...
حقيقة النشيد وحكمه
تقريظ وتعليق
فضيلة الشيخ / عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
غفر الله لنا وله وللمسلمين
اعداد
صالح بن أحمد بن محمد الغزالي
الأستاذ المشارك
بقسم الشريعة
كلية الشريعة - جامعة أم القرى
تقريظ
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد ألاّ إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الصادق الأمين - صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ؛
فقد قرأت هذا البحث الذي كتبه الشاب / صالح الغزالي ، ويتعلق بالنشيد الإسلامي ، وحكمه ، وأدلة الحكم ، ومناقشة الأدلة .
وحيث أن فيه اختلاف بين علماء هذا الزمان ، وأن هناك نشيد غير إسلامي ، وأن الشعر كما يُقال : " حسنه حسن وقبيحه قبيح " .
فقد ترجح لي :
أنه لا بأس باستعمال النشيد الإسلامي ، وسماعه ؛ للاستفادة منه ، والتأثر بما فيه من المواعظ والزواجر ، كما يحصل التأثر بالخطب البليغة ، والنصائح والإرشاد .
وقد أصاب الأخ/ صالح فيما اختاره غالباً ، وقد ناقشته في بعض أدلته ، وعلّقت عليه ، بما يوضح المراد من الكلام، ويُعرف منه جواز سماع هذا النوع من الشعر إذا لم يكن مثل الغناء ، ولا مثل سماع الصوفية ، وإنما فيه إنشاد هذا النظم بصوت حسن وبوزن وقافية ، وبدون تلحين وتطريب وتغريد ، وبقصد الإفادة والمنفعة ، لاسيما للشباب الذين انهمكوا في الانكباب على الملاهي والأغاني، وانشغلوا بذلك عن سماع القرآن ، والذكر والخير ، فلا يرعوون ، ولا يقبلون نصحاً، فإذا سمعوا هذا النوع من الشعر انصاعوا إليه ، وأنصتوا له ، واستمعوا إليه مُصيخين إلى معانيه ومبانيه ، فيُثر فيهم إقلاعاً عن اللهو والباطل ، وإقبالاً على الخير ، وتقبلاً للنصيحة .
فلأجل هذا التأثر المحسوس رأينا أهمية صياغة هذا النشيد ونشره في هذه الأوساط ؛ رجاء الانتفاع به ، ومن ثَمّ الإقبال على كتاب الله تعالى ، واستفادة منه .(1/1)
والله أعلم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
15/11/1413هـ ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده ، والصلاة والسلام الأتمان على أكرم رسله محمد وعلى آله وصحابته ، وبعد ،
فقد يسر الله لي الكتابة في موضوع ( الفن ) وأحكامه في الشريعة الإسلامية ، ومن مسائله ( النشيد الإسلامي ) ، وأفردته بالبحث وبشيء من العناية والتفصيل ؛ لأهميته ، ولكونه من المستجدات .
وقد يسر الله لي - في وقته ( ذو القعدة 1413هـ ) - عرض ما كتبتُ على فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين - جزاه الله خيراً - فكتب على ما كتبتُ تقريظا ، وتعليقات منوعة ، منها ما هو تأييد ، ومنها ما هو توجيه ، ومنها ما يُعد اعتراضاً ، وتنوعاً في الرأي الفقهي .
وقد أثبتتُ كل ذلك في البحث للفائدة ، وللالتزام بمنهج الأمانة والعلم ، ولا غرابة في أمر الخلاف في المسائل الفقهية والفروع ..
والمسائل المذكورة منها ما هو من قبيل الخلاف السائغ ، أو خلاف تباين وتنوع ، ومنها خلاف في تحقيق المناط ..
فجزى الله الشيخ خيرا على ما كتب وعلّق ، وما ذكرته من آراء ومسائل اجتهدتُ في ذِكرها بحسب الأدلة التي عرضتها، ثم المناقشة ، واختيار الراجح من كلام أهل العلم ، وبحسب ما علمتُ من القواعد الشرعية في النظر والترجيح.
وإن أكون قد أصبتُ فمن الله وحده ، وإن أكون قد أخطأتُ فمن نفسي والشيطان والله ورسوله منه بريئان .
والحمد لله أولاً وآخراً
صالح بن أحمد الغزالي
29/6/1430 هـ ـ
الفصل الأول
حقيقة النشيد
لبيان حقيقة النشيد لابد من معرفة : معناه وأركانه ، ونشأته، وتطوره، وإليك بيان ذلك مفصلا إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
المبحث الأول
معنى النشيد في اللغة والاصطلاح
المطلب الأول : معناه في اللغة العربية .
النشيد : رفع الصوت . وكذلك المعرف يرفع صوته بالتعريف ، فسُمى منشدا ؛ ومن هذا إنشاد الشعر ، إنما هو رفع الصوت .(1/2)
والنشيد - فعيل معنى مفعل - : الشعر المتناشد بين القوم ، ينشد بعضهم بعضاً ، قال الأقيشر الأسدي :
ومسوف نشد الصبوح صبحته ... قبل الصباح وقبل كل نداء (1)
المطلب الثاني : معناه في اصطلاح أهل العصر .
النشيد - كما هو معروف اليوم - : رفع الصوت بشعرٍ ، أو رجز ، أو نثر ، بنوع فيه ترجيع وترقيق وتنغيم ؛ لأجل إثارة الحماس والعواطف والغيرة الدينية ، في أوقات وأماكن متنوعة (2) .
ومن خلال تعريف النشيد يتبيّن أن النشيد نوع جديد من السماع أُحدث في هذا العصر - يحتاج إلى مزيد بحث وبيان حكمه - ويتميّز عن السماعات القديمة المعروفة بالحُداء والنَصْب والغناء والسماع الصوفي .
فمن أوجه مخالفته للحُداء والنَصْب : أنه يُسمع ويُنشد في أماكن وأوقات متنوعة ، وغير مقصورة على ما كان يُنشد في الحُداء والنَصْب ، كما أن في النشيد من المقاصد ما ليس في الحُداء والنَصْب ، كإثارة الحماس والغيرة والعواطف الدينية .
ومن أوجه مخالفته للغناء : أنه ليس مما يقصد به مجرد التطريب كالغناء ، وليس في كلماته ما هو في جنس كلمات الغناء من الحب والتشبيب والعشق .
ومن أوجه مخالفته للسماع الصوفي : أن معنى التعبد والتقرب إلى الله مما لابد منه في السماع الصوفي بخلاف النشيد ، وكذلك آلات اللهو وكلمات الحب والعشق والغزل لازمة للسماع الصوفي دون النشيد .
المبحث الثاني
نشأة النشيد
يشتمل الكلام على نشأة النشيد الكلام عن أمور :
أولاً : أصله الذي يرجع إليه . والمتطور عنه في أنواع السماعات القديمة المختلفة .
ثانيا : متى ؟ وأين ابتدأ النشيد بصورته الحالية ؟
ثالثا : كيف انتشر وما هي الدواعي إلى ذلك ؟
__________
(1) لسان العرب ابن منظور 70/4422 بتصرف .
(2) انظر : أناشيد إسلامية ، اختيار وتقديم مروان كجك ( ص 5 ) ، ونشيدنا ، لسليم عبدالقادر ( ص 25 - 29 ) ، ونشيد الكتائب ، سليم عبدالقادر
( 25 - 29 ) .(1/3)
رابعا : كيف تطور النشيد ؟ وما هي مظاهر هذا التطور والتنوع ؟
المطلب الأول : أصل النشيد .
لم يُعرف النشيد بصورته الحالية قبل العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري (1) ، إلاّ أن له أصولاً قديمة أرجعها المتكلمون على أصله - بحسب رأيهم فيه - إلى أمرين :
الأول : أنه امتداد للحُداء والنَصْب اللذين كانا ينشدان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن بعده - رضي الله عنهم - ، مع تطور يسير ، بما يتناسب مع تطورات العصر الحديث (2) .
الثاني : أنه موروث عن الطرقيين من الصوفية ، مع تعديل لا بأس به في كلماته كالبعد عن الشركيات . أو غياب كثير من آلات اللهو في كثير منه (3) .
وأما مبتدأ النشيد فإنه لم يعرف بصورته الحالية قبل العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري ، الذي اصطلح على تسميته فيما بعد بعقد الصحوة الإسلامية ، وكان ذلك في مصر والشام ، ثم انتشر في بقية البلدان .
المطلب الثاني : ابتداء النشيد في مصر والشام ، ثم انتقاله إلى بقية البلدان .
كتب الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - عام 1954م ، مقدمه لمجموعة من الأناشيد الدينية ، للشاعر محمود أبو الوفاء ، وضمّنها معنى الأناشيد الإسلامية اليوم ، وقال : " هذه الطبعة الجديدة من الأناشيد ، فقد تمت بناءاً على رغبة بعض العاملين في حركة الأحياء الإسلامي ؛ لتنتفع بها ناشئة الأخوان المسلمين ، أو ينتفع بها غيرهم ممن يريد أولياؤهم أن ينشأوا في ظلال الإيمان ، أو يتذوقوا حلاوة روح الدين " (4) .
__________
(1) انظر : أناشيد الإسلامية ، اختيار وتقديم : محمود أبو الوفاء ( ص 5 ) .
(2) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع 1055 ، 20/2/1406هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 35 ) .
(3) انظر : البيان المفيد ، جمع السليماني ( ص 27 ) .
(4) الأناشيد الإسلامية ، محمود أبو الوفاء ، المقدمة .(1/4)
وكان لهم ما أرادوا من انتشار الأناشيد بين الشباب المسلم فيما بعد ليس في مصر فقط ، ولكن في كثير من البلدان العربية وغيرها ،إلا أن فكرة الأناشيد لم تكتمل - كما أعلم - بصورتهما الحاضرة قبل العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري .
يقول مروان كجك في مقدمة أناشيد إسلامية : " وكانت هذه الأناشيد تسير رويدا رويدا بمعاني القرآن ، وعقائد الإسلام ، حتى كان العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري الذي اصطلح على تسميته بـ (عقد الصحوة الإسلامية) - وهى مستمرة بعون الله ومدده - فإذا الأناشيد تندفع إلى الساحة الإسلامية ، فتؤلف لها مجموعات الإنشاد المتعددة ، وكان للأطفال فيها دور كبير ، وراح الناس يتداولون الأشرطة المسجلة لهذه الأناشيد ، ويحفظونها ، ويرددها الصغار والكبار ، وتذخر حفلاتهم وأعيادهم ومناسباتهم ، مما ألهب المشاعر وأزكى الآمال ، فتبدلت صورة ما تعارفنا عليه من المناسبات الإسلامية ، لتصبح دروسا في العقيدة ، وعظات صادقة ، وإرشادات ظمئت لها النفوس قرونا " (1) .
فكانت بداية الأناشيد في صورتها الحالية في العقد الأخير من القرن الرابع عشر الهجري في بلاد الشام ومصر ، عن طريق إحياء المناسبات كالأعياد والأعراس والاحتفالات ( المسجدية ) على يد بعض فرق الأناشيد المتبرعة بذلك ، ثم سهل انتشارها بواسطة أشرطة ( الكاسيت ) إلى بعض البلدان العربية ، حتى أصبح في أكثر البلدان مَن يُصدر هذه الأناشيد ويتحمس لها مما أدى إلى تطورها وتنوعها .
المطلب الثالث : الدواعي إلى انتشار النشيد .
كان الداعي إلى ظهوره وانتشاره أسباباً منوعة ، وأهمها :
الأول : انتشار الأغاني الخليعة مما دعا أهل النشيد إلى منافستها والحد من انتشارها بواسطة بدائل النشيد .
__________
(1) ( ص 5 - 6 ) .(1/5)
الثاني : انتشار الصحوة الإسلامية ، لاسيما التجمعات الدعوية ، والجماعات الإسلامية ، الذين رأوا النشيد من ضرورة أساليب الدعوة (1) .
الثالث : تسلط الكفار على المسلمين، واغتصاب أراضيهم، لاسيما أرض فلسطين -ردها الله من كيد الغاصبين-، وظهور الحركات الجهادية في مقاومة الكافرين ، ولاسيما الجهاد الأفغاني .
الرابع : ظهور وسائل السماع وانتشارها (2) وتكاثرها بين أيدي الناس في بيوتهم ومركوباتهم ، لاسيما أشرطة
( الكاست ) ، ووجود مؤسسات تجارية متخصصة في نشره تُسمى ( التسجيلات الإسلامية ) .
وبانتشار النشيد حصلت العناية به وتطويره من نواح عدة .
المطلب الرابع : تطور النشيد والعناية به .
بسبب انتشار الأناشيد وتكاثرها ، وتوفير وسائل سماعها وتسجيلها وكثرتها لدى الناس ، حصل التطور والعناية بالأناشيد في أدائها وسماعها وألحانها وكلماتها ومقاصدها على النحو التالي :
أ- التطور والعناية بالألحان ويتمثل في أمور أهمها :
1-العناية بالألحان المطربة ،وتحسينها كأحسن ما يكون النغم .
2- العناية بالألحان والأصوات المعبرة ، التي تتنوع بتنوع معاني كلمات النشيد ومقاصده ، فللأناشيد الحماسية لحن ، وللأناشيد الوعظية لحن ،كما بما يقتضى الحال .
3- تخصيص من يُلحن الأناشيد قبل أدائها وإنشادها ممن يتقن ذلك .
4- تدرب المنشد وفرقته على أداء النشيد مرات كثيرة ، حتى يتم إتقان اللحن المناسب المطلوب .
5- استخدام الأجهزة الحديثة في التسجيل، لترقيق الألحان أو تفخيمها أو تقويتها أو غير ذلك مما يُحسّن اللحن.
ب- التطور والعناية بكلمات النشيد وتنويعها على النحو التالي :
1- إنشاد الكلمات والقصائد غير الموزونة ، في مقابل الشعر المقفى الموزون .
__________
(1) انظر : أناشيد إسلامية ، اختيار وتقديم : مروان كجك ( ص 5 ) .
(2) انظر : نفس المكان .(1/6)
2- أناشيد اللهجات العامية كالأناشيد الكويتية والفلسطينية وغيرها ، في مقابل الأناشيد العربية الفصيحة .
3- الأناشيد الأعجمية كالأناشيد الأفغانية والبوسنية والإنجليزية ، في مقابل الأناشيد العربية .
4- إدخال كلمات التوجع والتأوه في الأناشيد .
5- استخدام الأصوات المعبرة ، كأصوات بعض الحيوانات والجمادات .
ج- تطوير مقاصد النشيد إلى :
1- الأناشيد الترحيبية التي يُحَيّا بها الضيوف والقادمون .
2- الأناشيد الوعظية التي تُرقق بها القلوب .
3- استخدامها في الدعوة إلى الله وتتويب العصاة .
4- استخدامها في جمع التبرعات الخيرية ؛ للإنفاق في سبيل الله - عز وجل - .
5- استخدامها في مناصرة بعض القضايا المعاصرة وبيانها للناس ، كقضية فلسطين وأفغانستان والبلقان ( البوسنة والهرسك ) .
6- استخدامها في تعليم الأطفال بعض الآداب النبوية ، والتوجيهات الأخلاقية .
7- استخدامها في الدعوة إلى مُناصرة بعض الأحزاب والتجمعات الدعوية .
د- التطور والعناية في إصدار الأناشيد من نواحي عدة ، أهمها :
1- تسجيلها في أجهزة التسجيل الحديث ، مما أمكن إتقان أدائها بإعادتها وتكرارها .
2- إدخال المحسنات الصوتية لها ، كالتكبير والتفخيم والصدى وغير ذلك .
3- عرض الأناشيد مع الصور المعبرة المناسبة لكلماتها ، وذلك بتسجيلها في الأجهزة المرئية .
4- التقديم للنشيد بما يُناسب مع موضوعه ، من القرآن الكريم ، أو الحديث الشريف ، أو الشعر ، أو القصة أو الحوار أو بعض الأصوات المعبرة ، كصوت الرصاص والماء والبوم والعصافير .
5- جمع الأناشيد الخاصة بموضوع مُعين وإصدارها في شريط واحد كموضوع الجهاد والمرأة مثلا .
6- تشجيع إصدار الأناشيد بعمل المسابقات والمهرجانات ، ورصد الجوائز لذلك .
7- تسجيلها بكميات كبيرة ، ونشرها في أماكن كثيرة .
8- بيعها والمتاجرة بها .
