْتَمِلُ تَحْقِيقُ مَبْدأُ الوَلاءِ والبَرَاءِ، وهَذَا المَبْدَأُ أصْلٌ مِنْ أُصُولِ عَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ الَّتي جَاءَتْ بِها " لا إلِهَ إلاَّ اللهُ"(1)!
* * *
__________
(1) ـ انظر "فِقْهَ الوَاقِعِ" لناصِرِ العُمَرِ ( 19 ) نقلاً عنه .(1/36)
ومِنْ خِلالِ ما سَبَقَ تَبَيَّنَ لَنَا أسَاسُ هَذَا العِلْمِ، وأهَمِّيَتُه مِنْ خِلالِ الكِتابِ، والسُّنَةِ، وفِقْهِ سَلَفِ الأمَّةِ، فَحَرِيٌّ بالعُلَماءِ خُصُوصًا، وطُلابِ العِلْمِ عُمُومًا أنْ يُدْرِكُوا هَذِهِ الحَقِيقَةَ، ويَتَعَامَلُوا مَعَها تَحْقِيقًا لِمَفْهُومِ " لا إلِهَ إلاَّ اللهُ "، والْتِزَامًا بِمَنْهَجِ الكتابِ، والسُّنةِ، واسْتِبَانَةً لِسَبِيْلِ المُجْرِمِيْنَ .
لِذَا فإنَّ أقْوَى مُقَوِّمٍ مِنْ مُقَوِّمَاتِ فِقْهِ الوَاقِعِ هُوَ : التَّأْصِيْلُ الشَّرْعيُّ، وأحَقُّ النَّاسِ فِي هَذَا الجانِبِ هُمُ العُلمَاءُ، وطُلابُ العِلْمِ .
" فإنَّا، ونَحْنُ فِي عَصْرٍ اشْتَبَكَتْ فِيْه الحَضَارَاتُ، وتَلاحَمَتْ وتَعَدَّدَتْ فِيْهِ المَهَارَاتُ : الطَّبِّيَّةُ، والاقْتِصَادِيَّةُ وغَيْرُها، وتَبَايَنَتْ، قَدْ جَرَّتْ مَعَها : قَضَايا، ومُسْتَجِدَّاتٍ، ونَوَازِلَ، ووَاقِعَاتٍ، تَنْتَظِرُ مِنَ الفَقِيْهِ أنْ يَقْتَبِسَ حُكْمًا مُوَافِقًا لَهَا مِنْ أحْكَامِ التَّكْلِيْفِ . وكَثِيْرٌ مِنْها أعْيَ الفُقَهَاءَ، واتْعَبَ العُلَمَاءَ، لِهَذا كَانَ لابُدَّ مِنَ الإسْهَامِ فِي تَرْقِيَةِ المَدْرَسَةِ الفِقْهِيَّةِ، وبَعْثِ نَشَاطِ المُتَفَقِّهِيْنَ، والعَمَلِ عَلَى بَذْلِ الأسْبَابِ لِفَتْحِ ما انْغَلَقَ أمَامَهُم مِنْ فِقْهِ أسْلافِهِم؛ لِيَعْرِفُوه وِرْدًا وإصْدَارًا ، واسْتِنْبَاطًا واسْتِدْلالاً، والتَّوَقِّي مِنَ الفُهُومِ المَغْلُوْطَةِ، والبُعْدِ عَنِ الأسْبَابِ المُوْصِلَةِ إلَيْه"(1).
* * *
__________
(1) ـ "المَدْخَلُ المُفَصَّلُ" للشيخ بكر أبو زيد (1/22-23) .(1/37)
لِهَذا كلِّهُ أقُوْلُ : إنَّ مِنْ أوَّلِ مَا يِجِبُ أنْ يَعْتَنِيَ بِهِ طَالِبُ العِلْمِ فِي هَذَا الفَنِّ : أنْ يَبْنِيَ عِلْمَه عَلَى أُسُسٍ شَرْعيَّةٍ مُسْتَمِدَّةٍ مِنَ الكِتابِ والسُّنةِ، فبِدُونِه لَنْ نَفْقَهَ مَبْدأَ الوَلاءِ والبَرَاءِ، وعَلَيْه تُبْنَى العُلاقَاتُ بَيْنَ الأمَمِ والشُّعوبِ دُوْنَ إفْرَاطٍ، أو تَفْرِيْطٍ .
وقَدْ أشَارَ ابْنُ القيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ إلى أهميَّةِ فِقْهِ الوَاقِعِ لِلْمُفْتِي كَمَا مَرَّ آنِفًا، وهُوَ مَا قَرَّرَه العُلَمَاءُ بقَوْلِهم : الحُكْمُ عَلَى الشَيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِه .
والمُفْتِي يَجِبُ أنْ يُعْنَى بِهَذِه المَسْألةِ عِنَايةً خَاصَّةً، وبالذَّاتِ فِي الفَتَاوَى المُتَعَلِّقَةِ بالمَسَائِلِ المُسْتَجِدَّةِ المُعَاصِرَةِ، ولِذَا نَجِدُ عَدَمَ ثِقَةِ كَثِيْرٍ مِنَ النَّاسِ فِي بَعْضِ الفَتَاوَى الصَّادِرَةِ مِنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ؛ لأنَّها لَمْ تُبْنَ عَلَى فِقْهٍ دَقِيقٍ للوَاقِعِ المُعَاصِرِ .
وعَلَيْه؛ فإنَّ الفَتْوَى تَحْتاجُ – فِي كَثِيْرٍ مِنَ المَسَائِلِ – إلى فِقْهِ الأصُولِ، وفِقْهِ الفُرُوعِ، وفِقْهِ الوَاقِعِ، وإذا اخْتَلَّ رُكْنٌ مِنْ هَذِه الأرْكَانِ تَدَاعَتِ الفَتْوَى، وانْهَدَّ جَانِبُها .
ولا شَكَّ أنَّ الفَتْوَى إذا كانَتْ مُحْكَمَةً ومُتْقَنَةً لها أثَرٌ إيجابيٌّ في حَيَاةِ الأمَّةِ حَاضِرًا ومُسْتَقْبلاً، ولَنْ يَتِمَّ ذلك إلاَّ باسْتِكْمالِ شُرُوطِ الفَتْوَى الَّتي حَدَّدَها العُلَمَاءُ، ومِنْها اكْتِمَالُ التَّصَوُّرِ عَنْ المَسْألَةِ : وهُوَ فِقْهُ الوَاقِعِ في المَسَائِلِ المُعَاصِرَةِ .
* * *(1/38)
وعَلَى هَذَا نَجِدُ مُحَدِّثَ العَصْرِ الألْبَانِيَّ ـ رَحِمَه اللهُ ـ يُقَرِّرُ مَا نَحْنُ فِيْه بِقْولِه : " … لأنَّ كَثِيْرًا مِنَ العُلَماءِ قَدْ نَصُّوا عَلَى أنَّه يَنْبَغِي عَلَى مَنْ يَتَوَلَّوْنَ تَوْجِيهَ الأمَّةِ، ووَضْعَ الأجْوِبَةِ فِي حَلِّ مَشَاكِلِهم : أنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ وعارِفِينَ بِوَاقِعِهم؛ لِذَلِكَ كَانَ مِنْ مَشْهُورِ كَلِماتِهم : " الحُكْمُ عَلَى الشَّيءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِه "، ولا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلاَّ بِمَعْرِفَةِ ( الوَاقِعِ ) المُحِيطِ بالمَسْألَةِ المَرَادِ بَحْثُها؛ وهَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الفُتْيا بِخَاصَّةٍ، وأُصُوْلِ العِلْمِ بِعَامَّةٍ .
فَفِقْهُ الوَاقِعِ – إذَنْ – هُوَ الوُقُوفُ عَلَى ما يَهِمُّ المُسْلميْنَ مَمَّا يَتَعَلَّقُ بِشُؤونِهم، أو كَيْدِ أعْدائِهم؛ لِتَحْذِيرِهِم، والنُّهُوضِ بِهِم وَاقِعيًّا، لا كَلامًا نَظَرِيًّا، أو انْشِغالاً بأخْبَارِ الكُفَّارِ وأنْبَائِهم، أو إغْرَاقًا بِتَحْلِيْلاتِهِم وأفْكارِهِم !"(1).
__________
(1) ـ "فِقْهُ الوَاقِعِ" للألباني (34-35) .(1/39)
وقَالَ أيْضًا : " وكَذَلِكَ لا يَجُوزُ ـ والحَالةُ هَذِه ـ أنْ يُنْكِرَ أحَدٌ مِنْ طُلابِ العِلْمِ ضَرُورَةَ هَذَا الفِقْهِ بالوَاقِعِ؛ لأنَّه لا يُمْكِنُ الوُصُولُ إلى تَحْقِيقِ الضَّالَةِ المَنْشُودَةِ بإجْمَاعِ المُسْلمين – ألاَ وَهِيَ التَّخَلُّصُ مِنَ الاسْتِعْمَارِ الكَافِرِ للبلادِ الإسْلاميَّةِ، أو عَلَى الأقَلِ بَعْضِها إلاَّ بأنْ نَعْرِفَ ما يَتَآمَرُونَ بِه، أو ما يَجْتَمِعُونَ عَلَيْه؛ لِنَحْذَرَه ونُحَذِّرَ مِنْه؛ حَتَّى لا يَسْتَمِرَّ اسْتِعْمارُهم واسْتِعْبادُهم للعَالَمِ الإسْلامِيِّ، وهَذَا لا يَكُونُ جُزْءٌ كَبِيْرٌ مِنْه إلاَّ بِتَرْبِيَةِ الشَّبابِ المُسْلمِ تَرْبيةً عَقَائِدِيَّةً عِلْمِيَّةً مَنْهَجِيَّةً قائِمَةً عَلَى أسَاسِ التَّصْفِيَةِ للإسْلامِ مِنْ الشَّوائِبِ الَّتي عَلَقَتْ بِه، ومَبْنِيَّةً عَلَى قَاعِدَةِ التَّرْبِيَةِ عَلَى هَذَا الإسْلامِ المُصَفَّى، كَمَا أنْزَلَه اللهُ عَلَى قَلْبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم"(1).
* * *
وتَقْرِيرًا لِمَا طَافَ مَعَنا هُنا؛ نَجِدُ الشَّيْخَ العَلامَةَ بَكْرًا أبو زَيْدٍ يُقَرِّرُ هَذَا وذَاكَ بِقَوْلِه : " وتَأسِيْسًا عَلَى هَذَا أعْطَى الشَّرْعُ المُطَهَّرُ مَنِ انْبَسَطَتْ يَدَاهُ، ودَرَجَتْ خُطَاهُ فِي سَنَنِ التَّحْقِيْقِ : مَنْصِبَ إعْمَالِ الفِكْرِ، وإجَالَةَ النَّظَرِ بالتَّفَهُّمِ، والتَّفَقُّهِ، والتَّدَبُّرِ فِي فَهْمِ النُّصُوْصِ، وتَطْبِيْقِها عَلَى الوَاقِعَاتِ المُسْتَجِدَّةِ، وباسْتِخْرَاجِ الدَّلِيْلِ لِلْوَاقِعَةِ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وإلْحَاقِ مَا لا نَصَّ فِيْه مِنْها عَلَى مَا وَرَدَ النَّصُّ بِمَا اكْتَسَبَ بِعْدُ اسْمَ " الاجْتِهَادِ "، ومُعْتَمَلَهُ اسْمِ : " المُجْتَهِدِ ".
__________
(1) ـ السابق (45-46) .(1/40)
وقَدْ تَسَلَّمَ الصَّحَابَةُ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُم ـ مَنْصِبَ الأُسْتَاذِيَّةِ فِي هَذَا، وتَتَابَعَ عَلَيْه أهْلُوْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّرِيْعَةِ عَلَى تَوَالِي العُصُورِ، بالتَّفَقُّهِ وبَذْلِ الجُهْدِ الفِكْرِي .
وبِهِ : اسْتَمَرَ دُولابُ الحَيَاةِ مُتَرَابِطَ الحَلَقَاتِ بالدِّيْنِ، وحَبْلِ اللهِ المَتِيْنِ، وصَارَ جِسْرًا مُمْتَدًّا فِي الإسْلامِ، مُعْلِنًا الخُلُوْدَ، والنَّفَاذَ، واسْتِلْهَامَ الحَوَادِثَ والوَاقِعَاتِ، والصُّمُودَ أمَامَ ظُرُوْفِ الحَيَاةِ، ومُوَاجَهَاتِ العُصُوْرِ . وإذَا سَبَرْتَ الحَالَ لِمِيْزَانِ عُصُوْرِ القُوَّةِ، والنُّضُوْجِ، والتَّرَقِّي مِنْ عُصُورِ الضَّعْفِ والتَّهرِّي، حَمَلَكَ هَذَا إلى مَعْرِفَةِ مَدَى تَوَفُّرِ العُقُولِ الحَامِلَةِ لِمَلَكَةِ الاجْتِهَادِ الحَقِيْقِي فِي الأمَّةِ، الَّذِي يَسْعَى بِهِ مُكْتَمِلُ أدَوَاتِه إلى مَا يُرِيْدُ اللهَ مِنْ عِبَادِه"(1) .
* * *
وأخِيْرًا : فإذَا عُلِمَ ما هُنَا ممَّا هُوَ مِنْ شَأنِ فِقْهِ الوَاقِعِ؛ كَانَ عَلَى أهْلِ العِلْمِ عِنْدَ الحُكْمِ عَلَى النَّوَازِلِ المُسْتَجَدَّةِ أنْ يُحَقِّقُوا مَنَاطَ النَّظَرِ فِي فِقْهِ الوَاقِعِ؛ لا سِيَّمَا وَاقِعَنَا الَّذِي اكْتَنَفَتْهُ مَسَارِبُ، ومَغَالِبُ تَدْفَعُ ( ضَرْورَةً ) بأصْحَابِ المُوَقِّعِيْنَ عَنْ رَبَّ العَالَمِيْنَ أنْ يَتَرَيَّثُوا فِي نَزْعِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الوَقَائِعِ المُعاصِرَةِ .
فَكَانَ مِنْ مَعِيْنِ الحِكْمَةِ، ورَبَّانِيَّةِ العِلْمِ : أنْ نَحْكُمَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) بوَاقِعِها الآنِيِّ، لا بأصْلِها الفَانِي!، وإلاَّ خَرَجَتْ الفَتْوَى قَاصِرَةً فِي حُكْمِها، حَاسِرَةً عَنْ وَاقِعِها !
__________
(1) ـ "المَدْخَلُ المُفَصَّلُ" لبكر أبو زيد (1/77-78) .(1/41)
فَقِفَا نَبْكِي عَلَى بَعْضِ الفَتَاوَى الارْتِجَالِيَّةِ الَّتِي حُنِّطَتْ، ونُحِتَتْ عَلَى صُوْرٍ مَمْسُوْخَةٍ : مَا بَيْنَ فَتْوَى قَاصِرَةٍ، أو خَاسِرَةٍ، أو نَادِرَةٍ !
فَمِنْ ذَلِكَ؛ : أنَّ بَعْضَهم لا يَنْقِمُ مِنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إلاَّ كَشْفُ العَوْرَاتِ، وآخَرُ لا يُبْغِضُ مِنْها سِوَى التَّعَصُّبِ المَقِيْتِ، وثَالِثٌ لا يَفْقَهُ مِنْها سِوَى تَقْوِيَةِ أبْدَانِ الشَّبَابِ، وحِفْظِ أوْقَاتِهم مِنَ الضَّيَاعِ، وأفْكَارِهِم مِنَ نَامُوْسِ العَصْرِ ( الإرْهَاب ! )، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ رَاقٍ فَيُرْقِي هَذِه الفَتَاوَى ؟!
* * *
الفَصْلُ الرَّابعُ
إعْمالُ قاعِدَةِ : " الوَسائِلُ لَهَا أحْكامُ المَقَاصِدِ "
وقَبْلَ أنْ نَشْرَعَ فِي تَعْرِيفِ هَذِه القَاعِدَةِ، ومَا تَحْوِيْهِ مِنْ ألْفَاظٍ مُفْرَدَةٍ، ومُرَكَّبَةٍ كَمَا هُوَ الشَّأنُ فِي تَصَارِيْفِ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ فِي بَيَانِ المُصْطَلَحَاتِ العِلْمِيَّةِ؛ إلاَّ أنَّنا أرَدْنَا أنْ نُشِيْرَ إلى لَفْتَةٍ دَقِيْقَةٍ خِلْتُها قَدْ تَخْفَى عَلَى بَعْضِ طَلَبَةِ العِلْمِ، وهِيَ مَا أشَارَ إليها الإمَامُ الشَّاطِبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بِقَوْلِهِ : " إنَّ المُتَقَدِّمِينَ مِنَ العُلَمَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَتَعَمَّقُونَ فِي التَّعْرِيفَاتِ، وإنَّما كَانُوا يَقْصِدُونَ تَقْرِيبَ المَعَانِي بالألْفَاظِ المُتَرَادِفَةِ ونَحْوِها مِمَّا هُوَ قَرِيبُ المَأْخَذِ، سَهْلُ المُلْتَمَسِ، دُوْنَ مُرَاعَاةٍ للمُحْتَرَزَاتِ، وشُرُوطِ الحُدُوْدِ"(1).
وعَلَيْه لَنْ نَتَكَلَّفَ التَّدْقِيقَ فِي التَّعْرِيفَاتِ، والتَّعَمُّقَ فَيْها؛ بِقَدْرِ مَا نُرِيْدُ تَقْرِيْبَ المَفَاهِيمِ، لَيْسَ إلاَّ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "المُوَافَقَات" للشاطبي ( 1/56 ) .(1/42)
* فالوَسَائِلُ لُغَةً : جَمْعُ وَسِيْلَةٍ، عَلَى وَزْنِ فَعِيْلَةٍ، وقَدْ تَجِيءُ الفَعِيْلَةُ بِمَعْنَى الآلَةِ – كَمَا هُنَا – فالوَسِيْلَةُ اسْمٌ لِمَا يُتَوَسَّلُ به، كَمَا أنَّ الذَّرِيعَةَ اسْمٌ لِمَا يُتَذَرَّعُ بِه(1) .
* أمَّا الوَسَائِلُ اصْطِلاحًا : فَقَدْ عَرَّفَهَا كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ بِتَعَارِيْفَ مُتَقَارِبَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ .
ما ذَكْرَهُ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " هِيَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِها إلى تَحْصِيلِ المَقُصُودِ"(2).
وقَالَ الإمامُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " مَا كَانَ وَسِيْلَةً، وطَرِيقًا إلى الشَّيءِ"(3).
* الارْتِبَاطُ الشَّرْعِيُّ، والكَوْنِي بَيْنَ المَقَاصِدِ والوَسَائِلِ :
فَمِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالى أنَّ المَقَاصِدَ لا تَحْصُلُ إلاَّ بالوَسَائِلِ، والغَايَاتُ لا تَتَحَقَّقُ إلاَّ بأسْبَابٍ تُوْصِلُ إلَيْها، سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ .
ولذَلِكَ أمَرَ اللهُ تَعَالى عِبَادَه بِمُبَاشَرَةِ الوَسَائِلِ، واتِّخَاذِ الأسْبَابِ، فَقَالَ سُبْحَانَه : " فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه "[الملك15]، وقَالَ تَعَالى : " وأعدِّوا لهم ما استطعتم من قُوَّة "[الأنفال60]، وقَالَ تَعَالى : " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم "[النساء102]، وقَالَ تَعَالى : " فاسعوا إلى ذكر الله "[الجمعة9]، والآيَاتُ فِي هَذَا المَعْنَى كَثِيْرَةٌ .
__________
(1) ـ انظر "شرح الشافية" للاسترآبادي ( 2/149 ) .
(2) ـ انظر "تفسير ابن كثير" ( 2/55 ) .
(3) ـ انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم ( 3/135 )، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 3/139 ) .(1/43)
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " لَمَّا كَانَتِ المَقَاصِدُ لا يُتَوَصَّلُ إليها إلاَّ بأسْبَابٍ، وطُرُقٍ تُفْضِي إلَيْها، كَانَتْ طُرُقُها وأسْبَابُها تَبِعَةً لَهَا، مُعْتَبَرَةً بِها … "(1).
وقَدْ لاحَظَ العَرَبُ هَذَا التَّرَابُطَ بَيْنَهُما فَقَالُوا فِي أمْثَالِهم : " إذَا أرَادَ اللهُ أمْرًا يَسَّرَ أسْبَابَهُ "(2).
وقَدِ اسْتَقَرَّ هَذَا التَّرَابُطُ بَيْنَهُما فِي الفِطَرِ السَّلِيمَةِ، والعُقُولِ المُسْتَقِيمَةِ، وقَامَ عَلَيْه أمْرُ الدُّنْيَا، حَتَّى عُدَّتِ الرَّغْبَةُ فِي حُصُولِ الشَّيءِ دُوْنَ مُبَاشَرَةِ وَسَائِلِهِ ضَرْبًا مِنَ العَبَثِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ المَلامَةَ، قَالَ الشَّاعِرُ(3) :
تَرْجُوْ النَّجَاةَ ولَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إنَّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
والعَبْدُ إذَا أخَذَ بِهَذا الأصْلِ، ولاحَظَ هَذِهِ السُّنَّةَ، لَزِمَه الانْتِباهُ إلى أمْرٍ آخَرَ، وهُوَ أنَّ الإنْسَانَ إنْ كَانَ مَأمُورًا بِمُلاحَظَةِ الأسْبَابِ؛ إلاَّ أنَّه مَنْهِيٌّ عَنِ الرُّكُونِ القَلْبِيِّ إلَيْها، والاعْتِمَادِ الكُلِّيِّ عَلَيْها، بِحَيْثُ يَنْسَى أنَّ اللهَ تَعَالى خَالِقُ هَذِهِ الوَسَائِلَ، وإنَّها لا تُعْطِيْهِ مَقَاصِدَها إلاَّ بإذْنِ اللهِ تَعَالى(4).
* * *
فمُبَاشَرَةُ الوَسَائِلِ ـ مِنْ حَيْثُ الجُمْلَةِ ـ فِطْرَةٌ إنْسَانِيَّةٌ كَمَا هِيَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ، وفَرِيْضَةٌ شَرْعِيَّةٌ .
__________
(1) ـ انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم ( 3/135 ) .
(2) ـ انظر "التمثيل والمحاضرة" لأبي منصور الثعالبي ( 7 ) .
(3) ـ انظر "العقد الفريد" لابن عبد ربه ( 3/79 ) بدون نسبة، ويُقَالُ : إنَّه لأبي العَتَاهِيَة .
(4) ـ انظر "مدارج السالكين" لابن القيم ( 3/521 ) .(1/44)
وأشَدُّ النَّاسِ حَاجَةً إلى الإحَاطَةِ بِفِقْهِ الوَسَائِلِ وأصُولِها : هُمُ العُلَمَاءُ المُجْتَهِدُونَ، فإنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ العِلْمِ الْصَقُ بِهم، وأقْرَبُ إلى وَظِيفَتِهم .
وقَدْ أدْخَلَ الشَّاطبيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ قَاعِدَةَ ( النَّظَرِ فِي مَآلاتِ الأفْعَالِ )، ومَا بُنِىَ عَلَيْها مِنْ (سَدِّ الذَّرَائِعِ وفَتْحِها )، و ( الحِيَلِ )، فِي كِتَابِ الاجْتِهَادِ(1).
والمُجْتَهِدُ لا يَحْكُمُ عَلَى وَسِيلَةٍ إلاَّ بَعْدَ النَّظَرِ فِي نَتَائِجِها وآثَارِها، قَالَ الشَّاطِبيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " النَّظَرُ فِي مَآلاتِ الأفْعَالِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا، وذَلِكَ أنَّ المُجْتَهِدَ لا يَحْكُمُ عَلى فِعْلٍ مِنَ الأفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ المُكَلَّفِينَ بالإقْدَامِ، أو الإحْجَامِ إلاَّ بَعْدَ نَظَرِهِ إلى ما يَؤُولُ إليه ذَلِكَ الفِعْلُ …"، ثُمَّ قَالَ " المُجْتَهِدُ نَائِبٌ عَنِ الشَّرْعِ في الحُكْمِ عَلَى أفْعَالِ المُكَلَّفِينَ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ للمُسَبِّبَاتِ في الأسْبَابِ، وإذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ للمُجْتَهِدِ بُدٌّ مِنِ اعْتِبَارِ المُسَبِّبِ، وهُوَ مَآلُ السَّبَبِ …"(2).
* * *
فالخُلاصَةُ : أنَّ "فِقْهَ الوَسَائِلِ، وأصُولَها الشَّرْعيَّةَ، والمُوَازَنَةَ بَيْنِها وبَيْنَ المَقَاصِدِ" هُوَ مَيْدَانُ المُجْتَهِدِينَ، وأنَّ الوَاجِبَ عَلى كُلِّ مَنْ أرَادَ التَّصَدِّي لِقَضَايا الأمَّةِ، ووَضْعِها في قَوَالِبِها الشَّرْعِيَّةِ الصَّحِيحَةِ، أنْ يُحِيطَ عِلْمًا بِهذِه القَوَاعِدِ والأصُولِ المُتَعَلِّقَةِ بالوَسَائِلِ؛ لأنَّ الجَهْلَ بِها يُؤَدِّي إلى تَطَرُّقِ الخَلَلِ، ووُقُوعِ الاضْطِرابِ فِي الفَتْوَى .
__________
(1) ـ "الموافقات" للشاطبي (4/194) .
(2) ـ "الموافقات" للشاطبي (4/194 – 196) .(1/45)
وهذا المَيْدَانُ يَمْتَازُ بالدِّقَّةِ والعُذُوبَةِ والصُّعُوبَةِ، كَمَا وَصَفَه بِذَلِكَ الإمَامُ الشَّاطِبي ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ ـ عِنْدَ حَدِيثِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي مَالآتِ الأفْعَالِ ـ حَيْثُ قَالَ : " وَهُوَ مَجَالٌ للمُجْتَهِدِ، صَعْبُ المَوْرِدِ، إلاَّ أنَّه عَذْبُ المَذَاقِ، مَحْمُودُ الغِبِّ ( عَاقِبَةُ الشَّيءِ )، جَارٍ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ …"(1) .
وهذه العِبَارَةُ الرَّشِيقَةُ تُشِيرُ إلى العُلاقَةِ القَوِيَّةِ بَيْنَ المَقَاصِدِ والوَسَائِلِ، وإنَّها عُلاقَةُ الشَّجَرَةِ بالثَّمَرَةِ، والمُقَدِّمَةُ بالنَّتِيجَةِ(2) … والله أعلم .
* * *
* تَقْرِيرُ القَاعِدَةِ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ :
يُعْتَبَرُ الإمامُ الشَّافِعِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ مِنْ أوائلِ مَنْ يُقَرِّرُ هَذِهِ القَاعِدَةَ عِنْدَ قَوْلِهِ : " الذَّرَائِعُ إلى الحَلالِ والحَرَامِ تُشْبِهُ مَعَانِيَ الحَلالِ والحَرَامِ"(3).
ثُمَّ عَبَّرَ العُلَمَاءُ بَعْدَهُ عَنْ هَذَا المَعْنَى بِقَوْلِهم : " الوَسَائِلُ لَهَا أحْكَامُ المَقَاصِدُ "(4).
ومَعْنَى القَاعِدَةِ، هُوَ : أنَّ الأفْعَالَ الَّتِي تُؤَدِّي إلى المَقَاصِدِ، يَخْتَلِفُ حُكْمُها باخْتِلافِ حُكْمِ المَقَاصِدِ، فإنْ كَانَ المَقْصُودُ وَاجِبًا فَوَسِيلَتُه وَاجِبَةٌ، وإنْ كَانَ مُحَرَّمًا فَوَسِيلَتُه مُحَرَّمَةٌ، وإنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَوَسِيلَتُهُ مَنْدُوبَةٌ، وإنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَوَسِيلَتُهِ مَكْرُوْهَةٌ، وإنْ كَانَ مُبَاحًا فَوَسِيلَتُهِ مُبَاحَةٌ .
__________
(1) ـ السابق (4/195) .
(2) ـ انظر "قواعد الوسائل" لمصطفى ص (103-105) .
(3) ـ "الأم" للشافعي (4/49) .
(4) ـ "قواعد الأحكام" ( 1/46 )، و"القواعد الصغرى" ( 46 ) للعز ابن عبد السلام، و"القواعد الجامعة" للسعدي (10) .(1/46)
وهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بِقَوْلِه : " لَمَّا كَانَتِ المَقَاصِدُ لا يُتَوَصَّلُ إليها إلاَّ بأسْبَابٍ، وطُرُقٍ تُفْضِي إليها، كان طُرُقُها وأسْبَابُها تَابِعَةً لها، مُعْتَبَرَةً بِها، فوَسَائِلُ المُحَرَّمَاتِ، والمَعَاصِي في كَرَاهَتِها، والمَنْعِ مِنْها بِحَسَبِ إفْضَائِها إلى غَاياتِها وارْتِبَاطَاتِها بِها .
ووَسَائِلُ الطَّاعَاتِ، والقُرُبَاتِ في مَحَبَّتِها، والأذْنِ فيها بِحَسَبِ إفْضَائِها إلى غَاياتِها، فوَسِيلَةُ المَقْصُودِ تَابِعَةً للمَقْصُودِ، وكِلاهما مَقْصُودٌ، لَكِنَّه مَقْصُودٌ قَصْدَ الغَايَاتِ، وهِيَ مَقْصُودَةٌ قَصْدَ الوَسَائِلِ"(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ ما ذَكَرْناه؛ يَتَّضِحُ لَنَا عِنْدَ أوَّلِ وَهْلةٍ أنَّ ( الرِّياضةَ ) وَسِيلَةٌ لا غايَةٌ؛ فهي طَريقٌ إلى مَقْصَدِ التَّرْوِيحِ والتَّرْفِيهِ المُبَاحِ، أمَّا إذا أصْبَحَتْ هذه الوَسِيلَةُ طَرِيقًا إلى مَقَاصِدَ مُحَرَّمةٍ فَهِي حَرامٌ قَطْعًا، وبِمَا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدْ أصْبَحَتْ الآنَ وَسِيلةً إلى العَدَاوةِ، والبَغْضَاءِ، والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مَمَّا سَيَأتِي بَيَانُه فَكَانَ إعْمَالُ تَطْبِيقِ القاعِدَةِ الفقهيَّةِ " للوَسَائِلِ أحْكامُ المَقَاصِدِ" مُوَاتيًا ومُوَافِقًا فِي الوَقْتِ نَفْسِه عَلَى مَسْألتِنا ( كُرَةِ القَدَمِ ) هَذِهِ الأيَّامَ الحَالِكَة .
فعِنْدَ ذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ مِنْ جادَّةِ الفِقْهِ أنْ يَنْظُرَ الفَقِيهُ إلى حُكْمِ الوَسَائِلِ، والوُقُوفِ عِنْدَها … ثُمَّ لا يَلْبَثَ حَتَّى يُنَزِّلَ عَليها أحْكَامَه، وأقْوَالَه دُوْنَ اعْتِبَارٍ، ونَظَرٍ للغَايَاتِ والمَقَاصِدِ!
__________
(1) ـ "إعلام الموقعين" لابن القيم ( 3/135)، و"أصول الفقه" للبرديسي ص (334) .(1/47)
فإنَّ مِثْلَ هَذا القَبِيْلِ يُعْتَبَرُ تَحَكُّمًا، وتَفَيْقُهًا مَرْفُوضًا لا تُقِرُّهُ شَرِيعَةُ، ولا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ؛ لأجْلِ هَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ مَنْ تَصَدَّرَ للفَتْوَى لا سِيَّمَا الحُكْمُ عَلَى النَّوَازِلِ المَصِيريَّةِ أنْ يَنْظُرَ أوَّلاُ إلى المآلاتِ والغَاياتِ الَّتِي تُفْضِي إلَيْها هَذِهِ الوَسَائِلُ .
وبَعْدَ هَذا؛ فَلَيْسَ لأحدٍ مِمَّنْ يَدَّعِي العِلْمَ أنْ يَحْكُمَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) بالنَّظَرِ إلى كَوْنِها وَسِيلَةً مُجَرَّدَةً قَطُّ؛ بَلْ عَلَيْه أنْ يَنْظُرَ أوَّلاً إلى الغَايَةِ الَّتِي مِنْ أجْلِها قَامَتْ وأُنْشِئَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ )، أو أنْ يَنْظُرَ إلى وَاقِعِها، وهو مَا تُفْرِزُهُ هَذِه اللُّعْبَةُ الشَّيْطانِيَّةُ مِنْ ثَمَرَاتٍ فَاسِدَةٍ : كالعَدَاوَةِ والبَغْضَاءِ، والسَّبِّ والشَّتْمِ، وضَيَاعِ الأوْقَاتِ، وهَدْرِ الأمْوَالِ … إلخ .
* * *
وأخِيْرًا؛ كَانَ مِنْ نَافِلَةِ الفِقْهِ أنْ يَسْألَ كُلُّ مَنْ أرَادَ أنْ يَحْكُمَ هَذِهِ الأيَّامَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ عَنْ هَذين السُّؤَالَيْنِ :
السُّؤَالُ الأوَّلُ : هَلْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) وَسِيلَةٌ أمْ غَايَةٌ ؟
فَإذَا كَانَ الجَوَابُ : أنَّها وَسِيلَةٌ، وهُوَ مَا عَلَيْه عُقَلاءُ بَنِي آدَمَ !، كَانَ عَلَيْنا بَعْدَ هَذَا أنْ نَنْظُرَ إلى غَايَاتِها، ومَقَاصِدِها؛ فإنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَهِي : مُبَاحَةٌ، وإنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَهِي : مُحَرَّمَةٌ … إلخ .
أمَّا السُّؤالُ الثَّاني : إذا كَانَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) وَسِيْلَةً، فَمَا غَاياتُها وثِمَارُها حِيْنَئِذٍ؛ لأنَّ الحُكْمَ يَدُوْرُ مَعَ غَايَاتِها، ومَقَاصِدِها : مَنْعًا، وإثْبَاتًا .(1/48)
إنَّ الجَوَابَ الَّذِي لا يَنْتَطِحُ فِيْه عَنْزَان، ولا يَخْتَلِفُ عَلَيْه سَيْفَانِ : أنَّ غَايَاتِها، وثِمَارَها هُوَ العَدَاوَةُ والبَغْضَاءُ، والسَّبُّ والشَّتْمُ، والصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وقَتْلُ الأوْقَاتِ، وإلْهَاءُ الشُّعُوبِ عَنْ قَضَايَاهم؛ بَلْ حتَّى عَنْ مَصِيْرِها … !، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مَمَّا سَيأتِي بَيَانُه إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
البابُ الثَّانِي
الفَصْلُ الأوَّلُ : تَعْرِيْفٌ ببَعْضِ المُصْطَلحَاتِ الرِّياضيَّةِ
الفَصْلُ الثَّاني : الفَرْقُ بَيْنَ الكُرَةِ القَدِيْمَةِ والحَدِيْثَةِ
الفَصْلُ الثالث : مَشْرُوْعِيَّةُ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ
الفَصْلُ الرَّابعُ : أقْسَامُ الألْعَابِ، وحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ
الفَصْلُ الخَامسُ : حُكْمُ الألْعَابِ المُباحَةِ
الفَصْلُ السَّادِسُ : حُكمُ أخْذِ العِوَضِ فِي الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ
الفَصْلُ الأوَّلُ
تَعْريْفٌ ببَعْضِ المُصْطَلحَاتِ الرِّياضيَّةِ
كانَ مِنَ المُسْتَحْسَنِ أنْ أقِفَ بالقَارِئ الكَرِيْمِ عَلَى بَعْضِ المُصْطَلَحاتِ الرِّياضيَّةِ؛ حتَّى يَتَسَنَّى للْجَمِيعِ فَهْمُ مَضَامِينِ الرِّسالَةِ، وتَصَوُّرُ الأحْكامِ الفقهيَّةِ، كَمَا سَيُزَاحُ عنَّا غَشَاوَةُ خَلْطٍ عنْدَ بَعْضِ شُدَاةِ العِلْمِ فِي فُهُومِ بَعْضِ التَّعاريفِ؛ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
* تَعْرِيفُ الرِّياضَةِ :
الرِّيَاضَةُ لُغَةً : رَاضَهُ ـ رَوْضًا، ورِيَاضًا، ورِيَاضَةً : ذلَّلَهُ .
الرِّيَاضَةُ اصْطِلاحًا : القِيَامُ بِحَرَكَاتٍ خَاصَّةٍ تُكْسِبُ البَدَنَ قُوَّةً، ومُرُوْنَةً(1) .
* * *
* تَعْرِيفُ اللَّهْوِ :
__________
(1) ـ انظر "المعجم الوسيط" (1/382)، كلمة (راضه ) .(1/49)
مِنْ : لَهَى عَنِ الشَّيْءِ لَهْيًا، ولَهْيَانًا : بِمَعْنى : سَلا عَنْهُ، وتَرَكَ ذِكْرَهُ، وأضْرَبَ عَنْهُ . وألْهَاهُ : شَغَلَهُ . ولَهَا بالشَّيْءِ مِنْ بَابِ "عَدَا" : لَعِبَ بِهِ، وتَلَهَّى مِثْلُه(1).
واللَّهْوُ : مَا لَهَوْتَ بِهِ، ولَعِبْتَ بِهِ، وشَغَلَكَ؛ مِنْ هَوَى وطَرِبَ ونَحْوِهِما .
يُقَالُ : لَهَوْتُ بالشَّيْءِ، اللَّهْوُ بِهِ لَهْوًا، وتَلَهَّيْتُ بِهِ إذا لَعِبْتُ بِهِ، وتَشَاغَلْتُ وغَفِلْتُ بِهِ عَنْ غَيْرِه(2).
وعَنْ ابنِ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : "لاهِيَةً قُلُوبُهم"[الأنبياء3]، أيْ : مُتَشَاغِلَةً عَمَّا يُدْعَوْنَ إلَيْه(3).
فاللَّهْوُ مُرَادِفٌ لِلَّعِبِ غَالِبًا، وهُوَ التَّشَاغُلُ عَمَّا هُوَ مَطْلُوْبٌ، والغَفْلَةُ عَمَّنْ هُوَ المَحْبُوبُ، والمَرْغُوْبُ(4) .
* * *
* تَعْرِيْفُ اللَّعِبِ لُغَةً : اللَّعِبُ : ضِدُّ الجِدِّ، يُقَالُ لَعِبَ يَلْعَبُ لَعِبًا، ولِعْبًا ..
واللُّعْبَةُ : نَوْبَةُ اللَّعِبِ، أيْ : المَرَّةُ الوَاحِدَةُ مِنْهُ .
يُقَالُ : لَعِبْتُ لِعْبَةً وَاحِدَةً .
وهِيَ أيْضًا : جِرْمُ مَا يَلْعَبُ بِهِ : كالشِّطْرَنْجِ، والنَّرْدِ، ونَحْوِهِمَا، وكُلُّ مَلْعُوْبٍ بِهِ، فَهُوَ لِعْبَةٌ، والأُلْعُوْبَةُ : اللَّعِبُ(5)، ويُقَالُ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لا يُجْدِي عَلَيْه نَفْعًا : إنَّمَا أنْتَ لاعِبٌ(6) .
__________
(1) ـ "الصحاح" للجوهري ( 9/607 ) .
(2) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 15/259 ) .
(3) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 5/89-90 ) .
(4) ـ "بغية المشتاق" لحمدي شلبي، ص (28) .
(5) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 15/259 ) .
(6) ـ المصدر السابق .(1/50)
ويَظْهَرُ مِمَّا سَبَقَ : أنَّ اللَّعِبَ، واللَّهْوَ يَتَّفِقَانِ فِي مَدْلُوْلِهِما؛ فاللَّهْوُ يُرَادُ بِهِ اللَّعِبَ عِنْدَ بَعْضِ اللُّغَوْيِّيْنَ، فَكِلاهُمَا يِعْنِي : التَّشَاغُلَ عَمَّا هُوَ مَطْلُوْبٌ ومَرْغُوْبٌ(1).
والرَّجُلُ كَثِيْرُ المَزْحِ، والمُدَاعَبَةِ يُقَالُ لَهُ : تِلْعَابَةٌ، كَمَا يُقَالُ : لَعِبَةٌ ( بتَحْرِيْكِ العَيْنِ، والمُوَحَّدَةِ )، أيْ : كَثِيْرُ اللَّعِبِ، واللَّعَّابُ ( بالتَّشْدِيْدِ، والفَتْحِ ) : الَّذِي حِرْفَتُهُ اللَّعِبُ، واللُّعْبَةُ ( بالتَّشْدِيْدِ المَضْمُوْمِ، فَسُكُوْنٌ، فَفَتْحٌ ) : الأحْمَقُ الَّذِي يُسْخَرُ بِهِ، ويُلْعَبُ، ولاعَبَهُ مُلاعَبَةً ولِعَابًا : لَعِبَ مَعَهُ(2).
وعَلَى ذَلِكَ : فاللِّعْبَةُ الوَاحِدَةُ مِنَ اللَّعِبِ، وهِيَ أيْضًا مَا يُلْعَبُ بِهِ، فاللَّعِبُ جَمْعُ النَّوْبَةِ، والمَلاعِبُ الأمَاكِنُ الَّتِي يُلْعَبُ فِيْها، فَلا يُقَالُ إذَنْ : ( ألْعَابٌ )، ولا ( الألْعَابُ )؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الأخِيْرَةُ قَدْ اشْتُهِرَتْ بِكَثْرَةِ اسْتِخْدَامِها، فَلا حَرَجَ عَلَى وُرُوْدِهَا فِي البَحْثِ .
وفِي اللِّعْبِ مِنَ المَعَانِي : عَدَمُ الدِّرَايَةِ بالأيْنِيَّةِ، وعَدَمُ السَّيْرِ عَلَى الوَجْهِ المُرَادِ، والهَلاكُ، وعَدَمُ النَّفْعِ، وقَدْ يُحْمَدُ فِي اللَّعِبِ أُمُوْرًا مَّا عَلَى وَجْهٍ مَّا(3).
* * *
__________
(1) ـ "قضايا اللهو والترفيه" لمادون بن رشيد (69-70) .
(2) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 5/39 - 41 ) .
(3) ـ "بغية المشتاق" لحمدي شلبي (27-28) .(1/51)
وعنْدَ اسْتِقْرَاءِ مَعْنَى اللَّعِبِ، واللَّهْوِ فِي الشَّرْعِ؛ نَجِدُهما قَدْ ذُكِرَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ، والتَّقْبيحِ، فانْظُرْ مَثلاً قَوْلَه تَعَالَى : " وذَرِ الَّذِيْنَ اتخذوا دينهم لعبا ولهوا …"[الأنعام70]، وقولَه : " وما الحياة الدنيا إلاَّ لعبٌ ولهوٌ وللدَّارُ الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون"[الأنعام32]، فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ القُرْآنِ
وقَدْ دَلَّتِ السُّنةُ النَّبَوِيَّةُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الآيَاتِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ شيءٍ يَلْهُو بِهِ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ باطِلٌ، إلاَّ ثَلاثًا : رَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وتأدِيبَه فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتَهُ أهْلَهُ، فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ "(1) أحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ، وغَيْرُهُمَا، ولِلْحَدِيْثِ ألْفَاظٌ مُتقارِبَةٌ، وسَيَأتِي لِهَذَا الحَدِيْثِ بَعْضُ الشَّرْحِ إنْ شَاءَ اللهُ .
فمَدْلُولُ اللَّهْوِ، واللَّعِبِ فِي هَذِه السِّيَاقَاتِ القُرْآنِيَّةِ، والنَّبَوِيَّةِ لا يَخْتَلِفُ عَنِ المَدْلُوْلِ اللُّغَوِيِّ، فَمِنْ خِلالِ مَا وَرَدَ مِنْ تَفَاسِيْرَ، يَتَّضِحُ لَنَا أنَّ اللَّعِبَ، واللَّهْوَ الوَارِدَيْنِ فِي هَذِه الآيَاتِ ومَثِيْلاتِها تَدُوْرُ حَقِيْقَتُهُمَا : حَوْلَ مَا لا يُنْتَفَعُ بِهِ . فَهُوَ البَاطِلُ، والعَبَثُ، وهُوَ ضِدُّ الجِدِّ، وضِدُّ الحَقِّ .
فاسْتِثْناؤُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِهَذِه الأرْبَعَةِ المَذْكُوْرَةِ مِنْ جِنْسِ اللَّهْوِ البَاطِلِ، يُفَسِّرُهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلِيْها مِنْ فَضَائِلَ، وفَوَائِدَ، فَعُدَّتْ مِنَ الجِدِّ، وإنْ كَانَ ظَاهِرُها لَعِبًا، ولَهْوًا .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (17300،17337)، و"السنن الكبرى" للنسائي (8891)، و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي (295)، وهو حديثٌ حسنٌ، وقد صحَّحه الألباني في"الصحيحة" (315)، و"صحيح الترغيب" (1282) .(1/52)
فِي حَيْنَ عُدَّتْ بَعْضُ أنْوَاعِ الأعْمَالِ الَّتِي ظَاهِرُها الجِدُّ، ومِنْ وَرَائِها إنْتَاجٌ، ومَرْدُوْدِيَّةٌ مِنْ قَبِيْلِ ألْوَانِ اللَّهْوِ، واللَّعِبِ البَاطِلَيْنِ؛ لِخُلُوِّهَا مِنَ القَصْدِ الحَسَنِ، والهَدَفِ الأُخْرَوِيِّ، وهُوَ الأمْرُ الَّذِي عَدَّهُ القُرْآنُ الكَرِيْمُ فِي وَصْفِهِ لِمَجَالاتِ الحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ باللَّعِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : " ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَعِبٌ ولَهْوٌ …"[الأنعام : 32] .
وقَوْلِهِ تَعَالَى : " ومَا هَذِه الحياةُ الدُّنيا إلا لَهْوٌ ولَعِبٌ …"[العنكبوت 64] .
فالسَّعْيُ الجَادُ فِي تَحْصِيْلِ الدُّنْيَا، ومَلاذِّهَا إنَّمَا هُوَ مِنَ الكُفَّارِ لَعِبٌ، ولَهْوٌ لَيْسَ مِنْ وَرَائِه فَائِدَةٌ يَسْتَفِيْدُها الكَافِرُ فِي آخِرَتِهِ !
أمَّا المُسْلِمُ فَسَعْيُهُ فِيْها إنَّمَا هُوَ وَسِيْلَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِهِ، ويَسْتَعِيْنُ بِها فِي تَحْقِيْقِ حَاجَاتِهِ الأسَاسِيَّةِ لِتَحْقِيْقِ عُبُوْدِيَّتِهِ للهِ، وإقَامَةِ حُكْمِهِ فِي الأرْضِ ظَاهِرًا، وباطِنًا .
بَلْ أكْثَرُ مِنْ هَذَا، عُدَّتْ بَعْضُ الأعْمَالِ الَّتِي هِيَ فِي أصْلِهَا، وظَاهِرِها عِبَادَاتٌ أسَاسِيَّةٌ فِي الإسْلامِ : مِنَ اللَّهْوِ البَاطِلِ .(1/53)
وفِي هَذَا المَعْنَى يَقُوْلُ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عَنْدَ شَرْحِهِ لِقَوْلِ البُخَارِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " بَابٌ كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ …" قَالَ : " أيْ : كَمَنْ الْتَهَى بِشَيْءٍ مِنَ الأشْيَاءِ مُطْلَقًا؛ سَوَاءٌ كَانَ مَأذُوْنًا فِي فِعْلِهِ، أو مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ كَمَنْ اشْتَغَلَ بِصَلاةٍ نَافِلَةٍ، أو بِتِلاوَةٍ، أو ذِكْرٍ، أو تَفَكُّرٍ فِي مَعَانِي القُرْآنِ مَثَلاً حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلاةِ المَفْرُوْضَةِ عَمْدًا؛ فإنَّه يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّابِطِ، وإذَا كَانَ هَذَا فِي الأشْيَاءِ المُرَغَّبِ فِيْها، المَطْلُوْبِ فِعْلُها فَكَيْفَ حَالُ مَا دُوْنِها…"(1).
* * *
وقَدْ أشْكَلَ مَعْنَى اللَّعِبِ هُنَا عَلَى مَا فِي قِصَّةِ إخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، عِنْدَ قَوْلِه تَعَالى : " أرْسِلْه مَعَنَا غَدًا يَرْتَعُ ويَلْعَبُ …"[يوسف12]. كَيْفَ جَازَ فِي حَقِّهِم اللَّعِبُ بِهَذَا المَعْنَى، وهُم أنْبِيَاءُ ؟
وقَبْلَ بَيَانِ هَذِا الإشْكَالِ، لا بُدَّ أنْ نَعْلَمَ أنَّ القَوْلَ الرَّاجِحَ فِي إخْوَةِ يُوْسُفَ عَلَيْه السَّلامُ أنَّهُم لَيْسُوا بأنْبِيَاء، وهَذَا مَا عَلَيْه أهْلُ التَّحْقِيْقِ والنَّظَرِ مِنَ العُلَمَاءِ؛ حَيْثُ أنَّه لَمْ يَثْبُتْ أيُّ دَلِيْلٍ مِنَ الكِتَابِ، أو السُّنَّةِ عَلَى أنَّهُم أنْبِيَاءُ، وهَذَا مَا حَقَّقَه ونَصَرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وغَيْرُه مِنْ أهْلِ العِلْمِ(2)، وقَدْ نُقِلَ عَنْ أبِى عَمْرِو بنِ العَلاءِ لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ، قَالَ : " لَمْ يَكُوْنُوا يَوْمَئِذٍ أنْبِيَاءُ" .
__________
(1) ـ "فَتْحُ البَارِي" لابن حجر ( 11/94 ) .
(2) ـ انظر "آثارَ شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةِ" (3/297)، و"تَفْسِيْرَ ابنِ كَثِيْرٍ" (4/372) .(1/54)
أمَّا الجَوَابُ عَلَى هَذَا الإشْكَالِ عِنْدَ مِمَّنْ يَرَاهُم أنْبِيَاء فأقْوَالٌ :
قِيْلَ المُرَادُ بِهِ : اللَّعِبُ المُبَاحُ مِنَ الأنْبِيَاءِ، وهُوَ مُجَرَّدُ الانْبِسَاطِ(1) .
وقِيْلَ : هُوَ اللَّعِبُ الَّذِي يَتَعَلَّمُوْنَ بِهِ الحَرْبَ، ويَتَقَوَوْنَ بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهم : " … إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقْ …"[يوسف17]، لا اللَّعِبُ المَحْظُوْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الحَقِّ !، ولِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ يَعْقُوْبُ عَلَيْهِم، لَمَّا قَالُوا : "ونَلْعَبُ"(2).
وأحْسَنُ مَا قِيْلَ فِي تَوْجِيْهِ الآيَةِ مَا قَالَه القَاضِي أبُو بَكْرٍ بنُ العَرَبِي ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي جَوَابِهِ عَنْهُ : " اعْلَمْ وَفَّقَكَ اللهُ إنَّه لَيْسَ فِي ذَلِكَ اللَّعِبِ كَبِيْرُ مَأخَذٍ، فإنَّ الرَّجُلَ يَلْعَبُ بِفَرَسِهِ، وبأهْلِهِ، وبأسْهُمِهِ حَسْبَمَا وُجِدَ فِي الخَبَرِ . وفِي الصَّحِيْحِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ لِجَابِرٍ حِيْنَ تَزَوَّجَ ثَيِّبًا : " هَلاَّ بِكْرًا تُلاعِبُها، وتُلاعِبُكَ …"(3)، ولِعْبُ الإخْوَةِ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا مُسَابَقَةٌ عَلَى الأرْجُلِ، وإمَّا مُسَابَقَةٌ بأسْهُمٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : "إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِق"، ولَيْسَ فِي ذَلِكَ مَأْخَذٌ بِحَالٍ"(4) .
__________
(1) ـ انظر "الجامِعَ لأحْكَامِ القُرْآنِ" للقرطبي (9/138-139)، و"تَفْسِيْرَ ابنِ كَثِيْرٍ" (2/470) .
(2) ـ انظر "فَتْحَ القَدِيْرِ" للشوكاني ( 3/10)، وانظر "الجامِعَ لأحْكَامِ القُرْآنِ" للقرطبي ( 9/139 ) .
(3) ـ أخرجه البخاري ( 9/24 )، ومسلم ( 2/1088 ) .
(4) ـ انظر "المِعْيَارَ المُعْرِبِ" للونشريسي ( 11/183 ) .(1/55)
وهُوَ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْديُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " نَسْتَبِقُ إمَّا عَلَى الأقْدَامِ، أو بالرَّمِي، والنِّضَالِ"(1) .
قُلْتُ : يُسْتَفَادُ مِنْ هَذِه الأجْوِبَةِ، أنَّ اللَّهْوَ، واللَّعِبَ مِنَ الألْفَاظِ المُشْتَرَكَةِ؛ فَتُطْلَقُ تَارَةً ويُرَادُ بِها : العَبَثَ، وغَيْرَ الجِدِّ، وتُطْلَقُ تَارَةً أُخْرَى ويُرَادُ بِها الأعْمَالَ، والأفْعَالَ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْها فَوَائِدُ، ومَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا، والَّذِي يُحَدِّدُ المَعْنَى، والمُرَادِ مِنْهُما هُوَ القَرَائِنُ الوَارِدَةُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي ذُكِرَا فِيْهِ(2).
* * *
* تَعْريفُ التَّرْفِيْه :
الرَّفَاهَةُ، والرَّفاهِيَّةُ، والرُّفَهْنِيَّةُ : رَغَدُ العَيْشِ .
والرَّفَهُ : أقْصَرُ الوِرْدِ، وأسْرَعُه، وهُوَ أنْ تَشْرَبَ الإبِلُ المَاءَ كُلَّ يَوْمٍ .
والإرْفَاهُ : الإدْهَانُ، والتَّرْجِيْلُ كُلَّ يَوْمٍ .
ورَفَّهَ عَنْهُ : كَانَ فِي ضِيْقٍ فَنَفَّسَ عَنْهُ، ورَفِّهْ عَنْ غَرِيْمِكَ تَرْفِيْهًا : أيْ نَفِّسْ عَنْهُ .
وأرْفَهَ عِنْدِي، واسْتَرْفَهَ، ورَفِهَ عِنْدِي، ورَوَّحَ عِنْدِي، المَعْنَى : أقِمْ، واسْتَرِحْ، واسْتَجِم(3).
* * *
* أمَّا تَعْرِيفُ التَّرْوِيْحِ :
جَاءَ فِي "لِسَانِ العَرَبِ" ضِمْنَ مَادَّةِ ( رَوْح ) : " ورَاحَ رَوْحًا : اهْتَزَّ، وطَابَ …
والأرِيْحِيُّ : الرَّجُلُ الوَاسِعُ الخُلُقُ، النَّشِيْطُ إلى المَعْرُوفِ، يَرْتَاحُ لِمَا طَلَبْتَ . ويَرَاحُ قَلْبُهُ مَسْرُوْرًا… والرَّاحَةُ ضِدُّ التَّعَبِ، واسْتَرَاحَ الرَّجُلُ : مِنَ الرَّاحَةِ .
__________
(1) ـ "تفسير الكريم المنان" للسعدي (4/12) .
(2) ـ انظر "قضايا اللهو والترفيه" لمادون بن رشيد، ( 71-72 )، و"بغية المشتاق" لحمدي شلبي (28) .
(3) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 13/492 ) .(1/56)
وفِي الحَدِيْثِ؛ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِمُؤَذِّنِه بِلالٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : " أَرِحْنَا بِها …"(1). أيْ : أَذِّنْ للصَّلاةِ فَنَسْتَرِيْحُ بأدَائِهِا مِنِ اشْتِغَالِ قُلُوْبِنا …
قَالَ ابنْ الأثِيْرِ(2) ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وقِيْلَ كَانَ اشْتِغَالُهُ بالصَّلاةِ رَاحَةً لَهُ؛ فإنَّه كَانَ يَعُدُّ غَيْرَها مِنَ الأعْمَالِ الدُّنْيِوِيَّةِ تَعَبًا، فَكَانَ يَسْتَرِيْحُ بالصَّلاةِ رَاحَةً لَهُ. فإنَّه كَانَ يَسْتَريْحُ بِها لِمَا فِيْها مِنْ مُنَاجَاةِ اللهِ تَعَالَى، ولِهَذَا قَالَ : "وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ"(3) انتهى .
قَالَ ابنُ فَارِسٍ : " … والمُرَاوَحَةُ فِي العَمَلَيْنِ : أنْ يَعْمَلَ هَذَا مَرَّةً، وهَذَا مَرَّةً …
ويُقَالُ : أرَاحَ الرَّجُلُ، إذَا رَجَعَتْ إلَيْه نَفْسُهُ بَعْدَ الإعْيَاءِ …
وسُمِّيَتْ التَّرْوِيْحِيَّةُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لاسْتِرَاحَةِ القَوْمِ بَعْدَ كُلِّ أرْبَعِ رَكَعَاتٍ"(4) .
* * *
ومِنْ خِلالِ مَا تقدَّمَ مِنْ شُرُوْحٍ لُغَوِيَّةٍ لِمَادَّتَيْ : "التَّرْفِيْه"، و"التَّرْوِيحِ" نَسْتَنْتِجُ أنَّ مَدْلُوْلَها يِتَّفِقُ حَوْلَ المَعَانِي الآتِيَةِ :
1ـ السِّعَةُ، والانْبِسَاطُ .
2ـ إزَالَةُ التَّعَبِ، والضِّيْقِ عَنِ النَّفْسِ .
3ـ طَلَبُ رَاحَةِ النَّفْسِ .
4ـ إدْخَالُ السُّرُوْرِ عَلَيْها .
__________
(1) ـ أخرجه أحمدُ (5/364)، وأبو داود ( 4/296 )، وحَسَّنَ إسنادَه الحافظ العراقي في "المغني"، انظر هامش الأحياء (1/165) .
(2) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 2/461 ) .
(3) ـ أخرجه أحمد (3/128،199)، والنسائي ( 7/61 )، وإسَنادُه حَسَنٌ .
(4) ـ "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس ( 2/404 ) .(1/57)
إذَنْ فَخُلاصَةُ المَعْنَى المَقْصُوْدِ مِنَ التَّرْفِيْهِ، والتَّرْوِيْحِ لُغَةً هُوَ : إدْخَالُ السُّرُوْرِ عَلَى النَّفْسِ، والتَّنْفِيْسُ عَنْهَا، وتَجْدِيْدُ نَشَاطِهَا(1).
* * *
* تَعْرِيفُ الكُرَةِ(2):
قَالَ ابنُ فَارِسٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : كوْرٌ أصْلٌ يَدُلُّ عَلَى دَوْرٍ، وتَجَمُّعٍ (3).
وجَاءَ فِي "المُهَذَّبِ" مَا نَصُّه : " وأمَّا كُرَةُ الصَّوْلَجَانِ، ومُدَاحَاةُ الأحْجَارِ، ورَفْعُها مِنَ الأرْضِ، والمُشَابَكَةُ، والسِّبَاحَةُ، واللَّعِبُ بالخَاتَمِ، والوُقُوْفُ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ اللَّعِبِ الَّذِي لا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الحَرْبِ، فَلا تَجُوْزُ المُسَابَقَةُ عَلَيْها بِعِوَضٍ؛ لأنَّه لا يُعَدُّ للحَرْبِ، فَكَانَ أخْذُ العِوَضِ فِيْه مِنْ أكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ"(4) .
وذَكَرَ ابنُ وَهْبٍ بإسْنَادِه أنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ مَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُوْنَ بالكُجَّةِ ـ وهِيَ حُفَرٌ فِيْها حَصًى يَلْعَبُوْنَ بِها ـ قَالَ : فَسَدَّها ابنُ عُمَرَ، ونَهَاهُم عَنْها .
__________
(1) ـ انظر "قضايا اللهو والترفيه" لمادون بن رشيد، ( 76 ) .
(2) ـ ومِنَ الجَدِيرِ بالذِّكرِ أنَّ ( الكُرةَ ) قَدْ ذُكِرَتْ في كُتُبِ اللُّغَةِ بأسْمَاءَ، وأوْصَافٍ أو إيماءاتٍ مُتعَدِّدةٍ، مثل : "الكُجَّة "، و"البَكْسَة"، و"الخَزَفَة"، و"التُّون"، و"الآجُرَّة"، و"الصَّوْلَجان"، و" الكُرَة" … تَجِدُ ذَلِكَ في مَادَّةِ : "بَكَس"، و"كَج"، و"كَجَج"، و" تُون"، و"كُرَة"، و"أكر"، انظرها في "القاموس المحيط" للفيروز آبادي ص (203، 344، 479، 533، 795، 1183)، و"اللِّسان" لابن منظور (2/66)، (12/39،184) .
(3) ـ "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس ( 5/146 ) .
(4) ـ "المهذب" للشيرازي (1/421 )، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/311-312)، و" تكملة المجموع " للمطيعي (15/142) .(1/58)
وذَكَرَ الهَرَوِيُّ فِي بَابِ ( الكَافِ مَعَ الجِيْمِ ) فِي حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ : " ... فِي كُلِّ شَيْءٍ قِمَارٌ، حَتَّى فِي لِعْبِ الصِّبْيَانِ بالكُجَّةِ"، قَالَ ابنُ الأعْرَابِيِّ : هُوَ أنْ يَأْخُذَ الصَّبِيُّ خِرْقَةً، فَيُدَوِّرُهَا كأنَّها كُرَةٌ، ثُمَّ يَتَقَامَرُوْنَ بِها، وكُجَّ : إذَا لَعِبَ بالكُجَّةِ"(1).
* * *
الفَصْلُ الثَّاني
الفَرْقُ بين الكُرَةِ القَدِيمةِ والحَدِيثَةِ
وفِي "المُعْجَمِ الوَسِيْطِ"(2) : " الكُرَةُ : كُلُّ جِسْمٍ مُسْتَدِيْرٍ، وأدَاةٍ مُسْتَدِيْرَةٍ مِنَ الجِلْدِ، ونَحْوِهِ يُلْعَبُ بِها . وهِيَ أنْوَاعٌ : مِنْها كُرَةُ الصُّوْلَجَانِ، و( كُرَةُ القَدَمِ )، وكُرَةُ اليَدِ" .
وفِي "مُغْنِي المُحْتَاجِ" : جِسْمٌ مُحِيْطٌ بِهِ سَطْحٌ فِي دَاخِلِهِ نُقْطَةٌ"(3)، وقِيْلَ : هِيَ المَعْرُوْفَةُ الآنَ بالكُوْرَةِ"(4) .
ولَنَا عَلَى هَذَا التَّعْرِيْفِ، وغَيْرِه مِمَّن يُحَاوِلُ أنْ يَرْسُمَ مُشَابَهَةً تَقْرِيْبِيَّةً بَيْنَ الكُرَةِ القَدِيْمَةِ، و( كُرَةِ القَدَمِ ) الحَدِيْثَةِ نَقَدَاتٌ، واعْتِرَاضاتٌ فَرَضَها البَحْثُ العِلْمِي، والتَّحْرِيرُ العَمَلِي .
فأقُولُ : كَثِيْرًا ما يَخْلِطُ بَعْضُ طَلَبةِ العِلْمِ بَيْنَ حُكْمِ، وصِفَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي القَدِيْمِ والحَدِيثِ؛ مِمَّا كَانَ لَهُ أثرٌ سَيئٌ فِي إصْدَارِ الأحْكامِ الشَّرعيَّةِ عَلَى وَاقِعِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) القَائِمَةِ فِي سُوْقِ المُسْلِمِيْنَ حَاليًا !
__________
(1) ـ "الجَامِعُ لأحْكَامِ القُرْآنِ" للقرطبي (8/340 ) .
(2) ـ "المعجم الوسيط" ( 2/785 ) .
(3) ـ "مغني المحتاج" للشربيني ( 4/392 ) .
(4) ـ "حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج" لعلي الشبراملسي ( 8/27 ) .(1/59)
كَمَا أنَّ هَذَا الخَلْطَ ـ للأسَفِ ـ لَمْ يَقِفَ عِنْدَ شُدَاةِ العِلْمِ؛ بَلْ تَعَدَّاهُ إلى بَعْضِ مَنْ تَصَدَّرَ للفَتْوَى الشَّرْعيَّةِ فِي أكْثَرِ بِلادِ المُسْلمين؛ فَتَرَاهم يَنْتَزِعُونَ أحْكامًا شَرْعيَّةً مُرْتَجَلةً فِي حُكْمِهم عَلَى (كُرَةِ القَدَمِ ) اسْتِنَادًا مِنْهُم عَلَى مَا يَلِي :
ـ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الحَالِيَّةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الصَّدْرِ الأوَّلِ؛ وعَلَيْه فإنَّ لَهَا أصْلٌ فِي الإسْلامِ.
ـ إذَا كَانَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) فِي الصَّدْرِ الأوَّلِ مُبَاحَةً، فَهِي اليَوْمَ تَأخُذُ نَفْسَ الحُكْمِ .
ـ أنَّها لُعْبَةٌ قَدْ شُغِفَ بِهَا أكْثَرُ المُسْلمين قَدِيمًا وحَدِيْثًا؛ لا سِيَّما الخُلَفَاءُ والسَّلاطِيْنُ .
ـ أنَّها قَدْ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ "المَعَاجِمِ اللُّغويَّةِ" مِمَّا يَزِيدُنا يَقِينًا أنَّها لُعْبَةٌ سَائِرَةٌ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِيْنَ. وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّفقُّهاتِ المَرْفُوضَةِ !
إنَّ مِثْلَ هذا الكلامِ إنْ دَلَّ عَلَى شَيءٍ؛ فإنَّه لا يَدُلُّ إلاَّ عَلَى جَهْلٍ بأصْلِ مَعْنَى، ووَصْفِ (الكُرةِ) القَدِيمةِ، وقُصُورٍ بِوَاقِعِ الكُرَةِ الحَدِيْثَةِ !
فعِنْدَ ذَلِك؛ تَهَاوَنَ أكْثَرُ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) المُعَاصِرَةِ؛ مِمَّا أوْقَعَهم فِي سَلَى جَمَلٍ، وأدْخَلَهم أنْفَاقَ تَيْهٍ !
* * *
ومِنْ خِلالِ هَذَا؛ كَانَ لِزَامًا عَلَيْنا أنْ نَذْكُرَ حَقِيقَةَ ( الكُرَةِ ) القَدِيمةِ دَفْعًا لِهَذِه المُغَالَطَاتِ كَي نَخْرُجَ جَمِيعًا بِتَعْرِيفٍ صَرِيحٍ، وحُكْمٍ صَحِيحٍ لِكُلٍّ مِنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) القَدِيمةِ والحَدِيثَةِ؛ ومِنْهُ يُوَافِقُ الخَبَرُ الخُبْرَ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *(1/60)
لا شَكَّ أنَّ حَقِيقَةَ ( الكُرَةِ ) القَدِيمةِ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ، والمَعَاجِمِ العَرَبِيَّةِ تَخْتَلِفُ تَمَامًا عَنْ كُرةِ اليَوْمِ، فَهِيَ تَحْمِلُ حَقَائِقَ مُذْهِلَةً تَقْطَعُ بأنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الحَدِيثَةَ لا تَمُتُّ بتَّةً بِـ ( الكُرَةِ ) القَدِيمَةِ لا فِي وَصْفِها، ولا فِي وَصْفِ لِعْبِها، ولا فِي غَايَتِها، ولا فِي حُكْمِها؛ بِلْ هُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ قَلْبًا وقَالِبًا !
يُوَضِّحُه ما يَلِي :
1ـ أنَّ ( الكُرَةَ ) القَدِيمَةَ لَمْ تُعْرَفْ فِي شَيءٍ مِنَ الكُتُبِ بأنَّها : كُرَةُ قَدَمٍ؛ كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي وَصْفِها؛ اللُّهم : أنَّها ( كُرَةٌ ) لا غَيْر !
2ـ أمَّا وَصْفُها : فَهِي لا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِها مُسْتَدِيرَةً مَحْشُوَةً بالشَّعْرِ، أو الصُّوْفِ … أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْس لَهُ عُلاقةٌ بِحَبْسِ الهَوَاءِ؛ كمَا هُوَ شَأْنُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الحَدِيثَةِ .
3ـ أمَّا وَصْفُ لِعْبِها : فَهِيَ لِعْبَةٌ لَهَا طَرِيقَتُها المَعْرُوفَةُ؛ وهُوَ : أنْ يَقُومَ الرَّجُلُ، أو الرَّجُلانِ، أو أكْثَرُ بِضْرَبِ كُرَةٍ مِنْ شَعَرٍ ونَحْوِه بِكُوْجَةٍ ( وهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَصَا مَعْكُوْفَةٍ )، ونَحْوِها، ويَقُومُ اللَّعِبُ بِمُتَابَعَةِ، ومُلاحَقَةِ الكُرَةِ وهُمْ عَلَى ظُهُورِ الخُيُوْلِ، ونَحْوِها .
4ـ أمَّا غَايَتُها : فَهِي التَّدْرِيبُ عَلَى الجِهَادِ .
5ـ أمَّا حُكْمُها : فأكْثُرُ أهْلِ العِلْمِ عَلَى إباحَتِها؛ لأنَّها مِنَ الوَسَائِلِ المُعِينَةِ عَلَى الجِهَادِ .
والتَّدْلِيْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا؛ فَمِنْ طَرِيْقَيْ : المَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ، والتَّارِيْخِ .
* فأمَّا كُتُبُ المَعَاجِمِ اللُّغوِيَّةِ : فَقَدْ أفْصَحَتِ المَعَاجِمُ اللُّغَويَّةُ بأنَّ الكُرَةَ الَّتِي لَعِبَها السَّلَفُ لا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِها :(1/61)
جِسْمًا دائريًّا، لِذَا كَانَ كُلُّ مَا يُلْعَبُ بِهِ مِنَ الألْعَابِ عَلَى شَكْلٍ مُدَوَّرٍ؛ فَهُوَ : ( كُرَةٌ )، فَمِنْ ذَلِكَ : لِعْبَةُ الصَّوْلَجَانِ، والكُجَّةُ وغيرهِما : وهِيَ عِبَارةٌ عنْ عَصَىً يَضْرِبُوْنَ بِهَا كُرَةً مِنَ شَعْرٍ، أو صُوْفٍ، أو نَحْوِهِما، وهُمْ عَلَى دَوَابِهم للتَّدْرِيْبِ عَلَى القِتَالِ، والحَرْبِ، أو مَا يَصْنَعُهُ الصِّبْيانُ مِنْ خِرْقَةٍ، فَيُدَوِّرُنَها كأنَّها كُرَةٌ، ثُمَّ يَتَقَامَرُوْنَ بِها، عَنْ طَرِيْقِ حُفَرٍ فِيْها حَصًى يَلْعَبُوْنَ بِها(1).
* * *
* أمَّا كُتُبُ التَّارِيخِ :
فقَدْ ذَكَرَ ابنُ كثيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ سِيْرَةَ نُوْرِ الدِّينِ مَحْمُودِ بنِ زَنْكي ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وأحْسَنَ الذِّكْرَ، ثُمَّ قَالَ : " وكَانَ ( نُوْرُ الدِّيْنِ ) حَسَنَ الشَّكْلِ، حَسَنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وكَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ يُحِبُّ لَعِبَ الكُرَةِ، لِتَمْرِيْنَ الخَيْلِ، وتَعْلِيمَها الكَرَّ والفَرَّ"(2) .
وقَالَ عَنْهُ أيْضًا : " وكَانَ يُكْثِرُ اللَّعِبَ بالكُرَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الصَّالِحِيْنَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ(3) : إنَّمَا أُرِيْدُ تَمْرِيْنَ الخَيْلِ، وتَعْلِيْمَها الكَرَّ والفَرَّ . وكَانَ لا يَلْبَسُ الحَرِيْرَ، ويَأكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ "(4) .
__________
(1) ـ انظر "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس ( 5/146 )، وغيرها من المراجع اللغوية التي مرَّتْ معنا آنفًا .
(2) ـ "البداية والنهاية" لابن كثير (16/374) .
(3) ـ انظر "الروضتين" لأبي شامة ( 1/12 ) .
(4) ـ "البداية والنهاية" لابن كثير (16/482) .(1/62)
وقَالَ أيْضًا : " وذَكَرَ ابنُ الأثيرِ أنَّ المَلِكَ نُوْرَ الدِّيْنِ بِيْنَمَا هُوَ يَوْمًا يَلْعَبُ بالْكُرَةِ إذْ رَأى رَجُلاً يُحَدِّثُ آخَرَ، ويُؤمِئ إليه، فَبَعَثَ الحَاجِبَ؛ لِيَسْألَه مَا شَأنَه، فإذَا هُوَ رَجُلٌ مَعَهُ رَسُولٌ مِنْ جِهَةِ الحَاكِمِ، وهُوَ يَزْعُمُ أنَّ لَهُ عَلَى المَلِكِ نُوْرِ الدِّيْنِ حَقًا يُرِيْدُ خَلْوَتَه وإيَّاه إلى القَاضِي، فَلَمَّا أعْلَمَهُ الحَاجِبُ بِذَلِكَ ألْقَى الجُوكَانَ(1) مِنْ يَدِهِ، وأقْبَلَ مَعَ خَصْمِه إلى القاضِي كَمَالِ الدِّيْنِ الشَّهْرَزُوْرِيِّ، وقَدْ أرْسَلَ إليه مِنْ أثْنَاءِ الطَّرِيقِ أنْ لا تُعَامِلْنِي إلاَّ مُعَامَلَةَ الخُصُومِ، فَحِيْنَ وَصَلا وَقَفَ نُوْرُ الدِّيْنِ مَعَ خَصْمِه؛ حَتَّى انْفَصَلَتِ الحُكُوْمَةُ، ولَمْ يَثْبُتْ للرَّجُلِ حَقٌّ؛ بَلْ ثَبَتَ الحَقُّ للسُّلْطَانِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ ذَلِكَ قَالَ السُّلْطَانُ : إنَّما جِئْتُ مَعَه؛ لئلا يَتَخَلَّفَ أحَدٌ عَنِ الحُضُورِ إلى الشَّرْعِ، فإنَّما نَحْنُ شَحْنَكِيَّةٌ بَيْنَ يَدَيْه، وأنا أعْلَمُ أنَّه لا حَقَّ له عِنْدِي، ومَعَ هَذا أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ مَلَّكْتُهُ ذَلِكَ ووَهَبْتُه لَهُ"(2).
__________
(1) ـ المِحْجَنُ الَّذِي تُضْرَبُ به الكُرَةُ فِي ألْعَابِ الفُرُوسيَّةِ . انظر "صبح الأعشى" (5/458) .
(2) ـ "البداية والنهاية" لابن كثير (16/483-484) .(1/63)
وفِي حَوَادِثِ سَنَةِ (555هـ) قَالَ ابنُ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وفيها مَاتَ أمِيْرُ الحاجِّ قَايْمَازُ ابنُ عَبْدَ الله الأُرْجُوَانِيُّ(1) سَقَطَ عَنْ فَرَسِه وهُوَ يَلْعَبُ بالكُرَةِ بمَيْدَانِ الخَلِيفَةِ، فَسَالَ دُمَاغُهُ مِنْ أُذُنِهِ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ رَحِمَهُ اللهُ، وقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الأُمَرَاءِ، فتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْه، وحَضَرَ جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيْرٌ، مَاتَ في شَعْبَانَ مِنْ هَذِه السَّنَةِ، فَحَجَّ بالنَّاسِ فيها الأَمِيرُ أرْغَشْ مُقْطِعُ الكُوْفَةِ .
وحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الأمِيْرُ الكَبِيرُ شِيْرُكُوْه بِنُ شَاذِي، مُقَدَّمُ عَسَاكِرِ المَلِكِ نُوْرِ الدِّيْنِ مَحْمُودِ بنِ زَنْكِي، وتَصَدَّقَ بأمْوالٍ كَثِيْرةٍ"(2).
* * *
ومِنْ خِلالِ ما تَقَدَّمَ بَيَانُه فِي وَصْفِ حَقِيقَةِ ( الكُرَةِ ) القَدِيمَةِ؛ تَنْكَشِفُ لنا الحَقِيْقَةُ العِلْمِيَّةُ الَّتي لا تَقْبَلُ المُنَاقَشَةَ، أو حَتَّى الاجْتِهَادَ، وهُوَ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) المُعَاصِرَةَ لَيْسَ لَهَا عُلاقةٌ بالكُرَةِ القَدِيمَةِ لا حَقِيْقَةً، ولا وَصْفًا، ولا حُكْمًا … اللَّهُمَّ ما كَانَ مِنْ تَطَابُقٍ بَيْنَهُما فِي تَسْمِيَتِهِمَا : ( كُرَةٌ ) لا غَيْرُ !
فعِنْدَ ذَلِك كَانَ مِنَ الخَطأ أنْ نُحَاوِلَ ( عَبَثًا ! ) خَلْقَ مُسَاوَاةٍ بَيْنَهُما فِي شَيءٍ مِمَّا ذُكِرَ؛ فَضْلاً أنْ نُسَاوِيَ بَيْنَهُما فِي الحُكْمِ !
__________
(1) ـ انظر "المنتظم" لابن الجوزي (18/143)، و"الكامل" لابن الأثير (11/264)، و"النجوم الزاهرة" (5/332) .
(2) ـ "البداية والنهاية" لابن كثير (16/396) .(1/64)
هَذَا إذَا عَلِمْنا أيْضًا : أنَّ الكُرةَ عِنْدَ السَّلَفِ لَمْ تَكُنْ وَسِيلةَ عَبَثٍ، أو ضَيَاعَ وَقْتٍ، أو هَدْرَ مَالٍ؛ بَلْ كانَتْ وَسِيلةً مُعِينَةً عَلَى الجِهَادِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ، والرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : ما بَيْنَ تَرْوِيضٍ للخَيْلِ، وتَعْلِيمِها الكَرَّ والفَرَّ، وتَعْلِيمِ الفَوَارِسَ الفُرُوسِيَّةَ، والمُطَارَدَةَ، واللِّحَاقَ والسِّبَاقَ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَسَالِكِ الجِهَادِ .
* * *
وبَعْدَ أنْ عَلِمْنا جَمِيعًا : أنَّ الكُرَةَ عِنْدَ السَّلَفِ كَانَتْ وَسِيْلَةً مَحْمُودَةً لِغَايةٍ مَشْرُوْعَةٍ، كَمَا مَرَّ مَعَنا آنِفًا، مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ لَدَى أهْلِ العِلْمِ عَامَّةً؛ إلاَّ أنَّها مَعَ هَذَا لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً عَلَى إطْلاقِها؛ بَلْ ضُبِطَتْ بِضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ لا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُها، أو مُخَالَفَتُها، وإلاَّ أصْبَحَتْ وَسِيْلةً مُحَرَّمةً، لا يَجُوْزُ فِعْلُها بِحَالٍ، فتأمَّل !
يَقُولُ ابنُ تَيْمِيَّةُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ حِيْنَ سُئِلَ عَنْ لِعْبِ الكُرَةِ فِي بَابِ السَّبَقِ ( أيْ : الكَرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ بالصَّوْلَجَانِ، والكُجَّةِ ! )، قَالَ : " … ولِعْبُ الكُرَةِ إذَا كَانَ قَصَدَ صَاحِبُهُ المَنْفَعَةَ للْخَيْلِ، والرِّجَالِ؛ بِحَيْثُ يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الكَرِّ والفَرِّ، والدُّخُوْلِ، والخُرُوْجِ، ونَحْوِهِ فِي الجِهَادِ، وغَرَضُه الاسْتِعَانَةُ عَلَى الجِهَادِ الَّذِي أمَرَ اللهُ بِه رَسُوْلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وإنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ بالخَيْلِ، والرِّجَالِ، فإنَّه يُنْهَى عَنْهُ"(1).
__________
(1) ـ "مُخْتَصَرُ الفَتَاوَى المِصْرِيَّةِ" للبعلي ص ( 251 ) .(1/65)
وما ذَكَرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُنَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ خِلافٍ بِيْنَ أهْلِ العِلْمِ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلْيه بَيْنَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِيْهِ ضَرَرٌّ، أو شُغْلٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ : فَهُوَ حَرَامٌ قَطْعًا !
وعَلَيْهِ؛ فَلا شَكَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) اليَّوَمَ؛ قَدْ أجْمَعَتْ أمْرَهَا عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ الشَّرعيَّةِ؛ الَّتِي قَدْ يِصُلُ بَعْضُها إلى حَدِّ الكُفْرِ عَيَاذًا باللهِ تَعَالَى !، كَمَا سَيَأتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ.
* * *
الفَصْلُ الثَّالثُ
مَشْرُوعِيَّةُ اللَّعِبِ فِي الإسْلامِ
وقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي بَيَانِ أقْسَامِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ؛ أحْبَبْنا أنْ نَذْكُرَ مَشْرُوعِيَّةَ الرِّياضَةِ فِي الإسْلامِ مَعَ بَعْضِ الاخْتِصَارِ؛ تَقْدِمَةً بَيْنَ يَدَيْ القَارِئ الكَرِيمِ .
لَقَدْ حَظِيَتِ الرِّيَاضَةُ البَدَنِيَّةُ بِمَكَانَةٍ طَيِّبَةٍ فِي التَّشْرِيْعِ الإسْلامِيِّ؛ فَقَدْ دَعَا إلَيْها الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : بالقَوْلِ، والفِعْلِ، والتَّقْرِيْرِ .
ويَكْفِي أنْ نُشِيْرَ إلى أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ، وأجَازَ العِوَضَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : " لا سَبَقَ إلاَّ فِي نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافِرٍ" عَلَى مَا يَأتِي إنْ شَاءَ اللهُ، كَمَا سَابَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُمَّ المُؤْمِنِيْنَ عَائِشَةَ ـ رضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُا ـ عَلَى الأقْدَامِ، وصَارَعَ رُكَانَةَ فَصَرَعَهُ، ونَدَبَ إلى تَعَلُّمِ الرِّمَايَةِ، والسِّبَاحَةِ، وذَمَّ مَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَّ ثُمَّ نَسِيَهُ، وفَسَّرَ القُوَّةَ الَّتِي دَعَا اللهُ تَعَالَى المُسْلِمِيْنَ بإعْدَادِها بأنَّهَا الرَّمْيُ .(1/66)
كَمَا أجَازَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِلْحَبَشَةِ اللِّعْبَ فِي مَسْجِدِه بالحِرَابِ، وأبَاحَ لعَائِشَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُا ـ النَّظَرَ إلَيْهِم آنَذَاكَ .
* * *
* لِكُلِّ عُضْوٍ رِيَاضَةُ :
يَقُوْلُ الإمَامُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " أيُّ عُضْوٍ كَثُرَتْ رِيَاضَتُه قَوِيَ، وخُصُوصًا عَلَى نَوْعِ تِلْكَ الرِّيَاضَةِ؛ بَلْ كُلُّ قُوَّةٍ فَهَذَا شَأنُها : فإنَّ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الحِفْظِ قَوِيَتْ حَافِظَتُه، ومَنِ اسْتَكْثَرَ مِنَ الفِكْرِ قَوِيَتْ قُوَّتُه المُفَكِّرَةُ .
ولِكُلِّ عُضْوٍ رِيَاضَةٌ تَخُصُّهُ : فالِلصَّدْرِ القِرَاءةُ؛ فلْيَبْتَدِئ فِيْها مِنَ الخَفِيَّةِ إلى الجَهْرِ بِتَدْرِيْجٍ، ورِيَاضَةُ السَّمْعِ : بِسَمْعِ الأصْوَاتِ، والكَلامِ بالتَّدْرِيْجِ، فيَنْتَقِلَ مِنَ الأخَفِّ إلى الأثْقَلِ، وكَذَلِكَ رِيَاضَةُ اللِّسَانِ فِي الكَلامِ، وكَذَلِكَ رِيَاضَةُ البَصَرِ، وكَذَلِكَ رِيَاضَةُ المَشْيِ بالتَّدْرِيْجِ شَيْئًا فَشَيْئًا .
وأمَّا رُكُوْبُ الخَيْلِ، ورَمْيُ النُّشَّابِ، والصِّرَاعُ، والمُسَابَقَةُ عَلَى الأقْدَامِ؛ فرِيَاضَةٌ للبَدَنِ كُلِّهِ، وهِيَ قَالِعَةٌ لأمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ : كالجُذَامِ، والاسْتِسْقَاءِ، والقُوْلَنْجِ .
ورِيَاضَةُ النُّفُوْسِ : بالتَّعَلُّمِ، والتَّأدُّبِ، والفَرَحِ، والسُّرُوْرِ، والصَبْرِ، والثَّبَاتِ، والإقْدَامِ، والسَّمَاحِ، وفِعْلِ الخَيْرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَرْتَاضُ بِهِ النُّفُوْسُ "(1).
* * *
* أمَّا هَدْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي الرِّيَاضَةِ :
__________
(1) ـ "زَادُ المَعَادِ" لابن القيم ( 3/145 ) .(1/67)
لَمَّا كَانَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هُوَ الأُسْوَةَ الحَسَنَةَ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ، واليَوْمَ الآخِرَ، فإنَّ هَدْيَهُ فِي كُلِّ أمْرٍ مِنَ الأمُوْرِ : هُوَ أكْمَلُ هَدْيٍ، وأعْظَمُهُ؛ حَتَّى تَتَحَقَّقُ فِيْه وبِهِ القُدْوَةُ الحَسَنَةُ الطَّيِّبَةُ .
وإذَا تَأمَّلْنَا هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيْما نَحْنُ بِصَدَدِه، وَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ : أكْمَلَ هَدْيٍ، حَافِظًا للصِّحَّةِ والقُوَى، ونَافِعًا فِي المَعَاشِ والمَعَادِ .
ولَمَّا كَانَتِ العِبَادَاتُ مِنْ دَيْدَنِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وشَرِيْعَتِهِ؛ فإنَّ فِيْها مِنَ الرِّيَاضَةِ الشَّيْءَ الكَثِيْرَ النَّافِعَ .
* * *
يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " لا رَيْبَ أنَّ الصَّلاةَ نَفْسَها فِيْها : مِنْ حِفْظِ صِحَّةِ البَدَنِ، وإذَابَةِ أخْلاطِهِ، وفَضَلاتِه مَا هُوَ مِنْ أنْفَعِ شَيْءٍ لَهُ، سِوَى مَا فِيْها مِنْ حِفْظِ صِحَّةِ الإيْمَانِ، وسَعَادَةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ .
وكَذَلِكَ قِيَامُ اللَّيْلِ : مِنْ أنْفَعِ أسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، ومِنْ أنْفَعِ الأمُوْرِ لِكَثِيْرٍ مِنَ الأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ، ومِنْ أنْشَطِ شَيْءٍ للبَدَنِ، والرُّوْحِ، والقَلْبِ، كَمَا فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قَالَ : " يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأسِ أحَدِكِم إذَا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ : يَضْرِبُ مَكَانَ كُلِّ عُقْدَةٍ، عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيْلٌ فَارْقُدْ؛ فإنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ تَوَضَّأ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فأصْبَحَ نَشِيْطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وإلاَّ أصْبَحَ خَبِيْثَ النَّفْسِ كَسْلانَ"(1).
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 1/199 ) .(1/68)
* وفِي الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ أسْبَابِ حِفْظِ الصِّحَّةِ، ورِيَاضَةِ البَدَنِ، والنَّفْسِ مَا لا يَدْفَعُه صَحِيْحُ الفِطْرَةِ .
* وأمَّا الجِهَادُ، ومَا فِيْه مِنَ الحَرَكاتِ الكُلِّيَةِ ـ الَّتِي هِيَ مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ القُوَّةِ، وحِفْظِ الصِّحَّةِ، وصَلابَةِ القَلْبِ، والبَدَنِ، ودَفْعِ فَضَلاتِهما، وزَوَالِ الهَمِّ والغَمِّ ـ فأمْرٌ إنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ مِنْهُ نَصِيْبٌ .
* وكَذَلِكَ الحَجُّ، وفِعْلُ المَنَاسِكِ، وكَذَلِكَ المُسَابَقَةُ عَلَى الخَيْلِ، وبالنِّضَالِ، والمَشْيُ إلى المَسَاجِدِ للجُمُعَاتِ والجَمَاعَاتِ، وحَرَكَةُ الوُضُوْءِ، والاغْتِسَالِ، وغَيْرُ ذَلِكَ .
وهَذَا أقَلُّ مَا فِيْه : الرِّيَاضَةُ المُعِيْنَةُ عَلَى حِفْظِ الصِّحَّةِ، ودَفْعِ الفَضَلاتِ، ومَا شُرِعَ لَهْ مِنَ التَّوَصُّلِ بِهِ إلى خَيْرَاتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ودَفْعِ شُرُوْرِهِما فأمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ .
فَعَلِمْتَ أنَّ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَوْقَ كُلِّ هَدْيٍ : فِي طِبِّ الأبْدَانِ، والقُلُوْبِ، وحِفْظِ صِحَّتِهِما، ودَفْعِ أسْقَامِهِما، ولا مَزِيْدَ عَلَى ذَلِكَ لِمَنْ قَدْ أحْضَرَ رُشْدَهُ، وباللهِ التَّوْفِيْقُ "(1).
كَمَا عَقَدَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فَصْلاً فِي تَدْبِيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأمْرِ النَّوْمِ، واليَقَظَةِ، لِتَعَلُّقِ ذَلِكَ بالرِّيَاضَةِ، والنَّشَاطِ أيْضًا، فَيَقُوْلُ فِيْه :
__________
(1) ـ "زَادُ المَعَادِ" لابن القيم ( 3/145 ) .(1/69)
" مَنْ تَدَبَّرَ نَوْمَهُ، ويَقَظَتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَجَدَهُ : أعْدَلَ نَوْمٍ، وأنْفَعَهُ للبَدَنِ، والأعْضَاءِ، والقُوَى؛ فإنَّه كَانَ يَنَامُ أوَّلَ اللَّيْلِ، ويَسْتَيْقِظُ فِي أوَّلِ النِّصْفِ الثَّانِي، فَيَقُوْمَ، ويَسْتَاكَ، ويَتَوَضَّأَ، ويُصَلِّيَ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، فَيَأْخُذَ البَدَنُ، والأعْضَاءُ، والقُوَى حَظَّها مِنَ النَّوْمِ والرَّاحَةِ، وحَظَّهَا مِنَ الرِّيَاضَةِ، مَعَ وُفُوْرِ الأجْرِ، وهَذَا غَايَةُ صَلاحِ القَلْبِ، والبَدَنِ، والدُّنْيا والآخِرَةِ" .
ثُمَّ يُبَيِّنُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ كَيْفَ أنَّ نَوْمَ الصَّبِيْحَةِ يَمْنَعُ الرِّزْقَ؛ لأنَّ ذَلِكَ وَقْتٌ تَطْلُبُ فِيْهِ الخَلِيْقَةُ أرْزَاقَها، وهُوَ وَقْتُ قِسْمَةِ الأرْزَاقِ، فَنَوْمُهُ حِرْمَانٌ؛ إلاَّ لِعَارِضٍ، أو ضَرُوْرَةٍ، وهُوَ مُضِرٌّ جِدًا لإرْخَائِهِ البَدَنَ بِفَسَادِهِ للفَضَلاتِ الَّتِي يَنْبَغِي تَحْلِيْلُها بالرِّيَاضَةِ، فَيَحْدُثُ تَكَسُّرًا، وعِيًّا، وضَعْفًا، وإنْ كَانَ قَبْلَ التَّبَرُّزِ، والحَرَكَةِ، والرِّيَاضَةِ، وإشْغَالِ المَعِدَةِ بِشَيْءٍ؛ فَذَلِكَ الدَّاءُ العُضَالُ، المُوَلِّدُ لأنْوَاعٍ مِنْ الأدْوَاءِ .
ويَسْتَمِرُّ أيْضًا ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي بَيَانِ النَّوْمِ المُعْتَدِلِ، وغَيْرِ المُعْتَدِلِ، ومَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَوْمِ النَّهَارِ لِغَيْرِ ضَرُوْرَةٍ حَسَبَ الأوْقَاتِ المُخْتَلِفَةِ، لِيُقَرِّرَ فِي النِّهَايَةِ – كَمَا تَقَدَّمَ – أنَّ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي كُلِّ ذَلِكَ خَيْرُ هَدْيٍ(1).
* * *
__________
(1) ـ "زَادُ المَعَادِ" لابن القيم ( 3/142- 143 ) .(1/70)
وعَلَى ذَلِكَ؛ تَتَحَقَّقُ الرِّيَاضَةُ البَدَنِيَّةُ فِي العِبَادَاتِ المَفْرُوْضَةِ، وفِي صَلاةِ النَّافِلَةِ باللَّيْلِ، وفِي المَشْيِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الإخْوَانِ، وفِي زِيَارَةِ الخِلانِ، وصِلَةِ الأرْحَامِ، كَمَا تَتَوَافَرُ الرِّيَاضَةُ الرُّوْحِيَّةُ، والطَّمَأنِيْنَةُ القَلْبِيَّةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، بالْقُرْبِ مِنَ اللهِ تَعَالى شَأنُه .
أمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ رِيَاضَةٍ، ومُسَابَقَةٍ، ولَعِبٍ، فَقَدْ وَرَدَ فِيْه هَدْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى مَا يَأتِي تَفْصِيلاً إنْ شَاءَ اللهُ ـ بإجَازَةِ بَعْضَهِ، والنَّهْيِ عَنْ بَعْضِهِ الآخَرِ .
* * *
لَقَدِ ابْتُلِيَتْ هَذِه الأمَّةُ الإسْلامِيَّةُ بِبَعْضِ المُتَهَوِّكِيْنَ المَأْفُوْنِيْنَ مِنْ : مُسْتَشْرِقِيْنَ، وعِلْمَانِيِّيْنَ، ومُنَافِقِيْنَ مِنَ الَّذِيْنَ قَتَلَتْهُم حَقَائِقُ الإسْلامِ، وأعْمَتْهُم بَصَائِرُ الأحْكَامِ، وضَاقَتْ عَلَيْهم سِعَةُ الدِّيْنِ … حَيْثُ قَامُوا سِرَاعًا يَأُخذُ بَعْضُهُم بِيَدِ الآخَرِ عُمْيًا وصُمًّا، وغَدُوا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْنَ !، فَلَمَّا أرَادُوا أنْ يَقْذِفُوا بِشُبِهاتِهِم العَلِيْلَةِ : بِأنَّ دِيْنَ الإسْلامِ لَمْ يَحْضَ، أو يَهْتَمَّ بِشَأنِ الرِّيَاضَةِ البَدَنِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَمَاهُم أهْلُ العِلْمِ بِحُجَجٍ غَاصَّةٍ فِي حُلُوْقِهِم، وأدِلَّةٍ قَارِعَةٍ عَلَى آذَانِهم وقُلُوْبِهم، وصَاحُوا بِهِم فِي كُلِّ وَادٍ، وشَرَّدُوا بِهِم فِي كُلِّ نادٍ !(1/71)
وهَذَا مِنْهم ـ لا كَثَّرَهُم الله ـ افْتِرَاءٌ مَحْضٌ عَلَى الإسْلامِ، يَعْلَمُ كَذِبَ هَذا الافْتِرَاءِ كُلُّ مَنْ لَهُ أدْنَى عِلْمٍ بِهَذِه الشَّرِيْعَةِ الغَرَّاءِ، وحَسْبُنَا مِنْها قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "وإنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا … فأعْطِ كُلَّ ذِيْ حَقٍّ حَقَّهُ"(1)البُخَارِيُّ، وكَمَا أنَّ هَذِه الشَّرِيْعَةَ لَمْ تَغْفَلِ الجَوَانِبَ العَقْلِيَّةَ، ولا الرُّوْحِيَّةِ؛ فَهِيَ أيْضًا لَمْ تَغْفَلِ الجَوَانِبَ البَدَنِيَّةَ .
وكَانَ مِنْ شُبَهَاتِهم المَزْعُوْمَةِ أيْضًا : أنَّ هَذَا العَصْرَ الحَاضِرَ قَدِ اسْتَجَدَّتْ فِيْه آلاعِيْبُ رِيَاضِيَّةٌ بَدَنِيَّةٌ، ولَيْسَ للشَّرِيْعَةِ فِيْها أحْكُامٌ وَاضِحَةٌ، ومُوَاقِفُ صَرِيْحَةٌ مِنْها، وهَذَا وغَيْرُه لا شَكَّ أنَّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ، وجَهْلٌ صِرْفٌ بالإسْلامِ وأحْكَامِهِ !
فَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ السَّبْقِ بالجُمْلَةِ أدِلَّةٌ عَدِيْدَةٌ وفِيْرَةٌ مِنَ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْها إجْمَاعُ الأمَّةِ، ونَكْتَفِي هُنَا بإيْرَادِ بَعْضِ الأدِلَّةِ مِمَّا تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ الرِّيَاضَةِ فِي الإسْلامِ .
* * *
* فأمَّا الكِتَابُ :
فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : " وأعِدُّوا لَهم ما استطعتم من قُوةٍ ومِنْ رِباطِ الخيلِ تُرْهِبون به عَدُوَّ الله وعدوكم"[الأنفال60]، فأمَرَ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى بإعْدَادِ القُوَّةِ، ورِبَاطِ الخَيْلِ، ومِنْ طُرُقِ، ووَسَائِلِ إعْدَادِها المُسَابَقَةُ .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 4/209 ) .(1/72)
فَجَمِيْعُ مَا يَتَعَلَّمُه المُسْلِمُ، وهُوَ صَالِحٌ للحَرْبِ مِنَ القُوَّةِ فَهُو مَأْمُوْرٌ بالمُسَابَقَةِ فِيْه، فإذا تَعَلَّمَ المُسْلِمُوْنَ، وتَدَرَّبُوا عَلَى وَسَائِلِ الجِهَادِ، وتَمَرَّنُوا عَلَيْها قَبْلَ لِقَاءِ العَدُوِّ أبْقَاهُم ذَلِكَ عِنْدَ اللِّقَاءِ قَادِرِيْنَ عَلَى عَدُوِّهِم، مُسْتَعِدِّيْنَ لِمُجَابَهَتِهِ، والتَّغَلُّبِ عَلَيْه، ومَا لا يَتِمُّ المَشْرُوْعُ إلاَّ بِهِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ .
قَالَ أبُو بَكْرٍ الجَصَّاصُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عِنْدَ هَذَه الآيَةِ : " وهَذَا يَدَلُّ عَلَى أنَّ جَمِيْعَ مَا يُقَوِّي عَلَى العَدُوِّ فَهُوَ مَأمُوْرٌ بإعْدَادِهِ"(1) .
وقَالَ ابنُ العَرَبِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ أيْضًا عِنْدَ هَذَه الآيَةِ : " المُسَابَقَةُ شِرْعَةٌ فِي الشَّرِيْعَةِ، وخَصْلَةٌ بَدِيْعَةٌ، وعَوْنٌ عَلَى الحَرْبِ "(2) .
وقَالَ تَعَالَى : " وَلَوْ أرَادُوا الخُرُوجَ لأعَدُّوا له عُدَّةً"[التوبة46]، فَذَمَّهُم اللهُ عَلَى تَرْكِ الاسْتِعْدَادِ قَبْلَ لِقَاءِ العَدُوِّ، والخُرُوْجِ إلى قِتَالِهِم؛ ومِنَ الاسْتِعْدَادِ عَلَيْه : السِّبَاقُ(3).
* أمَّا السُّنَّةُ : فَقَدْ وَرَدَتْ أحَادِيْثُ كَثِيْرَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ السِّبَاقِ فِي الجُمْلَةِ .
* السَّبْقُ فِي الخَيْلِ .
__________
(1) ـ " أحكام القرآن" للجصاص ( 3/68 ) .
(2) ـ " أحكام القرآن" لابن العربي ( 3/1063 ) .
(3) ـ انظر "المسابقات" لسعد الشَّثْري، ص (23-24) .(1/73)
فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ قَالَ : أجْرَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَا ضَمَرَ مِنَ الخَيْلِ(1)( أي : وُلِيَتْ بالعَلَفِ حتَّى سَمِنَتْ ) : مِنَ الحَفْيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، أجْرَى مَا لَمْ تُضْمَرْ : مِنَ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بني زُرَيْقٍ، قَالَ ابنُ عُمَرَ : فَكُنْتُ فِيْمَنْ أجْرَى فَطَفَّفَ بِي الفَرَسُ .
وفِي رِوَايَةٍ : أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الحَفْيَاءِ، وأمَدُها ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ … وسَابَقَ بَيْنَ الخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ فأرْسَلَها مِنَ الثَّنِيَّةِ إلى مَسْجِدِ بِنِي زُرَيْقٍ، وأنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ كَانَ فَيِمَنْ سَابَقَ بِها(2)، مُتَّفقٌ عَلَيْه .
فَفِي مَا ذَكَرْنَاه هُنَا دَلِيْلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ السِّبَاقِ بالخَيْلِ .
قَالَ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وفِي الحَدِيْثِ مَشْرُوعِيَّةُ المُسَابَقَةِ، وأنَّه لَيْسَ مِنَ العَبَثِ؛ بَلْ مِنَ الرِّيَاضَةِ المَحْمُوْدَةِ المُوْصِلَةِ إلى تَحْصِيْلِ المَقَاصِدِ فِي الغَزْوِ، والانْتِفَاعِ بِها عِنْدَ الحَاجَةِ"(3).
__________
(1) ـ الخيل التي أضمرت : هي الخيل التي وُلِيَتْ بالعَلَفِ حتَّى سَمِنَتْ، ثُمَّ لا تُعلفُ إلاَّ قُوتَها ـ الضروري ـ مُدَّةً، ثُمَّ تُدخلُ بيتًا مكنونًا، ويُشدُّ عليها سروجها، وتُجلَّلُ بأجلَّتِها، حتَّى تعرقَ، فيذهبُ رَهْلُها وسِمْنُها، ويشتدُّ لحمُها، وتقوى على الجري، ويُسمَّى ذلك : مِضمارًا، وتَضْميرًا، انظر "لسان العرب" لابن منظور (4/2606)، و"شرح مسلم" للنووي (4/534) .
(2) ـ أخرجه البخاري (1/515)، ومسلم (4/534،535) .
(3) ـ "فتح الباري" لابن حجر (6/73) .(1/74)
وعَنْ أنَسِ بنِ مَالِكٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ، قَالَ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَاقَةٌ تُسَمَّى : العَضْبَاءُ لا تُسْبَقُ، فَجَاءَ إعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُوْدٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِيْنَ؛ حَتَّى عَرَفَهُ . فَقَالَ : " حَقٌّ عَلَى اللهِ؛ أنْ لا يَرْتَفِعْ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيا إلاَّ وَضَعَهُ"(1) البُخَارِيُّ .
قَالَ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وفِي الحَدِيْثِ اتِّخَاذُ الإبِلِ للرُّكُوبِ، والمُسَابَقَةِ عَلَيْها"(2).
* السَّبْقُ بالأقْدَامِ :
فَعَنْ عَائِشَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُا ـ أنَّها قَالَتْ : كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَسَبَقْتُه عَلَى رِجْلِي، فَلَمَّا حَمِلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُه فَسَبَقَنِي، فَقَالَ : "هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ"(3) أحْمَدُ، وأبُو دَاوُدَ .
وعَنْ سَلَمَةَ بنِ الأكْوَعِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ مَرَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنَ أسْلَمَ يَنْتَضِلُوْنَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " ارْمُوْا بِنِي إسْمَاعِيْلَ؛ فإنَّ أبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وأنَا مَعَ بَنِي فُلانٍ، قَالَ : فَأمْسَكَ أحَدُ الفَرِيْقَيْنِ بأيْدِيْهِم . فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَا لَكُم لا تَرْمُوْنَ ؟"، قَالُوا : كَيْفَ نَرْمِي، وأنْتَ مَعَهُم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " ارْمُوا، وأنَا مَعَكُم كُلُّكُم "(4) البُخَاريُّ .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 6/73 ) .
(2) ـ "فتح الباري" لابن حجر ( 6/74 ) .
(3) ـ أخرجه أحمد ( 6/129،281،282)، وأبو داود ( 2575 )، وهو صحيحٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني (2248) .
(4) ـ أخرجه البخاري ( 6/91 ) .(1/75)
وعَنْ رُكَانَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّه صَارَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "(1) أبُو دَاوُد، والتِّرْمِذِيُّ .
* * *
وقَدْ عَدَّ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ ألْوَانَ الفُرُوْسِيَّةِ مِنْ أشْرَفِ العِبَادَاتِ، حِيْنَ قَالَ يَصِفُ كِتَابَه "الفُرُوْسِيَّةَ" : " وهَذَا مُخْتَصَرٌ فِي الفُرُوْسِيَّةِ الشَّرْعِيِّةِ النَّبَوِيَّةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أشْرَفِ عِبَادَاتِ القُلُوْبِ، والأبْدَانِ، الحَامِلَةِ لأهْلِهَا عَلَى عِزَّةِ الرَّحْمَنِ، السَّائِقَةِ لَهُم إلى أعْلَى غُرَفِ الجِنَانِ …"(2).
ومِنَ المَعْلُوْمِ بَدَاهَةً أنَّ الرَّمْيَ هُنَا يَتَطَوَّرُ مَفْهُومَهُ بِتَطَوُّرِ السِّلاحِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، " فَكُلَّمَا جَدَّ سِلاحٌ لَزِمَ التَّدْرِيْبُ عَلَيْه؛ لأنَّه هُوَ وَسِيْلَةُ التَّغَلُّبِ عَلَى العَدُوِّ، وإذَا لَمْ نَتَدَرَّبْ عَلَيْه؛ تَفَوَّقَ عَلَيْنا العَدُوُّ، وقَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ عَقْرِنا، وهَزِيْمَتِنا، ويَقَعُ المَحْظُورُ"(3).
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود ( 4078 )، والترمذي ( 1/329 )، قال ابنُ القَيِّمِ في "الفروسية" (34 )، بعد أن أوْرَدَ أحَدَ أسَانِيْدِ الحَدِيْثِ : هَذا إسْنَادٌ جَيِّدٌ، وحسنه الألباني في "إرواء الغليل" ( 5/329 ) .
(2) ـ "الفروسية" لابن القيم، ص ( 2 ) .
(3) ـ انظر "الترويح في المجتمع الإسلامي" لمحمد الوكيل، ص ( 95 ) .(1/76)
فالرِّمَايَةُ، وألْوَانُ الفُرُوْسِيَّةِ مُمَارَسَاتٌ وَاجِبَةٌ فِي حَقِّ القَادِرِيْنَ عَلَى الجِهَادِ مِنَ الرِّجَالِ، وهِيَ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ مُمَارَسَاتٌ تَرْوِيْحِيَّةٌ حَسَنَةٌ، تَدْفَعُ عَنِ النَّفْسِ الْهَمَّ، والغَمَّ، يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "الفُرُوسيَّةِ"(1) : " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّضَالِ – أيْ : الرِّمَايَةِ بالسِّهَامِ – إلاَّ أنَّه يَدْفَعُ الْهَمَّ، والغَمَّ عَنِ القَلْبِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي فَضْلِهِ، وقَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ أهْلُه، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " عَلَيْكُم بالجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى؛ فإنَّه بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، يُذْهِبُ اللهُ بِهِ الهَمَّ، والغَمَّ "(2)، وهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين . ويذهب غيظ قلوبهم"[التوبة14-15]".
وعَنْ أبِي أُمَامَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُوْلَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ تَعَالَى"(3) .
__________
(1) ـ "الفروسية" لابن القيم، ص ( 11 ) .
(2) ـ أخرجه أحمد ( 8/ 404 ) ، وهو حديث حَسَنٌ، انظر تخريجه تحت رقم ( 22719) مؤسسة الرسالة .
(3) ـ أخرجه أبو داود ( 2486 )، وهو حديثٌ حَسَنٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ (2172) .(1/77)
فالجِهَادُ – وهُوَ مِنْ الوَاجِبَاتِ عَلَى الأمَّةِ، وفِيْه مَا فِيْهِ مِنْ مُقَارَعَةِ الخُطُوْبِ، ومُقَارَبَةِ الأهْوَالِ – يُعَدُّ مُمَارَسَةً تَشْتَمِلُ عَلَى جَوَانِبَ تَرْوِيْحِيَّةٍ، تُزِيْلُ عَنِ النَّفْسِ الهَمَّ، والغَمَّ الَّذِي تَجِدُه فِي الحَيَاةِ اليَوْمِيَّةِ، بِمَا يَشْتَمِلُه مِنَ الارْتِحَالِ، والسَّيْرِ فِي الأرْضِ، والنَّيْلِ مِنَ العَدُوِّ، والظَّفَرِ بِهِ، حَيْثُ يَشْعُرُ المُسْلِمُ فِي نَفْسِه بالرَّاحَةِ، والأمْنِ، والطَّمَأنِيْنَةِ(1).
* * *
* أمَّا المُسَابَقَاتُ العِلْمِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَهَذا مِمَّا لا شَكَّ فِي حِلِّ المُسَابَقَةِ عَلَيْه فَقَدْ دَلَّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّتِها قِصَّةُ أبِي بَكْرٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَوْمَ رَاهَنَ أهْلَ مَكَّةَ عَلَى انْتِصَارِ الرُّوْمِ عَلَى فَارِسَ، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا، وغَيْرُها مِنَ الأدِلَّةِ .
أمَّا بَذْلُ العِوَضِ فِيْها، فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِيْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
القَوْلُ الأوَّلُ : المَنْعُ، وهُوَ مَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ، والمَالِكِيَّةِ(2).
القَوْلُ الثَّانِي : الجَوَازُ، وهُوَ مَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ، ووَجْهٌ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ، واخْتَارَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ، وابنُ القَيِّمِ، وابنُ إبْرَهِيْمَ آل الشَّيْخ(3).
__________
(1) ـ انظر "التربية الترويحية" لأحمد أبو سمك، ص ( 74 ) .
(2) ـ انظر "المغني" لابن قدامة (8/652)، و"كشاف القناع" للبهوتي (4/39)، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/703)، و"جواهر الإكليل" للأزهري (1/271)، و"مواهب الجليل" للحطاب (3/390) .
(3) ـ انظر "الفتاوى الهندية" (5/324)، و"حاشية ابن عابدين" (6/403)، و"الاختيارات الفقهية" للبعلي (233)، و"الفروسية" لابن القيم (156-157)، و"فتاوى ابن إبراهيم" (8/132) .(1/78)
يَقُوْلُ ابنُ القَيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ولَمَّا كَانَ الجِلادُ بالسَّيْفِ والسِّنَانِ، والجِدَالِ بالحُجَّةِ والبُرْهَانِ كالأخَوَيْنِ الشَّقِيْقَيْنِ، والقَرِيْنَيْنِ المُتَصَاحِبَيْنِ؛ كَانَتْ أحْكَامُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُما شَبِيْهَةً بأحْكَامِ الآخَرِ، ومُسْتَفَادَةً مِنْه .
فالإصَابَةُ فِي الرَّمِي والنِّضَالِ؛ كالإصَابَةِ فِي الحُجَّةِ والمَقَالِ، والطَّعْنُ والتَّبْطِيْلُ نَظِيْرُ إقَامَةِ الحُجَّةِ وإبْطَالِ حُجَّةِ الخَصْمِ، والدُّخُوْلُ والخُرُوْجُ نَظِيْرُ الإيْرَادِ والاحْتِرَازِ مِنْه، وجَوَابُ الخَصْمِ والقَرْنِ عِنْدَ دُخُوْلِه عَلَيْكَ، كَجَوَابِ الخَصْمِ عَمَّا يُوْرِدُه عَلَيْكَ .
فالفُرُوْسِيَّةُ فُرُوْسِيَّتَانِ : فُرُوْسِيَّةُ العِلْمِ والبَيَانِ، وفُرُوْسِيَّةُ الرَّمْي والطِّعَانِ .
ولَمَّا كَانَ أصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أكْمَلَ الخَلْقِ فِي الفُرُوْسِيَّتَيْنِ؛ فَتَحُوا القُلُوْبَ بالحُجَّةِ والبُرْهَانِ، والبِلادَ بالسَّيْفِ والسِّنَانِ .
ومَا النَّاسُ إلاَّ هَؤُلاءِ الفَرِيْقَانِ، ومَنْ عَدَاهُمَا؛ فإنْ لَمْ يَكُنْ رِدْءًا وعَوْنًا لَهُمَا، فَهُوَ كَلٌّ عَلَى نَوْعِ الإنْسَانِ"(1).
* * *
وانْطِلاقًا مِنْ هَذَا المَبْدَأ، فإنَّني أحُثُّ إخْوَانِي المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعًا عَلَى العِنَايِةِ باتِّبَاعِ السُّنَّةِ النَّبَوَيَّةِ فِي جَمِيْعِ الأمُوْرِ، ومِنْ ذَلِكَ النَّاحِيَةِ الجَسَدِيَّةِ تَمِشِّيًا مَعَ تَعَالِيْمِ الإسْلامِ، ليَكْمُلَ للمُؤْمِنِ الرُّوْحُ، والجَسَدُ.
وقَدْ وُجِدَتِ اليَوْمَ أسْبَابٌ، وظُرُوْفٌ تُحَتِّمُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ الاسْتِعْدَادَ لَها بإعْدِادِ القُوَّةِ بِجَمِيْعِ أصْنَافِها، وذَلِكَ يَتِمُّ باسْتِعْمَالِ مَجَالاتِ السَّبْقِ .
__________
(1) ـ "الفُرُوْسِيَّةُ" لابن القيم (156-157) .(1/79)
فالنَّاسُ اليَوْمَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ، وحَدِيْثِ حَرْبٍ، واسْتِعْدَادٍ لِحَرْبٍ، والعَالَمُ كُلُّه مَيَادِيْنُ قِتَالٍ، فَحَيْثُمَا الْتَفَتَّ وَجَدَتَ مَيْدَانًا، ووَجَدَتَ حُرُوْبًا؛ فَهُم فِي نِزَاعٍ مُسْتَمِرٍّ، وحَرْبٍ دَائِمَةٍ .
إنَّ إطْلاقَ الرَّمِي فِي الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُرْمَى بِهِ العَدُوُّ : مِنْ سَهْمٍ، أو رُصَاصَةٍ، أو قَذِيْفَةِ، أو طَيَّارَةٍ، أو بُنْدُقِيَّةٍ، أو مِدْفَعٍ، أو غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَشْمَلُهُ، والمُرَادُ مِنْهُ يَقْتَضِيْه، لا سِيَّمَا أنَّ اللَّفْظَ فِي الحَدِيْثِ عَامٌ .
أفَلا يَجْدُرُ بالمُسْلِمِ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَتَعَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الآلاتِ ليَسْتَخْدِمَها فِي حِيْنِها اسْتِخْدَامًا جَيِّدًا؟، ألاَ يَجْدُرُ بِهِ مُزَاحَمَةُ أولئكَ الكَفَرَةِ الَّذِيْنَ صَنَعُوْها، وهُمْ لا يَألُوْنَ جُهْدًا فِي هَدْمِ الإسْلامِ، ومَعَاقِلِه؟؛ بَلْ إنَّ الضَّرُوْرَةَ مُلِحَّةٌ، والحَاجَةَ دَاعِيَةٌ، والوَاجِبَ مُتَحَتِّمٌ، والغَرَضَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى تَعَلُّمِ تِلْكَ الآلاتِ لاسْتِخْدَامِها فِي حِيْنِها(1).
* * *
وإنَّه مِنْ أغْرَبِ مَا يَلْفِتُ الانْتِبَاه فِي السِّياسَةِ الرِّياضِيَّةِ للْعَرِبِ والمُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ إهْمَالُهُم لِرِيَاضَةِ الرِّمَايَةِ، وهِيَ رِيَاضَةُ الأجْدَادِ الَّتِي اهْتَمُوا بِها اهْتِمَامًا بَالِغًا إلى حَدِّ أنَّ الكَاتِبَ الأمْرِيْكِيَّ المُعَاصِرَ "رُوْبَرْتِ بُوْتَرِيلِمَرْ"(2)؛ وَضَعَ كِتَابًا بعُنْوَانِ : "الرِّمَايَةُ بالسِّهَامِ عِنْدَ العَرَبِ" فِي عَامِ ( 1364هـ ) .
__________
(1) ـ انظر "المسابقات" للشثري (36-37 ) .
(2) ـ نقلاً عَنْ مَجَلَة "هنا لندن" العدد ( 339 )، السنة الثامنة عشر، الصادرة بتاريخ ( يناير 1977م ) .(1/80)
والغَرِيْبُ أنَّ ظُلْمَ المُسْلِمِيْنَ الآنَ : القَوْسَ، والسَّهْمَ اللَّذَيْنِ اسْتَخْدَمَهُما الأجْدَادُ الأقْدَمُوْنَ فِي سِلْمِهِم، وحَرْبِهِم، لا تَحْتَاجُ هَذِه الرِّياضَةُ مِنْهُم أنْ يَكُوْنُوا عِنْدَ مُمَارَسَتِها عَلَى قَدْرٍ كَبِيْرٍ مِنَ القُوَّةِ البَدَنِيَّةِ، والعَضَلِيَّةِ، أو فِي سِنٍّ مُعَيَّنَةِ، أو تَكَلُّفِ أدَوَاتٍ باهِظَةِ الثَّمَنِ؛ كَمَا هُوَ شَأنُ أنْوَاعٍ أخْرَى مِنَ الرِّياضَاتِ .
والأغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أيْضًا؛ أنَّ المَلايِيْنَ الَّتِي يَرْصُدُها العَرَبُ فِي كُلِّ أنْحَاءِ العَالَمِ للاهْتِمَامِ بالرِّيَاضَةِ؛ فإنَّ الرِّمَايَةَ لَمْ تُدْرَجْ فِي أيِّ مَشْرُوْعٍ، فِي أيِّ بَلَدٍ عَرَبِيٍّ !، ولَمْ يَظْهَرْ أيُّ اهْتِمَامٍ بإحْيَاءِ رِيَاضَةِ الأجْدَادِ الأصْلِيَّةِ الأعْرَاقِ، والعَمِيْقَةِ الجُذُوْرِ فِي تَارِيْخِ المُجْتَمَعِ العَرَبِيِّ(1).
* * *
__________
(1) ـ انظر "قضايا اللهو والترفيه" لمادون بن رشيد ( 349 ) .(1/81)
عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيْدِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ : لَقِيَنِي أبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أنْتَ يا حَنْظَلَةُ ؟ قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ ! . قَالَ : سُبْحَانَ الله، مَا تَقُوْلُ ؟!، قُلْتُ : نَكُوْنُ عِنْدَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُذَكِّرُنا بالنَّارِ، والجَنَّةِ حَتَّى كَأنَّهُ رَأيَ عَيْنٍ، فإذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُوِلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَافَسْنَا ( لاعَبْنَا ) الأزْوَاجَ، والأوْلادَ، والضَّيْعَاتِ؛ فَنَسِيْنَا كَثِيْرًا . قَالَ : أبُو بَكْرٍ : فواللهِ إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا . قَالَ حَنْظَلَةُ : فانْطَلَقْتُ أنَا وأبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنا عَلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قُلْتُ : نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُوْلَ اللهِ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "ومَا ذَاكَ ؟"، قُلْتُ : يَا رَسُوْلَ اللهِ، نَكُوْنُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ، والجَنَّةِ حَتَّى كأنَّها رَأيَ عَيْنٍ، فإذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكِ عَافَسْنَا الأزْوَاجَ، والأوْلادَ، والضَّيْعَاتِ، ونَسِيْنَا كَثِيْرًا .قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّكُم لَوْ تَدُوْمُوْنَ عَلَى مَا تَكُوْنُوْنَ عِنْدِي، وفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ المَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُم، وفِي طُرُقِكُم، ولَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً، وسَاعَةً "، وكَرَّرَ هَذِه الكَلِمَةَ ( سَاعَةً وسَاعَةً ) ثَلاثَ مَرَّاتِ "(1) مُسْلِمٌ .
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (17/103)، مع شرح النووي .(1/82)
فَلا بَأسَ بِشَيْءٍ مِنَ اللَّهْوِ المُبَاحِ لِتَّرْوِيْحِ عَنِ النَّفْسِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : يَمْزَحُ، ولا يَقُوْلُ إلاَّ حَقًّا، ويأْمُرُ الرَّكْبَ أنْ يَنْطَلِقَ؛ ثُمَّ يُسَابِقُ عَائِشَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُا ـ، ويَقُوْلُ : " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ، وأنَا خَيْرُكُم لأهْلِهِ "(1)،. وصَحَّ عَنْه أيْضًا أنَّه قَالَ : " إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِيْ حَقٍّ حَقَّهُ"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هاشًّا بَاشًّا ضَحَّاكًا بَسَّامًا، وكَانَ يَسْتَعِيْذُ باللهِ مِنَ الهَمِّ، والحُزْنِ، وكَذَلِكَ كَانَ أصْحَابُه ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُم ـ يَمْزَحُوْنَ، ويَضْحَكُوْنَ، ويَلْعَبُوْنَ، ويَتَنَدَّرُوْنَ، وكَانَ عَلِيُّ بنُ أبي طَالِبٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَقُوْلُ : " إنَّ القُلُوْبَ تَمَلُّ؛ كَمَا تَمَلُّ الأبْدَانُ، لَهَا طَرَائِفُ الحِكْمَةُ "(3)، وقَالَ أيْضًا : " رَوِّحُوا القُلُوْبَ سَاعَةً، بَعْدَ سَاعَةٍ، فإنَّ القَلْبَ إذَا أكْرِهَ عَمِيَ "(4).
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي ( 3895 )، وهو صحيح، انظر "صحيح الترمذي" للألباني (3057) .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 5199 )، ومسلم ( 1159 ) .
(3) ـ انظر "الجامع لأخلاق الراوي" للخطيب (2/129)، و"أدب الإملاء والاستملاء" لابن السمعاني (1/68) .
(4) ـ انظر "مسند الشهاب" ( 3181 ) .(1/83)
وقَالَ أبُو الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : إنِّي لاسْتَجِمُّ نَفْسِي بالشَّيْءِ مِنَ البَاطِلِ ( اللَّهْوِ المُبَاحِ ) لِيَكُوْنَ أعْوَنَ لَهَا عَلَى الحَقِّ "، كُلُّ ذَلِكَ لا حَرَجَ فِيْه، ولَكِنَّ الحَرَجَ فِي أنْ تُصْبِحَ حَيَاةُ الإنْسَانِ لَهْوًا، ولَعِبًا، أو أنْ يَنْشَغِلَ بِذَلِكَ عَنِ الوَاجِبَاتِ، أو أنْ يَهْزَلَ فِي مَوْضِعِ الجِدِّ، أو أنْ يَتَلَهَّى بالمَعَاصِي، والمُحَرَّمَاتِ، أو أنْ يَعِيْشَ بِقَانُوْنِ الجَاهِلِيَّةِ الأوْلِى، ويَقُوْلُ : اليَوْمَ خَمْرٌ، وغَدًا أمْرٌ، أو سَاعَةً لِرَبِّكَ، وسَاعَةً لَقَلْبِكَ، والسَّاعَةُ الَّتِي هِيَ لِقَلْبِهِ يُطِيْعُ فِيْها كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيْدٍ !
* * *
يَقُوْلُ الشَّيْخُ أبُو بَكْرٍ الجَزَائِرِيُّ : إنَّ الغَرَضَ مِنْ جَمِيْعِ هَذِه الرِّيَاضَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُعْرَفُ فِي صَدْرِ الإسْلامِ بالفُرُوْسِيَّةِ : هُوَ الاسْتِعَانَةُ بِها عَلَى إحْقَاقِ الحَقِّ، ونُصْرَتِه، والدِّفَاعِ عَنْه، ولَمْ يَكُنْ مِنْها الحُصُوْلُ عَلَى المَالِ وجَمْعِهِ، ولا الشُّهْرَةِ، وحُبِّ الظُّهُوْرِ، ولا مَا يُسْتَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ العُلُوِّ فِي الأرْضِ، والفَسَادِ فَيْها، كَمَا هِيَ أكْثَرُ حَالِ الرِّياضِيِّيْنَ اليَوْمَ .
إنَّ المَقْصُوْدَ مِنْ كُلِّ الرِّياضَاتِ عَلَى اخْتِلافِها : هُوَ التَّقَوِّي، وإكْسَابُ القُدْرَةِ عَلَى الجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللهِ تِعَالِى، وعَلَى هَذَا يَجِبُ أنْ تُفْهَمَ الرِّيَاضَةُ فِي الإسْلامِ، ومَنْ فَهِمَها عَلَى غَيْرِ هَذَا النَّحْوِ فَقَدْ أخْرَجَها عَنْ مَقْصَدِها الحَسَنِ إلى قَصْدٍ سِيءٍ مِنَ اللَّهْوِ البَاطِلِ، والقُمَارِ الحَرَامِ .(1/84)
والأصْلُ فِي مَشْرُوْعِيَّةِ الرِّيَاضَةِ قَوْلُه تَعَالَى : " وأعِدُّوا لَهْم ما استطعتم مِنْ قُوَّةِ"[الأنفال60]، وقَوْلُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :" المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ، وأحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيْفِ"، والقُوَّةُ فِي الإسْلامِ تَشْمَلُ : السَّيْفَ، والسِّنَانَ، والحُجَّةَ، والبُرْهَانَ(1).
* * *
الفَصْلُ الرَّابِعُ
أقْسَامُ الألْعَابِ، وحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ
وبَعْدَ ذِكْرِنا لِمَشْرُوعِيَّةِ الرِّياضَةِ فِي الإسْلامِ؛ فعَوْدٌ عَلَى بَدْءٍ نَذْكُرُ أقْسَامَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْها الشَّرِيعَةُ الإسْلامِيَّةُ نَفْيًا، وإثْبَاتًا .
لا شَكَّ أنَّ للألْعَابِ الرِّياضَةِ مَجَالاتٍ، وأحْكَامًا باعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، ومُتَنَوِّعَةٍ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ لَنَا أنْ نَقِفَ مَعَ هَذِه الأقْسَامِ باعْتِبارِ الحِلِّ، والحُرْمَةِ حَسْبُ؛ مُرَاعاةً لِشَرْطِ الاخْتِصَارِ، ومَنْ أرَادَ زِيَادَةَ تَفْصيلاتٍ، وتَقْسِيماتٍ فَدُونَه الكُتُبُ الفِقْهيَّةُ المَبْسُوطَةُ؛ فَفِيْها مَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِه هُنا، عِلْمًا أنَّ تَقْسِيمَنا للألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ هُنَا هُوَ مَادَّةُ كِتَابِنَا، وعُمْدَةُ عُنْوَانِنا .
* * *
__________
(1) ـ "مِنْهَاجُ المُسْلِمِ" للشيخ أبو بكر الجزائري ( 459 ) .(1/85)
لَقَدْ تَنَوَّعَتِ الألْعَابُ الرِّياضِيَّةُ، وتَغَايَرَتْ بِحَسَبِ أحْكَامِها، وغَاياتِها، وأوْصَافِها وذَلِكَ بِدَافِعِ طَبِيعَةِ الإنْسَانِ الَّذي لَمْ يَبْرَحْ يَتَفَنَّنْ فِي ابْتِدَاعِ أنْوَاعٍ رِياضِيَّةٍ بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ؛ فَكَانَ مِنْها المَشْرُوعُ والمَمْنُوعُ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْه الشَّرِيعَةُ الإسْلامِيَّةُ لفْظًا ومَعْنًى، ومِنْ ثَمَّ كانَتِ الألْعَابُ الرِّياضِيَّةُ فِي جُمْلَتِها لا تَخْرُجُ عَنْ ثَلاثَةِ أقْسَامٍ : ( ألْعَابٌ مَشْرُوْعَةٌ، وألْعَابٌ مَمْنُوْعَةٌ، وألْعَابٌ مَسْكُوْتٌ عَنْها )، وتَفْصِيْلُ القَوْلِ فِيْها كَمَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
القِسْمُ الأوَّلُ : ألْعَابٌ مَشْرُوعةٌ، وهَي نَوْعَانِ :
النَّوعُ الأوَّلُ : ألْعَابٌ قَدْ نَصَّتْ عَلَيْها الشَّرِيعَةُ؛ كالرِّمَايةِ، والسِّبَاقِ، والمُصَارَعَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَشْرُوعٌ؛ عِلْمًا أنَّ بَعْضَ هَذِه الألْعَابِ يَصِلُ إلى الوُجُوبِ؛ لاسِيِّمَا إذَا تَوَقَّفَ عَلَيْها فَرْضُ الجِهَادِ، " ومَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ".
فعن أبي هُريرةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قالَ : قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا سَبَقَ إلاَّ فِي نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافِرٍ"(1) أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 2/474 )، وأبو داود ( 2574 )، والترمذي ( 1700 )، وهو حديثٌ صحيحٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني (2244 ) .(1/86)
قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بَعْدَ أنْ قَسَّمَ الألْعَابَ إلى ثَلاثَةِ أنْوَاعٍ : " القِسْمُ الثَّانِي : عَكْسُ هَذَا ( أيْ : اللِّعْبَ المَمْنُوْعَ )، وهُوَ مَا فِيْهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ، وهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَا يُحِبُّ اللهُ ورَسُوْلُه، مُعِيْنٌ عَلَيْه، ومُفْضٍ إلَيِه، فَهَذَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِه، وشَرَعَ لَهُم الأسْبَابَ الَّتِي تُعِيْنُ عَلَيْه، وتُرْشِدُ إلَيْه، وهُوَ : كَالمُسَابَقَةِ عَلَى الخَيْلِ، والإبِلِ، والنِّضَالِ، الَّتِي تَتَضَمَّنُ الاشْتِغَالَ بأسْبَابِ الجِهَادِ، وتَعَلُّمَ الفُرُوْسِيَّةِ، والاسْتِعْدَادَ لِلِقَاءِ أعْدَاءه، وإعْلاءَ كَلِمَتِه، ونَصْرَ دِيْنِه، وكِتَابِه، ورَسُوْلِه، فَهَذِه المُغَالَبَةُ تُطْلَبُ مِنْ جِهَةِ العَمَلِ، ومِنْ جِهَةِ أكْلِ المَالِ لِهَذَا العَمَلِ الَّذِي يُحِبُّه اللهُ تَعَالَى ورَسُوْلُه، ومِنَ الجِهَتَيْنِ مَعًا . وهَذَا القِسْمُ جَوَّزَهُ الشَّارِعُ بالبُرْهَانِ تَحْرِيْضًا للنُّفُوْسِ عَلَيْه، فإنَّ النَّفْسَ يَسِيْرُ لَهَا دَاعِيَانِ : دَاعِي الغَلَبَةِ، ودَاعِي الكَسْبِ، فَتَقْوَى رَغْبَتُها فِي العَمَلِ المَحْبُوْبِ للهِ تَعَالَى ورَسُوْلِه، فَعُلِمَ أنَّ أكْلَ المَالَ بِهَذَا النَّوْعِ أكْلٌ لَهُ بِحَقٍّ، لا بِبَاطِلٍ"(1).
__________
(1) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 171 )، و ( 301 - وما بعدها ) .(1/87)
النَّوعُ الثَّاني : ألْعَابٌ لَمْ تَنُصْ عَلَيْها الشَّرِيعَةُ؛ إلاَّ أنَّها مِمَّا يُسْتَعَانُ بِها فِي الجِهَادِ، وهَذَا النَّوْعُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِ النَّوْعِ الأوَّلِ مِنْ بَابِ القِيَاسِ، ورُبَّمَا كان أوْلَى لا سِيَّما إذَا تَطَوَّرَتْ آلاتُ الجِهَادِ كَمَا هُوَ الآنَ : مِنْ دَبَّابَاتٍ، وطَيَّارَاتٍ، وصَوَارِيخَ، وبَنَادِقَ، وألْغَامٍ، وغَيْرِها مِمَّا أصْبَحَتْ عُدَّةً حَرْبِيَّةً عَصْرِيَّةً، لا يَجُوْزُ مُجَاوَزَتُها، أو حَتَّى تَجَاهُلُها بِحَالٍ !
وهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْه أهْلُ العِلْمِ، يَقُوْلُ ابنُ قُدَامَةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " والمُسَابَقَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُسَابَقَةٌ بِعِوَضٍ، ومُسَابَقَةٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ : فأمَّا المُسَابَقَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَتَجُوْزُ مُطْلقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيْدٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ : كالمُسَابَقَةِ عَلَى الأقْدَامِ، والسُّفُنِ، والطُّيُوْرِ، والبِغَالِ، والحَمِيْرِ، والفِيَلَةِ، والمَزَارِيْقِ، والمُصَارَعَةِ، ورَفْعِ الحَجَرِ لِيُعْرَفَ الأشَدُّ، وغَيْرِ هَذَا"(1).
والشَّاهِدُ مِنْ قَوْلِه هُو : " وغَيْرُ هَذَا "، مَعَ أنَّه أرَادَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ المُسَابَقَاتِ المِثَالَ لا الحَصْرَ، وهَذَا وَاضِحٌ مِنْ كَلامِهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ .
فَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ، وبَعْضُ الحَنَابِلَةُ القَائِلُوْنَ بِجَوَازِ المُسَابَقَةِ بِعِوَضٍ فِي كُلِّ مَا هُوَ نَافِعٌ فِي الحَرْبِ، بالآتِي :
أوَّلاً : الكِتَابُ، قَالَ تَعَالَى : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" [الأنفال60] .
__________
(1) ـ "المغني" لابن قدامة ( 8/652 ) .(1/88)
وَجْهُ الدَّلالَةِ : أنَّ هَذِه المُعِدَّاتِ الحَدِيْثَةَ الآنَ هِيَ وَسَائِلُ الجِهَادِ، وفِي المُسَابَقَةِ عَلَيْها بِعِوَضٍ تَقْوِيَةٌ للجُنُوْدِ، وتَزْوِيْدُهُم بالخِبْرَةِ الكَافِيَةِ الَّتِي يَسْتَطِيْعُوْنَ بِها مُحَارَبَةُ العَدُوِّ وقَهْرِهِ، وهَذَا دَاخِلٌ فِيْمَا أمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ إعْدَادِ العُدَّةِ، والقُوَّةِ، ولِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ رَدًّا عَلَى مَنْ قَصَرَ السِّبَاقَ بِجُعْلٍ عَلَى الخَيْلِ، والإبِلِ، والنَّصْلِ مَا نَصُّه : " وهَذَا – يَعْنِي بِهِ مَا عَدَا الثَّلاثَةِ المَذْكُوْرَةِ فِي الحَدِيْثِ مِنَ الخَيْلِ، والإبِلِ، والسِّهَامِ – دَاخِلٌ فِي مَعْنَى مَا نَدَبَ اللهُ إلَيْه، وحَمِدَ عَلَيْه أهْلَ دِيْنِهِ مِنْ إعْدَادِ العُدَّةِ، والقُوَّةِ، ورِبَاطِ الخَيْلِ"(1).
إنَّ الفُقَهاءَ قَالُوا : إنَّ المُسَابَقَةَ قَدْ تَجِبُ إذَا تَعَيَّنَتْ طَرِيْقًا للجِهَادِ، وكَانَتْ سَبَبًا للتَّفَوُّقِ عَلَى العَدُوِّ، ولا شَكَّ أنَّ المُسَابَقَةَ بِعِوَضٍ عَلَى تِلْكَ المُعِدَّاتِ الحَرْبِيَّةِ الحَدِيْثَةِ تُكْسِبُ الجُنْدِيَّ تَفَوُّقًا، ومَهَارَةً، وخِبْرَةً، وجَدَارَةً، فَهِي إنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً؛ فَلا أقَلَّ مِنْ أنْ تَكُوْنَ جَائِزَةً، عِلْمًا بأنَّ القُرْآنَ حَثَّ عَلَى إعْدَادِ العُدَّةِ، ومِنَ الوَسَائِلِ النَّافِعَةِ للاسْتِعْدَادِ للحَرْبِ التَّشْجِيْعُ عَلَيْه بالعِوَضِ، ولِذَا قَالَ صَاحِبَ "الإنْصَافِ" : "فالمُغَالَبَةُ الجَائِزَةُ تَحِلُّ بالعِوَضِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُعِيْنُ عَلَى الدِّيْنِ، كَمَا فِي مُرَاهَنَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ رضِيَ اللهُ عَنْهُ"(2).
__________
(1) ـ "الأم" للشافعي ( 4/23 ) .
(2) ـ "الإنصاف" للمرادي ( 6/91 ) .(1/89)
إنَّ جَوَازَ السِّبَاقِ بِجُعْلٍ عَلَى الخَيْلِ، والإبْلِ، والسِّهَامِ مَعْقُوْلُ المَعْنَى، ومُعَلَّلٌ بِعِلَّةِ إعْدَادِ الجُنْدِيِّ المُسْلِمِ، وتَعْليِمِه أسْالِيْبَ الجِهَادِ، وتَزْوِيْدِه بالخِبْرَةِ الكَافِيَةِ فِي فُنُونِ القِتَالِ نِكَايَةً فِي العَدُوِّ، وقَدْ وُجِدَتْ هَذِه العِلَّةُ السَّابِقَةُ عَلَى الآلاتِ الحَدِيْثَة؛ فَتَأخُذُ حُكْمَ الأصْلِ هَذَا(1) .
* * *
القِسْمُ الثَّانِي : ألْعَابٌ مَمْنُوعَةٌ، وهِيَ ثَلاثَةُ أنْوَاعٍ :
النَّوْعُ الأوَّلُ : ألْعَابٌ نَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الإسْلامِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِها : كالْمَيْسِرِ، والنَّرْدِ ( الطَّاوِلَةِ )، والشِّطْرَنْجِ عِنْدَ جَمْهُورِ أهْلِ العِلْمِ، والقِمَارِ، والتَّحْرِيشِ بَيْنَ الحَيْوَاناتٍ، وغَيْرِ مَا هُنا مِمَّا حَرَّمَتْهُ الشَّرِيْعَةُ(2) .
قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فإنَّ المُغَالَبَاتِ فِي الشَّرْعِ تَنْقَسِمُ ثَلاثَةُ أقْسَامٍ :
__________
(1) ـ انظر "الميسر" لرمضان حافظ ( 146 ) .
(2) ـ فَقَدْ أعْرَضْنا عَنْ ذِكْرِ أدِلَّةِ تَحْرِيْمِ هَذِه الألْعَابِ، رَجَاءَ الاخْتِصَارِ، ومَنْ أرَادَ زِيادَةَ تَفْصِيلٍ فَعَلَيْه بالمُطَوَّلاتِ مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ .(1/90)
أحَدُها : مَا فِيْه مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَنْفَعَتِه : كالنَّرْدِ، والشِّطْرَنْجِ؛ فَهَذَا يُحَرِّمُه الشَّارِعُ، ولا يُبِيْحُه، إذْ مَفْسَدَتُه رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَتِه، وهِيَ مِنْ جِنْسِ مَفْسَدَةِ السُّكْرِ، ولِهَذَا قَرَنَ اللهُ سُبْحَانَه وتَعَالَى بَيْنَ الخَمْرِ، والقُمَارِ فِي الحُكْمِ، وجَعَلَهُما قَرِيْنَيْ الأنْصَابِ، والأزْلامِ، وأخْبَرَ أنَّها كُلُّهَا رِجْسٌ، وأنَّها مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وأمَرَ باجْتِنَابِها، وعَلَّقَ الفَلاحَ باجْتِنَابِها، وأخْبَرَ أنَّها تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، وتَهَدَّدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْها، ومَعْلُومٌ أنَّ شَارِبَ الخَمْرِ إذَا سَكِرَ؛ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَصُدُّه عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، ويُوْقِعُ العَدَاوَةَ، والبَغْضَاءَ بِسَبَبِه .
وكَذَلِكَ المُغَالَبَاتُ الَّتِي تُلْهِي بِلا مَنْفَعَةٍ؛ كالنَّرْدِ، والشِّطْرَنْجِ، وأمْثَالِهِما، مِمَّا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ؛ لِشِدَّةِ الْتِهَاءِ النَّفْسِ بِها، واشْتِغَالِ القَلْبِ فِيْها أبَدًا بالْفِكْرِ .(1/91)
ومِنْ هَذَا الوَجْهِ؛ فالشِّطْرَنْجُ أشَدُّ شُغْلاً للْقَلْبِ، وصَدًّا عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، ولِهَذَا جَعَلَهُ بَعْضُ العُلَمَاءِ أشَدَّ تَحْرِيْمًا مِنَ النَّرْدِ، وجَعَلَ النَّصَّ عَلَى أنَّ اللاعِبَ بالنَّرْدِ عَاصٍ للهِ ورَسُوْلِه؛ تَنْبِيْهًا بِطَرِيْقِ الأوْلَى عَلَى أنَّ اللاعِبَ بالشِّطْرَنْجِ أشَدُّ مَعْصِيَةً، إذْ لا يُحَرِّمُ اللهُ، ورَسُوْلُه فِعْلاً مُشْتَمِلاً عَلَى مَفْسَدَةٍ؛ ثُمَّ يُبِيْحُ فِعْلاً مُشْتَمِلاً عَلَى مَفْسَدَةٍ أكْبَرَ مِنْ تِلْكِ، والحِسُّ والوُجُوْدُ شَاهِدٌ بأنَّ مَفْسَدَةَ الشِّطْرَنْجِ، وشُغْلَها للقَلْبِ، وصَدَّها عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ أعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ النَّرْدِ، وهِيَ تُوْقِعُ العَدَاوَةَ، والبَغْضَاءَ؛ لِمَا فِيْها مِنْ قَصْدِ كُلٍّ مِنَ المُتَلاعِبِيْنَ قَهْرُ الآخَرَ، وأكْلُ مَالَه، وهَذَا مِنْ أعْظَمِ مَا يُوْقِعُ العَدَاوَةَ، والبَغْضَاءَ، فَحَرَّمَ اللهُ سُبْحَانَه هَذَا النَّوْعَ؛ لاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُبْغِضُه، ومَنْعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ"(1).
النَّوْعُ الثَّاني : ألْعَابٌ لَمْ تَنُصْ الشَّرِيعَةُ الإسْلامِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِها؛ بَلْ حَرَّمَتْها لاقْتِرَانِها بِمَحْظُوْرٍ شَرْعيٍّ خَارِجٍ عَنْ أصْلِها، كَمَا لَوْ اقْتَرَنَ بِها : إضْرَارٌ، أو سَبٌّ، أو عَدَاوَةٌ، أو صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، أو اشْتِغَالٌ عَمَّا هُوَ أوْلَى أو أفْضَلُ … وغَيْرُه، ومِثَالُه : كُلُّ لُعْبةٍ مَشْرُوعَةٍ، أو مُبَاحَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَحْظُورٍ شَرْعيٍّ : كالإضْرَارِ بالآخَرِيْنَ، أو إغْرَاءِ العَدَاوَةِ بِيْنَ اللاعِبِيْنَ، أو صَدِّها عَنِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، ونَحْوِ ذَلِكَ .
__________
(1) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 169-170 )، و ( 301 - وما بعدها ) .(1/92)
وقَدْ قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " إنَّ العُلُوْمَ المَفْضُوْلَةَ إذَا زَاحَمَتِ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ، وأضْعَفَتْها؛ فإنَّهَا تَحْرُمُ"(1) .
فإذَا كَانَ الأمْرُ هَكَذَا فِي العُلُوْمِ المَفْضُوْلَةِ مَعَ العُلُوْمِ الفَاضِلَةِ، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَوْمَ زَاحَمَتْ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ، وأضْعَفَتْها؛ بَلْهَ العُلُوْمَ الشَّرْعِيَّةَ؛ كَمَا هُوَ وَاقِعُ شَبَابِنَا هَذِه الأيَّامَ، فِي حِيْنَ أنَّ لِعْبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) لَيْسَ عِلْمًا؛ إنَّما هُوَ لَهْوٌ، وسَفَهٌ مَعًا !
وقَدْ أجْرَتْ مَجَلَّةُ "الأسْرَةِ" فِي عَدَدِها (83)، اسْتِبَانَةً عَلَى ( ألْفِ ) شَابٍ، وشابَّةٍ، مِنْ طُلابِ الجَامِعَاتِ فِي الرِّياضِ، والدَّمَامِ، وجُدَّةَ، فَكَانَتِ النَّتِيْجَةُ كَمَا يَلِي : فَقَدْ بَلَغَتْ نِسْبَةُ الثَّقَافَةِ عِنْدَهُم فِي الرِّياضَةِ (87%)، وفِي الفَنِّ (88%)، أمَّا فِي الثَّقَافَةِ الإسْلامِيَّةِ فَبَلَغَتْ للأسَفِ (58%)، هَذَا إذا عَلِمْنا أنَّهُم مِنْ طُلابِ الجَامِعَةِ، أمَّا مَنْ هُوَ دُوْنَهم فَحَدِّثْ ولا حَرَجَ !، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه إذَا كَانَتِ الاسْتِبَانَةُ فِي غَيْرِ بِلادِ الحَرَمَيْنِ ؟ لرَأيْتَ عَجَبًا عُجَابًا !
النَّوْعُ الثَّالثُ : ألْعَابٌ لَيْسَ فِيْها إعْمَالٌ للْعَقْلِ، والتَّفْكِيْرِ؛ بَلْ قَائِمَةٌ عَلَى التَّخْمِيْنِ، والحَظِّ (المُصَادَفَة)، فهَذِه ألْعَابٌ مُحَرَّمةٌ، كَمَا ذَكَرَهُ أهْلُ العِلْمِ .
__________
(1) ـ "الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ" (15/216) .(1/93)
قَالَ الكَمَالُ بنُ الهُمَامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ مُسْتَدِلاً بالحَدِيْثِ : " مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ، ورَسُوْلَه"، ثُمَّ قَالَ : " ولِعْبُ الطَّابِ فِي بِلادِنا مِثْلُه ـ أيْ مِثْلُ النَّرْدِ ـ يُرْمَى، ويُطْرَحُ بِلا حِسَابٍ، وإعْمَالِ فِكْرٍ، ثُمَّ قَالَ : ـ مُبَيِّنًا القَاعِدَةَ فِي هَذَا ـ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِمَّا أحْدَثَهُ الشَّيْطَانُ، وعَمِلَهُ أهْلُ الغَفْلَة : فَهُوَ حَرَامٌ سَواءً قُوْمِرَ بِهِ، أم لا"(1).
ونَقَلَ صَاحِبُ "نِهَايَةِ المُحْتَاجِ" مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ الرَّافِعِيِّ، فَقَالَ : " قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَكُلُّ مَا اعْتَمَدَ الحِسَابَ، والفِكْرَ : كنَقْلَةِ حَفْرٍ، أو خُطُوْطٍ يُنْقَلُ مِنْها، وإلَيْها حَصًى بالحِسَابِ لا يُحْرَمُ، وكُلُّ مَا يُعْتَمَدُ عَلَى التَّخْمِيْنِ يُحْرَمُ"(2).
ومِنْ خِلالِ مَا ذَكْرَنَاهُ هُنَا : تَبَيَّنَ لَنَا مِمَّا سَبَقَ أنَّ القَاعِدَةَ العَامَّةَ المُتَّفَقَ عَلَى حُرْمَتِهِ مِنْ لِعْبِ المَيْسِرِ مَجَّانًا هِيَ : " كُلُّ لِعْبٍ يُعْتَمَدُ فِيْه عَلَى الحَظِّ، والتَّخْمِيْنِ مِنْ غَيْرِ إعْمَالِ فِكُرْ، أو حِسَابٍ"، ويَتَفَرَّعُ عَلَى تِلْكَ القَاعِدَةِ كَثِيْرٌ مِنَ الألْعَابِ الدَّارِجَةِ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ هَذِهِ الأيَّامَ .
* * *
القِسْمُ الثَّالِثُ : ألْعَابٌ سَكَتَتْ عَنْهَا الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ مَنْعًا وإثْبَاتًا، وهُوَ القِسْمُ المُبَاحُ مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ .
__________
(1) ـ "شرح فتح القدير" للكمال ابن الهمام ( 6/413 ) .
(2) ـ "نهاية المحتاج" ( 8/280 ) .(1/94)
وهَذَا القِسْمُ قَدْ جَرَى فِيْهِ خِلافٌ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ ما بَيْنَ مُبِيْحٍ ومَانِعٍ، اعْتِمَادًا مِنْهُم عَلَى ظَاهِرِ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا سَيَأتِي فِي الفَصْلِ الآتِي إنْ شَاءَ اللهُ .
قَالَ ابنُ القَيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ : وهُوَ مَا لَيْسَ فِيْهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ، ولا هُوَ أيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمَصْلَحَةٍ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِها، ورَسُوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَهَذَا لا يُحْرَمُ، ولا يُؤْمَرُ بِهِ : كالصِّرَاعِ، والعَدْوِ، والسِّبَاحَةِ، وشَيْلِ الأثْقَالِ … ونَحْوِهَا .
