الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد كثرت الأسئلة والاختلاف حول جمع الصلاتين لعذر البرد الشديد، فأحببت الوقوف على حقيقة الصواب في هذه المسألة المهمة، فطالعت ما تيسر لي من الكتب المعنية بهذا الشأن فوجدت أن الجمع بين الصلاتين رخصة عارضة للحاجة، نص عليه الأئمة الأعلام.
_قال شيخ الإسلام ابن تيمية×:
=والجمع شرع رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة+(1).
وقال أيضًا: =والجمع رخصة عارضة+(2).
وقال أيضًا: =الجمع بين الصلاتين لم يفعله النبي"إلا مرات قليلة، فإنهم يستحبون تركه إلا عند الحاجة إليه+. اهـ(3).
والأصل في هذا حديث ابن عباس_رضي الله عنهما_قال: إن النبي"صلى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر والمغرب والعشاء+
أخرجه البخاري،(4) ومسلم،(5) وأبو داود،(6) والبيهقي،(7) من طريق: حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس به.
وأخرجه أبو داود الطيالسي، من طريق: حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار به(8).
وعن ابن عباس أيضًا قال:
=صلى رسول الله"الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، في غير خوف ولا سفر+.
أخرجه مالك(9).
__________
(1) مجموع الفتاوى (24/ 54).
(2) مجموع الفتاوى (24/ 27).
(3) مجموع الفتاوى (24/ 31).
(4) صحيح البخاري (1/ 137).
(5) صحيح مسلم (1/ 491) رقم 705.
(6) سنن أبي داود (2/16) رقم 1214.
(7) سنن البيهقي (3/ 167).
(8) مسند الطيالسي رقم 2613.
(9) موطأ مالك (1/ 144).(1/1)
من طريق: أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. ومن طريق مالك هذه أخرجه مسلم،(1) والنسائي،(2) وأبو داود،(3) وابن خزيمة،(4) والطحاوي،(5) والبيهقي(6).
قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد ألا يحرج أحداً من أمته.
وأخرجه أحمد(7) من طريق: سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير به. وعبدالرزاق(8) من طريق: الثوري، عن أبي الزبير به.
وأبو داود الطيالسي(9) من طريق: قرة بن خالد، قال: حدثنا أبو الزبير، قال: حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، فصرح أبو الزبير بالتحديث.
وله أيضًا قال:
جمع رسول الله" بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر.
قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كي لا يحرج أمته.
أخرجه أحمد،(10) ومسلم،(11) وأبو داود،(12) والنسائي،(13) والترمذي،(14) وأبو عوانة،(15) والبيهقي(16).
من طرق: عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
__________
(1) صحيح مسلم (1/ 489) رقم 705.
(2) سنن النسائي الكبرى (1/ 494) رقم 1573).
(3) سنن أبي داود (2/ 14) رقم 1210.
(4) صحيح ابن خزيمة (2/ 85) رقم972.
(5) شرح معاني الآثار (1/ 160).
(6) السنن الكبرى (3/ 166).
(7) مسند أحمد (1/283، 349).
(8) مصنف عبدالرزاق (2/ 555) رقم4435.
(9) مسند الطيالسي ص 342 رقم 2629.
(10) مسند أحمد (1/ 354).
(11) صحيح مسلم (1/ 491) رقم705.
(12) سنن أبي داود (2/ 14) رقم1211.
(13) سنن النسائي الكبرى (1/ 491) رقم1574.
(14) سنن الترمذي (1/ 355) رقم187.
(15) مسند أبي عوانة (2/ 354).
(16) السنن الكبرى للبيهقي (3/ 167).(1/2)
قال البيهقي: ولم يخرجه البخاري مع كون حبيب بن أبي ثابت من شرطه، ولعله إنما أعرض عنه_والله أعلم_لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير في متنه. ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن تكون محفوظة، فقد رواه عمرو بن دينار عن جابر بن زيد أبي الشعثاء، عن ابن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبي الزبير+ اهـ
لكن رد قوله شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
=قلت: تقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب بن أبي ثابت لا وجه له؛ فإن حبيب بن أبي ثابت من رجال الصحيحين فهو أحق بالتقديم من أبي الزبير، وأبو الزبير من أفراد مسلم، وأيضًا فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن: تارة يجعل ذلك في السفر كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد. . + وأطال النفس في ذلك، ونص على أن حبيب ابن أبي ثابت من أوثق الناس وأنه ثقة ثبت إلى أن قال: =وأما قوله: إن البخاري لم يخرجه، فيقال: هذا من أضعف الحجج؛ فهو لم يخرج أحاديث أبي الزبير، وليس كل من كان من شرطه يخرجه+(1).