9- حفظ حقوق نسخها للجهة المصدرة لها .
المبحث الثالث
أركان النشيد(1/7)
الركن هو ما قام عليه الشيء ، والنشيد يقوم على ثلاثة أمور : الألحان ، والمقاصد ، والكلمات ، وبتوضيحها تتضح حقيقة النشيد ، وهى كالتالي :
المطلب الأول : ألحان النشيد .
النشيد - كما مر في التعريف - يؤدى بترقيق وترجيع وتنعيم ، أي بالألحان ، لكن هذه الألحان متنوعة بتنوع الأناشيد ، ومتفاوتة في الترقيق والتنعيم ؛ لتنوع المنشدين ، واختلاف أداءهم ، ومعرفتهم بالألحان وعنايتهم بها ، على النحو التالي :
1- منه ما يؤدى بتحسين للصوت وتنعيم له ، دون تمطيطه ومده على النحو المعهود في النشيد الآن ، بل كإنشاد بعض المنظومات العلمية إنشاداً سريعاً .
2- ومنه ما يؤدى بتمطيط وتحسين وتلحين غير متكلف ، كنحو ما يفعل العرب في غناءهم (الحُداء والنَصْب ).
3- ومنه ما يؤدى بتكلف وتصنع ، وعناية فائقة باللحن وإتقانه ، لكن دون التقيد بألحان وأوزان النغم الموسيقي.
4- ومنه ما يكون موزنا على الألحان والمقامات الموسيقية الموقعة ، ويتقن ذلك الملحنون العارفون بعلم الموسيقى .
المطلب الثاني : كلمات النشيد .
غالب منظوم النشيد من قبيل الرجز ، وغالب معانيها من قبيل شعر الدعوة الإسلامية ، أما موضوعاتها فكثيرة ويمكن تقسيمها إلى الموضوعات التالية :
الموضوع الأول : ( الدعاء والمدائح النبوية ) .
أ الدعاء ، ويقصد به أمران :
الأول : الثناء على الله - عز وجل - بذكر أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، وذكر ماله من الفضل والنعمة الظاهرة والباطنة ، وذكر ما يستحق من التوحيد ، وإفراده بالعبادة ، والخضوع ، والتذلل له دون سواه .
ومثال هذا النوع من النشيد قصيدة محمد إقبال :
"إلهنا ما أعدلك ... مليك كل مَن ملك
لبيك قد لبيت لك ... لبيك إن الحمد لك
والملك لا شريك لك
والليل لما أن حلك ... والسابحات في الفلك
على مجاري المنسلك ... ما خاب عبد أمّلك
أنت له حين سلك ... لولاك يا رب هلك
يا مُخطئا ما أعجبك ... عجل وبادر أجلك
واختم بخير عملك ... ولا تسوف املك(1/8)
لبيك إن الحمد لك ... لبيك قد لبيت لك" (1)
الثاني : سؤال الله عز وجل أن يدفع الضر والشر ، وأن يجلب النفع والخير في الدارين .
ومثال هذا النوع من النشيد القصيدة التالية :
" لا حول ولا قوة إلا ... بك يا ذا القوة يا مولى
فأعن واصرف عنّا الجهل ... يا ذا المنّة يا رب
وإذا متُّ إلهي اجعل لي ... في قبري نوراً واغفر لي
واحشرني مع خير الرسل ... يا ذا المنة يا رب" (2)
ب - المدائح النبوية :
وذلك بالثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يليق به دون غلواً وإطراء ، وذكر صفاته التي أثنى الله عليه بها ، وذكر بعض خصائصه التي خصه الله بها ، مما ورد به النّص .
مثال المدائح النبوية نشيد :
" طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
جئت شرّفت المدينة ... بالهدى يا خير داع
قد لبسنا ثوب عز ... بعد تمزيق الرقاع
ربنا صلى على مَن ... حل في خير البقاع" (3)
الموضع الثاني : ( الأناشيد الحماسية) .
وهى غالب مادة النشيد وموضوعاته ، وقد تبارى شعراء الدعوة المعاصرون في الدعوة إلى الجهاد والحماس والذود عن حياض الدين وأهله .
ففي أنشودة نداء القرآن يقول الشاعر مستنهضا قومه :
"يا بني قومي هذى صيحة ... فدعوا النوم وهبوا للجهاد"
ولا ينسى الشاعر المجاهد أبدا أن نور الله هو الذي يضيء درب الجهاد فيدعو ربه :
" فجر اللهم في عزمـ ... ـى من نورك نورا
واصطنعني لغد الإنـ ... ـسان في الآفاق سورا "
وما أجمل تلك الأنشودة ( حماة الأقصى ) التي تنطق باسمهم وتقول :
" نحن أجيال الغد ... وجنود السؤدد
قد نهلنا علمنا ... من كريم المورد
من سنا قرآننا ... والهدى المحمدي"
والتي تبشر أن حُماة الأقصى لم يموتوا ، وهم جنود الغد - أي غداة - مُحررين أولا ، وحماة ثانيا ، ولا
__________
(1) نشيدنا ، جمع سليم عبدالقادر ( ص 101 ) .
(2) العقد الفريد ، جمع : عماد شاولي ( ص 21 ) .
(3) نشيد الكتائب ( ص 157 ) .(1/9)
نستغرب ذلك أبدا من فتية صمموا على الجهاد وعزموا على النضال :
" قد عزمنا للنضال ... واتحدنا للخطوب
نحن رهان الليالي ... نحن فرسان الخطوب " (1)
ويكشف المنشد لونا من ألوان المؤامرة الكبرى على الشباب المسلم ؛ لينشغل عن دينه وينصرف إلى لهوه وترهاته ، يكشفها محذراً الأمة من خطر إضعاف الشباب ، وهم عدة الأمة للحاضر والمستقبل :
" مؤامرة تدور على الشباب ... ليعرض عن معانقة الحراب
مؤامرة تدور بكل بيت ... لتجعله ركاما من تراب"
لذلك فالشاعر يدعو إلى تحطيم هذه المؤامرة ، بتحطيم ظلمها فيقول :
" حطموا ظلم الليالي ... واسبقوا ركب المعالي
وابذلوا كل الغوالي ... وارفعوا دين محمد "
ويُشير بعد ذلك إلى الدور العظيم الملقى على عاتقهم :
" ينظر الكون إليكم ... يطلب البر لديكم
فاعلموا ماذا عليكم ... نحو تشريع محمد "
وبكلمات قليلة يجلى بعض جوانب الإسلام العظيمة :
" إنما الإسلام قوة ... وجهادا وفتوة
ونظام وأخوة ... واتباع لمحمد "
وما أبلغ تلك الكلمات في أنشودة تباشير الفجر التي تتحدث من قلب المعركة ، حديث المعاناة السابقة للجهاد الدامي الذي لا مفر منه ، ولا منأى ، مادامت الكلمة لم تجد لها أذنا صاغية ، والموعظة الحسنة لم يؤبه لها ، والإرشاد اللطيف لم يجد نفعا . عند ذلك يجري الدعاء إلى الله أن الباطل أعد العدة لمحاربة الحق ، والإيقاع بالمؤمنين، فينطلق شاعرهم مخاطبا الطاغية :
" قد تملك صوتا يكويني ... وتحز القلب بسكين
قد تجعل غلك في عنقي ... وتحاول قطع شراييني "
إلى أن يصرخ في وجهه مزمجراً :
" لكن سلطانك لن يرقى ... لذرى إيماني ويقيني "
ليُصاب الطغاة ، كل الطغاة ، باليأس من هزيمة المؤمنين أو دحرهم أو النيل من إيمانهم بربهم ، وثقتهم بوعده ، فهم أنسال آباء كرام ، كانت كلماتهم تحت السياط اللاهبة : أحد أحد ، ونشيدهم عند الموت :
__________
(1) أناشيد إسلامية ، اختيار وتقديم : مروان كجك ( 6 - 7 ) .(1/10)
" ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي "
وهكذا تتوالى هذه الأناشيد في سبيل الله لدفع المسلم دفعات من العزيمة الصادقة والإصرار المتين ؛ ليظل سائراً على طريق الحق لنيل إحدى الحسنين : النصر أو الشهادة (1) .
الموضوع الثالث : (الأناشيد الترحيبية ) .
ويقصد بها الترحيب بالضيوف أو القادمين ، في المناسبات ، كالأعراس والاحتفالات والندوات وغيرها .
مثال ذلك من الأناشيد (2) :
" يا هلا فيكم ... الله يحييكم
بالحب بالمودة ... أحنا نحييكم " (3)
***
" يا مرحبا بمن وصل ... على الرؤوس في المقل
قلوبنا هي المحل ... وهى فسيح المقر "
***
" طاب طاب طاب ... لقاءنا قد طاب
أهلا بكم يا شباب ... في الحل والترحاب "
الموضوع الرابع : ( الأناشيد التربوية ) .
ويقصد بها الأناشيد التي تغرس المعاني الطيبة والخصال الفاضلة في النفوس ، وأهمها :
1- الدعوة إلى حفظ القرآن الكريم وتلاوته مثل الأناشيد :
" غرد يا شبل الإيمان ... غرد واصدح بالقرآن
فيه الحق وفيه النور ... فيه اللؤلؤ والمرجان" (4)
الدعوة إلى النظر في الكون والتأمل في المخلوقات ، مثل نشيد :
" هذه الدنيا الجميلة ... بين قفر وخميلة
وسموات صقيلة ... كلها من صنع ربي " (5)
2- الدعوة إلى برّ الوالدين ، والإحسان إليهما ، مثل نشيد :
" في حضنها الأمان ... في صدرها الحنان
في قلبها الإيمان ... في كفها الإحسان
أمي رعاها الله ... أمي رعاها الله " (6)
***
" أبي دعاني إليه ... والخير ملء يديه
وضمني بحنان ... والرفق في ساعديه
__________
(1) أناشيد إسلامية ، اختيار وتقديم : مروان كجك ( 8 - 9 ) .
(2) العقد الفريد ، جمع : عماد شاولي ( ص 7 ) .
(3) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " وأحسن منه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - :( هلاّ بعثتم مَن يقول أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ) ".
(4) العقد الفريد ، جمع : عماد شاولي ( ص 36 ) .
(5) نفس المصدر ( ص 35 ) .
(6) نشيد الكتائب ( ص 74 ) .(1/11)
سلام ربي عليه ... سلام ربي عليه " (1)
... ...
3- الدعوة إلى الأخوة الإسلامية التي تربط بين المسلمين برباط العقيدة في كل مكان ، كنشيد ( صالحون ) وفيه :
" يا أخي في الهند أو في المغرب ... أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري أو نسبي ... إنه الإسلام أمي وأبي
أخوة نحن به مؤتلفون ... مسلمون مسلمون مسلمون" (2)
5- الدعوة إلى الحجاب ، مثل نشيد :
" أختاه يا أمة الإله تحشمي ... لا ترفعي عنكِ الحجاب فتندمي"
6- الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله (3) .
الموضوع الخامس : ( الأناشيد الزهدية ) .
ويُقصد بها الأناشيد التي تدعو إلى الزهد في الدنيا ، والترغيب في الآخرة ، والدعوة إلى الإكثار من الأعمال الصالحة ، وترك الذنوب والمعاصي والآثام ، مثل إنشاد القصيدة الزهدية :
" يا نفس توبي فإن الموت قد حان ... واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا ... لقطا فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه ... نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها ... خلفي وأخرج من دنيايَ عريانا
يا راكضا في ميادين الهوى مرحا ... ورافلاً في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب ... يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانَ" (4)
الموضوع السادس : ( الأناشيد التعليمية ) .
ويُقصد بها : تعلم أمور الدين أو بعض أمور الدنيا النافعة ، ومنها :
1- تعليم الصغار الآداب النبوية ، كآداب الأكل والشرب ، ودخول المسجد ، والنوم ، واللبس ، والذكر ، والدعاء وغيرها .
2- تعليم أركان الإيمان وشرحها بأسلوب ميسر للأطفال .
3- تعليم أركان الإسلام ، وبيانها بأسلوب مُيسر للصغار .
4- تعليمهم- أي الصغار - مبادئ الحساب
5- تعليمهم - أي الصغار - مبادئ القراءة والأحرف الهجائية .
المطلب الثالث : مقاصد النشيد .
__________
(1) نفس المصدر ( ص 75 ) .
(2) العقد الفريد ، جمع : عماد شاولي ( ص 42 ) .
(3) شريط ( تفضل سنبلة ) .
(4) العقد الفريد ( ص 101 ) .(1/12)
تنقسم مقاصد النشيد بحسب متعلقها إلى قسمين :
القسم الأول : المقاصد المرتبطة بكلمات النشيد ومعانيها (1) ، وأهمها :
1- الثناء على الله بما هو أهله .
2- مدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
3- التعريف بمحاسن دين الإسلام على غيره من الأديان ، ومبادئه العظيمة ، كالعدل ، وتحرير الإنسان من عبودية غير الله .
4- التذكير بأمجاد المسلمين وبطولاتهم السالفة .
5- التعريف بمشكلات المسلمين وآلامهم المعاصرة .
6- إثارة الحماس والغيرة على الدين والحث على الجهاد في سبيل الله .
7- الدعوة إلى مكارم الأخلاق كبِرِّ الوالدين والإنفاق في سبيل الله .
8- لفت الأنظار إلى عظمة الخالق - عز وجل - بالنظر في مخلوقاته والتأمل فيها .
9- تعليم الناس بعض أحكام الدين كأركان الإيمان ، وأركان الإسلام .
10- محاربة الأفكار المنحرفة ، كالدعوة إلى التبرج والسفور ، وتقليد الكفار وموالاتهم ، وعزل الدين عن الحياة .
القسم الثاني : المقاصد المرتبطة بحال مستمع الأناشيد وقصده (2) .
1- الاستعاضة عن الأغاني الخليعة المحرمة ، لاسيما لمن أعتاد سماعها .
2- الترويح عن النفس ، ودفع السآمة ، والملل حين الضعف والخور .
3- إثارة المعاني الإيمانية وتحريكها كالخشية والإنابة وترقيق القلب وتذكر الآخرة بسماع الأناشيد الوعظية الزهدية .
4- الاستعانة بالأناشيد على أداء العمل وقطع المفاوز البعيدة دون ملل .
5- اتخاذها وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله يتوب بها العصاة .
6- الإطراب واللذة بسماع ألحان النشيد ، وما يصحبه من آله دف إن وجد .
7- إحياء المناسبات المختلقة ، كالأعراس والحفلات .
المبحث الرابع
القائمون على النشيد
__________
(1) انظر : أناشيد إسلامية ، اختيار وتقديم مروان كجك ( ص 5 ) .
(2) انظر : نشيدنا ، المقدمة ، عبدالله علوان ( ص 16 ) وما بعدها .(1/13)
القائمون على النشيد هم : واضعو كلماته ، وملحنوها - إن كانت ملحنة - ، والمنشدون والمرددون له ، والقائمون على إصداره وتسجيله ، والقائمون على نشره وتوزيعه ، والحديث عنهم كالتالي :
المطلب الأول : واضعو كلمات النشيد .
غالب ما يُنشد من قبيل شعر الدعوة الإسلامية ، ويُمكن تقسيمه بحسب قائليه إلى أربعة أقسام :
القسم الأول: شعر بعض الشعراء المتقدمين ، ممن ألف في موضوعات الدعوة الإسلامية ، كالثناء على الله ورسوله، والذود على الدين والمنافحة عن الإسلام ، وكشعر الزهد والحكمة .
ومن هؤلاء الشعراء : شعراء الدعوة في عصر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كحسان بن ثابت ، وعبدالله بن رواحه ، وكعب بن مالك .
وهؤلاء ممَن استخدم أهل النشيد كلماتهم المعروفة .
القسم الثاني : شعر شعراء الدعوة الإسلامية المعاصر ، الذي قيل في ذكر محاسن هذا الدين ، والفخر بأمجاد المسلمين الأولين ، والدعوة إلى الالتزام بشرائعه ورجوع المسلمين إلى دينهم ، واسترداد حقوقهم المسلوبة ، وغير ذلك من معاني شعر الدعوة الإسلامية المعاصر .
ومن هؤلاء الشعراء : محمد إقبال ، مصطفى صادق الرفاعي ، هاشم الرفاعي ، سيد قطب ، عمر بهاء الدين ، محمود أبو الوفاء ، يوسف القرضاوي ، يوسف العظم ، وليد الأعظمي ، ضياء الدين الصابوني (1) .