فَهَذَا القِسْمُ رَخَّصَ فِيْه الشَّارِعُ بِلا عِوَضٍ، إذْ لَيْسَ فِيْه مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ، ولِلنُّفُوْسِ فِيْه اسْتِرَاحَةٌ، وإجْمَامٌ، وقَدْ يَكُوْنُ مَعَ القَصْدِ الحَسَنِ عَمَلاً صَالِحًا؛ كسَائِرِ المُبَاحَاتِ الَّتِي تَصِيْرُ بالنِّيَّةِ طَاعَاتٍ، فاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ التَّرْخِيْصَ فِيْه؛ لِمَا يِحْصُلُ فِيْه مِنْ إجْمَامِ النَّفْسِ، ورَاحَتِها، واقْتَضَتْ تَحْرِيْمَ العِوَضِ فِيْه، إذْ لَوْ إبَاحَتْهُ بِعِوَضٍ؛ لاتَّخَذَتْه النُّفُوْسُ صِنَاعَةً، ومَكْسَبًا، فالْتَهَتْ بِهِ عَنْ كَثِيْرٍ مِنْ مَصَالِحِ دِيْنِها، ودُنْيَاهَا، فأمَّا إذَا كَانَ لَعِبًا مَحْضًا، ولا مَكْسَبَ فِيْه؛ فإنَّ النَّفْسَ لا تُؤْثِرُه عَلَى مَصَالِحِ دُنْيَاهَا ودِيْنِها، ولا تُؤْثِرُه عَلَيْها إلاَّ النُّفُوْسُ الَّتِي خُلِقَتْ للبَطَالَةِ !"(1).
* * *
__________
(1) ـ "الفروسية" لابن القيم (172)، و ( 301 - وما بعدها ) .(1/95)
فإذَا عُلِمَ أنَّ هُنَالِكَ مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ مَا هُوَ مُبَاحٌ؛ إلاَّ أنَّه لَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أنْ يُكْثِرَ مِنَ اللَّهْوِ، والعَبَثِ، والتَّسْلِيَةِ؛ حَتَّى لا يَخْرُجَ هَذَا اللَّهْوِ عَنِ الهَدَفِ الَّذِي شُرِعَ مِنْ أجْلِه .
وإذَا كَانَ مِنْ مَنْهَجِ الإسْلامِ مَنْعُ الإفْرَاطِ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ فِي الصَّوْمِ، والصَّلاةِ، وغَيْرِهِما مِنَ العِبَادَاتِ … وهَذا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيْثِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأحَدِ الصَّحَابَةِ؛ حِيْنَ قَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"(1)، ولِذَا لا غَرَابَةَ أنْ يَمْنَعَ الإسْلامُ الإفْرَاطَ فِيْمَا دُوْنَ ذَلِكَ مَنْزِلَةً، ومَثُوْبَةً(2).
* * *
الفَصْلُ الخَامِسُ
حُكْمُ الألْعَابِ المُبَاحَةِ
لَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِي الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَدُلْ الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ عَلَى مَنْعِها، أو ثَبُوْتِها، عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 5199 )، واللفظ له، ومسلم ( 1159 ) .
(2) ـ "التربية رؤية إسلامية" للخالد العودة ( 66 ) .(1/96)
* القَوْلُ الأوَّلُ : أنَّ الأصْلَ فِي الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ هُوَ التَّحْرِيمُ؛ إلاَّ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ، لقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ شَيءٍ يَلْهُو بِهِ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ، إلاَّ ثَلاثًا : رَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وتأدِيبَه فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتَهُ أهْلَهُ، فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ "(1) أحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ، وغَيْرُهما، ولِلْحَدِيثِ ألْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ.
ولِقْوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ شَيءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَغْوٌ ولَهْوٌ، أو سَهْوٌ؛ إلاَّ أرْبَعَ خِصَالٍ : مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الغَرَضَيْنِ، وتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتُهُ أهْلَهُ، وتَعَلُّمُ السِّبَاحَةِ" النَّسَائِيُّ، والطَّبَرَانِيُّ(2).
وَجْهُ الدَّلالَةِ مِنَ الحَدِيْثَيْنِ، وغَيْرِهِما : أنَّ وَصْفَ اللِّعْبِ بالبَاطِلِ، والضَّلالِ يَدُلانِ عَلَى حُرْمَةِ اللِّعْبِ مُطْلقًا سَوَاءٌ كَانَ بِمَالٍ، أو لا، وبِهَذَا قاَلَ كُلٌّ مِنْ : الحَنَفِيَّةِ، والقَرَافِيِّ مِنَ المَالِكِيَّةِ، والخَطَّابِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، والبَغَوِيِّ، وغَيْرِهِم(3).
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (17300،17337)، ويشهد له ما قبله، انظر "السلسة الصحيحة" (315)، و"صحيح الترغيب" (1282) للألباني .
(2) ـ أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (8891)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/89)، و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي (295)، وهو حديثٌ حسنٌ، وقد صحَّحه الألباني في"الصحيحة" (315)، و"صحيح الترغيب" (1282) .
(3) ـ انظر "بدائع الصنائع" للكاساني (6/206)، و"تبيين الحقائق" للزيلعي (465)، و"حاشية ابن عابدين" (9/651 )، و"الذخيرة" للقرافي (3/466)، و"شرح السنة" للبغوي (6/270)، و"معالم السنة" للخطابي (2/242) .(1/97)
قَالَ الكَمَالُ بنُ الهُمَامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ولِعْبُ الطَّابِ فِي بِلادِنا مِثْلُه ـ أيْ مِثْلُ النَّرْدِ ـ، ثُمَّ قَالَ : ـ مُبَيِّنًا الحُكْمَ فِي هَذَا ـ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِمَّا أحْدَثَهُ الشَّيْطَانُ، وعَمِلَهُ أهْلُ الغَفْلَة : فَهُوَ حَرَامٌ سَواءً قُوْمِرَ بِهِ، أم لا"(1).
وقال الإمَامُ الخَطَّابيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ : " وفِي هَذَا بَيَانٌ أنَّ جَمِيْعَ أنْوَاعِ اللَّهْوِ مَحْظُوْرَةٌ، وإنَّمَا اسْتَثْنَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَذِه الخِلالَ مِنْ جُمْلَةِ مَا حَرَّمَ مِنْها؛ لأنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْها – إذَا تَأمَّلْتَها – وَجَدَّتَها مُعِيْنَةً عَلَى حَقٍّ، أو ذَرِيْعَةً إلَيْه، ويَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا : مَا كَانَ مِنَ المُنَاضَلَةِ، والسِّلاحِ، والشَّدِّ عَلَى الأقْدَامِ" .
ثُمّ قَالَ : " فأمَّا سَائِرُ مَا يَتَلَهَّى بِه البَطَّالُوْنَ مِنْ أنْوَاعِ اللَّهْوِ : كالنَّرْدِ، والشِّطْرَنْجِ، وسَائِرِ ضُرُوْبِ اللِّعْبِ بِمَا لا يُسْتَعَانُ بِه فِي حَقٍّ فَهُوَ مَحْظُوْرٌ !"(2).
__________
(1) ـ "شرح فتح القدير" للكمال ابن الهمام ( 6/413 ) .
(2) ـ "معالم السنن" للخطابي ( 2/242 ) .(1/98)
وقَالَ الإمَامُ الكَسَائِيُّ الحَنَفِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " واللَّعِبُ حَرَامٌ فِي الأصْلِ؛ إلاَّ أنَّ اللَّعِبَ بِهَذِه الأشْيَاءِ صَارَ مُسْتَثْنًى مِنَ التَّحْرِيْمِ شَرْعًا، فَبَقِيَتِ المُلاعَبَةُ بِمَا وَرَاءهَا عَلَى أصْلِ التَّحْرِيْمِ؛ ولأنَّ الاسْتِثْنَاءَ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُوْنَ لِمَعْنًى لا يُوْجَدُ فِي غَيْرِها، فَكَانَتْ لَعِبًا صُوْرَةً ورِيَاضَةً، وتَعَلُّمَ أسْبَابِ الجِهَادِ، ولَئِنْ كَانَ لَعِبًا لَكِنَّ اللَّعِبَ إذَا تَعَلَّقَتْ بِه عَاقِبَةٌ حَمِيْدَةٌ لا يَكُوْنُ حَرَامًا، ولِهَذا اسْتَثْنَى مُلاعَبَةَ أهْلِ لِتَعَلُّقِ عَاقِبَةٍ حَمِيْدَةٍ بِها، وهِيَ انْبِعَاثُ الشَّهْوَةِ الدَّاعِيَةِ إلى الوَطْءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ التَّوَالُدِ، والتَّنَاسُلِ، والسُّكْنَى، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ العَوَاقِبِ الحَمِيْدَةِ"(1).
وقَالَ صَاحِبُ "الأنْهُرِ فِي شَرْحِ الأبْحُرِ" : " يَحْرُمُ اللَّعِبُ، والعَبَثُ، واللَّهْوُ، فالثَّلاثَةُ بِمَعْنًى"(2).
ونَقَلَ المَرْدَاوِيُّ الحَنْبَلِيُّ فِي "الإنْصَافِ" عَنِ السَّامِرِيِّ قَوْلَه : " وفِي "المُسْتَوْعِبِ" : كُلُّ مَا يُسَمَّى لَعِبًا مَكْرُوهٌ؛ إلاَّ مَا كَانَ مُعِينًا عَلَى قِتَالِ العَدُوِّ "(3).
قَالَ يَحْيَ : سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُوْلُ : وقَالَ النَّفْرَاتُوَي فِي حُكْمِ اللِّعْبِ بالمَلاهِي مَا نَصُّهُ : " ولا يَجُوْزُ اللِّعْبُ بالنَّرْدِ، ولا يَجُوْزُ اللِّعْبُ بالشِّطْرَنْجِ، ثُمَّ قَالَ : وَقَعَ الخِلافُ فِي اللِّعْبِ بالطَّابِ، والمَنْقَلَةِ، ثُمَّ قَالَ : والَّذِي ذَكَرَه بَهْرامُ فِي شَرْحِ خَلِيْلٍ؛ الحُرْمَةَ فِي الطَّابِ، وجَعَلَه مِثْلَ النَّرْدِ .
__________
(1) ـ "بدائع الصنائع" للكاساني (6/206) .
(2) ـ "الأنهر في شرح الأبحر" (2/533) .
(3) ـ "الإنصاف" للمرداوي (6/90) .(1/99)
وأمَّا المِنْقَلَةُ فاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشِّيُوْخِ الكَرَاهَةَ . وكُلُّ هَذَا حَيْثُ لا قِمَارَ، وإلاَّ فالحُرْمَةُ فِيْهِمَا مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ"(1).
* * *
القَوْلُ الثَّاني : أنَّ الأصْلَ فِي الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ هُوَ الحِلُّ؛ إلاَّ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ، وبِهَذَا قَالَ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ .
قَالَ الرَّمْلِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فَكُلُّ مَا اعْتَمَدَ عَلَى الحِسَابِ : كالمَنْقَلَةِ حُفِرَ، أو خُطُوْطٍ يُنْقَلُ مِنْها، وإلَيْها حَصًى بالحِسَابِ فلا يَحْرُمُ"(2).
وقَالَ ابنُ قُدَامَةَ فِي ( المُغْنَيِّ ) : " وسَائِرُ أنْوَاعِ اللَّعِبِ إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا، ولا شُغْلاً عَنْ فَرْضٍ؛ فالأصْلُ إبَاحَتُه"(3).
وقَالَ المَرْدَاوِيُّ فِي ( الإنْصَافِ ) : " قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّيْنِ ـ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ : " يَجُوْزُ مَا قَدْ يَكُوْنُ فِيْه مَنْفَعَةٌ بِلا مَضَرَّةٍ"، يَعْنِي بِذَلِكَ أنْوَاعَ اللَّعِبِ .
ثُمَّ قَالَ : " قَالَ فِي ( الفُرُوْعِ ) : وظَاهِرُ كَلامِهِ ( أيْ : كَلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ) لا يَجُوْزُ اللَّعِبُ المُعْرُوْفُ بالطَّابِ، والنَّقِيْلَةِ، ثُمَّ قَالَ : وقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّيْنِ أيْضًا : " كُلُّ فِعْلٍ أفْضَى إلى مُحَرَّمٍ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيْه مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ لأنَّه يَكُوْنُ سَبَبَا للشَّرِ، والفَسَادِ .
ثُمَّ قَالَ : وقَالَ أيْضًا : " ومَا ألْهَى، وشَغَلَ عَمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْه، وإنْ لَمْ يَحُرُمْ جِنْسُهُ؛ كَبَيْعٍ، وتِجَارَةٍ، ونَحْوِها"(4).
__________
(1) ـ "الفواكه الدواني" للنفراوي ( 2/452 ) .
(2) ـ "منهاج المحتاج" ( 8/280 ) .
(3) ـ "المغني" لابن قدامة ( 12/172 ) .
(4) ـ "الإنصاف" للمرداوي (6/90 ) .(1/100)
وقَالَ ابنُ العَرَبِيِّ فِي ( عَارِضَةِ الأحْوَذِيِّ ) : " قَوْلُه : "كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ"، لَيْسَ مُرَادُه حَرَامًا، وإنَّمَا يُرِيْدُ بِه أنَّه عَارٍ مِنَ الثَّوَابِ، وأنَّه للدُّنْيا مَحْضًا، لا تَعَلُّقَ لَهُ بالآخِرَةِ، والمُبَاحُ مِنْه بَاقٍ، والبَاقِي كُلُّه عَمَلٌ لَهُ ثَوَابٌ"(1).
وقَالَ ابنُ حَجَرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " إنَّمَا أطْلَقَ عَلَى مَا عَدَاهَا ـ أي الثَّلاثَة ـ البُطْلانَ مِنْ طَرِيْقِ المُقَابَلَةِ، لا أنَّ جَمِيْعَها مِنَ البَاطِلِ المُحَرَّمِ !"(2).
وكَذَا قَالَ الغَزَالِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي تَوْجِيْهِ هَذَا الحَدِيْثِ : " … "فَهُوَ بَاطِلٌ"، لا يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيْمِ؛ بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الفَائِدَةِ"(3).
وقَدْ صَحَّحَ الشَّوْكَانِيُّ مَا ذَهَبَ إلَيْه الغَزَالِيُّ هُنَا بِقَوْلِه : " وهُوَ جَوَابٌ صَحِيْحٌ؛ لأنَّ مَا لا فَائِدَةَ فِيْه مِنْ قِسْمِ المُبَاحِ، عَلَى أنَّ التَّلَهِّي بالنَّظَرِ إلى الحَبَشَةِ، وهم يَرْقُصُوْنَ فِي مَسْجِدِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحِ، خَارِجٌ عَنْ تِلْكُمُ الأمُوْرِ الثَّلاثَةِ"(4).
وقَالَ ابنُ القَيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ : وهُوَ مَا لَيْسَ فِيْهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ، ولا هُوَ أيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمَصْلَحَةٍ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِها، ورَسُوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَهَذَا لا يُحْرَمُ، ولا يُؤْمَرُ بِهِ : كالصِّرَاعِ، والعَدْوِ، والسِّبَاحَةِ، وشَيْلِ الأثْقَالِ"(5).
__________
(1) ـ "عارضة الأحوذي" ( 7/137 ) .
(2) ـ "فتح الباري" لابن حجر ( 11/91 ) .
(3) ـ "الإحياء" للغزالي ( 2/285 ) .
(4) ـ "نيل الأوطار" للشوكاني ( 8/104 ) .
(5) ـ "الفروسية" لابن القيم (172)، و ( 301 - وما بعدها ) .(1/101)
ولابنِ تَيْمِيَّةَ كَلامٌ جَيِّدٌ فِي تَوْجِيْه مَعْنَى هَذَا الحَدِيْثِ؛ حَيْثُ قَالَ : " وفِي الصَّحِيْحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه قَالَ : " كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ، إلاَّ رَمْيَه بِقَوْسِهِ، وتَأدِيْبَه فَرَسَه، ومُلاعَبَةَ امْرَأتَه، فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ"، والبَاطِلُ مِنَ الأعْمَالِ هُوَ مَا لَيْسَ فِيْه مَنْفَعَةٌ، فَهَذَا يُرَخَّصُ فِيْه للنُّفُوْسِ الَّتِي لا تَصْبِرُ عَلَى مَا يَنْفَعُ، وهَذَا الحَقُّ فِي القَدْرِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْه فِي الأوْقَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ : كالأعْيَادِ، والأعْرَاسِ، وقُدُومِ الغَائِبِ، ونَحْوِ ذَلِكُم، وهَذِه نُفُوْسُ النِّسَاءِ، والصِّبْيَانِ، فَهُنَّ اللَّوَاتِي كُنَّ يُغَنِّيْنَ فِي ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وخُلَفَائِه، ويَضْرِبْنَ بالدُّفِّ، وأمَّا الرِّجَالُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْهِم؛ بَلْ كَانَ السَّلَفُ يُسَمَّوْنَ الرَّجُلَ المُغَنِّي : مُخَنَّثًا، لِتَشَبُّهِهِ بالنِّسَاءِ"(1).
وقَالَ أيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : " وأمَّا اللَّذَّةُ الَّتِي لا تُعَقِّبُ لَذَّةً فِي دَارِ القَرَارِ، ولا ألَمًا، ولا تَمْنَعُ لَذَّةَ دَارِ القَرَارِ فَهَذِه لَذَّةٌ بَاطِلَةٌ، إذْ لا مَنْفَعَةَ فِيْها، ولا مَضَرَّةَ، وزَمَنُها يَسِيْرٌ، لَيْسَ لِتَمَتُّعِ النَّفْسِ بِها قَدْرٌ، وهِيَ لابُدَّ أنْ تَشْغَلَ عَمَّا هُوَ خَيْرٌ مِنْها فِي الآخِرَةِ، وإنْ لَمْ تَشْغَلْ عَنْ أصْلِ اللَّذَّةِ فِي الآخِرَةِ .
__________
(1) ـ "الاستقامة" لابن تيمية ( 1/277 ) .(1/102)
وهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : "كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ …" الحَدِيْثُ . وكَقَوْلِهِ لِعُمَرَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْه، وعِنْدَه جَوَارِي يَضْرِبْنَ بالدُّفِّ فأسْكَتْهُنَّ لِدُخُوْلِهِ، وقَالَ : " إنَّ هَذَا رَجُلٌ لا يُحِبُّ البَاطِلَ"(1)، فإنَّ هَذَا اللَّهْوَ فِيْه لَذَّةٌ؛ ولَوْلا ذَلِكَ لَمَا طَلَبَتْه النُّفُوْسُ !
ولَكِنْ مَا أعَانَ عَلَى اللَّذَّةِ المَقْصُوْدَةِ مِنَ الجِهَادِ، والنِّكَاحِ فَهُو حَقٌّ، وأمَّا مَا لَمْ يُعِنْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لا فَائِدَةَ فِيْه، ولَكِنَّه إنْ لَمْ يَكُنْ فِيْه مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ لَمْ يَحْرُمْ، ولَمْ يُنْهَ عَنْه، ولَكِنْ قَدْ يَكُوْنُ مَا فِعْلُه مَكُرُوْهًا؛ لأنَّه يَصُدُّ عَنِ اللَّذَّةِ المَطْلُوْبَةِ؛ إذْ لَوْ اشْتَغَلَ اللاهِي حِيْنَ لَهْوِهِ بِمَا يِنْفَعُه، ويَطْلُبُ لَهُ اللّذَّةَ المَقْصُوْدَةَ، لَكَانَ خَيْرًا لَهُ .."، ثُمَّ قَالَ أيْضًا : " ومَحَبَّةُ النُّفُوْسِ للبَاطِلِ نَقْصٌ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الخَلْقِ مَأمُوْرِيْنَ بالكَمَالِ، ولا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيْهم، فإذَا فَعَلُوا مَا بِهِ يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهم مَا لا يَمْنَعُهُم مِنَ دُخُوْلِها"(2).
* * *
وبَعْدَ أنْ ذَكَرْنَا كَلامَ أهْلِ العِلْمِ فِي تَفْسِيْرِ مَعْنَى الحَدِيْثِ النَّبَوِيِّ؛ نَسْتَطِيْعُ أنْ نَخْلُصَ مِنْها إلى أرْبَعَةِ أُمُوْرٍ :
الأوَّلُ : أنَّ مَعْنَى "باطِلٌ" فِي الحَدِيْثِ، مَا لا ثَوَابَ فِيْه، ولا إثْمَ .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 3/435 )، ( 4/24 )، والبخاري في الأدب المفرد ( 342 )، ولكنه ورد بسياق آخر في سماع " المدح " لا " الغناء "، انظر "مجمع الزوائد" للهيثمي ( 8/118)، ( 9/66 ) .
(2) ـ "الاستقامة" لابن تيمية ( 2/153 ) .(1/103)
الثَّاني : أنَّ غَيْرَ هَذِه الأنْوَاعِ المَذْكُوْرَةِ مِنَ اللَّهْوِ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً؛ بَلْ مِنْها مَا هُوَ مُبَاحٌ، ومَا هُوَ مَمْنُوْعٌ شَرْعًا .
الثَّالِثُ : أنَّ هَذَا المُبَاحَ يَكُوْنُ مَكْرُوْهًا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى تَصْرِيْفِ وَقْتِهِ فِيْمَا هُوَ مَنْدُوْبٌ، ومُسْتَحَبٌّ .
الرَّابِعُ : إذَا كَانَ المُبَاحُ تَعْقُبُه فَائِدَةٌ أُخْرَوِيَّةٌ، فَهُوَ مِنْ هَذِه الثَّلاثَةِ المُبَاحَةِ(1).
* * *
وأخيرًا؛ فَلا شَكَّ أنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْه أصْحَابُ القَوْلِ الثَّانِي : هُوَ أرْجَحُ دَلِيْلاً، وأوْضَحُ تَعْلِيْلاً؛ وهُوَ مَا عَلَيْه العَمَلُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ جِيْلاً بَعْدَ جَيْلٍ، واللهُ تَعَالَى أعْلَمُ .
فِي حِيْنَ أنَّ القَوْلَ : بإبَاحَةِ اللَّعِبِ هُنَا، لَيْسَ عَلَى إطْلاقِهِ !؛ بَلْ كَانَ المَقْصُوْدُ مِنْه اللَّعِبَ الَّذِي لَمِ يَقْتَرِنْ بِهِ مَحْظُوْرٌ شَرْعِيٌّ، لا فِي أصْلِه، ولا فِي وَصْفِه، ولا فِي شَرْطِه … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكُنْ مِنْ هَذَا عَلَى ذُكْرٍ !
* * *
الفَصْلُ السَّادِسُ
حُكْمُ أخْذِ العِوَضِ فِي الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ
وقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي بَيَانِ حُكْمَ أخْذِ العِوَضِ فِي الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ؛ كَانَ مِنَ المُنَاسِبِ أنْ نَذْكُرَ شَيْئًا عَنْ تَعْرِيفِ العِوَضِ، والسَّبَقِ، والرِّهان … أوَّلاً .
* السَّبْقُ ( بإسْكَانِ البَاءِ ) لُغَةً : هُوَ مَا قَالَهْ ابنُ فَارِسٍ : " السِّيْنُ، والبَاءُ، والقَافُ يَدُلُّ عَلَى أصْلٍ وَاحِدٍ صَحِيْحٍ يَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيْمِ . يُقَالُ : سَبَقَ يَسْبِقُ سَبْقًا".
__________
(1) ـ انظر "قضايا اللهو والترفيه" لمادون بن سعيد ( 137-140 ) .(1/104)
وقَالَ أيْضًا : " هُوَ الخَطَرُ الَّذِي يَأخُذُه السَّابِقُ"(1)، وقَالَ الخَطَّابِيُّ : " هُوَ مَا يُجْعَلُ للسَّابِقِ مِنَ الجُعْلِ"(2).
قَالَ البَعْلِيُّ الحَنْبَلِيُّ : " حَكَى ثَعْلَبُ عَنِ ابنِ الأعْرَابِيِّ، قَالَ : السَّبَقُ، والخَطَرُ، والنَّدَبُ، والقَرَعُ، والوَجَبُ، كُلُّه للَّذِي يُوْضَعُ فِي النِّضَالِ، والرِّهَانِ، فَمَنْ سَبَقَ أخَذَهُ، الخَمْسَةُ بِوَزْنِ الفَرَسِ"(3) ، وبِنَحْوِهِ قَالَهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ(4).
* وشَرْعًا : هُوَ مَا قَالَهُ ابنُ قُدَامَةَ : " السَّبَقُ : المُسَابَقَةُ"(5)، وكَذَا مَا قَالَه البَهُوْتِيُّ : " هُوَ بُلُوْغُ الغَايَةِ قَبْلَ غَيْرِهِ"(6).
وقَالَ الكِسَائِيُّ : " هُوَ أنْ يُسَابِقَ الرَّجُلُ صَاحِبَه فِي الخَيْلِ، أو الإبِلِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَيَقُوْلُ : إنْ سَبَقْتُكَ فَكَذَا، وإنْ سَبَقْتَنِي فَكَذَا"(7).
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ : " والسَّبَقُ ( بالفَتْحِ ) : هُوَ الخَطَرُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْه الرِّهَانُ"(8).
فالسَّبَقُ ( بالفَتْحِ ) إذن : هُوَ المَالُ المَأخُوْذُ رَهْنًا عَلَى المُسَابَقَةِ .
__________
(1) ـ "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس ( 3/129 ) .
(2) ـ "غريب الحديث" للخطابي ( 1/521 ) .
(3) ـ "المطلع على أبواب المقنع" للبعلي (267) .
(4) ـ "مختصر الإنصاف والشرح الكبير" لابن عبد الوهاب ( 386 ) .
(5) ـ "المغني" لابن قدامة ( 8/652 ) .
(6) ـ " حاشية الروض المربع" ( 5/347 )، و"شرح المنتهى" ( 2/383 ) كلاهما للبهوتي .
(7) ـ "بدائع الصنائع" للكاساني ( 6/206 ) .
(8) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 96 )، و ( 301 - وما بعدها ) .(1/105)
أمَّا ضَبْطُ كَلِمَةِ "السَّبَقِ" فِي قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا سَبَقَ؛ إلاَّ …الحديث"، فَجَمْهُوْرُ أهْلِ العِلْمِ فَعَلَى الفَتْحِ، فَيَكُوْنُ المُرَادُ بِهِ : العِوَضُ، ولَوْ كَانَ بالإسْكَانِ لَكَانَ المُرَادُ : لا سَبْقَ أكْمَلَ مَنْفَعَةً، وأتَمَّ مَصْلَحَةً(1).
* * *
* أمَّا الرِّهَانُ لُغَةً : هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابنُ مَنْظُوْرٍ : " أنَّ الرِّهَانَ، والمُرَاهَنَةَ : هِيَ المُسَابَقَةُ عَلَى الخَيْلِ، وغَيْرِ ذَلِكَ"(2).
والرَّهْنُ : هُوَ الشَّيْءُ المُلْزَمُ، ويُجْمَعُ عَلَى رِهَانٍ .
* أمَّا تَعْرِيْفُه شَرْعًا : فَقَدْ عَرّفَه الكَاسَانِيُّ بِقَوْلِهِ : " الْتِزَامٌ بِشَرْطٍ"(3).
فالرِّهَانُ إذَنْ : هَوَ عَقْدٌ بَيْنَ مُتَعَاقِدِيْنَ يَقْتَضِي الْتِزَامُ المَالِ حَسَبَ الشَّرْطِ المُتَّفَقِ عَلَيْه .
* * *
* حُكْمُ الرِّهانِ :
أمَّا حُكْمُ الرِّهانِ : فهو حَرَامٌ شَرْعًا، وقَدَ ثَبَتَتْ حُرْمَتُه بالكِتَابِ، والسُّنَّةِ، والإجْمَاعِ .
أمَّا الكِتَابُ : فَقَوْلُه تَعَالَى : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"[المائدة90] .
وَجْهُ الدَّلالَةِ : أنَّ الرِّهَانَ قِمَارٌ؛ لأنَّ فِيْه مُخَاطَرَةً بالمَالِ، والقِمَارُ مَنْهِيٌّ عَنْه بِنَصِّ الآيةِ؛ لأنَّه نَوْعٌ مِنَ المَيْسِرِ .
__________
(1) ـ السابق .
(2) ـ "لسان العرب" لابن منظور ( 13/189 ) .
(3) ـ "بدائع الصنائع" للكاساني ( 6/206 ) .(1/106)
قَالَ الجَصَّاصُ : " رَوَى حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ حَلاسٍ : أنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ أكَلْتَ كَذَا، وكَذَا بَيْضَةً فَلَكَ كَذَا، وكَذَا، فارْتَفَعَا إلى عَلِيٍّ فَقَالَ : هَذَا قِمَارٌ، ولَمْ يُجِزْهُ"(1)، وكَذَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : " إنَّ المُخَاطَرَةَ ـ أيْ الرِّهَانَ ـ قِمَارٌ"(2).
وأمَّا السُّنَّةُ : فَعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ : "إنَّ اللهَ حَرَّمَ الخَمْرَ، والمَيْسِرَ، والكُوْبَةَ(3)، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ"(4) أحْمَدُ، والحديثُ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيْمِ المَيْسِرِ .
وَجْهُ الدَّلالَةِ : أنَّ الرِّهَانَ قِمَارٌ، والقِمَارُ نَوْعٌ مِنَ المَيْسِرِ .
وقَالَ ابنُ العَرَبِيُّ : " وقَدْ نَهَى رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنِ الغَرَرِ، والقِمَارِ، وذَلِكَ – يَعْنِي الرِّهَانَ – نَوْعٌ مِنْه، ولَمْ يَبْقَ للرِّهَانِ جَوَازٌ إلاَّ فِي الخَيْلِ، حَسْبَما بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الفِقْهِ، والحَدِيْثِ"(5).
* وأمَّا الإجْمَاعُ : فَقَدْ أجْمَعَتِ الأمَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ القِمَارِ . وقَدْ نَقَلَ إلَيْنا هَذَا الإجْمَاعَ كَثِيْرٌ مِنَ العُلَمَاءِ، كالقُرْطُبِيِّ، وأبي بَكْرٍ الجَصَّاصِ، وغَيْرِهِما(6).
__________
(1) ـ "أحكام القرآن" للجصاص ( 1/381 ) .
(2) ـ السابق .
(3) ـ الكُوْبَةُ : قَيْلَ هِيَ الطَّبْلُ وقِيْلَ هِيَ النَّرْدُ، وفِي "القاموس" : الطَّبْلُ الصَّغِيرُ المُخَصَّرُ .
(4) ـ أخرجه أحمد ( 2625 )، وهو حديث صحيح .
(5) ـ "أحكام القرآن" لابن العربي ( 3/143 ) .
(6) ـ انظر "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (6/94)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/381 ) .(1/107)
وهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْه الجَصَّاصُ بِقَوْلِهِ : " لا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ القِمَارِ، وأنَّ المُخَاطَرَةَ ـ أيْ : المُرَاهَنَةَ ـ مِنَ القِمَارِ"، ثُمَّ قَالَ : قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : إنَّ المُخَاطَرَةَ قِمَارٌ"(1).
* * *
الفَرْقُ بَيْنَ الرِّهَانِ، والقِمَارِ :
هُنَاكَ خَلْطٌ كَبِيْرٌ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ بَيْنَ مَا هُوَ رِهَانٌ، ومَا هُوَ قِمَارٌ؛ ظَنًّا مِنْهم أنَّهُما سَيَّانَ لَفْظًا ومَعْنىً، وهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِهِ مُغَالَطةٌ شَرْعِيَّةٌ، يَجِبُ كَشْفُها كَمَا يَلِي :
يَتَّفِقُ كُلٌّ مِنَ الرِّهَانِ، والقِمَارِ فِي أنَّ حَقَّ المُتَعَاقِدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وَاقِعَةٍ غَيْرِ مُحَقَّقَةٍ : وهِيَ أنْ يَصْدُقَ قَوْلُ المُتَرَاهِنِ فِي الرِّهَانِ، وأنْ يَكْسَبَ المُقَامِرُ اللَّعِبَ فِي المُقَامَرَةِ، ولَكِنَّ الرِّهَانَ يُفَارِقُ المُقَامَرَةَ فِي أنَّ المُقَامِرَ يَقُوْمُ بِدَوْرٍ إيْجَابِيٍّ فِي مُحَاوَلَةِ تَحْقِيْقِ الوَاقِعَةِ غَيْرِ المُحَقَّقَةِ، أمَّا المُرَاهِنُ فَلا يَقُوْمُ بِدَوْرٍ فِي تَحْقِيْقِ صِدْقِ قَوْلِهِ .
ومِثَالُه : أنَّ الَّذِينَ يَتَسَابَقُوْنَ بالخَيْلِ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ؛ عَلَى أنْ يَكُوْنَ للفَائِزِ مِنْهُم جُعْلٌ : يُسَمَّوْنَ هَؤلاءِ مُقَامِرِيْنَ .
والَّذِيْنَ يَتَرَاهَنُوْنَ عَلَى الفَرَسِ السَّابِقِ : يُسَمَّوْنَ مُرَاهِنِيْنَ، فالمُسَابِقُ يَبْذُلُ جُهْدًا لِتَحْقِيْقِ الوَاقِعَةِ، والمُرَاهِنُ لَمْ يَبْذُلْ جُهْدًا لِتَحْقِيْقِ صِدْقِ قَوْلِهِ !
__________
(1) ـ "أحكام القرآن" للجصاص ( 1/381 ) .(1/108)
أمَّا حُكْمُهُما ( الرِّهَانُ، والقِمَارُ ) فالخِلافَ بَيْنَهُما لَفْظِيٌّ لا يَتَرَتّبُ عَلَيْه اخْتِلافٌ فِي الحُكْمِ؛ لأنَّ كُلاً مِنْ عَقْدِ الرِّهَانِ، والقِمَارِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، وقَدْ ثَبَتَتْ حُرْمَتُها بالكِتَابِ، والسُّنَّةِ، والإجْمَاعِ(1).
أمَّا أخْذُ العِوَضِ في الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، فَهُوَ مِنَ المَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ الَّتِي أخَذَتْ حَظًا وَافِرًا بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ تَقْسِيمًا وحُكْمًا؛ مِمَّا يَدْفَعُنا إلى ذِكْرِ بَعْضِ مَا هُنَالِكَ عَلَى وَجْهِ الاخْتِصَارِ .
وبَعْدُ؛ فلا شَكَّ أنَّ مَسْألَةَ أخْذِ العِوَضِ فِي الألْعَابِ الرِّياضَيَّةِ تَجْرِي طَرْدًا مَعَنَا فِي تَقْسِيمِنا للألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ الثَّلاثَةِ المَذْكُوْرَةِ آنِفًا(2)، وهِيَ كَمَا يَلِي :
* القِسْمُ الأوَّلُ : الألْعَابُ المَشْرُوعَةُ، وهي نَوْعَانِ :
فالأوَّلُ مِنْهُما : كالرِّمَايةِ، والسِّبَاقِ بالخَيْلِ والإبِلِ، فَهَذا القِسْمُ قَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى جَوَازِ أخْذِ العِوَضِ فيه لِقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا سَبَقَ إلاَّ فِي نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافِرٍ"(3) أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ، وغَيْرِه مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ .
وقَدْ نَقَلَ الإجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ أخْذِ العِوَضِ فِي الثَّلاثَةِ، كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، يقول ابنُ قُدَامَةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ المُسَابَقَةِ فِي الجُمْلَةِ"(4).
__________
(1) ـ انظر "الميسر" لرمضان ( 157 ) .
(2) ـ انظر ص ( ) .
(3) ـ أخرجه أحمد ( 2/474 )، وأبو داود ( 2574 )، والترمذي ( 1700 )، وهو حديثٌ صحيحٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني (2244 ) .
(4) ـ "المغني" لابن قدامة ( 8/651 ) .(1/109)
وقَالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى أنَّ السَّبَقَ لا يَجُوْزُ عَلَى وَجْهِ الرِّهَانِ إلاَّ فِي الخُّفِّ، والحَافِرِ، والنَّصْلِ"(1). فَهَذِه حِكَايِةٌ مِنْه للإجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ بَذْلِ العِوَضِ عَلَى مُسَابَقَةِ الخَيْلِ !، وحَكَى الإجْمَاعَ أيْضًا عَلَى ذَلِكَ العِرَاقِيُّ(2)، وغَيْرُه مِنْ أهْلِ العِلْمِ .
وعَلَى ذَلِكَ قَالَ جَمْهُوْرُ أهْلِ العِلْمِ بِجَوَازِ بَذْلِ العِوَضِ فِي المُسَابَقَةِ عَلَى الإبِلِ(3).
لِقَوْلِه تعَالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم … الآية"[الأنفال 60] . ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " " لا سَبَقَ إلاَّ فِي نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافِرٍ"(4) أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ .
__________
(1) ـ "التمهيد" لابن عبد البر ( 14/88 ) .
(2) ـ "طرح التثريب" للعراقي ( 7/241 ) .
(3) ـ "المغني" لابن قدامة ( 8/652 )، و"بدائع الصنائع" للكاساني ( 8/3878)، و"الكافي" لابن عبد البر ( 1/489 )، و"المهذب" للشيرازي ( 1/413 ) .
(4) ـ أخرجه أحمد ( 2/474 )، وأبو داود ( 2574 )، والترمذي ( 1700 )، وهو حديثٌ صحيحٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني (2244 ) .(1/110)
قَالَ الكَاسَانِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي بَيَانِ مَا يَجُوْزُ السِّبَاقُ عَلَيْه بِمَالٍ : أنْ يَكُوْنَ فِي الأنْوَاعِ الأرْبَعَةِ : "الحَافِرِ، والخُفِّ، والنَّصْلِ، والقَدَمِ، لا فِي غَيْرِها"(1)، وقَالَ الحَصْفَكِيُّ " ولا بَأسَ بالمُسَابَقَةِ فِي الفَرَسِ، والبَغْلِ، والحِمَارِ، كَذَا فِي ( المُلْتَقَى )، و( المَجْمَعِ )، وأقَرَّهُ المُصَنِّفُ هُنَا، خِلافًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلَ شَتَّى، ثُمَّ قَالَ : والإبِلُ، وعَلَى الأقْدَامِ؛ لأنَّه مِنْ أسْبَابِ الجِهَادِ، فَكَانَ مَنْدُوبًا، ثُمَّ قَالَ : وعِنْدَ الثَّلاثَةِ لا يَجُوْزُ : أيْ بالجُعْلِ، أمَّا بِدُونِه فَيُبَاحُ فِي كُلِّ المَلاعِبِ"(2).
__________
(1) ـ "بدائع الصنائع" للكاساني ( 6/206 ) .
(2) ـ "شرحُ الدُّرِ" للحَصْفَكِي ( 2 ) نقلاً عن "الميسر" لرمضان ( 115 ) .(1/111)
وجَاءَ فِي "الإنْصَافِ" : " لا يَجُوْزُ بِعِوَضٍ إلاَّ فِي الخَيْلِ، والإبِلِ، والسِّهَامِ"، وقَالَ أيْضًا : هَذَا هُوَ المَذْهَبُ بِلا رَيْبٍ، وعَلَيْه جَمَاهِيْرُ الأصْحَابِ، وقَطَعَ بِه كَثِيْرٌ مِنْهُم، ثُمَّ قَالَ : وذَكَرَ ابنُ البَنَّا وَجْهًا : يِجُوْزُ بِعِوَضٍ فِي الطَّيْرِ المُعَدَّةِ لإخْبَارِ الأعْدَاءِ، ثُمَّ قَالَ : وذَكَرَ فِي "النَّظْمِ" وَجْهًا بَعِيْدًا : يَجُوْزُ بِعِوَضٍ فِي الفِيَلَةِ، ثُمَّ قَالَ : وقَدْ صَارَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رُكَانَةَ عَلَى شَاةٍ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ قَالَ : قَالَ فِي "الفُرُوْعِ" : وهَذَا، وغَيْرُه مَعَ الكُفَّارِ مِنْ جِنْسِ جِهَادِهم؛ فَهُوَ فِي مَعْنَى الثَّلاثَةِ المَذْكُوْرَةِ، فإنَّ جِنْسَها جِهَادٌ"، ثُمَّ قَالَ : والصِّرَاعُ، والسَّبْقُ بالأقْدَامِ، ونَحْوُها طَاعَةٌ إذَا قُصِدَ بِها نَصْرُ الإسْلامِ، وأخْذُ العِوَضِ عَلَيْه أخْذٌ بالحَقِّ؛ فالمُغَالَبَةُ الجَائِزَةُ تَحِلُّ بالعِوَضِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُعِيْنُ عَلَى الدِّيْنِ، كَمَا فِي مُرَاهَنَةِ أبِى بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ، ثُمَّ قَالَ : " واخْتَارَ هَذَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّيْنِ ( ابنُ تَيْمِيَّةَ ) وذَكَرَ أنَّه أحَدُ الوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا مُعْتَمِدًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ البَنَّا"(1).
قَالَ ابنُ القَيَّمِ " : قَالَ الحَافِظُ المِنْذِرِيُّ : وَقَدْ أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ المُسَابَقَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ"، ثُمَّ قَالَ : " لَكِنْ قَصَرَها مَالِكٌ، والشَّافِعِيُّ عَلَى الخُفِّ، والحَافِرِ، والنّصْلِ، وخَصَّهُ بَعْضُ الفُقَهَاءِ بالخَيْلِ، وأجَازَهُ عَطَاءُ فِي كُلِّ شَيْءٍ"(2).
* * *
__________
(1) ـ "الإنصاف" للمرادي ( 6/90 ) .
(2) ـ "عون المعبود" للعظيم آبادي ( 5/350 ) .(1/112)
والثَّانِي مِنْهُما : الألْعَاب الَّتِي يُسْتَعَانُ بِها فِي الجِهَادِ، ولَوْ لَمْ تَنُصْ عَلَيْها الشَّرِيعَةُ؛ فَهَذِهِ أيْضًا قَدْ أجَازَ أهْلُ العِلْمِ أخْذُ العِوَضِ فِيْها، يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فالمُغَالَبَةُ الجَائِزةُ تَحِلُّ بِعِوَضٍ، إذَا كَانَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّيْنِ"(1).
وقَالَ ابنُ القَيِّمِ بَعْدَ أنْ أوْرَدَ قِصَّةَ رُكَانَةَ : " فإذَا كَانَ أكْلُ المَالِ بِهَذِه المُسَابَقَةِ أكْلاً بِحَقٍّ، فأكْلُهُ بِمَا يِتَضَمَّنُ نُصْرَةَ الدِّيْنِ، وظُهُوْرَ أعْلامِه، وآيَاتِه أوْلَى وأحْرَى . وعَلَى هَذَا فَكُلُّ مُغَالَبَةٍ يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الجِهَادِ تَجُوْزُ بالعِوَضِ، بِخِلافِ المُغَالَبَاتِ الَّتِي لا يُنْصَرُ الدِّيْنُ بِها"(2).
وفِي جَوَابٍ للَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ للْبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ، والإفْتَاءِ :
" المُسَابَقَةُ مَشْرُوْعَةٌ فِيْما يُسَتَعَانُ بِهِ عَلَى حَرْبِ الكُفَّارِ مِنَ الإبِلِ، والخَيْلِ، والسِّهَامِ، ومَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ آلاتِ الحَرْبِ : كالطَّيَّارَاتِ، والدَّبَّابَاتِ، والغَوَّاصَاتِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِجَوَائِزَ، أمْ بِدُوْنِ جَوَائِزَ"(3).
وفِي جَوَابٍ آخَرَ لَهَا :
__________
(1) ـ "الاختيارات" للبعلي ( 160 ) .
(2) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 35 ) .
(3) ـ فتوى برقم ( 3323 )، وتاريخ ( 19/12/1400هـ ) .(1/113)
" السِّبَاقُ عَلَى الخَيْلِ، والإبِلِ، ونَحْوِها مِنْ عُدَدِ الجِهَادِ : كالطَّائِرَاتِ، والدَّبابَاتِ للتَّدْرِيْبِ عَلَيْها، وكَسْبِ الفُرُوْسِيَّةِ، وَاجِبٌ، أو مُسْتَحَبٌّ حَسْبَ مَا تَقْتَضِيْهِ حَاجَةُ المُسْلِمِيْنَ فِي الجِهَادِ، دِفَاعًا عَنْ حَوْزَتِهِم، ونُصْرَةً لِدِيْنِهم، وتَيْسِيْرًا لِنَشْرِ الإسْلامِ، ولِمَنْ يُسَاعِدُ عَلَيْه لِفِكْرَةٍ، أو مَهَارَتِه فِيْهِ، أو بِمَالِهِ الأجْرُ، والثَّوَابُ"(1).
قَالَ الشَّافِعِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وَهَذَا يَعْنِي بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ البِغَالِ، والحَمِيْرِ، والفِيَلَةِ، دَاخِلٌ فِي مَعْنَى مَا نَدَبَ اللهُ إلَيْه، وحَمِدَ عَلَيه أهْلَ دِيْنِه مِنَ الإعْدَادِ لِعُدَّةِ القُوَّةِ، ورِبَاطِ الخَيْلِ"(2).
وقَالَ صَاحِبُ ( مُغْنِي المُحْتَاجِ ) : " قَالَ الإمَامُ : ويُؤَيِّدُه العُدُوْلُ عَنْ ذِكْرِ الفَرَسِ، والبَعِيْرِ إلى الخُفِّ، والحَافِرِ ـ يُرِيْدُ بِهَذا أنَّه مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عُمُوْمِ الحَدِيْثِ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ ـ، ثُمَّ قَالَ : ولا فَائِدَةَ فِيْه غَيْرُ قَصْدِ التَّعْمِيْمِ، وإنْ قَصَرَ الحَدِيْثُ عَلَى الإبِلِ، والخَيْلِ؛ لأنَّها المُقَاتَلُ عَلَيْها غَالِبًا، ثُمَّ قَالَ : وكَذَلِكَ العُدُوْلُ عَنِ التَّعْبِيْرِ بالسَّهْمِ إلى التَّعْبِيْرِ بالنَّصْلِ يُفِيْدُ العُمُوْمَ فِي كُلِّ مُحَدُوْدٍ نَافِعٍ فِي الحَرْبِ"(3)، يُرِيْدُ بِهَذا أنَّ المُرَادَ بالثَّلاثَةِ : الجِنْسَ، لا الذَّاتَ(4) .
__________
(1) ـ فتوى برقم ( 3219 )، وتاريخ ( 11/9/1400هـ ) .
(2) ـ "الأم" للشافعي ( 4/230 ) .
(3) ـ "مغني المحتاج" للشربيني ( 4/312 ) .
(4) ـ انظر "الميسر" لرمضان ( 124-125 ) .(1/114)
لِذَا يَقُوْلُ صَاحِبُ "الإنْصَافِ" : " المُغَالَبَةُ الجَائِزَةُ تَحِلُّ بالعِوَضِ إذَا كَانَتْ مِمَّا يُعِيْنُ عَلَى الدِّيْنِ، كَمَا فِي مُرَاهَنَةِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ"، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا .
* * *
القِسْمُ الثَّانِي : الألْعَابُ المَمْنُوعَةُ، وهِيَ ثَلاثَةُ أقْسَامٍ :
فالأوَّلُ مِنْها : كالمَيْسِرِ، والقِمَارِ، والنَّرْدِ، والشِّطْرَنْجِ … فَهِذِه الألْعَابُ قَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ أخْذِ العِوَضِ فِيْها .
لِقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " " لا سَبَقَ إلاَّ فِي نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حَافِرٍ"(1) أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ، وقَدْ أجْمَعَتِ الأمَّةُ الإسْلامِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ بَذْلِ العِوَضِ عَلَى النَّرْدِ، والشِّطْرَنْجِ(2).
الثَّانِي مِنُهُما : ألْعَابٌ حَلالُ فِي أصْلِها؛ إلاَّ أنَّه قَدِ اقْتَرَنَ بِها مَحْظُورٌ شَرْعيٌّ خَارِجٌ عَنْ أصْلِها، كَمَا لَوْ اقْتَرَنَ بِهَا إضْرَارٌ، أو سَبٌّ، أو عَدَاوَةٌ، أو صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، أو اشْتِغَالٌ عَمَّا هُوَ أوْلَى، أو أفْضَلُ … وغَيْرُه، فَهَذِه الألْعَابُ قَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ أخْذِ العِوَضِ فِيْهَا قِيَاسًا عَلَى الأوَّلِ، ورُبَّما كَانَ بَعْضُها مِنْ بَابٍ أوْلَى !
* * *
الثَّالِثُ مِنْهُما : ألْعَابٌ قَائِمَةٌ عَلَى التَّخْمِيْنِ، والحَظِّ ( المُصَادَفَة )، فَهَذِه الألْعَابُ قَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ أخْذِ العِوَضِ فِيْها .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 2/474 )، وأبو داود ( 2574 )، والترمذي ( 1700 )، وهو حديثٌ صحيحٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني (2244 ) .
(2) ـ "المغني" لابن قدامة ( 9/170 )، و"الفروسية" لابن القيم ( 64 )، و"تفسير آيات الأحكام" للجصاص (2/566 )، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/702 )، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 3/216 ) .(1/115)
قَالَ الكَمَالُ بنُ الهُمَامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ولِعْبُ الطَّابِ فِي بِلادِنا مِثْلُه ـ أيْ مِثْلُ النَّرْدِ ـ يُرْمَى، ويُطْرَحُ بِلا حِسَابٍ، وإعْمَالِ فِكْرٍ، ثُمَّ قَالَ : ـ مُبَيِّنًا القَاعِدَةَ فِي هَذَا ـ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ مِمَّا أحْدَثَهُ الشَّيْطَانُ، وعَمِلَهُ أهْلُ الغَفْلَة : فَهُوَ حَرَامٌ سَواءً قُوْمِرَ بِهِ، أم لا"(1).
ونَقَلَ صَاحِبُ "نِهَايِةِ المُحْتَاجِ" مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ الرَّافِعِيِّ، قَوْلَه : " وكُلُّ مَا يُعْتَمَدُ عَلَى التَّخْمِيْنِ يُحْرَمُ"(2)، وقَدْ مَرَّ مَعَنا بَعْضُ كَلامِ أهْلِ العِلْمِ فِي هَذِهِ المَسْألَةِ .
* * *
القِسْمُ الثَّالِثُ : ألْعَابٌ مُباحةٌ، سَكَتَتْ عَنْهَا الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ مَنْعًا وإثْبَاتًا. مِمَّا لا يُسْتَعَانُ بِها في الجِهَادِ !
فَهَذا القِسْمُ قَدْ مَنَعَ جَمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ أخْذُ العِوَضِ فِيْهِ، وفِي كُلِّ مِمَّا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الجِهَادِ .
وهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْه الشِّيْرَازِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "المُهَذَّبِ" بِقَوْلِه : " وأمَّا كُرَةُ الصَّوْلَجَانِ، ومُدَاحَاةُ الأحْجَارِ، ورَفْعُها مِنَ الأرْضِ، والمُشَابَكَةُ، والسِّبَاحَةُ، واللَّعِبُ بالخَاتَمِ، والوُقُوْفُ عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ اللَّعِبِ الَّذِي لا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الحَرْبِ، فَلا تَجُوْزُ المُسَابَقَةُ عَلَيْها بِعِوَضٍ؛ لأنَّه لا يُعَدُّ للحَرْبِ، فَكَانَ أخْذُ العِوَضِ فِيْه مِنْ أكْلِ المَالِ بالبَاطِلِ"(3) .
__________
(1) ـ "شرح فتح القدير" للكمال ابن الهمام ( 6/413 ) .
(2) ـ "نهاية المحتاج" ( 8/280 ) .
(3) ـ "المهذب" للشيرازي (1/421 )، و"مغني المحتاج" للشربيني (4/311-312)، و" تكملة المجموع " للمطيعي (15/142) .(1/116)
وهذا ما نَصَّ عَلَيْه ابنُ القَيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ : وهُوَ مَا لَيْسَ فِيْهِ مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ، ولا هُوَ أيْضًا مُتَضَمِّنٌ لِمَصْلَحَةٍ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِها، ورَسُوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَهَذَا لا يُحْرَمُ، ولا يُؤْمَرُ بِهِ … فَهَذَا القِسْمُ رَخَّصَ فِيْه الشَّارِعُ بِلا عِوَضٍ … واقْتَضَتْ ( الشَّرِيْعَةُ ) تَحْرِيْمِ العِوَضَ فِيْه، إذْ لَوْ إبَاحَتْهُ بِعِوَضٍ؛ لاتَّخَذَتْه النُّفُوْسُ صِنَاعَةً، ومَكْسَبًا، فالْتَهَتْ بِهِ عَنْ كَثِيْرٍ مِنْ مَصَالِحِ دِيْنِها، ودُنْيَاهَا، فأمَّا إذَا كَانَ لَعِبًا مَحْضًا، ولا مَكْسَبَ فِيْه؛ فإنَّ النَّفْسَ لا تُؤْثِرُه عَلَى مَصَالِحِ دُنْيَاهَا ودِيْنِها، ولا تُؤْثِرُه عَلَيْها إلاَّ النُّفُوْسُ الَّتِي خُلِقَتْ للبَطَالَةِ !"(1).
وذَكَرَ الهَرَوِيُّ فِي بَابِ ( الكَافِ مَعَ الجِيْمِ ) فِي حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ : " ... فِي كُلِّ شَيْءٍ قِمَارٌ، حَتَّى فِي لِعْبِ الصِّبْيَانِ بالكُجَّةِ"، قَالَ ابنُ الأعْرَابِيِّ : هُوَ أنْ يَأْخُذَ الصَّبِيُّ خِرْقَةً، فَيُدَوِّرُهَا كأنَّها كُرَةٌ، ثُمَّ يَتَقَامَرُوْنَ بِها، وكُجَّ : إذَا لَعِبَ بالكُجَّةِ"(2).
وكَذَا مَا ذَكَرَه الشَّيْخُ سَعَدُ الشَّثري عِنْدَ ذِكْرِه لِ( كُرَة القَدَمِ )، والطَّائِرَةِ، والسَّلَّةِ، والتِّنِسِ : " وكَذا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِها ( أيْ : كُرَةِ القَدَمِ، ونَحْوِها مِنَ الألْعَابِ المُبَاحَةِ ) إنْ كَانَ فِيْها سَبَقٌ، وعِوَضٌ يُبذلُ"(3).
* * *
__________
(1) ـ "الفروسية" لابن القيم (172)، و ( 301 - وما بعدها ) .
(2) ـ "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (8/340 ) .
(3) ـ "المسابقات" للشيخ سعد الشثري ص (202) .(1/117)
وأخِيْرًا؛ بَعْدَ اسْتِعْرَاضِ مَجَالاتِ السَّبْقِ مَا يَجُوْزُ مِنْها، ومَا يَحْرُمُ، ومَا يُبَاحُ بَذْلُ العِوَضِ (السَّبَقَ) فِيْه، ومَا يُمْنَعُ، تَبَيِّنَ لِي أنَّ هُنَاكَ قَاعِدَةً تَحْصُرُ هَذَا البَابَ، وضَابِطًا يَشْمَلُ تِلْكَ المَسَائِلَ، هُوَ أنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّعِبَ، والسَّبَقَ لا يَخْلُو مِنْ أرْبَعَةِ أحْوَالٍ :
الحَالَةُ الأوْلَى : أنْ يَكُوْنَ اللَّعِبُ مُعِيْنًا عَلَى الجِهَادِ، فَهَذَا مَحْبُوْبٌ مَرْضِيٌ للهِ تَعَالَى، يَجُوْزُ السَّبَقُ بِهِ، ويُبَاحُ؛ بَلْ يُسْتَحَبُّ بَذْلُ العِوَضِ فِيْه .
الحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أنْ يَكُوْنَ اللَّعِبُ قَائِمًا عَلَى المُصَادَفَةِ، والحَظِّ، فَهَذَا يَحْرُمُ مُطْلقًا، ويَحْرُمُ أيْضًا العِوَضُ فِيْه .
الحَالَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَانَ اللَّعِبُ لا مِنْ هَذَا القَائِمِ عَلَى المُصَادَفَةِ، ولا مِنَ المُعِيْنِ عَلَى الجِهَادِ، ومِمَّا فِيْه تَقْوِيَةٌ للبَدَنِ، وإعَانَةٌ لَه، فَتَجُوْزُ المُسَابَقَةُ فِيْه، ويَحْرُمُ بَذْلُ العِوَضِ عَلَيْه .
الحَالَةُ الرَّابِعَةُ : إنْ كَانَ اللَّعِبُ فِيْه ضَرَرٌ مُؤَكَّدٌ، أو كَانَ صَادًّا عَنْ وَاجِبٍ شَرْعِيٍّ فَهَذِه مُحَرَّمَةٌ مُطْلقًا؛ فِي لِعْبِها، وعِوَضِها.
* * *
أمَّا إذَا نَظَرْنا إلى ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَهِيَ لا تَخْرُجُ عَنِ الحَالَتَيْنِ : ( الثَّالِثَةِ، والرَّابِعَةِ ) .(1/118)
* أماَّ أنَّها مِنَ الحَالَةِ الثَّالِثَةِ : فَلِكَوْنِها مِنَ الألْعَابِ الَّتِي لا يُسْتَعانُ بِها فِي الجِهَادِ، ولا الإعْدَادِ له؛ بَلْ مُجَرَّدُ لَهْوٍ، ولَعِبٍ، هَذَا إذا سَلِمَتْ مِنَ المُحَرَّمَاتِ ( جَدَلاً )، والحَالَةُ هَذِه فَلا يَجُوْزُ العِوَضُ فِيْها قَطْعًا، سَوَاءٌ كَانَ العِوَضُ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ، أو أحَدِهِما، أو طَرَفٍ خَارِجٍ عَنْهُما، فَكُلُّ هَذَا حَرَامٌ شَرْعًا، وهُوَ مَا عَلَيْه جَمَاهِيْرُ أهْلِ العِلْمِ؛ فإخْرَاجُ المَالِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) يُعْتَبَرُ أكْلاً للمَالِ بالبَاطِلِ .
وعَلَيْه؛ فَكُلُّ مَا يُقَدَّمُ للاعِبِيْنَ مِنْ أهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) سَوَاءٌ أكَانَ : مَالاً، أو كَأسًا، أو (مِيْدَالِيَّاتٍ)، أو غَيْرِها مِمَّا يُدْفَعُ مُقَابِلَ لِعْبِهم، فَهُوَ مِنَ البَاطِلِ الَّذِي حَرَّمَه اللهُ تَعَالَى !
* أماَّ أنَّها مِنَ الحَالَةِ الرَّابِعَةِ : فَلِكَوْنِها مِنَ الألْعَابِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى ضَرَرٍ مُؤَكَّدٍ، وفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وصَدٍّ عَنْ وَاجِبٍ، والحَالَةُ هَذِه فَلا شَكَّ أنَّهَا مُحَرَّمَةٌ قطعًا، ولا أظُنُّ أحَدًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ سَيُجْرِي خِلافًا فِي ذَلِكَ .
* * *
لَقَدْ أخْطَأ كُلاً مِنَ الشَّيْخَيْنِ : مَشْهُوْرِ بنِ حَسَن، وسَعَدِ الشَّثْرِي، وغَيْرِهِما فِي جَوَازِ أخْذِ العِوَضَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )(1) !
__________
(1) ـ هُنَاكَ بَعْضُ الأخْطَاءِ الَّتِي وَقَعَ فِيْها الشَّيْخَانِ : ( مَشْهُوْرٌ، والشَّثْرِيُّ ) فِي كِتَابَيْهِمَا، سَيَأتِي بَيَانُها إنْ شَاءَ اللهُ .(1/119)
*فأمَّا الشَّيْخُ مَشْهُوْرُ فَقَدْ أجَازَ العِوَضَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) إذَا كَانَ العِوَضُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، أو مِنْ طَرَفٍ خَارِجٍ عَنِ الفَرِيْقَيْنِ، وعَزَا هَذَا القَوْلَ لابنِ القَيَّمِ فِي كِتَابِه "الفُرُوْسِيَّةِ"(1)!
وهَذِه مِنْه مُغَالَطَةٌ عِلْمِيَّةٌ، وتَجْهِيْلٌ لابنِ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ؛ بَلْ فِي هَذَا ( العَزْوِ ! ) نَقْضٌ لِمَا كَتَبَه ابنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِه "الفُرُوْسِيَّةِ" حَيْثُ إنَّه أبَانَ تَحْرِيْمَ العِوَضِ فِي الألْعَابِ المُبَاحَةِ الَّتِي لَمْ يَأْمُرْ بِها الشَّرْعُ، ولَمْ يُحَرِّمْها، بأبْلَغِ عِبَارَةٍ، وأوْضَحِ إشَارَةٍ(2). ثُمَّ كَيْفَ يَحْصُلُ هَذَا الخَطأُ مِنْ رَجُلٍ قَامَ عَلَى تَحْقِيْقِ كِتَابِ "الفُرُوْسِيَّةِ" ؟!
* أمَّا الشَّيْخُ سَعَدُ الشَّثْرِي؛ فَلَمْ يَكُنْ أقَلَّ حَالاً مِنْ سَابِقِه؛ فإنَّه بَعْدَما حَرَّمَ دَفْعَ مَالٍ، أو نَحْوِه للفَائِزِ بِسَبَبِ فَوْزِه، قَالَ : " وأرَى أنَّه لَوْ أُلْزِمَ كُلُّ مَنْ يَحْضُرْ هَذِه المُبَارَاةَ بِمَبْلَغٍ مَالِي؛ فَلا بَأسَ بِذَلِكَ، ويَكُوْنَ مِنْ بَابِ الإجَارَاتِ"(3). ثُمَّ شَرَعَ يُقَسِّمُ هَذِه الإجَارَاتِ، ويَضْرِبُ لَهَا أحْوَالاً !
قُلْتُ : كَيْفَ تَكُوْنُ ( كُرَةُ القَدَمِ )، مِنْ بَابِ الإجَارَاتِ، والإجَارَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المَنْفَعَةِ ؟!، مَعَ عِلْمِنا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَيْسَتْ مِنَ المَنْفَعَةِ فِي شَيْءٍ؛ بَلْ هِيَ الدَّاءُ العُضَالُ، الجَالِبُ لأكْثَرِ الفَسَادِ، والشُّرُوْرِ : مِنْ عَدَاوَةٍ، وبَغْضَاءَ، وسَبٍّ، ولَعْنٍ، وصَدٍّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ … إلخ .
* * *
البابُ الثَّالثُ
__________
(1) ـ انظر "كُرَة القَدَمِ" لمشهور بن حسن (44-45 ) .
(2) ـ انظر "الفروسية" لابن القيم (172)، و ( 301 - وما بعدها ) .
(3) ـ "المسابقات" لسعد الشثري ( 208-209 ) .(1/120)
الفَصْلُ الأوَّلُ : تأريخُ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ
الفَصْلُ الثَّاني : تأريخُ الألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ )
الفَصْلُ الثَّالثُ : تأريخُ ( كُرَة القَدَمِ )
الفَصْلُ الرَّابِعُ : بِدَايَاتُ غَزْوِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادَ الإسْلامِ
الفَصْلُ الأوَّلُ
تَارِيْخُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ
الرِّيَاضَةُ البَدَنِيَّةُ هِيَ ذَلِكَ النَّشَاطُ الجِسْمَانِيُّ الَّذِي يَقُوْمُ بِهِ الإنْسَانُ؛ فَهِيَ تَدْبِيْرُ الحَرَكَةِ، والسُّكُونِ، وهِيَ غَرِيْزَةٌ فِي الإنْسَانِ تُخْلَقُ مَعَهُ عِنْدَ وِلادَتِهِ .
فَهُوَ عِنْدَمَا يُحَاوِلُ أنْ يَحْبُوَ، أو يَقِفَ عَلَى سَاقَيْهِ لِيَمْشِيَ، إنَّمَا يَقُوْمُ بِرِيَاضَةٍ بَدَنِيَّةٍ تُنَاسِبُ سِنَّهُ المُبَكِّرَةَ .
فإذَا مَا شَبَّ عَنِ الطَّوْقِ أخَذَ يَجْرِي، ويَلْعَبُ وَحْدَهُ، أو مَعَ أقْرَانِه ألْعَابًا بَسِيْطَةً، تَنْتَظِمُ وتَنْمُو مَعَ نُمُوِّهِ وشَبَابِهِ .
وكَذَلِكَ الإنْسَانُ، عِنْدَمَا وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ حَمَلَتْهُ أعْمَالُ الحَيَاةِ عَلَى أنْ يَكُوْنَ ( رِيَاضِيًّا )؛ فَحَيَاتُه وَسَطَ الوُحُوْشِ، والحَيْوَانَاتِ : أرْغَمَتْهُ عَلَى الجَرِي والعَدْوِ، وتَسَلُّقِ الأشْجَارِ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الحَرَكَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ المَقْصُوْدَةِ، وغَيْرِ المَقْصُوْدَةِ(1) !
* * *
ولَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الإنْسَانِ إلى الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِه، وعَنْ أسْرَتِه؛ اضْطَرَّ حِيْنَها إلى المُصَارَعَةِ، والمُلاكَمَةِ والمُبَارَزَةِ وغَيْرِها مِنْ وَسَائِلِ الدِّفَاعِ، والهُجُوْمِ .
ومِنْ هَذِهِ الحَرَكَاتِ : مَنْ مَشْيٍ، وعَدْوٍ، وقَفْزٍ إلى رِمَايَةٍ، وصَيْدٍ، وسِبَاحَةٍ إلى مُصَارَعَةٍ، ومُلاكَمَةٍ، ومُبَارَزَةٍ : نَشَأتِ الرِّيَاضَةُ البَدَنِيَّةُ .
* * *
* تَطَوُّرُ الرِّيَاضَةِ :
__________
(1) ـ "بغية المشتاق" لحمدي شلبي (15) .(1/121)
لَقَدْ أثَّرَتِ الحَيَاةُ الزِّرَاعِيَّةُ بِمَا أدَّتْ إلَيْهِ مِنْ اسْتِقْرَارٍ، وإنْشَاءٍ للْقُرَى والمُدُنِ، ووُجُوْدِ التَّجَمُّعَاتِ البَشَرِيَّةِ، وظُهُورِ أوْقَاتِ الفَرَاغِ : فِي تَطَوُّرِ الرِّيَاضَةِ، حَيْثُ بَدَأتِ الحَاجَةُ لِلتَّرْفِيْهِ والتَّرْوِيْحِ، فَأُقِيْمَتِ الحَفَلاتِ المَوْسِمِيَّةِ فِي أيَّامِ الحَصَادِ والأعْيَادِ !؛ فَكَانَتْ مُمَارَسَةُ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ الشَّعْبِيَّةِ والرِّيْفِيَّةِ مِنْ مَظَاهِرِ تِلْكَ الاحْتِفَالاتِ، ويُمْكِنُنَا أنْ نَلْحَظَ هَذَا التَّطَوُّرَ مِنْ خِلالِ النَّظَرِ فِي الحَضَارَاتِ القَدِيْمَةِ، وما خَلَّفَتْهُ مِنْ آثَارٍ، ومِنْ ذَلِكَ :
فِي العُصُورِ القَدِيْمَةِ : ( عِنْدَ الفَرَاعِنَةِ ) :
لَقَدْ وُجِدَتْ فِي مَقَابِرِ بَنِي حَسَنٍ ( بالْمَنِيَّا بَصَعِيْدِ مِصْرَ ) نُقُوْشٌ، ثَبَتَ مِنْ دِرَاسَتِها وُجُوْدُ رُفَاتِ شَخْصٍ، هُوَ : مُدِيْرُ الرِّيَاضَةِ، فِي عَهْدِ ( سُوْنَسْرِتْ الثَّانِي 1906 – 1887 قَبْلَ المِيْلادِ )، حَيْثُ كَانَتْ فِي مِصْرَ آنَذَاكَ رِيَاضَةٌ مُنَظَّمَةٌ، ومَلاعِبُ، ومُنْشَآتٌ رِيَاضِيَّةٌ عَلَى نِطَاقٍ وَاسِعٍ(1) .
__________
(1) ـ هَذِه النُّقُوشُ والآثَارُ مَا هِي إلاَّ خُرَافَاتٌ سَاذَجَةٌ؛ طَالَمَا اعْتَمَدَ عَلَيْها أهْلُ العَطَالَةِ العِلْمِيَّةِ، فِي تَرْوِيْجِ خُرَافَاتِهم البَارِدَةِ، فلا تَرْكَنْ إلَيْها !، وما ذَكَرْتُها هُنَا إلاَّ تَنَزُّلاً لِمَا سطَّرُوه فِي تَارِيْخِهم القَدِيْمِ !(1/122)
كَمَا ثَبَتَ مِنَ النُّقُوْشِ أنَّ قُدَمَاءَ المِصْرِيِّيْنَ عَرَفُوا أنْوَاعًا مِنَ الألْعَابِ، مِنْها : ألْعَابُ الكُرَةِ، والسِّبَاحَةُ، وصَيْدُ الأسْمَاكِ، والرَّقْصُ البَهْلَوَانِيَّ، والجُمْبَازُ، والمُبَارَزَةُ بالعِصِيِّ، والمُصَارَعَةُ، ورَفْعُ الأثْقَالِ، وغَيْرُ ذَلِكَ(1) .
وقَدْ تَطَوَّرَتْ بِمُرُوْرِ الزَّمَنِ الألْعَابُ الشَّعْبِيَّةُ الرِّيْفِيَّةُ، وظَهَرَتْ مِنْها أنْوَاعٌ كَثِيْرَةٌ : مِنْ لَعِبٍ حَرَكِيٍّ بَدَنِيٍّ، إلى عَقْلِيٍّ تَرْفِيْهِيٍّ، ثُمَّ وُضِعَتْ لَهَا قَوَاعِدُ، وأحْكَامٌ، وقَوَانِيْنٌ، كَمَا ألِّفَتْ فِيْها الكُتُبُ(2).
* * *
* اليُوْنَانُ، والدَّوْرَاتُ الأُوْلُمْبِيَّةُ :
كَانَتْ قُوَّةُ الشَّعْبِ مِنْ قُوَّةِ العَقْلِ، والجِسْمِ، فَكَانَ الزُّعَمَاءُ والقَادَةُ يَسْتَعْرِضُوْنَ قُوَّتَهُم، وأجْسَامَهُم لِيُبَرْهِنُوا بِهِمَا عَلَى قُوَّةِ العَقْلِ، وكَانَ البَطَلُ القَوِيُّ : هُوَ العُدَّةَ القَوِيَّةَ، والسِّلاحَ الفَعَّالَ؛ لِهَذَا اتَّجَهَ الزُّعَمَاءُ إلى الرِّياضَةِ البَدَنِيَّةِ الَّتِي أعَدُّوْها الوَسِيْلَةَ الوَحِيْدَةَ لِقُوَّةِ الجِسْمِ .
__________
(1) ـ "الألعاب الأولمبية" المقدمة، و ص (11- وما بعدها ) .
(2) ـ "الألعاب الريفية الشعبية" لمحمد عادل خطاب .(1/123)
كَمَا كَانَتْ حِكْمَةُ : ( العَقْلُ السَّلِيْمُ فِي الجِسْمِ السَّلِيْمِ )(1)، هِيَ السَّائِدَةُ آنَذَاكَ، ومِنْ ثَمَّ كَانَ الشَّعْبُ يُقَدِّسُ البَطَلَ المِغْوَارَ، ويُلْبِسُهُ التِّيْجَانَ الشَّعْبِيَّةَ، ثُمَّ يَهَبُهُ المَيْزَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةَ .
فَنَشأَتْ فِكْرَةُ الألْعَابِ الأُولُمْبِيَّةِ ( نِسْبَةً إلى وَادِي أُوْلُمْب فِي اليُوْنَانِ )، وبَدَأتْ مُنْذُ سَنَةَ (776 قَبْلَ المِيْلادِ )، وأُقِيْمَتْ بِصِفَةٍ دَوْرِيَّةٍ كُلِّ أرْبَعِ سَنَوَاتٍ، واشْتَدَّ فِيْه التَّنَافُسُ بَيْنَ مُقَاطَعَاتِ اليُوْنَانِ عَلَى ارْتِدَاءِ تِيْجَانِ ( أُوْلُمْب المُقَدَّسِ ) شِعَارًا للزَّعَامَةِ(2) !
__________
(1) ـ إنَّ ما يَتَنَاقَلُه النَّاسُ لهَذِه الحِكْمَةِ السَّائِرَةِ، لا يُسَلَّمُ لهم فِي هَذا الإطْلاقِ !، فَكَمْ رَجُلٍ أعْمَى، أو مُعَاقٍ عَنِ الحَرَكَةِ، ونَحْوِها؛ وهُو غَايَةٌ فِي العَقْلِ، والعِلْمِ، أمَّا إذَا أرِيْدَ بالجِسْمِ السَّلِيْمِ هُنَا : سَلامَةُ العَقْلِ، والسَّمْعِ فَهَذا تَحْصِيْلٌ حَاصِلٌ !
(2) ـ سَيَأتِي لِهَذا مَزِيْدُ تَفْصِيْلٍ إنْ شَاءَ اللهُ ص ( ) .(1/124)
ومَعَ مُرُوْرِ الزَّمَنِ تَطَوَّرَتِ الفِكْرَةُ حَتَّى غَدَتْ تَعُمُّ شُعُوْبَ القَارَاتِ الخَمْسِ، ومِنْ ثَمَّ كَانَتْ فِكُرَةُ الحَلَقَاتُ الخَمْسِ شِعَارًا لَهَا، ومَا انْفَكَّتْ تُقَامُ دَوْرِيًّا، وتَشْتَرِكُ فِيْها مُعْظَمُ شُعُوْبِ العَالَمِ، وتُقَامُ فِي عَوَاصِمِ مُدُنٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلِّ أرْبَعِ سَنَوَاتٍ(1)، وتَنْقُلُها وَسَائِلُ الأعْلامِ المُخْتَلِفَةِ حَيْثُ يَرَاها جُلُّ سُكَّانِ الكُرَةِ الأرْضِيَّةِ(2) .
* * *
* الرِّيَاضَةُ، والدِّيَانَاتُ القَدِيْمَةُ : اكْتَنَفَتِ الأخْبَارُ – مِنْ كَوَارِثَ، ومَوْتٍ، ورِيَاحٍ، وبَرْقٍ، وصَوَاعِقَ – الحَيَاةَ البِدَائِيَّةَ لِمُخْتَلَفِ الشُّعُوْبِ القَدِيْمَةِ، وحَارَ الإنْسَانُ الجَاهِلُ بالنُّبُوَّاتِ ! فِي تَعْلِيْلِ أسْبَابِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وانْتَهَى إلى أنَّ وَرَاءهَا قُوَّةً تُحَرِّكُها هِيَ : ( الأرْوَاحُ )، فَشَرَعَ الإنْسَانُ يَتَقَرَّبُ إلَيْها، ويَعْبُدُها طَلَبًا لِرِضَاهَا !
__________
(1) ـ "مدونة الألعاب الأولمبية" لإبراهيم علام ، ص (40- ما بعدها )، و"الألعاب الأولمبية" لمصطفى .
(2) ـ لَقَدِ الْتَزَمْتُ فِي كِتَابَاتِي ـ وللهِ الحَمْدُ ـ التَّارِيْخَ الهِجْرِيَّ، وطَرَحْتُ مَا سِوَاه ـ المِيْلادِي ـ لِعُمُوْمِ الفَائِدَةِ المُحَصَّلَةِ عِنْدَ القَارِئ المُسْلِمِ؛ نُصْرَةً للتَّارِيْخِ الإسْلامِي مِنْ وَطْأتِ الانْهِزَامِ التَّارِيْخِي أمَامَ الغَرْبِ، أو مِنَ المُجَارَاةِ للتَّبَعِيَّةِ المَقِيْتَةِ لهم !، فِي حِيْنَ أنَّنِي أنَاشِدُ كُتَّابَ المُسْلِمِيْنَ أنْ يَفِيْقُوا لتَارِيْخِهم، وأنْ يَحْفَظُوا للأمَّةِ حَوَادِثَهم بالتَّوَارِيْخِ الهِجْرِيَّةِ لَفْظًا وخَطًّا .(1/125)
وبالتَّدْرِيْجِ صَارَتِ الأرْوَاحُ آلِهَةً، وأُقِيْمَتِ الحَفَلاتُ الدِّيْنِيَّةُ تَقْدِيْسًا لَهَا، ثُمَّ أُدْمِجَتْ فِي الحَفَلاتِ الشَّعْبِيَّةِ، وأشْرَفَ عَلَيْها رِجَالُ الدِّيْنِ !، وتَعَدَّدَتِ الأسَاطِيْرُ عَنْ الآلِهَةِ وأشْبَاهِهِا، وكُلُّها تَنْسُبُ إلَيْهِا : البُطُوْلَةَ، والشَّجَاعَةَ، والانْتِصَارَ فِي الحُرُوْبِ، والفَوْزَ فِي المُسَابَقَاتِ مِمَّا حَبَّبَ الرِّيَاضَةَ إلى النُّفُوْسِ؛ فَتَطَوَّرَتِ الألْعَابُ، والرِّيَاضَاتُ أيْضًا.
وقَدْ أذْكَتِ العَقَائِدُ الدِّيْنِيَّةُ تِلْكَ النَّهْضَةَ حَتَّى صَارَتِ العِنَايِةُ بالأجْسَامِ وَاجِبًا دِيْنِيًّا عِنْدَ بَعْضِ الشُّعُوبِ : كالْيُوْنَانِ(1).
* * *
الفَصْلُ الثَّاني
تأرِيْخُ الألْعَابِ الأُولُمْبيَّةِ
إنَّ حَدِيثَنا عَنِ الألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ ) لَيْسَ مَقْصَدًا بِرَأسِهِ فِي رِسَالتِنا هَذِه؛ إلاَّ أنَّه قَدْ وُجِدَ لَهَا عُلاقَةٌ قَدِيمةٌ بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَمَّا دَفَعَنا إلى الكَلامِ عَنْها هُنَا؛ حَيْثَ وُجِدَتْ بينَهُما اتِّصَالٌ فِي عَلائِقِ النَّسَبِ مُنْذُ عَام ( 1287هـ) مَمَّا شَجَّعَ القَائِمِينَ عَلَيْها أنْ يَسْعَوْا دُوْنَ تَوَانٍ مِنْهُم فِي سَنِّ القَوَانِيْنِ الرِّياضيَّةِ فِي دَوْرَاتِها، ومَرَاحِلِها بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ؛ لاحْتِضانِ ما يُمْكِنُ احْتِضَانُه مِنَ الألْعَابِ الرِّياضيةِ ابْتِداءً : بِسِباقِ العَدْوِ، وانْتِهاءً بـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) وغَيْرِها . فَعِنْدَ ذَلِكَ تَبنَّتِ الألْعَابُ ( الأولُمبيَّةِ ) : ( كُرَةَ القَدَمِ ) تَبَنِّيًا غَيْرَ شَرْعِي كَمَا سَيَأتِي .
__________
(1) ـ "الألعاب الأولمبية" المقدمة ص (10) .(1/126)
فَعِنْدَ هَذَا كَانَ مِنَ التَّكْييفِ الفِقْهي، والتَّصوُّرِ العِلْمِي أنْ نَتَعَرَّفَ عَلَى بَعْضِ حَقَائِقِ هَذِهِ الألْعَابِ (الأولُمبيَّةِ) مَمَّا سَيُسَاعِدُنا ـ إنْ شَاءَ اللهُ ـ فِي تَصَوُّرِ، وحُكْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ البَحْثِ عَنْها .
* * *
كما أنَّني أُكرِّرُ شَرْطي هُنا أنَّه لَيْسَ لَنَا أنْ نَقِفَ مَعَ كُلِّ ما للألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ ) مِنْ تَفَاصِيلَ وأبْحَاثٍ؛ اللَّهمَّ مَا كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَسْألَتِنا ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَعِنْدَ هَذَا آثَرْنا الاخْتِصَارَ رَيْثَمَا نَقِفُ وَقْفةً عَجْلَى مَعَ مُجْملِ الألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ ) إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
* تَارِيْخُ الألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ ) :
تُعْتَبَرُ اليُوْنَانُ هِي مَنْشَأ الدَّوْرَاتِ الأولُمْبِيَّةِ، كَذِلَكَ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ عَلَى أنَّ بِدَايَتَها التَّارِيخِيَّةَ هُنَاكَ كَانَتْ عَامَ ( 776 قَبْلَ المِيْلادِ ) !
وَلَقَدْ كَانَتْ أهَمُّ فَقْرَةٍ فِي مُعَاهَدَةِ عَامَ ( 776 قَبْلَ المِيْلادِ ) تِلْكَ الَّتِي تَقُولُ :
أُوْلِيمْبِيا مَكَانٌ مُقَدَّسٌ، وكُلُّ مَنْ يَجْرَؤُ عَلَى دُخُولِ هَذِه المَدِينَةِ وهُوَ يَحْمِلُ سِلاحًا يُكْوَى بالنَّارِ تَدْنِيْسًا لَهُ، كمَا أنَّه يُعْتَبَرُ مُلْحِدًا كُلُّ مَنْ تَهَيَّأتْ لَهُ الوَسَائِلُ، ولَمْ يَحُلْ دُوْنَ ارْتِكَابِ هَذِه الجَرِيمَةِ .
ولَقَدْ عُرِفَتِ الألْعَابُ الأولُمْبِيَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُدُنِ اليُونَانِ، لَكِنْ أشْهَرُها كَانَتْ ( أُوْلِيمْبِيا ) الَّتِي كَانَتْ ألْعَابُها تَتَّسِمُ بالتَّعْبِيرِ عَنْ المَشَاعِرِ الوَطَنِيَّةِ، إلى جَانِبِ الطَّابِعِ الدِّيْنِي(1).
كَمَا أنَّها أخَذَتْ مَرْحَلَتَيْنِ : ( قَدِيمةً، وحَدِيثَةً ) كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ السابق (97) .(1/127)
* فأمَّا الألْعَابُ القَدِيْمَةُ : كَانَ لِلرِّياضِيِّينَ دَوْرٌ مُهِمٌّ فِي الاحْتِفَالاتِ الدِّيْنِيَّةِ لِبَلادِ الإغْرِيقِ القَدِيمَةِ، حَيْثُ اعْتَقَدَ النَّاسُ أنَّ مِثْلَ هَذِه المُسَابَقَاتِ تَسُرُّ أرْوَاحَ المَوْتَى، وكَانَ يَجْرِي تَمْجِيدُ الآلِهَةِ المَزْعُومَةِ فِي الاحْتِفَالاتِ الدِّيْنِيَّةِ الَّتِي تَجْري فِي المُدُنِ، والقَبَائِلِ الإغْرِيقِيَّةِ مَرَّةً كُلُّ أرْبَعِ سَنَواتٍ، ويُعْتَقَدُ أنَّ هَذِه الاحْتِفَالاتِ بَدَأتْ قَبْلَ القَرْنِ الخَامِسِ عَشَرَ قَبْلَ المِيْلادِ !
ويُعَدُّ سِبَاقُ المَلْعَبِ الأوْلِيْمبي فِي عَامِ ( 776 قَبْلَ المِيلادِ )، أوَّلُ سِبَاقٍ مُسَجَّلٍ، وكَانَ هَذَا المَلْعَبُ يَقَعُ فِي وَادِي ( أوْلِيمْبِيا ) فِي غَرْبِي اليُوْنَانِ . وكَانَ هَذَا المَلْعَبُ الأوْلِيمْبي يَسْتَوْعِبُ نَحْوَ أرْبَعِيْنَ ألْفٍ مِنَ المُشَاهِدِيْنَ . ولعِدَّةِ سَنَواتٍ كانَتْ المُشَارَكَةُ فِي الألْعَابِ الأولِيمْبِيَّةِ، ومُشَاهَدَتُها مَقْتَصِرَةً على الرِّجَالِ !
وكَانَتْ الألْعَابُ الأوليمبِيَّةُ تَجْرِي كُلَّ أرْبَعِ سَنَواتٍ، واقْتَصَرَتِ الدَّوْرَاتُ الثَّلاثُ عَشَرَةَ الأوْلَى عَلَى سِبَاقِ المَشِيِّ لِمَسَافَةِ (180 مِتْرًا ) . وبِمُرُورِ السِّنِينَ تَمَّتْ إضَافَةُ مُسَابَقَاتِ المَسَافَاتِ الطَّوِيلَةِ، كَمَا أُدْخِلَتْ أنْوَاعٌ أُخْرَى مِنَ السِّبَاقَاتِ إلى الألْعَابِ .
حَيْثُ أُدْخِلَتْ عَامَ ( 708 قَبْلَ المِيلادِ ) مُسَابَقَاتُ المُصَارَعَةِ، والمُسَابَقَاتُ الخُمَاسِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ تَتَكَوَّنُ أصْلاً مِنْ رَمْي القُرْصِ، والرُّمْحِ، والقَفْزِ الطَّوِيلِ، والعَدْوِ، والمُصَارَعَةِ .(1/128)
ودَخَلَتْ المُلاكَمَةُ إلى الألْعَابِ عام ( 688 قَبْلَ المِيلادِ )، وأُضِيفَ سِبَاقُ العَرَبَةِ الَّتِي يَجُرُّها أرْبَعَةُ خُيُولٍ فِي عَامِ (680 قَبْلَ المِيلادِ )، وفِي عَامِ ( 648 قَبْلَ المِيلادِ ) أدْخَلَتِ الألْعَابُ الأُولِيمْبِيَّةُ مُسَابَقَةً خَطِرَةً تُدْعَى ( البِنْكِرَاتِيوْم ) تَجْمَعُ بَيْنَ المُلاكَمَةِ، والمُصَارَعَةِ .
وبَعْدَ غَزْوِ الرُّوْمَانِ للْيُونَانِ خِلالِ القَرْنِ الثَّانِي قَبْلَ المِيْلادِ، فَقَدَتِ الألْعَابُ الأولِيمْبِيَّةُ طَابِعَها الدِّيْنِي حَيْثُ أصْبَحَ اهْتِمَامُ المُتَسَابِقِينَ مَقْصُوْرًا عَلَى كَسْبِ المَالِ فَحَسْبُ .
وقَدْ أمَرَ الإمْبِرَاطُورُ ( ثِيُودُوْسِيوُسْ ) عَامَ ( 394م ) بِوَقْفِ الألْعَابِ الأولِيمْبِيَّةِ بِسَبَبِ الانْحِدَارِ الشَّدِيدِ في مُسْتَوَاها، ولَمْ تَجْرِ أيَّةُ مُسَابَقَاتٍ أكْثَرَ مِنْ ( 1500 ) سَنَةٍ(1).
* * *
* أمَّا الألْعَابُ الحَدِيثَةُ : فَقَدْ دَمَّرَتْ هَزَّةٌ أرْضِيَّةٌ مَلْعَبَ أُوْلِيمْبِيا، ثُمَّ دَفَنَ انْجِرَافٌ أرْضِيٌّ لاحِقٌ مَا تَبَقَّى مِنْ آثَارِ المَلْعَبِ .
وفِي عَامِ ( 1292هـ )، تَمَكَّنَتْ مَجْمُوعَةٌ مِنَ الأثَرَيِّيْنَ الألْمَانِ مِنِ اكْتِشَافِ بَقَايَا المَلْعَبِ، وقَدْ دَفَعَ هَذَا الاكْتِشَافُ إلى الفِرِنْسِيِّ البَارُوْنِ ( بِيَيرْ دِيْ كُوْبِيرْتَانْ ) بِفِكْرَةِ تَنْظِيمِ أُوْلِمْبِيَادٍ عَالَمِيَّةٍ حَدِيْثَةٍ.
__________
(1) ـ انظر "الموسوعة العربية العالمية" (2/532) .(1/129)
حَيْثُ كَانَ ( دِيْ كُوبِيرْتَانْ ) يَعْتَقِدُ أنَّ الرِّيَاضَةَ تُؤَدِّي دَوْرًا مُهِمًّا فِي تَكْوِينِ الشَّخْصِيَّةِ، كَمَا كان يَعْتَقِدُ أيْضًا أنَّ المُسَابَقَاتِ العَالَمِيَّةَ تُعَزِّزُ السَّلامَ الدُّوَلِيَّ(1)، وقَدْ عَرَضَ ( دِيْ كُوبِيرْتَانْ ) عَامَ (1312هـ ) فِكْرَتَه أمَامَ لِقَاءٍ دُوَلِيٍّ لِرِيَاضَاتِ الهُوَاتِ، وصَوَّتَتِ المَجْمُوعَةُ بتَنْظِيمِ الألْعَابِ، وشُكِّلَتِ اللَّجْنَةُ الأُولِيمْبِيَّةُ الدُّوَليَّةُ .
كما أُجْرِيَتْ أوَّلُ ألْعَابٍ أُولِيمْبِيَّةٍ حَدِيثَةٍ عَامَ ( 1314هـ ) فِي أثِيْنَا، وقَدْ اشْتَرَكَتِ النِّسَاءُ فِي الألْعَابِ الحَدِيثَةِ لأوَّلِ مَرَّةٍ عَامَ ( 1318هـ)(2).
فِي حِيْنَ أدَّتِ الصِّرَاعَاتُ السِّيَاسِيَّةُ إلى عَدَدٍ مِنَ المُقَاطَعَاتِ للألْعَابِ الأُولِيمْبِيَّةِ، فَقَدِ انْسَحَبَ أكْثَرَ مِنْ ثَلاثِيْنَ دَوْلَةً مِنَ الألْعَابِ الصَّيْفِيَّةِ فِي ( مُونْتَرْيِالْ ) عَامَ (1396هـ )، قَبْلَ بَدْءِ الألْعَابِ بِسَبَبِ خِلافَاتٍ سِياسِيَّةٍ، كَمَا قَاطَعَتْ كَنَدَا، و اثْنَتَانِ وخَمْسُوْنَ دَوْلَةً أُخْرَى دَوْرَةَ الألْعَابِ الصَّيْفِيَّةِ فِي مُوسْكُو عَامَ ( 1400هـ )، احْتِجَاجًا عَلَى اجْتِيَاحِ ما كَانَ يُعْرَفُ بالاتِّحَادِ السُّوْفِييتي لأفْغَانِسْتَانَ .
كَمَا قَاطَعَ مَا كَانَ يُعْرَفُ بالاتِّحَادِ السُّوْفِييتي، وأرْبَعَ عَشَرَةَ دَوْلَةً أُخْرَى دَوْرَةَ الألْعَابِ الصَّيْفِيَّةِ فِي لُوْسْ أُنْجُلُوسْ عَامَ ( 1404هـ )، وقَاطَعَتْ كُلٌّ مِنْ كُوْبَا، وكُوْرِيا الشَّمَالِيَّةُ دَوْرَةَ الألْعَابِ الصَّيْفِيَّةِ فِي سِيؤُولْ بِكُوْرِيا الجَنُوبِيَّةِ عَامَ ( 1408هـ ) .
__________
(1) ـ وهذه وَاحِدَةٌ مِنْ سَوَالِفِ نَفَثَاتِ دُعَاةِ التَّقَارُبِ بَيْنَ الأدْيَانِ، فتأمَّل !
(2) ـ انظر "الموسوعة العربية العالمية" (2/532) .(1/130)
* * *
وقَدْ أثَّرَتْ قَضِيَّةُ تَعَاطِي المُنَشِّطَاتِ عَلَى سِبَاقَاتِ الألْعَابِ الصَّيْفِيَّةِ عَام ( 1408هـ )، حَيْثُ تَمَّ اسْتِبُعَادُ تِسْعَةِ رِيَاضِيِّين مِنَ البُطُولَةِ لِثُبُوتِ تَعَاطِيْهِم المُنَشِّطَاتِ، وكان مِنْ أَهَمِّ المُسْتَبْعَدِين العَدَّاءُ الكَنَدِيُّ ( بِنْ جُونْسُونْ ) الَّذِي فَازَ بِسِبَاقِ (100 مِتْرٍ )، حَيْثُ ثَبَتَ أنَّه قَدْ تَعَاطَى المُنَشِّطَاتِ قَبْلَ السِّبَاقِ(1).
إنَّ قَضِيَّةَ تَعَاطِي المُنَشِّطَاتِ فِي الأوْسَاطِ الرِّياضِيَّةِ لَمْ يَعُدْ مِنَ الخَفَاءِ بِمَكانٍ؛ بَلْ أصْبَحَتْ حَادِثَةً وحَدِيثًا، فَكُلُّ مَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ اللاعِبِيْنَ الَّذِين تَعَاطَوْا مِثْلَ هذه المُنَشِّطَاتِ ما هُوَ إلاَّ غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، وما خَفِيَ كَانَ أعْظَمَ، كَمَا أنَّ تَعَاطِيَ المُنَشِّطَاتِ لَمْ يَنْتَهِ إلى هَذَا الحَدِّ؛ بَلْ تَعَدَّاهُ إلى تَعَاطِي، وبَيْعِ المُخَدِّرَاتِ أحْيَانًا، ويَدُلُّ على ذَلِكَ ما نَشَرَتْهُ الصُّحُفُ العَالَمِيَّةُ، والمَحَلِّيَّةُ عَنِ بَعْضِ اللاعِبِيْنَ المَشْهُوْرِيْنَ عَالَمِيًّا، وكَذَا مَا تَذْكُرُهُ الصَّحَافَةُ عَنْ بَعْضِ اللاعِبِيْنَ بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ .
* * *
* حَقِيقَةُ الألْعَابِ ( الأولُمْبِيَّةِ ) :
هِيَ مُسَابَقَاتٌ عَالَمِيَّةُ تَعْمَلُ عَلَى تَجْمِيعِ أفْضَلِ الرِّيَاضِيِّينَ العَالَمِيِّينَ مِنَ أجْلِ التَّنَافُسِ بَيْنَهُم .
ولَيْسَ هُنَاكَ حَدَثٌ رِيَاضِيٌّ آخَرَ يَحْظَى بِمِثْلِ مَا تَحْظَى بِهِ مِنْ اهْتِمَامٍ، أمَّا حُضُورُ النَّاسِ لِهَذِهِ الألْعَابِ فَيَصِلُ إلى بِضْعَةِ مَلايينَ، ويُشَاهِدُهَا عَبْرَ شَاشَاتِ التِّلْفَازِ مِئَاتُ المَلايِينِ !
__________
(1) ـ السابق (2/533) .(1/131)
تَتَأَلَّفُ الألْعَابُ ( الأولُمْبِيَّةِ ) مِنَ الألْعَابِ الصَّيْفِيَّةِ، والألْعَابِ الشِّتْوِيَّةِ، وتُقَامُ الألْعَابُ الصَّيْفِيَّةُ فِي مَدِينَةٍ رَئِيْسَةٍ، أمَّا الألْعَابُ الشِّتْوِيَّةُ فَتُقَامُ فِي مُنْتَجَعٍ شِتْوِيٍّ، وكانَتِ الألْعَابُ ( الأولُمْبِيَّةِ ) فِي المَاضِي تُقَامُ كُلَّ أرْبَعِ سَنَواتٍ عَلَى أنْ تُقَامَ الألْعَابُ الصِّيْفِيَّةُ، والشُّتْوِيَّةُ فِي نَفْسِ العَامِ، وابْتِدَاءً مِنْ عَامَ (1415هـ )، كَمَا أصْبَحَتِ الألْعَابُ الصَّيْفِيَّةُ، والشِّتْوِيَّةُ تُقَامُ كُلَّ أرْبَعِ سَنَوَاتٍ مَعَ فَاصِلِ سَنَتِينِ بِيْنِهُما(1).
* * *
وتُعْتَبَرُ مَرَاسِمُ الافْتِتَاحِ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ مُثِيرَةً للإعْجِابِ، حَيْثُ يَدْخُلُ المَلْعَبَ أوَّلاً رِيَاضِيُّو اليُوْنَانِ إحْيَاءً لِذِكْرَى الألْعَابِ الأَصْلِيَّةِ الَّتِي أُقِيمَتْ في اليُوْنَانِ، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ دُخُولُ رِيَاضِيِّي البُلْدَانِ الأُخْرَى في تَرْتِيبِ ( ألِفْبَائِي ) لأسْمَاءِ دُوَلِهِم بِلُغَةِ البَلَدِ المُضَيِّفِ، ثُمَّ يَدْخُلُ رِيَاضِيُّو البَلَدِ المُضَيَّفِ أخِيْرًا.
يَقُومُ رَئِيْسُ البَلَدِ المُضَيِّفِ بالإيْذَانِ بِبَدْءِ البُطُوْلَةِ، فَيَرْفَعُ العَلَمَ الأُوْليمْبِيِّ، وتَصْدَحُ الأبْوَاقُ، وتُطْلَقُ المَدْفَعِيَّةُ تَحِيَّةً، وتَنْطَلِقُ مِئَاتُ الحَمَائِمِ فِي الهَوَاءِ رَمْزًا للسَّلامِ !
__________
(1) ـ السابق (2/529) بتصرف يسير .(1/132)
وتُعَدُّ لَحْظَةُ إشْعَالِ الشُّعْلَةِ الأولِيمْبِيَّةِ أكْثَرَ الدَّقائِقِ إثارَةً فِي حَفْلِ الافْتِتَاحِ، ويأتِي عَدَّاءانِ بالشُّعْلَةِ مِنْ وَادِي أُولِمْبِيَا مَكَانَ إقَامَةِ البُطُوْلَةِ القَدِيمَةِ، ويَشْتَرِكُ آلافُ العَدَّائِيينَ فِي هَذِه الرِّحْلَةِ الَّتِي تَبْدَأ قَبْلَ أرْبَعَةِ أسَابِيعٍ مِنْ تَارِيخِ البُطُوْلَةِ، ويُمَثِّلُ العَدَّاءونَ : اليُوْنَانَ، والبُلْدَانَ الوَاقِعَةَ بَيْنَ اليُوْنَانِ، والبَلَدِ المُضَيِّفِ .
وتَشْتَرِكُ الطَّائِرَاتُ، والسُّفُنُ فِي نَقْلِ الشُّعْلَةِ عَبْرَ الجِبَالِ والبِحَارِ، ثُمَّ يَقُوْمُ آخِرُ العَدَّاءيْنَ بحَمْلِ الشُّعْلَةِ إلى دَاخِلِ المَلْعَبِ، وإشْعَالِ الشُّعْلَةِ الأوْلِمْبِيَّةِ، وتَبْقَى الشُّعْلَةُ مُشْتَعِلَةً حَتَّى نِهَايَةِ المُسَابَقَاتِ .
ويَزْعُمُوْنَ أيْضًا!؛ أنَّ تَنْظِيمَ الألْعَابَ ( الأولُمبيَّةَ ) الحَدِيثَةِ كَانَ لتَعْزِيزِ السَّلامِ!، ( وحَرْبُ المُسْلِمِيْنَ أكْبَرُ دَلِيْلٍ !! )، والصَّدَاقَةِ ! ( وهَذِهِ دَعْوَةٌ تقريبِيَّةٌ كُفْرِيَّةٌ )، وتَنْمِيَةِ قُدُرَاتِ الرِّياضِيِّين الهُوَاةِ! ( وهَذِهِ دَعْوَةٌ صَرِيحةٌ لتَشْجِيعِ مِهْنةَ الاحْتِرافِ ) .
* * *
* فِكْرَةُ الحَلَقَاتِ الخَمْسِ :
ويُمَثِّلُ شِعَارُ الدَّوْرَاتِ الأولِيمْبِيَّةِ خَمْسَ حَلَقَاتٍ مُتَدَاخِلَةٍ تُمَثِّلُ قَارَاتِ : أفْرِيقِيَا، وأسِيَا، وأُسْتُرَالِيَا، وأُوْرُوبَا، وكَذَلِكَ كُلاً مِنْ قَارَّتِي أمْرِيكا الشَّمَاليَّةِ، وأمْرِيْكا الجَنُوبِيَّةِ .(1/133)
أمَّا أَلْوَانُ الحَلَقَاتِ فَهِي : الأسْوَدُ، والأزْرَقُ، والأخْضَرُ، والأحْمَرُ، والأصْفَرُ . تَتَضَمَّنُ أعْلامَ الدُّوَلِ المُشَارِكَةِ لَوْنًا وَاحِدًا عَلَى الأقَلِّ مِنْ هَذِه الألْوَانِ، وعلى الرُّغْمِ مِنْ الأهْدَافِ الَّتِي تَكْمُنُ وَرَاءَ انْعِقَادِ الدَّوْرَاتِ الأوْلِيمْبِيَّةِ؛ فإنَّ هَذِه الدَّوْرَاتِ كَثِيرًا مَا تَكُونُ مَوْضِعَ خِلافٍ ونَقْدٍ(1).
* * *
فَمِنْ هُنَا نَشَأَتْ فِكْرَةُ الحَلَقَاتِ الخَمْسِ المُتَدَاخِلَةِ، إشَارَةً إلى القَارَاتِ الخَمْسِ الَّتِي تَشْتَرِكُ شُعُوْبُها فِيْها، ومِنْ ثَمَّ خَضَعَتِ الألْعَابُ للقَانُوْنِ الرِّيَاضِيِّ الدُّولِيِّ .
كَمَا خَلَعَ الشَّابُ الفِرِنْسِيُّ ـ عَلَى الدَّوْرَاتِ : الاسْتِقْلالَ عَنْ سُلْطَانِ الحُكُوْمَاتِ، وجَعَلَها تَحْتَ سُلْطَانِ الشُّعُوْبِ، وخَصَّها بَتَقَالِيْدَ، وشَارَاتٍ مُمَيَّزَةِ، وأحْكَمَ بِها، وبأوْضَاعِها الصِّلاتِ بَيْنَ شَبَابِ العَالَمِ، واضْطَلَعَ بِها رِسَالَةً اجْتِمَاعِيَّةً لِتَنْشِئَةِ جِيْلٍ جَدِيْدٍ يَهْدِفُ إلى تَقْدِيْسِ : الرُّجُوْلَةِ، والنِّظَامِ، والحُرِّيَةِ، ومُحَارَبَةِ الذُّلِّ، والمَرَضِ، والأثَرَةِ، وإيْقَاظِ القُوَى الكَامِنَةِ فِي الجِسْمِ، وتَسْهِيْلِ سُبُلِ التَّعَارِفِ(2) .
ولَنَا مَعَ هَذِه الخَلِعَاتِ الَّتِي ألْبَسَهَا الشَّابُ الفِرِنْسِيُّ الألْعَابَ الأولُمْبِيَّةَ نَظَرَاتٌ، وانْتِقَادَاتٌ جَوْهَرِيَّةُ، كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ السابق .
(2) ـ انظر "بغية المشتاق" لحمدي شلبي ص (118-119) .(1/134)
أوَّلاً : لَقَدْ اسْتَجَارَ الشَّابُ الفِرِنْسِيُّ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ؛ يَوْمَ أخْرَجَ الألْعَابَ الأولُمْبِيَّةَ مِنْ لِباسِ الدِّيَانَاتِ القَدِيْمَةِ، وألبسها دِيَانَةً حَدِيْثَةً؛ هِيَ أشَدُّ كُفْرًا وضَلالاً مِمَّا كَانَتْ عَلَيْه، وذَلِكَ بِجَعْلِها تَحْتَ سُلْطَانِ الشُّعُوْبِ، مَعَ تَقْدِيْسِ الحُرِّيَةِ، وهَذِهِ فِي حَدِّ ذَاتِها : نَفْثَةٌ إلْحَادِيَّةٌ، تُمَجِّدُ الحُرِّيَاتِ، و(الدِّيْمُقْرَاطِيَّاتِ) : أيْ حُكْمُ الشَّعْبِ بالشَّعْبِ !، وهَذَا مِمَّا يُؤَكِّدُ لَنَا أنَّ الألْعَابَ ( الأولُمْبِيَّةَ ) لا سِيَّمَا ( كُرَةَ القَدَمِ ) : لهيَ طَوَاغِيْتٌ عَصْرِيَّةٌ، ومَذَاهِبُ فِكْرِيَّةٌ !
ثانيًا : لَقَدْ أحْكَمَ عَلَيْها أيْضًا دَعْوَةً كُفْرِيَّةً لَيْسَتْ عَنْ سَابِقَتِها بِبَعِيْدٍ، وذَلِكَ عِنْدَمَا أحْكَمَ فِيْهَا تَقْوِيَةَ الصِّلاتِ بِيْنَ شَبَابِ العَالِمِ، وتَسْهِيْلَ التَّعَارُفِ بَيْنَهُم !، وهَلْ هَذِهِ إلاَّ دَعْوَةُ تَمَازُجٍ بَيْنَ الإسْلامِ وغَيْرِهِ مِنَ الأدْيَانِ البَاطِلَةِ ؟، وهُوَ مَا يُسَمَّى : بتَقَارُبِ الأدْيَانِ !
* * *(1/135)
ومِمَّا يُؤَكِّدُ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، هُوَ مَا ذَكَرَه عُمَرُ فَرَّوُخُ بِقَوْلِه : " يَظْهَرُ إنَّ الألْعَابَ الرِّيَاضِيَّةَ كَانَتْ تَخْدِمُ قَضِيَّةَ المُبَشِّرِيْنَ، وتَخْدِمُ الصِّهْيُوْنِيَّةَ فِي فِلِسْطِيْنَ خِدَمَةً عَظِيْمَةً؛ حَتَّى انْدَفَعَتْ مَدَارِسُ التَّبْشِيْرِ تُؤَلِّهُ الرُّوْحَ الرِّياضِيَّةَ، وتُشَجِّعُ التَّسَامُحَ فِي مَيَادِيْنِها إلى أبْعَدِ الحُدُوْدِ، تَسَامُحًا كَانَ يُرَادُ مِنْهُ قَتْلَ الشُّعُوْرَ الدِّيْنِيَّ ( القَوْمِيَّ ! ) الثَّمِيْنَ عَنْ طَرِيْقِ التَّسْلِيَةِ .."(1).
وهَذَا مَا قَالَهُ ( وِيْلْسِنْ كَاشَا ) : … إنَّ اليَهُوْدَ، والعَرَبَ، والنَّصَارَى يَلْعَبُوْنَ فِي مَلاعِبِ هَذِه المَدَارِسِ لُعْبَةَ ( كُرَةَ القَدَمِ )، ويُبْدُوْنَ فِي المَلْعَبِ مِنْ ضُرُوْبِ التَّعَاوُنِ مَا يُسَاعِدُ عَلَى أنْ يَخْلُقَ لَهُم نَظْرَةً جَدِيْدَةً إلى مَشَاكِلِهم القَوْمِيَّةِ الحَاضِرَةِ"(2).
__________
(1) ـ "التَّبْشِيْرُ والاسْتِعْمَارُ فِي البلادِ الإسْلامِيَّةِ" لمصطفى خالدي، وعمر فروخ ( 182-183 ) .
(2) ـ السَّابق .(1/136)
وهَذَا مَا أكَّدَهُ أيْضًا ( وِلْبِرْت سِمِيْث ) حَيْثُ يَقُوْلُ : " إنَّ الألْعَابَ تُبَرْهِنُ عَلَى أنَّها مِنْ أحْسَنِ الوَسَائِلِ لتَقْرِيْبِ وُجَهَاتِ النَّظَرِ بَيْنَ المُخْتَلِفِيْنَ؛ بَلْ بَيْنَ المُتَعادِيْنَ، لَمَّا أعْلَنَ العَرَبُ إضْرَابَهم العَامَ فِي القُدْسِ سَنَةَ ( 1379هـ )، احْتِجَاجًا عَلَى مُمَالأةِ الإنْكِلْيِز لليَهُوْدِ، قَامَتْ جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيْحِيَّةِ بِحَفْلَةٍ تَخْدُمُ بِها التَّعَاوُنَ الوِدِّي بَيْنَ العَرَبِ واليَهُوْدِ . فأقَامَتْ مُبَارَاةً فِي لِعْبَةِ التِّنِسِ، كانَ اللاعِبُوْنَ فِيْها مُسْلِمِيْنَ ويَهُوْدًا . وكَانَ الحُضُوْرُ لَفِيْفًا مِنَ جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فِيْهِم الفِلِسْطِيْنِيُّوْنَ، والإنْكِلِيْزِ، والأمْرِيْكِيُّوْنَ، والألْمَانِ . وسَادَتِ الرُّوْحُ الرِّياضِيَّةُ، فَكَانَ اليَهُوْدُ يُحَيِّوْنَ كُلَّ نَجَاحٍ يُصِبْهُ اللاعِبِوْنُ العَرَبُ، وكَانَ العَرَبُ يَرُدُّوْنَ التَّحِيَّةَ للاعِبِيْنَ اليَهُوْدِ إذَا أصَابُوا نَجَاحًا . وتَبِعَ المُبَارَاةَ حَفْلَةُ شَايْ حَضَرَها نَحْوُ خَمْسِيْنَ مِنَ الفِلِسْطِيْنِيِّنَ، والإنْكِلِيْزِ، والصِّهْيُونِيِّيْنَ، نَعِمُوا سَاعَةً بِكَرِمِ مُضَيِّفِيهِم النَّصَارَى"(1)، وسَيَأتِي لِهَذا مَزِيْدُ تَفْصِيْلٍ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
الفَصْلُ الثَّالثُ
تارِيْخُ ( كُرَةِ القَدَمِ )
إنَّ الأمَانةَ العِلْمِيَّةَ التَّارِيْخَيَّةَ تَدْفعُ كُلَّ مُتَابِعٍ لتَارِيْخِ، ونُشُوْءِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إلى التَّقْسِيْمِ التَّالِي :
1ـ مَرْحَلةٌ قَدِيمةٌ .
2ـ ومَرْحَلةٌ حَدِيثةٌ .
__________
(1) ـ "التَّبْشِيْرُ والاسْتِعْمَارُ فِي البلادِ الإسْلامِيَّةِ" لمصطفى خالدي، وعمر فروخ ( 182-183 ) .(1/137)
* فأمَّا المرْحَلةُ القَدِيمةُ : فهُنَاكَ شِبْهُ اتِّفَاقٍ بَيْنَ المُؤَرِّخِينَ أنَّ بِدَايَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَرْجِعُ إلى الصِّيْنِيِّينَ الوَثنيِّينَ !، فَقَدْ حَكَى أحَدُ الكُتَّابِ الصِّيْنِيِّينَ عَنْ مُبَارَاةٍ لـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أُقِيمَتْ فِي الصِّيْنِ عَامَ (300 قَبْلَ المِيْلادِ )، وأنَّهم فِي عَامِ (500 قَبْلَ المِيْلادِ ) كانُوا يَلْعَبُونَها بِكُرَاتٍ مَحْشُوَّةٍ بالشَّعَرِ .
ومِنْ خِلالِ هَذَا يَبْدُو أنَّ الصِّيْنَ كَانَتْ أقْدَمَ مَكَانٍ جَرَى فِيْهِ اللَّعِبُ بالْكُرَةِ؛ فَقَدْ تَحَدَّثَ (كَنْفِبشِيُوسْ)، فِي كِتَابِهِ ( كُونْك فُوْتْ تِسِنْ ) عَنْ ألْعَابِ الكُرَةِ، وبالخُصُوْصِ عَنْ ألْعَابٍ كَانَ يُسْتَعْمَلُ فِيْها الرَّأسُ، كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِيْها الأقْدَامُ . وقَدْ مَارَسَ الصِّيْنِيُّوْنَ خِلالِ حُكْمِ الإمْبِرَاطُوْرِ (تَشَانِكْ تِي )، ( 32 قَبْلَ المِيْلادِ ) نَوْعًا مِنْ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَتَّى إنَّ الكَلِمَةَ الصِّيْنِيَّةَ نَفْسَهَا (Tsu-chu ) ( تُسُو تُشُو )، تعْنِي : ضَرْبَ كُرَةٍ مَصْنُوْعَةٍ مِنَ الجِلْدِ المَحْشُوِّ بالشَّعَرِ، وذَلِكَ بِقَدَمِ الرِّجْلِ .
ويَقُوْلُ المُؤَرِّخُوْنَ : أنَّ هَذِهِ اللُّعْبَةَ كَانَتْ جُزْءً مِنْ مِنْهَاجِ التَّدْرِيْبِ العَسْكَرِيِّ سَنَةَ ( 500 قَبْلَ المِيْلادِ )، وكَانَتْ تَقُوْمُ عَلَى مَبَادِئ فِي الهُجُوْمِ، والدِّفَاعِ، وخُطَطٍ فِي اللَّعِبِ، ذَاتِ فَائِدَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِي الإعْدَادِ لِلْمَعَارِكِ الحَرْبِيَّةِ
وكَانَ الشَّغَفُ بِتِلْكَ اللُّعْبَةِ شَدِيْدًا إلى حَدِّ أنَّ الشُّعَرَاءَ، والمُؤَرِّخِيْنَ فِي ذَلِكَ العَهْدِ رَدَّدُوا فِي مُؤَلَّفَاتِهم أسْمَاءَ أشْهَرِ اللاعِبِيْنَ، وجَعَلُوا مِنْهُم أبْطالاً قَوْمِيِّيْنَ !(1/138)
وكَانَ اليَابانِيُّوْنَ قَدْ عَرَفُوا فِي هَذَا العَهْدِ كَذَلِكَ نَوْعًا مِنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ يُشْبِهُ إلى حَدٍّ بَعِيْدٍ لُعْبَةَ (كُرَةِ القَدَمِ ) .
هَذَا مَا كَانَ يَجْرِي فِي الشَّرْقِ الأدْنَى مِنَ أنْوَاعِ اللَّعِبِ بِـ( كُرَةِ القَدَمِ )، ولا تَتَحَدَّثُ الوَثَائِقُ الَّتِي وَصَلَتْ إلَيْنا عَنْ وُجُوْدٍ مِثْلَ هَذِه اللُّعْبَةِ بأقْطَارٍ أُخْرَى غَيْرِ الأقْطَارِ الأوْرِبِّيَةِ !؛ حَيْثُ أخَذَتْ (كُرَةُ القَدَمِ ) صُوْرَتَها الحَقِيْقَيَّةَ هُنَاكَ، ومِنْها انْتَشَرَتْ فِي مُخْتَلَفِ بُلْدَانِ العَالَمِ(1).
* * *
أمَّا ( كُرَةُ القَدَمِ ) كَلُعْبَةٍ لَهَا مَبَادِئُها، فقَدْ عَرَفَتْها اليُوْنَانُ القَدِيمَةُ، ولَهَا هُنَاكَ تَارِيخٌ مَعَ الدَّوْرَاتِ الأُولِمْبيَّةِ، وقَدْ عَرَضْنا لَهْ فِيْمَا مَضَى، فَلَّمَا قَهَرَتْ الإمْبِرَاطُورِيَّةُ الرُّومَانِيَّةُ الغَازِيَةُ إمْبِرَاطُورِيَّةَ الإغْرِيقِ فِي القَرْنِ ( الثَّانِي قَبْلَ المِيْلادِ ) حَمَلَتْ مَعَها بَيْنَ ما يَحْمِلُ الغُزَاةُ عَادَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ)!
وعِنْدَما غَزَا الرُّوْمَانُ بِلادَ ( الغَالِ ) أدْخَلُوا هُنَاكَ لُعْبَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ )، أسْمَوْهَا ( هَارَسْبَاتُومْ )، ولَعِبُوها بِكُرَةٍ تَتَكَوَّنُ مِنْ مَثَانَةِ بَقَرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بالتُّرَابِ .
وكَانَتْ المُبَارَاةُ تَبْدَأُ بإلْقَاءِ الكُرَةِ فِي الهَوَاءِ بَيْنَ لاعِبَيِّ الفَرِيْقَيْنِ المُتَنَافِسَيْنِ، وكُلٌّ مِنْهُما يُكَافِحُ، ويَسْعَى لِتَوْصِيلِها وَرَاءَ مَا يُسَمَّى الآنَ ( خَطُّ مَرْمَى ) الفَرِيْقِ الآخَرِ .
ومِنَ الرُّوْمَانِ انْتَقَلَتِ ( كُرَةُ القَدَمِ ) إلى الجُزُرِ البِرِيطَانَيَّةِ(2).
__________
(1) ـ انظر "كُرَة القَدَمِ" لعبد الحميد سلامة، ص ( 13-14 )
(2) ـ انظر "مجلة الفيصل" ص (93)، العدد التاسع، ربيع الأول لعام 1398هـ .(1/139)
* * *
ومِنَ المُنَاسَبَةِ فإنَّ هُنَاكَ قِصَّةً أُخْرَى يَقْصِدُ بِهَا رُوَاتُها : إرْجَاعَ أصْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إلى الجُزُرِ البِرِيطَانِيَّةِ .
تَقُولُ القِصَّةُ : إنَّ الدَّانَمَرْكِيِّينَ احْتَلُّوا إنْجِلْتَرَا خِلالَ المُدَّةِ مِنْ عَامِ ( 407-433هـ )، وإنَّ الإنْجِلِيزَ كَافَحُوْا لإجْلائِهِم عَنْ أرَاضِيْهِم، وفِي المَعْرَكَةِ الحَاسِمَةِ قَطَعَ الإنْجِلِيزُ رَأسَ القَائِدِ الدَّانَمَرْكِي، ودَاسُوْهُ بأقْدَامِهِم كَمَا تُدَاسُ الكُرَةُ، وصَارَتْ هَذِه الفِعْلَةُ تَقْلِيدًا قَوْمِيًّا يَدُلُّ عَلَى الثَّأْرِ والانْتِقَامِ .
وبِمُرُورِ الوَقْتِ ( ومَعَ انْتِشَارِ الأحْذِيَّةِ ) اسْتَبْدَلُوا رَأسَ الدَّانَمَرْكِيِّ بالكُرَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الأمْرُ مَعَ الأيامِ إلى لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
ولِهَذا يَمِيْلُ بَعْضُ المُؤَرِّخِيْنَ إلى اعْتِبَارِ المُدَّةِ مِنْ عَامِ ( 442 إلى 462هـ ) هِيَ فَجْرُ ظُهُورِ اللُّعْبَةِ، ويُؤَكِّدُ زَعْمُهُم أنَّ اسْمَهَا السَّابِقَ قَبْلَ هَذِه الفَتْرَةِ كَانَ : " رَكْلَ رَأسِ الدَّانَمَرْكِيِّ "، فَصَارَ : "رَكْلَ الكُرَةِ" !
* * *
إلاَّ أنَّ مُبَارِياتِ تِلْكَ الفَتْرَةِ كَانَتْ تَتَّسِمُ بالخُشُوْنَةِ، والوَحْشِيَّةِ مَعَ ما تُثِيْرُه مِنْ ضَجِيجٍ، وعِرَاكٍ يَنْتَهِي أحْيَانًا فِي مَرَاكِزِ الشُّرْطَةِ، إلى جَانِبِ الخَسَائِرِ الَّتي كَانَتْ تُصِيْبُ المَحَلاتِ التِّجَارِيَّةِ والمَنَازِلِ، ولِذَلِكَ تَعَوَّدَتْ الأوَامِرُ المَلَكِيَّةُ مِنْ مُلُوكِ، ومَلِكَاتِ إنْجِلْتَرَا بِمَنْعِ هَذِهِ اللُّعْبَةِ، وسِجْنِ مَنْ يُخَالِفُ تِلَكَ الأوَامِرَ .(1/140)
فَقَدْ حَرَّمَها كُلٌّ مِنْ المُلُوكِ : إدْوَاردْ الثَّانِي عَامَ ( 714هـ )، وإدْوَاردْ الثَّالِثُ عَامَ ( 766هـ) لأسْبَابٍ حِزْبِيَّةِ، ورِيتْشَاردْ الثَّانِي، وهِنْرِي الرَّابِعُ، وهِنْرِي السَّابِعُ، والمَلِكَةُ إلِيزَابِيثْ الأوْلَى !، وغَيْرُهُم كَثِيرٌ ممَّا سَيَأتِي ذِكْرُهم إنْ شَاءَ الله .
وجَاءَ فِي المَرْسُومِ الَّذِي أصْدَرَهُ المَلِكُ إدْوَاردْ الثَّانِي عَامَ ( 714هـ ) أنَّه قَالَ : " لَمَّا كَانَ هُنَاكَ ضَجِيْجٌ، وأصْوَاتٌ كَثِيرةٌ تَمْلأُ البِلادِ بِسَبَبِ التَّشَاجُرِ، والتَّدَافُعِ خَلْفَ كُرَاتٍ كَبِيْرَةٍ، ولَمَّا كَانَتْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ تَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا، ولَمَّا كَانَ اللهُ يُحَرِّمُ كُلَّ هَذِه الشُّرُورِ لِذَلِكَ فأنِّي آمُرُ، وأمْنَعُ بأَمْرِ المُلْكِ : الاشْتِرَاكَ في مِثْلِ هَذِه الألْعَابِ مُسْتَقْبلاً، ومَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ تَكُونُ عُقُوبَتُه السِّجْنَ !"(1).
لَكِنْ كُلُّ هَذِه المَرَاسِيمِ، والأوَامِرِ لَمْ تُفْلِحْ فِي إقْلاعِ النَّاسِ نَهَائيًّا عَنْ رِيَاضَةٍ أحَبُّوْها، وافْتَتَنُوا بِها، فَظَلَّتْ بَعْدَ الأمْرِ المَلَكِيِّ تُلْعَبُ سِرًّا، حَتَّى انْتَقَلَتْ إلى السُّهُوْلِ الخَضْرَاءِ، والأفْنِيَةِ، والمَدَارِسِ، وتَطَوَّرَ لِعْبُها، وأقْبَلَتْ عَلَيْها الشُّعُوْبُ، وكَانَتِ المُبَارَياتُ وَقْتَئِذٍ تُقَامُ عَادَّةً فِي سُوْقِ المَدِينَةِ حَيْثُ تَبْلُغُ مَسَاحَةُ المَلْعَبِ حَوَالِي ثَلاثَةِ أمْيَالٍ بَيْنَ فَرِيْقَيْنِ : يِتَكَوَّنُ كُلٌّ مِنْهُما مِنْ خَمْسَمَائَةِ لاعِبٍ، وتَبْدَأُ المُبَارَاةِ عَادَّةً مَعَ الظُّهْرِ، وتَنْتَهِي بِحُلُولِ المَسَاءِ(2)!
* * *
__________
(1) ـ انظر "الموسوعة العربية العالمية " (19-197)، و"بغية المشتاق" لحمدي شلبي (96-97) .
(2) ـ انظر "مجلة الفيصل" ص (93)، العدد التاسع، ربيع الأول لعام 1398هـ .(1/141)
وهَذَا مَا ذَكَرَتْهُ ( المَوْسُوْعَةُ العَرَبِيَّةُ العَالَمِيَّةُ ) : يَعْتَقِدُ المُؤَرِّخِيْنَ أنَّ الصِّيْنِيِّينَ مَارَسُوا لُعْبَةً تَضَمَّنَتْ رَكْلَ كُرَةٍ بالأقْدَامِ مُنْذُ ألْفِيْ عَامٍ، ويُقَالُ إنَّ الرُّوْمَانِيِّيْنَ القُدَمَاءُ كَانُوا يُشَجِّعُونَ نَوْعًا مِنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) كجُزْءٍ مِنَ التَّدْرِيبِ العَسْكَرِيِّ !، ومِنَ المُحْتَمَلِ أنْ تَكُونَ هَذِه اللُّعْبَةُ أُدْخِلَتْ إلى الجُزُرِ البِرِيطَانِيَّةِ، إمَّا بوَسَاطَةِ الرُّوْمَانِ، أو فِي وَقْتٍ مُتَأخِّرٍ بِوَسَاطَةِ النُّوْرْمَنْدِيِّيْنَ .
هُنَاكَ مَسْرَحِيَّةٌ تَارِيخِيَّةٌ عَنْ مُبَارَاةٍ لِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أُقِيمَتْ بالقُرْبِ مِنْ لَنْدَنْ في يَوْمِ ثُلاثَاءِ المَرَافِعِ عِنْدَ النَّصَارَى عَامَ ( 777هـ ) . وقَدْ أصْبَحَتِ المُبَارَيَاتِ الَّتِي تُقَامُ في ثُلاثَاءِ المَرَافِعِ مَشْهُورَةً بأنَّها ( كُرَةُ قَدَمِ ) الغَوْغَاءِ، حَيْثُ كَانَ مِئَاتُ الشَّبَابِ يَجْرُونَ وَرَاءِ إحْدَى الكُرَاتِ مُخْتَرِقِيْنَ الشَّوَارِعَ بِهَمَجِيَّةٍ وعَشْوَائِيَّةِ . وقَدْ أدَّى هَذَا إلى قِيَامِ ( إدْوَاردْ الثَّاني ) بإصْدَارِ قَرَارٍ بِتَحْرِيمِ لُعْبَةِ (كُرَةِ القَدَمِ ) عَامَ ( 714هـ ) كَمَا مَرَّ مَعَنا آنِفًا(1).
__________
(1) ـ انظر "الموسوعة العربية العالمية " (19-197) .(1/142)
وكَذَا أيْضًا قَدْ مَنَعَ المَلِكُ عَبْدُ العَزِيْزِ بنُ سُعُوْدٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ (كُرَةَ القَدَمِ ) عَامَ (1360هـ) لِمَا فِيْها مِنْ أضْرَارٍ، وهُوَ مَا صَرَّحَ بِه مُحَمَّدُ بنُ إبرَاهِيمَ مَكِّي بِقَوْلِه : " كَانَ أصْحَابُ السُّمُو المَلَكِي الأمَرَاءُ .. يَلْعَبُوْنَ بالكُرَاتِ فِي العَصَارِي عَلَى سَفْحِ جَبَلٍ لأبِي مَخْرُوْقٍ بالمَلَزِّ حَوَالي عَامَ (1360هـ)، وكَانَ المَلِكُ عَبْدُ العَزِيْزِ طَيَّبَ اللهُ ثَرَاه .. يُشَارِكُ أبْنَاءه الفَرَحَ، ويَحْضُرُ لِمُشَاهَدَةِ بَعْضِ هَذِه الألْعَابِ .. وَحَدَثَ ذَاتَ يَوْمٍ أنْ أُصِيْبَ أحَدُ الأمَرَاءِ بإصَابَةٍ خَفِيْفَةٍ غَضِبَ عَلَى إثْرِهَا (المَلِكُ) فَقَالَ : "اللِّيْ هَذَا أوَّلُه .. يِنْعَافْ تَالِيْه"(1)، وقَفَلَ الأمَرَاءُ عَنِ اللَّعِبِ"(2) .
وقَدْ أظْهَرَ المُلُوكُ فِيْمَا بَعْدُ اسْتِيَاءهُم تُجَاهَ هَذِه اللُّعْبَةِ لأنَّها كَانَتْ تُعَرْقِلُ التَّدْرِيبَ عَلَى الرِّمَايةِ بالسِّهَامِ !، إلاَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) ظَلَّتْ بَاقِيَةً، وأصْبَحَ لَهَا شَعْبِيَّتُها فِي جَمِيعِ أنْحَاءِ إنْجِلْتَرَا بِحُوُلِ أوَائِلِ القَرْنِ التَّاسِعِ عَشَرَ المِيْلادِي(3).
* * *
وفِي مُنْتَصَفِ ( القَرْنِ التَّاسِعِ المِيْلادِي ) تَفَرَّعَتِ اللُّعْبَةُ : قِسْمٌ يُرِيْدُ اسْتِخْدَامَ اليَدِ، وقِسْمٌ آخَرُ لا يُرِيْدُ . فأدَّى ذَلِكَ إلى ظُهُوْرِ لُعْبَتَيْنِ :
إحْدَاهُما ( كُرَةُ القَدَمِ ) السَّائِدَةُ اليَوْمَ .
__________
(1) ـ قالَها باللُّغَةِ العَامِيَّةِ، ومَعْنَاه : الشَّيءُ الَّذِي أوَّلُه ضَرَرٌ .. يَنْكَرِه آخِرُه" !
(2) ـ انظر "تاريخ الحركة الرياضية في المملكة العربية السعودية" لأمين الساعاتي (649-650) .
(3) ـ انظر "الموسوعة العربية العالمية " (19-197) .(1/143)
والثَّانِيَةُ : لُعْبَةُ "الرُّوْجِبي"، فاعْتَمَدَتِ المُدُنُ الإنْكِلِيْزِيَّةُ أمْثَالَ : كِبْرِدْج، وشَفِيلْد، ولَنْدَنْ وغَيْرِها وَضْعَ قَوَانِيْنَ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )(1).
واليَوْمَ هُنَاكَ أكْثَرُ مِنْ مَائَةٍ وثَلاثِيْنَ دَوْلَةً أعْضَاءَ فِي الاتِّحَادِ العَالِمِيِّ لِفِرَقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّذِي تَأسَّسَ عَامَ ( 1322هـ ) فِي بَارِيْسَ تَحْتَ اسْمِ "فِيْفَا"(2).
* * *
* أمَّا المَرْحَلَةُ الحَدِيْثَةُ : فَقَدْ أجْمَعَ المُؤَرِّخُوْنَ الحَالِيُّوْنَ عَلَى أنَّ الكُرَةَ انْتَقَلَتْ إلى إنْجِلْتَرَا عِنْدَمَا غَزَاهَا الرُّوْمَانُ، وأنَّ أوَّلَ كُرَةٍ اسْتُعْمِلَتْ هُنَاكَ كَمَا يَزْعُمُوْنَ : "جُمْجُمَةُ " جُنْدِيٍّ دَنَمَرْكِيٍّ، أُسِرَ وذُبِحَ .
* أمَّا الكُرَةُ الحَقِيْقَيَّةُ فَنَشَأتْ فِي "دَرْبِي" بإنْجِلْتَرَا عَامَ ( 218 م )، حَيْثُ لَعِبَها أهْلُ المَدِيْنَةِ احْتِفَالاً بِفَوْزِهِم عَلَى كَتِيْبَةٍ رُوْمَانِيَّةٍ غَازِيَّةٍ، ويَسْتَنِدُ المُؤَرِّخُوْنَ الحَالِيُّوْنَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ المُؤَرِّخَانِ : "جُلُوفَرْ"، و"فِيتِزْسِتِيْفِيْنْ " . واسْتَقَرَّتْ اللُّعْبَةُ فِي الجُزُرِ البِرِيْطَانِيَّةِ الَّتِي يَعْزِلُها مَضِيْقُ (المَانِشْ ) عَنْ أوْرُبة، ومَضَتْ فَتْرَةٌ طَوِيْلَةٌ، غَامِضَةٌ فِي كُلِّ المَجَالاتِ، قَبْلَ أنْ يَجِيءَ ( القَرْنُ الرَّابِعُ عَشَرَ )، وتَنْتَشِرُ الكُرَةُ فِي إنْجِلْتِرَا انْتِشَارَ النَّارِ فِي الهَشِيْمِ، ولا سِيَّمَا فِي مَوْسِمِ الجَرْدِ، حَيْثُ أصْبَحَتِ الكُرَةُ هَوَسًا شَعْبِيًّا؛ حَتَّى حَارَبَها مُلُوْكُ الإنْجِلِيْزِ(3).
* * *
__________
(1) ـ انظر "موسوعة الألعاب الرياضية" لجميل ناصيف، ص ( 342 – 343 ) .
(2) ـ السابق .
(3) ـ انظر "موسوعة الألعاب الرياضية" ص (10) .(1/144)
نَعَم؛ انْتَشَرَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ )، وانْتَشَرَ مَعَها العُنْفُ انتشارًا ذريعًا؛ حَتَّى أصْبَحَ العُنْفُ بين الجماهير مُشْكِلَةً خَطِيْرَةً فِي أوَاخِرِ السِّتِّيْنَاتِ مِنَ ( 1421هـ )، وقَدْ بَدَأ العُنْفُ فِي إنْجِلْتَرا حَيْنَ قَامَتِ الجَمَاعَاتُ المُتَنَافِسَةُ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) بالاقْتِتَالِ فَيْمَا بَيْنَها، وتَدْمِيرِ المُمْتَلَكَاتِ مُسَبِّبِيْنَ دَمَارًا كَبِيرًا دَاخِلَ مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وخَارِجِها(1).
وانْتَشَرَ هَذَا المَرَضُ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَيْه ( المَرَضُ الإنْجِلِيْزِيُّ! ) إلى الدُّوَلِ الأورُوبِيَّةِ الأُخْرَى، وأصْبَحَ مِنَ الضَّرُوْرِيِّ القِيَامُ بِجُهُودٍ أمْنِيَّةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ أجْلِ احْتِوَاءِ هَذِه الظَّاهِرَةِ .
وعَلَى الرُّغْمِ مِنْ مَشَاكِلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَمَا زَالَتْ هِيَ الرِّياضَةَ العَالَمِيَّةَ الأكْثَرَ شَعْبِيَّةً، وسَيَظَلُّ مُسْتَقَبلُها لَيْسَ فَقَطَ فِي أُورُوبَّا، وأمْرِيكا الجَنُوبِيَّةِ اللَّتَيْنَ تُعْتَبَرانِ الحُصُونَ التَّقْلِيدِيَّةَ للُّعْبَةِ؛ بَلْ أيْضًا فِي القَارَّاتِ الأُخْرَى، فِي حِيْنَ أنَّ الحَمَاسَ عَلَى مُسْتَوى طَلَبَةِ المَدَارِسِ، والصِّغَارِ بَدَأَتْ تَظْهَرُ نَتَائِجُهُ عَلَى المَسْرَحِ الإسْلامِيِّ، والعَالَمِيِّ(2)!
* * *
* المُنَافَسَاتُ العَالَمِيَّةُ :
يُعْتَبَرُ الاتِّحَادُ الدُّوَلِيُّ لكُرَةِ القَدَمِ ( الفِيْفَا ) الهَيْئَةَ العَالَمِيَّةَ المُشْرِفَةَ عَلَى لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومَرْكَزَها الرَّئيسي فِي ( زِيُورِخْ ) بِسِوَيْسِرَا .
__________
(1) ـ سَيَأتِي لِهَذا العُنْفِ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ فِي مَحْظُوْرِ : "العُنْفِ، والشَّغَبِ" إنْ شَاءَ اللهُ .
(2) ـ انظر "الموسوعة العربية العالمية " (19-198-199) .(1/145)
ويُنَظِّمُ الاتِّحَادُ الدُّوَلِيُّ لِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَسَابَقَةَ كَأسِ العَالَمِ، وغَيْرَها مِنَ المُسَابَقَاتِ الدُّوَلِيَّةِ مِثْلَ : بُطُولاتِ الشَّبَابِ، والأشْبَالِ العَالَمِيَّةِ .
ويَعْتَرِفُ الاتَّحَادُ الدُّوَلِيُّ لِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) بسِتَّةِ تَجَمُّعَاتٍ قَارِّيَّةٍ تَقُومُ بتَنْظِيمِ اللُّعْبَةِ فِي أقَالِيمِها .
كمَا أنَّ كأسَ العَالَمِ يُقَامُ كُلُّ أرْبَعِ سَنَواتٍ، وتَتَأهَّلُ الدُّوَلُ للنِّهَائِيَّاتِ خِلالَ العَامَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَى إقَامَةِ البُطُولَةِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ مَجْمُوعَاتِ تَصْفَيَةٍ في أقَالِيمِها القَارِّيَّةِ، وتَتَنافَسُ في النِّهَائِيَّاتِ أرْبَعٌ وعُشْرُوْنَ دَوْلَةٍ، وتَتَأهَّلُ الدَّوْلَةُ حَامِلَةُ اللَّقَبِ، والدَّوْلَةُ المُضَيِّفَةُ تَلْقَائِيًا لِهَذِه البُطُولَةِ، ويُخْصَّصُ الاثْنَانِ والعِشْرُونَ مَكانًا البَاقِيَةُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي : ( اثْنَا عَشَرَةَ ) لأورُوبَّا، و( ثَلاثَةً ) لِكُلٍّ مِنْ أمْرِيكَا الجَنُوبِيَّةِ وإفْرِيقِيَا، و( اثْنَانِ ) لآسِيَا، ومَكَانٌ وَاحِدٌ فَقَطُ لأمْرِيكَا الشَّمَالِيَّةِ، والوُسْطَى .(1/146)
ويَجِبُ عَلَى أبْطَالِ ( أقْيَانُوسِيَا ) أنْ يَلْعَبُوا للتَّصْفِيَةِ مَعَ المُتَسَابِقِيْنَ الفَائِزِيْنَ فِي كُلٍّ مِنْ المَنْطَقَةِ الأمْرِيكِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، والوُسْطَى، وإحْدَى دُوَلِ أمْرِيكَا الجَنُوبِيَّةِ لِنَيْلِ المَكَانِ الرَّابِعِ والعِشْرِيْنَ فِي النِّهَائِيَّاتِ، وتَسْتَغْرِقُ نِهَائِيَّاتِ كَأسِ العَالَمِ فَتْرَةً تَرْبُو عَلَى الشَّهْرِ فِي مَوَاقِعَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الدُّوَلِ المُضَيِّفَةِ، ويَتِمُّ تَقْسِيمُ الدُّوَلِ المُتَأهِّلَةِ إلى سَتِّ مَجْمُوعَاتٍ تَتَكَوَّنُ كُلٌّ مِنْها مِنْ أرْبَعِ دُوَلٍ، يَتِمُّ تَصْفِيَةُ ثَمَانِي دُوَلٍ مِنْها، وفَيْمَا يَتَعَلَّقُ بالسِّتِّ عَشَرَةَ دَوْلَةٍ البَاقِيَّةِ الَّتِي تُشَكِّلُ دَوْرَ الثَّمَانِيَّةِ في النِّهائِيَّاتِ تُصْبِحُ المُسَابَقَةُ مُنَافَسَةَ خُرُوجِ المُنْهَزِمِ مُبَاشَرَةً(1).
* * *
الفَصْلُ الرَّابِعُ
بِدَايَاتُ غَزْوِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادَ الإسْلامِ
وقَبْلَ الكَلامِ عَنْ بِدَايَةِ البِدَايَاتِ، وتَارِيخِ دُخُولِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادِ المُسْلِمِيْنَ؛ كَانَ عَلَيْنَا جَمِيعًا أنْ نَقِفَ مَعَ هَذِه الحَقِيقَةِ ( المُؤْلِمَةِ ) الَّتِي مَا كَانَ لَها أنْ تَدْخُلَ بِلادَ المُسْلِمِيْنَ؛ فَضْلاً أنْ تَمْتَدَّ إلَيْها أعْنَاقُ أكْثَرِ أبْناءِ المُسْلِمينَ نَاظِرِينَ إليها بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ؛ كأنَّها حَقِيقَةٌ شَرْعيَّةٌ لا تَقْبَلُ النِّقَاشَ، أو المُفَاوَضَاتِ !
__________
(1) ـ انظر السابق (19/193-194) .(1/147)
إنَّها الحَقِيقَةُ المُرَّةُ الَّتِي بَاتَتْ مُسَلَّمةً لَدَى العَالَمِ كُلِّه : وهُوَ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لُعْبةٌ أجْنبيَّةٌ دَخِيلَةٌ عَلَى بِلادِ المُسْلِمين مَولِدًا ومَنْشأً، فَعِنْدَئِذٍ دَخَلَتْ هَذِهِ اللُّعْبَةُ اللاهِيَةُ الغَاوِيَةُ بِلادَ المُسْلِمينَ عَنْ تَمْرِيرِ مُخَطَّطَاتِ يَهُودَ اللَّعِيْنَةِ، وذَلِكَ عَنْ طَرِيْقَيْنِ :
الأوَّلُ : الاسْتِعْمَارُ ( الدَّمَارُ ! ) الصَّلِيْبِيُّ، الَّذِي اسْتَبَدَّ بأكْثَرِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ .
الثَّانِي : دُخُولُ السَّفَارَاتِ، والجَالِيَاتِ، وذَلِكَ فِي البِلادِ الَّتِي سَلَّمَهَا اللهُ تَعَالَى مِنَ الغَزْوِ الغَاشِمِ الظَّالِمِ، كبِلادِ الحَرَمَيْنِ سَلَّمَها اللهُ مِنْ كُلِّ سُوْءٍ !
ويُؤَكِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَتْهُ المَوْسُوْعَةُ الرِّيَاضِيَّةُ : " وفِي هَذَا الوَقْتِ عَرَفَتْ مِصْرُ اللُّعَبَةَ عَنْ طَرِيْقِ قُوَّاتِ الاحْتِلالِ؛ بَعْدَ الغَزْوِ البِرِيْطَانِيِّ عَامَ ( 1300هـ )، وبَعْدَ أنْ شَهِدَ المِصْرِيُّوْنَ القُوَّاتَ البِرِيْطَانِيَّةَ تَلْعَبُ فِي المُعَسْكَرَاتِ، وكَانَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) قَدْ تَطَوَّرَتْ فِي شَكْلِها الحَالِيِّ الحَدِيْثِ .
ونَشَأ فِي مِصْرَ أوَّلُ فَرِيْقٍ؛ ثُمَّ أوَّلُ أنْدِيَةٍ كُرَوِيَّةٍ فِي العَالَمِ العَرَبِيِّ(1).
وهُوَ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الحَمِيدِ بنُ سَلامَةَ بِقَوْلِه : " وانْتَشَرَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) خَارِجَ انْجِلْتِرَا بِفَضْلِ رِجَالِ البَحْرِيَّةِ، والتُّجَّارِ، وأرْبَابِ الصِّنَاعَةِ، وحَتَّى بِعْضِ رِجَالِ الكَنِيْسَةِ !" (2).
__________
(1) ـ انظر "موسوعة الألعاب الرياضية" ص (11) .
(2) ـ "كُرَة القَدَمِ" لعبد الحميد سلامة ص (15) .(1/148)
وهُوَ مَا ذَكَرْتُه ( مَجَلَّةُ الفَيْصَلِ ) : " وفِي عَامِ ( 1345هـ ) أُقِيْمَتْ أوَّلُ مُبَارَاةٍ لِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ؛ بِنَاءً عَلَى طَلَبٍ مِنَ الجَالِيَةِ الأُنْدُنُوسِيَّةِ المُقِيْمَةِ بِمَكَّةَ !" (1).
وقَالَتْ أيضًا : " وكَانَتْ المُبَارَيَاتُ تُقَامُ عَلَى مَلاعِبِ شَرِكَةِ ( أَرَامْكُو ) الأمْرِيْكِيَّةِ، ومَلاعِبِ المَطَارِ"(2).
وهُوَ مَا ذَكَرَتْهُ أيْضًا بقَوْلِها " : … وفِي عَامِ ( 1396 هـ ) تَعَاقَدَتِ الرِّئاسَةُ العَامَةُ لرِعَايَةِ الشَّبَابِ مَعَ أكَادِيمِيَّةِ ( جِيْمِي هِيْلْ ) لِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) لِمُدَّةِ ثَلاثِ سَنَوَاتٍ، ويَتَضَمَّنُ العَقْدُ تَغْطِيَةَ جَمِيعِ مَنَاطِقِ المَمْلَكَةِ – حَتَّى المَنَاطِقَ النَّائِيَةَ مِنْها – !"، وسَيَأتِي لِهَذَا مَزِيْدُ تَفْصِيْلٍ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
* دُخُولُ اللُّعْبَةِ مِصْرَ(3) : جَاءتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) إلى مِصْرَ مَعَ قُوَّاتِ الاحْتِلالِ البِرِيْطَانِيِّ، ثُمَّ تَكَوَّنَ أوَّلُ اتِّحَادٍ مِصْرِيٍّ لَهَا سَنَةَ ( 1339هـ )، ونَظَّمَتْ مُسَابَقَةَ كَأسِ مِصْرَ سَنَةَ ( 1342هـ )، ثُمَّ بُطُوْلَةَ الدَّوْرِيِّ العَامَ اعْتِبَارًا مِنْ سَنَةِ ( 1367هـ / 1948م ) !
فانْظُرْ أخِي المُسْلِمُ : تَوَافُقَ هَذَا التَّارِيْخِ الَّذِي اجْتَاحَتْ فِيْه يَهُودُ بِلادَ فِلِسْطَيْنَ المُسْلِمَةِ، مَعَ وَقْتِ تَنْظِيْمِ الدَّوْرِيِّ العَامِ فِي مِصْرَ اعْتِبَارًا مِنْ سَنَةَ (1367هـ/ 1948م ) !
* * *
__________
(1) ـ "مجلة الفيصل" العدد التاسع، ربيع الأول 1398هـ، ص (104-105) .
(2) ـ عِلْمًا أن ملاعب المطارات وقتئذٍ كان لا يرتادها إلاَّ رجالات السَّفارات الأجنبية غالبًا !
(3) ـ انظر "بغية المشتاق" لحمدي شلبي، ص ( 97 ) .(1/149)
* أمَّا بِلادُ المَغْرِبِ : فَقَدْ أدْخَلَ ( كُرَةَ القَدَمِ ) هَذِهِ البِلادِ الرَّحَّالَةُ الإنْكِلِيْزِيُّ "دُونِيْهْ تَشَارْلِسْ مُوْنْتَاغُو" ( 1259هـ ـ 1345هـ )، وكَانَ نَاثِرًا، وشَاعِرًا(1)!، ومَا ذَكَرْنَاه هُنَا عَنْ : مِصْرَ، والمَغْرِبِ مَا هُوَ إلاَّ مِثَالٌ فَقَطُ؛ عِلْمًا أنَّ جِمِيْعَ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ الَّتِي اسْتُعْمِرَتْ قَدَ دَخَلَتْها ( كُرَةُ القَدَمِ) عَنْ طَرِيْقِ الاسْتِعْمَارِ الغَاشِمِ الوَحْشِيِّ البَرْبَرِيِّ !
* * *
* أمَّا دُخُولُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادَ الحَرَمَيْنِ فَكَانَ قَدِيْمًا مُنْذُ عَامَ ( 1345هـ )، كَمَا أنَّها لَمْ تَكُنْ ( لَحْظَةً ) مَحَلَّ شَكٍّ بَيْنَ الرِّياضِيِّيْنَ أنَّها صَنِيْعَةُ الجَالِيَّاتِ الإسْلامِيَّةِ الَّتِي اسْتُعْمِرَتْ، والسَّفَارَاتِ الأجْنَبِيَّةِ(2) !
وممَّا يُؤَكِّدُ أنَّها وَلِيْدَةُ مُخَطَّطَاتٍ خَبِيْثَةٍ بَسَطَتْها أيْدِي اليَهُودِ والنَّصَارَى فِي حَيَاةِ الشَّبَابِ المُسْلِمِ الغَافِلِ عَنْ تِلْكُمِ الإرْسَالِيَّاتِ المَدْرُوْسَةِ، وهُوَ : الارْتِمَاءُ خَلْفَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِكُلِّ مَا تَعْنِيْهِ هَذِهِ الكَلِمَةُ مِنْ مَعْنَى !
__________
(1) ـ انظر "الموسوعة العربية" (330) لآلبرت الريحاني وآخرين، و"قضايا اللهو والترفيه" لمادون رشيد (321) .
(2) ـ ومِنْ أوْسَعِ الكُتُبِ الرِّياضِيَّةِ الَّتِي شَمِلَتْ تَارِيخَ دُخُوْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي بِلادِ الحَرَمَيْنِ، مَعَ بَيَانِ تَارِيْخِ النَّوادِي والفِرَقِ بعَامَّةٍ؛ ما ذَكَرَه : أمِيْنُ السَّاعَاتِي فِي كِتَابِه "تارِيخِ الحَرَكَةِ الرِّياضِيَّةِ فِي المَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُوْدِيَّةِ" .(1/150)
وقَدْ أثْبَتَ لنا الأسْتَاذُ أمَيْنُ السَّاعَاتِيُّ الحَقِيْقَةَ التَّارِيْخِيَّةَ الدَّالَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاه، وهِيَ : أنَّ تَارِيْخَ (كُرَةِ القَدَمِ ) فِي بِلادِ الحَرَمَيْنِ كَانَ قَدِيْمًا، كَمَا أكَدَّ أيْضًا أنَّها كَانَتْ صَنِيْعَةَ إحْدَى الجَالِيَاتِ الأنْدُونِيسيَّةِ، حَيْثُ قَالَ : " وفِي عَامَ (1345هـ) اسْتَجَابَ مُدِيْرُ الأمْنِ العَامِ بِمَكَّةَ إلى طَلَبٍ رَسْمِيٍّ مُقَدَّمٍ مِنَ الجَالِيَةِ الأنْدُونِيسيَّةِ القَاطِنَةِ بِمَكَّةَ بِطَلَبِ مُزَاوَلَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، فأطْلَقُوا أسْمَاءَ مُدُنِهِم عَلَى مَجَامِيْعِهم .. فَنَشَأتْ فِرَقُ : ( المَنْتُو، والفَادِنْ، والكَرَوى، والبِيْما، والفِيْرَا )، فأضْحَتْ مَكَّةُ أوَّلَ مَدِيْنَةٍ تُمَارَسُ فِيْها ( كُرَةُ القَدَمِ )، وانْفَرَدَ الجَاوِيُّوْنَ بِمُمَارَسَةِ هَذِه اللُّعْبَةِ .. ثُمَّ تَسَلَّلَ إلَيْهم بَعْضُ المُوَاطِنِيْنَ .. فِي وَقْتٍ أخَذَتْ المَدَارِسُ فِي مَكَّةَ تَنْشُرُ الرِّيَاضَةَ بِيْنَ الشَّبَابِ .. حَتَّى سَيْطَرَتْ عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ الشَّبابِ .. فَتَضَاعَفَتْ الأعْدَادُ، وتَكَاثَرَتْ إلى أنْ نَشَأ أوَّلُ فَرِيْقٍ سُعُوْدِيٍّ فِي المَمْلَكَةِ فِي مَدِيْنَةِ جُدَّةَ، وهُوَ فَرِيْقُ "الرِّيَاضِيُّ" الَّذِي تَأسَّسَ فِي عَامَ (1346هـ)، مِنْ أعْيَانِ المَدِيْنَةِ، ووُجُهائِها …!"(1). وقَالَ أيْضًا : " فِي عَامَ (1345هـ) أيْ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ مِنْ دُخُوْلِ المَلِكِ عَبْدِ العَزِيْزِ الحِجَازَ تَقَدَّمَتْ الجَالِيَةُ الأنْدُونِيْسِيَّةُ القَاطِنَةُ مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ إلى سُلُطَاتِ الأمْنِ العَامِ فِيْها . تَطْلُبُ السَّمَاحَ لَهَا بِمُزَاوَلَةِ (كُرَةِ القَدَمِ) … وكَانَ هَذَا أوَّلُ إذْنٍ رَسْمِيٍّ بِمُزَاوَلَةِ
__________
(1) ـ "تاريخ الحركة الرياضية في السعودية" لأمين الساعاتي ( 50 ) .(1/151)
الكُرَةِ فِي المَمْلَكَةِ .. وأوَّلُ "دَخْلَةٍ" رِيَاضِيَّةٍ فِي تَاريْخِنَا الرِّيَاضِيِّ"(1).