وأخرجه أحمد: ثنا يحيى، عن شعبة، ثنا قتادة، قال: سمعت جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: جمع رسول الله"بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا مطر.
قيل لابن عباس: وما أراد لغير ذلك؟(2)
قال: أراد ألاَّ يحرج أمته(3).
قال أحمد شاكر: إسناده صحيح(4).
قلت وهو كما قال: رجاله ثقات أثبات.
__________
(1)
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع ابن قاسم (24/ 75_79).
(2) لعل الصواب:=وما أراد بذلك؟+ نبه على مثله أحمد شاكر كما في المصدر الآتي رقم 1953.
(3) مسند أحمد (1/ 223).
(4) شرح المسند لأحمد شاكر رقم 1953.(1/3)
وأخرجه أحمد أيضًا(1) وابن أبي شيبة،(2) وعبدالرزاق،(3) والطبراني،(4) والطحاوي،(5) من طريق: داود بن قيس الفراء، عن صالح مولى التؤمة، عن ابن عباس قال: جمع رسول الله" بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر.
قال: فقيل لابن عباس: لم فعل ذلك؟
قال: أراد التوسعة على أمته.
هذا لفظ ابن أبي شيبة، وقريب منه لفظ عبدالرزاق والطبراني، ولفظ أحمد والطحاوي مثلهم إلا أنهما قالا: =في غير سفر ولا مطر+.
قال أحمد شاكر: إسناده صحيح(6).
قلت: وهو كما قال إلا أن صالحًا مولى التؤمة قال فيه الحافظ في التقريب: =صدوق اختلط بآخره+ اهـ، إلا أن متابعة سعيد بن جبير وجابر بن زيد له عن ابن عباس المتقدمتين يدلان على أنه حفظه من غير تخليط.
وأخرجه أحمد،(7) ومسلم،(8) وأبو عوانة،(9) وأبو داود الطيالسي،(10) والبيهقي،(11) من طريق: حماد بن زيد، عن الزبير بن الخِرِّيْت، عن عبدالله بن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة، الصلاة، قال: فجاء رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة، الصلاة. قال ابن عباس: أتعلمني بالسنة؟ لا أم لك! ثم قال: رأيت رسول الله"جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
قال عبدالله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة، فسألته فصدق مقالته.
__________
(1) مسند أحمد (1/ 346).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 456).
(3) مصنف عبدالرزاق (2/ 555) رقم 4434.
(4) المعجم الكبير للطبراني (10/ 397) رقم 10803، 10804.
(5) شرح معاني الآثار (1/ 160).
(6) شرح المسند لأحمد شاكر (5/ 81) رقم 3235.
(7) مسند أحمد (1/ 251).
(8) صحيح مسلم (1/ 491) رقم 705.
(9) مسند أبي عوانة (2/ 354).
(10) مسند الطيالسي رقم2552، 2720.
(11) السنن الكبرى للبيهقي (3/ 168).(1/4)
هكذا قالوا: =فصدق مقالته+ إلا أحمد فإنه قال: =فوافقه+ وعند أبي عوانة، والطيالسي من مسند ابن عباس بيان مكان الخطبة وهو البصرة.
وأخرجه مسلم،(1) وابن أبي شيبة،(2) والبيهقي(3) من طريق: وكيع، حدثنا عمران بن حدير، عن عبدالله بن شقيق العقيلي، قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة، فسكت، ثم قال: الصلاة، فسكت. ثم قال: الصلاة. فسكت. ثم قال: لا أم لك! أتعلمنا بالصلاة؟! وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله".
زاد ابن أبي شيبة =يعني في السفر+.
وهو خطأ ظاهر.
وأخرجه الطحاوي مختصراً(4).
وأخرجه النسائي(5) من طريق حبيب بن أبي حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء، والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء؛ فعل ذلك من شغل. وزعم ابن عباس أنه صلى مع رسول الله"بالمدينة الأولى والعصر ثمان سجدات ليس بينهما شيء.