القسم الثالث : شعر أُلف لأجل النشيد .
ومن هؤلاء الشعراء بعض المنشدين أو القائمين على إصداره ، مثل : محمود منذر سرميني ، وسليم عبد القادر (2) .
القسم الرابع : شعر لم يُشتهر قائله ، وهو كثير (3) .
المطلب الثاني : الملحنون .
يُقصد بهم من يهيئون النشيد على نغم وشجن مُعين ، ويُمكن تقسيم الأناشيد بالنسبة إلى التلحين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : أناشيد غير ملحنة .
__________
(1) انظر : نشيدنا ( ص 169 - 173 ) .
(2) انظر : نفس المكان .
(3) انظر : نفس المكان .(1/14)
القسم الثاني: أناشيد ملحنة على غير الوزن الموسيقي، وإنما يراعى في تلحينها المعنى التعبيري لكلمات النشيد، فللأناشيد الحماسية لحن ، وللأناشيد الزهدية لحن ، وللأناشيد الترحيبية لحن ، كل بما يقتضيه الحال .
القسم الثالث : أناشيد ملحنة على الوزن الموسيقي ، وقد جرت العادة في تلحين هذا النوع من الأناشيد على آلة الدف دون غيرها من الآلات الموسيقية ؛ لعدم استخدامها في النشيد .
المطلب الثالث : المنشدون .
المنشدون كثيرون ، والمكثرون المعروفون ، منهم :
أبو مازن ، أبو الجود ، أبو راتب ، أبو الحسن ، أبو البشير ، الترمذي وغيرهم.
المطلب الرابع : القائمون على إصدار الأناشيد فئات كثيرة ، هي :
1- فرق الإنشاد ، كفرقة إنشاد أبي مازن ، وأبي الجود ، وأبي الحسن ، وأبي البشر ، وأبي راتب وغيرهم .
2- الجماعات الدعوية والإصلاحية ، كجمعية الإصلاح في البحرين والكويت والإمارات .
3- حركات المقاومة ، كحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين ( حماس ) .
4- المدارس ، والمراكز الصيفية .
5- جماعات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد .
6- المؤسسات الخيرية .
7- المؤسسات والجمعيات المهتمة بالمرأة والأطفال .
8- المؤسسات التجارية المسماة التسجيلات الإسلامية .
المطلب الخامس : القائمون على نسخها وتوزيعها .
القائمون على نسخ الأناشيد وتوزيعها ، وكذلك بيعها والمتاجرة بها ، ( التسجيلات الإسلامية ) غالبا .
الفصل الثاني
حكم النشيد
المبحث الأول
مذاهب العلماء في حكم النشيد
اختلف أهل العلم - من أهل العصر - في النظر إلى حكم النشيد واستماعه على قولين :
القول الأول : إباحيته بشروط .
وهو قول جمهور المنتسبين إلى العلم والدعوة من فقهاء العصر ، على خلاف بينهم في تفصيل هذه الشروط ، ومنها ما هو متفق عليه بينهم ، ككونها لا تُلهي صاحبها عن ذكر الله ، ولا يصطحب معها آلات العزف ، ومنها ما هو مختلف فيه كاصطحاب الدف معها .(1/15)
وممَن أفتى بجواز النشيد بشروط : أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية ( سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ، وفضيلة الشيخ عبدالرازق عفيفي ، فضيلة الشيخ عبدالله بن غديان ، وفضيلة الشيخ عبدالله بن قعود (1) ) ، وفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (2) - حفظهم الله - .
القول الثاني : الحظر ، إلحاقاً له بالسماع الصوفي المحدث ، أو الغناء المُحرم وهو قول بعض الفقهاء والمحدثين في هذا العصر ، ممَن قال به : الشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني (3) - رحمه الله ، والشيخ الدكتور صالح الفوزان (4) .
المبحث الثاني
أدلة القولين ومُناقشتها
المطلب الأول : أدلة الإباحة ، ومناقشتها .
الدليل الأول :
__________
(1) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع :1065 ، 8/3/1407هـ ، ( ص 36 ) .
(2) انظر : البيان المفيد ، جمع : السليماني ، فتوى الشيخ محمد العثيمين ، ( ص 14 - 15 ) .
(3) انظر : نفس المصدر ، فتوى الشيخ الألباني ، ( ص 37 - 38 ) .
(4) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1050 ، 14/11/1406هـ ، الفوزان ، تنبيه حول النشيد ( ص 19 ) .(1/16)
يقول المستدل (1) لإباحة النشيد : جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بدلالات متنوعة على إباحية إنشاد الشعر واستماعه ، فقد صحّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والصحابة الكرام قد سمعوا الشعر ، وأنشدوه واستنشدوه من غيرهم ، في سفرهم وفي حضرهم ، وفي أعمالهم ، وفي مجالسهم ، بأصوات فردية كما في إنشاد حسان وعامر بن الاكوع وأنجشة وبلال (2) ، وبأصوات جماعية ، كما في حديث أنس - رضي الله عنه - في قصة حفر الخندق قال : فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما بنا من النصب والجوع قال :
اللهم لا عيش إلاّ عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين :
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا (3)
وفى المجالس أيضا : أخرج ابن أبى شيبة (4) بسند حسن ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال : ( لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مُنحرفين ولا متماوتين ، وكانوا يتناشدون الأشعار في مجالسهم ، ويذكرون أمر جاهليتهم ، فإذا أريد أحدهم على شيء من دينه دارت حماليق عينيه ) .
فهذه الأدلة تدل على أن سماع النشيد كان كثيرا وبأصوات فردية وجماعية .
__________
(1) حيث أقول : قال المستدل . أو يقول المستدل ، للإباحة أو الحظر فليس المقصود شخصاً بعينه ، وإنما المقصود أن هذا القول دليلٌ للإباحة أو الحظر ، فإن كان الدليل أو جزء منه مما استدل به أحد نبهت على ذلك في الهامش بذكر المرجع ، وحيث لم أذكر مرجعاً فإني قد تبرّعت بذكره إتماماً للفائدة . والله الموفق .
(2) انظر : فتح الباري ، كتاب الأدب ، باب ما يجوز من الشعر والرجز ( 10/537 ) وما بعدها .
(3) انظر : البخاري ، كتاب الغازي ، باب غزوة الخندق ، ( رقم 4099 ) ، انظر : الفتح ( 7/392 ) .
(4) في مُصنفه ( 5/278 ) باب الرخصة في الشعر .(1/17)
والنشيد في اللغة العربية : رفع الصوت بالشعر مع تحسين وترقيق (1) ، ولم يكن إنشادنا أكثر من ذلك (2) ، فثبت إباحته بالنّص ، والحمد لله .
الدليل الثاني :
قال المستدل : إن لم يكن النشيد داخلا في عموم النصوص المذكورة في الدليل الأول فهو مُلحق بالحُداء والنَصْب قياساً ، فإن بينهما شبهاً يُوجب إلحاقه بهما حكما ، فإن من ميزات الشريعة أنها لا تسوي بين المفترقات ولا تفرق بين المتساويات (3) ، والنشيد والحُداء والنَصْب من المتساويات ، فكلاهم إنشاد شعر بأصوات طيبة ، لا يُقصد منها ما يقصده المغنون ممَن يُنشد بتمطيط ، وتهييج ، وتشويق (4) ، ذكر ابن حجر الهيتمى في كف الرعاع (5) القسم الأول من الغناء وهو : " ما اعتاد الناس استعماله ؛ لمحاولة عمل ، وحمل ثقيل ، وقطع مفاوز السفر ؛ ترويحا للنفوس ، وتنشيطا لها ، كحُداء الأعراب بإبلهم ، وغناء النساء لتسكين صغارهم ، ولعب الجواري بلعبهن ، فهذا إذا سلم المغني من فحش ، وذكر محرم : كوصف الخمور ، والفتيات ، لا شك في جوازه ، ولا يُختلف فيه ، وربما يندب إليه إذا نشط على فعل خير ، كالحُداء في الحج والغزو .
__________
(1) انظر : القاموس المحيط ( ص 411 ) .
(2) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1055 ، 3/12/1413هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 35 ) .
(3) وهو دليل قياسي يأتي ذكره بعد الدليل الأول النصي .
(4) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1055 ، 3/12/1413هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 34 ) . انظر : إعلام الموقعين ، ابن القيم
( 1/252 ) .
(5) ( 59 - 60 ) .(1/18)
ومن ثم ارتجز الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالصحابة - رضوان الله عليهم - في بناء المسجد ، وحفر الخندق وغيرهما " ، والأناشيد لا تخرج عن هذا ، بل هي امتداد لما اعتاده الناس قديما بأسلوب حديث ، يتناسب مع أغراض العصر وأحداثه ، ومواضيعها لا تخرج عن مواضيعه من الثناء على الله تعالى بما يليق به ، وعلى رسوله
- صلى الله عليه وآله وسلم - بما هو أهله ، والدعوة إلى الإسلام و إلى التزام أحكامه ، وذكر أمجاد المسلمين السالفة والتحريض على الجهاد في سبيل الله (1) ، فهو والحُداء(* (2) والنَصْب(** (3) كما قال الشاعر :
فإن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها (4)
واعترض على هذا الدليل والذي قبله بالآتي :
- إن النشيد ليس من جنس الحُداء والنَصْب حتى يصح قياسه عليهما ، والاستدلال عليه بأدلتهما ، بل هو من جنس الغناء المحرم ، قال ابن قدامة (5) - رحمه الله - : " وأما الحُداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه .. وكذلك نشيد الأعراب وهو النَصْب لا بأس به، وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء ".
__________
(1) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1055 ، 3/12/1413هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 34 - 35 ) .
(2) حُداء : كغراب ، الجوهري : الحدو سوق الإبل والغناء لها ( تاج العروس 37/408 ) .
(3) النصب : بالسكون ، غناء للعرب يُشبه الحُداء ، غير أنه أرق منه ( غريب الحديث لابن قتيبة 2/38 ، النهاية لابن الأثير 5/61 ) .
(4) القائل : أبو الأسود الدؤلي ، وانظر : لسان العرب ( ص 13/371 ) .
(5) المغني ( 9/176 ) .(1/19)
ولا ريب أن النشيد اليوم، مما خرج إلى حد التلحين الغنائي المطرب (1) (2) .
- ولا يسلم إلحاقه بحُداء الإبل - كذلك - ؛ لأنه ليس في حُداء الإبل ما يدعيه أهل النشيد من إيقاد جذوة الإيمان ، والاهتداء إلى الصراط المستقيم ، بل ما الحُداء إلا دعاء ونداء للإبل التي لا تسمع إلا دعاء ونداءا ، وتهتدي بصوت راعيها للماء والمرعى (3) (* (4) .
__________
(1) انظر : البيان المفيد ، جمع : السليماني ( ص 10 ) .
(2) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " وقد يُقال هذا ليس على إطلاقه ، فالغالب أنه لا يصل إلى التلحين الغنائي المطرب ولو صار فيه شيء من الترقيق وتحسين الصوت عند الإلقاء ، كما يحصل في قراءة القرآن " .
(3) انظر : نفس المصدر ، مقال الشيخ صالح الأطرم - رحمه الله - ( ص 75 ) .
(4) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " ومعلوم أن الحُداء بالإبل ليس هو مُجرد كلام أجوف لا معنى فيه، ولا يُفهم المراد به ، بل هو كلام عربي له معاني جيدة فصيحة ، كما في شعر عامر بن الأكوع ، وشعر أنجشة الحبشي الذي قال له النبس صلى الله عليه وسلم : ( رويدك يا أنجشة ، رفقاً بالقوارير ) أي النساء " .(1/20)
- كذلك هي مختلفة تماما عن النَصْب والحُداء ، من جهة الأداء فإن إنشاد الصحابة وحُداءهم لم يكن جماعيا كالنشيد اليوم ، بل كل شخص بمفرده(** (1) ، ثم أنها تصدر آليا ، ولم يُتخذ لها شخصاً يُنشد ، ويهيأ له أشخاصا يرددون من وراءه بعناية وإخراج ، وكذلك لم يكن ديدنهم صباحا ومساء ، بل لم تأخذ الكثير من أوقاتهم ، بخلاف النشيد الذي لم يحد بوقت دون وقت ، وهو ديدن كثير من أصحابه صباحا ومساءا (2) .
الدليل الثالث(*** (3) :
يقول المستدل لإباحة النشيد : إن لم يصح الاستدلال على إباحته بالنص - كما في الدليل الأول - أو بالقياس
- كما في الدليل الثاني - فلا يعدو أن يبقى على أصل الإباحة كغيره من العادات، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - :
" والأصل في عاداتنا الإباحة ... حتى يجيء صارف الإباحة" (4)
فنحن نستصحب هذا الأصل - المقرر من علم الأصول (5) - ما لم يرد دليل يصرفه عن الإباحة إلى غيرها ، ولم
نجد في كلام الله أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا كلام غيرهما ، ما يمنع الاستماع إلى الشعر ، وتلحينه وترديده جماعة أو أفرادا (6) .
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -:" وقد كان الصحابة يُنشدون جميعاً قولهم : ( نحن الذين بايعوا محمدا ...) وورد في كتاب مصابيح السنة وغيره: أنهم كانوا يجتمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفجر ويتناشدون الشعر فيضحكون ويبتسم . ( انظر باب الضحك من المشكاة ) " .
(2) انظر : نفس المصدر ، فتوى الشيخ الألباني ( ص 37 ) .
(3) وهو دليل أصله الإباحة ( الاستصحاب ) .
(4) المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبدالرحمن السعدي ، قسم الفقه ( 2 ) ،منظوم القواعد الفقهية ( ص 143 ) .
(5) انظر : الأشباه والنظائر ، السيوطي ( ص 133 - 134 ) .
(6) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1060 ، 3/2/1417هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 34 ) .(1/21)
ويمكن أن يعترض على هذا الدليل بالاعتراضات التالية :
- القول بأن الأصل في الأشياء الإباحة لا يسلم به ، فإن هذه القاعدة مُختلف فيها ، فمنهم مَن يرى العكس ، وهو أن الأصل في الأشياء التحريم (1) .
قال العمريطى - رحمه الله - في نظم الورقات (2) :
"والأصل في الأشياء قبل الشرع ... تحريمها لا بعد حكم الشرع
وحيث لم نجد دليل حل ... شرعا ،تمسكنا بحكم الأصل"
- " القول بأن التلحين أمر مباح أصلا باطل ، قال ابن القيم (3) - رحمه الله - : " إن نفس سماع الألحان مجردا عن كلام يحتاج إلى إثبات إباحة منفردا ، ومن المعلوم أن أكثر المسلمين على خلاف قولك " أي عدم الإباحة .
- " أنه لو كان كل واحد من الشعر والتلحين مباحا بمفرده لم يلزم من ذلك إباحتهما عند اجتماعهما ، فإن التركيب له خاصة ، بتغير الحكم بها " (4) .
- كذلك الشأن في الإنشاد بالأصوات المجتمعة ليس بمنزلة الأصوات المنفردة ، التي جاء النص بها . قال ابن القيم - رحمه الله - : " وليست الأصوات المجتمعة في استفزازها للنفوس بمنزلة صوت واحد " (5) .
الدليل الرابع :
__________
(1) انظر : البيان لأخطاء بعض الكتاب ، الفوزان ( ص 293 ) .
(2) تسهيل الطرقات في نظم الورقات ( ص 10 ) .
(3) الكلام على مسألة السماع ، ابن القيم ( ص 270 ) . الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " كلام ابن القيم يتعلق بالأغاني والسماع الذي ذمه وندد به ، كما في قوله :
حب القرآن وحب ألحان الغناء ... في قلب عبد ليس يجتمعا
وقد ذكر العلماء كراهة التلحين بالقرآن وبالأذان ، فكذا بالقصائد ، والمراد التلحين الذي يُحدث في السامع طرباً ورقصاً وهز رأس وحركة بدن " .
(4) نفس المصدر ( ص 270 ) .
(5) نفس المصدر ( ص 271 ) .(1/22)
قال المستدل : النشيد مع أصل إباحته وعدم مخالفته للشرع في أصله ، ففيه ما تتحقق به المصلحة ، وتندفع به المفسدة . وكل ما من شانه ذلك فقد جاءت الشريعة بإقراره والموافقة عليه ؛ لأن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها .
فمن مصالح النشيد التي يجلبها :
أولا : مصالح شعر الدعوة الإسلامية (1) . فمن المعلوم أن الشعر من أسلحة الدعوة النافعة والماضية في عهد النبي
- صلى الله عليه وآله وسلم - وأقره ، وقال ( إن من الشعر لحكمه ) (2) ، وكان ينصب لحسان منبراً ؛ لينشد الشعر الذي هجوا فيه المشركين وقال : ( اللهم أيده بروح القدس ) (3) ، والنشيد ما هو إلا شعر ملتزم ، يُرفع ، بصوت حسن (4) (5) .
__________
(1) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1060 ، 3/2/1417هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 34 ) .
(2) رواه البخاري ، كتاب الأدب ، باب ما يجوز في السفر والرجز والحُداء وما يُكره منه ، ( برقم 6145 ) .
(3) رواه البخاري ( 1/122 ) ، مسلم ( 4/1933 ) .
(4) مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1055 ، 20/12/1406هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 35 ) .
(5) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " قد مدح الله الشعراء { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا دM"ysد="¢ء9$# وَذَكَرُوا اللَّهَ #[ژچدVx. وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا (#qكJد=àك } ( الشعراء 227 ) فيدخل فيهم أهل هذا النوع من الشعر .
وقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم الشعراء،بل حثهم على الشعر ، ككعب بن مالك ، وحسان ، وابن رواحة الذي دخل مكة في عمرة القضية وهو يُنشد :
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
وهذه الأشعار تتضمن معاني الآيات والأحاديث ، كما تتضمنها خطب الخطباء ، ومواعظ الوعاظ ، ونصائح الناصحين ، فيتأثر بالجميع مَن أراد الله به خيراً . وعلى هذا لا تكون بدعة ولا معصية إذا احتوت على التخويف والتحذير الذي أصله في الكتاب والسنة ، وقد أكثر العلماء من إيراد القصائد الزهدية في المؤلفات ،وكثير ما يورد ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله قصائد وعظية مُفيدة، ويبدأها بقوله: أنشدنا فلان بن فلان، قال أنشدنا فلان ...الخ ".(1/23)
ثانيا : والنشيد كالموعظة الحسنة ، والكلمة الطيبة في التأثير والنفع ، وهو فوق الرفث واللغو ، كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - في إنشاد عبدالله بن رواحه - رضي الله عنه - : ( إن أخاً لكم لا يقول الرفث ) ، وقال ابن حجر - رحمه الله - : " فيه أن حسن الشعر محمود كحسن الكلام " (1) .
ثالثا : وفى النشيد مصالح كثيرة غير محصورة في هذا العصر ، كما جاء في إجابة اللجنة الدائمة للإفتاء ذِكْر بعضها ، قالت : " ويجوز لك أن تستعيض عن هذه الأغاني بأناشيد إسلامية فيها من الحكم والمواعظ والعبر ما يُثير الحماس والغيرة على هذا الدين ، ويهز العواطف الإسلامية ، ويُنفّر من الشر ودواعيه ؛ لتبعث في نفس مَنْ ينشدها ومَنْ يسمعها إلى طاعة الله ، وتُنفر من معصيته تعالى ، وتعدّي حدوده إلى الاحتماء بحمى شرعه ، والجهاد في سبيله " (2) .
رابعا : وفي سماع النشيد وانتشاره مصلحة عظيمة في الحد من انتشار الأغاني المحرمة ، والاستعاضة عن سماعها بسماعه عند كثير من الناس ، لاسيما من اعتاد قلبه سماع الأغاني الخليعة ، والمعازف المحرمة ، فتدفع هذه المفسدة بسماع النشيد .
قال المستدل : فثبت بذلك أن النشيد يتضمن دفع مفسدة سماع الغناء المحرم وانتشاره ، وجلب مصالح متنوعة ، وهل جاءت الشريعة إلا لجلب المصالح ودفع المفاسد ؟
ولو افترض أن في النشيد مفسدة على بعض الناس فتنغمر هذه المفسدة الجزئية في جانب مصالحه العظيمة المتنوعة ، والعمل إذا اشتمل على مصلحه ومفسده ، فإن الشارع حكيم ، فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه ، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه (3) .
قال المعترض : القول بأن في النشيد مصالح عظيمه تنغمر في جانبه مفاسده - إن كان فيه مفاسد - أمر ننازعك فيه ، وندعي عكسه .
__________
(1) فتح الباري ( 3/42 ) .
(2) مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1605 ، 8/3/1407هـ ( ص 36 ) .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/623 ) .(1/24)
وأما المصالح - التي ذكرت - فهي مصالح موهومة ، فالمصلحة التي يجلبها النشيد - بزعمكم - يمكن جلبها بالطرق الشرعية ، الكتاب والسنة وما يلحق بهما من العلم النافع ، " ولو لم يكن فيها الكفاية ، لكان دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - ناقصا يحتاج إلى تتمة " (1) .
وأما المفسدة التي يدفعها - بزعمكم - فهي مصلحة جزئية خاصة ، لا تقوى على مفاسده الأخرى العامة والمتعددة ، " بل ربما أن الأناشيد تفوق بعض الأغاني كراهية أو حرمة ؛ لأن الغناء بالعشق والهوى معصية واضحة ، والأناشيد قد تعتقد ديانة ثابتة ، والبدعة شر من المعصية " (2) .
المطلب الثاني : أدلة الحظر ومناقشتها .
الدليل الأول (3) :
قال المستدل : النشيد لون من ألوان الغناء المختلِفة ، وقد جاءت الأدلة الصحيحة بتحريم الغناء (4) ، ولا يُستثنى من التحريم إلا ما صح الدليل على تخصيصه ، كالحُداء فيُقتصر عليه قدراً ، ووقتا ، وكيفية (5) ، إذ من شروط القياس أن لا يكون المقيس عليه مشتقا من أصل عام، والحُداء مستثنى من أصل تحريم الغناء ، فلا يُقاس عليه النشيد أو غيره، فيبقى النشيد على الأصل - والأصل تحريم الغناء - حتى يأتي دليلٌ يخصصه ، ولا دليل .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/623 ) بتصرف .
(2) البيان المفيد ، جمع : السليماني ( ص 73 ) ، كلام الشيخ صالح الأطرم - رحمه الله - بتصرف .
(3) انظر : البيان بأخطاء بعض الكتاب ، الفوزان ( ص 293 ) .
(4) انظر : إغاثة اللهفان ، ابن القيم ( 4/359 ) وما بعدها .
(5) انظر : الكلام على مسألة السماع ، ابن القيم ( ص 359 ) وما بعدها .(1/25)
قال المعترض (1) : أمنع الاستدلال بهذا الدليل لفساد المقدمتين ( النشيد نوع من الغناء ، والغناء محرم ) ، فتبطل النتيجة ( فالنشيد محرم ) وعبارة المستدل موهمه ، والصواب التفصيل ، وهو : أن الغناء نوعان ، في اللغة يطلق على رفع الصوت بالشعر وموالاته ، ومنه الحُداء والنَصْب ، وهذا متفق على إباحته لا تحريمه ، ويدخل فيه النشيد نصاً أو قياساً ؛ لأنه لم يقصد منه التطريب ، ولم يؤد بتمطيط وتهييج (2) .
أما النوع الثاني فهو : الغناء الذي يؤدى بتمطيط وتهييج ، فهذا مختلف في حكمه ، كما أنه لا يصح دليل على تحريمه بمجرده ، والله أعلم .
و - أيضا - يُقال : إن حصر الجواز على الحُداء في السفر والارتجاز أثناء العمل يحتاج إلى دليل ، والدليل على خلافه ، روى الترمذي : ( أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان ينصب لحسان منبرا فيقوم عليه يهجو الكفار ) ، وساق ابن حجر في فتح الباري جملة من الآثار تدل على أن النشيد كان على ألسنه الصحابة في السفر والغزو وغيره ، منها: ما رُوى عن مطرف قال : " عمران بن حصين من البصرة إلى الكوفة فكل منزل نزله إلا وهو ينشدني شعراً " (3) .
وكذلك منع إلحاق غيره به عند أهل العلم ليس صحيحاً ، قال الحافظ ابن حجر (4) - رحمه الله - : " ويلتحق بالحُداء هنا الحجيج المشتمل على التشويق إلى الحج بذكر الكعبة وغيرها من المشاهد ، ونظيره ما يُحرّض على الجهاد " أهـ ، فهذا يفيد السعة في الإلحاق (5) .
الدليل الثاني :
__________
(1) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1055 ، 20/12/1406هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 35 ) .
(2) انظر : الدليل الأول ، والثاني ، من أدلة الإباحة .
(3) انظر الفتح ( 10/540 ) .
(4) فتح الباري ( 10/538 ) .
(5) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1060 ، 3/2/1417هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 34 ) .(1/26)
النشيد من الأمور المحدثة ، ولم يكن يُعرف عند السلف اجتماعٌ على سماعٍ غير سماع القرآن الكريم ، وما سواه فهو سماع مُحدث مذموم (1) ، والنشيد أشبه بسماع المتصوفة البدعي (2) ، فهو والسماع الصوفي :
"رضيعا لبان ثدي أمٍ تقاسما ... بأسحم داجٍ (3) ،عوض(* (4) ،لا نتفرق" (5)
ووجه المشابهة بينهما ظاهر في أمور كثيرة :
(1) كلاهما سماع محدث لم يعرفه سلف هذه الأمة ، وكل خيرٍ في إتباعِ مَنْ سلف ، وكلُّ شرٍّ في ابتداع مَنْ خلف.
(2) أن النشيد أصبح مما يتقرب به إلى الله - كشأن المتصوفة - ، وهذا مأخوذ من اعتقادهم وقولهم أنه يزيد في جذوة الأيمان (6) . وهو نظير اعتقاد المتصوفة وقولهم أن السماع يزيدهم إيمانا وتقوى وصلاحا .
(3) هذا من حيث المقصد ومن حيث الأداء كذلك ، فكلاهما يؤديان بأصواتٍ ملحنةٍ ، ناعمةٍ ، جماعيةٍ ، فاتنة (7) ، فهما كما قال الشاعر :
" فإن لا يكنها أو تكنهُ فإنه ... أخوها غذته أمّه بلبانها " (8)
قال المعترض: القول بأن النشيد من السماع المحدث ، وهو قرين سماع المتصوفة البدعي ، وشبيهه من عدة وجوه، لا يصح . وبيان ذلك أن يقال :
__________
(1) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/627 ) وما بعدها .
(2) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1050 ، 14/11/1406هـ ، الفوزان ، تنبيه حول النشيد ( ص 1955 ) .
(3) بأسحم داجٍ : بليل أسود ، انظر : لسان العرب ( 2/265 ، 12/282 ) .
(4) عوض :أبداً ، انظر : لسان العرب ( 7/192 ) .
(5) القائل : الأعشى ، انظر : ديوانه ( ص 120 ) .
(6) انظر : البيان المفيد ، جمع : السليماني ، مقال الشيخ صالح الأطرم ( ص 73 ) .
(7) انظر : نفس المصدر ( 71 - 73 ) .
(8) لأبي الأسود الدؤلي ( مختار الصحاح 1/243 )(1/27)
السماع المحدث هو ما قصد به التقرب كسماع المتصوفة ، أما النشيد فلم يقصد به ذلك ولا يدّعيه أحد ، وكون تسميته إسلاميا لا يعني الوجوب ولا الاستحباب ، لا لغة ولا أصولا ، ولا مانع من إطلاقها على المباح ؛ لأن المباح من الشرع (1) . قال ابن قدامة (2) رحمه الله - :" المباح ما أذن الله في فعله وتركه ، غير مُقترن بذم فاعله ولا مدحه ، وهو من الشرع " .
وكذلك كونه يحدث في النفس حباً للطاعة ، أو بغضاً للمعصية لا يعنى أنه مما يُتعبد الله به ، وهذا واضح لا إشكال فيه .
وأما من جهة الأداء فإن الإنكار للغناء في سماع المتصوفة ؛ لكونه لا يخلو من آلة ، خلافا للنشيد (3) .
وكون النشيد ملحّنا أو بصوتِ أمرد أو جماعيا ليس من خصائص السماع المحدث، وهى من العادات التي تبقى على أصل الإباحة ، حتى يأتي دليل على تحريمها ،ولا دليل .
الدليل الثالث :
أن الأناشيد لا تخلو من محظور شرعي ، إما فيها أو مصاحبا لها ، ومن هذه المخالفات الشريعة ما يأتي :
(1) التلحين الغنائي المطرب بنغمات مناسبة لضرب العود والموسيقى معها .
(2) الصوت الجماعي .
(3) استخدام صوت الأمرد .
(4) اتخاذه عادة ، في أوقات كثيرة .
(5) اتخاذه أسلوبا من أساليب الدعوة .
قال المستدل : فواحدة من هذه الأمور تكفى لمنعها ، فكيف بها إذا اجتمعت ؟
قال المعترض : إن القول بتحريم التلحين ، والصوت الجماعي ، وصوت الأمرد في غير معصية الله قول بغير علم، إذ لا دليل على تحريم ذلك أو منعه ، مجتمعا أو منفردا ، ومن ادعى تحريم واحد منها ، طالبناه بالدليل ، وهيهات .
الدليل الرابع :
أن النشيد يشتمل على مفاسد عظيمه ، تنغمر فيها بعض مصالحه المزعومة ، فمن مفاسده :
__________
(1) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1060 ، 3/2/1417هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 35 ) .
(2) روضة الناظر ( ص 37 ) .
(3) انظر : الحليبي نفس المكان .(1/28)
(1) أنه يوجب إعراض القلب عما فيه العبرة الحقيقية ، وهو الكتاب والسنة .
(2) أنه طريق لدخول بدع المتصوفة .
(3) أنه قد يكون فيه فتنة لسامعه ، خصوصا إذا كان بأصوات ناعمة فاتنة .
(4) اتخاذها أسلوبا من أساليب الدعوة ، وهجر الكتاب والسنة لذلك ، وفي ذلك .
(5) المبالغة في العناية بها وإخراجها ، حتى يُشغل بها عن أمور دينه ، كطلب العلم ، ونشر العقيدة ، وأمور دنياه النافعة (1) .
قال المعترض : إن هذه المفاسد ليست في الأناشيد ، ولكن من سوء استخدام البعض لها ، وسوء استخدام البعض للأناشيد ، والسرف في سماعها ، لا يُحرم سماعها ، ولا يصرفها من الإباحة ، وكذا جميع المحرمات ، فالإسراف في الطعام إلى حد التخمة ، لا يُحرم تناول الكفاية منه (2) .
الفصل الثالث
الترجيح في حكم النشيد
من المعلوم أن النشيد بصورته الحاضرة من المسائل المستجدة التي لم يُسبق بحثها في كتب أهل العلم المتقدمين ، وهذا داع إلى العناية بذكر حكمه مفصلا ، ويضاف إليه الدواعي التالية:
1- كثرة متعلقات النشيد ( الألحان، الكلمات ، المقاصد ، وغير ذلك من وقت السماع وكيفيته ...الخ ) وتنوعها.
2- قوة الخلاف في حكمه، وقد مرّت صورة واضحة من خلال عرض الأقوال ، والأدلة السابقة .
3- عموم الحاجة إلى معرفة حكم النشيد ؛ لكثرته وانتشاره الواسع ، خصوصا بعد انتشار أجهزة التسجيل وأشرطة ( الكاسيت ) ، لهذه الأسباب وغيرها كان من المناسب بسط الحديث عن النشيد ومتعلقاته ، وبيان حكمه التفصيلي .
وإليك بيان ذلك مستعينا بالله ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان وما توفيقي إلا بالله .
الحكم التفصيلي للنشيد :
__________
(1) انظر : البيان المفيد ، جمع : السليماني ، مقال الشيخ صالح الأطرم ( ص 71 )،البيان لأخطاء بعض الكتاب ، الفوزان ( 292 ، 294 ) .