وقَالَ أيْضًا مُؤكِّدًا هَذِه الحَقَائِقَ التَّارِيْخِيَّةَ : " بَدَأ النَّشَاطُ الرِّيَاضِيُّ فِي المَمْلَكَةِ ـ كَمَا بَيَّنَّا ـ عَلَى يَدِ الجَالِيَاتِ المُقِيْمَةِ الَّتِي انْفَرَدَتْ باللَّعِبِ .. واسْتَبْعَدَتْ اللاعِبِيْنَ الَّذِيْنَ لا يَنْتَمُوْنَ إلَيْها فِي بَعْضِ الأحَايِيْنِ .. فأوْجَدَ هَذا الاتِّجَاهُ ضِيْقًا لَدَى اللاعِبِيْنَ السُّعُوْدِيِّيْنَ الَّذِيْنَ أنْشَأوا فِي عَامِ (1350 هـ ) فَرِيْقَ "الوَطَنِ" بِمَكَّةَ .. الَّذِي اخْتَصَرَ اللَّعِبَ عَلَى اللاعِبِيْنَ السُّعُوْدِيِّيْنَ فَقَطُ"(2).
* * *
__________
(1) ـ السابق (547) .
(2) ـ السابق ( 62 ) .(1/152)
فإذَا عَلِمْنا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) كَانَتْ وَلِيْدَةَ إحْدَى الجَالِيَاتِ الأنْدُونِيسيَّةِ الَّتِي تَأثَّرَتْ كَغَيْرِها بالاسْتِعْمَارِ فِي المَنْطَقَةِ الغَرْبِيَّةِ ( مَكَّةَ، وجُدَّةَ )، إلاَّ أنَّه مَعَ هَذا لَمْ تَكُنْ أسِيْرَةَ مَكَانِها، أو رَهِيْنَةَ أهْلِها؛ بَلْ انْتَشَرَتْ هَذِه العَدْوَى الرِّياضِيَّةُ مِنْ مَنْطَقَةٍ إلى أخْرَى، جَرْيًا لِسُنَّةِ التَّطْوِيْرِ والتَّغْيِيْرِ، وهُوَ مَا قَرَّرَهُ السَّاعَاتِيُّ بِقَوْلِه : " فالجَمِيْعُ يُجْمِعُ عَلَى أنَّ تَارِيْخَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي المَنْطَقَةِ الوُسْطَى يَعُوْدُ إلى مَجْمُوْعَةِ المُوَظَّفِيْنَ الَّذِيْنَ انْتَقَلُوا بِخِبْرَاتِهم الرِّيَاضِيَّةِ مَعَ الوَزَارَاتِ، والهَيْئَاتِ الحَكُوْمِيَّةِ مِنَ المَنْطَقَةِ الغَرْبِيَّةِ إلى الرِّيَاضِ، ولِذَلِكَ فإنَّ فَرِيْقَ المُوَظَّفِيْنَ الَّذِي بَدَأ فِي عَامِ ( 1364هـ ) تَقْرِيْبًا، وكَانَ يُزَاوِلُ نَشَاطَه كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، هُوَ البِدَايِةُ الحَقِيْقيَّةُ للْكُرَةِ فِي المَنْطَقَةِ الوُسْطَى"(1)، وقَالَ أيْضًا : " والشَّيْءُ المُهِمُّ أنَّ الأطْرَافَ المَعْنِيَّةَ بالتَّارِيْخِ لَمْ تَذْكُرْ حَادِثَةً رِيَاضِيَّةً هَامَّةً .. قَبْلَ فَرِيْقِ المُوَظَّفِيْنَ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْه بأنَّه أوَّلُ فَرِيْقٍ يَلْعَبُ الكُرَةَ بالرِّيَاضِ !" (2).
* * *
__________
(1) ـ السابق ( 64 ) .
(2) ـ السابق ( 649 ) .(1/153)
أمَّا دُخُوْلُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي المَنْطَقَةِ الشَّرْقِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مَحَلَّ خِلافٍ أنَّه نَفْثَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ زَرَعَتْها شَرِكَةُ "أرَامْكُو" الأمْرِيْكِيَّةِ فِي المَنْطَقَةِ، وهُوَ مَا أكَّدَهُ السَّاعَاتِي بِقَوْلِه : " احْتَلَّتِ الكُرَةُ مَكَانًا وَثِيْرًا فِي قُلُوْبِ الشَّبَابِ .. ووَقَفَتْ شَرِكَةُ "الأرَامْكُو" تُعَضِّدُ النَّزَعَاتِ الرِّياضِيَّةَ، وتُزَكِّيْها، وتُرَتِّبُ الأدْوَارَ بَيْنَ مَرَاكِزِها فِي رَأسِ تَنُّوْرَةَ، والبِقِيْقِ، والظَّهْرَانِ بُغْيَةَ تَجْدِيْدَ نَشَاطِ مُوَظَّفِيْها، وخَلْقَ نَوْعٍ مِنَ التَّعَارُفِ، والتَّفَاهُمِ بَيْنَ مُوَظَّفِيْها فِي المَنَاطِقِ المُتَعَدِّدَةِ .. وارْتَفَعَ مُسْتَوَى الكُرَةِ فِي هَذَا الوَقْتِ إلى مُسْتَوَى جَعَلَها فِي مُقَدِّمَةِ بُلْدَانِ الخَلِيْجِ الَّذِيْنَ تَسَابَقُوا إلى طَلَبِ فِرَقِ المَنْطَقَةِ الشَّرْقِيَّةِ لِزِيَارَتِهم، واللِّعِبِ مَعَهُم بُغْيَةَ الاحْتِكَاكِ بِهِم، والاسْتِفَادَةِ مِنَ طَاقَاتِهم، وقَدْ قَامَتْ بَعْضُ فِرَقِ المَنْطَقَةِ بِزِيارَةِ الكُوَيْتِ، والبَحْرَيْنِ، وقَطَرٍ، ولَعِبَتْ مَعَ بَعْضِ فِرَقِها … ولِذَلِك فإنَّ فِرَقَ المَنْطَقَةِ الشَّرْقِيَّةِ .. أوَّلُ فِرَقٍ سُعُوْدِيَّةٍ تَخْرُجُ إلى دُوَلِ الخَلِيْجِ، وتَلْعَبُ مَعَها، وذَلِكَ بِحُكْمِ مَوْقِعِها الجُغْرَافِيِّ القَرِيْبِ مِنَ تِلْكَ الدُّوَلِ"(1).
* * *
فَهَاكَ أخِي المُسْلِمُ مُوْجَزًا عَنْ تَارِيخِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي بَلادِ الحَرَمَيْنِ سَلَّمَهَا اللهُ عَلَى طَرَفِ الاخْتِصَارِ(2):
أوَّلاً : المَنْطِقَةُ الغَرْبِيَّةُ .
__________
(1) ـ السابق ( 78-80 ) .
(2) ـ تارِيخُ دُخُولِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بلادِ الحرمين، انظرها فِي "مَجَلَّةِ الفَيْصَلِ" العَدَدِ التَّاسِعِ، ص (105-107) .(1/154)
يَنْقَسِمُ تَارِيْخُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بالمَنْطَقَةِ الغَرْبِيَّةِ إلى فَتْرَتَيْنِ :
الفَتْرَةُ الأوْلَى : مِنْ عِامِ ( 1345 – 1359 هـ )، وفِيْهَا أُنْشِئَتْ فِرَقٌ لِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، وجُدَّةَ .
الفَتْرَةُ الثَّانِيَّةُ : مِنْ عَامِ ( 1367هـ )، وحَتَّى الآنَ، وخِلالُها ظَهَرَتْ فِرَقٌ لـ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي مُدُنِ الطَّائِفِ، وبِيْشَةَ، وجَيْزَانَ، ويَنْبُعَ، وتَبُوكَ، وأبْها، وتَرَبَةَ .
ثَانيًا : المَنْطِقَةُ الشَّرْقِيَّةُ .
أُنْشِأَ أوَّلُ فَرِيْقٍ سُعُودِيٍّ لِـ( كُرَة القَدَمِ ) بالمَنْطَقَةِ الشَّرْقِيَّةِ عَامَ (1360هـ )، وهُوَ نادي (الهِلالِ) لَكِنَّهُ تَوَقَّفَ بِسَبَبِ نُشُوْبِ الحَرْبِ العَالَمِيَّةِ الثَّانِيَّةِ، وبَعْدَ الحَرْبِ تَكَوَّنَتْ عِدَّةُ فِرَقٍ سُعُودِيَّةٍ بالمَنْطَقَةِ الشَّرْقِيَّةِ .
وكَانَتْ المُبَارَيَاتُ تُقُامُ أنَذَاكَ عَلَى مَلاعِبِ شَرِكَةِ ( أَرَامُكُو ) الأمْرِيْكِيَّةِ، ومَلاعِبِ المَطَارِ(1)!
ثَالثًا : فِي المَنْطِقَةِ الوُسْطَى .
انْفَرَدَتْ مَدِينَةُ الرِّيَاضِ فِي تَمْثِيْلِ المَنْطَقَةِ الوُسْطَى فِي النَّشَاطِ الرِّياضِيِّ حَوَالِي عِشْرِيْنَ عَامًا، ثُمَّ بَدَأ ظُهُورُ الأنْدِيَةُ بِها فِي مُدُنٍ أُخْرَى غَيْرِ الرِّياضِ، مِثْلُ : الدِّرْعِيَّةِ، والخَرْجِ، والقَصِيْمِ، وحَائِلَ، وسِدِيْر .
* * *
ومَعَ هَذَا؛ كَانَتِ الأنْدِيَةُ الَّتِي أُنْشِأتْ فِي مَنَاطِقِ المَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ كَثِيْرةً جِدًّا ما بَيْنَ نَوَادٍ مُعْتَمَدَةٍ، ونَوَادٍ مُرخَّصةٍ مَبْدئيًّا .
__________
(1) ـ عِلْمًا أنَّ مَلاعِبَ المَطَاراتِ كَانَ لا يَرْتَادُها آنَذَاكَ إلاَّ رِجَالُ السَّفَاراتِ الأجْنَبِيَّةِ !(1/155)
وبِمُنَاسَبَةِ الحَدِيْثِ عَنِ الأنْدِيَةِ، وتَوْزِيعِها عَلَى مَنَاطِق المَمْلَكَةِ فَقَدْ بَلَغَ عَدَدُ الأنْدِيَةِ مبلغًا مخُوفًا!، وهي مَا بَيْنَ نَوَادٍ مُعْتَمَدَةٍ، ونَوَادٍ مُرخَّصَةٍ مَبْدئيًّا؛ حتَّى إذا كانَ يَوْمُ (20/3 / 1396هـ ) أصْدَرَتِ الرِّئَاسَةُ العَامَّةُ لِرِعَايَةِ الشَّبَابِ قَرَارَهَا رَقَمَ (10 ) بالتَّرْخِيْصِ لجَمِيعِ الأنْدِيَةِ المُرَخَّصَةِ مَبْدَئِيًّا، وبذَلِكَ أصْبَحَ عَدَدُ الأنْدِيَةِ بالمَمْلَكَةِ فِي نِهَايَةِ عَامَ ( 1396هـ ) سِتَّةً وثَمَانِيْنَ نَادِيًا رِيَاضِيًّا، مِنْها عَشْرَةُ أنْدِيَةٍ بالدَّرَجَةِ المُمْتَازَةِ، وعَشْرَةٌ أُخْرَى بالدَّرَجَةِ الأعْلَى، وسِتَّةٌ وسِتِّيْنَ نَادِيًا رِيْفِيًا، ( أو أنْدِيَةُ الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ) .
أمَّا عَدَدُ الأنْدِيَةِ في المَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُودِيَّةِ حَتَّى عَامَ ( 1418-1419هـ ) : فَقَدْ بَلَغْتَ (153) نَادِيًا، وبَلَغَ عَدَدُ الاتِّحَادَاتِ ( 22 ) اتِّحَادًا رِيَاضِيًّا !
* * *
* الرِّئَاسَةُ العَامَةُ لِرِعَايَةِ الشَّبابِ :
لَقَدْ أَنْشَأَتِ الرِّئَاسَةُ العَامَةُ لِرِعَايِةِ الشَّبَابِ تِسْعَ جَمْعِيَّاتٍ لِمُزَاوَلَةِ أوْجُهِ النَّشَاطِ الرِّيَاضِيِّ هِيَ جَمْعِيَّاتُ : ( كُرَةِ القَدَمِ )، كُرَةِ السَّلَةِ، الكُرَةِ الطَّائِرَةِ، الدَّرَّاجَاتِ، كُرَةِ اليَدِ، تِنِسِ الطَّاوِلَةِ، السِّبَاحَةِ، السِّلاحِ، ألْعَابِ القُوَى .
كذَلِكَ قَرَّرَتْ – فِي الخُطَّةِ الخَمْسِيَّةِ الأوْلَى – إنْشَاءَ عَشَرَةَ مَرَاكِزَ لرِعَايَةِ الشَّبَابِ فِي كُلٍّ مِنْ الرِّياضِ، جُدَّةِ، الدَّمَامِ، مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، المَدِيْنَةِ النَّبَويَّةِ، الطَّائِفِ، القَصِيمِ، القَطِيفِ، أبْها، الأحْسَاءِ .(1/156)
كمَا قَرَّرَتِ العِنَايَةَ بالنَّاشِئِيْنَ، وتَوْفِيْرِ كَافَّةِ السُّبُلِ الَّتِي تَضْمَنُ إعْدَادِ الكَادِرِ الرِّيَاضِيِّ السُّعُودِيِّ المُؤَهَّلِ عِلْمِيًّا، ورِيَاضِيًّا .
وفِي عَامِ ( 1396 هـ ) تَعَاقَدَتِ الرِّئاسَةُ العَامَةُ لرِعَايَةِ الشَّبَابِ مَعَ أكَادِيمِيَّةِ ( جِيْمِي هِيْلْ ) لِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) لِمُدَّةِ ثَلاثِ سَنَوَاتٍ، ويَتَضَمَّنُ العَقْدُ تَغْطِيَةَ جَمِيعِ مَنَاطِقِ المَمْلَكَةِ – حَتَّى المَنَاطِقَ النَّائِيَةَ مِنْها ! – بالمُدَرِّبِيْنَ المُتَخَصِّصِيْنِ فِي شُؤونِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، بالإضَافَةِ إلى تَوْفِيْرِ مُدَرِّبِيْنَ للمُنْتَخَبِ الأوَّلِ، والشَّبَابِ حَيْثُ يَسْتَمِرُّ التَّدْرِيبُ فِي جَمِيْعِ المَنَاطِقِ، وبشَكْلٍ مُبَاشِرٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِهَدَفِ تَطْوِيرِ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ورَفْعِ مُسْتَوَاها(1) !
* * *
فبَعْدَ هَذَا العَرْضِ السَّرِيْعِ العَامِ لِتارِيْخِ ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ كَانَ لَنَا أنْ نُقَرِّرَ الحَقِيْقَةَ المُخْزِيَةَ بالنِّسْبَةِ لِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي بِلادِ المُسْلمين، وهِيَ : أنَّ أصْلَ ( كُرَة القَدَمِ ) وَثَنيٌّ ( يُوْنَانِيٌّ رُوْمَانِيٌّ )، ونَشْرُها فِيْنَا نَصْرَانيٌّ صَلِيبيٌّ، وتَطْرِيقُها إلَيْنا يَهُودِيٌّ عَالَمِيٌّ !! فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ؟!
هَذَا هُوَ أصْلُ تَطْرِيقِها، أمَّا حَقِيقَةُ ثِمَارِها : فظُلُمَاتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ !، كَمَا سَيَأتِي تَوْضِيْحُهُ فِي البَابِ الرَّابِعِ، إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "مجلة الفيصل" العدد التاسع، ص (105-107 ) .(1/157)
شَاهِدٌ وشَهِيدٌ : ومِنْ هُنَا فإنَّني أُؤَكِّدُ جَزْمًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى لَهَا أنْ تَقِفَ فِي بِلادِ الحَرَمَيْن سَنَةً أو سَنَتَيْن وُقُوفًا حَقِيقيًا يَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَأنِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) ـ مِنَ الإعْلامِ المَرْئِي، والمَسْمُوعِ، وغَيْرِه ـ لَعَادَ الشَّبابُ أفْوَاجًا إلى دِيْنِ الله تَعَالَى مُتَزَمِّلينَ ثَوْبَ الاسْتِقَامَةِ دُوْنَ مُنَازِعٍ، أو مُزَاحِمٍ !
وهَذَا مَا شَهِدَ به أكْثَرُ العَائِدِيْنَ إلى اللهِ تَعَالَى مِنْ أبْنَاءِ هَذِه البِلادِ يَوْمَ صَاحُوا قَائِلِيْنَ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدْ أخَذَتْ أكْثَرَ أوْقَاتِنَا، وطاقَاتِنا؛ حتَّى إنَّنا لَمْ نَعُدْ نَسْتَشْعِرْ أنَّ ثمَّةَ شَيْئًا آخَرَ يَسْتَحِقُّ الالْتِفَاتَ والانْتِباهَ؛ بَلْ غُيِّبْنا تَغْيبًا ( مُظْلِمًا ) عَنْ حَقِيقَةِ دِيْنِنَا، وقَضَايَا أُمَّتِنَا، اللَّهُمَّ إلاَّ إذَا أَذِنَ لَنَا زَبَانيَةُ الإعْلامِ ( للأسَفِ ! ) أنْ نُشَارِكَ، أو نَسْتَعْلِمَ شَيْئًا عَنْ بَعْضِ قَضَايَا المُسْلِمِيْنَ !، فَحِيْنَئِذٍ لَنَا أنْ نُطَالِعَ عَلَى مَا هُنَالِكَ بقَدَرٍ مَحْدُودٍ، ووَقْتٍ مَعْلُومٍ، وبِتَصَوُّرٍ مَحْبُوكٍ؛ حتَّى إذا مَا انْتَهَتِ المَسْرَحِيَّةُ الإعْلامِيَّةُ قَامُوا سِرَاعًا فِي دَفْعِنا ( كالسَّائِمَةِ ) إلى عَالَمِ الغَيْبِ، والتَّغيبِ نَرْكُضُ فَرِحِيْنَ وَرَاءهُم لا نَرْضَى وَلِيْجَةً سِوَاهُم … !(1/158)
وهُنَاكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الكُتَّابِ مِمَّن شَارَكَ فِي بَيَانِ هَذِه المأسَاةِ العُظْمَى الَّتِي يَعِيْشُها الشَّبَابُ المُسْلِمُ، وذَلِكَ مَا قَالَه أحَدُ المُفَكِّرِيْنَ المِصْرِيِّيْنَ، وهُوَ يَصِفُ حَالَ الشَّبَابِ المِصْرِيِّ بَعْدَ مُبَارَاةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وذَلِكَ فِي قَوْلِه : هَلْ أصْبَحْنَا نُحِبُّ اللَّعِبَ إلى هَذِهِ الدَّرَجَةِ ... إلى دَرَجَةِ الجُنُوْنِ، وإطْلاقِ الصَّوَارِيْخِ، والبَالُوْنَاتِ، والرُّصَاصِ، والرَّقْصِ فِي الشَّوَارِعِ إلى مَطْلَعِ الفَجْرِ ؟!، وإذَا كَانَتْ عِنْدَنَا كُلُّ هَذِه الطَّاقَةِ، والحَمَاسِ، والهِمَّةِ فَلِمَاذَا لا تَظْهَرُ فِي عَمَلٍ جَادٍ ؟!
لِمَاذَا لا تَظْهَرُ فِي بِنَاءٍ، أو نَهْضَةٍ، أو فِكْرٍ، أو اخْتِرَاعٍ … لِمَاذَا لا تَظْهَرُ إلاَّ فِي اللَّهْوِ واللَّعِبِ؟!، وإذا تَجَمْهَرْنا لِفَنٍّ؛ فإنَّه دَائِمًا مِنْ نَفْسِ النَّوْعِ : فَنٌ، ولَهْوٌ، وتَفَارِيحُ، ومُوَاكِبُ، وأعْيَادٌ،… إنَّ مَا رَأيْتُه لَيْلَةَ المُبَارَاةِ فِي الشَّوَارِعِ لَمْ يِكُنْ : انْتِصَارًا؛ بَلْ كَانَ انْفِجَارًا !
لَقَدْ كَادَتْ أحْشَاؤنا تَخْرُجُ لِمُجَرَّدِ هَدَفٍ جَاءَ فِي الشَّبَكَةِ، هَذِه حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ … إنَّ مَا حَدَثَ هُوَ اخْتِلالٌ فِي جَهَازِ التَّقْيِّيْمِ عَلَى مُسْتَوى الأمَّةِ، ولا أتَّهِمُ مِصْرَ وَحْدَها، وإنَّما نَفْسُ الظَّاهِرَةِ رأيْتُها فِي إنْجِلْتَرَا … وفِي إيْطَالِيَا، وفِي أسْبَانِيَا : حَفَاوَةٌ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ حَوْلَ ثَيْرَانٍ، ومُصَارِعِيْنَ !
أمَّا فِي ألمانِيَا : فَقَدْ تَجَمَّعَ المَلايِينَ حَوْلَ سُوْرِ ( بِرْلِيين )، لَيْسَ مِنْ أجْلِ هَدَفٍ كُرَوِيٍّ، ولَكِنْ مِنْ أجْلِ قِيْمَةٍ اسْمُها : الحُرِّيَّةُ … وهَتَفُوا لألْمَانِيَا العُظْمَى !(1/159)
وبنَفْسِ الرُّوْحِ تَجَمَّعَ مَلايينَ اليابانِيِّيْنَ عَلَى أنْقَاضِ ( هِيْرُوشِيْما ) لِيَضَعُوا اليَدَ عَلَى اليَدِ فِي مِيْثَاقِ عَمَلٍ، ومِيْثَاقِ سَهَرٍ، وقَدْ فَعَلُوْها، وصَنَعُوا قُنْبُلَةً اقْتِصَادِيَّةً، وفَجَّرُوا ثَوْرَةً إنْتَاجِيَّةً، وقَادُوا مُظَاهَرَةً عِلْمِيَّةً بِهَرُوا العَالَمَ، ورَدُّوْا عَلَى أمْرِيكا بِتَحَدٍّ أكْبَرٍ، وأخْطَرٍ .
ثُمَّ يَقُوْلُ : هَذِهِ أُمَمٌ مُرَشَّحَةٌ لِقِيَادَةِ التَّارِيْخِ فِي السَّنَوَاتِ المُقْبِلَةِ، ومَعَ هَذَا فَهِي فِي وَقْتِ اللَّعِبِ تَلْعَبُ وبإجَادَةٍ أكْثَرَ مِنْ لِعْبِنَا، وفِي ألُومْبِيَادِ ( سُوْل ) فَازَتْ ألْمَانِيَا الشَّرْقِيَّةُ بِمُعْظَمِ المِيْدَالِيَّاتِ الذَّهَبِيَّةِ !
إنَّ اللَّعِبَ مَطْلُوبٌ، ولَكِنْ عَلَى أنْ لا يَتَجَاوَزَ مَكَانَه فِي سُلَّمِ الأوْلَوْيَّاتِ : فَهُوَ سَاعَةٌ فِي يَوْمِ إجَازَةٍ، وتَسْبِقُه سِتَّةُ أيَّامِ عَمَلٍ تَحْتَاجُ إلى حَمَاسٍ مُضَاعَفٍ بِمِقْدَارِ سِتِّ مَرَّاتٍ، وبِهَذَا تَكُوْنُ النَّفْسُ سَوِيَّةً تَعْرِفُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِقْدَارَه .
ويُنْهِي كَلِمَتَه بِقَوْلِه : أمَّا الشَّعْبُ الَّذِي يُنْفِقُ أحْشَاءهِ، وهِمَّتَه، وحَمَاسَه فِي هَدَفٍ كُرَوِيٍّ، ثُمَّ يَعُوْدُ إلى بَيْتِه جُثَّةً خَاوِيَةً جَوْفَاءَ لَيْسَ فِيْها هِمَّةٌ لِشَيْءٍ ، فَهُوَ شَعْبٌ يَحْتَاجُ إلى تَحْلِيْلٍ نَفْسِيٍّ !
ثُمَّ يَتَسَاءلُ : هَلْ هُوَ يَئِسَ مِنْ عَمَلِ شَيءٍ جَادٍ ؟، هَلْ أبْوَابُ التَّفَوُّقِ مُغْلَقَةٌ فِي جَمِيْعِ المَيَادِيْنِ؟، ولَمْ تَبْقَ إلاَّ المَلاعِبُ ؟، هَلْ تَرْكِيْزُ الأعْلامِ عَلَى مُبَارَيَاتِ الكُرَةِ، وأبْطَالِها هُوَ المَسْؤُولُ ؟، هَلْ هُوَ خَطأٌ فِي التَّرْبِيَةِ والتَّعْلِيْمِ ؟، هَلْ هُوَ خَطأٌ سِيَاسِيٌّ تَنْظِيْمِيٌّ ؟(1/160)
لَوْ صَحَّ هَذَا التَّفْكِيْرُ فَهُوَ تَفْكِيْرٌ خَاطِئٌ؛ لأنَّ الدَّوْلَةَ فِي حَاجَةٍ إلى العَمَلِ، والإنْتَاجِ، والإجَادَةِ، والاخْتِرَاعِ، وإلى الحَمَاسِ الآخَرِ الصِّحِّي الَّذِي تُضَيِّعُه بِفَتْحِ البَابِ عَلَى مَصَارِيْعِهِ لِهَذا اللَّعِبِ .
ويُقَرِّرُ بأنَّه : لَنْ تَسْتَطِيْعَ الدَّوْلَةُ أنْ تَبْنِيَ اقْتِصَادَها بأهْدَافَ كُرَوِيَّةٍ … إنَّ جَدْوَلَ الأوْلَوِيَّاتِ فِي بِلادِنَا مُخْتَلٌ، ومَقْلُوبٌ عَلَى رَأسِهِ : اللَّعِبُ فِي أوَّلِ القَائِمَةِ ،.. والجِدُّ فِي آخِرِها؛ هَذَا إنْ وُجِدَ لَهُ مَكانًا، والاسْتُرَاتِيْجِيَّةُ الغَالِبَةُ عَلَى نِظَامِنَا هِيَ فِي قَامُوْسِنَا : انْفِجَارٌ، وفَرَحٌ، وتَهْرِيْجٌ . وسَوْفَ يُوَافِقُنِي عُلَمَاءُ النَّفْسِ عَلَى أنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الفَرَحِ، هُوَ تَعْبِيْرٌ عَنِ الكَبْتِ، وعَنِ الحِرْمَانِ، ولا يِمُتُّ إلى السَّعَادَةِ بِسَبَبٍ، وقَدْ شَاهَدْنا النَّتِيْجَةَ : شَاهَدْنا الشَّارِعَ يَنْفَجِرُ، ثُمَّ يَهْمَدُ، والفَرِيْقُ الجَزَائِرِيُّ الَّذِي انْفَجَرَ عَلَى طَرِيْقَتِه رَاحَ يَضْرِبُ النَّاسَ، ويَفْقَأُ عُيُونَهُم(1).
* * *
وبَعْدُ؛ فَيَا لَيْتَ ( كُرَةَ القَدَمِ ) انْتَهَتْ إلى حَيْثُ بَدَأتْ : حِيْنَ كَانَتْ جُزْءً مِنْ مِنْهَاجِ التَّدْرِيْبِ العَسْكَرِيِّ، قَائِمَةً عَلَى مَبَادِئ فِي الهُجُوْمِ، والدِّفَاعِ، والخُطَطِ، ذَاتِ فَائِدَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِي الإعْدَادِ لِلْمَعَارِكِ الحَرْبِيَّةِ .
لكِنَّها انْتَهَتْ إلى مَا كَانَ يَحْدُثُ فِي إنْجِلْتَرا مِنْ : ضَرْبٍ، ورَكْلٍ، وتَنَاثُرِ الأشْلاءِ، وتَقَاطُرِ دِمَاءٍ!
__________
(1) ـ انظر "جريدة أخبار اليوم" المصرية، تحت عنوان "تأملات على هامش الملعب" السبت (13/1/1990) ص (16) .(1/161)
ولَيْتَ المَسْؤُولِيْنَ يَفْعَلُوْنَ مِثْلَمَا فَعَلَ المَلِكَ ( إدْوَارْد الثَّانِي سَنَةَ 816هـ )، وإلاَّ فَعَلَى الأقَلِّ لِيَكُنْ تَرْتِيْبُ اللَّعِبِ فِي آخِرِ جَدْولِ حَيَاتِنَا، إذَا كَانَ فِي الجَدْوَلِ سَعَةٌ، وفُسْحَةٌ !
* * *
ومِنْ خِلالِ هَذَا فإنَّنا نُنَاشِدُ وُلاةَ أمْرِ المُسلمين فِي هَذِه البِلادِ، أنْ يَرْعَوْا حَقَّ اللهِ فِي هَذِه البِلادِ، وفِي أهْلِها، وذَلِكَ بِحَمْلِ الرَّعِيَّةِ عَلَى أحْكامِ الشَّرْعِ، أمْرًا ونَهْيًا، ومَنْعِ كُلِّ مَا فِيْهِ شَرٌّ وفَسَادٌ ظَاهِرٌ، وأخُصُّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) بِصُوْرَتِها القَائِمَةِ القَاتِلَةِ !، وليَعْلَمُوا يَقِيْنًا : أنَّه لا عِزَّةَ لِلْمُسْلِمِيْنَ إلاَّ بِالإسْلامِ، ولا قِيَامَ لِمُلْكِهِم إلاَّ بطَاعَةِ رَعِيَّتِهم، ولا طَاعَةَ لرَعِيَّتِهم إلاَّ بِحَمْلِهم عَلَى دِيْنِهم !
… وهَلْ عنَّا ( أزْمَةُ الخَلِيْجِ ) ببَعِيدٍ ؟، يَوْمَ تَنَكَّرَ بَعْضُ أهْلِ هَذِه البِلادِ لوَلائِهِم؛ فِي حِيْنَ خَرَجَ العِلْمَانِيُّونَ، والحَدَاثِيُّونَ بأقْلامِهم المسْمُومَةِ، وألْسِنَتِهم المَشْؤُومَةِ ليَجُرُّوا أهْلَ هَذِهِ البِلادِ إلى مَعَارِكَ مُخْتَلَقَةٍ مَا بَيْنَ دَعَوَاتٍ عَرِيْضَةٍ مَرِيضَةٍ :كحُقُوقِ المَرْأَةِ، وقِيَادَتِها للسَّيَّارَةِ، والتَّعْرِيضِ بالإسْلامِ والمُسْلِمِيْنَ عُلَمَاءً ووُلاةً، والإرْجَافِ فِي أرْجَاءِ البِلادِ، وهُنَاكَ سَمَّاعُونَ لَهُم … فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَفَثَاتِهم الهَوْجَاءِ .(1/162)
وفِي المُقابِلِ؛ هَلْ يَنْسَى أحَدٌ مَوَاقِفَ العُلَمَاءِ، والصَّالِحِيْنَ، وأهْلِ الحُسْبَةِ، والمُتَطَوِّعِيْنَ مِنْ أبْنَاءِ هَذِه البِلادِ المُبَارَكَةِ يَوْمَ قَامُوا وُحْدَانًا وزَرَافَاتٍ فِي نُصْرَةِ دِيْنِهم، والذَّبِّ عَنْ بِلادِهم، مَا بَيْنَ مُحَاضَراتٍ، وفَتَاوى، ونَدَوَاتٍ، ومُقَابَلاتٍ مَرْئِيَّةٍ ومَسْمُوعَةٍ … ؟!؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُم لِتَوْحِيْدِ الصَّفِّ، وجَمْعِ الكَلِمَةِ، ورَدِّ شُبَهِ المُغْرِضِيْنَ مِنَ العُمَلاءِ، والعِلْمَانِيِّيْنَ …!
فاللهَ اللهَ فِي أبْنَاءِ هَذِه البِلادِ … فَلا تَدْفَعُوهُم إلى تَلاعِيْبَ سَخِيْفَةٍ، ومُغَالَطَاتٍ نَكِدَةٍ، لَيْسَ أحَدُكُم فِيْها أخْسَرَ مِنَ الآخَرِ، فالكُلُّ خَاسِرٌ بائِرٌ، ألاَ وهِيَ : المُقَامَرةُ بأوْقَاتِ، وطَاقَاتِ الشَّبَابِ فِي شِعَابِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الوَخِيْمَةِ !
* * *
البَابُ الرَّابعُ
الفَصْلُ الأوَّلُ : تَحْرِيرُ أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )
الفَصْلُ الثَّاني : بَيَانُ الأصْلِ فِي حُكمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )
الفَصْلُ الثَّالِثُ : المَحاذِيرُ الشَّرعيَّةُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )
الفَصْلُ الرَّابُعُ : حُكْمُ ( كُرَةِ القَدَمِ )
الفَصْلُ الخَامِسُ : تَقْرِيبُ ( كُرَةِ القَدَمِ )
الفَصْلُ السَّادِسُ : الشُّبَهُ حَوْلَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) والرَّدُّ عَلَيْها
الفَصْلُ السَّابِعُ : الشِّعْرُ العَرَبي، و( كُرَةُ القَدَمِ )
الفَصْلُ الثَّامِنُ : مُلْحَقُ فَتَاوَى أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )
الفَصْلُ الأوَّلُ
تَحْرِيرُ أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )(1/163)
لَيْسَ خَافٍ أنَّ الحُكْمَ عَلَى ( كُرَة القَدَمِ ) القَائِمَةِ بِسَاحَةِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيام؛ لَمْ يَعُدْ مِنَ الخَفَاءِ بِمَكَانٍ لكُلِّ ذِي عَيْنٍ وبَصِيْرَةٍ؛ إلاَّ أنَّه مَعَ هَذَا الظُّهُورِ، والوُضُوحِ ـ للأسَفِ ! ـ أخَذَ حَيِّزًا مِنَ الخِلافِ عِنْدَ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ مِمَّا يَدُلُّ يَقِينًا : أنَّ تَصَوُّرَ فِقْهِ الوَاقِعِ لِهَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانيَّةِ عِنْدَهم لَمْ يَأخُذْ حَقَّهُ مِنَ النَّظَرِ، والتَّحْرِيرِ؛ بَلْ كَانَ مَحَلَّ قُصُورٍ، واسْتِدْرَاكٍ !، وهَذَا مِمَّا يَدْفَعُنا إلى إعَادَةِ النَّظَرِ فِي تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي الحُكْمِ عَلَى ( كُرَة القَدَمِ ) المُعَاصِرَةِ .
* * *
فكان حَقًّا عَلَيْنا أنْ نَقِفَ عَلَى أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ، وخِلافِهِم فِي الحُكْمِ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ )، وذِكْرِ أدِلَّةِ كُلِّ قَوْلٍ؛ قَبْلَ تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، والتَّكْيِيْفِ الفِقْهِيِّ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) كمَا تَقْتَضِيهِ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، والقَوَاعِدُ العِلْمِيَّةُ مَا تَتَّفِقُ عِنْدَه الأحْكَامُ، وتَجْتَمِعُ عَلَيْه الأقْوَالُ … مِمَّا يَسَعُ الفَقِيهَ الرُّكُونَ إليه، والقَوْلَ بِتَحْرِيمِها، وتَجْرِيمِها دُوْنَ تَوَقُّفٍ، كَمَا سَيَأتِي بَيَانُه قَرِيْبًا إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *(1/164)
فأقُولُ : لَقَدْ تَتَبَّعْتُ أقْوَالَ أهْلِ العِلْمِ ( سَلَفًا، وخَلَفًا ) فِي حُكْمِهِم عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَتبُّعًا عِلْمِيًا، حَسَبُ جَهْدِي واجْتِهَادِي؛ لا سِيَّما فِي مَثَانِي الكُتُبِ، ومَطَاوِي الرَّسَائِلِ؛ كُلُّ هَذَا رَغْبَةً مِنِّي فِي تَحْرِيْرِ النِّزَاعِ، والإلْمَامِ بأدِلَّةِ كُلِّ قَوْلٍ، مَعَ الاعْتِرَاضِ، والاسْتِدْرَاكِ عَلَى مَا كَانَ مَحَلاً لِذَلِكَ… مِمَّا يَجْعَلُنا نَخْلَصُ إلى القَوْلِ الرَّاجِحِ مِنْها(1)، إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
إنَّ تَفْرِيعَ أقْوَالِ بَعْضِ المُعَاصِرِيْنَ فِي هَذِه المَسْألَةِ لَمْ يَكُنْ سَدِيْدًا، ولا مُحَرَّرًا؛ بَلْ مُنْتَقَدٌ، ومُسْتَدْرَكٌ، وبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي :
ـ لَقَدَ ذَهَبَ الشَّيْخُ سَعَدُ الشَّثْري ـ حَفِظَهُ اللهُ ـ فِي كِتَابِه "المُسَابَقَاتِ" إلى أنَّ الخِلافَ عِنْدَ أهْلِ العِلْمِ فِي حُكْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى ثَلاثَةِ أقْوَالٍ، وهَذَا نَصُّ كَلامِه : " للْعُلَمَاءِ فِي هَذِه المَسْألَةِ (المُسَابَقَةِ بالكُرَةِ ) ثَلاثَةُ أقْوَالٍ :
__________
(1) ـ انظر "المُسَابقَات" لسَعَدِ الشَّثري ص (202) وما بعدها، و"كُرَةَ القَدَمِ" لمَشْهُورِ بنِ حَسَنٍ ص (14) وما بَعْدَها، و"المَيْسِرَ" لرَمَضَانَ بنِ حَافِظٍ ص (94) وما بعدها، و"بُغْيَةَ المُشْتَاقِ" لحَمْدِي شَلَبِي ص (101) وما بعدها، و"قَضَايا اللَّهْوِ والتَّرْفِيه" لمادُونَ بنِ رَشِيدٍ ص (334) وما بعدها، و"فتاوى ابن إبراهيم" (8/116) وما بعدها، و"الإيضاح والتبيين" للشيخ حمود التويجري ( 190-207 )، و"الأسئلة والأجوبة الفقهية" للسلمان (5/335)، و"الألعاب الرياضية" لعلي بن حسين أمين، و"الكُرَةُ تَحْتَ أقْدَامِ الصَّالِحْيْنَ !" لعَبْدِ اللهِ النَّجْدِي، وهِي عبارَةٌ عن مُذَكِّرَةٍ مُصَوَّرَةٍ، وغيرها .(1/165)
القَوْلُ الأوَّلُ : المَنْعُ مُطْلقًا، وبِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيْزِ السَّلْمَانُ(1).
القَوْلُ الثَّانِيُّ : الجَوَازُ مُطْلَقًا، وبِهَذَا قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّة(2)، وبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ(3)، وبِهِ أفْتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ، والإفْتَاءِ(4)، والشَّيْخُ مُحَمَّدُ ابنُ عُثَيْمِيْنَ(5).
القَوْلُ الثَّالِثُ : مَنْعُ اللَّعِبِ بِها إنْ كَانَتْ عَلَى الصِّفَةِ الخَاصَّةِ المُنَظَّمَةِ التَّنْظِيْمِ المُبَالَغِ فِيْهِ ( بِمَعْنَى مَنْعِ جَعْلِ التَّنْظِيْمَاتِ الكَامِلَةِ الَّتِي يُوْقَفُ لأجْلِها أولَئِكَ اللاعِبُونَ لِمُجَرَّدِ لَعِبِ الكُرَةِ )، وجَوَازَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وبِهِ أفْتَى سَمَاحَةُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيمَ(6) .
ثُمَّ ذَكَرَ أدِلَّةَ كُلِّ قَوْلٍ بِقَوْلِهِ :
* أدِلَّةُ المَنْعِ : إنَّ الكُرَةَ يَنْشَأ عَنْها مَفَاسِدُ كَثِيْرَةٌ مِنْ ضَيَاعِ صَلاةٍ، وضَيَاعِ أوْقَاتٍ، وكَلامٍ فَاحِشٍ : مِنْ لَعْنٍ، وقَذْفٍ، وانْكِشَافِ عَوْرَةٍ، وأضْرَارٍ بَدَنِيَّةٍ، وقِيْلَ وقَالَ، ونِسْيَانٍ لِذِكْرٍ .
__________
(1) ـ "الأسئلة والأجوبة الفقهية" للسلمان (5/335) .
(2) ـ "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي ص (251) .
(3) ـ "مغني المحتاج" (4/311)، و"نهاية المحتاج" (8/27) .
(4) ـ فتوى برقم 2857 في 8/3/1400هـ، وبرقم 3323 في 19/12/1400هـ، وثالثة برقم 4967 في 20/9/1402هـ، والمفتون هم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الله بن قعود.
(5) ـ "أسئلة مهمة" للعثيمين، ص (27) .
(6) ـ "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (8/116 – 122، 128– 129)، انظر "المسابقات" لسعد الشثري (203-204) .(1/166)
فَمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَشُكَّ في تَحْرِيمِ لِعْبِها الَّذِي يِنْشَأُ عَنْهُ ذَلِكَ، أو بَعْضِهِ مِنَ البَالِغِيْنَ العَاقِلِيْنَ .
* أدِلَّةُ الإبَاحَةِ :
ـ إنَّ الأصْلَ في الأشْيَاءِ الإبَاحَةِ، ولا دَلِيْلَ يُحَرِّمُها .
ـ بَلْ إن أُصُولَ الشَّرِيعَةِ تَدُلُّ عَلَى إباحَتِها؛ حَيْثُ يُوْجَدُ في الشَّرِيْعَةِ الأمْرُ بالقُوَّةِ الجَسَدِيَّةِ الجِسْمَانِيَّةِ، وهَذِه اللِّعْبَةُ لا تَخْلُو مِنْ إعْدَادٍ للقُوَّةِ .
ـ وأيْضًا فإنَّ الشَّرِيعَةَ تَحُثُّ عَلَى الاهْتِمَامِ بالبَدَنِ، والحِرْصِ عَلَى تَنْمِيَتِه، ولا شَكَّ أنَّ مِنْ طُرُقِ الاهْتِمَامِ بالبَدَنِ مُزَاوَلَةُ الأنْشِطَةِ الرِّيَاضِيَّةِ، ومِنْهَا الكُرَةُ بِكَافَّةِ أنْوَاعِها .
* أدِلَّةُ أهْلِ التَّفْصِيْلِ :
ـ قَالُوا : إنَّها مَعَ التَّنْظِيْمَاتِ لا تَخْلُو مِنَ الأمُوْرِ الآتِيَةِ :
1ـ ما في طَبِيْعَةِ هَذِه اللُّعْبَةِ مِنَ التَّحَزُّبَاتِ، وإثَارَةِ الفِتَنِ، وتَنْمِيَةِ الأحْقَادِ، وهَذِه النَّتَائِجُ عَكْسُ مَا يَدْعُو إليهِ الإسْلامُ مِنْ وُجُودِ التَّسَامِحِ، والتَّآلِفِ، والتَّآخِي، وتَطْهِيْرِ النُّفُوسِ، والضَّمَائِرِ مِنَ الأحْقَادِ، والضَّغَائِنِ، والتَّنَافُرِ، ولا شَكَّ أنَّ التَّنَاحُرَ، والأحْقَادَ، والضَّغَائِنَ مَوْجُودَةٌ في هَذِه اللُّعْبَةِ بَيْنَ الغَالِبِ والمَغْلُوبِ .
2ـ ومِنْ أجْلِ هَذِا فإنَّها تُمْنَعُ لِمَا تُسَبِّبُ مِنْ مَفَاسِدَ اجْتِمَاعِيَّةٍ، فَهِي تُنَمِّي في اللاعِبِيْنَ، والمُشَاهِدِيْنَ الأحْقَادَ، وتُثِيْرُ بِيْنَهم الفِتَنَ؛ بَلْ : قَدْ يَتَجَاوَزُ أمْرُ تَحَيُّزِ بَعْضِ المُشَاهِدِيْنَ لِبَعْضِ اللاعِبِيْنَ إلى الاعْتِدَاءِ، والقَتْلِ، وشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيْرَةٌ مَعْلُوْمَةٌ … الخ(1).
__________
(1) ـ انظر "المسابقات" لسعد الشثري، ص (205-206) بتصرف .(1/167)
ـ ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى هَذِه التَّفْصِيلاتِ وغَيْرِها : الشَّيْخُ مَشْهُورُ بنُ حَسَنٍ ـ حَفِظَهُ اللهُ ـ في كِتَابِه "كُرَةِ القَدَمِ"، وهَذَا مِنْه تِبَاعًا للشَّثْرِي كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَصَرُّفِهِ فِي الحَاشِيَةِ(1).
إلاَّ أنَّهُ هَدَاهُ اللهُ لَمْ يَكْتَفِ بنَقْلِ كَلامِ أهْلِ العِلْمِ ( كَمَا ظَهَرَ لَهُ )؛ بَلْ تَجَاسَرَ عَلَى تَوْقِيْعِ فَتْوَى عَنْ رَبِّ العَالَمِيْنَ ( لَمْ يُسْبَقْ إليها ! )، وهُوَ أنَّ لُعْبَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ الأمُوْرِ المَشْرُوْعَةِ؛ بَلْ رُبَّمَا تَكُوْنُ مُسْتَحَبَّةً إذَا، وإذَا …!!، وهَذَا نَصُّ كَلامِهِ(2) غَفَرَ اللهُ للجَمِيْعِ ! : " مُمَارَسَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ الأمُوْرِ المَشْرُوْعَةِ، إذْ لا نَعْرفُ دَلِيْلاً يُحَرِّمُها، والأصْلُ في الأشْيَاءِ الإباحَةِ؛ بَلْ لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُسْتَحَبَّاتِ، إذَا مَارَسَها المُسْلِمُ لِيَتَقَوَّى بَدَنُهُ، ويَتَّخِذَها وَسِيْلَةً لِتُكْسِبَهُ قُوَّةً ونَشَاطًا وحَيَوِيَّةً، وقَدْ رَغَّبَ الشَّرْعُ في تَعَاطِي الأسْبَابِ المُقَوِّيَةِ للبَدَنِ، لأجْلِ الجِهَادِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْلُهُ : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ، وأحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ…"(3)مسلم .
ولَنَا فِيْمَا ذَكَرَاهُ مِنَ التَّفْرِيعَاتِ الخِلافِيَّةِ اعْتِرَاضَاتٌ فَرَضَها البَحْثُ العِلْمِيُّ؛ كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ انظر "كرة القدم" للشيخ مشهور ص (15) وما بعدها .
(2) ـ "كُرَة القَدَمِ" للشيخ مشهور بن حسن ص (14) .
(3) ـ أخرجه مسلم (2664) .(1/168)
أوَّلاً : أمَّا ما ذَكَرَاهُ عَنِ القَائِلِيْنَ بِتَحْرِيمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُطْلَقًا، لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ اعْتِرَاضٍ؛ بَلْ هُوَ مِنْ جَادَّةِ العِلْمِ، لِتَحْقِيْقِهِ مَنَاطَ الحُكْمِ، ومُرَاعاَتِهِ لِفِقْهِ الوَاقِعِ كَمَا تَقْتَضِيه الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، والقَوَاعِدُ العِلْمِيَّةُ .
ثَانيًا : أمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّثْري عَنِ القَائِلِيْنَ بِجَوَازِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُطْلَقًا، فَلَيْسَ مِنْ جَادَّةِ أهْلِ العِلْمِ، ولا مِنَ التَّحْقِيقِ بِشَيءٍ؛ بَلْ هَذِه مِنْهُ ـ حَفِظَهُ اللهُ ـ مُجَازَفةٌ عِلْمِيَّةٌ فِي عَزْوِ الأقْوَالِ، وتَحْرِيْرِ النِّزَاعِ !!، وذَلِكَ مَاثلٌ في نِسْبَةِ هَذَا القَوْلِ إلى شَيْخِ الإسْلامِ ابنِ تَيْمِية، وبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ واللَّجْنَةِ ( الدَّائِمَةِ !)(1) للْبُحُوثِ العِلْمِيَّةِ والإفْتَاءِ، وشَيْخِنا العُثَيْمِيْنَ، فإنَّ مِثْلَ هَذَا العَزْوِ خَلْطٌ بَيِّنٌ مَا كَانَ لَهُ أنْ يُذْكَرَ فَضْلاً أنْ يُكْتَبَ؛ فَضْلاً أنْ يُنْسَبَ إلى عُلَمَاءِ الإسْلامِ !، لِذَا كَانَ رَدُّهُ مِنْ وُجُوهٍ .
الأوَّلُ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الحَادِثَةَ في العُصُوْرِ الأخِيْرَةِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوْفَةً لأهْلِ العِلْمِ المَذْكُوْرِيْنَ لا سِيَّمَا ابنُ تَيْمِيةَ، وعُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ تَارِيخِ ظُهُورِ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ عَلَى صِفَتِها القَائِمَةِ فِي بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، فَعِنْدَ هَذَا كَانَ نِسْبَةُ الجَوَازِ لِهَؤُلاءِ العُلَمَاءِ خَطأً بيِّنًا، لا يَرْضَاهُ التَّحْقِيقُ العِلْمِيُّ .
__________
(1) ـ إطلاق كلمة : " الدَّائمة " كذا، فيه نظر لقوله تعالى : " كلُّ من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " الآية .(1/169)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا آنِفًا أنَّ ابنَ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ لَمْ يَفْتَأ يُصَرِّحْ بِتَحْرِيمِ ألْعَابٍ هِيَ أقَلُّ ضَرَرًا مِنْ طَاغُوْتِيَّةِ العَصْرِ، المُسَمَّاه : ( كُرَةُ القَدَمِ ) .
فانْظُرْ مَثَلاً إلى قَوْلِهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عِنْدَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ عَنْ ألْعَابٍ مَعْرُوفَةٍ في زَمَانِهِ : هي مُبَاحَةٌ في أصْلِها، سَالِمَةٌ مِنَ المَحَاذِيرِ الشَّرْعِيَّةِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَتْ مُعِينَةً عَلَى الجِهَادِ، وذَلِكَ عِنْدَما سُئِلَ عَنْ لِعْبِ الكُرَةِ فِي بَابِ السَّبَقِ ( أيْ : الكَرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ بالصَّوْلَجَانِ، والكُجَّةِ ! )، فقَالَ : " … ولِعْبُ الكُرَةِ إذَا كَانَ قَصَدَ صَاحِبُهُ المَنْفَعَةَ للْخَيْلِ، والرِّجَالِ؛ بِحَيْثُ يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الكَرِّ والفَرِّ، والدُّخُوْلِ، والخُرُوْجِ، ونَحْوِهِ فِي الجِهَادِ، وغَرَضُه الاسْتِعَانَةُ عَلَى الجِهَادِ الَّذِي أمَرَ اللهُ بِه رَسُوْلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وإنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ بالخَيْلِ، والرِّجَالِ، فإنَّه يُنْهَى عَنْهُ"(1).
وما ذَكَرَهُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُنَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ خِلافٍ بِيْنَ أهْلِ العِلْمِ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلْيه بَيْنَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِيْهِ ضَرَرٌّ، أو شُغْلٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ : فَهُوَ حَرَامٌ قَطْعًا !، وهو ما عَلَيْهِ؛ (كُرَةَ القَدَمِ ) اليَّوَمَ .
__________
(1) ـ "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي ص ( 251 ) .(1/170)
الثَّاني : أنَّ الحُكْمَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) السَّائِرَةِ في هَذِه الأعْصَارِ، مُتَوَقِّفٌ ضَرُوْرَةً عَلَى فِقْهِ الوَاقِعِ؛ لأنَّ الحُكْمَ عَلَى الشَّيءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِه، ومِنْ ثَمَّ كَانَ كُلُّ مَنْ ألْقَى نَظْرَةً سَرِيعَةً إلى حَالِ (كُرَةِ القَدَمِ ) اليومَ؛ أيْقَنَ جَزْمًا أنَّ هَذِه اللُّعْبَةَ حَرَامٌ حَرَامٌ، ومَا ذَاكَ إلاَّ أنَّها قَدْ تَضَمَّنَتْ مِنَ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَشِيْبُ لَهُ الوُلْدَانِ، وتَنْهَدُّ لَهُ الأرْكَانُ(1)!، والحَالَةُ هَذِه كَيْفَ يَلِيْقُ بِنا أنْ نَعْزُوَ الحُكْمَ بإباحَتِها ( مُطْلقًا ! ) لِوَاحِدٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ فَضْلاً عَنْ كُبَرَائِهِم ؟!
ثَالثًا : أمَّا عَزْوُ الشَّثْري الإبَاحَةَ المُطْلَقَةَ للَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ، وشَيْخِنا العُثَيْمِيْنَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَحَكُّمٌ مَرْدُوْدٌ، وخُرُوْجٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إذْ لَيْسَ مِنَ الصَّوابِ إطْلاقُ مَا كَانَ مُقَيِّدًا، أو تَقْيِيْدُ مَا كَانَ مُطْلَقًا !
فعِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَنَا أنْ نُطْلِقَ الفَتَاوَى الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي قيَّدَها أصْحَابُها العُلَمَاءُ، والعَكْسُ بالعَكْسِ، وعَلَيْه فَلَيْسَ لَنَا إذَا قَالَ العُلَمَاءُ : " إنَّ اللَّعِبَ مُبَاحٌ، إذا سَلِمَ مِنَ الضَّرَرِ، أو الاشْتِغَالِ عَنْ فَاضِلٍ، أو صَدٍّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تعالى … وإلاَّ حَرُمَ "، ثُمَّ يأتي أحَدُنا فَيَحْكُمُ عَلَى لُعْبَةٍ اقْتَرَنَتْ بِبَعْضِ المُحَرَّمَاتِ : أنَّها مُبَاحَةٌ؛ ويُعَلِّلُ قَوْلَه : بأنَّ هَؤْلاءِ العُلَمَاءَ يَقُوْلُونَ بإبَاحَةِ الألْعَابِ مُطْلَقًا ؟!
ويُوَضِّحُ هَذَا الخَطَأ عِبَارَةُ الفَتْوَى الَّتِي أحَالَ إلَيْها الشَّثْرِي، وإلَيْك نَصُّها كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ كما سَيَأتِي بَيَانُه قَرِيْبًا إنْ شَاءَ الله .(1/171)
ـ فَتْوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ رقم (5413) بتاريخ (18/3/1403هـ ) :
مَا هُوَ الحُكْمُ فِي الدُّخُوْلِ إلى مَلْعَبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) لِمُشَاهَدَةِ إحْدَى المُبَاريَاتِ ؟
الدُّخُوْلُ فِي المَلْعَبِ لِمُشَاهَدَةِ مُبَارَيَاتٍ لـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إنْ كَانَ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْه تَرْكُ وَاجِبٍ كالصَّلاةِ، ولَيْسَ فِيْه رُؤْيَةٌ لِعَوْرَةٍ، ولا يَتَرَتَّبُ عَلَيْه شَحْنَاءُ وعَدَاوَةُ؛ فَلا شَيءَ فِيْه، والأفْضَلُ تَرْكُ ذَلِكَ؛ لأنَّه لَهْوٌ، والغَالِبُ أنَّ حُضُوْرَه يَجُرُّ إلى تَفْوِيْتِ وَاجِبٍ، وفِعْلِ مُحَرَّمٍ .
وباللهِ التَّوْفِيقِ، وصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وآلِهِ، وصَحْبِه، وسَلَّمَ
اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ، والإفْتَاءِ
عُضْوٌ عُضْوٌ نائِبُ رَئِيسِ اللَّجْنَةِ الرَّئِيسُ
عَبْدُ اللهِ بنُ قُعُودٍ عَبْدُ اللهِ بنُ غُدَيَّانِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَفِيْفِي عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ باز
ومِنْ خَلالِ هَذِه الفَتْوَى نَخْلَصُ إلى أحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ، مِنْها :
الحُكْمُ الأوَّلُ : مُشَاهَدَةُ، أو لِعْبُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إذا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْها تَرْكُ وَاجِبٍ، أو كَشْفُ عَوْرَةٍ، أو شَحْنَاءُ وعَدَاوَةٌ؛ فالأفْضَلُ تَرْكُها؛ لأنَّها لَهْوٌ ولَعِبٌ .
الحُكْمُ الثَّانِي : إنَّ الغَالِبَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليَوْمَ يَجُرُّ إلى تَفْوِيتِ وَاجِبٍ، وفِعْلِ مُحَرَّمٍ .
قُلْتُ : وبَعْدَ بَيَانِ هَذِه الفَتْوَى، ومَا فِيها مِنْ أحْكَامٍ، هَلْ يَقُوْلُ قَائِلٌ : إنَّ اللَّجْنَةَ الدَّائِمَةَ تَقُوْلُ بإبَاحَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُطْلقًا ؟، لا، ولا أظنُّ عَاقِلاً يَقُولُ بِهَذَا !(1/172)
عِلْمًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) السَّائِرَةَ في بِلادِ العَالَمِيْنَ الآنَ لا تَخْلُو بِحَالٍ عَنْ تِلْكُمُ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ : مِنْ عَدَاوةٍ وشَحْنَاءَ، وكَشْفٍ للعَوْرَاتِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأتِي ذِكْرُه قَرِيْبًا إنْ شَاءَ اللهُ .
وهَاكَ أخِي المُسْلِمُ هَذِه الفَتْوَى الَّتِي قَطَعَتْ فيها جَهِيْزَةُ قَوْلَ كُلِّ خَطِيْبٍ، وهِي مَا أفْتَتْ بِه اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ(1) برقم ( 4219 )، وتاريخ ( 6/12/1401هـ ) :
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : مَا هُوَ الحُكْمُ فِي رُؤْيَةِ مُبَارَيَاتِ الكُرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ عَلَى كَأسٍ، أو عَلَى مَنْصِبٍ مِنَ المَنَاصِبِ : كاللَّعِبِ عَلَى دَوْرِيٍّ، أو كَأسٍ مَثَلاً ؟
الجَوَابُ : مُبَارَيَاتُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَرَامٌ، وكُوْنُها عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ كَأسٍ، أو مَنْصِبٍ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مُنْكَرٌ آخَرُ إذَا كَانَتْ الجَوَائِزُ مِنَ اللاعِبِيْنَ، أو بَعْضِهِم لِكَوْنَ ذَلِكَ قِمَارًا، وإذَا كَانَتْ الجَوَائِزُ مِنْ غَيْرِهِم فَهِي حَرَامٌ، لِكَوْنِها مُكَافَأةً عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وعَلَى هَذَا فَحَضُوْرُ هَذِه المُبَارَيَاتِ حَرَامٌ !
وصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وآلِهِ، وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ
اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ، والإفْتَاءِ
عُضْوٌ عُضْوٌ نائِبُ رَئِيسِ اللَّجْنَةِ الرَّئِيسُ
عَبْدُ اللهِ بنُ قُعُودٍ عَبْدُ اللهِ بنُ غُدَيَّانِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَفِيْفِي عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ باز
__________
(1) ـ لِهَذِه الفَتْوَى أخَوَاتٌ مِنَ "اللجنة الدائمة" سَيَأتِي ذِكْرُها فِي مُلْحَقِ فَتَاوَى أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إنْ شَاءَ اللهُ .(1/173)
وتَعْقِيْبًا عَلَى هَذِه الفَتْوَى يَقُوْلُ الشَّيْخُ سَعِيْدُ بنُ عَبْدِ العَظِيْمِ : " لا يُسْتَغْرَبُ حُكْمُ لَجْنَةِ الفَتْوَى بِشَأنِ ( كُرَة القَدَمِ )، فَشُيُوْعُها عَلَى النَّحْوِ المُرِيْبِ الَّذِي تَتِمُّ بِه لا يَجْعَلُها مُبَاحَةً مَشْرُوْعَةً، وذَلِكَ للأمُوْرِ الَّتِي لا تَنْفَكُّ عَنْها ككَشْفِ الأفْخَاذِ، وتَأخِيْرِ الصَّلَوَاتِ، وإضَاعَةِ الوَاجِبَاتِ، والأوْقَاتِ، والأمْوَالِ، ومُصَاحَبَتِها بالرَّفَثِ، وقَوْلِ الزُّوْرِ مِنْ بَاطِلٍ، وشَتْمٍ، وسَبٍّ، وغِيْبَةٍ، ومَا إلى ذَلِكَ، واسْتِخْدَامِها كَوَسَيْلَةٍ لإلْهَاءِ الشُّعُوْبِ، وإحْدَاثِ العَصَبِيَّةِ الَّتِي هِيَ أشْبَهُ بالجَاهِلِيَّةِ الأوْلَى؛ وتَمْيِيْعِ مَفْهُوْمِ الوَلاءِ والبَرَاءِ؛ بَلْ اسْتَعَارُوا مُصْطَلَحَاتِ الجِهَادِ، وأضَافُوْها للاعِبِي الكُرَةِ، كالحَارِسِ، والدِّفَاعِ، والهُجُوْمِ؛ وأطْلَقُوا اسْمَ شَهِيْدِ الكُرَةِ عَلَى مَنْ يَمُوْتُ مِنَ الجَمَاهِيْرِ، أو اللاعِبِيْنَ بِسَبَبِ فَوْزِ فَرِيْقِه، أو هَزِيْمَتِه ! إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ السَّفَهِ"(1).
* * *
أمَّا فَتْوَى شَيْخُنا العُثَيْمِيْنَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ لَيْسَتْ عَنْ صَاحِبَتِها بِبَعِيْدٍ، وهَذَا نَصُّها :
مَا حُكْمُ مُمَارَسَةِ الرِّيَاضَةِ بالسَّرَاوِيْلِ القَصِيْرَةِ، ومَا حُكْمُ مُشَاهَدَةِ مَنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ ؟
ج ـ مُمَارَسَةُ الرِّياضَةِ جَائِزَةٌ إذَا لَمْ تَلْهُ عَنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ، فإنْ ألْهَتْ عَنْ شَيءٍ وَاجِبٍ فإنَّها تَكُوْنُ حَرَامًا، وإنْ كَانَتْ دَيْدَنَ الإنْسَانِ بِحَيْثُ تَكُوْنُ غَالِبَ وَقْتِه فإنَّها مَضْيَعَةٌ للوَقْتِ، وأقَلُّ أحْوَالِها فِي هَذِهِ الحَالَةِ الكَرَاهَةُ .
__________
(1) ـ "الضوابط الشرعية" لسعيد (124-125) .(1/174)
أمَّا إذَا كَانَ المُمَارِسُ للرِّياضَةِ لَيْسَ عَلَيْه إلاَّ سِرْوَالٌ قَصِيْرٌ يَبْدُو مِنْه فَخِذُه، أو أكْثَرُه فإنَّه لا يَجُوْزُ، فإنَّ الصَّحِيْحَ أنَّه يَجِبُ عَلَى الشَّبَابِ سِتْرُ أفْخَاذِهم، وأنَّه لا يَجُوْزُ مُشَاهَدَةُ اللاعِبِيْنَ وهُمْ بِهَذِه الحَالَةِ مِنَ الكَشْفِ عَنْ أفْخَاذِهِم"(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ هَذِه الفَتْوَى نَخْلَصُ إلى أحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ، مِنْها :
الحُكْمُ الأوَّلُ : لِعْبُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) جَائِزٌ، مَا لَمْ يَلْهِ عَنْ وَاجِبٍ، وإلاَّ حَرُمَتْ !
الحُكْمُ الثَّانِي : لِعْبُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) جَائِزٌ، ما لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْها مُحَرَّمٌ؛ مِثْلُ : كَشْفُ العَوْرَةِ، وإلاَّ حَرُمَتْ !
الحُكْمُ الثَّالِثُ : إذا كَانَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) دَيْدَنُ المُسْلِمِ، وغَالِبُ وَقْتِه، فإنَّها مَكْرُوْهَةٌ؛ لأنَّها مَضْيَعَةٌ للوَقْتِ .
ومِنْ خِلالِ هَذِه الفَتْوَى الظَّاهِرَةِ لا يَجُوْزُ عَزْوُ إطْلاقِ حُكْمِ الإبَاحَةِ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُطْلقًا للشَّيْخِ العُثَيْمِين، في حِيْنَ يَبْقَى السُّؤَالُ جَذَعًا وهُوَ : هَلْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) اليَوْمَ سَالِمَةٌ مِنْ هَذِه المُحَرَّمَاتِ، والمَكْرُوهَاتِ الَّتِي ذَكَرَها الشَّيْخُ هُنَا ؟!، لا قَطْعًا !
ومَهْمَا يَكُنْ؛ فَهُنَاكَ فَرْقٌ ظَاهِرٌ بَيْنَ إبَاحَةِ الألْعَابِ الرِّيَاضَيَّةِ الَّتِي لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَحْظُورٍ شَرْعِيٍّ الَّتِي ذَكِرِها أهْلُ العِلْمِ، وبَيْنَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) المُعَاصِرَةِ، فـ ( كُرَةُ القَدَمِ ) القَائِمَةُ لا تَنْفَكُّ بِحَالٍ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ المَحْظُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا هُوَ وَاقِعُها المُشَاهَدُ !
__________
(1) ـ انظر "أسئلة مهمة" للشيخ العثيمين ص ( 27 ) .(1/175)
رَابِعًا : أنَّ مَا ذَكَرَه الشَّيْخُ ابنُ إبْرَاهِيْمَ لَيْسَ فِيْه تَفْصِيْلٌ؛ بَلْ ظَاهِرُ كَلامِهِ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مُحَرَّمَةٌ، لِمَا فِيْها مِنَ العَدَاوَةِ، والشَّحْنَاءِ … إلخ، فالشَّيْخُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ حَكَمَ عَلَى هَذِه اللُّعْبَةِ الطَّاغُوْتِيَّةِ بالنَّظَرِ إلى وَاقِعِها، وصُوْرَتِها القَائِمَةِ، فَكَانَ هَذَا مِنْه عَيْنَ الفِقْهِ، ولُبَابَه، وبَعْدَ هَذَا أيْنَ التَّفْصِيْلُ الَّذِي ذَكَرَه الشَّثْرِيُّ(1) ؟!
خَامِسًا : مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مَشْهُورٌ مِنْ كَوْنِ ( كُرَة القَدَمِ ) مِنَ الأمُوْرِ المَشْرُوْعَةِ؛ بَلْ لا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُسْتَحَبَّاتِ!!، هُوَ قَوْلٌ خَارِجٌ عَنْ دَائِرَةِ الفِقْهِ الشَّرْعِيِّ فَضْلاً عَنْ دَائِرَةِ فِقْهِ الوَاقِعِ الَّذِي تَعِيْشُهُ ( كُرَةُ القَدَمِ ) اليومَ، عِلْمًا أنَّ هَذَا القَوْلَ لَيْسَ لَهُ سَابِقَةٌ عِنْدَ أهُلِ العِلْمِ المُحَقِّقِيْن !
والرَّدُ عَلَيْه مِنْ وُجُوهٍ مَعَ مَا مَرَّ :
الأوَّلُ : إنَّ القَوْلَ بِمَشْرُوْعِيَّةِ، أو اسْتِحْبَابِ لُعْبَةٍ مَّا يَحْتَاجُ إلى دَلِيْلٍ شَرْعِيٍّ صَحِيْحٍ سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أو عَامًّا، فالنَّصُّ مِثْلُ : مَشْرُوْعِيَّةِ الرِّمَايَةِ، والسِّبَاقِ، والمُصَارَعَةِ … إلخ، والعَامُ مِثْلُ : الألْعَابِ الَّتِي شَمِلَتْها عِلَّةُ النَّصِ الشَّرْعِيِّ، أو كَانَتْ وَسِيْلَةً إلى مَا هُوَ مِنْ شَأنِ الجِهَادِ، ومُعِيْنًا عَلَيْه .
__________
(1) ـ سَتَأتِي هَذِه الفَتْوَى فِي فَصْلِ "مُلْحَقِ الفَتَاوَى" آخِرَ الكِتَابِ إنْ شَاءَ اللهُ، ص ( ) .(1/176)
الثَّاني : أمَّا الألْعَابُ الرِّيَاضِيَّةُ الَّتِي لَمْ تَنُصْ الشَّرِيعَةُ عَلَيْها فَهِي باقِيَةٌ عَلَى الإبَاحَةِ عَلَى قَوْلٍ … وفَرْقٌ حِيْنَئِذٍ بِيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ وبَيْنَ مَا هُوَ مُبَاحٌ، وهُوَ كَذَلِكَ، وإلاَّ عُدَّ هَذَا خَلْطًا مَكْشُوْفًا!، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا تَقْرِيْرُ هَذَا فِي تَقْسِيْمِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ .
الثَّالِثُ : لا نَعْلَمُ دَلِيْلاً شَرْعِيًّا نَصَّ عَلَى مَشْرُوْعِيَّةِ مُمَارَسَةِ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) القَائِمَةِ اليَوْمَ؛ بَلْ لا نَعْلَمُ أحَدًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ قَالَ بِجَوَازِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى مَا هِيَ عَلَيْه دُوْنَ تَقْيِيدٍ وتَفْصِيْلٍ، فَضْلاً أنْ يَقُوْلَ : بِمَشْرُوعِيَّتِها، واسْتِحْبَابِها !
الرَّابِعُ : هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ حُكْمِ مَا هُوَ مُعِيْنٌ للمُسْلِمِ عَلَى تَكَسُّبِه، وتَقْوِيَةِ بَدَنِه، وبَيْنَ حُكْمِ مُمَارَسَةِ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَهَذَا لَوْنٌ وذَاكَ لَوْنٌ آخَرُ، فَلَيْسَ كُلُّ لُعْبَةٍ تَكُوْنُ مُعِيْنَةً عَلَى التَّكَسُّبِ الحَلالِ، أو التَّقْوِيَةِ، فَخُذْ مَثَلاً : ألْعَابُ المَيْسِرِ، والنَّرْدِ، والشَّطْرَنْجِ، و( الشِّيْشِ )، و( البلْيَارْدُو )، و(البَلُوتِ)، والطَّاوِلَةِ … إلخ .
الخَامِسُ : لا أعْلَمُ أحَدًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعْتَبَرِيْنَ قَالَ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) اليَوْمَ مِنَ الألْعَابِ الَّتِي تُعِيْنُ الشَّبَابَ عَلَى الجِهَادِ!؛ بَلْ لَوْ قِيْلَ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) فِي الحَقِيْقَةِ مَلْهَاةٌ للشَّبَابِ عَنْ أبْجَدِيَّاتِ دِيْنِهم فَضْلاً عَنْ كَوْنِها مَدْعَاةً للجِهَادِ لكَانَ أوْلَى وأحْرَى . إنَّ مِثْلَ هَذَا الطَّرْحَ ( للأسَفِ !) يُعَدُّ تَغْيِبًا للحَقَائِقِ العِلْمِيَّةِ .(1/177)
السَّادِسُ : فِي حِيْنَ أنَّنا وَجَدْنا للشَّيْخِ مَشْهُوْرٍ كَلامًا عِلْمِيًّا، وفِقْهًا وَاقِعِيًّا عَنْ حُكْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ) مَبْثُوْثًا فِي مَثَانِي، ومَطَاوِي حَوَاشِيْه العِلْمِيَّةِ عَلَى كِتَابِ "الفُرُوْسِيَّةِ" لابنِ القَيِّمِ، وكَذَا مَا ذَكَرَه فِي كِتَابِه "القَوْلِ المُبِيْنِ" مِمَّا يَدُلُّ صَرَاحَةً عَلَى أنَّه يَقُوْلُ : بتَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وتَجْرِيْمِ لاعِبِيْها … !
وهَذَا رُبَّمَا يَزِيْدُنا ( ظنَّا ! ) أنَّ الشَّيْخَ مَشْهُوْرًا لَهَ قَلَمَانِ، أو رَأيَانِ فِي مَسْألَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) النَّازِلَةِ بِسَاحَةِ المُسْلِمِيْنَ، واللهُ أعْلَمُ .
السَّابِعُ : إنَّ الاسْتِشْهَادَ بِحَدِيْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " " المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ، وأحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ …"(1) مُسْلِمٌ، في مَشْرُوعِيَّةِ تَقْوِيَةِ الأجْسَامِ البَدَنِيَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّحْقِيْقِ بِشَيءٍ !
فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُرْشِدْ أُمَّتَهُ يَوْمًا مِنَ الأيَامِ إلى تَقْوِيَةِ وتَرْبيَةِ أجْسَامَهم كَمَا عَلَيْه رِيَاضِيُّو اليَوْمَ الذين اعْتَنُوا بتَرْبِيَةِ أبْدَانِهم وأجْسَامِهِم؛ حَتَّى عَادَتْ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْهُم : كَبَهِيْمَةِ الأنْعَامِ!
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (2664) .(1/178)
عِلْمًا أنَّ الشَّرِيعَةَ الإسْلامِيَّةَ ما ذَكَرَتْ ضَخَامَةَ الأجْسَامِ، وتَرْبِيَتَها إلاَّ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ، والتَّحْذِيْرِ!، كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم"[المنافقون 4]، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهم … إلى قوله : ثُمَّ يأتِي مِنْ بَعْدِهم قَوْمٌ يَظْهَرُ فِيْهِمُ السِّمَنُ …"(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكِم، وأمْوَالِكِم، …"(2) مُسْلِمٌ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، والآثَارِ السَّلَفِيَّةِ النَّاهِيَةِ عَنْ تَرْبِيَةِ الأبْدَانِ، والأجْسَامِ ترْبيَةً خارجِةً عَنِ الاعْتِدَالِ، والتَّوَسُّطِ في المَأكَلِ، والمَشْرَبِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا عَلَيْه الرِّيَاضِيُّونَ !، وهَذَا مَا عَلَيْه شُرَّاحُ الحَدِيثِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 3/224 )، ومسلم ( 7185 ) .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 8/11 ) .(1/179)
فَهَذَا الإمَامُ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ يَقُوْلُ عِنْدَ شَرْحِه لِهَذا الحَدِيْثِ : " والمُرَادُ بالقُوَّةِ هُنَا عَزِيْمِةُ النَّفْسِ، والقَرِيْحَةُ فِي أُمُوْرِ الآخِرَةِ، فَيَكُوْنُ صَاحِبُ هَذَا الوَصْفِ أكْثَرَ إقْدَامًا عَلَى العَدُوِّ فِي الجِهَادِ، وأسْرَعَ خُرُوْجًا إلَيْه، وذَهَابًا فِي طَلَبِه، وأشَدَّ عَزِيْمَةً فِي الأمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، والصَّبْرِ عَلَى الأذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ، واحْتِمَالَ المَشَاقِّ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، وأرْغَبَ فِي الصَّلاةِ، والصَّوْمِ، والأذْكَارِ، وسَائِرِ العِبَادَاتِ، وأنْشَطَ طَلَبًا لَهَا، ومُحَافَظَةً عَلَيْها، ونَحْوَ ذَلِكَ"(1)، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ المُلاَّ عَلِيٌّ القَارِيُّ فِي "مِرْقَاةِ المَفَاتِيْحِ" : " قِيْلَ : المُرَادُ بالمُؤْمِنِ القَوِيِّ الصَّابِرِ عَلَى مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وتَحَمُّلِ أذِيَّتِهم، وتَعَلِيْمِهم الخَيْرَ، وإرْشَادِهِم إلى الهُدَى، ويُؤَيِّدُه مَا رَوَاه أحْمَدُ، وغَيْرُه عَنِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا : " المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، ويَصْبِرُ عَلَى أذَاهُم؛ أفْضَلُ مِنَ المُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، ولا يَصْبِرُ عَلَى أذَاهُم"(2). وقِيْلَ : أرَادَ بالمُؤْمِنِ القَوِيِّ؛ قَوِيٌّ فِي أيْمَانِه، وصَلْبٌ فِي إيْقَانِه؛ بِحَيْثُ لا يَرَى الأسْبَابَ، ووَثِقَ بِمُسَبِّبِ الأسْبَابِ، والمُؤْمِنُ الضَّعِيْفُ بِخِلافِهِ؛ وهُوَ فِي أدْنَى مَرَاتِبِ الإيْمَانِ"(3).
__________
(1) ـ "شرح مسلم" للنووي (16/329) .
(2) أخرجه الإمام احمد في المسند الحديث رقم 5022 في مسند ابن عمر ورقم 23159/ ج 9 في مسند رجل من أصحاب النبي رضي الله عنه .
(3) ـ "مرقاة المصابيح" لملا قارئ (9/153-154) .(1/180)
وهَذَا مَا قرَّرَه شَيْخُنا العُثَيْمِيْنُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِه عَلَى "رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ" بِقَوْلِه : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ : يَعْنِي فِي إيْمَانِه، ولَيْسَ المُرَادُ القَوِيُّ فِي بَدَنِه؛ لأنَّ قُوَّةَ البَدَنِ ضَرَرٌ عَلَى الإنْسَانِ إذَا اسْتَعْمَلَ هَذِه القُوَّةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَقُوَّةُ البَدَنِ لَيْسَتْ مَحْمُوْدَةً، ولا مَذْمُوْمَةً فِي ذَاتِها، إنْ كَانَ الإنْسَانُ اسْتَعْمَلَ هَذِه القُوَّةَ فَيْما يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا، والآخِرَةِ صَارَتْ مَحْمُوْدَةً، وإنْ اسْتَعَانَ بِهَذِه القُوَّةِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ صَارَتْ مَذْمُوْمَةً .
لَكِنِ القُوَّةُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ"، أيْ : قَوِيُّ الأيْمَانِ؛ ولأنَّ كَلِمَةَ القَوِيِّ تَعُوْدُ إلى الوَصْفِ السَّابِقِ وهُوَ الإيْمَانِ، كَمَا تَقُوْلُ : الرَّجُلُ القَوِيُّ : أيْ فِي رُجُوْلَتِه، كَذَلِكَ المُؤْمِنُ القَوِيُّ : يَعْنِي فِي إيْمَانِه؛ لأنَّ المُؤْمِنَ القَوِيَّ فِي إيْمَانِه تَحْمِلُه قُوَّةُ إيْمَانِه عَلَى أنْ يَقُوْمَ بِمَا أوْجَبَ اللهُ عَلَيْه، وعَلَى أنْ يَزِيْدَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا شَاءَ اللهُ، والضَّعِيْفُ الإيْمَانُ يَكُوْنُ إيْمَانُه ضَعِيْفًا لا يَحْمِلُه عَلَى فِعْلِ الوَاجِبَاتِ، وتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، فَيُقَصِّرَ كَثِيْرًا"(1).
فِي حِيْنَ أنَّنا نَجِدُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ أفْصَحَ عَنْ بَيَانِ مَعْنَى القُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَامَّةٍ، وفِي الحَدِيْثَ هَذَا خَاصَّةً عِنْدَ قَوْلِه " ألاَ إنَّ القوَّةَ الرَّميُ، ألاَ إنَّ القوَّةَ الرَّميُ …"(2)مُسْلِمٌ .
__________
(1) ـ "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (3/91-92) .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 1918 ) .(1/181)
وبَعْدَ هَذِه النُّقُولاتِ لأهْلِ العِلْمِ في شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ، فَلَيْسَ لأحَدٍ كائنًا مَنْ كَانَ أنْ يَحْمِلَ الحَدِيْثَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاه الشَّرْعيِّ، لاسِيَّمَا مُرَوِّجو ( كُرَةِ القَدَمِ ) خَاصَّةً، والرِّيَاضَةِ عَامَّةً !، كما أنَّ هَذَا لا يَعْنِي ( ضَرُوْرَةً ) أنَّ الحَدِيْثَ لا يَدُلُّ رَأسًا عَلَى تَقْوِيَةِ الأبْدَانِ؛ بَلْ تَأتِي تَقْوِيَةُ الأبْدَانِ تِبَاعًا؛ لا قَصْدًا، ولا أصْلاً، فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْه الحَدِيْثُ أوَّلاً، ومَا احْتَمَلَه ثَانِيًا !
يُوَضِّحُه : أنَّكَ إذَا رَأيْتَ مُجَاهِدًا مِنْ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ، رَأيْتَه فِي قُوَّتِه القَلْبِيَّةِ، والبَدَنِيَّةِ، دُوْنَ نَظَرٍ إلى ضَخَامَةِ جِسْمِه، أو نُحُوْلَتِه، وهَذَا شَأنُ كُلِّ مَنْ أرَادَ أنْ يَأخُذَ بِحَظِّ الفُرُوْسِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ : سِبَاقٍ، ونِضَالٍ، وغَيْرِهِما .
* * *
وبَعْدُ أيْضًا؛ لَمْ يَنْتَهِ تَفْرِيعُ الأحْكَامِ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) إلى هَذَا الحَدِّ؛ بَلْ زَادَ كَثِيرٌ مِنْ الكُتَّابِ المُعَاصِرِيْنَ القَوْلَ : بأنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الحاضِرَةَ جَائِزةٌ، وأنَّها تُحَافِظُ عَلَى لِيَاقَةِ الجِسْمِ، كَمَا أنَّها تَحْفَظُ لَنَا وَقْتَ الشَّبَابِ … مَعَ مُراعَاةِ مَا يَلِي : سَتْرُ العَوْرَةِ، واجْتِنَابُ العَدَاوَةِ والبَغْضَاءِ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ والجَمَاهِيْرِ، والحِفَاظُ عَلَى الوَقْتِ والمَالِ، وألاَّ تُشْغِلُ عَمَّا هُوَ أوْلَى، وألاَّ تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ والصَّلاةِ … إلخ .(1/182)
قُلْتُ : لاشَكَّ أنَّ هَذَا القَوْلَ ضَرْبٌ مِنَ الخَيَالِ، وتَكَلُّفٌ بَارِدٌ، وتَمَحُّلٌ سَاذَجٌ … لأنَّ التَّمَنِّيَ وطَلَبَ المُحَالِ شَيءٌ، والوَاقِعٌ شَيءٌ آخَرُ، فَهَلْ يَشُكُّ عَاقِلٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) اليَوْمَ تَخْلُو مِنْ كَشْفِ العَوْرَاتِ، وإغَارَةِ الصُّدُورِ بالشَّحْنَاءِ والعَدَاوَةِ، وإثَارَةِ النَّعَرَاتِ القَوْمِيَّةِ والوَطَنِيَّةِ؛ بَلْ إحْيَاءِ حَمِيَّةِ الجاهِلِيَّةِ ؟!، لا شَكَّ أنَّ هَذَا وغَيْرَهُ لا يَنْفَكُّ بِحَالٍ عَنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليَوْمَ، ولا يُخَالِفُ في هَذَا إلاَّ جَاهِلٌ بَلِيْدٌ، أو مُكَابِرٌ عَنِيْدٌ .
لِذَا؛ كَانَ الصَّحِيْحُ بِأصْحَابِ هَذَا القَوْلِ أنْ يَحْكُمُوا أوْلاً عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) بأنَّها : حَرَامٌ لِعْبًا ومُشَاهَدَةً؛ ما لَمْ تَخْلُ مِنْ هَذِه المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ المَوْجُوْدَةِ حِسًّا ووَضْعًا : ككَشْفِ العَوْرَاتِ، وإثارَةِ الشَّحْنَاءِ والعَدَاوَاتِ … وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَغُصُّ به هَذِه اللُّعْبَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ، أمَّا أنْ نَقْلِبَ الفَتْوَى، ونَتَجَاهَلَ الوَاقِعَ، فَهَذِه قِسْمَةٌ ضِيْزَى، وغِشٌّ للنَّاشِئَةِ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ .
وأخِيْرًا؛ فَكَانَ عَلَيْنا أنْ نُبَيِّنَ الحُكْمَ الشَّرْعِيَّ تُجَاه ( كُرَةِ القَدَمِ )، كَمَا تَقْتَضِيه الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، والقَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ مُسْتَبْصِرِيْنَ بأهْلِ العِلْمِ ( قَدِيْمًا وحَدِيْثًا )، مُرَاعِيْنَ وَاقِعَ هَذِه اللُّعْبَةِ الخَرْقَاءِ النَّازِلَةِ بِسَاحَةِ بالمُسْلِمِيْنَ، وهَذَا مَا احْتَفَظْنَا بِهِ فِي آخِرِ الكِتَابِ(1)، فإلى المَوْعُوْدِ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
الفَصْلُ الثَّاني
بَيَانُ الأصْلِ فِي حُكْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )
__________
(1) ـ انظر ص ( ) .(1/183)
إنَّ النَّاظِرَ فِي أصْلِ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومَا لَهَا مِنْ غَايَاتٍ مَقِيْتَةٍ، وثَمَرَاتٍ فَاسِدَةٍ؛ ليَقْطَعْ دُوْنَ شَكٍّ أنَّها مُحَرَّمَةُ الأصْلِ، مُحَرَّمَةُ الفَرْعِ؛ لِذَا كَانَ مِنَ الخَطأ العِلْمِي أنْ نَحْكُمَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) : بأنَّها مُبَاحَةٌ؛ لأنَّ الأصْلَ في الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ الإباحَةُ !، فَهَذَا القَوْلُ لَيْسَ هُوَ مِنْ مَعِيْنِ الفِقْهِ، ولا مِنْ عَيْنِه؛ لأُمُوْرٍ :
الأوَّلُ : لا شَكَّ أنَّ الألْعَابَ الرِّيَاضِيَّةِ مُبَاحَةٌ في الأصْلِ كَمَا عَلَيْه جَمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ الحُكْمُ عَلَى أصْلِها هُوَ الصَّوَابَ، أمَّا إذا اقْتَرَنَ بِها مُحَرَّمٌ، أو مَكْرُوهٌ فَهُنَا تَأْخُذُ حُكْمَ الحُرْمَةِ، أو الكَرَاهَةِ طَرْدًا؛ لأنَّ الحُكْمَ يَدُوْرُ مَعَ العِلَّةِ وُجُوْدًا وعَدَمًا . وهَذَا هُوَ شَأْنُ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ بِعَامَّةٍ.
الثَّاني : أمَّا ( كُرَةُ القَدَمِ ) اليَوْمَ فَهِي لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الألْعَابِ المُبَاحَةِ أصْلاً، كَلا وكَلا؛ بَلْ هِيَ مُحَرَّمةٌ في ابْتِدَاءِ أصْلِها، يُوَضِّحُهُ مَا يَلَي :
ـ أنَّها نَشَأَتْ عَلَى العَدَاءِ والبَغْضَاءِ، وإلْهَاءِ الشُّعُوبِ، وضَيَاعِ الأوْقَاتِ، وهَدْرِ الأمْوَالِ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأتِي بَيَانُه إنْ شَاءَ اللهُ، لا سِيَّما في أصْلِ وَضْعِها، وأحْكَامِها، ونِظَامِها كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ المُنَظَّمَاتِ العَالَمِيَّةِ للرِّيَاضِيَّةِ، وقَدْ مَرَّ بَعْضُها .(1/184)
ـ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) تَأخُذُ حُكْمَ الألْعَابِ المُحَرَّمَةِ أصْلاً ووَصْفًا : كالمَيْسِرِ، والنَّرْدِ وغَيْرِهِما مِمَّا هُوَ فِي أصْلِهِ مُحَرَّمٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَجُوْزُ لأحَدٍ كائنًا مَنْ كان أنْ يَقُوْلَ : إنَّ اللَّعِبَ بالمَيْسِرِ، أو النَّرْدِ مُبَاحٌ في الأصْلِ؛ لأنَّهما مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ، غَيْرَ أنَّه قَدِ اقْتَرَنَ بِهِما مِنَ المُحَرَّمَاتِ مَا جَعَلَهُما مُحَرَّمَيْنِ، وهِيَ أكْلُ أمْوَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ ؟!، أو يَقُوْلَ : إنَّ شُرَبَ الخَمْرِ مُبَاحٌ في الأصْلِ؛ لأنَّ الشُّرْبَ في أصْلِهِ مُبَاحٌ، غَيْرَ أنَّه اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ المُحَرَّمَاتِ مَا جَعَلَهُ مُحَرَّمًا، وهو : ذَهَابُ العَقْلِ ؟!، وقِيَاسًا عَلَى هَذَا التَّأويلِ الفاسِدِ نُجْرِي غَالِبَ المُحَرَّمَاتِ، والمُنْهِياتِ الشَّرْعِيَّةِ !، فإنَّ مِثْلَ هَذَا الحُكْمِ يُعَدُّ عَبَثًا، وتَلاعُبًا بالأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
وعَلَيْه فَلا شَكَّ أنَّ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةَ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِلُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُنْذُ ابْتِدَائِها، ونُشُوْئِها، مِمَّا يَقْطَعُ بأنَّها مُحَرَّمَةٌ أصْلاً، ووَضْعاً .
فانْظُرْ مَثَلاً آخَرَ : الجَمْعِيَّةُ المَاسُونِيَّةُ!، فَهِي حَرَامٌ أصْلاً؛ بَلْ كُفْرٌ، ورِدَّةٌ عَيَاذًا باللهِ، وهَذَا لا يَخْتَلِفُ فيه أحَدٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَوْ تَفَيْقَهَ مُتَعَالِمٌ بِقَوْلِه : إنَّ الماسُونِيَّةَ مُبَاحَةٌ فِي الأصْلِ؛ لأنَّ الأصْلَ فِي الاجْتِمَاعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ الإبَاحَةُ، وعَلَيْه تَبْقَى عَلى أصْلِها مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِها مَحْظُورٌ شَرْعِيٌّ فَعِنْدَئِذٍ تَأخُذُ حُكْمَهُ طَرْدًا ؟!(1/185)
أقُوْلُ : إنَّ إطْلاقَ حُكْمِ الإبَاحَةِ عَلى المَاسُونِيَّةِ تَمَحُّلٌ بَارِدٌ، وجَهْلٌ مَحْضٌ … لأنَّ الحُكْمَ عَلَى هَذِه الجَمْعِيَّةِ يكونُ بالنَّظَرِ إلى أصْلِ وَضْعِها، ومَقْصَدِها مَعًا، لا إلى أصْلِ الاجْتِمَاعِ !
وكَذَا مِثَالٌ آخَرُ : وهُوَ مَسْجِدُ ضِرَارٍ، الَّذِي بَنَاه المُنَافِقُونَ مُضَارَّةً بالمُؤْمِنِيْنَ ولِمَسْجِدِهم، وإرْصَادًا لِمْنَ حَارَبَ اللهَ ورَسُوْلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : " والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون"[التوبة107] .
فإذَا كَانَ بِنَاءُ المَسَاجِدِ في الإسْلامِ سُنَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وقُرْبَةٌ إلاهِيَّةٌ … إلاَّ أنَّ مَسْجِدَ ضِرَارٍ أصْبَحَ مُحَرَّمًا!، وما ذَاكَ إلاَّ أنُّه بُنِيَ عَلَى مَقْصَدٍ مُحَرَّمٍ، ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُبْقِهِ عَامِرًا لِصَلاةِ المُؤْمِنِيْنَ؛ بَلْ أمَرَ أصْحَابَه بِهَدْمِه وحَرْقِه، وصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِزْبَلَةً(1) .
لِذَا كَانَ حُكْمُ مَسْجِدِ ضِرَارٍ التَّحْرِيمَ، نَظَرًا لأصْلِ مَقْصَدِهِ وضَرَرِه !، أمَّا مَن بَنَى مَسْجِدًا للهِ تَعَالى يَرْجُو فِيْهِ الأجْرَ والمَثُوبَةَ أوَّلاً، ثمَّ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمْنِ تَغيَّرَتْ نِيَّةُ صَاحِبِه إلى النِّفَاقِ!، وعَلَيه اتَّخَذَهُ ضِرَارًا بالمُسْلِمِيْنَ، أو مَكَانًا للمُفْسِدِيْنَ، فَهُنَا يِخْتَلِفُ الحُكْمُ في أصْلِهِ لا فِي ثَمَرَتِه : وهُوَ أنَّ أصْلَه مَشْرُوعٌ؛ لأنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ مَشْرُوعٌ مَسْنُونٌ، غَيْرَ أنَّه اقْتَرَنَ بِهِ مُحَرَّمٌ، فَكَانَ حُكْمُه حِيْنَئِذٍ الحُرْمَةُ .
__________
(1) ـ انظر "تيسير الكريم الرحمن" للسعدي (2/285-286) .(1/186)
فَعِنْدَ هَذَا كَانَ مِنَ الوُضُوْحِ أنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ مَا كَانَ أصْلُه مَوْضُوْعًا للشَّرِ، ومَا كَانَ أصْلُهُ مَوْضُوعًا للخَيْرِ، فالأوَّلُ مُحَرَّمٌ رَأسًا، ولَوْ كَانَ جِنْسُهُ مِنَ المُبَاحَاتِ، والثَّاني حَلالٌ .
وهَذَا مِثَالٌ قِيَاسِيٌّ أوْلَوِيٌّ : وهُوَ لَوْ أنَّ نَفَرًا مِنْ شَيَاطِيْنَ الإنْسِ قَامُوا بِتَنْظِيمِ لُعْبَةٍ جَدِيْدَةٍ مَفَادُهَا:
ـ إلْهَاءُ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ عَنْ قَضَايَاهُم المَصِيْرِيَّةِ .
ـ إثَارَةُ العَدَاوَةِ والشَّحْنَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ .
ـ وتَوْظِيفُ هَذَا فِي صِنَاعَةِ كُرَةٍ أسْطُوَانِيَّةِ!، يَرْكُلُها الجَمِيعُ بالأقْدَامِ، والأيْدِي، والرُّؤُوسِ عَلَى السَّوَاءِ، فِي مُحِيطٍ دَائِرِي قُطْرُه خَمْسُونَ مِتْرًا، وعَدَدُ اللاعِبِيْنَ عَشْرةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الفَرِيْقَيْنِ مُنَاصَفَةً… إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشاكِلٌ فِي الجُمْلةِ أنْظِمَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
أقُوْلُ : لَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا؛ ألَيْسَ مِنْ الفِقْهِ، والنَّصِيحَةِ مَعًا أنْ يَجْتَمِعَ عُمُومُ المُسْلِمِيْنَ فَضْلاً عَنْ عُلَمَائِهم عَلَى تَحْرِيم هَذِه اللُّعْبَةِ، وتَجْرِيمِ فاعِلِيها ؟!، بَلَى دُوْنَ تَرَدُّدٍ؛ بِلْ هَذَا واللهِ هُوَ : عَيْنُ الفِقْهِ، وعِلْمُه، وحَقُّه .
* * *(1/187)
ومِنْ نَافِلَةِ العِلْمِ، أنْ يَعْلَمَ الجَمِيعُ أنَّ الأحْكامَ الأرْبَعَةَ ( الوَاجِبَ، والسُّنةَ، والحَرَامَ، والمَكْرُوهَ ) مُتوقِّفةٌ عَلَى وَسَائِلِها المُباحَةِ؛ لأنَّ المُباحَ في حَقِيقَتِه وَسِيْلةٌ لإعْمَالِ هَذِه الأحْكَامِ الشَّرْعيَّةِ، لِذَا كَانَ مِنَ الخَطأ أنْ نَحْكُمَ عَلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بالنَّظَرِ إلى وَسِيلَتِه المُبَاحَةِ في أصْلِها، دُوْنَ النَّظَرِ إلى غَايتِهِ المُحَرَّمةِ؛ وإلاَّ اخْتَلَطَ الحَابِلُ بالنَّابِلُ، وتَغَيَّرَتْ رُسُومُ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ عَيَاذًا باللهِ !
لِذَا؛ كَانَ النَّظَرُ، والحُكْمُ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليَوْمَ يَكُونُ تَبَعًا لأصْلِها المَوْضُوعِ لها ابْتِدَاءً، ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيْرِ هَذَا الأصْلِ كَانَ مِنَ الجائِزِ للفَقِيْهِ : أنْ يُخْرِجَ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مِنْ أصْلِ الحُرْمَةِ إلى الإباحَةِ إذا خَلَتْ مِنْ تِلْكُمُ المُوْبِقَاتِ، والمُحَرَّمَاتِ إذا أمْكَنَ ( ويأبى الوَاقِعُ !)، فَعِنْدَئِذٍ كَانَ هَذَا مِنْهُ نَقْلاً عَنِ الأصْلِ، لا بَقَاءً عَلَيْه فَتَأمَّلْ !
والحَالَةُ هَذِه؛ فلْيَعْلَمْ الجَمِيعُ أنَّ ( كُرَةُ القَدَمِ ) قَدْ بُنِيَتْ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ شَرْعِيَّةٍ ابْتِدَاءً ووَضْعًا، مِنْها مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ ذِي عَيْنَيْنِ كَمَا سَيَأتِي، ومِنْها مَا هُوَ مَقْصُودٌ مَدْرُوسٌ كَمَا أفْرَزَتْه مُخَطَّطَاتُ أعْدَائِنا كاليَهُوْدِ والنَّصَارَى، مِمَّا يُقْطَعُ بأنَّها : مُحَرَّمةٌ في أصْلِها ووَصْفِها، واللهُ المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
* * *(1/188)
ومِنْ خِلالِ بَيَانِ حُكْمِنَا عَلَى أصْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وهُوَ التَّحْرِيْمُ؛ إلاَّ أنَّ هَذَا الحُكْمَ لَيْسَ فَرْضًا، أو مُتَعَيَّنًا عَلَى القَارِئ الكَرِيمِ، فَرُبَّما جَازَ الخِلافُ فيه، إلاَّ أنَّنا مَعَ هَذَا التَّسَامُحِ فِي أصْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، لا نَقْبَلُ أحَدًا مِنَ المُسْلِمِيْنَ كَائِنًا مَنْ كَانَ أنْ يُجْرِيَ خِلافًا فِيْما هُوْ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بِيْنَ أهْلِ العِلْمِ .
وذَلِكَ مَاثِلٌ في وُجُودِ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ في ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّتِي أصْبَحَتْ سِمَةً ووَصْفًا لا تَنْفَكُ حِسًّا ووَاقِعًا عَنْ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطانِيَّةِ الطَّاغُوتِيَّةِ، مِمَّا يَقْطَعُ بَعْضُها بِتَحْرِيمِها فَضْلاً عَنْ مَجْمُوعِها، فإلى بَيَانِها .
* * *
الفَصْلُ الثَّالِثُ
المَحاذِيرُ الشَّرعيَّةُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )
إنَّ ذِكْرَ المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ المَوْجُودَةِ في لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) : هو بَيْتُ القَصِيْدِ، وكَبِدُ الحَقِيقَةِ الَّتِي تُنَاطُ به الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، والقَوَاعِدُ الفِقْهِيَّةُ، مِمَّا يُعِيْنُ الفَقِيْهَ عَلَى اسْتِبَانَةِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، ووَضْعِ الأمُوْرِ فِي نِصَابِها، وإقْرَارِها فِي إهَابِها، وأنْ يَأتِيْها مِنْ بَابِها؛ كَيْ يَسْتَبِيْنَ حُكْمُ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ.
فَسَرْدُ هَذِه المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا سَيَكُونُ إنْ شَاءَ اللهُ تَبْصِرَةً للعَالِمِيْنَ، ونُصَحًا للمُسْلِمِيْنَ، ومَعَ تَكَاثُرِها وكَثْرَتِها : إلاَّ أنَّ مِنْها المُحَرَّمُ، ومِنْها المَكْرُوهُ، ومِنْها مَا هُوَ سَدٌّ للذَّرَائِعِ المُفْضِيَةِ إلى الحَرَامِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَحَاذِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَأخُذُ بَعْضُها بِرِقَابِ بَعْضٍ مِمَّا يَقْطُعُ بِحُرْمَتِها .
* * *(1/189)
فإليكَ أخِي المُسْلِمُ بَعْضُ هَذِه المَحَاذِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي حَوَتْها ( كُرَةُ القَدَمِ ) مِمَّا اسْتَخْلَصْتُه مِنْ هُنَا وهُنَاكَ؛ مِمَّا تَزِيْدُ عَلَى الأرْبَعِيْنَ مَحْظُوْرًا !؛ مُرَاعِيًا فِي سَرْدِها الاخْتِصَارَ، والإيْجَازَ؛ لأنَّ فِي ذِكْرِ الطَّرَفِ مِنْها مَا يَدُلُّ عَلَى أطْرَافِها، وفِي اخْتِصَارِها مَا يُنْبِئُكَ عَمَّا وَرَاءها، عِلْمًا أنَّ مَا ذَكَرْتُه هُنَا فِيْهِ مَقْنَعٌ، وكِفَايِةٌ إنْ شَاءَ اللهُ لِمَنْ لَهُ قَلْبٌ مُنِيْبٌ، أو ألْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيْدٌ، واللهُ المُوَفِّقُ، والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
* * *
المَحْظُوْرُ الأوَّلُ
ضَيَاعُ مَفْهُوْمِ الوَلاءِ، والبَرَاءِ
وهَذِه المَسَألَةُ مِنْ أخْطَرِ المَسَائِلِ الَّتِي اقْتَرَنَتْ بـ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليوْمَ؛ بَلْ هِيَ أخْطَرُها، فأهْلُ الرِّياضةِ اليَوْمَ قَدْ تَغَايَرَتْ مَشَارِبُهُم حَوْلَ هَذِه القَضِيَّةِ تَغَايُرًا قَدْ يَصِلُ بِبَعْضِهِم إلى الكُفْرِ عِيَاذً باللهِ(1)!
__________
(1) ـ انظر "الموالاة والمعاداة" للشيخ محماس الجلعود، فهو مِنْ أوْسَعِ الكُتُبِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ عَنْ مَسْألةِ الوَلاءِ والبَراءِ بتفصيلاتِها، وأدلَّتِها، مِمَّا يُرَغِّبُ طَالِبَ العِلْمِ مُطَالَعَتَه حَتْمًا؛ لا سِيَّما أنَّه تَكَلَّمَ عَنْ هَذِه العَقِيدةِ بوُضُوْحٍ، وصَرَاحَةٍ، مَعَ رَبْطِها بالوَاقِعِ المَرِيْرِ!(1/190)
فإذَا كَانَ للتَّوْحِيْدِ مِنَ الأهَمِّيَّةِ، والمَكَانَةِ فِي صِحَّة إسْلامِ المَرْءِ، وإيْمَانِه؛ فإنِّنا مِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ نَتَكَلَّمُ هُنَا عَنْ مَوْضُوْعٍ مِنْ أهَمِّ مَوْضُوْعَاتِ التَّوْحِيْدِ : ألاَ وَهُوَ ( الوَلاءُ والبَرَاءُ )، فإنَّ هَذَا المَوْضُوْعَ يُعَدُّ المَحَكَّ الأسَاسَ فِي الفَصْلِ بَيْنَ المُوَحِّدِ، والمُشْرِكِ، وبَيْنَ مَنْ صَحَّتْ عَقِيْدَتُه، ومَنْ نَقَصَ إيْمَانُه !
فلا عَجَبَ؛ فإنَّ ( عَقِيْدَةَ الوَلاءِ، والبَرَاء ) أصْلٌ مِنْ أُصُوْلِ هَذَا الدِّيْنِ، ولا يَصِحُّ الدِّيْنُ، ولا يَسْتَقِيْمُ الإيْمَانُ، لِمَنْ لَمْ يُحَقِّقْ هَذِه العَقِيْدَةَ بِوَلائِها، وبَرَائِها .
* * *
قَالَ تَعَالَى : " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير"[آل عمران28] .
قَالَ ابنُ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " نَهَى اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى عَبَادَه المُؤْمِنِيْنَ أنْ يُوَالُوا الكَافِرِيْنَ، وأنْ يَتَّخِذُوْهُم أوْلِياءَ يُسِرُّوْنَ إلَيْهم بالمَوَدَّةِ مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِيْنَ، ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : " ومَنْ يفعل ذلك فليس من الله في شيء"، أو ومَنْ يَرْتَكِبْ نَهْيَ اللهِ فِي هَذَا فَقَدْ بَرِيءَ اللهُ مِنْه . وقَوْلُه تَعَالى : " إلا أن تتقوا منهم تقاة " أي : مَنْ خَافَ فِي بَعْضِ البُلْدَانِ، والأوْقَاتِ مِنْ شَرِّهِم فَلَه أنَّ يَتَّقِيْهِم بِظَاهِرِه لا بِبَاطِنِه، ونِيَّتِه . كَمَا قَالَ البُخَارِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ أنَّه قَالَ : " إنَّا لَنُكَشِّرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ، وقُلُوْبُنا تَلْعَنُهم"، وقَالَ الثَّوْرِيُّ : قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ التُّقْيَةُ بالعَمَلِ؛ إنَّما التُّقْيَةُ باللِّسَانِ .(1/191)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : " ويحذركم الله نفسه " أي : يُحَذِّرُكم نِقْمَتَه فِي مُخَالَفَتِه، وسَطْوَتِه، وعَذَابِه لِمَنْ والَى أعْدَاءه، وعَادَى أوْلِياءهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : " وإلى الله المصير" أي : إلَيْه المَرْجِعُ، والمُنْقَلَبُ لِيُجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِه"(1).
وقَالَ ابنُ جَرِيْرٍ الطَّبَرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي هَذِه الآيَةِ : " مَنِ اتَّخَذَ الكُفَّارَ أعْوَانًا، وأنْصَارًا، وظُهُورًا يِوَالِيْهِم عَلَى دِيْنِهم، ويُظَاهِرُهُم عَلَى المُسْلِمِيْنَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيءٍ، أي : قَدْ بَرِيءَ مِنَ اللهِ، وبَرِيءَ اللهُ مِنْه بارْتِدَادِه، ودُخُوْلِه فِي الكُفْرِ، " إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة " أي : إلاَّ أنْ تَكُوْنُوا فِي سُلْطَانِهم فَتَخَافُوْهُم عَلَى أنْفُسِكِم، فَتُظْهِرُوا لَهُم الوَلايَةَ بألْسِنَتِكم، وتُضْمِرُوا العَدَاوَةَ، ولا تُشَايِعُوْهُم عَلَى مَا هُمْ عَلَيه مِنَ الكُفْرِ، ولا تُعِيْنُوْهُم عَلَى مُسْلِمٍ بِفِعْلٍ"(2) .
ونَلْحَظُ أنَّ ابنَ جَرِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ يُصَرِّحُ بأنَّ مَنْ يَقَعُ فِي هَذِه المُوَالاةِ فَقَدْ كَفَرَ باللهِ، وخَرَجَ مِنْ إسْلامِهِ . فالقَضِيَّةُ إذَنْ قَبْلَ أنْ تَكُوْنَ ( ولاءً، وبراءً )، فَهِي : ( إسْلامٌ، وكُفْرٌ )، فالأمْرُ جِدُّ خَطِيْرٌ، لا كَمَا يَظُنُّ بَعْضُهُم أنَّها قَضِيَّةٌ ثَانَوِيَّةٌ فَرْعِيَّةٌ !
* * *
إنَّ قَضِيَّةَ الوَلاءِ، والبَرَاءِ أصْلٌ مِنْ أصُوْلِ الدِّيْنِ، فَكَانَ لابُدَّ مِنْ وُضُوحِ هَذِه القَضِيَّةِ نَصْبَ أعْيُنِ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَتَّى يَعْلَمُوا المُؤْمِنَ مِنَ الكَافِرِ، والمُوَالِيَ مِنَ المُعَادِي، ومَنِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الوَلاءَ، ومَنْ يَسْتَحِقُّ المُعَادَاةَ .
__________
(1) ـ "تفسير ابن كثير" ( 1/337 ) .
(2) ـ انظر "تفسير الطبري" ( 3/228 ) .(1/192)
ومَا أحْسَنَ مَا جَادَتْ بِهِ يَرَاعُ الشَّيْخِ الأُسْتَاذِ مُحَمَّدِ قُطُبٍ حَفِظَهُ اللهُ فِي غَوْرِ تَدَابِيْرِ هَذِهِ الآيَةِ، وهُوَ يُعَايِشُ الحَاضِرَ البَائِرَ، إذْ يَقُوْلُ : " وَقَدْ أبَاحَ اللهُ للْمُسْلِمِيْنَ فِي حَالَةِ الاسْتِضْعَافِ ألاَّ يُظْهِرُوا العَدَاوَةَ لأعْدَائِهم، ولَكِنَّه لَمْ يُبِحْ لَهُم قَطُّ أنْ يُوَالُوْهُم،… فَعَدَمُ إظْهَارِ العَدَاوَةِ شَيءٌ، والمُوَالاةُ شَيءٌ آخَرُ … المُوَالاةُ الَّتِي تَشْمَلُ مَوَدَّةَ القَلْبِ، والتَّنَاصُرَ، والمَحَبَّةَ … هَذِه لا تَكُوْنُ إلاَّ بَيْنَ المُؤْمِنِيْنَ بَعْضُهم لبَعْضٍ . " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير"[آل عمران28]. نَعَمْ، يُحَذِّرُكُم اللهُ نَفْسَه، وهُوَ المُطَّلِعُ عَلَى دَخَائِلِ نُفُوْسِكم، وعَلَى مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ إلَيْها، أنْ يَدْخُلَ إلَيْكم مِنْ بَابِ الاسْتِضْعَافِ، والخَوْفِ فَيَقُوْلَ لَكُم : لا عَلَيْكم أنْ تُوَالُوا الكُفَّارَ لِتَأتَمِنُوهُم، وتَصْرِفُوا شَرَّهُم عَنْكم!، كَلاَّ ! لا وَلاءَ !؛ حَتَّى فِي الاسْتِضْعَافِ لا وَلاءَ !، إنِّما هُوَ فَقَطُ عَدَمُ إظْهَارِ العَدَاوَةِ لَهُم، وعَدَمُ اسْتِفْزَازِهم للاعْتِدَاءِ عَلَيْكم، وأنْتُم لا تَسْتَطِيْعُونَ رَدَّ بَأسِهِم .(1/193)
أمَّا الوَلاءُ القَلْبِيُّ فَغَيْرُ جَائِزٍ؛ لأنَّه يُنْقِضُ "لا إلَهَ إلاَّ اللهُ"، ولأنَّه يُذِيْبُ الحَاجِزَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَفْصِلُ المُؤْمِنَ عَنْ أعْدَاءِ اللهِ، فَيَمِيْلَ إلَيْهم، فَيَنْسَى دِيْنَه، ويُصْبِحَ مِثْلَهُم : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إنَّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا "[النساء139-140]، هَذَا فِي وَلاءِ القَلْبِ … فَكَيْفَ بالتَّعَاوُنِ مَعَهُم، لا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى !، ولَكِنْ عَلَى حَرْبِ الإسْلامِ، والمُسْلِمِيْنَ ؟!، تِلْكَ كُلُّهَا نَوَاقِضُ لِـ"لا إلَهَ إلاَّ اللهُ"، يَقَعُ فِيْها كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ فِي وَقْتِنا الحَاضِرِ دُوْنَ أنْ يَدْرُوا"(1).
* * *
__________
(1) ـ "لا إله إلا الله عقيدة، وشريعة ومنهاج حياة" للأستاذ محمد قطب، ص ( 164، 165 ) .(1/194)
وهُنَا؛ نَكْتَةٌ عِلْمِيَّةٌ أشَارَ إلَيْها صَاحِبُ القَلَمِ الأدِيْبِ، مِمَّنْ أقَامَ قَضِيَّةَ الوَلاءِ والبَرَاءِ عِلْمًا وعَمَلاً؛ وهُوَ مَا قَالَهُ سِيِّدُ قُطُبٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " إنَّ مَعْنَى ( الوِلايَةِ ) الَّتِي يَنْهَى اللهُ الَّذِين آمَنُوا أنْ تَكُوْنَ بَيْنَهم، وبَيْنَ اليَهُوْدِ والنَّصَارَى، هِيَ : وِلايَةُ التَّنَاصُرِ، والتَّحَالُفِ، ولا تَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى اتِّبَاعِهِم فِي دِيْنِهم، فَيَبْعُدُ جِدًا أنْ يَكُوْنَ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ مَنْ يَمِيْلُ إلى اتِّبَاعِ اليَهُوْدِ، أو النَّصَارَى فِي الدِّيْنِ، وإنَّمَا الَّذِي يَخْشَى مِنْه هُوَ : وَلاءُ التَّحَالُفِ، والتَّنَاصُرِ، الَّذِي كَانَ يَلْتَبِسُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ أمْرُهُ فِي أوَّلِ الدَّعْوَةِ الإسْلامِيَّةِ؛ حَتَّى نَهَاهُم اللهُ عَنْه، وأمَرَ بإبْطَالِهِ ..."(1).
* * *
فَقَدْ وَرِثَ أحْفَادُ الغَرْبِ وَصِيَّةَ جَدِّهِم ( لُوِيْسْ التَّاسِع ) إذْ يَقُوْلُ : " إذَا أرَدْتُم أنْ تَهْزُمُوا المُسْلِمِيْنَ فَلا تُقَاتِلُوْهُم بالسَّلاحِ وَحْدَه ـ فَقَدْ هُزِمْتُم أمَامَهم فِي مَعْرَكَةِ السِّلاحِ ـ ولَكِنْ حَارِبُوْهُم فِي عَقِيْدَتِهِم، فَهِيَ مَكْمَنُ القُوَّةِ فِيْهم"(2).
ولِهَذَا لَجَئُوا إلى تَشْوِيْهِ المَفَاهِيْم الإسْلامِيَّةِ بِكُلِّ صُوْرَةٍ مُمْكِنَةٍ، ورَكَّزُوا اهْتِمَامَهم عَلَى تَغْيِيْرِ المَفَاهِيْمِ الإسْلامِيَّةِ بالمَفَاهِيْمِ الغَرْبِيَّةِ، وإقْصَاءِ المُسْلِمِيْنَ عَنِ العَقِيْدَةِ الإسْلامِيَّةِ، وتَقْرِيْبِهم إلى الغَرْبِ بِكُلِّ وَسِيْلَةٍ .
__________
(1) ـ "في ظلال القرآن" لسيد قطب (6/758-759 ) .
(2) ـ "واقعنا المعاصر" للأستاذ محمد قطب، ص (196) .(1/195)
لِذَا كَانَتْ سِيَاسَةُ الغَرْبِ تَدُوْرُ حَوْلَ خُطَّتِهم السِّياسِيَّةِ المَشْهُوْرَةِ : " فَرِّقْ تَسُدْ "(1)، فَعَمَدُوا إلى التَّجْزِئَةِ، والتَّفْتِيْتِ مُسْتَخْدِمِيْنَ الاخْتِلافَ السِّيَاسِيَّ، والاخْتِلافَ العِرْقِيَّ، والاخْتِلافَ المَذْهَبِيَّ، وغَيْرَ ذَلِكَ(2)؛ وَغَذَّوْها جَمِيْعًا بِدَعْوَى التَّسَامُحِ مَعَ الآخَرِيْنَ .
فَدَعْوَةُ الإسْلامِ إلى السَّمَاحَةِ فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِ الكُفَّارِ، والبِرِّ بِهِم لا يَعْنِي المُوَالاةَ لَهُم، فَبِسَمَاحَةِ الإسْلامِ يَتَعَامَلُ المُسْلِمُ مَعَ النَّاسِ جَمِيْعًا، عَلَى أسَاسِ العَدْلِ، والاحْتِرَامِ المُتَبَادِلِ، بِدُوْنِ مَحَبَّةِ القَلْبِ لِلْكُفَّارِ، أو مَوَدَّةِ مَا هُمْ فِيْه مِنْ كُفْرٍ، وإنَّمَا التَّعَامُلُ بالمِثْلِ فِيْما لَيْسَ لَهُ مَسَاسٌ فِي جَانِبِ العَقِيْدَةِ : كالْبَيْعِ، والشِّرَاءِ، وتَبَادُلِ المَنَافِعِ الَّتِي لا تَسْتَلْزِمُ حُبًّا، أو بُغْضًا فِي بَعْضِ الأحْوَالِ، فَهَا هُمْ قَدْ سَلَبُوا ثَرَوَاتِ البِلادِ الإسْلامِيَّةِ، واسْتَعُبَدُوا شُعُوبَها، ومَعَ ذَلِكَ لازَالُوا يُضْمِرُوْنَ الحِقْدَ، والكَرَاهِيَّةَ لِلْمُسْلِمِيْنَ؛ فَوَاجِبُ المُسْلِمِيْنَ أنْ يَتَعَامَلُوا مَعَ الكُفَّارِ بإنْصَافٍ وعَدْلٍ، ولْيَأخُذُوْا حِذْرَهُم !
فَبِسَمَاحَةِ الإسْلامِ؛ يَتَعَامَلُ المُسْلِمُ مَعَ النَّاسِ جَمِيعًا، وبِمَحَبَّةِ الخَيْرِ الشَّامِلِ يَلْقَى النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ(3).
* * *
__________
(1) ـ انظر "الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" (1/113)، و( 2/390 ) .
(2) ـ انظر "أجنحة المكر الثلاثة" لعبد الرحمن حبنكة، ص (302) .
(3) ـ "الموالاة والمعاداة" للجلعود (1/42-43) بتصرف .(1/196)
وهَكَذَا؛ حَتَّى أصْبَحَ المُسْلِمُوْنَ أيَادِي سَبَأ : مِنْ بِلادٍ وَاحِدَةٍ إلى دُوَيْلاتٍ، ومِنْ خِلافَةٍ إلى خِلافَاتٍ !، فَعِنْدَ هَذَا كَانَتْ ( قَضِيَّةُ المُوَالاةِ والمُعَادَاةِ ) عِنْدَ أكْثَرِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامَ؛ لاسِيَّمَا طُلاَّبُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْهُم مَحَلَّ نَظَرٍ، ومُرَاجَعَةٍ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَطَرٍ مُتَفَاقِمٍ قَدْ يَدْفَعُ بالأمَّةِ إلى مَهَاوِيَ لا قَرَارَ لَها !
* * *
ومِنْ نَحِسَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أنَّها وَصَلَتْ بِبَعْضِ مُرِيْدِيها فِي قَضِيَّةِ المُوَالاةِ والمُعَادَاةِ إلى دَرَجَةِ الكُفْرِ – عِيَاذًا باللهِ –، وذَلِكَ بأنَّه لَوْ كَانَ فِي أحَدِ النَّوَادِي مِنْ أعْضَائِه، أو مِنَ اللاعِبِيْنَ شَخْصٌ كَافِرٌ، فإنَّ كَثِيْرًا مِنَ المُنْتَسِبِيْنَ إلى هَذَا النَّادِي عَلَى مُخْتَلِفِ المُسْتَوَيَاتِ يُحِبُّوْنَ، ويُنَاصِرُوْنَ، ويُسَاعِدُوْنَ هَذَا الكَافِرَ بالقَوْلِ، والعَمَلِ، ويَمْنَحُوْنَه خَالِصَ مَوَدَّتِهم القَلْبِيَّةِ، بَيْنَمَا يُكِنُّوْنَ أعْظَمَ الحِقْدِ، والغِلِّ، والاسْتِخْفَافِ، والازْدِرَاءِ للمُسْلِمِ الَّذِي يَنْتَمِي إلى نَادٍ آخَرَ، لا سِيَّما إذَا كَانَ هَذَا المُسْلِمُ مِنَ أعْضَاءِ النَّادِي الَّذِي يَكُوْنُ عَادَةً خَصْمًا لَهْم !
فَكَيْفَ يَدَّعِي الإسْلامَ مَنْ هَذِهِ حَالُهم، واللهُ عَزَّ وجَلَّ يَقُوْلُ : " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم "[المجادلة22].(1/197)
فإذَا كَانَ الآبَاءُ، والأبْنَاءُ الكُّفَّارُ المُحَادُّوْنَ للهِ ورَسُوْلِه، لا تَجُوْزُ مَوَدَّتُهم !، فَكَيْفَ بِهَؤُلاءِ الكُفَّارِ الَّذِيْنَ هُمْ أعْدَاءٌ للهِ، ورَسُوْلِهِ، والَّذِيْنَ آمَنُوا، أمْثَالَ : "بِيْلِيه، ورِيفِيلِينو، وتُوْمَاس، ومَارَدُونا، وكِنْبِس…"، وغَيْرِهم مِنْ أدَوَاتِ الكُفْرِ، ومَخَالِبِه .
لَقَدْ أصْبَحَتْ فَرْحَةُ أعْضَاءِ النَّادِي بانْتِصَارِهِم المَوْهُومِ المَزْعُوْمِ أعْظَمَ مَكَانَةً، وأجَلَّ قَدْرًا مِنْ الانْتِصَارِ عَلَى اليَهُوْدِ فِي فِلِسْطِيْنَ، وعَلَى الشِّيُوْعِيِّيْنَ فِي الشِّيْشَانَ، وعَلَى النَّصَارَى الصَّلِيْبِيِّيْنَ فِي أفغَانِسْتَانَ، وإرِتِرِيا، والفِلِبِّيْنَ، وعَلَى الهِنْدَوْسِ الوَثَنِيِّيْنَ فِي كِشْمِيْرَ …، كَمَا أنَّ هَزِيْمَتَهم أمَامَ أحَدِ النَّوَادِي أشَدُّ وَقْعًا مِنِ اغْتِصَابِ تِلْكَ الأمَاكِنِ، وتَشْرِيْدِ مَلايِيْنِ اللاجِئِيْنَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ …!
* * *
إنَّ السَّوَادَ الأعْظَمَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ قَدِ انْحَرَفُوا بِوَاجِبِ المُوَالاةِ والمُعَادَاةِ عَنْ مَنْهَجِهِ الصَّحِيْحِ، وبَدَءوا يُوَالُوْنَ، ويُعَادُوْنَ فِي قَضَايَا سَاذَجَةٍ تَافِهَةٍ هَزِيْلَةٍ، أشْبَهَ مَا تَكُوْنَ بِتَصَرُّفَاتٍ صِبْيَانِيَّةٍ، وهَذَا النَّمَطُ مِنَ التَّفْكِيْرِ مِنَ الأسْبَابِ الَّتِي أوْصَلَتَنا إلى مَا نَحْنُ فِيْه مِنْ ذِلَّهٍ، ومَهَانَةٍ، وقَطِيْعَةٍ(1).
__________
(1) ـ انظر "الموالاة والمعاداة" لمحماس الجلعود ( 1/63-65)، وانظر مجلة "المجتمع" عدد ( 552 ) في ( 19/2/1402 ) .(1/198)
لَقَدْ حَوَّلَ أعْدَاءُ الإسْلامِ قَضِيَّةَ ( المُوَالاةِ والمُعَادَاةِ ) عَنْ مَسَارِها الصَّحِيْحِ إلى مَسَارٍ تَافِهٍ هَزِيْلٍ، فَقَدْ أفْرَغَتْ قُلُوْبَ الأجْيَالِ – إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ – مِنْ حُبِّ اللهِ، ورَسُوْلِه، والمُؤْمِنِيْنَ … إلى حُبِّ أعْدَاءِ اللهِ، ومَا يَخْدُمُ أعْدَاءِ اللهِ مِنْ تَافِهِ القَوْلِ، وسَاقِطِ العَمَلِ .
إنَّه لا يَجُوْزُ، ولا يَصِحُّ مِنَ المُسْلِمِ أنْ يُحِبَّ لُعْبَةً مِنَ اللُّعَبِ، ولا شَخْصًا، أو جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ، ولا عَمَلاً مِنَ الأعْمَالِ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَا يُحِبُّه اللهُ، ورَسُوْلُه، ومُسْتَمِدًا مَحَبَّتَه مِنْ مَحَبَّتِهما، قَالَ تَعَالَى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين"[آل عمران31-32].
* * *
فالمُسْلِمُ بِحُكْمِ إيْمَانِه باللهِ تَعَالَى لا يُحِبُّ إلاَّ فِي اللهِ، ولا يُبْغِضُ إلاَّ فِي اللهِ، ودَلِيْلُ هَذَا الآيَةُ السَّابِقَةُ، وقَوْلُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ أحَبَّ للهِ، وأبْغَضَ للهِ، وأعْطَى للهِ، ومَنَعَ للهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإيْمَانَ"(1) أحْمَدُ، وأبُو دَاوُدَ واللَّفْظُ لَهُ .
وبِنَاءً عَلَى هَذَا؛ فَكَانَ وَاجِبًا عَلَى المُسْلِمِ أنْ يُحِبَّ، ويُوالِيَ جَمِيْعَ عِبَادِ اللهِ المُسلمين؛ وكُلٌّ بِحَسِبِ إيْمَانِه مَا دَامَ أصْلُ الإيْمَانِ موجودًا، وأنْ يُبْغِضَ، ويُعَادِيَ جَمِيْعَ الكَافِرِيْنَ دُوْنَ اسْتِثْنَاءٍ مَا دَامَ أصْلُ الإيْمَانِ مُنْتَفٍ عِنْدَهُم !
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (3/440)، وأبو داود (4681)، والترمذي (2/85)، انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (380) .(1/199)
ومِمَّا تَقَدَّمَ نَجِدُ أنَّ الَّذِيْنَ تَكَلَّمُوا فِي المُوَالاةِ مِنَ العُلَمَاءِ الَّذِيْنَ سَبَقَتِ الإشَارَةُ إلَيْهم، قَدْ أعَدُّوا أعْلَى دَرَجَاتِ المُوَالاةِ للكُفَّارِ رِدَّةً، وكُفْرًا، وأقَلَّها يَكُوْنُ ذَنْبًا، ومَعْصِيَةً، وإثْمًا، ولَمْ يَذْكُرُوا أنَّ هُنَاكَ أيَّ نَوْعٍ مِنْ أنْوَاعِ المُوَالاةِ تَصِحُّ مَعَ الكُفَّارِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ لا يَجُوْزُ أيْضًا أنُ يُحِبَّ المُسْلِمُ لاعِبًا رِيَاضِيًّا كَافِرًا أيًّا كَانَ لِعْبُه، وحَذَاقَتُه … وإذَا أحَبَّ أحَدُنَا مِنَ الكَافِرِ شَيْئًا مِنْ أمُوْرِ الدُّنْيا : كَمَهَارَتِه، وحَذَاقَتِه، ولِعْبِه … فَلْتَكُنْ تِلْكَ المَحَبَّةُ بِضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ، نُجْمِلُها باخْتِصَارٍ :
أوَّلاً : أنْ يُحِبَّ مِنَ الكَافِرِ هَذِه الصِّنْعَةَ، والمَهَارَةَ دُوْنَ اعْتِبَارٍ لِدِيْنِه .
ثَانِيًا : أنْ لا يَتَعَدَّ حُبُّهُ لِهَذِه الصِّنْعَةِ، والمَهَارَةِ إلى : المُوَالاةِ، والثَّناءِ والإطْرَاءِ، والتَّبْجِيْلِ، والمُنَاصَرَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الكُفَّارِ، فَضْلاً عَلَى مُسْلِمٍ، إلاَّ إذَا كَانَ فِي مُنَاصَرَتِه عَلَى كَافِرٍ آخَرَ انْتِصَارٌ للإسْلامِ، ومَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ لِلْمُسْلِمِيْنَ(1) .
ثَالثًا : أنْ لا تَكُوْنَ مَحَبَّتُه لِهَذِه الصِّنْعَةِ، والمَهَارَةِ عَلَى حِسَابِ : بُغْضِ، وعَدَاوَةِ المُسْلِمِ بِحَالٍ مِنَ الأحْوَالِ، وإلاَّ كَانَ المَحْظُوْرُ الشَّرِعِيُّ : إمَّا كُفْرًا عِيَاذًا باللهِ، أو ذَرِيْعَةً للُكُفْرِ، وكِلاهُمَا هُلْكَةٌ، أو مَهْلَكَةٌ !
__________
(1) ـ وهَذَا بَابٌ لَهُ ضَوَابِطُه، وشُرُوطُه، لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ بَسْطِها .(1/200)
ثُمَّ إذا أجَلْنا البَصَرَ هُنَا، أو هُنَاكَ فِيْما تَتَصَابَبُ بِهِ مَلاعِبُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومَا يَجْرِي بَيْنَ عُشَّاقِها : فَلا شَكَّ أنَّها مِمَّا جَمَعَتْ هَذِه المَحَاذِيْرَ الثَّلاثَةَ، أو يَزِيْدُ !، كَمَا أنَّها مُسْتَنْقَعٌ آجِنٌ مِنَ المُغَالَطَاتِ فِي قَضَيَّةِ الوَلاءِ والبَرَاءِ، فاللهُ المُسْتَعَانُ، وهُوَ خَيْرُ حَافِظًا !
فَهَلْ بَعْدَ هذا؛ يَسْتَيْقِظُ شَيْشَاءُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ نَوْمِهِم، ويَنْتَبِهَ أوْبَاشُ المَلاعِبِ الرِّيَاضِيَّةِ مِنْ غَفْلَتِهم، ويَرْعَوِي سِلْقَةُ الإعْلامِ عَنِ عَوِيِّهِم ؟!، أمْ "لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفِي سكرتِهم يعمهون"[الحجر72] ؟!
* * *
ومِنْ خِلالِ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا عَنْ أهْلِ العِلْمِ فيما يَتَعَلَّقُ بقَضِيَّةِ ( الوَلاءِ، والبَرَاءِ )؛ نَسْتَطِيعُ أنْ نُقَسِّمَ أهْلَ (كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ نَحْوَ قَضِيَّةِ ( الوَلاءِ للْكُفَّارِ ) إلى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ :
الأوَّلُ : مَنْ وَالَى مِنْهُم أهْلَ الكُفْرِ، أو دَوْلَةً كَافِرَةً مُطْلقًا(1)؛ فَهَذَا كُفْرٌ باللهِ .
الثَّاني : مَنْ وَالَى مِنْهُم الَّلاعِبَ الكَافِرَ مُطْلقًا؛ فَهَذَا أيْضًا كُفْرٌ باللهِ .
الثَّالِثُ : مَنْ وَالَى مِنْهُم الَّلاعِبَ الكَافِرَ للأجْلِ لِعْبِهِ فَقَطُ؛ فَهَذَا مُحَرَّمٌ، وكَبِيْرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ؛ إلاَّ بِشُرُوْطٍ ثَلاثَةٍ مَرَّتْ مَعَنَا قريبًا(2)، كَمَنْ يُوَالي ( يُشَجِّعُ ) فَرِيْقًا كَافِرًا؛ لِيَتَأَهَّلَ فَرِيْقُه للفَوْزِ مَثَلاً .
وكَذَا تَتَنَزَّلُ هَذِه الأقْسَامُ عَلَى قَضِيَّةِ ( المُعَادَاةِ للْمُسْلِمِيْنَ )، كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ المَقْصُودُ بالإطْلاقِ هُنَا : المُوَالاةُ فِي جَمِيعِ الأمُورِ الظَّاهِرَةِ، والبَاطِنَةِ .
(2) ـ انظر ص ( ) .(1/201)
الأوَّلُ : مَنْ عَادَى مِنْهُم المُسْلِمِيْنَ، أو دَوْلةً مُسْلِمَةً مُطْلَقًا(1)؛ فَهَذَا كُفْرٌ باللهِ .
الثَّاني : مَنْ عَادَى مِنْهُم الَّلاعِبَ المُسْلِمَ مُطْلقًا(2)؛ فَهَذَا أيْضًا كُفْرٌ باللهِ .
الثَّالِثُ : مَنْ عَادَى مِنْهُم الَّلاعِبَ المُسْلِمَ لأجْلِ لِعْبِهِ فَقَطُ؛ فَهَذَا مُحَرَّمٌ، وكَبِيْرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ، كَمَنْ يُعَادِي فَرِيْقًا مُسْلِمًا؛ لِيَتَأَهَّلَ فَرِيْقُه للفَوْزِ مَثَلاً .
* * *
فَصُوَرُ المُوَلاةِ للْكُفَّارِ كَثِيْرَةٌ جِدًّا؛ مِنْها مَا هُوَ كُفْرٌ، ومِنْها مَا هُوَ دُوْنَ ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ(3):
__________
(1) ـ المَقْصُودُ بالإطْلاقِ هُنَا : المُعَادَاةُ فِي جَمِيْعِ الأمُوْرِ الظَّاهِرَةِ، والبَاطِنَةِ .
(2) ـ لأنَّه هُنَا عَادَى أصْلَ الإيْمَانِ الَّذِي عِنْدَه !، ومَنْ عَادَى الإيْمَانَ : كَفَرَ عَيَاذًا باللهِ !
(3) ـ انظر هذه الصور مع أدلتها في كتاب "الولاء والبراء" للشيخ محمد بن سعيد القحطاني ص (230،247)، و"الدرر السنية"، و"حقيقة الولاء والبراء" للشيخ سيد سعيد بن عبد الغني ص (198) وما بعدها .(1/202)
الرِّضَى بِكُفْرِهِم، أو التَّوَلِي العَامُ لَهُم، أو الإيْمَانُ بِبَعْضِ مَا هُمْ عَلَيه مِنَ الكُفْرِ، أو التَّحَاكُمُ إلَيْهم دُوْنَ شَرْعِ اللهِ، أو مَوَدَّتُهم ومَحَبَّتُهم، أو الرُّكُوْنُ إلَيْهم، أو مُدَاهَنَتُهم ومُدَارَاتُهم عَلَى حِسَابِ الدِّيْنِ، أو اتِّخَاذُهُم بِطَانةً مِنْ دُوْنِ المُؤْمِنِيْنَ، أو طَاعَتُهُم فِيْما يَأْمُرُوْنَ ويُشِيْرُوْنَ، أو مُجَالَسَتُهم والدُّخُوْلُ عَلَيْهم وَقْتَ اسْتِهْزَائِهم بآيَاتِ اللهِ، أو بالمُؤْمِنِيْنَ، أو تَوْلِيتُهُم أمْرًا مِنْ أمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ، أو الرِّضَى بأعْمَالِهم، أو التَّشَبُّه بِهِم، والتَّزِيِّ بِزِيِّهم، أو البَشَاشَةُ لَهُم، والطَّلاقَةُ وانْشِرَاحُ الصَّدْرِ لَهُم، أو إكْرَامُهُم، وتَقْرِيْبُهم، أو الثَّنَاءُ عَلَيْهم، أو نَشْرُ فَضَائِلِهم، أو تَعْظِيْمُهم، وإطْلاقُ الألْقَابِ عَلَيْهم، أو السُّكْنَى مَعَهم فِي دِيَارِهم، وتَكْثِيْرُ سَوَادِهم، أو الدُّخُوْلُ فِي أحْلافِهِم، وتَنْظِيْمَاتِهم … إلخ .
فَأكْثَرُ هَذِه الصُّوَرُ مَوْجُوْدَةٌ فِي مُبارَيَاتِ، ولِقَاءاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أبَيْنَا، أم ارْتَضَيْنَا !، فَلا حَوْلَ، ولا قُوّةَ إلاَّ باللهِ العَلِيِّ العَظِيْمِ !
* * *
وأخَيْرًا؛ فَلْيَعْلَمْ أسَاطِيْنُ العُقُلاءِ مِنْ أمَّةِ الإسْلامِ هَذِهِ الحَقِيْقَةَ المُؤْلِمَةَ : وهِيَ أنَّهم إذَا كَانُوا يُرِيْدُوْنَ مِنْ تَلاعِيْبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) كَمَا يَزْعُمُوْنَ ! : المُنَافَسَاتِ الرِّيَاضِيَّةَ بَيْنَ الشَّبَابِ؛ لَتَمْتِيْنِ العُلاقَاتِ، وتَعْمِيْقِ مَشَاعِرِ التَّآلُفِ بَيْنَهُم؛ فإنَّهم مَعَ الأسْفِ مُغَالِطُوْنَ لأنْفُسِهم لأمُوْرٍ :
ـ فإمَّا أنَّهم يَجْهَلُوْنَ حَقِيْقَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومَا تُفْرِزُه مِنْ مُوْبِقَاتٍ، وهَلَكَاتٍ لا تَحْتَمِلُها اجْتَهَادَاتُهم البَارِدَةُ .(1/203)
ـ وإمَّا أنَّهم يُقَامِرُوْنَ بِمَشَاعِرِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ عَلَى حِسَابِ شَهَواتِهم، وغَفَلاتِهم، أو عَلَى حِسَابِ حُفْنَةٍ مِنَ الأمْوَالِ يَقْتَاتُوْنَ بِها فِي مَنَاصِبِهم، أو صُحُفِهِم !
ـ وإمَّا أنَّهم قَدِ اسْتَخَفُّوا بِعُقُوْلِ المُسْلِمِيْنَ فأطَاعُوْهُم، ولا أظُنُّهُم وَصَلُوا إلى هَذَا الحَدِّ !، وإلاَّ لُغَةُ الأفْعَالِ مِنْهُم أقْوَى مِنْ لُغَةِ الأقْوَالِ، ولَكِنْ عِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الخُصُوْمُ !
والدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ؛ أنَّ مَلاعِبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) قَدْ تَحَوَّلَتْ فِي طَوْرِها الأخِيْرِ إلى فَتِيْلٍ مُتَوَقِّدٍ لإشْعَالِ نِيْرَانِ العَدَاوَةِ والبَغْضَاءِ، وحُرُوْبٍ قِتَالِيَّةٍ عَلَى رِقْعَةِ المَلْعَبِ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ مِنْ جِهَةٍ، وعَلَى المُدَرَّجَاتِ بَيْنَ أنْصَارِ الفَرِيْقَيِنْ مِنْ جِهَةٍ أخْرَى، بِصُوْرَةٍ تَفُوْقُ فِي شُرُوْرِها، ومَآسِيْها أضْعَافَ مَا تُفْرِزُه الخُمُورُ، والمَيْسِرُ … بِجَامِعِ العَدَاوَةِ والبَغْضَاءِ، والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ؛ مِمَّا يُرِيْحُ البَاحِثَ عَنْ حُكْمِ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ عَنَاءِ التَّأمُّلِ، والنَّظَرِ، وجَمْعِ الأدِلَّةِ، وسَبْرِ أغْوَارِها . * * *
المَحْظُورُ الثَّاني
الحُبُّ، والبُغْضُ لغَيْرِ اللهِ(1/204)
إنَّ مِنْ أهَمِّ الرَّكَائِزِ الَّتِي يَجِبُ أنْ تَرْتَكِزَ عَلَيْها "لا إلِهَ إلاَّ اللهَ" هِيَ مَسْألَةُ : ( الحُبُّ والبُغْضُ فِي اللهِ )؛ لِذَا كَانَ عَلَى قَادَةِ الأُمَّةِ، ومُرَبِّي الأجْيَالِ أنْ يَغْرِزُوا فِي قُلُوْبِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ عَقِيْدَةَ ( الحُبِّ، والبُغْضِ فِي اللهِ )؛ حَتَّى يَكُوْنُوا أهْلاً لِحَمْلِ رَايَةِ التَّوْحِيْدِ، ويَرْفَعُوها عَالِيَةً مُدَوِّيَةً فِي مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِها، لأنَّها مِنْ أعْظَمِ ثَمَرَاتِ العَقِيْدَةِ الإسْلامِيَّةِ .
فَقَدْ قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " أوْثَقُ عُرَى الإيْمَانِ؛ الحُبُّ فِي اللهِ، والبُغْضُ فِي اللهِ"(1)، وعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ أنَّه قَالَ : " مَنْ أحَبَّ فِي اللهِ، وأبْغَضَ فِي اللهِ، ووَالَى فِي اللهِ، وعَادَى فِي اللهِ، فإنَّمَا تُنَالُ وِلايَةُ اللهِ بِذَلِكَ، ولَنْ يَجِدَ عَبْدٌ طَعْمَ الإيْمَانِ، وإنْ كَثُرَتْ صَلاتُه، وصَوْمُه حَتَّى يَكُوْنَ كَذَلِكَ، وقَدْ صَارَتْ مُؤَاخَاةُ النَّاسِ عَلَى أمْرِ الدُّنْيا، وذَلَكَ لا يُجْدِي عَلَى أهْلِهِ شَيْئًا"(2).
* * *
لا شَكَّ أنَّ المَحَبَّةَ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ المُحِبَّ فِي طَلَبِ مَحْبُوْبِه الَّذِي يَكْمُلُ بِحُصُوْلِهِ لَهُ، فَتُحَرِّكُ مُحِبَّ الرَّحْمَنِ، ومُحِبَّ القُرْآنِ، ومُحِبَّ العِلْمِ والإيْمَانِ، وكَذَا مُحِبَّ الأوْثَانِ، والصُّلْبَانِ، ومُحِبَّ النِّسْوَانِ، والمُرْدَانِ .
__________
(1) ـ أخرجه ابن أبى شيبة في كتاب " الإيمان " ص ( 45 )، وقال عنه الألباني : أخرجه الطبراني في "الكبير" عن ابن مسعود مرفوعًا، وهُوَ حَسَنٌ .
(2) ـ انظر "حلية الأولياء" ( 1/312 )، و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب، ص ( 30 ) .(1/205)
فَتُثِيْرُ فِي كُلِّ قَلْبٍ حَرَكَةً إلى مَحْبُوْبِه مِنْ هَذِه الأشْيَاءِ، فَيَتَحَرَّكَ عِنْدَ ذِكْرِ مَحْبُوْبِه مِنْهَا دُوْنَ غَيْرِه، ولِهَذا تَجِدُ مُحِبَّ ( كُرَةِ القَدَمِ )، والنِّسْوَانِ، ومُحِبَّ الغِناءِ، والألْحَانِ لا يَتَحَرَّكُ عِنْدَ سَمَاعِ العِلْمِ، وشَوَاهِدِ الإيْمَانِ، ولا عِنْدَ تِلاوَةِ القُرْآنِ؛ حَتَّى إذَا ذُكِرَ لَهُ مَحْبُوْبُه اهْتَزَّ لَهُ ورَبَا، وتَحَرَّكَ بَاطِنُه، وظَاهِرُه شَوْقًا إلَيْه، وطَرَبَا لِذِكْرِهِ .
فَكُلُّ هَذِه المَحَابِّ بَاطِلَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ؛ سِوَى مَحَبَّةِ اللهِ، ومَا وَالاهَا، فَهَذِه المَحَبَّةُ تَدُوْمُ، وتَدُوْمُ ثَمَرَتُها، ونَعِيْمُها بِدَاوَمِ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وفَضْلُها عَلَى سَائِرِ المَحَابِّ : كَفَضْلِ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ عَلَى مَا سِوَاه، وإذَا انْقَطَعَتْ عَلائِقُ المُحِبِّيْنَ، وأسْبَابُ تَوَادِّهم، وتَحَابِّهم لَمْ تَنْقَطِعْ أسْبَابُها، قَالَ تَعَالَى : " إذْ تَبَرَّأ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِنَ الذين اتُّبِعُوا ورَأوا العذابَ وتقطعت بهم الأسباب"[البقرة166](1) .
* * *
* أنْوَاعُ المَحَبَّةِ :
فأمَّا إذا سَأَلَتَ أيُّهَا المُسْلِمُ عَنْ أنْوَاعِ مَحَابِّ الخَلْقِ، فَهِيَ : ( مَحَبَّةٌ نَافِعَةٌ، ومَحَبَّةٌ ضَّارَّةٌ ) :
ـ فَالْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ ثَلاثَةُ أنْوَاعٍ : مَحَبَّةُ اللهِ، ومَحَبَّةٌ فِي اللهِ، ومَحَبَّةُ مَا يُعِيْنُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، واجْتِنَابِ مَعْصِيَتِه .
ـ والمَحَبَّةُ الضَّارَةُ ثَلاثَةُ أنْوَاعٍ : مَحَبَّةٌ مَعَ اللهِ، ومَحَبَّةُ مَا يُبْغِضُهُ اللهُ، ومَحَبَّةُ مَا تَقْطَعُ مَحَبَّتُهُ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ، أو تُنْقِصُها، فَهَذِه سِتَّةُ أنْوَاعٍ، عَلَيْها مَدَارُ مَحَابِّ الخَلْقِ .
__________
(1) ـ انظر "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/180) .(1/206)
فَمَحَبَّةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ أصْلُ المَحَابِّ المَحْمُوْدَةِ، وأصْلُ الإيْمَانِ والتَّوْحِيْدِ، والنَّوْعَانِ الآخِرَانِ تَبَعٌ لَهَا(1).
* * *
قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فإنَّ المَحْبُوْبَاتِ لِغَيْرِ اللهِ قَدْ أثَبَتَ الشَّارِعُ فِيْها اسْمَ التَّعَبُّدِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " تَعِسَ عَبْدُ الدِّيْنَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ القَطِيْفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الخَمِيْصَةِ، تَعِسَ وانْتَكَسَ، وإذَا شِيْكَ فلا انْتَقَشَ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ مُنِعَ سَخِطَ …"(2) البُخَارِيُّ .
فَسَمَّى هَؤُلاءِ الَّذِيْنَ إنْ أُعْطُوا رَضَوْا، وإنْ مُنِعُوا سَخِطُوا : عَبِيْدًا لِهَذِه الأشْيَاءِ، لانْتِهَاءِ مَحَبَّتِهِم، ورِضَاهُم، ورَغْبَتِهم إلَيْها .
فإذَا شُغِفَ الإنْسَانُ بِمَحَبَّةِ صُوْرَةٍ لِغَيْرِ اللهِ، بِحَيْثُ يُرْضِيْهِ وُصُوْلُه إلَيْها، وظَفَرُهُ بِها، ويُسْخِطُهُ فَوَاتُ ذَلِكَ؛ كَانَ فِيْه مِنَ التَّعَبُّدِ لَهَا بِقَدْرِ ذَلِكَ"(3).
* * *
ومِنْ خِلالِ هَذَا؛ فَلا شَكَّ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ قَدْ تَعَبَّدُوا لِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِقَدْرِ مَحَبَّتِهم لَهَا، يُوَضِّحُه : أنَّ مَحَابَّ هُيَّامِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَدُوْرُ مَعَ اللِّعْبَةِ انْتِصَارًا، وغَلَبَةً، بِحَيْثُ يَرْضَوْنَ، ويَبْتَهِجُوْنَ، ورُبَّمَا يَهِيْمُوْنَ عِنْدَ انْتِصَارِهِم، وظَفَرِهِم بالفَوْزِ، ويَسْخَطُوْنَ، ويَغْضَبُوْنَ؛ ورُبَّمَا يُصْعَقُوْنَ عِنْدَ انْهِزَامِهِم، وفَوَاتِ مَرْغُوْبِهم .
__________
(1) ـ انظر "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/197) .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 6/60 ) .
(3) ـ "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/212-214) .(1/207)
فَلْيَعْلَمِ الجَمِيْعُ أنَّ مَحَبَّةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إذَا لَمْ تَكُنْ للهِ فَهِيَ عَذَابٌ للمُحِبِّ، ووَبَالٌ عَلَيْه، ومَا يَحْصُلُ لَهُ بِها مِنَ التَّألُّمِ أعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لَه مِنَ اللَّذَّةِ، وكُلَّمَا كَانَتْ المَحَبَّةُ أبْعَدَ عَنْ اللهِ كَانَ ألَمُهَا، وعَذَابُها أعْظَمَ حَالاً، ومَآلاً؛ فِي حِيْنَ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مَبْغُوْضَةٌ للهِ تَعَالَى لِمَا فِيْها مِنْ أسْبَابِ غَضَبِ اللهِ، وسَخَطِهِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ، ومَعْلُومٌ؛ لِذَا لَمْ تَكُنْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) لَحْظَةً مِنَ اللَّحَظَاتِ مَحَلاًّ لِمَحَبَّةِ اللهِ تَعَالَى، فَلْيَكُنْ هَذَا مِنْكَ عَلَى عِلْمٍ !