وكذا أخرجه أبو داود الطيالسي: (6) حدثنا حبيب، عن عمرو بن هرم، عن سعيد بن جبير، أن ابن عباس جمع بين الظهر والعصر من شغل، وزعم ابن عباس أنه صلى مع رسول الله"بالمدينة الظهر والعصر جميعًا.
إسناده حسن. حبيب بن أبي حبيب هو صاحب الأنماط. غمزه يحيى القطان وأحمد(7).
ونهى عن الكتابة عنه يحيى بن معين(8).
إلا أن ابن مهدي روى عنه. وقال أحمد: ما أعلم به بأسًا(9).
__________
(1) صحيح مسلم (1/ 492).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 456).
(3) السنن الكبرى (3/ 168).
(4) شرح معاني الآثار (1/ 161).
(5) سنن النسائي (1/ 286).
(6) مسند الطيالسي ص341 رقم2614.
(7) المغني في الضعفاء للذهبي (1/ 146) رقم 1286.
(8) الكامل لابن عدي (2/ 807) والميزان للذهبي (2/ 453) رقم 1695.
(9) الكامل لابن عدي (2/ 807) والميزان للذهبي (2/ 453).(1/5)
وذكره ابن حبان في الثقات(1). وقال البخاري: وقال حبان: حدثنا حبيب بن أبي حبيب الجرمي: ثقة،(2) وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ.
وذكره الذهبي في الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد، وقال: لينه جماعة وخرج له مسلم(3).
وقال ابن عدي:
=وأرجو أنه لا بأس به، وقد حدث عنه ابن مهدي ويزيد ابن هارون وجماعة ممن ذكرنا +(4).
وعن عبدالله بن مسعود÷قال: =جمع رسول الله"بين الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء+.
فقيل له؟! فقال: صنعته لئلا تكون أمتي في حرج.
أخرجه الطبراني(5).
حدثنا إدريس بن عبدالكريم الحداد، ثنا أحمد بن حاتم الطويل، ثنا عبدالله بن عبدالقدوس، عن الأعمش، عن عبدالرحمن بن ثروان، عن زاذان قال: قال: عبدالله ابن مسعود...الخ.
قال الهيثمي في باب الجمع للحاجة: رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه عبدالله بن عبدالقدوس ضعفه ابن معين والنسائي، ووثقه ابن حبان. وقال البخاري: صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعفاء.
قلت: وقد روى هذا الحديث عن الأعمش وهو ثقة. اهـ(6).
قلت: قال ابن عدي: قال ابن معين: ليس بشيء رافضي خبيث(7).
وقال الذهبي: وقال النسائي: ليس بثقة.
وقال الدار قطني: ضعيف(8).
وقال الحافظ ابن حجر: وقال أبو داود: ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض.
وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعاف.
وحكي عن محمد بن عيسى أنه قال: هو ثقة(9).
وذكره ابن حبان في الثقات(10).
وقال الحافظ في التقريب: صدوق رمي بالرفض وكان أيضًا يخطئ.
__________
(1) الثقات لابن حبان (6/ 178).
(2) التاريخ الكبير للبخاري (2/ 315) رقم 2597.
(3) معرفة الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد رقم75.
(4) الكامل لابن عدي (2/ 809).
(5) الكبير للطبراني (10/ 269) رقم10525.
(6) مجمع الزوائد (2/161).
(7) الكامل لابن عدي (4/1514).
(8) ميزان الاعتدال (2/457).
(9) تهذيب التهذيب (5/303).
(10) الثقات لابن حبان (7/48).(1/6)
قلت: سنده حسن؛ وذلك للاختلاف في حال عبدالله بن عبدالقدوس، ولأنه يشهد له حديث ابن عباس وأبي هريرة وجابر بن عبدالله وغيرهم.
وعن أبي هريرة÷قال: =جمع رسول الله"بين الصلاتين في المدينة من غير خوف+.
أخرجه البزار(1).
وقال: تفرد به عثمان بن خالد ولم يتابع عليه.
وقال الهيثمي: فيه عثمان بن خالد الأموي وهو ضعيف(2).
قلت: تقدم عند مسلم وغيره أن أبا هريرة صدق مقالة ابن عباس في الجمع في الحضر عندما سأله عبدالله بن شقيق.
وعن جابر بن عبدالله_رضي الله عنهما_قال:
جمع رسول الله"بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة للرخص من غير خوف ولا علة.