(2) انظر : مجلة الدعوة السعودية ، ع : 1060 ، 3/2/1417هـ ، الحليبي ، حول الأناشيد الإسلامية ( ص 35 ) .(1/29)
قبل معرفة الحكم التفصيلي للنشيد لابد من التنبيه إلى أمرين :
الأول : أن ما يعرف - الآن - بالنشيد الإسلامي أنواع مختلفة ، ومتباينة من حيث الألحان والكلمات والمقاصد فيجب التفصيل عند بيان الحكم بين أنواعه المختلفة لا الأجمال والتعميم قال ابن القيم (1) - رحمه الله - :
فعليك بالتفصيل والتمييز ... فالإطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبّطا ... الأذهان والآراءَ كلّ زمان
وقال الشيخ محمد العثيمين (2) - حفظه الله - بخصوص التفصيل عند بيان حكم النشيد : " وأعلم انه في هذا الباب لا تكاد تجد أحداً يفرق بين ما كان مشروعا (3) وغير مشروع ، ولهذا أرى أن الأناشيد لابد أن تُعرض - قبل أن تُسمع - على طالب علم يميز بين الصحيح وغير الصحيح ، ثم بعد ذلك تأخذ الحكم " .
الثاني : وأن كثيرا مما قاله أصحاب الرأيين ( المانع ، والمبيح ) في حق النشيد حق وصواب ، ولكن في بعض أنواعه لا في جميعها ، فمثلا :
من قال أن الأناشيد ليست من جنس الغناء الملحن المطرب ، صح هذا في بعض الأناشيد دون بعضها ، التي تشبه ألحان الأغاني ، أو هي من جنسها .
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها
ومن قال : أن سماع الأناشيد يُلهى عن ذكر الله وتلاوة القرآن ، صح هذا في حق كثير من المستمعين ، دون من تقيد بسماعه في المناسبات دون غيرها من الأوقات .
ومن قال : أن الأناشيد طريق لدخول الأفكار القومية والبدع الصوفية ، صح هذا في بعض الأناشيد دون بعضها ، والذي يخلو من ذلك ، وتلتزم كلماته بالمعاني الشرعية الصحيحة .
ومن قال : أن سماع الأناشيد ليس من جنس السماع الصوفي المحدث ، صح هذا في حق البعض ، ولم يصح في حق من التهى عن سماع القرآن ومواعظه بسماع النشيد ومواعظه .
__________
(1) متن القصيدتين النونية والميمية ، ابن القيم ( ص 38 ) .
(2) البيان المفيد ، جمع : السليماني ( ص 14 ) .
(3) أي : إباحة الشرع ، لا أنه من الدين والشرع .(1/30)
الحكم التفصيلي للنشيد :
اعلم - رعاك الله - أن النشيد تتنازعه ثلاثة أصول :
الحُداء والنَصْب أصل ، والغناء المعروف عند أهل الغناء أصل ، والسماع الصوفي المحدث أصل . فما وافقت صفاته من الأناشيد أحد هذه الأصول ، سواء في الألحان ، أو الكلمات ، أو المقاصد ، أُلحق به في الحكم ، كما هي القاعدة القياسية الأصولية في الفرع الذي يتنازعه أكثر من أصل ، فيُلحق بأكثرهم شبها .
قال الناظم (1) - رحمه الله - عند بيان النوع الثالث من أنواع القياس :
والثالث الفرع الذي ترددَ ... ما بين أصلين اعتبارا وُجدا
فيلتحق بأي ذين أكثرَ ... من غيره في وصفه الذي يُرى
يعني أن النوع الثالث من أنواع القياس ، قياس الشبه ، وهو أن يكون الفرع مترددا بين أصلين أو أكثر فيلتحق في الحكم بأكثرهم شبها في الصفة (2) .
بناءا على ذلك يكون للنشيد ثلاثة أحكام :
الحكم الأول للنشيد : إباحة سماع النشيد واستماعه إلحاقا له بالنَصْب والحُداء ، الذي جاءت الرخصة بإباحته مقيداً ، فيما إذا كان النشيد موافقا لهما في الألحان والمقاصد والكلمات ، ويتحقق ذلك بالشروط التالية :
الشرط الأول : في الألحان . أن تقع على أصل الخلقة دون تكلف وتصنع ، بأن تقع بتطريب وترجيع يسيرين دون الألحان المتكلفة الموزونة على النغم الموسيقى المطرب ، بله ( دع ) الألحان المائعة الماجنة ، قال ابن قدامة (3)
- رحمه الله - : " وأما الحُداء فمباح لا بأس به في فعله واستماعه ، وكذلك نشيد الأعراب ، وسائر أنواع الإنشاد ، ما لم يخرج إلى حد الغناء " .
__________
(1) لطائف الإرشادات على تسهيل الطرقات لنظم الورقات ، نظم شرف الدين يحيى العمريطي ( ص 53 ) .
(2) انظر : نفس المكان .
(3) المغني ( 9/176 ) .(1/31)
الشرط الثاني : أن لا يُقصد من سماعه التعبد كشأن أهل السماع الصوفي البدعي (1) ، أو اللذة والطرب كشأن أهل الغناء الفسقي ، بل شيء من الترويح والنشاط ، قال الشاطبي (2) - رحمه الله - :" ولم يكن فيه - أي النشيد المباح - إلذاذ ولا إطراب يُلهي ، وإنما كان شيء من النشاط " .
الشرط الثالث :أن لا تشتمل كلماته على معنى محظور في الشرع ، كأن يكون النشيد وسيلة لدخول بدع الصوفية، أو وسيلة لترويج الشعارات القومية ، والوطنية ، والحزبية عن طريقه أيضا (3) .
الشرط الرابع : أن لا يشتمل على دف، بله ( دع ) بقية المعازف، قال الشيخ محمد العثميين (4) - رحمه الله -: " الأناشيد الإسلامية لا تخلو من حالين ، أولاً : أن يكون فيها ضرب بالدف ، وفى هذه الحالة تكون حراما ؛ لأنها مشتملة على اللهو الذي لا يُباح في مثل هذه الحالة " .
الشرط الخامس : " أن لا تُتخذ ديدنا ، وتُتخذ موعظة للقلب يتلهى بها الإنسان عن مواعظ الكتاب
والسنة ، فإنها تكون حينئذ إما محرمة وإما مكروهة ؛ لأنها تصد عن كتاب الله ، وسنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم (5) - " .
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " المراد : التعبد بسماعه ، فأما التعبد بنفعه وتأثيره في السامع فهذا ينبغي أن يُتخذ قُربة وعبادة ، فإن كثيرا من الفسقة والفجرة وأهل الجرائم اهتدوا بسماع نشيد إسلامي يحتوي على التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار .
وهكذا هناك من بذلوا الأموال في سبيل الله ، وبذلوا النفوس ، وصبروا على الأذى ، وتحملوا المشاق بعد أن سمعوا هذه المواعظ في تلك القصائد . والقصص بذلك كثيرة " .
(2) الاعتصام ( 1/436 ) .
(3) البيان لأخطاء بعض الكتاب ، الفوزان ( ص 287 ) بتصرف يسير .
(4) البيان المفيد ، جمع : السليماني ( ص 14 ) .
(5) المصدر السابق ، فتوى الشيخ محمد العثيمين ( ص 15 ) .(1/32)
الشرط السادس : أن لا يحدث بسببها مفسدة في الدين كالتلهي عن سماع القرآن والعلم الشرعي به ، أو في أمور الدنيا ، كتضييع بعض الواجبات والمصالح المهمة بسبب الاشتغال به .
وضابط هذه الشروط هو : " الحد الذي كان يُفعل بين يدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه ، ومن يُقتدي بهم من أهل العلم (1) ، ويخرج بهذا القيد من لا يجوز الإقتداء بهم ، وهم في هذا الباب صنفان : أصحاب السماع الفسقي من أهل الغناء ، وأصحاب السماع الديني المُحدث من أهل الطرق الصوفية البدعية .
الحكم الثاني للنشيد : أن يلحق بغناء أهل الفسق في الذم والكراهة ، وذلك إذا وافق النشيد غناء أهل الفسق في ألحانه أو كلماته أو مقاصده ، ويكون ذلك في الحالات التالية :
1- في حال التكلف والتصنع في آداء ألحان النشيد ، فإنه - أي التكلف - في إنشاد الشعر من خصائص المغنيين ولم يكن الماضون الأولون - الذي يكون فهمهم حجة على من بعدهم - لم يكونوا يتصنعون أو يتكلفون في إنشاد الشعر إلا من وجه إرسال الشعر ، واتصال القوافي فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه ؛ كان ذلك مردودا إلى أصل الخلقة ، لا يتكلفون ولا يتصنعون " (2) .
2- كون النشيد محكوما بالتلحين الغنائي الموزون على النغم الموسيقي المطرب ، وعلة الحظر في هذه الحالة والتي قبلها ، التشبه بالفسّاق والمجّان مع ما فيه من الإطراب المذموم الملهي .
__________
(1) الاعتصام ( 1/345 ) .
(2) الاعتصام ( 1/348 ) .(1/33)
3- في حال مشابهة النشيد لألحان أغنية محرمة معلومة ، وفي هذه الحالة من التشبه بالفساق والماجنين ما يجعله - أي النشيد - محظورا حتى عند بعض الغافلين عن الحالتين السابقتين وما فيهما من تشبه ، قال الشيخ عبدالله علوان (1) - رحمه الله -:" لا يجوز للمنشدين أن ينشدوا أغاني فيها تشبه بالأغاني المائعة من ناحية أوزانها وألحانها؛ لأن السامع حين يسمعها يظن أن المنشد يغنى الأغنية المائعة ، والمقطوعة الفاجرة ؛ لكون أكثر الناس يلتفتون إلى النغم واللحن ، أكثر من التفاتهم إلى المعنى والنظم ، وهذا مشاهد ومعروف في عالم الواقع الذي نحيط به ، وننظر إليه ونعايشه ، والرسول عليه الصلاة والسلام حذّر كل التحذير من التشبه بالمائعين والمخنثين " .
4- أن يشبه النشيد ألحان وكلمات أغنية محرمة ، معلومة ، ولو مع تغيير بعض الكلمات التغيير الذي يغير معنى الأغنية المحرم ، مع بقاء الشبه والتذكير بالأغنية ، كتلحين نشيد :
عودوا يا ناس ( للإسلام ) ويّامه ... خلّوا اللوام يلوموا مهما لاموا
على لحن الأغنية الماجنة :
عودوا يا ناس ( للحب ) ويّامه ... خلّوا اللوام يلوموا مهما لاموا
وعلة النهى في هذا العمل ونظائره هو : التذكير بالمحرمات ، ( نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الانتباذ في المزفت والحنتم والنقير ) (2) وهى الأواني التي كانت مخصوصة للخمر فنهى عنها ؛ لأنها تذكر بها ، وهى علة التحريم ، إذ لا لذة في رؤية القنينة وأواني الشرب ، لكن من حيث التذكير بها ، والذكر سبب انبعاث الشوق ، وانبعاث الشوق إذا قوي فهو سبب الإقدام (3) .
__________
(1) أناشيد ( الشجرة الطيبة ) .
(2) أخرجه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وهي أواني كانت يُشرب فيها الخمر .
(3) إحياء علوم الدين ، الغزالي ( 2/272 ) بتصرف .(1/34)
5- أن يحصل تشبه أهل النشيد حين أداء النشيد بأهل الغناء والعزف ، حين أداء الغناء في الهيئة الظاهرة ، كالوقفة والحركة واللبس وطريقة الأداء والإلقاء .
مثاله : أن يقف المنشد وفرقة النشيد فوق خشبة المسرح أمام الجمهور ، وقفة الفرق الغنائية ، حسب نظام وقوفهم الخاص ، مثل انفراج الرجلين والقدمين بمقدار معين ، ووضع الشعار ( كالمنديل في الجيب أو المنشفة على الكتفين أو غيرهما ) ، وتحريك اليدين ارتفاعا وانخفاضا مع اللحن ، أو تحريكهما مع المعاني المؤثرة ، وتغميض العينين ، ورفع الرأس وهزه يمنة ويسرة ، وترتيب فرقة النشيد بالزي الموحد ، كترتيب أعضاء الفرق الغنائية بحيث أن من يراهم ظنهم أحد الفرق الغنائية الماجنة .
ففي هذه الهيئة (1) من التشبه بأهل الفساد ما يجعل عملهم هذا محظورا في الشرع ، ولو كان ما ينشد مباحا ، قال أبو حامد الغزالي (2) - رحمه الله - : " لو اجتمع جماعة وزيّنوا مجلسا وأحضروا آلات الشرب وأقداحه ، وصبوا فيها السكنجين(* (3) ، ونصبوا ساقيا يدور عليهم ويسقيهم ، فيأخذون من الساقي ويشربون ، ويحيى بعضهم بعضا بكلماتهم المعتادة بينهم ، حرم ذلك عليهم ، وإن كان المشروب مباحاً في نفسه ؛ لأن في هذا تشبها بأهل الفساد " .
6- إن قُصد من النشيد - إلقاء أو سماعا - الإطراب ، فإنه من مقاصد الغناء المحظور ، وليس من مقاصد النشيد المباح (4) .
__________
(1) بمجموعها لا بوصف واحد منها ، كالاصطفاف وحده ، أو الزي الموحد وحده مثلاً .
(2) إحياء علوم الدين ( 2/272 ) .
(3) فارسي مُعرّب، أصلها: سركا اتكبين، أي: خل، وعسل، وهو دواء مزيج من الخل والعسل ، يُضاف إليهما مواد طيبة ، ثم أُطلق على كل شراب مركّب من حلو وحامض ( مُعجم الألفاظ الفارسية المعربة للسيد أدي شير ص 92،الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب لابن القديم ص 825 ).
(4) انظر : الاعتصام ، الشاطبي ( 1/346 - 348 ) .(1/35)
والإطراب واللذة تقعان في الأناشيد الزُهدية الحماسية ، التي لا تقتضي معانيها اللذة والطرب ، وذلك - أي الطرب - يكون من جهة ألحان النشيد المطربة ، مثل أن تنشد القصيدة الزهدية " يا ساكن القبر عن قليلي ، ماذا تزودت للرحيل " أو " يا نفس توبي فإن الموت قد حان ، واعصى الهوى فإن الهوى ما زال فتّانا " بألحان لذيذة مطربة لاسيما مع طلبها وحبها ، وتكرار سماعها من غير اتعاظ .
قال ابن القيم (1) - رحمه الله - : " سماع الأشعار التي تتضمن إثارةً في القلب من الحب ، والخوف ، والرجاء ، والطلب ، والأنس ، والشوق ، والقرب ، وتوابعها ، صادف من قلوب سامعيها حبا وطلبا ، فأثاره إثارة ممتزجة بحظ النفس ، وهو نصيبها من اللذة والطرب الذي يحدثه السماع ، فيظن تلك اللذة والطرب زيادة في صلاح القلب وإيمانه وحاله الذي يقربه إلى الله ، وهو محض حظ النفس " .
7- في حال تضمن النشيد (آهات ) المغنيين ، اللذين يتفننون في أدائها وإتقانها على أوجه كثيرة ، من التطويل والتقصير والتفخيم والترقيق ، وغير ذلك مما يتقنه أهل اللحن .
8- في حالة تضمن النشيد كلمات أهل الغناء الخاصة بهم كـ " يا ليل ، يا عين " فإن هذا يوجب التذكير بأغانيهم المحرمة ، والتشبه بهم ، وكلاهما محظوران في الشرع .
9- المد الفاحش في كلمات النشيد على نحو مد أهل الغناء وتقييده بالفاحش هنا ؛ ليخرج المد غير الفاحش في كلمات الشعر وإنشاده ، فإنه يُباح ، ودليل إباحته ما رواه البراء بن مالك في قصة حفر الخندق : ( ... فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحه وهو ينقل التراب ، ويقول - صلى الله عليه وآله وسلم - : ( اللهم لولا أنت ما اهتدينا ، وإن أرادوا فتنة أبينا ، قال : ثم يمد صوته بآخرها ) (2) .
__________
(1) الكلام على مسألة السماع ( 139 - 140 ) بتصرف .
(2) أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ، انظر : الفتح ( 7/399 ) .(1/36)
10- الاشتغال بالنشيد وسماعه في كل وقت وحين ، كنحو اشتغال أهل الغناء بغنائهم .
11- نشيد من يتقن صنعة الغناء ويحذقها ، فإنه يُسمى غناء وصاحبه يُسمى مغنيا ، وليس إنشاده من القدر المرخص به في الشرع ، روى الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث ، قالت : وليستا بمغنيتين ، فقال أبو بكر : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في يوم عيد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا ) والشاهد من الحديث قول عائشة -رضي الله عنها - : ( وليستا بمغنيتين ) ، قال النووي (1) -رحمه الله - : "وقولها ( ليستا بمغنيتين ) معناه ليس الغناء عادة لهما ، ولا هما معروفتان به " .