وأخِيْرا؛ إذَا لَمْ تَكُنْ مَحَبَّةُ اللهِ وَحْدَه غَايَةَ مُرَادِ العَبْدِ، بِحَيْثُ يَكُوْنُ اللهُ تَعَالَى هُوَ المَحْبُوْبَ المُرَادَ لَهَ بالذَّاتِ، والقَصْدِ الأوَّلِ، وكُلَّ مَا سِوَاهُ تَكُوْنُ مَحَبَّتُه وطَلَبُه تَبَعًا لأجْلِهِ؛ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَقَّقَ هَذَا المُحِبُّ : شَهَادَةَ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ، وكَانَ فِيْه مِنَ النَّقْصِ، والعَيْبِ، والشِّرْكِ بِقَدْرِهِ، ولَهُ مِنْ مُوْجِبَاتِ ذَلِكَ مِنَ الألَمِ، والحَسْرَةِ، والعَذَابِ بِحَسَبِ مَا فَاتَه مِنْ ذَلِكَ(1).
* * *
المَحْظُورُ الثَّالثُ
التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ
__________
(1) ـ السابق ( 2/285 ) بتصرف .(1/208)
إنَّ مِنْ أصْلِ دُرُوْسِ دِيْنِ اللهِ وشَرَائِعِه، وظُهُوْرِ الكُفْرِ، والمَعَاصِيِ : التَّشَبُّهُ بالكَافِرِيْنَ، كَمَا أنَّ مِنْ أصْلِ كُلِّ خَيْرٍ : المُحَافَظَةُ عَلَى سَنَنِ الأنْبِيَاءِ، وشَرَائِعِهم؛ ولِهَذا عَظُمَ وَقْعُ المَعَاصِي فِي الدِّيْنِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيْها تَشَبٌّه بالكُفَّارِ، فَكَيْفَ إذَا جَمَعَتِ الوَصْفَيْنِ ( المَعْصِيَةَ، والتَّشَبُّهَ )(1)؟
وهَذَا مَاثِلٌ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي كَوْنِها قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ : جُرْثُوْمَةِ المَعَاصِي، وتَسْرِيْبِ المُشَابَهَةِ فِي أخَادِيْدِ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ !
__________
(1) ـ إنَّ مسألةَ التَّشبُّهِ بالكُفَّارِ؛ لَهِي مِنَ المَسَائِلِ الكَبِيْرةِ الَّتي تَحْتاجُ إلى كِتَابٍ مُسْتَقِلٍ بنفْسِه؛ وما ذَاكَ إلاَّ لِكَثْرَةِ مَسائِلها، ومباحِثِها، وتَفْرِيعاتِها، مَعَ ما للوَاقِعِ المَرِيرِ مِنْ تَجَاذُبٍ لِهَذِه المَسْألة الخَطِيرَةِ التي تَسَاقَطَ فِيها أكْثَرُ المُسْلِمِيْن !!، غَيْر أنَّي اجْتَهدتُ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِي أنْ أذْكُرَ مَا له تَعَلُّقُ بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فقطُ، وبِمَا أنَّ الكُتُبَ الَّتِي سَاهَمَتْ فِي قَضِيَّةِ التَّشبُّهِ كَثِيْرةٌ؛ إلاَّ أنَّني لَمْ أخْرُجْ غَالِبًا عَمَّا ذَكَرَه شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي كِتَابِه العُجَابِ "اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ" الَّذِي يُعَدُّ حَقِيْقَةً مِنْ أنْفَسِ الكُتُبِ، وأجْمَعِها فِي هَذِه المَسْألةِ، مَعَ مَا كَانَ مِنِّي مِنْ : تَقْدِيْمٍ، وتَأخِيْرٍ، وحَذْفٍ، وزِيَادَةٍ … اعْتِبَارًا لشَرْطِ الاخْتِصَارِ فِي هَذِا الكِتَابِ .(1/209)
وأصْلُ المُشَابَهَةِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ؛ بَلْ سَائِرِ المَخْلُوْقَاتِ، عَلَى التَّفَاعُلِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ المُتَشَابِهَيْنِ، وكُلَّمَا كَانَتِ المُشَابَهَةُ أكْثَرَ؛ كَانَ التَّفَاعُلُ فِي الأخْلاقِ، والصِّفَاتِ أتَمَّ؛ حَتَّى يَؤُوْلَ الأمْرُ إلى أنْ لا يَتَمَيَّزُ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ إلاَّ بالعَيْنِ فَقَطِ، ولأجْلِ هَذَا الأصْلِ : وَقَعَ التَّأثُّرُ، والتَّأثَيْرُ فِي بَنِي آدَمَ، واكْتِسَابِ بَعْضِهم أخْلاقَ بَعْضٍ بالمُعَاشَرَةِ والمُشَاكَلَةِ، كَمَا أجْلَبَتْهُ شُمَيْطَاءُ الغَرْبِ ( كُرَةُ القَدَمِ ) إلى بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، وألْبَسَتْهُ أبْنَاءَ المُسْلِمِيْنَ مِنِ اشْتِبَاهٍ، وتَشَابُهٍ .
فالمُشَابَهَةُ، والمُشَاكَلَةُ فِي ( كُرَة القَدَمِ ) بَيْنَ اللاعِبِيْنَ مِنْ أهْلِ الكُفْرِ، وأهْلِ الإسْلامِ، سَوَاءٌ فِي : زِيِّهِم، أو قَوَانِيْنِهم، أو عَادَاتِهم، أو حَرَكَاتِهم، أو تَنْظِيْمَاتِهم؛ أمْرٌ ظَاهِرٌ سَائِرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَتْ الأُمُوْرُ الظَّاهِرَةُ، تُوْجِبُ مُشَابَهَةً، ومُشَاكَلَةً فِي الأمُوْرِ البَاطِنَةِ عَلَى وَجْهِ المُسَارَقَةِ، والتَّدَرُّجِ الخَفِي، وهَذَا ظَاهِرٌ فِي تُرَّاعِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَالاً، ومَقَالاً .
* * *
قَالَ اللهُ تَعَالَى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين"[المائدة51]، وقَالَ سُبَحَانَه : " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم آو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه"[المجادلة22].(1/210)
فَأخْبَرَ سُبْحَانَه أنَّه لا يُوْجَدُ مُؤْمِنٌ يَوَادُّ كَافِرًا، أو يُوَالِيْه؛ فَمْنَ وَادَّ الكُفَّارَ، أو وَالاهُم فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، والمُشَابَهَةُ الظَّاهِرَةُ مَظِنَّةُ المَوَدَّةِ، والمُوَالاةِ فَتَكُوْنُ مُحَرَّمَةً، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيْرُ ذَلِكَ فِي المَحْظُوْرِ الأوَّلِ .
فَعَنْ أبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه قَالَ : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مِنْ كَانَ قَبْلَكُم : حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، [شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ]؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْه "، قَالُوا : يَا رَسُوْلَ اللهِ اليَهُوْدُ والنَّصَارَى ؟، قَالَ : " فَمَنْ ؟"(1)مُتَّفَقٌ عَلَيْه واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ .
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم" أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ(2).
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بَعْدَ هَذَا الحَدِيْثِ : " هَذَا الحَدِيْثُ أقَلُّ أحْوَالِه : أنْ يَقْتَضِيَ تَحْرِيْمَ التَّشَبُّهِ بِهم، وإنْ كَانَ ظَاهِرُه يَقْتَضِي كُفْرَ المُتَشَبِّه بِهم، كَمَا فِي قَوْلِه : " ومَنْ يَتَوَلَّهم مِنْكم فإنَّه مِنْهم"[المائدة51] .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 3456 )، ومسلم (2269 ) .
(2) ـ أخرجه أحمد ( 2/50 )، وأبو داود ( 4/314 )، وقال عنه ابن تيمية : جيِّدُ الإسناد، انظر "الاقتضاء" (1/269)، وكذا في "مجموع الفتاوى" (25/331)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6025) .(1/211)
وهُوَ نَظِيْرُ مَا سَنَذْكُرُه عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، أنَّه قَالَ : " مَنْ بَنَى بأرْضِ المُشْرِكِيْنَ، وَصَنَعَ نَيْرُوْزَهم، ومَهْرَجَانَهم(1)، وتَشَبَّه بِهم؛ حَتَّى يَمُوْتَ؛ حُشِرَ مَعَهم يَوْمَ القِيَامَةِ"(2).
فَقَدْ يُحْمَلُ هَذَا عَلَى التَّشَبُّهِ المُطْلَقِ، فإنَّه يُوْجِبُ الكُفْرَ، ويَقْتَضِي تَحْرِيْمَ أبْعَاضِ ذَلِكِ، وقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أنَّه مَعَهُم فِي القَدْرِ المُشْتَرَكِ الَّذِي شَابَهَهُم فِيْه، فإنْ كَانَ كُفْرًا، أو مَعْصِيَةً، أو شِعَارًا لَهَا؛ كَانَ حُكْمُه كَذَلِكَ .
وبِكُلِّ حَالٍ : يَقْتَضِي تَحْرِيْمَ التَّشَبُّهِ؛ بِعِلَّةِ كَوْنِه تَشَبُّهًا، والتَّشَبُّهُ : يَعُمُّ مَنْ فَعَلَ الشَّيْءَ لأجْلِ أنهَّم فَعَلُوْه، وهُوَ نَادِرٌ، ومَنْ تَبِعَ غَيْرَه فِي فِعْلٍ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، إذَا كَانَ أصْلُ الفِعْلِ مَأخُوْذًا عَنْ ذَلِكَ الغَيْرِ . فأمَّا مَنْ فَعَلَ الشَّيْءَ، واتَّفَقَ أنَّ الغَيْرَ فَعَلَه أيْضًا، ولَمْ يَأخُذْه أحَدُهُما عَنْ صَاحِبِه، فَفِي كَوْنِ هَذَا تَشَبُّهًا نَظَرٌ؛ لَكِنْ قَدْ يُنْهَى عَنَ هَذَا؛ لِئَلاَّ يَكُوْنَ ذَرِيْعَةً إلى التَّشَبُّهِ، ولِمَا فِيْهِ مِنَ المُخَالَفَةِ"(3).
وقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ عِنْدَ قَوْلِه تَعَالَى : "كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة"[التوبة69] : " مَا أشْبَهَ اللَّيْلَةَ بالبَارِحَةِ، هَؤُلاءِ بَنُو إسْرَائِيْلَ شُبِّهْنَا بِهِم"(4).
__________
(1) ـ النَّيْرُوْزُ : هُوَ أوَّلُ السَّنَةِ القِبْطِيَّةِ، والمَهْرَجَانُ : عِيْدُ الفُرْسِ .
(2) ـ أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" ( 9/234 ) .
(3) ـ "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية ( 1/270-271 ) .
(4) ـ انظر ""تفسير ابن كثير" ( 10/121 – 122 ) .(1/212)
وعَنِ ابنْ مَسْعُوْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّه قَالَ : " أنْتُم أشْبَهَ الأمَمِ بِبَنِي إسْرَائِيْلَ سَمْتًا، وهَدْيًا، تَتَّبِعُوْنَ عَمَلَهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، غَيْرَ أنَّي لا أدْرِي أتَعْبُدُوْنَ العِجْلَ، أمْ لا ؟"(1).
فَلَيْتَ شِعْرِي؛ لَوْ عَلِمَ ابنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّ بَعْضَ هَذِه الأمَّةِ لَمْ يَعْبُدِ العِجْلَ؛ بَلْ عَبَدَ مَا هُوَ دُوْنَه خِلْقَةً وخُلُقًا!، إنَّهُم عَبَدُوا ( كُرَةَ القَدَمِ )، عَبَدُوا الدِّرْهَمَ والدِّيْنَارَ، عَبَدُوا الشَّهْوَةَ، عَبَدُوا … !
* * *
__________
(1) ـ انظر "كنز العمال" ( 1/367 )، رقم ( 1615 )، و"الاقتضاء" لابن تيمية (1/124-125) .(1/213)
إنَّ المُشَابَهَةَ فِي الظَّاهِرِ تُوْرِثُ نَوْعَ مَوَدَّةٍ، ومَحَبَّةٍ، ومُوَالاةً فِي البَاطِنِ، كَمَا أنَّ المَحَبَّةَ فِي البَاطِنِ تُوْرِثُ المُشَابَهَةَ فِي الظَّاهِرِ، وهَذَا أمْرٌ يَشْهَدُ بِه الحِسُّ، والتَّجْرُبَةُ؛ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا كَانَا مِنْ بَلَدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فِي دَارِ غُرْبَةٍ، كَانَ بَيْنَهُما مِنَ المَوَدَّةِ، والائْتِلافِ أمْرٌ عَظِيْمٌ، وإنْ كَانَا فِي مِصْرِهِما لَمْ يَكُوْنَا مُتَعَارِفَيْنِ، أو كَانَا مُتَهَاجِرَيْنِ؛ وذَلِكَ لأنَّ الاشْتِرَاكَ فِي البَلَدِ نَوْعُ وَصْفٍ اخْتُصَّا بِهِ عَنْ بَلَدِ الغُرْبَةِ؛ بَلْ لَوْ اجْتَمَعَ رَجُلانِ فِي سَفَرٍ، أو بَلَدٍ غَرِيْبٍ، كَانَتْ بَيْنَهُما مُشَابَهَةٌ فِي العِمَامَةِ، أو الثِّيَابِ، أو الشَّعَرِ، أو المَرْكُوْبِ، ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لَكَانَ بَيْنَهُما مِنَ الائْتِلافِ أكْثَرُ مِمَّا بَيْنَ غَيْرِهِما، وكَذَلِكَ تَجِدُ أرْبَابَ الصِّنَاعَاتِ الدِّنْيَوِيَّةِ يَألَفُ بَعْضُهم بَعْضًا، مَا لا يَألَفُوْنَ غَيْرَهُم؛ حَتَّى إنَّ ذَلِكَ يَكُوْنُ مَعَ المُعَادَاةِ، والمُحَارَبَةِ : إمِّا عَلَى المُلْكِ، وإمَّا عَلَى الدِّيْنِ .
وتَجِدُ المُلُوْكَ، ونَحْوَهَم مِنَ الرُّؤسَاءِ، وإنْ تَبَاعَدَتْ دِيارُهم، ومَمَالِكُهم بَيْنَهُم مُنَاسَبَةً تُوْرِثُ مُشَابَهَةً، ورِعَايَةً مِنْ بَعْضِهم لِبَعْضٍ، وهَذَا كُلُّه مُوْجِبُ الطِّبَاعِ ومُقْتَضَاهُ، إلاَّ أنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ دِيْنٌ، أو غَرَضٌ خَاصٌّ .
وأمَّا مُشَابَهَةُ فَارِسَ والرُّوْمَ، فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِه الأمَّةِ مِنَ الآثَارِ الرُّوْمِيَّةِ، قَوْلاً وعَمَلاً، والآثَارِ الفَارِسِيَّةِ، قَوْلاً وعَمَلاً، مَا لا خَفَاءَ بِه عَلَى مُؤْمِنٍ عَلِيْمٍ بِدِيْنِ الإسْلامِ .
* * *(1/214)
وقَدْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ سُنَّتُه، وهِيَ الشِّرْعَةُ، والمِنْهَاجُ الَّذِي شَرَعَه لَهُ، فَكَانَ مِنْ هَذِه الحِكْمَةِ أنْ شَرَعَ لَهُم مِنَ الأعْمَالِ، والأقْوَالِ مَا يُبَايِنُ سَبِيْلَ المَغْضُوْبِ عَلَيْهم والضَّالِّيْنَ، فأمَرَ بِمُخَالَفَتِهم فِي الهَدْيِ الظَّاهِرِ، وإنْ لَمْ يَظْهَرْ لِكَثِيْرٍ مِنَ الخَلْقِ مَفَاسِدُه؛ لأمُوْرٍ:(1/215)
مِنْها : أنَّ المُشَارَكَةَ فِي الهَدْيِ الظَّاهِرِ تُوْرِثُ تَنَاسُبًا، وتَشَاكُلاً بَيْنَ المُتَشَابِهَيْنِ، يَقُوْدُ إلى مُوَافَقَةٍ مَّا فِي الأخْلاقِ، والأعْمَالِ، وهَذَا أمْرٌ مَحْسُوْسٌ؛ فإنَّ اللابِسَ ثِيَابَ الجُنْدِ المُقَاتِلَةِ – مَثَلاً – يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَوْعَ تَخَلُّقٍ بأخْلاقِهِم، ويَصِيْرُ طَبْعُه مُتَقَاضِيًا لِذَلِكَ، إلاَّ أنْ يَمْنَعُه مَانِعٌ(1)، واللابِسَ ثِيَابَ، وزِيَّ أهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ نَوْعَ انْضِمَامٍ إلَيْهم، ولا بُدَّ، وهَكَذَا.
__________
(1) ـ مَا أشَارَ إليه المُؤَلِّفُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُنَا مِنْ أنَّ المُشَارَكَةَ فِي الهَدْي الظَّاهِرِ تُوْرِثُ تَنَاسُبًا، وتَشَاكُلاً بَيْنَ المُتَشَابِهَيْنِ، ذَلِكَ أمْرٌ يُصَدِّقُه عِلْمُ النَّفْسِ، وعِلْمُ الاجْتِمَاعِ اليَوْمَ، فَضْلاً عَمَّا وَرَدَ به الكِتَابُ والسُّنَّةُ، ويَشْهَدُ به وَاقِعُ الأمَمِ، والشُّعُوبِ، والأفْرَادِ؛ فإنَّنا نَجِدُ المُتَفَرْنِجِيْنَ ( ولاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) ! ) عِنْدَنا اليَوْمَ فِي لِباسِهِم، وكَلامِهِم، وتَصَرُّفَاتِهم لَدِيْهم مُيُولٌ لسَائِرِ طِبَاعِ الخَوَاجَاتِ، وسُلُوكِهم؛ بَلْ وأفْكَارِهم، وعَقَائِدِهم، وتَصَوُّراتِهم – فِي الغَالِبِ –، ونَجِدُ البَعَّضَ يَكِنُّ لَهُم ويُظْهِرُ الإكْبَارَ، والتَّعْظِيْمَ، والإجْلالَ، ورُبَّما احْتَقَرَ نَفْسَه، وأمَّتَه، ودِيْنَه، وشَعَرَ بالصَّغَارِ أمَامَ الكَافِرِيْنَ .انظر "الاقتضاء" مِنْ كَلامِ نَاصِرِ العَقْلِ (1/93) .(1/216)
ومِنْهَا : أنَّ المُخَالَفَةَ فِي الهَدْيِ الظَّاهِرِ تُوْجِدُ مُبَايَنَةً، ومُفَارَقَةً، تُوْجِبُ الانْقِطَاعَ عَنْ مُوْجِبَاتِ الغَضَبِ، وأسْبَابِ الضَّلالِ، والانْعِطَافِ عَلَى أهْلِ الهُدَى، والرِّضْوَانِ، وتُحَقِّقُ مَا قَطَعَ اللهُ مِنَ المُوَالاةِ بَيْنَ جُنْدِه المُفْلِحِيْنَ، وأعْدَائِه الخَاسِرِيْنَ .
وكُلَمَّا كَانَ القَلْبُ أتَمَّ حَيَاةً، وأعْرَفَ بالإسْلامِ؛ كَانَ إحْسَاسُه بِمُفَارَقَةِ اليَهُوْدِ، والنَّصَارَى ظَاهِرًا وبَاطِنًا أتَمَّ، وبُعْدُه عَنْ أخْلاقِهِم المَوْجُوْدَةِ فِي بَعْضِ المُسْلِمِيْنَ أشَدَّ .
ومِنْهَا : أنَّ مُشَارَكَتَهم فِي الهَدْيِ الظَّاهِرِ، تُوْجِبُ الاخْتِلاطَ الظَّاهِرَ، حَتَّى يَرْتَفِعَ التَّمَيُّزُ ظَاهِرًا بَيْنَ المَهْدِيِّيْنَ المَرْضَيِّيْنَ، وبَيْنَ المَغْضُوْبِ عَلَيْهم، والضَّالِيْنَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأسْبَابِ الحُكْمِيَّةِ .
هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الهَدْيُ الظَّاهِرُ إلاَّ مُبَاحًا مَحْضًا لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ مُشَابَهَتِهِم، فأمَّا إنْ كَانَ مِنْ مُوْجِبَاتِ كُفْرِهِم؛ كَانَ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الكُفْرِ، فَهَذا أصْلٌ يَنْبَغِي أنْ يُتَفَطَّنَ لَهُ(1).
* * *
يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أنَّ فِي نَفْسِ المُخَالَفَةِ لليَهُوْدِ، والنَّصَارَى فِي الهَدْيِ الظَّاهِرِ مَصْلَحَةً، ومَنْفَعَةً لِعِبَادِ اللِه المؤْمِنِيْنَ؛ لِمَا فِي مُخَالَفَتِهِم مِنَ المُجَانَبَةِ، والمُبَايَنَةِ؛ الَّتِي تُوْجِبُ المُبَاعَدَةَ عَنْ أعْمَالِ أهْلِ الجَحِيْمِ، وإنَّما يَظْهَرُ بَعْضُ المَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ لِمَنْ تَنَوَّرَ قَلْبُه بالإيْمَانِ .
__________
(1) ـ انظر "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (1/91-94 ) .(1/217)
وأنَّ نَفْسَ مَا هُم عَلَيْه مِنَ الهَدْيِ، والخُلُقِ، قَدْ يَكُوْنُ مُضِرًّا، أو مُنْقَصًا، فَيُنْهى عَنْه، ويُؤْمَرُ بِضِدِّهِ؛ لِمَا فِيْه مِنَ المَنْفَعَةِ والكَمَالِ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنْ أمُوْرِهِم إلاَّ وهُو : إمَّا مُضِرٌّ، أو نَاقِصٌ؛ لأنَّ مَا بأيْدِيْهِم مِنَ الأعْمَالِ المُبْتَدَعَةِ، والمَنْسُوْخَةِ ونَحْوِها : مُضِرَّةٌ، ومَا بأيْدِيْهم ـ مِمَّا لَمْ يُنْسَخْ أصْلُه ـ فَهُوَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ والنَّقْصَ، فَمُخَالَفَتُهم فِيْه : بأنْ يُشْرَعَ مَا يَحْصِّلُه عَلَى وَجْهِ الكَمَالِ، ولا يَتَصَوَّرُ أنْ يَكُوْنَ شَيْءٌ مِنَ أمُوْرِهم كَامِلاً قَطُّ، فإذًا المُخَالَفَةُ لَهُم فِيْها مَنْفَعَةٌ، وصَلاحٌ لَنَا فِي كُلِّ أمُوْرِهم، حَتَّى مَا هُمْ عَلَيْه مِنْ إتْقَانِ بَعْضِ أمُوْرِ دُنْيِاهُم قَدْ يَكُوْنُ مِضَرًّا بأمْرِ الآخِرَةِ، أو بِمَا هُوَ أهْمُّ مِنْه مِنْ أمْرِ الدُّنْيِا؛ فالمُخَالَفَةُ فِيْه صَلاحٌ لَنَا .
وبالجُمْلَةِ : فالَكُفْرُ بِمَنْزِلَةِ مَرَضِ القَلْبِ، وأشَدُّ، ومَتَى كَانَ القَلْبُ مَرِيْضًا؛ لَمْ يَصِحْ شَيْءٌ مِنَ الأعْضَاءِ صِحَّةً مُطْلَقَةً، وإنِّمَا الصَّلاحُ أنْ لا تُشْبِهَ مَرِيْضَ القَلْبِ فِي شَيْءٍ مِنْ أمُوْرِه، وإنْ خَفِيَ عَلَيْكَ مَرَضُ ذَلِكَ العُضْوِ، لَكِنْ يَكْفِيْكَ أنَّ فَسَادَ الأصْلِ لا بُدَّ أنْ يُؤَثِّرَ فِي الفَرْعِ .
* * *
وحَقِيْقَةُ الأمْرِ : إنَّ جَمِيْعَ أعْمَالِ الكُفَّارِ، وأمُوْرِهم لابُدَّ فِيْها مِنْ خَلَلٍ يِمْنَعُها أنْ تَتِمَّ مَنْفَعَةٌ بِهَا، ولَوْ فُرِضَ صَلاحُ شَيْءٍ مِنْ أمُوْرِهِ عَلَى التَّمَامِ؛ لاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ ثَوَابَ الآخِرَةِ، ولَكِنْ كُلُّ أمُوْرِهِم : إمَّا فَاسِدَةٌ، وإمَّا نَاقِصَةٌ، فالحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الإسْلامِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا، ويَرَضْى .
* * *(1/218)
ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ أعْمَالَ الكُفَّارِ ثَلاثَةُ أقْسَامٍ باخْتِصَارٍ :
الأوَّلُ : قِسْمٌ مَشْرُوْعٌ فِي دِيْنِنِا، مَعَ كَوْنِه كَانَ مَشْرُوْعًا لَهُم، أو لا يُعْلَمْ أنَّه كَانَ مَشْرُوْعًا لَهْم، لَكِنَّهُم يَفْعَلُوْنَه الآنَ .
الثَّانِي : قِسْمٌ كَانَ مَشْرُوْعًا لَهُم، ثُمَّ نَسَخَهُ شَرْعُنا .
الثَّالِثُ : قِسْمٌ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوْعًا بِحَال، وإنِّمَا هُمْ أحْدَثُوْهُ .
وهَذِه الأقْسَامُ الثَّلاثَةُ : إمَّا أنْ تَكُوْنَ فِي العِبَادَاتِ المَحْضَةِ، وإمَّا أنْ تَكُوْنَ فِي العَادَاتِ (الآدَابِ) المَحْضَةِ، وإمَّا أنْ تَجْمَعَ العِبَادَاتِ والعَادَاتِ، فَهَذِه تِسْعَةُ أقْسَامٍ(1)
__________
(1) ـ وهِيَ مُجْمَلَةٌ :
مَا كَانَ مَشْرُوْعًا فِي دِيْنِنا، وهُوَ مَشْرُوْعٌ لَهُم، أو لا يُعْلَمُ كَوْنُه مَشْرُوْعًا لَهُم مِنَ العِبَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا كَانَ مَشْرُوْعًا فِي دِيْنِنا، وهُوَ مَشْرُوْعٌ لَهُم، أو لا يُعْلَمُ كَوْنُه مَشْرُوْعًا لَهُم مِنَ العَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا كَانَ مَشْرُوْعًا فِي دِيْنِنا، وهُوَ مَشْرُوْعٌ لَهُم، أو لا يُعْلَمُ كَوْنُه مَشْرُوْعًا لَهُم مِنَ العِبَادَاتِ والعَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا كَانَ مَشْرُوْعًا فِي دِيْنِهم، ثُمَّ نَسَخَه القُرْآنُ مِنَ العِبَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا كَانَ مَشْرُوْعًا فِي دِيْنِهم، ثُمَّ نَسَخَه القُرْآنُ مِنَ العَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا كَانَ مَشْرُوْعًا فِي دِيْنِهم، ثُمَّ نَسَخَه القُرْآنُ مِنَ العِبَادَاتِ، والعَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوْعًا بِحَالٍ، وإنِّمَا هُمْ أحْدَثُوْهُ مِنَ العِبَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوْعًا بِحَالٍ، وإنِّمَا هُمْ أحْدَثُوْهُ مِنَ العَادَاتِ المَحْضَةِ .
مَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوْعًا بِحَالٍ، وإنِّمَا هُمْ أحْدَثُوْهُ مِنَ العِبَادَاتِ، والعَادَاتِ المَحْضَةِ . انظر "الاقتضاء" مِنْ كَلامِ نَاصِرِ العَقْلِ (1/476-477) .(1/219)
.
فأمَّا القِسْمُ الأوَّلُ : فَهذَا مِمَّا تَقَعُ فِيْه المُخَالَفَةُ فِي صِفَةِ ذَلِكَ العَمَلِ، لا فِي أصْلِه، كَمَا سُنَّ لَنَا صَوْمُ تَاسُوْعَاءَ، وعَاشُوْرَاءَ، وكَمَا أُمِرْنا بِتَعْجِيْلِ الفُطُوْرِ، والمَغْرِبِ، وبِتَأخِيْرِ السُّحُوْرِ مُخَالَفَةً لأهْلِ الكِتَابِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي جَامَعَنَاهُم فِي أصْلِها، وخَالَفْنَاهُم فِي وَصْفِها .
القِسْمُ الثَّانِي : فَمُوَافَقَتُهم فِي هَذَا القِسْمِ المَنْسُوْخِ مِنَ العِبَادَاتِ، أو العَادَاتِ، أو كِلاهُما : أقْبَحُ مِنَ مُوَافَقَتِهم فِيْما هُوْ مَشْرُوْعُ الأصْلِ، ولِهَذَا كَانَتْ المُوَافَقَةُ فِي هَذَه مُحَرَّمَةٌ، وفِي الأوَّلِ قَدْ لا تَكُوْنَ إلاَّ مَكْرُوْهًا .
وأمَّا القِسْمُ الثَّالِثُ : وهُوَ مَا أحْدَثُوْهُ مِنَ العِبَادَاتِ، أو العَادَاتِ، أو كِلَيْهِما : فَهُوَ أقْبَحُ، وأقْبَحُ؛ فإنَّه لَوْ أحْدَثَه المُسْلِمُوْنَ لَكَانَ قَبِيْحًا؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَشْرَعْه نَبِيٌّ قَطُّ ؟؛ بَلْ أحْدَثَهُ الكَافِرُوْنَ، فَالمُوَافَقَةُ فِيْه ظَاهِرَةُ القُبْحِ، فَهَذَا أصْلٌ .
وأصْلٌ آخَرُ هُوَ : أنَّ كُلَّ أنْوَاعِ المُشَابَهَةِ، فَجَمْيِعُ الأدِلَّةِ مِنَ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، والإجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيْمِها في الجُمْلَةِ، ولَوْ كَانَتْ هذه المُشَابَهَةُ مَوْجُوْدَةً فِي العُصُوْرِ الأوْلَى؛ فالعِبْرَةُ بأصْلِ المُشَابَهَةِ، ولا عِبْرَةَ بِفِعْلِ الرِّعَاعِ السِّفْلَةِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ آنَذَاكَ(1)!
* * *
وهُنَا تَقْسِيْمٌ آخَرُ قَرِيْبٌ فِي مُشَابَهَتِهم فِيْمَا لَيْسَ مِنْ شَرْعِنَا، وهُوَ قِسْمَانِ باخْتِصَارٍ :
__________
(1) ـ انظر "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية ( 1/476-477 ) .(1/220)
القِسْمُ الأوَّلُ : إذَا عُلِمَ أنَّ هَذَا العَمَلَ؛ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهم؛ فَهَذَا العَمَلُ لا شَكَّ فِي تَحْرِيْمِه، وقَدْ يَبْلُغُ التَّحْرِيْمُ إلى الكَبَائِرِ، وقَدْ يَصِيْرُ كُفْرًا.
القِسْمُ الثَّانِي : إذَا لَمْ يُعْلَمْ أنَّه مِنْ عَمَلِهِم، وهَذَا أيْضًا نَوْعَانِ :
أحَدُهُما : مَا كَانَ فِي الأصْلِ مَأخُوْذًا عَنْهم، إمَّا عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُوْنَه، وإمَّا مَعَ نَوْعِ تَغْيِيْرٍ فِي الزَّمَانِ، أو المَكَانِ، أو الفِعْلِ ونَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا غَالِبُ مَا يُبْتَلَى بِهِ العَامَّةُ؛ فإنَّهم قَدْ نَشُئوا عَلَى اعْتِيَادِ ذَلِكَ، وتَلَقَّاهُ الأبْنَاءُ عَنِ الآبَاءِ، وأكْثَرُهم لا يَعْلَمُوْنَ مَبْدأ ذَلِكَ، فَهَذا يُعَرَّفُ صَاحِبُه حُكْمَهُ، فإنْ لَمْ يَنْتَهِ، وإلاَّ صَارَ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا لَيْسَ فِي الأصْلِ مَأخُوْذًا عَنْهم، لَكِنَّهم يَفْعَلُوْنَه أيْضًا، فَهَذَا لَيْسَ فِيْه مَحْذُوْرُ المُشَابَهَةِ، ولَكِنْ قَدْ يَفُوْتُ مَنْفَعَةُ المُخَالَفَةِ، فأمَّا اسْتِحْبَابُ تَرْكِهِ لِمَصْلَحَةِ المُخَالَفَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ؛ فَظَاهِرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ المُخَالَفَةِ، وهَذَا قَدْ تُوْجِبُ الشَّرِيْعَةُ مُخَالَفَتَهُم فِيْه(1) .
* * *
__________
(1) ـ السابق ( 552-553 ) .(1/221)
ومِنْ خِلالِ مَا مَضَى مِنْ مَجْمُوعِ كَلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي كِتَابِهِ "الاقْتِضَاءِ"؛ فإنَّنا نَقْطَعُ يَقِيْنًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ )، مَأخُوْذَةٌ مِنَ الكُفَّارِ دُوْنَ ارْتِيَابٍ، أو شَكٍّ، فإذَا لَمْ تَكُنْ ( كُرَةُ القَدَمِ) حَرَامٌ لِوُجُوْدِ المُشَابَهَةِ بالكُفَّارِ اليَوْمَ؛ لِمَا فِيْها مِنَ : التَّنْظِيْمَاتِ، والقَوَانَيْنَ، والمُوَالاةِ والمُعَادَاةِ المُحَرَّمَةِ… فأقَلُّ أحْوَالِها : أنَّه يَجِبُ مُرَاعَاةُ مَصْلَحَةِ المُخَالَفَةِ؛ هَذَا إذَا لَمْ يَجِبْ تَرْكُها لِمَا فِيْها مِنَ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ شَرْعًا، وطَبْعًا !
* * *
فِي حِيْنَ أنَّ ( كُرَة القَدَمِ ) أيْضًا؛ إذَا لَمْ تَأخُذْ حُكْمَ التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ؛ فَلا شَكَّ أنَّهَا تَأْخُذُ حُكْمَ التَّشَبُّهِ بفُسَّاقِ المُسْلِمِيْنَ؛ لأنَّها شَأنُ قَلِيْلِيِّ الأيْمَانِ، ورَقِيْقِيِّ الحَيَاءِ، ورِعَاعِ النَّاسِ، لا مِنْ شَأنْ صَالِحِي هَذِه الأمَّةِ : كالعُلَمَاءِ، وطَلَبَةِ العِلْمِ، وذَوِيِّ الهَيْئَاتِ، وهَذَا مِمَّا لا يَشُكُّ فِيْه عَاقِلٌ يَعْقِلُ مَا يَقُوْلُ !
وقَدْ مَرَّ مَعَنا قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم" أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ(1)، والحَالَةُ هَذِه فَهِي فِي أقَلِّ أحْوَالِها مِنَ التَّشَبُّهِ بِفُسَّاقِ هَذِه الأمَّةِ ( والحُكْمُ للأغْلَبِ )، وهَلْ بَعْدَ هَذَا : يَلِيْقُ بِدُعَاةِ المُسْلِمِيْنَ، وصَالِحِي الشَّبَابِ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِفُسَّاقِ الأمَّةِ مِمَّنْ هُمْ ( الدُّعَاةُ ) يَرْجُوْنَ هِدَايِتَهُم، ودَعْوَتَهُم ؟
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 2/50 )، وأبو داود ( 4/314 )، وقال عنه ابن تيمية : جيِّدُ الإسناد، انظر "الاقتضاء" (1/269)، وكذا في "مجموع الفتاوى" (25/331)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6025) .(1/222)
* * *
ومِنَ المُشَابَهَاتِ بالكُفَّارِ مِمَّا أفْرَزَتْه لُعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرُها مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ العَصْرِيَّةِ مَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
1ـ مُحَارَبَةُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ(1)، فَخُذْ مثلاً : الكَلِمَاتُ اللاتِيْنِيَّةُ، والألْفَاظُ العَجَمِيَّةُ الَّتِي يَتَنَاقَلُها أبْنَاءُ المُسْلِمِيْنَ فِي قامُوْسِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَمِنْها :
( الفَاوِلْ، البِلانْتِي، السِّنْتَر، الكُوْرْنَرْ، الأَوِتْ، القُوْل، الكَابْتِن، الكَارْتْ، الفَانِيْلاَّ، الشُّوْرْت،…إلخ )، مَعَ مَا فِي بَعْضِها مِنْ أحْكَامٍ بِغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى !، نَاهِيْكَ أنَّ الأرْقَامَ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى مَلابِسِ اللاعِبِيْنَ عَادَةً تَكُوْنُ لاتِيْنِيَّةً، فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّشَبُّهِ السَّافِرِ !
2ـ المُشَابَهَةُ فِي اللِّبَاسِ، وذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي لِبْسِ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) : كـ (الفَانِيْلاَّت، الشُّوْرْتَات )، والأحْذِيَةِ، مَعَ العِلْمِ أنَّ كَثِيْرًا مِنْها مُخَالِفٌ للشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ، كإبْدَاءِ العَوْرَةِ، أو تَجْسِيْمِها، فِي حِيْنَ أنَّ بَعْضًا مِنَ النَّوَادِي تُلبِسُ لاعِبِيْها ( فَانِيْلاَّت، أو شُوْرْتَات ) تَحْمِلُ أسْمَاءَ أهْلِ الكُفْرِ، وكَذَا شِعَارَاتٍ لِبَعْضِ الشَّرِكَاتِ المُحَرَّمَةِ، أو الكَافِرَةِ … إلخ .
__________
(1) ـ انْظُرْ كِتَابَ "كَفَّ المُخْطِئ عَنِ الدَّعْوَةِ إلى الشِّعْرِ النَّبَطِي" للمُؤلِّفِ، فَفِيْه بَيَانُ أهَمِّيَّةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، والتَّحْذِيرُ مِنَ مُزَاحَمَتِها سَوَاءٌ باللُّغَاتِ الأجْنَبِيَّةِ، أو اللَّهَجَاتِ العَامِيَّةِ، مَعَ بَيَانِ مخُطَطَّاتِ أعْدَاءِ الإسْلامِ فِي مُحَارَبَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ !(1/223)
3ـ المُشَابَهَةُ فِي العَادَاتِ، والحَرَكَاتِ : كرَقْصِ بَعْضِ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) عِنْدَ إحْرَازِ الهَدَفِ؛ بَلْ رُبَّمَا حَاكَى اللاعِبُ المُسْلِمُ رَقْصَةً لأحَدِ اللاعِبِيْنَ الكُفَّارِ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، سَوَاءٌ فِي تَقْبِيْلِ الأرْضِ، أو ضَرْبِ الصَّدْرِ عَلَى طَرِيْقَةِ تَمْجِيْدِ الصَّلِيْبِ النَّصْرَانِيِّ !، ومِنْهم مَنْ يَقْفِزُ قَفَزَاتٍ حَيْوَانِيَّةً، ومِنْهُم مَنْ يَرْكُضَ كالمَجْنُوْنِ، ومِنْهُم مَنْ يَتَدَحْرَجُ مِرَارًا عَلَى الأرْضِ، أو فِي الهَوَاءِ، ومِنْهُم مَنْ يُقَبِّلُ يَدَيْه، وآخَرُ يَضْرِبُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، أو عَلَى كَتِفِه، ورُبَّمَا عَلَى مَقْعَدَتِه … إلخ .
وكَذَا لَهُم حَرَكَاتٌ ( خَرْقَاءُ حَمْقَاءُ ) عِنْدَ اسْتِلامِ الكَأسِ، أو عِنْدَ الاعْتِذَارِ للحَكَمِ، أو للآخَرِيْنَ، أو عِنْدَ الانْتِصَارِ، أو عِنْدَما تُرفَعُ الأعْلامُ، أو عِنْدَ وُقُوْفِهِم لِسَمَاعِ مُوْسِيْقَى السَّلامِ الدُّوَلِي ! … إلخ .
فِلِكُلٍّ مِنْ هَذِه المَوَاقِفِ حَرَكَاتٌ، ومَرَاسِيْمُ قَدْ فَرَضَتْها قَوَانِيْنُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ !
* * *(1/224)
أمَّا جَمَاهِيْرُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) : فَلَيْسَتْ حَرَكَاتُهم أقَلَّ حَمَاقةٍ، ورُعُونةٍ مِنْ لاعِبِي الكُرَةِ، فَلَهُم مِنْ هَذِه الحَرَكَاتِ أشْكَالٌ، وأحْوَالٌ قَدْ تَفُوْقُ حَرَكَاتِ الحَيْوَانَاتِ أحْيَانًا؛ بَلْ أضَلُّ سَبِيْلاً، وهِيَ كَثِيْرَةٌ تَفُوْقُ الحَصْرَ، فَمِنْها عَلَى سَبِيْل المِثَالِ : أنَّكَ تَرَاهُم أثْنَاءَ التَّشْجِيْعِ قَدْ تَقَاسَمُوْا أدْوَارَهُم عَلَى مُدَرَّجَاتِ المَلاعِبِ : فَمِنْهم جَمَاعَاتٌ تَتَمَايَلُ بِطَرِيْقَةٍ هَوْجَاءَ، ومِنْهُم مَنْ يُصَفِّقُ، ويُصَفِّرُ، بِحَالَةٍ مَرْذُوْلَةٍ، ومِنْهُم مَنْ يُطَبِّلُ، ويُزَمِّرُ، ومِنْهُم جَمَاعَاتٌ تَهْذِي بأصْوَاتٍ أجْنَبِيَّةِ غَبِيَّةِ، ومِنْهُم مَنْ يُلَوِّحُ بأعْلامٍ صِبْيَانِيَّةٍ … أمَّا إذا جَاءَ الهَدَفُ، أو ضَاعَ، أو حَصَلَ مَا يُعَكِّرُ سَكْرَتَهم الرِّيَاضِيَّةَ؛ فَلا تَسْألْ عَمَّا يُحْدِثُوْنَه : مِنْ نَهِيْقٍ، وصَفِيْقٍ، وتَلْوِيْحٍ، ورُعُوْنَاتٍ مَا يَعْجَزُ العَاقِلُ عَدَّهُ، فَضْلاً عَنْ وَصْفِه …!
ثمَّ مَعَ هَذِه الحَرَكَاتِ، والحَمَاقَاتِ لا تْنَسَى أنَّ القَوْمَ يُؤَدَّوْنَ هَذِه المَخَارِيْقَ عَلَى هَيْئَاتٍ مُزْرِيَةٍ مَا بَيْنَ مَلابِسَ مُلَوَّنَةٍ، وثِيَابٍ مُزَرْكَشَةٍ، وأعْلامٍ مُبَهْرَجَةٍ، و( قُبَّعَاتٍ ) مُرقَّعةٍ، ورُبَّمَا لَوَّنَ بَعْضُهم وَجْهَهُ، وسَيَّارَتَهُ … إلى آخِرِ مَا هُنَالِكَ مِنْ مَرَاتِعِ الهَيَجَانِ المَسْعُوْرِ، والعَطَالَةِ المُغلَّفَةِ؛ بَلْ هُمْ إلى المَسْخِ المُشَوَّهِ حَيَاءً وعَقْلاً أقْرَبُ مِنْهُم إلى الإنْسَانِيَّةِ السَّويَّةِ، فَضْلاً إلى مَقَامَاتِ المُؤْمِنِيْنَ المُتَّقِيْنَ ! (1/225)
أمَّا إذَا خَرَجُوا مِنَ المَلاعِبِ فَحَدَثٌ وحَدِيْثٌ، وخَبَرٌ واسْتِخْبَارٌ، وقَدْ مَرَّ مَعَنا بَعْضُ فَعَلاتِهم النَّكْرَاءِ، كَمَا سَيَأتِي بَعْضُ رُعُوْنَاتِهم فِي مَحْظُوْرِ ( العُنْفِ، والشَّغَبِ ) إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
المَحْظُورُ الرَّابِعُ
إحْيَاءُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، والعَصَبِيَّاتِ القَوْمِيَّةِ
إنَّ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ هِيَ الاسْتِغَاثَةُ عِنْدَ إرَادَةِ الحَرْبِ، فَقَدْ كَانَ المُشْرِكُوْنَ فِي الجَاهِلِيَّةِ يَقُوْلُوْنَ : يَا آلَ فُلانٍ ! فَيَجْتَمِعُوْنَ فَيَنْصُرُوْنَ القَائِلَ، ولَوْ كَانَ ظَالِمًا(1).
لا يَسْألُوْنَ أخَاهُم حِيْنَ يَنْدُبُهُم فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانا
ويَدْخُلُ فِي ذَلِكَ رَفْعُ شِعَارَاتِ الجَاهِلِيَّةِ : كالافْتِخَارِ بالإقْلِيْمِيَّةِ، أو الوَطَنِيَّةِ، أو القَبَلِيَّةِ، أو القَوْمِيَّةِ، أو العَرَبِيَّةِ، أو التَّعَلُّقِ بالنَّسَبِ والحَسَبِ، أو التَّعَلُّقِ بآثَارِ الجَاهِلِيَّةِ، كالعَصَبِيَّاتِ المَقِيْتَةِ؛ كالألْعَابِ الرِّيَاضَةِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيْه مُزَاحَمَةٌ للإسْلامِ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "فتح الباري" لابن حجر (6/631 ) .(1/226)
لَقَدْ جَاءَ الإسْلامُ وحَرَّمَ كُلَّ ذَلِكَ، فَقَدْ رَوَى الشِّيْخَانِ عَنْ جَابِرٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَقُوْلُ : غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقَدْ ثَابَ ( اجْتَمَعَ ) مَعَه نَاسٌ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ حَتَّى كَثِرُوا، وكَانَ مِنَ المُهَاجِرِيْنَ رَجَلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أنْصَارِيًا ( أيْ : ضَرَبَهُ عَلَى دُبُرِه )، فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيْدًا حَتَّى تَدَاعَوْا، وقَالَ الأنْصَارِيُّ : يا للأنْصَارِ !، وقَالَ المُهَاجِرِيُّ : يا للمُهَاجِرِيْنَ ! فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ : " مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ ؟"، ثُمَّ قَالَ : " مَا شَأنُهُم ؟"، فأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ المُهَاجِرِيِّ الأنْصَارِيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " دَعُوْهَا فإنَّها خَبِيْثَةٌ"، وفِي رِوَايِةِ مُسْلِمٍ : " فإنَّها مُنْتِنَةٌ"(1).
ففِي هَذَا الحَدِيْثِ أنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى المُهَاجِرِيِّ، والأنْصَارِيِّ دَعْوَتَهُما لِفِئَتِيْهِمَا، وسَمَّى قَوْلَهُما بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، مَعَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما انْتَسَبَ إلى فِئَةِ المُهَاجِرِيْنَ، وفِئَةِ الأنْصَارِ، وهُما اسْمَانِ شَرْعِيَّانِ، الانْتِسَابُ إلَيْهِما مَحْمُوْدٌ فِي ذَاتِه، ولكِنْ لَمَّا كَانَ الانْتِسَابُ إلَيْهِما هُنَا عَلَى وَجْهِ الانْتِصَارِ بِهِما، والتَّعَصُّبِ لَهُما أنْكَرَ ذَلِكَ؛ لأنَّه مِنْ فِعْلِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ(2) .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 3518 )، ومسلم ( 2584 ) .
(2) ـ انظر "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية ( 1/211 ) .(1/227)
وهَذَا الحَدِيْثُ يُبَيِّنُ بِوُضُوْحٍ أنَّ الإسْلامَ قَدْ أبْطَلَ كُلَّ المَعَايِيْرِ الجَاهِلِيَّةِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ، ووَضَعَ للتَّفَاضُلِ مِيْزَانًا جَدِيْدًا يَقُوْمُ عَلَى الإيْمَانِ، والتَّقْوَى، والفَضْلِ، فالمُؤْمِنُ هُوَ الرَّفِيْعُ، والفَاضِلُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ ولا حَسَبٌ، والفَاجِرُ هُوَ الذَّلِيْلُ الدَّنِيُّ عِنْدَ اللهِ، وإنْ كَانَ نَسِيْبًا حَسِيْبًا .
يَقُوْلُ الخَطَّابِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وفَاجِرٌ شَقِيٌّ"(1) : "مَعْنَاهُ أنَّ النَّاسَ رَجُلانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ فَهُو الخَيِّرُ الفَاضِلُ؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ حَسِيْبًا فِي قَوْمِهِ، وفَاجِرٌ شَقِيٌّ فَهُو الدَّنِيُّ؛ وإنْ كَانَ فِي أهْلِهِ شَرِيْفًا رَفِيْعًا"(2).
* * *
فالقَاعِدَةُ الإسْلامِيَّةُ فِي التَّفَاضُلِ تَقُوْمُ عَلَى قَوْلِه تَعَالَى : "إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُم"[الحجرات13]، فَلا مَجَالَ فِي الإسْلامِ للتَّفَاخُرِ بالأنْسَابِ، والأحْسَابِ، والتَّعَاظُمِ بالأجْدَادِ، والأبَاءِ، وعِنْدَمَا كَانَ المُسْلِمُوْنَ مُتَمَسِّكِيْنَ بِهَذِه المُبَادئ كَانَتِ الأمَّةُ الإسْلامِيَّةُ أمَّةً مُتَمَاسِكَةً مُتَآلِفَةً قَوِيَّةً، ولَمَّا تَرَكُوا حَبْلَ اللهِ المَتِيْنِ تَفَرَّقُوا شِيَعًا وأحْزَابًا، فَصَارُوا يَرْفَعُوْنَ شِعَارَاتِ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ التَّفَاخُرِ بالقَوْمِيَّاتِ، والعَصَبِيَّاتِ الرِّيَاضِيَّةِ، وغَيْرِها مِنْ مَسَارِبِ التَّقَاطُعِ، والتَّهَاجُرِ !
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (2/361)، وأبو داود (5094)، والترمذي (4215)، وهو صحيح، انظر "صحيح الترمذي" للألباني (3100).
(2) ـ نَقْلاً عن "عون المعبود" ( 14/22 ) .(1/228)
فَقَدْ قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ تَعَزَّى ( الانْتِمَاءُ والانْتِسَاُب ) بِعَزَاءِ ( دَعْوَى المُسْتَغِيْثِ ) الجَاهِلِيَّةِ؛ فأعْضُوْه ( اشْتِمُوه صَرِيْحًا ) بِهَنِ ( فَرْجِ ) أبِيْهِ، ولا تُكَنُّوْا"(1) أحْمَدُ .
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ اللهَ قَدْ أذْهَبَ عَنْكُم عُبِّيَةَ ( الكِبْرُ ) الجَاهِلِيَّةِ، وفَخْرَها بالآبَاءِ؛ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أنْتُمْ بَنِي آدَمَ، وآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُم بأقْوَامٍ، إنِّمَا هُمَ فَحَمٌ مِنْ فَحَمِ جَهَنَّمَ، أو لَيَكُوْنَنَّ أهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجِعْلانِ ( دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ ) الَّتِي تَدْفَعُ بأنْفِهَا النَّتَنَ"(2).
* * *
فَكُلُّ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ ونَحْوِها؛ فَهِي تَتَعَارَضُ شَرْعًا وطَبْعًا؛ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَثَلُ المُؤْمِنِيْنَ فِي تَوَادِّهِم، وتَرَاحُمِهِم، وتَعَاطُفِهِم؛ كَمَثَلِ الجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْه عُضْوٌ تَدَاعَى لَهَ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ، والحُمَّى"(4) مُسْلِمٌ، وقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " المُؤْمِنُ للمُؤْمِنِ كالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 5/136 )، والحديث صحيح، انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني ( 269 ) .
(2) ـ أخرجه أحمد (2/361)، وأبو داود (5094)، والترمذي (4215)، وهو صحيح، انظر "صحيح الترمذي" للألباني (3100).
(3) ـ أخرجه البخاري (1/56)، ومسلم (45) .
(4) ـ أخرجه مسلم (2586) .(1/229)
وكُلُّ هَذَا يَتَنَافَى مَعَ الشَّتْمِ، والضَّرْبِ، والبَذَاءاتِ؛ بَلْ والقَتْلِ الَّذِي يَحْدُثُ بِسَبَبِ الانْتِصَارِ للاعِبٍ، أو فَرِيْقٍ؛ فِي حِيْنَ أنَّ الأمَّةَ تَمُرُّ بِمَرْحَلَةٍ، ووَقْتٍ هِيَ أحْوَجُ مَا تَكُوْنُ فِيْه إلى جَمْعِ الكَلِمَةِ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّياتِ الخَطِيْرَةِ مِنْ أعْدَاءِ الإسْلامِ، وفِي الحَدِيْثِ : " … ومَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ، أو يَنْصُرَ عَصَبِيَّةً، فقُتِلَ؛ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ"(1) مُسْلِمٌ .
* * *
أمَّا إحْيَاءُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، والعَصَبِيَّاتِ القَوْمِيَّةِ بَيْنَ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَلَوْنٌ آخَرُ؛ حَيْثُ تَجَسَّدَتْ هَذِه الدَّعَاوَى، والعَصَبِيَّاتُ بَيْنَهُم تَجَسُّدَ الرُّوْحِ بالبَدَنِ؛ بَلْ لا تَكُوْنُ، ولا تَزْدَادُ جَذْوَةُ التَّشْجِيْعَاتِ، والحَمَاسَاتِ، والمُنَافَسَاتِ الرِّياضِيَّةِ فِي أوْسَاطِ المُشَجِّعِيْنَ إلاَّ عِنْدَ وُجُوْدِ هَذِه العَصَبِيَّاتِ، والنَّعَرَاتِ الجَاهِلِيَّةِ ضَرُوْرَةً، ولابُدَّ !
فإنَّا، ونَحْنُ لا نَشُكُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) غَدَتْ مَنْبَعَ الضُّلالِ، ومَنْجَمَ الجُهَّالِ، وعَرْصَةَ الغَيِّ، ومَسْرَحَ البَغِي؛ حَيْثُ ضَرَبَ حَوْلَها الشَّيْطَانُ فُسْطَاطَ ضَلالَتِه، وحَفَّهَا بِسُرَادِقِ جَهَالَتِه، فَمِنْها تَنْشأُ سَحَائِبُ الغِوَايَةِ، وإلَيْها تُقَادُ خَبَائِثُ العِمَايَةِ !
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (1848) .(1/230)
فَـ( كُرَةُ القَدَمِ ) للشَّرِّ مَرْتَعٌ، وللفَسَادِ مَرْبَعٌ، فَهِيَ هَجْهَاجَةُ فِتْنَةٍ، وأجَّاجَةُ إحْنَةٍ، فَكَمْ عَجَّجَتْ نَقْعَ البَلاءِ، وأجَّجَتْ نَارَ الهَيْجَاءِ … ومَنْ تَجَاهَلَ هَذِه المَعَانِي المَقِيْتَةَ بَيْنَ مُشَجِّعِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، أو تَنَكَّرَها فَهُوَ جَاهِلٌ باَرِدٌ، أو غُمْرٌ كَائِدٌ، وبَيْنَهُ ومَا يَقُوْلُ خَرْطُ القَتَادِ !
ولَيْسَ يَصِحُّ فِي الأذْهَانِ شَيْءٌ إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إلى دَلِيْلِ ؟
* * *
وهَلْ عَنَّا الصَّحَافَةُ، والقَنَوَاتُ الإعْلامِيَّةُ ببَعِيْدٍ ؟؛ يَوْمَ نَرَاهَا لا تَفْتَرُ، ولا تَكَلُّ فِي إذْكَاءِ فَتِيْلِ الحُرُوْبِ الجَاهِلِيَّةِ، والعَصَبِيَّاتِ القَوْمِيَّةِ، والنَّعَرَاتِ الصِّبْيانيَّةِ بَيْنَ أهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِخَاصَّةٍ، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ بِعَامَّةٍ، فَحَسْبُنا اللهُ عَلَى ما يَصِفُوْنَ، وعَلَى مَا يُحَرِّضُوْنَ !
* * *
ومِنْ مُعْجِزَاتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْلُه فِي أهْلِ الجَزِيْرةِ : " إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّوْنَ فِي جَزِيْرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ فِي التَّحْرِيْشِ بَيْنَهم"(1) مُسْلِمٌ .
وحَسْبُنا هَذَا الحَدِيْثُ النَّبَوِيُّ فِي تَأوِيْلِ مَا عَلَيْه عُشَّاقُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) هَذِه الأيَّام مِنْ أبْنَاءِ الجَزِيْرَةِ!، حَيْثُ وَقَعَ مَا أخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ تَحْرِيْشٍ سَيَكُوْنُ بَيْنَهُم، وقَدْ كَانَ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، وذَلِكَ صَائِرٌ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّتِي اتَّخَذَها الشَّيْطَانُ طَرِيْقًا وَاسِعًا للتَّحْرِيْشِ بَيْنَ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ أبْنَاءِ الجَزِيْرَةِ !
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (2812) .(1/231)
قَالَ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِ هَذِه الحَدِيْثِ : " هَذَا الحَدِيْثُ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ … ومَعْنَاهُ : أَيِسَ أنْ يَعْبُدَه أهْلُ جَزِيْرَةِ العَرَبِ، ولَكِنَّهُ فِي التَّحْرِيْشِ بَيْنَهم : بالخُصُوْمَاتِ، والشَّحْنَاءِ، والحُرُوْبِ، والفِتَنِ، ونَحْوِها"(1) .
وهَلْ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عَنَ حَالِ شِيْعَةِ، وأشَائِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ) ببَعِيْدٍ ؟، لا والَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأ النَّسَمَةَ !
* * *
المَحْظُورُ الخامِسُ
القِتَالُ، والسِّبَابُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ
ومِنَ المَصَائِبِ الَّتِي تَعِيْشُها أمَّةُ الإسْلامِ هَذِه الأيَّامِ أنَّها تَرَى كُلَّ يَوْمٍ القِتَالَ، والسِّبَابَ بَيْنَ أبْنَائِها دُوْنَما غَضَاضَةً، أو كَرَاهَةً؛ بَلْ نَجِدُها تَسْعَى حَثِيْثَةً فِي دَفْعِ وتَشْجِيْعِ الشَّبَابِ المُسْلِمِ إلى تَوْسِيْعِ عَدَاوَاتٍ مُخْتَلَقَةٍ بَيْنَهُم؛ حَتَّى وَصَلُ الحَالُ بالإعْلامِ فِي أكْثَرِ الحُكُوْمَاتِ الإسْلامِيَّةِ إلى أنْ جَعَلَ مِنْ هَذِه المُقَاتَلاتِ، والسِّبَابِ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ مَحَلَّ إثَارَاتٍ، ومُنَافَسَاتٍ مَقِيْتَةٍ … كلُّهَا تَصُبُّ فِي قَطْعِ حَبَائِلِ الأخُوَّةِ الإيْمَانِيَّةِ، وإذَابَةِ وَشَائِجِ المَحَبَّةِ بَيْنَهم، وتَمْزِيْقِ مَا بَقِيَ مِنْ صِلاتٍ إسْلامِيَّةِ !، فَعِنْدَها كَانَ حَقًا عَلَى أعْدَاءِ الإسْلامِ أنْ يَسْتَبِيحُوا الأعْرَاضَ، والمُقَدَّسَاتِ، والبِلادَ، والعِبَادَ، إذَا كَانَتِ الأمَّةُ بَعْدُ مَا زَالَتْ تَهِيْمُ فِي تَيْهِ الجَاهِلِيَّةِ الأوْلَى، وغَيَاهِبِ النَّعَرَاتِ البَغِيْضَةِ !
قَالَ تَعَالَى : "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا"[الأحزاب58] .
__________
(1) ـ "شرح مسلم" للنووي (17/228) .(1/232)
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :" سِبَابُ المْسِلِمِ فُسُوْقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ"(1).
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"، قَيْلَ : يَا رَسُوْلَ اللهِ وكَيْفَ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْه ؟، قَالَ : " يَسُبُّ أبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاهُ، ويَسُبُّ أمَّهُ؛ فَيَسُبُّ أمَّهُ"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
وقَالَ أيضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، ولا باللَّعَانِ، ولا بالفَاحِشِ، ولا بالبَذِيء"(3) أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ . أيْ : المُتَكَلِّمُ بالفُحْشِ، والكَلامِ القَبِيْحِ .
* * *
أمَّا إذَا سَألْتَ عَنْ السِّبَابِ، والقِتَالِ السَّائِرِ بَيْنَ مُرِيْدِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ؛ فَشَيْءٌ لا يُحْسَدُ عَلَيْه؛ بَلْ أمْرٌ لا يَحْتَاجُ إلى دَلِيْلٍ، أو شَاهِدٍ، بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلى وَقْفَةٍ صَادِقَةٍ مَعَ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، الَّتِي مَا زَالَتْ تَنْخِرُ فِي جَسَدِ الأمَّةِ، وتُنْكِي جِرَاحًا غَائِرَةً، لَيْسَ لَهَا طَبِيْبٌ يُعَالِجُ؛ اللَّهُمَّ إذَا قَامَ المُسْلِمُوْنَ ( عُلَمَاءُ، وأمَرَاءُ ) فِي وَجْهِ كُلِّ مَنْ يَلْعَبُ هَذِه اللُّعْبَةَ الطَّاغُوْتِيَّةَ، أو يَسْعَى فِي تَمْرِيْرِها بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ غِشًّا وخِيَانَةً، وزُوْراً وبُهْتانًا !
__________
(1) ـ أخرجه البخاري (1/91)، ومسلم (1/57) .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 5628 )، ومسلم (90) .
(3) ـ أخرجه أحمد ( 1/404 )، والترمذي ( 1977)، وصححه الألباني "صحيح الترمذي" ( 1610 ) .(1/233)
وهَلْ عَنَّا مَلاعِبُ الشَّيْطَانِ الكُرَوِيَّةِ، ومَا يَحْصُلُ فِيْها : مِنْ سَبٍّ، وشَتْمٍ، ولَعْنٍ، وألْفَاظٍ بَذِيْئَةٍ، وعِبَارَاتٍ سُوْقِيَّةٍ، ومَخَارِقَ كَثِيْرَةٍ … بِبَعِيْدٍ، أو بِغَرِيْبٍ ؟!، إنَّ هَذَا، وغَيْرَه شَاهِدُ عَيَانٍ، وحَكَمُ بُرْهَانٍ !
وللاسْتِشْهَادِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الإلْحَاقِ، وضَرُوْرَتِه أسُوْقُ مِنَ ذَاكِرَةِ التَّارِيْخِ بَعْضَ المَشَاهِدِ المُؤْلِمَةِ الَّتِي سَتَبْقَى وَصْمَةَ عَارٍ، وانْحِدَارٍ فِي جَبِيْنِ أهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى مَدَى العُصُوْرِ، والأزْمَانِ .
ـ ففِي ( 1387هـ )، قُتِلَ ( 48 ) شَخْصًا، وأصِيْبَ ( 600 ) آخَرِيْنَ، خِلالَ مُشَاجَرَاتٍ بَيْنَ أنْصَارِ فَرِيْقَيْنِ فِي "قَيْصَرَى" بِتُرْكِيَا إثْرَ خِلافٍ عَلَى صِحَّةِ هَدَفٍ .
ـ وفِي ( 1389هـ ) فِي مَدِيْنَةِ "كِيْرْكَلا" بِتُرْكِيَا نَشِبَ عِرَاكٌ عَنِيْفٌ بَيْنَ المُتَفَرِّجِيْنَ بَعْدَ هَدَفٍ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ … وقَدْ أدَّتِ الاشْتِبَاكَاتُ إلى مَقْتَلِ ( 15 ) شَخْصًا، وجَرْحِ ( 102 ) آخَرِيْنَ.
ـ وفِي ( 5/10/1400هـ )، قُتِلَ ( 18 ) شَخْصًا، وأُصِيْبَ (100) شَخْصٍ آخَرُوْنَ فِي مَدِيْنَةِ "كَلَكَتَّا" الهِنْدِيَّةِ عِنْدَمَا قَامَ الحَكَمُ بِطَرْدِ اثْنَيْنَ مِنَ اللاعِبِيْنَ لارْتِكَابِهم مُخَالَفَاتٍ فِي المَلْعَبِ.
ـ وفِي ( 30/12/1382هـ ) خِلالَ مُبارَاةِ تَصْفِيَةٍ للدَّوْرَةِ الأوْلُمْبِيَّةِ فِي "لِيْمَا" بَيْنَ البَيْرُو، والأرْجَنْتِيْنِ نَشِبَ خِلافٌ عَلَى صِحَّةِ هَدَفٍ تَسَبَّبَ فِي حُدُوْثِ مُصادماتٍ بَيْنَ المُشَجِّعِيْنَ أدَّىَ إلى مَصْرِعِ (320 ) شَخْصًا، وإصَابَةِ ألْفٍ آخَرِيْنَ بِجِرَاحٍ، وكُسُوْرِ مُخْتَلِفَةٍ .(1/234)
ـ وفِي ( 2/2/1403هـ ) قُتِلَ ( 24 ) شَخْصًا، وأُصِيْبَ ( 210 ) أشخاصٍ فِي مَدِيْنَةِ "كَالِي" فِي كُوْلُمْبِيَا نَتِيْجَةَ عِرَاكٍ نَشِبَ بَيْنَ مُشَجِّعِيْنَ مَخْمُوْرِيْنَ .
ـ وفِي ( 10/9/1405هـ )، قُتِلَ ( 39 ) شَخْصًا، وأصِيْبَ ( 600 ) شَخْصٍ بِجُرُوْحٍ، وكُسُوْرٍ مُخْتَلِفَةٍ إثْرَ أحَدَاثِ عُنْفٍ نَشِبَتْ بِمَلْعَبِ "هِيْسَلْ" بِبِرُوْكُسِيلْ بَيْنَ مُشَجِّعِي لِيْفَرْبُوْل الإنْكِلِيْزِي، وجُوْفَنْتُوْس الإيْطَالِي(1).
* * *
كَمَا أنَّ العُنْفَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَسْبُ؛ بَلْ تَجَاوَزَ هَذَا المَجَالُ لِيَصِلَ إلى زَعْزَعَةِ العِلاقَاتِ الدُّوَلِيَّةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ دَوْلَتِي الفَرِيْقَيْنِ المُتَنَافِسَيْنِ، وتَعْرِيْضِها للقَطِيْعَةِ، ورُبَّما فِي بَعْضِ الأحْيَانِ إلى حَرْبٍ ضَارِيَةٍ يَسْقُطُ فِيْها آلافُ القَتْلَى فِدَاءً لِرُوْحِ الفَرِيْقِ الوَطَنِيِّ، ونُصْرَةَ سُمْعَتِه الكُرَوِيَّةِ، كَمَا حَدَثَ بَيْنَ دَوْلَةِ "الهُنْدُورَاس"، ودَوْلَة "السِّلْفَادُوْر"؛ حَيْثُ قَامَتْ بَيْنَهُما حَرْبٌ شَامِلَةٌ سَنَةَ ( 1389هـ )، أُطْلِقَ عَلَيْها حَرْبُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) !، بِسَبَبِ النِّزَاعِ عَلَى نَتِيْجَةِ مُبَارَاةٍ دُوَلِيَّةٍ بَيْنَهُما، وقَدِ اسْتَمَرَّتِ الحَرْبُ سَبْعَةَ أيَّامٍ، وقُتِلَ فِيْها مَا يَزِيْدُ عَلَى ألْفَيْنَ مِنَ الجَانِبَيْنِ(2)!
__________
(1) ـ انظر "حادث شيفيلد الكروي" لعزوز شخمان، جريدة "الإصلاح" المغربية، عدد (41)، بتاريخ (الجمعة 6 شوال 1408 هـ).
(2) ـ المصدر السابق .(1/235)
كَمَا أنَّ هَذِه القَطِيْعَةَ الدُّوَلِيَّةَ، والزَّعْزَعَةَ الأخَوِيَّةَ لَمْ تَنْتَهِ إلى بِلادِ الكُفْرِ؛ بَلْ وَصَلَ الأمْرُ (للأسفِ) إلى بَعْضِ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ، وحَسْبُنَا مِنْها ( عَلَى كَثْرَتِهَا ! ) مَا حَصَلَ قَرِيْبًا بَيْنَ أبْنَاءِ دَوْلَتَيْ السُّعُوْدِيَّةِ والبَحْرَيْنِ فِي شَوَّالِ عَامِ ( 1423هـ )، وهُوْ مَا تَنَاقَلَتْهُ الصُّحُفُ العَالَمِيَّةُ، والمَحَلِّيَّةُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُم مِنْ قِتَالٍ، وضَرْبٍ، وسَبٍّ، وشَتْمٍ جَرَّاءَ دَوَافِعَ مُبَارَاةٍ رِيَاضِيَّةٍ حَصَلَتْ بَيْنَهُما فِي دَوْلَةِ الكُوَيْتِ؛ كَادَتْ أنْ تَصِلَ إلى قَطْعِ العُلاقَاتِ الدُّوَلِيَّةِ بَيْنَهُما، مَعَ مَا هُنَالِكَ مِنْ نَوَايَا (سَيِّئَةٍ) مَا زَالَتْ الصَّحَافَةُ الدُّوَلِيَّةُ والمَحَلِّيَّةُ عَلَى السَّوَاءِ تُذْكِي نَارَهَا !
* * *
ومِمَّا يُثِيْرُ الاسْتِغْرَابَ، ويُثِيْرُ العَجَبَ أيْضًا؛ أنْ يَتَسَرَّبَ هَوَسُ اللِّعْبَةِ إلى بِيُوْتَاتِ المُسْلِمِيْنَ، ويَعْتُوَ فِيْها بالإفْسَادَ، وإفْشَاءِ الشِّقَاقِ، والخِلافِ بَيْنَ أفْرَادِها، فَهَذَا زَوْجٌ يَتَعَصَّبُ لِفَرِيْقٍ مُعَيَّنٍ، وزَوْجَتُهُ تَتَعَصَّبُ لفَرِيْقٍ آخَرَ، والنِّزَاعُ يَثُوْرُ بَيْنَ الزَّوْجِيْنَ كُلَّمَا جَرَتَ مُبَارَاةٌ، ولابُدَّ مِنْ صِدَامٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي نِهَايَةِ المُبَارَاةِ إذَا تَغَلَّبَ أحَدُ الفَرِيْقَيْنِ عَلَى الآخَرِ؛ بَلْ لابُدَّ مِنَ الصِّدَامِ حَتَّى ولَوْ تَعَادَلَ الفَرِيْقَانِ؛ لأنَّ كُلاً مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَمْدَحُ فَرِيقَهُ، ويَذُمُّ الفَرِيْقَ الآخَرَ، فَيَقَعُ الصِّدَامُ، والحَرْبُ أوَّلُها الكَلامُ !(1).
__________
(1) ـ انظر "حينما ننحرف بالرياضة" لأحمد الشرباصي "مجلة الوعي الإسلامي"، العدد ( 106 ، 27 ) في (أكتوبر 1973)، و"قضايا اللهو" لمادون (323-325) .(1/236)
فَإذَا كَانَ هَذَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه بَيْنَ الأخِ وأخِيْه، والصَّاحِبِ وصَاحِبِه ؟!؛ بَلْ وَصَلَ البُغْضُ، واسْتَحْكَمَتِ الكَرَاهَةُ بَيْنَ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ بَعْضِها لبَعْضٍ، ولَوْلا الحَيَاءُ لَذَكَرْتُ مَا هُنَالِكَ مِنْ دُوَلِ الخَلِيْجِ ( وغَيْرِها ) مِمَّنِ ارْتَسَمَتِ الكَرَاهَةُ، والبَغْضَاءُ بَيْنَ مُوَاطِنِيْها تُجَاهَ الآخَرِيْنَ!
* * *
ومِنَ المُضَاعَفَاتِ الخَطِيْرَةِ الَّتِي تُسْفِرُ عَنْها ازْدِحَامَاتُ المَلاعِبِ بالمُشَاهِدِيْنَ، وتُحَمُّلِها فَوْقَ طَاقَتِها الاسْتِيْعَابِيَّةِ : وُقُوْعُ كَوَارِثَ مُؤْلِمَةٍ، وإزْهَاقُ أرْوَاحِ شَبَابٍ فِي مُقْتَبَلِ العُمُرِ، وأطْفَالٍ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلْمَ بَعْدُ، ذَنْبُهُم الوَحِيْدُ أنَّهُم عُشَّاقُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) !، هَبَطُوا لِنُصْرَةِ فَرِيْقِهِم، وتَعْزِيْزِه بالتَّشْجِيْعَاتِ الحَارَّةِ، ورَفْعِ الشِّعَارَاتِ؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَلْقَوْنَ حَتْفَهُم، إمَّا بِسَبَبِ انْهِيَارَاتٍ لبَعْضِ المُدَرَّجَاتِ، أو لانْدِفَاعِ الجَمَاهِيْرِ نَحْوَ أبْوَابِ الخُرُوْجِ، أو لأسْبَابِ تَقْنِيَةٍ أخْرَى … إنَّه جُنُوْنُ الكُرَةِ !
* * *
وقَدْ أوْرَدَ بَعْضُ مَا حَفِظَه لَنَا التَّارِيْخُ فِي ذَاكِرَتِه السَّوْدَاءِ مِنْ هَذِه المآسِي الشَّيءَ الكَثِيْرَ، فمثلاً .
ـ وفِي ( 15/1/1393هـ )، اقْتَحَمَ حَوَالِي ( 80 ) ألْفَ مُتَفَرِّجٍ مَلْعَبَ نَادِي الزَّمَالِكِ القَاهِرِي الَّذِي كَانَ لا يَتَّسِعُ لأكْثَرَ مِنْ نِصْفِ العَدَدِ، وذَلِكَ خِلالَ مُبَارَاةٍ حِبِّيَّةٍ ضِدَّ (تِشِيْكُوسُلُوفَاكِيَا)، وقَدْ أدَّى التَّدَافُعُ إلى دَوْسِ ( 48 ) شَخْصًا تَحْتَ الأقْدَامِ، وإصَابَةِ عَدَدٍ مُمَاثِلٍ بِجُرُوْحٍ، ورُضُوْضٍ خَطِيْرَةِ .(1/237)
ـ وفِي ( 13/1/1399هـ )، قُتِلَ ( 24 ) شَخْصًا، وأُصِيْبَ ( 27 ) شَخْصًا بَعْدَ مُبَارَاةٍ فِي "لاغُوْس" النِّيْجِيْرِيَّةِ، وذَلِكَ بِسَبَبِ قِيَامِ المَسْؤُوْلِيْنَ عَلَى المَلاعِبِ بإطْفَاءِ الأنْوَارِ قَبْلَ انْتِهَاءِ المُشَاهِدِيْنَ مِنَ الانْصِرافِ .
ـ فِي ( 6/4/1365هـ )، قُتِلَ ( 33 ) شَخْصًا، وأصِيْبَ ( 500 ) شَخْصٍ آخَرُوْنَ، نَتِيْجَةً لَتَدَافُعِ المُشَاهِدِيْنَ فِي مَدِيْنَةِ "بُوْل تَاوِن" الرِّيَاضِيَّةِ .
ـ وفِي ( 1385هـ )، قُتِلَ ( 66 ) شَخْصًا "بِغَلاسْكُو" باسْكُتْلَنَدَا بِسَبَبِ سَوْءِ التَّنْظِيْمِ .
ـ وفِي ( 27/3/1388هـ )، أدَّى إطْلاقُ الأسْهُمِ النَّارِيَّةِ فِي "بِيُوْنِس آيْريس" بالأرْجَنْتِيْنِ إلى إثَارَةِ الرُّعْبِ فِي صُفُوْفِ الجَمْهُوْرِ الَّذِي اعْتَقَدَ إنَّ ثَمَّةَ حَرِيْقًا قَدْ نَشِبَ فِي المُدَرَّجَاتِ، وقَدْ تَسَبَّبَ ذَلِكَ فِي مَقْتَلِ (80 ) شَخْصًا، وجُرِحَ (150 ) آخَرُوْن .
ـ وفِي ( 1/12/1393هـ )، فِي مَدِيْنَةِ "بِيَاكْفُو" بالْكُوْنْغُو لَقِيَ ( 27 ) شَخْصًا مَصْرَعَهم، وأُصِيْبَ ( 52 ) آخَرُوْنَ بِسَبَبِ التَّدَافُعِ الَّذِي حَصَلَ دَاخِلَ المَلْعَبِ، وخَارِجِه.
ـ وفِي ( 3/1/1403هـ )، بِمِلْعَبِ "لِيْنَيْن" بِمُوْسْكُو سَجَّل فَرِيْقُ ( هَارَلِمْ ) الهُوْلَنْدِي هَدَفًا فِي وَقْتٍ؛ كَانَ جُزْءٌ كَبِيْرٌ مِنَ المُشَاهِدِيْنَ قَدْ بَدَأ فِي الانْصِرافِ، وقَدْ تَدَافَعَ المُشَاهِدُوْنَ فِي العَوْدَةِ إلى المُدَرَّجَاتِ مَرَّةً أخْرَى للتَّعْبِيْرِ عَنْ فَرْحَتِهم بالهَدَفِ، ونَتَجَ عَنْ ذَلِكَ مَصْرَعُ (20 ) شَخْصًا .(1/238)
ـ وفِي ( 12/8/1405هـ )، فِي "بِرَادْفُورْد" بإنْجِلْتِرَا شَبَّ حَرِيْقٌ خِلالَ مُبَارَاةٍ مَحَلِّيَّةٍ أثَارَتْ رُعْبًا، وفَزَعًا فِي صُفُوْفِ المُتَفَرِّجِيْنَ الَّذِيْنَ هَرَبُوا نَحْوَ أبْوَابِ المَلْعَبِ الَّتِي كَانَتْ مُغْلَقَةً، وأدَّى الحَادِثُ إلى مَصْرَعِ ( 53 ) شَخْصًا، وإصَابَةِ أكْثَرَ مِنْ ( 200 ) آخَرِيْنَ .
ـ وفِي ( 26/7/1408هـ )، فِي "كِتْمَانْدُو" بِنِيْبَالِ قُتِلَ ( 72 ) شَخْصًا، وأصِيْبَ ( 27 ) خِلالَ تَدَافُعِ المُتَفَرِّجِيْنَ إثْرَ انْقِطَاعِ التَّيَّارِ الكَهْرُبَائِي بِفِعْلِ عَاصِفَةٍ، وغَادَرَ المُتَفَرِّجُوْنَ مُدَرَّجَاتِ المَلْعَبِ نَحْوَ الأبْوَابِ الَّتِي كَانَتْ مُغْلَقَةً .
* * *
وأخْتُمُ هَذَا المَحْظُوْرَ بِحَادِثٍ خَطِيْرٍ، تَنَاوَلَتْهُ وَسَائِلُ الإعْلامِ بِتَحَالِيْلَ مُسْهَبَةٍ؛ شَكَّلَتْ مِنْه مُنْعَطَفًا بَارِزًا، ومَحَطَّةً تَارِيْخِيَّةً فِي سِجِلِّ الأحْدَاثِ الهَامَّةِ لِهَذا القَرْنِ(1)!
__________
(1) ـ انظر "حادث شيفيلد الكروي" لعزوز شخمان، جريدة "الإصلاح المغربية" عدد (41)، في ( الجمعة 6شوال 1408هـ ) .(1/239)
ففِي تارِيخِ ( 20/9/1409هـ )، فِي مَلْعَبِ "هِيلْزِبْر" بِمَدِيْنَةِ شِيفِيلَد الإنْجِلِيْزِيَّةِ، وذَلِكَ خِلالَ لِقَاءِ "لِيْفَرْبُول" ضِدَّ "نُوتَنْفَهَام فُوْرِيسْت"؛ حَيْثُ اجْتَاحَتْ أفْوَاجٌ مِنْ مُشَجِّعِي "لِيْفَرْبُول" المُتَدَافِعِيْنَ إلى بَوَّابَةِ المَلْعَبِ، واتَّجَهَتْ صَوْبَ مُدَرَّجَاتٍ كَانَتْ مَلِيْئَةً عَنْ آخِرِها، ونَظَرًا لِكَوْنِ التَّدَافُعِ، والتَّزَاحُمِ كَانَا عَلَى أشُدِّهِما، فَلَقَدْ تَعَرَّضَ المُتَفَرِّجُوْنَ الَّذِيْنَ كَانُوا مِنْ وَرَاءِ الشَّبَابِيْكِ الحَدِيْدِيَّةِ إلى ضُغُوْطٍ هَائِلَةٍ أدَّتْ فِي ظَرْفِ سَاعَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ إلى مَصْرَعِ ( 95 ) شَخْصًا، وإصَابَةِ أكْثَرِ مِنْ ( 200 ) شَخْصًا بِرُضُوْضٍ، واخْتِنَاقَاتٍ، وإصَابَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ .
وقَدْ تَسَابَقَتْ وَسَائِلُ الإعْلامِ المُخْتَلِفَةِ كَعَادَتِها إلى رَصْدِ أبْرَزِ مَشَاهِدِ هَذَا الحَادِثِ، فَهَذَا "جَايْمْس جِيلْبان" المُمَرِّضُ يَحْضُرُ لأوَّلِ مَرَّةٍ إلى مَلْعَبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي مُهِمَّةٍ إسْعَافِيَّةٍ يَحْكِى عَنْ تَأثُّرِهِ البَالِغِ بالحَادِثِ؛ خَاصَّةً فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ الَّتِي انْتَشَلَ فِيْها مِنْ بَيْنَ الأجْسَادِ المُتَضَاغِطَةِ طِفْلاً غَضًّا لا يَتَجَاوَزُ سِنُّهُ سِتَّةَ أعْوَامٍ، وقَدْ تَحَوَّلَ لَوْنُ بَشَرَتِهِ البَيْضَاءِ إلى لَوْنٍ أزْرَقٍ مَائِلٍ إلى السُّمْرَةِ، والَّذِي فَارَقَ الحَيَاةَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُبَاشَرَةً بَعْدَ انْتِشَالِهِ !
* * *
المَحْظُورُ السَّادِسُ
العُنْفُ، والشَّغَبُ(1/240)
يُعْتَبَرُ هَذَا المَوْضُوْعُ مِنَ المَوْضُوْعَاتِ الَّتِي تَشْغَلُ حَيْزًا كَبِيْرًا مِنِ اهْتِمَامَاتِ العَمَلِ الأمْنِي؛ لارْتِبَاطِهِ بالقَاعِدَةِ الشَّعْبِيَّةِ لِقِطَاعِ الرِّياضَةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وبَعْضِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ مِثْلُ : ( كُرَة القَدَمِ ) الَّذِي تُكَلِّفُ العَالَمَ سَنَوِيًا ( 250 ) مِلْيَارَ دُوْلارٍ، كَمَا بَلَغَتْ كُلْفَةُ ضَبْطِ مُشَاغِبِي المَلاعِبِ فِي إنْكِلْتَرَا سَنَةَ ( 1412هـ )، نَحْو ( 19 ) مَلْيُوْنَ دُوْلارٍ سَنَوْيًّا(1)!
* * *
أمَّا إذا أرَدْنا أنْ نَتَعَرَّفَ عَلَى كُلٍّ مِنَ : العُنْفِ، والشَّغَبِ، فَكَمَا يَلِي :
العُنْفُ : هُوَ السُّلُوْكُ المَشُوْبُ بالقَسْوَةِ، والعُدْوَانِ، والقَهَرِ، والإكْرَاهِ … تُسْتَثْمَرُ فِيْه الدَّوَافِعُ، والطَّاقَاتُ العُدْوَانِيَّةُ اسْتِثْمَارًا صَرِيْحًا بِدَائِيًا : كالضَّرْبِ، والتَّقْتِيْلِ للأفْرَادِ، والتَّكْسِيْرِ، والتَّدْمِيْرِ للمُمْتَلَكَاتِ، واسْتِخْدَامِ القُوَّةِ لإكْرَاهِ الخَصْمِ، وقَهْرِهِ .
ويُمْكِنُ أنْ يَكُوْنَ العُنْفُ فَرْدِيًا يَصْدُرُ عَنْ فَرْدٍ وَاحِدٍ، كَمَا يُمْكِنُ أنْ يَكُوْنَ جَمَاعِيًا يَصْدُرُ عَنْ جَمَاعَةٍ، أو هَيْئَةٍ، أو مُؤَسَّسَةٍ تَسْتَخْدِمُ جَمَاعَاتٍ، وأعْدَادًا كَبِيْرَةً عَلَى نَحْوِ مَا يَحْدُثُ فِي التَّظَاهُرَاتِ السِّلْمِيَّةِ الَّتِي تَتَحَوَّلُ إلى عُنْفٍ، وتَدْمِيْرٍ، واعْتِدَاءٍ، أو اسْتِخْدَامِ الشُّرْطَةِ للعُنْفِ فِي فَضِّ التَّظَاهُرَاتِ، والإضْرَابَاتِ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "أمن الملاعب الرياضية" ص ( 93 )، الصادر من أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات، والبحوث .(1/241)
أمَّا الشَّغَبُ : فَهُوَ حَالَةٌ مِنْ حَالاتِ العُنْفِ؛ إلاَّ أنَّه حَالَةُ عُنْفٍ مُؤَقَّتٍ، ومُفَاجِئٍ تَعْتَرِي بَعْضَ الجَمَاعَاتِ، أو التَّجَمُّعَاتِ، أو فَرْدًا واحِدًا، وتُمَثِّلُ إخْلالاً بالأمْنِ عَلَى نَحْوِ مَا يَحْدُثُ مِنْ تَحَوُّلِ مُظَاهَرَةٍ سِلْمِيَّةٍ، أو إضْرَابٍ مُنَظَّمٍ؛ تُصَرِّحُ بِه السُّلْطَةُ إلى هِيَاجِ عُنْفٍ يُؤَدِّي للأضْرَارِ بالأرْوَاحِ، والمُمْتَلَكاتِ .
* * *
فَكَانَ مِنْ أهَمِّ التَّجَمُّعَاتِ البَشَرِيَّةِ المُعَاصِرَةِ التَّجَمُّعَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ لِمُشَاهَدَةِ مُبَارَيَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الوَطَنِيَّةِ مِنْها، أو الدُّوَلِيَّةِ، هَذَا إذا عَلِمْنا أنَّ هَذِه التَّجَمُّعَاتِ الَّتِي تَتَقَاطَرُ عَلَى مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِئَاتٌ مُتَبَايِنَةُ الطَّبَائِعِ، والطَّبَقَاتِ، والأعْمَارِ، مِمَّا يَجْعَلُ مِنْها بِيْئَةً صَالِحَةً لارْتِكَابِ شَتَّى الجَرَائِمِ، وتَتَنَامَى فِيْها الانْفِعَالاتُ، والمَشَاعِرُ الَّتِي تُبَارِكُ فَرِيْقًا، وتَلْعَنُ فَرِيْقًا آخَرَ، وقَدْ تَخْرُجُ هَذِه الانْفِعَالاتُ، والمَشَاعِرُ مِنَ الصُّدُوْرِ فِي صُوْرَةِ صَيْحَاتِ إعْجَابٍ، أو غَضَبٍ، وقَدْ تَتَطَوَّرُ إلى تَشَابُكٍ بالأيْدِي، أو تَضَارُبٍ بالعِصِيِّ، أو المُدِيِّ، أو الحِجَارَةِ، أو أيِّ أدَاةٍ فِي مُتَناوَلِ اليَدِ !، ويَتَحَوَّلُ المَلْعَبُ حِيْنَئِذٍ مِنْ مَكَانٍ للَّعِبِ إلى مَسْرَحٍ للألْفَاظِ الجَارِحَةِ، والإشَارَاتِ البَذِيْئَةِ الَّتِي تَتَطَايَرُ فِيْه الحِجَارَةُ تُجَاهِ اللاعِبِيْنَ، أو الحُكَّامِ، أو الإدَارِيِّيْنَ، أو تُجَاهَ مُشَجِّعِي الفَرِيْقِ الآخَرِ، ويَحْدُثُ هَذَا عَادَةً ( للأسَفِ !) أمَامَ ( كَامِيْرَاتِ التَّلَفَزْيُون )، ومُصَوِّرِي الصُّحُفِ، فعندئذٍ تَتَنَاقَلُ وَسَائِلُ الإعْلامِ هَذِه الصُوْرَ(1/242)
الهَمَجِيَّةَ الرَّعْناءَ أمَامَ مَلايِيْنَ المُسْلِمِيْنَ(1) !
فَعِنْدَ ذَلِكَ لا تَسْتَغْرِبْ؛ مِمَّا يَحْدُثُ فِي أوْسَاطِ مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ شَغَبٍ، وعُنْفٍ، نَتِيْجَةَ حَادِثٍ عَابِرٍ، أو تَصَرُّفٍ مُسْتَفِزٍّ مِنْ جَمَاهِيْرِ المَلاعِبِ الرِّياضِيَّةِ : فَتَتَحَرَّكُ حِيْنَئِذٍ هَذِه الفِئَامُ تَهْدِرُ بالهِتَافِ ضِدَّ مَنْ تَسَبَّبَ فِي الحَادِثِ، أو أتَى بالتَّصَرُّفِ المُسْتَفِزِّ؛ فَعِنْدَها تَتَكَوَّنُ لَدَى الجَمَاهِيْرِ الغَاضِبَةِ نَفْسِيَّةٌ جَمَاعِيَّةٌ غَوْغَائِيَّةٌ رَعْنَاءُ؛ لا عَقْلَ لَهَا، ولا عِقَالَ !
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَحَوَّلُ هَذِه الجَمَاهِيْرُ الغَاضِبَةُ مِنَ الهِتَافِ إلى القِيَامِ بأعْمَالِ شَغَبٍ، واعْتِدَاءٍ، وتَكْسِيْرٍ، وإحْرَاقٍ، وسَطْوٍ، والغَرِيْبُ أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أفْرَادِ المُشَجِّعِيْنَ لَوْ كَانَ بِمُفْرَدِه لَمَا تَجَرَّأ عَلَى ارْتِكَابِ أيِّ فِعْلٍ مِنَ الأفْعَالِ الهَوْجَاءِ؛ ولَكِنَّه بِمُجَرَّدِ ذَوَبَانِه فِي البَحْرِ الهَائِجِ مِنْ أمْوَاجِ الطِّغامِ، والسِّفَلَةِ مِنَ المُشَجِّعِيْنَ تَضِيْعُ شَخْصِيَّتُه، ويَتَجَرَّدُ مِنْ نَوَازِعِ الخَيْرِ الَّتِي كَانَتْ تَحُوْلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ ارْتِكَابِ المَعَاصِي، والفَسَادِ، ويَنْطَلِقُ فِي أعْمَالِ العُنْفِ مُعْتَقِدًا أنَّ أحَدًا لَنْ يَرَاهُ بَعْدَ أنْ أصْبَحَ تِرْسًا مِنْ تُرُوْسِ آلَةِ الغَضَبِ الجَمَاهِيْرِيَّةِ !
__________
(1) ـ انظر "أمن الملاعب" ص ( 13-14 )، و ( 64-66 ) .(1/243)
وأكْثَرُ مَظَاهِرِ الشَّغَبِ فِي المَلاعِبِ الرِّيَاضِيَّةِ هُوَ : التَّشْجِيْعُ الغَوْغَائِيُّ، والهِتَافَاتُ البَذِيْئَةُ، والاحْتِكَاكَاتُ غَيْرُ المَقْبُوْلَةِ بَدْءً بإلْقَاءِ الحِجَارَةِ، وزُجَاجَاتِ المَشْرُوْبَاتِ الغَازِيَّةِ، والأحْذِيَةِ، وانْتِهَاءً بإزْهَاقِ الأرْوَاحِ، وتَدْمِيْرِ المُنْشَآتِ، ومُرُوْرًا باسْتِغْلالِ بَعْضِ المُنْحَرِفِيْنَ الفُرْصَةَ للنَّشْلِ، أو لِهَتْكِ الأعْرَاضِ .
وقَدْ يَنْتَهِزُ بَعْضُ المُجْرِمِيْنَ فُرْصَةَ تَجَمُّعِ الحُشُوْدِ البَشَرِيَّةِ لِمُشَاهَدَةِ المُبَارَيَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ للقِيَامِ بأنْشِطَتْهِم الآثِمَةِ مِثْلَ : الاتِّجَارِ غَيْرِ المَشْرُوْعِ بالمُخَدِّرَاتِ، أو عَقْدِ الصَّفَقَاتِ الإجْرَامِيَّةِ، أو تَرْوِيْجِ العُمْلاتِ المُزَيَّفَةِ …!
* * *
فِي حِيْنَ أنَّنا لَوْ سَألْنَا أحَدًا عَنْ أهَمِّ العَوَامِلِ الَّتِي تُوْقِدُ جُذُوْرَ الشَّغَبِ فَهِي كثيرةٌ، ويَأتِي فِي مُقَدِّمَةِ العَوَامِلِ الرَّئِيْسَةِ : البُعْدُ عَنِ الدِّيْنِ أوَّلاً، وثَانِيًا التَّعَصُّبُ الأعْمَى، والتَّصَرُّفَاتُ المُسْتَفِزَّةُ، والفَسَادُ الَّذِي ظَهَرَ بِقُوَّةٍ فِي مَرْفَقِ الرِّيَاضَةِ .
إذَنْ؛ كَانَ حَقًا لَنَا أنْ نَقُوْلَ : إنَّ التَّعَصُّبَ الأعْمَى آفَةَ الرِّيَاضَةِ فِي جَمِيْعِ أنْحَاءِ العَالَمِ، وهَذَا التَّعَصَّبُ يُعْمِي العَيْنَ فَلا تَرَى مِنْ فَرِيْقِها الَّذِي تُشَجِّعُه، وتُحِبُّه إلاَّ كُلَّ مَا هُوَ جَمِيْلٌ، بَيْنَمَا لا تَرَى فِي الفَرِيْقِ المُنَافِسِ، إلاَّ كُلَّ مَا هُوَ قَبِيْحٌ، ومُسْتَهْجَنٌ .
وعَيْنُ الرِّضَى عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيْلَةٌ ولَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَ(1/244)
ويَبْدَأُ الشَّغَبُ عِنْدَمَا تَمِيْلُ الكِفَّةُ لِصَالِحِ الفَرِيْقِ المُنَافِسِ، وقَدْ يَكُوْنُ لِرِجَالِ الصَّحَافَةِ، والإعْلامِ دَوْرٌ فِي إثَارَةِ هَذِه النَّعْرَةِ لَدَى الجَمَاهِيْرِ، وذَلِكَ باسْتِخْدَامِ العَنَاوِيْنِ المُثِيْرَةِ، والتَّشْكِيْكِ فِي حُكْمِ الحُكَّامِ، أو أخْلاقِيَّاتِ الجَمْهُوْرِ المُشَجِّعِ للفَرِيْقِ المُنَافِسِ، أو بِنَشْرِ مَعْلُوْمَاتٍ كَاذِبَةٍ عَنْ طَبِيْعَةِ الحَدَثِ الرِّيَاضِيِّ، أو عَنَتِ الجَوْرِ الَّذِي لَحِقَ بِفَرِيْقِهِم فِي الأخْذِ بالقُرْعَةِ مَثَلاً؛ الأمْرَ الَّذِي يُؤَدِّي إلى الضَّغْطِ عَلَى نُفُوْسِ الجَمَاهِيْرِ المُتَهَالِكَةِ، والحُكَّامِ، واللاعِبِيْنَ، والإدَارِيِّيْنَ .
* * *
فَلَمْ يَعُدْ للشَّكِّ مَجَالٌ فِي تَسَلُّلِ العُنْفِ، والشَّغَبِ المَلاعِبَ الرِّياضِيَّةَ لا سِيَّمَا طَاغُوْتَ العَصْرِ مِنْها : ( كُرَةَ القَدَمِ ) !
* * *
حَيْثُ ظَهَرَ التَّعَصُّبُ الأعْمَى أوَّلَ مَا ظَهَرَ فِي مُبَارَيَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الأكْثَرِ شَعْبِيَّةٍ فِي جَمِيْعِ دُوَلِ العَالَمِ، وشَهِدَ العَالَمُ مُنْذُ عِقْدِ ( الخَمْسِيْنَاتِ ) حَوَادِثَ شَغَبٍ فِي المُبَارَيَاتِ المَحَلِّيَّةِ، والقَارِيَّةِ، والإقْلِيْمِيَّةِ، والدُّوَلِيَّةِ .(1/245)
ـ ففِي يَوْمِ ( 10/9/1405هـ ) كانَ يَوْمًا غَرِيْبًا فِي تَارِيْخِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَفِي السَّاعَةِ ( 7 مساءً ) مِنْ ذَلِكَ اليَوْمِ، وفِي مَدِيْنَةِ ( بَرُوكْسِل ) البَلْجِيْكِيَّةِ أثْنَاءَ مُبَارَاةٍ بَيْنَ فَرِيْقِ ( لِيْفَرْبُول ) الإنْجِلِيْزِيِّ، وفَرِيْقِ ( يُوفِنْتِس ) الإيْطَالِيِّ؛ بَدَأ مُشَجِّعُوْنَ بِرِيْطَانِيُّوْنَ الشَّغَبَ، وتَعَدُّوا عَلَى جَمْهُوْرِ المُشَاهِدِيْنَ بالعِصِيِّ، والقُضْبَانِ الحَدِيْدِيَّةِ، والخَنَاجِرِ، ولَمْ تَسْتَطِعْ الشُّرْطَةُ البَلْجِيْكِيَّةُ السَّيْطَرَةَ عَلَى المَوْقِفِ إلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ ( 41 ) شَخْصًا أغْلَبُهُم مِنَ الإيْطَالِيِّيْنَ، والبَلْجِيْكِيِّيْنَ، وإصَابَةِ أكْثَرَ مِنْ (400) شَخْصٍ … !
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ التَّعَصُّبُ الأعْمَى آفَةً تَعُوْدُ بالإنْسَانِ إلى حَيَاةِ الحَيْوَانِ حَيْثُ لا يَحْكُمُ عَقْلَه، ولَكِنَّهُ يَنْسَاقُ وَرَاءَ غَرَائِزِه البِدَائِيَّةِ، ويَنْدَفِعُ إلى أعْمَالٍ غَوْغَائِيَّةٍ مُعْتَقِدًا أنَّه يُدَافِعُ عَنْ بَطَلَه الرِّيَاضِيِّ، أو فَرِيْقِهِ، أو نَادِيْه .
ونَظَرًا لأنَّ المُنَافَسَاتِ الرِّيَاضِيَّةَ تَتَضَمَّنُ ألْعَابًا قِتَالِيَّةً، وفِي مُقَدِّمَتِها اللُّعْبَةُ الشَّيْطانيَّةُ ( كُرَةُ القَدَمِ)، وقَدْ قَالَ بَعْضُهُم : إنَّ المَسَافةَ بَيْنَ الحَرْبِ الصُّوْرِيَّةِ، أو الكُرَوِيَّةِ، والحَرْبِ الحَقِيْقَيَّةِ لَيْسَتْ كَبِيْرَةً . أو كَمَا يَقُوْلُ بَعْضُهُم : ( كُرَةُ القَدَمِ ) تُشْبِهُ صِرَاعَ الجَمَاعَاتِ البِدَائِيَّةِ .
فإنَّ عَدَدًا مِنَ الدَّارِسِيْنَ، والبَاحِثِيْنَ رَأَوْا أنَّ العُلاقَةَ بَيْنَ ( كُرَةِ القَدَمِ )، والعُنْفِ قَدِيْمَةٌ قِدَمَ اللِّعْبَةِ نَفْسِها .(1/246)
فَطَبِيْعَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) تُشَجِّعُ عَلَى العُنْفِ، ولا بَدَّ، ويَقُوْلُ أمِيْنُ الخُوْلِيُّ : إنَّ التَّارِيْخَ الرِّيَاضِيَّ حَافِلٌ بالوَقَائِعِ الَّتِي تُشِيْرُ إلى العُنْفِ، والشَّغَبِ فِي مُبَارَيَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى وَجْهِ التَّحْدِيْدِ؛ ذَلِكَ أنَّ أغْلَبَ أحْدَاثِ العُنْفِ تَقَعُ أثْنَاءَ مُبَارَيَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي أوْرُوبا .
وكَانَ قَدْ صَدَرَ قَرَارٌ يَمْنَعُ مُزَاوَلَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي مَدِيْنَةِ "مَانْشِسْتَرْ" الإنْجِلِيْزِيَّةِ عَامَ (1326هـ) بِسَبَبِ أحْدَاثِ العُنْفِ؛ كَمَا وَقَعَتْ حَادِثَةُ عُنْفٍ خَطِيْرَةٍ فِي إنْجِلْتِرَا عَامَ (1320هـ)، نَاهِيْكَ عَنِ الحَرْبِ بَيْنَ السِّلْفَادُوْر، وهَنْدُوْرَاس عَامَ ( 1389هـ )(1).
* * *
ولِكَي نُلْقِي الضَّوْءَ عَلَى الزَّاوِيَةِ الأوْلَى يَقُوْلُ عُوَيْس : إنَّ إحْدَى الدِّرَاسَاتِ أكَّدَتْ أنَّ العُنْفَ فِي المَجَالِ الرِّيَاضِيِّ يَعُوْدُ بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ إلى تَعَرُّضِ مُشَاهِدِي المُبَارَيَاتِ فِي التِّلْفِزْيُونِ للكَثِيْرِ مِنْ مَوَاقِفِ العُنْفِ اللَّفْظِيِّ، والجَسَدِيِّ، ومِثْلُ اعْتِدَاءِ بَعْضِ اللاعِبِيْنَ عَلَى مُنَافِسِيْنَ لَهُم، أو الاعْتِدَاءِ عَلَى حَكَمِ المُبَارَاةِ، وهَذَا العُنْفُ الَّذِي يُشَاهِدُه الجَمْهُوْرُ مِنْ خِلالِ وَسَائِلِ الإعْلامِ المُخْتَلِفَةِ؛ هُوَ بِمَثَابَةِ عُنْفٍ وَاقِعِيٍّ(2).
__________
(1) ـ انظر "الرياضة والمجتمع" لأمين الخولي (270) .
(2) ـ انظر "أمن الملاعب" ( 52-53 ) .(1/247)
وقَدْ أكَّدَ كَثِيْرٌ مِنَ البَاحِثِيْنَ، والدَّارِسِيْنَ أنَّ لُغَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) كَمَا تُفْرِزُه وَسَائِلُ الإعْلامِ : أنَّها لا تَقِلُّ شَأنًا عَنْ لُغَةِ الحَرْبِ، ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا كَتَبَهُ "تَايْلُوْر" وهُوَ مِنْ أكْثَرِ مَنْ كَتَبَ عَنِ الرِّيَاضَةِ، والعُنْفِ، حَيْثُ أفْصَحَ عَنْ رَأيِه بِقَوْلِه : عِنْدَمَا تَقْرَأ لُغَةَ الصَّحَافَةِ لَنْ تَسْتَغْرِبَ مَا يَحْدُثُ فِي أرْضِ المَلْعَبِ .
كَمَا أشَارَ إلى لُغَةِ الحَرْبِ عَدَدٌ مِنَ البَاحِثِيْنَ مِنْ بَيْنِهم "جِيْمْس هَاللُّوْرَان" الَّذِي أشَادَ إلى مُفْرَدَاتٍ تَسْتَخْدِمُها الصَّفَحَاتُ الرِّيَاضِيَّةُ حِيْنَ تَصِفُ مُبَارَاةً فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِثْلُ : مَعْرَكَةٍ، وصِرَاعٍ، وهُجُوْمٍ، ودِفَاعٍ، وغَزْوٍ، وقُنْبُلَةٍ، وصَارُوْخٍ، وانْفِجَارٍ، وخَصْمٍ، ودَمَارٍ؛ والكَثِيْرِ مِنَ كَلِمَاتِ، ومُفْرَدَاتِ الحُرُوْبِ .
ومِنْ بَيْنَ العَوَامِلِ الَّتِي قَدْ تُسَاهِمُ فِي إثَارَةِ السُّلُوْكِ العُدْوَانِيِّ كِتَابَاتُ بَعْضِ النُّقَّادِ، أو تَعْلِيْقَاتُ المُذِيْعِيْنَ حِيْنَ يَصِفُوْنَ الخُشُوْنَةَ بأنَّها لِعْبٌ رُجُوْلِيٌّ ...(1).
* * *
وأخيرًا؛ لا تَخْرُجُ الآثَارُ النَّاجِمَةُ عَنِ الشَّغَبِ فِي المَلاعِبِ الرِّيَاضِيَّةِ أيًّا كَانَتْ لاسِيَّمَا ( كُرَةُ القَدَمِ) مِنْ :
ـ الإتْلافُ : سَوَاءٌ تَمَثَّلَ فِي : كَسْرِ المُدَرَّجَاتِ، أو إشْعَالِ الحَرَائِقِ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ حَرْقُه، أو إلْقَاءِ الحِجَارَةِ عَلَى كُلٍّ مَنَ بالمَلْعَبِ دُوْنَ النَّظَرِ إلى ما يُخَلِّفُه ذَلِكَ مِنْ آثَارٍ !
__________
(1) ـ انظر "سيكولوجية العدوان والعنف في الرياضة" لمحمد علاوي (40) .(1/248)
ـ ومِنَ الاعْتِدَاءاتِ الشَّخْصِيَّةِ، والجَمَاعِيَّةِ مِنْ جَمَاهِيْرِ الفَرِيْقَيْنِ، ومَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إصَابَاتٍ، قَدْ تَصِلُ إلى حَدِّ الضَّرْبِ المُبْرِحِ، أو العَاهَاتِ، أو القَتْلِ ... إلخ .
ـ الخُرُوْجُ فِي مُظَاهَرَاتٍ صَاخِبَةٍ : ومَا تُسْفِرُ عَنْه مِنْ تَعْطِيْلِ الحَرَكَةِ المُرُوْرِيَّةِ، وارْتِبَاكِها، وإحْرَاقِ السَّيَّارَاتِ، أو إحْدَاثِ تَلَفِيَّاتٍ بِها سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوْكَةً للغَيْرِ، أو مَمْلُوْكَةً للدَّوْلَةِ(1).
ـ وغَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ : الاعْتِصَامَاتِ، أو الإضْرَابَاتِ سَوَاءٌ مِنَ اللاعِبِيْنَ، أو الإدَارِيِّيْنَ، أو غَيْرِهِم .
* * *
أمَّا صُوَرُ العُنْفِ، والشَّغَبِ الَّتِي لَمْ تَزَلْ تُفْرِزُها ( كُرَةُ القَدَمِ ) فِي بِلادِ الحَرَمَيْنِ، فَلَوْنٌ آخَرُ لَيْسَ لَه سَابِقَةٌ؛ حَيْثُ اعْتَرَى الجَمَاهِيْرَ فِي المَرْحَلَةِ الأخِيْرَةِ هَوَسٌ وسُعَارٌ مَا شَهِدَتْهُ البِلادُ مُنْذُ عِشْرِيْنَ سَنَةٍ مَضَتْ، فِي حِيْنَ أنَّ حَمَاقَاتِهم لَمْ تَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الجَمَاهِيْرِ السَّائِمَةِ؛ بَلْ أصْبَحَ شُغْلاً مُؤَرِّقًا للجِهَاتِ الأمْنِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ باخْتِصَارٍ :
ـ التَّجَمُّعَاتُ الجَمَاهِيْرِيَّةُ بَعْدَ انْتِهَاءِ المُبَارَيَاتِ بِشَكْلٍ مُخِيْفٍ، مِمَّا يَدْعُو إلى الشَّكِّ فِي نَوَايَا هَذِه الرُّوْحِ الرِّيَاضِيَّةِ !، وهُوَ كَذَلِكَ؛ حَيْثُ أصْبَحَتْ هَذِه التَّجَمُّعَاتُ العَشْوَائِيَّةُ مُتَنَفَّسًا وَاسِعًا لوُجُوْدِ المُفْسِدِيْنَ بَيْنَ الشَّبَابِ، فعِنْدَ ذَلِكَ لا تَسْألْ عَنْ تَسْوِيْقِ، وتَرْوِيْجِ : المُخَدِّرَاتِ، والسَّرِقَاتِ …!
__________
(1) ـ انظر "أمن الملاعب" ( 102 ) .(1/249)
ـ سَيْرُ الجَمَاهِيْرِ الرِّيَاضِيَّةِ عَبْرَ السَّيَّارَاتِ عَلَى شَكْلِ مَوَاكِبَ، وقَوَافِلَ قَدْ تَزِيْدُ عَلَى الخَمْسِيْنَ سَيَّارَةٍ، مَعَ ما يَحْصُلُ فِيْها : مِنْ مُخَالَفَاتٍ مُرُوْرِيَّةٍ، وتَعْطِيْلِ حَرَكَةِ السَّيْرِ قَصْدًا، وعَمَلِ ( التَّفْحِيْطِ)، وإزْعَاجِ المُسْلِمِيْنَ بِجَمِيْعِ أنْوَاعِ الآذَايا والبَلايا : كالمُنَبِّهَاتِ ( البَوَارِي ) العَالِيَةِ، والأغَانِي الصَّاخِبَةِ، والتَّصْفِيْقِ الصَّفِيْقِ، والتَّصْفِيْرِ الحَقِيْرِ، والطَّبْلِ المُزْعِجِ … إلخ .
ـ وُقُوْفُ أكْثَرِ الجَمَاهِيْرِ الرِّياضِيَّةِ عَلَى حَافَّةِ الطَّرِيْقِ لِقَصْدِ إيْذَاءِ المَارِّيْنَ مِنَ المُسْلِمِيْنَ : كَضَرْبِ السَّيَّارَاتِ المَارَّةِ بِكُلِّ هَمَجِيَّةٍ ورُعُوْنَةٍ، وضَرْبِ المُقِيْمِيْنَ مِنْ غَيْرِ أهْلِ البَلَدِ، والرَّقْصِ الأُنْثَوْيِّ، وإرْغَامِ بَعْضِ المَارِّيْنَ مِنْ عُقَلاءِ المُسْلِمِيْنَ عَلَى مُشَارَكَتِهم فِي التَّشْجِيْعِ كَضَرْبِ المُنَبِّهِ ( البُوْرِي )، ونَحْوِه … ومِنْ آخِرِ هَذِه الحَمَاقَاتِ السُّوْقِيَّةِ : مَا قَامَ بِهِ بَعْضُ السِّفَلَةِ الطَّغَامِ مِنْ مُشَجِّعِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) نَحْوَ نِسَاءِ المُسْلِمِيْنَ!، وذَلِكَ بإخْرَاجِهِنَّ مِنَ السَّيَّارَاتِ، أو الدُّخُوْلِ مَعَهُنَّ، أو إيْذَائِهِنَّ بِشَكْلٍ، أو آخَرَ؛ كُلَّ هَذَا أمَامَ مَحَارِمِهِنَّ !، وأمَامَ مُسْلِمِي بِلادِ التَّوْحِيْدِ !(1/250)
ـ اسْتِهْلاكُ أوْقَاتِ، وأمْوَالِ الجِهَاتِ الأمْنِيَّةِ، واسْتِنْفَارُها بِكُلِّ مَا تَمْلِكُ مِنْ رِجَالٍ، وأحْوَالٍ : فِي مُتَابَعَةِ هَذِه الجَمَاهِيْرِ الغَوْغَائِيَّةِ، أو مُطَارَدَتِها، أو تَحْجِيْمِ نَشَاطِها، أو شَلَلِ حَرَكَتِها … كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ عِنْدَ وُجُوْدِ المُبَارَيَاتِ الحَاسِمَةِ؛ حَيْثُ نَجِدُ رِجَالَ الأمْنِ مُنْتَشِرِيْنَ فِي الشَّوَارِعِ الرَّئِيْسَةِ فِي المَدِيْنَةِ .
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ الحَالاتِ الإجْرَامِيَّةَ الَّتِي يُقْبَضُ عَلَيْها، أو تُرَاجَعُ فِي مَرَاكِزِ الشُّرْطَةِ مِنْ جَرَّاءِ هَذِه التَّشْجِيْعَاتِ الصِّبْيَانِيَّةِ تَفُوْقُ غَيْرَها مِنَ الأيَّامِ عَدَدًا، وتَنَوَّعًا !، ولَكِنْ عَزَانَا فِي هَذِه الجِهَاتِ الأمْنِيَّةِ المَثَلُ السَّائِرُ : "عَلَى أهْلِها جَنَتْ بَرَاقِشُ"، وقَوْلُ الشَّاعِرِ :
ألْقَاهُ فِي الْيِمِّ مَكْتُوْفًا وَقَالَ لَهُ إيِّاكَ إيِّاكَ أنْ تَبْتَلَّ بالْمَاءِ
* * *
المَحْظُورُ السَّابِعُ
تَحْكِيمُ القَوَانِيْنِ الوَضْعِيَّةِ
قَالَ تَعَالَى : " ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ الله فأولئك هم الكافرون"[المائدة44] .
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لَحَدٌّ يُقَامُ فِي الأرْضِ، خَيْرٌ لأهْلِ الأرْضِ مِنْ أنْ يُمْطَرُوا ثَلاثِيْنَ صَبَاحًا"، وفِي رِوَايَةٍ : " إقَامَةُ حَدٍّ فِي الأرْضِ خَيْرٌ لأهْلِها مِنْ مَطَرِ أرْبَعِيْنَ لَيْلَةٍ"(1) النَّسَائِيُّ، وابنُ مَاجَه .
__________
(1) ـ أخرجه النسائي ( 8/76 )، من حديث أبي هريرة، وابن ماجه ( 2/ 2537 ) من حديث ابن عمر، وقد حسَّنه الألباني، انظر "السلسلة الصحيحة" ( 231 ) .(1/251)
وقَدْ نَقَلَ الإجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيْرِ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ شَرْعَ اللهِ تَعَالَى جَمْعٌ مِنَ أهْلِ العِلْمِ، كالإمامِ الطَّبَرِيِّ، وابنِ تَيْمِيَّةِ، وابنِ القَيِّمِ، وابنِ كَثِيْرٍ، ومُحَمَّدِ الأمِيْنِ الشَّنْقِيْطِيِّ، ومُحَمَّدِ بنِ إبرَاهِيمِ، وأحْمَدَ شَاكِرٍ، وغَيْرِهِم كَثِيْرٌ(1).
* * *
فإذَا عَلِمْنَا أنَّ الحُكْمَ بغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى كُفْرٌ يُخْرِجُ مِنَ المِلَّةِ، كَانَ عَلَيْنا فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ أنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ مَا هُوَ : حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وتَنْظِيْمٌ إدِارِيٌّ، كَمَا يَلِي :
1ـ أمَّا مَا كَانَ مِنْ زُبَالَةِ الأفْكَارِ، وحُثَالَةِ الأفْهَامِ، وهُوَ مَا يُسَمَّى بِـ"القَانُوْنِ"، حَيْثُ يُفْرَضُ تَطْبِيْقُه عَلَى المُسْلِمِيْنَ مِمَّا يُصَادِمُ أحْكَامَ اللهِ المُتَعَلَّقَةَ بالجِنَايَاتِ، والحُدُوْدِ، والعِبَادَاتِ، وغَيْرِها مِمَّا شَرَعَهُ اللهُ، فَهَذا لا شَكَّ أنَّهُ كُفْرٌ بِرَبِّ السَّمَواتِ والأرْضِ .
2ـ أمَّا مَا كَانَ مِنْ تَنْظِيْمَاتٍ إدَارِيَّةٍ خَارِجَةٍ عَمَّا مَضَى؛ بَلْ يُرادُ بِهِ ضَبْطَ الأمُوْرِ، وإتْقَانَها عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُخَالَفٍ للشَّرْعِ، فَهَذَا لا مَانِعَ مِنْه، ولا مُخَالِفَ فِيْه مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُم(2).
* * *
__________
(1) ـ انظر هذه الإجْمَاعاتِ وغَيْرَها مِنْ مَباحِثِ الحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ في كِتَابِ "الحُكْمِ بِغَيْرِ ما أنْزَلَ اللهُ" لشَيْخِنا العَلامَّةِ عَبْدِ الرَّحمنِ المَحْمُودِ، فَكتابُه هَذا مِنْ أجْمَعِ مَنْ تَكَلَّمَ عَنْ هَذِه المَسأَلَةِ الخَطِيْرَةِ، مَعَ بَيَانِ أحْوَالِها، وأحْكَامِها مِنْ خِلالِ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وتَنْزِيلِها على الوَاقِعِ .
(2) ـ انظر "الأضواء" للأمين الشنقيطي (4/92-93) .(1/252)
والحَالَةُ هَذِه إذَا نَظَرْنَا إلى قَوَانِيْنِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنْ ألْعَابٍ رِيَاضِيَّةٍ، نَجِدُ لَهَا قَوَانِيْنَ، ومَوَاثِيْقَ مُلْزَمَةً عَلَى اللاعِبِيْنَ فِعْلَها، وأنْ يَتَقَيَّدُوا بِها!، مِمَّا قَدْ تُفْرِضُ عَلَى مُمَارِسِ الرِّيَاضَةِ مَحَاذِيْرَ شَرْعِيَّةً : كلِبْسٍ يَكْشِفُ عَوْرَتَه، كَمَا فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وكَمَالِ الأجْسَامِ ونَحْوِها، وقَدْ يَنْحَنِي بِطَرِيْقَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا فِي لُعْبةِ ( الكارَاتَيْه )، وغَيْرِها، ورُبَّما يَضْرِبُ الوَجْهَ، ويَتْلِفُ الأعْضَاءَ كَمَا فِي المُلاكَمَةِ، والمُصَارَعَةِ الحُرَّةِ … وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ القَوَانِيْنِ، والقَوَاعِدِ، والمَوَاثِيْقِ، والأعْرَافِ الرِّياضِيَّةِ المُخَالِفَةِ لأحْكَامِ الإسْلامِ !
فإذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَلا تَخْلُو قَوَانِيْنُ، وأنْظِمَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ حَالَتَيْنِ :
الأوْلَى : أنْ تَكُوْنَ إدَارِيَّةً تَنْظِيْمِيَّةً بَحْتَةً، لا عُلاقَةَ لَها بِشَيْءٍ مِنَ التَّحْكِيْمِ الشَّرْعِيِّ الوَضْعِيِّ : كَعَدَدِ اللاعِبِيْنَ، ووَقْتِ المُبَارَاةِ، وحَجْمِ المَلْعَبِ … إلخ، فَهَذَا لا شَيْءَ فِيْه، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ حُكْمِ المُشَابَهَةِ، ومَا يَحْصُلُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ مُحَرَّمَاتٍ شَرْعِيَّةٍ .(1/253)
الثَّانِيَةُ : أنْ تَكُوْنَ قَوَانِيْنَ تَشْرِيْعِيَّةً تُخَالِفُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى : كإلْزَامِ اللاعِبِيْنَ بِكَشْفِ عَوْرَاتِهم، والسَّفَرِ إلى بِلادِ الكُفْرِ دُوْنَ ضَرُوْرَةٍ، ومَحَبَّةِ اللاعِبِ الكَافِرِ الَّذِي فِي فَرِيْقِه، والاسْتِمْرَارِ فِي اللَّعِبِ ولَوْ فِي وَقْتِ الصَّلاةِ، ومِنْ أخْطَرِ تِلْكُمُ القَوَانِيْنِ المُعَارَضَةِ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى، هُوَ إلْغَاءُ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى فِي الِجَناياتِ، والقَصَاصِ، مِثْلُ : لَوْ أنَّ لاعِبًا مَّا قَامَ بِكَسْرِ رِجْلِ لاعِبٍ آخَرَ، أو قَامَ بِضَرْبِهِ … أو غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا نَصَّتِ الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ عَلَى القَصَاصِ فِيْه، فإذَا كَانَ حُكْمُه عِنْدَهُم : "فَاوِلْ"، أو ضَرْبَةُ جَزَاءٍ، أو طَرْدٌ مِنَ المَلْعَبِ، أو "كَرْت" أحْمَرُ، أو غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ قَوَانِيْنِهم الوَضْعِيَّةِ؛ فَلا شَكَّ أنَّ مِثْلَ هَذِه الأحْكَامِ مُعَارِضَةٌ لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى، فَهَذَا لا يَخْلُو أيْضًا مِنْ حَالَتَيْنِ :
1ـ أنْ يَفْعَلَها اللاعِبُ المُسْلِمُ ( كَرْهًا )، مَعَ اعْتِقَادِهِ بِحُرْمَتِها، ومُخَالَفَتِها أمْرَ اللهِ تَعَالَى، فَهَذَا أقَلُّ أحْوَالِهِ : أنَّه كُفْرٌ أصْغَرٌ، وكَبِيْرَةٌ مِنَ الكَبَائِرِ؛ بَلْ أكْبَرُ الكَبَائِرِ، مَعَ مَا فِيْها مِنَ الجَوْرِ، والفِسْقِ، والظُّلْمِ…!(1/254)
2ـ أنْ يَفْعَلَها مُعْتَقِدًا لَها، رَاضٍ بِها، مُقَدِّمًا لَهَا عَلَى شَرْعِ اللهِ تَعَالَى؛ بِكَوْنِها مِنْ شَأنِ قَوَانِيْنِ (كُرَةِ القَدَمِ )، فَهَذَا هُوَ الكُفْرَ الأكْبَرُ، الَّذِي نَخْشاهُ عَلَى كَثِيْرٍ مِنْ لاعِبِي الرِّيَاضَةِ؛ بَلْ لا أبَالِغُ إذَا قُلْتُ : إنَّ أكْثَرَ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) هَذِه الأيَّامِ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ أقْرَبُ مَا يَكُونُونَ مِنْ أصْحَابِ الحَالَةِ الثَّانِيَةِ(1).
* * *
المَحْظُورُ الثَّامِنُ
الرِّهَانُ عَلَى الفَرِيْقِ الفَائِزِ
لَقَدْ أصْبَحَ الرِّهَانُ هَذِه الأيَّامِ عَلَى الفَرِيْقِ الفَائِزِ ظَاهِرةً مُنْتَشِرَةً بَيْنَ أكْثَرِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، سَوَاءٌ كَانَ الرِّهَانُ عَلَى فَوْزِ أحَدِ الفَرِيْقَيْنِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، أو اليَدِّ، أو الطَّائِرَةِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ فِي هَذَا العَصْرِ !
فِي حِيْنَ أنَّ المُتَابِعَ لِهَذِه الرِّهانَاتِ الَّتِي يَتَنَافَسُ عَلَيْها المُسْلِمُوْنَ فِي كَثِيْرٍ مِنْ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ تُرْصَدُ لَها آلافُ ( الدُّوْلارَاتِ ) بَيْنَ المُتَرَاهِنِيْنَ !، وحَسْبُكَ مَا تَنْشُرُه الصَّحَافَةُ ( الأثِيْمَةُ ) بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ مِنْ أرْقَامٍ مُذْهِلَةٍ بَيْنَ المُتَرَاهِنِيْنَ عَلَى فَوْزِ أحَدِ الفَرِيْقَيْنِ عَلَى الآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الفِرَقُ مَحَليَّةٌ، أو دُوَلِيَّةٌ !
* * *
نَعَمْ؛ لَقَدْ دَخَلَتْ هَذِه المُرَاهَنَاتُ الشَّائِعَةُ فِي البِلادِ الغَرْبِيَّةِ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيْدٍ، ففِي السِّوِيْدِ مَثَلاً؛ حَوَالِي (52% ) يُرَاهِنُوْنَ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) !
__________
(1) ـ يَنْطَبِقُ هَذَا الحُكْمُ عَلَى كُلِّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْه الحُجَّةُ .(1/255)
وفِي أمْرِيْكا رَاهَنَ حَوَالِي ثَلاثَةٍ وسِتِّيْنَ مَلْيُوْنَ شَخْصٍ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) سَنَةَ ( 1388هـ ) .
* أمَّا البَلادُ الإسْلامِيَّةُ؛ فَهِي وللهِ الحَمْدُ مُعَافَاةٌ مِنَ هَذَا البَلاءِ غَالبًا، غَيْرَ أنَّ بَعْضَ الأصْوَاتِ الآثِمَةِ فِي مِصْرَ تُطَالِبُ بإدْخَالِ نِظَامِ المُرَاهَنَةِ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ كَحَلٍّ لظَاهِرَةِ الإفْلاسِ المَادِيِّ للأنْدِيَةِ الرِّياضِيَّةِ؛ إلاَّ أنَّ هَذِه الأصْوَاتِ لَمْ تَلْقَ ـ وللهِ الحمدُ ـ أدْنَى قَبُوْلٍ مِنَ العَامِلِيْنَ فِي الأوْسَاطِ الرِّياضِيَّةِ، ومِنْ عُلُمَاءِ النَّفْسِ، والاجْتِمَاعِ عِنْدَهُم(1) !
* * *
وهُنَا كَلِمَةٌ جَمِيْلةٌ جَادَ بِها يَرَاعُ الشَّيْخِ جَوْهَرِيِّ الطَنْطَاوِيِّ حَوْلَ سِبَاقِ الخَيْلِ، والرِّمَايِةِ، بأنَّهما أصْبَحَا مَعْوَلاً هَدَّامًا فِي كَيَانِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ بَعْدَ أنْ كَانَا وَسِيْلَةَ عِزٍّ، وكَرَامَةٍ، وجِهَادٍ فِي سَبِيْلِ اللهِ تَعَالِى .
__________
(1) ـ انظر مجلة "المسلمون" في عددها (124) بتاريخ (30 شوال /1407هـ ) .(1/256)
حَيْثُ قَالَ : " إنَّ سِبَاقَ الخَيْلِ، والرِّمَايَةِ قَدْ أصْبَحَا عَارًا عَلَى الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ؛ حَيْثُ أصْبَحَا مُرْتَزَقًا، ووَسِيْلَةً لكَسْبِ المَالِ، وأكْلِهِ بالبَاطِلِ"، ثُمَّ قَالَ أيْضًا : " والحَظُّ فِي قِمَارِ زَمَانِنَا لأصْحَابِ دُوْرِ القِمَارِ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنا، ولكِنَّهُم لَيْسُوا عَلَى أخْلاقِنَا، ولا سَيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ أنَّ أنْدِيَةَ القِمَارِ وَرَاءها دُوَلٌ أجْنَبِيَّةٌ وضَعَتْها لامْتِصَاصِ ثَرَوَاتِ الأغْنِيَاءِ، وبالفِعْلِ حَصَلَ ذَلِكَ فِي كَثِيْرٍ مِنْ بِلادِ العَالِمِ الإسْلامِيِّ، وعَلَى وَجْهِ التَّحْدِيْدِ؛ فإنَّنِي لا أشُكُّ أنَّ وَرَاءَ مَوَائِدِ القِمَارِ جَمْعِيَّاتُ المُوْسَادِ"(1).
ومِنْهُ تَعْلَمُ حُرْمَةَ مُرَاهَنَةِ المُتَفَرِّجِيْنَ عَلَى سِبَاقِ الخَيْلِ فِي هَذِه الأيَّامِ، وهِيَ مَنْ أكْثَرِ أنْوَاعِ الرِّهَانِ شُيُوْعًا فِي أورُوْبا، وفِي مِصْرَ .
وأوَّلُ مَنِ اخْتَرَعَ فِكْرَةَ الرِّهَانِ عَلَى سِبَاقِ الخَيْلِ فَرَنْسا عَامَ ( 1276هـ )، ثُمَّ عَمِلَتْ بِه اسْتُرَالِيَا، وأمْرِيْكا، وبِرِيْطَانِيَا؛ كَمَا جَاءَ فِي "المُوْسُوْعَةِ البِرِيْطَانِيَّةِ"(2).
وأمَّا مِصْرُ؛ فَقَدْ أدْخَلَ الاسْتِعْمَارُ ( التَّدْمِيْرُ ) البِرِيْطَانِيُّ نِظَامَ المُرَاهَنَةِ عَلَى سِبَاقِ الخَيْلِ فِيها عَامَ (1329هـ )؛ كَمَا جَاءَ فِي مَجَلَّةِ "المُسْلِمُوْنَ"(3).
__________
(1) ـ انظر "الجواهر في تفسير القرآن" لجوهري الطنطاوي (1/204) .
(2) ـ انظر "الموسوعة البريطانية" (9/998) .
(3) ـ انظر مجلة "المسلمون" في عددها (124) بتاريخ (30 شوال /1407هـ ) .(1/257)
وقَدْ ذَكَرَتْ مَجَلَّةُ "اللِّوَاءِ الإسْلامِيِّ" المِصْرِيَّةِ(1): أنَّ فِي مِصْرَ أرْبَعَةَ نَوَادٍ تُقَامُ بِها مُرَاهَنَاتُ سِبَاقِ الخَيْلِ، يَتَرَدَّدُ عَلَيْها أكْثَرُ مِنْ اثَنِي عَشَرَ ألْفِ مُرَاهِنٍ!، يُنْفِقُوْنَ أكْثَرَ مِنْ أرْبُعْمَائَةِ ألْفِ جِنِيْهٍ شَهْرِيًا، وأنَّ عَشَرَاتِ المِئَاتِ مِنَ الرِّجَالِ فَقَدُوا أمْوَالَهم بَعْدَ إدْمَانِهم عَلَى هَذَا الدَّاءِ؛ بَعْضُهم بَاعَ مَتْجَرَه، وبَعْضُهم رَاهَنَ بِمُرَتَّبِه، وحَرَمَ أوْلادَه، وبَعْضُهم سَرَقَ لِيُرَاهِنَ … إلخ .
* * *
وسَبَبُ الحُرْمَةِ أنَّها لَعِبٌ، ومُخَاطَرَةٌ بالمَالِ بَيْنَ أكْثَرِ مِنْ طَرَفٍ؛ بِحَيْثُ إنَّ بَعْضَهُم كَاسِبٌ لا مَحَالَةَ، وبَعْضُهم الآخَرُ خَاسِرٌ، وهَذَا هُوَ مَعْنَى القِمَارِ بِعَيْنِه !
ومِنْ ثَمَّ؛ فإنَّ الإسْلامَ أبَاحَ السِّبَاقَ بَيْنَ الخَيْلِ بِعِوَضٍ، لتَشْجِيْعِ المُتَسَابِقِيْنَ ( لا المُتَرَاهِنِيْنَ المُشَاهِدِيْنَ ! ) عَلَى التَّدَرُّبِ عَلَى أعْمَالِ الفُرُوْسِيَّةِ، والجِهَادِ، فَهَؤلاءِ المُتَرَاهِنُوْنَ مِنَ المُشَاهِدِيْنَ غَيْرُ مَقْصُوْدِيْنَ بِهَذا التَّشْجِيْعِ، فَكَانَ عَمَلُهم مِنْ قَبِيْلِ القِمَارِ المَحْضِ .
__________
(1) ـ مجلة "اللواء الإسلامي" عدد ( شوال /1406هـ ) .(1/258)
وعَلَيْه كَانَ الرِّهَانُ عَلَى مِثْلِ هَذِه المُسَابَقَاتِ سَبَبًا مِنْ أسْبَابِ الفَسَادِ، وذَلِكَ بِتَعْوِيْدِ النَّفْسِ عَلَى الكَسَلِ، وانْتِظَارِ الرِّزْقِ مِنَ الطُّرُقِ الوَهْمِيَّةِ، فَضْلاً عَمَّا يُوْقِعُه مِنَ العَدَاوَةِ والبَغْضَاءِ بَيْنَ المُتَرَاهِنِيْنَ، مِمَّا جَعَلَ أكْثَرَ أطِبَّاءِ عِلْمِ النَّفْسِ فِي أكْثَرَ مِنْ عَاصِمَةٍ أورُوْبِيَّةٍ يُطَالِبُوْنَ بِضَرُوْرَةِ إلْغَاءِ المُرَاهَنَاتِ عَلَى سِبَاقِ الخَيْلِ، و( كُرَةِ القَدَمِ )، وقَالُوا : إنَّها سَبَبٌ فِي شَحْنِ الخَصْمِ بِدَوَافِعَ عُدْوَانِيَّةٍ تُجَاهَ مُشَجِّعِي الخَصْمِ الآخَرِ؛ حَيْثُ يَرْغَبُ كُلُّ مُشَاهِدٍ فِي فَوْزِ فَرِيْقِهِ؛ حَيْثُ يَفُوْزُ بالرِّهَانِ !
وقَالُوا إنَّ الخَوْفَ عَلَى المَالِ الَّذِي تَمَّ الرِّهَانُ عَلَيْه يُؤَدِّي إلى تَوَتُّرٍ دَائِمٍ للإنْسَانِ، وتَوْلِيْدِ شُحْنَاتٍ عُدْوَانِيَّةٍ، مِمَّا يَدْفَعُ الإنْسَانَ عِنْدَ الخَسَارَةِ إلى لَحْظَةِ يَأسٍ، عِنْدَمَا يَجِدُ أنَّ مَالَه قَدْ ضَاعَ، وبالتَّالِي يُصْبِحُ مَيْسُوْرًا لَدِيْه أنْ يَفْعَلَ كُلَّ شَيْءٍ انْتِقَامًا(1).
* * *
__________
(1) ـ انظر مجلة "المسلمون" في عددها (124) بتاريخ (30 شوال /1407هـ )، و"الفروسية" لابن القيم (371) حاشية (1) لمشهور بن حسن .(1/259)
" ومِنَ الجَدِيْرِ بالذِّكْرِ : أنَّ الأصْلَ فِي حَضِّ الإسْلامِ عَلَى الرِّياضَةِ : هُوَ أنْ يُبَاشِرَها المُسْلِمُ بِنَفْسِه، أو مَعَ غَيْرِهِ، لِتَحْصُلَ لَه القُوَّةُ المُأمُوْرُ بِها، والنَّاظِرُ فِي مُسَابَقَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي أنْحَاءِ البِلادِ المُخْتَلِفَةِ، يُلاحِظُ أنَّ مَا قُلْنَاهُ قَلِيْلٌ مِنْ كَثِيْرٍ، ولَعَلَّ بَعْضَ الأصْوَاتِ الآثِمَةِ فِي بَعْضِ دُوَلِنا الإسْلامِيَّةِ الَّتِي تُطَالِبُ بإدْخَالِ نِظَامِ المُرَاهَنَاتِ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ )، كَحَلٍّ لظَاهِرَةِ الإفْلاسِ المَادِّيِّ للأنْدِيَةِ الرِّياضِيَّةِ ! تَعُوْدُ إلى رُشْدِها، وتَثُوْبَ عَنْ مُطَالَبَتِها . وقَدْ طَالَبَ خُبَرُاءُ التَّرْبِيَةِ الرِّياضِيَّةِ البِرِيْطَانِيُّوْنَ أكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، بِضَرُوْرَةِ العُدُوْلِ عَنْ نِظَامِ المُرَاهَنَاتِ، وإلْغَائِه؛ حَتَّى يُمْكِنَ القَضَاءُ عَلَى إحْدَاثِ الشَّغَبِ، الَّتِي أضْحَتْ سِمَةً ظَاهِرَةً فِي المَلاعِبِ البِرِيْطَانِيَّةِ، ولَمْ تَعُدْ مُبَارَاةٌ وَاحِدَةٌ تَمُرُّ دُوْنَ مُصَابٍ، وإنَّه مَعَ وُجُوْدِ نِظَامِ المُرَاهَنَاتِ يَزُوْلُ المُبْدَأُ الأسَاسِيُّ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْه الرِّياضَةُ، وهُوَ : تَشْجِيْعُ الفَائِزِ، وتَمَنِّي الحَظَّ السَّعِيْدَ للمَهْزُوْمِ فِي مُبَارَاةٍ قَادِمَةٍ، لِيَحُلَّ مَحَلَّه : تَبَادُلُ الشَّتَائِمِ، وقَذْفُ ( الحِجَارَةِ )، و( الكَرَاسِي )، وضَرْبُ حُكَّامِ المُبَارَياتِ، وحَامِلِي الرَّايَاتِ(1).
* * *
__________
(1) ـ انظر "مجلة المسلمون" العدد ( 124 )، بتاريخ (30شوال1407هـ)، و"القول المبين" لمشهور بن حسن (333) .(1/260)
وأخِيْرًا؛ فَلا شَكَّ أنَّ مِثْلَ هَذِه الرِّهَانَاتِ الَّتِي تُقَامُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، أو غَيْرِها مِنَ المُسَابَقَاتِ؛ لا يَخْفَى حُكْمُها عِنْدَ الجَمِيْعِ بأنَّها : حَرَامٌ شَرْعًا، كمَا مَرَّ مَعَنَا آنِفًا، كَمَا لا يَجُوْزُ فِعْلُها، أو التَّعَاوُنُ مَعَها سَوَاءٌ فِي حُضُوْرِها، أو نَشْرِها، أو التَّبَاهِي بِها !
* * *
المَحْظُورُ التَّاسِعُ
كَشْفُ العَوْرَاتُ
قَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيْمِ كُلِّ لِعْبَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ، مِثْلُ : القِمَارِ، والسَّبِّ، والعَدَاوَةِ، والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ … كَمَا اتَّفَقَ جَمْهُوْرُ أهْلِ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيْمِ كَشْفِ العَوْرَاتِ مِنْ أفْخَاذٍ، ونَحْوِها، لِقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " يا جَرْهَدُ غَطِّ فَخِذَكَ، فإنَّ الفَخِذَ عَوْرَةٌ"(1) أبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لِعَليٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : " لا تَكْشِفْ فَخِذَكَ، ولا تَنْظُرْ فَخِذَ حَيٍّ، ولا مَيِّتٍ"(2) أبُو دَاوْدَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :" ذَهَبَ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ الفَخِذَ عَوْرَةٌ اسْتِنَادًا إلى حَدِيْثِ عَلَيٍّ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " " لا تَكْشِفْ فَخِذَكَ، ولا تَنْظُرْ فَخِذَ حَيٍّ، ولا مَيِّتٍ"، فَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ، والرُّكْبَةِ …"(3).
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود (4014)، والترمذي (2779)، وهو صحيح انظر "صحيح الجامع" للألباني (7906) .
(2) ـ أخرجه أبو داود (3140)، وهو صحيح انظر "صحيح الجامع" للألباني (7440) .
(3) ـ نقلاً عن "الضوابط الشرعية" لسعيد بن عبد العظيم (37 ) .(1/261)
وقَالَ أيْضًا ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ : " فَفِيْه تَحْرِيْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، والمَرْأةِ إلى عَوْرَةِ المَرْأةِ، وهَذَا لا خِلافَ فِيْه، وكَذَلِكَ نَظَرُ الرَّجُلِ إلى عَوْرَةِ المَرْأةِ، والمَرْأةِ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ حَرَامٌ بالإجْمَاعِ … وهَذَا التَّحْرِيْمُ فِي حَقِّ غَيْرِ الأزْوَاجِ، والسَّادَةِ … ( ثُمَّ قَالَ ) : وكَذَلِك يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ النَّظَرُ إلى وَجْهِ الأمْرَدِ إذا كَانَ حَسَنَ الصُّوْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ نَظَرُه بِشَهْوَةٍ، أم لا، سَوَاءٌ أمِنَ الفِتْنَةَ، أم خَافَها، هَذَا هُوَ المَذْهَبُ الصَّحِيْحُ المُخْتَارُ عِنْدَ العُلَمَاءِ المُحَقِّقِيْنَ، نَصَّ عَلَيْه الشَّافِعِيُّ، وحُذَّاقُ أصْحَابِه ـ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى ـ، ودَلِيْلُه : أنَّه فِي مَعْنَى المَرْأةِ، فإنَّه يُشْتَهَى كَمَا تُشْتَهَى، وصُوْرَتُه فِي الجَمَالِ كصُوْرَةِ المَرْأةِ؛ بَلْ رُبَّمَا كَانَ كَثِيْرٌ مِنْهم أحْسَنَ صُوْرَةً مِنْ كَثِيْرٍ مِنْ النِّسَاءِ؛ بَلْ هُمْ فِي التَّحْرِيْمِ أوْلَى لِمَعْنًى آخَرَ، وهُوَ يَتَمَكَّنُ فِي حَقَّهِم مِنْ طَرْقِ الشَّرِّ مَا لا يَتَمَكَّنُ مِنْ مِثْلِه فِي حَقِّ المَرْأةِ، واللهُ أعْلَمُ"(1).
* * *
أمَّا النَّظَرُ إلى الشَّابِ الأمْرَدِ، فَقَدْ أجْمَعَ العُلَمَاءُ ـ رَحِمَهُم اللهُ ـ عَلَى تَحْرِيْمِ النَّظَرِ إلى الأمْرَدِ إذَا اقْتَرَنَتِ الشَّهْوَةُ بِهَذِه النَّظْرَةِ . قَالَ الرَّمْلِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ويُحْرُمُ نَظَرُ أمْرَدٍ بِشَهْوَةٍ إجْمَاعًا"(2).
وقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " النَّظَرُ إلى المُرْدَانِ ثَلاثَةُ أقْسَامٍ :
__________
(1) ـ "شرح مسلم" للنووي (4/41-42) .
(2) ـ "نهاية المحتاج في شرح المنهاج" ( 6/188 ) .(1/262)
أحَدُها : مَا تَقْتَرِنُ بِه الشَّهْوَةُ فَهُوَ مُحَرَّمُ بالاتِّفَاقَ …"(1).
* * *
ومَنْ سَبَرَ النَّوَادِيَ الرِّياضِيَّةَ بِعَامَّةٍ؛ عَلِمَ يَقِيْنًا أنَّ وُجُوْدَ المُرْدَانِ، ومُخَنَّثِي اللاعِبِيْنَ فِي هَذِه النَّوَادِي لَيْسَ بالقَلِيْلِ؛ سَوَاءٌ كَانَ وُجُوْدُهم بَيْنَ اللاعِبِيْنَ، أم المُشَجِّعِيْنَ؛ بَلْ أصْبَحَ وُجُوْدُهم ظَاهِرَةً مَكْشُوْفَةً مُسْتَرْذَلَةً هُنَا وهُنَاك !
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ بَعْضَ المَجَلاَّتِ الرِّيَاضِيَّةِ لَمْ تَفْتَأ تَتَكَلَّفْ وَضْعَ صُوَرِ المُرْدَانِ، ومُخَنَّثِي لاعِبِيِّ (كُرَةِ القَدَمِ) عَلَى أغْلِفَتِها، بِشَكْلٍ جَذَّابٍ، مِمَّا يَلْفِتُ النَّظَرَ، ويَجْلِبُ الشَّكَ : مِمَّا كَانَ نَفَقًا خَبِيْثًا لِحَمْلِ صُوْرَتِه بَيْنَ بَعْضِ مُرِيْدَاتِ الرِّياضَةِ !، ومِثْلُ هَذِه الفِعْلَةُ مِنْ هَذِه المَجَلاَّتِ الخَلِيْعَةِ يُعَدُّ حَقًّا دِيَاثَةً مُغلَّفةً باسِمْ : التَّعْرِيْفِ باللاعِبِيْنِ !
* * *
__________
(1) ـ والثَّاني مِنَ الأقْسَامِ الثَّلاثَةِ – كَمَا ذَكَرَه شَيخُ الإسْلامِ – : مَا يُجْزَمُ أنَّه لا شَهْوَةَ مَعَه، كَنَظَرِ الرَّجُلِ الوَرِعِ إلى ابْنِه الحَسَنِ، وابْنَتِه، وأمِّه الحَسَنَةِ، فَهَذا لا يَقْتَرِنُ به شَهْوَةٌ إلاَّ أنْ يَكُوْنَ الرَّجُلُ مِنْ أفْجَرِ النَّاسِ، ومَتَى اقْتَرَنَ بِه الشَّهْوَةُ حَرُمَ . انظر "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة" لابن نتيمية ( 26 ، 27 ) .
وإنَّما وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ العُلَماءِ فِي القِسْمِ الثَّالِثِ مِنَ النَّظَرِ : وهُوَ النَّظَرُ إليه بغَيْرِ شَهْوَةٍ؛ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِها، انْظُر "حاشية ابن عابدين " ( 5/233 ) .(1/263)
وعَلَى مَا ذَكَرْنَاه؛ فلا شكَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) حِيْنَئِذٍ حَرَامٌ؛ لِمَا فِيْها مِنْ كَشْفِ العَوْرَاتِ، وبُدُوِّ أنْصَافِ الفُخُوْذِ، وهَذَا مُشَاهَدٌ فِي لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) حِسًّا، ووَاقِعًا؛ فِي حِيْنَ أنَّ كَثِيْرًا مِنَ اللاعِبِيْنَ قَدْ تَنْكَشِفُ عَوْرَاتُهم المُغَلَّظَةُ حَالَ سُقُوْطِهِم عَلَى الأرْضِ، وذَلِكَ حِيْنَمَا تَتَسَابَقُ (الكَمِيْرَاتُ) الهَالِكَةُ إلى إلْقَاءِ الضَّوْءِ، والتَّصْوِيْرِ عَلَى دَوَاخِلِ عَوْرَةِ اللاعِبِ مِمَّا يَسْتَحِي العَاقِلُ أنْ يَنْظُرَ إلَيْه، فَحَسْبُنا اللهُ، ونِعْمَ الوَكِيْلُ !
* * *
والحَالَةُ هَذِه؛ فَلا نَنْسَى أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ عِنْدَ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِمَّا فَرَضَتْهُ القَوَانِيْنُ الكَافِرَةُ، وهُنَاكَ كَثِيْرٌ مِنْ هَذِه المُحَرَّمَاتِ قَدْ فَرَضَتْها القَوَانِيْنُ الدُّوَلِيَّةُ عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، سَوَاءٌ فِي : كَشْفِ العَوْرَاتِ، أو تَجْسِيْمِها … إلخ .
فَفِي مُسَابَقَاتِ ألْعَابِ القُوَى، والجِمْبَازِ، والسِّبَاحَةِ، والمُصَارَعَةِ يَظْهَرُ المُتَسَابِقُوْنَ بِلِبَاسٍ كَاشِفٍ للعَوْرَةِ، ومُجَسِّمًا لعَوْرَاتِهِم المُغَلَّظَةِ : بِشَكْلٍ مُزْرٍ فَاضِحٍ، أو قُلْ شِبْهَ عَارٍ !
* * *
المَحْظُورُ العَّاشِرُ
نَظُرُ النِّسَاءِ إلى اللاعِبِيْنَ؛ لاسِيَّمَا وأنَّهُم شِبْهُ عُرَاةٍ
أمَّا نَظَرُ المَرْأةِ إلى الرَّجُلِ الأجْنَبِيِّ، فَقَدْ اتِّفَقَ العُلَمَاءُ ـ رَحِمَهُم اللهُ ـ عَلَى تَحْرِيْمِ نَظَرِ المَرْأةِ إلى الرَّجُلِ إذَا كَانَ هَذَا النَّظَرُ مُقْتَرِنًا بالشَّهْوَةِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا نَظَرُ المَرْأةِ إلى وَجْهِ الرَّجُلِ الأجْنَبِيِّ؛ فإنْ كَانَ بِشَهْوَةٍ فَحَرَامٌ بالاتِّفَاقِ"(1).
__________
(1) ـ "شرح مسلم" للنووي ( 6/184 ) .(1/264)
أمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ نَظَرُ المَرْأةِ إلى الرَّجُلِ مُقْتَرِنًا بالشَّهْوَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ فِي جَوَازِه إلى قَوْلَيْنِ:
القَوْلُ الأوَّلُ : الجَوَازُ، وبِه قَالَ الحَنَفِيَّةُ، والمَالِكِيَّةُ، والحَنَابِلَةُ . وجَعَلَه الحَنَفِيَّةُ، والحَنَابِلَةُ مَحْدُوْدًا بالنَّظَرِ إلى مَا سِوَى العَوْرَةِ . وحَدَّه المَالِكِيَّةُ؛ بالوَجْهِ، والأطْرَافِ، وهُوَ مَا يَجُوْزُ للرَّجُلِ أنْ يَنْظُرَه مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِه، وهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الحَنَابِلَةِ(1).
* * *
أمَّا وَقَدْ عَلِمْنا أنَّ أهْلَ العِلْمِ قَدْ حَرَّمُوا نَظَرَ المَرْأةِ إلى الرَّجُلِ الأجْنَبِيِّ فِيْمَا دُوْنَ السُّرَّةِ، والرُّكْبَتَيْنِ؛ إلاَّ أنَّ نَظَرَ المَرْأةِ فِي لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) أثْنَاءَ لِعْبِهِم : يُعْتَبَرٌ مُحَرَّمًا، ودِيَاثةً مَعًا، لأمُوْرِ:
الأوَّلُ : مِنَ المَعْلُوْمِ أنَّ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) لا يَسْتُرُوْنَ أفْخَاذَهِم، وهَذَا فِي ذَاتِه مُحَرَّمٌ، كَمَا أنَّه يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ أنْ يَنْظُرُوْا إلَيْهم وهُمَ عَلَى هَذِه الحَالَةِ؛ فَضْلاً أنْ تَنْظُرَ المَرْأَةُ إلى أفْخَاذِهِم، فالتَّحْرِيْمُ هُنَا مِنْ بَابِ أوْلَى !
