الرد على كتابات
عبدالله بن يوسف الجديع
في كتبه الأخيرة
لعدد من أهل العلم
من موقع
ملتقى أهل الحديث
www.ahlalhdeeth.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمة الإسلام والسنة ،وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،وبعد
فقد ظهر في الآونة الأخيرة عدد من كتابات عبدالله بن يوسف الجديع تتضمن تحريفا لكلام أهل العلم ونشرا لمسائل شاذة بتمويهات فاسدة .
ولما كان التحذير من مثل هذه الشذوذات أمرا شرعيا مطلوبا ، وقد اجتمع لنا بحمد الله تعالى عدد من الردود على كتابات الجديع المتأخرة ، فأحببنا نشرها بيانا وتوضيحا وتحذيرا
ونسأل الله أن ينفع بها المسلمين في كل مكان.
كما نسال الله أن يهدي عبدالله الجديع ويرده للحق والصواب.
إقامة الحجة
على تارك المحجة
رد على كتاب «اللحية دراسة حديثية فقهية» لأبي محمد عبدالله الجديع
تأليف
أبي محمد عبدالوهاب بن عبدالعزيز الزيد
تقديم فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الراجحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد خرجت كتب ثلاثة لأبي محمد عبدالله بن يوسف الجديع، أحدها كتاب «اللحية، دراسة حديثية فقهية» نهج فيها المؤلف منهجاً ليس موافقاً لمنهج أهل السنة والحديث في أصول العلم وتحرير المسائل ودراستها والحكم عليها.
ولماّ اطلعت على الكتاب المذكور ودراسته دراسة علمية رأيت الخلل المذكور فأرسلت بذلك رسالة لأبي محمد عبدالله الجديع أبنت له فيها بكل صراحة ما وقع فيه من الخلل، وختمتها بنصيحة أخوية له رجاء الانتفاع والرجوع عمّا وقع فيه لأسباب ذكرتها.
ثم أجابني برسالة مختصرة رأيت فيها أنه مستمر على ما هو عليه وعدم الرجوع عما وقع منه، فرأيت نشر هذا الردّ لطلبة العلم كون كتابه المذكور قد انتشر وعمت به البلوى بين طلبة العلم والمغترين به.
وقد قَّسمت هذا الردّ إلى ثلاثة أقسام، وهي:(1/1)
القسم الأول: حكم مسألة اللحية في الشريعة الإسلامية.
القسم الثاني: الخلل في مقدمة الجديع لكتابه اللحية.
القسم الثالث: الردِّ على كتاب اللحية (وهي الرسالة التي أرسلتها إليه).
هذا وأسأل الله لي ولأبي محمد الجديع الهداية والتوفيق لما يحبه ويرضاه إنه سميع مجيب قريب، ولا زلت في الأمل من الله رجوع أبي محمد للحق والصواب وعدم مخالفة الجماعة والإجماع. والحمد لله أولاً وآخراً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
أبو محمد عبدالوهاب بن عبدالعزيز الزيد
الرياض 23/11/1425هـ
القسم الأول: حكم مسألة اللحية في الشريعة الإسلامية:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره. وبعد:
فإن «مسألة اللحية» من المسائل التي ذكرها أهل العلم في كتبهم وحرروها في مصنفات مستقلة، ذلك إنها إحدى المسائل الشرعية التي ورد بذكرها الكتاب والسنة، وجرى عليها العمل عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا في ذلك، وكذلك جرى العمل عند التابعين رحمة الله عليهم كما جاء في الكتاب والسنة وعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إلا أنه -وبعد القرون المفضلة- يأتي من قد يخفى عليه نص أو عمل، أو خلل في تحرير المسألة، شأنها شأن كثير من المسائل العلمية عند أهل العلم مما يقع من الاختلاف في الأحكام بسبب أنواع الحجج لدى كل مذهب أو عالم. وهذا ما وقع عند بعض أصحاب المذاهب الأربعة المتأخرين منهم.(1/2)
وأذكر في هذا القسم الأول جملة القول مما صح من الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم-، مُتْبِعاً ذلك بأقوال الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم-، ومنه يتبين حكم «اللحية» وأنه يحرم حلقها(1)، وأما الأخذ منها ففي الحج أو العمرة فيما دون القبضة.
وأقسم هذا القسم لستة مباحث:
المبحث الأول: ما جاء في الكتاب:
قال تعالى: " ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ" [الحج: 29].
فسرها الصحابي الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-، فقال: التفث: الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب،والأظفار واللحية.
أخرجه ابن أبي شيبة (3/15673) قال: نا ابن نمير عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عباس به. وإسناده صحيح(2).
وكذا روي عن مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي -رحمهما الله تعالى-. (تفسير الطبري 10/149- 150).
قلت: وهذا الأخذ الوارد في الحج مطلقاً قيَّده عمل الصحابة -كما سيأتي- بأنه أخذ ما زاد عن القبضة.
المبحث الثاني: ما جاء في السُّنَّة النبوية:
1- عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهكوا الشوارب، وأعفوا اللحى».
أخرجه البخاري (10/5893)، ومسلم (2/259)، وغيرهما.
ورواه الإمام مالك (2/947) عن أبي بكر بن نافع عن أبيه نافع عن عبدالله بن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى».
__________
(1) ... ولذلك أدخلها الإمام الذهبي في كتابه الكبائر في فصل جامع لما يحتمل أنه من الكبائر (ص:223). وأورد فيه حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
(2) ... وأخرجه ابن جرير (10/149) حدثنا حميد بن مسعدة قال: ثنا هشيم أخبرنا عبدالملك به، وفيه «والأخذ من العارضين». وابن نمير مقدم في عبدالملك من هشيم. ورواية هشيم هذه قال عنها ابن عبدالبر: ولم أجد أخذ العارضين إلا في هذا الخبر (التمهيد 21/67- 68).(1/3)
وأخرجه من طريقه الإمام مسلم (2/259)، وأبو داود (4/4196)، والترمذي (4/2764) وغيرهم.
وأخرج البخاري (10/5892)، ومسلم (2/259) من طريق عمر بن محمد بن زيد عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب».
وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه.
2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس». أخرجه مسلم (2/260) وغيره.
3- عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: «كنا(1) نُعفي السبال إلا في حج أو عمرة».
أخرجه أبو داود (4/4198): حدثنا ابن نفيل حدثنا زهير: قرأت على عبدالملك بن أبي سليمان، وقرأه عبدالملك على أبي الزبير، ورواه أبو الزبير عن جابر به. وإسناده صحيح.
وفي لفظ أشعث عن أبي الزبير: «كنا نؤمر أن نوفي السبال، ونأخذ من الشارب». (مصنف ابن أبي شيبة 5/25504).
وفي لفظ قتادة قال: قال جابر: «لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة». (مصنف ابن أبي شيبة 5/25487).
فهذه ثلاثة أحاديث صحيحة تتضمن الأمر بإعفاء اللحية، ديناً وشريعة منه صلى الله عليه وسلم مخالفة للمجوس. وعدم الأخذ منها إلا في حج أو عمرة فيما دون القبضة كما حكاه جابر -رضي الله عنه- عن الصحابة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما فعله ابن عمر -رضي الله عنهما-.
فهذا الحكم هو الوارد في الكتاب والسنة.
المبحث الثالث: ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه -السابق ذكره-، فما ذكره إلا وهو يستدل به في فعله هو وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن النبوة وبعدها.
__________
(1) ... قال ابن حجر: قول الصحابي: كنا نفعل كذا، فله حكم الرفع. (النزهة 138).(1/4)
2- ما ثبت عن عبدالله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- بعد أن روى حديثه المتقدم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نافع مولى ابن عمر: وكان ابن عمر إذا حجَّ أو اعتمر، قبض على لحيته فما فضل أخذه. (صحيح البخاري/تقدم تخريجه).
3- ما حكاه عطاء بن أبي رباح عن جملة الصحابة رضوان الله عليهم:
قال: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمر.
وإسناده صحيح. (ابن أبي شيبة 5/25482).
قلت: وما أطلقه عطاء في إعفاء اللحية عن الصحابة -رضي الله عنهم- يفسره ما تقدم من فعل ابن عمر -رضي الله عنهما- من أن الأخذ فيما زاد على القبضة.
قلت: هذا هو ما صح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم أخذ شيء من اللحية إلا في حج أو عمرة فيما زاد على القبضة. لم يصح عن أحد منهم غير هذا(1)، ولم يختلفوا فيه -رضوان الله عليهم-.
المبحث الرابع: ما جاء عن التابعين -رحمة الله عليهم-:
نقل عنهم الإجماع من فعلهم.
ما حكاه عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى-:
قال عطاء: كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة. (تقدم تخريجه).
قلت: وعطاء أدرك عدداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملة كبيرة من كبار التابعين -رحمهم الله تعالى-.
وأما ما حُكيَ عن القاسم بن محمد -رحمه الله تعالى-:
قال أبو بكر بن أبي شيبة (5/25485) عن أبي عامر العقدي عن أفلح قال: كان القاسم إذا حلق رأسه أخذ من لحيته وشاربه. إسناده صحيح.
قلت: وفعل القاسم هذا مطلق ويقيده ما تقدم حكايته عن كبار التابعين، والقاسم منهم أنه في الحج والعمرة. فيحمل المطلق على المقيد هنا لثلاثة أمور:
__________
(1) ... وأما ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- من الأخذ المطلق فيما تحت القبضة دون التقييد بالحج أو العمرة، فلا يصح إسناده إلى أبي هريرة، وهو أثر ضعيف -سيأتي الكلام عليه (ص44-45) في القسم الثالث.(1/5)
الأول: أن التقييد بالحج والعمرة هو المنقول عن التابعين ولم ينقل عنهم خلافه، والقاسم منهم.
الثاني: أن التقييد هو المعروف في السنة والأثر، فإذا ورد إطلاق فيقيد به، وإن كان المنقول بخلاف الأصل المعروف فإنه ينص عليه ليتميز، وهنا لم ينص على شيء.
الثالث: إن النقل عن القاسم هو نقل فعل لا نقل قول فلا يتبين منه الإطلاق صراحة.
قلت: هذا أصح ما روي عن التابعين، وكما ترى النقل عن جملتهم تقييد الأخذ بالحج والعمرة اقتداء بالأثر من السنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما كيفية الأخذ فأطلقت هنا، وفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- كما تقدم في الحج أو العمرة مقيد فيما زاد على القبضة، فاقتداء التابعين بما جاوز القبضة كاقتدائهم بالحج أو العمرة.
المبحث الخامس: ما جاء عن الأئمة الأربعة(1):
1- ما جاء عن الإمام أبي حنيفة -رحمه الله-:
قال محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- رحمهما الله:
أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أنه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة.
قال محمد: وبه نأخذ، وهو قول أبي حنيفة. (الآثار 900).
قلت: فهذا مذهب الإمام أبي حنيفة صريح واضح في احتجاجه بفعل ابن عمر -رضي الله عنهما-.
وهو المعتمد في المذهب، قال ابن عابدين:
__________
(1) ... أذكر هنا نصوص الأئمة الأربعة -بعد ذكر الأحاديث ومذاهب الصحابة والتابعين-، وهم متفقون على الاحتجاج بالأحاديث وتقييد ابن عمر -رضي الله عنهما- لها، وأما ما حدث من خلاف من بعض أصحاب الأئمة الأربعة، فإنما حدث متأخراً لورود بعض الأدلة الضعيفة، ومنها حديث عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي × كان يأخذ من لحيته، من عرضها وطولها» وهو حديث ضعيف أخرجه الترمذي (4/2762)، وقال: حديث غريب ونقل عن البخاري إنكاره هذا الحديث. وأما المعتمد عند أئمة المذاهب فهو الموافق لنصوص أئمتهم -الآتي ذكرها-.(1/6)
الأخذ من اللحية دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد. (الحاشية 2/417).
2- ما جاء عن الإمام مالك بن أنس (93- 179هـ) -رحمه الله-:
قول الإمام مالك بن أنس في المسألة هي قول من تقدمه من الصحابة والتابعين، وهو قول إخوانه الأئمة الثلاثة -رحمهم الله تعالى-.
فقد نص في موطأه، فقال:
باب السُّنَّة في الشعر
روى (2/722) عن أبي بكر بن نافع عن أبيه نافع عن عبدالله بن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى». اهـ.
هكذا بوًّب مالك في شأن اللحية، وأن السنة فيها الأمر بإعفاءها كما ورد في النص.
ولما جاء ذكر التقصير للشعر في (كتاب الحج) أورد فعل ابن عمر -رضي الله عنهما- من إجازة الأخذ منها في الحج أو العمرة.
قال في كتاب الحج:
باب التقصير
قال (1/318): عن نافع: أن عبدالله بن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً حتى يحج.
قال مالك: ليس ذلك على الناس.
ثم روى مالك (1/318): عن نافع أن عبدالله بن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه.
قلت: هذا رأي الإمام مالك أن حكم اللحية على الإطلاق هو الأمر بإعفاءها كما رواه في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنه لا يقيد هذا الإطلاق إلا فعل ابن عمر في الحج أو العمرة من الأخذ منها.
ويؤكد هذا ما نقله الشافعي عنه من سماعه (الأم 7/254 -كتاب اختلاف الإمام مالك والشافعي) قوله:
قال مالك: ليس يضيق أن يأخذ الرجل من رأسه قبل أن يحج. اهـ.
فنقل الشافعي عن مالك توسعته لمن يريد الحج أو العمرة بعد رمضان أن يأخذ من رأسه، ولم يجز ذلك في اللحية إلا في الحج أو العمرة.
فالتحديد الوارد عن مالك في هذا الباب: هو ما ورد عن الأئمة الثلاثة من أنه لا يؤخذ من اللحية إلا من طولها في الحج أو العمرة.
وأيضاً هي رواية صريحة ثابتة عن الإمام مالك. (حاشية العدوي 2/580).(1/7)
قلت: فالإمام مالك لم يجز الأخذ إلا من الطول وفي الحج أو العمرة.
والإمام مالك كان يستحب الأخذ ولم يوجبه (المدونة 2/430).
ولهذا أجاز الأخذ من اللحية من طولها إذا طالت جداً كما في رواية ابن القاسم. (التمهيد 24/145).
قلت: وهو المعتمد في المذهب، قال الحطاب المالكي:
وحلق اللحية لا يجوز، وكذلك الشارب، وهو مُثْلة وبدعة، يؤدب من حلق لحيته أو شاربه، إلا أن يريد الإحرام للحج ويخشى طول شاربه. (مواهب الجليل 1/216).
3- ما جاء عن الإمام الشافعي (150- 204هـ) -رحمه الله-:
مذهب الشافعي في اللحية هو مذهب من قبله من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة -كما نقل الإجماع عن الصحابة والتابعين-، وقد احتج الشافعي بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وفعله، فمنع الأخذ من اللحية، إلا في الحج أو العمرة كصنيع ابن عمر -رضي الله عنهما-.
أما النص في موضوع حلق اللحية:
فقد نص الشافعي على تحريم حلق اللحية. (نقله ابن الرفعة الشافعي عن الأم).
وأيضاً فإن الشافعي في كتابه «اختلاف الإمام مالك والشافعي» قد قرَّر ذلك:
قال الربيع (7/253): قال الشافعي:
[1] أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئاً حتى يحج.
قال مالك: ليس يضيق أن يأخذ الرجل من رأسه قبل أن يحج.
[2] قال الشافعي: وأخبرنا مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه.
[قال الربيع]: قلت: فإنا نقول(1) : ليس على أحد الأخذ من لحيته وشاربه، إنما النسك في الرأس؟
__________
(1) ... هذا الضمير من الربيع تلميذ الشافعي لكونه قَبْلُ كان مالكياً، وهذا الكتاب كله ألفه الشافعي لتلميذه الربيع بطلب منه ليبين له ما وافق فيه مالك الأثر أو عمل أهل المدينة وغيره.
... وهذا الكتاب من أنفس كتب الشافعي. وأيضاً فإن هذا الكتاب مما لا يستغني عنه من يطالع الموطأ للإمام مالك.(1/8)
قال الشافعي: وهذا مما تركتم عليه بغير رواية عن غيره عندكم علمتها. اهـ.
قلت: الإمام مالك -في قوله عقب ذكره لفعل ابن عمر- وسَّع في الأخذ من الرأس، ولم يوسع في اللحية، وهذا موافق لما سبق ذكره عن الإمام مالك.
والشافعي هنا أقرَّ مالكاً على رأيه ولم يعارضه كما يفعل في كتابه هذا الذي هو معارضة مالك في آراءه التي ذكرها في الموطأ وموافقته له في بعضها.
فالشافعي يوافق مالكاً في عدم الأخذ من اللحية إلا في الحج أو العمرة.
ثم يؤكد الشافعي رأي مالك في تقليده ذلك عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنه يوافق عليه، وأنه لم يعارض مالكاً على ذلك أحد من أهل العلم.
ومن هنا يظهر رأي الشافعي بوضوح.
وأما في النسك فأجاز الأخذ.
قال الشافعي:
وأحب إلي لو أخذ من لحيته وشاربه، حتى يضع من شعره شيئاً لله، وإن لم يفعل فلا شيء عليه، لأن النسك إنما هو في الرأس لا في اللحية. (الأم2/2032).
قلت: وما تقدم هو المعتمد في المذهب، قال الحليمي الشافعي:
لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه، وإن كان له أن يحلق سباله، لأن لحلقه فائدة، وهي أن لا يعلق به من دسم الطعام ورائحته ما يكره، بخلاف حلق اللحية فإنه هُجنة وشهرة وتشبه بالنساء، فهو كجبِّ الذكر. (الاعلام لابن الملقن 1/711).
4- ما جاء عن الإمام أحمد بن حنبل (164- 241هـ):
والإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- مذهبه مذهب من تقدمه من الصحابة والتابعين كما سبق النقل عنهم، وكما هو مذهب إخوانه الأئمة الثلاثة. وقد قيّد الإمام أحمد ما جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الأمر بإعفاء اللحية بما فعله ابن عمر من الأخذ من طول اللحية في الحج أو العمرة فيما زاد على القبضة. وعلى ذلك فتواه ونصوصه.
قال الخلال: أخبرني حرب قال:
سئل أحمد عن الأخذ من اللحية؟
قال: إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد عن القبضة.
وكأنه ذهب إليه.
قلت له: ما الإعفاء؟
قال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/9)
قال: كأن هذا عنده الإعفاء.
وقال الخلال: أخبرني محمد بن أبي هارون أن إسحاق حدثهم قال:
سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه؟
قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة.
قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم «أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى؟».
قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه.
ورأيت أبا عبدالله يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه. (كتاب الترجل من كتاب الجامع 113- 114).
قلت: إسحاق المذكور هو إسحاق بن هانئ صاحب المسائل المطبوعة وما رواه الخلال هنا هو الرواية المستقيمة عن الإمام أحمد وهي الموافقة لرواية حرب الكرماني -السابقة-، وقد ورد في مسائل إسحاق المطبوعة ما نصه:
قال إسحاق بن هانئ:
سألت أبا عبدالله عن الرجل يأخذ من عارضيه؟
قال: يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة.
قلت: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم «أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى؟».
قال: يأخذ من طولها، ومن تحت حلقه.
ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه، ومن تحت حلقه. (مسائل ابن هانئ 2/151).
قلت: فما في المطبوعة خطأ، إما أن يكون من الطابع أو من الناسخ للمخطوط، وخطأ المطبوع لأمرين:
الأول: إن رواية إسحاق -رواية الخلال- هي الموافقة لرواية حرب عن الإمام أحمد.
الثاني: إن ما في المطبوع (ورأيت أبا عبدالله يأخذ من عارضيه...) مخالف لأول السؤال ردُّ الإمام أحمد للأخذ من العارضين بقوله: (يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة).
وأيضاً مخالف لآخر السؤال قول الإمام أحمد: (يأخذ من طولها، ومن تحت ذقنه).
فينبغي أن يكون الصواب هو: (ورأيت أبا عبدالله يأخذ من طولها، ومن تحت ذقنه).
تنبيه: وروى الخلال (114 (94):
أخبرني عبيدالله بن حنبل قال: حدثني أبي قال: قال أبو عبدالله: ويأخذ من عارضيه، ولا يأخذ من الطول، وكان ابن عمر يأخذ من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، ولا بأس بذلك. اهـ.(1/10)
قلت: وهذه الرواية مقلوبة، قلب المعنى على أحمد -رحمه الله- وعلى ابن عمر -رضي الله عنهما- خلافاً للصحيح المشهور عنهما- وكان الأولى أن يذكر: قال أبو عبدالله: ويأخذ من الطول، ولا يأخذ من عارضيه، وكان ابن عمر يأخذ من الطول إذا حلق رأسه في حج أو عمرة، ولا بأس بذلك).
وعبيدالله بن إسحاق ليس بمشهور في الرواية، ولم أجد له ترجمة تثبت ضبطه وشهرته بالعلم كحال إسحاق بن هانئ وحرب وغيرهما، وإن كان هو يروي عن أبيه.
قلت: وما تقدم هو المعتمد في المذهب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما إعفاء اللحية فإنه يترك، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره، نص عليه، كما تقدم عن ابن عمر، وكذلك أخذ ما تطاير منها. (شرح العمدة 1/182، 236).
وقال شيخ الإسلام -أيضاً-: ويحرم حلق اللحية. (الفروع 2/129).
وقال أيضاً: فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها فأشد، لأنه من المثلة المنهي عنها. (شرح العمدة 1/236).
المبحث السادس: الإجماعات في تحريم حلق اللحية:
كما تقدم فإن مذهب الأئمة الأربعة في حكم اللحية هو الاتباع لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر وغيره. من الأمر بإعفاءها وأنه يحرم حلقها لذلك، ولم يستثنوا من ذلك إلا الأخذ من طولها لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو راوي الحديث حيث كان يفعل ذلك في الحج أو العمرة.
فجميع الأئمة الأربعة نصوا على الاقتداء في ذلك بفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- بحيث لا يفهم منه جواز الأخذ المطلق الغير مقيد بالحج أو العمرة وبما زاد على القبضة.
وعلى هذا نقل عنهم الإجماع على ما تقدم. وكذا عن غيرهم.
1- قال ابن حزم: وأما فرض قص الشارب وإعفاء اللحية: ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. (المحلى 2/220).
2- وقال في مراتب الإجماع: اتفقوا أن حلق جميع اللحية مُثْلة لا تجوز. (مراتب الإجماع 182).(1/11)
3- وقال أبو الحسن ابن القطان -المالكي: واتفقوا أن حلق اللحية مُثْلَة لا تجوز. (الإقناع في مسائل الإجماع 2/3953).
4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي: فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها فأشدّ، لأنه من المثلة المنهي عنها. (شرح العمدة 1/236).
5- وقال ابن عابدين الحنفي: الأخذ من اللحية دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يحبه أحد. (تنقيح الفتاوى الحامدية 1/329).
6- قال الشيخ علي محفوظ: وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها. (الإبداع في مضار الابتداع 409).
وألف غير واحد من أهل العلم رسائل في حرمة حلق اللحية، ومنهم شيخنا سماحة المفتي/عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى- رسالة في (حكم إعفاء اللحية) أبان فيها السنة بالأحاديث الصحيحة وأقوال أهل العلم، وردّ شبه بعض المنتسبين للعلم الشرعي.
القسم الثاني: الخلل في مقدمة الجديع لكتابه اللحية:
وقد ابتدأ الجديع -عفا الله عنا وعنه- كتابه بمقدمة ذكر فيها مقدمات أساسية سار عليها في كتابه.
وهذه المقدمات الأساسية التي قدَّم بها فيها نظر من وجهين:
الوجه الأول: الخلل من جهة التأصيل العلمي:
ذكر الشيخ الجديع أصولاً علمية سار عليها في كتابه، إلا أن أصالتها العلمية عند أهل العلم خلاف ما ذكره، ومن ذلك:
1- أصول الأدلة الشرعية:
قوله: في تحريره لمسألة هذا الكتاب (ص9): (منطلقاً من مسلَّمات الأصول).
وقوله (ص11): (ثالثاً: إبراز الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب العزيز والسنن النبوية، لتكون دائماً عند من يؤمن بالله واليوم الآخر مرجعية الأحكام، وإليها تستند آراء المجتهدين والحكام، إذ هي الحكم الفصل فيما تنازع فيه الناس).