12- إذا اقترن بالنشيد حركات أهل الغناء المعبرة عن اللهو والمجون ، كالتمايل ، وهز الرؤوس ، فإنه يكون حينئذ محظورا ، أخرج البيهقي بسند صحيح ، عن أم علقمة ، مولاة عائشة - رضي الله عنها - : ( أن بنات أخي عائشة - رضي الله عنها - خفضن ، فألمن ذلك ، فقيل لعائشة : يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن ؟ قالت : بلى ، قالت - أم علقمة - : فأرسل إلى فلان المغني فأتاه ، فمرّت به عائشة - رضي الله عنها - في البيت ، فرأته يُغني ويحرك رأسه طربا - وكان ذا شعر كثير - فقالت عائشة- رضي الله عنها - : أف شيطان ، أخرجوه ، أخرجوه ، فأخرجوه ) (2) .
13- أن يقترن بالنشيد بعض الأصوات المطربة التي هي دون الآلات ، كالتصفيق ... ، والصفير ، والضرب بالأرجل والقضيب والصنج ، فإنه يكون حينئذ مكروها (3) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم ( 6/182 ) .
(2) أخرجه البيهقي ( 10/223 - 224 ) .
(3) انظر : كف الرعاع ، ابن حجر الهيتمي ( 105 - 110 ) .(1/37)
14- أن يكون فيها - أي الأناشيد - ضرب بالدف ، وفى هذه الحالة تكون عند البعض حراما ؛ لأنها مشتملة على اللهو الذي لا يُباح في مثل هذه الحالة (1) .
15- أن يقترن بالنشيد آلات العزف المحرمة ، فيحرم ، ولا يجوز فعله على أي وجه وحال .
16- النشيد الذي يُؤدى بأصوات مائعة وألحان ماجنة ، يحرم إنشاده وسماعه مُطلقا ، فإن كانت أصوات النشيد غير مائعة ، وألحانه غير فاتنة ، وحصلت الفتنة بها عند بعض المستمعين ، فتحرم في حقهم ؛ إذ أن علة التحريم هنا هي الافتتان ، وقد يكون في الصوت واللحن ، فتحرم مطلقا ، وقد يكون في المستمع فتحرم في حقه ، والمرء طبيب نفسه ، والله أعلم .
الحكم الثالث للأناشيد : أن يلحق بالسماع الصوفي المحدث ، إذا وافقه في بعض خصائصه ، وعلله التي يحكم ببدعيته لأجلها (2) .
ويكون ذلك في الحالات التالية :
1- الاعتقاد بأن الأناشيد المطربة من الدين ، وهو نظير اعتقاد الصوفية أن سماعهم من الدين .
2- الاعتقاد بأن الأناشيد المطربة تزيد في جذوة الإيمان ، وهو نظير اعتقاد الصوفية أن السماع يزيد في الأحوال والمواجيد الإيمانية .
3- اعتقاد البعض أن الأناشيد المطربة طريق يُقربهم إلى الله ويوصلهم إليه ، ولا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل : أنه قربة وطاعة وبر ، وطريق إلى الله واجب ، أو مستحب ، إلا أن يكون مما أمر الله به أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - (3) .
__________
(1) البيان المفيد ، جمع : السليماني ، فتوى الشيخ العثيمين ( ص 14 ) .
(2) أساس علل الحكم ببدعية السماع الصوفي والنشيد في بعض أحواله - كالتي سنذكرها - هو جعل تلحين الشعر بالألحان المطربة ديناً وعبادة وقربة وطاعة وطريقة موصلة إلى الله ، بالقول ، أو الاعتقاد ، أو القصد ، أو العمل .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/451 ) .(1/38)
4- عدّ الأناشيد المطربة من الوسائل الرئيسة التي يُطلب بها رقة النفوس ، وخشوع القلوب (1) ، ولم يكن ذلك من فعل السلف المتقدمين المقتدى بهم ، قال الشاطبي (2) - رحمه الله - : " ولا كان المتقدمون أيضا يعدون الغناء (3)
- تلحين الشعر - جزءاً من أجزاء طريقة التعبد ، وطلب رقة النفوس وخشوع القلوب " (4) .
5- الاجتماع على الأناشيد المطربة وقصدها من أجل إصلاح القلوب ورقتها ، وتذكرها بالآخرة ، وذلك من البدع المحدثة بعد مضي القرون الفاضلة ، المشهود لها بالخيرية ، وقال ابن تيمية - رحمه الله-: " وأما سماع القصائد لصلاح القلوب والاجتماع على ذلك ، إما نشيدا مجردا ، أو مقرونا بالتغبير ونحوه ، فهذا السماع مُحدث في الإسلام بعد ذهاب القرون الثلاثة ، وقد كرهه أعيان الأئمة ، ولم يحضره أكابر المشايخ " (5) ، ولم يكن للسلف سماع يجتمعون عليه غير سماع القرآن الكريم .
__________
(1) انظر : نشيد الكتائب ( 6 - 7 ) .
(2) الاعتصام ( 10/ 348 - 349 ) .
(3) يُطلق الغناء على تلحين الشعر ، بدون آلة .
(4) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " ولا يُنافي ذلك اتخاذه وسيلة من وسائل الدعوة ، فيضمن مع حُسن الصوت معاني مؤثرة في السامع ، مما ينتج عن سماعها رقة القلب ، ودمع العين ، وتسبب التوبة من السيئات ، والإقلاع عن الخطايا ، والإكباب على الطاعة ، والتوبة الصادقة ، فيكون لمن أنشدها وسجلها مثل أجر مَن اهتدى بسببها . والله أعلم " .
(5) مختصر الفتاوى المصرية ( ص 592 ) . ابن جبرين - حفظه الله -:" السماع الذي يُريده ابن تيمية- رحمه الله - هو ما أحدثه الصوفية من الهزيج والطرب والرقص وضرب الأرض بالأرجل وهز الرؤوس عند سماع تلك القصائد وهو المُسمى عندهم بالسماع الذي مدحوه وقالوا فيه كل مجال :
هو طاعة هو قُربة هو سُنّة ... صدقوا لذاك الشيخ ذي الإضلال
شيخ قديم صادهم بتميل ... حتى أجابوا دعوة المحتال"(1/39)
6- اتخاذ الأناشيد المطربة(* (1) من وسائل الدعوة الرئيسة ، التي يُتوّب بها العصاة ، فيُهجر لأجل ذلك الدعوة للكتاب والسنة ، " ومن المعلوم إنما يهدي الله به الضالين ، ويرشد به الغاوين ، ويُتوب به العاصين ، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة ، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يكفي في ذلك ، لكان دين الرسول ناقصاً يحتاج إلى تتمة " (2) .
7- هجر سماع القرآن وتلاوته بسبب الاشتغال بسماع الأناشيد الملحنة وتلاوتها ، وذلك من البدع المحدثة التي اشتد نكير الأئمة على أصحابها ، قال أبو موسى - رحمه الله - : " سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول : بالعراق زنادقة أحدثوا القصائد ؛ ليشغلوا الناس عن القرآن " (3) .
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " يُراد بالطرب هنا : ما يُحرك البدن ، ويهتز له الرأس ويدعو إلى تمايل ورقص ونحو ذلك ، ولا ينافي أن تتخذ القصائد الوعظية من وسائل الدعوة ، فقد جُرّب نفعها في رجوع كثير من العصاة كالخطب والنصائح والمواعظ ، وكل الجميع مصدره من الوحيين فلا يُقال أن فيها زيادة على ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - " .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/623 ) .
(3) انظر : الكلام على مسألة السماع ، ابن القيم ( ص 124 ) .(1/40)
8- ثقل سماع القرآن الكريم بسبب الاعتياد على سماع الأناشيد ، وهو - أي ثقل سماع القرآن - أمر طبعي في حق من اعتاد سماع الأناشيد ، واعتنى بها أكثر من اعتنائه بسماع القرآن الكريم (1) .
ويحصل الاستثقال هنا لسببين :
الأول : اعتياد قلبه على سماع الأناشيد الملحنة بالأنغام المطربة المتنوعة ، ويحصل لذلك نفور سماع آيات القرآن الكريم التي لا يكون فيها ذلك الإطراب الذي اعتاد عليه القلب وتعلق به (2) .
الثاني : إنّ في الشعر والنشيد موافقة لأغراض النفوس - قلّ أو كثر - بخلاف القرآن الكريم الذي فيه تقييد للنفوس بالأوامر والنواهي الصارمة ، قال ابن القيم - رحمه الله - مُشيرا إلى هذا السبب :
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقيده بأوامر ونواهي
وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه (3)
ولهذا يوجد مَن اعتاد سماع الأبيات الملحنة واغتدى بها ، ولا يحن إلى القرآن ولا يفرح به ، ولا يجد في سماع الآيات ذوقا وحلاوة ووجدا ، كما يجد في سماع الأبيات ، بل ولا يُصغي أكثر الحاضرين أو كثير منهم إليه ، ولا يقومون معانيه ، ولا يغضون أصواتهم عند تلاوته (4) .
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " لكن غير مطرد ، فكثير من الذين يستمعون النشيد المفيد ويتأثرون بما فيه من المواعظ والنصائح ، ويُكثرون من اقتنائه والاستفادة منه ليس لمجرد التلذذ بالنغمات ولا الارتياح للأصوات والنبرات ، وإنما للمعاني والمحتويات ، والفوائد المتنوعة ، ومع ذلك لا يهجرون القرآن بل يقرؤونه ، ويستمعون له ، ويُنصتون لقرأته ، ويتلذذون ويتنعمون بسماعه وتدبره ، فيجمعون بين سماع المواعظ في النشيد ، وسماع القرآن وغيره. والله أعلم " .
(2) انظر : نزهة الأسماع ، ابن رجب ( ص 89 ) .
(3) إغاثة اللهفان ( 10/346 ) .
(4) الكلام على مسألة السماع ، ابن القيم ( ص 107 ) .(1/41)
9- التأثر بمواعظ النشيد دون مواعظ القرآن الكريم ، وهذا من علامات السماع المحدث(* (1) ، قال ابن الجوزي (2)
- رحمه الله - : " وقد نشب حب السماع بقلوب خلق منهم فآثروه على قراءة القرآن ، ورقة قلوبهم عنده بما لا ترق عند سماع القرآن ، وما ذاك إلا لتمكن هوى باطن ، وغلبة طبع ، وهم يظنون غير هذا " ، ثم ساق من تاريخ الخطيب بإسناده إلى أبى نصر السّراج ، يقول : " حكى لي بعض إخواني عن أبى الحسين الدراج .
قال : " قصدت يوسف ابن الحسين الرازي من بغداد ، فلما دخلت الري سألت عن منزله ، وكل من أسأله عنه يقول : إيش تفعل بهذا الزنديق ؟!
فضيقوا صدري حتى عزمت على الانصراف ، فبتُّ تلك الليلة في مسجد ، ثم قلت : جئت هذه البلدة فلا أقل من زيارته ، فلم أزل أسأل عنه حتى وقعت إلى مسجده وهو قاعد في المحراب ، بين يديه رحل على يديه مصحف ، وهو يقرأ .
فسلمت عليه ، فرد عليّ السلام ، وقال : من أين ؟ قلت : من بغداد ، قصدت زيارة الشيخ . فقال : تحسن أن تقول شيئا ؟ قلت : نعم . وقلت :
رأيتك تبني دائما في قطيعتي! ... ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني!!
فأطبق المصحف ، ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وثوبه لِلَّهِ حتى رحمته من شدة بكاءه !!
__________
(1) ابن جبرين - حفظه الله - : " ولعل السبب غرابة هذا المسموع وطرافته وجدته ، فإن النفس تتأثر بالمسموع لأول مرّة ، وينتج من ذلك التأثر رقة وخشوع وبكاء وخوف ، ثم يَقِل تأثيره إذا أُعيد للمرة الثانية ، وكذا الثالثة ، وإن كان الواجب أن يتأثر كلما سمع القرآن أو تلاه ، حيث أنه لا يخلق عن كثرة الرد ، ولكن لكل جديد أثر ، وهكذا يكون في سماع النشيد ، فإنه لا يتأثر بما قد تكرر على سمعه مراراً ، بل يكون سماعه كمعتادٍ غيره " .
(2) تلبيس إبليس ( ص 239 ) .(1/42)
ثم قال : يا بني تلوم أهل الري ، على قولهم : يوسف ابن الحسين زنديق ، ومن وقت الصلاة هوذا أقرأ القرآن، لم تقطر من عيني قطرة ، وقد قامت عليّ القيامة بهذا البيت" (1) .
وهل يعذر المرء في أحوال السماع الفاسدة وهى في غير مقدوره ؟ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - : " قال بعض العارفين : إن أحوال السماع بعد مباشرته تبقى غير مقدورة للإنسان ، بل خارجة عن حد التكليف ، وهذا غير معذور فيه ؛ لمباشرته أسبابه ؛ فهو كمن زال عقله بالسكر " (2) .
10- العناية بالنشيد المطرب ، والاشتغال به في أكثر الأوقات على وجه أنه طاعة وعمل صالح ، قال الشيخ عمر الأشقر (3) - حفظه الله - : " وجاوز أقوام الطريق ، فأصبح الإنشاد والغناء شغلهم الشاغل ، وأحدثوا له أنغاما ، ورققوا أصواتهم ، حتى أصبح فنا ، لا أقول هذا عن الفساق من المغنيين والمغنيات ، وإنما مرادي أولئك الذين اتخذوا هذا دينا يقربهم إلى الله تعالى ، وشغلوا بذلك أوقاتهم ، وهجروا قرآن ربهم " .
11- جعل الأناشيد الملحنة المطربة من جنس أعمال القربى التي تفتقر إلى إخلاص النية فيها لله وحده دون سواه ، كما تفتقر الطاعات والعبادات المحضة لذلك ، فيقال مثلا - عند ابتداء الأناشيد أو ختامها - : " نسأل الله عز وجل أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه " ، أو " نعوذ بالله أن نخلط عملنا هذا برياء " أو نحو هذه الكلمات التي تنوى عند ابتداء الطاعات والعبادات المحضة .
__________
(1) تاريخ بغداد للخطيب ( 14/318 ) .
(2) الكلام على مسألة السماع ( ص 400 ) .
(3) جولة في رياض العلماء ( ص 59 ) .(1/43)
ولا يصح أن يقال : النشيد الملحن المطرب من جنس شعر الدعوة الإسلامي ، الذي نصّ الفقهاء على استحبابه وعدوه من الطاعات والأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله ؛ لما يتضمن من الدفاع عن الدين ، والذود عن حياضه ، والتزهيد في الدنيا .. وما كان كذلك فهو مفتقر إلى إخلاص النية وتصحيحها ، وذلك لأن النشيد بهذه الصفة ليس شعرا فقط ، وإنما هو شعر مضاف إليه التلحين المطرب ، وإباحة شيء أو استحبابه لوحده ليس دليلا على إباحته مع غيره؛
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - :
" لأن التركيب له خاصية تؤثر على الحكم، ألا ترى أن الماء مباح فإذا أضيف إليه تمر على هيئة خاصة أصبح ( نبيذا ) محرما " .
" وهذا نظير ما يُحكى عن فقه إياس بن معاوية ، أن رجلا قال له : ما تقول في الماء ؟ قال : حلال . قال : فالتمر ؟ قال : حلال . قال : فالنبيذ ماء وتمر فكيف تحرمه ؟ فقال له إياس : أرأيت لو ضربتك بكفٍ من تراب أكنت أقتلك ؟ قال : لا . قال : فإن ضربتك بكف من تبن ، أكنت أقتلك ؟ قال : لا . قال : فإن ضربتك بماء أكنت أقتلك ؟ قال : لا . قال : فإن أخذت الماء والتبن والتراب ، فجعلته طينا ، وتركته حتى يجف ، وضربتك به أكنت أقتلك ؟
قال : نعم . قال : كذلك النبيذ " .
" ومعنى كلامه أن المؤثر هو القوة الحاصلة بالتركيب ، والمفسد للعقل هو القوة الحاصلة بالتركيب " (1) انتهى ، وكذلك ما نحن فيه " (2) .
__________
(1) الكلام على مسألة السماع ، ابن القيم ( 270 - 271 ) .