أخرجه الطحاوي(3): حدثنا محمد بن خزيمة وابن أبي داود وعمران بن موسى الطائي، قالوا: حدثنا الربيع بن يحيى الأشناني، قال: ثنا سفيان الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبدالله. . . به.
قال أبو حاتم: =حديث محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي"في الجمع بين الصلاتين. فقال: حدثنا الربيع بن يحيى عن الثوري غير أنه باطل عندي هذا خطأ لم أدخله في التصنيف، أراد أبا الزبير عن جابر، أو أبا الزبير عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس. والخطأ من الربيع+ اهـ(4).
قلت: الحديث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بسنده هذا محتجًا به إلا أنه قال: =لكن ينظر حال هذا الأشناني+(5).
فإذا نظرنا في حاله نجد أن ابن حبان ذكره في الثقات وقال: يخطئ(6).
وقال أبو حاتم الرازي: هو ثقة ثبت(7).
__________
(1) كشف الأستار (1/332) رقم 689.
(2) مجمع الزوائد (2/161).
(3) شرح معاني الآثار (1/161).
(4) العلل لابن أبي حاتم (1/116).
(5) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (24/82).
(6) الثقات لابن حبان (8/240).
(7) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/116).(1/7)
وقال الحاكم في سؤالاته للدار قطني: قلت: فالربيع ابن يحيى الأشناني؟ قال: ليس بالقوي، يروي عن الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر =الجمع بين الصلاتين+ هذا يسقط مائة ألف حديث+ اهـ(1)
قال الذهبي في السير مفسراً لقول الدار قطني هذا: =يعني من أتى بهذا ممن هو صاحب مائة ألف حديث أثر فيه لينا؛ بحيث تنحط رتبة المائة ألف عن درجة الاحتجاج وإنما هذا على سبيل المبالغة! فكم ممن قد روى مائتي حديث ووهم منها في حديثين وثلاثة وهو ثقة+.
وقد وصفه في أول الترجمة بقوله: الإمام الحافظ الحجة+(2).
ونقل قول الدار قطني هذا في المغني في الضعفاء، وجاء في حاشيته لنور الدين عتر ما نصه: =وقد تعقبه في حاشيته (هـ) برد جيد ننقله إليك لما فيه من الفائدة، ولفظه: قلت: هذا مبالغة من الحافظ × فمع تقدير وهمه في هذا الحديث لا يوجب اطراح حديثه؛ إذ ما من حافظ إلا وقد ضبط عنه من الوهم ما يشبه هذا إلا ما شاء الله، ومع هذا فما اطرح العلماء أحاديثهم، بل رووها واحتجوا بها، فكيف وقد روى عنه البخاري في صحيحه عن زائدة بن قدامه، وكفى بذلك تعديلاً له. ومع هذا فلا يمتنع أن يكون الحديث عن ابن المنكدر كما رواه الربيع؛ إذ قد يكون قد رواه عن الثوري كما ذكر تأمل! بقي أنه انفرد به، فهذا لا يوجب شيئًا مما قاله الدار قطني. والعجب من المصنف أنه ترجم له في كاشفه ونقل عن أبي حاتم: أنه ثقة ثبت. ولم يتعرض له، كما صنع في هذا. والله أعلم. اهـ.
قلت: وقد رجعنا إلى الكاشف للذهبي، وتذهيب التهذيب فوجدناه ينقل توثيق أبي حاتم ولا يتعرض للأشناني بنقد+ اهـ(3).
__________
(1) سؤالات الحاكم للدار قطنيي ص206 رقم 319.
(2) سير أعلام النبلاء (10/452).
(3) حاشية المغني في الضعفاء للذهبي(1/229) رقم 2101.(1/8)
قلت: والحق ما قاله الذهبي من كون التفرد لا يوجب ضعفاً في الراوي؛ بدليل حديث =إنما الأعمال بالنيات+ فقد تفرد به عن النبي"عمر بن الخطاب من بين الصحابة، وتفرد به علقمة بن وقاص العتواري عن عمر من بين تلاميذه، وتفرد به محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة من بين تلاميذه، وتفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد من بين تلاميذه، ولم يوجب لأحد منهم شيئًا. وغير ذلك كثير، وبدليل أن أبا حاتم الرازي لم يضعف الأشناني لأجل تفرده برواية هذا الحديث مع أنه خطأه في روايته له، بل قال: هو ثقة ثبت مع تعنته في الجرح، فتأمل!