قلت: هكذا أصَّل الجديع أن الأدلة الشرعية هي الكتاب والسنة فقط وهما مرجعية الأحكام، وإليها تستند آراء المجتهدين والحكام فقط.(1/12)
وما أصَّله الجديع هو خلاف ما عليه أهل العلم من أهل السنة والجماعة قاطبة -خلافاً لبعض الفرق التي لا تُذكر في الاحتجاج(1)- وهو أن أصول الأدلة الشرعية ثلاثة:
الأول: الكتاب، والثاني: السُّنة، والثالث: الإجماع(2).
ولكن لكون الجديع لا يرى حجية الإجماع ومنه حجية إجماع الصحابة فإنه لم يجعله من الأدلة الشرعية عنده. وسترى أقواله في هذا الأمر -كما سيأتي-(3)
2- الاجتهاد:
قوله: (أولاً: تجرئة أهل العلم على العمل على إعادة النظر في كل ما يرجع إلى الاجتهاد في تحرير حكمه، وعدم الخضوع للاجتهاد السابق كحكم مُسلَّم، فذلك إنما بُني على نظر، ولا يخلو من أن يكون متأثراً بزمان ومكان وحال من صار إليه) اهـ.
قلت: إن دعوة الجديع أهل العلم إعادة النظر في كل ما يرجع الاجتهاد في تحرير حكمه... دعوة صحيحة لا شك فيها.
ولكن ما هي المسائل التي ترجع إلى الاجتهاد الذي يجب إعادة النظر فيه؟
إن المعلوم من مذاهب أهل السنة والجماعة هو النظر في المسائل التي لم يرد فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع. أما ما ورد فيه نص أو إجماع فلا يرجع إلى الاجتهاد فيها.
__________
(1) ... وسيأتي بيان ذلك في ص: (23) من القسم الثالث.
(2) ... وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل في القسم الثالث في (ص22- 29).
(3) ... ينظر: (ص22- 23) من القسم الثالث، وكذا (ص36).(1/13)
أما أصحاب المدرسة العقلية -التي هي إمتداد للمدرسة الاعتزالية- فكل المسائل عندهم خاضعة للاجتهاد -بل وفق أصولهم الاعتزالية الكلامية-، إلا أنهم -بل بعضهم- لا يتجرئون على الكتاب والسنة. - على طريقةٍ خاصةٍ في تأويل النصوص- أما ما عداها فلا يأبئون به، ومن ذلك الإجماع، ومذاهب الصحابة، والمصالح المرسلة وغير ذلك من الأصول لدى أهل السنة والجماعة(1).
فإن كان الجديع يريد ما عليه أهل السنة والجماعة فدعوته صحيحة، أما إذا كان يريد الآخر وهو الاجتهاد وفق مذهب المدرسة العقلية فلا يوافق عليه، وهو خلاف مذهب أهل السنة والجماعة.
ومن هنا كانت منطلقات الجديع في كتبه الثلاثة ومنها هذا الكتاب، غير منطلقات أهل السنة والجماعة، فمسألة «اللحية» فيها النصوص واردة وصريحة في الأمر ولا صارف لها عن الوجوب، وكذلك ورد الإجماع على ذلك من الصحابة والتابعين كما نقل عنهم -وسيأتي بسط ذلك-، ولكن لم يسع الجديع ذلك، فسلك المسلك المذكور فأوَّل النصوص، وردَّ الإجماع، وكذلك لم يقنع بما نص عليه الأئمة الأربعة(2) - فجميعهم نصوا على العمل بما ورد عن الصحابي الجليل عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- كما سيأتي بيانه.
__________
(1) ... ولذا تجد فتاوى واجتهادات معاصرة من قبل علماء المدرسة العقلية فيها تجاوزات شرعية ومخالفات صريحة للنصوص والإجماع هي من هذا القبيل. لذا أنصح طالب العلم قبل أن ينظر في رأي أو اجتهاد لأحد العلماء أو طلبة العلم أن يعرف منهج هذا العالم، هل هو على منهج أهل السنة والجماعة أو على منهج المدرسة العقلية -التي كثر أصحابها- أو أي مدرسة أخرى تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
(2) ... بل إن الشافعي -رحمه الله- نصَّ على إقرار مذهب مالك في اللحية، وأن العلماء قد وافقوا مالكاً عليه. (اختلاف مالك والشافعي ص: 254 من كتاب «الأم» الجزء 7). وهذا النص المهم في المسألة على نفاسته لم يقف عليه الجديع، أو قد يكون وقف عليه وتركه.(1/14)
وأيضاً لو تجاوزنا كل ما تقدم، فهل يخفى على الجديع أن الاجتهاد إنما يكون فيما كان فيه اختلاف دون ما كان مجمعاً عليه لا اختلاف فيه -كهذه المسألة- وإنما حدث الاختلاف على الأئمة الأربعة من بعض أصحابهم المتأخرين نظراً لورود بعض الدلائل الظنية -كما سيأتي بيان ذلك- فهل خفي عليه هذا فاجتهد فيما لا اجتهاد فيه.
ولذا تجد أن المعتمد في كل مذهب هو التحريم لحلق اللحية.
قلت: وبعد بيان ما هي المسائل التي يرجع فيها للاجتهاد وفق أصول أهل السنة. فما أدري ما هي التجرئة التي يريد الجديع حث أهل العلم عليها!!
الوجه الثاني: الخلل من جهة تطبيق الجديع لما ذكره في مقدمته وحقيقة ذلك في كتابه:
قوله: (رابعاً: الإعلام بضرورة تحرير السَّنة، دفعاً للتعلق في الآراء بما لا أصل له في الوحي، أو بظن ضعيف مرجوح لا يحسن أن يُبنى عليه رأي، وتحرير النقل عن علماء الأمة، فكم من رأي حُكي عن إمام على غير وجهه؟
وكم من إجماع ادعي فلا تجد إلا ما يدل على نقضه؟).
قلت: هذا الكلام ما أَحْسَنه وأَجْمَله، وحُسْنُه يكمن في جودة الأسلوب وشدِّة الخطب، وقوة الحجَّة...، وقُلْ ما شئت.
ولكن عندما تقرأ الكتاب وتتبصّر المسألة وتبحث عن التحرير المذكور...، بمختلف أنواعه فإنك لا تجد في الحقيقة سوى الوهم...، فتجد إخفاء لحقائق علمية، وخللاً في التأصيل بمخالفة أصول أهل العلم، وتناقظات علمية ظاهرة، وتدليس وتزوير(1)، وتصحيح لما ليس بصحيح،.. وقد ذكرت بعض ذلك في هذا الردِّ معنوناً بما تقدم لتظهر حقيقة هذا الكتاب وعلمية مؤلفه عفا الله عنا وعنه.
القسم الثالث: الرد على كتاب اللحية
(وهي الرسالة التي أرسلتها للجديع)
بتاريخ 9/10/1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتضى أثره. وبعد:
__________
(1) ... ولست هنا أذكر الكلام جُزافاً، ولكن هذه حقيقة هذا الكتاب كما سترى.(1/15)
فأكتب إليكم هذه الرسالة، وأحب أن أطمئن على صحتك وصحة أولادك بارك الله فيهم أجمعين، وأسأل الله لكم العفو والعافية والهداية. آمين.
وأما نحن فبصحة وعافية وخير من الله العلي القدير، فنحمده تعالى ونشكره ونسأله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين الشاكرين إنه سميع قريب مجيب. وبعد:
فلقد ساءني جداً ما رأيته من الكتب التي نزلت في السوق من تأليفكم -كما ساءت إخواننا من أهل العلم، وممن يعرفونكم على الخصوص كالشيخ خالد الأنصاري، والشيخ سعد السعدان وغيرهما من المحبين لكم والداعين لكم بالتوفيق والسداد- وذلك أنني تفحصتها وقرأتها قراءةً متأنية، ثم أعدت الكَّرةَ فوجدت الأمر عظيماً. رأيت تدليساً وتزويراً و... أموراً لم أكن أحسب يوماً أنها تصدر منك، فاسترجعت، وراجعت الأمر كثيراً، فبدا لي أن أدرس الكتاب دراسةً علميةً وأكتب إليك بذلك رجاء أن تنتفع بذلك، وما كتابتي بذلك إليك إلا محبةً لك وتقديراً لسابقتك ومكانك في العلم، وحرصك على ذلك، إلا أنه ليس بمعصوم من الخطأ أحد غير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ولذا كُلٌّ يؤخذ من قوله ويُرَّدُّ غيره، وتعلم أن زلة العالم لها أثر على عوام المسلمين. وأهل الفقه في الدين.
فأرجو أن تقع منك هذه الكتابة الموقع الذي أرجوه ويرجوه غيري.
واسمح لي في العبارات التي ستراها والعناوين التي تعلوها، فإن ذلك هو حقيقة هذا الكتاب الأول الذي قرأته ودرسته واستخرجت ما فيه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
«مدخل»
وقبل الدخول في تفاصيل هذا الكتاب أنبه على قضية منهجية كبرى بنيت عليها كتابك وقررتها في كتابك في الأصول «تيسير أصول الفقه»، وهي «حجية الإجماع».
فلقد قلت -بعد ذكرك لتعريف الاجماع...، واستحالة الإحاطة بآراء جميع المجتهدين-:
فالواقع يُحيل وقوع ذلك، وتاريخ هذه الأمة معلوم، ...(1/16)
ثم نقلت قول الإمام أحمد: «ما يدعي الرجل فيه الاجماع هذا الكذبُ، من ادعى الإجماع فهو كذب، لعل الناس قد اختلفوا». (تيسير أصول الفقه 160- 161).
ذكرت هذا في «الإجماع الصريح».
ثم ذكرت «الإجماع السكوتي»، وذكرت فيه تخصيص طائفة من الفقهاء هذا النوع من الإجماع بالصحابة دون من بعدهم... وأحلت الكلام فيه إلى (مذهب الصحابي).
ثم قلت في خاتمته: فهذا الإجماع السكوتي ما هو في الحقيقة إلا رأي جماعة من الفقهاء محصورة بعدد يسير محدود، وما كان رأياً يُحكى عن العشرة والعشرين لا يصلح أن يكون ديناً يُحجر عن الأمة خلافه، ويكون حجة ملزمة للناس إلى يوم القيامة (164- 166).
فأبطلت الاحتجاج به.
وفي (مذهب الصحابي):
قلتَ: خلاصة القول في «حجية مذهب الصحابي»: أعلاه قوة ما كان من قبيل «الإجماع السكوتي» وتبين في الإجماع أنه ليس بحجة، فما كان دونه من مذاهب الصحابة أولى أن لا يكون حجة...(219).
وذكرت قولاً للشافعي وقولاً لأحمد بن حنبل وكلاهما ليسا مرادان في باب الإجماع كما زعمت، وإنما ذكرتها لئلا تخلي الباب من ذكرهما؛ بينما أصل الشافعي في الباب خلاف ما ذكرته، وكذلك أحمد، بل صرح أصحابهما بذلك كما سيأتي.
فأقول: لقد ارتكبت جرماً عظيماً، خطيراً على العلم والدين، وهو تبنيك إنكار «حجية الإجماع» -حسب تفسيرك السابق له- فخرجت بذلك عن «أصول» أهل السنة والجماعة، وتابعت أهل البدعة والضلالة، وذلك أن القائل بعدم «حجية الإجماع» مطلقاً هو النظّام المعتزلي والشيعة، وبعض الخوارج -كما سيأتي بيانه- فهؤلاء هم أئمتك في هذا الأصل العظيم الذي أجمع على «حجيته» أهل السنة والجماعة، ولم ينكره سوى هؤلاء الضلال.
وإن هذا النظّام -وهو منكر حجية الإجماع- هو الذي كان يسبُّ السلف وبخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقواله في ذلك -ولا غرو في ذلك أن ينكر حجية الإجماع، ومنه حجية إجماع الصحابة-.(1/17)
فالنظّام هو الذي وقع في أبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه- متهماً إياه بالتناقض، ثم يقع في عمر الخليفة الثاني -رضي الله عنه- زاعماً أنه شك يوم الحديبية، وشك يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل رماه بأعظم من ذلك حيث عدَّه في النفر من المنافقين الذين أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة في غزوة تبوك، وأنه ضرب فاطمة -رضي الله عنها-، ومنعها الميراث، وغير ذلك، ثم وقع في عثمان الخليفة الثالث -رضي الله عنه- زاعماً أنه استأثر بالحمى، وغير ذلك، ثم تنقص عليّا الخليفة الرابع -رضي الله عنه- لماّ قضى برأيه، وقال: من هو حتى يقضي برأيه(1).
وأرى من المهم أن أذكر لك نصوص الأئمة الأربعة في «حجية الإجماع» وخصوصاً إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم-.
«الإجماع»
الإجماع هو الأصل الثالث من أصول أهل العلم بعد الكتاب والسنة، ولقد اتفق أهل العلم من أهل السنة على «حجية الإجماع» ونصوا عليه في كتبهم، ولم ينكر هذا الأصل سوى بعض المبتدعة وأهل الضلال كالنظام -أحد أئمة المعتزلة-، والإمامية، وبعض الخوارج.
ولئلا أطيل الكلام هنا فأنقل فقط أقوال الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم- في الإجماع وبالخصوص إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم(2):
قول الإمام أبي حنيفة (80- 150هـ):
__________
(1) ... ينظر ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (20- 23)، والشهرستاني في «الفرق بين الفرق» (147- 149)، وابن حزم في «الملل» (1/72- 74).
(2) ... المؤلف أنكر حجية الإجماع، ومنه أنكر حجية إجماع الصحابة، وترى نصوص الأئمة في الإجماع على إجماع الصحابة إذا اتفقوا، وإذا اختلفوا لم يتجاوزوا أقوالهم ومذاهبهم، بل يتخيروا منها ولا يتجاوزوها.(1/18)
قال يحيى بن معين: حدثنا عبيد بن أبي قرة قال: سمعت يحيى بن ضريس يقول: شهدتُ سفيان، وأتاه رجل فقال: ما تَنْقِم على أبي حنيفة؟ قال: وماله؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم أجد في كتاب الله ولا سنةٍ آخذ بقول أصحابه، آخُذُ بقول من شئتْ منهم، وأدعُ قول من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا ما انتهى الأمر -أو جاء الأمر- إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد بن المسيب -وعدّد رجالاً- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا.
قال: فسكت سفيان طويلاً، ثم قال -كلمات برأيه ما بقي أحد في المجلس إلا كتب-:
نسمع التشديد من الحديث، فنخافه، ونسمع اللّين، فنرجوه، لا نحاسب الأحياء، ولا نقضي على الأموات، نسلِّم ما سمعنا، ونكل ما لم نعلم إلى عالمه، ونتهم رأينا لرأيهم. (تاريخ يحيى بن معين، رواية الدوري 4/63- 64 رقم3163).
وقال أبو حنيفة: إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا، وإذا أجمع التابعون زاحمناهم. (إرشاد الفحول 318).
وقول الإمام مالك بن أنس (93- 179هـ):
قال الإمام مالك -وذُكر له الموطأ-:
فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة، والتابعين، ورأيي وقد تكلمت برأيي، وعلى الاجتهاد، وعلى ما أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره (ترتيب المدارك 2/73).
وقال أبو الحسن القصّار المالكي (397هـ):
إن مذهب مالك -رحمه الله- وسائر العلماء القولُ بإجماع الأمة. (المقدمة في الأصول 75).
وقال القاضي عبدالوهاب البغدادي المالكي (422هـ):(1/19)
اعلم أن الكلام في هذا الموضع هو أن إجماع الصحابة حجة يجب اتباعه، ويلزم الانقياد له، وتحرم المخالفة عليه، وهذا لا خلاف فيه في الصدر الأول وفقهاء الأمصار، وأئمة العلم في سائر الأعصار، وإنما حدث الخلاف عند قومٍ من المعتزلة والرافضة... (رسالة الإجماع- ملحق مطبوع آخر كتاب المقدمة في الأصول للقصار المالكي - ص: 259).
وقول الإمام الشافعي (150- 204هـ): -في قوليه القديم والجديد كليهما-:
قال في القديم: في «الرسالة» القديمة، بعد ذكْره الصحابة -رضي الله عنهم- والثناء عليهم بما هم أهله-:
فقال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استُدرك به علمٌ واستُنْبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا، ومن أدركنا ممن نرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سُنّة إلى قولهم إذا اجتمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا، فهكذا نقول: إن اجتمعوا أخذنا بإجماعهم، وإن قال واحدهم قولاً ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، إن اختلفوا أخذنا بقول بعضهم ولم نخرج عن أقاويلهم كلهم.
قال: وإذا قال الرجلان منهم في شيء قولين مختلفين نظرتُ، فإن كان قول أحدهما أشبه بكتاب الله، أو أشبه بسنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذتُ به، لأن معه سبباً تقوى بمثله ليس مع الذي يخالفه مثله، فإن لم يكن على واحدٍ من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر أو عمر أو عثمان -رضي الله عنهم- أحبّ إليَّ أن أقول به من قول غيرهم إن خالفهم من قبل أنهم أهل علم وحكام.
ثم قال بعد ذلك: فإن اختلف الحكام استدللنا بالكتاب والسنة في اختلافهم، وصرنا إلى القول الذي عليه الدلالة من الكتاب والسنة، وقلما يخلو اختلافهم من دلائل كتاب أو سنة، وإن اختلف المُفْتَون -يعني من الصحابة- بعد الأئمة بلا دلالة فيما اختلفوا فيه. (قال المحقق: كذا بالأصل فليحرر).(1/20)
وإن وجدنا للمفتين في زماننا وقبله اجتماعاً في شيء لا يختلفون فيه تبعناه، وكان أحَدَ طُرُق الأخبار الأربعة، وهي: كتاب الله، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم القول لبعض الصحابة، ثم إجتماع الفقهاء.
فإذا نزلت نازلة لم نجد فيها واحداً من هذه الأربعة فليس السبيل في الكلام في النازلة إلا اجتهاد الرأي. أ هـ.
قال العلائي الشافعي (761هـ):
هذا كله كلام الشافعي -رحمه الله- في كتاب «الرسالة» القديمة. (إجمال الإصابة في أقوال الصحابة 39- 41). وينظر: (إعلام الموقعين 4/120- 123).
وقال الشافعي -في كتاب «اختلافه مع مالك، وهو من الكتب الجديدة:-
ما كان الكتاب أو السنة موجودين فالعُذر على من سمعهما مَقْطوعٌ إلا باتباعهما، فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدٍ منهم، ثم كما كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان –رضي الله عنهم- أحبّ إلينا إذا صرْنا إلى التقليد، وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة، فنتبع القول الذي معه الدلالة، لأن قول الإمام مشهور بأنه يُلْزم الناس، ومَنْ لَزمَ قولُه الناس كان أظهر ممن يفتي الرجل أو النَّفر، وقد يأخذ بفتياه أو يدعها، وأكثر المفتين يُفْتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يُعْنى العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام. وقد وجدنا الأئمة يبتدئون فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه، ويقولون فيُخْبرون بخلاف قولهم، فَيَقبلون من المُخبر ولا يستنكفون أن يرجعوا. لتقواهم الله وفضلهم في حالاتهم.
فإذا لم يوجد عن الأئمة فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين في موضع الإمامة أخذنا بقولهم وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم.
قال والعلم طبقات:
الأولى: الكتاب والسنة إذا ثبتت السنَّة.
والثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة.(1/21)
والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم له مخالفاً منهم.
والرابعة: اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات.
ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى. اهـ.
قال العلائي: هذا كله نص الإمام الشافعي -رحمه الله- في الكتاب المشار إليه، ورواه البيهقي عن شيوخه عن الأصم عن الربيع بن سليمان عنه.
وهو صريح في أن قول الصحابي عنده حجة مقدمة على القياس.
كما نقله إمام الحرمين، وإن كان جمهور الأصحاب أغفلوا نقل ذلك عن الجديد.
ويقتضي أيضاً أن الصحابة إذا اختلفوا كان الحجة في قول أحد الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- إذا وجد عنهم، للمعنى الذي أشار إليه الإمام الشافعي وهو اشتهار قولهم ورجوع الناس إليهم.
(إجمال الإصابة 38- 39).
قول الإمام أحمد (164- 241هـ):
قال القاضي: إجماع أهل كل عصر حجة، ولا يجوز اجتماعهم على الخطأ.
وهذا ظاهر كلام أحمد -في رواية المروذي-.
وقد وَصَفَ أخذ العلم فقال: ينظر ما كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فعن أصحابه.
فإن لم يكن فعن التابعين.
قال: وقد علَّقَ القول -في رواية أبي داود- فقال:
الإتباعُ أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وهو بَعْدُ في التابعين مُخَيَّر.
قال: وهذا محمول من كلامه على آحاد التابعين، لا على جماعتهم، وقد بيَّن هذا في رواية المرُّوذي فقال:
إذا جاء الشيء عن الرجل من التابعين لا يُوجد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم الآخذ به. (المسودة لآل تيمية 317- 318).
وقال أبو داود:(1/22)
قال أحمد بن حنبل: ما أجبتُ في مسألة إلا بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجدت فيه ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة، أو عن التابعين، فإذا وجدت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعْدِل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين، فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم أجد فعن التابعين، وعن تابعي التابعين. (المسودة 336).
وينظر: «روضة الناضر» (335- 372).
وإليك تفصيل الكلام على «كتاب اللحية»:
أولاً: (مقدمة مهمة عن كتاب اللحية)
وهي مختصر لتحريرك لمسألة اللحية ومنهجك فيها:
وسأختصرها في أربعة أمور:
الأول: أثبت أن الأحاديث الصحيحة التي وردت في حكم اللحية هي ثلاثة أحاديث:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
2- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
3- حديث أبي أمامة -رضي الله عنه.
الثاني: ذكرت أن هذه الأحاديث الثلاثة مرتبط حكمها بالعلة الواردة فيها وهي مخالفة أهل الكتاب، وبذلك تعود المسألة إلى حكم مخالفة أهل الكتاب.
الثالث: ذكرت أن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في حكم اللحية.
وكذلك التابعين -رضي الله عنهم- اختلفوا في حكم اللحية.
الرابع: منهجك مما قررته وحررته عدم اعتبار «حجية الإجماع»، وكذلك «مذهب الصحابي» سواء انفرد أو خالف، أو اجتمع الصحابة على شيء.
وإليك بيان حقيقة ما حررته وأنه خلاف الواقع مما صحَّ وثبتَ:
أما الأول: وهو دعواك أن الصحيح في حكم اللحية هو ثلاثة أحاديث:
وهي حديث أبي هريرة، وحديث ابن عمر، وحديث أبي أمامة، وما زعمته ليس بصحيح، وإنما الصحيح من الأحاديث في حكم اللحية هو الآتي:
1- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
2- حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
3- حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-.(1/23)
فجعلت حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- -وهو حديث ضعيف- من الأحاديث الثلاثة الصحيحة وتركت حديث جابر -رضي الله عنه- الصحيح، لكونه لم يتوافق مع الحديثين السابقين ولكون حديث أبي أمامة متضمن أمرين:
الأمر الأول: أنه موافق للحديثين السابقين -حديث أبي هريرة، وابن عمر- في العلة، وهي مخالفة أهل الكتاب.
والأمر الثاني: أنه زاد ذكر بعض السنن التي فيها مخالفة أهل الكتاب إضافة للحية، مما يُفهم منه حكم اللحية أنها سنة، وليست واجبة لذكرها مع غيرها من السنن(1).
قلت: وأما حديث جابر -رضي الله عنه- وقد صححته في كتابك -فتركته ولم تذكره مع الأحاديث الثلاثة، وإنما ذكرته في الآثار عن الصحابة، فاستبعدته من الأحاديث وجعلته في الآثار!!!
وذلك التصرف منك لكون الحديث تضمن أموراً:
أولها: أنه لم يشترك مع الأحاديث التي ذكرتها في العلة -وهي مخالفة أهل الكتاب- فبهذا سيختلف الحكم، وستبطل دعواك التي أقمت الكتاب كله عليها -وهي مخالفة أهل الكتاب-.
وثانيها: أن هذا الحديث يتضمن حكم الإعفاء صراحة، وأنه واجب لا كما زعمت من أنه مربوط بعلة المخالفة لأهل الكتاب.
وثالثها: أن هذا الحديث أثبت الإعفاء حكماً شاملاً النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الصحابة أنهم لا يأخذون من اللحية إلا في الحج أو العمرة فقط.