(2) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " هذا الوصف ينطبق على سماع الصوفية الذي يحصل من آثاره طرب ونشوة ورقص وتمايل يُشبه حال أهل السكر، ولهذا أنشد ابن القيم قول الشاعر :
تُلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر لنشوانٍ عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم بأي الخمرتين أحق ... بالتحريم والتأثيم عند الله"(1/44)
12- الاعتقاد بأن كمال التربية الروحية والإيمانية والجهادية للشباب والترقي بهم في ذلك لا يتم إلا عن طريق الأناشيد المطربة ، وهذا نظير اعتقاد الصوفية أن أحوالهم مع الله وصلتهم به لا تتم إلا عن طريق السماع .
13- الاعتقاد بأنه لابد للشباب من سماع الأناشيد أيا كانت ، ولو كان فيها بعض المحاذير ، لاسيما لمن اعتاد سماع الغناء ؛ وإلا فإنهم سيتركون الالتزام بالدين ، ويرتكبون المحظورات من سماع الأغاني وغيرها من المحرمات.
وفي هذا الكلام وجه من الشبه ؛ لقول بعض الصوفية : إن محبته لله - عز وجل - ورغبته في العبادة وحركته ووجده ، وشوقه ، لا يتم إلا بسماع القصائد ، وسماع الأصوات والنغمات ، ويزعمون أنهم بسماع هذه الأصوات تتحرك عندهم من دواعي الزهد والعبادة ، ما لا تتحرك بدون ذلك ، وأنهم - بدون ذلك - قد يتركون الصلوات ، ويفعلون المحرمات ، ويظنون أنهم بهذا ترتاض نفوسهم ، وتلتذ بذلك لذة تصدها عن ارتكاب المحارم ، وتحملها على فعل الطاعات ، ويقولون : أن الإنسان يجد في نفسه نشاطاً وقوة في كثير من الطاعات ، إذا حصل له ما يحبه ، وإن كان مكروهاً ، وأما بدون ذلك فلا يجد شيئاً ، ولا يفعله ، وهو أيضا يمتنع عن المحرمات إذا عوض بما يحب ، وإن كان مكروهاً وإلا لم يقنع (1) .
نقل ذلك عنهم الشيخ تقي الدين - رحمه الله - ونقدهم (2) .
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " لا شك أنا إذا رأينا من الشباب إقبالاً على الأغاني الماجنة ، وسماع الموسيقى ، والتلذذ بآلات الطرب والمزلمير والمعازف ، ورأيناهم قد شُغفوا بذلك ، وأكبوا عليه ، فإنا نبذل السبب في صدهمعن ذلك ، وتخفيفه عنهم ، ولا شك أن سماع هذا النشيد الذي فيه مواعظ وتخويف وترقيق ووعد ووعيد ، هو أخف وأحسن من سماع ذلك اللهو والطرب ، فيرتكب أخف الضررين ، فبعض الشر أهون من بعض " .
(2) انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية ( 3/203 ) .(1/45)
14- الاعتقاد بأن الأناشيد المطربة من شعائر الالتزام بالدين وعلامات الاستقامة ، كاعتقاد بعض العامة أن سماع الأناشيد خاص ( بالملتزمين ) ، وعلامة من علامات الهداية ، والتوبة ، والرجوع إلى الله ، وكذلك يعتقد الصوفية في سماعهم أنه من علامات الاستقامة والصلاح والتوبة(* (1) !!
والصحيح أن ترك ( الأغاني ) من علامات الاستقامة ، وأما سماع أو محبة الأناشيد الملحنة والمطربة فليست من الطاعات ، وأما الكلمات الطيبة فهي محمودة في القصائد وغيرها .
15- تقديم الأناشيد والاشتغال بها على بعض النوافل الشرعية ، خصوصا طلب العلم الشرعي ، وهو نظير تقديم الصوفية السماع على بعض النوافل ، كقيام الليل وقراءة القرآن .
16- قصد الأماكن الفاضلة للإنشاد ، كجعل الأناشيد الملحنة المطربة في المساجد ؛ فإنه من بدع الصوفية المحدثة في سماعهم دون غيرهم ، قال أبو الطيب الطبري (2) - رحمه الله - : " ليس في المسلمين من جعله ( تلحين الشعر ) طاعة وقربى ، ولا رأى إعلانه في المساجد ، ولا حيث كان من البقاع الكريمة والجوامع الشريفة ؛ فكان مذهب هذه الطائفة ( الصوفية ) مخالفاً لما أجمع عليه العلماء " .
وأما مُجرّد الإنشاد فلا بأس .
17- قصد الأوقات الفاضلة أو ما يظن أنها فاضلة للإنشاد ، كيوم مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وليلة الإسراء والمعراج ، وليلة النصف من شعبان ، ورجب ، وليلة القدر .
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " إلاّ أن هناك فرق بين سماع الصوفية الذي هو رقص وطرب وضرب بالأرجل و هز للرؤوس ونحوه ، مما يُثيره ذلك السماع المبتدع ، وبين النشيد الذي هو قصائد علمية وعظية مُفيدة، لها وقع في النفوس ، ينشرها الشباب الملتزم ، ويحصل بها توبة ، وإقلاع وبُعدٌ عن الحرام ، وإقبال على العبادة، ومحبة لجنس الطاعة " .
(2) نزهة الأسماع ، ابن رجب ( ص 84 ) .(1/46)
18- الغلو في النبي (1) - صلى الله عليه وآله وسلم - وإطرائه كما أطرت النصارى عيسى بن مريم - عليه السلام ورفعه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى مقام الألوهية ، نحو الاستغاثة به - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل - ، ككشف الكرب ، وإزالة الظلم ، ويقول بعض المنشدين :
يا أيها المختار هل من ومضة ... تجلي بوهج برقيها الظلمات (2)
فإن حقيقة الشرك هو دعاء غير الله تعالى بالأشياء التي يختص بها ، أو اعتقاد قدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه (3) .
19- أن يتضمن النشيد كلمات الدعاء والنداء والتوجه إلى غير الله ، والاستغاثة واستجلاب الخير من غير الله
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " لا شك أنه هذا شيء واقع ، وأنه ممنوع وحرام ، والغالب أنه يكون في قصائد المتصوفة والقبوريين ، وأهل الجهل والشرك في الأقوال ، الذين أوقعهم جهلهم في هذا الغلو ، باسم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتوقيره والاعتراف بحقه ... الخ .
فزادوا في وصفه ، وأعطوه خالص حق الله من التعظيم والعبادة ، وأوصاف العظمة ، وما لا يستحقه إلا الله ، وقد فطن لذلك أهل التوحيد والإخلاص فنزّهوا قصائدهم ونشيدهم عن هذا الغلو والإطراء، حيث رووا قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ) وقوله : ( إياكم والغلو فإنما أهلك مَن كان قبلكم الغلو ) وقوله : ( أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله ) ونحو ذلك .
(2) نشيدنا ، سليم عبد القادر ( ص 61 ) .
(3) انظر : الدر النضيد ، الشوكاني ( 145 ، 163 ) .(1/47)
- عز وجل -،وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله ، والنداء والاستغاثة والرجاء ، واستجلاب الخير ، واستدفاع الشر له ومنه ، لا لغيره ، ولا من غيره (1) .
20- إذا تضمن النشيد الدعوة إلى بعض البدع الصوفية ، كتعظيم يوم مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وجعله عيدا ، مثل قول بعض المنشدين :
مولد الهادي سلاما ... أنت للأجيال عيد (2)
21- التغني بالذكر البدعي غير المشروع ، كالتغني بلفظ الجلالة ( الله ) مُفردا في مقام الذكر والعبادة ، فإن اشتملت الأناشيد على ذلك فإنها تكون حراما ؛ لأن هذا الذكر مُحدث ، والعبادة مبناها على التوقيف ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية (3) - رحمه الله - : " المشروع في ذكر الله - سبحانه وتعالى - هو ذكره بجملة تامة ، وهو الذي ينفع القلوب، ويحصل به الثواب والأجر ، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا ، فلا أصل له ، ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ، ولا شرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (4) " .
وإن كان التغني بالاسم المفرد ( آلله ، آلله ) في النشيد لمجرد التلحين والتطريب ، فغير مشروع أيضا ؛ لأنه استعمال له في غير محله ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ 4سo_َ،çtù:$# çnqممôٹ$$sù بِهَا } ( الأعراف 180 ) ، ولم يقل تغنوا بها .
22- التغني بالذكر المشروع على طريقة بدعية ، نحو طريق الإنشاد الجماعي الملحن بصوت واحد ، مثل أن تنشد كلمة التوحيد بأصوات ملحنة منظمة جماعية ، متوافقة في مقام الذكر والعبادة .
__________
(1) نفس المصدر ( ص 163 ) .
(2) نشيد الكتائب ( ص 94 ) .
(3) البيان المفيد ، جمع السليماني ، فتوى الشيخ محمد العثيمين ( ص 4 ) .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/226 ، 233 ) بتصرف .(1/48)
ووجه مخالفة هذه الهيئة للصفة المشروعة في أمور ، منها : الجهر بالذكر ، ورفع الصوت به في غير محله ، ومنها تلحين الذكر وتنغيمه ، ومنها أداءه جماعة بصوت واحد ، وهذه الأوصاف الثلاثة مخالفة للهيئة المنقولة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، والعبادات مبناها على التوقيف ، والمتابعة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في : كيفيتها ، وسببها ، وجنسها ، وقدرها ، وزمانها ، ومكانها (1) .
ومن جهة المعقول : فإن تلحين كلمات الذكر وتمطيطها سبيل إلى تحريفها ، وتغيير معانيها ، وكأن تنشد كلمة التوحيد بلفظ ( ... موحامد رسول الله ) ؛ ولهذا كره الإمام أحمد - رحمه الله - القراءة بالألحان ، وقال الإمام لمن تعجب من ذلك : " ما اسمك ؟
قال : محمد .
قال : أيسرك أن يقال لك : موحامد " (2) .
23- تلحين الأدعية بطريقة التمطيط الفاحش، على نحو صنيع مبتدعة الصوفية في الابتهالات والتواشيح الدينية، فإنه مُحدث في الدين ، وكل مُحدثة في الدين بدعة ، وكل بدعة ضلالة لِلَّهِ
ومن جهة المعقول : فإن سؤال الله - عز وجل - ودعائه بطريقة التمطيط والتلحين الفاحش ممقوت ، وغير مناسب لحال السؤال والتذلل ، فلو أن رجلا دخل على صاحب سلطان فقال له : " ياآآيها السلطآآن هآب لي ... " على طريقة التمطيط المعهودة هنا ، أتراه محسناً في تقديم طلبه ؟ أم تراه مقدرا لصاحب السلطان ومعظما له ؟!
__________
(1) انظر : دروس وفتاوى من الحرم المكي ، الشيخ محمد العثيمين ( 32 - 35 ) .
(2) انظر : زاد المعاد ( 1/489 ) .(1/49)
24- أن يقترن بالنشيد الأصوات المطربة التي هي دون الآلات، كالتصفيق والصفير ، والضرب بالقضيب والأرجل، على وجه الطاعة والقربة ، وترقيق القلوب وإصلاحها ، فلهؤلاء نصيب ممن قال الله فيهم : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ دMّٹt7ّ9$# إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } ( الأنفال 35 ) والمكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، كذا قاله غير واحد من السلف (1) .
25- أن يقترن بالنشيد ضرب الدف ، على وجه الطاعة والقربة ، وترقيق القلوب وإصلاحها ، ففعل ذلك من البدع المُحدثة ، المتفق على تحريمها ، وليس من جنس اللهو المختلف في حكمه بين الفقهاء ، " سئل الفقيه الشافعي تقي الدين السبكي - رحمه الله - عن الرقص والدف وعن حضور السماعات ؟
فأجاب عنه بقوله :
واعلم بأن الرقص والدف الذي ... سألت عنه وقلت في أصوات
فيه خلاف للأئمة قبلنا ... شرح الهداية سادة السادات
لكنه لم يأت قط شريعة ... طلبته أو جعلته في القربات
والقائلون بحلّه قالوا به ... كسواه من أحوالنا العادات
فمن اصطفاه لدينه متعبدا ... لحضوره،فاعدده في الحسرات (2)
26- جعل الأناشيد الملحنة المطربة من الأمور المستحبة أو الواجبة ، فإنه لا يجور لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل : أنه قربة ، وطاعة ، وبر ، وطريق إلى الله واجب أو مستحب ، إلا أن يكون مما أمر الله به ، أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - والأناشيد الملحنة المطربة - أيّاً كانت معانيها - ليس مما أمر الله به ، ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - (3) " .
__________
(1) نزهة الأسماع ، ابن رجب ( ص 83 ) بتصرف .
(2) كف الرعاع ، ابن رجب الهيتمي ( ص 83 ) .
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 11/451 ) .(1/50)
27- الإصغاء إلى ألحان النشيد ، والشوق والحنان إليها ، والراحة النفسية ، والاطمئنان القلبي حين سماعها، أكثر من سماع القرآن الكريم ، وسبب ذلك أن في القلب فراغ وجوع روحي ، ومتى استفرغه المرء في سماع الشعر مجردا أو ملحنا - النشيد - ، أو القصص المقروء أو المشاهد - التمثيل - أو غير ذلك مما يحصل به تغذية النفوس والأرواح ، لم يبق بعد ذلك مكان لسماع القرآن الكريم (1) .
28- جعل النشيد بديلاً وعوضاً عن الغناء ، يُترنم به في كل وقت وحين ، والصواب أن البديل الإسلامي للغناء ، والذي يحصل به استغناء القلب وغذاؤه وعافيته هو القرآن الكريم ، قال ابن الأعرابي (2) - رحمه الله - :
" إن العرب كانت تتغنى بالركباني - وهو النشيد بالتمطيط والمد - إذا ركبت الإبل ، وإذا تبطحت على الأرض ، وإذا جلست في الأفنية، وعلى أكثر أحوالها ، فلما نزل القرآن أحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يكون القرآن هجيرانهم مكان التغني بالقرآن ، فقال : ( ليس منا من لم يتغنى بالقرآن ) (3) .
29-الخلط والجمع بين قراءة القرآن وتلاوته ، وبين إنشاد الشعر وتلحينه في مكان وزمان واحد ، وهذا من إحداث جهال الصوفية المتأخرين ، ولم يكن من فعل سلف الأمة المقتدى بهم ، المشهود لهم بالخيرية ، بل كان
__________
(1) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " وذلك خاص بما إذا كان السبب الدافع له هو مجرد التلذذ بالصوت الملحن والاشتياق إليه ، فأما إن كان قصده المعاني والمحتويات التي تضمنها ذلك النشيد ، وما فيها من الزجر والتخويف والوعظ والوعد والوعيد ، أو بيان الأحكام ، وتوضيح الأدلة ، فإن ذلك محمود ، ولا يكون شاغلاً عن سماع القرآن والذكر والخير " .
(2) انظر : المجموع المغيث ( 2/581 ) .
(3) رواه البخاري في صحيحه ، انظر : الفتح ( 13/501 ) .(1/51)
- زيادة في التحرز - ينهى بعض السلف عن خلط القرآن بالشعر ، قال أبو بكر الخلال في كتابه ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) (1) :" عن الرجل يكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم )أمام الشعر، فكأنه لم يعجبه - أي الإمام - ، وقال : حدثنا حفص عن مجالد ، عن الشبعي قال: كانوا يكتبون أمام الشعر : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وقال : بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن الكريم ، فما بال القرآن يُكتب مع الشعر ؟ وقال : هذا حديث أنس : ( أنزلت عليّ سورة ، وقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ) وهو حجة ألا يكتب أمام الشعر " .
30- التغذي بالأصوات المطربة الملحنة في النشيد (2) ، جاء في مقدمة أناشيد الكتائب (3) :" إنه - أي صوت المنشد أبى مازن - صوت ينبعث من أعماق الجنان ، فيسمو بالنفس ويرقى بالروح ، ويعمل على بعث معاني الحق ، وتجديدها في النفس " ، وجاء في مقدمة نشيدنا (4) في مدح صوت المنشد أبى الجود نظما :
ينساب صوتك في روحي فيرشفها ... شهدا تسامر على خمر العناقيد
__________
(1) ( ص 166 ) .
(2) الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : " وقد ورد الأمر بتحسين الصوت بالقرآن في قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ) وقال صلى الله عليه وسلم: ( مَن لم يتغنى بالقرآن فليس منا ) وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى بحسن صوته وقال : ( لقد أُوتي مزماراً من مزامير آل داود ) .