وبهذا ثبت أن حال الأشناني أحسن حالاً! وقد أطلق عليه لقب إمام حافظ حجة ثقة ثبت، وروى له البخاري في صحيحه مع جلالته.
وهذه الاعتبارات تبعد أن يكون أخطأ في روايته لهذا الحديث. والله أعلم.
وعن عبدالله بن عمر_رضي الله عنهما_قال:
جمع لنا رسول الله"مقيماً غير مسافر بين الظهر والعصر والمغرب، فقال رجل لابن عمر: لم ترَ النبي"فعل ذلك؟ قال: لئلا يحرج أمته، إن جمع رجل.
أخرجه عبدالرزاق عن ابن جريح عن عمرو بن شعيب، قال: قال عبدالله. . . فذكره(1).
إسناده ضعيف؛ فيه عمرو بن شعيب وقد أرسله.
وعن عبدالرحمن بن علقمة الثقفي÷قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله"ومعهم هدية، فقال: أهدية أم صدقة؟ فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله"وقضاء الحاجة. وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله_عز وجل_؟!
قالوا: بل هدية، فقبلها منهم، وقعد معهم يسألهم ويسألونه حتى صلى الظهر مع العصر.
__________
(1) مصنف عبدالرزاق (2/556) رقم4437.(1/9)
أخرجه النسائي(1) وأبو داود الطيالسي(2) والمزي(3) والبخاري(4) من طريق أبي بكر بن عياش الحناط، عن يحيى ابن هانئ بن عروة، عن أبي حذيفة، عن عبدالملك بن محمد ابن بشير، عن عبدالرحمن بن علقمة الثقفي به.
وعزاه الحافظ ابن حجر في الإصابة لإسحاق بن راهويه ويحيى الحماني في مسنديهما من طريق أبي حذيفة هذه(5).
قال المزي: هكذا رواه أبو بكر بن عياش، وخالفه زهير ابن معاوية، عن يزيد ابن أبي خالد الأسدي، عن عون بن أبي جحيفة، عن عبدالرحمن بن علقمة، عن عبدالرحمن بن أبي عقيل الثقفي، عن النبي".
وكذا قال في تحفة الأشراف(6).
قلت: وفيه غير المخالفة. قال البخاري: عبدالملك بن محمد بن بشير، عن عبدالرحمن بن علقمة، عن النبي"حديثه في الكوفيين، ولم يتبين سماع بعضهم من بعض(7).
وقال الألباني: ضعيف الإسناد(8).
=وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبدالملك مجهول+.
قلت: عبدالملك بن محمد بن بشير وأبو حذيفة، قال فيهما الحافظ في التقريب: مجهولان، إلا أن مذهب النسائي الإخراج عن كل من لم يجمع على تركه، مع تعنته في الجرح.
فهؤلاء ستة من أصحاب رسول الله"رضي الله عنهم رووا أنه جمع بين الصلاتين في المدينة من غير خوف ولا مطر، وأن مراده بذلك رفع الحرج عن الأمة والتوسعة عليهم.
__________
(1) السنن الصغرى للنسائي (6/279) والكبرى (4/135) رقم6593.
(2) مسند الطيالسي ص190 رقم 1336.
(3) تهذيب الكمال (18/ 400).
(4) التاريخ الكبير للبخاري (5/251) رقم 812.
(5) الإصابة للحافظ ابن جحر (2/421) رقم 5170.
(6) تحفة الأشراف (7/204). رقم 9707.
(7) التاريخ الكبير لبخاري (5/ 431) رقم 1404.
(8) ضعيف سنن النسائي للألباني ص137 رقم 241.(1/10)
هذا وقد قال الإمام الترمذي×في أول كتاب العلل الصغير ما نصه: =جميع ما في هذا الكتاب من الحديث معمول به_يعني السنن_قد أخذ به بعض أهل العلم ما خلا حديثين؛ حديث ابن عباس أن النبي"جمع بين الظهر والعصر =بالمدينة+ والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر، وحديث أن النبي"قال: =إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه+.
وقد بينا علة الحديثين جميعًا في الكتاب+ اهـ(1).
قلت: أما حديث ابن عباس فقد نقل غيره من أهل العلم، عن أهل العلم العمل به والخلاف.
فهذا الإمام النووي بعد ما نقل عن الترمذي قوله هذا، قال: =أما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به، بل لهم أقوال؛ منهم من تأوله على أنه جمع بعذر المطر، وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين، وهو ضعيف بالرواية الأخرى =من غير خوف ولا مطر+.