فلهذه الأمور الثلاثة التي تنقض الحكم الذي رأيته استبعدت الحديث فجعلته موقوفاً -في الآثار- لا مرفوعاً -في الأحاديث-.
__________
(1) ... قلتَ -بعد ذكرك لدلالة صيغة الأمر في أحاديث الإعفاء والقص-:
... وزيادة على ما بيَّنتُ من أن الأمر بالمخالفة في الصورة لا يكون للوجوب إذا لم يقصد صاحبه التشبه، فإنه جاءت قرينةٌ قويةٌ متصلةٌ بحديث الأمر بتوفير اللحية وقص الشارب، دلت على أنه ليس للوجوب، وذلك سياقُ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-.... ثم ذكر نصه.
... ثم علقت على النص بأن الأوامر فيه للندب لا للوجوب... (202- 207). ...(1/24)
أقول: وهذا خلاف الحقيقة العلمية، وخيانة للأمانة العلمية التي تحملها.
الثاني: ذكرت أن هذه الأحاديث الثلاثة التي صححتها في حكم اللحية مرتبط حكمها بالعلة الواردة فيها، وهي مخالفة أهل الكتاب.
أقول: هذا الحكم -وهو ارتباط علة الأحاديث بالمخالفة- منتقض بحديث جابر المتقدم والذي لم تذكره في الأحاديث التي استدللت بها.
الثالث: منهجك مما قررته وحررته:
1- عدم اعتبار «الإجماع» حجة في الدين.
2- عدم اعتبار «مذهب الصحابي» حجة في الدين، سواء انفرد أو خالف، أو اتفق مع غيره من الصحابة.
قلت: وهذا المنهج الذي اعتمدته في كتابك هو منهج المبتدعة أهل الأهواء من المعتزلة وغيرهم.
فلم ينكر «حجية الإجماع» و«مذاهب الصحابة» إلا مبتدع، خلافاً لمنهج أهل السنة والحديث الذين اعتمدوا الإجماع حجة بعد الكتاب والسنة، ومنه مذاهب الصحابة.
كتاب «اللحية»
هذا الكتاب قرأته، وإليك ما فيه:
قرأت الكتاب من أوله لآخره -المرة الأولى- وأنا أقرأ وأقيّد، ففوجئت بأن المنهج العام للكتاب ليس على مناهج أهل السنة والحديث، ولا على منهج أهل الرأي(1)،
__________
(1) ... ومرجع مذاهب الناس إلى ثلاثة:
... الأول: مذهب أهل السنة والحديث، وهم أهل الحديث المتقلدين مذهب أهل السنة، والسالكين مسلك الدليل والاهتداء بسنة سيد المرسلين، وما عليه أصحابه رضوان الله تعالى عليهم والتابعين.
... الثاني: مذهب أهل الرأي: وهم على أصول أهل السنة إلا أنهم توسعوا في القياس، وأشغلوا العلم فيه. وهذا المذهب نشأ أول أمره في الكوفة وتقلده أئمة كبار حتى انتهى إلى الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- الذي قننَّه وأصله حتى صار مذهباً منضبطاً بأصول وقواعد ترجع للكتاب والسنة والإجماع والقياس.
... الثالث: مذاهب أهل الأهواء: وهم الذين استغنوا بعقولهم الآدمية عن دين محمد ×، فأخذوا من الدين ما يوافق أهوائهم، وتركوا ما يوافق الشرع الحنيف...ولذا سلكوا مسلكين:
... الأول: ترك الاعتماد على الكتاب والسنة، وأصول الاحتجاج عند أهل السنة كالإجماع ومذاهب الصحابة، والقياس وغيرها من الأصول التي اتفق عليها أهل السنة.
... وأبدلوا ذلك بأصول عقلية توافق الأهواء حسب.
... الثاني: الطعن في أصول أهل السنة ليفقدوها أهميتها وأصالتها لإقناع أتباعهم، وإقناع أنفسهم بسلامة أصولهم.
... لذا طعنوا في النصوص وحجيتها وطعنوا في الإجماع وفي الصحابة -رضوان الله عليهم- بما يستلزم الطعن في مذاهبهم.
... فهؤلاء -أهل الأهواء- لم يرتضوا مسلك أهل السنة والحديث ولا مسلك أهل الرأي.(1/25)
وذلك في الأمرين التاليين:
1- الخلل في التأصيل:
أ- النص على ترك الاحتجاج بمذاهب الصحابة -رضوان الله عليهم- وكذا من بعدهم وحتى الأئمة الأربعة -رحمة الله عليهم-...
2- الخلل في المسائل العلمية والتناقضات الظاهرية:
أ- تناقضات ظاهرة في الكتاب سواء في التقعيد والتأصيل أو في التطبيق والتمثيل.
ب- الأخطاء العلمية المتنوعة في الكتاب.
هذا ما لاحظته في القراءة الأولية للكتاب.
ولا أخفيك أنني صُدِمت بذلك لمعرفتي الشخصية بك وعدم معرفتي بهذه الأصول لديك.
فرجعت للقراءة للكتاب مرة ثانية، فوجدت العجب الذي لم أكن أتصوره يصدر منك، وهو أمر عظيم ليس بأقلَّ خطورة مما ظهر في القراءة الأولى.
وذلك متمثل في التالي:
التدليس، والتزوير في كثير من مباحث الكتاب، بحيث لا تُذكر المسائل والإشكالات على وجهها الصحيح وإنما تذكر على الوجه الذي تريد إثباته.
والآن أبين لك ما تقدم ذكره مجملاً.
1- الخلل في التأصيل:
أ- النص على عدم الاحتجاج بمذاهب الصحابة -رضوان الله عليهم- حتى وإن كان إجماعاً منهم، وكذا من بعدهم من الأئمة من التابعين، وكذا الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الدين:
قلتَ -بعد أن ذكرت الاعتماد على الأدلة الشرعية، وأنها هي الكتاب والسنة فقط-:
كما زدت الاستئناس بالآثار المروية عن علماء السلف، من الصحابة، والتابعين، ثم عن فقهاء الأمة بعدهم، كالفقهاء الأربعة وأتباعهم، وغيرهم من علماء الملة والدين... (11- 12).
وأعظم من هذا -وهو الاستئناس- ما كتبته يداك بقولك:
وأما ما سقت في الباب السابق -بعد الأحاديث- من الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين، فليس ذلك لكون المنقول عنهم مما يكون موضعاً للحجة في الدين، فإن مذهب الصحابي في التحقيق ليس بحجة، وإنما ذكرت تلك المذاهب محرراً لها لما يقع من الحاجة، للاستشهاد بها في تفسير دلالات نصوص الكتاب والسنة.(1/26)
قلت: ووضعت هامش على قولك (ليس بحجة): وقلت: انظر (115) كتابي «تيسير علم أصول الفقه» (ص: 197- 202).
أقول: وهناك الطامة الكبرى، وذلك أنك خلصت إلى نتيجة بحثك وتحريرك، فقلتَ: خلاصة القول في حجية مذهب الصحابي: أعلاه قوة ما كان من قبيل (الإجماع السكوتي)، وتبين في الإجماع أنه ليس بحجة، فما كان دونه من مذاهب الصحابة أولى أن لا يكون حجة... (219).
قلت: فأنت أسقطت الاحتجاج «بمذهب الصحابي» والذي أعلاه قوة «الإجماع السكوتي». وهنا خالفت أئمة المسلمين في هذا الأصل الثالث من أصول الاستدلال عند أهل العلم، وكما تقدم من ذكر أقوال الأئمة الأربعة في الاحتجاج بمذهب الصحابي وتقسيمهم له في طبقات الاحتجاج.
2- الخلل في المسائل العلمية والتناقضات الظاهرية:
أ- التناقضات الظاهرة في الكتاب:
1- التدليس:
ومثل هذا في الكتاب غير قليل، وهو أنواع:
أ- إظهارك المسألة للقاري أن ليس فيها دليل أو حجة بينما الواقع أن فيها دليلاً أو حجة، ومن ذلك:
1- أنه لم يرد في القرآن ما يخص اللحية بشيء:
كما قلت: فهي لم ترد في كتاب الله تعالى، وإنما جاء ذكرها في السنة،... (151).
قلتُ: قوله تعالى: +ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ" [الحج: 29].
والتفث: هو الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب والأظفار، واللحية.
قاله ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره، كما هو مذكور في كتب التفسير، وكما نقلته في كتابك هذا (136، 139، 145، 147). بل هو اتفاق بينهم في معنى «التفث» الوارد في القرآن(1)، ولكنك لم تعتبر ذلك... وقد قررت هذا النوع من التفسير في كتابك المقدمات الأساسية في علوم القرآن وأن مثله في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (في القسم الثاني من ثالثاً: تفسير القرآن بآثار الصحابة ص 305).
__________
(1) ... وأما كيفية الأخذ من اللحية فمما زاد على القبضة كما هو ثابت بالأدلة. ...(1/27)
فما صنعته هنا يناقضه ما قررته في كتابك في «علوم القرآن» -السابق ذكره- فماذا تريد اعتماد ما هنا أو ما هناك.
وما صنعته هنا تدليس وإخفاء للحقائق. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2- أنه لم يرد في السنة من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية سوى الثلاثة التي ذكرتها: (308).
قلتَ: وحاصل التحقيق المتقدم أن الأحاديث المروية في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يثبت منها إلا ثلاثة أحاديث، وهي: حديث عبدالله بن عمر، وأبي هريرة، وأبي أمامة... (74- 77).
قلتُ: هكذا أثبت -وكررت الإثبات كثيراً (162، 163،...)- لكي تقرر أن هذه الأحاديث الثلاثة مرتبطة بالعلة -التي تحتج بها كثيراً- وهي مخالفة أهل الكتاب، فيدور الحكم مع العلة -كما تريد-.
بينما الواقع أنه يوجد حديث صحيح مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم -حكماً- لم تذكره في الأحاديث التي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الباب، وهو حديث جابر -رضي الله عنه-، لكونه ليس فيه العلة الواردة في الأحاديث الثلاثة السابقة وهي علة مخالفة أهل الكتاب، فلذا أبعدت هذا الحديث من الأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجعلته في باب الآثار عن الصحابة -رضوان الله عليهم- (295، 296)!!! فهنا خيانة للأمانة في إثبات ما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب.
وبهذا الحديث الصحيح يتضح أن العلة في التحريم ليست هي المخالفة -كما زعمت مراراً وتكراراً-. وسبحان الله العظيم.
هنا سلكت سبيل التدليس وإخفاء الحقائق.
وحديث جابر -رضي الله عنه- هو:
«كنا نعفي السبال، إلا في حج أو عمرة».
وفي لفظ: «كنا نؤمر أن نوفي السبال ونأخذ من الشوارب».
وفي لفظ: «لا نأخذ من طولها إلا في حج أو عمرة».
قلت: فحديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- هذا ينقض كتابك من أساسه.
ولذا فلك مع هذا الحديث مواقف فيها من التدليس وإخفاء الحقائق والتزوير مما سأبين لك أهمها:(1/28)
1- أخفيت هذا الحديث من الذكر في الأحاديث الصحيحة التي احتججت بها في حكم اللحية -كما تقدم ذكر ذلك-.
2- ذكرت هذا الحديث في قسم الآثار عن الصحابة -مع أنه في حكم المرفوع- لئلا تخلي الكتاب من ذكر هذا الحديث فيُستدرك عليك - مع أنه لا علاقة له في قسم الآثار عن الصحابة.
3- عند ما ذكرت هذا الحديث في قسم الآثار عن الصحابة وأردت الكلام على فقهه لم تستطع الكلام على بيان لفظة «كنا» لأن مرادها واضح أنها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا خلاف تصرفك في إيرادك للحديث في الصحابة وعدم إيرادك له في المرفوعات عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذا لماّ قلت: -بعد حكمك على الحديث بالصحة...-:
وهل له حكم الرفع؟ سيأتي بيانه في (الباب الثاني) أ. هـ. (128- 129).
هكذا كان جوابك أنك أحلت على (الباب الثاني)!!! لتتخلص من هذه العقبة!! ولكن هل فعلاً أجبت على سؤالك؟ الواقع أنه لا يوجد في (الباب الثاني) شيء مما ذكرته، وتفسير لما أردت بيانه ولهذا لم تشر للصفحة التي ذكرت فيها البيان كعادتك، لئلا تكشف.
إلا أنك في ص: 295 ذكرت هذا الحديث حكاية مع الأقوال الأخرى، وذكرت هامشاً قلت فيه: تقدم تحقيق صحة هذا الخبر في الفصل الخامس من الباب الأول. اهـ.
وهكذا أحلت من هناك إلى هنا، ومن هنا إلى هناك!!!
ولم تُجْب عن السؤال الذي طرحته أنت هناك بقولك (وهل له حكم الرفع؟)، وأما الجواب فهو واضح فإنه لا يخفى عليك أن قول جابر -رضي الله عنه- «كنا» في حكم الرفع كما قال الحافظ ابن حجر في «النزهة»: «قول الصحابي: كنا نفعل كذا، فله حكم المرفوع» (النزهة 138).
ب- إظهارك للمسألة أن فيها اختلافاً بينما الواقع إنها إجماع، ومن ذلك:(1/29)
1- الأخذ من اللحية في النسك عن الصحابة -رضوان الله عليهم-: ذكرت من أُثر عنهم أخذ اللحية في النسك فأثبت أن في المسألة خلافاً -أي يجوز الأخذ منها في غير النسك، وكذا الأخذ المطلق من غير تحديد بما زاد على القبضة- فقلت: وأما الأخذ منها في غير نسك ففيه مجيء الرواية مطلقةً: عن أبي هريرة أنه كان يأخذ من لحيته وبمعناه ما روي عن الحسن البصري: أنهم كانوا يرخصون في الأخذ منها. (139)، وينظر: (229، 294، 295).
قلتُ: وهذا الكلام منك غير صحيح لأن ما استدللت به من أثر أبي هريرة والحسن البصري لا يصح فكلاهما ضعيفان ولا حجة فيهما.
وعلى منهجك لا تدخل في الاستدلال!
فكيف أثبت الخلاف هنا بأمر ليس له أصل. بينما الأصل هو الإجماع عنهم أنهم لا يأخذون لحاهم -فيما زاد على القبضة- إلا في حج أو عمرة.
قلت: وأما كون الأثرين ضعيفين فسيأتي بيانه.
قلت: وأيضاً لو صح الأثران كما زعمت فهما مطلقان كما قررته فلماذا لم تحمل المطلق على المقيد كما هي عادتك في التأصيل (ينظر: ص191). إلا أنك هنا لم ترد ذلك.
وحتى تجرأت وقلت: كراهة الأخذ منها لم تؤثر عن الصحابة، بل المأثور عن الصحابة الأخذ منها، وكذلك جمهور التابعين) (305)، وقولك: (وفعل الصحابة...) و308.
2- الأخذ من اللحية في النسك عن التابعين -رحمة الله عليهم-:
ذكرت من أُثر عنهم أخذ اللحية في النسك، وهذا في الواقع إجماع منهم بأسانيد صحيحة متواترة.
ولكنك لم ترد ذلك، فأثبت أن في المسألة خلافاً، فقلتَ: بعد أن ذكرت القسم الأول-:
(2) إباحتهم الأخذ من اللحية من غير حدِّ ولا توقيت كما جاءت به الرواية إفتاءً من مذهب الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وكما جاء عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وطاوس بن كيسان اليماني من فِعْلهما (ص: 147)، وينظر: 229، 295).
قلت: وهذا الكلام منك غير صحيح لأن ما استدللت به من الآثار عن هؤلاء كلها غير صحيحة. عدا القاسم وحده.(1/30)
وعلى منهجك لا تدخل في الاستدلال لضعفها.
وكيف أثبت بها الخلاف ونقضت بها الإجماع وهو محكي عنهم نصاً.
قلت: وأما كون الآثار المذكورة ضعيفة فإن الرواية عن الحسن، وابن سيرين، فلا تصح لكون المتفرد بها عنهما هو أبو هلال الراسبي، وهو متكلم فيه بما لا يجوز الاحتجاج معه بتفرده، أما أنت فحسنت حديثه.
وأما الرواية عن طاوس، فلا تصح أيضاً لكونه تفرد بها ابن جريج وهو مدلس قبيح التدليس، ولم يذكر سماعه -كما قلت أنت- فكيف تقول عن إسناده: (إسناده صالح) وتبرر ذلك بقولك: (يحتمل مثله في الآثار، ولم أجزم بصحته)!!!
إذا كيف تجعله حجة لك. فلم يبق إلا الرواية عن القاسم وحده وهي داخله في عموم الإجماع عن التابعين أنهم لا يأخذون من لحاهم فيما زاد عن القبض إلا في الحج أو العمرة -كما نقلت أنت الإجماع عنهم بذلك-!!
وأيضاً: فلو صححنا الآثار كما زعمت، وهي مطلقة، فلماذا لم تحمل المطلق على المقيد كما تقدم ذكر هذا في الصحابة قبل.
لكنك لم ترد ذلك.
جـ - استخدام عبارات توهم التضعيف لمعان غير ضعيفة وبالعكس:
1- المتابعات في حديث جابر -رضي الله عنه-:
ذكرت حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما-، وهو حديث صحيح، إلا أنك عند ذكرك لألفاظ الحديث المختلف فيها على جابر وعلى أبي الزبير -الراوي عن جابر-، فإنك تُعبِّر عنها بقولك: وقد رواه فلان عن فلان، وهذه متابعة ضعيفة...
قلت: لا يجوز هنا أن يقال لحديث إسناده صحيح عند ذكر اختلاف ألفاظه أن يقال: وقد رواه فلان ... ثم تقول: وهذه متابعة ضعيفة، لضعف أشعث...
وذلك أن الأصل في هذا: أن يقال: وقد رواه فلان عن فلان، ثم تقول: ورواية فلان ضعيفة... أو: وهذه الرواية ضعيفة.
وذلك أن الأصل في المتابعة أنها على نوعين:
الأول: أن تكون المتابعة موافقة للمتابع في المتن أو الإسناد على قسمين -أيضاً- فهنا يقال: وقد تابعه فلان...(1/31)
والثاني: أن تكون المتابعة غير موافقة للمتابع في المتن أو الإسناد وعلى قسمين -أيضاً- فهنا لا يقال: تابعه فلان، وإنما يقال: وقد رواه فلان عن فلان... ثم يقول: رواية فلان هذه ضعيفة... أو: وهذه الرواية ضعيفة...
قلت: ولهذا جعل الأئمة المتابعة للاعتبار والتقوية لا عكس ذلك.
قلت: لكن لما أردت أن تجعل هذه الروايات -التي ذكرت أنها متابعة- ضعيفة لكلام نسبي في رواتها عبَّرت عنها بلفظ «متابعة» لتوهم القارئ أنها «متابعة» للتقوية وأنها لا تصح لضعف راويها!!!
بينما الأصل في هذا أن ينظر في هذا الاختلاف على جابر أو أبي الزبير ويقدم رواية الأحفظ -كما تعلم ذلك-.
بل يفترض أن يجمع بينها لكونها غير متعارضه...
ولكن لم ترد لا هذا ولا ذاك لأن الألفاظ التي ضعفتها فيها لفظة «كنا نؤمر...» وهذه لا تريدها لأن فيها صيغة الأمر، وأيضاً في الرواية الأخرى لفظة «لا نأخذ من طولها...»، ولفظة «لا نأخذ» لا تريدها لأنها صريحة في الدلالة.
2- أثر الحسن البصري عمن أدركهم:
ذكرت هذا الأثر تبعاً لأثر صحيح عن عطاء ابن أبي رباح -رحمه الله- ولفظه قال عطاء: «كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة».
وبعد كلامك على صحة أثر عطاء، ألحقته بأثر الحسن البصري، مباشرة بينما أثر الحسن هذا إسناده ضعيف -كما نصصت عليه-، ولكن عقبَّت عليه بقولك: لكنه أثر حسن لما تقدم له من شواهد تقويه.
قلت: وكلامك في تحسين هذا الأثر ليس بصحيح، لأسباب:
أولها: إن الإسناد ضعيف -كما ذكرته-.
ثانياً: الشواهد التي ذكرت أنها تقويه فيصبح بها الأثر حسناً ليست على ما ذكرت، لأن التقوية التي تريدها هي أحد أمرين:
الأول: تقوية للأخذ من اللحية فيما زاد على القبضة (في الحج أو العمرة).
والثاني: تقوية للأخذ من اللحية فيما زاد على القبضة على الإطلاق، (دون التقييد بالحج أو العمرة).(1/32)
قلت: فإن كانت التقوية للمعنى الأول فهذا لا تريده، لأنه دليل ضدك، فأنت احتججت بأثر الحسن -رحمه الله- بعد ذلك في جواز الأخذ على المعنى الثاني.
وإن كانت التقوية للمعنى الثاني فلا يصح لك.
قلت: لأن الشواهد السابقة التي ذكرت أنها تقويه ليس فيها ما يقوي هذا الأثر سوى أثر أبي هريرة (رقم: 3 ص 133)، وقد صححته لأجل الغرض نفسه وهو ضعيف كما سيأتي.
أما قضية التزوير هنا هي أنك أوردت أثر الحسن -رحمه الله- عقب أثر عطاء الصحيح -مع أنه مخالف له- لكي يثبّت هذا الأثر بموضوع التقوية، دون أن ينتبه القارئ للأمرين السابق ذكرهما. ومن ثم تأتي في خلاصتك -التي تعقدها نهاية كل فصل- فتحيل على ما هنا.
3- جعلك حديث أبي أمامة حاكماً على الأحاديث الثلاثة:
حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- حكمت عليه بأن إسناده حسن، وهو أحد الأحاديث الثلاثة- التي أثبت أنها المدار في حكم اللحية-. مع حديث ابن عمر وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.
وحديث ابن عمر في الصحيحين، وحديث أبي هريرة أخرجه مسلم وغيره.
قلت: حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- صحيحان مشهوران رواهما كثرة كاثرة من الرواة والمصنفين بينما حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- وقد حسَّنَت إسناده -هو حديث غريب لم يروه عن أبي أمامة غير القاسم ولا عن القاسم غير ابن زبر ولا عن ابن زبر غير زيد بن يحيى-.
إلا أنك لماَّ رأيت أن حديثي ابن عمر وأبي هريرة لم يذكرا سوى «اللحية» بينما حديث أبي أمامة ذكر «اللحية» وذكر معها بعض السنن المستحبة جعلت حديث أبي أمامة مفسراً لهما وحاكماً عليهما. للهدف الذي تريده وهو أن «اللحية» هي سنة من السنن- أي إعفاءها- كالسنن التي ذكرت معها في حديث أبي أمامة. مما يجعلك تحكم على صيغ الأوامر التي في حديثي ابن عمر وأبي هريرة أنها أوامر للندب وليست للوجوب!!!(1/33)
قلت: وأيضاً فإن من المفترض أن تجعل بدل حديث أبي أمامة -الضعيف- حديث جابر الصحيح، والذي مقتضاه أن يجعل الأوامر التي في حديثي ابن عمر وأبي هريرة للوجوب لا للندب.
ب- الأخطاء العلمية في الكتاب:
وقع في الكتاب أخطاء علمية في مواضع غير قليلة منه، ومن أمثله ذلك:
أ- تصحيحك لأثر أبي هريرة -رضي الله عنه-.
هذا الحديث في حقيقته لا يقبل التصحيح بحسب القواعد العلمية في التصحيح والتضعيف...
لكن أثبت صحته...
وقبل بيان ضعف هذا الأثر، أنقل إليك ما قررته في تصحيح هذا الأثر:
قلت: عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: كان أبو هريرة يقبض على لحيته ثم يأخذ ما فضل عن القبضة.
قال: إسناده صحيح.
أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن شعبة عن عمرو بن أيوب من ولد جرير عن أبي زرعة به.
ثم ذكرت تخريج الخلال له في «الترجل» من طريق شعبة.
ثم قلت: وإسناده صحيح، رجاله مشهورون بالثقة، سوى عمرو بن أيوب، ووقع عند الخلال «عمر» وهكذا ترجم له ابن أبي حاتم ونقل عن أبيه قوله: «شيخ كوفي»، وذكره ابن حبان في الثقات، ولم يُجرح، والوجه أنه ثقة لأنه قد تواتر أن شعبة بن الحجاج لا يروي إلا عن ثقة عنده فروايته عنه توثيق منه له.
ثم ذكرت إسناداً آخر لهذا الأثر بلفظ مغاير للفظ السابق.