فمن هذه الأحاديث استحب للقراء أن يُحسنوا به أصواتهم ، وقد شوهد تأثير السامعين لمَن رُزق صوتاً حسناً ، وإكبابهم على استماع قراءته ، وتأثرهم به، ورقة القلب ودمع العين عند سماعه ، وهكذا إذا سمعوا قصائد وعظية أو زهدية ، وكان الناظم لها أو المسجل من ذوي الصوت الحسن الرقيق ، كان تأثيرها في القلوب أبلغ ، ولا يكون ذلك شاغلاً عن سماع كلام الله تعالى ، وقراءته ، والله أعلم " .
(3) ( ص 6 ) .
(4) ( ص 35 ) .(1/52)
ولا ريب أن الأصوات العذبة بمجردها ، وكذا النغمات الموزونة ، والألحان الجميلة ، ليست مما يتقرب به إلى الله ، ولا مما تزكى به النفوس وتطهر ، فإن الله شرع على ألسنه المرسلين كل ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوزارها ، ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل شيئا من ذلك ، وإنما يأمر بتزكية النفوس بالألحان من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة ، كما يأمرون بعشق الصور ، وقد أنكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - وغيره على المتصوفة المبالغة في مدح الألحان وجعلها أمراً واجباً أو مُستحباً . قال ابن القيم (1) - رحمه الله - : " قال إمام الزنادقة ابن الراوندي : اختلف الفقهاء في السماع ؟ فقال بعضهم: هو مباح ، وقال بعضهم : هو محرم ، وعندي : أنه واجب، ذكره أبو عبدالرحمن السلمي عنه،في مسألة السماع ، وأعتد به ، وكذلك شيخ الملاحدة وإمامهم ابن سينا في الإشارات (2) أمر بسماع الألحان وعشق الصور ، وجعل ذلك مما يزكّي النفوس ويهذبها ويصفيها ، وقبله ومعهم معلمهم الثاني أبو نصر الفارابي ، إمام أهل الألحان " .
مُناقشة
حول تعليقات فضيلة الشيخ ابن جبرين - حفظه الله -
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين حفظه الله ووفقه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ؛
فبعد قراءتي لتوجيهاتكم وتعليقاتكم المُفيدة حول بحث النشيد ، والتي استفدتُ منها كثيراً كثيراً ، وغيري سيستفيد منها إن شاء الله ، لا أملك إلاّ شكركم على ما بذلتموه ، والدعاء لكم بأن يجزل لكم الأجر والمثوبة .
__________
(1) الكلام على مسألة السماع ( 261 - 262 ) .
(2) انظر : الإرشادات والتنبيهات ( 4/82 ) .(1/53)
كما أرجو إتماماً لاستفادتي من التعليقات المُفيدة إجابتي عن بعض السؤالات والإشكالات التي واجهتني أثناء قراءتي لتعليق فضيلتكم ، مع فهمي القاصر لقراءة كتب بعض أهل العلم ، وخصوصاً حول الحكم الثالث للنشيد وإلحاقه بالسماع الصوفي في بعض أحواله .
أولاً : ذكر فضيلتكم ضابطاً للطرب من تعليق ص ( 36 ) بأنه : يُحرك البدن ، ويهتز له الرأس ، ويدعو إلى تمايل ورقص، ونحو ذلك .
إلا أن هناك تعريف للطرب في كتب أهل اللغة وأهل العلم بما أفهم عنه أنه : حالة نفسية قد يكون معها حركات وقد لا يكون .
1- جاء في ( المعجم الوسيط 2/899 ) : " أن الطرب هزّة أو خفّة تُثير النفس لفرح أو حُزن " .
2- قال ابن تيمية - رحمه الله - في المجموع ( 11/594 ) : " ومن نكته أن الصوت يُؤثر في النفس بحسنه ، فتارة يُفرح ، وتارة يُحزن ، وتارة يُغضب ، وتارة يُرضي ، وإذا قوي أسكر الروح ، فتصير في لذة مُطربة من غير تمييز.
كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص ، وللجسد - أيضاً - إذا سكر بالطعام والشراب ، فإن السُكْر هو الطرب الذي يُؤثر لذة بلا عقل، فلا تقوم منفعته بتلك اللذة بما يحصل من غيبة العقل ، التي صدت عن ذِكر الله وعن الصلاة، وأوقعت العداوة والبغضاء " .
3- كلام ابن القيّم - رحمه الله - المنقول في البحث ص ( 34 ) .
4- قصة سعيد بن جُبير مع الحجاج حين غنّت الجارية ، فبكى سعيد ، فقال له الحجاج : أطربت ؟ قال : لا ، ولكن جارية تعمل في غير ما خُلقت له !!
5- أن المعازف وآلات الطرب التي لا يُختلف أن تأثيرها يُسمى طرباً ، لا تحدث في أغلب الأحيان إلاّ إثارة النفس واللذة ، دون حركة البدن ، والتصفيق ، والرقص .
فإن كان ضابط الطرب ومعناه أو من آثاره اللازمة التي لا تنفك عنه هو : الحركة الظاهرة من حركة البدن واليدين والتمايل والرقص ... الخ .(1/54)
فهذا يعني عدم صحة كثير من الحالات المذكورة في الحكم الثالث للنشيد ؛ لعدم وجود هذا الطرب في الأناشيد إلا ما ندر .
وإن كان ضابط الطرب هو : إثارة النفس ولذتها ، وحركتها التي قد تحدث حركة الجوارح الظاهرة أحياناً ، فيعني صِحة تلك الحالات ؛ لوجود هذا المعنى في كثير من الأناشيد .
أرجو بيان المعنى الراجح ، وبيان رجحانه .
ثانياً : ذكر فضيلتكم في تعليق ص ( 36 ) أن إنكار ابن تيمية - رحمه الله - على الاجتماع على النشيد لصلاح القلوب : إنما يُقصد به غناء الصوفية الذي لا يخلو من رقص وضرب بالأرجل والقضيب وتمايل ... الخ .
إلاّ أن هناك بعض النصوص تدل بظاهرها أن أحداث الصوفية أول ما بدأ كان نشيداً مُجرداً ، ووقع عليه إنكار الأئمة . فأرجو تأمل هذه النصوص ، وبيان ما تفيد .
1- في ( مجموع فتاوى ابن تيمية 11/534 ) : " والذين حضروا السماع المُحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع مردان ونسوان ، ولا مع مصلصلات وشبابات ، وكانت أشعارهم مُزهدات مُرققات " .
2- قال ابن رجب - رحمه الله - في ( نزهة الأسماع ص 86 ) : " الحدث الثاني : سماع القصائد الرقيقة المُتضمنة للزهد والتخويف والتشويق ، فكان كثير من أهل السلوك والعبادة يستمعون ذلك ، وربما أنشده بنوع من الألحان استجلاباً لترقيق القلوب،ثم صار منهم مَن يضرب مع إنشادها على جلد ونحوه ، وكانوا يسمون ذلك التغبير".
3- قصة يوسف بن الحسين المذكورة في البحث ص ( 38 ) ، لم يكن فيها أكثر من سماع شعر مُلحن .
4- احتجاج القشيري على إباحة السماع الصوفي بإباحة إنشاد الشعر بالألحان ، وتوجه إنكار ابن تيمية في كتاب
( الاستقامة ) ، وابن القيّم في كتاب ( الكلام على مسألة السماع ) ، على مُجرّد ذلك .
5- أن مشايخ الصوفية شرطوا شروطاً لإباحة السماع .(1/55)
ثالثاً : ذكر فضيلتكم في التعليق في مواضع كثيرة : جواز اتخاذ القصائد الوعظية وسيلة ترقق القلوب ، وتُحدث الخشية والإنابة ، دون التنبه إلى القيود التي ذكرها بعض العلماء ، والتي إن فُقدت ينتفي حُكم الإباحة .
ذكر الشاطبي - رحمه الله - في ( الاعتصام 1/360 ) من هذه القيود :
1) لا يستمعون إليه إلاّ في الفرط بعد الفرط .
2) وعلى غير استعداد .
3) على غير اللذائذ والإطراب .
4) ولا هم ممن يدوم عليه ، أو يتخذه عادة .
فهل هذه القيود جميعها مُعتبرة أم لا ؟ وهل سماع القصائد بغيرها مُحدثاً أم لا ؟
أرجوا بيان ذلك .
رابعاً : ذكر فضيلتكم في أكثر من موضع في التعليق تعليلاً لإباحة سماع القصائد : أنه تحصل به رقة القلوب والتوبة والإنابة .
فهل هذا يتعارض مع ما رُوي عن الإمام أحمد - رحمه الله - عندما سُئل عن سماع القصائد ، فقال : بدعة مُحدثة . فقيل له : إنه يرق القلب . قال : بدعة !
خامساً : ذكر فضيلتكم في أكثر من موضع من الأدلة على الإباحة : أن الصحابة كانوا يتناشدون الأشعار ، وأن العلماء يُنشدون الشعر في مجالس العلم .
لكن ذكر البعض أن هناك فرق بين الإنشاد ، وما يُسمى الآن النشيد في أغلب صوره .
وذلك أن الإنشاد هو رفع الصوت بالشعر وتحسينه ، وهذا موجود في القليل من أشرطة النشيد ، كقصائد أبي العتاهية المُنشدة وكالمنشد بصوت الحمين ، أو شريط ذكرى .
والنوع الثاني الذي عليه أكثر النشيد اليوم هو طريقة الغناء ، وهو عبارة عن صوت مُتصل مُتكرر له ارتفاع وانخفاض بدرجات مُتفاوتة تؤثر هذه الدرجات في نفس السامع .
فإن أقترن معه الكلام فهو الغناء ، فإن لم يقترن معه الكلام فهو التنغيم أو التلحين .
والله أعلم .
صالح بن أحمد الغزالي
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . وبعد ؛(1/56)
فقد قرأتُ أسئلتكم حول ما علّقتُه على البحث ، مما ترجح لي ، وإن لم يكن لديّ مراجع ، ولا قرأت فيه غير ما كتبتَ في رسالتك هذه .
وأقول حول هذه الأسئلة :
1- أولا : الذي يظهر أن الطرب الذي هو خفة تُثير النفس لفرحٍ أو حُزن ... الخ . لا يلزم ذمه ولا تحريمه إذا حصل من آثار سماع شيء مُفيد ، فإن هذا الفرح في النفس يحصل من سماع القرآن ، ومن سماع المواعظ ونحوها ، حتى قال بعض الزهّاد : " إن عجائب القرآن أطرن نومي ، ما أخرج من أعجوبة إلاّ دخلت في أخرى " . وقال بعضهم : " إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً " أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا ، إنهم لفي عيش طيّب .
وقد نقلتم عن ابن تيمية قوله : " أن الصوت يُؤثر في النفس بحسنه ، فتارة يُفرح ... وإذا قوى أسكر الروح ... كما يحصل للنفس إذا سكرت بالرقص ، وذكر أن السكر هو الطرب ... الخ .
ويدل عليه الأبيات التي ذكرها ابن القيّم في ( الإغاثة ) ومنها قول الشاعر :
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر لنشوانٍ عند شرابه ... وانظر إلى النشوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
فهذا هو الطرب المذموم ، فأما الطرب الذي هو فرحٌ في النفس ، وارتياحٌ إلى الكلام الحسن ، وتأثر به في السيرة والمنهج ، فإنه وإن سُمي طرباً فإنه مُباح ، أو ممدوح ؛ لآثاره الطيبة ، فأما آلات الطرب من المعازف والأعواد ونحوها، فهي مُحرمة لذاتها ولو لم تُستعمل ، بل يجب إتلافها ولو لم يحصل للسامع شيء من الحركة ونحوها ؛ لتسميتها آلات لهو ولعب .
2- وثانياً : لا شك أن سماع الصوفية منذ بدئه لم يكن مثل القصائد التي يقرأها الناظم في المجتمعات ، وفيها أحكام ومواعظ ، وإنما كان منذ نشأ يُنشد بطريقة التلحين والترقيق ، وعلى حالة مُبتدعة أنكرها الشافعي وغيرها ، وإلاّ فقد كان للشافعي قصائد زهديات تؤثر في السامعين كقوله :(1/57)
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فلم أرها إلاّ غروراً وباطلاً ... كما لاح في ظهر الفلاة سرابها
وفي كلام ابن رجب الذي ذكرتم ما يدل على أن تلك القصائد مُتضمنة للزهد والترقيق والتخويف ، وأن أهل السلوك والعبادة يستمعون ذلك للفائدة ، وأن تلحينه كان نادراً يُقصد منه استجلاب القلوب ، وأنه بعد صار منهم مَن يضرب على جلد ، يعني طبلاً ، ويسمونه ( تغبيراً ) ، وهذا هو السبب في تحريمه .
3- وثالثاً : أن الشروط التي ذكرها الشاطبي مُحترزات عن سماع الصوفية المذموم المبتدع ، ولهذا ذكر أنهم لا يستعدون له ، بأن يتهيأ الجميع ويصطفون وينصبون للناظم موضعاً ، ويجعلون ذلك ديدناً مُعتاداً ، فأما المُباح ما يُنشد أثناء خطبة أو موعظة أو شريط ، ويكون المعنى كله إسلامي ، وفيه فوائد وتخويف وزجر ، لم يُقصد للطرب وارتياح النفس ، ولم يُتخذ عادة يُشغل عما هو أهم منه .
4- لقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه سمع نظماً وأبياتاً مُتفرقة ، بل وأقرّها وتعجب من بلاغتها ، ولا أتذكرها الآن ، وهذا يدل على أن المبتَدع الذي أنكره هو ما أنكره الشافعي ، من السماع الصوفي الذي يُرتب له ، ويجتمعون في أماكن خاصة ، على طُرق مُحدثة .
5- لا شك أن إلقاء النظم كالأشعار والقصائد يُعتاد فيه إلقاؤه على وزن وقافية ، وتقطيع كلمات ، ووقوف عند المقاطع ونحو ذلك ، وليس كإلقاء الكلام النثر ، ولا يُسمى الإلقاء للنثر عادة تلحيناً ولا تطريباً ، وهو ما تشمل عليه أكثر القصائد ، والأناشيد ، فإن خرجت إلى فن التلحين والتطريب الذي يُحرّك المشاعر ، ويهزّ الأركان ، أُلحق بالأغاني المنهي عنها . والله أعلم .
عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
مقدمة البحث ... 2
تقريظ الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين ... 3
الفصل الأول : حقيقة النشيد . ... 4
المبحث الأول : معنى النشيد في اللغة والاصطلاح . ... 4(1/58)
المطلب الأول معناه في اللغة العربية . ... 4
المطلب الثاني معناه في اصطلاح أهل العصر . ... 4
المبحث الثاني : نشأة النشيد . ... 6
المطلب الأول : أصل النشيد . ... 6
المطلب الثاني : ابتداء النشيد في مصر والشام ، ثم انتقاله في بقية البلدان . ... 6
المطلب الثالث : الدواعي إلى انتشار النشيد . ... 7
المطلب الرابع : تطور النشيد والعناية به . ... 8
المبحث الثالث : أركان النشيد . ... 10
المطلب الأول : ألحان النشيد . ... 10
المطلب الثاني : كلمات النشيد . ... 10
المطلب الثالث : مقاصد النشيد . ... 16
المبحث الرابع : القائمون على النشيد ... 17
المطلب الأول : واضعو كلمات النشيد . ... 17
المطلب الثاني : الملحنون . ... 18
المطلب الثالث : المنشدون . ... 18
الموضوع ... الصفحة
المطلب الرابع : القائمون على النشيد . ... 18
المطلب الخامس : القائمون على نسخها وتوزيعها . ... 18
الفصل الثاني : حكم النشيد . ... 19
المبحث الأول : مذاهب العلماء في حكم النشيد ... 19
المبحث الثاني : أدلة القولين ومُناقشتها ... 20
المطلب الأول : أدلة الإباحة ، ومناقشتها . ... 20
المطلب الثاني : أدلة الحظر ومناقشتها . ... 25
الفصل الثالث : الترجيح في حكم النشيد . ... 29
الحكم التفصيلي . ... 30
الحكم الأول للنشيد : الإباحة وشروطها . ... 30
الحكم الثاني : مواضع إلحاقه بالغناء المذموم . ... 32
الحكم الثالث : مواضع إلحاقه بالسماع الصوفي المبتدع . ... 35
مُناقشة حول تعليقات فضيلة الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - على البحث . ... 45
فهرس الموضوعات . ... 50
...(1/59)