الثَّانِي : أنَّ نَظَرَ النِّسَاءِ فِي لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) غَالبًا يَكُوْنُ عَنْ شَهْوَةٍ، لا سِيَّمَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ اللاعِبَ غَالبًا مَا يَتَصَنَّعُ الجَمَالَ : فِي شَعْرِه، ولِبْسِه، وحَرَكاتِه، مَعَ مَا هُنَالِكَ مِنْ ظُهُوْرِ العَوْرَةِ المُغَلَّظَةِ ( السَوْءتَيْنِ )، وذَلِكَ عِنْدَ تَسْلِيْطِ، وتَرْكِيْزِ ( الكامِيْرَا ) عَلَى سَوْءةِ اللاعِبِ أثْنَاءِ سُقُوْطِه !
__________
(1) ـ انظر "المغني" لابن قدامة ( 6/563 )، و"المبسوط" للسرخسي (10/148)، و"الإنصاف" للمرداوي ( 8/25 )، و"كشاف القناع" للبهوتي ( 5/14 ) .(1/265)
الثَّالِثُ : أنَّ نَظَرَ النِّسَاءِ فِي لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) لَيْسَ نَظَرًا عَابِرًا : كَنَظَرِ البَيْعِ، والمُعَامَلَةِ …؛ بَلْ نَظَرَ تَمَعُّنٍ، وتَفَكُّرٍ، ورُبَّما أوْصَلَها حُبُّها للفَرِيْقِ إلى : حُبِّ اللاعِبِ ضَرُوْرَةً؛ وإلاَّ كَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنَ الخَيَالِ، والدَّلِيْلُ عَلَى هَذَا : مَا يَتَنَاقَلُه النِّسَاءُ فِي خَاصَّةِ أنْفُسِهِنَّ، لا سِيَّمَا فِي المُؤسَّسَاتِ التَّعْلِيْمِيَّةِ !، أو عَبْرِ لِقَاءاتِهنَّ المَسْمُوْعَةِ، أو المَرْئِيَّةِ، أو المَكْتُوْبَةِ … ومَنْ ألْقَى سَمْعَه، ولَوْ مَرَّةً عَبْرَ المِذْيَاعِ عَرَفَ حَقِيْقَةَ مَا أقُوْلُ، فَدُوْنَكَ مَا يَقُوْلُه مُذِيْعُ البَرْنَامِجِ ( التِّيْسُ المُسْتَعَارُ ) وهُوَ يُخَاطِبُ الفَتَاةَ : عَنْ لاعِبِها المُفَضَّلِ ( الجَمِيْلِ ! ) ؟، وعَنْ أغْنِيَتِها الَّتِي سَتَهْدِيْها لِهَذا اللاعِبِ ؟!، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الوَقَاحَةِ النَّكِدَةِ، والدِّياثَةِ المُبْتَذَلَةِ(1) .
* * *
المَحْظُورُ الحادِي عَشَرَ
عَدَمُ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، والصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى رَسُوْلِه
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُوْمُوْنَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرُوْنَ اللهَ تَعَالَى فِيْه، إلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيْفَةِ حِمَارٍ، وكَانَ لَهُم حَسْرَةٌ" أبُو دَاوْدَ(2).
__________
(1) ـ سيأتي بعضٌ لِهَذِه المُطَالَبَاتِ النِّسَائِيَّةِ فِي أوْحَالِ الرِّيَاضَةِ عِنْدَ : مَحْظُوْرِ مُشَارَكَةِ النِّسَاءِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، ص ( ).
(2) ـ أخرجه أبو داود ( 4855 )، وهو حديث صحيح، انظر "صحيح أبي داود" (4064)، و"السلسلة الصحيحة" (77) للألباني.(1/266)
وعَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوْا اللهَ تَعَالَى فِيْه، ولَمْ يُصَلُّوْا عَلَى نَبِيِّهِم فِيِه، إلاَّ كَانَ عَلَيْهم تِرَةٌ، فإنَ شَاءَ عَذَّبَهم، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم"(1) التِّرْمِذِيُّ .
وعَنْه عَنِ رَسْوِلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ قَعَدَ مَقْعَدًا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ تَعَالَى فِيْه، كَانَتْ عَلَيْه مِنَ اللهِ تِرَةٌ، ومَنِ اضْطَجَعَ مَضْجَعًا لا يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى فِيْه، كَانَتْ عَلَيْه مِنَ اللهِ تِرَةٌ" أبُو دَاوُدَ(2).
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي (3380 ) وهو حديث صحيح، انظر "صحيح الترمذي" (2691)، و"السلسلة الصحيحة" (74) للألباني.
(2) ـ أخرجه أبو داود ( 4856 )، وهو حديث صحيح، انظر "صحيح أبي داود" (4065) للألباني .(1/267)
قَالَ محمَّدُ بنُ علاَّن صَاحِبُ "دَليلِ الفَالِحِيْنَ" عِنْدَ شَرْحِهِ لِهَذِه الأحَادِيْثِ : " … وذَكَرَ جِيْفَةَ الحِمَارِ زِيَادَةً فِي التَّنْفِيْرِ، وإيْمَاءً إلى أنَّ تَارِكَ الذِّكْرِ فِي المَجْلِسِ بِمَثَابَةِ الحِمَارِ المَضْرُوْبِ بِهِ المَثَلُ فِي البَلادَةِ، إذْ غَفَلَ بِمَا هُوَ فِيْه مِنَ التُّرُّهَاتِ، ولَذَائِذِ المُحَاوَرَاتِ عَنْ ذِكْرِ مَنْ أغْدَقَ لَهُ العَطِيَّاتِ، وتَحَسُّرُه عَلَيْه لِمَا فَاتَه مِنْ أنْفَسِ نَفِيْسٍ؛ وهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي إذَا ذَهَبَ لا يَعُوْدُ أبْدًا، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ العَارِفِ عِوَضٌ، فأذَهَبَه ذَلِكَ الجالِسُ فِي غَيْرِ نَفْعٍ أُخْرَوِيٍّ بِتَرْكِ ذِكْرِ اللهِ فِيْه، فَعَظُمَتْ بِذَلِكَ الحَسْرَةُ واشْتَغَلَتْ بالتَّفْرِيْطِ فِي ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ المَجْلِسِ للعَارِفِ بِمَا ضَاعَ عَلَيْه مِنْ نَفِيْسِ الوَقْتِ، هَذِا إذَا كَانَتْ الحَسْرَةُ فِي الدُّنْيا، ويُحْتَمَلُ أنَّها فِي الآخِرَةِ، ويَأتِي مَا يَدُلُّ لَهُ، والحَسْرَةُ لِفَوَاتِ ثَوَابِ الذِّكْرِ بِمُعَايَنَةِ مَا نَالَهُ غَيْرُه مِمَّنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِي ذَلِكَ"(1).
__________
(1) ـ "دليل الفالحين" لابن علان (5/311) .(1/268)
وكَذَا قَالَ شَيْخُنا العُثَيْمِيْنَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عِنْدَ شَرْحِ هَذِه الأحَادِيْثِ : " هَذِه ثَلاثَةُ أحَادِيثُ فِي بَيَانِ آدَابِ المَجْلِسِ، وكُلُّها تَدُلُّ عَلَى أنَّه يَنْبَغِي للإنْسَانِ إذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أنْ يَغْتَنِمَ ذِكْرَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، والصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ؛ حَيْثُ إنَّها تَدُلُّ عَلَى أنَّه مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيْه، ولَمْ يُصَلُّوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ؛ إلاَّ كَانَ عَلَيْهم مِنَ اللهِ تِرَةٌ، يَعْنِي : قَطِيْعَةً، وخَسَارَةً إنْ شَاءَ عَذَّبَهم، وإنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم"(1).
* * *
أمَّا أهْلُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومَا هُمْ فِيْه مِنْ غَفْلَةٍ، ونِسْيَانٍ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وذِكْرِ رَسُوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ فَحَالٌ لا يُحْسَدُ عَلَيْه، ولا يُحْمَدُ عَلَيْه، فَحَالُ اللاعِبِيْنَ، والمُشَجِّعِيْنَ أثْنَاءَ لِعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، لَهُوَ أكْبَرُ دَلِيْلٍ عَلَى الغَفْلَةِ المَخْذُوْلَةِ؛ لِذَا كَانُوا فِي حَقِيْقَةِ الأمْرِ لَيْسُوا كالقَائِمِ عَنْ مِثْلِ جِيْفَةِ حِمَارٍ؛ بَلْ أكْثَرُهُم عِنْدَ نَهِيْقِهِ، ورَفْسِهِ : كحَمِيْرٍ قَامَتْ عَنْ مِثْلِ جِيْفَةِ حِمَارٍ !
__________
(1) ـ "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (7/390-391 ) .(1/269)
وعَلَى مِثْلِ هَذَا يَقُوْلُ الشَّيْخُ حَسَنُ مَشْهُوْر(1) : " إنَّ فِي لِعْبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) صَدًّا للمُتَفَرِّجِيْنَ، الَّذِيْنَ تَصِلُ أعْدَادُهم إلى مِئَاتِ الألُوْفِ، عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، وهَذَا أمْرٌ مَعْرُوْفٌ عِنْدَ النَّاسِ عَامَّتِهم، وخَاصَّتِهم، وتَعَاطِي مَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ حَرَامٌ .
فَكَمْ سَمِعْنَا عَنْ أُنَاسٍ مِمَّنْ يُتَابِعُوْنَ مُبَارَيَاتِ كَأسِ العَالَمِ، أنَّهم يَسْتَيْقِظُوْنَ فِي النِّصْفِ الأخِيْرِ مِنَ اللَّيْلِ؛ ليُشَاهِدُوا المُبَارَياتِ عَلَى شَاشَةِ ( التِّلْفاَز )، وتَفُوْتُهم صَلاةُ الفَجْرِ ؟! وكَمْ مِنَ المُصَلِّيْنَ فَاتَتْهُم الصَّلاةُ فِي الجَمَاعَاتِ، بِسَبَبِ جُلُوْسِهِم أمَامَ ( الشَّاشَاتِ ) ؟! والأدْهَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّه مَا يَقَعُ فِيْه أولئكَ النَّفَرُ مِمَّنْ يُسَافِرُوْنَ مِنْ قُطُرٍ إلى قُطُرٍ، أو يَتَنَقَّلُوْنَ مِنْ مَدِيْنَةٍ إلى أُخْرَى، لِحُضُوْرِ ( مُبَارَاةٍ )، وقَدْ تَكُوْنُ فِي وَقْتِ ( صَلاةِ الجُمْعَةِ ) !"، فَتَفُوْتُهم صَلاةُ الجُمُعَةِ !
* * *
المَحْظُورُ الثَّاني عَشَرَ
تَرْكُ صَلاةِ الجُمُعَةِ، والجَمَاعَاتِ فِي المَسْجِدِ
أمَّا تَرْكُ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ أكْثَرِ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، لا سِيَّمَا أثْنَاءَ اللَّعِبِ، فأمْرٌ أظْهَرُ مِنْ أنْ يُحْصَرَ، وأشْهَرُ مِنْ أنْ يُنْكَرَ !
__________
(1) ـ "كُرَة القَدَمِ" لمشهور بن حسن (29-30 ) .(1/270)
يُوَضِّحُهُ؛ أنَّكَ لَوْ سَألْتَ أحَدًا مِمَّنْ خَاضَ مُسْتَنْقَعَاتِ المَلاعِبِ أثْنَاءَ اللَّعِبِ، ولَوْ مَرَّةً واحِدَةً لأخْبَرَكَ بِمَا يَنْدَى لَهُ الجَبِيْنُ، ويَشِيْبُ لَه الوِلْدَانُ، وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِه دُوْنَ تَرَدُّدٍ : لَقَدَ رَأيْتُ أبْنَاءَ المُسْلِمِيْنَ قَرِيْبًا مِنْ خَمْسِيْنَ ألْفٍ، أو يَزِيْدُوْنَ(1)، وهُمْ يَتَرَاشَقُوْنَ السِّبَابَ، والعِتَابَ، ويَتَبَادَلُوْنَ العِدَاءَ والبَغْضَاءَ … حَتَّى إذَا حَانَتِ الصَّلاةُ، ونُودِيَ : حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ ( إنْ وُجِدَ ! )، تَرَاهُمْ سُكَارَى، ومَا هُمْ بِسُكَارَى ولَكِنَّ حُبَّ ( كُرَةِ القَدَمِ ) شَدِيْدٌ؛ بَلْ هُمْ فِي خَوْضِهِم يَلْعَبُوْنَ كالَّذِي يتخبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ! … فَلا صَلاةَ حِيْنَئِذٍ، ولا تَأْذِيْنَ؛ اللَّهُمَّ مُكَاءٌ، وتَصْدِيةٌ، وغِنَاءٌ للشَّيَاطِيْنِ !، ورُبَّما كَانَ مِنْ بَيْنِ هَؤُلاءِ المُشَاهِدِيْنَ : الرُّؤسَاءُ، والحُكَّامُ؛ فَعِنْدَهَا لا تَحْزَنْ إذَا قِيْلَ : عَلَى المُسْلِمِيْنَ السَّلامُ !
فَكَمْ، وكَمْ سَمِعَ، ورَأىَ غَيْرُنا مِنْ هَذِه المُوْبِقَاتِ، وتَرْكِ الصَّلَوَاتِ أثْنَاءَ اللَّعِبِ مَا يَدُلُّ قَطْعًا : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) اليَوْمَ أصْبَحَتْ طَاغُوتًا، ومَعْبُودًا خَطِيْرًا، دَبَّ فِي حَيَاةِ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ، واللهُ المُسْتَعانُ عَلَى مَا يَفْعَلُوْنَ، وما يَلْعَبُوْنَ !
* * *
__________
(1) ـ إنَّ أعْدَادَ مُشَاهِدِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي المَلاعِبِ يَخْتَلِفُ مِنْ بَلَدٍ لآخَرَ، فربَّما زَادُوا عَلَى مَائةِ ألْفٍ، أو أكْثَرَ، واللهُ أعْلَمُ .(1/271)
وقَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيْمِ كُلِّ لُعْبَةٍ تَمْنَعُ مِنْ وَاجِبٍ، كأدَاءِ الصَّلاةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " إنَّ الصَّلاةَ كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"[النساء 103]، وقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " العَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا، وبَيْنَهُم الصَّلاةُ؛ فَمْنَ تَرَكَها فَقَدْ كَفَرَ"(1) التِّرْمِذِيُّ .
وهَذَا مَا قرَّره الشَّيْخُ مَشْهُوْرُ بنُ حَسَنٍ فِي كِتَابِه المُسْتَطَابِ "القَوْلِ المُبِيْنِ"(2): جَمْهُوْرُ "الكُرَةِ، الَّذِيْنَ يَصِلُ عَدَدُهم إلى مِئَاتِ الألُوْفِ، يَجْتَمِعُوْنَ فِي وَقْتِ صَلاةِ الجُمُعَةِ فِي المُدَرَّجَاتِ، ويُنَادَي مُنَادِي السَّمَاءِ، ولَكِنْ … أنَّى لَهُم أنْ يَسْتَجِيْبُوا لَه، وقَدْ تَعَطَّلَتْ عُقُوْلُهم، ومَاتَتْ أحَاسِيْسُهم، مُقَابِلَ مَاذَا ؟!، مُقَابِلَ التَّعَصُّبِ المَقِيْتِ للفِرَقِ الرِّياضِيَّةِ المُخْتَلِفَةِ، فَهَذا يُشَجِّعُ فَرِيْقًا، وذَاكَ يُشَجِّعُ فَرِيْقًا آخَرَ؛ بَلْ إنَّ أهْلَ البَيْتِ الوَاحِدِ، يَنْقَسِمُوْنَ عَلَى أنْفُسِهم، هَذَا يَتَّبِعُ فَرِيْقًا، وذَاكَ يَتَّبِعُ فَرِيْقًا آخَرَ، ولَمْ يَقِفْ الأمْرُ عِنْدَ حَدِّ التَّشْجِيْعِ؛ بَلْ تَعَدَّاهُ إلى سُخْرِيَةِ، واسْتِهْزَاءِ اتْبَاعِ الفَرِيْقِ المُنْتَصِرِ مِنْ اتْبَاعِ المُنْهَزِمِيْنَ، وفِي نِهَايَةِ المَطَافِ، يَكُوْنُ هُنَاكَ الشِّجَارُ، والعِرَاكُ الَّذِي يَدُوْرُ بَيْنَ مُشَجِّعِي الفَرِيْقَيْنِ، وسُقُوْطُ الجَرْحَى، والقَتْلَى بالمِئَاتِ مِنْ ضَحَايا ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي (2769)، وهو صحيح، انظر "صحيح الترمذي" للألباني (2113) .
(2) ـ "القول المبين في أخطاء المصلين" لمشهور بن حسن (332-333) .(1/272)
ومُقَابِلُ إشْغَالِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ عَنِ التَّفْكِيْرِ فِي جِهَادِ أعْدَائِها، وقَضَاياها المَصِيْرِيَّةِ الكُبْرَى .
ومُقَابِلُ القَضَاءِ عَلَى مَعَانِي العِزَّةِ، والكَرَامَةِ فِي الأمَّةِ، حَيْثُ بَدَّدَتِ الأمَّةُ أمْوَالاً طَائِلَةً، وأضَاعَتْ أوْقَاتًا طَوِيْلَةً، لَوْ اسْتَغَلَّتَها الأمَّةُ فِي الأعْمَالِ النَّافِعَةِ، والصِّنَاعَاتِ المُفِيْدَةِ لأصْبَحَتِ الأمَّةُ فِي مَقَامِ الدُّوَلِ المُتَقَدِّمَةِ فِي المَجَالاتِ المُخْتَلِفَةِ .
ومُقَابِلُ قَلْبِ المَوَازِيْنِ، حَيْثُ أصْبَحَ البَطَلُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، هُوَ لاعِبَ الكُرَةِ !، لا المُجَاهِدَ المُدَافِعَ عَنْ كَرَامَةِ الأمَّةِ، وعِزَّتِها، بالإضَافَةِ إلى بَذْلِ الأمْوَالِ الضَّخْمَةِ للاعِبِيْنَ، والإسْلامُ لا يُقِرُّ قَلْبَ المَوَازِيْنَ؛ بَلْ يَعْرِفُ لِكُلِّ إنْسَانٍ قِيْمَتَه، بلا إفْرَاطٍ، ولا تَفْرِيْطٍ .
* * *
والخُلاصَةُ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الآنَ، أصْبَحَتْ مِنَ المَعَاوِلِ الهَدَّامَةِ الَّتِي اسْتَخْدَمَها أعْدَاءُ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وشَجَّعُوا عَلَيْها، ومِمَّا يُؤكِّدُ ذَلِكَ؛ مَا جَاءَ فِي ( بُرُوتُوكُولاتِ حُكَمَاءِ صِهْيَونِ ) : " … ولِكَيْ تَبْقَى الجَمَاهِيْرُ فِي ضَلالٍ، لا تَدْرِي مَا وَرَاءها، ومَا أمَامَها، ولا مَا يُرَادُ مِنْها، فإنَّنا سَنَعْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ صَرْفِ أذْهَانِها، بإنْشَاءِ وَسَائِلِ المَبَاهِجِ، والمُسَلِّيَاتِ، والألْعَابِ الفَكِهَةِ، وضُرُوْبِ أشْكَالِ الرِّياضَةِ واللَّهْوِ … ثُمَّ نَجْعَلُ الصُّحُفَ تَدْعُو إلى مُبَارَيَاتٍ فَنِّيَّةٍ، ورِيَاضِيَّةٍ …"(1).
* * *
__________
(1) ـ أنظر "بروتوكولات حكماء صهيون" ( 1/258 ) .(1/273)
ومَا أجْدَرَ هَؤلاءِ المُضَيِّعِيْنَ لِهَذِه الشَّعِيْرَةِ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ بالضَّرْبِ، والزَّجْرِ، ورَحِمَ اللهُ ابنَ الأخُوَّةِ القُرَشِيَّ فإنَّه قَالَ فِي حَقِّ تَارِكِ صَلاةِ الجُمُعَةِ : " فَمْنَ شُغِلَ عَنْها بِتَثْمِيْرِ مَكْسَبِهِ، أو لَهَا عَنْها بالإقْبَالِ عَلَى لَهْوٍ، ولِعْبِه، فَحَدُّه بالآلَةِ العُمَرِيَّةِ، الَّتِي تَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ، وتُذِيْقُه وَبَالَ أمْرِهِ، ولا يَمْنَعَكَ مِنْ ذِيْ شَيْبَةٍ شَيْبِتُه، ولا مِنْ ذِي هَيْئَةٍ هَيْئَتُه، فإنَّما هَلَكَ الَّذِيْنَ قَبْلَكُم أنَّهُم كَانُوا إذَا سَرَقَ فَيْهِم الشَّرِيْفُ تَرَكُوْه، وإذَا سَرَقَ فِيْهِم الضَّعِيْفُ أقَامُوا عَلَيْه الحَدَّ"(1).
قُلْتُ : رَحِمَكَ اللهُ يا ابنَ الأُخُوَّةِ!، يَوْمَ رَجَوْتَ قِيَامَ الحَدِّ عَلَى الشَّرِيْفِ إسْوَةً بالضَّعِيْفِ، عِنْدَمَا كَانَتْ تُقَامُ الحُدُوْدُ !، لَكِنْ مَا الَّذِي نَرْجُوْهُ نَحْنُ اليَوْمَ إذَا عُطِّلَتِ الحُدُوْدُ فِي أكْثَرِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ ؟!
* * *
المَحْظُورُ الثَّالثُ عَشَرَ
هَدْرُ الأمْوَالِ، وضَيَاعُها
__________
(1) ـ "معالم القُرْبَة في أحكام الحسبة" لابن الأخوة ( 265 ) .(1/274)
إنَّ قَضِيَّةَ هَدْرِ الأمْوَالِ، لَمْ تَعُدْ مِنَ الخَفَاءِ بِمَكَانٍ، فَعُشَّاقُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) سَوَاءٌ كانوا إدَارِيِّيْنَ، أو أفْرَادًا، أو حُكُوْمَاتٍ، أو مُؤَسَّسَاتٍ : لَمْ تَعُدْ عِنْدَهُم هَدْرُ الأمْوَالِ جِنَايَةً، وضَيَاعًا يُحَاسَبُوْنَ عَلَيْها شَرْعًا، أو نِظَامًا !؛ بَلْ للأسَفِ غَدَتْ مَسَألَةُ هَدْرِ الأمْوَالِ مِنْ مُمَيِّزَاتِ الرِّياضَةِ، ومِنْ مَكْرُمَاتِ الأجْوادِ الَّتِي لأجْلِها يَتَنَافَسُ عُشَّاقُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بدَفْعِ الأمْوَالِ الطَّائِلَةِ … كَمَا تَتَنَاقَلُه القَنَوَاتُ الإعْلامِيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ مَا بَيْنَ : صَحَافَةٍ، أو مَجَلَّةٍ، أو لِقَاءٍ مَرْئِيٍ !
* * *
قَالَ تَعَالَى : " … وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنَّه لا يحب المسرفين"[الأعراف 31]. وقَالَ تَعَالَى : " … ولا تبذر تبذيرًا إنَّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربِّه كفُورًا"[الإسراء27] .
قَالَ ابنُ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وقَوْلُه تَعَالَى " إنَّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين" أيْ : فِي التَّبْذِيْرِ، والسَّفَهِ، وتَرْكِ طَاعَةِ اللهِ، وارْتِكَابِ مَعْصِيَتِه؛ ولِهَذا قَالَ "وكَانَ الشَّيطان لربِّه كفُورًا" أيْ : جُحُوْدًا؛ لأنَّه أنْكَرَ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْه، ولَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَتِه؛ بَلْ أقْبَلَ عَلَى مَعْصِيَتِه، ومُخَالَفَتِه"(1).
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُوْا، واشْرَبُوْا، وتَصَدَّقُوْا، والْبَسُوْا، مَا لَمْ يُخَالِطْهُ؛ إسْرَافٌ، أو مَخِيْلَةٌ"(2) أحْمَدُ، وابنُ مَاجَه، والآياَتُ، والأحَادِيْثُ فِي تَحْرِيْمِ التَّبْذِيْرِ، والإسْرَافِ كَثِيْرَةٌ جِدًّا، نَكْتَفِي بِمَا ذَكْرَنَاه .
* * *
__________
(1) ـ "تفسير ابن كثير" (5/69) .
(2) ـ أخرجه أحمد (2/181-182 )، وابن ماجه ( 3605 )، وهو صحيح، انظر "صحيح ابن ماجه" للألباني (2904) .(1/275)
ومِنْ ذَلِكَ امْتِصَاصُ أمْوَالِ البِلادِ مِنْ : نَفَقَاتِ تَجْهِيْزِ المَلاعِبِ، ودَعْمِ النَّوَادِي، وأدَاءِ تَكَالِيْفِ إقَامَةِ المُبَارَيَاتِ، وإصْلاحِ الأضْرَارِ المَادِيَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ المَرَافِقَ العُمُوْمِيَّةَ، ومِنْ ذَلِكَ التَجْهِيْزَاتُ الأمْنِيَّةُ الَّتِي تَبْذُلُها الدَّوْلَةُ جَرَّاءَ الجَمَاهِيْرِ : مِنْ غَوْغَاءَ، وفَوْضَى، وتَخْرِيْبٍ، ومُطَارَدَاتٍ، ومَسِيْرَاتٍ جَمَاعِيَّةٍ …إلخ، مِمَّا يُشَكِّلُ عِبْئًا كَبِيْرًا عَلَى مِيْزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ .
والمُؤْسِفُ حَقًّا، أنْ تَتَصَدَّرَ بَعْضُ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ قَائِمَةَ الدُّوَلِ الَّتِي تَرْصُدُ لِهَذِه الرِّيَاضَةِ قَدْرًا كَبِيْرًا مِنْ مِيْزَانِيَّتِها !
* * *
ولازِلْنَا نَذْكُرُ اسْتِضَافَةَ النَّادِي الأهْلِي ( السُّعُودِيِّ ) لِلاَّعِبِ الأرْجَنْتِيْنِي "مَارَدُونا" بِمَبْلَغٍ خَيَالِيٍّ؛ مُقَابِلَ إنْ يَلْعَبَ مُبَارَاةً وَاحِدَةً، مَعَ مَا انْهَالَتْ عَلَيْه مِنْ مَنَائِحِ الكَرَمِ مِنَ تُجَّارِ أهْلِ الجَزِيْرَةِ، لِهَذَا اللاعِبِ الكَافِرِ، فِي حِيْنَ كَانَ يُرَافِقُهُ فِي زِيَارَتِه زَوْجَتُه ( عَشِيْقَتُه )، وابْنَتُه ( الدَّعِيَّة ) !
كَمَا غَدَتْ ظَاهِرَةُ اسْتِجْلابِ المُدَرِّبِيْنَ، واللاعِبِيْنَ الأجَانِبِ فِي كَثِيْرٍ مِنَ الدُّوَلِ العَرَبِيَّةِ، والإسْلامِيَّةِ عَادَةً مُحْكَمَةً، وما تَتَطَلَّبُ مِنْ مَبَالِغَ مَالِيَّةٍ هَائِلَةٍ قَدْ تَصِلُ فِي مَجْمُوعِها إلى مِيْزَانِيَّةِ بَعْضِ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ الفَقِيْرَةِ، نَاهِيْكَ أنَّهَا لَوْ صُرِفَتْ عَلَى مُسْتَحِقِّيْها مِنَ الفُقَرَاءِ، والمُعْوَزِيْنَ الَّذِيْنَ يَقْطُنُوْنَ فِي نَفْسِ البِلادِ الجَالِبَةِ لَكَفَتْهُم، ورُبَّمَا زَادَتْ عَنْ حَاجَاتِهم، فإلى اللهِ المُشْتَكَى !
* * *(1/276)
ومِنَ السَّلْبِيَّاتِ كَذَلِكَ : القُدْوَةُ السَّيِّئَةُ بالنِّسْبَةِ للنَّشْءِ المُسْلِمِ، فباسْتِجْلابِ هَؤُلاءِ الكُفَّارِ الفَجَرَةِ إلى دِيَارِ المُسْلِمِيْنَ بِعَادَاتِهم، وحَرَكَاتِهم الخَبِيْثَةِ، واهْتِمَامِ أجْهِزَةِ الإعْلامِ بِهِم، ونَعْتِهِم بالأبْطَالِ، يَتَأَثَّرُ ذَلِكَ النَّشْءُ، ويَرْسَخُ فِي ذِهْنِه تَعْرِيْفٌ مُشَوَّهٌ عَنِ البُطُوْلَةِ والأبْطَالِ، فاليَوْمَ عِنْدَما تَسْألُ طِفْلاً : مَاذَا يَتَمَنَّى أنْ يَكُوْنَ عِنْدَمَا يَكْبُرَ ؟، لَقَالَ لَكَ شَامِخًا بأنْفِهِ : أُرِيْدُ أنْ أكُوْنَ كاللاعِبِ الفُلانِي !
وقَدْ تَرَاهُ يُقَلِّدُ حَرَكَاتِه الكُفْرِيَّةَ دُوْنَ أنْ يَدْرِي عَنْ مَدْلُولِها شَيْئًا : كرَسْمِ الصَّلِيْبِ عَلَى الصَّدْرِ عِنْدَ الفَرْحَةِ بِتَسْجِيْلِ هَدَفٍ مَثَلاً … فَيَا للعَجَبِ !
وإلى حِيْنَ كِتَابَةِ هَذِه السُّطُوْرِ فَاقَ كَرَمُ إحْدَى دُوَلِ شَمَالِ أفْرِيْقِيا العَرَبِيَّةِ حُدُوْدَ العَقْلِ والوَاقِعِ، تُجَاه مُدَرِّبِ فَرِيْقِها الوَطَنِيِّ الَّذِي يَتَقَاضَى شَهْرِيًا مَا قِيْمَتُه ( 25 ) مَلْيُوْنَ سَنْتِيم، أيْ : مَا يُعَادِلُ الرَّاتِبِ الشَّهْرِي لِخَمْسِيْنَ أُسْتَاذًا مُسَاعِدًا بالتَّعْلِيْمِ العَالِي .
وأدْهَى مِنْ ذَلِكَ، وأنْكَى أنَّ نَادِيَ الاتِّحَادِ ( السُّعُوْدِيِّ ) قَدِ اسْتَعَانَ بِمُدَرِّبٍ نَصْرَانِيِّ صِرْبِيٍّ ! بِمُرَتَّبٍ كَبِيْرٍ، والمُسْلِمُوْنَ بَعْدُ فِي البُوْسْنَةِ، والهِرْسِكِ يُذَبَّحُوْنَ ذَبْحَ الخِرَافِ، وبِطَرِيْقَةٍ بَشِعَةٍ لَمْ يَشْهَدِ التَّارِيْخُ مِثْلَهَا(1)!
__________
(1) ـ انظر "قضايا اللهو" لمادون بن رشيد (330-332) .(1/277)
وكَذَا؛ انْتِقَالُ اللاعِبِ ( م . ع ) مِنْ فَرِيْقِ الشَّبَابِ ( السُّعُوْدِيِّ ) إلى فَرِيْقِ الاتَّحَادِ ( السُّعُوْدِيِّ) لِقَاءَ مَبْلَغِ : ( ثَمَانِيَةِ مَلايِيْنَ رِيَالٍ سُعُوْدِيٍّ ) (1).
وكَذَا؛ انْتِقَالُ اللاعِبِ المِصْرِيِّ ( س . ك ) إلى نَادِي الاتِّفَاقِ ( السُّعُوْدِيِّ ) لِقَاءَ : ( خَمْسَةٍ وخَمْسِيْنَ ألْفِ دُوْلارٍ )، ورَاتِبٍ شَهْرِيٍّ مِقْدَارُه ( خَمْسَةُ آلافِ دُوْلارٍ ) (2)!، هَذَا إذَا عَلِمْنَا سَالِفًا أنَّ أمْثَالَ هَذِه العُقُوْدِ المَالِيَّةِ تُعْتَبَرُ فِي أوْسَاطِ أدْعِيَاءِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أمْرًا لا ضَيْرَ فِيْه، ولا غَضَاضَةَ !
* * *
فَكَانَ مِنَ مَفَاسِدِ الأمْوَالِ الطَائِلَةِ الَّتِي تُنْفَقُ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، أو نَفْعٍ للمُسْلِمِيْنَ، مَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
1ـ مَا يُنْفَقُ عَلَى هَذِه النَّوَادِي مِنْ مَبَالِغَ تَتَجَاوَزُ المَلايِيْنَ، والمُسْلِمُوْنَ فِي أمَسِّ الحاجَةِ إلَيْها .
2ـ مَا يُقَدِّمُه الأغْنِيَاءُ، والمُوْسِرُوْنَ ـ عَنْ طَيْبِ نَفْسٍ ! ـ مِنْ سَيَّارَاتٍ فَاخِرَةٍ، وعَقَارَاتٍ سَكَنِيَّةٍ، ونَحْوِ ذَلِكَ للاعِبِيْنَ، كَمَا أنَّهُم فِي الوَقْتِ نَفْسِه يَتَخَاذَلُوْنَ عَنْ مَدِّ يَدِ العَوْنِ لفَقِيْرٍ، أو مُحْتَاجٍ .
__________
(1) ـ انظر مجلة "الوطن الرياضي" القاهرة ص ( 13 ) .
(2) ـ انظر صحيفة "الرأي" عمان، ص ( 52 ) .(1/278)
3ـ صُدُوْرُ المَجَلاَّتٍ، والصُّحُفِ المُتَخَصِّصَةِ للرِّياضَةِ، والرِّياضِيِّيْنَ؛ حَيْثُ تُنْفَقُ عَلَيْها المَلايِيْنَ لَمُجَرَّدِ مَعْرِفَةِ أخْبَارِ اللاعِبِيْنَ، مَعَ مَا فِيْها : مِنْ دَعَوَاتٍ جَاهِلِيَّةٍ، ونَعَرَاتٍ عَصَبِيَّةٍ، وإثَارَاتٍ عَدَائِيَّةٍ، وخَطَرَاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُغَالَطَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
4ـ تَخْصِيْصُ المَسَاحَاتِ الشَّاسِعَةِ مِنْ أرَاضِي المُسْلِمِيْنَ لإقَامَةِ مِثْلِ هَذِه النَّوَادِي، والمُبَارَيَاتِ، والضَّنُّ بِذَلِكَ عَلَى مَا تَحْتَاجُه أمَاكِنُ التَّعْلِيْمِ من مَدَارِسَ، وجَامِعَاتٍ؛ ومِثْلُ هَذَا مَلْمُوْسٌ فِي بِلادِنَا مِنْ قِلَّةِ الجَامِعَاتِ، والكُلِّيَاتِ، ومَدَارِسِ تَحْفِيْظِ القُرْآنِ .
وإنَّ افْتِتَاحَ أوَّلِ مُجَمَّعٍ أولُمْبِيِّ فِي بِلادِ مِصْرَ المُسْلِمَةِ اسْتَمَرَّ بِنَاؤُه ثَلاثَ سَنَوَاتٍ، وتَكَلَّفَ (30) مَلْيُوْنَ جِنِيْةٍ؛ لَيْسَ بِبَعِيْدٍ عَنَّا !
5 – مَا تُكَلِّفُه نَقْلُ المُبَارَيَاتِ مِنْ دَوْلَةٍ لأخْرَى عَبْرَ الأقْمَارِ الصِّنَاعِيَّةِ مِنْ مَلايِيْنَ الدُّوْلارَاتِ، وبالعُمْلَةِ الصَّعْبَةِ ما يَعْلَمُهُ الجَمِيْعُ(1).
* * *
لا شَكَّ أنَّ الأمْوَالَ الَّتِي تُصْرَفُ لِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) غَالبًا تَخْرُجُ مِنْ وُلاةِ أمْرِ المُسْلِمِيْنَ، لِذَا كَانَ الكَلامُ هُنا عَنْ وَاجِبَاتِ وَلِيِّ الأمْرِ مُتَعَيِّنٌ، ومَطْلُوْبٌ، نُصْحًا لَهُم، ولِعَامَّةِ المُسْلِمِيْنَ .
إلاَّ أنَّ الكَلامَ عَنْ وَاجِبَاتِ وَلِيِّ الأمْرِ مِمَّا سَيَطُوْلُ بِنَا مِمَّا سَيُخْرِجُنَا عَنْ شَرْطِ كِتَابِنَا؛ لِذَا التْزَمْنَا الاخْتِصَارَ، والإيْجَازَ، فَتَأمَّلْ .
__________
(1) ـ انظر "بغية المشتاق" لحمدي شلبي (102-103) .(1/279)
وحَيْثُ إنَّ الإمَامَ هُوَ النَّائِبُ، أو الوَكِيْلُ عَنِ الأمَّةِ فِي تَحْقِيْقِ المَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ، وقَدْ أعْطَتْهُ زِمَامَ السُّلْطَةِ للسَّيْرِ بِها إلى تَحْقِيْقِ هَذِه المَقَاصِدِ عِنْدَ بِيْعَتِها لَهُ، لِذَلِك كَانَ عَلَيْه مِنَ الوَاجِبَاتِ مَا لَيْسَ عَلَى غَيْرِه؛ ولأنَّ مَنَاطَ الوُجُوْبِ فِيْها هُوَ القُدْرَةُ، وقَدْ حَصَلَتْ لَه بَعْدَ مُبَايَعَتِهم لَهُ، فَلَزِمَهُ القِيَامُ بِهَذا الوَاجِبِ الثَّقِيْلِ(1) .
وبِمَا أنَّه لا يَسْتَطِيْعُ وَحْدَه القِيَامُ بِتَحْقِيْقِ هَذِه المَقَاصِدِ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ القُوَّةِ، والذَّكَاءِ، والفِطْنَةِ، لِذَلِكَ أوْجَبَ الإسْلامُ عَلَى المَحْكُوْمِيْنَ أيْضًا وَاجِبَاتٍ، وحُقُوْقًا للإمَامِ مُقَابِلَ تِلْكَ الوَاجِبَاتِ المُلْقَاةِ عَلَى عَاتِقِه، وعَنْ طَرِيْقِ هَذِه الحُقُوْقِ تَكْمُلُ لَه القُدْرَةُ فِي القِيَامِ بِمَا أوْجَبَه اللهُ عَلَيْه مِنْ تَحْقِيْقٍ لِهَذِه المَقَاصِدِ(2).
ومِنْ أهَمِّ هَذِه الوَاجِبَاتِ المُنَاطَةِ بَوَلِيِّ الأمرِ مَا يَلِي :
أوَّلاً : وَاجِبَاتٌ أسَاسِيَّةٌ :
__________
(1) ـ عَلَى خِلافٍ بَيْنَ الفُقَهاءِ : هَل هُوَ وَلِيٌّ، أو وَكِيْلٌ ؟، انظر "القواعد" لابن رجب ص (116) .
(2) ـ انظر "الإمَامَةَ العُظْمَى" للشيْخِ عبدِ اللهِ الدِّمِيْجِي ص (333-334)، وعَلَيْه اعْتَمَدْتُ فِي مَبَاحِثِ هَذا المَحْظُورِ، ويُعَدُّ هَذَا الكتابُ مِنْ أجْمَعِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي دَرَسَتْ، وبَحَثَتْ قَضِيَّةَ الإمَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وهُوَ جَدِيْرٌ بالقِرَاءةِ؛ لاسِيَّما أنَّ الأمَّةَ الإسْلامِيَّةَ تَعِيْشُ هذِه الأيَّامِ حَيَاةً مُضْطَرِبَةً، ودُوَيْلاتٍ مُخْتَلِفَةً !(1/280)
ومِنْ ذَلِكَ السَّعْيُ إلى تَحْقِيْقِ مَقَاصِدِ الإمَامَةِ الَّتِي مِنْ أجْلِها شُرِعَتْ، وهِي بِعِبارَةٍ مُخْتَصَرَةٍ : "إقَامَةُ الدِّيْنِ، وسِيَاسَةُ الدُّنْيِا بِهِ"، وذَلِكَ أيْضًا مِنْ خِلالِ مَقْصَدَيْنِ مُهِمَّيْنِ .
المَقْصَدُ الأوَّلُ : إقَامَةُ الدِّيْنِ : وتَتَمَثَّلُ فِي : حِفْظِهِ، وتَنْفِيْذِهِ .
أوَّلاً : حِفْظُه، وذَلِكَ بِمَا يَلِي:
1ـ نَشْرُهُ، والدَّعْوَةُ إلَيْه : بالقَلَمِ، واللِّسَانِ، والسِّنَانِ .
2ـ دَفْعُ الشُّبَهِ، والأبَاطِيْلِ، ومُحَارَبَتُها .
3ـ حِمَايَةُ البَيْضَةِ، وتَحْصِيْنُ الثُّغُوْرِ حَتَّى يَكُوْنَ المُسْلِمُوْنَ فِي أمْنٍ عَلَى دِيْنِهم، وأنْفُسِهم، وأمْوَالِهم، وأعْرَاضِهم .
ثانِيًا: تَنْفِيْذُه، وذَلِكَ بِمَا يَلِي :
1ـ إقَامَةُ شَرَائِعِه، وحُدُوْدِهِ، وتَنْفِيْذُ أحْكَامِهِ : وذَلِكَ يَشْمَلُ جِبَايَةَ الزَّكَاةِ، وتَقْسِيْمَ الفَيءِ، وتَنْظِيْمَ الجُيُوْشِ المُجَاهِدَةِ؛ لأجْلِ رَفْعِ رَايَةِ الإسْلامِ، وإقَامَةَ قُضَاةِ الشَّرْعِ للحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أنْزَلَ اللهُ، وتَنْفِيذَ هَذِه الأحْكَامِ، والحُدُوْدِ الَّتِي شَرَعَها اللهُ لعِبَادِهِ … إلخ .
2ـ حَمْلُ النَّاسِ عَلَيِه بالتَّرْغِيْبِ، و التَّرْهِيْبِ .
المَقْصَدُ الثَّانِي: سِيَاسَةُ الدُّنْيَا بِهَذَا الدِّيْنِ : وهُوَ الحُكْمُ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فِي جَمِيْعِ شُؤوْنِ هَذِه الحَيَاةِ، ويَنْتُجُ عَنْ هَذَا المَقْصَدِ بَعْضُ المَقَاصِدِ الفَرْعِيَّةِ مِنْها : العَدْلُ، ورَفْعُ الظُّلْمِ، وجَمْعُ الكَلِمَةِ، وعَدَمُ الفُرْقَةِ، والقِيَامُ بِعِمَارَةِ الأرْضِ، واسْتِغْلالُ خَيْرَاتِها فِيْمَا هُوَ صَالِحٌ للإسْلامِ، والمُسْلِمِيْنَ .(1/281)
ومِنْ وَاجِبَاتِ الإمَامِ أيْضًا : اسْتِيفَاءُ الحُقُوْقِ المَالِيَّةِ، أو المَوَارِدِ، أو كَمَا يَقُوْلُ القَاضِي أبو يَعْلَى : " جِبَايَةُ الفَيْءِ، والصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أوْجَبَه الشَّرْعُ نَصًّا، واجْتِهَادًا مِنْ غَيْرِ عَسْفٍ"(1)، وكَذَلِكَ المَصْرُوْفَاتِ، والنَّفَقَاتِ، والعَطَاءاتِ، وعَلَى حَدِّ قَوْلِ أبي يَعْلَى : " تَقْدِيْرُ العَطَاءِ، وما يَسْتَحِقُّ مِنْ بَيْتِ المَالِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، ولا تَقْصِيْرٍ، ودَفْعُه فِي وَقْتٍ لا تَقْدِيْمَ فِيْه، ولا تأخِيْرٍ".
ومِنَ الوَاجِبِ أيْضًا عَلَى الإمَامِ عِنْدَ صَرْفِ الأمْوَالِ أنْ يَبْتَدِئ فِي القِسْمَةِ بالأهَمِّ فالأهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ المُسْلِمِيْنَ : كَعَطَاءِ مَنْ يَحَصُلُ للمُسْلِمِيْنَ مِنْهُم مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ، أو المُحْتَاجِيْنَ : كالمُقَاتِلَةِ، والقُضَاةِ، والعُلَمَاءِ، والسُّعَاةِ، والفُقَهَاءِ، وعِمَارَةِ مَا يُحْتَاجُ إلى عِمَارَتِه مِنْ طُرُقَاتِ النَّاسِ كالجُسُوْرِ، والقَنَاطِرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ(2).
قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وهَذَا النَّوْعُ مِنَ العَطَاءِ وإنْ كَانَ ظَاهِرُه إعْطَاءَ الرُّؤسَاءِ، وتَرْكَ الضُّعَفَاءِ كَمَا يَفْعَلُ المُلُوْكُ فالأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، فإذا كَانَ القَصْدُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الدِّيْنِ، وأهْلِهِ، كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وخُلَفَائِهِ، وإنْ كَانَ المَقْصُوْدُ العُلُوَّ فِي الأرْضِ، والفَسَادَ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ فِرْعَوْنَ"(3).
* * *
__________
(1) ـ "الأحكام السلطانية" للماوردي ص ( 28 ) .
(2) ـ انظر "الإمامة العظمى" للدميجي (335-337)، (357-359) بتصرف .
(3) ـ "السياسة الشرعية" لابن تيمية ص ( 55 ) .(1/282)
ومِنْ خِلالِ مَا مَضَى كَانَ عَلَى وَلِيِّ أمْرِ المُسْلِمِيْنَ أنْ تَتَقَيَّدَ تَصَرُّفَاتُه المَالِيَّةُ ( أخْذًا، وعَطَاءً ) عَلَى ضَوْءِ الشَّرْعِ؛ كَمَا تُمْلِيْه المَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ لا الهَوَى، والتَّشَهِي، فَضْلاً أنْ تَكُوْنَ تَصَرُّفَاتُهُ سَبِيْلاً للفَسَادِ، والمَعْصِيَةِ !
كَمَا لا يَجُوْزُ لِوَلِيِّ الأمْرِ أنْ يُنْفِقَ مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِيْنَ لِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، أو مَصْلَحَةٍ مُعْتَبَرَةٍ تُقَدِّرُها الحَاجَةُ، أو الضَّرُوْرَةُ العَامَّةُ .
وعَلَى هَذَا لا يَجُوْزُ شَرْعًا لأحَدٍ ـ كَائِنًا مَنْ كَانَ ـ سَوَاءٌ كَانَ وَلِيَّ الأمْرِ، أو نائِبَهُ ـ أنْ يُصْرِفَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِيْنَ لِـ( كُرَةِ القَدَمِ )، سَوَاءٌ كَانَ للمَلاعِبِ، أو اللاعِبِيْنَ؛ فَضْلاً أنْ تُنْفَقَ مَلايِيْنَ الرِّيالاتِ، وتُوْضَعَ مِيْزَانِيَّاتٌ خَاصَّةٌ للرِّيَاضَةِ، إنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ غِشًّا، وتَعَدٍّ فِي حَقِّ مَالِ المُسْلِمِيْنَ ! وهَذَا النَّهْيُ لَيْسَ خَاصًّا بِـ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ بَلْ يَتَعَدَّاهُ لِكُلِّ لِعْبَةٍ لَيْسَ مِنْ شَأنِها الإعِانَةُ عَلَى الجِهَادِ الإسْلامِيِّ : كَلِعْبَةِ التِّنِسِ، وكُرَةِ اليَدِ، والطَّائِرَةِ، والسَّلَّةِ … إلخ .
* * *
المَحْظُورُ الرَّابِعُ عَشَرَ
قَتْلُ الأوْقَاتِ، وضَيَاعُها(1/283)
إنَّ وَقْتَ الفَرَاغِ باتِّسَاعِه الخَطِيْرِ، الَّذِي أفْرَزَتْه الحَضَارَةُ المُعَاصِرَةُ، ووَسَّعَتْ مِنْ حُدُوْدِه كُلَّ يَوْمٍ، أصْبَحَ خَطَرًا كَبِيْرًا، وعِبْئًا عَلَى حَرَكَةِ المُجْتَمَعِ الإسْلامِيِّ، ومَنْفَذًا لإهْدَارِ الكَثِيْرِ مِنَ المَجْهُوْدَاتِ البِنَائِيَّةِ لنَهْضَةِ الأمَّةِ؛ بَلْ إنَّ غِيَابَ الضَّبْطِ، والتَّحْلِيْلِ، والتَّرْشِيْدِ للظَّاهِرَةِ الحَضَارِيَّةِ الجَدِيْدَةِ : ( وَقْتِ الفَرَاغِ ) يُمَثِّلُ دَلِيْلاً عَلَى وُجُوْدِ خَرْقٍ فِي المَشْرُوْعِ الحَضَارِيِّ تُؤْتَى الأمَّةُ مِنْ قِبَلِه(1).
__________
(1) ـ انظر "إشْكَالِيَّةَ وَقْتِ الفَرَاغِ" لجمال سلطان، مجلة "المسلم المعاصر" عدد (55) ص ( 14 ) .(1/284)
وفِي بَيَانِ عُمْقِ مُشْكِلَةِ الفَرَاغِ، وخُطُوْرَتِه يَقُوْلُ الأسْتَاذُ مُحَمَّدُ قُطُبٍ : " إنَّ شُغْلَ أوْقَاتِ الفَرَاغِ لَهُو مُشْكِلَةٌ مِنَ أسْوأ المَشَاكِلِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وفِي جَاهِلِيَّةِ القَرْنِ العِشْرِيْنَ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، ومَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ، والمُخَدَّرَاتُ، و"حَانَاتُ" الرَّقْصِ، والمُجُوْنِ، وانْحِرَافُ الشَّبَابِ، وجُنُوْحُه إلى الجَرِيْمَةِ، وإلى الشُّذُوْذِ ... إلخ، مَا كُلُّ ذَلِكَ إلاَّ صَدًى لِمُشْكِلَةِ الوَقْتِ الفَائِضِ الَّذِي لا يَعْرِفُوْنَ لَه مُتَصَرَّفًا إلاَّ هَذَا السُّوْءِ ! ... والفَرَاغُ فِي الجَاهِلِيَّةِ الحَدِيْثَةِ لَيْسَ فِي حَقِيْقَتِه فَرَاغَ الوَقْتِ؛ ولَكِنَّه فَرَاغُ النَّفْسِ، فَرَاغُ القَلْبِ، فَرَاغُ الرُّوْحِ، فَرَاغُ القِيَمِ، والمَبَادِئ العُلْيَا، فَرَاغُ الأهْدَافِ الجَادَّةِ الَّتِي تَشْغَلُ الإنْسَانِ حِيْنَ يَكُوْنَ عَلَى صُوْرَتِه الرَّبَّانِيَّةِ "في أحْسَنِ تَقْوِيٍمٍ"، فَرَاغَ العَمَلِ عَلَى إقَامَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ فِي الأرْضِ، بِكُلِّ مَا تَشْمَلُه مِنْ جُهْدٍ …"(1).
* * *
لِذَا حَرِصَ الإسْلامُ عَلَى تَنْظِيْمِ الوَقْتِ الَّذِي هُوَ حَيَاتُنا الدُّنْيا؛ فَقَدْ جَعَلَ جُزْءً مِنْه للعَمَلِ، وجُزْءً للعِبَادَةِ، وجُزْءً للمَصَالِحِ العَامَّةِ، كَمَا جَعَلَ جُزْءً آخَرَ للرَّاحَةِ؛ فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : " وجَعَلْنَا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا"[النبأ10-11] .
__________
(1) ـ انظر "مَنْهَجَ التَّرْبِيَةِ الإسْلامِيَّةِ" لمحمد قطب ( 2/159 ) .(1/285)
وقَالَ تَعَالَى : " والعصر * إنَّ الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"[العصر]، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ : " العَصْرُ هُوَ الدَّهْرُ"(1) : أيْ : الزَّمَنُ .
فأقْسَمَ اللهُ تَعَالى بالعَصْرِ ـ الَّذِي هُوَ الزَّمَنُ ـ لِمَا فِيْه مِنَ الأعَاجِيْبِ؛ لأنَّه تَحْصُلُ فِيْه السَّرَّاءُ والضَّرَّاءُ، والصِّحَّةُ والسَّقَمُ، والغِنَى والفَقْرُ؛ ولأنَّ العُمُرَ لا يُقَوَّمُ بِشَيْءٍ نَفَاسَةً وغَلاءً(2).
وقَدْ عَلَّمَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّ للوَقْتِ قِيْمَةً كُبْرَى، وضَرَبَ لَنَا المَثَلَ الأعْلَى العَمَلِي عَلَى ذَلِك مِنْ خِلالِ تَصَرُّفَاتِه وأعْمَالِه؛ فَكَانَ يَعْمَلُ هُوَ وصَحَابَتُه لِتَكْوِيْنِ الدَّوْلَةِ الإسْلامِيَّةِ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي سِبَاقٍ مَعَ الزَّمَنِ .
وأرْشَدَنا أيْضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى أهَمِيَّةِ هَذِه النِّعْمَةِ، وقِيْمَتِها بِقَوْلِه : " نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ، والفَرَاغُ"(3) البُخَاريُّ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "فتح القدير" للشوكاني ( 5/492 ) .
(2) ـ انظر "مفاتيح الغيب" للفخر الرازي ( 32/84 ) .
(3) ـ أخرجه البخاري ( 6412 ) .(1/286)
فالإسْلامُ يُقَوِّمُ عُمُرَ الإنْسَانِ فِي هَذِه الحَيَاةِ الدُّنْيَا بأنَّه أسْمَى، وأغْلَى مِنْ أنْ تَضِيْعَ فَقَرَاتُه بَيْنَ لَهْوٍ عَابِثٍ سَخِيْفٍ لا قِيْمَةَ لَهُ، ولِعْبٍ باطِلٍ لا يَأتِي مِنْ وَرَائِه بِمَنْفَعَةٍ دِنْيَوِيَّةٍ عَظِيْمَةٍ، ولا أُخْرَوِيَّةٍ نَبِيْلَةٍ، فَهُو مَسْؤولِيَّةٌ فِي عُنُقِ المُسْلِمِ يُحَاسَبُ عَلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا تَزُوْلُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْألَ عَنْ أرْبَعٍ : عَنْ عُمُرِه فِيْما أفْنَاه ؟، وعَنْ شَبَابِه فِيْما أبْلاهُ، وعَنْ عَمَلِه مَا عَمِلَ به ؟، وعَنْ مَالِه مِنْ أيْنَ اكْتَسَبَهُ، وفِيْما أنْفَقَهُ ؟"(1) التِّرْمِذِيُّ، وهُنَاكَ كَثِيْرٌ مِنَ الأدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلَى أهَمِيَّةِ الوَقْتِ مِمَّا يَطُوْلُ ذِكْرُها .
وقَدْ أوْصَى بَعْضُ السَّلَفِ أصْحَابَه؛ فَقَالَ : " إذَا خَرَجْتُم مِنْ عِنْدِي فَتَفَرَّقُوا؛ لَعَلَّ أحَدَكُم يَقْرَأُ القَرْآنَ فِي طَرِيْقِه، ومَتَى اجْتَمَعْتُم تَحَدَّثْتُم"(2).
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي (2416)، وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" (2/290) .
(2) ـ انظر "قيمة الزمن عند العلماء" لبعد الفتاح أبو غدة (39-40) .(1/287)
وهَاكَ مَا قَالَه ابنُ القَيَّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي بَيَانِ أهَمِيَّةِ الوَقْتِ، إذْ يَقُوْلُ فِي حَدِيْثِه عَنِ مَنْزِلَةِ الغَيْرَةِ، وشُمُوْلِها لِكَثِيْرٍ مِنَ الأمُوْرِ لا سِيَّمَا الوَقْتِ : " الغَيْرَةُ عَلَى وَقْتٍ فَاتَ !، وهِيَ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ، فإنَّ الوَقْتَ وَحْيُ التَّقَضِّي ـ أيْ سَرِيْعُ الانْقِضَاءِ ـ، أبِيُّ الجَانِبِ، بَطِيءُ الرُّجُوْعِ … فَمَنْ غَفِلَ عَنْ نَفْسِه، تَصَرَّمَتْ أوْقَاتُه، وعَظُمَ فَوَاتُه، واشْتَدَّتْ حَسَراتُه، فَكَيْفَ حَالُه إذَا عَلِمَ عِنْدَ تَحْقِيْقِ الفَوَاتِ مِقْدَارَ مَا أضَاعَ، وطَلَبَ الرَّجْعَى، فَحِيْلَ بَيْنَه وبَيْنَ الاسْتِرْجَاعِ، وطَلَبَ تَنَاوُلَ الفَائِتَ ؟، وكَيْفَ يَرُدُّ الأمْسِ فِي اليَوْمِ الجَدِيْدِ ؟! "... وأنَّى لَهُم التَّناوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيْدٍ"[سبأ52]، ومُنِعَ مِمَّا يُحِبُّه ويَرْتَضِيْه، وعَلِمَ أنَّ مَا اقْتَنَاهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي للعَاقِلِ أنْ يَقْتَنِيَه، وحِيْلَ بَيْنَه وبَيْنَ مَا يَشْتَهِيْه!، فَيَا حَسَرَاتُ، مَا إلى رَدِّ مِثْلِها سَبِيْلٌ !، ولَوْ رُدَّتْ لَهَانَ التَّحَسُّرُ"(1).
* * *
__________
(1) ـ "مَدَارِجُ السَّالِكِيْنَ" لابن القيم ( 3/49 ) .(1/288)
ومِنْ خِلالِ ما مَضَى؛ كَانَ عَلَى المُسْلِمِ ألاَّ يَصْرِفْ وَقْتَه فِي لَعِبٍ، أو لَهْوٍ، أو أيِّ مَا مِنْ شَأنِه لا يَعُوْدُ بِنَفْعٍ، أو مَصْلَحَةٍ دِنْيَوِيَّةٍ، أو أخْرَوِيَّةٍ صَالِحَةٍ، فلا يَنْبَغِي للتَّرْوِيْحِ أنْ يُزَاحِمَ آفَاقَ العَمَلِ، والجِدِّ، ولا أنْ يَشْغُلَ عَنِ الوَاجِبَاتِ، ولَيْسَتْ إبَاحَةُ التَّرْوِيْحِ وَسَطَ هَذَا الجِدِّ إلاَّ نَوْعًا مِنَ العَوْنِ عَلَى تَحَمُّلِ أعْبَاءِ الحَقِّ، والصَّبْرِ عَلَى تَكَالِيْفِه ، أمَّا أنْ يُصْبِحَ اللَّهْوُ، واللَّعِبُ طَابِعَ الحَيَاةِ فِي الغُدُوِّ والآصَالِ، وباللَّيْلِ والنَّهَارِ، فَذَلِكَ خُرُوْجٌ بالتَّرْوِيْحِ عَنْ طَبِيْعَتِه، واتِّجَاهٌ بالحَيَاةِ إلى العَبَثِ والضَّيَاعِ(1).
* * *
وعَلَيْه؛ فَلْيَتَّقِي اللهَ تَعَالَى طُلاعُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي أوْقَاتِهِم، وهَدْرِها فِي غَيْرِ طَائِلٍ، أو فَائِدَةٍ دِنْيَوِيَّةً كَانَتْ أو أُخْرَوِيَّةً؛ إنَّه العَبَثُ بالأوْقَاتِ، واسْتِفْرَاغُه فِي اللَّهْوِ واللَّعِبِ البَاطِلِ؛ إنَّه ضَيَاعُ العُمُرِ فِيْمَا سَيْسْألُوْنَ عَنْه يَوْمَ القِيَامَةِ !
اللَّهُمَّ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فاشْهَدْ
* * *
المَحْظُورُ الخَامِسُ عَشَرَ
الرَّقْصُ، والتَّصْفِيْقُ، والتَّصْفِيْرُ، والهِتَافَاتُ
أمَّا الرَّقْصُ، والتَّصْفِيْقُ، والتَّصْفِيْرُ، والهِتَافَاتُ فِي مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَغَدَتْ هَذِه الأيَّامِ للأسَفِ مِنْ لَوَازِمِ الرِّياضَةِ الَّتِي لا تَنْفَكُّ عَنْها، وغَالِبًا مَا يَفْعَلُها رِعَاعُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ المُشَجِّعِيْنَ، والإدَارِيِّيْنَ لا سِيَّمَا أثْنَاءَ اللَّعِبِ، وخَارِجِه !
__________
(1) ـ انظر "المجتمع الإسلامي" لمصطفى عبد الواحد ( 277 )، و"قضايا اللهو" لمادون بن رشيد (51-62) .(1/289)
وقَدْ قَالَ تَعَالَى : "وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مكاءٌ وتصديةٌ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"[الأنفال35] . قَالَ ابنُ عَبَّاسِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : " كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوْفُ بالبَيْتِ عُرَاةً يُصَفِّقُوْنَ، ويُصَفِّرُوْنَ، فَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةٌ فِي ظَنِّهم، والمُكَاءُ : الصَّفِيْرُ، والتَّصْدِيَّةُ : التَّصْفِيْقُ، قَالَه مُجَاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، وابنُ عُمَرَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما … وقَالَ قَتَادَةُ : " المُكَاءُ ضَرْبٌ بالأيْدِي، والتَّصْدِيَةُ صِيَاحٌ"، قَالَ القُرْطُبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي تَفْسِيْرِه : " وعَلَى التَّفْسِيْرَيْنِ فَفِيْه رَدٌّ عَلَى الجُهَّالِ مِنَ الصُّوْفِيَّةِ الَّذِيْنَ يَرْقُصُوْنَ، ويُصَفِّقُوْنَ، وذَلِكَ كُلُّه مُنْكَرٌ يَتَنَزَّهُ عَنْ مِثْلِه العُقَلاءُ، ويَتَشَبَّهُ فَاعِلُه بالمُشْرِكِيْنَ فِيْما كَانُوا يَفْعَلُوْنَه عِنْدَ البَيْتِ"(1) .
* * *
وبَعْدَ هَذَا أرَدْنَا أنْ نَذْكُرَ لَكَ أيُّها القَارِئ الكَرِيْمُ بَعْضَ أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ الرَّقْصِ، والتَّصْفِيْقِ، والتَّصْفِيْرِ باخْتِصَارٍ إنْ شَاءَ اللهُ .
أمَّا تَحْرِيْمُ الرَّقْصِ عَلَى الرِّجَالِ فَمَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ وللهِ الحَمْدِ .
قَالَ أبُو الوَفَاءِ ابنُ عَقِيْلٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " قَدْ نَصَّ القُرْآنُ عَلَى النَّهْي عَنِ الرَّقْصِ فَقَالَ : "ولا تَمْشِ في الأرض مرحاً"، وذَمَّ المُخْتَالَ، والرَّقْصُ : أشَدُّ المَرَحِ، والبَطَرِ … فَمَا أقْبَحَه مَنْ ذِي لِحْيَةٍ، وكَيْفَ إذا كَانَ شَيْبَةً يَرْقُصُ، ويُصَفِّقُ عَلَى إيْقَاعِ الألْحَانِ، والقُضْبَانِ، وخُصُوْصاً إنْ كَانَتْ أصْوَاتٌ لنِسْوَانٍ، ومُرْدَانٍ ..."(2).
__________
(1) ـ "الجامِعُ لأحْكَامِ القُرْآنِ" للقرطبي (7/382-383) .
(2) ـ انظر " تفسير القرطبي " ( 10/263 ) .(1/290)
وقَالَ ابنُ قُدَامَةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ ردًّا عَلَى مَا يُسَمَّوْنَ مُشَجِّعِيْنَ : " فأمَّا تَفْصِيْلُ هَذِه المَسْمُوْعَاتِ مِنَ الدُّفِّ، والشَّبَابَةِ، وسَمَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُما مُنْفَرِدَةً : فإنَّ هَذِه جَمِيْعَها مِنَ اللَّعِبِ، فَمْنَ جَعَلَها دَأبَه، واشْتَهَرَ بِفِعْلِها، أو اسْتِمَاعِها، أو قَصَدَها فِي مَوَاضِعِها، أو قُصِدَ مِنْ أجْلِها : فَهُو سَاقِطُ المُرُوْءةِ، ولا تُقْبَلُ شَهَادَتُه، ولا يُعَدُّ مِنْ أهْلِ العَدَالَةِ، وكَذَلِكَ الرَّقَّاصُ"(1) .
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا الرَّقْصُ فَلَمْ يَأمُرِ اللهُ به، ولا رَسُوْلُه، ولا أحَدٌ مِنَ الأئِمَّةِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ اللهُ فِي كِتَابِه : "واقْصُدْ في مَشْيِك"، وقَالَ : "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا" الآية " (2)، وقَالَ تَقِيُّ الدِّيْنِ السُّبْكِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " الرَّقْصُ نَقْصٌ، والغِنَاءُ سَفَاهَةٌ !" .
__________
(1) ـ "فتيا في ذم الشبابة والرقص والسماع" لابن قدامة ص ( 32 ) .
(2) ـ "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 11/ 599 ، 604 ) .(1/291)
وقَالَ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " الرَّقْصُ بِدْعَةٌ لا يَتَعَاطَاهُ إلاَّ نَاقِصُ العَقْلِ، لا يَصْلُحُ إلاَّ للنِّسَاءِ"، وقَالَ أيْضاً : " أمَّا الرَّقْصُ، والتَّصْفِيْقُ فَخِفَّةٌ، ورُعُوْنَةٌ مُشَابِهَةٌ لرُعُوْنَةِ الإنَاثِ، لا يَفْعَلُها إلاَّ أرْعَنُ، أو مُتَصَنِّعٌ جَاهِلٌ، ويَدُلُّ عَلَى جَهَالَةِ فَاعِلِهِما أنَّ الشَّرِيْعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهِما لا فِي كِتَابٍ، ولا سُنَّةٍ، ولا فَعَلَ ذَلِكَ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ، ولا مُعْتَبَرٌ مِنْ أتْبَاعِ الأنْبِيَاءِ، وإنِّمَا يَفْعَلُه الجَهَلَةُ السُّفَهَاءُ الَّذِيْنَ الْتَبَسَتْ عَلَيْهم الحَقَائِقُ بالأهْوَاءِ"(1) .
وقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ : " الرَّقْصُ نَقْصٌ، وهُوَ مِنْ أفْعَالِ أهْلِ البَطَالاتِ، لا يَلِيْقُ بالعُقَلاءِ، ولا يُنَاسِبُ أحْوَالِ العُقَلاءِ؛ لأنَّهم يُنَزِّهُوْنَ أنْفُسَهم عَنْ مُشَابَهَةِ السِّفْلَةِ الطَّغَامِ، وعَنْ مُشَاكَلَةِ الصِّبْيَانِ، والنِّسْوَان"(2)
فَهَذِه نُتَفٌ مِنْ أقْوَالِ أهْلِ الدِّيانَةِ، تُبَيِّنُ حُرْمَةَ مَا يَفْعَلُه رَقَّاصُو ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ المُشَجِّعِيْنَ، أو اللاعِبِيْنَ، أو غَيْرِهِم؛ لأنَّه سَفَاهَةٌ، ورُعُوْنَةٌ، وتَشَبُّهٌ بالنِّسْوَانِ، والمُرْدَانِ !
* * *
__________
(1) ـ انظر "كف الرعاع" لابن حجر الهيتمي ( 2/282 ، 273 ) .
(2) ـ انظر "شرح إحياء علوم الدين" للعراقي ( 6/ 567 ) .(1/292)
* أمَّا مَسْألَةُ التَّصْفِيْقِ، والتَّصْفِيْرِ : فَلَيْسَتْ أقَلَّ حُكْمًا، وحَالاً مِنَ الرَّقْصِ عِنْدَ مُشجِّعِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، والدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِك مَا رَوَاه البُخَارِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه قَالَ : " التَّسْبِيْحُ للرِّجَالِ، والتَّصْفِيْقُ للنِّسَاءِ"(1).
ومِنْ خِلالِ ظَاهِرِ هَذَا الحَدِيْثِ لَمْ يَخْتَلِفْ أهْلُ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ التَّصْفِيْقِ عَلَى الرِّجَالِ، لِهَذا قَالَ الإمَامُ البَغَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ" : " ومِنْها أنَّ التَّصْفِيْقَ سُنَّةُ النِّسَاءِ فِي الصَّلاةِ إذَا نَابَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ شَيْءٌ فِي الصَّلاةِ، وهُوَ أنْ تَضْرِبَ بِظُهُوْرِ أصَابِعِ اليُمْنَى صَفْحَ الكَفِّ اليُسْرَى، قَالَ عَيْسَى بنُ أيُّوْبَ : تَضْرِبُ بإصْبَعِيْنَ مِنْ يِمِيْنَها عَلَى كَفِّها اليُسْرَى"(2) .
وقَالَ صَاحِبُ "عَوْنِ المَعْبُوْدِ" : " ومُنْعَ الرِّجَالُ مِنَ التَّصْفِيْقِ؛ لأنَّه مِنْ شَأنِ النِّسَاءِ قَالَه الحَافِظُ"(3).
وقَالَ العَلامَةُ عَلَي القَارِي فِي "مِرْقَاةِ المَفَاتِيْحِ" : " وَقَالَ ابنُ حَجَرٍ: أيْ لا للرِّجَالِ فإنَّه بَعْدَ أنْ غَلَبَ فِي النِّسَاءِ صَارَ ( التَّصْفِيْقُ ) لا يَلِيْقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ …"(4) .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 2/79 ) .
(2) ـ "شرح السنة" للبغوي ( 3/274 ) .
(3) ـ "عون المعبود" ( 2/152 ) .
(4) ـ "مرقاة المفاتيح" للملا علي القاري ( 3/73 ) .(1/293)
قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا الرِّجَالُ عَلَى عَهْدِه فَلْم يَكُنْ أحَدٌ مِنْهُم يَضْرِبُ بِدُفٍّ، ولا يُصَفِّقُ بِكَفٍّ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْه فِي الصَّحِيْحِ أنَّه قَالَ : " التَّصْفِيْقُ للنِّسَاءِ، والتَّسْبِيْحُ للرِّجَالِ . ولَعَنَ المُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ، والمُتَشَبِّهِيْنَ مِنَ الرِّجَالِ بالنِّسَاءِ" .
ولِمَّا كَانَ الغِنَاءُ، والضَّرْبُ بالدُفِّ، والكَفِّ مِنْ عَمَلِ النِّسَاءِ، كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّوْنَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِك مِنَ الرِّجَالِ مُخَنَّثاً، ويُسَمُّوْنَ الرِّجَالَ المُغَنِّيْنَ مُخَانِيْثاً، وهَذَا مَشْهُوْرٌ فِي كَلامِهِم"(1) .
وقَدْ قَالَ أيْضًا بِتَحْرِيْمِ التَّصْفِيْقِ عَلَى الرِّجَالِ الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيْزِ بنِ بازٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ (2).
* * *
* أمَّا الهِتِافَاتُ : فَلَوْنٌ آخَرُ، لَمْ نَعْرِفْه مِنْ قَبْلُ !، حَيْثُ ظَهَرَتْ في الآوِنَةِ الأخِيْرَةِ عَادَاتٌ، وصَيْحَاتٌ غَرِيْبَةٌ أجْنَبِيَّةٌ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ لَمْ يَكُنْ لَهَا سَالِفُ وَقَاحَةٍ، وذَلِكَ حَالَ تَشْجِيْعِهِم فَوْقَ مُدَرَّجَاتِ مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) !
__________
(1) ـ "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية . ( 11 / 565 ، 566 ، 567 ) .
(2) ـ انظر "الدعوة" من فتاوى ابن باز (1/227) .(1/294)
فإذَا كَانَتِ الأدْعِيَةُ، والأذْكَارُ لا تَجُوْزُ بِصَوْتٍ جَمَاعِيٍّ؛ بَلْ عَدَّه أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ مِنَ البِدَعِ المُحَرَّمَةِ، والحَالَةُ هَذِه كَيْفَ بالأصْوَاتِ الجَمَاعِيَّةِ الَّتِي يَنْعِقُ بِها أبْنَاءُ المُسْلِمِيْنَ مِنْ فَوْقِ المُدَرَّجَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ، كَمَا أنَّه قَدْ صَاحَبَ هَذِه الهِتافَاتِ فِي غَيْرِ مَرَّةٍ تَلْوِيْحٌ بأعْلامٍ قَصِيْرَةٍ مُلَوَّنَةٍ فِي حَرَكَاتٍ مُنْتَظَمَةٍ … فَحَسْبُنا اللهُ، ونِعْمَ الوَكِيْلِ ! ولَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلُوْه !، وأخْشَى أنَّهُم إذَا خَرَجُوا مِنْه لَمْ يَخْرُجُوا، واللهُ أعْلَمُ .
* * *
ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ هَذِه الهِتَافَاتِ الجَمَاعِيَّةِ الأجْنَبِيَّةِ، وُجُوْهٌ :
الأوَّلُ : أنَّ هَذِه الهِتَافَاتِ تَحْرِيْضِيَّةً، عُدْوَانِيَّةً، تُسْتَغَلُّ فِي إثَارَةِ العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ بَيْنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، هَذَا إذا عَلِمْنا أنَّها مِنْ أجْلِ ألْعَابٍ هَوْجَاءَ، وذَلِكَ عِنْدَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
الثَّانِي : أنَّ غَالِبَ هَذِه الهِتَافَاتِ مُحَاكَاةٌ لِمَا يَحْصُلُ فِي بِلادِ الكُفْرِ، هَذِا إذَا عَلِمْنا أنَّ بَعْضَ هَذِه الهِتَافَاتِ أجْنَبِيَّةٌ لَفْظًا ومَعْنىً !، "ومَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم" .
الثَّالِثُ : أنَّ بَعْضَ هَذِه الهِتَافَاتِ تَتَضَمَّنُ مَعَانٍ مُحَرَّمَةً، قَدْ تَصِلُ إلى الشِّرْكِ ( الأصْغَرِ )، كَقَوْلِ بَعْضِهِم بالعَامِيَّةِ : ( إتِّي والنَّبي إتِّي !، أو بتُحِبُّوْا مِيْنَ .. أهْلِي ! ) وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأغْلُوْطَاتِ السُّوْقِيَّةِ .
* * *(1/295)
أمَّا إذَا أرَدْتَ أنْ تَنْظُرَ إلى مَا يَفْعَلُه مُشَجِّعُو ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ أثْنَاءِ اللَّعِبِ، الَّذِي يَزِيْدُ عَدَدُهم فَوْقَ عَشَرَاتِ الألُوْفِ؛ فَحَدَثٌ وحَدِيْثٌ : فَهْو رَقْصٌ بِكُلِّ صُوَرِه وأشْكَالِه مِنْ تَكَسُّرٍ، وتَمَايُلٍ، وتَثنِّيٍّ، ورُعُوْنَةٍ، وخِفَّةٍ، وطَيْشَانٍ … مَعَ مَا يُصَاحِبُه مِنَ التَّصْفِيْقِ الصَّفِيْقِ، والتَّصْفِيْرِ الحَقِيْرِ، والهِتَافَاتِ الخَرْقَاءِ؛ مَا يَسْتَحِي مِنْه ذُو الحَيَاءِ !، فَتَأمَّلْ ذَلِكَ يَا رَعَاكَ اللهُ، ولا تَكُنْ مِنَ الغَافِلِيْنَ .
* * *
المَحْظُورُ السَّادِسُ عَشَرَ
الغِيْبَةُ
قَالَ تَعَالَى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم"[الحجرات12]. أيْ : لا يَتَكَلَّمْ أحَدٌ مِنْكُم فِي حَقِّ أحَدٍ فِي غَيْبَتِه بِمَا هُوَ فِيْه مِمَّا يَكْرَهُهُ، وأُلْحِقَ بِه مَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ فِي التَّكَلُّمِ فِي حَضْرَتِه بِذَلِكِ؛ بَلْ هُوَ أبْلَغُ فِي الأذِيَّةِ .(1/296)
وزَادَ تَعَالَى ذَلِكَ تَأكِيْدًا، وتَحْقِيْقًا بِتَشْبِيْهِ عِرْضِه بِلَحْمِهِ، ودَمِهِ مَعَ المُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ أيْضًا بوَصْفِهِ بالأخِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا "، ووَجْهُ التَّشْبِيْهِ أنَّ الإنْسَانَ يَتَألَّمُ قَلْبُه مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ، كَمَا يَتَألَّمُ بَدَنُه مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لأكْلِهِ؛ بَلْ أبْلَغُ؛ لأنَّ عِرْضَ العَاقِلِ عِنْدَه أشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ ودَمِه، وكَمَا أنَّه لا يُحْسَنُ مِنَ العَاقِلِ أكْلُ لُحُوْمِ النَّاسِ؛ لا يُحْسَنُ مِنْه قَرْضُ عِرْضِهِم بالطَّرِيْقِ الأوْلَى؛ لأنَّه ألَمٌ(1).
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " أتَدْرُوْنَ مَا الغِيْبَةُ ؟"، قَالُوا : اللهُ، ورَسُوْلُه أعْلَمُ، قَالَ : " ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيْلَ : أفَرَأيْتَ إنْ كَانَ فِي أخِي مَا أقُوْلُ ؟، قَالَ : " إنْ كَانَ فِيْه مَا تَقُوْلُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيْه مَا تَقُوْلُ فَقَدْ بَهَتَّهُ"(2) مُسْلِمٌ .
__________
(1) ـ انظر "الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي (2/14-15) .
(2) ـ أخرجه مسلم (4/2001 ) .(1/297)
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي خُطْبَتِه فِي حِجَّةِ الوَدَاعِ : " إنَّ دِمَاءكُم، وأمْوَالَكِم، وأعْرَاضَكم عَلَيْكُم حَرَامٌ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكِم هَذَا فِي شَهْرِكُم هَذَا فِي بَلَدِكِم هَذَا، ألاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟!"(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقال أيضاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُه، وعِرْضُه، ومَالُه"(2) مُسْلِمٌ، وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ مِنْ أرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ"(3) أبُو دَاوُدَ، وعَنْ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها ـ قَالَتْ : قُلْتُ : للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وكَذَا !، قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ : تَعْنِي قَصِيْرَةً، فَقَالَ : " لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ"، أي : لأنْتَنَتْهُ، وغَيْرَتْ رِيْحَهُ، قَالَتْ : وَحَكَيْتُ لَهْ إنْسَانًا، فَقَالَ : " مَا أحِبُّ أنِّي حَكَيْتُ إنْسَانًا؛ وإنَّ لِي كَذَا، وكَذَا !" (4) التَّرْمِذيُّ، وغَيْرُه .
وقَدْ ذَكَرَ الإجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيْمِ الغِيْبَةِ كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ كابنِ كَثِيْرٍ، وغَيْرِه(5).
* * *
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 1741 )، ومسلم ( 3/1305 ) من حديث أبي بكرة .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 4/1986 ) من حديث أبي هريرة .
(3) ـ أخرجه أبو داود ( 4876 )، وهو صحيح، انظر "صحيح أبي داود" للألباني (3/923) .
(4) ـ أخرجه الترمذي (2502 )، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" ( 2834) .
(5) ـ انظر "تفسير ابن كثير" (7/380) .(1/298)
ومِنْ خِلالِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ القَاطِعَةِ بِتَحْرِيْمِ الغِيْبَةِ؛ فَلا تَحْزَنْ حِيْنَئِذٍ إذَا عَلِمْتَ أنَّ الغَيْبَةَ فِي الأوْسَاطِ الرِّياضِيَّةِ، لاسِيَّمَا مَرَاتِعُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، هِيَ المَادَةُ الدَّسْمَةُ، والفَاكِهَةُ السَّائِغَةُ!؛ ولا أبالِغُ إذَا قُلْتُ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَهِيَ مَحَاضِنُ خَصْبَةٌ لتَرْوِيْجِ، وتَسْوِيْقِ الغِيْبَةِ بَيْنَ الجَمَاهِيْرِ، واللاعِبِيْنَ … وهَذَا المَحْظُوْرُ لَمْ يَعُدْ أمْرًا مَسْتُوْرًا، أو شَيْئًا مَغْمُوْرًا؛ كَلاَّ !؛ فَمَنْ أرَادَ أنْ يَعْلَمَ حَقِيْقَةَ ذَلِكَ، فَعَلَيْه أنْ يُصْغِيَ لَحْظَةً بِسَمْعِهِ لِمَا يُقَالُ فِي المَجَالِسِ العَامَّةِ لِعُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ فَعِنْدَهَا سَيَعْلَمُ أنَّ الغِيْبَةَ : هِيَ لُغَةُ الحِوَارِ الهَادِي بَيْنَهُم، أمَّا عِنْدَ احْتِدَامِ اللِّقَاءِ تُسَلُّ بَيْنَهُم سِهَامُ الغِيْبَةِ تَرَاشُقًا وتَبَادُلاً مَا يَصْلُحُ أنْ يُجْمَعَ فِيْه مُعْجَمٌ للغِيْبَةِ الرِّيَاضِيَّةِ؛ ولا أقُوْلُ هَذَا مِنْهُم أثْنَاءَ المُبَارَاةِ؛ بَلْ قَبْلَهَا وبَعْدَهَا دُوْنَ انْقِطَاعٍ مِنْهُم أو فُتُوْرٍ !
وفَوْقَ ذَلِكَ أو يَزِيْدُ؛ مَا تَنْشُرُهُ الصَّحَافَةُ مِنْ قَوَائِمَ غِيْبَةٍ سَائِرَةٍ؛ ومَنْ أرَادَ حَقِيْقَةَ ذَلِكَ فَعَلَيْه أنْ يُلْقِيَ نَظْرَةً سَرِيْعَةً إلى إحْدَى الجَرَائِدِ، والصُّحُفِ المَحَلِّيَّةِ؛ ليَرَى العَجَبَ العُجَابَ : فالغِيْبَةُ طَافِحَةٌ بَيْنَ سُطُوْرِها؛ بَلْ تَرَاها ضِمْنَ عُنْوَانٍ كَبِيْرٍ فِي أوَّلِ الصَّفَحَاتِ !، وكَذَا مَا تَبُثُّه القَنَوَاتُ المَسْمُوْعَةُ، والمَرْئِيَّةُ : فالغِيْبَةُ تُشَمُّ رَائِحَتُها عَنْ بُعْدٍ، عَافَنَا اللهُ !(1/299)
ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُم باخْتِصَارٍ : إنَّ اللاعِبَ الفُلانِيَّ مَغْرُوْرٌ، وفَلانًا يَسْتَرِقُ المَوَاقِفَ، وفَلانًا ثَقِيْلٌ عَلَى فَرِيْقِهِ، وجَمْهُورِه، وفَلانًا تَصْرِيْحَاتُه أحْلامُ اليَقَظَةِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الألْفَاظِ الجَارِحَةِ السَّاقِطَةِ !
* * *
المَحْظُورُ السَّابِعُ عَشَرَ
السُّخْرِيَّةُ، والاسْتِهْزَاءُ
قَالَ تَعَالَى : " يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيًرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون"[الحجرات11].
والسُّخْرِيَةُ : هيَ النَّظَرُ إلى المَسْخُوْرِ مِنْهُ بِعَيْنِ النَّقْصِ، أي لا تَحْتَقِرْ غَيْرَكَ عَسَى أنْ يَكُوْنَ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا مِنْكَ، وأفْضَلَ، وأقْرَبَ .
وقَدْ احْتَقَرَ إبْلِيْسُ اللَّعِيْنُ آدَمَ عَلَيْه السَّلامُ فَبَاءَ بالخُسْرانِ الأبَدِيِّ، وفَازَ آدَمُ بالعِزِّ الأبَدِيِّ، وشَتَّانَ مَا بَيْنَهُما، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُوْنَ المُرَادُ ( بِعَسَى ) : يَصِيْرُ، أيْ لا تَحْتَقِرْ غَيْرَكَ؛ فإنَّه رُبَّمَا صَارَ عَزِيْزًا، وصِرْتَ ذَلِيْلاً، فَيَنْتَقِمَ مِنْكَ .
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كَمْ مِنْ أشْعَثَ أغْبَرَ ذِيْ طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ؛ لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ، مِنْهُمُ البَرَاءُ بنُ مَالِكٍ"(1)أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وقَدْ قَامَ الإجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيْمِ السُّخْرِيَةِ كَمَا ذَكَرَه كَثِيْرٌ مِنْ أهْلِ العِلْمِ .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (3/145)، والترمذي ( 3854 ) وهو صحيح، انظر "صحيح الترمذي" للألباني (3028) .(1/300)
قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي قَوْلِه تَعَالَى : " وقالوا ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها"[الكهف49]، الصَّغِيْرَةُ : التَّبَسُّمُ، والكَبِيْرَةُ : الضَّحِكُ بِحَالَةِ الاسْتِهْزَاءِ، وقَالَ القُرْطُبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي تَفْسِيْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : "بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوْقُ بَعْدَ الإيْمَانِ"[الحجرات11] : مَنْ لَقَّبَ أخَاهُ، وسَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ، والسُّخْرِيَةُ : الاسْتِحْقَارُ، والاسْتِهَانَةُ، والتَّنْبِيْهُ عَلَى العُيُوْبِ، والنَّقَائِصِ يَوْمَ يَضْحَكُ مِنْهُ، وقَدْ يَكُوْنُ بالمُحَاكَاةِ بالفِعْلِ، أو القَوْلِ، أو الإشَارَةِ، أو الإيْمَاءِ، أو الضَّحِكِ عَلَى كَلامِهِ إذا تَخَبَّطَ فِيْه، أو غَلِطَ، أو عَلَى صِنْعَتِه، أو قَبِيْحِ صُوْرَتِه"(1).
* * *
أمَّا إذَا سَألْتَ عَنِ السُّخْرِيَّةِ، والاسْتِهْزَاءِ بَيْنَ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ رِيَاضِيِّيْنَ، ومُشَجِّعِيْنَ، فَحَدِّثْ، ولا حَرَجَ !، فَهُو حَاصِلٌ بَيْنَهُم، ومُشَاهَدٌ عِنْدَهُم؛ فَخُذْ مَثَلاً : مَا يَحْصُلُ دَاخِلَ المَلاعِبِ بَيْنَهم مِنْ سُخْرِيَّةٍ، واسْتِهْزَاءٍ سَوَاءٌ فِي الحَرَكاتِ، أو فِي النَّظَراتٍ، ومِنْ ذَلِكَ؛ مَا يَفْعَلُه بَعْضُ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) لِخَصْمِهِ أثْنَاءَ اللَّعِبِ، وخَارِجَهُ غَالبًا : مِنْ إخْراجٍ للِّسَانِ، أو تَغْمِيْضٍ للْعَيْنَيْنِ، أو لَيٍّ للعُنُقِ، أو اصْطِنَاعٍ لِحَرَكاتٍ مُبْتَذَلَةٍ يَقُومُ بِها أمَامَ خَصْمِهِ … لاسيَّما عِنْدَ تَسْدِيْدِ هَدَفٍ، أو تَضْيِعِهِ، أو غَيْرِ ذَلِكَ ممَّا يَعْلَمُهُ الجَمْيعُ دُوْنَ خَفَاءٍ، أو مُوَارَبةٍ !
__________
(1) ـ انظر "الزواجر" للهيتمي (2/41) .(1/301)
وكَذَا مَا تَنْشُرُه القَنَواتُ مِنْ لِقَاءاتٍ، ومُقَابَلاتٍ تَعُجُّ بالسُّخْريَاتِ، والاسْتِهْزَاءاتِ ضِمْنَ صَرِيحِ العِبَارَاتِ، أو تَلْمِيحِ الإشَارَاتِ، أو ما تَتَنَاقَلَهُ الصَّحَافَةُ اليَوْمِيَّةُ مِنْ عِبَارَاتٍ، وكَلِمَاتٍ يَتَرَاشَقُ بِهَا أهْلُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) صَبَاحًا مَسَاءً مَا بَيْنَ مُهَاجَمَةٍ خَرْقَاءَ، أو سُخْرِيَةٍ حَمْقَاءَ، أو اسْتِهْزَاءٍ مَمْقُوتٍ !
* * *
المَحْظُورُ الثَّامِنُ عَشَرَ
الظَّنُ السُّوْءُ
قَالَ تَعَالَى : " يا أيها الَّذِيْنَ أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم "[الحجرات12].
يَقُوْلُ ابنُ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي تَفْسِيْرِ هَذِه الآيَةِ : " يَقُوْلُ تَعَالَى نَاهِيًا عِبَادَه المُؤْمِنِيْنَ عَنْ كَثِيْرٍ مِنَ الظَّنِّ، وهُوَ التُّهْمَةُ، والتَّخَوُّنُ للأهْلِ، والأقَارِبِ، والنَّاسِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لأنَّ بَعْضَ ذَلِكَ يَكُوْنُ إثْمًا مَحْضًا، فلْيُجْتَنَبْ كَثِيْرٌ مِنْه احْتِيَاطًا، ورُوِّيْنَا عَنْ أمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّه قَالَ : " و لا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أخِيْكَ المُسْلِمِ إلاَّ خَيْرًا، وأنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الخَيْرِ مَحْمَلاً"(1).
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيْثِ …"(2) مُتَّفَقُ عَلَيْه، والأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ فِي بَيَانِ تَحْرِيْمِ سُوْءِ الظَّنِّ كَثِيْرَةٌ جِدًّا .
* * *
أمَّا ظَنُّ السُّوْءِ بَيْنَ أهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَمَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَهُم؛ لا يَدَّعِي أحَدٌ النَّجاةَ مِنْه؛ إلاَّ بِتَكَلُّفٍ بَارِدٍ، أو مُغَالَطَةٍ مَكْشُوْفَةٍ !
ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أمُوْرٌ :
__________
(1) ـ "تفسير ابن كثير" (7/377) .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 6066 )، ومسلم ( 2563 ) .(1/302)
أوَّلاً : أنَّ الأصْلَ بَيْنَ النَّوَادِي الرِّيَاضِيَّةِ بِعَامَّةٍ : العَدَاءُ، والبَغْضَاءُ، والشَّحْناءُ، والمُغَالَبَةُ … وهَذَا مِمَّا لا نِزَاعَ فِيْه، والحَالَةُ هَذِه؛ فسَوْءُ الظَّنِّ بَيْنَهُم سَيَقَعُ أصَالةً، أو تِبَاعًا !
ثانيًا : أنَّ الشَّوَاهِدَ المَسْمُوْعَةَ، والمَقْرُوْءةَ عَبْرَ القَنَوَاتِ الإعْلامِيَّةِ لَهِيَ أكْبَرُ دَلِيْلٍ عَلَى ذَلِكَ، ومَا تَكِنُّهُ قُلُوْبُهم أكْبَرُ !
ثالثًا : أنَّكَ إذَا سَألْتَ لاعِبًا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ؛ لا سِيَّمَا إذَا أمِنَ جَانِبَكَ : هَلْ أنَتْ تَكِنُّ فِي قَلْبِكَ لأفْرَادِ الفَرِيْقِ الآخَرِ ـ لا سِيَّمَا إذَا كَانَ هَذَا الفَرِيْقُ خَصْمًا لفَرِيْقِه ـ حُسْنَ ظَنٍّ، وحُبًّا ؟، أم سُوْءَ ظَنٍّ، وبُغْضًا ؟
فعِنْدَ ذَلِكَ لا يَحْتَاجُ الجَوَابُ إلى عَنَاءٍ، وتَفْكِيْرٍ، بِقَدْرِ ما يَحْتَاجُ إلى مُصَارَحَةٍ وَاضِحَةٍ !؛ بَلْ لا تَثْرِيْبَ إذَا قُلْتُ : إنَّ السَّائلَ أعْلَمُ بِالجَوَابِ مِنَ المَسْؤُوْلِ، هَذَا إذَا عَلِمَ الجَمِيعُ أنَّ هَذَا الجَوَابَ لَيْسَ رَهِيْنَ لاعِبٍ، أو لاعِبَيْنِ … بَلْ هُوَ جَوَابٌ لِغَالِبِ عُشَّاقِ فَرِيْقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) سَوَاءٌ اللاعِبُ مِنْهُم، أو المُشَجِّعُ !، واللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا يَصِفُوْنَ، وما يَظُنُّوْنَ !
* * *
المَحْظُورُ التَّاسِعُ عَشَرَ
الهَمْزُ، واللَّمْزُ بالمُسْلِمِيْن
قَالَ تَعَالَى : "ولا تلمزوا أنفسكم "[الحجرات11] .(1/303)
أيْ : لا يَعِبْ بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ، واللَّمْزُ بالقَوْلِ وغَيْرِهِ، والهَمْزُ بالقَوْلِ فَقَطُ، ورَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ ابنِ جُرِيْجٍ أنَّ الهَمْزَ بالعَيْنِ، والشِّدْقِ، واليَدِ، واللَّمْزُ باللِّسَانِ، قَالَ البَيْهَقِيُّ : وبَلَغَنِي عَنِ اللَّيْثِ أنَّه قَالَ : اللَّمْزَةُ الَّذِي يَعِيْبُكَ فِي وَجْهِكَ، والهَمْزَةُ الَّذِي يَعِيْبُكَ بالغَيْبِ(1).
* * *
وهَذَا اللَّمْزُ، والهَمْزُ أيْضًا؛ مُشَاهَدٌ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ رِيَاضِيِّيْنَ، ومُشَجِّعِيْنَ، فَخُذْ مَثَلاً : مَا يَحْصُلُ دَاخِلَ المَلاعِبِ بَيْنَهم مِنْ حَرَكاتٍ، ونَظَراتٍ كُلُّها هَمْزٌ، ولَمْزٌ … وكَذَا ما تَبُثُّهُ القَنَواتُ، والصَّحَافَةُ : مِنْ كَلِماتٍ، ومُقَابَلاتٍ تَفُوحُ بِرَوَائِحَ كَرِيْهَةٍ جَرَّاءَ الهَمْزِ، واللَّمْزِ المُرْتَذَلَيْنِ !
* * *
المَحْظُورُ العِشْرُوْنَ
التَّبَخْتُرُ، والخُيَلاءُ، والعُجْبُ
قَالَ تَعَالَى : "ولا تَمْشِ في الأرضِ مرحًا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهًا"[الإسراء37-38] .
والمَرَحُ فِي هَذِه الآيَةِ هُوَ : التَّبَخْتُرُ، فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه قَالَ : " لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"(2) مُسْلِمٌ .
__________
(1) ـ انظر "الزواجر" للهيتمي (2/12-13) .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 1/93 ) من حديث عبد الله بن مسعود .(1/304)
وقَالَ أيْضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " ألاَ أخْبِرُكُم بأهْلِ النَّارِ؛ كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَاظٍ مُسْتَكْبِرٍ"(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إلى مَنْ جَرَّ ثَوْبَه بَطَرًا"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُه، مُرَجَّلَةً رَأسُه، يَخْتَالُ فِي مَشْيَتِه إذْ خَسَفَ اللهُ بِه، فَهُو يَتَجَلْجَلُ فِي الأرْضِ"(3) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، ويَتَجَلْجَلُ : أيْ يَغُوْصُ، ويَنْزِلُ فِيْها إلى يَوْمِ القِيَامَةِ .
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى : الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، والعَظَمَةُ إزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُما ألْقَيْتُه فِي جَهَنَّمَ"(4) مُسْلِمٌ .
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ، ويَخْتَالُ فِي مَشْيَتِه إلاَّ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى وهُوَ عَلَيْه غَضْبَانُ"(5)أحْمَدُ .
* * *
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 10/6071 )، ومسلم ( 4/2190 ) من حديث حارثه بن وهب الخزامي .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 10/5788 )، ومسلم ( 3/1653) من حديث أبي هريرة .
(3) ـ أخرجه البخاري (10/5790 )، ومسلم ( 3/1653 ) من حديث أبي هريرة .
(4) ـ أخرجه مسلم ( 4/2023 ) من حديث أبي هريرة .
(5) ـ أخرجه أحمد ( 2/118 )، والحاكم ( 1/60 ) وقَالَ : صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، ولَمْ يُخَرِّجَاه، وقَالَ الذَّهَبِيُّ : صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .(1/305)
ومِثْلُ هذا التَّبَخْتُرِ، والخُيَلاءِ، والعُجْبِ حَاصِلٌ ومُشَاهَدٌ فِي مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وذَلِكَ عِنْدَما يَقُومُ اللاعِبُ بإحْرَازِ هَدَفٍ مَثَلاً، أو صَدِّ هَدَفٍ، أو مَشْيٍّ أمَامَ الجَمْهُوْرِ وهُمْ فِي أوْجِ الحَفَاوَةِ، والإطْرَاءِ عِنْدَ دُخُولِ هَذَا اللاعِبِ، أو خُرُوجِه، لاسِيَّما عِنْدَ صُعُودِه لأخْذِ الكَأسِ (المَنْكُوْسِ) ـ زَعَمُوا ! ـ … فَعِنْدَ ذَلِكَ لا تَسْألْ عَنِ التَّبَخْتُرِ، والخُيَلاءِ، والعُجْبِ الَّذِي يَصْطَنِعُه اللاعِبُ فِي حَرَكَاتِهِ، ومَشْيِهِ، ونَصِّ عُنُقِه … وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ، ومُشَاهَدٌ للجَمِيْعِ، ومَا قُلْتُه هُنَا لَيْسَ أمْرًا نَادِرًا؛ بَلْ وُقُوعُه هُوَ الغَالِبُ؛ لأنَّ المَقَامَ يَسْتَدْعِيْه، والحَالَ يَرْتَضِيْه؛ فَكَانَ وُقُوْعُه بَيْنَ اللاعِبِيْنَ ضَرُوْرَةً وحِسًّا، ولا بُدَّ!، ولا يَنْجُو مِنْ ذَلِكَ إلاَّ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا وَلِيٌّ صَالِحٌ، أو لاعِبٌ طَالِحٌ، فالأوَّلُ مِنْهُمَا : لَيْسَ مَحَلاً لِتَّمْثِيْلِ؛ لأنَّه أبْعَدَ الخَلْقِ عَنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِدَافِعِ وِلايَتِهِ، وصَلاحِهِ، أمَّا الثَّاني : فَدَعْوَاهُ بَاطِلةٌ رَأسًا؛ بِدَافِعِ لِعْبِهِ، ولَهْوِهِ السَّاقِطِ، والشَّاذُ لا حُكْمَ لَهُ !
فإنْ تَنْجُ مِنْها تَنْجُ مِنْ ذِيْ عَظِيْمَةٍ وإلاَّ فإنِّي لا إخَالُكَ نَاجِيًا(1)
__________
(1) ـ انظر "زَادَ المَعَادِ" لابنِ القَيِّمِ، (3/235)، ولَمْ يَعْزُهُ لأحَدٍ، وقِيْلَ هُوَ مِنْ كَلامِ الفَرَزْدَقِ، واللهُ أعْلَمُ .(1/306)
يُوَضِّحُهُ : أنَّ الصَّحَابِيَّ أبا دُجَانةَ سِمَاكَ بنَ خَرَشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الخُيَلاءِ، والزَّهْوِ في مَشْيَتِه عِنْدَ النِّزَالِ، وذَلِكَ لمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ يَأخُذَ هَذَا السَّيْفَ بِحَقَّه"، فَقَالَ أبُو دُجَانَةَ : ومَا حَقُّهُ يا رَسُوْلَ اللهِ ؟، قَالَ : " أنْ تَضْرِبَ بِه العَدُوَّ حَتَّى يَنْحَنِيَ…"، وكَانَ أبُو دُجَانَةَ رَجُلاً شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الحَرْبِ، وكَانَ إذَا أُعْلِمَ بِعُصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ، فاعْتَصَبَ بِها، عَلِمَ النَّاسُ أنَّه سَيُقَاتِلُ؛ فَلَّمَا أخَذَ السَّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أخْرَجَ عِصَابَتَه تِلْكَ، فَعَصَبَ بِها رَأسَهُ، وجَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وحَيْنَ رَآهُ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ : " إنَّها لَمَشْيَةٌ يُبْغِضُها اللهُ، إلاَّ فِي مِثْلِ هَذا المَوْطِنِ"(1) مُسْلِمٌ، وابْنُ هِشَامٍ، واللَّفْظُ لَهُ .
قُلْتُ : إذَا كَانَ هَذَا التَّبَخْتُرُ، والزَّهْوُ جَاءَ مِنْ صَحَابِيِّ جَلِيْلٍ حَالَ النِّزالِ، والقِتَالِ، ونَصْرِ الإسْلامِ … والحَالَةُ هَذِه كَيْفَ بأهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّذِينَ لا قِتَالَ عِنْدَهُم، ولا نَصْرَ للإسْلامِ؛ بَلْ عُدْوانٌ بَاطِلٌ، ومُغَالَبَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وعُلُوٌّ فِي الأرْضِ بغَيْرِ حَقٍّ !
* * *
المَحْظُورُ الحَادِي والعِشْرُوْنَ
التَّنَابُزُ بالألْقَابِ
قَالَ تَعَالَى : " ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون"[الحجرات11] .
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (2470)، وأحمد (3/123)، والحاكم (3/230)، وابن هشام (3/97) واللفظ له .(1/307)
قَالَ القُرْطُبِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " هَذِه الآيةُ : "ولا تلمزوا أنفسكم"[الحجرات11]، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى : "ولا تقتلوا أنفسكم"[النساء29] أي : لا يَقْتُلْ بَعْضُكُم بَعْضًا؛ لأنَّ المُؤْمِنِيْنَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، فَكَأنَّه بِقَتْلِ أخِيْهِ قَتَلَ نَفْسَهَ، وكَقَوْلِهِ تَعَالَى : "فسلموا على أنفسكم"[النور61]، يَعْنِي : يُسَلِّمُ بَعْضُكُم عَلَى بَعْضٍ"(1).
ومِنَ اللَّمْزِ المُحَرَّمِ التَّنَابُزُ بالألْقَابِ، وهُوَ التَّنَادِي بِمَا يَسُوْءُ أخَاه مِنْها ويُكْرَهُ، مِمَّا يَحْمِلُ سُخْرِيَّةً، ولَمْزًا، ولا يَنْبَغِي لإنْسَانٍ أنْ يَسُوْءَ أخَاه، فَيُنَادِيْه بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ، ويَتَأذَّى بِه : فَهَذَا مَدْعَاةٌ لِتَغْيِرِ النُّفُوْسِ، وعُدْوَانٌ عَلَى الأخُوَّةِ، ومُنَافَاةٌ للأدَبِ الإسْلامِيِّ .
* * *
ومَا ذَكَرْناَهُ هُنَا عَنْ حُرْمَةِ التَّنَابُزِ بالألْقَابِ الوَضِيعَةِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ؛ إلاَّ أنَّه ـ للأسَفِ ـ قَدْ وُجِدَتْ ألْفَاظُه، وانْتَشَرَتْ أسْبَابُه، وعَلَتْ أصْوَاتُه مُؤخَّرًا بَيْنَ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ رِيَاضِيِّيْنَ، ومُشَجِّعِيْنَ، وأكْبَرُ دَلِيْلٍ عَلَى ذَلِكَ : مَا تَنْشُرُه القَنَوَاتُ الإعْلامِيَّةُ مِنْ لِقَاءاتٍ، ومُقَابَلاتٍ يتخلَّلُها عِبَارَاتٌ صَرِيْحَةٌ، أو خَفيَّةٌ تَتَضَمَّنُ في مَثَانِيْها ومَطاوِيْها التَّنَابُزَ بالألْقَابِ، والاسْمَ الفُسُوقَ بَعْدَ الإيْمَانِ !
* * *
المَحْظُورُ الثَّاني والعِشْرُوْنَ
التَّهَاوُنُ بالتَّصْوِيرِ
قَالَ تَعَالَى : " إنَّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعد لهم عذابا مهينا"[الأحزاب57]، قَالَ عِكْرِمَةُ : هُمُ الَّذِيْنَ يَصْنَعُوْنَ الصُّوَرَ(2) .
__________
(1) ـ "تفسير القرطبي" ( 16/327 ) .
(2) ـ انظر "الزواجر" للهيتمي (2/66) .(1/308)
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ الَّذِيْنَ يَصْنَعُوْنَ هَذِه الصُّوَرَ، يُعَذَّبُوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ يُقَالُ لَهُم : أحْيُوْا مَا خَلَقْتُم"(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لعَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا ـ : " أشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِيْنَ يُضَاهُوْنَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه.
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 10/5951 )، ومسلم ( 3/1669 ) من حديث عبد الله بن عمرو .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 10/ 5954 )، ومسلم ( 3/1668 ) من حديث عائشة .(1/309)
وقَالَ أيضًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيْه الصُّوَرُ لا تَدْخُلُه الملائِكَةُ"(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ أنَّه جَاءهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إنِّي رَجُلٌ أصَوِّرُ هَذِه الصُّوَرَ، فافْتِنِي فِيْها ؟، فَقَالَ لَهُ : ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ : ادْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ، وقَالَ : أنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ : " كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُوْرَةٍ صَوَّرَها نَفْسًا تُعَذِّبُه فِي جَهَنَّمَ"(2). قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ : فإنْ كُنْتَ لا بُدَّ فَاعِلاً فاصْنَعْ الشَّجَرَةَ، ومَا لا نَفْسَ لَهُ. وفِي رِوَايةٍ للبُخَارِيِّ أنَّه قَالَ لَهُ : إنِّمَا مَعِيْشَتِي مِنْ صِنْعَةِ يَدِي، وإنِّي أصْنَعُ هَذِه التَّصَاوِيْرَ … وفِيْه : عَلَيْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيْه رُوْحٌ(3) البُّخَارِيُّ .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري (4/2105)، ومسلم (3/1669) .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 3/1670 ) من حديث ابن عباس .
(3) ـ أخرجه البخاري ( 4/ 2225 ) من حديث ابن عباس .(1/310)
قَالَ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ مَا حَاصِلُهُ : " تَصْوِيْرُ صُوْرَةِ الحَيْوَانِ حَرَامٌ مِنَ الكَبَائِرِ للوَعِيْدِ الشَّدِيْدِ، سَوَاءٌ صَنَعَه لِمَا يُمْتَهَنُ، أو لِغَيْرِه إذْ فِيْه مُضَاهَاةٌ لِخَلْقِ اللهِ، وسَوَاءٌ كَانَ بِبِسَاطٍ، أو ثَوْبٍ، أو دِرْهَمٍ، أو دِيْنَارٍ، أو فِلْسٍ، أو إنَاءٍ، أو حَائِطٍ، أو مِخَدَّةٍ، أو نَحْوِها، وأمَّا تَصْوِيْرُ صُوَرِ الشَّجَرِ، ونَحْوِها مِمَّا لَيْسَ بِحَيْوَانٍ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وأمَّا المُصَوِّرُ صَوْرَةَ الحَيْوَانِ فإنْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى حَائِطٍ، أو مَلْبُوْسٍ : كَثَوْبٍ، أو عِمَامَةٍ، أو نَحْوِها مِمَّا لا يُعَدُّ مُمْتَهَنًا فَحَرَامٌ، أو مُمْتَهَنًا : كبِسَاطٍ يُدَاسُ، ومِخَدَّةٍ، ووِسَادَةٍ، ونَحْوِها فَلا يَحْرُمُ؛ لَكِنْ هَلْ يَمْنَعُ دُخُوْلَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ ذَلِكَ البَيْتَ ؟، الأظْهَرُ أنَّه عَامٌ فِي كُلِّ صُوْرَةٍ؛ لإطْلاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيْه كَلْبٌ، ولا صُوْرَةٌ"، ولا فَرْقَ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ، ومَا لا ظِلَّ لَهُ، هَذَا تَلْخِيْصُ مَذْهَبِ جَمْهُوْرِ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، والتَّابِعِيْنَ، ومَنْ بَعْدَهُم كالشَّافِعِيِّ، ومَالِكٍ، والثَّوْرِيِّ، وأبِي حَنِيْفَةَ، وغَيْرِهِم، وأجْمَعُوا عَلَى وُجُوْبِ تَغْيِيْرِ مَا لَهُ ظِلٌّ، قَالَ القَاضِيُّ : إلاَّ مَا وَرَدَ فِي لُعَبِ البَنَاتِ الصِّغَارِ مِنَ الرُّخْصَةِ، ولَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ شِرَاءَ الرَّجُلِ ذَلِكَ لِبِنْتِهِ، وادَّعَى بَعْضُهم أنَّ إبَاحَةَ اللَّعِبِ بِهِنَّ بِهَا مَنْسُوْخٌ بِمَا مَرَّ"(1).
* * *
__________
(1) ـ انظر "الزواجر" لابن حجر الهيتمي ( 2/69-70 ) .(1/311)
أمَّا وُجُوْد الصُّوَرِ بَيْنَ عُشَّاقِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَحَدِّثْ ولا حَرَجَ !؛ بَلْ لا أبَالِغُ إذَا قُلْتُ : وَصَلَ الحَالُ ببَعْضِهِم إلى حَدٍّ مَهِيْنٍ مَشِيْنٍ مِنَ المُكَاثَرَةِ فِي التَّصْوِيْرِ بجَمِيْعِ أشْكَالِها !
فِي حِيْنَ أنَّ المَجَلاتِ، والصَّحَافَةَ الرِّياضِيَّةَ لا تَفْتأُ تَقْذِفُ بِصُوَرِ الرِّياضِيِّيْنَ المُحَرَّمَةِ، حَتَّى وَصَلَ الحَالُ بِها أخِيْرًا إلى تَصْوِيْرِ النِّسَاءِ فِي المَجَلاتِ، وهُنَّ فِي كَامِلِ زِيْنَتِهِنَّ !، اللَّهُمَّ أرْحَمْ ضَعْفَنَا، ولا تُؤاخِذْنا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا(1) !
* * *
المَحْظُورُ الثَّالِثُ والعِشْرُوْنَ
الإعَانَةُ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ
قال تعالى : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إنْ الله شديد العقاب"[المائدة2] .
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ أعَانَ عَلَى خُصُوْمَةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ كَانَ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ"(2)الحاكم .
__________
(1) ـ ومَنْ أرَادَ كَبِيْرَ تَفْصِيلٍ فِي أحْكَامِ الصُّوَرِ المُبَاحِ مِنْها والمُحَرَّمِ، فَعَلَيْه بِكِتَابِ "أحْكَامِ التَّصْويرِ" للأخ محمد وَاصِلٍ، وهو عبارة عن رسالة ماجستير، كما أنني وَقَفْتُ عَلَى كِتَابٍ صَغِيْرٍ في حَجْمِه، كَبِيْرٍ في مَضْمُونةِ تكلَّمَ صَاحِبُه عَنْ حُكْمِ التَّصْوِيرِ، مع بَيَانِ الشُّبَهِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِها بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ، وهُوَ للشَّيْخِ نَاصِرِ الفَهَدِ، تَحْتَ عُنْوَانِ "الفِيْدْيُو الإسْلامِي"، فَفِيهِ مِنَ التَّحْرِيرِ العِلْمِي مَا يُرغِّبُ في مُطالعتِه، فَجَزَاه اللهُ خَيْرًا !
(2) ـ أخرجه الحاكم (4/99)، وهو صحيح، انظر "صحيح الجامع" للألباني (6049) .(1/312)
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَثَلُ الَّذِي يُعِيْنُ قَوْمَه عَلَى غَيْرِ الحَقِّ؛ كَمَثَلِ بَعِيْرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ، فَهُو يَنْزِعُ مِنْها بِذَنَبِه"(1) أحْمَدُ، ومَعْنَاهُ : أنَّه وَقَعَ فِي الإثْمِ، وهَلَكَ كالبَعِيْرِ إذَا تَرَدَّى فِي بِئْرٍ مُهْلِكَةٍ فَصَارَ يَنْزِعُ بِذَنَبِه، ولا يَقْدِرُ عَلَى الخَلاصِ(2).
* * *
ومِمَّا لاشَكَّ فِيْه أنَّ مَلاعِبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَنْجَعٌ خَصْبٌ لإثَارَةِ الشَّحْنَاءِ، والعُدْوَانِ، والخُصُوْمَةِ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ، وذَلِكَ فِيْما يَفْتَعِلُه المُشَجِّعُوْنَ مِنْ ألْفَاظٍ، وعِبَارَاتٍ، وكَلِمَاتٍ مَشْحُوْنَةً بالتَّشْجِيْعِ، والتَّحْرِيْضِ مِمَّا يَزِيْدُ مِنَ الهُوَّةِ، والشُّقَّةِ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ أثْنَاءَ اللَّعِبِ!، وكُلُّ هَذَا لَيْسَ شَيْئًا خَفِيًّا؛ بَلْ أمْرٌ مُشَاهَدٌ لِكُلِّ ذِيْ عَيْنٍ !
كَمَا أنَّ هَذِه المُهَاتَرَاتِ، والحَمَاقَاتِ الَّتِي يَتَقَاذَفُها مُشَجِّعُو ( كُرَةِ القَدَمِ ) لَمْ تَكُنْ وَلِيدَةَ اللَّعِبِ قَطُّ؛ بَلْ كَانَ لَهَا نَصِيْبُ الأسَدِ قَبْلَ اللَّعِبِ، وبَعْدَه !، ويَشْهَدُ لِهَذا مَا تَنْشُرُه الصَّحَافَةُ ( الأثِيْمَةُ ) كَلَّ يَوْمٍ عَمَّا يَحْصُلُ مِنْ إثَارَاتٍ، وخُصُوْمَاتٍ، ومِرَاءٍ، وجِدَالٍ مَحْمُوْمٍ مَذْمُوْمٍ .
قَالَ تَعَالَى : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"[ البقرة204] .
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " أبْغَضُ الرِّجَالِ إلى اللهِ الألَدُّ الخَصِمُ"(3) البُخَارِيُّ .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (1/293)، وهو صحيح، انظر "صحيح الجامع" للألباني (5838) .
(2) ـ انظر "الزواجر" للهيثمي (2/420) .
(3) ـ أخرجه البخاري (5/2457) .(1/313)
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " ما ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هَدْيٍ كَانُوا عَلَيْه؛ إلاَّ أُتُوْا جَدَلاً"، ثُمَّ تَلا قَوْلَه تَعَالَى : " مَا ضَرَبُوه لك إلاَّ جدلاً بل هم قوم خَصِمون"[الزخرف58] التِّرْمِذِيُّ(1).
* * *
ومِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ فِي لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
ـ تَأجِيْرُ، أو إنْشَاءُ المَلاعِبِ الرِّياضِيَّةِ؛ لإقَامَةِ المُبَارَياتِ الرِّياضِيَّةِ؛ لاسِيَّمَا ( كُرَةُ القَدَمِ ) .
ـ بَيْعُ، أو شِرَاءُ المَلابِسِ الرِّيَاضِيَّةِ الخّاصَّةِ بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ .
ـ مُشَاهَدَةُ، أو مُتَابَعَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُطلقًا؛ سَوَاءٌ عَبْرَ القَنَوَاتِ الإعْلامِيَّةِ، أو غَيْرِها .
ـ شِرَاءُ الصُّحُفِ، أو المَجَلاتِ الخَاصَّةِ بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ .
ـ بَيْعُ، أو تَأجِيْرُ كُلِّ مَا مِنْ شَأنِهِ يُعِيْنُ، أو يَخْدِمُ ( كُرَةَ القَدَمِ )، وغَيْرَها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عِقَارَاتٍ، أو مَحَلاتٍ، أو صَحَافَةً، أو إعْلامًا … أو غَيْرَ مَا ذُكِرَ .
ـ بَذْلُ الهَدَايا، والعَطَايا، والمِنَحُ لأهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِه الهَدَايا، والمِنَحُ مِنْ جِهَاتٍ رَسْمِيَّةٍ، أو فَرْدِيَّةٍ، أو كَانَتْ مَالِيَّةً، أو عَيْنِيَّةً .
ـ الثَّناَءُ، والإطْرَاءُ، والمَدْحُ لأهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِه المَدَائِحِ مِنْ خِلالِ قَنَوَاتٍ إعْلامِيَّةٍ، أو صُحُفٍ مَقْرُوْءةٍ، أو أحَادِيْثَ بَيْنِيَّةٍ .
* * *
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي (5/3253)، انظر "صحيح الترمذي" (2593) للألباني .(1/314)
المَحْظُورُ الرَّابِعُ والعِشْرُوْنَ
تَرْوِيعُ، وتَخْوِيفُ المُسْلِمِ
قَالَ تَعَالَى : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثمًا مبينا"[الأحزاب58] .
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ أشَارَ إلى أخِيْهِ بِحَدِيْدَةٍ؛ فإنَّ المَلائِكَةَ تَلْعَنُه حَتَّى يَنْتَهِي، وإنْ كَانَ أخَاهُ لأبِيْهِ، وأمِّهِ"(1)مُسْلِمٌ .
قَالَ أبُو دَاوُدَ : ( بَابُ مِنْ يَأخُذُ الشَّيْءَ عَلَى المِزَاحِ ) سَاقَ فِيْه حَدِيْثَ عَبْدِ الله بنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيْدَ، عَنْ أبِيْه عَنْ جَدِّه أنَّه سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُوْلُ : " لا يَأخُذَنَّ أحَدُكُم مَتَاعَ أخِيْه لاعِبًا، ولا جَادًّا، ومَنْ أخَذَ عَصَا أخِيْه فلْيَرُدَّها"(2) أحْمَدُ، وأبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ واللَّفْظُ لَهُ .
قَالَ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا مَا يَفْعَلُه النَّاسُ مِنْ أخْذِ المَتَاعِ عَلَى سَبِيْلِ المِزَاحِ فَهَذَا مَحْظُوْرٌ لِمَا فِيْه مِنْ تَرْوِيْعِ صَاحِبِ المَتَاعِ"، وذَكَرَ حَدِيْثَ السَّائِبِ بنِ يَزِيْد، وقَالَ : " جَعَلَهُ لاعِبًا مِنْ جِهَةِ أخْذِه بِنِيَّةِ رَدِّهِ، جَادًا مِنْ جِهَةِ أنَّه رَوَّعَ أخَاهُ المُسْلِمَ بِفَقْدِ مَتَاعِهِ …"(3).
__________
(1) ـ أخرجه مسلم ( 4/2020 ) من حديث أبي هريرة .
(2) ـ أخرجه أحمد ( 4/221 )، وأبو داود ( 4/301 )، والترمذي ( 4/462 )، وهو حديث صحيح، انظر صحيح "أبي داود" (4183)، و"الترمذي (2/231) للألباني .
(3) ـ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" لابن عبد السلام ( 2/212 ) .(1/315)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ أبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهم كَانُوا يَسِيْرُوْنَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهم، فانْطَلَقَ بَعْضُهم إلى حَبْلٍ مَعَه فَأخَذَهُ، فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"(1) أبُو دَاوُدَ .
* * *
ومِثْلُ هَذَا التَّرْوِيْعِ، والتَّخْوِيْفِ مَا يَفْعَلُه لاعِبُو ( كُرَةِ القَدَمِ ) أثْنَاءَ اللَّعِبِ مَعَ خُصُوْمِهِم، وذَلِكَ مَاثِلٌ : فِي رَكْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِشِدَّةٍ تُجَاهَ الخَصْمِ سَوَاءٌ كَانَ الخَصْمُ حَارِسًا، أو لاعِبًا… وهَذَا الرَّكْلُ الشَّدِيْدُ تُجَاهُ الخَصْمِ لَيْسَ إشَارَةً، وإيْذَاءً حَسْبُ؛ بَلْ هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ لِمَا فِيْه مِنَ الضَّرْبِ، والتَّصْوِيْبِ لِوَجْهِ الخَصْمِ، أو سَائِرِ جِسْمِه، وكَذَا مَا يَفْعَلُه اللاعِبُ عِنْدَ المُرَوَاغَةِ أثْنَاءَ اللَّعِبِ، وذَلِكَ بإشْعَارِ الخَصْمِ أنَّه سَوْفَ يُصَوِّبُ الكُرةَ بِشِدَّةٍ فَائِقَةٍ تُجَاهَ وَجْهِهِ، أو جِسْمِهِ حَتَّى يَشُلَّ حَرَكتَه، أو رَيْثُما يُقَلِّلَ مِنْها؛ مِمَّا يُتِيْحُ لَهُ المُرُورَ بسُهُوْلَةٍ مِنْ خَصْمِهِ، فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحَرَكاتِ المُرَوِّعَةِ الَّتِي يَصْطَنِعُها اللاعِبُونَ أمَامَ بَعْضِهِم بَعْضًا، مِمَّا هِيَ مِنْ شَأنِ فُنُوْنِ اللَّعِبِ ضَرُوْرَةً !
* * *
المَحْظُورُ الخامِسُ والعِشْرُوْنَ
التَّشْجِيْعُ، والتَّحْرِيْضُ البَاطِلُ
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود (5004)، وهو صحيح انظر "صحيح أبي داود" للألباني (4184) .(1/316)
إنَّ مَسْألَةَ التَّشْجِيْعِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الجَمَاهِيْرُ الرِّياضِيَّةُ مِنْ خِلالِ مُدَرَّجَاتِ مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، أو مِنْ خِلالِ الصَّحَافَةِ، أو الإذَاعَاتِ سَوَاءٌ في المُقَابَلاتِ، أو اللِّقَاءاتِ : لَهِيَ مِنَ الظُّلْمِ، والبَغْيِ الَّذِي حَذَّرَتْ مِنْهُ الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ، ونَهَتْ عَنْهُ في كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وسُنَّةِ رَسُوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلْيَها مِنَ المُحَرَّمَاتِ، بَلْهَ الكَبَائِرِ : كالعَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ، والإعَانَةِ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ مَا هو مَعْلُومٌ ضَرُوْرَةً !
* * *
إنَّ مَسْألَةَ التَّشْجِيْعِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الجَمَاهِيْرُ الرِّياضِيَّةُ فَقَدْ نَصَّتْ الشَّرِيْعَةُ عَلَى تَحْرِيْمِها فِيْمَا هُوَ مُبَاحٌ مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ : كالسِّبَاقِ، والمُنَاضَلَةِ، وغَيْرِها، مِنَ الألْعَابِ الَّتِي شُرِعَتْ للجَهَادِ، أو لِمَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه فِيْما هُوَ مُحَرَّمٌ مِنَ الألْعَابِ الَّتِي حَرَّمَتَها الشَّرِيْعَةُ : كالنَّرْدِ، والشِّطْرَنْجِ، والقِمَارِ، و( كُرَةِ القَدَمِ ) !
ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ حَدِيْثِ ابنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما ـ مَرْفُوعًا : " مَنْ أجْلَبَ عَلَى الخَيْلِ يَوْمَ الرِّهَانِ؛ فَلَيْسَ مِنَّا"(1) أبُو يَعْلَى، والطَّبَرَانِيُّ .
__________
(1) ـ أخرجه أبو يعلى في "مسنده"، (1/112)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11/119) رقم (11318)، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/303-304) : " أخرجه ابن أبي عاصم، والطبراني من حديث ابن عباس، وإسناد ابن أبي عاصم لا بأس به " انتهى، ويشهد له ما بعده .(1/317)
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ حَدِيْثِ عِمْرَانِ بنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ مَرْفُوعًا : " لا جَلَبَ، ولا جَنَبَ في الرِّهَانِ" (1) أبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، وفِي البَابِ عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم .
* * *
* والجَلَبُ : هُوَ الصِّيَاحُ عَلَى الفَرَسِ مِنْ قِبَلِهِ، ومِنْ خَلْفِهِ حَتَّى يَسْرِعَ !
وهَذَا مَا نَصَّ عَلَيْه ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بِقَوْلِه : " فالجَلَبُ : أنْ يَصِيْحَ بِفَرَسِه فِي وَقْتِ السِّبَاقِ هُوَ، أو غَيْرُه، ويَزْجُرَه زَجْرًا يَزِيْدُ مَعَه فِي شَأوِهِ، وإنَّمَا العَدْلُ أنْ يَرْكُضَا بِتَحْرِيْكِ اللِّجَامِ، والاسْتِحْثَاثِ، وبالسَّوْطِ، والمِهْمَازِ، وما فِي مَعْنَاهُما؛ مِنْ غَيِرِ إجْلابٍ بالصَّوْتِ، وهَذَا تَفْسِيْرُ الأكْثَرِيْنَ .
* وقِيْلَ : هُوَ أنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ، فَيَصْطَفُّوْا وُقُوْفًا مِنَ الجَانِبَيْنِ، ويَزْجُرُوا الخَيْلَ، ويَصِيْحُوا بِها، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، والحَدِيْثُ يَعُمُّ القِسْمَيْنِ .
وأمَّا الجَنَبُ؛ فَفِيْه تَفْسِيْرَانِ :
أحَدُهُما : وهُوَ تَفْسِيْرُ أكْثَرِ الفُقَهَاءِ : أنْ يُجْنِبَ المُسَابِقُ مَعَ فَرَسَهِ فَرَسًا يُحَرِّضُه عَلَى الجَرِي، قَالَ أحْمَدُ بنُ أبِي طَاهِرٍ :
وإذَا تَكَاثَرَ فِي الكَتِيْبَةِ أهْلُهَا كُنْتُ الَّذِي يَنْشَقُّ عَنْهُ المَوْكِبُ
وأتَيْتَ تَقْدَمَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمُ ووَرَا وَرَائِكَ قَدْ أتَى مَنْ يَجْنُبُ
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (4/429،439،443)أبو داود (3/30)، والترمذي (3/422)، والنسائي (6/111، 227،228)، وهو حديث صحيح، انظر "صحيح الجامع" للشيخ اللألباني .(1/318)
والتَّفْسِيْرُ الثَّانِي : أنَّهُم كَانُوا يُجْنِبُوْنَ الفَرَسَ حَتَّى إذَا قَارَبُوا الأمَدَ تَحَوَّلُوا عَنِ المَرْكُوْبِ الَّذِي قَدْ كَدَّهُ الرُّكُوْبُ إلى الفَرَسِ المَجْنُوْبِ، فأبْطَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذَاكَ، ذَكَرَهُ الخَطَّابِيُّ وغَيْرُه(1).
وفِي مُوَطأ القَعْنَبِيِّ : سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا جَلَبَ، ولا جَنَبَ"، مَا تَفْسِيْرُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ :
بَلَغَنِي ذَلِكَ، وتَفْسِيْرُه أنْ يَجْلِبَ وَرَاءَ الفَرَسِ حَتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأمَدِ، ويُحَرِّكَ وَرَاءهُ الشَّيْءَ، يَسْتَحِثُّ بِه لِيَسْبِقَ، فَذَلِكَ الجَلَبُ، والجَنَبُ أنْ يُجْنِبَ مَعَ الفَرَسِ الَّذِي يُسَابِقُ بِه فَرَسًا آخَرَ؛ حَتَّى إذا دَنَا؛ تَحَوَّلَ رَاكِبُه عَلَى الفَرَسِ المَجْنُوْبِ، انتهى .
والمَقْصُوْدُ أنَّه نَهَى عَنْ تَقْوِيَةِ أحَدِ الحِزْبَيْنِ بِمَا يَكُوْنُ فِيْه مَزِيْدُ إعَانَةٍ لَهُ عَلَى الآخَرِ؛ لِمَا فِيْه مِنَ الظُّلْمِ"(2).
وهَذَا الَّذِي ذَكَرَه ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُوَ مَا عَلَيْه أكْثَرُ الفُقَهَاءِ، قَالَ الخِرَقِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "مُخْتَصَرِه" : " ولا يَجُوْزُ إذَا أُرْسِلَ الفَرَسَانِ أنْ يُجْنِبَ أحَدُهُما إلى فَرَسِه فَرَسًا يُحَرِّضُه عَلَى العَدْوِ، ولا يَصِيْحُ بِه فِي وَقْتِ سِبَاقِه … وذَكَرَ الحَدِيْثَ"(3)، وقَالَ ابنُ القَيِّمِ بَعْدَ كَلامِه هَذَا : وأكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَه"(4)، أي : الخِرَقِي رَحِمَهُ اللهُ .
__________
(1) ـ انظر "معالم السنن" للخطابي ( 2/256 – 257 ) .
(2) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 190-191) .
(3) ـ "المغني" (11/158) .
(4) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 414-415) .(1/319)
قَالَ البُهُوتِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "الكَشَّافِ" : " ويُكْرَهُ للأمِيْنِ، والشُّهُوْدِ، وغَيْرِهِم مِمَّنْ حَضَرَ مَدْحَ أحَدِهِما، أو مَدْحَ المُصِيْبِ، وعَيْبَ المُخْطِئ لِمَا فِيْه مِنْ كَسْرِ قَلْبِ صَاحِبِهِ، وغَيْظِه، قَالَ فِي "الفُرُوْعِ" : ويَتَوَجَّهُ فِي شَيْخِ العِلْمِ، وغَيْرِه مَدْحُ المُصِيْبِ مِنَ الطَّلَبَةِ، وعَيْبُ غَيْرِه كَذَلِكَ، وفِي "الإنْصَافِ" : قُلْتُ : إنْ كَانَ مَدْحُه يُفْضِي إلى تَعَاظُمِ المَمْدُوْحِ، أو كَسْرِ قَلْبِ غَيْرِه قَوِيَ التَّحْرِيْمُ، وإنْ كَانَ فِيْه تَحْرِيْضٌ عَلَى الاشْتِغَالِ، ونَحْوِه قَوِيَ الاسْتِحْبَابُ، واللهُ أعْلَمُ"(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلامِ أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ الجَلَبِ عِنْدَ المُسَابَقَةِ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ في الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ المَشْرُوْعَةِ، فَهُوَ فِيْمَا سَوَاهَا مِنَ الألْعَابِ المُبَاحَةِ، أو المُحَرَّمَةِ كَـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَرَامٌ مِنْ بَابِ أوْلَى قَطْعًا !
* * *
__________
(1) ـ انظر "كشاف القناع" (4/75)، و"شرح المنتهى" (4/97) كلاهما للبهوتي، و"الفروع" لابن مفلح (4/467)، و"الإنصاف" للمرداوي (15/61)، و"حاشية الروض" لابن قاسم (5/357) .(1/320)
أمَّا مَسْألَةُ التَّشْجِيْعِ، والتَّحْرِيْضِ، والتَّهْيِيْجِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الجَمَاهِيْرُ الرِّياضِيَّةُ أثْنَاءَ لِعْبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ فَوْقِ المُدَرَّجَاتِ، أو مِنْ خِلالِ الصَّحَافَةِ، أو الإذَاعَاتِ لَيْسَ مَحَلَّ خِلافٍ، أو نِقَاشٍ بَيْنَ عُقَلاءِ، ومَجَانِيْنِ بَنِي آدَمَ؛ إنَّه مِنَ الجَلَبِ المُحَرَّمِ الشَّرْعِيِّ؛ فِي حِيْنَ أنَّنا لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إلى تَدْلِيْلٍ عَلَى هَذَا، بِقَدْرِ مَا نَحْنُ بحَاجَةٍ إلى دَمَعَاتٍ، وحَسَرَاتٍ عَلَى أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ !، ورُبَّمَا بِحَاجَةٍ : إلى أرْبَعِ تَكْبِيْرَاتٍ عَلَى الجَمَاهِيْرِ إذَا لَمْ يَفِيْقُوا إلى رُشْدِهم، ثُمَّ إلى دِيْنِهِم !
لَعَمْرُكَ إنَّهُم فِي سَكْرَتِهم يَعْمَهُونَ، وفِي خَوْضِهِم يَلْعَبُونَ، وفِي غَفْلَتِهم سَاهُوْنَ!، اللَّهُمَّ اهْدِ ضَالَ المُسْلِمِيْنَ، وأبْرِمْ لِهَذِه الأمَّةِ أمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيْه أهْلُ طَاعَتِك، ويُذَلُّ فِيْه أهْلُ مَعْصِيَتِك !
* * *
المَحْظُورُ السَّادِسُ والعِشْرُوْنَ
المُبَالَغَةُ فِي الإطْرَاءِ، والثَّنَاءِ المَذْمُوْمِ عَلَى اللاعِبِيْنَ
إنَّ إهَانةَ أهْلِ المَعَاصِي المُجَاهِرِيْنَ، ووُجُوْبَ احْتِقَارِهِمِ، وإذْلالِهم، وتَرْكَ تَعْظِيْمِهم، وتَوْقِيْرِهم مِنَ الأصُوْلِ المُقرَّرةِ عِنْدَ أهْلِ السَّنَّةِ فِي بَابِ التَّعامُلِ مَعَ أهْلِ المَعَاصي .
وقَدْ دَلَّ عَلَى تَقْرِيْرِ هَذَا الأصْلِ أدِلَّةٌ مِنَ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، وأقْوَالِ سَلَفِ الأمَّةِ، وأهْلِ العِلْمِ مِنْ بَعْدِهِم .(1/321)
فَقَدَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا تَقُوْلُوا : للمُنَافقِ سِيِّدٌ، فإنَّه إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ أسْخَطْتُم ربَّكُمْ عَزَّ وجَلَّ"(1) أبَوْ دَاوْدَ، فَقَدَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي هَذَا الحَدِيْثِ أنْ يُطْلَقَ عَلَى المُنَافِقِ ( سَيِّدٌ ) لِمَا فِيْه مِنَ التَّعْظِيْمِ لَهُ المُوْجِبِ سَخَطَ اللهِ تَعَالِى .
قَالَ فَضْلُ اللهِ الجِيْلانِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي مَعْنَى قَوْلِه : ( إنْ يَكُ سَيِّداً فَقَدْ أسْخَطْتُم رَبَّكُم ) : " أيْ : إنْ يَكُ سَيِّداً وَجَبَتْ طَاعَتُه، وذَلِكَ مُوْجِبٌ لسَخَطِ اللهِ، وقِيْلَ : أرَادَ أنَّكُمْ بِهَذا القَوْلِ أسْخَطْتُم رَبَّكُم فَوَضَعَ الكَوْنَ مَوْضعَ القَوْلِ .
وقِيْلَ : إنْ وقَّرتُمُوه فَقَدْ وَقَّرتُم مَنْ لا يَسْتَحِقُّ التَّوْقِيْرَ، وبِذَلِكَ أغْضَبْتُم رَبَّكُم، وإنْ لَمْ تُوَقِّرُوْه بالقَلْبِ، ولَكِنْ قُلْتُم إنَّكَ سَيِّدٌ فَقَدْ كَذَبتُم"(2).
والنَّهيُ فِي الحَدِيْثِ وإنْ كَانَ فِي حَقِّ المُنافقِ أنْ يُخَاطَبَ بِمَا يُوجِبُ تَعْظِيْمُه؛ إلاَّ أنَّه عَامٌ فِي كُلِّ المُحَادِّين لِشَرْعِ الله تَعَالَى مِنَ المُنافِقِيْنَ، وأهْلِ البِدَعِ، والمَعَاصِي أنْ يُخَاطَبُوا بِمِثْلِ ذَلِكَ، ولِذَا تَرْجَمَ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ لِهَذا الحَدِيْثِ فِي "رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ"، بِقَوْلِه : ( بَابُ النَّهْي عَنِ مُخَاطبةِ الفَاسِقِ، والمُبْتَدِعِ، ونَحْوِهما بِسَيِّدٍ، ونَحْوِه )(3).
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود (5/257)، والبخاري في "الأدب المفرد" (760)، وهو صحيحٌ، انظر "السلسلة الصحيحة" للألباني (371).
(2) ـ انظر "فَضْلَ اللهِ الصَّمَدِ" لفضل الله الجيلاني ( 2/230 ) .
(3) ـ انظر "رياض الصالحين" للنووي ص (596 ) .(1/322)
فَثَبَتَ النَّهيُ هُنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَنْ مُخَاطَبَةِ المُنَافِقِيْنَ، ومَنْ فِي حُكْمِهم مِنَ العُصَاةِ، وأهْلِ البِدَعِ، بِلَفْظِ ( سَيِّدٍ )، وكَذَا الحُكْمُ فِي غَيْرِه مِنَ الألْفَاظِ الشَّرِيْفَةِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيْمِ، والتَّوْقِيْرِ لَهُم .
وقَدْ جَاءتْ أفْعَالُ السَّلفِ أيْضاً مُقَرِّرَةً لِهَذا الأصْلِ : وهُوَ تَرْكُ تَعْظِيْمِ، وتَوْقِيْرِ أهْلِ الفَسَادِ مِنَ العُصَاةِ، ونَحْوِهِم؛ بَلْ إهَانَتُهُم، وإذْلالُهُم، وذَلِكَ بِمَا نُقِلَ عَنْهُم مِنَ آثَارٍ فِي انْتِقَاصِهِم لِبَعْضِ أهْلِ المَعَاصِي المُجَاهِرِيْنَ، والبِدَعِ، ووَصْفِهم لَهُم بِبَعْضِ الصِّفاتِ المُنَاسِبَةِ لِحَالِهم، ومَا كَتَبَه اللهُ عَلَيْهم مِنَ الذِّلَّةِ، والصَّغَارِ.
يَقُوْلُ العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ويَنْبَغِي أنْ تُهَانَ الكَفَرَةُ، والفَسَقَةُ زَجْراً عَنْ كُفْرِهِم، وفِسْقِهم، وغَيْرَةً للهِ عَزَّ وَجَلَّ"(1).
وقَدْ تَرْجَمَ النَّووِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي كِتَابِ "الأذْكَارِ"، ( بَابَ جَوَازِ تَكْنِيةِ الكَافِرِ، والمُبْتَدِعِ، والفَاسِقِ إذَا كَانَ لا يُعْرَفُ إلاَّ بِها، أو خِيْفَ مِنْ ذِكْرِهِ باسْمِه فِتْنَةٌ ) .
__________
(1) ـ انظر "فتاوى العز بن عبد السلام" ص (62) .(1/323)
وقَالَ بَعْدَ أنْ سَاقَ بَعْضَ الأدِلَّةِ مُسْتَدِلاً لصِحَّةِ مَا تَرْجَمَ لَهُ : " هَذَا كُلُّه إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ الَّذِي ذَكَرْنَاه فِي التَّرْجَمِةِ، فإنْ لَمْ يُوْجَدْ لَمْ يَزِدْ عَلَى الاسْمِ ، كَمَا رُوِّيْنَا فِي صَحِيْحِيْهِما : ( أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَتَبَ : مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ، ورَسُوْلِه إلى هِرَقْلٍ )(1)، فَسَمَّاه باسْمِه، ولَمْ يُكَنِّه، ولا لَقَّبه بِلَقَبِ مَلِكِ الرُّوْمِ، وهُوَ قَيْصَرُ(2)، ونَظَائِرُ هَذَا كَثِيْرَةٌ، وقَدْ أُمِرْنا بالإغْلاظِ عَلَيْهم، فَلا يَنْبَغِي أنْ نُكَنِّيهم، ولا نُرَقِّقْ لَهُم عِبَارَةً، ولا نُلِيْنَ لَهُم قَوْلاً، ولا نُظْهِرْ لَهُم وِدًّا، ولا مُؤَالَفَةً"(3).
يَقُوْلَ الشَّاطِبيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ :" إنَّ تَوْقِيْرَ صَاحِبَ البِدْعَةِ ( ومِثْلَه الفَاسِقَ ) مَظِنَّةً لمَفْسَدَتِيْنَ تَعُوْدَانِ عَلَى الإسْلامِ بالهَدْمِ :
إحْدَاهُما : الْتِفَاتُ الجُهَّالِ، والعَامَّةِ إلى ذَلِكَ التَّوْقِيْرِ، فَيَعْتَقِدُوْنَ فِي المُبْتَدِعِ ( والفَاسِقِ ) أنَّه أفْضَلُ النَّاسِ، وأنَّ مَا هُوَ عَلَيْه خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْه غَيْرُه، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى اتِّباعِهِ عَلَى بِدْعَتِه ( ومَعْصِيتِهِ )، دُوْنَ اتِّبَاعِ أهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهم .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري (4553)، ومسلم (1773) .
(2) ـ لَمْ يَقْتَصِرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى اسْمِ "قَيْصَرَ" كَمَا ذَهَبَ إليه النَّوَوِيُّ؛ بَلْ ذَكَرَه بِـ"هِرَقْلَ عَظِيْمِ الرُّوْمِ"، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايِةِ، ولَعَلَّ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ أرَادَ أنَّه لَمْ يُخَاطِبْه بِمَلِكِ الرُّوْمِ، وهُوَ كَذَلِكَ .
(3) ـ انظر "الأذْكَارَ" للنووي ص (262-263 ) .(1/324)
الثَّانيةُ : أنَّه إذَا وُقِّرَ مِنْ أجْلِ بِدْعَتِه ( ومَعْصِيتِه ) صَارَ ذَلِكَ كالحَادِي المُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إنْشَاءِ الابْتِدَاعِ ( والمَعْصِيَةِ ) فِي كُلِّ شِيْءٍ"(1).
* * *
فَلْيُعْلَمْ أنَّ لتَعْظِيْمِ أهْلِ الفِسْقِ صُوَراً كَثِيْرةً، دَلَّتِ النُّصُوْصُ عَلَى بَعْضِها، ونَبَّه العُلَمَاءُ عَلَى الآخِرِ مِنْها، فَمِنْ هَذِه الصُّوَرِ :
1ـ إطْلاقُ الألْقَابِ الحَسَنَةِ، والمُشْعِرَةِ بالتَّعْظِيْمِ عَلَيْهم، وكَذَا قَالَ ابنُ القَيِّمِ فِي وَصْفِ هَدْي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " وكَانَ يَكْرَهُ أنْ يُسْتَعمَلَ اللَّفْظُ الشَّرِيْفُ المَصُوْنُ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ..."(2).
أمَّا مَا يُطلقُه أهْلُ عَصْرِنا مِنَ الألْقَابِ، والأسْمَاءِ المُشْعِرَةِ بالتَّعْظِيْمِ عَلَى أهْلِ الفِسْق،ِ والمُجُوْنِ فَكَثِيْرَةٌ جِدًّا : كَالنَّجِمِ، والفنَّانِ، و ( الكَابْتِنِ )، وشَهِيْدِ الفَنِّ، وشَهِيْدِ الرِّياضَةِ، وشَهِيْدِ المَسْرَحِ، ورَجُلِ السَّلامِ ... واللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا يَصِفُوْنَ !
2ـ تَكْنِيَتُهم، فإنَّها مِنْ صُوَرِ تَعْظِيْمِهم، وتَكْرِيْمِهم .
يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وأمَّا الكُنْيَةُ فِهِي نَوْعُ تَكْرِيْمٍ للمُكَنَّى، وتَنْوِيْهٌ بِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
أُكنِّيهِ حِيْنَ أُنادِيْهِ لأُكْرِمَهِ… ولا أُلقِّبُهُ، والسَّوْأةُ اللَّقَبُ(3)
فَعَلَى هَذَا لا تَجُوْزَ تَكْنِيَةُ أهْلِ الرِّيَاضَةِ كَلاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، لا سِيَّمَا الَّذِيْنَ أبْدُوا لَنَا عَوْرَاتِهم، وحَلَقُوا لِحَاهُم، وسَاءَ حِيَاؤُهُم …!
__________
(1) ـ انظر "الاعتصام"للشاطبي (1/114) .
(2) ـ انظر "زاد المعاد"لابن القيم (2/9) .
(3) ـ انظر "زاد المعاد" لابن القيم (2/7) .(1/325)
3ـ تَهْنِئَتُهُم بِمَا فِيْه رِفْعةٌ، أو تَعْظِيمٌ لَهُم، مِثْلُ : انْتِصَارَاتِهم الرِّياضِيَّةِ، أو حَذَاقَتِهم فِي اللَّعِبِ، أو تَشْجِيْعِهم عَلَى لَهْوِهِم … إلخ .
وهُنَالِكَ صُوَرٌ كَثِيْرَةٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ، وفِي مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا أمْثِلَةٌ تُنْبِؤُك عَلَى مَا وَرَاءها مِنَ صُوَرٍ لا تَخْفَى عَلَى اللَّبِيْبِ، واللهُ المُوَفِّقُ، والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ.
* * *
أمَّا إذَا سَألَتْ أخِي المُسْلِمُ عَنِ الإطْرَاءاتِ، والثَّنَاءاتِ الَّتِي تَبُثُّها، وتَتَنَاقَلُها القَنَوَاتُ الفَضَائِيَّةُ، والصُّحُفُ المَحَلِّيَةُ، أو العَالَمِيَّةُ عَلَى لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فأمْرٌ مُشَاهَدٌ، ومَعْلُومٌ للجَميْعِ، كَقَوْلِهِم مَثَلاً عَنْ بَعْضِ اللاعِبِيْنَ : إنَّهُ نَجْمُ الرِّيَاضَةِ، أو قُدْوَةُ الشَّبَابِ، أو خَاطِفُ الأنْظَارِ، أو الوَرَقَةُ الرَّابِحَةُ، أو قَلْبُ النَّادِي، أو هَدَّافُ العَالِمِ، أو مَحْبُوْبُ الجَمَاهِيْرِ، أو مَعْبُوْدُها، أو السَّهَمُ المُلْتَهِبُ، أو رَسُوْلُ الرِّياضَةِ، أو المَثَلُ الأعْلَى للرُّوْحِ الرِّياضِيَّةِ، أو جَوْهَرَةُ المَلاعِبِ، أو مُرْعِبُ الحُرَّاسِ … هَذَا إذا عَلِمْنا أنَّ أكْثَرَ اللاعِبِيْنَ ( للأسَفِ ! ) فَسَقَةٌ، عُصَاةٌ، سَوَاءٌ فِي حَلْقِ لِحَاهُم، أو كَشْفِ عَوْرَاتِهم ، أو فِي قِلَّةِ الحَيَاءِ، والإيْمَانِ، أو فِي مَسَارِبِ التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ تَصَرُّفَاتِهم، وحَرَكاتِهم أمَامَ المُشَاهِدِيْنَ؛ سَوَاءٌ فِي الجَرَائِدِ، أو الصَّحَافَةِ، أو ( التِّلْفَازِ ) !
* * *
المَحْظُورُ السَّابِعُ والعِشْرُوْنَ
تَقْدِيْمُ المَفْضُوْلِ عَلَى الفَاضِلِ(1/326)
إنَّ المُمَارَسَاتِ التَّرْوِيْحِيَّةَ الَّتِي تُفَوِّتُ عَمَلاً مَنْدُوبُا، أو وَقْتًا فَاضِلاً : كالاشْتِغَالِ باللَّهُوِ المُبَاحِ فِي الأوْقَاتِ الفَاضِلَةِ ( كالعَشْرِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ )، وهُوَ وإنْ كَانَ مُبَاحًا فِي أصْلِه إلاَّ أنَّه فَوَّتَ عَمَلاً جَلِيْلاً مَنْدُوْبًا، فَيُكْرَهُ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ .
والإكْثَارُ مِنَ اللَّهْوِ المُبَاحِ غَيْرِ المُفِيْدِ يُعَدُّ مَكْرُوهًا مَذْمُوْمًا، قَالَ الغَزَالِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " واللَّعِبُ مُبَاحٌ، ولَكِنَّ المُوَاظَبَةَ عَلَيْه مَذْمُوْمَةٌ"(1) .
واللَّعِبُ المَكْرُوْهُ، واللَّعِبُ المُحَرَّمُ يُفْضِي بَعْضُهما إلى بَعْضٍ، وذَلِكَ بِحَسَبِ قُوَّةِ المَفَاسِدِ، وتَعَدُّدِ أسْبَابِها، قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فالتَّحْرِيْمُ يَقْوَى ويَضْعَفُ، بِحَسَبِ قُوَّةِ المَفَاسِدِ، وضَعْفِها، وبِحَسَبِ تَعَدُّدِ أسْبَابِه"(2).
وهَذَا قَوْلُ شَيْخِنَا العُثَيْمِيْنَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ جَوَابِه حِيْنَمَا سُئِلَ عَنْ حُكْمُ مُمَارَسَةِ الرِّيَاضَةِ بالسَّرَاوِيْلِ القَصِيْرَةِ، ومَا حُكْمُ مُشَاهَدَةِ مَنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ، فقال : مُمَارَسَةُ الرِّياضَةِ جَائِزَةٌ إذَا لَمْ تَلْهُ عَنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ، فإنْ ألْهَتْ عَنْ شَيءٍ وَاجِبٍ فإنَّها تَكُوْنُ حَرَامًا، وإنْ كَانَتْ دَيْدَنَ الإنْسَانِ بِحَيْثُ تَكُوْنُ غَالِبَ وَقْتِه فإنَّها مَضْيَعَةٌ للوَقْتِ، وأقَلُّ أحْوَالِها فِي هَذِهِ الحَالَةِ الكَرَاهَةُ"(3).
__________
(1) ـ "إحياء علوم الدين" للغزالي ( 3/128 ) .
(2) ـ "الفروسية" لابن القيم ( 64 ) .
(3) ـ انظر "أسئلة مهمة" للشيخ العثيمين ص ( 27 ) .(1/327)
وقَالَ ابنُ مُفْلِحٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "الفُرُوْعِ" : " وقَالَ ( أي : ابنُ تَيْمِيَّةَ ) كُلُّ فِعْلٍ أفْضَى إلى مُحَرَّمٍ ( كَثِيْرًا ) حَرَّمَهُ الشَّارِعُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيْه مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ لأنَّه يَكُوْنُ سَبَبًا للشَّرِّ، والفَسَادِ، وقَالَ : ومَا ألْهَى، وشَغَلَ عَمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْه، وإنْ لَمْ يَحْرُمْ جِنْسُه، كَبَيْعٍ، وتِجَارَةٍ، وغَيْرِهِمَا"(1).