وقلتَ: وإسناده ضعيف لجهالة الشيخ المدني، ولين أبي هلال كما تقدم ذكره في الكلام على رواية جابر (133- 134).
قلت: والوقفات هنا حيال ما ذكرت كالتالي:
أولاً: تصحيحك للإسناد، وفيه عمرو بن أيوب. فوثقته، وهذا خلل في الحكم، لأمور:
1- عمرو بن أيوب لم يذكر له راوياً غير واحد، وهو شعبة بن الحجاج، فيكون هذا الراوي مجهولاً جهالة عين.
2- رواية شعبة عنه ترفعه من الجهالة العينية إلى أن يكون في المرتبة التي تلي مرتبة الجهالة، وهي أدنى مراتب التعديل. ولهذا حكم عليه أبو حاتم بأنه «شيخ»، وهذه اللفظة وضعها ابن أبي حاتم في المرتبة الثالثة من مراتب التعديل الأربع. (الجرح والتعديل 2/37).(1/34)
فحقه أن ينظر في حديثه فإن وافق الثقات قُبل وإلا رُدَّ. وتبع ابن أبي حاتم على هذا ابن الصلاح (308- 310-)، وأما الذهبي (الميزان 1/4)، فجعلها في أدنى مراتب التعديل وهي المرتبة الرابعة، وتبعه، العراقي (شرح التبصرة 2/2-12)، وكذا السخاوي جعلها في أدنى مراتب التعديل الست (فتح المغيث 2/109- 116)، وقال: وضابط هذه المرتبة: كل ما أشعر بالقرب من أسهل التجريح. أ هـ.
قلت: فهل بعد هذا يجعل هذا الراوي (ثقة)!!!
3- هذا الرواي مما يؤكد أحقية وضعه في المرتبة السابق ذكرها عدة أمور:
أولاً: هذا الراوي لم يذكره أحد بجرح ولا تعديل -سوى ما تقدم- مما يدل على عدم شهرته بالعلم والرواية.
ثانياً: لم يذكره البخاري في تاريخه مع ذكره لأمثاله.
ثالثاً: لم يذكره أحد ممن صنّف في الرواة.
رابعاً: تفرد بذكره ابن حبان في كتابه «الثقات»، وشرطه معروف فيه.
خامساً: ونظراً لما تقدم فقد اختلف -أيضاً- في اسمه، فذكر مرة «عمرو»، ومرة «عمر».
فحُكمك عليه بأنه ثقة لا يستقيم مع ما تقدم.
كما لا يستقيم مع ما تقدم أن تصحح الإسناد بذلك.
ب- تحسينك لحديث أبي أمامة -رضي الله عنه-:
حسَّنتَ حديث أبي أمامة -رضي الله عنه-، ولفظه: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: «يا معشر الأنصار، حمروا وصفروا، وخالفوا أهل الكتاب، فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأتزون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسرولوا وائتزروا، وخالفوا أهل الكتاب»، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يتخففون ولا ينتعلون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فتخففوا وانتعلوا، وخالفوا أهل الكتاب»، قال: فقلنا: يا رسول الله، إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم، ويوفرون سبالهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قصوا سبالكم، ووفروا عثانينكم».
فقلت: إسناده حسن.(1/35)
أخرجه أحمد قال: حدثنا زيد بن يحيى حدثنا عبدالله بن العلاء بن زبر حدثني القاسم قال: سمعت أبا أمامة يقول: فذكره.
قلتَ: وهذا إسناد حسن، زيد وابن زبر ثقتان، والقاسم هو ابن عبدالرحمن صاحب أبي أمامة مشهور بحسن حديثه.
ثم ذكرت إخراج البيهقي له في الشعب وكذا الطبراني في الكبير كلاهما من طريق زيد بن يحيى به.
قلتُ: وهذا الحديث يلاحظ فيه قولك: إسناده حسن، ثم ذكرت عن القاسم أنه «مشهور بحسن حديثه».
وهذه الكلمة نفسها انتقدتها على الحافظ ابن حجر حينما قالها في مصعب بن شيبة (ص: 85- 86).
فأنت لما رأيت اختلاف الأئمة في القاسم توسطت في القول فيه وجعلته حسن الحديث -وسطاً بين الثقة والضعيف- فصنعت الصنيع نفسه الذي رعْبتَه على الحافظ ابن حجر!!!
ثانياً: هذا المتن بهذا اللفظ منكر لم يتابع عليه. فلا يستقيم الحكم عليه بالحسن. خصوصاً مع تفرد القاسم به عن أبي أمامة، وتفرد ابن زبر عن القاسم وتفرد زيد بن يحيى عن ابن زبر، فهنا لا يقبل تفرده. وقد بينت هذه القاعدة في نفس كتابك هذا (ص: 191).
ثالثاً: ولهذا فإن هذا الحديث -كما تقدم- لم يخرجه أحد من الأئمة الستة حتى ابن ماجه ترك إخراجه، وكذا لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحة أو الحسن في كتابه كابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود وغيرهم. وكذا لم يستدركه الحاكم على الشيخين، فكيف تجعل هذا الحديث حاكماً على الأحاديث التي في الصحيحين وغيرها!!!.
ثالثاً: نصيحتي إليك:
أختم هذه الرسالة بنصيحة وهي كالتالي:
أولاً: إنك معروف بالعلم والشهرة بذلك فأنصحك بعدم مخالفة سبيل المؤمنين وعليك السير على مناهجهم في الاعتماد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اعتماد إجماع الأمة من الصحابة وغيرهم. كما هو المنهج الذي رضيه علماء الأمة من أهل السنة والجماعة.(1/36)
ثانياً: لإقامتك في ديار الغرب -أهل الكتاب- والبعد عن ديار المسلمين أثر ظاهر في منهجيتك في هذا الكتاب. ولعلمي بالسبب الذي خرجت من أجله لديار الغرب في السابق فإن هذا السبب قد زال منذ سنوات بعد أن حصلت على ما يسهل لك الرجوع لبلاد المسلمين وهو مرغوب فيه.
والأمر الآخر وهو أن بقاء المؤمن مع إخوانه وعموم الناس من المسلمين يجعل الأثر في الدين متمكناً فيه.
ثالثاً: وجوب ابتعادك عن شيوخ المدرسة العقلية الذين حذّرنا علماءنا -أهل السنة والحديث- في عموم بلاد الإسلام من هؤلاء وما جنوا به على هذا الدين وأهله. فأنت تعلم أن المدرسة العقلية المعاصرة ما هي إلا امتداد للمذهب المعتزلي القديم.
وممن نبّه على ذلك، وبين خطر أصحاب المدرسة العقلية المعاصرة، وحذر منها ومن شبهها وخطرها على الدين الإسلامي عدد من علماء أهل السنة والحديث في الأقطار الإسلامية ومنهم:
- العلامة المعلمي اليماني في «الأنوار الكاشفة» وغيره من مؤلفاته.
- الدكتور محمد أبو شهبة في «دفاع عن السنة وردِّ شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين» وغيره من كتبه.
- الدكتور مصطفى السباعي في «السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي» وغيره من كتبه.
- الدكتور الأمين الصادق في «موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية».
- الدكتور ناصر العقل في «الاتجهات العقلانية الحديثة». وهذا الكتاب هو أكثرها شمولاً للتعريف بهذه المدرسة.
وأزيدك القول:
إن من أصول المنهج العقلاني ومرتكزاته تجاه دراسة الإسلام في العصر الحديث الآتي:
- تقديم العقل والأهواء على نصوص الشرع.
- الإنكار والتشكيك، والتحريف والتأويل، في أصول العقيدة وأدلتها.
- الإنحراف في الاستدلال، والتلقي من غير المصادر الإسلامية.
- الإشادة بالحياة الغربية والحكم على الإسلام من خلالها.
- عدم التمييز أو المفاضلة بين المسلمين وغير المسلمين (ضعف الولاء).
- تبني الطرح العلماني أو بعضه.(1/37)
- الاهتمام بعمارة الحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة.
وأما من أهم أهداف الاتجاهات العقلانية الحديثة:
- فصل الدين عن الدولة والحياة.
- إخضاع الإسلام لمسايرة الغرب.
- العمل على إلغاء الفوارق العقائدية (التقريب بين الأديان).
- قطع خط الرجعة على استئناف الحياة الإسلامية.
- إفساد المرأة المسلمة.
قلت: ولا أقول إنك من هذه المدرسة، ولكنك كتابك هذا ناقلٌ لك إليها إن لم تدرك الأمر وخطورته.
وأكرر القول لك:
إن مما يزيد الملاحظة في ارتباطك بالمدرسة العقلية المعاصرة ثلاثة أمور:
الأول: منهجك في كتابك -مما سبق تبيينه في هذه الرسالة- وهذا من صميم منهجهم.
الثاني: نقلك عن أحد كبارهم في هذا العصر رأيه في هذا الكتاب -كما في صفحة (217)، وتركك النقل عن أئمة أهل السنة والجماعة في هذا العصر.
الثالث: وظيفتك الشرعية الآن نائباً لأحد كبارهم في هذا العصر.
لذا فنصيحتي إليك الارتباط بعلماء أهل السنة والإفادة والاستفادة منهم.
رابعاً: لعلك قد نالك نصيبٌ من الثناء والشهرة، فينبغي لك الاحتياط في ذلك، وقد كان السلف يحتقرون أنفسهم عند ذواتهم، وعند غيرهم. وما ذكرتُه هو الذي يظهر في كتابك (وأنا في انتظار جوابك وإفادتك) هذا وأسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد والحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو محمد عبدالوهاب بن عبدالعزيز الزيد
27/8/1425
رد الشيخ:منصور السماري. على كتاب"اللحية دراسة حديثيّة فقهيّة"
نقلت هذا الرد من إحدى المنتديات بغرض الفائدة وإثراء الموضوع .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام عل رسول الله أما بعد:
فقد اطلعت على كتاب بعنوان "اللحية دراسة حديثيّة فقهيّة"
تأليف :عبدالله بن يوسف الجديع.
وقد لاحظت عليه ملحوظات عديدة ، فأبديت بعضها ، وأسأل الله أن يسددني ويهديني إلى الصواب ، فأقول:(1/38)
ص10/ من المقدمة: قوله في مقاصده من تأليف مثل هذا الكتاب: "أولاً: تجرئة أهل العلم على العمل على إعادة النظر في كل ما يرجع إلى الاجتهاد في تحرير حكمه ، وعدم الخضوع للاجتهاد السابق كحكم مسلّم ، فذلك إنما بُنيَ على نظر ولا يخلو من أن يكون متأثّراً بزمانٍ ومكان وحال من صار إليه."
قلت:
ـ هذه التجرئة هي جرأة من الكاتب في مخالفة سبيل المؤمنين والخروج عمّا اتفقوا عليه في فهم النصوص.
ـ ومن قواعد أهل العلم أن الاجتهاد مع وجود النصّ لا يعتبر بل هو سبيل هلكة.
ـ وليعلم أن حكم أهل العلم الذين سبقوا في إعفاء اللحية ، إنما بُنيَ على نصٍّ وليس على نظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
ص17/ لما ذكر الكاتب حدّ اللحية في اللغة ناقلاً ذلك عن ابن دريد قوله: "اللحية: اسم يجمع ما على الخدين والذقن من الشعر" قال الكاتب: أمّا إدخال عموم الخدين في منبت اللحية فتوسع لم أرَ له شاهداً في كلامهم فإنّ غير العارضين من الخدين ليس منبتاً للشعر في الأصل.
قلت: هذا الأصل الذي أنكرته هو نصّ كلام أهل الاختصاص وهم علماء اللسان ، فلا يحسن ردّ ما ذكروه بمجرّد الدعوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص18/ قرّر الكاتب أن العنفقة ليست من اللحية قائلاً: "ووجدت في رواية لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم إلحاقها باللحية فعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب قط إنما كان البياض في مقدّم لحيته: في العنفقة قليلاً وفي الرأس نَبذٌ يسير لا يكاد يرى"
قلت: لكن هذا غير مسلّم لمجيء اللفظ في رواية أخرى صحيحة: كان البياض في مقدم لحيته وفي العنفقة وفي الرأس ... الحديث. فغاير بين العنفقة واللحية." ا.هـ.(1/39)
قلت: تتمة الرواية الصحيحة التي ذكر [وفي الرأس وفي الصدغين شيئاً لا يكاد يرى...] فعلى هذه المغايرة المزعومة ، يكون الصدغان ، أيضاً ليسا من الرأس ولا من اللحية !! وهذا خلاف قول جميع الناس ، ولكن الحديث بروايتيه بمعنى واحد ، وذلك أن قوله في الرواية الأولى "إنما كان البياض في مقدّم لحيته ، في العنفقة قليلاً" تفيد ان العنفقة من اللحية، وأن الرواية الاخرى فيها عطف العنفقة على اللحية من باب عطف الخاص على العام ، كما في الرأس والصدغين ، وليُعلم أن رواية مسلم في صحيحه لهذا الحديث هي: (عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: يكره ان ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته،وقال:ولم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما كان البياض في عنفقته وفي الصُّدغين وفي الرأس نبْذٌ) [مسلم 4/1821ـ1822]
فدلت هذه الرواية على أن العنفقة من اللحية قطعاً لا من الرأس ، وأيضاً دلت هذه الرواية على أن العنفقة هي مقدّم اللحية كما سبق في الرواية الأولى.
ويؤكد ذلك أيضاً أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم البتّة أنه أخذ من عنفقته أو قصّ منها شيئاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص59/ ذكر الكاتب حديث أبي أمامة الباهليِّ وحسّن إسناده ، والصواب أنه حديث
منكر ، فقد ذكر في أول الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على مشيخة من الأنصار بيضٍ لحاهم ، فقال: "يامعشر الأنصار حمِّروا و صفٍّروا وخالفوا أهل الكتاب" وهذا فيه أن أهل الكتاب يعفون لِحاهم ولكن لا يحمِّرون ولا يصفِّرون. ثم جاءت النكارة في آخر الحديث ـ الذي هو موطن الشاهد للكاتب من سياقه ـ أن قالوا "يارسول الله إنّ أهل الكتاب يقصّون عثانينهم ويوفرون سبالهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قصُّوا سبالكم ، ووفِّروا عثانينكم ، وخالفوا أهل الكتاب)(1/40)
إذ قد تبين من أول الحديث المذكور ومن غيره مما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن اليهود والنصارى لا يصبغون لحاهم ، ما يبيّن نكارة هذا اللفظ بأن أهل الكتاب يقصون لحاهم ويوفّرون سبالهم ، فأين موضع مخالفتهم في صبغ اللحى المقصوصة!!!
وأيضاً فإن حلق اللحى أو قصها ليس معروفاً عند أهل الكتاب ، وإنما هو من فعل المجوس ، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفّروا اللحى وقصّوا الشوارب خالفوا المجوس" ولم يذكر اليهود ولا النصارى إلا في مخالفتهم في تغيير الشيب بالصبغ ، فهم ممن يوفرون لحاهم لا كالمجوس.
وأيضاً حديث أبي أمامة هو من رواية القاسم بن عبدالرحمن ، وقد أنكر الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ أحاديثه وبيّن أن النكارة في رواياته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص169/ ذكر الكاتب معنى "أرخوا" الذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلص إلى أن الإرخاء يعني: (ما يناسب اللين والمدَّ والتطويل) ثم قال بعد ذلك: "فيكون الوجه في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أرخوا اللحى" أرسلوها وأطلقوها لا تتعرضوا لها بقطع أو تقييد ، والذي يمكن أن يسمى قطعاً وتقييداً إنما هو إزالتها بحلق أو نحوه أو قصُّها"
قلت: بل الوجه في معنى "أرخوا" أرسلوها وأطلقوها لا تتعرضوا لها بقطع أو تقييد ، والذي يسمى قطعاً وتقييداً أنما هو قصها حتى لا يبقى فيها لينٌ ومدٌّ وتطويل ، كفعل بعض أهل زماننا ممن يقصون لحاهم حتى تقصر وتشتدّ فلا يبقى فيها لينٌ أو تطويلٌ أو مدّ.
ص197/ ذكر الكاتب نماذج من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في غير اللحية فيها الأمر بمخالفة اليهود ، وهو حديث الصلاة في النعال أو مخالفة اليهود والنصارى ، وهو حديث صبغ الشيب.(1/41)
*أما حديث الأمر بالصلاة في النعال ومخالفة اليهود ، فقد صُرف الأمر عن الوجوب ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر التخيير في الانتعال وعدمه ، وقد ذكره الكاتب فلا معنى لذكر هذا المثال!!
*وأما حديث الأمر بصبغ الشيب ومخالفة اليهود والنصارى في ذلك ، فقد اختلف فيه أهل العلم وقد قال بوجوبه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وفي روايةٍ عنه ولو مرة واحدة ، كما في فتح الباري (10/355) وانظر كتاب "الترجّل" للخلاّل طبعة مكتبة المعارف (ص121 ، ص124).
وأما من ذهب إلى عدم الوجوب فإنهم صرفوه بحديث أنس ـ رضي الله عنه ـ بأن النبي صلى الله عليه وسلم (لم يخضب).
وردّ الإمام أحمد بأن غير أنس ـ رضي الله عنه ـ شهدوا بالخضاب ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، ومن حفظ فمعه زيادة علم. وانظر (الترجل ص125) وانظر أيضاً (تهذيب الآثار ، مسند الزبير ص451 ـ 519).
فأين هذا المثال والذي قبله ، من أحاديث الأمر بإعفاء اللحى وحفّ الشوارب التي لا صارف لها ولم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل بها ، وأيضاً يقال بأن الأمر بالصبغ طلب فعل ، والأمر بإعفاء اللحية طلب ترك ، والترك آكد ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عن شيء فاجتنبوه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص201/ وذكر الكاتب أيضاً أكلة السَحَر ، وأنها فرقٌ بين صيام المسلمين وأهل الكتاب ، قال: وهذا ليس بواجب.
قلت: عدم الوجوب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بمخالفتهم ، وإنما قال: "فصلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السَحَر" ، وأما الأمر في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة" فالعلّة منصوصة وهي حصول البركة ، فصُرف الأمر بها عن الوجوب ، إذْ لا يقال لمن ترك البركة بأنه آثم.(1/42)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ص198/ وذكر الكاتب أيضاً فرق الشعر ، مستدلاً بذلك على أن المخالفة ليست واجبة كما هي في اللحية.
قلت: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمر ولا نهي من قوله ، وإنما هو فعلٌ خالف فيه أهل الكتاب من غير أن يأمر بذلك ، فدلّ على الاستحباب ، وأين ذلك من الأوامر الصريحة في شأن اللحية.
(تنبيهات)
*الأول: فات الكاتب أن يذكر في نصوص الأمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب حديث زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يأخذ من شاربه فليس منّا" وهذا الحديث لم يخف على الكاتب ، بل ذكره في موضعِ آخر (ص177) مع أن ذكره في نصوص الأمر بإعفاء اللحية وإحفاء الشارب أليق وأجدر ، كما فعل أبو البركات المجد ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في منتقى الأخبار ، ودلالة الحديث بيّنة في أن الأخذ من الشارب واجبٌ لقوله: "ليس منا" ولهذا نظائر ، منها قوله صلى الله عليه وسلم: "من غشّ فليس منا" و "من حمل علينا السلاح فليس منا" و "ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعى بدعوى الجاهلية" وغير ذلك،وأقول كما قال الكاتب ـ هداه الله ـ في (ص190):
"وإذا تبيّن كون هذا هو المطلوب فعله بالشارب ، وقد قوبلت به الأوامر بضدّ ذلك في اللحية ، فيتضح منه: [وجوب إعفاء اللحية] ، وذلك أن قصّ الشار ب جاء الأمر به على سبيل المقابلة لما يصنع باللحية ، فحيث شُرع فيه القصُّ فالذي يقابله فيما يندرج تحت دلالة الألفاظ الواردة في اللحية ، إنما هو الإعفاء من القصّ والأخذ" هذا نصُّ كلامه وما بين معقوفتين هو زيادة مني تتميماً لصواب المقابلة التي قعدها الكاتب!(1/43)
*الثاني:قال الكاتب ص313-بعد ماقرر أن اللحية ليست ميزاناً للتقوى- :وما أحسن قول أبي عمر بن عبدالبر الاندلسي الشعر والحلق لا يغنيان يوم القيامة شيئاً، وإنما المجازات على النيات والاعمال، فربَّ محلوق خير من ذي شعر، ورب َّ ذي شعر رجلاً صالحاً )
وإذا رجعت الى التمهيد(6/80)، علمت تلبيس الكاتب هداه الله ، فإن الامام ابن عبد البر يتحدث عن توفير شعر الرأس أو حلقه، والله المستعان.
*الثالث: فات الكاتب أيضاً أن المخالفة المأمور بها في حديثي ابن عمر وأبي هريرة ـ رضي الله عنهم ـ في حف الشارب وإعفاء اللحية ، إنما هي من باب الديانة لا العادة والعُرف ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "خالفوا المجوس" فذكر دينهم المجوسيّة ، ولم يذكر جنسهم الفرس ، فظهر من ذلك أن إعفاء اللحية وحف الشارب هو دين لا يتغير بتغير العادات والأعراف ، فلمّا غاب عن الكاتب هذا المعنى ، فرض فرضاً فاسداً ، وهو قوله (ص310) من الخاتمة (3ـ ....... ، فلو شاع عًرف المسلمين في مكان بحلق الرجال لحاهم ، وأصبح إعفاء اللحية شذوذاً وشهرة ، فموافقة العرف أوفق للسنّة ، ....)
قلت: سبحانك هذا بهتان عظيم!!!
كتبه:
منصور بن عبدالعزيز السماري
حرر في 5/9/1425هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الجديع وكتابه الأول " اللحية " إساءة للعلم في استخدامه مطية " حلقها أم الأخذ منها"
حيرة واضطراب
لا أعرف عبد الله الجديع إلا من خلال صفحات هذا الملتقى ولم أقرأ له كتابا قبل
فلما أصدر هذه السلسة " اللحية ، الموسيقى ، إسلام أحد الزوجين "
قررت أن أقرأها كلها لأخرج بفكرة وإن كانت غير متكاملة لأنها في نظري لا تكفي للإحاطة بطريقة تفكير الرجل ولا بمقدار العلمية التي يحملها
" ولكن " ما إن قرأتها وعلقت عليها أصبحت أكاد آخذ فكرة شمولية عن نفس الباحث وطريقة تفكيره وسبك وتسلسل أفكاره(1/44)
فوجئت بكل أسف - مع استشعاري بأن كلماتي وكتابتي هذه سجلت في صحيفة عملي - إلا أنني أقولها بكل أسف فوجئت بكاتب تشتت هدفه فتجده ينشط مرة ويحتد لرأيه ويكتب عبارة ومرة أخرى يتحفظ في عبارته فلا يعتد ولا يتجاوز ولعل سببه استشعاره تلك اللحظة خطورة القول على الله بغير علم
أعتبر هذه القفزة التي تجرأها هي والله مفترق طرق على كاتبها لأن سدا منيعا قد كسره وهو في طريقه إلى أكبر منها إن لم يقف مع نفسه ويتدارك حاله وينظر في أمره ويتهم نفسه
وقد كنت أنتظر بفارغ الصبر قبوله لدعوة الملتقى حتى أذكره بما يجول في خاطري ولكن لما قرأت رسالته عرفت لغة الامتناع التي بطنها في رسالته
ولهذا فأنا ومن خلال هذا المنبر أعرض هذه الطوام التي ملأها في بحثه مما لا يليق بمن كتب -بفتح الكاف- في ترجمته ما كتب
وأتحدى أن يجيب على واحدة منها إجابة تليق بالمنهجية العلمية لا منهج التنصل والحيدة فكل يستطيع ذلك ولهذا لن أجيب على أي إجابة باردة بل سأتركها وهذا هو الرد لمثل هذه الردود
فإبليس لما رفض السجود لله احتج بحجة ولم يقر يالخطأ بل ذكر حجة له وهي أنه امتنع من السجود بسبب أنه أفضل من آدم هو مخلوق من نار وآدم خلق من طين ومع هذا لم يرد الله عليه بل طرده ولم يفند حجته مع ظهور الرد عليه من وجوه وكفى بها إذلالا
وإن رأيت تجاوبا فسأنقل بعد ذلك نقاشي له في كتاب الموسيقى
ـــــــــــــــــ
ومن طبعي لا أحب لغة نفخ الكتاب بكل حجة كما فعل المؤلف وهذا الأسلوب من الناس ولا أتهمه -ولكن هو موجود- يوسع الكتاب وينفخه ويذكر كل شيء حتى يشتت ذهن القارئ ويكرر الفكرة عليه حتى يألفها وينوع بالحجة حتى يقتنع بها مع أن بعض الحجج تضعف القول عند المتأملين ولكن هذه سياسة عرفناها في هذا الزمان
لذا سأوقف القارئ والمؤلف على محز ومحك المسألة وأريه كيف يتعامل معها المؤلف لأوقفه على التخبط وإن شئت قل عند إحسان الظن تشتت الفكرة في ذهن المؤلف(1/45)
فهو لا يدري هل هو يبحث مسألة إعفاء اللحية أو مسألة حلق اللحية وهذه النكتة من قرأ الكتاب تظهر له بجلاء فمرة يدافع عن المسألة بذكر القائلين بالأخذ منها وليست هي مسألتنا ومرة يتكلم عن الحلق ويستدل بالقائلين بالأخذ منها فمسألة الأخذ لا تخفى الخلاف فيها على طالب على صغير وما لهذا ألف الكتاب ومسألة الحلق هي نتيجتك فسبحان الله
فهو مشتت الفكرة حيرته ظاهرة دوافعه الداخلية لتلبس هذا القول غير معروفة له
حقيقة هذه النفسية لو أنها لم تستخدم منهج المحدثين وطريقتهم لما أنكرتها أبدا والواقع مليء ولكن ما أستغربه هو أنه يحمل لبوس المحدثين مع أنها لا يمكن أن تتلبس بهذا الرأي هو ما جعله بهذا التشتت والحيرة
لا تستغربوا كلماتي هذه فوالله إني أكتب كل حرف وكأنه إبرة تنغز جسمي - ولازلت أصارع نفسي في مواصلة الكتابة بهذا الموضوع ولكن لعل الله أن يقضي لي الخير فيه
يا أبا محمد :
دعني من مسألة الأخذ من اللحية فليست بغيتي مع أني لم أجد إلى ساعتي أدلة تقوى على أدلة المحرمين
ولكن سأتجاوزها احتراما للخلاف ولأجل ألا أوصف بالمصادرة
دعني أذكر لك ملحظا في بحثك لن تستطع الإجابة عليه أبدا :
أولا : الإجماع معتبر عند أهل السنة والجماعة وهو كذلك عندك ولا شك :
وقد نقل الإجماع على تحريمها :
1 - قال ابن حزم : واتفقوا أن حلق جمبع اللحية مثلة لا تجوز "
2 - ابن القطان ارتضى عبارة ابن حزم في كتابه الإجماع
3 -قال ابن عابدين : الأخذ من اللحية دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال لم يبحه أحد.