__________
(1) السنن للترمذي (5/736).(1/11)
ومنهم من تأوله على أنه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وهذا أيضًا باطل؛ لأنه وإن كان فيه؛ احتمال في الظهر والعصر لا احتمال فيه في المغرب والعشاء. ومنهم من تأوله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخلت الثانية فصلاها، فصارت صلاته صورة جمع. وهذا أيضًا ضعيف أو باطل؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله، وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في رد هذا التأويل. ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار. وهذا قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا وهو المختار في تأويله؛ لظاهر الحديث، ولفعل ابن عباس، وموافقة أبي هريرة، ولأن المشقة فيه أشد من المطر. وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة، وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي وعن جماعة من أصحاب الحديث.
واختاره ابن المنذر، ويؤيده ظاهر قول ابن عباس =أراد ألا يحرج أمته+ فلم يعلله بمرض ولا غيره. والله أعلم+ اهـ(1).
قلت: وحكاية الخطابي عن هؤلاء الأئمة في كتابه معالم السنن وفيه زيادة، وهي: =وقال ابن المنذر: ولا معنى لحمل الأمر فيه على عذر من الأعذار، لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهو قوله: =أراد ألا تحرج أمته+ اهـ(2).
ونقل قول ابن المنذر هذا أحمد شاكر، ثم قال بعده:
__________
(1) شرح مسلم للنووي (5/218).
(2) معالم السنن للخطابي (2/55).(1/12)
=وهذا هو الصحيح الذي يؤخذ من الحديث، وأما التأويل بالمرض أو العذر أو غيره فإنه تكلف لا دليل عليه، وفي الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم أو ظروف قاهرة إلى الجمع بين الصلاتين ويتأثمون من ذلك ويتحرجون، ففي هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة ما لم يتخذه عادة. كما قال ابن سيرين+ اهـ(1).
وحقق شيخ الإسلام ابن تيمية×في هذا الحديث سندا ومتنا، وجزم بأن النبي"جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، ثم قال:
=والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا. وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى؛ فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا كان جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها+ اهـ(2).
وقال: =إن الجمع فيه شرع رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة+ (3).
وقال: =والصواب أن علة الجمع الحاجة+(4).
وقال أيضا: =وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا+ اهـ(5).
قلت: وهذا الحرج الذي يريد رفعه"عن أمته لم تحدد الأحاديث ضابطًا له، وعليه فيرجع إلى معناه اللغوي، فإذا رجعنا إلى معناه اللغوي نجد أن ابن الأثير قال: =معناه الضيق+(6).
وكذلك قال البعلي الحنبلي(7).
__________
(1) حاشية أحمد شاكر على سنن الترمذي (1/358).
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/76).
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/54).
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/66،65،64،37).
(5) مجموع فتاوى سيخ الإسلام ابن تيمية (24/ 78. 77).
(6) النهاية لابن الأثير (1/361).
(7) المطلع على أبواب المقنع ص336.(1/13)
وهو كذلك في حاشية صحيح مسلم على الحديث نفسه(1)؛ وعلى هذا فالضيق ومثله المشقة إذا تحقق حصوله للمصلي في الصلاة لوقتها فإنه عذر شرعي لإباحة الجمع بين الصلاتين المباح جمعهما؛ لهذه الأحاديث، وأخذاً برخصة الله التي قال فيها الرسول": =والله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته+ أخرجه أحمد وغيره. وقال الألباني: صحيح(2).
وقد جمع ابن عباس_رضي الله عنهما_بين المغرب والعشاء لأجل الخطبة؛ استناداً إلى هذا الحديث لتصويب فعله، وقد صدقه أبو هريرة، وجمع أيضًا لأجل الشغل_كما مر_.
وجمع عبدالله بن عمر_رضي الله عنهما_في الليلة الباردة، احتج به أحمد على جواز الجمع للريح الباردة في رواية الميموني(3).
وأجاز الجمع محمد بن سيرين للحاجة لمن لا يتخذه عادة_كما تقدم_.
وقال شيخ الإسلام:
=وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد؛ فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل. . . +. إلى أن قال:
=ويجوز الجمع في ظاهر مذهب أحمد ومالك للوحل والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك، ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة نص عليه أحمد+(4).