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَّةُ أيْضًا كَمَا فِي "الاخْتِيَارَاتِ الفِقْهِيَّةِ" للبَعْلِيِّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ومَا ألَهْىَ، وشَغَلَ عَنْ مَا أمَرَ اللهُ بِهِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْه، وإنْ لَمْ يَحْرُمْ جِنْسُه، كالبَيْعِ، والتَّجَارَةِ، و أمَّا سَائِرُ ما يَتَلَهَّى بِه البَطَّالُوْنَ مِنْ أنْوَاعِ اللَّهْوِ، وسَائِرِ ضُرُوْبِ اللَّعِبِ، مِمَّا لا يُسْتَعَانُ بِه عَلَى حَقٍّ شَرْعِيٍّ؛ فَكُلُّهُ حَرَامٌ .
ورَوَى الإمَامُ أحْمَدُ، والبُخَارِيُّ، ومُسْلِمٌ : أنَّ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا ـ وَجَوَارٍ كُنَّ مَعَها يَلْعَبْنَ بالبَنَاتِ ـ وهُنَّ اللُّعَبُ ـ والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَمَّ يَرَاهُنَّ" فَيُرَخَّصُ فِيْه للصِّغَارِ مَا لا يُرَخَّصُ فِيْه للكِبَارِ"(2).
وقَالَ أيْضًا : " إنَّ العُلُوْمَ المَفْضُوْلَةَ إذَا زَاحَمَتِ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ، وأضْعَفَتْها؛ فإنَّهَا تَحْرُمُ"(3).
__________
(1) ـ "الفروع" لابن مفلح (4/458-459) .
(2) ـ "الاختيارات الفقهية" للبعلي (233) .
(3) ـ انظر "الدُّرَرَ السَّنِيَّةَ" ( 15-216 ) .(1/328)
فإذَا كَانَ الأمْرُ هَكَذَا فِي العُلُوْمِ المَفْضُوْلَةِ مَعَ العُلُوْمِ الفَاضِلَةِ، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَوْمَ زَاحَمَتْ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ، وأضْعَفَتْها؛ بَلْهَ العُلُوْمَ الشَّرْعِيَّةَ؛ كَمَا هُوَ وَاقِعُ شَبَابِنَا هَذِه الأيَّامَ، فِي حِيْنَ أنَّ لِعْبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) لَيْسَ عِلْمًا؛ إنَّما هُوَ لَهْوٌ، وسَفَهٌ مَعًا !
* * *
وقَدْ شَغَلَتْ هَذِه اللُّعْبَةُ اليَهُوْدِيَّةُ أبْنَاءَ المُسْلِمِيْنَ عَنْ دِرَاسَةِ القُرْآنِ الكَرِيْمِ، وعَنْ أحَادِيْثِ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعَنِ التَّحْصِيْلِ العِلْمِيِّ فِي مُخْتَلَفِ جَوَانِبِ المَعْرِفَةِ، كَمَا شَغَلَتِ النَّاسَ عَنْ مَتَاجِرِهِم، ومَصَانِعِهم، ومَزَارِعِهم، وعَنْ مِهَنٍ أخْرِى لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ ضَاعَتْ سَاعَاتٌ طُوَالٌ فِي سَرَابِ بَقِيْعَةٍ يَحْسِبُه الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، لَقَدْ وَصَلَ الهَوَسُ، والغُلُوُّ، والتَّنَطُّعُ عِنْدَ أصْحَابِ الرِّياضَةِ إلى دَرَجَةِ الجُنُوْنِ، والعِبَادَةِ لِهَذِه اللُّعْبَةِ، فَقَدْ أعْتَزَلَ كَثِيْرٌ مِنْهُم صَلاةَ الجُمُعَةِ، والجَمَاعَةِ، وانْقَطَعَ للرِّياضَةِ صِيَاحًا وصَفِيْرًا فِي المَلاعِبِ، واعْتِكَافًا فِي مَقَرِّ النَّادِي، وجَدَلاً سَقِيْمًا عَقِيْمًا مَعَ خِلانِه فِي السَّهَرِ، وزُمَلائِه فِي العَمَلِ، وقِرَاءةٍ للصُّحُفِ والمَجَلاتِ الرِّياضِيَّةِ، واسْتِمَاعًا للمُبَارَيَاتِ، المَحَلِّيَّةِ، والدُّوَلِيَّةِ المَرْئِيَّةِ مِنْها، والمَسْمُوْعَةِ .
* * *
المَحْظُورُ الثَّامِنُ والعِشْرُوْنَ
غِشُّ النَّاشِئَةِ(1/329)
لا شَكَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدِ انْحَرَفَتْ عَنْ مَسَارِهَا انْحِرَافًا مَمْسُوْخًا، حَيْثُ انْتَشَرَتِ المُنَافَسَاتُ غَيْرُ الشَّرِيْفَةِ بَيْنَ الأنْدِيَةِ، والفِرَقِ الرِّيَاضِيَّةِ؛ حَتَّى فَرَّقَتْ أبْنَاءَ الأمَّةِ الوَاحِدَةِ، كَمَا سَلَّطَتِ الأضْوَاءَ الإعْلامِيَّةَ عَلَى بَعْضِ اللاعِبِيْنَ مِنَ غَيْرِ المُسْلِمِيْنَ، وكَذَا مِنْ فُسَّاقِ المُسْلِمِيْنَ؛ حَتَّى صَارُوا قُدْوَةً يُقْتَدَى بِهِم شَبَابُ المُسْلِمِيْنَ، وعَلَّقَتْ صُوَرَهم عَلَى صُدُوْرِ النَّاشِئَةِ، وقَلَّدُوْهُم فِي لِبَاسِهِم، وحَرَكَاتِهم، وتَصْفِيْفِ شُعُوْرِهم، وكأنَّهُم : المَثَلُ الأعْلَى !
* * *
لِذَا كَانَ مِنَ الخَطَأ الشَّرْعِي أنْ يُقَدَّمَ مَنْ أخَّرَهُ اللهُ تَعَالَى، أو يُؤَخَّرَ مَنْ قَدَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، عَلَى حِسَابَاتِ مَوَازِيْنَ رِيَاضِيَّةٍ مَا أنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطَانٍ!، فإذَا طُفِّفَتِ المَوَازِيْنُ، وقُلِّبَتِ الحَقَائِقُ فَلا تَسْألْ حِيْنَئِذٍ عَنْ أفْكَارِ النَّاشِئَةِ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ الَّذِيْنَ أظْلَمَتْ بِهِم مَسَارِبُ التَّيْهِ، وعَلَتْ عَلَيْهِم غَشَاوَةُ الأبْصَارِ !
فعِنْدَ ذَلِكَ؛ لا تُسَاوِمْهُم بَيْنَ عُلَمَاءِ المُسْلِمِيْنَ، وبَيْنَ أعْلامِ الكُفْرِ والفَسَادِ ؟!، فَقَدْ غَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِيْنَ لا يُفَرِّقُوْنَ بَيْنَ الهُدَى والضَّلالِ، وبَيْنَ الأحْيَاءِ والأمْوَاتِ؛ إنَّها نَفَثَاتُ شَرَاذِمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) !(1/330)
إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) أصْبَحَتْ نَفَاقًا وبَابًا وَاسِعًا لِكُلِّ دَعِيٍّ، وكُلِّ بَغِيٍّ، فَفِيْها عُظِّمَ السِّفْلَةُ مِنَ سُقَّاطِ النَّاسِ، وبُجِّلَ حُثَالَةُ الخَالِفِيْنَ، ومُجِّدَ كُفَّارُ العَالِمِيْنَ … كَمَا غُيِّبَ فِيْها عُظَمَاءُ المُسْلِمِيْنَ، وزُوِّرَتْ فِيْها مَوَاقِفُ السَّالِفِيْنَ !، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا بَعْضُ الكَلامِ عَنْ غِشِّ النَّاشِئَةِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ فِي مَثَانِي الكِتَابِ، ففِيْها غُنْيَةٌ، وكِفَايَةٌ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
المَحْظُورُ التَّاسِعُ والعِشْرُوْنَ
تَعْطِيلُ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ لَدَى الشَّبابِ المُسْلِمِ
لا شَكَّ أنَّ التَّرْكِيْزَ عَلَى مَظَاهِرِ المُبَارَياتِ الرِّياضِيَّةِ، والحَفَلاتِ الغِنَائِيَّةِ بِشَكْلٍّ كَبِيْرٍ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ جَمِيْعِ قَنَوَاتِ إعْلامِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ؛ لَهُوَ الأمْرُ الخَطِيْرُ، والشَّرُّ الجَسِيْمُ، مِمَّا سَيَعُوْدُ عَلَى أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ بِعَوَاقِبَ وَخِيْمَةٍ، مِثْلُ : إهْمَالِ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ، وتَنَاسِيْها، وإغْفَالِ الإعْدَادِ، والاسْتِعْدَادِ، والتَّدْرِيْبِ عَلَى أعْمَالِ الجِهَادِ، وزَرْعِ رُوْحَه فِي نُفُوْسِ النَّاشِئَةِ المُسْلِمَةِ !
* * *
نَعَمْ؛ إنَّنا لا نُنْكِرُ أبَدًا أنَّ ثمَّةَ أصْوَاتٍ غَيْوُرَةً فِي يَوْمٍ مِنَ الأيَّامِ تَنَادَتْ مِنْ هُنَا وهُنَاكَ خَوْفًا عَلَى أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ مِنْ هَذِه الطَّوَاغِيْتِ الرِّياضِيَّةِ : مِنْ مَسْخِ هُوِيَّتِهم، وتَهْمِيْشِ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ لَدَيْهِم، والإعْدَادِ لَهُ، وتَمْيِعِ قَضِيَّةِ الوَلاءِ والبَرَاءِ … إلخ .(1/331)
نَعَمْ؛ إنَّ صَدَى هَذِه الأصْوَاتِ لَمْ يُفَارِقْ أسْمَاعَنَا، وقُلُوْبَنَا؛ لأنَّها حَدِيْثَةُ عَهْدٍ، أمَّا اليَوْمَ فَوَافَقَ الخَبَرُ الخُبْرَ؛ حَيْثُ وَقَعَ مَا تَوَقَّعُوْهُ، وكَانَ مَا خَافُوْه !
فَخُذْ مَثَلاً هَذِه المُقَابَلاتِ الَّتِي يُجْرِيْها قَرَاصِنَةُ الإعْلامِ بَيْنَ الحِيْنِ والآخَرِ مَعَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، وذَلِكَ عِنْدَ سُؤالِهم للنَّاشِئَةِ : عَنْ هُوَايَتِهم، أو ثَقَافَتِهم، أو قُدْوَتِهم، أو مَاذا يَتَمَنَّى أنْ يَكُوْنُوا … لا شَكَّ أنَّ الإجَابَاتِ لَدِيْهم لا تَخْرُجُ غَالبًا : عَنْ هُوَاياتِ الكُرَةِ، وثَقَافَاتِها، ونُجُومِها، فاللهُ المُسْتَعَانُ عَلَى ما يَقُوْلُوْنَ !
* * *
وإنَّه مِنْ الغَرِيْبِ العَجِيْبِ مِمَّا يَلْفِتُ الانْتِبَاهَ فِي السِّياسَةِ الرِّياضِيَّةِ عند المُسْلِمِيْنَ اليَوْمَ؛ إهْمَالُهُم لِرِيَاضَةِ الرِّمَايَةِ، وهِيَ رِيَاضَةُ الأجْدَادِ الَّتِي اهْتَمُوا بِها اهْتِمَامًا بَالِغًا إلى حَدِّ أنَّ الكَاتِبَ الأمْرِيْكِيَّ المُعَاصِرَ "رُوْبَرْتِ بُوْتَرِيلِمَرْ"(1)؛ وَضَعَ كِتَابًا بعُنْوَانِ : "الرِّمَايَةُ بالسِّهَامِ عِنْدَ العَرَبِ" .
والأغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أيْضًا؛ أنَّ المَلايِيْنَ الَّتِي يَرْصُدُها العَرَبُ فِي كُلِّ أنْحَاءِ العَالَمِ للاهْتِمَامِ بالرِّيَاضَةِ؛ فإنَّ الرِّمَايَةَ لَمْ تُدْرَجْ فِي أيِّ مَشْرُوْعٍ، فِي أيِّ بَلَدٍ عَرَبِيٍّ(2)!
* * *
وقَدْ وُجِدَتِ اليَوْمَ أسْبَابٌ، وظُرُوْفٌ تُحَتِّمُ عَلَى المُسْلِمِيْنَ الاسْتِعْدَادَ لَها بإعْدِادِ القُوَّةِ بِجَمِيْعِ أصْنَافِها، وذَلِكَ يَتِمُّ باسْتِعْمَالِ مَجَالاتِ السَّبْقِ .
__________
(1) ـ نقلاً عَنْ مَجَلَة "هنا لندن" العدد ( 339 )، السنة الثامنة عشر، الصادرة بتاريخ ( يناير 1977م ) .
(2) ـ انظر "قضايا اللهو والترفيه" لمادون بن رشيد ( 349 ) .(1/332)
فالنَّاسُ اليَوْمَ فِي حَالَةِ حَرْبٍ، وحَدِيْثِ حَرْبٍ، واسْتِعْدَادٍ لِحَرْبٍ، والعَالَمُ كُلُّه مَيَادِيْنُ قِتَالٌ، فَحَيْثُمَا الْتَفَتَّ وَجَدَتَ مَيْدَانًا، ووَجَدَتَ حُرُوْبًا؛ فَهُم فِي نِزَاعٍ مُسْتَمِرٍّ، وحَرْبٍ دَائِمَةٍ .
إنَّ إطْلاقَ الرَّمِي فِي الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يُرْمَى بِهِ العَدُوُّ : مِنْ سَهْمٍ، أو رُصَاصَةٍ، أو قَذِيْفَةِ، أو طَيَّارَةٍ، أو بُنْدُقِيَّةٍ، أو مِدْفَعٍ، أو غَيْرِ ذَلِكَ؛ لأنَّ اللَّفْظَ يَشْمَلُهُ، والمُرَادُ مِنْهُ يَقْتَضِيْه، لا سِيَّمَا أنَّ اللَّفْظَ فِي الحَدِيْثِ عَامٌ .
أفَلا يَجْدُرُ بالمُسْلِمِ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَتَعَلَّمَ عَلَى تِلْكَ الآلاتِ ليَسْتَخْدِمَها فِي حِيْنِها اسْتِخْدَامًا جَيِّدًا؟، ألاَ يَجْدُرُ بِهِ مُزَاحَمَةُ أولئكَ الكَفَرَةِ الَّذِيْنَ صَنَعُوْها، وهُمْ لا يَألُوْنَ جُهْدًا فِي هَدْمِ الإسْلامِ، ومَعَاقِلِه؟؛ بَلْ إنَّ الضَّرُوْرَةَ مُلِحَّةٌ، والحَاجَةَ دَاعِيَةٌ، والوَاجِبَ مُتَحَتِّمٌ، والغَرَضَ مُتَعَيِّنٌ عَلَى تَعَلُّمِ تِلْكَ الآلاتِ لاسْتِخْدَامِها فِي حِيْنِها(1).
__________
(1) ـ انظر "المسابقات" للشثري (36-37 ) .(1/333)
فالرِّمَايَةُ، وألْوَانُ الفُرُوْسِيَّةِ مُمَارَسَاتٌ وَاجِبَةٌ فِي حَقِّ القَادِرِيْنَ عَلَى الجِهَادِ مِنَ الرِّجَالِ، وهِيَ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ مُمَارَسَاتٌ تَرْوِيْحِيَّةٌ حَسَنَةٌ، تَدْفَعُ عَنِ النَّفْسِ الْهَمَّ، والغَمَّ، يَقُوْلُ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي "الفُرُوسيَّةِ"(1) : " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّضَالِ – أيْ : الرِّمَايَةِ بالسِّهَامِ – إلاَّ أنَّه يَدْفَعُ الْهَمَّ، والغَمَّ عَنِ القَلْبِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي فَضْلِهِ، وقَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ أهْلُه، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " عَلَيْكُم بالجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى؛ فإنَّه بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الجَنَّةِ، يُذْهِبُ اللهُ بِهِ الهَمَّ، والغَمَّ "(2)، وهُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين . ويذهب غيظ قلوبهم"[التوبة14-15]".
وعَنْ أبِي أُمَامَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُوْلَ اللهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الجِهَادُ فِي سَبِيْلِ اللهِ تَعَالَى"(3).
* * *
__________
(1) ـ "الفروسية" لابن القيم، ص ( 11 ) .
(2) ـ أخرجه أحمد ( 8/ 404 ) ، وهو حديث حَسَنٌ، انظر تخريجه تحت رقم ( 22719) مؤسسة الرسالة .
(3) ـ أخرجه أبو داود ( 2486 )، وهو حديثٌ حَسَنٌ، انظر "صحيح أبي داود" للألباني ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ (2172) .(1/334)
وانْطِلاقًا مِنْ هَذَا المَبْدَأ؛ فإنَّني أحُثُّ إخْوَانِي المُسْلِمِيْنَ جَمِيْعًا عَلَى العِنَايِةِ باتِّبَاعِ السُّنَّةِ النَّبَوَيَّةِ فِي جَمِيْعِ الأمُوْرِ، ومِنْ ذَلِكَ الفُرُوْسِيَّةُ الإسْلامِيَّةُ بِجَمِيْعِ أنْوَاعِها : مِنْ رِمَايَةٍ، ورُكُوْبِ خَيْلٍ، وإبِلٍ، وسِبَاحَةٍ، ومُصَارَعَةٍ وغَيْرِهَا، كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ : أخْذِ العُدَّةِ، وتَدْرِيْبِ النَّفْسِ عَلَى الجِهَادِ تَدْرِيْبًا مَعْنَوِيًّا ومَادِيًّا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوَّةٍ ومن رباط الخيلِ ترهبون به عدوَّ الله وعدوَّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون"[الأنفال60]، واسْتِنَادًا عَلَى هَذِه الآيَةِ، وغَيْرِها أوْجَبَ أهْلُ العِلْمِ الإعْدَادَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ أهْلِ الأعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ .
بَلْ عَدُّوا الإعْدَادَ هُوَ الفَارِقَ بَيْنَ المُؤْمِنِ والمُنَافِقِ، لِقَوْلِه تَعَالَى : "ولو أرادوا الخروجَ لأعدُّوا له عدَّة ولكن كره الله انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"[التوبة 46].
* فالجِهَادُ المَعْنَوِيُّ : هُوَ أنْ يَحْمِلَ المُسْلِمُ نَفْسَه عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالى فِي السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، والسِّرِّ والعَلانِيَةِ، وذَلِكَ بِفِعْلِ المَأْمُوْرِ، وتَرْكِ المَحْظُوْرِ؛ فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الجِهَادِ : هُوَ رَأسُ الجِهَادِ، وأُسُّه الَّذِي لا يَسْتَقِيْمُ الجِهَادُ المَادِيُّ إلاَّ بِهِ.
* أمَّا الجِهَادُ المَادِيُّ : فَهُوَ تَدْرِيْبُ النَّفْسِ عَلَى حَمْلِ السِّلاحِ بِكُلِّ أنْوَاعِه، وذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الاسْتِطَاعَةِ، فَمُسْتَقِلٌ، ومُسْتَكْثِرٌ .
* * *(1/335)
ومِنَ المُؤْسِفِ؛ بَلْ مِنَ المُحْزِنِ فِي الوَقْتِ نَفْسِه أنَّنا نَجِدُ أكْثَرَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامِ قَدْ تَرَبَّوْا عَلَى حَيَاةِ الدَّعَةِ، والتَّرَفِ، والنَّعِيْمِ، والتَّرَهُّلِ … فَغَالِبُهم يَتَقَلَّبُ مَا بَيْنَ مَصَاعِدَ كَهْرُبَائيِّةٍ، وسَيَّارَاتٍ فَارِهَةٍ … وهَكَذَا حَتَّى أصْبَحَ إنْسَانًا مُنعَّمًا ذَابِلاً فَاتِرًا !
يُوَضِّحُه؛ أنَّكَ إذَا طَلَبْتَ مِنْ أحَدِهِم أنْ يَرْكُضَ بَيْنَ يَدَيْكَ مَسَافَةً قَصِيْرَةً نَحْوَ مائةَ مِتْرٍ (100م) لرَأيْتَ مِنْه عَجَبًا : لرَأيْتَ مِنْه لَهَثًا، واسْتِرْجَاعًا، وعَرَقًا، وتَصْعِيْدًا فِي الأنْفَاسِ، وحَمْلَقَةً فِي الأبْصَارِ، كأنَّه يَنْظُرُ إلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْه مِنَ المَوْتِ !
نَعَمْ؛ هَذِه حَقَائِقُ يَنْبَغِي عَلَيْنا ألاَّ نَغُضَ الطَّرْفَ عَنْها بِحَالٍ مِنَ الأحْوَالِ؛ فَكَانَ مِنَ النَّصِيْحَةِ أنْ نَحْمِلَ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامِ عَلَى الإعْدَادِ المَادِيِّ؛ هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ الأمَّةَ الإسْلامِيَّةَ تَمُرُّ بِظُرُوْفٍ حَرِجَةٍ : فالوَقْتُ ضَيَّقٌ، والعَدُوُّ مُتَرَبَّصٌ، والأحْدَاثُ مُتَتَابِعَةُ، والأيَّامُ تُبَشِّرُ بِمَوْلُودٍ جَدِيْدٍ !، وكَمَا قَالَ ابنُ تَيِمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ : " كَمَا يَجِبُ الاسْتِعْدَادُ للجِهَادِ بإعْدَادِ القُوَّةِ، ورِبَاطِ الخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوْطِهِ للعَجْزِ؛ فإنَّ مَالا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِه فَهُوَ وَاجِبٌ"(1).
* * *
المَحْظُورُ الثَّلاثُوْنَ
تَخْدِيْرُ الشُّعُوْبِ المُسْلِمَةِ عَنْ قَضَايَاهَا
__________
(1) ـ "مَجْمُوْعُ الفَتَاوَى" لابن تيمية (28/259) .(1/336)
لَقَدْ أصْبَحَتْ ( كُرَةُ القَدَمِ ) ـ مَعَ مَا فِي السَّاحَةِ العَالَمِيَّةِ مِنْ أحْدَاثٍ جِسَامٍ ـ قِصَّةَ خِدَاعٍ للجَمَاهِيْرِ خِدَاعًا كَامِلاً عَلَى جَمِيْعِ المُسْتَوَيَاتِ، فَنَرَى تَفَاعُلَهم مَعَ المُبَارَياتِ عَلَى وَجْهٍ أشَدٍّ، وأكْثَرٍ مِنْ تَفَاعُلِهم مَعَ مَصِيْرِ بَعْضِ الشُّعُوْبِ الإسْلامِيَّةِ فِي سَائِرِ القَارَّاتِ، ويَزِيْدُ هَذَا التَّفَاعُلَ عِنَايَةُ الجَرَائِدِ، والمُجَلاتِ، وبَثُّ المُبَارَياتِ عَلَى ( الشَّاشَاتِ )، ونَشْرُ مَا يَخُصُّ ( الأنْدِيَةِ )، و( الأبْطَالِ )!، مِنْ أخْبَارٍ، وحِكَايَاتٍ!، وكأنَّ ذَلِكَ كُلَّه سَبَبٌ فِي جَذْبِ النَّاسِ إلى ( الرِّياضَةِ )، و( الرِّياضِيِيْنَ ) !
كَمَا سَاعَدَ عَلَى ذَلِكَ فَرَاغُهُم، وسَذَاجَتُهُم، ونِسْيَانُهُم الغَايَةَ الَّتِي خُلِقُوا مِنْ أجْلِها، والهَدَفَ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَعْمَلُوا لِتَحْقِيْقِه(1).
* * *
إنَّ قَضِيَّةَ التَّخْدِيْرِ والإلْهَاءِ يَظْهَرَانِ بوُضُوْحٍ لا رَيْبَ فِيْه فِي فَعَلاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ هَذِه الأيَّامِ !، حَيْثُ تَخَدَّرَ أكْثَرُ أبْنَاءُ المُسْلِمِيْنَ، وانْشَغَلَتْ أذْهَانُهم حَتَّى لا يُفَكِّرَ أحُدٌ مِنْهُم فِي دِيْنٍ، ولا يَحْتَرِمُ مُقَدَّسًا ... كُلُّ هَذَا مِنْ جَرَّاءِ الرِّيَاضَةِ الَّتِي طَغَتْ، وبَغَتْ عَلَى ثَقَافَاتِ، واهْتِمَامَاتِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ، فَلَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ مُفْتَرَى؛ ولَكِنَّه الوَاقِعُ المُرُّ، والألِيْمُ !
__________
(1) ـ انظر "كُرَة القَدَمِ" لمشهور بن حسن ( 6 ) .(1/337)
ومَا هَذِه التَّنْظِيْمَاتُ، والدَّوْرَاتُ، والمُبَارَيَاتُ الرِّيَاضِيَّةُ الَّتِي تُقَامُ دَوَالِيْكَ فِي حَلَقَاتٍ مُتَّصِلَةٍ، وأوْقَاتٍ مُتَرَابِطَةٍ؛ إلاَّ زِيَادَةً فِي تَخْدِيْرِ أبْنَاءِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وعَزْلِهِم عَنْ قَضَايَاهُم، كُلَّ ذَلِكَ إبْقَاءً لَهُم فِي دَوَّامَةٍ لا تَفْتَرُ ولا تَكِلُّ مِنَ المُبَارَياتِ الدُّوَلِيَّةِ والمَحَلِّيَّةِ : كَكَأسِ العَالِم، وأوْرُبَّةَ، والعَرَبِ، وأبْطَالِ أنْدِيَةِ الأفْرُوآسِيَا … وكَذَا الدَّوْرِيَّاتُ المُسْتَمِرَّةُ تَحْتَ أسْمَاءَ كَثِيْرَةٍ لا نِهَايَةَ لَهَا إلاَّ دَفْعَ الشَّبَابَ المُسْلِمَ فِي مَهَاوِي لا قَرَارَ لَهَا مِنَ الغِوَايَةِ والتَّيْهِ !
* * *
وهَاهُم أعْدَاءُ اللهِ أنْفُسُهم يَعْتَرِفُوْنَ، ويُصَرِّحُوْنَ لبَعْضِهم بَعْضًا، وما تَكِنُّه صُدُوْرُهم أكْبَرُ، فَدُوْنَكَ مَثَلاً ما خَطَّتْهُ أيْدِي يَهُوْدَ اللَّعِيْنَةُ فِي "بُرُوتُوْكُولاتِ حُكَمَاءِ صِهْيَوْنَ"؛ فهي أكْبَرُ دَلِيْلٍ عَلَى مَكْرِهِم، ومُؤَامَرَاتِهم .
وإلَيْكَ هَذَا النَّصُ الصَّرِيْحُ مِنْ البُرُوتُوْكُولاتِ اليَهُوْدِيَّةِ "مُخَطَّطَاتِ خُبَثَاءِ صِهْيَوْنِ" الدَّالَةِ عَلَى تَخْدِيْرِ، وإلْهَاءِ الشُّعُوْبِ الإسْلامِيَّةِ :
"ولِكَيْ نُبْعِدَ الجَمَاهِيْرَ مِنَ الأمَمِ الغَيْرِ اليَهُوْدِيَّةِ عَنْ أنْ تَكْشِفَ بِنَفْسِها أيْ خَطِّ عَمَلٍ جَدِيْدٍ لَنَا سَنُلْهِيْها بأنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ المَلاهِي، والألْعَابِ، وهَلُمَّ جَرًّا .
وسُرْعَانَ مَا سَنَبْدَأ الإعْلانَ فِي الصُّحُفِ دَاعِيْنَ النَّاسَ إلى الدُّخُوْلِ فِي مُبَارَيَاتٍ شَتَّى مِنْ كُلِّ أنْوَاعِ المَشْرُوْعَاتِ : كالفَنِّ، والرِّياضَةِ، ومَا إلَيْه .(1/338)
إنَّ هَذِه المُتَعَ الجَدِيْدَةِ سَتُلْهِي ذِهْنَ الشَّعْبِ حَتْمًا عَنِ المَسَائِلِ الَّتِي سَنَخْتَلِفُ فِيْها مَعَهُ، وحَالَمَا يَفْقِدُ الشَّعْبُ تَدْرِيْجِيًا نِعْمَةَ التَّفْكِيْرِ المُسْتَقِلِّ بنَفْسِهِ سَيَهْتِفُ جَمِيْعًا مَعَنَا لِسَبَبٍ وَاحِدٍ هُوَ : إنَّنا سَنَكُوْنَ أعْضَاءَ المُجْتَمَعِ الوَحِيْدِ بَيْنَ الَّذِيْنَ يَكُوْنُوْنَ أهْلاً لتَقْدِيْمِ خُطُوْطِ تَفْكِيْرٍ جَدِيْدَةٍ"(1).
* * *
المَحْظُورُ الحادي والثَّلاثُوْنَ
تَمْرِيْرُ مُخَطَّطَاتِ أعْدَاءِ الإسْلامِ
إذَا عَلِمْنَا آنِفًا مَا ذَكَرَتْهُ مُخَطَّطَاتُ خُبَثَاءِ صِهْيَوْنِ مِنْ تَخْدِيْرِ الشُّعُوْبِ المُسْلِمَةِ، وإلْهَائِها عَنْ حَقِيْقَتِها، وقَضَايَاهَا المَصِيْرِيَّةِ، إلاَّ أنَّها لَمْ تَرْضَ بِهَذا القَدْرِ المَشِيْنِ؛ بَلْ نَظَرَتْ إلى مَا وَرَاءه، وطَمِعَتْ لِمَا فَوْقَه، وذَلِكَ بتَمْرِيْرِ مُخَطَّطَاتِهم المَاكِرَةِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، وهُوَ مَا نَصَّتْ عَلَيْه البُرْتُوكُولاتُ اليَهُوْدِيَّةُ، كَمَا يَلِي : " ولِكَيْ نُبْعِدَ الجَمَاهِيْرَ مِنَ الأمَمِ الغَيْرِ اليَهُوْدِيَّةِ عَنْ أنْ تَكْشِفَ بِنَفْسِها أيْ خَطِّ عَمَلٍ جَدِيْدٍ لَنَا سَنُلْهِيْها بأنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ المَلاهِي، والألْعَابِ … إلخ .
وهَذِه الخُطُوْطُ سَنُقَدِّمُها مُتَوَسِّلِيْنَ بِتَسْخِيْرِ آلاتِنَا وَحْدَها مِنْ أمْثَالِ الأشْخَاصِ الَّذِيْنَ لا يُسْتَطَاعُ الشَّكُّ فِي تَحَالُفِهِم مَعَنَا .
__________
(1) ـ "بروتوكلات حكماء صهيون" (168)، ترجمة محمد بن خليفة التونسي .(1/339)
إنَّ دَوْرَ المِثَالِيِّيْنَ المُتَحَرِّرِيْنَ سَيَنْتَهِي حَالَمَا يُعْتَرَفُ بِحَكُوْمَتِنا، وسَيُؤَدُّوْنَ لَنَا خِدْمَةً طَيِّبَةً حَتَّى يَحِيْنَ ذَلِكَ الوَقْتُ، ولِهَذا السَّبَبِ سَنُحَاوِلُ أنْ نُوَجِّهَ العَقْلَ العَامَ نَحْوَ كُلٍّ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ المُبَهْرَجَةِ الَّتِي يُمْكِنُ أنْ تَبْدُوَ تَقَدُّمِيَّةً، أو تَحْرِيْرِيَّةً .
لَقَدْ كَانَ نَجَاحُنا نَجَاحًا كَامِلاً بنَظَرِيَّاتِنا عَلَى التَّقَدُّمِ فِي تَحْوِيْلِ رُؤوْسِ الأُمِّيِّيْنَ الفَارِغَةِ مِنْ العَقْلِ نَحْوِ الاشْتِرَاكِيَّةِ، ولا يُوْجَدُ عَقْلٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الأُمِّيِّيْنَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يُلاحِظَ أنَّه فِي كُلِّ حَالَةٍ وَرَاءِ كَلِمَةِ ( التَّقَدُّمِ ) يَخْتَفِي ضَلالٌ، وزَيْغٌ عَنِ الحَقِّ"(1).
* * *
* وقَفَاتٌ، ونَظَرَاتٌ حَوْلَ هَذَا النَّصِ المَوْبُوْءِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ "البُرْتُوكُولاتُ اليَهُوْدِيَّةُ" :
إذَا نَظْرَنا، وتَأمَّلْنَا فِي هَذَه البُرْتُوكُولاتِ اليَهُوْدِيَّةِ، وهذه التَّخْطِيْطَاتِ اللَّعِيْنَةِ، وهَذِه العَدَاوَةِ المُتَأصِّلَةِ فِي قُلُوْبِهم؛ وَجَدْنا وَرَاءهُ الكَثِيْرَ والكَثِيْرَ مِمَّا يَغِيْبُ عَنْ غَالِبِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ اللاهِيَةِ، المُنْغَمِسَةِ فِي اللَّهْوِ، والتَّرَفِ، والرِّياضَةِ … لِذَا كَانَ لَنَا أنْ نَقِفَ مَعَ هَذِه "البُرْتُوكُولاتُ"، ولَوْ عَلَى سَبِيْلِ الاخْتِصَارِ :
1ـ قَوْلُهم : " ولِكَيْ نُبْعِدَ الجَمَاهِيْرَ مِنَ الأمَمِ الغَيْرِ اليَهُوْدِيَّةِ "، وكَأنَّ تَخْطِيْطَهُم، وسُمُوْمَهم مَقْصُوْدَةً، ومُوَجَّهَةً تَوْجِيْهًا بالدَّرَجَةِ الأوْلَى نَحْوَ أمَّةِ الإسْلامِ .
__________
(1) ـ "بروتوكولات حكماء صهيون" (168)، ترجمة : محمد بن خليفة التونسي .(1/340)
2ـ قَوْلُهُم : " عَنْ أنْ تَكْشِفَ بِنَفْسِها أيْ خَطِّ عَمَلٍ جَدِيْدٍ لَنَا سَنُلْهِيْها بأنْوَاعٍ شَتَّى مِنَ المَلاهِي، والألْعَابِ، وهَلُمَّ جَرًّا"، إنَّ هَذِه الرِّيَاضَةَ، وهَذَا الفَنَّ، وهَذِه المَلاهِيَ، وغَيْرَها : أدَوَاتٌ، ووَسَائِلُ تَغْفِيْلٍ للشُّعُوْبِ لاسْتِعْبَادِ رِقَابِهم، ومَصِّ دِمَائِهم، ونَهْبِ أمْوَالِهم وثَرَواتِهم، والقَضَاءِ عَلَى دِيْنِهم، وشَخْصِيَّاتِهم ...
3 ـ قَوْلُهم : " إنَّ هَذِه المُتَعَ الجَدِيْدَةِ سَتُلْهِي ذِهْنَ الشَّعْبِ حَتْمًا "، وهَذَا تَأكِيْدٌ، وتَوْضِيْحٌ لغَايَتِهم مِنْ بَثِّ هَذِه الألْعَابِ، وهَذِه المَلاهِي، هَذَا إذَا عَلِمْنَا سَالِفًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) خُطَّةٌ يَهُوْدِيَّةٌ !
4ـ قَوْلُهُم : " وحَالَمَا يَفْقِدُ الشَّعْبُ تَدْرِيْجِيًا نِعْمَةَ التَّفْكِيْرِ المُسْتَقِلِّ بنَفْسِهِ سَيَهْتِفُ جَمِيْعًا مَعَنَا..."، هَاهُوَ هَدَفُهم الخَبِيْثُ، ومَا يَرْمُوْنَ إلَيْه، وتَصْبُو نُفُوْسُهم لتَحْقِيْقِه : هُوَ فُقْدَانُ الشُّعُوْبِ الإسْلامِيَّةِ وَعَيَها، وفُقْدَانُ رُشْدِها، وشَلُّ التَّفْكِيْرِ عِنْدَها؛ لِتَكُوْنَ التَّبَعِيَّةُ المُطْلَقَةُ، ومَسْخُ الشَّخْصِيَّةُ المُسْلِمَةُ، وصَدَقَ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذْ يَقُوْلُ : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم؛ القُذَّةَ حَذْوَ القُذَّةِ؛ حَتَّى إذَا دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْهُ"(1) البُخَارِيُّ .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 9/126 ) .(1/341)
5ـ قَوْلُهُم : " هَذِه الخُطُوْطُ سَنُقَدِّمُها مُتَوَسِّلِيْنَ بِتَسْخِيْرِ آلاتِنَا وَحْدَها مِنْ أمْثَالِ الأشْخَاصِ الَّذِيْنَ لا يُسْتَطَاعُ الشَّكُّ فِي تَحَالُفِهِم مَعَنَا"، فلْنَنْظُرْ كَيْفَ يَكُوْنُ التَّنْفِيْذُ الفِعْلِيُّ للمُخَطَّطَاتِ، والمُؤَامَرَاتِ اليَهُوْدِيَّةِ العَالَمِيَّةِ ؟ : إنَّها تُنَفَّذُ، وتُطَبَّقُ بأيْدِي ( العُمَلاءِ ) مِنَ المُنَافِقِيْنَ، والعِلْمَانِيِّيْنَ الَّذِيْنَ يَتَسَمَّوْنَ بأسْمَائِنا، ولرُبَّمَا يُصَلُّوْنَ بِصَلاتِنا … !
وهَكَذَا يَعْلِنُها اليَهُوْدُ أنَّ هَؤلاءِ عِبَارَةٌ عَنْ آلاتٍ يُنَفَّذُ عَبْرَها خُطَطُهم، ومِنْ هُنَا تَكُوْنُ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، ومِنْ هُنَا يُضْرَبُ المُسْلِمُ فِي صَدْرِهِ، ومِنْ أقْرَبِ النَّاسِ إلَيْه، ومِنْ هُنَا يَتَخَلْخَلُ الصَّفُ، وهَذَا مَكْمَنُ خَطَرِ النِّفَاقِ، والعَمَالَةِ المَقِيْتَةِ .
6ـ قَوْلُهُم : " ولا يُوْجَدُ عَقْلٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الأُمِّيِّيْنَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يُلاحِظَ أنَّه فِي كُلِّ حَالَةٍ وَرَاءِ كَلِمَةِ ( التَّقَدُّمِ ) يَخْتَفِي ضَلالٌ، وزَيْغٌ عَنِ الحَقِّ"، انْظُرْ مَاذَا يُسَمُّوْنَنَا ( المُسْلِمِيْنَ )، وكَيْفَ يَنْظُرُوْنَ إلَيْنا : إنَّنا عِنْدَهُم ( أُمِّيُّوْنَ ) !، وقَدِيْمًا قَالُوا : " لَيْسَ عَلَيْنا فِي الأمِّيينَ سَبِيلٌ"[آل عمران75] .(1/342)
وانْظُرْ أيْضًا اعْتِرَافَاتِهم عَنْ دَوْرِهِم الخَبِيْثِ فِي خِدَاعِ الشُّعُوْبِ، والمُغَفَّلِيْنَ مِنَ الأمَمِ بِهَذِه العِبَارَاتِ الجَدِيْدَةِ، الجَوْفَاءِ، الخَدَّاعَةِ، مِثْلَ : الحَضَارَةِ، التَّقَدُّمِ، الرُّقِيِّ، ( التَّكْنُوْلُوجِيَا )، المَدَنِيَّةِ، مُوَاكَبَةِ العَصْرِ ... "، لِكَي يَعْمُوا النَّاسَ، ويَضَعُوا الغَشَاوَةَ عَلَى أبْصَارِهم، ويُلْغُوا عُقُوْلَهم، أو عَلَى حَدِّ تَعْبِيْرِ البُرْتُوكُولاتِ :"رُؤوْسُ الأُمِّييْنَ الفَارِغَةُ مِنَ العَقْلِ"(1) .
* * *
ومَا ذَكَرْنَاه هُنَا؛ هُوَ مَا فَسَّرَه الأسْتَاذُ مُحَمَّدُ قُطُبٍ عِنْدَ قَوْلِه تَعَالَى : " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"[آل عمران112]، : " بأنَّ الحَبَلَ مِنَ النَّاسِ لا يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَتَلَقَّاهُ اليَهُوْدُ مِنَ مَدَدٍ مِنَ الرُّوْسِ، والأمْرِيْكَانِ؛ بَلْ يَأتِي مِنْ كُلِّ النَّاسِ … كُلِّ سُكَّانِ الأرْضِ … إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ "(2).
__________
(1) ـ انظر "حقيقة الولاء والبراء" لسيد بن سعيد (427-430) بتصرف .
(2) ـ "رؤية إسلامية لأحوال العالم الإسلامي المعاصر" لمحمد قطب ( 118 ) .(1/343)
ويَسْتَرْسِلُ فِي تَوْضِيْحِ هَذِه الحَقِيْقَةِ بِضَرْبِ أمْثِلَةٍ وَاقِعِيَّةٍ مُعَاصِرَةٍ، فَيِقُوْلُ : " السِّيْنَمَا مُؤسَّسَةٌ يَهُوْدِيَّةٌ مَالاً، وفِكْرًا، وتَخْطِيْطًا، وتَنْفِيْذًا .. وهَدَفُها الأوَّلُ : هُوَ إفْسَادُ الأوْلادِ، والبَنَاتِ، بِمَا تَعْرِضُ مِنْ صُوَرِ الحَيَاةِ العَابِثَةِ اللاهِيَةِ، القَائِمَةِ عَلَى عِلاقَاتٍ حَرَّمَها اللهُ ورَسُوْلُه … فَكُلُّ وَلَدٍ، أو بِنْتٍ فِي الأرْضِ كُلِّهَا أصَابَهُ ( جُنُوْنُ السِّيْنَمَا )، فَهُوَ حَبْلٌ مِنَ النَّاسِ يَمُدُّ اليَهُوْدَ !، يِمُدُّهُم بالمَالِ الَّذِي يُنْفِقُه فِي السِّيْنَما مِنْ جِهَةٍ، وبالفَسَادِ فِي ذَاتِ نَفْسِه مِنْ جِهَةٍ أخْرَى، وكَذَلِكَ جُنُوْنُ ( التِّلْفِزْيُونَ، والفِيْدْيُو )؛ فَهُمَا يَسِيْرَانِ عَلَى ذَاتِ الدَّرْبِ، أيًّا كَانَ المُخْرِجُ، والمُنْتِجُ، والفَنَانُ !
وكُلُّ بِنْتٍ فِي الأرْضِ أصَابَها جُنُوْنُ ( المَوْضَةِ )، وجُنُوْنُ الزِّيْنَةِ، فَهِي حَبْلٌ مِنَ النَّاسِ : تَمُدُّ اليَهُوْدَ بالمالِ، وتَمُدُّهُم بالفَسَادِ فِي ذَاتِ نَفْسِها، وفِي المُجْتَمَعِ كُلِّه، حِيْنَ يَتَحَوَّلُ المُجْتَمَعُ إلى فِتْنَةٍ هَائِجَةٍ تَجْتَاحُ الأوْلادَ، والبَنَاتَ عَلَى السَّوَاءِ، وتُقَرِّبُ الأشْرَارَ مِنْ تَحْقِيْقِ هَدَفِهم الشِّرِّيْرِ .
وجُنُوْنُ الرِّياضَةِ عَامَّةً، وجُنُوْنُ الكُرَةِ خَاصَّةً، لَوْنٌ مِنَ الجُنُوْنِ يَبُثُّه اليَهُوْدُ فِي الأرْضِ مِنْ خِلالِ وسَائِلِ الإعْلامِ الَّتِي يُسَيْطِرُوْنَ عَلَيْها، ويُوَجِّهُوْنَها .(1/344)
وكُلُّ فَتَاةٍ، أو فَتًى أصَابَهُ جُنُوْنُ الرِّياضَةِ، أو جُنُوْنُ الكُرَةِ، فَهُو حَبْلٌ مِنَ النَّاسِ يَمُدُّ اليَهُوْدَ بِتَفَاهَةِ اهْتِمَامَاتِه، والوَقْتِ الحَيِّ الَّذِي يَقْتُلُه فِي الاهْتِمَامَاتِ الفَارِغَةِ، بَعِيْدًا عَنِ الرُّشْدِ، بَعِيْدًا عَنِ الوَعِيِّ، بَعِيْدًا عَنْ رَحْمَةِ اللهِ"(1).
ومِمَّا يُؤَكِّدُ مَا ذَكَرَه مُحَمَّدُ قُطُب مَا ذَكَرَه عُمَرُ فَرَّوُخُ بِقَوْلِه : " يَظْهَرُ إنَّ الألْعَابَ الرِّيَاضِيَّةَ كَانَتْ تَخْدِمُ قَضِيَّةَ المُبَشِّرِيْنَ، وتَخْدِمُ الصِّهْيُوْنِيَّةَ فِي فِلِسْطِيْنَ خِدَمَةً عَظِيْمَةً؛ حَتَّى انْدَفَعَتْ مَدَارِسُ التَّبْشِيْرِ تُؤَلِّهُ الرُّوْحَ الرِّياضِيَّةَ، وتُشَجِّعُ التَّسَامُحَ فِي مَيَادِيْنِها إلى أبْعَدِ الحُدُوْدِ، تَسَامُحًا كَانَ يُرَادُ مِنْهُ قَتْلَ الشُّعُوْرَ الدِّيْنِيَّ ( القَوْمِيَّ ! ) الثَّمِيْنَ عَنْ طَرِيْقِ التَّسْلِيَةِ .."(2).
ثُمَّ يَذْكُرُ عَنْ ( وِيْلْسِنْ كَاشَا ) : إنَّ فِي القُدْسِ مَدْرَسَتَيْنِ تُدِيْرُهُما ثَلاثُ إرْسَالِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ إدَارَةً مُشْتَرَكَةً : مَدْرَسَةُ البَنَاتِ العَالِيَةُ، ثُمَّ الكُلِّيَةُ الإنْكِلِيْزَيَّةُ .
__________
(1) ـ "رُؤيَةٌ إسْلامِيَّةٌ لأحْوَالِ العَالَمِ المُعَاصِرِ" لمحمد قطب ( 118 ) .
(2) ـ "التَّبْشِيْرُ والاسْتِعْمَارُ فِي البِلادِ الإسْلامِيَّةِ" لمصطفى خالدي، وعمر فروخ ( 182-183 ) .(1/345)
إنَّ اليَهُوْدَ، والعَرَبَ، والنَّصَارَى يَلْعَبُوْنَ فِي مَلاعِبِ هَذِه المَدَارِسِ لُعْبَةَ ( كُرَةَ القَدَمِ )، ويُبْدُوْنَ فِي المَلْعَبِ مِنْ ضُرُوْبِ التَّعَاوُنِ مَا يُسَاعِدُ عَلَى أنْ يَخْلُقَ لَهُم نَظْرَةً جَدِيْدَةً إلى مَشَاكِلِهم القَوْمِيَّةِ الحَاضِرَةِ"(1).
* * *
إنَّ القَارِئَ المُسْلِمَ لَيَجِدُ فِي هَذِه المَقُوْلَةِ قَرِيْنَةً ظَاهِرَةً تَدُلُّ عَلَى أنَّ مَدَارِسَ التَّبْشِيْرِ كَانَتْ تَعْمَلُ جَاهِدَةً عَلَى خَلْقِ تَنَازُلاتٍ، وزَعْزَعَةٍ فِي عَقِيْدَةِ الوَلاءِ والبَرَاءِ عِنْدَ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ تُجَاهَ اليَهُوْدِ الغَاصِبِيْنَ لِبِلادِ فِلِسْطِيْنَ المُسْلِمَةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ عَنْ طَرِيْقِ لِعْبَتِهم الشَّيْطَانِيَّةِ : ألاَ وَهِي ( كُرَةُ القَدَمِ )!، فَلْيَفْهَمِ الجَمِيْعُ هَذِه الرِّسَالَةَ، ولْيَعُوا أبْعَادَها، دَوْنَ مُوَارَبَةٍ، أو سَذَاجَةٍ، أو خُمُوْلٍ فِكْرِيٍّ، أو تَشَهِيٍّ وتَلَهِيٍّ للرِّيَاضَةِ!، سَوَاءٌ عَلَى مُسْتَوَى الحُكُوْمَاتِ، أو النَّوَادِي، أو الأفْرَادِ !
__________
(1) ـ "التَّبْشِيْرُ والاسْتِعْمَارُ فِي البِلادِ الإسْلامِيَّةِ" لمصطفى خالدي، وعمر فروخ ( 182-183 ) .(1/346)
وهَذَا مَا أكَّدَهُ ( وِلْبِرْت سِمِيْث ) حَيْثُ يَقُوْلُ : " إنَّ الألْعَابَ تُبَرْهِنُ عَلَى أنَّها مِنْ أحْسَنِ الوَسَائِلِ لتَقْرِيْبِ وُجَهَاتِ النَّظَرِ بَيْنَ المُخْتَلِفِيْنَ؛ بَلْ بَيْنَ المُتَعادِّيْنَ، لَمَّا أعْلَنَ العَرَبُ إضْرَابَهم العَامَ فِي القُدْسِ سَنَةَ ( 1959م )، احْتِجَاجًا عَلَى مُمَالأةِ الإنْكِلْيِز لليَهُوْدِ، قَامَتْ جَمْعِيَّةُ الشُّبَّانِ المَسِيْحِيَّةِ بِحَفْلَةٍ تَخْدُمُ بِها التَّعَاوُنَ الوِدِّي بَيْنَ العَرَبِ واليَهُوْدِ . فأقَامَتْ مُبَارَاةً فِي لِعْبَةِ التِّنِسِ، كانَ اللاعِبُوْنَ فِيْها مُسْلِمِيْنَ ويَهُوْدًا . وكَانَ الحُضُوْرُ لَفِيْفًا مِنَ جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فِيْهِم الفِلِسْطِيْنِيُّوْنَ، والإنْكِلِيْزُ، والأمْرِيْكِيُّوْنَ، والألْمَانُ . وسَادَتِ الرُّوْحُ الرِّياضِيَّةُ، فَكَانَ اليَهُوْدُ يُحَيِّوْنَ كُلَّ نَجَاحٍ يُصِبْهُ اللاعِبِوْنُ العَرَبُ، وكَانَ العَرَبُ يَرُدُّوْنَ التَّحِيَّةَ للاعِبِيْنَ اليَهُوْدِ إذَا أصَابُوا نَجَاحًا . وتَبِعَ المُبَارَاةَ حَفْلَةُ شَايْ حَضَرَها نَحْوُ خَمْسِيْنَ مِنَ الفِلِسْطِيْنِيِّنَ، والإنْكِلِيْزِ، والصِّهْيُونِيِّيْنَ، نَعِمُوا سَاعَةً بِكَرِمِ مُضَيِّفِيهِم النَّصَارَى"(1).
__________
(1) ـ "التَّبْشِيْرُ والاسْتِعْمَارُ فِي البِلادِ الإسْلامِيَّةِ" لمصطفى خالدي، وعمر فروخ ( 182-183 ) .(1/347)
إنَّ تَنَاوُلَ الرِّياضَةِ مِنْ خِلالِ وَاقِعِها اليَوْمَ، يُكْسِبُنَا قَنَاعَةً تَامَّةً لا يَشُوْبُها أدْنَى شَكٍّ فِي صَيْرُوْرَتِها آلَةَ تَطْوِيْعٍ، وتَوْجِيْهٍ لَدَوَالِيْبِ السِّيَاسَةِ فِي مُعْظَمِ دُوَلِ العَالَمِ، تَتَحَكَّمُ فَيْها الحَرَكُاتُ العَالَمِيَّةُ المُعَادِيَةُ للمُسْلِمِيْنَ، ومَا هَذَا الضَّغْطُ الإعْلامِيُّ المُثْقَلُ بِسَيْلٍ مِنَ المُبَارَيَاتِ الدُّوَلِيَّةِ، وبَعْدَ حَمْلَةٍ مُكَثَّفَةٍ مِنَ الدَّعَايَةِ لَها، والإعْلانَاتِ المُتَوَالِيَةِ لِمَوَاعِيْدِها بِزَمَنٍ إلاَّ وَسِيْلَةٌ مِنَ الوَسَائِلِ المخدِّرةِ لتَسْكِيْنِ آلامَ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ لتُمَرَّرَ مُخَطَّطَاتُ الأعْدَاءِ، وتُسْتَهْلَكَ فِي حَيَاةِ المُسْلِمِيْنَ !
وهِيَ الوَسِيْلَةُ بِعَيْنِها الَّتِي تُسَخِّرُها كَثِيْرٌ مِنَ الحُكُوْمَاتِ الإسْلامِيَّةِ لتَثْبِيْتِ نِظَامِهَا؛ بانْغِمَاسِ أفْرَادِها وشُعُوْبِها فِي مُسْتَنْقَعَاتِ التَّفَاهَةِ، والسَّخَافَةِ، ونِسْيَانِ الوَاجِبِ الدِّيْنِي، ومُحَارَبَةِ، وصَرْفِ القُوَى الإصْلاحِيَّةِ عَنْ تَحْقِيْقِ دَعْوَتِها وإصْلاحِها(1).
* * *
وفِي مُحَاوَلَةِ اسْتِقْرَاءٍ؛ نَسْتَطِيْعُ أنْ نَقِفَ مَعَ بَعْضِ المَفَاسِدِ الَّتِي جَنَتْها الرِّياضَةُ؛ لا سِيَّمَا (كُرَةُ القَدَمِ) باخْتِصَارٍ، كَمَا يَلِي :
أوَّلاً : فَوَّتَتْ عَلَى الدُّعَاةِ المُصْلِحِيْنَ فِي الحَقْلِ الإسْلامِيِّ كَثِيْرًا مِنَ الطَّاقَاتِ، والمَوَاهِبِ فِي صُفُوْفِ الشَّبَابِ، فَكَانَتْ فَرِيْسَةً لتَعَاطِي مُخَدِّرٍ مِنْ نَوْعٍ خَاصٍ، ألاَ وهُوَ تَخْدِيْرُ الرِّياضَةِ، أو أفْلامٍ، وحَفَلاتٍ مَاجِنَةٍ، ويُعْتَبَرُ هَذَا فِي حَقِيْقَةِ الأمْرِ طَعْنَةَ خَنْجَرٍ فِي ظَهْرِ العَمَلِ الإسْلامِيِّ .
__________
(1) ـ انظر "قضايا اللهو" لمادون بن رشيد (103-107) بتصرف .(1/348)
ثَانِيًا : اقْتِنَاعُ الأنْظِمَةِ الحَاكِمَةِ فِي الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ بأهَمِيَّةِ الرِّياضَةِ ـ سَوَاءٌ عَنْ جَهْلٍ، أو سُوْءِ قَصْدٍ ـ بوَصْفِها الوَسِيْلَةُ النَّاجِعَةُ للتَّقَدُّمِ، والحَضَارَةِ، والسَّيْرِ فِي مَصَافِ الدُّوَلِ المُتَقَدِّمَةِ . وهُوَ الأمْرُ الَّذِي دَفَعَ بِهِم لِصَرْفِ، وإهْدَارِ الأوْقَاتِ، والطَّاقَاتِ، والأمْوَالِ لخِدْمَةِ الرِّياضَةِ؛ لا سِيَّمَا ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِدَرَجَةٍ تَفُوْقُ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ الإسْلامِيَّةِ : الجِهَاتِ التَّعْلِيْمِيَّةَ، والإعْدَادَ لسُبُلِ الجِهَادِ، أو قِطَاعَ التَّصْنِيْعِ، والتَّشْغِيْلِ .
ثَالِثًا : إنَّ المُشُارَكَاتِ الرِّياضِيَّةَ العَالَمِيَّةَ، تُعْتَبَرُ بَابًا وَاسِعًا لإلْغَاءِ قَضِيَّةِ الوَلاءِ والبَرَاءِ، مِمَّا جَعَلَ مِنَ بَعْضِ الدُّوَلِ الكَافِرَةِ الحَرْبِيَّةِ للمُسْلِمِيْنَ دُوْلاً صَدِيْقَةً، بِجَامِعِ الرُّوْحِ الرِّياضَيَّةِ !
* * *
المَحْظُورُ الثَّاني والثَّلاثُوْنَ
سَفَرُ المُسْلِمِ إلى بِلادِ الكُفْرِ دُوْنَ عُذْرٍ
أمَّا سَفَرُ المُسْلِمِ إلى بِلادِ الكُفْرِ لِمُشاهَدَةِ، أو لِعْبِ ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ فَقَدْ أضْحَى أمْرًا مَألُوفًا، وشَيْئاً مَعْرُوفًا قَدْ شَابَ عَلِيه الصَّغِيرُ، وهَرِمَ عَلَيْه الكَبِيْرُ مِنْ زَمَنٍ بَعِيْدٍ : ابْتِدَاءً مِنَ الإرْسَالِيَّاتِ، والبَعَثَاتِ الحَكُوْمِيَّةِ، وانْتِهَاءً بالسِّيَاحَةِ، ومُتَابَعَةِ المُبَارَيَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ !
* * *
قَالَ شَيْخُنا العُثَيْمِيْنَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " … نَذْكُرُ هُنَا حُكْمَ السَّفَرِ إلى بِلادِ الكُفْرِ، فَنَقُوْلُ : السَّفَرُ إلى بِلادِ الكُفَّارِ لا يَجُوْزُ إلاَّ بِثَلاثَةِ شُرُوْطٍ :
الشَّرْطُ الأوَّلُ : أنْ يَكُوْنَ عِنْدَ الإنْسَانِ عِلْمٌ يَدْفَعُ بِهِ الشُّبُهَاتِ .(1/349)
الشَّرْطُ الثَّانِي : أنْ يَكُوْنَ عِنْدَه دِيْنٌ يِمْنَعُه مِنَ الشَّهَوَاتِ .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أنْ يَكُوْنَ مُحْتَاجًا إلى ذَلِكَ .
فإنْ لَمْ تَتِمْ هَذِه الشُّرُوْطُ فإنَّه لا يَجُوْزُ السَّفَرُ إلى بِلادِ الكُفَّارِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الفِتْنَةِ، أو خَوْفِ الفِتْنَةِ، وفِيْه إضَاعَةُ المالِ؛ لأنَّ الإنْسَانَ يُنْفِقُ أمْوَالاً كَثِيْرَةً فِي هَذِه الأسْفَارِ .
أمَّا إذا دَعَتِ الحَاجَةُ إلى ذَلِكَ لِعِلاجٍ، أو تَلَقِّي عِلْمٍ لا يُوْجَدُ فِي بَلَدِه، وكَانَ عِنْدَه عِلْمٌ، ودِيْنٌ عَلَى مَا وَصْفَنَا فَهَذَا لا بأسَ بِهِ .
وأمَّا السَّفَرُ للسَّيَاحَةِ فِي بِلادِ الكُفَّارِ فَهَذَا لَيْسَ بِحَاجَةٍ، وبإمْكَانِه أنْ يَذْهَبَ إلى بِلادٍ إسْلامِيَّةٍ يُحَافِظُ أهْلُها عَلَى شَعَائِرِ الإسْلامِ …"(1).
* * *
أمَّا سَفَرُ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) إلى بِلادِ الكُفْرِ؛ فَشَيْءٌ ظَاهِرٌ سَائِرٌ، فَمَا زَالَ القَوْمُ يَتَوَافَدُوْنَ عَلَى بِلادِ الكُفَّارِ لَيْلاً ونَهَارًا، سِرًّا وجِهَارًا؛ مَا بَيْنَ : إرْسَالِيَّاتٍ، أو بَعَثَاتٍ … طَلَبًا للتَّدْرِيْبَاتِ، أو المُبَارَيَاتِ، أو اللِّقَاءاتِ، أو مَا هُوَ مِنْ شَأنِ طَاغُوْتَةِ العَصْرِ، ولُعْبَةِ الشَّيْطَانِ .
* * *
فِي حِيْنَ أنَّ السَّفَرَ إلى بِلادِ الكُفْرِ لَمْ يَنْتَهِ عِنْدَ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ بَلْ تَعَدَّاهُ شَأوًا بَعِيْدًا، إلى الأوْبَاشِ، والأحْبَاشِ مِنَ المُشَجِّعِيْنَ، والمُشَاهِدِيْنَ، الَّذِيْنَ لا يَسْتَأخِرُوْنَ جَرْيًا وَرَاءَ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ) فِي حِلِّهِم، وتِرْحَالِهم، مُنْسَاقِيْنَ كَفَرَاشِ النَّارِ فِي مُرَافَقَةِ قَوَافِلِ اللاعِبِيْنَ إلى بِلادِ الكُفْرِ والفُجْرِ !
__________
(1) ـ "شَرْحُ الأصُوْلِ الثَّلاثَةِ" للعثيمين ( 131-132 ) .(1/350)
فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ لا تَسْألْ عَنْ حَالِهِم فِي تِلْكُمُ البِلادِ الكَافِرَةِ، ومَا يَفْعَلُوْنَه مِنْ قَبْلُ، ومِنْ بَعْدُ ؟! : فَعَارٌ، وشَنَارٌ؛ فَدُوْنَكَ مَحَلاتِ الفَسَادِ، ومَلاهِي الرَّقْصِ، وأوْكَارَ الدَّعَارَةِ … كُلُّ ذَلِكَ تَحْتَ مَظَلَّةِ التَّشْجِيْعِ الوَطَنِيِّ، والرِّياضَةِ الطَّاغُوْتِيَّةِ !، و" لَيْسَ الخَبَرُ كالمُعَايَنَةِ"(1) أحْمَدُ .
* * *
كَمَا أنَّ "حَمْقَى" الصَّحَافَةِ، والإذَاعَاتِ؛ نَرَاهُم لا يَكِلُّوْنَ، ولا يَمَلُّوْنَ فِي دَفْعِ الرِّعَاعِ، والطَّغَامِ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ؛ بأقْلامِهِم المَسْمُوْمَةِ، وأصْوَاتِهِم المَحْمُوْمَةِ للسَّفَرِ إلى بِلادِ الكُفْرِ : مَا بَيْنَ دَعْوَةٍ وَطَنِيَّةٍ، ورُوْحٍ رِيَاضِيَّةٍ، وإغْرَاءاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ، ورُبَّمَا تَخْفِيْضَاتٍ مَالِيَّةٍ، ورَحَلاتٍ مَجَّانِيَّةٍ، فَهُمْ بِهَذِه المَسَالِكِ الحَمْقَاءِ : يَلُوْثُوْنَ للْمُسْلِمِيْنَ الحَبَائِلَ، ويُقِيْمُوْنَ لَهُم الرَّوَاحِلَ إفْسَادًا، وتَضْلِيْلاً ! فَحَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيْلِ !
* * *
المَحْظُورُ الثَّالِثُ والثَّلاثُوْنَ
دُخُولُ الكُفَّارِ جَزِيْرَةَ العَرَبِ
إنَّ تَقْسِيْمَ دَارَ الإسْلامِ مِنْ حَيْثُ : دُخُوْلِ الكُفَّارِ وعَدَمِه، وحُدُوْدِ كُلِّ قِسْمٍ مِنْها، وأقْسَامَ الكُفَّارِ؛ مِنَ المَبَاحِثِ الطَّوِيْلَةِ الَّتِي سَوْفَ تُخْرِجُنا عَنْ شَرْطِ كِتَابِنَا ( الاخْتِصَارِ )؛ لأجْلِ هَذَا سَوْفَ نَقْتَصِرَ عَلَى مَا لَهُ عُلاقَةٌ بِمَوْضُوْعِنَا، وهُوَ جَزِيْرَةُ العَرَبِ، ودُخُوْلُ الكُفَّارِ إلَيْها .
* * *
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (1/215)، وهو صحيح .(1/351)
أمَّا حُدُوْدُ جَزِيْرَةِ العَرَبِ : فَيَحُدُّهَا غَرْبًا : بَحْرُ القُلْزُمِ ( مَدِيْنَةٌ عَلَى طَرَفَهِ الشَّمَالِيِّ )، ويُقَالُ : بَحْرُ الحَبَشَةِ، وهُوَ المَعْرُوْفُ الآنَ باسْمِ : ( البَحَرِ الأحْمَرِ ).
وجَنُوْبًا : بَحْرُ العَرَبِ، ويُقَالُ : بَحْرُ اليَمَنِ .
وشَرْقًا : خَلِيْجُ البَصْرَةِ؛ الخَلِيْجُ العَرَبِيُّ .
والتَّحْدِيْدُ مِنْ هَذِه الجِهَاتِ الثَّلاثَةِ بالأبْحُرِ المَذْكُوْرَةِ مَحْلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ المُحَدِّثِيْنَ، والفُقَهَاءِ، والمُؤَرِّخِيْنَ، والجُغْرَافِيِّيْنَ، وغَيْرِهِم .
وشَمَالاً : سَاحِلُ البَحْرِ الأحْمَرِ الشَّرْقِيُّ الشَّمَالِيُّ، وما عَلَى مُسَامَتِتِه شَرْقًا؛ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ وأطْرَارِه ( الأرْدُنِ حَالِيًّا )، ومُنْقَطَعُ السَّمَاوَةِ مِنْ رِيْفِ العِرَاقِ، والحَدُّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي المَحْدُوْدِ هُنَا(1) .
وهَذَا مَا حَرَّرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " جَزِيْرَةُ العَرَبِ : هِيَ بَحْرُ القُلْزُمِ إلى بَحْرِ البَصْرَةِ، ومِنْ أقْصَى حِجْرِ اليَمَامَةِ إلى أوَائِلِ الشَّامِ؛ بحَيْثُ كَانَتْ تَدْخُلُ اليَمَنُ فِي دَارِهِم، ولا تَدْخُلُ فِيْها الشَّامُ،، وفِي هَذِه الأرْضِ كَانَتِ العَرَبُ حِيْنَ البِعْثَةِ، وقَبْلَهُ …"(2) .
* * *
__________
(1) ـ انظر "خَصَائِصَ جَزِيْرَةِ العَرَبِ" للشيخِ بكر أبو زيد ( 17-18 ) .
(2) ـ "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (166) .(1/352)
قَالَ تَعَالَى : " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا"[التوبة28]، والمُرَادُ بالمَسْجِدِ الحَرَامِ هُنَا : الحَرَمُ كُلُّه، بدَلِيْلِ قَوْلِه تَعَالَى فِي آخِرِ الآيَةِ السَّابِقَةِ : "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن الله عليم حكيم"[التوبة28]، أي : إنْ خِفْتُم ضَرَرًا بانْقِطَاعِ الجَلَبِ عَنِ الحَرَمِ دُوْنِ المَسْجِدِ(1).
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " أخْرِجُوا المُشْرِكِيْنَ مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لأُخْرِجَنَّ اليَهُوْدَ، والنَّصَارَى مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ؛ حَتَّى لا أدَعُ إلاَّ مُسْلِمًا"(3) مُسْلِمٌ .
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لَئِنْ عِشْتُ إنْ شَاءَ اللهُ لأُخْرِجَنَّ اليَهُوْدَ، والنَّصَارَى مِنْ جَزِيْرَةِ العَرَبِ"(4) التِّرْمِذِيُّ .
وعَنْ عَائِشَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُا ـ قَالَتْ : كَانَ آخِرَ مَا عَهِدَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ قَالَ : " لا يُتْرَكُ بِجَزِيْرَةِ العَرَبِ دِيْنَانِ"(5) أحْمَدُ .
* * *
إنَّ دَارَ الإسْلامِ بِدُوْرِها، تَنْقَسِمُ باعْتِبَارِ الحِلِّ، والحُرْمَةِ عَلَى الكُفَّارِ إلى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ باخْتِصَارٍ :
الأوَّلُ : مَا يُمْنَعُ للكَافِرِ دُخُوْلُه مُطْلقًا؛ فَضْلاً عَنْ إقامَتِه فِيْه، وهُوَ مَنْطَقُةُ الحَرَمِ المَكِّي .
__________
(1) ـ انظر "المغني" (10/616 ) .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 6/196 )، ومسلم ( 11/96 ) .
(3) ـ أخرجه مسلم ( 12/335 ) .
(4) ـ أخرجه الترمذي ( 5/192 )، رقم ( 1647 )، والحديث صححه الترمذي .
(5) ـ أخرجه أحمد (6/275) .(1/353)
والثَّانِي : مَا يُبَاحُ للكَافِرِ دُخُوْلُه فَقَطُ؛ إذَا دَعَتِ الحَاجَةُ مِنْ غَيْرِ أنْ يُمَكَّنُ مِنَ الإقَامَةِ فِيْه إلاَّ بِقَدَرِ الحَاجَةِ(1)، وهُوَ جَزِيْرَةُ العَرَبِ .
والثَّالِثُ : مَا يُبَاحُ للكَافِرِ دُخُوْلُه، والإقَامَةُ فِيْه، وهُوَ سَائِرُ الدِّيَارِ الإسْلامِيَّةِ، وهُمْ المُسْتَأمَنُوْنَ، والذِّمِّيُّوْنَ بالشُّرُوْطِ العُمَرِيَّةِ .
وفِي هَذِه الحَالَةِ نَجِدُ الإسْلامَ قَدِ اتَّخَذَ تَدَابِيْرَ مُخْتَلِفَةً، ومُتَنَوِّعَةً تَهْدِفُ إلى كَسْرِ شَوْكَةِ الكُفَّارِ مِنَ الدُّخُوْلِ بِلادَ الإسْلامِ لصِيَانَةِ المُسْلِمِيْنَ مِنَ التَّأثُّرِ بِنُفُوْذِهِم، أو التَّشَبُّهِ بِهِم .
* * *
أمَّا دُخُوْلُ، وإقَامَةُ الحَرْبِيِّيْنَ فِي دَارِ الإسْلامِ بِعَامَّةٍ؛ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا :
فالحَرْبِيُّ : هُوَ مَنْ يُحَارِبُ المُسْلِمِيْنَ، أو يَنْتَسِبُ إلى قَوْمٍ مُحَارِبِيْنَ للمُسْلِمِيْنَ، سَوَاءٌ أكَانَتِ المُحَارَبَةُ فِعْلِيَّةً، أمْ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً(2).
فالمُحَارَبَةُ الفِعْلِيَّةُ : هِيَ الحَرْبُ الوَاقِعَةُ، أو المُعْلَنَةُ .
والمُحَارَبَةُ المُتَوَقَّعَةُ : هِيَ مَا يُتَوَقَّعُ حُدُوْثُها، وهَذِه تَصْدُرُ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ لَيْسَ لَهُ عَهْدٌ، ولا ذِمَّةٌ، وسَوَاءٌ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ الإسْلامِيَّةُ، أمْ لا، وعَلَيْه؛ فإنَّ كَلِمَةَ الحَرْبِيِّيْنَ تَشْمَلُ الأصْنَافَ التَّالِيَةَ :
1ـ الكُفَّارُ الَّذِيْنَ يُقَاتِلُوْنَ المُسْلِمِيْنَ بالفِعْلِ، ويَكِيْدُوْنَ لَهُم .
__________
(1) ـ هُنَاكَ خِلافٌ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ فِي تَقْدِيْرِ الحَاجَّةِ .
(2) ـ انظر "المُطْلِعَ عَلَى أبْوَابِ المُقْنِعِ" للبعلي ( 226 )، و"المَدْخَلَ للفِقْهِ الإسْلامِي" لمحمد سلام مذكور ( 64 ) .(1/354)
2ـ والكُفَّارُ الَّذِيْنَ أعْلَنُوا الحَرْبَ عَلَى الإسْلامِ، وأهْلِه؛ إمَّا بِمُضَايَقَةِ المُسْلِمِيْنَ، أو مُحَاصَرَتِهم اقْتِصَادِيًا، أو سِيَاسِيًا، لِيَفْتِنُوا المُسْلِمِيْنَ عَنْ دِيْنِهم، أو بِمُظَاهَرَةِ أعْدَاءِ المُسْلِمِيْنَ عَلَيْهم، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الوَسَائِلِ، والأسَالِيْبِ المُعَاصِرَةِ .
3ـ والكُفَّارُ الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُم عَهْدٌ مَعَ المُسْلِمِيْنَ، ولَكِنَّهُم لَمْ تَبْدُ مِنْهُم بَوَادِرُ مُحَارَبَةٍ، فَكُلُّ هَؤُلاءِ يُسَمَّوْنَ فِي الاصْطِلاحِ الفِقْهِيِّ : حَرْبِيِّيْنَ(1).
* * *
فالحَرْبِيِّوْنَ حَسَبَ التَّعْبِيْرِ المُعَاصِرِ أجَانِبُ عَنِ دَارِ الإسْلامِ؛ لأنَّهُم لا يَرْتَبِطُوْنَ مَعَهَا بأيَّةِ رَابِطَةٍ، وبِنَاءً عَلَيْه لا يَجُوْزُ للحَرْبِيِّ دُخُوْلُ دَارِ الإسْلامِ بِغَيْرِ أمَانٍ؛ لأنَّهُ لا يُؤْمَنُ أنْ يَدْخُلَ جَاسُوْسًا، أو مُتَلَصِّصًا فَيَضُرَّ بالمُسْلِمِيْنَ(2) .
أمَّا إنْ دَخَلَ الحَرْبِيُّ دَارَ الإسْلامِ بِغَيْرِ أمَانٍ، فَلا يُمَكَّنُ مِنَ الإقَامَةِ فِيْها، ولا تَتَوَفَّرُ لَهُ عِصْمَةٌ فِي نَفْسِه، ومَالِه؛ لأنَّه عَدُوٌ، ولِذَلِكَ فَهُو مُعَرَّضٌ للنَّفِيِّ، والحَبْسِ، والاسْتِرْقَاقِ، والمَنِّ، والفِدَاءِ؛ بَلْ قَدْ يَتَعَرَّضُ للقَتْلِ أيْضًا .
* * *
__________
(1) ـ انظر "الدُّرَرَ السَّنِيَّةَ فِي الأجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ" جمع الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم ( 7/397 ) .
(2) ـ انظر "المغني والشرح الكبير" ( 10/605 ) .(1/355)
وعَلَيْه؛ لا نَشُكُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ أنَّ أكْثَرَ بِلادِ الغَرْبِ الكَافِرَةِ اليَوْمَ أصْبْحَ أهْلُها حَرْبِيِّيْنَ، ابْتِدَاءً بِحَرْبِ فِلِسْطِيْنَ، والأفْغَانِ، والشِّيْشَانِ، والبُوسْنَةِ، والهِرْسِكِ، وإرِيْتِرْيا، وكِشْمِيْرَ، وغَيْرِها مِنْ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، فِي حِيْنَ أنَّنَا نَعْلَمْ أنَّ الدُّوَلَ الَّتِي لَمْ تَفْتَأ تُحَارِبُ إخْوَانَنَا المُسْلِمِيْنَ فِي هَذِه البَلادِ، وغَيْرِها هِيَ : أمْرِيكا، وبِرِيْطانِيَا، وإيْطَالِيَا، وفَرَنْسا، ورُوْسِيا، وغَيْرُها سواءٌ كَانَتْ مُحَارِبَةً فِعْلِيَّةً، أو مُعْلِنَةً، أو مُتَوَقِّعَةً .
* * *
وبَعْدَ هَذَا؛ هَلْ يَجُوْزُ لَنَا كَمْسْلِمِيْنَ : أنْ نُمَكِّنَ رَعَايَا هَذِه الدُّوَلِ المُحَارِبَةِ مِنَ الإقَامَةِ فِي بِلادِ المُسْلِمِيْنَ بعَامَّةٍ ؟، لا سِيَّما جَزِيْرَةِ العَرَبِ ؟، هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ وُجُودَهم الآنَ، وتَمْكِيْنَنَا لَهُم كَانَ لأجْلِ : لَهْوٍ، ولَعِبٍ ؟!
ومِنَ الطَّرَائِفِ المُخْزِيَةِ مَا أجْرَتْهُ إحْدَى الصُّحُفِ المَحَلِّيَّةِ مَعَ المُدَرِّبِ الصِّرْبِيِّ أثْنَاءَ الحَرْبِ الصِّرْبِيَّةِ، يَوْمَ كَانَ فِي بِلادِ الحَرَمَيْنِ مُدَرِّبًا لَنَادِي ( الاتِّحَادِ ) : حَيْثُ سُئِلَ عَنْ قَتْلِ الصَّرْبِ لإخْوَانِنَا فِي البُوسْنَةِ، والهِرْسِكِ بِهَذِه الوَحْشِيَّةِ ؟، فَمَا كَانَ مِنْه إلاَّ أنْ أبْدَى تَحَمُّسَه مَعَ إخْوَانِه الصِّرْبِ ضِدَّ المُسْلِمِيْنَ هُنَاك!، اللُّهْمَّ إنَّا نَبْرَأُ إلَيْكَ مِنْ هَؤلاءِ، ونَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِنْ هَؤلاءِ !(1/356)
وقَدْ وَقَفْتُ حَتَّى سَاعَتِي هَذِه عَلَى أسْمَاءِ بَعْضِ الكَفَرَةِ الَّذِيْنَ دَخَلُوا بِلادِ الحَرَمَيْنِ عَنْ طَرِيْقِ نَوَادِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَكَانَ عَدَدُهُم : اثْنَيْنَ وثَلاثِيْنَ كَافِرًا، مِنْهُم : اثْنَا عَشَرَ مُدَرِّبًا، والبَاقُوْنَ لاعِبُوْنَ . أمَّا عَنْ رَوَاتِبِهم المَالِيَّةِ؛ فَلا تَسْألْ، فَهُوْ شِيْءٌ مُخْزٍ، ومُرِيْبٌ !
* * *
المَحْظُورُ الرَّابِعُ والثَّلاثُوْنَ
تَوْلِيَةُ الكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ
تَنْقَسِمُ الوِلايَةُ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارِ العُمُوْمِ، والخُصُوْصِ إلى قِسْمَيْنِ(1):
1ـ وِلايَةٌ خَاصَّةٌ؛ كوِلايَةِ المُسْلِمِ عَلَى نَفْسِهِ، ومَالِه، وأوْلادِهِ الصِّغَارِ .
2ـ وِلايَةٌ عَامَّةٌ؛ كوِلايَةِ الإمَامِ، أو نَائِبِه عَلَى الرَّعِيَّةِ، فَهِي تَتَمَثَّلُ فِي تَصَرُّفَاتِ الإمَامِ، أو نَائِبِه فِي شُؤُوْنِ الرَّعِيَّةِ، ويَتَوَلَّى هَذِه الوِلايَةَ خَلِيْفَةُ المُسْلِمِيْنَ، وتَنْبَثِقُ عَنْها وِلايَاتٌ عَامَّةٌ أخْرَى مُتَعَدِّدَةٌ؛ لأنَّ رَئِيْسَ الدَّوْلَةِ لا يَسْتَطِيْعُ أنْ يَقُوْمَ بِمُفْرَدِه بِتَنْظِيْمِ جَمِيْعِ أمُوْرِ الدَّوْلَةِ، فَلا بُدَّ مِنْ جَهَازٍ كَامِلٍ يُسَاعِدُه فِي إدَارَةِ شُؤُوْنِ البِلادِ، ورِعَايَةِ مَصَالِحِ الشَّعْبِ، وعَلَيْه فإنَّ الوِلايَةَ العَامَّةَ تَنْقَسِمُ إلى وِلايَاتٍ عَدِيْدَةٍ .
* * *
والوِلايَةُ تَنْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ حَسْبَما قَرَّرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ(2):
القِسْمُ الأوَّلُ : الوِلايَاتُ الكُبْرَى؛ وهِيَ وِلايَةُ الحَرْبِ الكُبْرَى، مِثْلُ : وِلايَةِ السَّلْطَنَةِ .
__________
(1) ـ "العِلاقَاتُ الاجْتِمَاعِيَّةُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ وغَيْرِ المُسْلِمِيْنَ" لبدران ( 197 ) .
(2) ـ انظر "الحُسْبَةَ" لابن تيمية ( 21 ) .(1/357)
القِسْمُ الثَّانِي : الوِلايَاتُ الصُّغْرَى، مِثْلُ : وِلايَةِ الشُّرْطَةِ، ووِلايَةِ الحُكْمِ، أو وِلايَةِ المَالِ، وهِي وِلايَةِ الدَّوَاوِيْنِ المَالِيَّةِ، ووِلايَةِ الحُسْبَةِ .
* * *
فَكَانَ عَلَيْنا أنْ نَعْلَمَ أنَّ الوِلايَةَ العَامَّةَ ( الخِلافَةَ ) قَدْ وُضِعَتْ : لِخِلافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّيْنِ، وسِيَاسَةِ الدُّنْيِا .
فَلَيْسَ مِنَ المُسْتَسَاغِ فِي مِثْلِ هَذِه الدَّوْلَةِ أنْ يَتَوَلَّى رِئَاسَتَها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِمَبَادِئِها، ويِخْضَعُ لأحْكَامِها، ويَتَفَانَى فِي خِدْمَتِها، ويُطَبِّقُ شَرَائِعَها فِي خَاصَّةِ نَفْسِه؛ إذْ كَيْفَ يَسُوْسُ النَّاسَ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ هُوَ، ولا يَسُوْسُ نَفْسَه بِمُقْتَضَاه ؟
والإسْلامُ لَيْسَ بِدَعًا فِي هَذَا المَجَالِ؛ بَلْ إنَّ جَمِيْعَ الدُّوَّلِ العَقَائِدِيَّةِ، الَّتِي تَقُوْمُ عَلَى مَبْدَأ مُعَيَّنٍ، لا تُسْنِدُ المَنَاصِبَ الرَّفِيْعَةَ فِيْها إلاَّ لِمَنْ تَعَمَّقَ فِي المَبْدَأ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْه الدَّوْلَةُ، وكَانَ مُؤْمِنًا بِهِ، مُحَافِظًا عَلَيْه(1) .
وفِي هَذَا يَقُوْلُ الأسْتَاذُ مُحَمَّدُ أسَدٌ : " لَيْسَ فِي الوُجُوْدِ نِظَامٌ ( إيْدُولُوجِي ) سَوَاءٌ قَامَ عَلَى أسَاسِ الدِّيْنِ، أو عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأسُسِ الفِكْرِيَّةِ ـ يُمْكِنُ أنْ يَرْضَى بأنْ يَضَعَ مَقَالِيْدَ أمُوْرِهِ فِي يَدِ مَنْ لا يَعْتَنِقُ الفِكْرَةَ الَّتِي يَقُوْمُ عَلَيْها النِّظَامُ .
__________
(1) ـ انظر "التدابير الواقية" لعثمان دوكورى (2/663-664) .(1/358)
هَلْ يَقَعُ فِي خَيَالِ أحَدٍ، عَلَى سَبِيْلِ المِثَالِ : أنْ يُسْنَدَ فِي الاتِّحَادِ السُّوفْيِتِي مَنْصِبٌ سِيَاسِيٌ هَامٌ – دَعْ عَنْكَ مَنْصِبَ رِئَاسَةِ الدَّوْلَةِ، أو الحَكُوْمَةِ ـ إلى شَخْصٍ لا يُؤْمِنُ بالشِّيُوْعِيَّةِ عَقِيْدَةً ونِظَامًا ؟، بالطَّبْعِ لا . وهَذَا أمْرٌ مَنْطَقِيٌ؛ لأنَّه مَا دَامَتِ الفِكْرَةُ الشِّيُوْعِيَّةُ هِيَ القَاعِدَةَ الَّتِي يَقُوْمُ عَلَيْها النِّظَامُ السِّيَاسِيُّ؛ فإنَّ الأشْخَاصَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بأهْدَافِ الفِكْرَةِ، هُم وَحْدَهم الَّذِيْنَ يُمْكِنُ الاعْتِمَادُ عَلَيْهم فِي قِيَادَةِ الشَّعْبِ نَحْوِ تَحْقِيْقِ غَايَاتِها السِّيَاسِيَّةِ، والإدَارِيَّةِ"(1).
* * *
الأدِلَّةُ عَلَى مَنْعِ الكُفَّارِ مِنْ تَوَلِّي الوِلايَاتِ العَامَّةَ فِي دَارِ الإسْلامِ :
قَالَ تَعَالَى : "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"[النساء141]، فالآيَةُ تُنْفِي أنْ يَكُوْنَ للكَافِرِ سَبِيْلٌ، وتَسَلُّطٌ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ، ولَوْ جَازَ أنْ يَكُوْنَ غَيْرُ المُسْلِمِ سُلْطَانًا، أو قَاضِيًا عَلَى المُسْلِمِيْنَ لشَعَرَ المُسْلِمُ بِقُوَّتِه، وسُلْطَانِه، ونُفُوْذِ أمْرِه، وعُلُوِّ يَدِه عَلَيْهم، ولَكَانَتْ لَهُ القُوَّةُ دُوْنَهم، وهَذَا مُنَافٍ للآيَةِ السَّابِقَةِ(2).
__________
(1) ـ "منهاج الإسلام في الحكم" لمحمد أسد (84) .
(2) ـ انظر "التدابير الواقية" لعثمان دوكورى (2/ 665-666) .(1/359)
ومِنَ الأدِلَّةِ المُبَاشِرَةِ أيْضًا مَا ذكره عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حَيْثُ قَالَ : دَعَانَا رُسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَبَايَعْنَاه، فَكَانَ فِيْما أخَذَ عَلَيْنا أنْ بايَعْنَاه عَلَى السَّمْعِ، والطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وعُسْرِنا ويُسْرِنا، وأثَرَةٍ عَلَيْنا، وألاَّ نُنَازِعَ الأمْرَ أهْلَه، قَالَ : " إلاَّ أنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُم مِنَ اللهِ فِيْه بُرْهَانٌ"(1) البُخَارِيُّ . فإذَا كَانَ الكُفْرُ يُوْجِبُ الخُرُوْجَ عَلَى وَلِيِّ الأمْرِ، كَانَ أيْضًا مَانِعًا مِنْ تَوْلِيَتِه ابْتِدَاءً مِنْ بَابِ أوْلَى .
ونَقَلَ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَه عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ : " أجْمَعَ العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الإمَامَةَ لا تَنْعَقِدُ لَكَافِرٍ، وعَلَى أنَّه إذَا طَرَأ عَلَيْه الكُفْرُ انْعَزَلَ، قَالَ : وكَذَا لَوْ تَرَكَ إقَامَةَ الصَّلَوَاتِ، والدُّعَاءَ إلَيْها"(2).
* * *
وبالإضَافَةِ إلى تِلْكَ الأدَلَّةِ العَامَةِ، والصَّرِيْحَةِ فِي مَنْعِ تَولِيَةِ الكُفَّارِ الوِلايَاتِ العَامَّةَ، فإنَّ مَا اشْتَرَطَهُ العُلَمَاءُ مِنْ شُرُوْطٍ إزَاءَ كُلِّ وِلايَةٍ مِنْ تِلْكَ الوِلايَاتِ العَامَّةِ تُخْرِجُ الكُفَّارَ مِنْ دَائِرَةِ المُنَافَسَةِ عَلَى هَذِه الوَظَائِفِ .
فَعَلَى سَبِيْلِ المِثَالِ؛ اتَّفَقَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى اشْتِرَاطِ : الإسْلامِ، والعَدَالَةِ، والاجْتِهَادِ فِي هَذِه الوِلايَاتِ .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 13/7 ) .
(2) ـ "شرح مسلم" للنووي (12/470 ) .(1/360)
وبالنَّظَرِ إلى هَذِه الشُّرُوْطِ نَجِدُ أنَّها لا تَتَّفِقُ مَعَ وَضْعِ الكَافِرِ، أمَّا الإسْلامُ فأمْرُه وَاضِحٌ، وأمَّا العَدَالَةُ فَيُقْصَدُ بِها الاتِّصَافُ بِمَحَاسِنِ الصِّفَاتِ مِنَ الوَرَعِ، والتَّقْوَى، والمُرُوْءةِ، والتَّنَزُّهِ عَمَّا يُشِيْنَه مِنَ المَعَاصِي والأهْوَاءِ، وهِيَ فِي الجُمْلَةِ تَعْنِي : اجْتِنَابَ الكَبَائِرِ، وعَدَمَ الإصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ(1).
فَعَنْ أبِي مُوْسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ : قُلْتُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : إنَّ لِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا، قَالَ : مَالَكَ قَاتَلَكَ اللهُ ! أمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُوْلُ : " يأ أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض"[المائدة51]. ألا اتَّخَذْتَ حَنِيْفًا مُسْلِمًا ؟، قَالَ : قُلْتُ : يا أمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ لِي كِتَابِتُهُ، ولَهُ دِيْنُه !
قَالَ : لا أُكْرِمُهُم إذْ أهَانَهُمُ اللهُ، ولا أُعِزُّهُم إذْ أذَلَّهُم اللهُ، ولا أُدْنِيْهِم إذْ أقْصَاهُم اللهُ"(2).
وعَنْهُ أيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّه كَتَبَ إلى أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كِتَابًا جَاءَ فِيْه : " وأَبْعِدْ أهْلَ الشِّرْكِ، وأنْكِرْ فِعَالَهُم، ولا تَسْتَعِنْ فِي أمْرٍ مِنْ أُمُوْرِ المُسْلِمِيْنَ بِمُشْرِكٍ، وسَاعِدْ عَلَى مَصَالِحِ المُسْلِمِيْنَ بنَفْسِكَ"(3).
__________
(1) ـ "الفقه الإسلامي وأدلته" لوهبة الزحيلي ( 6/565 ) .
(2) ـ أخرجه البيهقي في "السنن" (9/204)، وانظر "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (1/185) .
(3) ـ انظر "أحكام أهل الذمة" لابن القيم (1/455) .(1/361)
وعَنْهُ أيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أنَّه قَالَ : لا تَسْتَعْمِلُوا أهْلَ الكِتَابِ؛ فإنَّهُم يَسْتَحِلُّوْنَ الرِّشَا، واسْتَعِيْنُوا عَلَى أُمُوْرِكِم، وعَلَى رَعِيَّتِكِم بالَّذِيْنَ يَخْشَوْنَ اللهَ تَعَالَى، وقِيْلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : إنَّ هَا هُنَا رَجُلاً مِنْ نَصَارَى الحِيْرَةِ لا أحَدَ أكْتَبُ مِنْهُ، ولا أخَطُّ بِقَلَمٍ؛ أفَلا يَكْتُبُ عِنْدَكَ ؟، فَقَالَ : " لا أَتَّخِذُ بِطَانَةً مِنْ دُوْنَ المُؤْمِنِيْنَ"(1) .
وقَدْ سُئِلَ الإمَامُ أحْمَدُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " نَسْتَعْمِلُ اليَهُوْدَ، والنَّصَارَى فِي أعْمَالِ المُسْلِمِيْنَ مِثْلُ الخَرَاجِ ؟، فَقَالَ : لا يُسْتَعَانُ بِهم فِي شَيْءٍ"(2).
وقَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " لا يَجُوْزُ أنْ يُوَلَّى الكِتَابِيُّ شَيْئًا مِنْ وِلاياتِ المُسْلِمِيْنَ عَلَى جِهَاتٍ سُلْطَانِيَّةٍ، ولا أخْبَارِ الأمَرَاءِ، ولا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَنَاصِبِ الهَامَّةِ ذَاتِ المَسَاسِ بِمَصَالِحِ الأمَّةِ وقُوَّتِها"(3).
وقَالَ ابنُ جَمَاعَةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ولا تَجُوْزُ تَوْلِيَةُ الذِّمِّيَّ فِي شَيْءٍ مِنَ وِلايَاتِ المُسْلِمِيْنَ إلاَّ فِي جِبَايَةِ الجِزْيَةِ مِنْ أهْلِ الذِّمَّةِ، أو جِبَايَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ تِجَارَاتِ المُشْرِكِيْنَ"(4).
* * *
__________
(1) ـ انظر "تفسير القرطبي" (4/179) .
(2) ـ انظر "الأحكام السلطانية" لأبي يعلى ( 32 ) .
(3) ـ "الاختيارات الفقهية" للبعلي (512) .
(4) ـ انظر "تحرير الأحكام" ( 63 )، نقلاً عن "التدابير الواقية" (2/673) .(1/362)
وعَلَيْه لا يَجُوْزُ وِلايَةُ الكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ أيًّا كَانَ نَوْعُها، أو وَصْفُها، سَوَاءٌ كَانُوا إدَارِيِّيْنَ، أو مُدَرِّبِيْنَ، أو لاعِبِيْنَ؛ لأنَّ فِي تَوْلِيَتِهم فِي هَذِه الألْعَابِ السَّاذَجَةِ تَطَاوُلاً، وذَرِيْعَةً مِنْهُم عَلَى المُسْلِمِيْنَ !
فِي حِيْنَ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ نَوَادِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي بِلادِ المُسْلِمِيْنَ بِعَامَّةٍ؛ قَائِمٌ عَلَى وِلايَةِ تَدْرِيْبِ لاعِبِيْها : كُفَّارٌ، أو فُجَّارٌ !
وقَدْ وَقَفْتُ حَتَّى سَاعَتِي هَذِه عَلَى : اثْنَيْ عَشَرَ مُدَرِّبٍ مِنَ عُلُوْجِ الكُفَّارِ، مِمَّنْ يَقُوْمُوْنَ عَلَى تَدْرِيْبِ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ فِي نَوَادِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي بِلادِ الحَرَمَيْنِ !
* * *
المَحْظُورُ الخَامِسُ والثَّلاثُوْنَ
مُمَارَسَةُ احْتِرَافِ اللَّعِبِ، واتِّخَاذُها حِرْفَةً
الاحْتِرَافُ : هُوَ اتِّخَاذُ مَا مَهَرَ بِه الإنْسَانُ، وعَكَفَ عَلَيْه سَبِيْلاً للْكَسْبِ .
أمَّا احْتِرَافُ اللَّعِبِ : هُوَ اتِّخَاذُ الإنْسَانِ مِهْنةَ اللَّعِبِ سَبِيْلاً للْكَسْبِ .
حُكْمُه : يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاحْتِرَافِ بِحَسَبِ اخْتِلافِ الحِرْفَةِ، واخْتِلافِ ظُرُوْفِ مُمَارَسَتِها، كَمَا يَلِي :(1/363)
ـ احْتِرَافٌ وَاجِبٌ : وذَلِكَ عِنْدَ الحَاجَةِ الشَّدِيْدَةِ لِحِرْفَةٍ مَّا، كَمَا لَوْ احْتَاجَ المِسْلِمُوْنَ، أو المُجَاهِدُوْنَ إلى صِنَاعَةٍ مِنَ الصِّنَاعَاتِ : كالنِّسَاجَةِ، والفِلاحَةِ، والحِدَادَةِ، والنِّجَارَةِ، فَعَلَى مَنْ يُجِيْدُها إنْ يَعْمَلَ بِها، ويُبْدِّلُها لَهم بالقِيْمَةِ، قِيَاسًا عَلَى الأمْوَالِ الِّتِي يُحْتَاجُ إليها، ويَكُوْنُ بَذْلُها فَرْضُ كِفَايَةٍ، فإنِ امْتَنَعُوا عَنِ العَمَلِ بِها فَعَلَى الإمَامِ إنْ يُجْبِرَهُم عَلَى ذَلِكَ(1)، ولَكِنْ لَيْسَ للإمَامِ، ولا لغَيْرِه : أنْ يُكْرِه أحَدًا عَلَى عَمَلٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْه، وهُوَ لَيْسَ مِنْ أهْلِهِ(2).
__________
(1) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 28/80 – 82 )، و( 29/194 ) .
(2) ـ السابق ( 30/243 ) .(1/364)
ـ احْتِرَافٌ مٌحَرَّمٌ : وهُوَ احْتِرَافُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ العَيْنِ : كاحْتِرَافِ البِغَاءِ(1)، والتَّنْجِيْمِ، والنِّياحَةِ، والغِنَاءِ … إلخ . وكَذَا تَحْرُمُ مُزَاوَلَةُ كُلِّ حِرْفَةٍ أصْلُها حَلالٌ، ولَكِنَّها يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الحَرَامِ : كاحْتِرَافِ صِنَاعَةِ الخَمْرِ، وحَمْلِهِ(2)، وصِنَاعَةِ الصُّلْبَانِ، والأصْنَامِ، والاتِّجَارِ بِها(3)، وخِيَاطَةِ ثِيَابِ الحَرِيْرِي لِمَنْ يِحْرُمُ عَلَيْه لِبْسُها(4)، وصِنَاعَةِ آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وصِنَاعَةِ آلاتِ اللَّهْوِ المُحَرَّمِ، ونَحْوِ ذَلِكَ(5)، وكَذَا احْتِرَافُ لُعْبَةٍ يُسْتَعَانَ بِها عَلَى مُحَرَّمٍ : كَـ( كُرَةِ القَدَمِ )، ونَحْوِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ المُعِيْنَةِ عَلَى المُحَرَّمِ؛ بَلْهَ المُحَرَّمَاتِ .
ـ احْتِرَافٌ مَكْرُوْهٌ؛ إلاَّ لِحَاجَةٍ : ومِنْ ذَلِكَ :
__________
(1) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 30/ 209 ) .
(2) ـ السابق ( 30/209 ) .
(3) ـ السابق ( 2/141 ) .
(4) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 22/139و 143)، و( 29/299 )، و"مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي ( 319 ).
(5) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 22/ 140 ) .(1/365)
1ـ احْتِرَافُ أعْمَالِ البِرِّ للتَّكَسُّبِ بِها مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ : كاحْتِرَافِ تَعْلِيْمِ القُرْآنِ، والحَدِيْثِ، والفِقْهِ، والحَجِّ عَنِ الغَيْرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ(1)، وإنِّمَا كَانَتْ لا كَرَاهَةَ فِيْها للفَقِيْرِ، والمُحْتَاجِ؛ لأنَّ المُحْتَاجَ إذَا تَكَسَّبَ بِها أمْكَنَه إنْ يَنْوِيَ عَمَلَها للهِ، ويَأخُذَ الأجْرَ ليَسْتَعِيْنَ بِه عَلَى العِبَادَةِ(2)، واحْتِرَافُ تَغْسِيْلِ الأمْوَاتِ؛ لأنَّ تَغْسِيْلَ الأمْوَاتِ مِنْ أعْمَالِ البِرِّ؛ ولأنَّ التَّكَسُّبَ بِه يُؤَدِّي إلى تَمَنِّي المَوْتَ للمُسْلِمِيْنَ(3).
* * *
__________
(1) ـ انظر "حاشية ابن عابدين" (1/392)، و"الدر المختار" للحصكفي (6/55)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (23/367)، (30/207)، (24/316) .
(2) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 24/316 )، و( 30/193و 205 – 207 ) .
(3) ـ "الاختيارات الفقهية" للبعلي ( 269 ) .(1/366)
قُلْتُ : ومِنْ هَذِه الحِرَفِ المَكْرُوْهَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِمَّا تَبَسَّطَ، وتَوَسَّعَ فِيْها كَثِيْرٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ هَذِه الأيَّامِ : احْتِرَافُ مِهْنَةِ تَدْرِيْسِ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ فِي المَدَارِسِ، والجَامِعَاتِ الأهْلِيَّةِ(1)، واحْتِرَافُ الإمَامَةِ، والتَّأذِيْنِ، واحْتِرَافُ تَطْوِيْفِ الحَاجِّ والمُعْتَمِرِ، ومِنْها أيْضًا العَمَلُ فِي الجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ(2)، وغيرُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الأصْلُ فِيْه طَلَبُ الأجْرِ مِنَ اللهِ كالعِبَادَاتِ، ومَا أعَانَ عَلَيْها(3)
__________
(1) ـ أمَّا المَدَارِسُ، والجَامِعَاتُ الأهْلِيَّةُ، فَلا شَكَّ أنَّها مِنْ بَابِ الإجَارَةِ، وعَلَيْها كَانَتِ الكَرَاهَةُ مُتَحَقِّقَةٌ لِغِيْرِ حَاجَةٍ، أمَّا المَدَارِسُ، والجَامِعَاتُ الحَكُوْمِيَّةُ فَهِي مِنْ بَابِ الرَّزْقِ، أيْ المَالَ الَّذِي يُعْطَى مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ الأمْرِ مِنْ بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِيْنَ، وهَذَا مُجْمَعٌ عَلَى جَوَازِ أخْذِ المَالِ فِيْه، واللهُ تَعَالَى أعْلَمُ .
(2) ـ المَقْصُوْدُ بالجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ : مَا قَامَتْ عَنْ طَرِيْقِ أمْوَالِ المُسْلِمِيْنَ، لا بَيْتِ المُسْلِمِيْنَ .
(3) ـ وتَظْهَرُ الكَرَاهَةُ فِي هَذِه المَذْكُوْراتِ : لِمَنْ هُوَ فِي غُنْيَةٍ عَنِ التَّكَسُّبِ بِها، مِمَّنْ فَتَحَ اللهُ لَهُ بَابَ تَكَسُّبٍ غَيْرَها، سَوَاءٌ كَانَ بَابَ تِجَارَةٍ، أو وَظِيْفَةٍ، أو نَحْوِها، ثُمَّ لِيَعْلَمَ الجَمِيْعُ أنَّ الحاجَةَ هُنَا لَيْسَتْ مَتْرُوكَةً للتَّشَهِّي، والكَمَالِياتِ الَّتِي يَعِيْشُها كَثِرٌ مِنَ المُسْلِمِيْنَ !، ويَدُلُّ عَلَى هَذَا أنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ رَزَقَه الله كَسْبًا مَشْرُوعًا فِيْه كِفَايِتُه، تَرَاهُم يَرْكُضُوْنَ جَاهِدِيْنَ فِي مَنَاكِبِ الأرْضِ يَتَكَسَّبُوْنَ عَنْ طَرِيْقِ احْتِرَافِ العِبَادَاتِ، ومَا أعَانَ عَلَيْها مِمَّا هو وَسِيلةٌ لَها !(1/367)
، "قل لا أسألكم عليه أجرًا"[الأنعام90] .
وكَذَا مِنْها مَا جَمَعَ بَيْنَ الإنْفَاقِ، والتَّبَرُّعِ : كتَحْجِيْجُ المُسْلِمِيْنَ فِيْمَا يُسَمَّى بحَمَلاتِ الحَجِّ الدَّاخِلِ مِنْها، والخَارِجِ، واحْتِرَافُ التَّكسُّبِ بالكُتُبِ، والأشْرِطَةِ الإسْلامِيَّةِ؛ بَيْعًا، ونَسْخًا، وطَبْعًا، وتَسْجِيْلاً، وتَوْزِيْعًا، فَلَيْسَ لِهَؤُلاءِ مِنْ تَكَسُّبِهم بِهَذِه الأشْيَاءِ إلاَّ أخْذُ رُؤُوْسِ أمْوَالِهِم، ومَا زَادَ عَنْها فَهُوَ مِنَ التَّكَسُّبِ المَكْرُوْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ، " فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُون ولا تُظْلَمُون"[البقرة279] .
2ـ احْتِرَافُ مَا فِيْه : مُخَالَطَةٌ للنَّجَاسَاتِ لِغَيْرِ المُحْتَاجِ : كالحِجَامَةِ؛ فإنْ عَمِلَ حَجَّامًا بِعِوَضٍ اسْتَحَقَّ العِوَضَ، ونُهِي عَنْ أكْلِهِ مَعَ الاسْتِغْنَاءِ عَنْه، فإنْ كَانَ مُحْتَاجًا حَلَّ لَه أكْلُه(1) .
ـ احْتِرَافٌ مُبَاحٌ : وهُوَ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الحِرَفِ، ومِنْ ذَلِكَ : احْتِرَافُ خِيَاطَةِ ثِيَابِ الحَرِيْرِ لِمَنْ يِحِلُّ لَهُ لِبْسُها كالنِّسَاءِ، والمَرْضَى(2)، واحْتِرَافُ الشَّهَادَةِ عَلَى العُقُوْدِ(3)، واحْتِرَافُ وَزْنِ مَا يُحْتَاجُ النَّاسُ إلى وَزْنِه(4)، إلى غِيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّنَاعَاتِ، والأعْمَالِ المُبَاحَةِ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 30/191 )، و"الاختيارات" للبعلي ( 271 ) .
(2) ـ السابق ( 2/140 ) .
(3) ـ السابق ( 30/77 ) .
(4) ـ انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية ( 30/189 ) .(1/368)
أمَّا اتِّخَاذُ اللَّهْوِ حِرْفَةً للكَسْبِ : فلا يَجُوْزُ أنْ يُتَّخَذَ اللَّهْوُ مَهْمَا كَانَ نَوْعُه، أو حُكْمُهُ حِرَفَةً للكَسْبِ، ولا يَجُوْزُ الاسْتِئْجَارُ عَلَيْه، ويُرَخَّصُ بأخْذِ الجُعْلِ عَلَى اللَّهْوِ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الجِهَادِ دُوْنَ غَيْرِه مِنْ أنْوَاعِ اللَّهْوِ، كَمَا تَقَدَّمَ .
ومِنَ الظَّوَاهِرِ الغَرْبِيَّة، والعَجِيْبَةِ مَعًا، مَا أصْبَحَتْ تَتَمَتَّعُ بِه الرِّياضَةُ الاحْتِرَافِيَّةُ مِنِ اهْتِمَامٍ بَالِغٍ مِنَ الشَّبَابِ عُمُومًا، والهَيْئَاتِ، والمُنَظَّمَاتِ، والمُؤَسَّسَاتِ التِّجَارِيَّةِ، والاقْتِصَادِيَّةِ، فأصْبَحَتِ الرِّياضَةُ صِنَاعَةً، ومِهْنَةً يُسْتَأجَرُ لَها المَاهِرُوْنَ فِيْها بأمْوَالٍ طَائِلَةٍ مُقَابِلَ اللَّعِبِ للفَرِيْقِ المُسْتَأجِرِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً مِنَ الزَّمَنِ مُقَابَلَ إمْتَاعِ الجَمَاهِيْرِ، والمَلايِيْنِ مِنَ المُتَعَاطِفِيْنَ بِمُدَاعَبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومُغَازَلَتِها، والتَّدَرُّبِ عَلَى ذَلِكَ طَوَالَ النَّهَارِ، وفِي آخِرِ المَكَاسِبِ الحُصُوْلُ عَلَى ألْقَابِ البُطُوْلَةِ، والفَوْزِ بالكُؤُوْسِ .
فِي حِيْنَ تُصْرَفُ عَلَى هُؤلاءِ المُحْتَرِفِيْنَ مَبَالِغُ مَالِيَّةٌ تَصِلُ فِي بَعْضِ الأحْيَانِ إلى مَا يُعَادِلُ مِيْزَانِيَّةَ بَعْضِ دُوَلِ العَالَمِ الفَقِيْرِ لِشَرَاءِ لاعِبٍ مَاهِرٍ، وغَالبًا مَا يَكُوْنُ هَذَا اللاعِبُ للأسَفِ عِلْجًا غَرْبِيًا كَافِرًا!
* * *
فَكَانَ مِنْ إفْرَازَاتِ هَذِه الظَّاهِرَةِ الرِّيَاضِيَّةِ ظُهُوْرُ اهْتِمَامٍ بَالِغٍ مِنَ الشَّبابِ هَذِه الأيَّامِ فِي مُزَاوَلَةِ مِهْنَةِ الاحْتِرَافِ؛ لكَسْبِ المَالِ، والشُّهْرَةِ؛ الأمْرُ الَّذِي يَنْعَكِسُ سَلْبًا عَلَى تَقَدُّمِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ لإعَادَةِ مَوْقِعِها القِيَادِي فِي العَالَمِ بأسْرِه .(1/369)
إنَّ طَبِيْعَةَ النَّظْرَةِ الإسْلامِيَّةِ للحَيَاةِ، والكَوْنِ، والإنْسَانِ، لا تَقْبَلُ احْتِضَانَ فِكْرٍ، أو إيْوَاءَ تَصَوُّرٍ يَجْنَحُ لِمَسْخِ دَوْرِ المُسْلِمِ مِنْ دَوْرِ الاسْتِخْلافِ، وتَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ فِي إقَامَةِ المَنْهَجِ الرَّبَّانِي فِي الحَيَاةِ إلى دَوْرٍ تَخْتَفِي فِيْه هَذِه الحَقِيْقَةُ لِتَغِيبَ وَسَطَ لَعِبٍ دَؤُوْبٍ، وتَدْرِيْبَاتٍ مَدِيْدَةٍ لا تُسَاهِمُ إلاَّ فِي اسْتِغْفَالِ الأمَّةِ، وتَجْفِيْفِ ذِهْنِيَّتِها مِنْ أدْنَى مُسْكَةِ وَعْيٍ، وتَدَبُّرٍ فِي دَرْبِ اسْتِعَادَتِها لِقُوَّتِها لتَخَطِّي العَقَبَاتِ، سَعْيًا وَرَاءَ فَرْضِ هَيْمَنَتِها القَائِمَةِ عَلى العَدْلِ، والإحْسَانِ .
وغَيْرُ لائِقٍ بأمَّةٍ مُسْلِمَةٍ مَسْؤُولَةٍ أمَامَ خَالِقِها أنْ تَتِيْهَ عَنْ أمَانَةِ الاسْتِخْلافِ، وتَغْفَلَ مُهِمَّتَها الإصْلاحِيَّةِ فِي العَالَمِ بأسْرِه بِتَشْجِيْعِ الرِّياضَةِ إلى حُدُوْدِ الاحْتِرَافِ، والاشْتِغَالِ بِها عَلَى اعْتِبَارِها مَصْدَرًا مِنْ مَصَادِرِ الرِّزْقِ، والكَسْبِ، وصِنْعَةً كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ الأخْرَى، وذَلِك؛ لأنَّ العِوَضَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لا يَجُوْزُ فِيْ الألْعَابِ الَّتِي لَيْسَ لَها تَعَلُّقٌ بإعْدَادِ القُوَّةِ الجِهادِيَّةِ؛ ولأنَّ المُجْتَمَعَ الإسْلامِيَّ، مُجْتَمَعُ مُثُلٍ، ومَبَادِئُ فَاضِلَةٍ، فَهُوَ لِذَلِكَ يَصُوْغُ بَرَامِجَه، ويُشَكِّلُ حَيَاتَه وُفْقَ مَا يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ أهْدَافٍ قَيِّمَةٍ، ومُثُلٍ عُلْيَا، يَسْعَى لتَحْقِيْقِها بَعِيْدًا عَنْ كُلِّ المُعَوَّقَاتِ، والحَوَاجِزِ الَّتِي تُنْصَبُ فِي وَجْهِها بإيْعَازٍ مِنْ أعْدائِه، وخُصُوْمِه(1).
* * *
__________
(1) ـ انظر "قضايا اللهو" لمادون (410-412) .(1/370)
أمَّا مِهْنَةُ الاحْتِرَافِ فِي بِلادِ الحَرَمَيْنِ، فَقَدْ كَانَتْ سَوَانِحَ، وخَوَاطِرَ، وأفْكَارًا؛ لَيْسَ لَها مِنْ رَصِيْدِ الوَاقِعِ شَيْءٌ؛ اللَّهُمَّ أحَادِيْثُ مُجَّتَرَّةٍ، وأخْبَارٌ مُجْتَزَأةٌ !، وهَكَذَا مَا زَالَتْ هَذِه الحِرْفَةُ فِي مَهْدِها مَيِّتَةً أمَدًا مَدِيْدًا؛ حَتَّى جَاءَ أقْزَامُ الصَّحَافَةِ يَنْفُخُوْنَ فِي كِيْرِها المَرَّةَ بَعْدَ المَرَّةِ، مَا بَيْنَ : تَشْجِيْعٍ للاحْتِرَافِ، وثَنَاءٍ عَلَى المُحْتَرِفِيْنَ، وكَشْفٍ لِبَعْضِ رَوَاتِبِ المُحْتَرِفِيْنَ زِيَادَةً فِي الإغْرَاءِ مِمَّا يَسِيْلُ لَهُ لُعَابُ ذُبَابِ طَامِعِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) … وهَكَذَا مَا زَالَتْ الصَّحَافَةُ حتَّى سَاعَتِي هَذِه مُتَوَلَّيَةً كِبْرَ هَذِه الفِتْنَةِ؛ مِمَّا تَسَارَعَ كَثِيْرٌ مِنَ النَّوَادِي الرِّياضِيَّةِ فِي اسْتِقْدَامِ مُحْتَرِفِيْنَ عَالَمِيَّنَ عَنْ طَرِيْقِ عُقُوْدٍ مَالِيَّةِ خَيَالِيَّةٍ، قَدْ تَصِلُ فِي مَجْمُوْعِها إلى حَلِّ مُشْكِلَةِ العَطَالَةِ بَيْنَ كَثِيْرٍ مِنَ الشَّبَابِ المِسْكِيْنَ الحَائِرِ، الَّذِي اتَّخَذَ بَعْضُهُم مِنَ السَّرِقَةِ، والاخْتِلاسِ، والبَطَالَةِ، وكَذَا التَّشْجِيْعِ مِهْنَةً احْتِرَافِيَّةً !
* * *(1/371)
فَلَمَّا بَدَأتِ العَدْوَى تَنْتَقِلُ إلى بِلادِ الحَرَمَيْنِ، ظَهَرَتْ أصْوَاتٌ، وأسْمَاءٌ مُسْلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ مِنْ بِلادِ الجَزِيْرَةِ تَلُوْحُ فِي أُفُقِ الصَّحَافَةِ بأنَّها تَرَغَبُ الاحْتِرَافَ؛ ولَكِنْ لَيْسَ هُنَالِكَ مَنْ يَرْعَى لَها حَقَّ الاحْتِرَافِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَدَأتِ الصَّحَافَةُ ( الأثِيْمَةُ ) تُجَعْجِعُ، وتُشَنْشِنُ هُنَا وهُنَاكَ، رَامِيَةً بِفَتَاوَى أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ مِهْنَةِ ( الاحْتِرَافِ )، عُرْضَ الحَائِطِ، جَاعِلَةً مِنْ نَفْسِها سُلْطَةً قَضَائِيَّةً، وتَنْفِيْذِيَّةً مَعًا!
وهَكَذَا مَا زَالَتْ تَصْرِيْحَاتُهم ( تَجْرِيْحَاتُهم ! ) تَتعَالَى فِي كُلِّ مَكَانٍ وزَمَانٍ؛ حَتَّى سَمِعْنا ورَأيْنَا مَنِ انْخَرَطَ مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ فِي مِهْنَةِ الاحْتِرَافِ دُوْنَ خَوْفٍ مِنَ اللهِ، أو حَيَاءٍ مِنْ أبْنَاءِ جِلْدَتِه !
وحَسْبُنا هَذِه الأسْمَاءُ الَّتِي مَا زَالَتْ تَتَنَاقَلُها الصَّحَافَةُ بَيْنَ صَفَحَاتِها، مِنْ عَدَدٍ لَيْسَ بالقَلِيْلِ مِنْ أبْنَاءِ بِلادِ التَّوْحِيْدِ، فإلى اللهِ المُشْتَكى، وعَلَيْه التُّكْلانُ !
* * *
أمَّا أقْوَالُ أهْلِ العِلْمِ فِي بَيَانِ تَحْرِيْمِ مِهْنَةِ ( الاحْتِرَافِ )، وكُلِّ مَا مِنْ شَأنِه اللَّهْوُ، واللَّعِبُ، فَكَثِيْرٌ جِدًّا، وقَدْ مَرَّ مَعَنَا فِي ( أقْسَامِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، وحُكْمِ أخْذِ العِوَضِ فِيْها ) :(1/372)
يَقُوْلُ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " … لأنَّ بَذْلَ المَالِ فِيْمَا لا يَنْفَعُ فِي الدِّيْنِ، ولا الدُّنْيِا مَنْهِيٌّ عَنْه؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ قِمَارًا، وأكْلُ المَالِ بالبَاطِلِ حَرَامٌ بِنَصِّ القُرْآنِ، وهَذِه المَلاعِبُ مِنَ البَاطِلِ، لقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِه الرَّجُلُ؛ فَهُو باطِلٌ، إلاَّ رَمْيَه بقَوْسِه، أو تَأدِيْبَه فَرَسَه، أو مُلاعَبَتَه امْرَأتَه؛ فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ "، … وقَدْ يُرَخَّصُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيْه مَضَرَّةٌ رَاجِحَةٌ؛ لَكِنْ لا يُؤْكَلُ بِه المَالُ، ولِهَذا جَازَ السِّبَاقُ بالأقْدَامِ، والمُصَارَعَةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، وإنْ نُهِى عَنْ أكْلِ المَالِ بِهِ"(1)، وهُوَ قَوْلُ ابنِ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ كَمَا مَرَّ مَعَنَا(2).
وكَذا مَا قَالَه السِّيُوْطِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : وهُوَ عَدَمُ جَوَازِ التَّكَسُّبِ باللَّهْوِ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ مُبَاحًا(3)، وهَذَا مَا عَلَيْه أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ .
* * *
المَحْظُورُ السَّادِسُ والثَّلاثُوْنَ
مُشَارَكَةُ النِّسَاءِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )
نَعَمْ؛ لَقْدَ تَعَالَتْ أصْوَاتٌ نِسَائِيَّةٌ مِنْ هُنَا، وهُنَاكَ مُتَابَعَةً، وانْسِيَاقًا لِمدَادِ الأقْلامِ المَسْمُوْمَةِ الَّتِي يَزْبُرُها مُرَوِّجُو الصَّحَافَةِ ( الأثِيْمَةِ )، فَمَنِ ابْتَلاهُ اللهُ بِمُتَابَعَةِ مَا تُفْرِزُه هَذِه الأقْلامُ الدَّخِيْلَةُ عَلِمَ يَقِيْنًا أنَّ القَوْمَ لا يَسْتَأخِرُوْنَ سَاعةً، ولا لَحْظةً فِي دَفْعِ نِسَاءِ المُسْلِمِيْنَ فِي مُسْتَنْقَاتِ الرَّذِيْلَةِ؛ باسْمِ : المُسَاوَاةِ، والحُرِّيَّةِ … إلخ .
* * *
__________
(1) ـ "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية ( 4/461 ) .
(2) ـ انظر ص ( ) .
(3) ـ "الأشْبَاهُ والنَّظَائِرُ" للسيوطي ( 2/445-446 ) .(1/373)
لَقَدْ باتَ مِنَ المَعْلُوْمِ عِنْدَ الجَمِيْعِ أنَّ نِسَاءَ بِلادِ الحَرَمَيْنِ كُنَّ مَثَلاً يُقْتَدَى بِهِنَّ فِي العَفَافِ، والحَيَاءِ، والحُشْمَةِ، كَمَا كُنَّ غَافِلاتٍ عَمَّا يُرَوِّجُ لَه العِلْمَانِيُّوْنَ مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيْدٍ، ومَا ذَاكَ إلاَّ أنَّ الصَّحَافَةَ كَانَتْ تَحْتَ رَقَابةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ أهْلِ العِلْمِ، أمَّا اليَوْمَ فَقَدِ اتَّسَعَ الخَرْقُ؛ ومِنْه خَرَجَتْ عَلَيْنا رُؤوْسُ الأفَاعِي تَنْفُثُ سُمُوْمَها بألْوَانٍ غَرَّاءَ، وبألْسِنَةٍ نَكْرَاءَ، حَتَّى كَانَ مَا أرَادُوْهُ؛ فَلَهُم الوَيْلُ مِمَّا يَصْنَعُوْنَ، فَمِنْ دَعْوَاتِهم الآثِمَةِ : كَشْفُ وَجْهِ المَرْأةِ(1)، ومُشَارَكَتُها فِي العَمَلِ(2)، والتَّعْلِيْمِ(3).
وكذا قِيَادَتُها للسَّيَّارَةِ(4)، ومُسَاوَاتُها بالرَّجُلِ … وأخِيْرًا دَعْوَتُهم السَّافِرَةُ لِمُشَارَكَةِ المَرْأةِ فِي الرِّياضَةِ لا سِيَّمَا ( كُرَةِ القَدَمِ )!
* * *
__________
(1) ـ ومِنْ أفْضَلِ الكُتُبِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ عَنْ مَسْألةِ حِجَابِ المَرْأةِ المُسْلِمَةِ، ومَا يُدَارُ حَوْلَها مِنْ مُؤامَرَاتٍ … كِتَابُ "عَوْدَةِ الحِجَابِ" للشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ إسْمَاعِيلَ المُقَدَّمِ، وكِتَابُ "حِرَاسَةِ الفَضِيْلَةِ" للشَّيْخِ بَكْرٍ أبو زَيْد .
(2) ـ وهَذَا ظَاهرٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ أعْمَالِ النِّسَاءِ اليَوْمَ لا سِيَّمَا فِي المُسْتَشْفَيَاتِ، والفَنَادِقِ، والطَّيْرَانِ … إلخ .
(3) ـ وهذا ظَاهرٌ فِي دَمْجِ الرِّئاسَةِ العَامَّة لتعلِيمِ البَنَاتِ بوَزارَةِ المَعَارِفِ .. مُؤخَّراً !
(4) ـ انظر كتاب "قيادة المرأة بين الحق والباطل" للمؤلفِ، ففيه بَيَانُ حَقِيقةِ هذه المَسألَةِ، مِنْ أدِلَّةٍ، وكَشْفِ شُبَهٍ … إلخ .(1/374)
إنَّ مُشَارَكَةَ النِّسَاءِ مُؤخَّرًا فِي مُتَابَعَةِ، ومُشَاهَدَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، هَذِه الأيَّامِ لَمْ يَعُدْ مِنَ الخَفَاءِ بِمَكَانٍ؛ حَيْثُ ظَهَرَتْ بَعْضُ أصْوَاتِ نِسَاءِ بِلادِ الحَرَمَيْنِ، وكَذَا كَلِمَاتُهُنَّ مِنْ خِلالِ الصَّحَافَةِ المَحَلِّيَّةِ، والإذَاعَاتِ المَسْمُوْعَةِ مِمَّا يَنْدَى لَهُ جَبِيْنُ الصَّالِحِيْنَ، ويُدْمِي قَلْبَ الغَيُوْرِيْنَ !
فَخُذْ مَثَلاً : فَتَاةٌ تَصْدَعُ بِصَوْتِها عَبْرَ الإذَاعَةِ بأنَّها تُشَجِّعُ الفَرِيْقَ الفُلانِيَّ، وأخْرَى تُفَضِّلُ (تُحِبُّ!) اللاعِبَ الفُلانِيَّ، وثَالثةٌ تَبُثٌّ شُعُوْرَها نَحْوَ انْتِصَارِ، أو هَزِيْمَةِ فَرِيْقِها، والمُصِيْبَةَ كُلَّ المُصِيْبَةِ يَوْمَ تُجَاهِرُ الفَتَاةُ باسْمِها كَامِلاً !(1/375)
يَقُوْلُ المَنْصُوْرُ وهُوَ أحَدُ أبْرَزِ المُحَرِّرِيْنَ الرِّياضِيِّيْنَ المَحَلِّيِّيْنَ مُنْدَهِشًا مِنْ تَأثِيْرِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى الشَّبَابِ، والنِّسَاءِ عَلَى السَّوَاءِ : " مَعْشُوْقَةُ الجَمَاهِيْرِ بَدَأتْ تَنْتَقِمُ مِنْ مُحِبِّيْها .. كَيْفَ لا، وَبَعْضُ الجَمَاهِيْرِ وَصَلَ بِه الهَوَسُ الكُرَوِيُّ لِدَرَجَةٍ لا تُوْصَفُ، ولا تُصَدَّقُ، إنَّ مَا نُشَاهِدُه مِنْ حَالاتِ إغْمَاءٍ كَثِيْرَةً فِي بَعْضِ المُبَارَيَاتِ لَهُوْ أصْدَقُ دَلِيْلٍ عَلَى ذَلِكَ، والأسَالِيْبُ البَذَيْئَةُ الَّتِي تَتَلَفَّظُ بِها جَمَاهِيْرُ المُدَرَّجَاتِ تَقْشَعِرُّ لَها الأبْدَانُ … ( إلى أنْ قَالَ ) : " لَقَدِ انْتَقَلَتِ العَدْوَى إلى بَعْضِ الفَتَيَاتِ، فَأخَذْنَ يَتَقَلَّدْنَ صُوَرَ اللاعِبِيْنَ، ويَتَبَادَلْنَ صُوَرَهُم فِي المَدَارِسِ .. سَيَّارَاتٌ فَخْمَةٌ تُقِلُّ مَجْمُوْعَةً مِنَ الفَتَياتِ بَعْدَ انْتِهَاءِ المُبَارَياتِ تَجُوْبُ بِهِنَّ الشَّوَارِعَ، والقُبَّعَاتُ تَعْلُو رُؤوسَهُنَّ، والأعْلامُ تُرَفْرِفُ مِنْ نَوَافِذِ السَّيَّارَاتِ .. أمْرٌ مُؤْسِفٌ حَقًّا ! .. فأيُّ جِيْلٍ هَذَا؟ .. وأيُّ مُسْتَقْبَلٍ يَنْتَظِرُنا ؟.. والأدْهَى والأمَرُّ : فَتَاةٌ فِي مُقْتَبَلِ العُمُرِ انْتَقَلَتْ إلى ربِّها أثْنَاءَ مُبَارَاةِ الكَأسِ"(1) .
* * *
لَيْتَ شِعْرِي؛ لَمْ تَقِفْ الوَقَاحَةُ عِنْدَ هَذَا الحَدِّ؛ بَلْ سَارَتْ عَجَلَةُ الجُرْأةِ عِنْدَ بَعْضِهِنَّ : أنْ صَرَّحْنَّ بأقْلامِهِنَّ فِي الصَّحَافَةِ المَحَلِّيَّةِ بأنَّهُنَّ يُطَالِبْنَ المَسْؤوْلِيْنَ بِمُشَارَكَتِهِنَّ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، ولَوْ عَلَى حَدِّ زَعْمِ بَعْضِهِنَّ : للنِّسَاءِ فَقَطُ !
__________
(1) ـ انظر مجلة "اليمامة" العدد (652) بتاريخ (1401هـ ) .(1/376)
إنِّنا هُنَا لا نَرْمِي بالرَّجْمِ، أو الغَيْبِ فِي مَا ذَكَرْنَاه، أو قَرَّرْناه هُنَا، ويَشْهَدُ لِهَذا مَا نَشَرَتْه جَرِيْدَةُ عُكَاظٍ بِتَارِيْخِ ( 3/2/1421هـ )، ورَقْمَ ( 12307 )، تَحْتَ عُنْوَانِ " تَصْوِيْتٌ : نَوَادٍ رِياضِيَّةٌ للسَّيِّدَاتِ !"، وهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِبْيَانٍ، واسْتِطْلاعٍ عَنِ الآرَاءِ، والاقْتِرَاحَاتِ حَوْلَ قَضِيَّةِ : " إنْشَاءِ نَوَادٍ للسَّيِّدَاتِ بإشْرَافِ الأنْدِيَةِ الرِّياضِيَّةِ " !
إلاَّ أنَّ هَذَا التَّصْوِيْتَ لَمْ يَمُرْ دُوْنَ اعْتِبَارٍ؛ بَلْ لَقِيَ وللهِ الحَمْدُ رُدُوْدًا كَثِيْرَةً مِنْ أهْلِ العِلْمِ، والغَيْرَةِ مِنْ أهْلِ هَذِه البِلادِ إلاَّ أنَّها لَمْ تُنْشَرْ كَمَا يَنْبَغِي !
ويُؤكِّدُ ذَلِكَ أنَّنِي قُمْتُ وللهِ الحَمْدُ عِنْدَ نَشْرِ هَذَا العُنْوَانِ بِرَدٍّ مُخْتَصَرٍ عِلْمِيٍّ، ثُمَّ أرْسَلْتُه للجَرِيْدَةِ رَجَاءَ أنْ تَقُوْمَ بِنَشْرِه، فَلَمْ يِكُنْ مِنَ ذَلِكَ شَيْءٌ، كَمَا أنَّنِي لَسْتُ بِمُفْرَدِي الَّذِي غُيِّبَتْ رِسَالَتُه؛ بَلْ غَيْرِي كَثِيْرٌ، ولا شَكَّ !
* * *
لأجْلِ هَذا رَأيْتُ مِنَ المُنَاسِبِ أنْ أذْكُرَ رِسَالَتِي هُنَا عَلَى وَجْه الاخْتِصَارِ، تَعْمِيْمًا للفَائِدَةِ، واللهُ المُوَفِّقُ .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
إلى الإخْوَةِ القَائِمِيْنَ عَلَى جَرِيْدَةِ عُكَاظٍ ... هَدَانا اللهُ، وإيَّاهُم لِمَا فِيْه خَيْرٌ .
السَّلامُ عَلَيْكُم، ورَحْمَةُ اللهِ، وبَرَكَاتُه . أمَّا بَعْدُ :
فَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى مَقَالِكُم بِرَقْمِ ( 12307)، وتَارِيْخِ ( 3/2/1421هـ ) تَحْتِ عُنْوَانِ "تَصْوِيْت : نَوَادٍ رِياضِيَّةٌ للسَّيِّدَاتِ "، حَوْلَ قَضِيَّةِ : " إنْشَاءِ نَوَادٍ للسَّيِّدَاتِ بإشْرَافِ الأنْدِيَّةِ الرِّيَاضِيَّةِ " .(1/377)
قُلْتُ : لاشَكَّ أنَّ الجَمِيْعَ عَلَى يَقِيْنٍ بأنَّكُم تُرِيْدُونَ بِهَذا التَّصْوِيْتِ؛ طَرْحَ الآرَاءِ، والاقْتِرَاحَاتِ، ومُطَارَحَتَها للمُنَاقَشَةِ؛ ومِنْ ثَمَّ أخْذُ مَا كَانَ مِنْها حَقًّا، وطَرْحَ مَا سِوَاه . وهَذَا هُوَ حُسْنُ ظَنِّنَا بِكُم إنْ شَاءَ اللهُ، لا مُجَرَّدُ مُدَاعَبَةِ المَشَاعِرِ، أو العَبَثُ بِعُقُوْلِ القُرَّاءِ، أو تَهْمِيْشُ آرَاءِ المُشَارِكِيْنَ .
* * *
لِذَا كَانَ مِنْ حَقِّنَا أنْ نُشَارِكَ ببَعْضِ مَا نَرَاهُ مُنَاسِبًا حَوْلَ القَضِيَّةِ المَطْرُوْحَةِ مِنْ خِلالِ أمُوْرٍ مُخْتَصَرَةٍ :
أوَّلاً : لا نَنْسَ بأنَّ النَّوَادِيَ الرِّياضِيَّةَ الَّتِي أُنْشِئَتْ مِنْ زَمَنٍ بَعِيْدٍ للشَّبَابِ؛ لَهِيَ جَدِيْرَةٌ بأنْ تَكُوْنَ مِثَالاً وَاقِعِيًّا حَيًّا نَسْتَطِيْعُ مِنْ خِلالِه أنْ نَأخُذَ العِبْرَةَ، والأحْكَامَ مِنْها؛ والحَالَةُ هَذِه نَسْتَطِيْعُ حِيْنَئِذٍ أنْ نَحْكُمَ عَلَى النَّوَادِي النِّسَائِيَّةِ، وهَذَا ما يُسَمَّى بالقِيَاسِ الأصُوْلِي .(1/378)
فإذَا كَانَ الأمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلَنَا الحَقُّ أنْ نُفْصِحَ بِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْنَاه، أو رَأيْنَاه فِي هَذِه النَّوَادِي الرِّياضِيَّةِ ـ للأسَفِ ـ فَنَقُوْلَ : إنَّنا لَمْ نَجْنِ مِنْها مُنْذُ عَرَفْنَاها إلاَّ الثِّمارَ الرَّدِيَّةَ، والأشْوَاكَ الوَخِيْمَةَ : كقَتْلِ الأوْقَاتِ، وهَدْرِ الطَّاقَاتِ، وضَيَاعِ الأمْوَالِ … كَمَا أنَّها حَمَلَتِ النَّاشِئَةَ مِنْ شَبَابِ الأمَّةِ عَلَى سَفَاسِفِ الأمُوْرِ، وسَيءِ الأخْلاقِ، فِي حِيْنَ أنَّها أبْعَدَتُهُم عَنْ مَعَالِي الأمُوْرِ، وجَمِيْلِ الأخْلاقِ؛ حَتَّى وَصَلَ الحَالُ عِنْدَ أكْثَرِ النَّاشِئَةِ أنَّ غَايَةَ عِلْمِهم مَا كَانَ مِنَ الأخْبَارِ الرِّياضِيَّةِ، وحَيَاةِ الرِّيَاضِيِّيْنَ : كَيْفَ يَلْعَبُوْنَ، ومَتَى يَنَامُوْنَ، ومَاذَا يَأكُلُوْنَ، ومَا يَشْتَهُوْنَ، ومَا يَألَفُوْنَ …؟؟ وهَكَذَا غَايِةُ ثَقَافَتِهِم!، فأوْقاَتُهُم فَارِغَةٌ، وطَاقَاتُهُم مُهْدَرَةٌ، وأهْدَافُهُم صِبْيانِيَّةٌ، وحَيَاتُهُم عَشْوَائِيَّةٌ ... وهَذَا الغَالِبُ، والحُكْمُ للأعَمِّ .
* * *
فَلَيْتَ شِعْرِي لَوْ أنَّ أحَدًا مِنَ العُقَلاءِ أرَادَ أنْ يَجْلِسَ سَاعَةً بَيْنَ صُفُوْفِ الجَمَاهِيْرِ الرِّياضِيَّةِ لِيَسْمَعَ، ويَرَى مَا تَلْفِظُه ألْسِنَتُهم، وتُكِنُّه قُلُوْبُهم ... لَعِلَمَ أنَّ الأمْرَ جِدُّ خَطِيْرٍ، والشَّرَّ مُسْتَطِيْرٌ، وهَذَا كُلَّه لا يَحْتَاجُ إلى كَبِيْرِ مُخَافَتَةٍ، أو مُجَامَلَةٍ؛ فالوَاقِعُ أكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى مَا أقُوْلُ .
* أمَّا إذَا سَألْتَ عَمَّا تَلْفِظُه أفْوَاهُهُم : فالسِّبابُ، والكَلِمَاتُ النَابِيَةُ، والعِبَارَاتُ السُّوْقِيَّةُ، والصَّيْحَاتُ الجَمَاعِيَّةُ، والصُّرَاخَات الأجْنَبِيَّةُ ... !
* أمَّا مَا تُكنُّه قُلُوْبُهم : فالحِقْدُ، والحَسَدُ، والبُغْضُ، والحَنَقُ تُجَاهَ بَعْضِهم بَعْضاً !(1/379)
* أمَّا إذَا سَألْتَ عَنْ ألْوِيَتِهم، وشِعَارَاتِهم الَّتِي يَنْضَوْوُنُ تَحْتَها، أو يَسْتَظِلُّوْنَ بِظِلِّها : فألْوَانٌ مَا أنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطَانٍ؛ فَعَلَيْها يَتَقَاتَلُوْنَ، ويُبْغِضُوْنَ، ويَسُبُّوْنَ، ويَبْكُوْنَ، ويُصْعَقُوْنَ، ورُبَّما يَمُوْتُوْنَ… !
فإذَا كَانَتِ الحَالَةُ هَذِه؛ فَلا تَسْألْ سَاعَتَئِذٍ عَنْ وَاجِبِهِم نَحْوَ أمَّتِهِم، وكِتَابِهِم، وسُنَّةِ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ عِلْماً أنَّ الأمَّةَ الإسْلامِيَّةَ هَذِه الأيَّامِ أحْوَجُ مَا تَكُوْنُ إلى شَبَابِها الَّذِيْنَ هُمْ أرْكَانُها، وعِمَادُها : فِكْرًا، وعَقِيْدَةً، وأخْلاقًا، وهِمَّةً، ونُصْرَةً ... فإلى اللهِ المُشْتَكَى، وعَلَيْه التُّكْلانُ !
* * *
فإذَا سَلَّمْنا مَا ذَكَرْنَاه، أو بَعْضَ مَا حَقَّقْنَاهُ؛ فَهَلْ يَأتِي بَعْدَ هَذَا مُسْلِمٌ غَيُوْرٌ، أو عَاقِلٌ رَشِيْدٌ فَيُنَادِي، أو يُطَالِبُ بإنْشَاءِ نَوَادِي رِيَاضِيَّةٍ للنِّسَاءِ؛ إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ؛ بَلْ هَذَا فَسَادٌ فِي الألْبَابِ.
فَكَانَ الأوْلَى بِنَا جَمِيْعًا أنْ نَسْعَى فِي اسْتِدْرَاكِ، وإصْلاحِ مَا يُمْكِنُ إصْلاحُه تُجَاهَ نَوَادِي الشَّبَابِ لا أنْ نَزِيْدَ الطِّينةَ بِلَّةً، وأنْ نَأخُذَ بأيْدِي شَبَابِنَا إلى مَعَالِي الأمُوْرِ ومَحَاسِنِها، ورَفْعِ هِمَمِهم إلى أعْلَى الغَايَاتِ، وأفْضَلِها .
فَكَانَ الأوْلَى بِجَرِيْدَةِ "عُكَاظٍ" أنْ تَطْلُبَ مِنْ قُرائِها تَصْوِيْتًا لِذِكْرِ آرَائِهِم، واقْتِرَاحَاتِهم حَوْلَ نَوَادِي الشَّبَابِ القَائِمَةِ، لا النِّسَاءِ القَادِمَةِ ؟!(1/380)
ثَانيًا : وهَلْ بَنَاتُنا فِي هَذِه البِلادِ ـ بِلادِ الحَرَمَيْنِ، ومَهْبَطِ الوَحْي ـ كُنَّ يَوْمًا مِنَ الأيَّامِ فِي حَاجَةٍ إلى هَذِه النَّوَادِي ؟، أو هَلْ رَفَعْنَ أصْوَاتِهِنَّ، وطَالَبْنَ بِهَذِه النَّوَادِي ؟، إنَّ هَذِه الأسْئِلَةَ لا تَحْتَاجُ إلى كَبِيْرِ إجَابَاتٍ؛ لأنَّ وَاقِعَ بَنَاتِنا فِي هَذِه البِلادِ الإسْلامِيَّةِ أبْعَدُ مَا يَكُوْنُ عَنْ هَذِه المُطَالَبَاتِ المُخْتَلَقَةِ، والنِّدَاءاتِ المُفْتَعَلَةِ .
فَبَنَاتُنا فِي هَذِه الجَزِيْرَةِ ـ وللهِ الحَمْدُ ـ قَدْ بَلَغْنَا غَايَةَ العِفَّةِ، وأحْسَنَ الأخْلاقِ؛ حَيْثُ ارْتَدَيْنَ جِلْبَابَ الحَيَاءِ الَّذِي فَرَضَه اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِنَّ فِي كِتَابِه، وسُنَّةِ نَبِيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ فَهُنَّ عَفِيْفَاتٌ غَافِلاتٌ عَنْ هَذِه القَضِيَّةِ المَطْرُوْحَةِ؛ بَلْ إخَالُهَا قَضِيَّةً مَفْضُوْحَةً مَجْرُوْحَةً فِي شَهَادَتِها، وطَرْحِها .
ثَالِثًا : لَوْ فَرَضْنا جَدَلاً ـ لا قَدَّرَ الله ـ أنَّ امْرَأةً مُسْلِمَةً عَفِيْفَةً أرَادَتْ أنْ تُشَارِكَ فِي أحَدِ النَّوَادِي الرِّياضِيَّةِ؛ فَمَاذَا يَا تُرَى سَيَكُوْنُ لِبَاسُها حِيْنَئِذٍ ؟ سَافِرًا أمْ سَاتِرًا ؟ وهَلْ يَكُوْنُ ضَيِّقًا أم وَاسِعًا ؟ وهَلْ شَعْرُها يَكُوْنُ مَكْشُوْفًا أم مَسْتُوْرًا ؟
وهَلْ يَا تُرَى المُدَرِّبَاتُ سَيَكُنَّ كَافِرَاتٍ، أم مُسْلِمَاتٍ ؟ وهَلْ سَيَكُنَّ النِّسَاءُ المُشَارِكَاتُ فِي النَّادِي فاسِقَاتٍ مُتَبَرِّجَاتٍ، أم عَفِيْفَاتٍ مُحْتَشِمَاتٍ ؟، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأسْئِلَةِ الَّتِي يُمْلِيْها وَاقِعُ النَّوَادِي النِّسَائِيَّةِ الَّتِي تَرَكْنَاها خَشْيَةَ الإطَالَةَ .
* فإذَا كَانَ الجَوَابُ مَا كَانَ مِنَ الاخْتِيَارِ الأوَّلِ مِنْ كُلِّ سُؤالٍ :(1/381)
فَهَذَا لا يَجُوْزُ شَرْعًا، وطَبْعًا، كَمَا أنَّه لا يَتَمَاشَى مَعَ عَادَاتِ بَنَاتِنا، وحُسْنِ أخْلاقِهِنَّ؛ والحَالَةُ هَذِه فَلَيْسَ إذَنْ لِوُجُوْدِ النَّوَادِي النِّسَائِيَّةِ مَكَانٌ بَيْنَنَا، وكَفَى اللهُ المُؤْمِنَاتِ القِتَالَ، والفِتَنَ .
* أمَّا إذَا كَانَ الجَوَابُ، مَا كَانَ مِنَ الاخْتِيَارِ الثَّانِي مِنْ كُلِّ سُؤَالٍ؛ فَلا يَخْلُو مِنْ مَلْحُوظَاتٍ :
1ـ إنَّ اللِّباسَ السَّاتِرَ الوَاسِعَ المُحْتَشَمَ لا يَصْلُحُ للحَرَكَاتِ الرِّيَاضِيَّةِ؛ سَوَاءٌ : فِي (كُرَةِ القَدَمِ )، أو اليَدِ، أو السِّبَاحَةِ ... لأنَّه يُخَالِفُ الحَرَكَةَ الرِّياضِيَّةَ ضَرُوْرَةً .
2ـ وإنْ كُنَّ عَفِيْفَاتٍ صَالِحَاتٍ مُحْتَشِمَاتٍ، وهُوَ كَذَلِكَ ... فَهُنَّ إذَنْ لا يَحْتَجْنَ إلى شَيْءٍ مِنَ هَذِه التُّرَّهَاتِ، والمَتَاهَاتِ؛ بَلْ هُنَّ مَشْغُوْلاتٌ بِمَعَالِي الأمُوْرِ، ومَحَاسِنِ الأخْلاقِ، ومُتَفَرِّغَاتٌ لأعْمَالِهِنَّ نَحْوَ بِيُوْتِهِنَّ، وطَاعَةِ أزْوَاجِهِنَّ، وتَرْبِيَةِ أبْنَائِهِنَّ، وهَذَا كُلُّهُ لا يَلِيْقُ قَطْعًا مَعَ هَذِه الفَرَاغَاتِ، والتُّرَّهَاتِ الكَامِنَةِ فِيْمَا يُسَمَّى : بالنَّوَادِي الرِّياضِيَّةِ !
رَابِعًا : أنَّه لا يَجُوْزُ شَرْعاً لأيِّ مُسْلِمٍ أنْ يَطْرَحَ مَسْألةً شَرْعِيَّةً لأذْوَاقِ النَّاسِ، وتَحْتَ أصْوَاتِهم لاسْتِطْلاعِ آرَائِهِم .
* * *
فَكَانَ الوَاجِبُ عَلَى جَرِيْدَةِ "عُكَاظٍ" أنْ تَأتِيَ البُيُوْتَ مِنْ أبْوَابِها !
لِذَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْها شَرْعاً أنْ تَرْفَعَ هَذِه القَضِيَّةَ، وقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ إلى عُلَمَائِنا الأفَاضِلِ؛ كَيْ يَدْلُوا بِحُكْمِهِم الشَّرْعِي؛ لا أنْ تُتْرَكَ فِي مَهَبِّ رِيَاحِ الأهْوَاءِ، والأذْوَاقِ .(1/382)
عِلْماً أنَّ مَا يُسَمُّوْنَه : ( اسْتِطْلاعَ الرَّأي العَامِ )، مَا هُوَ إلاَّ تَغْلِيْفًا للبَاطِلِ بأسْمَاءٍ، وعِبَارَاتٍ مُفَخَّمَةٍ ـ مُلَغَّمَةٍ ـ يَحْسَبُها الظَّمَآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءها وَجَدَها سَرَابًا، وهَذَا ـ الاسْتِطُلاعُ العَامُ ـ هُوَ فِي الحَقِيْقَةِ ( دِيْمُقْرَاطِيَّةٌ ) أيْ : حُكْمُ الشَّعْبِ بالشَّعْبِ، لا شَرِيْعَةِ الرَّبِّ !، لِذَا ألْبَسُوْها لَبُوْسَ الظَّأنِ، ومَرَّرُوْهَا عَلَى الصُّمِّ، والعُمْيَانِ !
وصَدَقَ فِيْهِم قَوْلُ الرَّسُوْلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ حِيْنَمَا قَالَ : " سَيَأتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيْها الكَاذِبُ، ويُكَذَّبُ فِيْها الصَّادِقُ، ويُؤْتَمَنُ فِيْها الخَائِنُ، ويُخَوَّنُ فِيْها الأمِيْنُ، ويَنْطِقُ فِيْها الرُّوَيْبِضَةُ . قِيْلَ : ومَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أمُوْرِ العَامَّةِ"(1) أحْمَدُ.
فإنْ تَعْجَبَ؛ فَعَجَبٌ لِمَنْ ذَهَبَ يُحَكِّمُ أذْوَاقَه فِي قَضَايا الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِ، وفَسَادِ لِسَانِه!
وقَدْ أحْسَنَ المُتَنَبِّي فِي قَوْلِه (2) :
ومَنْ يَكُ ذَا فَمٍّ مُرٍّ مَرِيْضٍ يَجِدُ مُرًّا بِهِ المَاءَ الزُّلالا
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 2/291)، وابن ماجة (4042)، والحاكم ( 4/465،512)، وهو صحيح. انظر الجامع الصحيح (1/681)، والسلسلة الصحيحة ( 1888 ) كلاهما للشيخ الألباني .
(2) ـ انظر ديوان المتنبي (186 ) .(1/383)
ولَوْ أنَّنا أرَدْنا هَذِه المَسْألَةَ، وأمْثَالَها "دِيْمُقْرَاطِيَّةً" ـ عَيَاذًا باللهِ ـ فَلْيَكُنْ اسْتِطْلاعُ الرَّأيِ حِيْنَئِذٍ عَلَى كَافَّةِ أهْلِ بِلادِ الحَرَمَيْنِ، ولَوْ حَصَلَ ـ جَدَلاً ـ لَتَجَاوَزَتِ الأرْقَامُ الحِسَابَاتِ، وعَلَتِ الأصْوَاتُ كُلَّ مَكَانٍ؛ حَتَّى إنَّك لا تَجِدُ أهْلَ بَيْتِ مَدَرٍ، ولا حَجَرٍ إلاَّ وَنَادَى : بِمَنْعِ، وحُرْمَةِ (النَّوَادِي الرِّياضِيَّةِ للنِّسَاءِ )، فِي هَذِه البِلادِ، فِي حِيْنَ تَخْفِقُ أصْوَاتُ الآخَرِيْنَ، وتَتَلاشَى أرْقَامُهُم بَيْنَ المَلايِيْنَ ... فللهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ، ومِنْ بَعْدُ .
وكَذَا نُذَكِّرُكُم بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى : "واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديدُ العقاب"[الأنفال 25]، وبِهَذَا نَكْتَفِي بِمَا أجْرَاهُ القَلَمُ بِصَدَدِ :( إنْشَاءِ نَوَادٍ رِياضِيَّةٍ للنِّسَاءِ).
فأسْتَوْدِعُكُم اللهَ تَعَالَى فِي السِّرِّ، والعَلَنِ، وأسألُه تَعَالَى أنْ يَحْفَظَ بِلادَنا، وبَلادَ المُسْلِمِيْنَ مِنْ كُلِّ سُوْءٍ، وأنْ يَعْصِمَ نِسَاءَ المُسْلِمِيْنَ مِنْ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْها، ومَا بَطَنَ، آمِيْنَ !
والصَّلاةُ، والسَّلامُ عَلَى مُحَمَّدٍ المُخْتَارِ، وعَلَى آلِهِ الأطْهَارِ، وصَحْبِهِ الأبْرَارِ
وكَتَبَه : ذِيابُ بنُ سَعْدٍ آلُ حَمْدَانَ الغَامِدِيُّ ( 5/2/1421هـ )
* * *
المَحْظُورُ السَّابِعُ والثَّلاثُوْنَ
التَّدْلِيكُ، و( المَسَاجُ ) المُحَرَّمَانِ(1/384)
إنَّ التَّدْلِيكَ، و( المَسَاجَ )(1) أصْبَحَا مِنْ لَوَازِمِ الرِّياضَةِ بِزَعْمِهِم !، وهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ لَمْسٍ للْعَوْرَةِ وغَيْرِها مِنَ الجِلْدِ، مَعَ مَا فِيْه مِنَ النَّظَرِ للعَوْرَةِ المُحَرَّمَةِ مَعًا، لِذَا كَانَ التَّدْلِيْكُ الَّذِي يَفْعَلُه الرَّجُلُ مَعَ الرَّجُلِ، والمَرْأةُ مَعَ المَرْأةِ، ورُبَّمَا يَفْعَلُه الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ، والعَكْسُ بالعَكْسِ : يُعْتَبَرُ مُخَالَفَةً شَرْعِيَّةً، ومَحْظُوْرًا يُعَزَّرُ عَلَيْه، لِمَا فِيْه مِنْ إظْهَارِ بَوَاعِثِ الشَّهْوَةِ، والفِتْنَةِ، مَا لا يَسْتَطِيْعُ أنْ يَدْفَعَهُ سَلِيْمُ الفِطْرَةِ، سَوِيُّ الغَرِيْزَةِ، كَامِلُ الرُّجُوْلَةِ، ولا بَدَّ، ومُخَالَفَةُ ذَلِكَ : بَلادَةٌ حَيْوَانِيَّةٌ، أو رَغْبَةٌ عِنِّيْنِيَّةٌ .