ينتقض هذا الإجماع بأمر واحد وهو نقلك للخلاف قبله ولم تفعل ذلك
كتابك على كبره أجبت على أقوى حجة لنا وهي الإجماع بأسطر معدودة وكأن هذا الدليل لا يستحق التوقف فضلا عن التأمل اقرأ ما كتبته أنت في مناقشتك للإجماع :(1/46)
" أما ما ادعاه ابن حزم من الاتفاق على أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز فصواب في أن المثلة لا تجوز لكن تسليم أن يكون حلق اللحية مثلة موضع نظر "
يا الله بالله عليك هل هكذا تعلمت كيف تناقش الإجماع ما فائدة حكم الإجماع إذا ؟بل ما فائدة الأقوال السابقة إذا ؟ بل ما فائدة طلب العلم كله إذا ؟
بهذه الحجة الهزيلة تقارع الإجماع
نعم قل الخلاف القديم محفوط ، قل الإجماع ليس على المسألة
أما أن تناقش الإجماع نفسه فهذا مما لم أعتد عليه
ثم قال :
والمقصود أن دعوى الإتفاق هي من قبيل عدم العلم بالمخالف وقد ذكرت آنفا أن السلف لا يعرفون حلق اللحية ولا يعرف فعله عن أحد وإليه يرجع قول من وصفه بالمثلة على ما سأبينه "
سبحان الله إن لم يكن هذا دليلا على التحريم القطعي فكيف يكون التحريم يا أخي يدك كتبت باختيارها ما يحطم قولها تماما
السؤال الكبير " لماذا لماذا لم يحلقوا مع أنه في عصرهم وجد من يحلقها من الأعاجم لماذا ألا تستطيع أن تسأل نفسك وتجيب عليها ؟
واقرأ ما كتبته يداك بعده فسبحان الله
تقول : فحيث لم يجد ابن حزم من قال بإباحة حلق اللحية من السلف ومتقدمي العلماء جعل ذلك منهم بمنزلة الاتفاق على المنعمع أنه كما قدمت لم يأت عنهم القول بتحريم حلق اللحية بل صورته محدثة "
لا أدري كيف أرد على هذا أأكتفي به ردا عليه ولكأن من كتب هذه الكلمات يرد على المؤلف نفسه
طالما أنك لم تجد من قال بإباحته ووجدت من نقل الإجماع على حرمته فماذا تريد بالله ماذا تريد أكاد أحار وأنا أقرأ كثيرا من مثل هذه التناقضات العجيبة
لا أقول هذا تهويلا علم الله ولكني لا أدري ماذا يريد المؤلف نفسه فلا تلوموني وإن تحمست كثيرا فلا تعجبوا مني بل اعجبوا من مثل هذا الكلام الغريب
ثم انظروا كيف ختم هذا الرد القصير على هذا الإجماع :(1/47)
فينبغي أن لا ينسب إلى المتقدمين قول بخصوص ذلك لم يقولوه ولا يكفي تصريح بعضهم بأن فعله مثلة أن يكون مثلة عند جميعهم "
ما شاء الله بهكذا تقتل الأدلة وتضيع الأصول
يا أخي نقول لك الإجماع منعقد تقول لا يكفي إذا ما الذي يكفي ؟؟
وانتهى الكاتب من الرد على الإجماع بهذه الأسطر " أحد عشر سطرا " وحسب أنه قد أجهز عليه وما علم أن معظمه في الرد على نفسه
ولما كان الكاتب لم يقتنع بالخلاف الذي ذكره قبل صفحات لم يشر إلى الخلاف لأنه يعلم أنه لا يقاوم هذا الإجماع كما سترى فاكتفى بعدم قبوله له
وإلا وإلا فلو وقف على خلاف لما احتاج إلى تطويل الكلام أبدا فقال " أبو حنيفة يرى جوازه أو كراهيته أو ابن حنبل يرى جوازه أو كراهيته " ولكن لما لم يجد إلى ذلك سبيلا فر من ذكر هذا إلى الأسلوب الإنشائي الذي لا يرتضيه صغار طلبة العلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
والمؤلف قبل صفحات حشر نفسه مع الفقهاء وفهم كلامهم وليته لم يفعل لأنه أبان عن ضعف ملحوظ في البنية الفقهية والملكة التحليلية لكلام الفقهاء فحاص فيها وتخرص وإليك التوضيح :
يا أبا محمد : قلت لك قبل نحن نتكلم عن الحلق فلماذا تستند إلى الإعفاء ؟
أين كلام الفقهاء في جواز أو كراهية الحلق ؟ اقرأ ما كتبته في كتابك :
" 1 - عند فقهاء الحنفية :
نقلت عن الكاساني تحريمه
ثم نقلت إجماع ابن الهمام وعلقت عليه بما والله أستحيي من نقله ولكن ليعلم القارئ كيف تفكر :
تقول : فصدق ابن الهمام في أن ذلك الفعل- يقصد الحلق- لم يبحه أحد ، وعدم الإباحة لا يعني التحريم إنما الإباحة واحد من الإحكام التكليفية الخمسة ومنها الكراهة والتحريم فما الذي أراده ابن الهمام ؟ "(1/48)
فعلا سؤال قوي لا يعرف إجابته أحد ؟!! بالله عليك يقول لم يبحه أحد فما معنى عبارته إن كنت لا تفهم هذه العبارة فاطو الكتب ودع عنك هذه السبيل فليس لك !!وعلى كل فالذي توصلت إليه يا أبا محمد بعد جهد جهيد أن الحنفية رأيهم التحريم والحمد لله
2 - فقهاء المالكية :
قلت لك يا أبا محمد إن لكل مذهب أصوله وضوابطه
إذا كان الإمام مالك حرم حلق الشارب كما في رواية ابن عبد الحكم عنه فقال : ليس إحفاء الشارب حلقه وأرى أن يؤدب من حلق شاربه ورواية أشهب حلق الشارب من البدع " ورواية ابن القاسم : حلقه مثلة " وفي رواية ابن يونس " يوجع ضربا وهو بدعة "
ولم يذكروا قولا عندهم بجواز أو كراهية الحلق الكراهة التي فهتمها وهي غير التحريم
بل قال الحطاب كلاما واضحا في مواهبه فقال :
قال ابن يونس في جامعه : قال مالك فيمن أحفى شاربه يوجع ضربا وهو بدعة وإنما الإحفاء المذكور في الحج إذا أراد أن يحرم فأحفى شاربه خشية أن يطول في زمن الإحرام ويؤذيه وقد رخص له فيه وكذلك إذا دعت ضرورة إلى حلقه أو حلق اللحية لمداواة ما تحتها من جرح أو دمل أو نحو ذلك "
لا أظن أني بحاجة إلى شرح للمذهب إذ هذا التصريح بعدم الحلق للشارب واللحية إلا من ضرورة
فبالله عليك إذا كان الشارب فيه هذه الأوصاف " المثلة ، البدعة ، التأديب ، التحريم " مع أن هناك رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم : انهكوا ، جزوا " ومع وجود الخلاف بين أهل العلم في جواز حلقه ومع هذا قولا واحدا عند المالكية بالتحريم فكيف سيكون حكم حلق اللحية عندهم لو كنت تقرأ وتتفهم كلامهم كما الواجب
ثم بعد ذلك تقول بعد ذلك " إن للمالكية وجهين في حلق اللحية : الكراهو ، والتحريم "
انظروا أيها القراء إلى نقوله عن المالكية :
1 – قال : نقلوا عن التمهيد " ويحرم حلق اللحية " وذكر التمهيد للمالكية يعني كتاب الحافظ ابن عبد البر في شرح الموطأ ولم أجد فيه شيئا من هذا "
مشكلة كبيرة :(1/49)
كثيرا ما يشير إلى مثل هذه العبارات " لم أجد شيئا من هذا " أو لم أجده بأسلوب التضعيف بسبب عدم الوقوف عليه ؟ ! سبحان الله إذا كان الأئمة قد نقلوه فماذا تريد ، ثم أمر آخر هل تصفحت التمهيد كله لتنظر صفحة صفحة بل هل قرأت بضعة مجلدات منه حتى تحكم هكذا أو اقتصرت على هذه البرامج ثم نسفت أقوال الأئمة لما لم تجدها لا يمكن أن يقبل طلبة العلم فضلا عن كبارهم مثل هذه الإسقاطات أبدا
ثم نقلت أن المتأخرين صرحوا بالتحريم في بعض شراح الرسالة وبعض شراح مختصر خليل
ونقلت قول الشيخ : علي محفوظ : مذهب السادة المالكية حرمة حلق اللحية "
3 – ونقلت قول أبي الحسن المالكي في شرح الرسالة أنه عد حلق اللحية بدعة
4 وأما العدوي فنقلت عنه قوله " بدعة محرمة "
5 – ثم نقلت قول أبي العباس القرطبي بقوله : لا يجوز حلقها "
كل هذه النقول لم تعجب أخانا أبا محمد فعلق عليها قائلا :
هذا الذي ذكرت عن المالكية يقتصر عليه كثير من المؤلفين في حكم " إعفاء اللحية " مما يصور في أذهان كثير من الناس أنه المذهب فيغر بمظنة الاتفاق عليه عند علماء المذهب والإنصاف في مثل هذا يوجب أن يذكر الاختلاف إن وجد والتحقيق أنه موجود عند المالكية في هذه القضية "
كل هذه النقول وهذا التهويل في شأن اللحية البدعية ، الحرمة ، المثلة لم تستطع أن تستنتج منها التحريم القطعي عندهم
لا بأس للنظر إلى الخلاف المزعوم عند المالكية
قال : قال القاضي عياض ( المتوفي سنة : 544 هـ ) وكره قصها وحلقها وتحريقها وقد جاء الحديث بذم ذلك وسنة الأعاجم حلقها وجزها وتوفير الشوارب "
فيه وقفتان : الوقفة الأولى ذكر أبو محمد سنة وفاته من أجل أن يخبرنا تقدمه
ونقول ناقل الإجماع توفي قبل هذا بقرابة مائة سنة إن كانت المسألة في ذكر الوفيات وبطريقة تفكير كثير من أهل الظاهر وبعض المنتسبين للحديث فتنبه(1/50)
ثانيا : قول القاضي عياض ظاهر بأنه لا يتكلم عن المكروه والمحرم بدليل أنه قال : وقد جاء الحديث بذم [فاعل ] ذلك " فهذه ظاهرة بمقصد المؤلف
مع أن المؤلف وللأسف وللأسف أسقط كلمة " فاعل " !! على أهميتها مع أنها موجودة في شرح القاضي وقد نقل منه وموجودة في شرح الأبي وقد أشار إليهما في الحاشية فسبحان الله ولا شك أن هذه الكلمة محور وأساس فهم الكلام فإن كان الكلام عن الكراهة الشرعية التي تعريفها فهو ما يثاب تاركها ولا يعاقب فاعلها
فإذا كان المؤلف يقول " يذم فاعله فقد أوضح عن مقصده تماما بما لا مجال فيه للشك ففعاعل المكروه ليس بمذموم فتنبه !!!
وكذلك قوله سنة الأعاجم ظاهر في كونه يرى الحرمة
وكذلك القاضي عياض يرى حرمة حلق الشارب كما نقله عن مالك فكيف يرى حرمة الشارب ولا يرى حرمة اللحية هذا لا يستقيم أبدا
ثم قال : فهذا القاضي عياض ممن إليه المنتهى في معرفة مذهب مالك مع الدراية بالنقل لم يذكر في حلق اللحية غير الكراهة وهي عند غير الحنفية كراهة كراهة التنزيه لا التحريم "
هذا الكلام غلط :
الأول : القاضي عياض ذكر أنه مكروه وبرر له ما يوجب التحريم فدل على أنه يقصد الكراهة التحريمية بدليل أنه مذموم فاعله
الثاني : من قرر هذه القاعدة أن الحنفية إذا أطلقوا الكراهة فهم يقصدون التحريم بخلاف المذاهب الأخرى
نحن في مذهبنا كثيرا ما يطلق الإمام مثل هذه الألفاظ وأقل منها ومع هذا يفهم منها التحريم ولا أظن أني بحاجة إلى مثال لأن طلاب العلم يدركونه جيدا
ثم جاء بالقاصمة بما نقله عن الزرقاني ولا أريد نقله لأنه مما يفتت الكبد
بعد هذا توصل إلى أن المذهب المالكي فيه وجهان الكراهة والتحريم بناء على فهمه لكلام القاضي الذي عبث وتصرف في نصه "
وعليه فما ذكره عن المالكية من الخلاف غير مقبول أبدا لا من حيث النقل ولا من حيث الفهم
3 – فقهاء الشافعية :(1/51)
إن لم تخن الذاكرة أن أبا محمد شافعي المذهب من خلال ما علق في ذاكرتي من ترجمته ولكن فهمه وتحريره للمذهب غريب
نقل أبو محمد ما يلي من المذهب الشافعي :
1 – أبو عبد الله الحسين الحليمي ( المتوفي 403هـ ) : لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ...بخلاف حلق اللحية فإنه هجنة وشهرة وتشبه بالنساء فهو كجب الذكر )
إلا أن هذا النقل طبعا لم يعجب أبا محمد فعلق عليه قائلا :
" أقول كون القول يذكر عن فقيه منتسب إلى مذهب من المذاهب الفقهية لا يعني أن يكون ذلك القول هو المذهب إنما يذكر على أنه وجه فيه وما قاله الحليمي ليس قول المحقيقين من فقهاء الشافعية "
ما شاء الله الحليمي ليس من محققي المذهب بل هو فقيه منتسب إلى المذهب ، طيب هذه فائدة لعلي لا أجدها عند غيره فالحمد لله
ثم ذكر كلاما لابن الملقن سآتي عليه
ولكن عقب هذا قائلا :
وممن صرح بالكراهة من أعيان الشافعية :
الخطابي ( المتوفي سنة 388 هـ) : فقال : وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم وكان زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب فندب النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة " إ.هـ
ما شاء الله تبارك الله على هذا النقل ألم أقل لكم قبل إنه لا يدري أحيانا ماذا يبحث !! الخطابي يقول " كره لنا أن نقصها ....وكان زي آل كسرى قص اللحى " أين الشاهد يا أبا محمد ليس هذا موضع المسألة ماذا تريد من هذا النقل ولكن كما قلت : تشتت في الفكرة / القص ليس موضع المسألة
2 – نقل عن الغزالي المتوفي سنة 505هـ وبعده النووي المتوفي سنة (676هـ ) فذكرا خصالا مكروهة في اللحية منها بعبارة النووي " نتفها في أول طلوعها وتخفيفها بالموسى إيثارا للمرودة واستصحابا للصبا وحسن الوجه وهذه الخصلة من أقبحها " إ.هـ
احترت بك يا أبا محمد لا أجد ما أصفك به لأبري ذمتي في طريقة بحثك هذا تأمل ما أذكره :(1/52)
أولا : جميع من نقلت عنه الإجماع سابق له فلا تحتج بمن بعده
ثانيا : أئمة المذهب المتقدمون نقلوا التحريم كما ذكرت بل إنك نقلت عن ابن العرفة في حاشية الكافية بأنه نقل أن الشافعي نص في الأم على التحريم
وكذا قال الزركشي وكذا الحليمي في شعب الإيمان وأستاذه القفال الشاشي في محاسن الشريعة وقال الأذرعي الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها كما يفعله القلندرية
فهؤلاء المتقدمون نقلوا التحريم ولم ينصوا على غيره .
وأما النووي فلم يقصدوا بالكراهة الكراهة التنزيهية بدليل قول النووي نفسه وإليك النقل عنه كما في شرحه لمسلم :
وأما اعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى أوفوا اللحى في الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحا من بعض احداها ....الخامسة نتف الشيب السادسة تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء .....الثانية عشر حلقها الا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها "
تأمل ما سأكتبه :
أولا : وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك
ثانيا : قول المؤلف : بعضها أشد قبحا من بعض " دل على أن هذه الخصال غير مستوية وبعضها يصل إلى التحريم بدليل ثالثا
ثالثا : النووي يرى حرمة نتف الشيب ومع ذلك عدها من الخصال المكروهة فدل على أن كلمته وبعضها أقبح من بعض أنها قد تصل إلى الحرمة
ثم إن المؤلف أبا محمد نقل عن شرح العباب من كتب الشافعية عن الشيخين الرافعي والنووي قالا يكره حلق اللحية " فقال :
وتعقبه صاحب شرح العباب وغيره باعتراض الفقيه نجم الدين ابن الرفعة (المتوفى سنة 710هـ ) بأن الشافعي نص على التحريم في الأم كما ذكر عن غير واحد من أعيان الشافعية
ولهذا لما رأى الكاتب أبو محمد هذا قال :
والذي أراه جمعا بين المشهور عن الأصحاب وما حكاه ابن الرفعة وسبقت حكايته من نص الشافعي أن في المذهب وجهين ..."(1/53)
المؤلف أهم شيء هو أن يحصل على الخلاف بأي وسيلة ولو كان متأخرا فجميع النصوص التي يصرح فيها الشافعية بكراهية حلق اللحية هم من المتأخرين كما رأيت وهم الذين نقل منهم المؤلف
ولهذا نقل كلام ابن الملقن (المتوفى سنة 804 هـ) بعد نقله لكلام الحليمي بتحريم الحلق قال : وماذكره في حق اللحية حسن وإن كان المعروف في المذهب الكراهة "
هذا عرف المتأخرين من الشافعية مع أنه سبق نقل قول الإمام والمتقدمين منهم والإجماع انعقد في وقتهم فلا مجال لخرقه أبدا هذا هو المعروف من هدي أهل العلم فإذا كان لم يجد من خرق الإجماع قبل انعقاده فلماذا يتزعم هذا القول ؟!!
وعليه فلا يقبل نقل الخلاف بعد انعقاد الإجماع كما سيأتي النقل عن الأئمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4 – فقهاء الحنابلة :
أما كلامه على مذهبنا فهو أمر فيه عجائب وغرائب ولست والله مبالغا في هذا وأجزم بأن كل من سيقرأ ما أورده لن يصدق أن أبا محمد قد كتب في كتابه ما كتب وهو الذي له أكثر من عشرين سنة وهو يراجعه
لقد أخطأت على مذهبنا يا أبا محمد واختزلته بصفحة ونصف الصفحة ؟! ثم خرجت بغرائب
انظروا ما كتبه أبو محمد عن مذهبنا :
قال : لا يذكر حلق اللحية إلى زمن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية" المتوفى سنة 728هـ) فإن عامة متأخريهم يعولون على اختياره وأما المذهب قبله فعلى استحباب إعفاء اللحية "
اتق الله يا أبا محمد والله إنك مسؤول عن هذا الكلام ، كيف تريد أن أتعقبك وعن أي شيء أيضا ؟
أولا : لم يذكر أحد من أصحابنا الحنابلة غير التحريم سواء كانوا نقلوا عن شيخ الإسلام أم من غيره كل كتبنا التي فيها الكلام عن حلق اللحية تنص على التحريم دون استثناء وقد ذكره ابن تيمية وابن مفلح والمرداوي والبهوتي بل نص الحنابلة عن على حرمة الاستئجار لحلق اللحية
ثانيا : انظروا إلى ما عقب به بعد ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله :(1/54)
"أما المذهب قبله – يقصد شيخ الإسلام – فعلى استحباب إعفاء اللحية "
ما شاء الله تبارك الله على هذه الفائدة !!!