وقال الحافظ ابن حجر:
=قوله: المشهور أنه لا جمع بالمرض و الخوف والوحل؛ إذ لم ينقل أنه"جمع بهذه الأشياء مع حدوثها في عصره. قلت: يمكن أن يستفاد من قول ابن عباس: =أراد ألا يحرج أمته+ كما هو في الصحيح، وكما للطبراني+ أراد التوسع على أمته =فإن مقتضاه الجمع عند كل مشقة. وقد أمر المستحاضة بالجمع، وجمع ابن عباس للشغل+ اهـ(5).
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز:
__________
(1) صحيح مسلم (1/490).
(2) إرواء الغليل (3/9) رقم564.
(3) المبدع لابن مفلح (2/119).
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية(24/28).
(5) تلخيص الحبير (2/52) رقم 619.(1/14)
=والصواب حمل الحديث المذكور على أنه"جمع بين الصلوات المذكورة لمشقة عارضة ذلك اليوم من مرض غالب أو برد شديد أو وحل ونحو ذلك. ويدل على ذلك قول ابن عباس لما سئل عن علة هذا الجمع؟ قال: لئلا يحرج أمته+.
وهذا جواب عظيم سديد شاف. والله أعلم+ اهـ(1).
وقد ذكر فقهاء الحنابلة في باب الجمع بين الصلاتين في كتب الفقه أمثلة لما فيه الحرج والضيق والمشقة، وذلك مثل: المطر الذي يبل الثياب، والثلج، والبرَد، بفتح الراء_،والجليد_وهو الماء الجامد من البرْد بإسكان الراء_، والوحل، والريح الباردة(2).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صلاة الجمع في المطر بين العشائين هل يجوز من البرد الشديد أو الريح الشديدة أم لا يجوز إلا من المطر خاصة؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين يجوز الجمع بين العشائين للمطر والريح الشديدة الباردة والوحل الشديد.
وهذا أصح قولي العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وغيرهما+. والله أعلم. اهـ(3).
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ:
=المسألة السابعة: وهي سؤالك عن الجمع بين العشائين في الحالة التي ذكرتم إذا كنتم في الصحراء وفي شدة البرد والثلج واجتماع الجماعة في الوقت الأول دون الوقت الأخير،فجوابها:
أن هذا يجوز، وقد دلت السنة على جواز الجمع للمطر وهذا مثله، بل أولى،والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم+ (4).
وقد وضع علماء الحنابلة_رحمهم الله_ضابطًا لجواز الجمع، قال العلامة ابن مفلح في سرده الأعذار المبيحة للجمع:
=وفي الوجيز: يجوز بكل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة عدا النعاس ونحوه+ اهـ(5).
وقال شيخ الإسلام بن تيمية:
__________
(1) تعليقه على فتح الباري (2/24).
(2) الروض المربع حاشية ابن قاسم (2/402).
(3) مجموع فتاوى شيخ السلام ابن تيمية (24/29).
(4) مجموع فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (2/331) رقم734.
(5) المبدع شرح المقنع لابن ملح(2/118).(1/15)
=وقال أحمد بن حنبل: يجوز الجمع إذا كان لشغل، قال القاضي أبو يعلى: الشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة؛ وقال ابن قدامة المقدسي مبينًا عن هؤلاء: وهو المريض، ومن له قريب يخاف موته، ومن يدافع أحداً من الأخبثين، ومن يحضره طعام وبه حاجة إليه، ومن يخاف من سلطان يأخذه، أو غريم يلازمه ولا شيء معه يعطيه، والمسافر إذا خاف فوات القافلة، ومن يخاف ضراراً في ماله، ومن يرجو وجوده، ومن يخاف من غلبة النعاس حتى يفوته الوقت، ومن يخاف من شدة البرد، وكذلك في الليلة المظلمة إذا كان فيها وحل. فهؤلاء يعذرون وإن تركوا الجمعة والجماعة. كذا حكاه ابن قدامة في مختصر الهداية، فإنه أبيح لهم الجمع بين الصلاتين على ما قاله الإمام أحمد بن حنبل والقاضي أبو يعلى+ اهـ(1).
((وقال الشيخ صالح بن حميد: =ومن هنا فإن الحاجة المبيحة للجمع يمكن إدراكها بالمقارنة بحاجة المسافر في سفره، والمريض في مرضه، وكذلك كل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة. فيجمع مثلاً للمطر والوحل والبرد الشديد ولا سيما في الليلة المظلمة، وتجمع الحامل، والمرضع، والمستحاضة، إذا احتجن إلى الجمع+ اهـ(2). ))
وذكر علماء الشافعية البرد الشديد في جملة الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة. قال الإمام النووي: =والبرد الشديد عذر في الليل والنهار، وشدة الحر عذر في الظهر، والثلج عذر إن بل الثوب، والريح الباردة عذر في الليل دون النهار+ اهـ(3).