* * *
قَالَ تَعَالَى : "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم"[النور30]، وقَالَ تَعَالَى : "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنَّ"[النور31] .
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، ولا المَرْأةُ إلى عَوْرَةِ المَرْأةِ، ولا يُفْضِي الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ولا تُفْضِي المَرْأةُ إلى المَرْأةِ فِي ثَوْبٍ واحِدٍ"(2) مُسْلِمٌ .
__________
(1) ـ لَمْ أجِدْ لكَلِمَةِ ( المَسَاجِ ) أصْلاً فِي كُتُبِ المَعَاجِمِ المُعْتَمَدَةِ؛ لِذَا كَتَبْتُها مُتَابَعَةً للاصْطِلاحِ الجارِي بَيْنَ أهْلِها مِنَ العَامَّةِ !
(2) ـ أخرجه مسلم (1/183) .(1/385)
قَالَ الإمَامُ النَّوَوَيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ : " فَفِيْه تَحْرِيْمُ نَظَرِ الرَّجُلِ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ، والمَرْأةِ إلى عَوْرَةِ المَرْأةِ، وهَذَا لا خِلافَ فِيْه، وكَذَلِكَ نَظَرُ الرَّجُلِ إلى عَوْرَةِ المَرْأةِ، والمَرْأةِ إلى عَوْرَةِ الرَّجُلِ حَرَامٌ بالإجْمَاعِ … وهَذَا التَّحْرِيْمُ فِي حَقِّ غَيْرِ الأزْوَاجِ، والسَّادَةِ … ( ثُمَّ قَالَ ) : وكَذَلِك يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ النَّظَرُ إلى وَجْهِ الأمْرَدِ إذا كَانَ حَسَنَ الصُّوْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ نَظَرُه بِشَهْوَةٍ، أم لا، سَوَاءٌ أمِنَ الفِتْنَةَ، أم خَافَها، هَذَا هُوَ المَذْهَبُ الصَّحِيْحُ المُخْتَارُ عِنْدَ العُلَمَاءِ المُحَقِّقِيْنَ"(1)، وقد مَرَّ مَعَنَا بَعْضُ أحْكَامِ العَوْرَةِ فِي مَحْظُوْرِ ( كَشْفِ العَوْرَاتِ )(2) .
* * *
أمَّا وُجُوْدُ التَّدْلِيْكِ فِي الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، لا سِيَّمَا ( كُرَةُ القَدَمِ ) فَأمْرٌ أشْهَرُ مِنْ أنْ يُذْكَرْ؛ بَلْ أصْبَحَ وُجُوْدُه ظَاهِرَةً مَكْشُوْفَةً؛ سَوَاءٌ عَبْرَ الإذَاعَاتِ، أو القَنَوَاتِ المَرْئِيَّةِ، فِي حِيْنَ لا يُوْجَدُ نَادٍ إلاَّ وفِيْه مُدَرِّبٌ خَاصٌّ للتَّدْلِيْكِ !
أمَّا إذَا كَانَ التَّدْلِيكُ، و( المَسَاجُ ) دُوْلَةً بَيْنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، فَهُوَ واللهِ المَقْتُ البَغِيْضُ، والضَّلالُ المُبِيْنُ، والفَسَادُ الكَبِيْرُ !، ولِمِثْلِ هَذِه الدَّعَارَةِ وُجُوْدٌ، ووُفُوْدٌ فِي غَيْرِ نَادٍ مِنْ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، فاللَّهُمَّ إذَا أرَدْتَ فِتْنَةً بِعِبَادِكِ فَتَوَفَّنَا إلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُوْنِيْنَ !
* * *
المَحْظُورُ الثَّامِنُ والثَّلاثُوْنَ
جَهَالَةُ اللاعِبِيْنَ
__________
(1) ـ "شرح مسلم" للنووي (4/41-42) .
(2) ـ انظر ص ( ) .(1/386)
لَقَدْ عَنَتِ الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ بالألْعَابِ الشَّرْعِيَّةِ عِنَايَةً فَائِقَةً؛ حَتَّى إنَّها لَمْ تَدَعْ الألْعَابَ تَجْرِي بَيْنَ اللاعِبِيْنَ دُوْنَ شُرُوْطٍ، وضَوَابِطَ مُعْتَبَرَةٍ، ومِنْ ذَلِكَ لا كُلِّها : تَعْيِيْنُ الرُّمَاةِ(1).
لِذَا؛ فَلا يَصِحُّ اللَّعِبُ مَعَ إبْهَامِ اللاعِبِيْنَ : لأنَّ الغَرَضَ مَعْرِفَةُ الأحْذَقِ، ومَنْ لا حِذْقَ لَهُ وُجُوْدُه كَعَدَمِه !
فإنْ كَانَ فِي أحَدِ الفَرِيْقَيْنِ مَنْ لا يُحْسِنُ اللَّعِبَ بَطَلَ العَقْدُ فِي حَقِّه، وأُخْرِجَ مَنْ يُقَابِلُه مِنَ الفَرِيْقِ الآخَرِ !
لأنَّ الغَرَضَ مَعْرِفَةُ حَذْقِ الرَّامِي بِعَيْنِه، لا مَعْرِفَةُ حَذْقِ رَامٍ فِي الجُمْلَةِ، فَلا يَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِ التَّعْيِيْنِ(2).
* * *
فإذَا كَانَتْ هَذِه الشُّرُوْطُ مُعْتَبَرَةً فِي الألْعَابِ الشَّرْعِيَّةِ المُبَاحَةِ : كالمُنَاضَلَةِ مثلاً، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّتِي يَحْصُلُ فِيْها مِنَ الجَهَالَةِ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ مَا هُوَ مَعْلُومٍ للجَمِيْعِ، وذَلِكَ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ إدْخَالِ بَعْضِ اللاعِبِيْنَ الاحْتِيَاطِيِّيْنِ أثْنَاءَ اللَّعِبِ، ورُبَّمَا كَانَتْ أسْمَاءُ اللاعِبِيْنَ الرَّسْمِيِّيْنَ لَيْسَتْ مَعْلُوْمَةً أيْضًا للفَرِيْقِ الآخَرِ، وهُوَ مَا يُسَمَّى عِنْدَهُم بالخُطَّةِ الجَدِيْدَةِ !
__________
(1) ـ انظر "الإنصاف" للمرداوي ( 6/96 )، و"مطالب أولي النهى" للرحيباني (3/712)، و"الأسئلة والأجوبة الفقهية" للسلمان (5/356)، و"الهداية" للكلوذاني (1/186) .
(2) ـ انظر "المسابقات" للشثري (245) .(1/387)
فِي حِيْنَ أنَّنِي هُنَا؛ لا أقَرِّرُ جَوَازَ تَعْيِيْنِ اللاعِبِيْنَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ بَلْ ما قُلْتُه هُنَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّنَزُّلِ، والمُنَاظَرَةِ لَيْسَ إلاَّ !؛ لأنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَمْ يَتَوَقَّفْ تَحْرِيْمُها عَلى تَعْيِيْنِ اللاعِبِيْنَ فَقَطُ؛ بَلْ هُنَاكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ مَا يَكْفِي أحَادُها فِي تَحْرِيْمِها رَأسًا !
* * *
المَحْظُورُ التَّاسِعُ والثَّلاثُوْنَ
الجَهْلُ بَعَدَدِ الإصَابَاتِ
إنَّ العِلْمَ بَعَدَدِ الإصَابَاتِ مِنَ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ المُعْتَبَرَةِ فِي الألْعَابِ المُبَاحَةِ(1)، وهُوَ أنْ يَقُوْمَ اللِّعْبُ بَيْنَ الفَرِيْقَيْنِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَلِي :
ـ العِلْمُ بِعَدَدِ الرَّشْقِ ( الرَّمِي )، فَيَكُوْنُ عَشَرًا مَثَلاً .
ـ العِلْمُ بِعَدَدِ الإصَابَةِ، فَيَكُوْنُ ثَلاثاً مَثَلاً .
لأنَّ الغَرَضَ مِنْ ذَلِكَ : مَعْرِفَةُ الحَذْقِ، ولا يَحْصُلُ إلاَّ بِذَلِكَ، أمَّا أنْ يَقُوْمَ كُلٌّ مِنْهُم بالرَّشْقِ، وبالإصَابَةِ دُوْنَ تَحْدِيْدٍ، فَهَذا فِيْه تَغْرِيْرٌ باللَّعِبِ، وتَجْهِيْلٌ بِتَحْدِيْدِ الفَائِزِ مِنْهُمَا !
* * *
ومَا ذَكَرْنَاه هُنَا مِنِ اشْتِرَاطِ : العِلْمِ بِعَدَدِ الرَّشْقِ ( الرَّمِي )، وعَدَدِ الإصَابَةِ، فِي الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ، لا سِيَّمَا المُنَاضَلَةِ مِنْها، عَلِمْنا حِيْنَئِذٍ الخَطأ الشَّرْعِيَّ الَّتِي تُمَارِسُهُ لِعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، يَوْمَ نَرَاها لا تَنْفَكُّ ضَرُوْرَةً عَنْ تَجَاهُلِ عَدَدِ الرَّشْقِ ( الرَّكَلاتِ ) الَّتِي يَتَقَاذَفُها اللاعِبِيْنَ، وعَدَدِ الأهْدَافِ المُسَجَّلَةِ !
__________
(1) ـ انظر "المغني" لابن قدامة (8/661)، و"المهذب" للشيرازي (1/417)، و"أسهل المدارك" (3/381)، و"كشاف القناع" (4/45)، و"تحفة المحتاج" (9/405) .(1/388)
بَلْ غَايَةُ مَا عَلَيْه لُعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) هُوَ أنَّ الفَوْزَ يُعْتَبَرُ بانْتِهَاءِ الزَّمَنِ المُحَدَّدِ للُّعْبَةِ، دُوْنَ اعْتِبَارٍ لعَدَدِ الرَّكلاتِ، أو اعْتِبَارٍ لأوَّلِ إحْرَازٍ للأهْدَافِ؛ بَلْ فِي نِهَايَةِ اللِّعْبِ تُجْمَعُ الأهْدَافُ، وعَلَيْها تُقَدَّرُ نَتِيْجَةُ الفَائِزِ !
ولَوْ اعْتَرَضَ مُعْتَرِضٌ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِه : إنَّ ذَلِكَ يَكْمُنُ بِتَحْدِيْدِ الوَقْتِ؛ كَأنْ يَقُوْمَ كُلٌّ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ بالرَّشْقِ ( الرَّكَلاتِ ) مُدَّةَ سَاعَةٍ، ثُمَّ تُحْسَبُ الإصَابَاتُ، وعَلَيْها يُمَيِّزُ الفَائِزُ حِيْنَئِذٍ !
قُلْتُ : لا شَكَّ أنَّ فِي مِثْلِ هَذِه المُحَاوَلَةِ الجَدِيْدَةِ، تَغْرِيْرٌ بالفَائِزِ الحَقِيْقِيِّ لأمُوْرٍ :
الأوَّلُ : أنَّه لا اعْتِبَارَ بالفَوْزِ أثْنَاءَ اللِّعْبِ عِنْدَكُم، إلاَّ بالنِّهَايَةِ، وهَذَا فِيْه إجْحَافٌ بالفَرِيْقِ الفَائِزِ الَّذِي طَالَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا طَوَالَ المُدَّةِ؛ لأنَّ المَهْزُوْمَ قَدْ يَحْرِزُ الفَوْزَ فِي اللَّحَظَاتِ الأخِيْرَةِ مِنَ اللَّعْبِ، فَحِيْنَئِذٍ يُفْسِدُ كُلَّ مَا أحْرَزَهُ الفَرِيْقُ الفَائِزُ أوَّلاً .
الثَّانِي : أنَّ النَّشَاطَ الرِّيَاضِيَّ قَدْ يَخْتَلِفُ مِنْ فَرِيْقٍ لآخَرَ، فَرُبَّمَا يَنْشَطُ فَرِيْقٌ فِي آخِرِ اللِّعْبِ، مَا لا يَنْشَطُ فِي أوَّلِه، خِلافًا للفَرِيْقِ الآخَرِ الَّذِي يَمْلِكُ نَشَاطَه عَكْسَ الفَرِيْقِ الأوَّلِ، وهَكَذا؛ وفِي هَذَا تَهْمِيْشٌ لِحَقِيْقَةِ الفَوْزِ الَّذِي مَبْنَاهُ عَدَدُ الإصَابَاتِ ( الأهْدَافِ ) !(1/389)
الثَّالِثُ : أنَّ اللَّعِبَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَعْتَرِيْه مِنَ المُشَجِّعَاتِ، والمُؤَازَرَاتِ مَا يَحْمِلُ أحَدَ الفَرِيْقَيْنَ عَلَى الفَوْزِ، وذَلِكَ بالتَّشْجِيْعِ الجَمَاعِي، ودُخُوْلِ الاحْتِيَاطِي المَجْهُوْلِ، أو خُرُوْجِ ( طَرْدِ ) لاعِبٍ مَجْهُوْلٍ … إلخ، وهَذَا كُلُّه مُحَرَّمٌ شَرْعًا كَمَا مَرَّ مَعَنا فِي مَحْظُوْرِ التَّشْجِيْعِ، والتَّحْرِيْضِ .
الرَّابِعُ : أنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُنَا لَيْسَ بِدَعًا مِنَ القَوْلِ؛ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَكُم فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وذَلِكَ عِنْدَ القِيَامِ بِضَرَبَاتِ الجَزَاءِ الَّتِي يَفْرِضُها الحَكَمُ للمُغَالَبَةِ فِي بَعْضِ المُبَارَياتِ النِّهَائِيَّةِ، أيْ : إعْطَاءُ كُلِّ فَرِيْقٍ خَمْسَ رَكَلاتٍ تُصَوَّبُ تُجَاهَ بَابِ الخَصْمِ مثلاً، فَعِنْدَئِذٍ يَكُوْنُ الفَائِزُ مِنْهُما مَنْ أحْرَزَ أكْثَرَ عَدَدًا مِنَ الأهْدَافِ .
* * *
فِي حِيْنَ أنَّنا لَوْ أرَدْنا وَضْعَ صُوْرَةٍ صَحِيْحَةٍ لـ( كُرَةِ القَدَمِ ) خَالِيَةٍ مِنَ جَهَالَةِ عَدَدِ الإصَابَاتِ؛ هُوَ أنْ يَقُوْلَ الحَكَمُ للفَرِيْقَيْنِ ( جَدَلاً ) : إنَّ الفَوْزَ مُرْتَهَنٌ بإصَابَةِ هَدَفَيْنِ مَثَلاً خِلالِ سَاعَةٍ، وهَذَا لَهُ ثَلاثُ حَالاتٍ :
الأوْلَى : إذَا أحْرَزَ أحَدُ الفَرِيْقَيْنِ الهَدَفَيْنِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الوَقْتِ فَهُو الفَائِزُ .
الثَّانِيَةُ : إذَا أحْرَزَ أحَدُ الفَرِيْقَيْنِ هَدَفًا فَقَطُ خِلالَ سَاعَةٍ، لا يُعَدُّ فَائِزًا؛ لأنَّ العِبْرَةَ بِهَدَفَيْنِ، وعَلَيْه يَسْتَأنِفُ اللِّعْبَ مَرَّةً أخْرَى .
الثَّالِثَةُ : إذَا أحْرَزَ كِلا الفَرِيْقَيْنِ هَدَفًا، أو لَمْ يَحْرِزَا شَيْئًا، يُسْتَأنَفُ اللِّعْبُ مَرَّةً أخْرَى، وهَكَذَا .(1/390)
وهُنَاكَ شُرُوْطٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاه، لَمْ نُشِرْ إلَيْها؛ لأنَّ المَقْصَدَ : هُوَ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) فِيْها مِنَ المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَمْنَعُها؛ هَذَا إذَا سَلَّمْنَا بِكَوْنِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ المُبَاحَةِ، أمَّا وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّها حَرَامٌ فبَطَلَ حِيْنَئِذٍ الاسْتِرْسَالُ فِي ضَرْبِ بَعْضِ الإخْلالِ فِي الشُّرُوْطِ(1)، واللهُ أعْلَمُ .
* * *
المَحْظُورُ الأرْبَعُوْنَ
السِّحْرُ، والشَّعْوَذَةُ
قَالَ اللهُ تَعَالَى : " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون "[البقرة102] .
وقَوْلُه تَعَالَى : " ولا يفلح الساحر حيث أتى"[طه69] .
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "اجْتَنِبُوا السَّبَعَ المُوْبِقَاتِ، قَالُوْا يَا رَسُوْلَ اللهِ ! ومَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاللهِ، والسِّحْرُ …"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، ثُمَّ نَفَثَ فِيْها؛ فَقَدْ سَحَرَ، ومَنْ سَحَرَ؛ فَقَدْ أشْرَكَ، ومَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا؛ وُكِلَ إلَيْه"(3) النَّسَائِيُّ .
__________
(1) ـ سَيَأتي لِهَذِه الشُّرُوطِ بَعْضُ التَّفْصِيْلِ فِي فَصْلِ : تَقْرِيْبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إنْ شَاءَ اللهُ .
(2) ـ أخرجه البخاري (5/393)، ومسلم (1/92) .
(3) ـ أخرجه النسائي (7/112)، وحسنه ابن مفلح في "الآداب" (3/378) .(1/391)
وقَدْ أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيْمِ السِّحْرِ؛ بَلْ حَرَّمَتُه جَمِيْعُ الشَّرَائِعِ؛ فِي حِيْنَ أنَّ مِنَ السِّحْرِ مَا هُوَ شِرْكٌ أكْبَرُ، ومِنْهُ مَا هُوَ دُوْنَ ذَلِكَ(1).
* * *
لَقَدْ بَاتَ مِنَ المَشْهُوْرِ بَيْنَ عُشَّاقِ، ومُتَعَصِّبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) قَدَيْمًا، وحَدِيْثًا : أنَّ السِّحْرَ ظَاهِرَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ، وقَضِيَّةٌ رَائِجَةٌ بَيْنَهُم !
وحَسْبُنا مَا شَهِدَ بِه أحَدُ أقْطَابِ الرِّياضَةِ، وكَرَاسِيْها؛ وهُوَ الكَاتِبُ أمِيْنُ السَّاعَاتِي حَيْثُ يَقُوْلُ : " مِنَ الظَّوَاهِرِ الَّتِي نَشَأتْ مَعَ الأنْدِيَةِ الرِّيَاضِيَّةِ، وحَتَّى اليَوْمَ ظَاهِرَةُ ( الدَّنْبُوْشِي )، الَّتِي تَعْنِي اسْتِخْدَامَ السِّحْرِ مِنْ أجْلِ الفَوْزِ نتِيْجَةَ المُبَارَاةِ، وتَعُوْدُ جُذُوْرُ هَذِه الظَّاهِرَةِ إلى :
__________
(1) ـ أنظر "فتح المجيد" (315) .(1/392)
ـ أنَّ ظَاهِرَةَ السِّحَرِ مَوْجُوْدَةٌ فِي أوْسَاطِنَا الشَّعْبِيَّةِ مُنْذُ القِدَمِ؛ إلاَّ أنَّها تَغَذَّتْ بِقُدُوْمِ اللاعِبِيْنَ السُّوْدَانِيِّيْنَ …!، ( ثُمَّ قَالَ ) : " أنَا شَخْصِيًا عِشْتُ تَجَارُبَ مَرِيْرَةً ( للدَّنْبُوْشِي ) .. فَحِيْنَمَا كُنْتُ لاعِبًا فِي الاتِّحَادِ .. كُنَّا نُخْبَةً مِنْ أحْسَنِ ما تَوَفَّرَ للاتِّحَادِ مِنْ لاعِبِيْنَ .. وطَبْعًا تَحَقَّقَتْ بِفَضْلِ هَؤُلاءِ اللاعِبِيْنَ الكُؤوْسُ، وكَانَتْ فِئَةٌ مِنْ ضِعَافِ النُّفُوْسِ تَتَعَامَلُ مَعَ تَعَاوِيْزِ ( الدَّنْبُوْشِ )، وتُوَزِّعُه عَلَيْنَا، وكَانُوا يُخَيِّطُوْنَ هَذِه التَّعَاوِيْزَ فِي ( يَاقَاتِ ) الفَنَايِلِ، أو فِي ثَنَيَاتِها .. وكَانَ اللاعِبُوْنَ يَتَقَطَّعُوْنَ حَتَّى يُحَقِّقُوْا الفَوْزَ، والبُطُوْلَةَ .. إلاَّ أنَّ أصْحَابَ النُّفُوْسِ الضَّعِيْفَةِ يَقُوْلُوْنَ لَنَا : لَوْلا "الشُّغْلُ!" مَا جَاءَ الكَأسُ .. لَوْلا "الرِّجَالُ!" إيَّاهُم مَا كَانَ شِفْنا الفَوْزَ .."(1).
وبَعْدَ هَذَا لا نَشُكَّ أنَّ السَّاعَاتِي لَمْ يَكُنْ يُؤْمِنْ بالسِّحْرِ، كَمَا هُو ظَاهِرُ كَلامِه عَنِ ( الدَّنْبُوْشِي )؛ إلاَّ أنَّه للأسَفِ كَانَ يَتَعَامَلُ بِهِ، وذَلِكَ بتَعْلِيْقِه عَلَى مَلابِسِه، وهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِه : جُرْمٌ كَبِيْرٌ، وفِعْلٌ مُحَرَّمٌ .
* * *
__________
(1) ـ انظر "تَارِيْخَ الحَرَكَةِ الرِّياضِيَّةِ فِي المَمْلَكَةِ العَرَبِيَّةِ السُّعُوْدِيَّةِ" لأمين الساعاتي (57-60) .(1/393)
فَنَحْنُ، وإيَّاهُمْ؛ مُتَّفِقُوْن أنَّ السِّحْرَ ظَاهِرَةٌ لَيْسَتْ مَحَلِّيَّةً حَسْبُ؛ بَلْ عَالَمِيَّةً يَتَعَامَلُ بِهَا جَحَافِلُ، ورُوَّادُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي العَالَمِ كُلِّه !، كَمَا أنَّنَا هُنَا لَمْ نَقِفْ عَلَى حَقِيْقَةِ السِّحْرِ بِمَا ذَكَرَهُ السَّاعَاتِيُّ فَقَطُ؛ بَلْ وُجُوْدُ السِّحْرِ لا يَحْتَاجُ إلى تَدْلِيْلٍ، فَهُوْ مِنَ الوُضُوْحِ بِمَكَانٍ؛ إلاَّ أنَّنا ذَكْرَنا مَا أقَرَّهُ السَّاعَاتِيُّ لإزَاحَةِ الشُّكُوْكِ عِنْدَ بَعْضِ السَّاذَجِيْنَ مِمَّنْ يُشَكِّكُ فِي وُجُوْدِ السِّحْرِ بَيْنَ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ !
فَعِنْدَ هَذَا؛ كَانَ لَنَا أنْ نَقُوْلَ : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَهِيَ مَحْضَنٌ للمُخَرِّفِيْنَ، وسَبِيْلُ شِرْكٍ، يَدْفَعُ مُرِيْدِي هَذِه اللُّعْبَةِ إلى السِّحْرِ، والشَّعْوَذَةِ ضَرُوْرَةً، بِحُكْمِ أنَّ أكْثَرَ مُتَعَصِّبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) : زَوَامِلُ جَهْلٍ، ذَوُوْ رِقَّةٍ فِي الدِّيْنِ، وضِعَافُ بَصِيْرَةٍ، إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي !
* * *
المَحْظُوْرُ الحَادِي والأرْبَعُوْنَ
ضَرْبُ الخُدُوْدِ، وشَقُّ الجُيُوْبِ
إنَّ ضَرْبَ الخُدُوْدِ، وشَقَّ الجُيُوْبِ مِنْ عَادَاتِ أهْلِ الجَاهِلِيَّةِ، حُزْنًا عَلَى المَيِّتِ، وتَسَخُّطًا عَلَى وُقُوْعِ المَكْرُوْهِ، وتَضَجُّرًا مِنَ المُصِيْبَةِ، وهَذِه الأفْعَالُ فِي غَيْرِها مِنَ كَبَائِرِ الذُّنُوْبِ؛ لِمَا فِيْها مِنَ التَّسَخُّطِ عَلَى أقْدَارِ اللهِ تَعَالَى، بِطَرِيْقٍ، أو آخَرَ .
* * *
فَقَدْ صَحَّ عَنْه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُوْدَ، وشَقَّ الجُيُوْبَ، ودَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ"(1) مُتَّفَقٌ عَلَيْه .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 1294 )، ومسلم ( 103 ) .(1/394)
فَهَذَا الحَدِيْثُ وغَيْرُه مِنْ نُصُوْصِ الوَعِيْدِ، وفِعْلُ هَذِه العَادَاتِ مِمَّا يُنَافِي كَمَالِ الإيْمَانِ الوَاجِبِ، وخُصَّ الخَدُّ بالضَّرْبِ هُنَا لِكَوْنِه الغَالِبَ، وإلاَّ فَضَرْبُ بَقِيَّةِ الوَجْهِ مِنْه، وكَذَا ضَرْبُ بَقِيَّةِ البَدَنِ؛ بَلْ ضَرْبُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى وَجْهِ التَّضَجُّرِ، والتَّسَخُّطِ لتَفْوِيْتِ مَرْغُوْبٍ، أو وُقُوْعِ مَرْهُوْبٍ : كَضَرْبِ الأرْضِ، والجِدَارِ، وتَكْسِيْرِ الأشْيَاءِ، وشَقِّ الجُيُوْبِ، وتَمْزِيْقِ الثِّيَابِ … إلخ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوْبِ لِمَا فِيْها مِنَ التَّسَخُّطِ عَلَى أقْدَارِ الله تَعَالَى(1).
* * *
وبَعْدَ ذَلِكَ؛ فَمَنْ نَظَرَ إلى تَيَّعَانِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ولاعِبِيْها أثْنَاءَ اللَّعِبِ؛ عَلِمَ يَقِيْنًا أنَّ كُثَّارَهُم؛ بَلْ أكْثَرُهُم لا يَتَوَرَّعُوْنَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولا أقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي تَزْبِيْدِ حَرَكَاتٍ هَوْجَاءَ، وتَصَرُّفَاتٍ جَاهِلِيَّةً، تَدُلُّكَ عَلَى تَسَخُّطٍ، وتَضَجُّرٍ مَذْمُوْمٍ لِقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِه : ومِنَ هَذِه المَخَارِيْقِ الجَاهِلِيَّةِ مَا يَفْعَلُه أكْثَرُ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وغَيْرِهِم، مِثْلُ : ضَرْبِ اليَدِيْنِ بَعْضُها ببَعْضٍ، أو ضَرْبِها عَلَى الأرْضِ، أو عَلَى الرَّأسِ، أو غَيْرِ ذَلِك، ومِنْها : عَضُّ الشَّفَاه، وتَغْمِيْضُ العَيْنَيْنِ … إلخ؛ تَضَجُّرًا، وتَسَخُّطًا عَلَى تَفْوِيْتِ مَرْغُوْبٍ : كَضَيَاعِ هَدَفٍ، أو نَحْوِه، أو وُقُوْعِ مَرْهُوْبٍ : كَهَدَفٍ، أو نَحْوِهِ؛ مِمَّا هُوْ مِنْ نَزَغَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ بِعَامَّةٍ !
* * *
__________
(1) ـ انظر "فتح الباري" لابن حجر ( 3/164 )، و"القول المفيد" لشيخنا العثيمين (2/115) .(1/395)
أمَّا حَالُ مُشَاهِدِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وزُبَّادُها مِنْ : مُشَجِّعِيْنَ، ومُشَاهِدِيْنَ، فَلَيْسُوا أقَلَّ حَالاً مِنْ إخْوَانِهم الَّذِيْنَ يَمُدُّوْنَهُم باللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ بَلْ زَادُوا عَلَيْهم بأفْعَالٍ صِبْيَانِيَّةٍ، وتَصَرُّفَاتٍ حَمْقَاءَ : كالقَفْزِ دُوْنَ شُعُوْرٍ، والصِّيَاحِ دُوْنَ فُتُوْرٍ، والضَّرَبَاتِ العَشْوَائِيَّةِ هُنَا وهُنَاكَ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّضَجُّرَاتِ عَلَى أقْدَارِ اللهِ، كَمَا مَرَّ عِنْدَ اللاعِبِيْنَ أثْنَاءَ اللَّعِبِ .
* * *
وأخِيْرً؛ أحْبَبْنا أنْ نَرْفَعَ للقَارِئ الكَرِيْمِ اعْتِذَارَنا، بأنَّنَا أمْسَكْنا القَلَمَ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِ المَحْظُوْرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ : كالشُّهْرَةِ الجَوْفَاءِ، واللِّعْبِ مَعَ الكُفَّارِ، والشِّيْعَةِ، وكَذَا مَعَ الفُسَّاقِ، والتَّشَاؤُمِ، والتَّطَيُّرِ، والكَذِبِ، والبُهْتَانِ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ، والمُوْبِقَاتِ الَّتِي أُشْرِبُها دُفَّاعُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) سَوَاءٌ أكَانَتْ : حَقِيْقَةً، أو حُكْمًا، كُلَّ ذَلِكَ رَجَاءَ الاخْتِصَارِ، والاعْتِبَارِ؛ عِلْمًا أنَّ فِيْمَا ذَكْرَنَاه هُنَا غُنْيِةً، ومَقْنَعًا لِمَنْ ألْقَى السَّمْعَ، وهُوَ شَهِيْدٌ .
* * *
الفَصْلُ الرَّابِعُ
حُكْمُ ( كُرَةِ القَدَمِ )(1/396)
بَعْدَ اسْتِعْرَاضِنا لَهَذِه المَحَاذِيْرِ، والبَلايَا، والآذَايَا النَّاشِئَةِ عَنْ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) كَمَا هِيَ عَلَيْه الآنَ، لا يَسَعُ طَالَبُ الحَقِّ مِنَ المُسْلِمِيْنَ فِي تَحْدِيْدِ حُكْمِهِ عَلَى هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ : إلاَّ الإقْرَارُ بِحُرْمَتِها، والتَّحْذِيْرُ مِنْها، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْه مِنْ مُخَالَفَاتٍ شَرْعِيَّةٍ؛ الوَاحِدَةُ مِنْها كَافِيَةٌ لاسْتِصْدَارِ حُكْمِ الحُرْمَةِ بِشَأنِها؛ بل لا أشُكُّ طَرْفَةَ عَيْنٍ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) : لَهِي أشَدُّ حُرْمَةً وضَرَرًا مِنَ الخَمْرِ، والمَيْسِرِ، والقِمَارِ الَّذِي أجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلَى تَحْرِيْمِها .
* * *
ولَنْ نَكُوْنَ أقَلَّ غَيْرَةً عَلَى دِيْنِنا، وشَبَابِنا مِنْ مُلُوْكِ الإنْجْلِيْزِ، وغَيْرِهم مِنْ أهْلِ الكُفْرِ الَّذِيْنَ مَا تَأخَّرْوا فِي تَحْرِيْمِها، وتَجْرِيْمِ مَنْ يَلْعَبُها !
ومَا ذَاكَ الحُكْمُ مِنْهم إلاَّ عِنْدَما عَلِمُوا أنَّها قَدِ اتَّسَمَتْ بالخُشُوْنِةِ، والوَحْشِيَّةِ، مَعَ مَا تُثِيْرُه مِنْ ضَجِيْجٍ، وعِرَاكٍ، فِي حِيْنَ أنَّها تَعْزِفُ الشَّبَابَ عَنِ تَدْرِيْبِ الرِّمَايَةِ، ومَا هُوَ مِنْ شَأنِ الحَرْبِ !(1/397)
ولأجْلِ هَذَا؛ فَقَدْ حَرَّمَها كُلٌّ مِنْ المُلُوْكِ : ( إدْوَارْد الثَّانِي ) عَامَ (714هـ )، و ( إدْوَارْد الثَّالِثُ ) عَامَ ( 766هـ )، و( رِيتْشَارْد الثَّانِيُّ )، و( هِنْرِي الرَّابِعُ )، والمَلِكَةُ ( إليْزَابِيْثْ الأوْلَى )، وجَاءَ فِي المَرْسُوْمِ الَّذِي أصْدَرَه المَلِكُ ( إدْوَارْد الثَّانِيُّ ) عَامَ ( 714هـ ) كَمَا مَرَّ مَعَنَا : "" لَمَّا كَانَ هُنَاكَ ضَجِيْجٌ، وأصْوَاتٌ كَثِيرةٌ تَمْلأُ البِلادَ بِسَبَبِ التَّشَاجُرِ، والتَّدَافُعِ خَلْفَ كُرَاتٍ كَبِيْرَةٍ، ولَمَّا كَانَتْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ تَحْدُثُ بِسَبَبِ هَذَا، ولَمَّا كَانَ اللهُ يُحَرِّمُ كُلَّ هَذِه الشُّرُورِ لِذَلِكَ فأنِّي آمُرُ، وأمْنَعُ بأَمْرِ المُلْكِ : الاشْتِرَاكَ في مِثْلِ هَذِه الألْعَابِ مُسْتَقْبلاً، ومَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ تَكُونُ عُقُوبَتُه السِّجْنَ !"(1).
كَمَا أفْتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ بِتَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِرَئَاسَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ ابنِ بَازٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ، وذَلِكَ بِرَقْمِ ( 4219 )، وتَارِيْخِ ( 6/12/1401هـ ) :
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : مَا هُوَ الحُكْمُ فِي رُؤْيَةِ مُبَارَيَاتِ الكُرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ عَلَى كَأسٍ، أو عَلَى مَنْصِبٍ مِنَ المَنَاصِبِ : كاللَّعِبِ عَلَى دَوْرِيٍّ، أو كَأسٍ مَثَلاً ؟
الجَوَابُ : مُبَارَيَاتُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَرَامٌ، وكُوْنُها عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ كَأسٍ، أو مَنْصِبٍ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مُنْكَرٌ آخَرُ إذَا كَانَتْ الجَوَائِزُ مِنَ اللاعِبِيْنَ، أو بَعْضِهِم لِكَوْنَ ذَلِكَ قِمَارًا، وإذَا كَانَتْ الجَوَائِزُ مِنْ غَيْرِهِم فَهِي حَرَامٌ، لِكَوْنِها مُكَافَأةً عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وعَلَى هَذَا فَحَضُوْرُ هَذِه المُبَارَيَاتِ حَرَامٌ !
__________
(1) ـ مجلة "الفيصل" العدد التاسع، السنة الأولي، ربيع الأول 1398 هـ .(1/398)
وصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وآلِهِ، وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ
اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ، والإفْتَاءِ
عُضْوٌ عُضْوٌ نائِبُ رَئِيسِ اللَّجْنَةِ الرَّئِيسُ
عَبْدُ اللهِ بنُ قُعُودٍ عَبْدُ اللهِ بنُ غُدَيَّانِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَفِيْفِي عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ باز
* * *
فَعِنْدَ ذَلِكَ لا نَشُكُّ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الْيَوْمَ فِيْها أمُوْرٌ مُحَرَّمةٌ لا تَنْفَكُّ عَنْها غَالِبًا مِثْلُ : العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ، وكَشْفِ العَوْرَاتِ، وتَأخِيْرِ الصَّلَوَاتِ، وإضَاعَةِ الأوْقَاتِ، والأمْوَالِ، وصَدٍّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وشَتْمٍ، وسَبٍّ، ومَا إلى ذَلِكَ مِمَّا مَرَّ مَعَنَا سَابِقًا .
* * *
تَنْبِيهٌ : إنَّ حُكْمَنَا عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) بالتَّحْرِيْمِ؛ لَمْ يَكُنْ مَحْصُوْرًا عَلَيْها فَقَطُ؛ بَلْ يَنْطَبِقُ هَذَا الحُكْمُ عَلَى أكْثَرِ الألْعَابِ الرِّياضَيَّةِ المُعَاصِرَةِ : كَكُرَةِ اليَدِ، وكُرَةِ السَّلَّةِ، وكُرَةِ الطَّائِرَةِ … إلخ، والقَوْلُ فِيْها جَمِيْعًا قَوْلٌ وَاحِدٌ لا يَخْتَلِفُ، سَوَاءٌ فِي حُكْمُ المُزَاوَلَةِ، أو المُشَاهَدَةِ عَلَى حَدٍّ سَّوَاء .
* * *
وأخِيْرًا؛ فَلا شَكَّ أنَّ أصْلَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) : وَثَنيٌّ يُوْنَانِيٌّ، ونَشْرُها فِيْنَا نَصْرَانيٌّ صَلِيبيٌّ، وتَطْرِيقُها إلَيْنا يَهُودِيٌّ عَالَمِيٌّ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر ؟!، وعَلَيْه فَهِي حَرَامٌ .. حَرَامٌ !(1/399)
كَمَا أنَّنا وللهِ الحَمْدُ لَمْ نَنْفَرِدُ بِهَذا الحُكْمِ المَعْلُوْمِ للجَمِيْعِ؛ بَلْ قَدْ قَالَ بِحُرْمَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عُلَمَاءُ أجِلاءُ أمْثَالُ : الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ إبْرَاهِيْمِ، والشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ مُحَمَّدٍ القَاسِمِ، والشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ ابنِ بَازٍ، والشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ بنِ قُعُوْدٍ، والشَّيْخِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَفِيْفِي، والشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ بنِ غُدَيَّان، والشَّيْخِ حُمُوْدِ التُّوَيْجِرِيِّ، والشَّيْخِ عَبْدِ العَزَيِزِ السَّلْمَانِ، واللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ، وغَيْرِهِم كَثِيْرٌ، وسَيَأتِي كَلامُ هَؤُلاءِ فِي مُلْحَقِ الفَتَاوَى إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
الفَصْلُ الخَامِسُ
البَدِيْلُ عَنْ ( كُرَةِ القَدَمِ )
لَقَدْ بَاتَ مِنَ المُسَلَمَّاتِ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ومُؤْمِنَةٍ : أنَّ الدِّيْنَ الإسْلامِيَّ دِيْنٌ شَامِلٌ كَامِلٌ لأمْرِ الدِّيْنِ والدُّنْيا، فَهُوَ كَافِلٌ لِكُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ، ولِكُلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ، ولِكُلِّ إنْسَانٍ وجَانٍّ، لا يَقْبَلُ اللهُ سِوَاهُ، ولا يَرْحَمُ غَيْرَ أهْلِهِ، ولا يَسَعُ أحَدًا الخُرُوْجَ عَنْهُ، ولا يَقْبَلُ حُكْمًا سِوَاهُ، قَالَ تَعَالى : " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا"[سبأ28]، وقال تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعبدون"[الذاريات56]، وقال تعالى : "ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"[آل عمران85 ]، وقال تعالى : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"[المائدة44].(1/400)
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِه، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِه الأمَّةِ؛ يَهُوْدِيٌّ، ولا نَصْرَانِيُّ، ثُمَّ يَمُوْتُ، ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ بِه إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ"(1) مُسْلِمٌ .
* * *
فَإذَا عُلِمَ مَا هُنَا؛ وهُوَ شُمُوْلِيَّةُ هَذَا الدِّيْنِ؛ فَلَنا أنْ نَقِفَ بَعْدَها مَعَ مَا يُسَمَّى : ( البَدِيْلُ ) !
أمَّا مَعْرِفَةُ البَدِيْلِ فِي العِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أصْلِهِ؛ وهُوَ الأصْلُ فِي العِبَادَاتِ أوَّلاً، كَمَا يَلَي :
قُلْتُ : كَانَ عَلَيْنا أنْ نَسْتَلْهِمَ حَقِيْقَةً شَرْعِيَّةً، وقَاعِدَةً مُحْكَمَةً؛ وهِي : أنَّ الأصْلَ فِي العِبَادَاتِ الإتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا الشَّرْعِيِّ، وعَلَيْه قَالُوا : ( الأصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ )، ولَيْسَ لَنَا أنْ نَتْرُكَ الأصْلَ، ونَنْتَقِلَ إلى البَدِيْلِ عَنْه إلاَّ فِي حَالَتَيْنِ :
الأوْلَى : عِنْدَ عَدَمِ وُجُوْدِ الأصْلِ .
الثَّانِيَة : عِنْدَ عَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى تَنَاوُلِ الأصْلِ، واسْتِعْمَالِه .
والدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُه تَعَالَى : "فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدًا طيبًا"[ المائدة6] .
يَقُوْلُ ابنُ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " … بَلْ أبَاحَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ المَرَضِ، وعِنْدَ فَقْدِ المَاءِ، تَوْسِعَةً عَلَيْكُم، ورَحْمَةً بِكُم"(2). وعَلَيْه كَانَ التَّيَمُّمُ عِنْدَ فَقْدِ المَاءِ، أو عَدَمِ القُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِه مِمَّا دَلَّ عَلَيْه الكِتَابُ، والسُّنَّةُ، والإجْمَاعُ فِي الجُمْلَةِ(3).
__________
(1) ـ أخرجه مسلم ( 153 ) .
(2) ـ "تفسير ابن كثير" (3/60) .
(3) ـ انظر "المغني" لابن قدامة (1/310)، و"شرح الزركشي" (1/324)، و"المبدع" لابن مفلح (1/205) .(1/401)
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَاَن التَّيَمُّمُ بَدَلاً عَنْ طَهَارَةِ المَاءِ؛ لِكُلِّ مَا يُفْعَلُ بِهَا عِنْدَ العَجْزِ عَنْهُ شَرْعًا؛ لأنَّه مُتَرَتِّبٌ عَلَيْها يَجِبُ فِعْلُه عِنْدَ عَدَمِ المَاءِ، ولا يَجُوْزُ مَعَ وُجُوْدِه إلاَّ لِعُذْرٍ، وهَذَا شَأنُ البَدَلِ .
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لعُمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : " صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ"(1) البُخَارِيُّ، والآيَاتُ القُرْآنِيَّةُ، والأحَادِيْثُ النَّبَوِيَّةُ فِي بَيَانِ هَذِه القَاعِدَةِ كَثِيْرَةٌ جِدًّا .
قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ المَاءِ، والبَدَلُ يَقُوْمُ مُقَامَ المُبْدَلِ فِي أحْكَامِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُمَاثِلاً لَهُ فِي صِفَتِه : كَصِيَامِ الشَّهْرَيْنِ؛ فإنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الإعْتَاقِ، وصِيَامِ الثَّلاثِ والسَّبْعِ، فإنَّه بَدَلٌ عَنِ الهَدْي فِي التَّمَتُّعِ، وكَصِيَامِ الثَّلاثَةِ الأيَّامِ فِي كَفَّارَةِ اليَمِيْنِ؛ فإنَّهُ بَدَلٌ عَنِ التَّكْفِيْرِ بالمَالِ، والبَدَلُ يَقُوْمُ مُقَامَ المُبْدَلِ"(2).
* * *
فَإذَا عَلِمْنَا حَقِيْقَةَ البَدَلِ، والمُبْدَلِ، وهِيَ : أنْ يَأتِيَ المُسْلِمُ بالعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الوَجْهِ الشَّرْعِيِّ مَعَ القُدْرَةِ، وأنَّ البَدَلَ حَالَةٌ ثَانِيَةٌ شُرِعَتْ للمُسْلِمِ عِنْدَ عَدَمِ القُدْرَةِ عَلى الإتيْاَنِ بالعِبَادَةِ عَلَى أصْلِها الشَّرْعِيِّ ابْتِدَاءً .
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 1066 ) .
(2) ـ "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (21/354) .(1/402)
فَنَقُوْلُ حِيْنَئِذٍ؛ لَيْسَ للدُّعَاةِ اليَوْمَ، أنْ يَتَكَلَّفُوا طَرَائِقَ مُلْتَوِيَةً فِي دَعْوَتِهِم، أو يَجْعَلُوا مِنَ البَدَائِلِ حَقَائِقَ شَرْعِيَّةً، وأصُوْلاً ثَابِتَةً، وغَايَاتٍ مَقْصُوْدَةً !
وهَذَا للأسَفِ مَا عَلَيْه كَثِيْرٌ مِنْ دُعَاةِ اليَوْمِ؛ يَوْمَ جَعَلُوا مِنْ أنْفُسِهِم أهْلَ حِكْمَةٍ، وأصْحَابَ دَعْوَةٍ عَصْرِيَّةٍ تَتَمَاشَى مَعَ الوَاقِعِ، وتَتَكَيَّفَ مَعَ ضُغُوْطِه !؛ لِذَا نَرَاهُم لا يَلْوُنَ عَلَى أحَدٍ فِي الرِّضَى بالقَلِيْلِ فِي دَعْوَتِهم؛ ولَوْ عَلَى حِسَابِ التَّبَسُّطِ فِي المُبَاحَاتِ، والتَّكَلُّفِ فِي الكَلِمَاتِ، والتَّنَطُّعِ فِي وَسَائِلِ الدَّعْوَةِ . مِمَّا أخْرَجَهُم هَذَا الحَدُّ مِنَ الاعْتِدَالِ والاقْتِصَادِ مِنْ حِكْمَةِ الدَّعْوَةِ إلى حَالٍ مَشِيْنٍ، ودَعْوَةٍ هَزِيْلَةٍ ضَعِيْفَةٍ .
فَكَانَ مِنْ سَوْءاتِ حَصَائِدِ هَذِه الدَّعَوَاتِ الغَارِقَةِ فِي البَدَائِلِ مَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
أوَّلاً : أنَّهُم جَعَلُوا مِنَ البَدَائِلِ أُصُوْلاً ثَابِتَةً، وغَايَاتٍ مَقْصُوْدَةً، وفِي هَذَا ارْتِكَاسٌ وانْتِكَاسٌ عَنِ الأُصُوْلِ الشَّرْعِيَّةِ، والغَايَاتِ المَنْشُوْدَةِ .(1/403)
ثَانِيًا : أنَّهُم بِهَذِه الطَرَائِقِ الهَزِيْلَةِ سَعَوْا فِي غِشِّ كَثِيْرٍ مِنَ العَائِدِيْنَ إلى اللهِ تَعَالَى، وذَلِكَ بإشْعَارِهِم بطَرِيْقٍ أو آخَرَ : أنَّ العَوْدَةَ إلى اللهِ تَعَالى، والتَّوْبَةَ مِنَ المَعَاصِي تَحْصُلُ عِنْدَ البَدَائِلِ، وتَنْتَهِي إلَيْها، مِمَّا يُضَعِّفُ مِنْ عَزَائِمِ العَائِدِيْنَ إلى اللهِ إذَا عَلِمُوْا فِيْمَا بَعْدُ أنَّ التَّوْبَةَ إلى اللهِ تَعَالَى تَتَطَلَّبُ مِنْهُم الجِدِّيَّةَ فِي الاسْتِقَامَةِ، والمُجَاهَدَةَ بالنَّفْسِ والنَّفِيْسِ، والغَالِي والرَّخِيْصِ . وعِنْدَ هَذَا قَدْ يُخْشَى عَلَى بَعْضِهِم مِنَ الفُتُوْرِ بَعْدَ النُّشُوْرِ، والحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ؛ حَتَّى إنَّ بَعْضَهم عَيَاذًا باللهِ قَدِ انْتَكَسَ عَلَى أمِّ رَأسِه !
ثَالِثًا : أنَّهُم بِهَذِه الطَّرَائِقِ يَكُوْنُوْنَ قَدْ سَوَّغُوا للعَامَّةِ، والعُصَاةِ أنْ يَبْقَوْا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْه؛ ولَكِنْ بِطَرِيْقَةٍ أُخْرَى ( شَرْعِيَّةٍ ! ) : وذَلِكَ بدَفْعِهِم إلى التَّبَسُّطِ، والإسْرَافِ فِي المُبَاحَاتِ، وفُضُوْلِ اللَّعِبِ، والكَلامِ، والنَّوْمِ، والنَّظَرِ، والمُخَالَطَةِ .
رَابِعًا : أنَّهُم بِهَذِه الطَرَائِقِ قَدْ أُصِيْبُوا بالاسْتِسْلامِ، والاسْتِكَانَةِ للوَاقِعِ المَرِيْرِ، يَوْمَ نَرَاهُم يَتَنَزَّلُوْنَ بِدَعْوَتِهم وحِكْمَتِهم إلى مُسْتَوَى العَامَّةِ والعُصَاةِ، ومُجَارَاتُهم فِيْمَا هُمْ عَلَيْه عَنْ طَرَائِقَ، ووَسَائِلَ دَعَوِيَّةٍ هَزِيْلَةٍ، ضَعِيْفَةٍ …(1/404)
خَامِسًا : أنَّهُم بِهَذِه الطَرَائِقِ قَدْ رَجَعُوا عَنِ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيَّةِ، وهِيَ الدَّعْوَةُ الجَادَّةُ المُسْتَقِيْمَةُ النَّبَوِيَّةُ دُوْنَ مُوَارَبَةٍ، أو مُجَامَلَةٍ، بأنْ يَقُوْلُوا للمُسِيْءِ أسَأتَ، وللمُحْسِنِ أحْسَنْتَ، والصَّدْعُ بِكَلِمَةِ الحَقِّ، وألاَّ تَأخُذْهُم فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ، وهَذَا هُوَ الأصْلُ فِي الدَّعْوَةِ الإسْلامِيَّةِ، ولَمْ يَخْرَجْ عَنْه أحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ إلاَّ فِي حَالاتٍ يَسِيْرةٍ تُقَدَّرُ بِقَدَرِها، وذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ المَدْعُوِّ لا غَيْرَ، أمَّا أنْ تُجْعَلْ هَذِه البَدَائِلُ أصُوْلاً دَعَوِيَّةً تُمَرَّرُ عَلَى سَائِرِ المَدْعُوِّيْنَ، فَلا !
ونَحْنُ، وهُمْ ( للأسَفِ ! ) إذَا كُنَا لا نَرْضَى بِمَا تُفْرِزُه بَعْضُ الجَمَاعَاتِ الإسْلامِيَّةِ فِي مَجَالاتِ الدَّعْوَةِ … إلاَّ أنَّنا نَجِدُ بَعْضَ دُعَاةِ اليَوْمَ ( السَّلَفِيِّيْنَ ! ) قَدْ قَنِعُوا بدَعْوَةِ التَّائِبِيْنَ إلى اللهِ تَعَالَى عِنْدَ حَدِّ اللَّعِبِ، والمُخَالَطَةِ، والخَرَجَاتِ، والزِّيَارَاتِ السَّائِرَةِ(1) ...!
* * *
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُوْلُ لِمَنْ يَرَى إبَاحَةَ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) السَّالِمَةِ ( قَطْعًا ) مِنَ المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، لا بُدَّ مِنْ تَفْصِيْلاتٍ، وضَوَابِطَ كَيْ تَسْلَمَ لَنَا هَذِه اللُّعْبَةُ الشَّيْطَانِيَّة مِنَ هَذِه المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ بِطَرِيْقٍ، أو آخَرَ، وإلاَّ وَقَعْنَا فِيْمَا فَرَرْنَا مِنْهُ، ولا بُدَّ !
* * *
__________
(1) ـ إنَّ الحَدِيْثَ عَنْ أصُوْلِ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيَّةِ لا سِيَّما هَذِه الأيَّام؛ مِمَّا يِحْتَاجُ إلى بَسْطٍ فِي الكَلامِ، وطَرْحٍ أوْسَعٍ مِنْ هَذا، أسَألُ اللهَ تَعَالَى أن يُعِينَنِي عَلَى إخْرَاجِ رِسَالَةٍ فِيْه إنْ شَاءَ اللهُ !(1/405)
وقَبْلَ أنْ نَقِفَ مَعَ بَيَانِ هَذِه الضَّوَابِطِ؛ كَانَ عَلَيْنا أيْضًا أنْ نَعْلَمَ جَمِيْعًا أنَّ طَائِفَةً كَبِيْرَةً مِنْ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ قَدِ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِم خَضْرَاءُ الدِّمَنِ ( كُرَةُ القَدَمِ ) مِمَّا كَانَ لِزَامًا عَلَيْنا أنْ نَسَعَى فِي تَقْرِيْبِ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ تَقْرِيْبًا مَقْبُوْلاً فِي الجُمْلَةِ، لِمَنْ يَرَى إبَاحَةَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ الخَالِيَةِ مِنَ المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ . كَيْ نَضَعَ بَيْنَ أيْدِيْهِم بَعْضَ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي نَحْسِبُها قَدْ تُخْرِجُ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مِنْ ثَوْبِها المَحْمُوْمِ، ووَصْفِها المَحْظُوْرِ إلى وَسِيْلَةِ إلْهَاءٍ، وتَرْوِيْحٍ، وتَرْفِيْهٍ .
ونَحْنُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيْبِ الجَدِيْدِ مُوْقِنُوْنَ : بأنَّ لُعْبَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي ثَوْبِها الجَدِيْدِ؛ لَهِي مِنَ البَاطِلِ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِه عَلَى الحَقِّ، فِي حِيْنَ كَانَ الأوْلى بِنَا جَمِيْعًا أنْ نَسْتَغْنِيَ بالألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ الإسْلامِيَّةِ لا سِيَّمَا الفُرُوْسِيَّةِ مِنْها عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ الإفْرَنْجِيَّةِ .
كَمَا قَالَ ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وقَدْ أغْنَانَا اللهُ بالفُرُوْسِيَّةِ الإيْمَانِيَّةِ، والشَّجَاعَةِ الإسْلامِيَّةِ الَّتِي تَأثِيْرُها فِي الغَضَبِ عَلَى أعْدَائِه، ونُصْرَةِ دِيْنِه، عَنِ الفُرُوْسِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي يُبْعَثُ عَلَيْها الهُوَى، وحَمَيَّةُ الجَاهِلِيَّةُ"(1).
__________
(1) ـ انظر "الفروسية" لابن القيم ( 2/92-93 ) .(1/406)
وكَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ حُمُوْدٌ التُّوَيْجِرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فإنِ ادَّعَى المُتَشَبِّهُوْنَ بأعْدَاءِ الله تَعَالَى، أنَّهُم إنِّمَا يُرِيْدُوْنَ باللَّعِبِ بالكُرَةِ : رِيَاضَةَ الأبْدَانِ، لِتَعْتَادَ عَلَى النَّشَاطِ، والصَّلابَةِ .
فَالجَوَابُ أنْ يُقَالَ : إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ للمُسْلِمِيْنَ فِي الرِّياضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ غُنْيَةً، ومَنْدُوْحَةً، عَنِ الرِّيَاضَاتِ الإفْرَنْجِيَّةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ : المُسَابَقَةُ عَلَى الخَيْلِ، وقَدْ سَابَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُما، وفَعَلَ ذَلِكَ أصْحَابُه، والمُسْلِمُوْنَ بَعْدَهُم" .
وقَالَ أيْضًا ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ومَنْ لَمْ يَكْتَفِ بالرِّياضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، ولَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، فلا كَفَاهُ اللهُ، ولا وَسَّعَ عَلَيْه فِي الدُّنْيِا والآخِرَةِ، ومَنْ آثَرَ الرِّيَاضَاتِ الإفْرَنْجِيَّةِ عَلَى الرِّيَاضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَذَلِكَ عُنْوَانٌ عَلَى زَيْغِ قَلْبِه، عَيَاذًا باللهِ مِنْ مُوْجِبَاتِ غَضَبِه"(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ مَا مَضَى كَانَ لَنَا أنْ نَضَعَ نُصْبَ أعْيُنِنا هَذِه الضَّوَابِطَ والمَلْحُوْظَاتِ كَيْ تَسْلَمَ لَنَا لُعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ :
أوَّلاً : أنْ لا تَتَقَيَّدْ بأنْظِمَةِ، وقَوَانِيْنِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) المَعْرُوْفَةِ : كالتَّقْيِيْدِ بعَدَدِ اللاعِبِيْنَ، ومَسَاحَةِ المَلْعَبِ، وكَذَا بَابِه، وزَمَنِ اللِّعِبِ، والأحْكَامِ الجَزَائِيَّةِ(2) … إلخ .
__________
(1) ـ انظر "الدرر السنية" (15/217، 229-230 ) .
(2) ـ الأحْكَامُ الجَزَائِيَّةُ هُنَا : مَا كَانَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى، أمَّا مَا كَانَ مِنْها للتَّنْظِيْمِ والتَّرْتِيْبِ؛ فَلا بَأسَ .(1/407)
ثَانِيًا : عَدَمُ تَحَيُّزِ اللاعِبِيْنَ تَحْتَ مَظَلَّةِ : نَادٍ، أو مَلْعَبٍ، أو لَوْنٍ، أو إقْلِيْمٍ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُوْنَ سَبَبًا للشَّحْنَاءِ، والعَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ، والتَّحْرِيْشِ …!
ثَالِثًا : عَدَمُ التَّقْيِيْدِ بلاعِبِيْنَ رَسْمِيِّيْنَ مُعَيَّنِيْنَ دُوْنَ آخَرِيْنَ؛ بَلْ يَتَبَادَلُ كُلٌ مِنَ الفَرِيْقَيْنِ اللاعِبِيْنَ فِيْمَا بَيْنَهُما، فَتَارَةً يَلْعَبُ هَؤلاءِ مَعَ أوْلَئِكَ، وأوْلَئِكَ مَعَ هُؤلاءِ، وهَلُمَّ جَرًّا، كُلُّ ذَلِكَ دَفْعًا لأسْبَابِ التَّحْزُّبِ، والشَّحْنَاءِ، والعَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ، والتَّحْرِيْشِ …!
رَابِعًا : عَدَمُ لِبْسِ المَلابِسِ الرِّيَاضِيَّةِ الرَّسْمِيَّةِ؛ بَلْ يَلْبَسُوْنَ سَرَاوِيْلَ طَوِيْلَةً وَاسِعَةً، ومِنَ فَوْقِها قُمْصَانُ سَاتِرَةٌ تَبْلُغُ حَدَّ الرُّكْبَةِ .
خَامِسًا : تَعْيِيْنُ اللاعِبِيْنَ، وعَدَدِ الإصَابَاتِ؛ دُوْنَ اعْتِبَارٍ للوَقْتِ(1) .
سَادِسًا : مُجَانَبَةُ، وتَرْكُ كُلِّ مَا هُنَالِكَ مِنَ المَحْظُوْرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي مَرَّتْ مَعَنا آنِفًا، واللهُ تَعَالَى أعْلَمُ .
* * *
الفَصْلُ السَّادِسُ
الشُّبَهُ حَوْلَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) والرَّدُّ عَلَيْها
" المُنَاظَرَةُ الرِّيَاضِيَّةُ "
__________
(1) ـ انْظُرْ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ مُفَصَّلَيْنِ فِي المَحْظُوْرِ الثَّامِنِ، والتَّاسِعِ بَعْدَ الثَّلاثِيْنَ، ص ( ـ ) .(1/408)
أمَّا الشُّبَهُ الَّتِي لَمْ يَبْرَحْ أهْلُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَذْكُرُوْها، فَلا شَكَّ أنَّها كَثِيْرَةٌ جِدًّا يَعْسُرُ حَصْرُها؛ لكنَّها فِي الجُمْلَةِ وَاهِيَةٌ، وحَسْبُها أنَّها شُبَهٌ قَدْ اشْتَبَهَتْ عَلَى مَنْ لا عِلْمَ لَه، ولا تَحْقِيْقَ نَظَرٍ!، لِذَا أرَى أنَّه لَيْسَ مِنَ السَّلامَةِ الوُقُوْفُ مَعَ كُلِّ شُبْهَةٍ ذُكِرَتْ، أو اخْتُلِقَتْ؛ لأنَّ الشُّبَه لا تَزَالُ تَتَوَارَدُ عَلَى أصْحَابِها إمَّا بِحُكْمِ ضَعْفِ الإيْمَانِ، أو قِلَّةِ العِلْمِ !
فَنَرَى مِنَ المُنَاسِبِ أنْ نَقِفَ مَعَ أهَمِّ هَذِه الشُّبَهِ لا سِيَّمَا الَّتِي كَانَتْ مَحَلاً لأنْظَارِهِم، ومَرْجَعًا لأوْهَامِهِم !
* * *
لا شَكَّ أنَّ هَيْشَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إذَا غَصَّتْ بِهِمُ الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، والقَوَاطِعُ البُرْهَانِيَّةُ؛ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِه الرِّسَالِةِ، وغَيْرِها، أو ضَاقَتْ بِهِم هَذِه المَحْظُوْرَاتُ الشَّرْعِيَّةُ؛ نَرَاهُمْ يَجْعَلُوْنَ مِنَ الشُّبُهَاتِ مَسْرَحًا وَاسِعًا، فِي التَّعَلُّقِ والتَّمَلُّقِ وَلَوْ بِبَيْتِ العَنْكَبُوْتِ !، فَمِمَّا قَالُوْا :
1ـ ( كُرَةُ القَدَمِ ) خَيْرٌ للشَّبَابِ مِنْ انْتِهَاكِ المُحَرَّمَاتِ !
2ـ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) حِفْظٌ لأوْقَاتِ الشَّبَابِ !
3 ـ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَقْوِيَةٌ لأبْدَانِ الشَّبَابِ !
4 ـ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) انْتِصَارٌ عَلَى الكُفَّارِ فِي المُبَارَيَاتِ !
5 ـ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) رَفْعٌ لَعَلَمِ التَّوْحِيْدِ : ( لا إلَه إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ ) !
6ـ الأصْلُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) الإبَاحَةُ !
7ـ إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) كَانَتْ مَعْرُوْفَةً فِي كُتُبِ المَعَاجِمِ العَرَبِيَّةِ، مَشْهُوْرَةً فِي حَيَاةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ .(1/409)
8 ـ لَيْسَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَشَبُّهٌ بالكُفَّارِ !
9ـ نَحْنُ لا نَلْعَبُ ( كُرَةَ القَدَمِ )؛ بَلْ نُشَاهِدُها، ونُتَابِعُها دُوْنَ تَعَصُّبٍ !
10ـ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وَسِيْلَةٌ دَعَوِيَّةٌ !
* * *
أمَّا الرَّدُّ عَلَى هَذِه الشُّبَهِ؛ فَلَنْ يَكُوْنَ أكْثَرَ مِنْ كَلِمَاتٍ مُخْتَصَرَةٍ، ووَقَفَاتٍ مُعْتَصَرَةٍ، مَجْمُوْعَةً فِي حِوَاراتٍ، ومُنَاظَرَاتٍ عَبْرَ سُؤلاتٍ وجَوَابَاتٍ؛ ومَا ذَاكَ إلاَّ أنَّ أكْثَرَ هَذِه الشُّبَهِ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَنْهَا : قَصْدًا، أو تِبَاعًا فِي مَثَانِي، ومَطَاوِي أصْلِ الكِتَابِ؛ فَكُنْ عَلَى ذُكْرٍ مِنْ ذَلِكَ يَا رَعَاكَ اللهُ(1) !
وقَدْ عَنْوَنْتُ لِهَذِه الشُّبَهِ، والرَّدِّ عَلَيْها بِعُنْوَانٍ :
" المُنَاظَرَةُ الرِّيَاضِيَّةُ "
الشُّبْهَةُ الأوْلَى : إذَا قَالُوا : ( كُرَةُ القَدَمِ ) خَيْرٌ للشَّبَابِ مِنْ انْتِهَاكِ المُحَرَّمَاتِ !
قُلْتُ : مَا هِيَ المُحَرَّمَاتُ الَّتِي تَخَافُوْنَها عَلَيْهم .
قَالُوْا : الزِّنَا، والخَمْرُ، والغِنَاءُ … إلخ .
قُلْتُ : إذَا كَانَ الشبابُ الَّذِيْنَ تَقْصِدُوْهُم مُسْلِمِيْنَ، فأيُّهُمَا أوْلَى : أنْ نَدْعُوْهُم إلى الحَقِّ المُبِيْنِ، والسَّبِيْلِ القَوِيْمِ؛ مِنَ : القُرْآنِ، والسُّنَّةِ، والاسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيْقِ الأنْبِيَاءِ، والصَّالِحِيْنَ كَمَا عَلَيْه سَلَفُ الأمَّةِ مِنَ السَّابِقِيْنَ، أمْ الأوْلَى أنْ نَدْعُوْهُم إلى ( كُرَةِ القَدَمِ ) ؟
__________
(1) ـ لَقَدْ اخْتَصَرْتُ لَكَ أخِي المُسْلِمُ رُؤوْسَ مَسَائِلِ هَذَا الكِتَابِ، واعْتصَرْتُ لُبَابَ أحْكَامِه فِي هَذِه المُنَاظَرَةِ الرِّياضِيَّةِ، مِمَّا سيُغْنِيْكَ عَنْ مُطَالَعَةِ أكْثَرِه إنْ شَاءَ اللهُ؛ رَجَاءَ تَقْرِيْبِ الفَائِدَةِ، وتَهْذِيْبِ العَائِدَةِ لِمَنْ ضَاقَ وَقْتُه، أو كَثُرَ شُغْلُه، واللهُ المُوَفِّقُ .(1/410)
قَالُوْا : لا شَكَّ أنَّ دَعْوَتَهُم إلى الاسْتِقَامَةِ عَلَى طَرِيْقِ الصَّالِحِيْنَ؛ خَيْرٌ وأفْضَلُ، ولَكِنَّنَا نَخْشَى أنْ نَدْعُوْهُم إلى هَذَا الطَّرِيْقِ فَلا يَسْتَقِيْمُوا، أو لا يَسْتَجِيْبُوا .
قُلْتُ : هَلْ مَا تَقُوْلُوْنَه هُنَا : عِلْمٌ يَقِيْنِيٌّ تَعْلَمُوْنَه، أمْ عِلْمٌ تَظُنُّوْنَه ؟
قَالُوْا : إنَّه ظَنٌّ، ولا شَكٌّ !
قُلْتُ : إنَّ مَا نَجْنِيْهِ مِنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بَيْنَ الشَّبَابِ لا يَخْرُجُ عَنِ : العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ، والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، والسَّبِّ، والشَّتْمِ، وضَيَاعِ الطَّاقَاتِ، والأوْقَاتِ … مِمَّا هُوَ مَعْلُوْمٌ عِلْمَ اليَقِيْنِ لَدَى الجَمِيْعِ، فَكَيْفَ تُقَدِّمُوْنَ بَعْدَ هَذَا : مَا هُوَ ظَنِّيٌّ عَلَى مَا هُوَ قَطْعِيٌّ ؟
قَالُوْا : نَحْنُ نُقِرُّ بِمَا تُجْنِيْه ( كُرَةُ القَدَمِ ) بَيْنَ الشَّبَابِ، ولَكِنْ بَقَاءهُم عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) أقَلَّ ضَرَرًا، وفَسَادًا .
قُلْتُ : أيُّهُمَا أكْبَرُ ضَرَرًا، وفَسَادًا، ومَقْتًا عِنْدَ اللهِ : العَدَاءُ، والبَغْضَاءُ، والصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، والحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ، والتَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ…إلخ، مِمَّا هُوَ مَعْلُوْمٌ يَقِيْنًا، أمْ الخَمْرُ، والزِّنَا مِمَّا هُوَ مَظْنُوْنٌ يَقِيْنًا ؟، والجَوَابُ قَطْعًا : أنَّ مَا هُوَ مَعْلُوْمٌ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا هُوَ مَظْنُوْنٌ .(1/411)
كَمَا أنَّنَا نَطْرَحُ سُؤالاً لَكُم بطَرِيْقِ اللازِمِ وهُوَ : مَا تَقُوْلُوْنَ لِمَنْ يَقُوْلُ : إشْغَالُ الشَّبَابِ بالخُمُوْرِ، والأفْلامِ الخَلِيْعَةِ، والقَصَّاتِ الرَّقِيْعَةِ، والتَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ، وتَرْكِ الجَمَاعَاتِ … إلخ، خَيْرٌ مِنَ الزِّنَا، والعَدَاءِ، والرِّبَا …إلخ؛ لأنَّ المُحَرَّمَاتِ الأُوْلَى أقَلُّ ضَرَرًا، ولأنَّهَا لا تَتَعَدَى عَلَى الآخَرِيْنَ؛ خِلافًا للمُحَرَّمَاتِ الأخْرَى الَّتِي ضَرَرُها مُتَعَدٍّ ؟!
قَالُوْا : هَذَا المَطْلَبُ مُغَالَطَةٌ وحَرَامٌ، ولا يَجُوْزُ طَرْحُه؛ فَضْلاً أنْ يُجْعَلَ مَحَلاًّ للمُفَاضَلَةِ !
قُلْتُ : إذَا كَانَ الأمْرُ مَا تَقُوْلُوْنَ، وهُوَ كَذَلِكَ، فَمَا تَطْلُبُوْنَه أنْتُم لَيْسَ عَنْ هَذَا المَطْلَبِ ببَعِيْدٍ، وذَلِكَ إذَا عَلِمْنا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) فِيْها مِنَ المُحَرَّمَاتِ، والمُوْبِقَاتِ مَا تَفُوْقُ الخَمْرَ، والمَيْسِرَ !
قَالُوْا : نَحْنُ نُطَالِبُ بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) لأنَّنا : أعْلَمُ بالشَّبَابِ، ومَا يُرِيْدُوْنَ .
قُلْتُ : هَذِه مُقَامَرَةٌ بِعُقُوْلِ الشَّبَابِ، وغِشٌّ فِي نَصِيْحَتِهِم، وتَضْيِيْعٌ لِحُقُوْقِهِم، وخِيَانَةٌ لأمَانَاتِهِم… كُلُّ ذَلِكَ مِنْكُم : تَمْرِيْرًا لأهْوَائِكِم، وتَلْبِيَةً لرَغَبَاتِكِم، وتَسْلِيَةً لشَهَوَاتِكِم، وغَيْرُ ذَلِكَ يُعَدُّ مِنْكُم ضَرْبَ خَيَالٍ، أو إرْبَ خَبَالٍ .
* * *
الشُّبْهَةُ الثَّانيةُ : وإذَا قَالُوْا : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) حِفْظٌ لأوْقَاتِ الشَّبَابِ !
قُلْتُ : لا نَشُكُّ جَمِيْعًا أنَّ الأوْقَاتِ الَّتِي يَقْضِيْها الشَّبَابُ فِي مَسَارِحِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) أضْعَافَ أضْعَافَ مَا يَقْضُوْنَه فِيْمَا سِوَاهَا مِنَ الأوْقَاتِ .
قَالُوْا : هَذَا إذَنْ خَيْرٌ أمَلاً؛ مِنْ أنْ يَقْضُوْهُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ .(1/412)
قُلْتُ : إلاَّ أنَّنا لا نُسَلِّمُ لَكُم بِوُجُوْدِ الفَائِدَةِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )؛ لأنَّنا لَوْ سَألْنَا أوَّلاً عَنِ الأوْقَاتِ الَّتِي تُشْغَلُ فِي عَالَمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) ؟، هل هي ذاتُ فائدةٍ معتبرةٍ في الدنيا والآخرة، أم منعدمة الفائدة ؟
إنَّ الجَوَابُ دُوْن ارْتِيَابٍ : إنَّهَا تُشْغَلُ فِي غَيْرِ فَائِدَةٍ : كاللَّعِبِ، واللَّهْوِ، والتَّرْفِيْهِ، والتَّرْوِيْحِ، والحَالَةُ هَذِه لا يَجُوْزُ هَذَا منهم شَرْعًا، لأنَّ وَقْتَ المُسْلِمِ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا، فَكَانَ الأوْلَى أنْ تُقْضَى أوْقَاتُ الشَّبَابِ فِي طَاعَةِ الله تَعَالَى، لا فِي اللَّعِبِ، واللَّهْوِ، وفِي سَابِقِ عِلْمِنَا أنَّ مُعْظَمَ أوْقَاتِ الشَّبَابِ تُقْضَى فِي مَتَاهَاتِ، وسَخَافَاتِ مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، كَمَا أنَّنا هُنَا نَتَكَلَّمُ عَنْ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ، لا شَابٍ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ !
فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه؛ إذَا عَلِمَ الجَمِيْعُ أنَّ كَرَاكِرَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَقْضُوْنَ أوْقَاتِهم فِي : العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ، والصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، والسَّبِّ، والشَّتْمِ، وضَيَاعِ الطَّاقَاتِ، والأوْقَاتِ، والأمْوَالِ … مِمَّا هُوَ مَعْلُوْمٌ يَقِيْنًا، ومُشَاهَدٌ عَيَانًا ؟!
* * *
الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ : وإذَا قَالُوْا : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَقْوِيَةٌ لأبْدَانِ الشَّبَابِ !(1/413)
قُلْتُ : لقَدْ أغْنَانَا اللهُ تَعَالَى بالفُرُوْسِيَّةِ الإيْمَانِيَّةِ، والشَّجَاعَةِ الإسْلامِيَّةِ، والألْعَابِ الشَّرْعِيَّةِ؛ الَّتِي تَأثِيْرُها فِي الغَضَبِ عَلَى أعْدَاءِ اللهِ، ونُصْرَةِ دِيْنِه، عَنِ الفُرُوْسِيَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، والألْعَابِ المُحَرَّمَةِ، كـ(كُرَةِ القَدَمِ) وغَيْرِها، الَّتِي تُعِيْنُ عَلَى بَعْثِ العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ، والضَّرَرِ، والفَسَادِ، وحَمَيَّةِ الجَاهِلِيَّةِ، كَمَا أنَّه قَدْ كَفَانَا فِي الرَّدِّ عَلَى هَذِه الشُّبْهَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ حُمُوْدٌ التُّوَيْجِرِيُّ رَحمَهُ اللهُ .
حَيْثُ قَالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " فإنِ ادَّعَى المُتَشَبِّهُوْنَ بأعْدَاءِ الله تَعَالَى، أنَّهُم إنِّمَا يُرِيْدُوْنَ باللَّعِبِ بالكُرَةِ : رِيَاضَةَ الأبْدَانِ، لِتَعْتَادَ عَلَى النَّشَاطِ، والصَّلابَةِ .
فَالجَوَابُ أنْ يُقَالَ : إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ للمُسْلِمِيْنَ فِي الرِّياضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ غُنْيَةً، ومَنْدُوْحَةً، عَنِ الرِّيَاضَاتِ الإفْرَنْجِيَّةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ : المُسَابَقَةُ عَلَى الخَيْلِ، وقَدْ سَابَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُما، وفَعَلَ ذَلِكَ أصْحَابُه، والمُسْلِمُوْنَ بَعْدَهُم" .
وقَالَ أيْضًا ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ومَنْ لَمْ يَكْتَفِ بالرِّياضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، ولَمْ يَسَعْهُ مَا وَسِعَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، فلا كَفَاهُ اللهُ، ولا وَسَّعَ عَلَيْه فِي الدُّنْيِا والآخِرَةِ، ومَنْ آثَرَ الرِّيَاضَاتِ الإفْرَنْجِيَّةِ عَلَى الرِّيَاضَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَذَلِكَ عُنْوَانٌ عَلَى زَيْغِ قَلْبِه، عَيَاذًا باللهِ مِنْ مُوْجِبَاتِ غَضَبِه"(1).
* * *
__________
(1) ـ انظر "الدُّرَرَ السَّنِيَّةَ" (15/217، 229-230 ) .(1/414)
قَالُوْا : لقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَوْلُهُ : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ، وأحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفِي كُلٍّ خَيْرٌ…"(1)مسلم .
قُلْتُ : إنَّ الاسْتِشْهَادَ بِهَذَا الحَدِيْثِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَقْوِيَةِ الأجْسَامِ البَدَنِيَّةِ لَيْسَ مِنَ التَّحْقِيْقِ بِشَيءٍ !
فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُرْشِدْ أُمَّتَهُ يَوْمًا مِنَ الأيَامِ إلى تَقْوِيَةِ وتَرْبيَةِ أجْسَامَهم كَمَا عَلَيْه رِيَاضِيُّو اليَوْمَ الَّذِيْنَ اعْتَنُوا بتَرْبِيَةِ أبْدَانِهم وأجْسَامِهِم؛ حَتَّى عَادَتْ عِنْدَ كَثِيْرٍ مِنْهُم : كَبَهِيْمَةِ الأنْعَامِ!
عِلْمًا أنَّ الشَّرِيعَةَ الإسْلامِيَّةَ ما ذَكَرَتْ ضَخَامَةَ الأجْسَامِ، وتَرْبِيَتَها إلاَّ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ، والتَّحْذِيْرِ!، كَمَا قَالَ تَعَالَى : " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم"[المنافقون 4]، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُوْنَهم … إلى قوله : ثُمَّ يأتِي مِنْ بَعْدِهم قَوْمٌ يَظْهَرُ فِيْهِمُ السِّمَنُ …"(2) مُتَّفَقٌ عَلَيْه، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكِم، وأمْوَالِكِم، …"(3) مُسْلِمٌ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، والآثَارِ السَّلَفِيَّةِ النَّاهِيَةِ عَنْ تَرْبِيَةِ الأبْدَانِ، والأجْسَامِ ترْبيَةً خارجِةً عَنِ الاعْتِدَالِ، والتَّوَسُّطِ في المَأكَلِ، والمَشْرَبِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا عَلَيْه الرِّيَاضِيُّونَ !، وهَذَا مَا عَلَيْه شُرَّاحُ الحَدِيثِ مِنْ أهْلِ العِلْمِ .
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (2664) .
(2) ـ أخرجه البخاري ( 3/224 )، ومسلم ( 7185 ) .
(3) ـ أخرجه مسلم ( 8/11 ) .(1/415)
فَهَذَا الإمَامُ النَّوَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ يَقُوْلُ عِنْدَ شَرْحِه لِهَذا الحَدِيْثِ : " والمُرَادُ بالقُوَّةِ هُنَا عَزِيْمِةُ النَّفْسِ، والقَرِيْحَةُ فِي أُمُوْرِ الآخِرَةِ، فَيَكُوْنُ صَاحِبُ هَذَا الوَصْفِ أكْثَرَ إقْدَامًا عَلَى العَدُوِّ فِي الجِهَادِ، وأسْرَعَ خُرُوْجًا إلَيْه، وذَهَابًا فِي طَلَبِه، وأشَدَّ عَزِيْمَةً فِي الأمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، والصَّبْرِ عَلَى الأذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ، واحْتِمَالَ المَشَاقِّ فِي ذَاتِ اللهِ تَعَالَى، وأرْغَبَ فِي الصَّلاةِ، والصَّوْمِ، والأذْكَارِ، وسَائِرِ العِبَادَاتِ، وأنْشَطَ طَلَبًا لَهَا، ومُحَافَظَةً عَلَيْها، ونَحْوَ ذَلِكَ"(1)، وهُوَ مَا ذَكَرَهُ المُلاَّ عَلِيٌّ القَارِيُّ فِي "مِرْقَاةِ المَفَاتِيْحِ" : " قِيْلَ : المُرَادُ بالمُؤْمِنِ القَوِيِّ الصَّابِرِ عَلَى مُخَالَطَةِ النَّاسِ، وتَحَمُّلِ أذِيَّتِهم، وتَعَلِيْمِهم الخَيْرَ، وإرْشَادِهِم إلى الهُدَى، ويُؤَيِّدُه مَا رَوَاه أحْمَدُ، وغَيْرُه عَنِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا : " المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، ويَصْبِرُ عَلَى أذَاهُم؛ أفْضَلُ مِنَ المُؤْمِنِ الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ، ولا يَصْبِرُ عَلَى أذَاهُم"(2). وقِيْلَ : أرَادَ بالمُؤْمِنِ القَوِيِّ؛ قَوِيٌّ فِي أيْمَانِه، وصَلْبٌ فِي إيْقَانِه؛ بِحَيْثُ لا يَرَى الأسْبَابَ، ووَثِقَ بِمُسَبِّبِ الأسْبَابِ، والمُؤْمِنُ الضَّعِيْفُ بِخِلافِهِ؛ وهُوَ فِي أدْنَى مَرَاتِبِ الإيْمَانِ"(3).
__________
(1) ـ "شرح مسلم" للنووي (16/329) .
(2) ـ أخرجه أحمد ( 5022 ) .
(3) ـ "مِرْقَاةُ المَفَاتِيْحِ" لملا قارئ (9/153-154) .(1/416)
وهَذَا مَا قرَّرَه شَيْخُنا العُثَيْمِيْنُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ فِي شَرْحِه عَلَى "رِيَاضِ الصَّالِحِيْنَ" بِقَوْلِه : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ : يَعْنِي فِي إيْمَانِه، ولَيْسَ المُرَادُ القَوِيُّ فِي بَدَنِه؛ لأنَّ قُوَّةَ البَدَنِ ضَرَرٌ عَلَى الإنْسَانِ إذَا اسْتَعْمَلَ هَذِه القُوَّةَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، فَقُوَّةُ البَدَنِ لَيْسَتْ مَحْمُوْدَةً، ولا مَذْمُوْمَةً فِي ذَاتِها، إنْ كَانَ الإنْسَانُ اسْتَعْمَلَ هَذِه القُوَّةَ فَيْما يَنْفَعُ فِي الدُّنْيَا، والآخِرَةِ صَارَتْ مَحْمُوْدَةً، وإنْ اسْتَعَانَ بِهَذِه القُوَّةِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ صَارَتْ مَذْمُوْمَةً .
لَكِنِ القُوَّةُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ"، أيْ : قَوِيُّ الأيْمَانِ؛ ولأنَّ كَلِمَةَ القَوِيِّ تَعُوْدُ إلى الوَصْفِ السَّابِقِ وهُوَ الإيْمَانِ، كَمَا تَقُوْلُ : الرَّجُلُ القَوِيُّ : أيْ فِي رُجُوْلَتِه، كَذَلِكَ المُؤْمِنُ القَوِيُّ : يَعْنِي فِي إيْمَانِه؛ لأنَّ المُؤْمِنَ القَوِيَّ فِي إيْمَانِه تَحْمِلُه قُوَّةُ إيْمَانِه عَلَى أنْ يَقُوْمَ بِمَا أوْجَبَ اللهُ عَلَيْه، وعَلَى أنْ يَزِيْدَ مِنْ النَّوَافِلِ مَا شَاءَ اللهُ، والضَّعِيْفُ الإيْمَانُ يَكُوْنُ إيْمَانُه ضَعِيْفًا لا يَحْمِلُه عَلَى فِعْلِ الوَاجِبَاتِ، وتَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، فَيُقَصِّرَ كَثِيْرًا"(1).
* * *
فِي حِيْنَ أنَّنا نَجِدُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ أفْصَحَ عَنْ بَيَانِ مَعْنَى القُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِه " ألاَ إنَّ القوَّةَ الرَّميُ، ألاَ إنَّ القوَّةَ الرَّميُ …"(2)مُسْلِمٌ .
__________
(1) ـ "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (3/91-92) .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 1918 ) .(1/417)
وبَعْدَ هَذِه النُّقُولاتِ لأهْلِ العِلْمِ في شَرْحِ هَذَا الحَدِيْثِ، فَلَيْسَ لأحَدٍ كائنًا مَنْ كَانَ أنْ يَحْمِلَ الحَدِيْثَ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاه الشَّرْعيِّ، لاسِيَّمَا مُرَوِّجو ( كُرَةِ القَدَمِ ) خَاصَّةً، والرِّيَاضَةِ عَامَّةً !، كما أنَّ هَذَا لا يَعْنِي ( ضَرُوْرَةً ) أنَّ الحَدِيْثَ لا يَدُلُّ رَأسًا عَلَى تَقْوِيَةِ الأبْدَانِ؛ بَلْ تَأتِي تَقْوِيَةُ الأبْدَانِ تِبَاعًا؛ لا قَصْدًا، ولا أصْلاً، فَفَرْقٌ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْه الحَدِيْثُ أوَّلاً، ومَا احْتَمَلَه ثَانِيًا !
يُوَضِّحُه : أنَّكَ إذَا رَأيْتَ مُجَاهِدًا مِنْ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ، رَأيْتَه فِي قُوَّتِه القَلْبِيَّةِ، والبَدَنِيَّةِ، دُوْنَ نَظَرٍ إلى ضَخَامَةِ جِسْمِه، أو نُحُوْلَتِه، وهَذَا شَأنُ كُلِّ مَنْ أرَادَ أنْ يَأخُذَ بِحَظِّ الفُرُوْسِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ : سِبَاقٍ، ونِضَالٍ، وغَيْرِهِما .
وهُنَاكَ أمْرٌ آخَرُ، وهُوَ مَا يَعْلَمُه الجَمِيْعُ، وذَلِكَ فِيْمَا تُخَلِّفُه ( كُرَةُ القَدَمِ ) مِنْ أضْرَارٍ بَدَنِيَّةٍ فَادِحَةٍ عَلَى لاعِبِيْها : كالكُسُوْرِ، والرُّضُوْضِ، وتَمْزِيْقِ الأعْصَابِ، والعَضَلاتِ، وارْتِجَاجِ المُخِ، والإغماء مَا هُوَ أشْهَرُ مِنْ نَارٍ عَلَى عَلَمٍ، فَكَيْفَ نَدَّعِي تَقْوِيَةَ الأبْدَانِ، ونَتَجَاهَلُ الأضْرَارَ الكَبِيْرِةَ ؟!
* * *
ولَوْ فُرِضَ ( جَدَلاً ) أنَّ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَوَائِدَ، فَهِي قَلِيْلَةٌ جِدًّا بالنِّسْبَةِ لأضْرَارِها، ومَفَاسِدِها، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَكُوْنُ حَرَامًا، كَمَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى الخَمْرَ، والمَيْسِرَ مَعَ أنَّ فِيْهِمَا مَنَافِعَ؛ إلاَّ أنَّ إثْمَهُما أكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ! قَالَ تَعَالَى : " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"[ البقرة219] .
* * *(1/418)
الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ : وإذَا قَالُوْا : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) انْتِصَارٌ عَلَى الكُفَّارِ فِي المُبَارَيَاتِ !
قُلْتُ : إنَّ كَلِمَةَ "النَّصْرِ" لَفْظَةٌ شَرْعِيَّةٌّ .
قَالُوْا : مَا مَعْنَى لَفْظٌ شَرْعِيٌّ ؟
قُلْتُ : أيْ مَا دَلَّتْ عَلَيْه الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ؛ إمَّا بِذَمٍّ، أو مَدْحٍ .
قَالُوْا : ومَا لَفْظُهُ هُنَا ؟
قُلْتُ : إنَّ النَّصْرَ مِنَ الألْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي مَدَحَتْها الشَّرِيْعَةُ الإسْلامِيَّةُ فِي القُرْآنِ، والسُّنَّةِ، وأثْنَتْ عَلَيْه، وعَلَى أصْحَابِه؛ بَلْ أمَرَتْ بِه أمْرَ إيْجَابٍ، أو اسْتِحْبَابٍ .
فإنَّ النَّصْرَ الشَّرْعِيَّ : هُوَ النَّصْرُ عَلَى النَّفْسِ، والشَّيْطَانِ، والمُنَافِقِيْنَ، والكُفَّارِ؛ فالأوَّلُ : يَكُوْنُ بِحَمْلِ النَّفْسِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وحِفْظِها مِنْ مَعَاصِيْه، والثَّانِي : يَكُوْنُ بالاسْتِعَاذَةِ باللهِ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ، والثَّالِثُ : يَكُوْنُ بِمُجَاهَدَةِ المُنَافِقِيْنَ بالحُجَّةِ والبَيَانِ، واللِّسَانِ والسُّلْطَانِ، والرَّابِعُ : يَكُوْنُ بِمُجَاهَدَةِ الكُفَّارِ بالبَنَانِ، والسِّنَانِ فِي أرْضِ الجِهَادِ .
قَالُوْا : فَنَصْرُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ أيِّ الأقْسَامِ الأرْبَعَةِ ؟
قُلْتُ : ( كُرَةُ القَدَمِ ) لَيْسَتْ مِنَ النَّصْرِ بِشَيْءٍ؛ بَلْ هِيَ فَسَادٌ لا جِهَادٌ، ومَعْصِيَةٌ لا طَاعَةٌ، وغِوَايَةٌ لا هِدَايَةٌ، وعَبَثٌ ولَعِبٌ، لا جِدٌّ واجْتِهَادٌ !(1/419)
أمَّا إذَا أبَيْتُمْ إلاَّ أنْ تَكُوْنَ ( كُرَةُ القَدَمِ ) نَصْرًا، وقُوَّةً، وعِزَّةً، فَلا بُدَّ أنْ تَلْتَزِمُوا بِهَذَا اللازِمِ، وهو : إذَا كَانَتِ العِزَّةُ، والقُوَّةُ، والنَّصْرُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَلا بُدَّ أنْ تُقِرُّوْا ( حَالاً، أو مَقَالاً ) : أنَّ الكُفَّارَ أهْلُ نَصْرٍ، وعِزَّةٍ، وقُوَّةٍ !
لأنَّ النَّصْرَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) غَالِبًا يَكُوْنُ حَلِيْفَ الكُفَّارِ : كالأرْجَنْتِيْنِ، وإيْطَالِيَا … وغَيْرِها كَثِيْرٌ لا كَثَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى .
كَمَا يَلْزَمُكُم أيْضًا أنْ تُقِرُّوْا : بأنَّ المُسْلِمِيْنَ أهْلُ هَزِيْمَةٍ، وضَعْفٍ؛ لأنَّ الهَزِيْمَةَ غَالِبًا تَكُوْنُ حَلِيْفَتَهم، ويَشْهَدُ لِهَذَا : أنَّهُم لَمْ يَنَالُوا كأسَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى مُسْتَوَى المُبَاريَاتِ الدُّوَلِيَّةِ العَالَمِيَّةِ؛ بَلْ لَمْ يَحْلَمُوْا بِهِ !؛ لِذَا لا يَجُوْزُ لَكُمْ أنْ تُقَامِرُوا بالإسْلامِ فِي مَلاعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَا بَيْنَ نَصْرٍ، أو هَزِيْمَةٍ .(1/420)
ويَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى أنْ يُنَزَّلَ العَدُوُّ عَلَى حُكْمِ اللهِ ورَسُوْلِه، مَعَ كَوْنِهِ فِي مُقَامِ الجِهَادِ الشَّرْعِيِّ مَعَ العَدُوِّ، خَشْيَةَ أنْ يُخْطِيَ المُسْلِمُ فِي حُكْمِ اللهِ ورَسُوْلِه، أو يُنْقِضَهُ، فَيَعُوْدَ خَطَأ الرَّجُلِ المُسْلِمِ حِيْنَئِذٍ للشَّرْعِ، لا عليه، ولَكِنَّ الأسْلَمَ أنْ يُنَزِّلَهُم عَلَى حُكْمِه، وهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِه : " … وإذَا حَاصَرْتَ أهْلَ حُصْنٍ، فأرَادُوْكَ أنْ تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ، وذِمَّةَ نَبِيَّهِ، فَلا تَجْعَلْ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ، وذِمَّةَ نَبِيِّه، ولَكِنْ اجْعَلْ لَهُم ذِمَّتَكَ، وذِمَّةَ أصْحَابِكَ، فإنَّكُم إنْ تَخْفِرُوا ( تُنْقِضُوا ) ذِمَمَكُم، وذِمَّةَ أصْحَابِكِم، أهْوَنَ مِنْ أنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ، وذِمَّةَ نَبِيِّه"(1) مُسْلِمٌ.
فَبَعْدَ هَذَا؛ كَانَ عَلَيْنا أنْ نَعْلَمَ أنَّ الإسْلامَ أعْظَمُ مَنْزِلاً، وأعْلَى مُقَامًا مِنْ أنْ نَخُوْضَ بِهِ مُسْتَنْقَعَاتِ اللَّهْوِ، واللَّعِبِ .
هَذَا إذَا عَلِمْنا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مُسْتَنْقَعٌ آجِنٌ : مِنَ العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ، وضَيَاعِ الأوقات، وهَدْرِ الأمْوَالِ، والسِّبَابِ، والتَّصْفِيْقِ، والرَّقْصِ، والغِنَاءِ … إلخ .
* * *
الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ : وإذَا قَالُوْا : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) رَفْعٌ لَعَلَمِ التَّوْحِيْدِ : ( لا إلَه إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ ) !
__________
(1) ـ أخرجه مسلم ( 1731 ) .(1/421)
قُلْتُ : إنَّ وَضْعَ كَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ : ( لا إلَه إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ ) عَلَى العَلَمِ، أو نَحْوِهِ، لا يَجُوْزُ شَرْعًا؛ لأنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيْدِ عَظِيْمَةٌ، مُحْتَرَمَةٌ : فَهِي عَقِيْدَةٌ، ومَنْهَجٌ، لا شِعَارٌ، وأعْلامٌ .
كَمَا أنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيْدِ؛ إذَا وُضِعَتْ عَلَى العَلَمِ، سَوْفَ تُمْتَهَنُ، وتُهَانُ، وتُذَلُّ، وذَلِكَ لأمُوْرٍ :
أوَّلاً : أنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يَحْمِلْها مَعَه فِي الغَزَوَاتِ، ولا أحَدٌ مِنْ أصْحَابِه، ولا سَلَفُ هَذِه الأمَّةِ؛ بَلْ مَا عُرِفَتْ هَذِه الأعْلامُ ( التَّوْحِيْدِيَّةُ ! ) إلاَّ فِي بَقَايَا الخُلُفِ، ودُوَيْلاتِ الخَلَفِ .
ثانيًا : أنَّنا إذَا دَخَلْنا أرْضَ المَعَارِكِ وهِيَ بَيْنَ أيْدِيْنا، وفَوْقَ رُؤُوْسِنا؛ لَرُبَّمَا انْهَزَمْنَا أمَامَ العَدُوِّ ( لا سِيَّمَا هَذِه الأيَّامِ الَّتِي نَحْنُ فِيْها أهْوَنَ مَا نَكُوْنُ إلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ )، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَوْفَ نُحَمِّلُ كَلِمَةَ التَّوْحِيْدِ هَزَائِمَنا، وأخْطَاءنا !
ثَالِثًا : لا نَنْسَ أنَّ عَلَمَ التَّوْحِيْدِ هَذِه الأيَّامِ، أصْبَحَ مُبْتَذَلاً للأسَفِ، وذَلِكَ يَوْمَ نَرَاهُ مَحْمُولاً فِي أيْدِي العُصَاةِ : حَيْثُ نَرَاهُم يَحْمِلُوْنَه، وهُمْ بَيْنَ غِنَاءٍ، وتَصْفِيْقٍ، ورَقْصٍ، ورُبَّمَا أدْخَلُه بَعْضُهُم أمَاكِنَ نَجِسَةٍ، كَمَا أنَّ بَعْضَهم يَلْتَحِفُوْنَ بِه عَلَى أبْدَانِهِم، ومِنْهُم مَنْ يَسْحَبْه عَلَى الأرْضِ سَوَاءٌ بسَيَّارَتِه، أو غَيْرِهَا … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الامْتِهَانَاتِ، والابْتِذَالاتِ !
كَمَا أنَّنَا رَأيْنَاهُ للأسَفِ يُرْفَعُ فِي أمَاكِنِ المَعْصِيَةِ : كالمَسَارِحِ الغِنَائِيَّةِ، والبُنُوْكِ الرِّبَوِيَّةِ، وغَيْرِها .(1/422)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ كَلِمَةَ التَّوْحِيْدِ : ( لا إلَه إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ ) قَدْ تَكُوْنُ أشَدُّ امْتِهَانًا، وابْتِذَالاً يَوْمَ تُحْمَلُ ( تُرَفْرِفُ ! ) فِي اللِّقَاءاتِ الدُّوَلِيَّةِ، والمُبَارَيَاتِ العَالَمِيَّةِ لِـ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِهَا، بَيْنَ أعْلامِ بِلادِ الكُفْرِ، والزَّنْدَقَةِ مُجْتَمِعَةً مَعَ هَذِه الكُفْرِيَّاتِ : بِجَامِعِ ألاعِيْبَ شَيْطَانِيَّةٍ؛ مُجَارَاةً لمُجَّانِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) !
فِي حِيْنَ أنَّنا ( المُسْلِمِيْنَ ) أقَلُّ النَّاسِ فَوْزًا عَلَى الكُفَّارِ فِي مُبَارَيَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وهَذَا لا يَخْتَلِفُ عَلَيْه عَاقِلٌ رَشِيْدٌ، ومِنْه سَوْفَ نُحَمِّلُ كَلِمَةَ التَّوْحِيْدِ : الهَزِيْمَةَ، والهَوَانَ، والصَّغَارَ، أبَيْنَا، أم ارْتَضَيْنا !
* * *
كَمَا أنَّ فِي حَمْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ بِهَذِه الصُّوَرِ المُبْتَذَلَةِ : نِفَاقٌ حَقِيْقِيٌّ، أو ضِمْنِيٌّ .
لأنَّ المُنَافِقِيْنَ، كَانُوا يَشْهَدُوْنَ بالتَّوْحِيْدِ، ويَقُوْلُوْنَ بأفْوَاهِهِم مَا تُكَذِّبُه قُلُوْبُهُم، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ حَمَلَ كَلِمَةَ التَّوْحِيْدِ، وهُوَ يُجَاهِرُ بالمَعَاصِي، أو الفُجُوْرِ؛ فَلا شَكَّ أنَّ هَذَا عَيْنُ النِّفَاقِ العَمَلِي؛ بَلْ رُبَّمَا تَعَدَّاه إلى النِّفَاقِ الاعْتِقَادِي عَيَاذاً باللهِ!، وهَذَا مَا نَخْشَاهُ عَلَى كَثِيْرٍ مِمَّنْ يَحْمِلُ هَذَا العَلَمَ دُوْنَ تَحْقِيْقٍ لِمَعْنَاه !
* * *(1/423)
كَمَا أنَّ فِي حَمْلِ كَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ تَزْكِيَةً …!، حَيْثُ بَاتَ مِنَ المَعْلُوْمِ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَدْ غَيَّرَ كَثِيْرًا مِنَ الأسْمَاءِ الَّتِي تَحْمِلُ فِي مَعَانِيْها تَزْكِيَةً، مِثْلُ : بَرَّةٍ، ويَسَارٍ(1)…وغَيْرِهِمَا، كُلُّ ذَلِكَ خَشْيَةَ أنْ يُمْتَهَنَ هَذَا الاسْمَ مِنْ صَاحِبِه، وهُوَ لا يَشْعُرُ، أو يُوْضَعُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِه !، فَيُقَالُ مَثَلاً : هَلْ عِنْدَكَ بَرَّةُ، فَتَقُوْلُ : لا، ونَحْوُهُ فِي يَسَارٍ، وهَكَذَا .
والدَّلِيْلُ عَلَى ذَلِكَ : أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى أنْ يُسَمَّى بَرَّةُ، وقَالَ : " لا تُزَكُّوْا أنْفُسُكُم، اللهُ أعْلَمُ بأهْلِ البِرِّ مِنْكُم"(2) مُسْلِمٌ، وغَيْرُها مِنَ الأحَادِيْثِ النَّبَوِيَّةِ الكَثِيْرَةِ(3).
فَإذَا عُلِمَ هَذَا؛ كَانَ النَّهْيُ فِي وَضْعِ كَلِمَةِ التَّوْحِيْدِ : ( لا إلَه إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ ) عَلَى العَلَمِ، دُوْنَ اعْتِبَارٍ لها، أو تَحْقِيْقٍ لِمَعْنَاها، أو أنْ تُوْضَعَ فِي أيْدِي مَنْ لا يُحْسِنُ حَقِيْقَتَها، فالنَّهِيُ هُنَا أوْلَى؛ بَلْ التَّحْرِيْمُ أوْجَهُ ! واللهُ أعْلَمُ .
__________
(1) ـ انظر البخاري ( 6192 )، ومسلم ( 2141 )، والترمذي (2835)، وانظر "تحفة المودود" لابن القيم ( 226 ) .
(2) ـ أخرجه مسلم ( 2142 ) .
(3) ـ انظر "تحفة المودود" لابن القيم ( 190 وما بعدها )، و( 226 ) .(1/424)
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْنا عَدَمُ حَمْلِ عَلَمِ التَّوْحِيْدِ فِي مَرَابِضِ هَيْشَاتِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ؛ بَلْ فِي كُلِّ مَكَانٍ لا يَتَحَقَّقُ فِيْه مَعْنَاهَا الشَّرْعِيُّ ظَاهِرًا وبَاطِنًا، هَذَا أوَّلاً، كَمَا عَلَيْنا ثَانِيًا : أنْ نَمْنَعَ مُزَاوَلَةَ (كُرَةِ القَدَمِ ) تَوْبَةً للهِ تَعَالَى .
* * *
الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ : فَإذَا قَالُوْا : الأصْلُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) الإبَاحَةُ !
قُلْتُ : هُنَاكَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ الكِبَارِ مَنْ يَرَى أنَّ الأصْلَ فِي الألْعَابِ : التَّحْرِيْمُ، مَا لَمْ يَنُصْ عَلَيْه الدَّلِيْلُ، لِقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ شَيءٍ يَلْهُو بِهِ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ بَاطِلٌ، إلاَّ ثَلاثًا : رَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ، وتأدِيبَه فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتَهُ أهْلَهُ، فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ "(1)أحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ، وغَيْرُهما، ولِلْحَدِيثِ ألْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ.
ولِقْوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " كُلُّ شَيءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ لَغْوٌ ولَهْوٌ، أو سَهْوٌ؛ إلاَّ أرْبَعَ خِصَالٍ : مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الغَرَضَيْنِ، وتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ، ومُلاعَبَتُهُ أهْلَهُ، وتَعَلُّمُ السِّبَاحَةِ" النَّسَائِيُّ، والطَّبَرَانِيُّ(2).
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (17300،17337)، ويشهد له ما قبله، انظر "السلسة الصحيحة" (315)، و"صحيح الترغيب" (1282) للألباني .
(2) ـ أخرجه النسائي في "السنن الكبرى" (8891)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/89)، و"شرح مشكل الآثار" للطحاوي (295)، وهو حديثٌ حسنٌ، وقد صحَّحه الألباني في"الصحيحة" (315)، و"صحيح الترغيب" (1282) .(1/425)
وَجْهُ الدَّلالَةِ مِنَ الحَدِيْثَيْنِ، وغَيْرِهِما : أنَّ وَصْفَ اللِّعْبِ بالبَاطِلِ، والضَّلالِ يَدُلانِ عَلَى حُرْمَةِ اللِّعْبِ مُطْلقًا سَوَاءٌ كَانَ بِمَالٍ، أو لا، وبِهَذَا قاَلَ كُلٌّ مِنْ : الحَنَفِيَّةِ، والقَرَافِيِّ مِنَ المَالِكِيَّةِ، والخَطَّابِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، والبَغَوِيِّ، وغَيْرِهِم(1). وقَدْ مَرَّ مَعَنَا تَفْصِيْلُ هَذِه المَسْألَةِ فِي أصْلِ هَذَا الكِتَابِ(2).
قَالُوْا : نَحْنُ نَأخْذُ بِقَوْلِ الجَمْهُوْرِ؛ وهُوَ أنَّ الأصْلَ فِي الألْعَابِ : الإبَاحَةُ .
قُلْتُ : إنَّ الجَمْهُوْرَ مِنْ أهْلِ العِلْمِ لَمْ يُطْلِقُوا هَذَا الحُكْمَ عَلَى كُلِّ الألْعَابِ دُوْنَ تَقْيِيْدٍ، وضَوَابِطَ.
فَكَانَ مِنْ أهَمِّ الضَّوَابِطِ عِنْدَهُم : ألاَّ تَقْتَرِنْ هَذِه الألُعَابُ : بِمُحَرَّمٍ، أو تَرْكِ وَاجِبٍ، أو ضَرَرٍ .
قَالُوْا : إنَّ الَّذِي يَهِمُّنَا هُنَا هُوَ : ( كُرَةُ القَدَمِ )، فَهَلْ فِي حُكْمِ أصْلِهَا نَظَرٌ ؟
قُلْتُ : لَيْسَ مِنَ الحِكْمَةِ أنْ نَتَجَادَلَ فِي أصْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِقَدْرِ مَا يَهِمُّنَا أنْ نَتَّفِقَ جَمِيْعًا أنَّ فِيْها مِنَ المُحَرَّمَاتِ، والأضْرَارِ، مَا لا يُنْكِرُه كُلُّ عَاقِلٍ، وكُلُّ صَادِقٍ؛ بَلْ وُجُوْدُ آحَادِ هَذِه المُحَرَّمَاتِ، كَافٍ فِي القَطْعِ بتَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
* * *
__________
(1) ـ انظر "بدائع الصنائع" للكاساني (6/206)، و"تبيين الحقائق" للزيلعي (465)، و"حاشية ابن عابدين" (9/651 )، و"الذخيرة" للقرافي (3/466)، و"شرح السنة" للبغوي (6/270)، و"معالم السنة" للخطابي (2/242) .
(2) ـ انظر ص ( ) .(1/426)
ومِنْ نَافِلَةِ العِلْمِ، أنْ يَعْلَمَ الجَمِيعُ أنَّ الأحْكامَ الأرْبَعَةَ ( الوَاجِبَ، والسُّنةَ، والحَرَامَ، والمَكْرُوهَ ) مُتوقِّفةٌ عَلَى وَسَائِلِها المُباحَةِ؛ لأنَّ المُباحَ في حَقِيقَتِه وَسِيْلةٌ لإعْمَالِ هَذِه الأحْكَامِ الشَّرْعيَّةِ، لِذَا كَانَ مِنَ الخَطأ أنْ نَحْكُمَ عَلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بالنَّظَرِ إلى وَسِيلَتِه المُبَاحَةِ في أصْلِها، دُوْنَ النَّظَرِ إلى غَايتِهِ المُحَرَّمةِ؛ وإلاَّ اخْتَلَطَ الحَابِلُ بالنَّابِلُ، وتَغَيَّرَتْ رُسُومُ الشَّرِيعَةِ الإسْلامِيَّةِ عَيَاذًا باللهِ !
عِلْمًا أنَّنِي وللهِ الحَمْدُ قَدْ بَيَّنْتُ حُكْمَ الأصْلِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) : وهُوَ أنَّها مُحَرَّمةٌ، كَمَا هُوَ مَسْطُوْرٌ فِي كِتَابِنَا هَذَا، ولا مَانِعَ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِه مُخْتَصَرًا :
إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الألْعَابِ المُبَاحَةِ أصْلاً، كَلاَّ وكَلاَّ؛ بَلْ هِيَ مُحَرَّمةٌ في ابْتِدَاءِ أصْلِها، يُوَضِّحُهُ مَا يَلَي :
ـ أنَّها نَشَأَتْ عَلَى العَدَاءِ والبَغْضَاءِ، وإلْهَاءِ الشُّعُوبِ، وضَيَاعِ الأوْقَاتِ، وهَدْرِ الأمْوَالِ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ، لا سِيَّما في أصْلِ وَضْعِها، وأحْكَامِها، ونِظَامِها كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ المُنَظَّمَاتِ العَالَمِيَّةِ للرِّيَاضِيَّةِ .(1/427)
ـ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) تَأخُذُ حُكْمَ الألْعَابِ المُحَرَّمَةِ أصْلاً، ووَصْفًا : كالمَيْسِرِ، والنَّرْدِ وغَيْرِهِما مِمَّا هُوَ فِي أصْلِهِ مُحَرَّمٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَجُوْزُ لأحَدٍ كائنًا مَنْ كان أنْ يَقُوْلَ : إنَّ اللَّعِبَ بالمَيْسِرِ، أو النَّرْدِ مُبَاحٌ في الأصْلِ؛ لأنَّهما مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ، غَيْرَ أنَّه قَدِ اقْتَرَنَ بِهِما مِنَ المُحَرَّمَاتِ مَا جَعَلَهُما مُحَرَّمَيْنِ، وهِيَ أكْلُ أمْوَالِ النَّاسِ بالبَاطِلِ ؟!، أو يَقُوْلَ : إنَّ شُرَبَ الخَمْرِ مُبَاحٌ في الأصْلِ؛ لأنَّ الشُّرْبَ في أصْلِهِ مُبَاحٌ، غَيْرَ أنَّه اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ المُحَرَّمَاتِ مَا جَعَلَهُ مُحَرَّمًا، وهو : ذَهَابُ العَقْلِ ؟!، وقِيَاسًا عَلَى هَذَا التَّأويلِ الفاسِدِ نُجْرِي غَالِبَ المُحَرَّمَاتِ، والمُنْهِياتِ الشَّرْعِيَّةِ !، فإنَّ مِثْلَ هَذَا الحُكْمِ يُعَدُّ عَبَثًا، وتَلاعُبًا بالأحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
وعَلَيْه فَلا شَكَّ أنَّ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةَ قَدِ اقْتَرَنَتْ بِلُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مُنْذُ ابْتِدَائِها، ونُشُوْئِها، مِمَّا يَقْطَعُ بأنَّها مُحَرَّمَةٌ أصْلاً، ووَضْعاً .
فانْظُرْ مِثَالاً آخَرَ : وهُوَ مَسْجِدُ ضِرَارٍ، الَّذِي بَنَاه المُنَافِقُونَ مُضَارَّةً بالمُؤْمِنِيْنَ ولِمَسْجِدِهم، وإرْصَادًا لِمْنَ حَارَبَ اللهَ ورَسُوْلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : " والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون"[التوبة107] .(1/428)
فإذَا كَانَ بِنَاءُ المَسَاجِدِ في الإسْلامِ سُنَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، وقُرْبَةٌ إلاهِيَّةٌ … إلاَّ أنَّ مَسْجِدَ ضِرَارٍ أصْبَحَ مُحَرَّمًا!، وما ذَاكَ إلاَّ أنُّه بُنِيَ عَلَى مَقْصَدٍ مُحَرَّمٍ، ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُبْقِهِ عَامِرًا لِصَلاةِ المُؤْمِنِيْنَ؛ بَلْ أمَرَ أصْحَابَه بِهَدْمِه وحَرْقِه، وصَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مَزْبَلَةً(1) .
لِذَا كَانَ حُكْمُ مَسْجِدِ ضِرَارٍ التَّحْرِيمِ، نَظَرًا لأصْلِ مَقْصَدِهِ وضَرَرِه !، أمَّا مَن بَنَى مَسْجِدًا للهِ تَعَالى يَرْجُو فِيْهِ الأجْرَ والمَثُوبَةَ أوَّلاً، ثمَّ بَعْدَ فَتْرَةٍ مِنَ الزَّمْنِ تَغيَّرَتْ نِيَّةُ صَاحِبِه إلى النِّفَاقِ!، وعَلَيه اتَّخَذَهُ ضِرَارًا بالمُسْلِمِيْنَ، أو مَكَانًا للمُفْسِدِيْنَ، فَهُنَا يِخْتَلِفُ الحُكْمُ في أصْلِهِ لا فِي ثَمَرَتِه : وهُوَ أنَّ أصْلَه مَشْرُوعٌ؛ لأنَّ بِنَاءَ المَسَاجِدِ مَشْرُوعٌ ومَسْنُونٌ، غَيْرَ أنَّه اقْتَرَنَ بِهِ مُحَرَّمٌ، فَكَانَ حُكْمُه حِيْنَئِذٍ الحُرْمَةُ .
فَعِنْدَ هَذَا كَانَ مِنَ الوُضُوْحِ أنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ مَا كَانَ أصْلُه مَوْضُوْعًا للشَّرِ، ومَا كَانَ أصْلُهُ مَوْضُوعًا للخَيْرِ، فالأوَّلُ مُحَرَّمٌ رَأسًا، ولَوْ كَانَ جِنْسُهُ مِنَ المُبَاحَاتِ، والثَّاني حَلالٌ .
وهَذَا مِثَالٌ قِيَاسِيٌّ أوْلَوِيٌّ : وهُوَ لَوْ أنَّ نَفَرًا مِنْ شَيَاطِيْنَ الإنْسِ قَامُوا بِتَنْظِيمِ لُعْبَةٍ جَدِيْدَةٍ مَفَادُهَا:
ـ إلْهَاءُ أبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ عَنْ قَضَايَاهُم المَصِيْرِيَّةِ .
ـ إثَارَةُ العَدَاوَةِ والشَّحْنَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ .
__________
(1) ـ انظر "تيسير الكريم الرحمن" للسعدي (2/285-286) .(1/429)
ـ وتَوْظِيفُ هَذَا فِي صِنَاعَةِ كُرَةٍ أسْطُوَانِيَّةِ!، يَرْكُلُها الجَمِيعُ بالأقْدَامِ، والأيْدِي، والرُّؤُوسِ عَلَى السَّوَاءِ، فِي مُحِيطٍ دَائِرِي قُطْرُه خَمْسُونَ مِتْرًا، وعَدَدُ اللاعِبِيْنَ عَشْرةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الفَرِيْقَيْنِ مُنَاصَفَةً… إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشاكِلٌ فِي الجُمْلةِ أنْظِمَةَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
أقُوْلُ : لَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا؛ ألَيْسَ مِنْ الفِقْهِ، والنَّصِيحَةِ مَعًا أنْ يَجْتَمِعَ عُمُومُ المُسْلِمِيْنَ فَضْلاً عَنْ عُلَمَائِهم عَلَى تَحْرِيم هَذِه اللُّعْبَةِ، وتَجْرِيمِ فاعِلِيها ؟!، بَلَى دُوْنَ تَرَدُّدٍ؛ بِلْ هَذَا واللهِ هُوَ : عَيْنُ الفِقْهِ، وعِلْمُه، وحَقُّه .
* * *
لِذَا؛ كَانَ النَّظَرُ، والحُكْمُ عَلَى ( كُرَةِ القَدَمِ ) اليَوْمَ يَكُونُ تَبَعًا لأصْلِها المَوْضُوعِ لها ابْتِدَاءً، ثُمَّ بَعْدَ تَقْرِيْرِ هَذَا الأصْلِ كَانَ مِنَ الجائِزِ للفَقِيْهِ : أنْ يُخْرِجَ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مِنْ أصْلِ الحُرْمَةِ إلى الإباحَةِ إذا خَلَتْ مِنْ تِلْكُمُ المُوْبِقَاتِ، والمُحَرَّمَاتِ إذا أمْكَنَ ( ويأْبَى الوَاقِعُ !)، فَعِنْدَئِذٍ كَانَ هَذَا مِنْهُ نَقْلاً عَنِ الأصْلِ، لا بَقَاءً عَلَيْه فَتَأمَّلْ !
والحَالَةُ هَذِه؛ فلْيَعْلَمْ الجَمِيعُ أنَّ ( كُرَةُ القَدَمِ ) قَدْ بُنِيَتْ عَلَى مُحَرَّمَاتٍ شَرْعِيَّةٍ ابْتِدَاءً ووَضْعًا، مِنْها مَا هُوَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ ذِي عَيْنَيْنِ كَمَا سَيَأتِي، ومِنْها مَا هُوَ مَقْصُودٌ مَدْرُوسٌ كَمَا أفْرَزَتْه مُخَطَّطَاتُ أعْدَائِنا كاليَهُوْدِ والنَّصَارَى، مِمَّا يُقْطَعُ بأنَّها : مُحَرَّمةٌ في أصْلِها، ووَصْفِها، واللهُ المُوَفِّقُ والهَادِي إلى سَوَاءِ السَّبِيْلِ .
* * *(1/430)
ومِنْ خِلالِ بَيَانِ حُكْمِنَا عَلَى أصْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وهُوَ التَّحْرِيْمُ؛ إلاَّ أنَّ هَذَا الحُكْمَ لَيْسَ فَرْضًا، أو مُتَعَيَّنًا عَلَى القَارِئ الكَرِيمِ، فَرُبَّما جَازَ الخِلافُ فيه، إلاَّ أنَّنا مَعَ هَذَا التَّسَامُحِ فِي أصْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، لا نَسْمَحُ لأحَدٍ مِنَ المُسْلِمِيْنَ كَائِنًا مَنْ كَانَ أنْ يُجْرِيَ خِلافًا فِيْما هُوْ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بِيْنَ أهْلِ العِلْمِ .
وذَلِكَ مَاثِلٌ في وُجُودِ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ في ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّتِي أصْبَحَتْ سِمَةً ووَصْفًا لا تَنْفَكُ حِسًّا ووَاقِعًا عَنْ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطانِيَّةِ الطَّاغُوتِيَّةِ، مِمَّا يَقْطَعُ بَعْضُها بِتَحْرِيمِها فَضْلاً عَنْ مَجْمُوعِها.
قَالُوا : لَقَدْ أكْثَرْتَ حَدِيْثًا عَنِ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، فَهَلْ ذَكَرْتَ لَنَا هَذِه المُحَرَّمَاتِ ؟
وحَسْبُنا هَذِه المُحَرَّمَاتُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) عَلَى وَجْهِ الاخْتِصَارِ(1):
__________
(1) ـ مَنْ أرَادَ الوُقُوْفَ عَلَى هَذِه المَحْظُوْرَاتِ الَّتِي أفْرَزَتُها ( كُرَةُ القَدَمِ )، فَهِي مُفَصَّلةٌ فِي بَابِ "المَحْظُوْرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ" ص ( ).(1/431)
ضَيَاعُ مَفْهُوْمِ الوَلاءِ، البَرَاءِ، والحُبُّ والبُغْضُ لغَيْرِ اللهِ، إحْيَاءُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، العَصَبِيَّاتِ القَوْمِيَّةِ، القِتَالُ، السِّبَابُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ، وُجُودُ العُنْفِ، والشَّغَبِ، التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ، الرِّهَانُ عَلَى الفَرِيْقِ الفَائِزِ، كَشْفُ العَوْرَاتُ، نَظُرُ النِّسَاءِ إلى اللاعِبِيْنَ؛ لاسِيَّمَا وأنَّهُم شِبْهُ عُرَاةٍ، عَدَمُ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى والصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى رَسُوْلِه، تَرْكُ صَلاةِ الجُمْعَةِ، والجَمَاعاتِ فِي المَسْجِدِ، هَدْرُ الأمْوَالِ، وضَيَاعُها، قَتْلُ الأوْقَاتِ وضَيَاعُها، الرَّقْصُ، والتَّصْفِيْقُ، والتَّصْفِيْرُ، والهِتَافَاتُ، الغِيْبَةُ، السُّخْرِيَّةُ، والاسْتِهْزَاءُ، الظَّنُ السُّوْءُ، الهَمْزُ، واللَّمْزُ بالمُسْلِمِيْن، التَّبَخْتُرُ، والخُيَلاءُ، والعُجْبُ، التَّنَابُزُ بالألْقَابِ، التَّهَاوُنُ بالتَّصْوِيرِ، الإعَانَةُ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ، تَرْوِيعُ، وتَخْوِيفُ المُسْلِمِ، التَّشْجِيْعُ، والتَّحْرِيْضُ البَاطِلُ، المُبَالَغَةُ فِي الإطْرَاءِ، والثَّنَاءِ المَذْمُوْمِ عَلَى اللاعِبِيْنَ، تَقْدِيْمُ الفَاضِلِ عَلَى المَفْضُوْلِ، غِشُّ النَّاشِئَةِ، تَعْطِيلُ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ لَدَى الشَّبابِ المُسْلِمِ، تَخْدِيْرُ الشُّعُوْبِ المُسْلِمَةِ عَنْ قَضَايَاهَا، تَمْرِيْرُ مُخَطَّطَاتِ أعْدَاءِ الإسْلامِ، سَفَرُ المُسْلِمِ إلى بِلادِ الكُفْرِ دُوْنَ عُذْرٍ، دُخُولُ الكُفَّارِ جَزِيْرَةَ العَرَبِ، تَوْلِيَةُ الكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ، تَحْكِيمُ القَوَانِيْنِ الوَضْعِيَّةِ، مُمَارَسَةُ احْتِرَافِ اللَّعِبِ، واتِّخَاذُها حِرْفَةً، مُشَارَكَةُ النِّسَاءِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، التَّدْلِيكُ، و( المَسَاجُ ) المُحَرَّمَانِ، السِّحْرُ، والشَّعْوَذَةُ، ضَرْبُ الخُدُوْدِ، وشَقُّ(1/432)
الجُيُوْبِ … إلخ .
قَالُوْا : نَحْنُ لا نَشُكُّ أنَّ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) كثيرًا مِنَ المُحَرَّمَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ هُنَا، لكنَّنا قَدْ نَخْتَلِفُ مَعَكَ فِي بَعْضِها .
قُلْتُ : دَعُوْنا مِنَ المُخْتَلَفِ فِيْه، وأقِرِّوُا بِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى حُرْمَتِهِ شَرْعًا؛ هَذَا أوَّلاً. أمَّا ثَانِيًا إذَا سَلَّمْنَا جَمِيْعًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَجْمُوْعَةٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ الشَّرْعِيّةِ الَّتِي اتَّفَقْنَا عَلَيْها؛ فَحَسْبُنَا أنَّهَا مُحَرَّمَةٌ قَطْعًا دُوْنَمَا تَكَلُّفٍ فِي القِيْلِ، والقَالِ !
* * *
الشُّبْهَةُ السَّابِعَة : وإذَا قَالُوْا : ( كُرَةُ القَدَمِ ) كَانَتْ مَعْرُوْفَةً فِي كُتُبِ المَعَاجِمِ العَرَبِيَّةِ، مَشْهُوْرَةً فِي حَيَاةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ .
قُلْتُ : هَذَا مِنْكُم : غَلَطٌ فِي نَقْلِ العُلُوْمِ، وخَلْطٌ فِي الفُهُوْمِ، ومَا فَسَادُ العِلْمِ عِنْدَ بَنِي آدَمَ إلاَّ مِنْ ذَيْنِ البَابَيْنِ !
ومِنْ خِلالِ هَذَا؛ كَانَ لِزَامًا عَلَيْنا أنْ نَذْكُرَ حَقِيقَةَ ( الكُرَةِ ) القَدِيمةِ دَفْعًا لِهَذِه المُغَالَطَاتِ كَي نَخْرُجَ جَمِيعًا بِتَعْرِيفٍ صَرِيحٍ، وحُكْمٍ صَحِيحٍ لِكُلٍّ مِنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) القَدِيمةِ والحَدِيثَةِ؛ ومِنْهُ يُوَافِقُ الخَبَرُ الخُبْرَ إنْ شَاءَ اللهُ .
* * *
لا شَكَّ أنَّ حَقِيقَةَ ( الكُرَةِ ) القَدِيمةِ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ، والمَعَاجِمِ العَرَبِيَّةِ تَخْتَلِفُ تَمَامًا عَنْ كُرةِ اليَوْمِ، فَهِيَ تَحْمِلُ حَقَائِقَ مُذْهِلَةً تَقْطَعُ بأنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) الحَدِيثَةَ لا تَمُتُّ بتَّةً بِـ ( الكُرَةِ ) القَدِيمَةِ لا فِي وَصْفِها، ولا فِي وَصْفِ لِعْبِها، ولا فِي غَايَتِها، ولا فِي حُكْمِها؛ بِلْ هُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ قَلْبًا، وقَالِبًا !
يُوَضِّحُه ما يَلِي :(1/433)
1ـ أنَّ ( الكُرَةَ ) القَدِيمَةَ لَمْ تُعْرَفْ فِي شَيءٍ مِنَ الكُتُبِ بأنَّها : كُرَةُ قَدَمٍ؛ كَمَا جَاءَ ذَلِك فِي وَصْفِها؛ اللُّهم : أنَّها "كُرَةٌ" لا غَيْر !
2ـ أمَّا وَصْفُها : فَهِي لا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِها مُسْتَدِيرَةً مَحْشُوَةً بالشَّعْرِ، أو الصُّوْفِ … أو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْس لَهُ عُلاقةٌ بِحَبْسِ الهَوَاءِ؛ كمَا هُوَ شَأْنُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الحَدِيثَةِ .
3ـ أمَّا وَصْفُ لِعْبِها : فَهِيَ لِعْبَةٌ لَهَا طَرِيقَتُها المَعْرُوفَةُ؛ وهُوَ : أنْ يَقُومَ الرَّجُلُ، أو الرَّجُلانِ، أو أكْثَرُ بِضْرَبِ كُرَةٍ مِنْ شَعَرٍ ونَحْوِه بِكُوْجَةٍ ( وهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ عَصَا مَعْكُوْفَةٍ )، ونَحْوِها، ويَقُومُ اللَّعِبُ بِمُتَابَعَةِ، ومُلاحَقَةِ الكُرَةِ وهُمْ عَلَى ظُهُورِ الخُيُوْلِ، ونَحْوِها .
4ـ أمَّا غَايَتُها : فَهِي التَّدْرِيبُ عَلَى الجِهَادِ .
5ـ أمَّا حُكْمُها : فأكْثُرُ أهْلِ العِلْمِ عَلَى إباحَتِها؛ لأنَّها مِنَ الوَسَائِلِ المُعِينَةِ عَلَى الجِهَادِ .
والتَّدْلِيْلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا؛ فَمِنْ طَرِيْقَيْ : المَعَاجِمِ اللُّغَوِيَّةِ، والتَّارِيْخِ،.
* فأمَّا كُتُبُ المَعَاجِمِ اللُّغوِيَّةِ(1) :
__________
(1) ـ ومِنَ الجَدِيرِ بالذِّكرِ أنَّ ( الكُرةَ ) قَدْ ذُكِرَتْ في كُتُبِ اللُّغَةِ بأسْمَاءَ، وأوْصَافٍ أو إيماءاتٍ مُتعَدِّدةٍ، مثل : "الكُجَّة "، و"البَكْسَة"، و"الخَزَفَة"، و"التُّون"، و"الآجرة"، و"الصَّوْلَجان"، و" الكُرَة" … تَجِدُ ذَلِكَ في مَادَّةِ : "بَكَس"، و"كَج"، و"كَجَج"، و" تُون"، و"كُرَة"، و"أكر"، انظرها في "القاموس المحيط" للفيروز آبادي ص (203، 344، 479، 533، 795، 1183)، و"اللِّسان" لابن منظور (2/66)، (12/39،184) .(1/434)
قَالَ ابنُ فَارِسٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : كوْرٌ أصْلٌ يَدُلُّ عَلَى دَوْرٍ، وتَجَمُّعٍ (1)، وفِي "مُغْنِي المُحْتَاجِ" : جِسْمٌ مُحِيْطٌ بِهِ سَطْحٌ فِي دَاخِلِهِ نُقْطَةٌ"(2).
فَقَدْ أفْصَحَتْ كُتُبُ المَعَاجِمِ اللُّغَويَّةُ بأنَّ الكُرَةَ الَّتِي لَعِبَها السَّلَفُ لا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِها : جِسْمًا دائريًّا، لِذَا كَانَ كُلُّ مَا يُلْعَبُ بِهِ مِنَ الألْعَابِ عَلَى شَكْلٍ مُدَوَّرٍ؛ فَهُوَ : ( كُرَةٌ )، فَمِنْ ذَلِكَ : لِعْبَةُ الصَّوْلَجَانِ، والكُجَّةُ وغيرهِما : وهِيَ عِبَارةٌ عنْ عَصَىً يَضْرِبُوْنَ بِهَا كُرَةً مِنَ شَعْرٍ، أو صُوْفٍ، أو نَحْوِهِما، وهُمْ عَلَى دَوَابِهم للتَّدْرِيْبِ عَلَى القِتَالِ، والحَرْبِ، أو مَا يَصْنَعُهُ الصِّبْيانُ مِنْ خِرْقَةٍ، فَيُدَوِّرُنَها كأنَّها كُرَةٌ، ثُمَّ يَتَقَامَرُوْنَ بِها، عَنْ طَرِيْقِ حُفَرٍ فِيْها حَصًى يَلْعَبُوْنَ بِها(3).
* أمَّا كُتُبُ التَّارِيخِ :
فقَدْ ذَكَرَ ابنُ كثيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ سِيْرَةَ نُوْرِ الدِّينِ مَحْمُودِ بنِ زَنْكي ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وأحْسَنَ الذِّكْرَ، ثُمَّ قَالَ : " وكَانَ ( نُوْرُ الدِّيْنِ ) حَسَنَ الشَّكْلِ، حَسَنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وكَانَ نُوْرُ الدِّيْنِ يُحِبُّ لَعِبَ الكُرَةِ، لِتَمْرِيْنَ الخَيْلِ، وتَعْلِيمَها الكَرَّ والفَرَّ"(4).
__________
(1) ـ "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس ( 5/146 ) .
(2) ـ "مغني المحتاج" للشربيني ( 4/392 ) .
(3) ـ انظر "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس ( 5/146 )، وغيرها من المراجع اللغوية التي مرَّتْ معنا آنفًا .
(4) ـ "البداية والنهاية" لابن كثير (16/374) .(1/435)
وقَالَ عَنْهُ أيْضًا : " وكَانَ يُكْثِرُ اللَّعِبَ بالكُرَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الصَّالِحِيْنَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ : إنَّمَا أُرِيْدُ تَمْرِيْنَ الخَيْلِ، وتَعْلِيْمَها الكَرَّ والفَرَّ . وكَانَ لا يَلْبَسُ الحَرِيْرَ، ويَأكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ رَحِمَهُ اللهُ"(1).
* * *
ومِنْ خِلالِ ما تَقَدَّمَ بَيَانُه فِي وَصْفِ حَقِيقَةِ ( الكُرَةِ ) القَدِيمَةِ؛ تَنْكَشِفُ لنا الحَقِيْقَةُ العِلْمِيَّةُ الَّتي لا تَقْبَلُ المُنَاقَشَةَ، أو حَتَّى الاجْتِهَادَ، وهُوَ : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) المُعَاصِرَةَ لَيْسَ لَهَا عُلاقةٌ بالكُرَةِ القَدِيمَةِ لا حَقِيْقَةً، ولا وَصْفًا، ولا حُكْمًا … اللَّهُمَّ ما كَانَ مِنْ تَطَابُقٍ بَيْنَهُما فِي تَسْمِيَتِهِمَا : ( كُرَةٌ ) لا غَيْرُ !
فعِنْدَ ذَلِك كَانَ مِنَ الخَطأ أنْ نُحَاوِلَ ( عَبَثًا ! ) خَلْقَ مُسَاوَاةٍ بَيْنَهُما فِي شَيءٍ مِمَّا ذُكِرَ؛ فَضْلاً أنْ نُسَاوِيَ بَيْنَهُما فِي الحُكْمِ !
هَذَا إذَا عَلِمْنا أيْضًا : أنَّ الكُرةَ عِنْدَ السَّلَفِ لَمْ تَكُنْ وَسِيلةَ عَبَثٍ، أو ضَيَاعَ وَقْتٍ، أو هَدْرَ مَالٍ؛ بَلْ كانَتْ وَسِيلةً مُعِينَةً عَلَى الجِهَادِ الَّذِي شَرَعَهُ اللهُ، والرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : ما بَيْنَ تَرْوِيضٍ للخَيْلِ، وتَعْلِيمِها الكَرَّ والفَرَّ، وتَعْلِيمِ الفَوَارِسَ الفُرُوسِيَّةَ، والمُطَارَدَةَ، واللِّحَاقَ والسِّبَاقَ … إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ مَسَالِكِ الجِهَادِ .
* * *
__________
(1) ـ "البداية والنهاية" لابن كثير (16/482) .(1/436)
وبَعْدَ أنْ عَلِمْنا جَمِيعًا : أنَّ الكُرَةَ عِنْدَ السَّلَفِ كَانَتْ وَسِيْلَةً مَحْمُودَةً لِغَايةٍ مَشْرُوْعَةٍ، كَمَا مَرَّ مَعَنا آنِفًا، مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ لَدَى أهْلِ العِلْمِ عَامَّةً؛ إلاَّ أنَّها مَعَ هَذَا لَمْ تَكُنْ مُبَاحَةً عَلَى إطْلاقِها؛ بَلْ ضُبِطَتْ بِضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ لا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُها، أو مُخَالَفَتُها، وإلاَّ أصْبَحَتْ وَسِيْلةً مُحَرَّمةً، لا يَجُوْزُ فِعْلُها بِحَالٍ، فتأمَّل !
يَقُولُ ابنُ تَيْمِيَّةُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ حِيْنَ سُئِلَ عَنْ لِعْبِ الكُرَةِ فِي بَابِ السَّبَقِ ( أيْ : الكَرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ بالصَّوْلَجَانِ، والكُجَّةِ ! )، قَالَ : " … ولِعْبُ الكُرَةِ إذَا كَانَ قَصَدَ صَاحِبُهُ المَنْفَعَةَ للْخَيْلِ، والرِّجَالِ؛ بِحَيْثُ يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الكَرِّ والفَرِّ، والدُّخُوْلِ، والخُرُوْجِ، ونَحْوِهِ فِي الجِهَادِ، وغَرَضُه الاسْتِعَانَةُ عَلَى الجِهَادِ الَّذِي أمَرَ اللهُ بِه رَسُوْلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وإنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ بالخَيْلِ، والرِّجَالِ، فإنَّه يُنْهَى عَنْهُ"(1).
وما ذَكَرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُنَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ خِلافٍ بِيْنَ أهْلِ العِلْمِ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلْيه بَيْنَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِيْهِ ضَرَرٌّ، أو شُغْلٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ : فَهُوَ حَرَامٌ قَطْعًا !، وعَلَيْهِ؛ فَلا شَكَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) اليَّوَمَ؛ قَدْ أجْمَعَتْ أمْرَهَا عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ الشَّرعيَّةِ .
* * *
__________
(1) ـ "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي ص ( 251 ) .(1/437)
الشُّبْهَةُ الثَّامِنَةُ : فإذَا قَالُوْا : لَيْسَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَشَبُّهٌ بالكُفَّارِ(1)!
قُلْتُ : إنَّ مِنْ أصْلِ دُرُوْسِ دِيْنِ اللهِ وشَرَائِعِه، وظُهُوْرِ الكُفْرِ، والمَعَاصِيِ : التَّشَبُّهُ بالكَافِرِيْنَ، كَمَا أنَّ مِنْ أصْلِ كُلِّ خَيْرٍ : المُحَافَظَةُ عَلَى سَنَنِ الأنْبِيَاءِ، وشَرَائِعِهم؛ ولِهَذا عَظُمَ وَقْعُ المَعَاصِي فِي الدِّيْنِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيْها تَشَبٌّه بالكُفَّارِ، فَكَيْفَ إذَا جَمَعَتِ الوَصْفَيْنِ ( المَعْصِيَةَ، والتَّشَبُّهَ ) ؟
وهَذَا مَاثِلٌ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِي كَوْنِها قَدْ جَمَعَتْ بَيْنَ : جُرْثُوْمَةِ المَعَاصِي، وتَسْرِيْبِ المُشَابَهَةِ فِي أخَادِيْدِ شَبَابِ المُسْلِمِيْنَ !
* * *
وأصْلُ المُشَابَهَةِ بَيْنَ بَنِي آدَمَ؛ بَلْ سَائِرِ المَخْلُوْقَاتِ، عَلَى التَّفَاعُلِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ المُتَشَابِهَيْنِ، وكُلَّمَا كَانَتِ المُشَابَهَةُ أكْثَرَ؛ كَانَ التَّفَاعُلُ فِي الأخْلاقِ، والصِّفَاتِ أتَمَّ؛ ولأجْلِ هَذَا الأصْلِ : وَقَعَ التَّأثُّرُ، والتَّأثَيْرُ فِي بَنِي آدَمَ، واكْتِسَابِ بَعْضِهم أخْلاقَ بَعْضٍ بالمُعَاشَرَةِ والمُشَاكَلَةِ، كَمَا أجْلَبَتْهُ شُمَيْطَاءُ الغَرْبِ ( كُرَةُ القَدَمِ ) إلى بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، وألْبَسَتْهُ أبْنَاءَ المُسْلِمِيْنَ مِنِ اشْتِبَاهٍ، وتَشَابُهٍ .
__________
(1) ـ إنَّ مَسْألةَ التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) قَدْ بَسَطْنا فِيْها القَوْلَ، وللهِ الحَمْدُ، فانْظُرْها فِي : مَحْظُوْرِ التَّشَبُّهِ، ص ( ) .(1/438)
فالمُشَابَهَةُ، والمُشَاكَلَةُ فِي ( كُرَة القَدَمِ ) بَيْنَ اللاعِبِيْنَ مِنْ أهْلِ الكُفْرِ، وأهْلِ الإسْلامِ، سَوَاءٌ فِي : زِيِّهِم، أو قَوَانِيْنِهم، أو عَادَاتِهم، أو حَرَكَاتِهم، أو تَنْظِيْمَاتِهم؛ أمْرٌ ظَاهِرٌ سَائِرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَتْ الأُمُوْرُ الظَّاهِرَةُ، تُوْجِبُ مُشَابَهَةً، ومُشَاكَلَةً فِي الأمُوْرِ البَاطِنَةِ عَلَى وَجْهِ المُسَارَقَةِ، والتَّدَرُّجِ الخَفِي، وهَذَا ظَاهِرٌ فِي تُرَّاعِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَالاً، ومَقَالاً .
لِذَا كَانَ اللَّعِبُ بِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنَ التَّشَبُّهِ المُحَرَّمِ !، والأدِلَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ مُشَابَهَةِ الكُفَّارِ مَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
قَالَ اللهُ تَعَالَى : " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين"[المائدة51]، وقَالَ سُبَحَانَه : " لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبناءهم آو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه"[المجادلة22].(1/439)
وعَنْ أبِي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه قَالَ : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مِنْ كَانَ قَبْلِكُم : حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، [شِبْرًا بِشِبْرٍ، وذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ]؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْه "، قَالُوا : يَا رَسُوْلَ اللهِ اليهود والنصارى ؟، قَالَ : " فمن ؟"(1)مُتَّفَقٌ عَلَيْه واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ . وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم" أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ(2).
قَالَ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بَعْدَ هَذَا الحَدِيْثِ : " هَذَا الحَدِيْثُ أقَلُّ أحْوَالِه : أنْ يَقْتَضِيَ تَحْرِيْمَ التَّشَبُّهِ بِهم، وإنْ كَانَ ظَاهِرُه يَقْتَضِي كُفْرَ المُتَشَبِّه بِهم، كَمَا فِي قَوْلِه : " ومَنْ يَتَوَلَّهم مِنْكم فإنَّه مِنْهم"[المائدة51] .
* * *
قَالُوْا : نَحْنَ لا نَخْتَلِفُ مَعَكَ أنَّ التَّشَبُّهَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، إلاَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لَيْسَتْ مِنَ التَّشَبُّهِ .
قُلْتُ : إنَّ التَّشَبُّهَ بأعْمَالِ الكُفَّارِ؛ لَهُ ثَلاثُ حَالاتٍ، كَمَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
__________
(1) ـ أخرجه البخاري ( 3456 )، ومسلم (2269 ) .
(2) ـ أخرجه أحمد ( 2/50 )، وأبو داود ( 4/314 )، وقال عنه ابن تيمية : جيِّدُ الإسناد، انظر "الاقتضاء" (1/269)، وكذا في "مجموع الفتاوى" (25/331)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (6025) .(1/440)
الأوَّلُ : قِسْمٌ مَشْرُوْعٌ فِي دِيْنِنِا، مَعَ كَوْنِه كَانَ مَشْرُوْعًا لَهُم، أو لا يُعْلَمْ أنَّه كَانَ مَشْرُوْعًا لَهْم، لَكِنَّهُم يَفْعَلُوْنَه الآنَ، فَهذَا مِمَّا تَقَعُ فِيْه المُخَالَفَةُ فِي صِفَةِ ذَلِكَ العَمَلِ، لا فِي أصْلِه، كَمَا سُنَّ لَنَا صَوْمُ تَاسُوْعَاءَ، وعَاشُوْرَاءَ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي جَامَعَنَاهُم فِي أصْلِها، وخَالَفْنَاهُم فِي وَصْفِها .
الثَّانِي : قِسْمٌ كَانَ مَشْرُوْعًا، ثُمَّ نَسَخَهُ شَرْعُنا، فَمُوَافَقَتُهم فِي هَذَا القِسْمِ المَنْسُوْخِ مِنَ العِبَادَاتِ، أو العَادَاتِ، أو كِلاهُما : أقْبَحُ مِنَ مُوَافَقَتِهم فِيْما هُوْ مَشْرُوْعُ الأصْلِ، ولِهَذَا كَانَتْ المُوَافَقَةُ فِي هَذَه مُحَرَّمَةٌ .
الثَّالِثُ : قِسْمٌ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوْعًا بِحَال، وإنِّمَا هُمْ أحْدَثُوْهُ، وهُوَ مَا أحْدَثُوْهُ مِنَ العِبَادَاتِ، أو العَادَاتِ، أو كِلَيْهِما : فَهُوَ أقْبَحُ، وأقْبَحُ؛ فإنَّه لَوْ أحْدَثَه المُسْلِمُوْنَ لَكَانَ قَبِيْحًا؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مِمَّا لَمْ يَشْرَعْه نَبِيٌّ قَطُّ ؟؛ بَلْ أحْدَثَهُ الكَافِرُوْنَ، فَالمُوَافَقَةُ فِيْه ظَاهِرَةُ القُبْحِ، فَهَذَا أصْلٌ .
وأصْلٌ آخَرُ هُوَ : إنَّ كُلَّ أنْوَاعِ المُشَابَهَةِ، فَجَمْيِعُ الأدِلَّةِ مِنَ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، والإجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيْمِها في الجُمْلَةِ، ولَوْ كَانَتْ هذه المُشَابَهَةُ مَوْجُوْدَةً فِي العُصُوْرِ الأوْلَى؛ فالعِبْرَةُ بأصْلِ المُشَابَهَةِ، ولا عِبْرَةَ بِفِعْلِ الرِّعَاعِ السِّفْلَةِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ آنَذَاكَ(1)!
وهُنَاكَ تَقْسِيْمٌ آخَرُ قَرِيْبٌ فِي مُشَابَهَةِ الكُفَّارِ فِيْمَا لَيْسَ مِنْ شَرْعِنَا، وهُوَ قِسْمَانِ باخْتِصَارٍ :
__________
(1) ـ انظر "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية ( 1/476-477 ) .(1/441)
القِسْمُ الأوَّلُ : إذَا عُلِمَ أنَّ هَذَا العَمَلَ؛ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهم؛ فَهَذَا العَمَلُ لا شَكَّ فِي تَحْرِيْمِه، وقَدْ يَصِيْرُ كُفْرًا .
القِسْمُ الثَّانِي : إذَا لَمْ يُعْلَمْ أنَّه مِنْ عَمَلِهِم، وهَذَا أيْضًا نَوْعَانِ :
أحَدُهُما : مَا كَانَ فِي الأصْلِ مَأخُوْذًا عَنْهم، إمَّا عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَفْعَلُوْنَه، وإمَّا مَعَ نَوْعِ تَغْيِيْرٍ فِي الزَّمَانِ، أو المَكَانِ، أو الفِعْلِ ونَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا غَالِبُ مَا يُبْتَلَى بِهِ العَامَّةُ؛ فإنَّهم قَدْ نَشُئوا عَلَى اعْتِيَادِ ذَلِكَ، وتَلَقَّاهُ الأبْنَاءُ عَنِ الآبَاءِ، وأكْثَرُهم لا يَعْلَمُوْنَ مَبْدأ ذَلِكَ، فَهَذا يُعَرَّفُ صَاحِبُه حُكْمَهُ، فإنْ لَمْ يَنْتَهِ، وإلاَّ صَارَ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا لَيْسَ فِي الأصْلِ مَأخُوْذًا عَنْهم، لَكِنَّهم يَفْعَلُوْنَه أيْضًا، فَهَذَا لَيْسَ فِيْه مَحْذُوْرُ المُشَابَهَةِ، ولَكِنْ قَدْ يَفُوْتُ مَنْفَعَةُ المُخَالَفَةِ، فأمَّا اسْتِحْبَابُ تَرْكِهِ لِمَصْلَحَةِ المُخَالَفَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ؛ فَظَاهِرٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ المُخَالَفَةِ، وهَذَا قَدْ تُوْجِبُ الشَّرِيْعَةُ مُخَالَفَتَهُم فِيْه(1).
* * *
قَالُوْا : لا شَكَّ أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مِنَ العَادَاتِ؛ فَعِنْدَئِذٍ لا حَرَجَ فِيْها !
قُلْتُ : ومَهْمَا يَكُنْ مِنْ أمْرٍ؛ فَـ ( كُرَةُ القَدَمِ ) عَلَى صُوْرَتِها الحَالِيَّةِ، مَأخُوْذَةٌ مِنَ الكُفَّارِ، ولا شَكَّ(2)، فإذَنْ، هِيَ مِنَ المُشَابَهَةِ المَذْمُوْمَةِ شَرْعًا .
قَالُوْا : إنَّ مِنَ العَادَاتِ مَا هُوَ مُفِيْدٌ، ومِنْهُ مَا هُوَ مُضِرٌّ .
__________
(1) ـ السابق ( 552-553 ) .
(2) ـ وقَدْ قَرَّرْنا هَذَا بِمَا فِيْه كِفَايَةٌ ولله الحمد فِي تَارِيْخِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فلْيُنْظَرْ ص ( ) .(1/442)
قُلْتُ : لَكِنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مِنَ العَادَاتِ الضَّارَةِ؛ بَلْ هِيَ مِنْ مَعَاوِلِ الهَدْمِ فِي بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، مَعَ مَا فِيْها مِنَ : العَدَاءِ، والبَغْضَاءِ، وإضَاعَةِ الأوْقَاتِ، والطَّاقَاتِ … إلخ، فِي حِيْنَ أنَّ ضَرَرَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِمَّا أجْمَعَ عَلَيْه عُقَلاءُ بَنِى آدَمَ، مِنَ الكُفَّارِ، وغَيْرِهِم !، وهَذَا فِي حَدِّ ذاتِه مَقْصَدٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ اعْتِبَارُه .
قَالُوْا : وهَلْ فِي التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ مَقَاصِدُ ؟
قُلْتُ : نَعَمُ؛ للتَّشَبُّهِ مَقْصَدَانِ شَرْعِيَّانِ .
الأوَّلُ : مَقْصَدُ عَدَمِ التَّشَبُّهِ بالكُفَّارِ، والآخَرُ : مَقْصَدُ المُخَالَفَةِ .
فإذَا سَلَّمْنَا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مَأخُوْذَةٌ مِنَ الكُفَّارِ؛ كَمَا هُوَ مَعْلُوْمٌ للجَمِيْعِ … فَلا يَجُوْزُ مُشَابَهَتُهُم فِيْها، لأنَّ عَدَمَ المُشَابَهَةِ مَقْصَدٌ شَرْعِيٌّ .
وإذَا سَلَّمْنَا ( جَدَلاً ) : أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) كَانَتْ عِنْدَ المُسْلِمِيْنَ، وعِنْدَ الكُفَّارِ، ولا نَدْرِي أيُّهُمَا أخَذَهَا عَنِ الآخَرِ … والحَالَةُ هَذِه أيْضًا لا يَجُوْزُ مُشَارَكَتُهُم فِيْها؛ لأنَّ مَطْلَبَ المُخَالَفَةِ للْكُفَّارِ مَقْصَدٌ شَرْعِيٌّ، هَذَا إذَا عَلِمْنَا جَمِيْعًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) مَأخُوْذَةٌ مِنَ الكُفَّارِ دُوْنَ ارْتِيَابٍ، أو شَكٍّ، كَمَا أنَّهَا مِنَ العَادَاتِ الضَّارَّةِ الفَاسِدَةِ للدِّيْنِ، والدُّنْيا .(1/443)
يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أنَّ فِي نَفْسِ المُخَالَفَةِ لليَهُوْدِ، والنَّصَارَى فِي الهَدْيِ الظَّاهِرِ مَصْلَحَةً، ومَنْفَعَةً لِعِبَادِ اللِه المؤْمِنِيْنَ؛ لِمَا فِي مُخَالَفَتِهِم مِنَ المُجَانَبَةِ، والمُبَايَنَةِ؛ الَّتِي تُوْجِبُ المُبَاعَدَةَ عَنْ أعْمَالِ أهْلِ الجَحِيْمِ، وإنَّما يَظْهَرُ بَعْضُ المَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ لِمَنْ تَنَوَّرَ قَلْبُه بالإيْمَانِ .
وبالجُمْلَةِ : فالَكُفْرُ بِمَنْزِلَةِ مَرَضِ القَلْبِ، وأشَدُّ، ومَتَى كَانَ القَلْبُ مَرِيْضًا؛ لَمْ يَصِحْ شَيْءٌ مِنَ الأعْضَاءِ صِحَّةً مُطْلَقَةً، وإنِّمَا الصَّلاحُ أنْ لا تُشْبِهَ مَرِيْضَ القَلْبِ فِي شَيْءٍ مِنْ أمُوْرِه، وإنْ خَفِيَ عَلَيْكَ مَرَضُ ذَلِكَ العُضْوِ، لَكِنْ يَكْفِيْكَ أنَّ فَسَادَ الأصْلِ لا بُدَّ أنْ يُؤَثِّرَ فِي الفَرْعِ .