يا أبا محمد لماذا حولت على مسألة الإعفاء نحن نتكلم عن الحلق أنسيت أم ماذا حصل لك ولماذا هذه المراوغة
أرجو أن تضع هذه الألفاظ في عينك " إعفاء ، قص ، تحديد ، الأخذ منها " ونحوها أنها ليست محل البحث وما كبر كتابك إلا بمثل هذا
واصلوا معي القراءة يا قراء لكلام أبي محمد لإثبات أن الحنابلة مذهبهم استحباب الإعفاء – وأعانكم الله على الكلام المكرور –
قال :فقد قال الفقيه ابن مفلح " المتوفي سنة 763هـ ) وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب ثم ذكر حديث الأمر بالمخالفة للمشركين والمجوس وحديث زيد بن أرقم في الأخذ من الشارب وقال هذه الصيغة تقتضي التحريم عند أصحابنا وقال ابن مفلح " ويسن أن يعفي لحيته " ولم يجاوز هذا القدر في حكم الإعفاءوهي عبارة الاستحباب "
طيب يا أبا محمد دعني أتأمل كلامك على وضوحه ولكن ما حيلتي :
1 - قول ابن مفلح إن ابن حزم نقل الإجماع على أن إعفاءها فرض " فيه ملحوظتان :
الأول : أن هذا الكلام حجة عليك من حيث أن إعفاءها فرض ومالذي يخالف الإعفاء تماما ؟ لاشك أنه الحلق وكذلك قص الشارب على أي درجة كانت إما بحلق أو حف أو ما شابه ذلك وقد نقل ابن حزم نفسه الخلاف في الحلق كما سيأتي المهم أن لا يترك وتركها حتى يطول جدا محرم كما نقله ابن حزم
وعليه فليس هناك كلاما على الحلق أبدا ولايدخل في قضيتنا
الثاني : أن ابن مفلح تعقب ابن حزم في إجماع ليس على الحلق يا رجل بل حكم الإعفاء وحكم قص الشارب بدليل أن ابن حزم نفسه قال كما في مراتب الإجماع : واتفقوا أن قص الشارب وقطع الأظفار وحلق العانة ونتف الإبط حسن واختلفوا في حلق الشارب "
فقول ابن مفلح " ويسن أن يعفي لحيته " ليست موضع الشاهد يا رجل(1/55)
2 – ابن حزم في نقله في مراتب الإجماع ليس كما نقله ابن مفلح فلفظه : واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز " وإنما ذكر الفرض في كتابه المحلى دون نسبة الإجماع
واعجب جدا من أبي محمد عندما كتب ما سيأتي وليته والله لم يكتبه :
قال : وظاهر قوله – يعني ابن مفلح - المتقدم " وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب " الاستدراك على ابن حزم في ادعاء الفرضية في الأمرين : قص الشارب وإعفاء اللحية نعم أورد النصوص الآمرة بالمخالفة ملزما الحنابلة بما جروا عليه في مذهيهم أن هذه الصيغة تقتضيه فالجاري على طريقتهم القول بالتحريم لكنهم مع ذلك لم يقولوا به إلا ما حكاه عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال " ويحرم حلقها " إ.هـ
لا إله إلا الله
أين حجتك في هذا الكلام الإنشائي على مسألة حلق اللحية !! كل هذا الكلام لا ينفعنا في مسألتنا أبدا أبدا " تقول يرد على ابن حزم في ادعاء الفرضية في الأمرين : قص الشارب وإعفاء اللحية "
ثم ماذا ثم ماذا يرد عليه ولا يخالفه ماذا نستفيد في مسألتنا هذه ؟؟ الجواب لا شيء
هذا إذا قلنا إن تعقب ابن مفلح في محله وإلا فإن تعقبه يحتاج إلى تأمل فابن حزم لم يدع الإجماع في هذا الكلام
ثم تفتتت كبدي بقولك " ملزما الحنابلة بما جروا عليه في مذهبهم أن هذه الصيغة تقتضيه فالجاري على طريقتهم القول بالتحريم لكنهم مع ذلك لم يقولوا به "
اللهم أفرغ على قلبي صبرا ، الحنابلة يقولون يحرم حلقها وسيتحب إعفاؤها ألا يستطيع عقلك أن يجمع بين هذه الأمرين
أنت في صفحات كثيرة سودت وطولت في أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإعفاء لا يلزم أن يكون أن لا تقص ولا يؤخذ منها ثم هنا تستشكل هذا ؟!! سبحان الله
عموما انظروا أيها القراء إلى النتيجة التي وصل إليها الباحث بعد هذا العبث في الفهم :
فقال :فحاصل مهذب الحنابلة وجهان :
الإول إعفاء اللحية مستحب وعليه فغايته ما يقابل ذلك الكراهة
الثاني حلق اللحية محرم ""(1/56)
آمنا بالله يا قراء يا عقلاء والله إني أقجر أناملي لأكتب على اللوحة من شدة ما أجد في نفسي من الغيظ لئلا أجرحه ولا أجرح محبيه
ماذا تسمون هذا اصدقوا مع أنفسكم ماذا تسمون
أعيده عليكم الوجه الأول :
" الإول إعفاء اللحية مستحب وعليه فغايته ما يقابل ذلك الكراهة "
هل يفهم منه أنه وجه بكراهية حلق اللحية لن أعلق أكثر من هذا فأنا في نفسية محطمة أن يأتي هذا الكلام من شخص اشتهر وأصبح له طلاب وينتسب إلى أهل الحديث ويزعم أنه راجعه عشرين سنة
فاللهم اهدنا فيمن هديت
وعليه أيها المحبون لم أجد ما خرم إجماعنا بحمد الله من كلام أهل العلم في مسألة حلق اللحية
وعلى أبي محمد أن يرجع عن قوله لمخالفة الإجماع فلم يخالف في حجية الإجماع إلا طائفتان متناقضتان :
الأولى : الخوارج وأهل العقل كالنظام ومن على شاكلته والشيعة "
وأنت أكرم من هؤلاء كلهم فيما نحسبك فاسمع لداعي أهل السنة ممن يحونك ورجوعك إلى هذه السبيل خير لك في الدنيا والآخرة ولا تستغرب إنكار إخوانك ومحبيك لك فلأن الأمر ليس كما يصوره البعض أنها مسألة سهلة
لا والله أنت خرقت الإجماع ولا أظنه يخفاك كلام ابن حزم فيه
قال البغوي رحمه الله : "ولو أن عالما مجتهدا يروي له رجل عدل وإن لم يكن مجتهدا خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح أو دله على إجماع خفي عليه يجب عليه قبوله والعمل به "
يا أبا محمد :(1/57)
أرجو ألا تسيء الظن بي أو بأني أحمل حقدا عليكم أو حسدا وبغيا لشخصكم ، أقسم بالله الذي لا يحلف بغيره أن هذا غير موجود في قلبي واعلم أنني ما كتبت مشاركة في هذا الموضوع إلا وينتابني تردد عظيم ، وإن كنت متابعا لي في كتابتي في هذا الملتقى فإنه ليس من طبعي التأخر في مواضيعي ولا أحب هذا بل أذكر ما عندي وأنتقل إلى غيره ووالله ما تأخري في إضافة كل مشاركة مع أنها جاهزة إلا من أجل أن أتروى وأبعد عن نفسي حظوظ النفس فتحمل مني هذا الكلام وكما أنك تطلب منا أن نحسن الظن بك وإن خالفتنا ولمزت كثيرا في كتابك من يرى خلاف رأيك فنرجو منك ومن محبيك أن يتحملونا في كتابتنا هذه لنبعد أولا الشك من قلوب كثير من الناس ولأجل أن نبين لك بعض الأخطاء التي وقعت فيها لتتلافاها مادام في العمر فسحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب بكل صراحة لم يحرر ولم يراجع وهذا أقوله بسبب ما قرأته عنكم في هذا الملتقى من ثناء من بعض الإخوة على علميتكم وإلا فلو كان لغيركم ممن لا يعرف لاتهمته بشيء آخر
ففيه من التناقضات والمفارقات مالا يخفى على قارئ إليك بعضها :
1 - قال ص 309 : مذاهب الفقه المتبوعة عند أهل السنة في شأن إعفاء اللحية لم يأت في شيء منها إباحة حلق اللحية وإنما فيه عند أكثرهم وجهان أولهما كراهة حلقها ويقابله ندب إعفائها وهذا أحد الوجهين للمالكية والشافعية والحنابلة
وثانيهما : تحريم حلقها ويقابله وجوب إعفائها وهو مذهب الحنفية والوجه الآخر للمذاهب الثلاثة السابقة "
ستسأل يوم القيامة عن هذا الكلام
ما معنى هذا الكلام إن كنت تقصد بوجوب إعفائها عدم الأخذ منها
فأرد عليك من كلامك وبما كتبته :
قلت ص 304 : لم يقل أحد منهم لا يجوز الأخذ من اللحية
وقلت ص308 : لم أجد من منع مسها وتهذيبها في رأي من سلف سوى شيء شاذ محدث في زماننا
فهذا رد على هذا المعنى على أن هذا الكلام غلط خطأ ولكنه ليس موضع رده(1/58)
وإن كنت تقصد أنه يسن عدم حلقها ويكره حلقها فأين هذا النص في كتب الحنابلة أو المالكية أو الشافعية المتقدمين
التناقض الثاني :
قلت في ص 190 : وإذا تبين كون هذا هو المطلوب فعله بالشارب وقد قوبلت به الأوامر بضد ذلك في اللحية فيتضح منه :
1 – ترك الأخذ من اللحية وذلك أن قص الشارب جاء الأمر به على سبيل المقابلة لما يصنع باللحية فحيث شرع القص فالذي يقابله فيما يندرج تحت دلالة الألفاظ الواردة في اللحية إنما هو الإعفاء من القص والأخذ "
يا أبا محمد لماذا تحملني على إساءة الظن بك :
تقول : فحيث شرع القص فالذي يقابله فيما يندرج تحت دلالة الألفاظ الواردة في اللحية إنما هو الإعفاء من القص والأخذ "
دعني أترجم مالم ترد أن تصرح به ولا أدري لماذا :
فحيث شرع القص فالذي يقابله - مشروعية - الإعفاء من القص والأخذ "
أليس هذا منطوق كلامك الذي لم تصرح به أجبني بتجرد فلماذا إذا ؟ بل إنك قلت ص 306 : والمقصود أن تحسين هيئة اللحية لمن اتخذها حسن لا بأس أن يأخذ من طولها وعرضها ويسوي أطرافها .
يا أبا محمد : السؤال المباشر احترنا في رأيك في الأفضل ما هو ؟!! هل هو عدم الأخذ منها مطلقا أم مساواتها وتقصيصها حتى تكون بمستوى واحد ؟ !!
أعتذر من الإخوة عن المواصلة وإلا فقد رصدت أكثر من ذلك ولا والله ما منعني إلا أنني أحس بأن هذا كاف في مراجعة أبي محمد لنفسه من أجل أن يتبين له خطورة ما زبره في كتابه
وأعتذر مرة أخرى لأبي محمد إن كنت أخطأت عليه بكلمة أو زل بي قلم وأقدم له اعتذاري الشديد منه
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
المقرئ
www.ahlalhdeeth.com
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني أهل الحديث بارك الله فيكم ونفعنا بحبكم :(1/59)
قبل أن أبدأ بما أريد أرسل رسالة مفضوضة بكارتها إلى أبي محمد = ذلك أنه قطع السبيل على من أراد وصاله :
أقول لأخينا أبي محمد والله لم أسلك هذه الطريق لأرتقي على أكتافك أو أتشبع باسمك
ولكنه والله إبراءا لذمتك أولا ثم إعذارا لمن تأثر برأيك
ولقد تأملت كثيرا في كتابه المسمى ( الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام )
فكان توقفي مع العنوان طويلا جدا فما الذي حدا بالأستاذ أبي محمد أن يحشر في العنوان ( الموسيقى ) وهو يعلم أنه لن يجد سبيلا في إباحتها كما سيرى القارئ بإذن الله
ويتبادر إلى الذهن من أول وهلة أن الأستاذ إنما أراد أن يرسل رسالة إلى القارئ قبل أن يبدأ بالقراءة أن الغناء هو الموسيقى ويحجب عنه سؤالا واردا عند التفكير بهذه المسألة وهو ألا يوجد فرق بين الغناء والموسيقى ؟ !! فأراد بهذه الضربة جعل هذه المسألة من المسلمات في عقله فلا يرد عليه هذا السؤال
وسيرى القارئ الكريم : أن أبا محمد جنى جناية كبيرة على نفسه وعلى مقلديه بمثل هذا الروغان وهذا التشويه غير المبرر
وقد قلت سابقا : في نقاشي معه في كتاب " اللحية " أن نفسية أبي محمد غريبة الأطوار ، عجيبة التحول ، لا يمكنك فهمها بسبب التشتت الذهني الذي يحسه القارئ عند قراءته لكتبه
فأحيانا تقول إنه يكتب وينسى ، وأحيانا تقول إن الفكرة التي كتبها إنما هي وليدة اللحظة التي كتب فيها وليست نتيجة بحث أو تقص ، وأحيانا تقول غير ذلك والظن أكذب الحديث
ومن الموافقات والغرائب أن المؤلف وقع في نفس الخطأ تماما الذي وقع فيه في كتابه السابق ( اللحية ) فقد قررت هناك أن المؤلف يتكلم عن الحلق ثم يستدل بكلام أهل العلم عن إعفاء اللحية فعنده مشكلة في المصطلحات وفهمها ، وفهم الأدلة والتعامل معها بناء على لغة مرباه ، والمصطلحات الدارجة عند الناس في وقتنا
وسأبين لك أيها القارئ أن الباحث لم يأت بجديد أبدا في كتابه المطول هذا(1/60)
وأعيد مقالة كنت قد قلتها قبل عند مناقشته في كتابه " اللحية " ما نصه : (
وأتحدى أن يجيب على واحدة منها إجابة تليق بالمنهجية العلمية لا منهج التنصل والحيدة فكل يستطيع ذلك ولهذا لن أجيب على أي إجابة باردة بل سأتركها وهذا هو الرد لمثل هذه الردود
فإبليس لما رفض السجود لله احتج بحجة ولم يقر يالخطأ بل ذكر حجة له وهي أنه امتنع من السجود بسبب أنه أفضل من آدم هو مخلوق من نار وآدم خلق من طين ومع هذا لم يرد الله عليه بل طرده ولم يفند حجته مع ظهور الرد عليه من وجوه وكفى بها إذلالا )
والله من وراء القصد ويسر الله الإتمام
المقرئ
أراد أبو محمد أن يدخلنا في قضية لا تنتهي ويستطيع المحاور أن يراوغ من أي جهة شاء
وحتى نضع النقاط على الحروف كما يقولون :
لنقيد أبا محمد في مسألة سماع الموسيقى ودعنا من قضية الغناء لأنها مفهوم متداخل مع الجائز ومع غيره وما دام أن الموسيقى في زماننا هذا غير منفكة عن الغناء المحرم فلنناقش أبا محمد عن الموسيقى ولندع الغناء جانبا حتى ولو لم يوجد مغن أصلا
فهل أتحفنا أبو محمد في هذه المسألة واستطاع أن يتخلص من هذا الإيراد وهو الذي سمى كتابه ( الموسيقى )
للأسف كلا ولم يستطع ولن يستطيع
وسأسير مع الكتاب بشكل رتيب جدا ولن أراوغ أبدا لا في الفهم ولا في النقل بل سأنقل الأمر للقارئ وهو بدوره يستنبط دون وصاية على أحد في فهمه ولنبدأ على بركة الله فاللهم لا حول ولا طول ولاقوة إلا بك يا عظيم
ـــــــــــ
المسألة الأولى :
يا أبا محمد :
نقل جمع من أهل العلم الإجماع على تحريم الموسيقى وآلاته إلا ما استثناه الدليل ، وكأني بأبي محمد قد علم بهذا الإجماع كيف لا وقد ناقشه على استحياء جدا إلا أنه لم ينقل للقارئ نصوص الإجماع ليكون القارئ على بينة من أمره وأوكل القراء إلى أمانته في فهمه لنصوص أهل العلم وليتك يا أبا محمد لم تفعل ذلك فلا تليق بمثلك(1/61)
وقد خالف الأستاذ الجديع هذا الإجماع وناقشه نقاشا باردا جدا كما سيأتي وسأنقله لكم دون أي اختصار أو تحرير بإذن الله تعالى
وكلنا يعلم أن من أثبت لك إجماعا منقولا عن عدد من أهل العلم فالرد عليه أن تنقضه إما بعدم صحة النقل أو عدم فهم الإجماع المنقول أو بوجود الخلاف أو غير ذلك مما هو معلوم في كتب الأصول بما يسمى " بالأسئلة الواردة على الإجماع "
فللنظر إلى الإجماعات المنقولة ثم ننظر كيف رد عليها أبو محمد :
1 – أبو بكر الآجري (ت360هـ) : نقل إجماع العلماء على تحريم سماع آلات الملاهي
2 - حكى أبو الطيب الطبري الشافعي (ت450هـ) : الإجماع على تحريم آلات اللهو وقال إن استباحتها فسق .
3 – ابن قدامة المقدسي ( ت: 540هـ) : وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيه ... ولنا أنه آلة للمعصية بالإجماع
4 – الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح (ت : 643هـ) : وقال ابن الصلاح في "فتاويه": « وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين. ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع )
5 – أبو العباس القرطبي ( ت : 656هـ) : وأما ما أبدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة فمن قبيل مالا يختلف في تحريمه )
6 – شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ ) : ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا )
وقال أيضا : فمن فعل هذه الملاهى على وجه الديانة والتقرب فلا ريب فى ضلالته وجهالته وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فمذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام )
وقال أيضا في المنهاج : قوله – يعني الرافضي- ( وإباحة الغناء ) فيقال له هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه(1/62)
وقال أيضا في المنهاج : والمقصود هنا أن آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة ولم يحك عنهم نزاع في ذلك
7 – تاج الدين السبكي ( ت756هـ) : ومن قال من العلماء بإباحة السماع فذاك حيث لا يجتمع فيه دف وشبابة ولا رجال ونساء ولا من يحرم النظر إليه .
8 – قال ابن رجب (ت 795هـ) : وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاه من وضع الأعاجم فمحرم مجمع على تحريمه ولا يعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى )
وقال أيضا عن سماع الملاهي : ( سماع آلات اللهو لايعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها إنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به .)
9 – ابن حجر الهيتمي قال (ت : 974هـ) : الأوتار والمعازف " كالطنبور والعود والصنج أي ذي الأوتار والرباب والجنك والكمنجة والسنطير والدريبج وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق وهذه كلها محرمة بلا خلاف ومن حكى فيها خلافا فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ومنعه هداه وزل به عن سنن تقواه .)
هذه نصوص الإجماع وغيرها كثير جدا تركتها اختصارا لا اقتصارا وأمثالها لطالبها كثير
والآن للنظر إلى أبي محمد كيف يرد على هذا الإجماع .
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
لا أريد أن تشتت ذهني يا هشام المصري وإذا انتهيت فاذكر ما بدالك
وأحذرك من مثل فعلك هذا فأنت وقعت الآن في تزوير للمعلومة ولا تعتقد أنه ينطلي مثل هذه الأمور لماذا لم تنقل كلام الحافظ كاملا ليتبين لك أنك ترد على نفسك :
إليك ماقاله الحافظ بالنص دون جز :(1/63)
وأما الالات فسيأتى الكلام على اختلاف العلماء فيها عند الكلام على حديث المعازف في كتاب الأشربة وقد حكى قوم الإجماع على تحريمها وحكى بعضهم عكسه وسنذكر بيان شبهة الفريقين إن شاء الله تعالى ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الالات كالعود ونحوه كما سنذكر ذلك في وليمة العرس إن شاء الله تعالى )
لماذا لم تنقل زبدة الكلام والحجة في الرد على هذه الشبهة ،
وهيا اذهب إلى باب الضرب بالدف في العرس وانقل لنا خلاف أهل العلم في آلات اللهو إن استطعت = لأنك لن تجد إلا الخلاف في الدف وضربه للرجال والنساء فتنبه
لا أدري متى يترك هذا المنهج وكأن الدين لعبة في أيدي الناس يحرف تبعا للأهواء
أرجو أن تدعني أكمل ودعنا من بنيات الطريق
المقرئ
عنون أبو محمد عنوانا في مبحث مستقل بقوله ( مناقشة الاستدلال بالإجماع )
وهذا شيء طيب ومقبول فهذا هو طريق البحث العلمي
فقال : ( ادعى ذلك كثيرون عامتهم بعد المذاهب الفقهية المشهورة وللتقليد في ذلك تأثير كبير )
أقول : للأسف بداية عنيفة وتهجم تذم أنت راكبه وأنت تدعي التسامح والنقاش باللين وعدم اتهام النوايا
ولقد والله ابتليت أنت بمن أوقع هذه التهم فيك وكما تدين تدان فما أكثر من يتهمك ويحذر من كتبك بل ويتجاوز في ذلك فإن سألت عن السبب فهذا جوابه دون تفكير وتردد
والرد على هذه الجزئية نقول نقلنا إجماعات عن عدد من أهل العلم متقدمين وليسوا بمتأخرين
وقد استغربت كلمة أعتقد أنك لم تتأملها وهي قولك : (بعد المذاهب الفقهية المشهورة ) بالله من من العلماء المعتبرين انتقد إجماعا بهذه الطريقة ومن هم العلماء إلا وهم منتسبون إلى هذه المذاهب الفقهية وهم أبناء بجدتها من أين تريد ننقل الإجماع نقول لك قال أبو هريرة : أجمع العلماء !!أم بقول ابن عباس أجمع كل من نحفظ عنه !! رويدك رويدك يا أبا محمد ما هكذا التنظير(1/64)
ثم قال : ( وأقول : صحة الاستدلال بهذا مبنية على مقدمتين : الأولى : صحة الاستدلال بالإجماع . والثانية : صحة وقوع الإجماع في هذه المسألة وفساد إحداهما فساد للنتيجة على أي تقدير )
أرجو من القارئ الكريم ألا يتجاوز هذه الفقرة الأولى = تأملها وستخرج بما تعجبت منه ولا أستطيع كتابته لتعلم أن الكتاب حشو لا غير
ولكني سأقف مع ما بعدها فتأمل :
( أما الأولى فلا نسلم إمكان وقوع الإجماع على تحريم لشيء كان موجودا في عهد التشريع ولا نص فيه على التحريم بل من الخطأ تصور ذلك أصلا إذ عدم النص يعني عدم التحريم وعدم التحريم يعني الإباحة فكيف يصح وقوع الإجماع على تحريم ما أقرت الشريعة ضده )
قاتل الله الهوى كم يهوي بصاحبه دون أن يشعر
أشك كثيرا أنك فهمت باب الإجماع في كتب الأصول لو أن كل مخالف قال هذا الكلام لما استطاع أحد أن يرد على أحد في قوله بما خالف الإجماع !! كيف تريدنا أن نحاورك = نأتي لك بنص أرى أنه قطعي ثم تؤله بما لم يسبقك أحد عليه أو آتي لك بحديث وتبحث لك عن أي حجة في تضعيفه وكل منا يستطيع ذلك وأتحداك أنت أو غيرك أن تقطع السبيل على مخالفك إن كنت تسلك هذه الطريقة المبتدعة(1/65)
هذه مسألتنا في حكم سماع الملاهي أتينا لك بأدلة من القرآن فما ارتضيتها وأتينا لك بحديث في البخاري وغيره وتكلمت عليه ونقلنا لك إجماعا منصوصا من أهل العلم على اختلاف الأزمان والمذاهب فقلت إنهم مقلدة أتلومني حينئذ إن وصفتك بما تعلم ولا أريد قوله هل تلومني ؟ وقد تذكرت مرة شخصا قلت له إن المرأة ليس عليها جمعة فقال كيف ذلك ؟ فقلت إنه نقل الإجماع على ذلك فقال إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يخرجن للعيد فكيف بالجمعة فقلت إنه إجماع فقال لا يمكن وما هو مستنده فقلت حديث طارق بن شهاب فذهب وبحث وقال إن فيه علة لا تخفى وذلك في حديث طارق بن شهاب وأنا أضعف الحديث لإرساله فقلت له كيف تريدني أن أجيبك وقد قطعت علي الطرق المعهودة في نقاش أهل العلم أنا ألزمك أن تأتي بمن خالف في هذه المسألة وتحتج علي بقول نفسك كيف هذا ؟
وصاحبنا فيه شبه من أبي محمد لا يقر بالإجماع ولم ينقضه كما سيأتي ثم يقول لابد لللإجماع من مستند فإذا أتينا بالمستند قال لا أوافق دلالته ضعيفة إما رواية أو دراية وهل هذا سبيل إلا من اعتقد قبل أن يستدل !!