بل قال فقهاء الحنابلة:
=وله الجمع لذلك ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط ونحوه؛ لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود المشقة وعدمها كالسفر+ اهـ(4).
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية(21/458،433).
(2) انظر رفع الحرج عن الشريعة الإسلامية ص208.
(3) المجموع شرح المهذب (4/88).
(4) الروض المربع شرح زاد المستنقع/ حاشية ابن قاسم (2/404).(1/16)
قال المحشي ابن قاسم على هذه العبارة: =أي فله الجمع لما تقدم من الأعذار المبيحة للجمع، ولو صلى في بيته، أو في مسجد لا يشق عليه الوصول إليه مع وجود العذر كعدم الصيام في السفر ولو لم يكن مشقة، ولأنه روي أنه"جمع في مطر وليس بين حجرته والمسجد شيء، فالمعتبر وجود المشقة في الجملة لا لكل فرد من المصلين+. اهـ
وقال شيخ الإسلام:
=وأيضًا فإنه جمع بالمدينة للمطر وهو نفسه"لم يكن يتضرر بالمطر، بل جمع لتحصيل الصلاة في الجماعة. والجمع لتحصيل الجماعة خير من التفريق والانفراد+(1).
والحاصل أن رخصة جمع الصلاتين للبرد الشديد دلت عليها الحقائق التالية:
1_ أنه ثبت أن النبي"جمع في الحضر، وهو المنزل عليه أدلة المواقيت، وهو المبين لها.
2_ أنه ثبت أن جمعه لم يكن للمطر، ولا للخوف، ولا للسفر.
3_ أن علة الجمع فيه إرادة رفع الحرج عن الأمة، والتوسعة عليهم.
4_ أن الأقوال التي قيلت في الاعتذار عن هذا الحديث كلها مخدوشة.
5_ أنه لم يرد دليل يحدد ضابطًا لهذا الحرج الذي أراد"رفعه عن الأمة.
6_ أن ابن عباس_رضي الله عنهما_بين بفعله جنس هذا الحرج في الجملة؛ فقد جمع للشغل، والخطبة؛ مستدلاً بالحديث على تصويب فعله.
7_ أن أبا هريرة صدقه ووافقه في ذلك.
8_ أن ابن عمر جمع في ليلة باردة كما احتج به أحمد.
9_ أن الإمام أحمد وأصحابه، وغيرهم استدلوا بالحديث على جواز الجمع للشغل، والمطر، والوَحَل، والبَرَد، والجليد، والبَرْد الشديد، والثلج، والريح الشديدة الباردة، والمرض، ونحو ذلك.
10. أن شيخ الإسلام قرر هذا في فتاويه.
11. أن الفقهاء أباحوا الجمع لكل عذر يبيح ترك الجمعة والجماعة وذكروا البَرْد منها.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام جمع ابن قاسم (21/452).(1/17)
12. أن وجه الاستدلال بالحديث عندهم هو: أنه رفع الحرج الحاصل بدون الخوف، والمطر، والسفر، فالحرج الحاصل بالمطر، والخوف، والسفر، ونحو ذلك أولى أن يرفع، والجمع له أولى من الجمع لغيره، فكذلك يطرد هذا الاستدلال بالحديث على جواز الجمع لرفع الحرج الحاصل من شدة البَرْد. والله أعلم.
قلت: ولعل ضابط البَرْد الذي يبيح الجمع هو: ما يلحق غالب المصلين منه تأثيرٌ على صحتهم، أو مشقة، أو ضيق، أو نحو ذلك.
إذا تقرر هذا فإن هنا أمرين يجب مراعاتهما:
الأول: أن شدة البَرْد تختلف من شخص لآخر، فقد يكون شديداً عند أحد الناس غير شديد عند الآخر، والحكم في هذا للغالب والكثرة.
الثاني: قد يتساهل بعض الناس فيجمع باستمرار، أو يجمع لأدنى برد، والواجب عليه أن يعلم أن الجمع المذكور رخصة عارضة للحاجة توجد بوجود سببها وتزول بزواله.
هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(1/18)