وحَقِيْقَةُ الأمْرِ : إنَّ جَمِيْعَ أعْمَالِ الكُفَّارِ، وأمُوْرِهم لابُدَّ فِيْها مِنْ خَلَلٍ يِمْنَعُها أنْ تَتِمَّ مَنْفَعَةٌ بِهَا، ولَوْ فُرِضَ صَلاحُ شَيْءٍ مِنْ أمُوْرِهِ عَلَى التَّمَامِ؛ لاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ ثَوَابَ الآخِرَةِ، ولَكِنْ كُلُّ أمُوْرِهِم : إمَّا فَاسِدَةٌ، وإمَّا نَاقِصَةٌ، فالحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الإسْلامِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا، ويَرَضْى .
* * *
ومِنْ خِلالِ مَا مَضَى؛ فإنَّنا نَقْطَعُ يَقِيْنًا أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) : حَرَامٌ لِوُجُوْدِ المُشَابَهَةِ بالكُفَّارِ اليَوْمَ؛ لِمَا فِيْها مِنَ : التَّنْظِيْمَاتِ، والقَوَانَيْنَ، والمُوَالاةِ والمُعَادَاةِ المُحَرَّمَةِ … لِذَا يَجِبُ تَرْكُها لِمَصْلَحَةِ المُخَالَفَةِ؛ هَذَا إذَا لَمْ يَجِبْ تَرْكُها لِمَا فِيْها مِنَ الضَّرَرِ المُحَقَّقِ شَرْعًا، وطَبْعًا !
* * *
قَالُوْا : اذْكُرْ لَنَا بَعْضًا مِنَ المُشَابَهَةِ بالكُفَّارِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) ؟(1/444)
قُلْتُ : خَيْرًا مَا سَألْتُمُوْه، فإنَّ مِنَ المُشَابَهَاتِ بالكُفَّارِ مِمَّا أفْرَزَتْه لُعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرُها مِنَ الألْعَابِ الرِّيَاضِيَّةِ العَصْرِيَّةِ مَا يَلِي باخْتِصَارٍ :
ـ مُحَارَبَةُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ(1)، فَخُذْ مثلاً : الكَلِمَاتُ اللاتِيْنِيَّةُ، والألْفَاظُ العَجَمِيَّةُ الَّتِي يَتَنَاقَلُها أبْنَاءُ المُسْلِمِيْنَ فِي قامُوْسِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَمِنْها : ( الفَاوِلْ، البِلانْتِي، السِّنْتَر، الآوِتْ، القُوْل، الكَابْتِن، الكَارْتْ، الفَانِيْلاَّ، الشُّوْرْت … إلخ )، نَاهِيْكَ أنَّ الأرْقَامَ الَّتِي تُكْتَبُ عَلَى مَلابِسِ اللاعِبِيْنَ عَادَةً تَكُوْنُ لاتِيْنِيَّةً، فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّشَبُّهِ السَّافِرِ !
ـ المُشَابَهَةُ فِي اللِّبَاسِ، وذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي لِبْسِ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) : كـ (الفَانِيْلاَّت، الشُّوْرْتَات )، والأحْذِيَةِ، مَعَ العِلْمِ أنَّ كَثِيْرًا مِنْها مُخَالِفٌ للشَّرِيْعَةِ الإسْلامِيَّةِ، كإبْدَاءِ العَوْرَةِ، أو تَجْسِيْمِها، فِي حِيْنَ أنَّ بَعْضًا مِنَ النَّوَادِي تُلبِسُ لاعِبِيْها ( فَانِيْلاَّت، أو شُوْرْتَات ) تَحْمِلُ أسْمَاءَ أهْلِ الكُفْرِ، وكَذَا شِعَارَاتٍ لِبَعْضِ الشَّرِكَاتِ الكَافِرَةِ … إلخ .
__________
(1) ـ انْظُرْ كِتَابَ "كَفَّ المُخْطِئ عَنِ الدَّعْوَةِ إلى الشِّعْرِ النَّبَطِي" للمُؤلِّفِ، فَفِيْه بَيَانُ أهَمِّيَّةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، والتَّحْذِيرُ مِنَ مُزَاحَمَتِها سَوَاءٌ باللُّغَاتِ الأجْنَبِيَّةِ، أو اللَّهَجَاتِ العَامِيَّةِ، مَعَ بَيَانِ مخُطَطَّاتِ أعْدَاءِ الإسْلامِ فِي مُحَارَبَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ !(1/445)
ـ المُشَابَهَةُ فِي العَادَاتِ، والحَرَكَاتِ : كرَقْصِ بَعْضِ لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) عِنْدَ إحْرَازِ الهَدَفِ؛ بَلْ رُبَّمَا حَاكَى اللاعِبُ المُسْلِمُ رَقْصَةً لأحَدِ اللاعِبِيْنَ الكُفَّارِ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، سَوَاءٌ فِي تَقْبِيْلِ الأرْضِ، أو ضَرْبِ الصَّدْرِ عَلَى طَرِيْقَةِ تَمْجِيْدِ الصَّلِيْبِ النَّصْرَانِيِّ !، ومِنْهم مَنْ يَقْفِزُ قَفَزَاتٍ حَيْوَانِيَّةً، ومِنْهُم مَنْ يَرْكُضَ كالمَجْنُوْنِ، ومِنْهُم مَنْ يَتَدَحْرَجُ مِرَارًا عَلَى الأرْضِ، أو فِي الهَوَاءِ، ومِنْهُم مَنْ يُقَبِّلُ يَدَيْه، وآخَرُ يَضْرِبُ عَلَى يَدِ صَاحِبِهِ، أو عَلَى كَتِفِه، ورُبَّمَا عَلَى مَقْعَدَتِه … إلخ .
وكَذَا لَهُم حَرَكَاتٌ ( خَرْقَاءُ حَمْقَاءُ ) عِنْدَ اسْتِلامِ الكَأسِ، أو عِنْدَ الاعْتِذَارِ للحَكَمِ، أو للآخَرِيْنَ، أو عِنْدَ الانْتِصَارِ، أو عِنْدَما تُرفَعُ الأعْلامُ، أو عِنْدَ وُقُوْفِهِم لِسَمَاعِ مُوْسِيْقَى السَّلامِ الدُّوَلِي ! … إلخ، فِلِكُلٍّ مِنْ هَذِه المَوَاقِفِ حَرَكَاتٌ، ومَرَاسِيْمُ قَدْ فَرَضَتْها قَوَانِيْنُ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ !
* * *(1/446)
ـ أمَّا جَمَاهِيْرُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) : فَلَيْسَتْ حَرَكَاتُهم أقَلَّ حَمَاقةٍ، ورُعُونةٍ مِنْ لاعِبِي الكُرَةِ، فَلَهُم مِنْ هَذِه الحَرَكَاتِ أشْكَالٌ، وأحْوَالٌ قَدْ تَفُوْقُ حَرَكَاتِ الحَيْوَانَاتِ أحْيَانًا؛ بَلْ أضَلُّ سَبِيْلاً، وهِيَ كَثِيْرَةٌ تَفُوْقُ الحَصْرَ، فَمِنْها عَلَى سَبِيْل المِثَالِ : أنَّكَ تَرَاهُم أثْنَاءَ التَّشْجِيْعِ قَدْ تَقَاسَمُوْا أدْوَارَهُم عَلَى مُدَرَّجَاتِ المَلاعِبِ : فَمِنْهم جَمَاعَاتٌ تَتَمَايَلُ بِطَرِيْقَةٍ هَوْجَاءَ، ومِنْهُم مَنْ يُصَفِّقُ، ويُصَفِّرُ، بِحَالَةٍ مَرْذُوْلَةٍ، ومِنْهُم مَنْ يُطَبِّلُ، ويُزَمِّرُ، ومِنْهُم جَمَاعَاتٌ تَهْذِي بأصْوَاتٍ أجْنَبِيَّةِ غَبِيَّةِ، ومِنْهُم مَنْ يُلَوِّحُ بأعْلامٍ صِبْيَانِيَّةٍ … أمَّا إذا جَاءَ الهَدَفُ، أو ضَاعَ، أو حَصَلَ مَا يُعَكِّرُ سَكْرَتَهم الرِّيَاضِيَّةَ؛ فَلا تَسْألْ عَمَّا يُحْدِثُوْنَه : مِنْ نَهِيْقٍ، وصَفِيْقٍ، وتَلْوِيْحٍ، ورُعُوْنَاتٍ مَا يَعْجَزُ العَاقِلُ عَدَّهُ، فَضْلاً عَنْ وَصْفِه …!
ثمَّ مَعَ هَذِه الحَرَكَاتِ، والحَمَاقَاتِ لا تْنَسَ أنَّ القَوْمَ يُؤَدَّوْنَ هَذِه المَخَارِيْقَ عَلَى هَيْئَاتٍ مُزْرِيَةٍ مَا بَيْنَ مَلابِسَ مُلَوَّنَةٍ، وثِيَابٍ مُزَرْكَشَةٍ، وأعْلامٍ مُبَهْرَجَةٍ، و( قُبَّعَاتٍ ) مُرقَّعةٍ، ورُبَّمَا لَوَّنَ بَعْضُهم وَجْهَهُ، وسَيَّارَتَهُ … إلى آخِرِ مَا هُنَالِكَ مِنْ مَرَاتِعِ الهَيَجَانِ المَسْعُوْرِ، والعَطَالَةِ المُغلَّفَةِ؛ بَلْ هُمْ إلى المَسْخِ المُشَوَّهِ حَيَاءً وعَقْلاً أقْرَبُ مِنْهُم إلى الإنْسَانِيَّةِ السَّويَّةِ، فَضْلاً إلى مَقَامَاتِ المُؤْمِنِيْنَ المُتَّقِيْنَ !
أمَّا إذَا خَرَجُوا مِنَ المَلاعِبِ فَحَدَثٌ وحَدِيْثٌ، وخَبَرٌ واسْتِخْبَارٌ، وقَدْ مَرَّ مَعَنا بَعْضُ فَعَلاتِهم النَّكْرَاءِ .
* * *(1/447)
وإذَا سَلَّمْنَا لَكُم ( جَدَلاً ! ) أنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) لا تَأخُذُ حُكْمَ التّشَبُّهِ بالكُفَّارِ؛ فَلا شَكَّ أنَّها تَأْخُذُ فِي أقَلِّ أحْوَالِها حُكْمَ التَّشَبُّهِ بفُسَّاقِ المُسْلِمِيْنَ فِي أقَلِّ أحْوَالِها، وهَذَا التَّشَبُّهُ يَقْطَعُ بالتَّحْرِيْمِ أيْضًا .
والسُّؤَالُ الَّذِي يَفْرِضُ نَفْسَه : هَلْ لُعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مِنْ شَأنِ صَالِحِي هَذِه الأمَّةِ : كالعُلَمَاءِ، وطَلَبَةِ العِلْمِ، وذَوِيِّ الهَيْئَاتِ، أمْ مِنْ شَأنِ فُسَّاقِ هَذِه الأمَّةِ : كقَلِيْلِي الإيْمَانِ، ورَقِيْقِي الحَيَاءِ، وسِفْلَةِ النَّاسِ ؟!
فَكَانَ الجَوَابُ : أنَّها مِنَ شَأنِ الرِّعَاعِ، والطَّغَامِ، وفُسَّاقِ هَذِه الأمَّةِ ( والحُكْمُ للأغْلَبِ ) .
قُلْتُ : إذَنْ فَلُعْبَةُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَرَامٌ، لقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم" أحْمَدُ، وأبُو دَاوْدَ(1). والحَالَةُ هَذِه فَلا شكَّ أنَّها فِي أقَلِّ أحْوَالِها مِنَ التَّشَبُّهِ بفُسَّاقِ هَذِه الأمَّةِ، وهَلْ بَعْدَ هَذَا : يَلِيْقُ بدُعَاةِ المُسْلِمِيْنَ، وصَالِحِي الشَّبَابِ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِفُسَّاقِ الأمَّةِ مِمَّنْ هُمْ ( الدُّعَاةُ ) يَرْجُوْنَ هِدَايِتَهُم، ودَعْوَتَهُم ؟
* * *
الشُّبْهَةُ التَّاسِعَةُ : وإذَا قَالُوا : نَحْنُ لا نَلْعَبُ ( كُرَةَ القَدَمِ )؛ بَلْ نُشَاهِدُها، ونُتَابِعُها دُوْنَ تَعَصُّبٍ!
قُلْتُ : لِمَاذَا فَرَّقْتُم بَيْنَ لَعِبِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، ومُشَاهَدَتِها ؟
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 2/50 )، وأبو داود ( 4/314 )، وقال عنه ابن تيمية : جيِّدُ الإسْنَادِ، انظر "الاقتضاء" (1/269)، وكذا في "مجموع الفتاوى" (25/331)، وصَحَّحَه الألباني في "صحيح الجامع" (6025) .(1/448)
قَالُوْا : لأنَّ لِعْبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فِيْه مِنَ المَحَاذِيْرِ الشَّرْعِيَّةِ، مَا يَقْطَعُ بِحُرْمَتِها، وتَجْرِيْمِ فَاعِلِها .
قُلْتُ : وبِمَا أنَّكُم تَتَعَبَّدُوْنَ اللهَ تَعَالَى بِحُرْمَةِ لِعْبِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) كَانَ إثْمُكُم حِيْنَئِذٍ أشَدَّ ذَنْبًا، ومَقْتًا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنَ الَّذِيْنَ يَلْعَبُوْنَها .
يُوَضِّحُه؛ أنَّ اللاعِبَ إذَا لَعِبَ ( كُرَةَ القَدَمِ ) وهُوَ يَجْهَلُ حُكْمَها؛ كَانَ أقَلَّ ضَرَرًا مِمَّنْ يُشَاهِدُها وهُوَ يَعْلَمُ حُرْمَتَها، هَذَا إذَا عَلِمْنا أنَّ كَثِيْرًا مِنَ الرِّياضِيِّيْنَ يَجْهَلُوْنَ تَحْرِيْمَ هَذِه اللُّعْبَةِ، فَهُم يُمَارِسُوْنَها ظَنًّا مِنْهُم أنَّهَا مِنَ المُبَاحَاتِ، لا سِيَّمَا مَعَ مَا يُمْلِيْه عَلَيْهم الإعْلامُ بِشَتَّى قَنَوَاتِه مِنْ تَغْرِيْرٍ، وتَدْلِيْسٍ، وتَغْيِبٍ عَنْ مَخَاطِرِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
أمَّا مَنْ يَعْلَمُ حُرْمَةَ لُعْبَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وهُوَ لا يَفْتَأ يُشَاهِدُها ويُتَابِعُها، فَهُوَ أشَدُّ إثْمًا مِنَ الأوَّلِ؛ لأنَّه قَدْ وَقَعَ فِي إثْمَيْنِ مُرَكَّبَيْنِ : فِعْلِ المَحْظُوْرِ، وتَرْكِ المَأمُوْرِ .
فأمَّا فِعْلُ المَحْظُوْرِ، فَهُوَ مُتَابَعَةُ ومُشَاهَدَةُ المُنْكَرِ .. والرِّضَى بالمُنْكَرِ مُنْكَرٌ، ومِنْه قَالُوْا : الرِّضَى بالكُفْرِ كُفْرٌ !، وهَذَا الأمْرُ مُجْمَعٌ عَلَيْه بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ؛ لِذَا مَنْ تَابَعَ وشَاهَدَ لِعْبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) فَقَدْ وَقَعَ فِي الحَرَامِ قَطْعًا، سَوَاءٌ لَعِبَها أمْ لا .(1/449)
أمَّا تَرْكُ المَأمُوْرِ؛ فَهُوَ أنَّكُم رَأيْتُم المُنْكَرَ ولَمْ تُنْكِرُوْه، وهَذَا فِي حَدِّ ذَاتِه مُنْكَرٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " مَنْ رَأى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرُه بِيَدِه، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِه، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذَلِكَ أضْعَفُ الإيْمَانِ"(1) مُسْلِمٌ .
وقَدِ اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيْعَةِ عَلَى أنَّ تَارِكَ حُقُوقِ اللهِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْه أسْوأُ حَالاً عِنْدَ اللهِ، ورَسُوْلِه مِنْ مُرْتكِبِ المَعَاصِي .
وأدَلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِي أئِمَّةِ الجَوْرِ : " سَتَكُوْنُ أمَرَاءُ فَتَعْرِفُوْنَ وتُنْكِرُوْنَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، ومَنْ أنْكَرَ سَلِمَ، ولَكِنْ مَنْ رَضِيَ وتَابَع …"(2)مُسْلِمٌ .
فَهَذِه أحْوَالُ النَّاسِ مَعَ أهْلِ المُنْكَرِ؛ سَوَاءٌ كَانُوْا أمَرَاءَ، أو سُفَهَاءَ :
الأوَّلُ : مَنْ كَرِهَ مَا هُمْ عَلَيْه مِنَ المُنْكَرِ، فَهَذَا قَدْ بَرِئَ مِنَ الإثْمِ والتَّبَعِيَّةِ .
الثَّانِي : مَنْ أنْكَرَ مَا هُمْ عَلَيْه مِنَ المُنْكَرِ، فَهَذَا قَدْ سَلِمَ مِنَ العُقُوْبَةِ والإثْمِ .
الثَّالِثُ : مَنْ رَضِيَ وتَابَعَ، وأعَانَ، فَهَذا الَّذِي يَلْحَقُه الإثُمُ .
قَالَ القَاضِي عِيَاضُ فِي ( المُفْهِمِ ) : " قَوْلُه " ولَكِنْ مَنَ رَضِيَ وتَابَعَ " : دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ المُعَاقَبَةَ عَلَى السُّكُوْتِ عَلَى المُنْكَرِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ رَضِيَهُ، وأعَانَ فِيْه بِقَوْلٍ، أو فِعْلٍ، أو مُتَابَعَةٍ، أو كَانَ يَقْدِرُ عَلَى تَغْيِيْرِه فَتَرَكَهُ …"(3).
__________
(1) ـ أخرجه مسلم (1/69) .
(2) ـ أخرجه مسلم (3/1480،1481) .
(3) ـ "المفهم" للقاضي عياض (6/264) .(1/450)
وقَدْ دَلَّ عَلَى خَطَرِ السُّكُوْتِ عَنِ المُنْكَرِ النُّصُوْصُ الشَّرْعِيَّةُ مِنَ الكِتَابِ، والسُّنَّةِ، والإجِمْاعِ، وأقْوَالِ السَّلَفِ، مِنْها باخْتِصَارٍ(1) :
قَوْلُه تَعَالَى : " كنتم خير أُمَّةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..."[آل عمران110]، ولِذَا نَجِدُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ يَقُوْلُ بَعْدَ أنْ قَرَأ الآيَةَ السَّابِقَةَ : " يَا أيُّها النَّاسُ مَنْ أرَادَ أنْ يَكُوْنَ مِنْ هَذِه الأمَّةِ؛ فَلْيُؤَدِّ شَرْطَ اللهِ فِيْها"(2).
وقَوْلُه تَعَالَى : " لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون"[ المائدة78-79].
وقَوْلُه تَعَالَى : " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون "[الأنعام68-69] .
قَالَ ابنُ كَثِيْرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " أيْ أنَّكُمْ إذَا جَلَسْتُم مَعَهُم، وأقْرَرْتُمُوْهُم عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ سَاوَيْتُمُوْهُم فِي الَّذِي هُمْ فِيْه … وقَالَ سَعِيْدُ بنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِه : " وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء" : مَا عَلَيْكَ أنْ يَخُوْضُوا فِي آياتِ اللهِ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، أيْ : تَجَنَّبْتَهُم، وأعْرَضْتَ عَنْهُم"(3) انتهى .
__________
(1) ـ لَقَدْ بَسَطْنا الكَلامَ عَنْ أحْكَامِ ( الإنكار ) فِي كِتَابِنا "أحْكَامِ المُجَاهِرِيْنَ بالكَبَائِرِ"، ص ( 504 ) .
(2) ـ انظر "الدر المنثور" للسيوطي (2/63) .
(3) ـ "تفسير ابن كثير" (3/278) .(1/451)
وقَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوْفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أو لَيُوْشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً مِنْه، ثُمَّ تَدْعُوْنَه فَلا يُسْتَجَابُ لَكُم"(1) أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ .
وقَالَ حُذَيْفَةُ بنُ اليَمَانِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حِيْنَ سُئِلَ عَنْ مَيِّتِ الأحْيَاءِ ؟ فَقَالَ : " الَّذِي لا يُنْكِرُ المُنْكَرَ بِيَدِهِ، ولا بِلِسَانِهِ، ولا بِقَلْبِه"(2).
* * *
__________
(1) ـ أخرجه أحمد (5/388)، والترمذي (2169) وغيرهما، وقد حسَّنه الألباني "صحيح الترمذي" (1762) .
(2) ـ انظر "إحياء علوم الدين" للغزالي (2/311) .(1/452)
وقَدْ رَدَّ عَلَى هَذِه الشُّبْةِ أئِمَّةٌ أعْلامٌ، مِنْهُم : ابنُ القَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ إذْ يَصِفُ لَنَا خَطَرَ السُّكُوْتِ عَنِ المُنْكَرِ بِقَوْلِه : " وقَدْ غَرَّ إبْلِيْسُ أكْثَرَ الخلْقِ بأنْ حَسَّنَ لَهُم القِيامَ بِنَوْعٍ مِنَ الذِّكْرِ، والقِرَاءةِ، والصَّلاةِ، والصِّيامِ، والزُّهْدِ فِي الدُّنْيا والانْقِطَاعِ، وعَطَّلُوا هَذِه العُبُودِيَّاتِ، فَلَمْ يُحَدِّثُوا قُلُوْبَهم بالقِيَامِ بِها، وهَؤُلاءِ عِنْدَ وَرَثَةِ الأنْبِيَاءِ مِنْ أقَلِّ النَّاسِ دِيْناً؛ فإنَّ الدِّينَ هُوَ القِيَامُ للهِ بِمَا أمَرَ بِهِ؛ فَتَارِكُ حُقُوقِ اللهِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْه أسْوأ حَالاً عِنْدَ اللهِ ورَسُوْلِه مِنْ مُرْتكبِ المَعَاصِي؛ فإنَّ تَرْكَ الأمْرِ أعْظَمُ مِنْ ارتِكَابِ النَّهي مِنْ أكْثَرِ مِنْ ثَلاثِيْنَ وَجْهًا، ذَكَرَها شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ ( أيْ : ابنَ تَيْمِيَّةَ ) فِي بَعْضِ تَصَانِيْفِه ... وأيُّ دِيْنٍ، وأيُّ خَيْرٍ فِيْمَنْ يَرَى : مَحَارِمَ اللهِ تُنْتَهَكُ، وحُدُوْدَه تُضَاعُ، ودِينَهُ يُتْرَكُ، وسُنَّةَ رَسُوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ يُرْغبُ عَنْهَا؛ وهُوَ بَارِدُ القَلْبِ، سَاكِتُ اللِّسَانِ، شَيْطَانٌ أخْرسٌ؛ كَمَا أنَّ المُتَكلِّمَ بالبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ !(1/453)
وهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلاَّ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِيْنَ إذَا سَلِمَتْ لَهُم مَآكِلُهُم ورِيَاسَاتُهُم؛ فَلا مُبَالاةٍ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّيْنِ … وهَؤُلاءِ ـ مَعَ سُقُوْطِهِم مِنْ عَيْنِ اللهِ، ومَقْتِ اللهِ لَهُم ـ قَدْ بُلُوْا فِي الدُّنْيَا بأعْظَمِ بَلِيَّةٍ تَكُوْنُ، وهُمْ لا يَشْعُرُوْنَ : وهُوَ مَوْتُ القُلُوْبِ؛ فإنَّ القَلْبَ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُه أتَمَّ؛ كَانَ غَضَبُه للهِ ورَسُوْلِه أقْوَى، وانْتِصَارُه للدِّيْنِ أكْمَلَ"(1) .
والَّذِيْنَ يُؤْثِرُوْنَ السَّلامَةَ فِي دِيْنِهِم بهذه الشُّبْهَةِ، ويَتْرُكُوْنَ الأمْرَ والنَّهيَ الوَاجِبَ عَلَيْهِم تُجَاهَ أهْلِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) مَعَ القُدْرَةِ عَلَيْه : هُمْ كالمُسْتَجِيْرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ(2)؛ إذْ صُورَةُ حَالِهِم كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِيْنَ : " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإنَّ جهنم لمحيطةٌ بالكافرين"[التوبة49].
وفِي هَذَا يَقُوْلُ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ : " ولَمَّا كَانَ فِي الأمْرِ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، والجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللهِ مِنَ الابْتِلاءِ والمِحَنِ مَا يَتَعرَّضُ بِهِ المَرْءُ للفِتْنةِ؛ صَارَ فِي النَّاسِ مَنْ يَتَعلَّلُ لِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْه مِنْ ذَلِكَ بأنْ يَطْلُبَ السَّلامةَ مِنَ الفِتْنَةِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المُنَافِقِيْنَ : " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا"[التوبة49].
__________
(1) ـ انظر "إعلام الموقعين" لابن القيم (2/176-177) .
(2) ـ انظر "جمهرة الأمثال" (2/160)، ومجمع الأمثال" للميداني (2/149)، و"موسوعة أمثال العرب"لأميل يعقوب (4/640).(1/454)
ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ تَرَكَ القِتَالَ الَّذِي أمَرَ اللهُ بِه؛ لِئَلا تَكُوْنَ فِتْنَةٌ؛ فَهُوَ فِي الفِتْنَةِ سَاقِطٌ؛ لِمَا وَقَعَ فِيْه مِنْ رَيْبِ قَلْبِه، ومَرَضِ فُؤَادِهِ، وتَرْكِ مَا أمَرَهُ اللهُ بِه مِنَ الجِهَادِ"(1).
وقَالَ الشَّيْخُ حَمَدُ بنُ عَتِيقٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " إنَّ المُدَاهِنَ، الطَّالِبَ رِضَا الخَلْقِ، أخْبَثُ حَالاً مِنَ الزَّانِي، والسَّارِقِ، والشَّارِبِ، قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ : وَلَيْسَ الدِّيْنُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ؛ بَلْ بالقِيَامِ مَعَ ذَلِكَ بالأمُوْرِ المَحْبُوْبَةِ للهِ، وأكْثَرُ الدَّيِّنِيْنَ لا يَعْبَئُوْنَ مِنْها، إلاَّ بِمَا شَارَكَهُم فِيْه عُمُوْمُ النَّاسِ؛ وأمَّا الجِهَادُ، والأمْرُ بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ، والنَّصِيْحَةُ للهِ، ورَسُوْلِه، وعِبَادِه، ونُصْرَةُ اللهِ، ورَسُوْلِه، وكِتَابِهِ، ودِيْنِهِ، فَهَذِه الوَاجِبَاتُ لا يَخْطُرْنَ بِبَالِهم؛ فَضْلاً عَنْ أنْ يُرِيْدُوا فِعْلَها؛ فَضْلاً عَنْ أنْ يَفْعَلُوها، وأقَلُّ النَّاسِ دِيْنًا، وأمْقَتُهم إلى اللهِ مَنْ تَرَكَ هَذِه الوَاجِبَاتِ، وإنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيِا جَمِيْعًا ... وأصْحَابُ الكَبَائِرِ أحْسَنُ حالاً عِنْدَ اللهِ مِنْ هَؤُلاءِ . انتهى .
فَلَوْ قُدِّرَ : أنَّ رَجُلاً يَصُوْمُ النَّهَارَ، ويَقُوْمُ اللَّيْلَ، ويَزْهَدُ فِي الدُّنْيا كُلِّها، وهُوَ مَعَ ذَلِكَ لا يَغْضَبُ، ولا يَتَمَعَّرُ وَجْهُه، ويَحْمَرُّ للهِ، فَلا يَأمُرُ بالمَعْرُوْفِ، ولا يَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ، فَهَذَا الرَّجُلُ مِنْ أبْغَضِ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ، وأقَلُّهم دِيْنًا، وأصْحَابُ الكَبَائِرِ أحْسَنُ حَالاً عِنْدَ اللهِ مِنْهُم ..
__________
(1) ـ انظر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لابن تيمية ص (76 – 77) .(1/455)
ويَشْهَدُ لِهَذا مَا جَاءَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أنَّ السَّاكِتَ عَنِ الحَقِّ شَيْطَانٌ أخْرَسُ، والمُتَكِلِّمُ بالبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ"(1).
وقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيْفِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وتَرْكُ ذَلِكَ ( أيْ : الأمْرِ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ ) عَلَى سَبِيْلِ المُدَاهَنَةِ، والمُعَاشَرَةِ، وحُسْنِ السُّلُوكِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مَمَّا يَفْعَلُه بَعْضُ الجَاهِلِيْنَ أعْظَمُ ضَرَرًا، وأكْبَرُ إثْمًا مِنْ تَرْكِهِ لِمُجَرَّدِ الجَهَالَةِ … وهَذَا فِي الحَقِيْقَةِ هُوَ الهُلْكَةُ فِي الآجِلَةِ، فَمَا ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ مَنْ لَمْ يُوَالِ فِي اللهِ، ويُعَادِ فِيْه"(2).
* * *
فَعِنْدَ ذَلِكَ؛ كَانَ وَاجِبٌ عَلَى أصْحَابِ هَذِه الشُّبْهَةِ أنْ يَقُوْمُوْا بِوَاجِبِ الإنْكَارِ عَلَى لاعِبِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وذَلِكَ بِحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ : سَوَاءٌ باليَدِ، أو اللِّسَانِ، أو القَلْبِ، ولَيْسَ ورَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيْمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ .
* * *
الشُّبْهَةُ العَاشِرَةُ : وإذَا قَالُوا : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وَسِيْلَةٌ دَعَوِيَّةٌ !
قُلْتُ : إنَّ الوَسَائِلَ لَهَا أحْكَامُ المَقَاصِدِ، فَمَا هُوْ مَقْصَدُكُم حِيْنَئِذٍ ؟
قَالُوْا : حَمْلُ الشَّبَابِ عَلَى الاسْتِقَامَةِ الشَّرْعِيَّةِ .
قُلْتُ : إنَّ النَّاظِرَ فِي دَعْوَاتِ أكْثَرِ الدُّعَاةِ هَذِه الأيَّامِ، يَرَى أنَّهم اتَّخَذُوا هَذِه الوَسِيْلَةَ مَقْصَدًا وغَايِةً، لا وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً .
__________
(1) ـ "الدُّرَرُ السَّنِيَّة" (8/77-79 ) .
(2) ـ "الدُّرَرُ السَّنِيَّة" (8/70 ) .(1/456)
يُوَضِّحُه؛ أنَّنا نَرَاهُم يَدْفَعُوْنَ الشَّبَابَ إلى اللَّعِبِ بِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) صَبَاحًا مَسَاءً؛ بَلْ جَعَلُوا ( كُرَةَ القَدَمِ ) فِي كَثِيْرٍ مِنَ بَرَامِجِهِم شَيْئاً أسَاسِيًّا، وذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي وَضْعِها فِي جَدْوَلَةِ البَرَامِجِ الدَّعَوِيَّةِ عِنْدَهُم .
قَالُوْا : ومَهْمَا يَكُنْ مِنْ أمْرٍ، فَهِي وَسِيْلَةٌ دَعَوِيَّةٌ لا غَيْرَ .
قُلْتُ : إذَا أبَيْتُم إلاَّ كَوْنُها وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً، دُوْنَ اعْتِبَارٍ لهَذِه المُغَالَطَاتِ الَّتِي تَرْتَكِبُوْنَها، فَبَيْنَنَا وبَيْنَكُم السَّلَفُ الصَّالِحُ، وحَالُهُم فِي الدَّعْوَةِ .
وهُوَ : هَلْ كَانَتْ دَعْوَةُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لعُثْمَانَ وغَيْرِه مِنَ الصَّحَابِةِ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُم ـ مِمَّنْ أسْلَمُوا عَلَى يَدِيْهِ؛ كَانَتْ عَنْ طَرِيْقِ : السِّبَاحَةِ، والمُسَابَقَةِ، واللَّعِبِ بالكُرَاتِ … إلخ ؟، فالجَوَابُ قَطْعًا : لا .
وأيْضًا : هَلْ تَعْلَمُوْنَ أحَدًا مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، كَانَتْ دَعْوَتُه إلى اللهِ تَعَالَى عَنْ طَرِيْقِ : السِّبَاحَةِ، أو المُسَابَقَةِ، أو اللَّعِبِ بالكُرَاتِ … إلخ ؟، والجَوَابُ قَطْعًا : لا .
فَعِنْدَئِذٍ؛ لا بُدَّ أنْ تُقِرُّوْا ( عَقِيْدَةً ! ) : أنَّ السَّلَفَ خَيْرٌ حَالاً، وأفْضَلُ دَعْوَةً مِنْكُم، وإلاَّ وَقَعْتُمْ فِي تَنَاقُضٍ بَيِّنٍ !
قَالُوْا : نَعَمْ، نَحْنُ نُقِرُّ بِذَلِكَ؛ لَكِنَّنا نَعْلَمُ أنَّ الوَسَائِلَ الدَّعَوِيَّةَ، لَيْسَتْ تَوْقِيْفِيَّةً .(1/457)
قُلْتُ : لَيْسَ مِنَ الصَّوَابِ، والتَّحْقِيْقِ العِلْمِيِّ، أنْ نَحْكُمَ عَلَى الوَسَائِلِ الدَّعَوِيَّةِ بِكَوْنِها غَيْرَ تَوْقِيْفِيَّةٍ، أو أنَّها تَوْقِيْفِيَّةٌ؛ بَلْ للتَّفْصِيْلِ تَأصِيْلٌ، وللتَّمْثِيْلِ تَوْضِيْحٌ، لَيْسَ هَذَا مَكَانُه(1).
قَالُوْا : إذَنْ، مَا تَقُوْلُ فِيمَنْ جَعْلَ ( كُرَةَ القَدَمِ ) وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً ؟
قُلْتُ : إنَّ مِنْ حَقِّ المُنَاظَرةِ أنْ أتَنَزَّلَ مَعَكُم ( جَدَلاً ! ) فِي كَوِنِها وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً فَرَضًا، إلاَّ أنَّ هُنَالِكَ اعْتِرَاضَاتٍ مُعْتَبَرَةً .
وذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِكُم : إنَّنا نُرِيْدُ بِـ( كُرَةِ القَدَمِ ) الخَالِيَةِ مِنَ المَحَاذِيْرِ : وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً، فَلا بُدَّ أنْ تَتَقَيَّدُوا بِهَذِه الوَسِيْلَةِ إثْبَاتًا ونَفْيًا، كَمَا يَلِي :
__________
(1) ـ فِي حِيْنَ أنَّنِي شَارِعٌ إنْ شَاءَ اللهُ عَلَى كِتابَةِ رِسَالَةٍ عَنْ أحْكَامِ، وضَوَابِطِ الوَسَائِلِ الدَّعَوِيَّةِ، تَحْتَ عُنْوَانِ : "وَسَائِلُ الدَّعْوَةِ بَيْنَ التَّوْقِيْفِ والتَّوْظِيْفِ" أسْألُ اللهَ تَعَالَى تَيْسِيْرَها، وفِيْها رَدٌّ عَلَى مَنْ أطْلَقَ التَّوْقِيْفَ عَلَى الوَسَائِلِ الدَّعَوِيَّةِ، أو تَوَسَّعَ فِيْها !(1/458)
أوَّلاً : عَلَيْكُم أنْ تَتَّخِذُوْها وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً للشَّبَابِ الغَافِلِ السَّاهِي، البَعِيْدِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ، ثُمَّ ثَانِيًا : عَلَيْكُم ألاَّ تُعَمِّمُوا هَذِه الوَسِيْلَةَ لِكُلِّ شَابٍ عَائِدٍ إلى اللهِ؛ لأنَّ فِي هَذَا تَخْوِيْنًا لَهُم، وتَبْلِيْدًا لقُدُرَاتِهم، ومُقَامَرَةً بِمَشَاعِرِهِم، لِذَا كَانَتْ هَذِه الوَسِيْلَةُ مُقَدَّرَةً بِقَدَرِها : فَمَنْ رَأيْتُم أنَّه يَسْتَقِيْمُ بِها فَحَيْهلا، وإلاَّ أنْ نَجْعَلَها دَعْوَةً عَامَّةً لِكُلِّ عَائِدٍ إلى اللهِ تَعَالَى فَلا؛ بَلْ هَذِه مُنَاقَضَةٌ مَفْضُوْحَةٌ .
ثَالِثاً : لا يَجُوْزُ لَكُم أنْ تَحْمِلُوا مَنْ صَلَحَ مِنَ الشَّبَابِ العَائِدِ إلى اللهِ تَعَالَى عَلَى مُمَارَسةِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وغَيْرِها مِنَ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ غَيْرِ المُعِيْنَةِ عَلَى الجِهَادِ إلاَّ بقَدَرٍ فِيْه تَسْلِيَةٌ، وإجْمَامٌ عَنِ النَّفْسِ، أمَّا جَعْلُها وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً مُطْلَقًا فَهَذَا لا يُقِرُّه سَلَفِيٌّ، ولا مُسْلِمٌ يُحِبُّ السَّلَفَ !
قَالُوْا : لا شَكَّ أنَّنا قَدْ اتَّخَذْنَا ( كُرَةَ القَدَمِ ) وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً للشَّبَابِ، فرَأيْنَاهُم يِتَفَاعَلُوْنَ مَعَها .(1/459)
قُلْتُ : هَذَا لا شَكَّ فِيْه، لأَّن كلَّ وَسِيْلَةٍ إذَا كَانَتْ : لَعِبًا، ولَهْوًا، وتَرْفِيْهًا، وتَرْوِيْحًا؛ بَلْ كُلَّ مَا مِنْ شَأنِهِ اللَّعِبُ فَهُوْ مَرْغُوْبٌ مَحْبُوْبٌ ضَرُوْرَةً، فَخُذْ مَثَلاً : لِعْبَةَ التَّزَلُّجِ عَلَى الثَّلْجِ، ولِعْبَةَ التِّنِسِ، ولِعْبَةَ ( الفِرِّيْرَةِ )، ولِعْبَةَ الشِّيْشِ … إلخ، كُلُّ هَذِه الألْعَابِ يَرْغَبُها كُلِّ شَابٍ غُمْرٍ مُقْبِلٍ إلى اللهِ تَعَالَى، لَكِنَّ الخُطُوْرَةَ كُلَّ الخُطُوْرَةِ يَوْمَ يَشْعُرُ هَذَا العَائِدُ إلى اللهِ تَعَالَى أنَّ هَذِه الألْعَابَ أصْبَحَتْ فِي حَيَاتِه واسْتِقَامَتِه : غَايَةً ومَقْصَدًا، ومَا ذَاكَ إلاَّ أنَّكُم حَمَلْتُمُوْهُم عَلَى هَذِه المُغَالَطَاتِ النَّكِدَةِ، الَّتِي كَانَ مِنَ الصَّعْبِ أنْ يَتْرُكَها الشَّابُ المُسْتَقِيْمُ، أو يَتَنَكَّرَها !
إنَّ مِثْلَ هَذِه الدَّعَوَاتِ مَا زِلْنَا نَجْنِي ثِمَارَها الفَاسِدَةَ، لِذَا كَانَ الأوْلَى بِكُم أنْ تَحْمِلُوا الشَّبَابَ العَائِدَ إلى اللهِ تَعَالَى عَلَى الجَادَّةِ فِي الاسْتِقَامَةِ، ومَعَالِي الأمُوْرِ : كحِفْظِ القُرْآنِ، والسُّنَّةِ، والعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، والجِهَادِ، وعُدَّتِه، والبَذْلِ لِهَذا الدِّيْنِ، والصِّدْقِ، واليَقِيْنِ، والتَّوَكُّلِ ، والحُبِّ فِي اللهِ تَعالَى، والبُغْضِ فِيْه … إلخ .
لا أنْ تُشْغِلُوهم بِهَذِه التَّلاعِيْبِ السَّاذَجَةِ، وفُضُوْلِ اللِّقَاءاتِ، والرَّحَلاتِ، والمُجَالَسَاتِ، والألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ لا سِيَّمَا ( كُرَةِ القَدَمِ ) !
فَكَانَ الأوْلَى بِكُم؛ أنْ تَحْمِلُوا أبْنَاءَ المُسْلِمِيْنَ ( فِي مَرَاكِزِكُم ) عَلَى الفُرُوْسِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِنَوْعَيْها :(1/460)
فالأُوْلَى مِنْهما : فُرُوْسِيَّةُ السِّنَانِ، والبِنَانِ؛ كالرِّمَايَةِ لا سِيَّمَا الحَدِيْثَةِ مِنْها، والخَيْلِ، والإبِلِ، والسِّبَاحَةِ، والمُصَارَعَةِ، وكُلِّ مَا هُوَ مِنْ شَأنِ الجِهَادِ وعُدَّتِه .
والثَّانِيَةُ مِنْهما : فُرُوْسِيَّةُ الحُجَّةِ، والبُرْهَانِ؛ كالعِلْمِ الشَّرْعِي مِنْ قُرْآنٍ، وسُنَّةٍ، وكُلِّ مَا هُوَ تَابِعٌ لَهُما كالتَّفْسِيْرِ، واللُّغَةِ، والفِقْهِ، والعَقِيْدَةِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ .
عِلْمًا؛ أنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنْ فُرُوْسِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ نَجِدُ كَثِيْرًا مِنَ المَرَاكِزِ الدَّعَوِيَّةِ خُلْوَةً مِنْها؛ إلاَّ فِي حُدُوْدٍ ضَيِّقَةٍ، وأوْقَاتٍ قَصِيْرَةٍ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُم ( للأسَفِ ! ) بِدَافِعِ شُبَهٍ وَاهِيَةٍ(1)؛ مِنْها : عَدَمُ إثْقَالُ الشَّبَابِ بِهَذِه العُلُوْمِ؛ رَغْبَةً فِي احْتِوَائِهِم وكَسْبِهم، ومِنْها : النُّزُوْلُ للوَاقِعِ الَّذِي يَعِيْشُه الشَّبَابُ هَذِه الأيَّامِ … إلخ .
* * *
فِي حِيْنَ أنَّنَا لا نَشُكُّ فِي جُهُوْدِ هَذِه المَرَاكِزِ الدَّعَوِيَّةِ؛ غَيْرَ أنَّنا لا نُسَلِّمُ لَهُم هَذِه التَّوَسُّعَاتِ فِي حَمْلِ هَؤُلاءِ الشَّبابِ عَلَى مُبَاحَاتٍ كَثِيْرَةٍ، مَعَ مَا يَرْجُوْنَه مِنَ القُرْآنِ وغَيْرِه، ولِهَذَا الكَلامِ شَاهِدٌ بَيْنَهُم .
وهُوَ أنَّ الطَّالِبَ يَبْقَى فِي هَذِه المَرَاكِزِ الدَّعَوِيَّةِ : يَحْفَظُ القُرْآنَ السَّنَتَيْنِ، والثَّلاثَةَ، عِلْمًا أنَّه بِمَقْدُوْرِه أنْ يَحْفَظَه فِي أقَلِّ مِنْ ذَلِكَ !
__________
(1) ـ قَدْ بَسَطْنا الكَلامَ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الأخْطَاءِ الَّتِي يَقَعُ فِيْها بَعْضُ الدُّعَاءِ فِي دَعْوَتِهم هَذِه الأيَّامِ، وذَلِكَ فِي فَصْلِ "تَقْرِيْبِ كُرَة القَدَمِ"، ص ( ) .(1/461)
كَمَا أنَّهُم لا يَدْفَعُوْنَ الطَّالِبَ بَعْدَ حِفْظِه للقُرْآنِ ( بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ طُوْلِ الزَّمَنِ ) إلى حِفْظِ السُّنَّةِ، ودَرْسِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِما .
قَالُوْا : هَذَا يَحْتَاجُ إلى وَقْتٍ، وإلى طَلَبَةِ عِلْمٍ … إلخ .
قُلْتُ : إذَنْ، أنْتُم جَعَلْتُم مِنَ حِفْظِ القُرْآنِ كُلَّ شَيءٍ : دَعَوَاتٍ، ولِقَاءاتٍ، ورَحَلاتٍ، ومُجَالَسَاتٍ، وعُمَرَاتٍ، وحَجَّاتٍ إلى مَا لا نِهَايَةَ، ورُبَّمَا يَدْخُلُ الشَّابُ فِي مَرَاكِزِكُم المُبَارَكَةِ وهُوَ بَعْدُ مَا طرَّ شَارِبُه، ولا يَخْرُجُ مِنْ عِنْدَكُم إلاَّ وقَدْ تَزَوَّجَ، أو تَوَظَّفَ، أو مَا مِنْ شَأنِه أنْ يُفَارِقَكُم، وهُوَ هُوَ، لا عِلْمَ، ولا جِدِّيَّةَ فِي الاسْتِقَامَةِ، ورُبَّمَا نَسِي بَعْضَ القُرْآنِ، وأدْهَى مِنْ هَذَا وأمَرُّ؛ أنَّه رُبَّمَا أصْبَحَ قَائِدًا دَعَوِيًا فِي نَفْسِ مَرْكَزِكُم الدَّعَوِي !
* * *
قَالُوْا : هَلْ فِي تَعْلِيْمِ القُرْآنِ شَيْءٌ ؟
قُلْتُ : مَعَاذَ الله، ولَكِنَّكُم بِطَرَائِقِكِم هَذِه تُفْرِّقُوْنَ بَيْنَ القُرْآنِ، والسَّنَّةِ، والعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، بِطَرِيْقٍ، أو آخَرَ .
يُوَضِّحُه؛ أنَّ الاعْتِنَاءَ بالقُرْآنِ دُوْنَ السُّنَّةِ لَيْسَ مِنْ مَنْهَجِ السَّلَفِ، ولَمْ يَكُنْ يَوْمًا طَرِيْقًا صَحِيْحًا فِي الطَّلَبِ، ومَا هَذِه الدَّعَوَاتُ ( القُرْآنِيَّةُ ! ) فِي كَثِيْرٍ مِنْ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ مُؤَخَّرًا إلاَّ تَأثُّرًا وتأثِيْرًا بأهْلِ البِدَعِ، والجَمَاعَاتِ الإسْلامِيَّةِ أبِيْنَا أم رَضِيْنا !(1/462)
كَمَا أنَّنا لا نَشُكُّ أنَّكُم وَافَقْتُم السَّلَفَ فِي بِدَايَةِ الطَّلَبِ، لا فِي نِهَايَتِه، وذَلِكَ بتَعْلِيْمِ القُرْآنِ فَقَطُ دُوْنَ تَدَبُّرٍ وعَمَلٍ؛ لأنَّ السَّلَفَ كَانُوا لا يُفَرِّقُوْن بَيْنَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فِي الطَّلَبِ ( شَرِيْعَةً ومِنْهَاجًا )، اللَّهُمَّ أنَّهُم يُقَدِّمُوْنَ للطَّالِبِ حِفْظَ القُرْآنِ أوَّلاً، ثُمَّ السُّنَّةَ ثُمَّ مَا سِوَاهُما مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ . أمَّا أنْ يُجْعَلَ تَعْلِيْمُ القُرْآنِ غَايَةً ومَنْهَجًا قَطُّ فَلا .
عِلْمًا أنَّ النَّاظِرَ فِي فِقْهِ الوَاقِعِ يَعْلَمُ صِدْقَ مَا أقُوْلُ ! فَهُنَاكَ الكَثِيْرُ مِنَ الدَّلائِلِ والمُؤَشِّرَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى خَطَرِ هَذِه الدَّعَوَاتِ القُرْآنِيَّةِ! دُوْنَ مَا سِوَاهَا مِنَ العُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الدَّاخِلِ، أو الخَارِجِ .
* فأمَّا الدَّاخِلُ : فَنَجِدُ الاعْتِنَاءَ بالقُرْآنِ الكَرِيْمِ دُوْنَ السُّنَّةِ مِمَّا لَهُ شَأنٌ كَبِيْرٌ عَلَى مُسْتَوَى البَنِيْنَ، والبَنَاتِ، فانْظُرْ مَثَلاً : مَدَارِسَ التَّحْفِيْظِ، ومَرَاكِزَ التَّحْفِيْظِ، وحَلَقَاتِ المَسَاجِدِ … إلخ .
فِي حِيْنَ أنَّ أحَدًا إذَا أرَادَ أنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعْلِيْمِ السُّنَّةِ، والعُلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ تَعْلِيْمًا سَلَفِيًّا لَوَجَدَ مِنَ المُضَايَقَاتِ، والمُمَانَعَاتِ الشَّيْءَ الكَثِيْرَ، ومَا ذَاكَ إلاَّ لِعِلْمِهِم بِخَطَرِ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الشَّبَابِ، مِمَّا سَيَحْمِلُهم عَلَى الجِدِّيَّةِ فِي الاسْتِقَامَةِ، والأمْرِ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ … إلخ .(1/463)
* أمَّا الخَارِجُ : فالكُلُّ يَعْلَمُ أنَّ أكْثَرَ حُكُوْمَاتِ بِلادِ المُسْلِمِيْنَ مِمَّنْ نَابَذَتْ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى وَرَاءَ ظُهُوْرِها، لا تَجِدُ حَرَجًا فِي حِفْظِ القُرْآنِ، وتَعَلُّمِه، وإقَامَةِ المَرَاكِزِ لأجْلِهِ … إلخ .
أمَّا حِفْظُ السُّنَّةِ، وتَعْلِيْمُها فَهَيْهَاتَ فَدُوْنَها خَرْطُ القَتَادِ؛ بَلْ مَنْ سَوَّلَتْ لَه نَفْسُه بِذَلِكَ فَجَزَاءه السِّجْنُ والتَّعْذِيْبُ، كَمَا أنَّ اسْمَه سَيَدْخُلُ قَائِمَةَ الأصُوْلِيِّيْنَ، والمُتَطَرِّفِيْنَ، والإرْهَابِيِّيْنَ … وأخْطَرَ مِنْ ذَلِكَ أنَّهُم يَعْلَمْوُنَ أنَّ المُشْتَغِلَ بالسُّنَّةِ سَيَكُوْنُ ( سَلَفِيًّا ! )، ومِثْلُ هَذَا لا يَحِقُّ لَه أنْ يَرْفَعَ رَأسًا بَيْنَهُم؛ لكَوْنِهِم يَعْلَمُوْنَ مَعْنَى وحَقِيْقَةَ السَّلَفِ : إنَّهُم عِبَادُ اللهِ ( قَوْلاً، وعَمَلاً ) !
* * *
ثُمَّ لا نَنْسَ أيْضًا أنَّ الاعْتِنَاءَ بالقُرْآنِ فَقَطُ فِيْه تَأثُّرٌ ببَعْضِ أهْلِ البِدَعِ، وكَذَا ببَعْضِ الجَمَاعَاتِ الإسْلامِيَّةِ .
هَذَا إذَا نَظَرْنا إلى أكْثَرِ أهْلِ البِدَعِ فِي زَمَانِنَا نَجِدُ لَهُم عِنَايَةً فَائِقَةً بالقُرْآنِ دُوْنَ غَيْرِه، مِثْلُ : مَدَارِسِ الأشْعَرِيَّةِ ( الجَامِعَاتِ )، والمُعْتَزِلَةِ، والإبَّاضِيَّةِ، والقَادِيَانِيَّةِ، والأحْبَاشِ؛ بَلْ غَالِبِ الصُّوْفِيَّةِ .
أمَّا أكْثَرُ الجَمَاعَاتِ الإسْلامِيَّةِ فَلَمْ تَسْلَمْ مِنْ هَذِه الدَّعْوَةِ القُرْآنِيَّةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَرَاكِزِهِم الدَّعَوِيَّةِ، وغَيْرِها .(1/464)
هَذَا إذَا عَلِمْنَا أنَّ طُلابَ القُرْآنِ فِي زَمَانِنا هُمْ أقَلُّ جِدِّيَّةً فِي الاسْتِقَامَةِ، مِنَ الطُّلابِ الَّذِيْنَ جَمَعُوا بَيْنَ القُرْآنِ والسُّنَّةِ أكْثَرَ الشَّبَابِ جِدِّيَّةً وصَلابَةً فِي دِيْنِهِم؛ بَلْ لا أعْلَمُ أحَدًا مِنْهُم فِيْه مَا فِي غَيْرِه مِنْ طُلابِ القُرْآنِ، وأدَلُّ شَيْءٍ عَلَى ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ الطُّلابِ الَّذِيْنَ يَحْفَظُوْنَ القُرْآنَ نَرَاهُ يَتَخَرَّجُ مِنْ مَدْرَسَتِه، أو مَرْكَزِه، أو مَسْجِدِه وهُوَ خَامِلُ الذِّكْرِ، فَاتِرُ العَزِيْمَةِ، ورُبَّمَا لا تَرَى عَلَيْه سِمَاتَ الصَّالِحِيْنَ، وهَذَا الحَالُ نَرَاهُ أبْعَدَ مَا يَكُوْنُ لطَالِبِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ مَعًا .
كَمَا أنَّنَا نَخْشَى فِي الوَقْتِ نَفْسِه، ومَعَ مُرُوْرِ الزَّمَنِ أنْ تَنْبُتَ بَيْنَ هَؤُلاءِ الشَّبَابِ نَابِتَةً نَكِدَةً تُؤْمِنُ بالقُرْآنِ دُوْنَ السُّنَّةِ، كَمَا حَذَّرَ مِنْها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِه : " لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُم مُتَّكِأ عَلَى أرِيْكَتِهِ يَأتِيْه أمْرٌ مِمَّا أمَرْتُ بِهِ، أو نَهَيْتُ عَنْه، فَيَقُوْلُ : لا أدْرِي، مَا وَجَدْنا فِي كِتَابِ اللهِ اتَّبَعْنَاهُ"(1) أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ .
* * *
قَالُوْا : هَلْ تُرِيْدُ بِكَلامِكَ هَذَا أنْ نَهْجُرَ مَدَارِسَ، ومَرَاكِزَ، وحَلَقَاتِ القُرْآنِ ؟
قُلْتُ : مَعَاذَ الله أنْ أقُوْلَ مَا لَيْسَ لِي فِيْه سُلْطَانٌ، ولكِنَّنِي أرِيْدُ شَيْئَيْنِ :
الأوَّلُ : أنْ يَعْلَمَ الجَمِيْعُ أنَّ هُنَاكَ خَلَلاً فِي مَنْهَجِ الطَّلَبِ عِنْدَ بَعْضِ الدُّعَاةِ .
__________
(1) ـ أخرجه أحمد ( 6/8 )، والترمذي ( 2663 )، وهو صحيح، انظر "صحيح الترمذي" للألباني (2145 ).(1/465)
الثَّانِي : أنْ يَهْتَمَّ أصْحَابُ هَذِه المَدَارِسِ، والمَرَاكِزِ : بالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ اهْتِمَامًا كَبِيْرًا شَأنُه شَأنَ القُرْآنِ، وأنْ يَجْمَعُوا لأبْنَاءِ المُسْلِمِيْنَ القُرْآنَ والسُّنَّةَ جَمْعًا سَلَفِيًّا ( عِلْمًا، وعَمَلاً )، واللهُ المُوَفِّقُ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَسْتَطِيْعُ أنْ نَعْلَمَ الخَطِيْئَةَ، والحِنْثَ العَظِيْمَ الَّذِي يُدَنْدِنُ بِه بَعْضُ المُنْهَزِمِيْنَ فِي دَعَوَاتِهِم؛ يَوْمَ قَالُوْا : إنَّ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً !
قَالُوْا : إنَّ مَا تَقُوْلُه هُنَا حَقٌّ، لَكِنَّه لَيْسَ عَلى إطْلاقِه .
قُلْتُ : ولَكِنَّنِي أتَكَلَّمُ عَنْ شَرِيْحَةٍ كَبِيْرَةٍ مِنْ أصْحَابِ الدَّعَوَاتِ الخَامِلَةِ، وقَدْ قِيْلَ : فَاقِدُ الشَّيْءِ لا يُعْطِيْه !، لأنَّ أكْثَرَ أصْحَابِ هَذِه الدَّعَوَاتِ لَيْسُوا طُلابَ عِلْمٍ؛ بَلْ رَضَوْا أنْ يَكُوْنُوا مَعَ الخَوَالِفِ الَّذِيْنَ لا يَرْفَعُوْنَ رَأسًا للعِلْمِ .
لِذَا كَانَتْ وَسَائِلُهُم الدَّعَوِيَّةُ هَزِيْلَةً ضَعِيْفَةً تَتَجَارَى مَعَ قُدَرَاتِهم وعِلْمِهِم، ومِنْه كَانَ مِنَ الخَطَأ أنْ نُسَلِّمَ لَهُم هَذِه الدَّعْوَةَ العَرِيْضَةَ؛ وهِي : أنَّ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وَسِيْلَةً دَعَوِيَّةً .
اللَّهُمَّ إنَّنا رَضِيْنَا بالرِّيَاضَةِ الإسْلامِيَّةِ دِيْنًا، وبالفُرُوْسِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ شِرْعَةً ومِنْهَاجًا
* * *
ولَوْلا خَشْيَةُ الإطَالَةِ لَذَكْرَتُ مِنْ مَنْظُوْمَةِ الشُّبهِ الَّتِي يَخْتَلِقُها أصْحَابُها العَدَدَ الكَثِيْرَ؛ لَكِنَّها ـ وللهِ الحَمْدُ ـ شُبَهٌ وَاهِيَةٌ لا تَسْتَحِقُّ أكْثَرَ مِنْ قَوْلِنَا لَهُمْ : ( رِفَقًا بالشَّبَابِ ) !(1/466)
وكَذَا نُذَكِّرُهُم بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى : " واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أن الله شديدُ العقاب"[الأنفال25]، وقَوْلِه تَعَالَى: "فاعتبروا يا أولي الأبصار"[الحشر2]، وقَوْلِه تَعَالَى : "إنَّ في ذلك لذكرى لأولي الألباب"[الزمر21]، لِذَا كَانَ عَلَيْنا أنْ نَعْتَبِرَ بِمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) سَوَاءٌ فِي بِلادِ المُسْلِمِيْنَ، أو بِلادِ الكَافِرِيْنَ، وعَلَيْنا أيْضًا أنْ نَتَذَكَّرَ بِوَاقِعِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) إنْ كُنَّا مِنْ أوْلِي الأبْصَارِ، والألْبَابِ !، وبِهَذَا نَكْتَفِي بِمَا أجْرَاهُ القَلَمُ .
والحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ
* * *
الفَصْلُ السَّابِعُ
الشِّعْرُ العَرَبي، و( كُرَةُ القَدَمِ )
وأخِيْرًا؛ أحْبَبْنَا أنْ نُشْرِكَ مَعَنَا الشِّعْرَ العَرَبِيَ فِي التَّعْبِيْرِ عَنْ مَأْسَاةِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) الَّتِي احْتَلَّتْ الصَّدْرَ الأوَّلَ في تَخْدِيْرِ أبْنَائِنا، لِذَا فإنَّنا نَجِدُ الشِّعْرَ قَدْ مَدَّ لَنَا آهَاتَه، وأنِيْنَه نَحْوَ هَذِهِ المَأْسَاةِ مِنْ زَمَنٍ بَعِيْدٍ !، لِذَا كَانَ للشِّعُرَاءِ صَوْتٌ مُنَافِحٌ عَنْ أُمَّتِه، وعَنْ بَيَانِ مَسَاوِئ هَذِه اللُّعْبَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ؛ إلاَّ أنَّنَا اخْتَرْنَا مِنْها ما وَقَعَ في أيْدِيْنا عَسَانَا نَظْفَرُ بِغَيْرِه فِيْمَا بَعْدُ، واللهُ المُوَفِّقُ .
* * *
ومِنْ هَذِهِ القَصَائِدِ مَا جَادَتْ بِهِ قَرِيْحَةُ الشَّاعِرِ الدِّمِشْقِيِّ وَلِيْدِ بنِ إبْرِاهِيْمَ قَصَّابِ؛ أُسْتَاذِ الأدَبِ العَرَبِيِّ، حَيْثُ شَارَكَ بِبَعْضِ شِعْرِهِ فِي بَيَانِ حَقِيْقَةِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بَيَانًا يُصَدِّقُهُ الوَاقِعُ المَرِيْرُ !، فِي تَارِيْخِ ( 6/2/1404هـ ) .(1/467)
فَدُوْنَكَ هَذِه الأبْيَاتِ المُخْتَارَةَ مِنْ شِعْرِهِ، تَحْتَ عُنْوَانِ : ( كُرَةِ القَدَمِ )(1) :
( كُرَةُ القَدَمِ )
أمْضَى الجُسُوْرَ إلِى العُلا……بِزَمَانِنَا كُرَةُ القَدَمْ
تَحْتَلُّ صَدْرَ حَيَاتِنَا……وحَدِيْثُها فِي كُلِّ فَمْ
وهِيَ الطَّرِيْقُ لِمَنْ يُرِيْـ ……دُ خَمِيْلَةً فَوْقَ القِمَمْ
أرَأيْتَ أشْهَرَ عِنْدَنَا ……مِنْ لاعِبِي كُرَةِ القَدَمْ؟
أهُمْ أشَدُّ تَوَهُّجًا … أمْ نَارُ بَرْقٍ فِي عَلَمْ؟
مَا قِيْمَةُ العِلْمِ الغَزِيْـ… ـرِ وأنْ تَكُوْنَ أخَا حِكَمْ؟
وتَظَلَّ لَيْلَكَ سَاهِرًا……تَقْضِيْهِ فِي هَمٍّ وغَمْ؟
فتُرَى ولَمْ يَبْقِ الضَّنَا………لَحْمًا عَلَيْكَ ولا شَحَمْ؟
مَا دَامَ أصْحَابُ المَعَا………لِي عِنْدَنَا أهْلُ القَدَمْ
* * *
لَهُمْ الجِبَايَةُ والعَطَا…… ءُ بِلا حُدُوْدٍ والكَرَمْ
لَهُمُ المَزَايَا والهِبَا ………تُ ومَا تَجُوْدُ بِهِ الهِمَمْ
ولِعَالِمٍ سَهَرُ اللَّيَا ………لِيَ عَاكِفًا فَوْقَ القَلَمْ
ولِزَارِعٍ أحْيا المَوَا ………تَ، فأنْبَتَتْ شَتَّى النِّعمْ
ومُقَاتِلٌ حُرِمَ السَّهَا ………دَ، ولَمْ يَزَلْ رَهْنَ الحِمَمْ
بَعْضُ الفُتَاتِ لِكَي تَعِيْـ ……شَ عَليَّةً كُرَةُ القَدَمِْ
فَبِفَضْلِهَا سَيَكُوْنُ هَـ ……ذَا الجَيْلُ مِنْ خَيْرِ الأمَمْ
وبفَضْلِهَا يَأتِي الصَّبَا ……حُ، ويَنْتَهِي لَيْلُ الظُّلَمْ
وتُرَدُّ صِهْيَوْنُ الَّتِي ……مَا رَدَّهَا عَلَمٌ وفَهْمْ
* * *
( كُرَةُ القَدَمِ )
النَّاسُ تَسْهَرُ عِنْدَها ……مَبْهُوْرَةً حَتَّى الصَّبَاحْ
لِتُشَاهِدَ الفُرْسَانَ يَعْـ ……ـتَرِكُوْنَ فِي سَاحِ الكِفَاحِْ
يَعْلُو الهُتَافُ وتَمْلأُ ……الآفَاقَ أصْوَاتُ الصِّيَاحْ
هَذَا يُشَجِّعُ لاعِبًا ……هَذَا جِنَاحٌ، ذَا جِنَاحْ
__________
(1) ـ انظر كتاب "من الشعر الإسلامي الحديث"، وهو عبارة عن مختارات من شعراء رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ص (344).(1/468)
اللاعِبُوْنَ أُسُوْدُ غَابٍ ……يَمْسَحُوْنَ لَظَى الجِرَاحْ
فَيُعَانَقُوْن، يُطَوَّقُوْ ……نَ الوَرْدَ، أو زَهْرَ الأقَاحْ
وإذَا دَعَا دَاعِي الجِهَا ……دِ وقَالَ : حَيَّ عَلَى الفَلاحْ
هيَّا إلى رَدِّ العَدُ ……وِّ المُسْتَكِيْنَ عَلَى البِطَاحْ
غَطَّ الجَمِيْعُ بنَوْمِهِم ……فَوْزُ الفَرِيْقِ هُوَ الفَلاحْ
فَوْزُ الفَرِيْقِ هُوَ السَّبِيْـ ……ـلُ إلى الحَضَارَةِ والصَّلاحْ
إلى اعْتِلاءِ العَابِرا ……تِ، وإلِى الفَضَا فَوْقَ الرِّيَاحْ
والعِلْمُ مِنْ لَغْوِ الحَدِيْـ ……ـثِ، ودَرْبُهُ وخَزُ الجِرَاحْ
* * *
( كُرَة القَدَمِ )
كُرَةُ القَدَمِ صَارَتْ أجَلَّ ……أمُوْرِنا وحَيَاتِنا هَذَا الزَّمَنْ
مَا عَادَ يَشْغَلُنا سِوَا ……هَا فِي الخَفَاءِ وفِي العَلَنْ
أكَلَتْ عُقُوْلَ شَبَابِنَا ……ويَهُوْدُ تَجْتَاحُ المُدُنْ
لِلاعِبِ المِقْدَامِ تَصْـ ……ـنَعُ رِجْلُه مِجْدَ الوَطَنْ
* * *
عَجَباً لآلافِ الشَّبَا ……بِ وإنَّهم أهْلُ الشِّيَمْ
أُسُدُ العَزِيْمَةِ والمُرَوْ ……ءةِ إنْ دَجَا لَيْلُ الألَمْ
صُرِفُوْا إلى الكُرَةِ الحَقِيْـ ……رَةِ فأسْتُبِيْحَ لَهُمْ غَنَمْ
دَخَلَ العَدُوُّ بِلادَهُم ……وَضَجِيْجُها زَرَعَ الصَّمَمْ
هُتِكَتْ بِيُوْتُ الآمِنِيْـ ……نَ، ودُنِّسِتْ لَهُم حُرَمْ
ذُبِحَتْ ألُوْفُ الأبْرِيَا ……ءِ، وأُهْرِقَتْ أنْهَارُ دَمْ
دَخَلَ اليَهُوْدُ إلى الحِمَى ……دَاسُوْا عَلَيْنَا بالقَدَمْ
وجِهَادُنا واللهُ يَنْصُرُ ……جُنْدَه كُرَةُ القَدَمِْ
* * *
نَاشَدْتُكُم باللهِ والْـ ……قُرْآنِ يَا جِيْلَ الكُرَةْ
أعَلِمْتُم أنَّ اليَهُو ……دَ عَلَى الدِّيَارِ مُعَسْكِرَةْ
تَجْتَاحُ أرْضَ الأنْبِيا ……ءِ بَغِيَّةً مُسْتَكْبِرَةْ
تَخْتَالُ فَوْقَ دِمَائِنا ……عَرْبِيْدَةٌ مُتَجَبِّرَةْ
دَاسَتْ عَلَى مَجْدِ السِّنِيْـ ……ـنَ، وأقْبَلَتْ مُتَبَخْتِرَةْ(1/469)
فِي كُلِّ يَوْمٍ نَكْبَةٌ ……وبِكُلِّ أرْضٍ مَجْزَرَةْ؟
أسَمِعْتُمْ نَهْرَ الدِّمَا ……ءِ بِكُلِّ فَجٍّ قَدْ جَرَى؟
أيُسَجِّلُ التَّارِيُْخ أنَّـ ……ـنَا أُمَّةٌ مُسْتَهْتِرَةْ؟
شَهِدَتْ سُقُوْطَ بِلادِها ……وعُيُوْنُها فَوْقَ الكُرَةْ
* * *
وهَذِه أبْيَاتٌ شِعْرِيَّةٌ مُتَدَاوَلةٌ مُسْتَجَادَةٌ، لا أعْلَمُ صَاحِبَها :
عَرَبَاتٌ تَدَفَّقَتْ تُشْبِهُ الهَائِجَ الخِضَمْ ... وعَلَيْها تَكَوَّمَتْ زُمَرُ طَيْشُها احْتَدَمْ
وعَلَى كُلِّ قَبْضَةٍ غَايَةٌ زَاحَمَتْ عَلَمْ ... حُشِرَ النَّاسُ تَحْتَهَا أمَمٌ إثْرَها أُمَمْ
مَجَّتِ الأرْضُ بالوُرُوْدِ ودَاءُ الفَحِيْطِ عَمْ ... فَتَسَألْتُ والأسَى يَمْضَغُ القَلْبَ بالألَمْ
هَلْ فِلِسْطِيْنُ حُرِّرَتْ وقِطَافُ العَنَاءِ تَمْ ؟ ... أمْ بِكِشْمِيْرٍ دُمِّرَتْ قُوَّةُ الكَافِرِ الأذَمْ؟
أمْ قَضَتْ مِحْنَةَ الجِيَاعِ وَغِيْثُ الرَّخَاءِ عَمْ ؟ ... قِيْلَ لا بَلْ فَرِيْقُنَا فَازَ فِي لُعْبَةِ القَدَمْ
أيُّ سُخْفٍ مُدَمِّرٍ عَنْ فَسَادِ الشُّعُوْبِ نَمْ ؟ ... وإلَى أيِّ خَيْبَةٍ هَبَطَتْ هَذِه الأُمَمْ ؟
ألْفُ مِلْيُوْنٍ أصْبَحُوا كَغُثَاءٍ بِشْطِّ يَمْ ... ومُصَلَّى نَبِيِّهِم بِيَدِ اللُّصِّ يُقْتَسَمْ؟
أنَا أقْسَمْتْ بالَّذِي بَرَأ الكَوْنَ مِنْ عَدَمْ ... وكَسَا ثَوْبَ عِزَّةِ كُلَّ مَنْ بالهُدَى اعْتَصَمْ
ورَمَى مُدْمِنَ الضَّلالِ بِسَوْطٍ مِنَ النِّقَمْ ... إنْ قَنِعْنَا بِسُخْفِنَا ورَكَلْنا إلى النِّعَمْ
فَخُطَا الخَصْمِ مَاضِيَاتٍ مِنَ القُدْسِ للحَرَمْ ... عِنْدَهَا يَنْدَمُ الجَمِيْعُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ النَّدَمْ
* * *
الفَصْلُ الثَّامِنُ
مُلْحَقُ
فَتَاوَى أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )(1/470)
إنَّ تَحْرِيْمَ كُلِّ لُعْبَةٍ فِيْها : ضَرَرٌ، أو إيْذَاءٌ، أو عَدَاءٌ، أو بَغْضَاءُ، أو صَدٌّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ … إلخ، مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْه عُلَمَاءُ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ كَافَّةً، ولا نَعْلَمُ بَيْنَهُم خِلافًا، وللهِ الحَمْدُ رَبِّ العَالَمِيْنَ .
كَمَا أنَّ هُنَاكَ كَثِيْرًا مِنْ أهْلِ العِلْمِ المُعَاصِرِيْنَ مِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، لِمَا فِيْها مِنَ المُحَرَّمَاتِ، والآذَايَا، والأضْرَارِ مَا يَجْعَلُها مُحَرَّمَةً عِنْدَهُم بِلا شَكٍّ .
* * *
أمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيْمِ كُلِّ لِعْبَةٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ فَكَثِيْرٌ جِدًّا، نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرَه ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ وذَلِكَ عِنْدَما سُئِلَ عَنْ لِعْبِ الكُرَةِ فِي بَابِ السَّبَقِ ( أيْ : الكَرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ بالصَّوْلَجَانِ، والكُجَّةِ ! )، فقَالَ : " … ولِعْبُ الكُرَةِ إذَا كَانَ قَصَدَ صَاحِبُهُ المَنْفَعَةَ للْخَيْلِ، والرِّجَالِ؛ بِحَيْثُ يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الكَرِّ والفَرِّ، والدُّخُوْلِ، والخُرُوْجِ، ونَحْوِهِ فِي الجِهَادِ، وغَرَضُه الاسْتِعَانَةُ عَلَى الجِهَادِ الَّذِي أمَرَ اللهُ بِه رَسُوْلَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ، وإنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَضَرَّةٌ بالخَيْلِ، والرِّجَالِ، فإنَّه يُنْهَى عَنْهُ"(1) .
عِلْمًا أنَّ لِعْبَ الكُرَةِ أنَذَاكَ كَانَ مَنْفَعَةً للفَارِسِ، والخَيْلِ مَعًا؛ وهِي مِمَّا يُسْتَعَانُ بِها عَلَى الكَرِّ والفَرِّ، مِمَّا هُوَ مِنْ شَأنِ الجِهَادِ، فأيْنَ ( كُرَةُ القَدَمِ ) مِنْ هَذَا ؟!
__________
(1) ـ "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي ص ( 251 ) .(1/471)
وقَالَ أيْضًا : " كُلُّ فِعْلٍ أفْضَى إلى مُحَرَّمٍ حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيْه مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ؛ لأنَّه يَكُوْنُ سَبَبَا للشَّرِ، والفَسَادِ …"، وقَالَ أيْضًا : " ومَا ألْهَى، وشَغَلَ عَمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْه، وإنْ لَمْ يَحُرُمْ جِنْسُهُ؛ كَبَيْعٍ، وتِجَارَةٍ، ونَحْوِها"(1).
وهَلْ يَشُكُّ عَاقِلٌ فِيْمَا تُفْضِي إلَيْه ( كُرَةُ القَدَمِ ) هَذِه الأيَّامِ؛ مِنْ : شَرٍّ، وفَسَادٍ ؟!، أو يَشُكُّ فِي كَوْنِها مُشْغِلَةً، ومُلْهِيَةً عَمَّا أمَرَ اللهُ بِهِ ؟!
وقَالَ أيْضًا : " إنَّ العُلُوْمَ المَفْضُوْلَةَ إذَا زَاحَمَتِ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ، وأضْعَفَتْها؛ فإنَّهَا تَحْرُمُ"(2).
فإذَا كَانَ الأمْرُ هَكَذَا فِي العُلُوْمِ المَفْضُوْلَةِ مَعَ العُلُوْمِ الفَاضِلَةِ، فَكَيْفَ والحَالَةُ هَذِه بِـ ( كُرَةِ القَدَمِ ) يَوْمَ زَاحَمَتْ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ، وأضْعَفَتْها؛ بَلْهَ العُلُوْمَ الشَّرْعِيَّةَ؛ كَمَا هُوَ وَاقِعُ شَبَابِنَا هَذِه الأيَّامَ، فِي حِيْنَ أنَّ لِعْبَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) لَيْسَ عِلْمًا؛ إنَّما هُوَ لَهْوٌ، وسَفَهٌ مَعًا !
وما ذَكَرَهُ ابنُ تَيْمِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ هُنَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ خِلافٍ بِيْنَ أهْلِ العِلْمِ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلْيه بَيْنَ عَامَّةِ أهْلِ العِلْمِ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِيْهِ ضَرَرٌّ، أو شُغْلٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ : فَهُوَ حَرَامٌ قَطْعًا!
* * *
__________
(1) ـ "الإنصاف" للمرداوي (6/90 ) .
(2) ـ انظر "الدرر السنية" (15/ 216 ) دار العاصمة .(1/472)
ومِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مُحَمَّدٍ القَاسِمُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ حَيْثُ قَالَ : " فَصْلٌ : ومِنَ المَلاهِي، مَا يُسَمُّوْنَه : ( لِعْبُ الكُرَةِ ) لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ الخُلَفَاءِ، ولا مُلُوْكِ المُسْلِمِيْنَ، ولا فِي هَذِه الدَّعُوَةِ المُبَارَكَةِ ( النَّجْدِيَّةِ )، إلى وَفَاةِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ .
وإنَّمَا سَرَتْ إلى هَذِه المَمْلَكَةِ، مِنْ تَلامِيْذِ الغَرْبِ، حَيْثُ تَلَقَّتْها بِعْضُ الدُّوَلِ المُنْحَلَّةِ، عَنِ التُّرْكِ وغَيْرِهِم، فَقَدْ رَغِبَ فِيْها مَنْ قَلَّ نَصِيْبُه مِنَ العِلْمِ والدِّيْنِ، لِيَصُدُّوْا بِها عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، وحَتَّى يَتْرُكَ بَعْضُهم صَلاةَ العَصْرِ والمَغْرِبِ، وحَتَّى قَالَ مَنْ لا نَصِيْبَ لَه مِنَ الإسْلامِ : إنَّ الصَّلاةَ رِيَاضَةٌ، وهَذِه بَدَلَها !
وقَدْ أنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ لَهُ غَيْرَةٌ عَلَى دِيْنِ الإسْلامِ، مِنْ مُعَلِّمِيْنَ وغَيْرِهِم، فَعَسَى اللهُ أنْ يُوَفِّقَ وُلاةَ أمُوْرِنا لِمَنْعِهِم، ويُقِيْمُوا مَكَانَها : التَّعْلِيْمَ عَلَى آلاتِ الحَرْبِ، لِيَدْفَعُوا عَدُوِّهِم عَنْ بِلادِهِم، وعَسَى اللهُ أنْ يُؤَيِّدُهُم بِرُوْحٍ مِنُه، فَيُقِيْمُوا عَلَمَ الجِهَادِ، مُقْتَفِيْنَ بِذَلِكَ آثَارَ آبَائِهم، الَّذِيْنَ جَاهَدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِه، واللهُ المُوَفِّقُ"(1).
* * *
__________
(1) ـ "الدرر السنية" (15/200) دار العاصمة .(1/473)
وقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيْمَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " وبِمُنَاسَبَةِ الحَدِيْثِ عَنِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، وتَعْرِيْجِنَا عَلَى اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وإيْرَادِنا مَا ذَكَرَه الشَّيْخُ ( ابنُ تَيْمِيَّةَ )، مِنَ النَّهْي عَنِ اللَّعِبِ بِها، إذَا كَانَ فِيْه مَضَرَّةٌ، بالخَيْلِ، أو الرِّجَالِ . يَحْسُنُ أنْ نَغْتَنِمَ هَذِه الفُرْصَةَ، لِنَقُوْلَ : بأنَّ اللَّعِبَ بالكُرَةِ الآن ( أي : كُرَةَ القَدَمِ ) يُصَاحِبُه مِنَ الأمُوْرِ المُنْكَرَةِ، مَا يَقْضِى بالنَّهْي عَنْ لِعْبِها، هَذِه الأمُوْرُ، نُلَخِّصُها فِيْما يَأتِي :
أوَّلاً : ثَبَتَ لَدَيْنا مُزَاوَلَةُ لِعْبِها فِي أوْقَاتِ الصَّلاةِ، مِمَّا تَرَتَّبَ عَلَيْه تَرْكُ اللاعِبِيْنَ، ومُشَاهِدِيْهِم للصَّلاةِ، أو الصَّلاةِ جَمَاعَةً، أو تَأخِيْرِهِم أدَائِها عَنْ وَقْتِها، ولا شَكَّ فِي تَحْرِيْمِ أيِّ عَمَلٍ يَحُوْلُ دُوْنَ أدَاءِ الصَّلاةِ فِي وَقْتِها، أو يُفَوِّتُ فِعْلَها جَمَاعَةً، مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ .
ثَانِيًا : مَا عَنْ طَبِيْعَةِ هَذِه اللُّعْبَةِ مِنَ التَّحَزُّبَاتِ، أو إثَارَةِ الفِتَنِ، وتَنْمِيَةِ الأحْقَادِ، وهَذِه النَّتَائِجُ عَكْسُ مَا يَدْعُو إلَيْه الإسْلامُ، مِنْ : وُجُوْبِ التَّسَامُحِ، والتَّآلُفِ، والتَّآخِي، وتَطْهِيْرِ النُّفُوْسِ، والضَّمَائِرِ مِنَ الأحْقَادِ، والضَّغَائِنِ، والتَّنَافُرِ .(1/474)
ثَالِثًا : مَا يُصَاحِبُ اللَّعِبَ بِها مِنَ الأخْطَارِ عَلَى أبْدَانِ اللاعِبِيْنَ بِها، نَتِيْجَةَ التَّصَادُمِ، والتَّلاكُمِ، مَعَ مَا سَبَقَ ذِكُرُه، فَلا يَنْتَهِي اللاعِبُوْنَ بِها مِنْ لِعْبَتِهم فِي الغَالِبِ، دُوْنَ أنْ يَسْقُطَ بَعْضُهُم فِي مَيْدَانِ اللَّعِبِ مُغْمَى عَلَيْه، أو مَكْسُوْرَةً رِجْلُه أو يَدَهُ، ولَيْسَ أدَلَّ عَلَى صِدْقِ هَذَا، مِنْ ضَرُوْرَةِ وُجُوْدِ سَيَّارَةِ إسْعَافٍ طِبِّيَّةٍ تَقِفُ بِجَانِبِهِم وَقْتَ اللَّعِبِ بِها !
رَابِعًا : عَرَفْنا مِمَّا تَقَدَّمَ، أنَّ الغَرَضَ مِنْ إبَاحَةِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ، تَنْشِيْطُ الأبْدَانِ، والتَّدَرُّبُ عَلَى القِتَالِ، وقَلْعُ الأمْرَاضِ المُزْمِنَةِ؛ ولَكِنَّ اللَّعِبَ بالكُرَةِ الآنَ : لا يَهْدِفُ إلى شَيْءٍ مِنْ مُبَرِّرَاتِ إبَاحَةِ الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ .
وإنْ هَدَفَ إلى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ اقْتَرَنَ بِه – مَعَ مَا سَبَقَ ذِكُرُه – ابْتِزَازُ المَالِ بالبَاطِلِ، فَضْلاً عَنْ أنَّه يُعَرِّضُ الأبْدَانَ للإصَابَاتِ، ويُنَمِّي فِي نُفُوْسِ اللاعِبِيْنَ، والمُشَاهِدِيْنَ، الأحْقَادَ، وإثَارَةَ الفِتَنِ .
بَلْ قَدْ يَتَجَاوَزُ أمْرُ تَحَيُّزِ بَعْضِ المُشَاهِدِيْنَ لِبَعْضِ اللاعِبِيْنَ، إلى الاعْتَدَاءِ، والقَتْلِ، كَمَا حَدَثَ فِي إحْدَى مُبَارَيَاتٍ جَرَتْ فِي إحْدَى المُدُنِ مُنْذُ شَهْرٍ، ويَكْفِي هَذَا بِمُفْرَدِه لِمَنْعِها، وباللهِ التَّوْفِيْقُ؛ انْتَهَى"(1).
* * *
__________
(1) ـ "مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" ( 8 )، وهو في "الدرر السنية" (15/204-205) دار العاصمة .(1/475)
وقَالَ الشَّيْخُ حُمُوْدُ بنُ عَبْدِ اللهِ التُّوَيْجِرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ(1) ـ : " ومِنَ التَّشَبُّهِ بأعْدَاءِ اللهِ تَعَالَى : اللَّعِبُ بالكُرَةِ، عَلَى الوَجْهِ المَعْمُوْلِ بِه عِنْدَ السُّفَهَاءِ فِي هَذِه الأزْمَانِ؛ وذَلِكَ : لأنَّ اللَّعِبَ بِها عَلَى هَذَا الوَجْهِ، مَأخُوْذٌ عَنِ الإفْرَنْجِ، وأشْبَاهِهِم مِنْ أعْدَاءِ اللهِ تَعَالَى؛ وقَدْ رَأيْتُ عَمَلَ الأمْرِيْكَانِ فِي أخْشَابِ الكُرَةِ، ومَوَاضِعِ اللَّعِبِ بِها، ورَأيْتُ عَمَلَ سُفَهَاءِ المُسْلِمِيْنَ فِي ذَلِكَ، فَرَأيْتُه مُطَابِقًا لِعَمِلِ الأمْرِيْكَانِ أتَمَّ المُطَابَقَةِ .
وقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيْثُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ : "مَنْ تَشَبَّه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُم"، وتَقَدَّمَ أيْضًا حَدِيْثُ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِي الله عَنْهُما، أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنا".
إذَا عُلِمَ هَذَا : فاللَّعِبُ بالكُرَةِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي أشْرَنا إلَيْه، مِنْ جُمْلَةِ المُنْكَرِ الَّذِي يَنْبَغِي تَغْيِيْرُه؛ وبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوْهٍ :
أحَدُها : مَا فِيْه مِنَ التَّشَبُّهِ بالإفْرَنْجِ، وأضْرَابِهم مِنْ أعْدَاءِ اللهِ تَعَالَى، وأقَلُّ الأحْوَالِ فِي حَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وحَدِيْثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، أنَّهُما يَقْتَضِيَانِ : تَحْرِيْمَ التَّشَبُّهِ بأعْدَاءِ اللهِ تَعَالَى، فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ زِيِّهم، وأفْعَالِهم؛ فَفِيْهِما دَلِيْلٌ عَلَى المَنْعِ مِنَ اللَّعِبِ بالْكُرَةِ"(2).
__________
(1) ـ "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين" طبع سنة 1384هـ .
(2) ـ "الدرر السنية" (15/206-207) دار العاصمة .(1/476)
الوَجْهُ الثَّانِي : مَا فِي اللِّعْبِ بِهَا مِنَ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، وهَذَا أمْرٌ مَعْرُوْفٌ عِنْدَ النَّاسِ عَامَّتِهم وخَاصَّتِهم، ورُبَّمَا أوْقَعَتْ الحِقْدَ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ؛ حَتَّى يَؤُوْلَ بِهِم ذَلِكَ إلى العَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ .
وتَعَاطِي مَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، ومَا يُوْقِعُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ حَرَامٌ، وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى : " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون *إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون *وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين"[المائدة9092] .
واللَّعِبُ بالكُرَةِ نَوْعٌ مِنَ المَيْسِرِ؛ لأنَّه يُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ؛ وقَدْ رَوَى ابنُ جَرِيْرٍ فِي تَفْسِيْرِه، مِنْ طَرِيْقِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ : أنَّه سَمِعَ عُمَرَ بنَ عُبَيْدِ اللهِ يَقُوْلُ للقَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ : النِّرْدُ مَيْسِرٌ، أرَأيْتَ الشِّطْرَنْجَ : مَيْسِرُ هُوَ ؟ فَقَالَ القَاسِمُ : كُلُّ مَا ألْهَى عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، فَهُوَ مَيْسِرٌ؛ وإذَا كَانَ اللَّعِبُ بالكُرَةِ عَلَى عِوَضٍ ، فَهُوَ مِنَ المَيْسِرِ بِلا شَكٍّ"(1).
__________
(1) ـ "الدرر السنية" (15/206-208) دار العاصمة .(1/477)
الوَجْهُ الثَّالِثُ : أنَّ فِي اللَّعِبِ بالكُرَةِ ضَرَرًا عَلَى اللاعِبِيْنَ، فَرُبَّمَا سَقَطَ أحَدُهُم، فَتَخَلَّعَتْ أعْضَاؤُه، ورُبَّمَا انْكَسَرَتْ رِجْلُ أحَدِهِم، أو يَدُه، أو بَعْضُ أضْلاعِه، ورُبَّمَا حَصَلَ فِيْه شُجَاجٌ فِي وجْهِهِ، أو رَأسِهِ، ورُبَّمَا سَقَطَ أحَدُهُم فَغُشِيَ عَلَيْه سَاعَةً، أو أكْثَرَ، أو أقَلَّ؛ بَلْ رُبَّمَا آلَ الأمْرُ ببَعْضِهِم إلى الهَلاكِ، كَمَا قَدْ ذُكِرَ لَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ اللاعِبِيْنَ بِها، ومَا كَانَ هَذَا شَأنُه، فاللَّعِبُ بِه لا يَجُوْزُ .
الوَجْهُ الرَّابِعُ : أنَّ اللَّعِبَ بالكُرَةِ مِنَ الأشَرِ والمَرَحِ، ومُقَابَلَةِ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى بِضِدِّ الشُّكْرِ، وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى : "ولا تمش في الأرض مرحًا"[الإسراء37]. واللَّعِبُ بالكُرَةِ نَوْعٌ مِنَ المَرَحِ .
ورَوَى البُخَارِيُّ فِي "الأدَبِ المُفْرَدِ" عَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُما، قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " الأشَرَةُ : شَرٌّ "، قَالَ أبُو مُعَاوِيَةَ أحَدُ رُوَاتِه، الأشَرَةُ : العَبَثُ، واللَّعِبُ بالكُرَةِ نَوْعٌ مِنَ العَبَثِ؛ فَلا يَجُوْزُ .
الوَجْهُ الخَامِسُ : مَا فِي اللِّعْبِ بِها مِنِ اعْتِيَادِ وَقَاحَةِ الوُجُوْهِ، وبَذَاءةِ الألْسُنِ، وهَذَا مَعْرُوْفٌ عَنِ اللاعِبِيْنَ بِهَا .
وقَدْ الْجَأنِي الطَّرِيْقُ مَرَّةً إلى المُرُوْرِ مِنْ عِنْدَ اللاعِبِيْنَ بِها، فَسَمِعْتُ مِنْهُم مَا تَسْتَكُّ مِنُه الأسْمَاعُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّخَبِ، والتَّخَاطُبِ بالفُحْشِ، ورَدِيءِ الكَلامِ، وسَمِعْتُ بِعْضَهُم يَقْذِفُ بَعْضًا، ويَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا، ومَا أدَّى إلى هَذَا، أو بَعْضِه، فَهُو حَرَامٌ بلا رَيْبٍ .(1/478)
الوَجْهُ السَّادِسُ : مَا فِي اللِّعْبِ بِها أيْضًا مِنْ : كَشْفِ الأفْخَاذِ، ونَظَرِ بَعْضِهم إلى فَخْذِ بَعْضٍ، ونَظَرِ الحَاضِرِيْنَ إلى أفْخَاذِ اللاعِبِيْنَ، وهَذَا لا يَجُوْزُ؛ لأنَّ الفَخِذَ مِنَ العَوْرَةِ، وسِتْرُ العَوْرَةِ وَاجِبٌ، إلاَّ مِنَ الزَّوْجَاتِ، والسَّرَارِي"(1) .
الوَجْهُ السَّابِعُ : أنَّ اللَّعِبَ بالكُرَةِ مِنَ اللَّهْوِ البَاطِلِ قَطْعًا، لقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "كُلُّ مَا يَلْهُو بِه الرَّجُلُ المُسْلِمُ بَاطِلٌ، إلاَّ رَمْيَه بقَوْسِه، وتَأدِيْبَه فَرَسَه، ومُلاعَبَتِه أهْلَه، فإنَّهُنَّ مِنَ الحَقِّ"، وفِي رِوَايَةٍ : "وتَعْلِيْمَ السِّبَاحَةَ" رَوَاهُ الإمَامُ أحْمَدُ، وأهْلُ السُّنَنِ"(2).
وقَالَ أيْضًا : " وقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ أبُو العَبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى : سَائِرُ مَا يَتَلَّهَى بِه البَطَّالُوْنَ، مِنْ أنْوَاعِ اللَّهْوِ، وسَائِرِ ضُرُوْبِ اللِّعْبِ، مَا لا يُسْتَعَانُ بِهِ فِي حَقٍّ شَرْعِيٍّ، كُلُّهُ حَرَامٌ .
قُلْتُ ( حُمُوْدُ التُّوَيْجِرِيُّ ) : ومِنْ هَذَا البَابِ : اللَّعِبُ بالكُرَةِ؛ لأنَّهُ مُجَرَّدُ لَهْوٍ ولَعِبٍ، ومَرَحٍ وعَبَثٍ؛ وأعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ : أنَّه يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وعَنِ الصَّلاةِ، ويُوْقِعُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ بَيْنَ اللاعِبِيْنَ، ولَيْسَ هُوَ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِه فِي حَقٍّ شَرْعِيٍّ، ولا يُسْتَجَمُّ بِه لَدَرْكِ وَاجِبٍ، فَهُوَ مِنَ اللَّعِبِ المَحْظُوْرِ بِلا شَكٍّ، واللهُ أعْلَمُ .
__________
(1) ـ السابق (15/210-211) دار العاصمة .
(2) ـ السابق (15/ 213) دار العاصمة .(1/479)
ثُمَّ ذَكَرَ الخَطَّابِيُّ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى : أنَّ مَنْ لَعِبَ بالشِّطْرَنْجِ، وقَامَرَ بِه فَهُوَ فَاسِقٌ، ومَنْ لَعِبَ بِه عَلَى غَيْرِ قِمَارٍ، وحَمَلَه الوُلُوْعُ بَذَلِكَ عَلَى تَأخِيْرِ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِها، أو جَرَى عَلَى لِسَانِه الخَنَا والفُحْشُ، إذَا عَالَجَ شَيْئًا مِنْه فَهُوَ سَاقِطُ المُرُوْءةِ، مَرْدُوْدُ الشَّهَادَةِ؛ انتهى .
ومَا قَالَهُ فِي اللاعِبِيْنَ بالشِّطْرَنْجِ، يُقَالُ مِثْلُه فِي اللاعِبِيْنَ بالكُرَةِ، ويَزِيْدُ أهْلُ الكُرَةِ عَلَى أهْلِ الشِّطْرَنْجِ، بالمَرَحِ والأشَرِ، والتَّعْرُّضِ لأنْوَاعِ الضَّرَرِ؛ فاللَّعِبُ بِها مِنْ شَرِّ اللَّعِبِ بالشِّطْرَنْجِ، وأعْظَمُ مِنْها ضَرَرًا .
ومِنَ العَجَبِ : أنَّ هَذا اللِّعَبَ البَاطِلَ، قَدْ جُعِلَ فِي زَمَانِنا مِنَ الفُنُوْنِ الَّتِي تُدَرَّسُ فِي المَدَارِسِ، ويُعْتَنَى بِتَعَلُّمِه، وتَعْلِيْمِه أعْظَمُ مِمَّا يُعْتَنَى بتَعْلِيْمِ القُرْآنِ، والعِلْمِ النَّافِعِ، وتَعْلِيْمِهِما .
وهَذَا دَلِيْلٌ عَلَى اشْتِدَادِ غُرْبَةِ الإسْلامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، ونَقْصِ العِلْمِ فِيْه، وظُهُوْرِ الجَهْلِ بِمَا بَعَثَ اللهُ بِه رَسُوْلَه مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ حَتَّى عَادَ المَعْرُوْفُ عِنْدَ الأكْثَرِيْنَ مُنْكَرًا، والمُنْكَرَ مَعْرُوْفًا، والسُّنَّةَ بِدْعَةً، والبِدْعَةَ سُنَّةً .
وهَذَا مِنْ مِصْدَاقِ الحَدِيْثِ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، عَنْ أنَسٍ رَضِي اللهُ عَنْه، قَالَ : قَالَ رُسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ، أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، ويَظْهَرَ الجَهْلُ … " الحَدِيْثُ .(1/480)
واللَّعِبُ بالكُرَةِ، والاعْتِنَاءُ بَتَعَلُّمِه وتَعْلِيْمِه فِي المَدَارِسِ وغَيْرِها، مِنْ ظُهُوْرِ الجَهْلِ بِلا شَكٍّ، عِنْدَ مَنْ عَقِلَ عَنِ اللهِ ورَسُوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ ومَا أشْبَه المَفْتُوْنِيْنَ باللَّعِبِ بالكُرَةِ، وبالَّذِيْنَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيْهِم : "وذَرِ الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولَهْوًا وغَرَّتُهم الحياة الدنيا"[الأنعام70] .
وقَدْ قَالَ شَيْخُ الإسْلامِ أبُو العَبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَه اللهُ تَعَالَى : أنَّ العُلُوْمَ المَفْضُوْلَةَ إذَا زَاحَمَتِ العُلُوْمِ الفَاضِلَةِ، وأضْعَفَتْها، فإنَّهَا تَحْرُمُ، انْتَهَى .
وإذَا كَانَ الأمْرُ هَكَذَا فِي العُلُوْمِ المَفْضُوْلَةِ، مَعَ العُلُوْمِ الفَاضِلَةِ، فَكَيْفَ اللَّعِبُ بالكُرَةِ، إذَا زَاحَمَ العُلُوْمَ الفَاضِلَةَ وأضْعَفَها، كَمَا هُوَ الوَاقِعُ فِي زَمَانِنَا ؟!
مَعَ أنَّ اللَّعِبَ بالكُرَةِ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وإنَّمَا هُوَ لَهْوٌ ومَرَحٌ، وأشَرٌ وبَطَرٌ، فَيَجِبُ المَنْعُ مِنْه لِمَا ذَكَرْنَا؛ ولِمَا فِيْه مِنَ التَّشَبُّهِ بأعْدَاءِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُه، واللهُ أعْلَمُ .
وإذَا عُلِمَ هَذَا : فَمَنْ أهْدَى لبَعْضِ اللاعِبِيْنَ بالكُرَةِ شَيْئًا مِنْ أجْلِ حَذْقِه فِي اللَّعِبِ بِهَا، فَقَدْ أعَانَ عَلَى البَاطِلِ، وكَذَلِكَ مَنْ صَنَعَ لَهُم مَأكُوْلاً، أو مَشْرُوبًا، أو أحْضَرَه لَهُم، فَهُوَ مُعِيْنٌ لَهُم عَلَى البَاطِل.
وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى : "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله أن الله شديد العقاب"[الكائدة2] . انْتَهَى كَلامَهُ رَحِمَه اللهُ مِنَ "الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ"(1) .
* * *
__________
(1) ـ "الدرر السنية" (15/214-216) دار العاصمة .(1/481)
وقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ العَزِيْزِ السَّلْمَانُ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ : " ومَنْ عَلِمَ مَا يَنْشَأ عَنِ الكُرَةِ مِنْ ضَيَاعِ صَلاةٍ، وضَيَاعِ أوْقَاتٍ، وكَلامٍ فَاحِشٍ مِنْ لَعْنٍ، وقَذْفٍ، وانْكِشَافِ عَوْرَةٍ، وأضْرَارٍ بَدَنِيَّةٍ، وقِيْلَ وقَالَ، ونِسْيَانٍ لذِكْرِ اللهِ؛ لَمْ يَشُكَّ فِي تَحْرِيْمِ لِعْبِها الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ ذَلِكَ، أو بَعْضُه مِنَ البَالِغِيْنَ العَاقِلِيْنَ"(1) .
* * *
كَمَا أفْتَتِ اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ بِرَئَاسَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ بتَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ )، وذَلِكَ برَقْمِ ( 4219 )، وتَارِيْخِ ( 6/12/1401هـ ) :
السُّؤَالُ الثَّالِثُ : مَا هُوَ الحُكْمُ فِي رُؤْيَةِ مُبَارَيَاتِ الكُرَةِ الَّتِي تُلْعَبُ عَلَى كَأسٍ، أو عَلَى مَنْصِبٍ مِنَ المَنَاصِبِ : كاللَّعِبِ عَلَى دَوْرِيٍّ، أو كَأسٍ مَثَلاً ؟
الجَوَابُ : مُبَارَيَاتُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) حَرَامٌ، وكُوْنُها عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ كَأسٍ، أو مَنْصِبٍ، أو غَيْرِ ذَلِكَ مُنْكَرٌ آخَرُ إذَا كَانَتْ الجَوَائِزُ مِنَ اللاعِبِيْنَ، أو بَعْضِهِم لِكَوْنَ ذَلِكَ قِمَارًا، وإذَا كَانَتْ الجَوَائِزُ مِنْ غَيْرِهِم فَهِي حَرَامٌ، لِكَوْنِها مُكَافَأةً عَلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وعَلَى هَذَا فَحَضُوْرُ هَذِه المُبَارَيَاتِ حَرَامٌ !
وصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وآلِهِ، وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ
اللَّجْنَةُ الدَّائِمَةُ للبُحُوْثِ العِلْمِيَّةِ، والإفْتَاءِ
عُضْوٌ عُضْوٌ نائِبُ رَئِيسِ اللَّجْنَةِ الرَّئِيسُ
عَبْدُ اللهِ بنُ قُعُودٍ عَبْدُ اللهِ بنُ غُدَيَّانِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَفِيْفِي عَبْدُ العَزِيزِ ابنُ باز
* * *
قَائِمَةُ
__________
(1) ـ "الأسئلة الفقهية" لعبد العزيز السلمان ( 5/358 ) .(1/482)
مَحَاذِيْرِ ( كُرَةِ القَدَمِ )(1)
المَحْظُوْرُ الأوَّلُ : ضَيَاعُ مَفْهُوْمِ الوَلاءِ، والبَرَاءِ .
المَحْظُورُ الثَّاني : الحُبُّ، والبُغْضُ لغَيْرِ اللهِ .
المَحْظُورُ الثالث : التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ .
المَحْظُورُ الرَّابعُ : إحْيَاءُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، والعَصَبِيَّاتِ القَوْمِيَّةِ .
المَحْظُورُ الخَامِسُ : القِتَالُ، والسِّبَابُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ .
المَحْظُورُ السَّادِسُ : وُجُودُ العُنْفِ، والشَّغَبِ .
المَحْظُورُ السَّابِعُ : تَحْكِيمُ القَوَانِيْنِ الوَضْعِيَّةِ .
المَحْظُورُ الثَّامِنُ : الرِّهَانُ عَلَى الفَرِيْقِ الفَائِزِ .
المَحْظُورُ التَّاسِعُ : كَشْفُ العَوْرَاتُ .
المَحْظُورُ العَاشِرُ : نَظُرُ النِّسَاءِ إلى اللاعِبِيْنَ؛ لاسِيَّمَا وأنَّهُم شِبْهُ عُرَاةٍ .
المَحْظُورُ الحَادِي عَشَرَ : عَدَمُ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، والصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى رَسُوْلِه .
المَحْظُورُ الثَّانِي عَشَرَ : تَرْكُ صَلاةِ الجُمْعَةِ، والجَمَاعاتِ فِي المَسْجِدِ .
المَحْظُورُ الثَّالِثُ عَشَرَ : هَدْرُ الأمْوَالِ، وضَيَاعُها .
المَحْظُورُ الرَّابِعُ عَشَرَ : قَتْلُ الأوْقَاتِ، وضَيَاعُها
المَحْظُورُ الخَامِسُ عَشَرَ : الرَّقْصُ، والتَّصْفِيْقُ، والتَّصْفِيْرُ، والهِتَافَاتُ .
المَحْظُورُ السَّادِسُ عَشَرَ : الغِيْبَةُ .
المَحْظُورُ السَّابِعُ عَشَرَ : السُّخْرِيَّةُ، والاسْتِهْزَاءُ .
المَحْظُورُ الثَّامِنُ عَشَرَ : الظَّنُ السُّوْءُ .
المَحْظُورُ التَّاسِعُ عَشَرَ : الهَمْزُ، واللَّمْزُ بالمُسْلِمِيْن .
المَحْظُورُ العِشْرُوْنَ : التَّبَخْتُرُ، والخُيَلاءُ، والعُجْبُ .
__________
(1) ـ مَنْ أرَادَ بَيَانَ الأدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، والبَرَاهِيْنَ الوَاقِعِيَّةَ عَلَى هَذِه المَحْظُوْرَاتِ فَعَلَيْه بأصْلِ الكِتَابِ، فَفِيْه كُلُّ ذَلِكَ وزِيَادَةٌ إنْ شَاءَ اللهُ .(1/483)
المَحْظُورُ الحَادِي والعُشْرُوْنَ : التَّنَابُزُ بالألْقَابِ .
المَحْظُورُ الثَّانِي والعُشْرُوْنَ : التَّهَاوُنُ بالتَّصْوِيرِ .
المَحْظُورُ الثَّالِثُ والعُشْرُوْنَ : الإعَانَةُ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ .
المَحْظُورُ الرَّابِعُ والعُشْرُوْنَ : تَرْوِيعُ، وتَخْوِيفُ المُسْلِمِ .
المَحْظُورُ الخَامِسُ والعُشْرُوْنَ : التَّشْجِيْعُ، والتَّحْرِيْضُ البَاطِلُ .
المَحْظُورُ السَّادِسُ والعُشْرُوْنَ : المُبَالَغَةُ فِي الإطْرَاءِ، والثَّنَاءِ المَذْمُوْمِ عَلَى اللاعِبِيْنَ .
المَحْظُورُ السَّابِعُ والعُشْرُوْنَ : تَقْدِيْمُ المَفْضُوْلِ عَلَى الفَاضِلِ .
المَحْظُورُ الثَّامِنُ والعُشْرُوْنَ : غِشُّ النَّاشِئَةِ .
المَحْظُورُ التَّاسِعُ والعُشْرُوْنَ : تَعْطِيلُ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ لَدَى الشَّبابِ المُسْلِمِ .
المَحْظُورُ الثَّلاثُوْنَ : تَخْدِيْرُ الشُّعُوْبِ المُسْلِمَةِ عَنْ قَضَايَاهَا .
المَحْظُورُ الحَادِي والثَّلاثُوْنَ : تَمْرِيْرُ مُخَطَّطَاتِ أعْدَاءِ الإسْلامِ .
المَحْظُورُ الثَّانِي والثَّلاثُوْنَ : سَفَرُ المُسْلِمِ إلى بِلادِ الكُفْرِ دُوْنَ عُذْرٍ .
المَحْظُورُ الثَّالِثُ والثَّلاثُوْنَ : دُخُولُ الكُفَّارِ جَزِيْرَةَ العَرَبِ .
المَحْظُورُ الرَّابِعُ والثَّلاثُوْنَ : تَوْلِيَةُ الكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ .
المَحْظُورُ الخَامِسُ والثَّلاثُوْنَ : مُمَارَسَةُ احْتِرَافِ اللَّعِبِ، واتِّخَاذُها حِرْفَةً .
المَحْظُورُ السَّادِسُ والثَّلاثُوْنَ : مُشَارَكَةُ النِّسَاءِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) .
المَحْظُورُ السَّابِعُ والثَّلاثُوْنَ : التَّدْلِيكُ، و( المَسَاجُ ) المُحَرَّمَانِ .
المَحْظُورُ الثَّامِنُ والثَّلاثُوْنَ : جَهَالَةُ اللاعِبِيْنَ .
المَحْظُورُ التَّاسِعُ والثَّلاثُوْنَ : الجَهْلُ بَعَدَدِ الإصَابَاتِ .(1/484)
المَحْظُورُ الأرْبَعُوْنَ : السِّحْرُ، والشَّعْوَذَةُ .
المَحْظُوْرُ الحَادِي والأرْبَعُوْنَ : ضَرْبُ الخُدُوْدِ، وشَقُّ الجُيُوْبِ .
* * *
ثَبَتُ المَرَاجِعُ
القرآن الكريم
"أجنحة المكر الثلاثة" لعبد الرحمن حبنكة .
أحكام القرآن" لابن العربي .
"أحكام القرآن" للجصاص .
"إحياء علوم الدين" للغزالي .
"أدب الإملاء والاستملاء" لابن السمعاني .
"أسئلة مهمة" للعثيمين .
"إشكالية وقت الفراغ" لجمال سلطان .
"أصول الفقه" للبرديسي .
"إعلامُ المُوَقِّعِيْنَ " لابن القيم .
"إغاثة اللهفان" لابن القيم .
"أمن الملاعب الرياضية" الصادر من أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، مركز الدراسات، والبحوث .
"اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية .
"الأحكام السلطانية" لأبي يعلى .
"الأحكام السلطانية" للماوردي .
"الأدب المفرد" للبخاري .
"الأذكار" للنووي .
"الأسئلة والأجوبة الفقهية" للسلمان .
"الأشباه والنظائر" للسيوطي .
"الأضواء" للأمين الشنقيطي .
"الألعاب الأولمبية" لمصطفى .
"الألعاب الأولمبية" لمصطفى الشهابي .
"الألعاب الرياضية" لعلي بن حسين أمين .
"الألعاب الريفية الشعبية" لمحمد عادل خطاب .
"الأم" للشافعي .
"الإمَامَةَ العُظْمَى" للشيْخِ عبدِ اللهِ الدِّمِيْجِي .
"الإنصاف" للمرادي .
"الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين" لحمود التويجري .
"الإيضاح والتبيين" للشيخ حمود التويجري .
"الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر" لمحمد محمد حسين .
"الاختيارات الفقهية" للبعلي .
"الاستقامة" لابن تيمية .
"الاعْتِصَامُ" للشَّاطِبي .
"البداية والنهاية" لابنِ كَثِيْرٍ .
"التبشير والاستعمار في البلاد الإسلامية" لمصطفى خالدي، وعمر فروخ .
"التدابير الواقية من التشبه بالكفار" لعثمان دوكورى .
"التربية الترويحية" لأحمد أبو سمك .
"التربية رؤية إسلامية" للخالد العودة .
"الترويح في المجتمع الإسلامي" لمحمد الوكيل .(1/485)
"التمثيل والمحاضرة" لأبي منصور الثعالبي .
"التمهيد" لابن عبد البر .
"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي .
"الجامع لأخلاق الراوي" للخطيب .
"الجواهر في تفسير القرآن" للطنطاوي جوهري .
"الحسبة" لابن تيمية .
"الحُلْيَة" لأبي نُعَيْمٍ .
"الدُّرَرُ السَّنِيَّةُ فِي الأجْوِبَةِ النَّجْدِيَّةِ" جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم .
"الدعوة" من فتاوى ابن باز .
"الذخيرة" للقرافي .
"الذخيرة" للقرافي .
"الردُّ عَلَى المُخَالِفِ " للشيخ بكر أبو زيد .
"الروضتين" لأبي شامة .
"الرياضة والمجتمع" لأمين الخولي .
"الزواجر عن اقتراف الكبائر" للهيتمي .
"السُّنَنُ الأرْبَعَةُ" لأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي .
"السُّنَن" للدَّارِمِيُّ .
"السياسة الشرعية" لابن تيمية .
"الصحاح" للجوهري .
"الصحيحان" للبخاري، ومسلم .
"العقد الفريد" لابن عبد ربه .
"العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين" لبدران .
"الفتاوى الكبرى" لابن تيمية .
"الفُرُوْسِيَّة" لابن القيم .
"الفروع" لابن مفلح .
"الفقه الإسلامي وأدلته" لوهبة الزحيلي .
"الفواكه الدواني" للنفراوي .
"القانون والعلاقات الدولية" للمحمصاني .
"القواعد الجامعة" للسعدي .
"القواعد الصغرى" للعز ابن عبد السلام .
"القواعد" لابن رجب .
"القول المبين في أخطاء المصلين" لمشهور بن حسن .
"الكافي" لابن عبد البر .
"الكامل" لابن الأثير .
"المبسوط" للسرخسي .
"المجتمع الإسلامي" لمصطفى عبد الواحد .
"المَدْخَلُ المُفَصَّلُ" للشيخ بكر أبو زيد .
"المدخل للفقه الإسلامي" لمحمد سلام مذكور .
"المُسَابقَات" لسَعَدِ الشَّثري .
"المطلع على أبواب المقنع" للبعلي .
"المعجم الوسيط" .
"المعيار المعرب" للونشريسي .
"المغني" لابن قدامة .
"المنتظم" لابن الجوزي .
"المهذب" للشيرازي .
"المهذب" للشيرازي .
"المُوَافَقَات" للشاطبي .
"الموالاة والمعاداة" للشيخ محماس الجلعود .
"الموسوعة البريطانية" .(1/486)
"الموسوعة العربية العالمية" .
"المَيْسِرَ" لرَمَضَانَ بنِ حَافِظٍ .
"النجوم الزاهرة" لتغري زاده .
"الهداية" للكلوذاني .
"بدائع الصنائع" للكاساني .
"بروتوكلات حكماء صهيون" ترجمة محمد بن خليفة التونسي .
"بُغْيَةَ المُشْتَاقِ" لحَمْدِي شَلَبِي .
"تاريخ الحركة الرياضية في المملكة العربية السعودية" لأمين الساعاتي .
"تبيين الحقائق" للزيلعي .
"تحفة المودود" لابن القيم .
"تفسيرَ ابنِ كَثِير" لابن كثير .
"تفسير الطبري" لابن جرير الطبري .
"تفسير القرطبي " للقرطبي .
"تفسير الكريم المنان" للسعدي .
"تكملة المجموع " للمطيعي .
"جامع العلوم والحكم" لابن رجب .
"جريدة أخبار اليوم" المصرية، السبت (13/1/1990) ص (16) .
"جريدة الإصلاح" المغربية، عدد (41)، بتاريخ (الجمعة 6 شوال 1408 هـ).
"حاشية الجمل" لأبي سليمان العجيلي .
"حاشية الروض" لابن قاسم .
"حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج" لعلي الشبراملسي .
"حقيقة الولاء والبراء" للشيخ سيد سعيد بن عبد الغني .
"دليل الفالحين" لابن علان .
"رؤية إسلامية لأحوال العالم الإسلامي المعاصر" لمحمد قطب .
"رياض الصالحين" للنووي .
"زَادُ المَعَادِ" لابن القيم .
"سيكولوجية العدوان والعنف في الرياضة" لمحمد علاوي .
"شرح إحياء علوم الدين" للزبيدي .
"شرح الأصول الثلاثة" للعثيمين .
"شرحُ الدُّرِ" للحَصْفَكِي .
"شرح السنة" للبغوي .
"شرح الشافية" للاسترآبادي .
"شرح المنتهى" للبهوتي .
"شرح رياض الصالحين" للعثيمين .
"شرح فتح القدير" للكمال ابن الهمام .
"شرح مسلم" للنووي .
"شرح مشكل الآثار" للطحاوي .
"صُبُحُ الأعْشَى" لأبي العَبَّاسِ القَلَقَشَنْدِي .
"صحيح الترغيب" للألباني .
"صحيح الجامع" للألباني .
"صَحِيْحُ السُّنَنِ الأرْبَعَةِ" للألباني .
"صحيفة الرأي" عمان، .
"طرح التثريب" للعراقي .
"عارضة الأحوذي" .
"عون المعبود" للعظيم آبادي .
"غريب الحديث" للخطابي .(1/487)
"فتاوى ابن إبراهيم" .
"فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين" جمع أشرف عبد المقصود .
"فتاوى العز بن عبد السلام" .
"فتح الباري" لابن حجر .
"فتح القدير" للشوكاني .
"فتيا في ذم الشبابة والرقص والسماع" لابن قدامة .
"فضل الله الصمد" لفضل الله الجيلاني .
"فِقْهُ الوَاقِعِ" للألباني .
"فِقْهَ الوَاقِعِ" للشيخ ناصر العمر .
"في ظلال القرآن" لسيد قطب .
"قَضَايا اللَّهْوِ والتَّرْفِيه" لمادُونَ بنِ رَشِيدٍ .
"قواعد الأحكام" للعز ابن عبد السلام .
"قواعد الوسائل" لمصطفى قارئ .
"قيمة الزمن عند العلماء" لبعد الفتاح أبو غدة .
"كُرَة القَدَمِ" لعبد الحميد سلامة .
"كُرَةَ القَدَمِ" لمَشْهُورِ بنِ حَسَنٍ .
"كشاف القناع" للبهوتي .
"كف الرعاع" لابن حجر الهيتمي .
"لا إله إلا الله عقيدة، وشريعة ومنهاج حياة" للأستاذ محمد قطب.
"لسان العرب" لابن منظور .
"مجلة الفيصل" ص (93)، العدد التاسع، ربيع الأول لعام 1398هـ .
"مجلة اللواء الإسلامي" عدد ( شوال /1406هـ ) .
"مجلة المجتمع" العدد(522) في (19/2/1402هـ ) .
"مجلة المسلم المعاصر" عدد (55) .
"مجلة المسلمون" في عددها (124) بتاريخ (30 شوال /1407هـ ) .
"مجلة الوطن الرياضي" القاهرة .
"مجلة الوعي الإسلامي"، العدد ( 106 ، 27 ) .
"مجلة اليمامة" العدد (652) بتاريخ (1401هـ ) .
"مَجَلَة هنا لندن" العدد ( 339 )، السنة الثامنة عشر .
"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية .
"مختصر الإنصاف والشرح الكبير" لابن عبد الوهاب .
"مُخْتَصَرُ الصَّوَاعِقِ المُرْسَلَةِ" للموصلي .
"مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي .
"مدارج السالكين" لابن القيم .
"مدونة الألعاب الأولمبية" لإبراهيم علام .
"مرقاة المصابيح" لملا قارئ .
"مسند أحمد" للإمام أحمد .
"مسند الشهاب" .
"مُسْنَدِ الفَارُوقِ" لابن كثير .
"مطالب أولي النهى" للرحيباني .
"معالم السنة" للخطابي .(1/488)
"معالم القُرْبَة في أحكام الحسبة" لابن الأخوة .
"معجم البلدان" لياقوت الحموي .
"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس .
"مغني المحتاج" للشربيني .
"مفاتيح الغيب" للفخر الرازي .
"منهاج الإسلام في الحكم" لمحمد أسد .
"منهاج المسلم" للشيخ أبو بكر الجزائري .
"منهج التربية الإسلامية" لمحمد قطب .
"موسوعة الألعاب الرياضية" لجميل ناصيف .
"نيل الأوطار" للشوكاني .
"واقعنا المعاصر" للأستاذ محمد قطب.
فتوى اللجنة الدائمة برقم ( 2857 ) في ( 8/3/1400هـ )، وبرقم ( 3323 ) في (19/12/1400هـ )، وثالثة برقم ( 4967 ) في (20/9/1402هـ)، والمفتون هم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ عبد الله بن قعود .
مَجَلَة "هنا لندن" العدد ( 339 )، السنة الثامنة عشر، الصادرة بتاريخ ( يناير 1977م ) .
* * *
الفَهَارِسُ المَوْضُوْعِيَّةُ(1)
المقدمة : ………………………( )
البَابُ الأوَّلُ : ………………………( )
الفَصْلُ الأوَّلُ : ……………………( )
مَدْخلٌ : ………………………( )
تَنْبيهٌ : …………………………( )
أسباب انتشار البدع الفكرية . …………………( )
الطواغيت الثلاثة التي أفسدت الدين والدنيا . ……………( )
وقفة مع غناء أهل زماننا / ح . …………………( )
وقفة مع القنوات الفضائية / ح . ………………( )
الأسباب العشرة التي فرقت الأمة الإسلامية . ……………( )
الفَصْلُ الثَّاني : ………………………( )
خُطُوْرَةُ السُّكُوتِ عَنِ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرةِ . ……………( )
الفَصْلُ الثَّالثُ : ………………………( )
أهميَّةُ فِقْهِ الوَاقِعِ فِي حُكْمِ النَّوازِلِ . ………………( )
ما يجب على المفتي أن يجمعه عند الحكم الشرعي . …………( )
تعريف فقه الواقع . ……………………( )
__________
(1) ـ كُلُّ مَا كَانَ مِن اسْتِدْرَاكٍ، أو فَائِدَةٍ، أو غَيْرِها فِي الحَاشِيَةِ، فَقَدْ رَمَزْنا لَهُ بِحَرْفِ الحَاءِ المُهْمَلَةِ ( ح ) تَمْيِيْزًا لَهَا عَنْ أصْلِ الكِتَابِ(1/489)
أساس فقه الواقع . ……………………( )
قصة رهان أبي بكر مع المشركين على انتصار الروم، وما فيها من فوائد . ……( )
الفَصْلُ الرَّابعُ : ……………………( )
إعْمالُ قاعِدَةِ : " الوَسائِلُ لَهَا أحْكامُ المَقَاصِدِ " . ……………( )
تعريف الوسائل لغة، واصطلاحًا . ………………( )
الارتباط الشرعي، والكوني بين المقاصد والوسائل . …………( )
أشد الناس معرفة بفقه الواقع . …………………( )
تقرير قاعدة "للوسائل أحكام المقاصد" . ……………( )
معنى قاعدة "للوسائل أحكام المقاصد" . ………………( )
إعمال قاعدة "للوسائل أحكام المقاصد" على ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
سؤالان مهمان عن وسائل ومقاصد ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
البَابُ الثَّانِي : ………………………( )
أحْكَامُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ، وفِيْه سِتَّةُ فُصُولٍ . ……………( )
الفَصْلُ الأوَّلُ : تَعْرِيْفٌ بِبَعْضِ المُصْطلَحَاتِ الرِّياضيَّةِ . …………( )
تعريف الرياضة . ……………………( )
تعريف اللَّهو . ……………………( )
تعريف اللَّعب . ……………………( )
اتفاق اللعب واللهو في معناهما اللغوي . ………………( )
معنى اللعب واللهو في الشرع . …………………( )
توجيه إشكال معنى اللعب عند إخوة يوسف عليه السلام . ………( )
تعريف الترفيه . ……………………( )
تعريف الترويح . ……………………( )
اتفاق المعنى اللغوي للترفيه والترويح في أربعة معانٍ . …………( )
تعريف الكرة . ……………………( )
الفَصْلُ الثَّانِي : الفَرْقُ بين الكُرَةِ القَدِيمةِ والحَدِيثَةِ . …………( )
كُرَة القَدَمِ الحديثة لا تشبه الكرة القديمة من خمسة أوجه . ………( )
كُرَة القَدَمِ الحديثة لا تشبه الكرة القديمة في المعاجم اللغوية . ………( )
كُرَة القَدَمِ الحديثة لا تشبه الكرة القديمة في كتب التاريخ . ………( )
كُرَة القَدَمِ عند السلف تعريفًا، وضوابطَ . ……………( )
الفَصْلُ الثَّالثُ : مَشْرُوعِيَّةُ اللَّعِبِ فِي الإسْلامِ . ……………( )
لكلِّ عضوٍ رياضة . ……………………( )(1/490)
هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الرياضة . ………………( )
هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في قيام الليل . ……………( )
هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الصوم . ………………( )
هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الجهاد . ………………( )
هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الحج . ………………( )
هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في النوم . ………………( )
الردُّ على العلمانيين والمستشرقين في طعنهم في الرياضة الإسلامية . ……( )
أدلة الكتاب على مشروعية السبق . ………………( )
أدلة السنة على مشروعية السبق . ………………( )
السبق في الخيل . ……………………( )
السبق بالأقدام . ……………………( )
فضل الفروسية في الإسلام . …………………( )
الأدلة على جواز المسابقات العلمية . ………………( )
أهمية تعليم الفروسية هذه الأيام الحالكة . ……………( )
إهمال العرب والمسلمين للرماية الشرعية . ……………( )
الغرض الشرعي من الرياضة في الإسلام . ……………( )
الفَصْلُ الرَّابِعُ : أقْسَامُ الألْعَابِ، وحُكْمُ كُلِّ قِسْمٍ . …………( )
القسم الأول : ألعاب مشروعة، وهي نوعان . ……………( )
النوع الأول : ألعاب نصت الشريعة على جوازها . …………( )
النوع الثاني : ألعاب لم تنص الشريعة عليها، لكنها في معنى المنصوص . ……( )
الأدلة على جواز المسابقة على الآلات الحديثة . ……………( )
القسم الثاني : ألعاب ممنوعة شرعًا، هي ثلاثة أنواع . …………( )
النوع الأول : ألعاب نصت الشريعة الإسلامية على تحريمها . ………( )
النوع الثاني : ألعاب لم تنص الشريعة الإسلامية على تحريمها؛ بل لاقترانها بمحرم.…( )
النوع الثالث : ألعاب قائمة على التخمين، وليس فيها إعمالٌ للعقل، وهذه محرمة .…( )
القسم الثالث : ألعاب سكتت عنها الشريعة الإسلامية، وهي من المباح . ……( )
الألعاب المباحة لا يجوز الإكثار منها . ………………( )
الفَصْلُ الخَّامِسُ : حُكْمُ الألْعَابِ المُباحَةِ . ……………( )(1/491)
القول الأول : من قال بتحريمها من أهل العلم، مع ذكر أدلتهم وتوجيهها . …( )
القول الثاني : من قال بإباحتها من أهل العلم، مع ذكر أدلتهم وتوجيهها . ……( )
توجيه أهل العلم لحديث : " كل ما يلهو به الرجل فهو باطل" . ………( )
ملخص كلام أهل العلم في توجيه حديث : " كل ما يلهو به الرجل فهو باطل" .…( )
الفَصْلُ السَّادِسُ : حُكْمُ أخْذِ العِوَضِ فِي الألْعَابِ الرِّياضِيَّةِ . ………( )
تعريف السبق لغة وشرعًا . …………………( )
تعريف الرهان لغة وشرعًا . …………………( )
حكم الرهان من الكتاب، والسنة . ………………( )
الفرق بين الرهان والقمار . …………………( )
حكم أخذ العوض في الألعاب الرياضية، وهي ثلاثة أقسام . ………( )
القسم الأول : الألعاب المشروعة، وهي نوعان . ……………( )
النوع الأول : الرماية، والسباق بالخيل والإبل . ……………( )
النوع الثاني : الألعاب التي يستعان بها في الجهاد . …………( )
القسم الثاني : الألعاب الممنوعة، وهي ثلاثة أنواع . …………( )
النوع الأول : كالميسر، والقمار، والنرد، والشطرنج . …………( )
النوع الثاني : ألعاب مباحة اقترنت بها محرمات . …………( )
النوع الثالث : ألعاب قائمة على التخمين، والحظِّ . …………( )
القسم الثالث : ألعاب مباحة مما لا يستعان بها في الجهاد . ………( )
ملخص أحكام اللعب والسبق في أربع حالات . ……………( )
موقع ( كُرَة القَدَمِ ) من هذه الحالات الأربع . ……………( )
الرد على الشيخين مشهور بن حسن، وسعد الشثري في أخذ العوض في الكرة . …( )
البَابُ الثَّالِثُ : تَأرِيْخُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ، وفِيْهِ أرْبَعَةُ فُصُولٍ . ………( )
الفَصْلُ الأوَّلُ : تأريخُ الألْعَابِ الرِّياضيَّةِ . ……………( )
تطور الرياضة . ……………………( )
الرياضة في العصور القديمة ( عند الفراعنة ) . ……………( )
اليونان والألعاب الأولمبية . …………………( )
بيان خطأ المثل السائر " العقل السليم في الجسم السليم" / ح . ………( )(1/492)
الرياضة والديانات القديمة . …………………( )
الفَصْلُ الثَّاني : تأريخُ الألْعَابِ ( الأولُمبيَّةِ ) . ……………( )
تاريخ الألعاب الأولمبية . …………………( )
الألعاب الأولمبية الحديثة . …………………( )
حقيقة الألعاب الأولمبية . …………………( )
فكرة الحلقات الخمس في الألعاب الأولمبية . ……………( )
الرد على الفرنسي البارون مكتشف الألعاب الأولمبية . …………( )
بيان أن الألعاب الأولمبية تخدم مخططات الأعداء . …………( )
الفَصْلُ الثَّالثُ : تأرِيْخُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ………………( )
المرحلة القديمة : ……………………( )
قصة ركل رأس القائد الدنمركي . ………………( )
تحريم ملوك الإنجليز ( كُرَة القَدَمِ ) . ………………( )
تاريخ ظهور لعبة كرة اليد، والقدم . ………………( )
المرحلة الحديثة : ……………………( )
المنافسات العالمية في ( كُرَة القَدَمِ ) . ………………( )
الفَصْلُ الرَّابِعُ : بِدَايَاتُ غَزْوِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادَ الإسْلامِ . ………( )
غَزْوِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) بِلادَ الإسْلامِ عن طريقين ( الاستعمار، والجاليات ) . ……( )
تاريخ دخول ( كُرَة القَدَمِ ) مصر . ………………( )
تاريخ دخول ( كُرَة القَدَمِ ) المغرب . ………………( )
تاريخ دخول ( كُرَة القَدَمِ ) بلاد الحرمين . ……………( )
تاريخ دخول ( كُرَة القَدَمِ ) المنطقة الغربية . ……………( )
تاريخ دخول ( كُرَة القَدَمِ ) المنطقة الشرقية . ……………( )
تاريخ دخول ( كُرَة القَدَمِ ) المنطقة الوسطى . ……………( )
عدد الأندية حتى عام ( 1419هـ ) . ………………( )
الرئاسة العامة لرعاية الشباب . …………………( )
بيان اصل ( كُرَة القَدَمِ ) وتطريقها لبلاد المسلمين . …………( )
شاهد من مصر على خطورة ( كُرَة القَدَمِ ) . ……………( )
مناشدة ولاة الأمر في بلاد الحرمين بوقف ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
البابُ الرَّابعُ : ( كُرَةُ القَدَمِ ) أحْكامٌ، ومَحَاذِيرُ، وفِيْهِ سَبْعَةُ فُصُولٍ . ……( )(1/493)
الفَصْلُ الأوَّلُ : تَحْرِيْرُ أقْوَالِ أهْلِ العِلْمِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ………( )
تحرير كلام الشيخ سعد الشثري، والرد عليه . ……………( )
تحرير كلام الشيخ مشهور بن حسن، والرد عليه . …………( )
الرد العلمي على الشيخين الشثري، ومشهور . ……………( )
الرد على الشيخ مشهور في حكمه على استحباب ( كُرَة القَدَمِ ) . ……( )
الرد على الشيخ مشهور في توجيه حديث " المؤمن القوي خيرٌ، وأحب إلى الله ".…( )
الرد على من جواز ( كُرَة القَدَمِ ) إذا خلت عن المحاذير الشرعية . ……( )
الفَصْلُ الثَّانِي : بَيَانُ الأصْلِ فِي حُكْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ………( )
الأمر الأول : ………………………( )
الأمر الثاني : ………………………( )
مثال الميسر، والنرد . ……………………( )
مثال الجمعية الماسونية . ……………………( )
مثال مسجد ضرار . ……………………( )
مثال قياسي أولوي مهم . …………………( )
بيان أن الأحكام الأربعة متوقفة على المباح، وعلاقة بالكرة . ………( )
الفَصْلُ الثَّالثُ : المَحَاذِيرُ الشَّرعيَّةُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ )، وفِيْه أكْثَرُ مِنْ أرْبَعِيْنَ مَحْظُوْرًا . ( )
المَحْظُوْرُ الأوَّلُ : ضَيَاعُ مَفْهُوْمِ الوَلاءِ، والبَرَاءِ . ……………( )
الأدلة الشرعية على أهمية الولاء والبراء . ……………( )
ضوابط المحبة الشرعية الثلاثة . …………………( )
أقسام الناس الثلاثة في قضية "ولاء للكفار" . ……………( )
أقسام الناس الثلاثة في قضية "معاداة المسلمين" . ……………( )
بيان مغالطة من قال أن في ( كُرَة القَدَمِ ) تمتين للعلاقات . …………( )
المَحْظُورُ الثَّاني : الحُبُّ، والبُغْضُ لغَيْرِ اللهِ . ……………( )
أنواع المحبة : نافعة، وضارة، ولكل منهما ثلاثة أنواع . …………( )
بيان إثبات العبودية لغير الله تعالى عن طريق الحب، والبغض . ………( )
المَحْظُورُ الثالث : التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ . ………………( )
أقسام الكفار الثلاثة من حيث المشابهة، وبيان كل قسم . …………( )(1/494)
أدلة التحذير من التشبه بالكفار . ………………( )
تقسيم آخر لأعمال الكفار من حيث المشابهة، وهو قسمان . ………( )
بيان بعض أنواع المشابهة بالكفار عند أهل ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
المَحْظُورُ الرَّابعُ : إحْيَاءُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، والعَصَبِيَّاتِ القَوْمِيَّةِ . ………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ دعوى الجاهلية . ……………( )
شرح حديث : " إنَّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون …" ………( )
المَحْظُورُ الخَامِسُ : القِتَالُ، والسِّبَابُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ . …………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ القِتَالُ، والسِّبَابُ بَيْنَ المُسْلِمِيْنَ . ………( )
بعض المشاهد المؤلمة الناتجة عن سباب وقتال أهل ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
بعض المشاهد المؤلمة الناتجة عن أخطاء مشجعي ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
المَحْظُورُ السَّادِسُ : وُجُودُ العُنْفِ، والشَّغَبِ . ……………( )
تعريف العنف . ……………………( )
تعريف الشغب . ……………………( )
بعض المشاهد المؤلمة الناتجة عن العنف والشغب . ……………( )
الآثار الناجمة عن الشغب في ملاعب ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
صور العنف والشغب الناتجة عن ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
المَحْظُورُ السَّابِعُ : تَحْكِيمُ القَوَانِيْنِ الوَضْعِيَّةِ . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ القَوَانِيْنِ الوَضْعِيَّةِ . ……………( )
تقسيم الأحكام إلى تنظيم شرعي، وإداري . ……………( )
حالات قوانين وأنظمة ( كُرَة القَدَمِ ) . ………………( )
حالات لاعب ( كُرَة القَدَمِ ) مع قوانين وأنظمة ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
المَحْظُورُ الثَّامِنُ : الرِّهَانُ عَلَى الفَرِيْقِ الفَائِزِ . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ الرِّهانِ . ………………( )
تاريخ دخول الرهان بلاد الغرب . ………………( )
تاريخ دخول الرهان بلاد مصر المسلمة . ……………( )(1/495)
سبب تحريم الرهان في الإسلام . ………………( )
المَحْظُورُ التَّاسِعُ : كَشْفُ العَوْرَاتُ . ………………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ كَشْفُ العَوْرَاتُ . ……………( )
حكم نظر الرجل إلى عورة الرجل . ………………( )
حكم نظر الرجل إلى المرأة . …………………( )
حكم النظر إلى الشاب الأمرد . ………………( )
المَحْظُورُ العَاشِرُ : نَظُرُ النِّسَاءِ إلى اللاعِبِيْنَ؛ لاسِيَّمَا وأنَّهُم شِبْهُ عُرَاةٍ . ……( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ نَظُرِ النِّسَاءِ إلى للاعِبِيْنَ؛ لاسِيَّمَا وأنَّهُم شِبْهُ عُرَاةٍ . …( )
حكم نظر المرأة إلى الرجل . …………………( )
نظر المرأة إلى لاعبي ( كُرَة القَدَمِ ) محرمٌ ودياثةٌ؛ لأمور ثلاثة . ………( )
المَحْظُورُ الحَادِي عَشَرَ : عَدَمُ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، والصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى رَسُوْلِه . …( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ عَدَمِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، والصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى رَسُوْلِه . …( )
المَحْظُورُ الثَّانِي عَشَرَ : تَرْكُ صَلاةِ الجُمْعَةِ، والجَمَاعاتِ فِي المَسْجِدِ . ……( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ تَرْكِ صَلاةِ الجُمْعَةِ، والجَمَاعاتِ فِي المَسْجِدِ . ……( )
المَحْظُورُ الثَّالِثُ عَشَرَ : هَدْرُ الأمْوَالِ، وضَيَاعُها . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ هَدْرِ الأمْوَالِ، وضَيَاعِها . …………( )
استضافة اللاعب الأرجنتيني "ماردونا" . ……………( )
بعض صور المغالاة في استقطاب اللاعبين . ……………( )
بعض صور مفاسد الأموال الطائلة التي تنفق على ( كُرَة القَدَمِ ) . ……( )
أهم واجبات ولي الأمر . …………………( )
تعريف الإمامة ( الخلافة ) . …………………( )
المَحْظُورُ الرَّابِعُ عَشَرَ : قَتْلُ الأوْقَاتِ، وضَيَاعُها . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ قَتْلِ الأوْقَاتِ، وضَيَاعِها . …………( )(1/496)
المَحْظُورُ الخَامِسُ عَشَرَ : الرَّقْصُ، والتَّصْفِيْقُ، والتَّصْفِيْرُ، والهِتَافَاتُ . ……( )
كلام أهل العلم في تحريم الرقص . ………………( )
كلام أهل العلم في تحريم التصفيق، والتصفير . ……………( )
وجه تحريم الهتافات الجماعية عند مشجعي ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
المَحْظُورُ السَّادِسُ عَشَرَ : الغِيْبَةُ . …………………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ الغِيْبَةِ . ………………( )
المَحْظُورُ السَّابِعُ عَشَرَ : السُّخْرِيَّةُ، والاسْتِهْزَاءُ . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ السُّخْرِيَّةِ، والاسْتِهْزَاءِ . …………( )
المَحْظُورُ الثَّامِنُ عَشَرَ : الظَّنُ السُّوْءُ . ………………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ الظَّنِ السُّوْءِ . ……………( )
وجود ظن السوء بين عشاق ( كُرَة القَدَمِ ) من وجوه . …………( )
المَحْظُورُ التَّاسِعُ عَشَرَ : الهَمْزُ، واللَّمْزُ بالمُسْلِمِيْن . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ الهَمْزِ، واللَّمْزِ بالمُسْلِمِيْن . …………( )
المَحْظُورُ العِشْرُوْنَ : التَّبَخْتُرُ، والخُيَلاءُ، والعُجْبُ . …………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ التَّبَخْتُرِ، والخُيَلاءِ، والعُجْبِ . …………( )
قصة الصحابي تبختر سماك بن خرشة ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ في الجهاد . ……( )
المَحْظُورُ الحَادِي والعُشْرُوْنَ : التَّنَابُزُ بالألْقَابِ . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ التَّنَابُزِ بالألْقَابِ . ……………( )
المَحْظُورُ الثَّانِي والعُشْرُوْنَ : التَّهَاوُنُ بالتَّصْوِيرِ . ……………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ التَّهَاوُنِ بالتَّصْوِيرِ . ……………( )
المَحْظُورُ الثَّالِثُ والعُشْرُوْنَ : الإعَانَةُ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ . ………( )(1/497)
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ الإعَانَةِ عَلَى الإثْمِ، والعُدْوَانِ . …………( )
بعض صور التعاون على الإثم والعدوان عند أهل ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
المَحْظُورُ الرَّابِعُ والعُشْرُوْنَ : تَرْوِيعُ، وتَخْوِيفُ المُسْلِمِ . …………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ تَرْوِيعِ، وتَخْوِيفِ المُسْلِمِ . …………( )
المَحْظُورُ الخَامِسُ والعُشْرُوْنَ : التَّشْجِيْعُ، والتَّحْرِيْضُ البَاطِلُ . ………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ التَّشْجِيْعِ، والتَّحْرِيْضِ البَاطِلُ . ………( )
بيان معنى الجَلَب . ……………………( )
بيان معنى الجَنَب، وفيه تفسيران . ………………( )
بيان مسألة التشجيع والتحريض عند عشاق ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
المَحْظُورُ السَّادِسُ والعُشْرُوْنَ : المُبَالَغَةُ فِي الإطْرَاءِ، والثَّنَاءِ المَذْمُوْمِ عَلَى اللاعِبِيْنَ . …( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ المُبَالَغَةِ فِي الإطْرَاءِ، والثَّنَاءِ المَذْمُوْمِ عَلَى اللاعِبِيْنَ . …( )
تفسير حديث : " لا تقولوا : للمنافق سيد …" . …………( )
مفاسد الثناء على الفاسق . …………………( )
بعض صور تعظيم أهل الفسق . …………………( )
المَحْظُورُ السَّابِعُ والعُشْرُوْنَ : تَقْدِيْمُ المَفْضُوْلِ عَلَى الفَاضِلِ . ………( )
المَحْظُورُ الثَّامِنُ والعُشْرُوْنَ : غِشُّ النَّاشِئَةِ . ……………( )
المَحْظُورُ التَّاسِعُ والعُشْرُوْنَ : تَعْطِيلُ فَرْضِيَّةِ الجِهَادِ لَدَى الشَّبابِ المُسْلِمِ . ……( )
إهمال السياسة الرياضية عند المسلمين للرماية، والفروسية الشرعية . ……( )
أهمية تعلم الفروسية الشرعية هذه الأيام . ……………( )
أهمية الإعداد للجهاد بين أبناء المسلمين هذه الأيام . …………( )
المَحْظُورُ الثَّلاثُوْنَ : تَخْدِيْرُ الشُّعُوْبِ المُسْلِمَةِ عَنْ قَضَايَاهَا . …………( )(1/498)
نص برتوكولات حكماء صهيون في إلهاء، وتخدير المسلمين . ………( )
المَحْظُورُ الحَادِي والثَّلاثُوْنَ : تَمْرِيْرُ مُخَطَّطَاتِ أعْدَاءِ الإسْلامِ . ………( )
نص برتوكولات حكماء صهيون في تمرير مخططاتهم بين المسلمين . ……( )
وقفات ونظرات مع نص برتوكولات حكماء صهيون . …………( )
كلام محمد قطب في بيان خطر السينما، والتلفاز، والموضة، والكرة . ……( )
كلام عمر فروخ في خطورة خدمة الألعاب الرياضية للمستشرقين، واليهود، وغيرهم .( )
كلام ( ولبرت سيمث ) في أن الألعاب الرياضية وسيلة لتقارب الأديان، وتذويب قضية الولاء والعداء بين المسلمين وغيرهم . …………………( )
بعض صور المفاسد التي جنتها ( كُرَة القَدَمِ ) بعامة . …………( )
المَحْظُورُ الثَّانِي والثَّلاثُوْنَ : سَفَرُ المُسْلِمِ إلى بِلادِ الكُفْرِ دُوْنَ عُذْرٍ . ………( )
شروط السفر إلى بلاد الكفر . …………………( )
المَحْظُورُ الثَّالِثُ والثَّلاثُوْنَ : دُخُولُ الكُفَّارِ جَزِيْرَةَ العَرَبِ . ………( )
تحديد جزيرة العرب . ……………………( )
الأدلة على خروج الكفار من جزيرة العرب . ……………( )
حالات دخول، وإقامة الكفار في بلاد المسلمين . ……………( )
تعريف الكافر الحربي . ……………………( )
أنواع المحاربة . ………………………( )
ما تشمله كلمة الحربي من أصناف . ………………( )
تعريف الحربيون حسب التعبير المعاصر . ……………( )
حكم دخول الحربي بلاد المسلمين . ………………( )
بيان أن أكثر بلاد الغرب اليوم حربيون . ……………( )
عدد اللاعبين الكفار في بلاد الحرمين . ………………( )
المَحْظُورُ الرَّابِعُ والثَّلاثُوْنَ : تَوْلِيَةُ الكُفَّارِ عَلَى المُسْلِمِيْنَ . …………( )
أقسام الولاية من حيث العموم، والخصوص . ……………( )
أقسام الولاية عند شيخ الإسلام ابن تيمية . ……………( )
المقصد من الخلافة العامة . …………………( )
الأدلة الشرعية على منع الكفار من تولي الولايات العامة . ………( )
حكم تولي الكفار على نوادي الرياضة الإسلامية . …………( )(1/499)
المَحْظُورُ الخَامِسُ والثَّلاثُوْنَ : مُمَارَسَةُ احْتِرَافِ اللَّعِبِ، واتِّخَاذُها حِرْفَةً . ……( )
أقسام الاحتراف من حيث الوجوب، والحرمة . ……………( )
الاحتراف الواجب . ……………………( )
الاحتراف المحرم . ……………………( )
الاحتراف المكروه، وصوره . …………………( )
حكم مهنة تدريس العلوم الشرعية . ………………( )
حكم مهنة تحجيج المسلمين . …………………( )
حكم مهنة التكسب بالكتب، والأشرطة الإسلامية . …………( )
ضابط التكسب بأعمال البر /ح . ………………( )
الاحتراف المباح . ……………………( )
حكم احتراف اللهو، واللعب . …………………( )
بدايات الاحتراف في بلاد الحرمين . ………………( )
كلام أهل العلم في احتراف اللهو، واللعب . ……………( )
المَحْظُورُ السَّادِسُ والثَّلاثُوْنَ : مُشَارَكَةُ النِّسَاءِ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ………( )
بدايات التغرير بنساء بلاد الحرمين . ………………( )
بدايات مشاركة نساء بلاد الحرمين في ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
الردُّ على جريدةِ عكاظ . …………………( )
المَحْظُورُ السَّابِعُ والثَّلاثُوْنَ : التَّدْلِيكُ، و( المَسَاجُ ) المُحَرَّمَانِ . ………( )
المَحْظُورُ الثَّامِنُ والثَّلاثُوْنَ : جَهَالَةُ اللاعِبِيْنَ . ……………( )
المَحْظُورُ التَّاسِعُ والثَّلاثُوْنَ : الجَهْلُ بَعَدَدِ الإصَابَاتِ . …………( )
ذكر شرطي : عدد الرشق، والإصابة في الألعاب الرياضية . ………( )
الرد على قولهم : الفوز يعتبر بتحديد الوقت . ……………( )
حالات تقريب ( كُرَة القَدَمِ ) الخالية من جهالة عدد الإصابات . ………( )
المَحْظُورُ الأرْبَعُوْنَ : السِّحْرُ، والشَّعْوَذَةُ . ………………( )
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ السِّحْرِ، والشَّعْوَذَةِ . …………( )
بدايات دخول السحر نوادي بلاد الحرمين . ……………( )
المَحْظُوْرُ الحَادِي والأرْبَعُوْنَ : ضَرْبُ الخُدُوْدِ، وشَقُّ الجُيُوْبِ . ………( )(1/500)
الأدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى تَحْرِيْمِ ضَرْبِ الخُدُوْدِ، وشَقِّ الجُيُوْبِ . ………( )
صُوَرُ ضَرْبِ الخُدُوْدِ، وشَقِّ الجُيُوْبِ عند أهل ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
الفَصْلُ الرَّابِعُ : حُكْمُ ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ………………( )
الفَصْلُ الخَامِسُ : البَدِيْلُ عَنْ ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ……………( )
وقفة مع تعريف البدل والمبدل . …………………( )
حالات الانتقال إلى البدل . …………………( )
الأدلة على جواز العمل بالبدل . …………………( )
بيان بعض سوءات الدعوات الغارقة في البدائل . ……………( )
كلام الشيخ ابن القيم في فضل الاستغناء بالفروسية الإسلامية . ………( )
كلام الشيخ حمود التويجري في فضل الاستغناء بالفروسية الإسلامية . ……( )
الضوابط والشروط الخمسة في تقريب ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
الفَصْلُ السَّادِسُ : الشُّبَهُ حَوْلَ ( كُرَةِ القَدَمِ ) والرَّدُّ عَلَيْها؛ تَحْتَ عُنْوَانِ " المُنَاظَرَةِ الرِّيَاضِيَّةِ". …………………………( )
الشُّبْهَةُ الأولى : ( كُرَةُ القَدَمِ ) خَيْرٌ للشَّبَابِ مِنْ انْتِهَاكِ المُحَرَّمَاتِ، والردُّ عليها . …( )
الشبهة الثانية : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) حِفْظٌ لأوْقَاتِ الشَّبَابِ، والردُّ عليها . ……( )
الشبهة الثالثة : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَقْوِيَةٌ لأبْدَانِ الشَّبَابِ، والردُّ عليها . ……( )
الشبهة الرابعة : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) انْتِصَارٌ عَلَى الكُفَّارِ فِي المُبَارَيَاتِ، والردُّ عليها . …( )
الشبهة الخامسة : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) رَفْعٌ لَعَلَمِ التَّوْحِيْدِ : ( لا إلَه إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُ اللهِ )، والردُّ عليها . …………………………( )
الشبهة السادسة : الأصْلُ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) الإبَاحَةُ، والردُّ عليها . ……( )(2/1)
الشبهة السابعة : إنَّ ( كُرَةَ القَدَمِ ) كَانَتْ مَعْرُوْفَةً فِي كُتُبِ المَعَاجِمِ العَرَبِيَّةِ، مَشْهُوْرَةً فِي حَيَاةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، والردُّ عليها . …………………( )
الشبهة الثامنة : لَيْسَ فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) تَشَبُّهٌ بالكُفَّارِ، والردُّ عليها . ……( )
الشبهة التاسعة : نَحْنُ لا نَلْعَبُ ( كُرَةَ القَدَمِ )؛ بَلْ نُشَاهِدُها، ونُتَابِعُها دُوْنَ تَعَصُّبٍ.…( )
الشبهة العاشرة : فِي ( كُرَةِ القَدَمِ ) وَسِيْلَةٌ دَعَوِيَّةٌ، والردُّ عليها . ………( )
الفَصْلُ السَّابِعُ : الشِّعْرُ العَرَبِيُّ، وَ( كُرَةُ القَدَمِ ) . …………( )
الفَصْلُ الثَّامِنُ : مُلْحَقُ فَتَاوَى أهْلِ العِلْمِ فِي تَحْرِيْمِ ( كُرَةِ القَدَمِ ) . ……( )
كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في تحريم ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
كلام الشيخ عبد الرحمن ابن قاسم في تحريم ( كُرَة القَدَمِ ) . ………( )
كلام الشيخ محمد بن إبراهيم في تحريم ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
كلام الشيخ حمود التويجري في تحريم ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
كلام الشيخ عبد العزيز السلمان في تحريم ( كُرَة القَدَمِ ) . …………( )
فتوى اللجنة الدائمة في تحريم ( كُرَة القَدَمِ ) . ……………( )
قائمة محاذير ( كُرَة القَدَمِ ) . …………………( )
ثبت المراجع . ………………………( )
فهارس الآيات . ……………………( )
فهارس الأحاديث النبوية . …………………( )
الفهارس الموضوعية .……………………( )(2/2)