نرجع إلى أخينا أبي محمد حيث قال :
(ومن جهة أخرى ، فالإجماع على التحقيق لا يصح وجوده في مسألة لم يثبت حكمها بالضرورة من دين الإسلام كأركان الإسلام والإيمان وحرمة الزنا والقتل فهذا هو الإجماع الصحيح الذي من أنكر ما ثبت به كفر لإنكاره معلوما من الدين بالضرورة وخروجه عن الجماعة باتباعه غير سبيل المؤمنين وهذا الإجماع لا يصح ادعاؤه في هذه المسألة فإنها لم يقم دليل واحد كما تقدم على إثبات التحريم فيها فكيف يتصور فيها الإجماع ؟ ...... )
حسنا يا أبا محمد : لن أعلق على هذا الكلام ولعلك تعلم السبب الذي أعنيه ولم تصرح به أنت = لو ثبت أنك لم تسبق إلى جواز سماع آلات اللهو هل ستقول بجوازها أم لا ؟
هذا ما أريده(1/66)
أما الخوض في معنى الإجماع ونقل كلام الإمام أحمد وكلام الشافعي أصبح يعرفه في هذا الوقت صغار الطلبة لكن ما أريد تقريره منك : إذا ثبت أنك لم تنقل من عالم واحد يقول بالجواز فما ذا ستفعل ؟ هل ستقول إن هذا الإجماع سكوتي وأنا لا أحتج به وهذا رأيي ؟ أم ستقول كلا لن أقول به والقول به مذموم وخروج عن سبيل المؤمنين ولا أعلم عالما واحدا نظر هذا التنظير أحسب أن النتيجة هي الثانية
إذا : سنعتبر كلامك السابق لا شيء وهو في طي النسيان فمر عليه ولا تقف
ثم قال : ( وغاية ما يكون عليه اعتبار هذا النوع من الإجماع : أن يستأنس به مع النص أما أن يحتج به مجردا فلا وذلك لاحتمالات منها :
1 – أن يوجد القول المخالف ولم يطلع عليه مدعي الإجماع أو لم يحفظ ذلك القول أصلا إذ لم يتكفل لنا ربنا عز وجل بحفظ جميع أقاويل العلماء )
مرحبا بالخلاف هاته أين هو لو كنت تملكه لما احتجت إلى هذا التطويل والتقرير فأقصر وأما قولك (إذ لم يتكفل لنا ربنا عز وجل بحفظ جميع أقاويل العلماء ) ومحال أن تجتمع الأمة على ضلالة لم يحفظ على مر تاريخ الأمة الإسلامية من حفظ قوله بجواز سماع آلات الملاهي حتى أنقذ الله البشرية بشخصكم ومن وجدته من المتأخرين فقررتموه نعوذ بالله من الخذلان إذا كان هكذا تقريرك كيف ستتناقش مع أهل البدع وأهل الضلال إن كنت تخالفهم لا يمكن أن تقوم لك قائمة معهم ما دمت بهذا التفكير
( 2 – أن يسكت المخالف عن إبداء خلافه مع علمه بالقول الآخر لعلة كخوف أو مراعاة مصلحة راجحة عنده أو لغير ذلك )
الله أكبر دين الله وشرعه لا يظهر على مدى قرون عديدة لمجرد خوف ونحوه ثم مثل بمثال على قول امتنع صاحبه من القول به لخوفه !! ونسي أن هذا القول لم يختف وها هو انتشر في وقته وبعد وقته وإلا كيف علمه هو
( 3 – أن لا يعلم المجتهد بالقول فينكره أو يوافقه )(1/67)
نحن نتكلم عن إجماع المجتهدين ولسنا نتكلم عن مجتهد بعينه فما دام هذا القول لم يعلم به المجتهدون كلهم فما فائدته إذا !! وهل هو إلا الباطل
( 4 – أن لا يكون قد أنشأ رأيا في المسألة لا وفاقا ولا خلافا ومعلوم ضرورة أن العالم ربما توقف في المسألة للتردد فيها وعدم ظهور المرجح )
قلت لك نحن نتكلم عن عموم المجتهدين وليس مجتهدا بعينه فما علاقتنا بأحد العلماء
ثم ذكر زبدة هذا الكلام الطويل محصلة هذا المبحث الذي وضع عنوانه ( مناقشة الاستدلال بالإجماع )
فقال :
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
أطال أبو محمد بكلام لا يفيدنا نقلت مثله في المشاركة السابقة فلا أظننا بحاجة للوقوف على كل شيء ، ولكن لا مانع من تأمل بعض تقريراته حتى يتضح لنا بعض أخطائه
قال أبو محمد عن الإجماع : ( ليس ذلك – الإجماع- مطابقا للواقع من ثلاث جهات :
الجهة الأولى : مجيء الأدلة بما يثبت ضده فكان دليلا على إثبات الحل في الأصل )
أقول : أما الأدلة فسأناقشها في مبحث منفصل وأنت تتكلم عن الإجماع فما علاقة الأدلة هنا
ثم قال : ( الجهة الثانية : أن أكثر من يدعي الإجماع هنا يذكره قولا مجملا دون سياق عبارات المجتهدين والفقهاء للنظر في حقيقة دلالتها أو يخلط بين المختلفات في هذا الباب فمنهم من جاءت عبارته في الغناء خاصة ومنهم من جاءت في بعض أنواع الآلات ومنهم من جاءت عبارته في بعض سماع الصوفية ومنهم من تكلم في غناء الفساق وهذه في التحقيق مختلفات بحب الأغراض لا يجوز أن تجعل كالعبارة الواحدة في الشيء الواحد فذلك في نقل العلم محظور مناف للأمانة )
يا أبا محمد : ما رأيك بهذا الإجماع :
1 - ابن قدامة المقدسي ( ت: 540هـ) : وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيه ... ولنا أنه آلة للمعصية بالإجماع(1/68)
2 - وقال ابن الصلاح في "فتاويه": « وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين. ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع
– قال ابن رجب (ت 795هـ) : وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاه من وضع الأعاجم فمحرم مجمع على تحريمه ولا يعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى )
وقال أيضا عن سماع الملاهي : ( لايعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها إنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به .)
واقرأ ما كتب قبل ما رأيك بهذه العبارات الصريحة فليست :
1 – في الغناء
2 – وليست في بعض أنواع الآلات
3 – وليست في سماع الصوفية
4 – وليست في غناء الفساق
5 – وليس قولا مجملا محكيا بل نقل من كتبه
هيا لم تذكر لنا إيرادا يرد على هذا الإجماع = جميع الاحتمالات التي ذكرتها لا ترد على هذه النقول فما العمل إذا ؟!!
ثم قال : ( الجهة الثالثة : المخالف موجود في القديم والحديث أما في القديم فشهرته عن أهل الحجاز لا تحتاج إلى كثير استدلال نقله عنهم خلق كثير من العلماء كالزهري والأوزاعي ومععمر بن راشد ويحيى القطان ممن أنكره عليهم وغيرهم )
الحمد لله الآن نستطيع أن نتحاور ، وأبدأ بذكر هؤلاء المخالفين وذكر عباراتهم لأني أخشى أن يكون أبو محمد وقع فيما أنكره على مخالفه عند احتجاجه بالإجماع
أولا خرق الإجماع الإمام ( الزهري ) :
ذكر في الحاشية فقال : (أخرج ابن عساكر ( 1 / 361 ) بإسناد حسن إلى الزهري قال : ينبغي للناس أن يدعوا من حديث أهل المدينة حديثين ومن حديث أهل مكة حديثين ومن حديث أهل العراق حديثين ومن حديث أهل الشام حديثين فأما حديث أهل المدينة فالسماع والقيان وذكر سائر الخبر )(1/69)
يا أبا محمد : ماذا دهاك ماذا نريد من هذا الخبر نحن نريد مصطلح الموسيقى وآلات الطرب
هذا السماع وهو يشمل الغناء المصاحب للآلة وغيرها ويشمل المحرم وغيره فليس فيه إذا حجة
والقيان جمع قينة وليتك راجعت معناها :
قال ابن الأثير : القينة الأمة غنت أو لم تغن والماشطة وكثيرا ما تطلق على المغنية من الإماء وجمعها قينات ومنه الحديث نهى عن بيع القينات أي الإماء المغنيات وتجمع على قيان أيضا
وقال الخطابي أيضا : القينة عند العامة المغنية لا تعرف غيرها والقينة عند العرب الأمة والقين العبد والقيان الإماء
وقال في مختار الصحاح : ( ق ي ن ) القين الحداد وجمع قيون و القين أيضا العبد و القينة الأمة مغنية كلنت أو غير مغنية والجمع القيان
إذا لا تتعب نفسك في البحث في تاريخ ابن عساكر حتى تجد لنا مثل هذا الخارق للإجماع فاحتفظ به فلا يسعفك
وانتبه سأضيق الخناق عليك في مسألة الألفاظ لأنك أول من بدأ هذه الطريقة في الهجوم = فأنت أول من قال طالب بتحرير العبارات والنظر في حقيقة الدلالات اللفظية وعدم الخلط بين المختلفات ( هذه هي ألفاظك ونحن نسير على ما أردت )
الثاني ممن خرق الإجماع : ( الأوزاعي ) :
ذكره في الحاشية فقال : أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث " ص65 والبيهقي في الكبرى 10 / 211 وابن عساكر في تاريخه 54 / 58 ، 59 بإسناد صالح إلى الأوزاعي قال
نجتنب أو نترك من قول أهل العراق خمسا ومن قول أهل الحجاز خمسا فذكرها وفيما قال : ومن قول أهل الحجاز استماع الملاهي ، وله طريقان آخران عن الأوزاعي أخرجهما ابن عساكر 1 / 361،362 ) وأحدهما عند البيهقي وإسناداهما ضعيفان )
لقد وقعت في فخ بسبب ظنك أن غيرك لا يراجع المصادر
هذا الكلام فيه ملاحظات ومراوغة عنيفة جدا :
الأولى : أسانيد الخبر كلها متكلم فيها
الثانية : اختار المؤلف هذا اللفظ ( استماع الملاهي ) وترك اللفظ الآخر ( السماع )(1/70)
الثالثة : صححه مع أن فيه راويا مجهولا لأن فيها هذه اللفظة ( استماع الملاهي ) بينما الطرق الأخرى قال عنها ضعيفة لأن فيها ( السماع ) مع أنها أحسن إسنادا ولها ما يعضدها من طريق ضعيفة أيضا
ولمناقشة هذه الأمور أقول :
الطريق التي فيها لفظة (استماع الملاهي )
جاءت من طريق واحدة وفيها رواو مجهول الحال ولم أجد من وثقه وهو ما يظهر من حال أبي محمد كذلك أنه لم يجد من تكلم فيه بجرح أو تعديل
وهو :
من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب قال أخبرنا العباس بن الوليد البيروتي قال ثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله البجي من بج حوران قال سمعت الأوزاعي فذكره
وأبو عبد الله البجي اختلف في اسمه بسبب جهالته فجاء في طريق أخرى تسمية البجي هكذا : أبو عبد الله بن بحر وجاء من طريق أخرى تسميته أبو عبد الله بن فلان !!
ولا يعرف لهذا الرجل حال ولم يعرف به ابن عساكر في تاريخه بل ذكره وذكر له هذا الحديث وذكر اختلافا في اسمه
فكيف أصبح هذا الإسناد صالحا يا أستاذ الحديث لاسيما وله طريق أخرى أنت ذكرتها ووقفت عليها كما سيأتي هي أحسن منه
فقد روى ابن عساكر في تاريخه
عن محمد المقرئ أنا أبو علي الأهوازي أنا تمام بن محمد الحافظ نا أبو بكر محمد بن إدريس بن الحجاج الأنطاكي نا محمد بن علي العسقلاني قال سمعت رواد بن الجراح يقول سمعت أبا عمرو الأوزاعي يقول لا نأخذ من قول أهل العراق خصلتين ومن قول أهل مكة خصلتين ولا من قول أهل المدينة خصلتين ولا من قول أهل الشام خصلتين فأما أهل العراق فتأخير السحور وشرب النبيذ وأما أهل مكة فالمتعة والصرف وأما أهل المدينة فإتيان النساء في أدبارهن والسماع وأما أهل الشام فبيع العصير وأخذ الديوان
وهذا الإسناد أمثل من الإسناد الذي اخترت وليست فيه هذه اللفظة وإليك البيان
:
أول الإسناد كلهم محدثون مشهورون
محمد بن علي العسقلاني : قال عنه أبو حاتم : صدوق(1/71)
رواد بن الجراح : قال ابن حجر في التهذيب ( مختصرا) قال الدوري عن بن معين لا بأس به إنما غلط في حديث سفيان وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه صاحب سنة لا بأس به إلا أنه حدث عن سفيان أحاديث مناكير وقال عثمان الدارمي عن بن معين ثقة وقال معاوية عن بن معين ثقة مأمون وقال البخاري كان قد اختلط لا يكاد يقوم حديثه ليس له كثير حديث قائم وقال أبو حاتم تغير حفظه في آخر عمره وكان محله الصدق وقال النسائي ليس بالقوي روى غير حديث منكر وكان قد اختلط وقال بن عدي عامة ما يرويه لا يتابعه الناس عليه وكان شيخا صالحا وفي حديث الصالحين بعض النكرة إلا أنه يكتب حديثه وذكره بن حبان في الثقات وقال يخطىء ويخالف وقال يعقوب بن سفيان ضعيف الحديث وقال الدارقطني متروك قلت وقال أبو أحمد الحاكم تغير بآخره فحدث بأحاديث لم يتابع عليها وقال الساجي عنده مناكير وقال الحفاظ كثيرا ما يخطىء ويتفرد بحديث ضعفه الحفاظ فيه وخطؤوه
ورواد يحكي خبرا قاله شيخه وليس بإسناد يهم فيه أو ما شابه ذلك وإن لم أهم أنك تتساهل في نقل التلميذ عن شيخه شيئا وأنه لا يتشدد فيه
إذا هذا الإسناد أحسن بكثير من الذي استشهدت به واللفظة التي تريدها غير موجودة فيه فلماذا اخترت هذه اللفظة التي جاءت من طريق ضعيفة وفيها مجهول الحال وتركت ماهو أولى منها
الطريق الثانية :
فقد روى البيهقي وابن عساكر
من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عيسى التنيسي ثنا عمرو بن أبي سلمة قال سمعت الأوزاعي يقول يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ومن قول أهل الشام الجبر والطاعة ومن قول أهل الكوفة النبيذ والسحور
أبو العباس محمد بن يعقوب : ثقة حافظ قال عنه الذهبي في السير : (محدث العصر )
أحمد بن عيسى التنيسي : قال بن عدي له مناكير وقال الدارقطني ليس بالقوي وكذبه ابن طاهر(1/72)
عمرو بن أبي سلمة : مختلف فيه قال أحمد بن صالح المصري كان حسن المذهب وكان عندي شيء سمعه من الأوزاعي عرضه وشيء أجازه له فكان يقول فيما سمع حدثنا الأوزاعي ويقول في الباقي عن الأوزاعي وقال حميد بن زنجويه لما رجعنا من مصر قال لنا أحمد مررتم بأبي حفص قلنا وأي شيء عنده إنما عنده خمسون حديثا والباقي مناولة قال المناولة كنتم تأخذون منها وتنظرون فيها وقال إسحاق بن منصور عن بن معين ضعيف وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به وقال العقيلي في حديثه وهم وذكره بن حبان في الثقات قال بن يونس كان من أهل دمشق قدم مصر وسكن تنيس حدث عن الأوزاعي وعن مالك بالموطأ كان ثقة وقال الساجي ضعيف
وقال ابن حجر في التقريب : صدوق له أوهام
إذا يا أبا محمد جنيت على نفسك وعلى غيرك بمثل هذه المراوغة وعدم الوضوح كل من قرأ تنظيرك السابق يفهم ما يلي :
أن الطريق إلى الأوزاعي ثابت عنه وهذا غلط
وكذلك أن الأوزاعي روي عنه بالطرق الثلاثة لفظة ( استماع الملاهي ) وهذا غلط والحق أنه جاءت من طريق واحدة وفيها راو مجهول الحال والطريقان لفظهما ( السماع ) فأين تنقيح المصطلحات يا أستاد عبد الله
الثالث ممن خرق الإجماع : معمر بن راشد :
أيها القراء لا تنصدموا كثيرا مثلي فأنا الآن أناقش من وجد أئمة يخرقون إجماعا نقله ( كثير من المقلدة في جواز سماع الموسيقى ) ومن المعلوم بداهة أن المخالف يستشهد أولا ويرمي بكاهله على مخالفه بما يرى أنه يسقطه لأول وهلة
ونحن الآن لم نر شيئا كهذا بل تأملوا كلام هذا العالم الذي يرى أبو محمد أنه نقل جواز الموسيقى
معمر بن راشد :
قال الجديع : أخرجه الخلال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بإسندا حسن عن معمر بن راشد قال : لو أن رجل أخذ بقول أهل المدينة في السماع – يعني الغناء – وإتيان النساء في أدبارهن وبقول أهل مكة في المتعة والصرف وبقول أهل الكوفة في المسكر كان شر عباد الله إ.هـ(1/73)
وبهذا يكون أبو محمد يرى جواز الموسيقى !! آه يا أبا محمد لقد كدرت الخاطر ، ما علاقة السماع بمسألة الموسيقى كيف تسمح لنفسك بهذا يا أبا محمد !! أين الموسيقى تأمل عبارة معمر !!
الرابع ممن خرق الإجماع يحيى القطان :
قال الجديع : أخرج أحمد في مسائله قال : سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع – يعني الغناء- وأهل الكوفة في المتعة كان به فاسقا إ.هـ
( السماع – الغناء ) أين الموسيقى التي عنونت بها كتابك ما ذا تظن عقول القراء
ثم قال الجديع : ( وغيرهم )
ما شاء الله على هذه الثقة العالية عبارات مطاطة ورنانة ( وغيرهم ) يعني قد يكونوا 100 أو 1000 ولكن المجال مجال اختصار ولا داعي للتطويل!!
اعذرني يا أبا محمد ما رأيت بحثا يقرر مثل هذه المسألة العويصة ويكتب بهذه الطريقة = ( وغيرهم ) أنت بحاجة إلى عالم واحد ولم تظفر به ثم تقول ( وغيرهم ) أستغفر الله وأتوب إليه
انتهى أبو محمد من ذكر المجيزين للموسيقى لأنه ظن أنه خرق الإجاع
ثم بدأ يقول كلاما عجيبا أنقله لكم وأدع التعليق عليه في الحلقة القادمة :
قال أبو محمد : ثم شهرة ذلك في مسائل الخلاف أظهر من أن تفصل ، فلم يزل العلماء يصنفون فيها على اختلاف مذاهبهم وطائفة ممن ذهبوا إلى التحريم لم يمنعهم الإنصاف من الإقرار بأنها من مسائل الخلاف . نعم هناك من يستخف باتلمخالف فيقول : إنما خالف في ذلك من لا يعتد برأيه وهذا القول زيادة على ما فيه من الاستخفاف فإنه لم يجعل الحكم في الاختلاف الدليل من الكتاب والسنة فإن اللائق بمقام العلماء الذين لا يكاد يسلم أحد منهم من خطإ يؤخذ عليه أن يعتذر عن مخطئهم الذي قد ثبت خطؤه بالبرهان لا بموافقة قلة أو كثرة )
سأعلق على هذه العبارات الرنانة في الحلقة القادة
يسر الله إتمامه وإكماله وأعوذ بالله من شرور نفسي وسيء عملي ولا حول ولاقوة إلا بالله
المقرئ(1/74)
مناقشة الكلام السابق :
قول أبي محمد : ( ثم شهرة ذلك في مسائل الخلاف أظهر من أن تفصل )
حقيقة لفظ مضحك جدا = ( شهرة ) و ( أظهر من أن تفصل ) سبحانك هذا بهتان عظيم لم نر إلى ساعتنا من خلال كتابك واحدا يجيز الموسيقى فكيف ذلك
وقولك (فلم يزل العلماء يصنفون فيها على اختلاف مذاهبهم )
يصنفون في التحليل أم التحريم ؟ أجب عن هذا = نعم هم صنفوا ولكن لم يصنف أحد من أهل السنة مصنفا بجواز الموسيقى إلا عبد الله الجديع على مر تاريخ الأمة الإسلامية ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقوله (نعم هناك من يستخف بالمخالف فيقول : إنما خالف في ذلك من لا يعتد برأيه وهذا القول زيادة على ما فيه من الاستخفاف )
ولماذا لا يستخف بالمخالف العالم بالإجماع وهذا سبيل أهل العلم ومامن عالم إلا ويخاف أن يكون خرق في أحد أقواله إجماعا وهذا هو الأمانة بالعلم
عموما أكتفي بهذا وإلا ففي كلامه من المغالطات مالا يحصى
ثم قال الجديع ( والمقصود هنا الإبانة عن بطلان دعوى الإجماع على تحريم الغناء والموسيقى )
ما أجمل هذا الكلام !! أين أبطلت الإجماع على تحريم الموسيقى يا عبد الله ارحم نفسك والله الذي لا إله إلا هو ما تركت أحدا ممن نقلت عنه في هذا الباب ممن يرى الجواز إلا وذكرته هنا ولم يصف لنا واحدا !! فكيف أبطلته ؟!!
هل تريد أن تقنع نفسك أو تقنع القراء ؟! القراء لا تعجبهم هذه الطريقة في المراوغة ولن يقتنعوا منها وأما صاحب الهوى ( فمن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا )
ثم قال : ( وقد صنف القاضي محمد بن علي الشوكاني اليماني في ذلك كتابا رأيته سماه " إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع )
لا علاقة لي بالشوكاني الذي ليس بيننا وبينه سوى 170 سنة أنا أناقش الجديع فقط
ثانيا : الشوكاني في عنوانه أبطل الإجماع على تحريم السماع ولم يبطل الإجماع على تحريم الموسيقى وآلات اللهو كما هو في عنوانه ولم أقرأ كتابه(1/75)
ثم قال : واعلم أني مع إثباتي للخلاف في هذه المسألة فإني لا أقول ببناء حكم ما في أي مسألة على وجود الخلاف فيها كما تسلكه طائفة فتجعل من الاختلاف رخصة في الأمر المختلف فيه )
ليتك والله من هذه الطائفة أنت تجاوزتها بمراحل أن أصبحت تقول في مسائل ليس فيها اختلاف على خلافها ولم تبحث عن مخالف = فهذه الطائفة التي تكلمت عنها على ما في خطئها البين إلا أنها أقل حالا منك وليتك سرت على منوالها فلا تخادعك نفسك بأنك أفضل منها لا وكلا بل أنت تجاوزتها وما قولك في هذه المسألة ومسألة حلق اللحية إلا دليل وشاهد على ما أقول
ثم انتقل أبو محمد إلى فصل جديد أراد من خلاله أن يخرم الإجماع المنقول في تحريم الموسيقى فقال :
قال ص60 : (المبحث الأول : الموسيقى والغناء في حياة الصحابة )
الموسيقى في حياة الصحابة = لا بأس سنسير على هذا المبدأ
ثم قال : وردت آثار صحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الغناء والمعازف وأخرى صحيحة أيضا في الترخيص في ذلك )
الترخيص في ذلك : يعود على الغناء والمعازف التي فسرها بعنوانه الموسيقى
حسنا سننظر بفارغ الصبر حتى نجد صحابيا أباح الموسيقى
ثم قال : ( ما ورد عن الصحابة في إباحة الغناء والمعازف :
وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في الترخص في ذلك والتسهيل فيه ( فكثيرة !!!!!!! )
أعتذر من القراء فسأختصر الأثر وأبقي موضع الشاهد حتى لا يطول الكلام ويتشتت القارئ ولن أتخلى عن أمانتي فيما يفيد القارئ
قال الجديع :
منها :
1 – عن وهب بن كيسان قال : قال عبد الله بن الزبير وكان متكئا تغنى بلال قال فقال له رجل تغنى فاستوى جالسا ثم قال وأي رجل من المهاجرين لم أسمعه يتغنى النصب )
ما هو الحجة في هذا يا هذا ؟ يتغنى بالنصب ما هو النصب ؟(1/76)
قال عبد الله الجديع في ص24 : وغناء الأعراب المسمى بـ( الحداء) بضم الحاء وكسرها وترجيع الصوت المسمى بـ( النصب ) ، وقال أبو عبيد الهروي : والنصب ضرب من أغاني الأعراب وهو يشبه الحداء
فأين الدليل من هذا على جواز الموسيقى من بلال رضي الله عنه وأرضاه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ما دمت تعرف معنى النصب وما الفائدة من ذكره هنا ؟!!
ثم قال : ( وفي لفظ : ما اعلم رجلا من المهاجرين إلا قد سمعته يترنم )
ما فائدة هذه أيضا ( يترنم أي يغني ) وكلنا نترنم لا أعتقد أنه يوجد أحد لا يترنم فما علاقتها بالموسيقى ؟!!
ثم قال : ( وعن السائب بن يزيد قال : بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق الحج ..ثم قال- ابن عوف - لرباح بن المغترف غننا يا أبا حسان وكان يحسن النصب فبينا رباح يغنيه أدركهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فقال ما هذا فقال عبد الرحمن ما بأس بهذا نلهو ونقصر عنا فقال عمر رضي الله عنه فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب وضرار رجل من بني محارب بن فهر )
لم نستفد شيئا كما مر قوله ( غننا يا أبا حسان وكان يحسن النصب ) عرفنا بالنصب قبل فليس فيه إباحة الموسيقى موضوع البحث فلا داعي للتهويل
ثم قال : ( وروى عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة قال : خرجنا مع عمر بن الخطاب في الحج الأكبر حتى إذا كنا بالروحاء كلم القوم رباح بن المغترف وكان حسن الصوت بغناء العرب ...فرفع عقيرته يتغنى وهم محرمون )
ثم ماذا ؟ نحن نريد جواز الموسيقى ومالنا والغناء ؟ عنوان مبحثك في جواز الموسيقى = نسيت أم ماذا ؟!!
يسر الله إكماله وإتمامه بعونه وحوله وقوته
المقرئ(1/77)
ثم قال : ( 3 – عن عبد الله بن عباس أخبره أنه بينا هو يسير مع عمر رضي الله عنه في طريق مكة في خلافته ومعه المهاجرون والأنصار فترنم عمر رضي الله عنه ببيت فقال له رجل من أهل العراق ليس معه عراقي غيره غيرك فليقلها يا أمير المؤمنين فاستحيا عمر رضي الله عنه من ذلك وضرب راحلته حتى انقطعت من الموكب )
أين الدليل على جواز آلات الموسيقى قوله ( يترنم ) أين الدليل ؟ !! آمنا بالله
ثم قال ( 4 - عن أسلم مولى عمر بن الخطاب قال : سمع عمر رجلا يتغنى بفلاة من الأرض ( وفي رواية : وهو يحدو بغناء الركبان ) ، فقال الغناء من زاد الراكب )
مرة أخرى : أين الدليل على جواز الموسيقى ؟!! هذا في الغناء كما ترى أين تنقيح المصطلحات !
ثم قال : (5 – عن محمد بن عبد الله بن نوفل أنه رأى أسامة بن زيد في مسجد الرسول مضطجعا رافعا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى النصب )
وهذا كسابقه ليس فيه دليل !!
ثم قال : ( 6 – وعن عبد الله بن عتبة أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعا عقيرته يتغنى قال عبد الله ولا والله ما رأيت رجلا قط ممن رأيت وأدركت أراه قال كان أخشى لله من عبد الله بن الأرقم )
وهذا كسابقه
غير أن أبا محمد كان منتبها لهذه القضية فكأنه رأى أن هذه الآثار لا توافقه فيما أراد في الموسيقى فعقب قائلا :
( قلت : وجميع هذه الآثار في الغناء الشعبي الدارج في أعراف الناس يومئذ يخففون به ويدفعون السآمة عن أنفسهم يغنيه أحدهم وحده أو يسمعه منه غيره لم يكونوا يجدون فيه حرجا )
قلت : ومن قال بوجود الحرج حتى تدافع عن مثل هذه الآثار
واقرأ ما بعده
قال : (نعم هذا جميعه في الغناء دون آلة )
الحمد لله أنك خففت عني هما كبيرا وغضبا شديدا لما اعترفت بهذه النقطة وبعبارة أوضح من عبارتك أقول : أيها القارئ كل ما سبق لا تسعفني بجواز الموسيقى وإنما كلها بالغناء دون آله !!(1/78)
ثم واصل الآثار فقال : ( 7 – وتقدم ذكر الرواية عن أبي مسعود عقبة بن عمرو وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد وشهودهم الغناء والضرب بالدف في عرس )
يا أبا محمد : الضرب بالدف خارج عن محل النزاع بنص السنة وكلام أهل العلم فلا تعول عليه فلا يصلح لك نحن نتكلم فيما نقل الإجماع عليه من آلات الملاهي غير الدف
ثم قال : (وكذلك ما في رواية صحيحة عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري من اجتماعه مع نفر من الصحابة على السماع من قينة تغنيهم )
أيها القراء أرجوكم تأملوا هذا النص المجمل من أبي محمد وهو ينقل فهمه إلى القراء ويعلم أن القراء يثقون به وبأمانته في نقله وفهمه = اقرأوا هذا الكلام ثم انظروا إلى النص الذي يعنيه وأنا أنقله من كتابه في ص243 ليعلم القارئ الكريم أن هناك إشكالية عظيمة في نقله للمعلومة والتفنن في التلاعب فيها
:
عن عامر بن سعد البجلي قال دخلت على أبي مسعود وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد وجوار يضربن بدف لهن ويغنين فقلت تقرون بهذا وأنتم أصحاب محمد قال انه رخص لنا في الغناء في العرس والبكاء على الميت في غير نوح إ.هـ
أرأيتم أيها القراء كان الغناء بعرس ودف من جواري فهل هذا يخرم الإجماع يا أستاذ عبد الله !!
ثم قال : (8 – وعن عروة بن الزبير : أن إنسانا عمل مأدبة في زمان عثمان فدعا لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم حسان بن ثابت وقد ذهب بصره ومعه ابنه عبد الرحمن .....قال عروة : وكان في المأدبة قينتان تغنيانهم وجعل عبد الرحمن بن حسان يشير إليهما تغنيانهم شعر حسان فغنتا ....)
ثم ماذا ؟!! أين الموسيقى لن أقول ماهو كلام أهل العلم في عورة الأمة ولن أتكلم عن أي شيء ولن أوسع النقاش = أين الموسيقى ؟ أين ؟؟!
ومثله ما أتبعه من رواية أخرى وفيها
قال : ( فشهد المدعاة : حسان بن ثابت وابنه عبد الرحمن وإذا جاريتان تغنيان )
يلحق بما قبله أين الشاهد ؟
وكذلك ما أتبعه بعده من رواية أخرى :(1/79)
فقال ( وفي رواية مفسرة بأكثر من هذا وفيها دلائل قال عبد الله بن ذكوان : ذكر عند خارجة بن زيد بن ثابت الغناء يوما فقال ....فيشير إليهما عبد الرحمن : غنيا فإذا غنيا هاجتا – يعني حسان بن ثابت - عليه البكاء ...)
وهو كسابقه
ولكن ما يدمي قلبي واحترس عند قراءته ما أتبعه من تفقه بعد هذه الرواية
فقال : (قلت- وفي هذه القصة الغناء من مغنيتين مجيدتين للغناء تغنيان الجمع من الرجال من الصحابة والتابعين في مناسبة لا ينكر ذلك أحد منهم )
انتبه يا أستاذ المحدثين واحترس وخف الله بنا = فتكون الفتوى القادمة بجواز غناء النساء عند الرجال الأجانب = يا هذا = يا هذا = هذه إماء قينات عورتها عورة الرجل تماما فما المحذور
أيها القراء : أجدني مضطرا للتوقف حتى أهدأ قليلا فأنا والله متعب النفس بسبب هذا الكلام الضعيف
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
ثم قال : ( 9 - وعن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي قال وفد عبد الله بن جعفر على معاوية بن أبي سفيان فأنزله في داره فقالت له ابنة قرظة امرأته إن جارك هذا يسمع الغناء قال فإذا كان ذلك فأعلميني فأعلمته فاطلع عليه فإذا جارية له تغنيه .....ثم قال اسقيني قال ما أسقيك قال ماء وعسلا قال فانصرف معاوية وهو يقول ما أرى بأسا )
وهذا يا أبا محمد كسابقه = أين الموسيقى في هذا الأثر ؟!!
ثم قال : ( وشأن عبد الله بن جعفر في السماع للغناء والمعازف ولتخاذ ذلك مشهور ثابت )
سبحانك هذا بهتان عظيم = مشهور وثابت أيضا !! أين إثباتك لسماعه المعازف المحرمة ولماذا لم تزبره في كتابك وقد استشهدت ببلال وعمر وغيرهم بما لا يفيدك ؟ لماذا لم تذكر مستند هذا الثبوت ؟!
ثم قال : (ومن ذلك غير ما تقدم مما يضم إليه أيضا مذهب عبد الله بن عمر بن الخطاب في الترخيص )(1/80)
ابن عمر !! ممن وصف مذهبه بالشدة !! ممن يضاف إلى من أجاز المعازف = لا حول ولاقوة إلا بالله = ألست من صحح ص 341 أن ابن عمر سد أذنيه لما مر على الراعي الذي معه زمارة ؟!! فكيف يجيزه سبحان الله
حسنا لنرى أين أجازه !
ثم قال : ( ما حدث به محمد بن سيرين أن رجلا قدم المدينة بجوار فنزل على ابن عمر وفيهم جارية تضرب فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئا قال انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا فأتى إلى عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهن فقال خذي فأخذت ( في رواية : بالدف ، وفي أخرى : بالعود ) حتى ظن ابن عمر أنه قد نظر إلى ذلك فقال ابن عمر حسبك سائر اليوم من مزمور الشيطان فساومه ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن إني غبنت بسبعمائة درهم فأتى ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال له إنه غبن بسبعمائة درهم فإما أن تعطيها إياه وإما أن ترد عليه بيعه فقال بل نعطيها إياه )
وهذا الكلام عليه ملاحظات كبار :
1 – حسب ما فهمنا من قاعدتك أنك لا تستدل إلا بشيء يعرف مصدره وإسناده ولا يرضيك التقليد كما سبق في تهويشك على من نقل الإجماع قبل وهنا تقول لم أقف على الإسناد كاملا وإنما قلدت تصحيح ابن حزم له وما ظهر لك من هذا الإسناد المعلق = لماذا لم تمش على منهجك ؟ ! أو هذا ما دام يصلح لك دليلا فلا حرج ! أرجو أن تتأمل هذا
2 – لفظة ( العود ) لم يذكرها ابن حزم في رسالته المطبوعة ضمن رسائله بعنوان ( رسالة الملاهي ) واقتصر على لفظة ( الدف ) -كما قاله الألباني رحمه الله - بينما في المحلى ( ذكر اللفظتين مقدما لفظة الدف ) ولم تشر إلى هذا !! مما يورد علينا سؤالا وهو لماذا لم يذكرها ابن حزم في رسالته قد يكون لضعف الرواية أو شيئا آخر فوجد الشك في هذه اللفظة
2 – الأثر الذي ذكرته = الرواية فيه ( أيوب يقول ( بدف / وهشام يقول ( بعود )(1/81)
وليس عندنا الإسنادان للرواية فماذا يفعل - يا أستاذ المحدثين - الباحث المنصف الأمين ؟! الواجب عليه :
1 – إما أن يتوقف عن الحكم على هذا الإسناد
2 – أو يرجح بين الراويين فلنراجع يا أستاذ الحديث أيهما أوثق في ابن سيرين : أيوب أو هشام ؟
فرجعنا إلى كلام النقاد فإذا هم مختلفون في ذلك فمنهم من يقدم أيوب السختياني ومنهم من يقدم هشاما ولا مرجح لأحدهما على الآخر إلا الظن
3 – ابن حزم ذكر أن الأثر رواه عن ابن سيرين : أيوب وحمادا وهشاما وسلمة بن كهيل فهؤلاء ثلاثة لا نعرف ألفاظهم وعدم ذكر روايتهم يوحي أنهم لم يذكروا شيئا وهذا يوهن لفظة العود لأنه على كل حال سيكون مخالفا لأربعة رواة وإن أردت أن توهن لفظة ( الدف ) فأعلها فلسنا بحاجة لها
المهم أن اختيار لفظة ( العود ) تحكم مصدره الهوى !
4 – في قوله ( مزمور الشيطان ) أطلق أبو بكر الصديق كما في الصحيحين هذه اللفظة على الجاريتين التي تضربا بالدف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة فهذا إطلاق معهود على هذه الآلة
5 – نحن نتكلم عن خرق إجماع هل يليق أن تخرق إجماعا برواية لم تجزم بثبوتها
6 – ابن حزم قدم في ذكره للرواية ( لفظة الدف ) وأخر لفظة ( العود ) ولعله بتقديمه لها أنه يقدمها
7 – ماهو إسناد الرواية قد يكون أحد تلاميذ هشام ضعيفا وأنه أخطأ في هذه اللفظة ولايمكن أن نجزم بثبوتها حتى ترى إسنادها أليس كذلك ؟!
ولذا ضعف العلامة الألباني لفظة ( العود ) وقال إن أيوبا أقدم صحبة من ابن سيرين وأوثق منه عن كل شيوخه وليس كذلك هشام مع فضله وعلمه وثقته كما يتبين للباحث في ترجمتيهما وخاصة في سير أعلام النبلاء
فهذه اعتراضات لا يمكن دفعها أبدا للباحث المنصف وليس غيره(1/82)
ثم قال في الحاشية : ( ومما يأتي على الشهادة لهذه القصة عن ابن جعفر وابن عمر جميعا : ما أخرجه أبو طال المفضل بن سلمة اللغوي في الملاهي وأسمائها ص10 وابن عساكر في تاريخ دمشق 31 / 177 من طريقين عن أبي سلمة موسى أن ابن عمر دخل على عبد الله بن جعفر ذي الجناحين فإذا عنده بربط فقال يا أبا عبد الرحمن إن دريت ما هذا فلك كذا وكذا فنظر إليه وقلبه ساعة وقال أنا أبو عبد الرحمن ، ميزان رومي )وفي سياق ابن عساكر زيادة في سماع ابن عمر لجارية من جواري ابن جعفر .قلت وهذا لا علة غير ضعف علي بن زيد وهو ابن جدعان فقد كان كثير الحديث لكنه سيء الحفظ وهو صدوق في الأصل فمثله يعتبر بما يرويه وقد خرج له مسلم في صحيحه في المتابعات )
كم هو مضحك هذا الكلام يا أستاذ عبد الله مصطلح جديد تثبت الضعف ثم يصير صدوق الأصل ثم يصبح يعتبر به في المتابعات
هذا دليل لكلامي السابق أنني أشك أنك تكتب وأنت تستحضر الكلام السابق ومثبت لقولي بأنك شخصية مضطربة
يا أخي إن قلت ضعيفا فأكفنا من الاستدلال به لخرق ( إجماع ) وإن كان صدوقا فأعلمنا بعبارة واضحة حتى نرد عليك بإثبات ضعفه
مع أني أجزم بأنك ما قلت الذي قلت إلا وأنت تذهب إلى ضعفه = إذا لماذا هذا التشغيب كله !
ثم قال : ( وشأنه – يعني عبد الله بن جعفر- في الغناء والموسيقى واتخاذ المغنيات مشهور مذكور وما أنكر عليه أولئك الفقهاء شيئا من ذلك )
يا أخ عبد الله : كررت كثيرا ( مشهور – مذكور – ثابت ) أين ذلك إلى الآن لم تذكر شيئا ثابتا فاتق الله فينا
ثم قال : (10 – وعن أم علقمة مولاة عائشة أن بنات أخي عائشة رضي الله عنها خفضن فألمن ذلك فقيل لعائشة يا أم المؤمنين ألا ندعو لهن من يلهيهن قالت بلى قالت فأرسل إلى فلان المغني فأتاهم فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربا وكان ذا شعر كثير فقالت عائشة رضي الله عنها أف شيطان أخرجوه أخرجوه فأخرجوه )(1/83)
هل في هذا دليل يا أستاذ عبد الله = أن عائشة أدخلت المغني بآلاته ومعازفه إلى هذا البيت ؟ اللفظ فقط أنهم أتوا ( بمغني ويحرك رأسه طربا ) أين الدليل
بل لو تأملت الدليل لوجدته عليك ! إذ أن الراوي لم يذكر ما أنكرته عائشة إلا تحريك الرأس ولو كان معه آلة محرمة تطرب هل الراوي سيتركها ويذهب إلى تحريك الرأس ؟!! تأمل هذا
ثم قال : ( وعن خالد بن ذكوان ، قال كنا بالمدينة يوم عاشوراء والجواري يضربن بالدف ويتغنين فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها فقالت دخل علي رسول الله صبيحة عرسي وعندي جاريتان تتغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر وتقولان فيما تقولان وفينا نبي يعلم ما في غد فقال أما هذا فلا تقولوه ما يعلم ما في غد إلا الله )
أين الدليل ؟ !! هو كسابقه جاريتان تغنيان ؟ ثم ماذا ؟؟
وليتك أيها القارئ تراجع تخريجه لهذا الحديث لعلك تقف على ما وقفت عليه !!
ثم قال : ( وسئل الحسن البصري عن الحداء ؟ فقال : كان المسلمون يفعلونه )
الحداء = الحداء أين الموسيقى ؟!
ثم ختم الباب بقوله : ( فهذه الآثار الثابتة صريحة في ترخص خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغناء )
لكننا لا نريد دليل الغناء نحن نريد دليل الموسيقى فتذكر هذا جيدا يا أبا محمد
ثم قال : ( خلاصة مذاهب الصحابة : المنقول عنهم في ذلك بالأسانيد الثابتة يدل على أنهم لم يكونوا يرون حرمة الغناء .....وكذلك ليس في شيء من كلامهم تحريم الموسيقى )
أعوذ بالله من هذا الكلام كان عنوانك لهذا الباب ما يلي ( وأخرى صحيحة أيضا في الترخيص في ذلك )
أين هي يا أبا محمد ؟ مشيت معك أيها القارئ الكريم بجميع ما استدل به ؟ أستحلفك بالله هل رأيت دليلا واحدا ثابتا بجواز آلات اللهو المجمع على تحريمها ؟ لا والله ودون إثباته خرط القتاد
ولكن حقيقة أقولها وبكل أسف : تعودنا على هذا التزوير وعدم الدقة في التأليف من أبي محمد هداه الله(1/84)
انتهى المؤلف من موقف الصحابة من المعازف بإباحتها ولا حول ولاقوة إلا بالله وكما رأيت لم يثبت له دليل واحد
وسينتقل الآن إلى مذاهب ما بعد الصحابة وسأقف معه على جميع الأقوال لأرى إثبات كلامه من عدمه
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
ثم عنون لمبحث جديد فقال ص187( مذاهب للسلف جارية على أصل الإباحة )
وسنرى هل هناك ما يثبت أنهم أجازوا آلات الموسيقى أم لا ؟!
قال : ( مما ثبتت به الرواية عن أئمة السلف : عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي ( وكان ثقة ) قال كان سويد بن غفلة يأمر غلاما له فيحدوا لنا . قلت : وسويد هذا من سادة كبار التابعين بل كان مخضرما أدرك الجاهلية ورحل ليرى النبي صلى الله عليه وسلم فوصل المدينة حين فرغ المسلمون من دفنه )
جزاك الله خيرا على التعريف بالأئمة ولكن هذا النص ليس فيه إجازة الموسيقى كما ترى
ثم قال : ( وعن غنيمة جارية سعيد بن المسيب قالت : كان سعيد لا يأذن لابنته في اللعب ببنات العاج وكان يرخص لها في الكبر يعني الطبل )
اللهم اهد أبا محمد :
يا أبا محمد لماذا لم تعرف بالطبل من كتب اللغة ليعرف القارئ ما الفرق بين الطبل وبين الموجود في زماننا من آلات الطبل
اقرأ ما قاله ابن منظور في تعريف ( الكبر ) :
قال رحمه الله : الكبر طبل له وجه واحد وفي حديث عبدا بن زيد صاحب الأذان أنه أخذ عودا في منامه ليتخذ منه كبرا رواه شمر في كتابه قال الكبر –بفتحين- الطبل فيما بلغنا وقيل هو الطبل ذو الرأسين وقيل الطبل الذي له وجه واحد
وقال ابن الجوزي في غريب الحديث : في حديث عبد الله بن زيد الذي أدى الأذان أنه أخذ في منامه عودا ليتخذ منه كبرا وهو الطبل ورواه الأزهري عن شمر قال الكبر الطبل الذي له وجه واحد بلغة أهل الكوفة وكذلك قال ابن الأعرابي الكبر ذكره عنهما بفتح الباء )
وقال الحموي في معجم البلدان : كبر بالتحريك وهو في اللغة الطبل الذي له وجه واحد في لغة أهل الكوفة(1/85)
فإذا كان له وجه واحد فهو الدف تماما ولاشك أن الدف من أنواع الطبل ولكن الدليل جاء بجواز الدف ولا يعارض الإجماع المنقول
فلماذا لم تبين هذا للقارئ الكريم
ثم قال : (وعن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج قال : سألت عطاء ( هو ابن أبي رباح ) عن الغناء بالشعر ؟ فقال : لا أرى به بأسا مالم يكن فحشا ، وفي لفظ : قال : لا بأس بالغناء والحداء والشعر للمحرم مالم يكن فحشا .)
كل هذا يا أستاذ عبد الله معلوم ، ولكن الشأن في مسألة جواز الموسيقى !!
ثم قال : ( وعن إياس بن معاوية ، وذكر الغناء : فقال : هو بمنزلة الريح يدخل في هذه ، ويخرج من هذه ، قال سفيان بن عيينة وقد حدث بهذا : يذهب إلى أنه لا بأس به )
قلت : وهذا أيضا لا يفيدنا في الموسيقى فتنبه !!
ثم قال : ( وعن عبد الله بن عون قال : كان في آل محمد ( يعني ابن سيرين ) ملاك ( أي زواج ) فلما أن فرغوا ورجع محمد إلى منزله قال لهن : وأين طعامكن ؟ قال ابن عون : يعني الدف )
ما هذا يا أستاذ عبد الله : ابن سيرين يخاطب النساء ليضربن بالدف في ليلة زواج وكل هذا جاءت به الشرية وعليه أكثر أهل العلم وليس هذا محل النزاع بين المحرمين للموسيقى وبين المجيزين أمثالك !! أين جواز آلات الموسيقى ؟!!
ثم قال : ( وعن هشام بن حسان : أن محمد بن سيرين كان يعجبه ضرب الدف عند الملاك )
سبحان الله ليس ابن سيرين وحده بل ثبت هذا عن أعلام أهل العلم والسنة الصحيحة زاخرة بهذا
ولكن نحن نتكلم عن سماع الموسيقى غير الدف لأنه مستثنى من الإجماع بكلام أهل العلم
ثم قال : ( وقال يزيد بن هارون : قدم عكرمة ( يعني مولى ابن عباس ) البصرة وأتاه أيوب ( يعني السختياني ) وسليمان التيمي ويونس بن عبيد فبينما هو يحدثهم إذ سمع صوت غناء فقال عكرمة اسكتوا ثم قال قاتله الله لقد أجاد أو قال ما أجود ما غنى )
وهذا يتبع ما قبله ، ليس فيه دليل(1/86)
ثم قال : ( وعن المغيرة بن مقسم الضبي ( وكان من ثقات الكوفيين وفقهائهم ) ، قال كان عون بن عبد الله يقص فإذا فرغ أمر جارية له تقص وتطرب قال مغيرة فأرسلت إليها أو أردت أن أرسل إليه إنك من أهل بيت صدق وإن الله لم يبعث نبيه بالحمق وإن صنيعك هذا صنيع أحمق )
بعيدا عن أحداث القصة وفقهها فهي تتكلم عن جارية تغني وتطرب !! أين الموسيقى ؟ لا يوجد
ثم قال : (وحكي غير ذلك عن سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وخالد بن معدان وذلك بأسانيد ضعيفة )
مادامت أنها ضعيفة إذا لماذا تذكرها ؟! سبحان الله العظيم
ثم قال : ( والماجشون هو لقب يعقوب بن أبي سلمة جرى هذا اللقب عليه وعلى آل بيته وبني أخيه عبد الله وكان من جلساء عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وهو معدود في التابعين من الثقات قال : مصعب بن عبد الله الزبيري : كان يعلم الغناء ويتخذ القيان ظاهرا من أمره في ذلك ، قال :وكان أول من علم الغناء من أهل المروءة )
ثم ماذا ؟ ! ليست محل النقاش قيان يغنين لا أرى ما يوجب ذكر هذا !
ثم قال : ( وابنه يوسف كان من الثقات من أهل المدينة روى عن الزهري وغيره وطال عمره حتى أدركه الإمامان يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وطبقتهما وكان يحيى بن معين يقول : كنا نأتيه فيحدثنا في بيت وجوار له في بيت آخر يضربن بالمعزفة )
المعزفة : ماهي المعزفة خير من يفسرها أبو محمد نفسه :
قال ص28 : ( المعازف) معزف ومعزفة والعزف : اللعب بالمعازف وهي الدفوف وغيرها مما يضرب إ.هـ
إذا يا أستاذ عبد الله تطلق المعزفة على الدف والجواري يضربن بها فما المشكل ؟!
ثم قال : ( هو وإخوته يرخصون في السماع )
ثم ماذا ؟! لا جديد
ثم قال : ( وقال الحافظ الذهبي بعد ذكر الحكاية عن ابن معين : أهل المدينة يترخصون في الغناء هم معروفون بالتسمح فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الأنصار يعجبهم اللهو . )(1/87)
وكلام الحافظ الذهبي ليس فيه ما يسعفك ، بل لو تأملته لوجدته ضدك فنسبة هذا النوع من السمع إلى أهل المدينة يدل على أنه ما سبق دون آلات الموسيقى المحرمة إجماعا
ثم قال : ( وابن أخي الماجشون عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة من أتياع التابعين ......قال الحافظ أبو يعلى الخليلي : يرى التسميع ويرخص في العود )
عجيب منك يا أستاذ عبد الله وهذه الانتقائية العجيبة !! قررنا سابقا أنه لابد من نقل موثق عن أي عالم ولا بد من التمحيص وعدم التقليد
والآن تنقل عن أبي طاهر السلفي ( ت: 576هـ) حينما انتقى من كتاب الإرشاد للخليلي ( ت: 446هـ )
وهو يحكي خبرا عن عبد العزيز الماجشون ( ت: 164هـ) وهذه ترجمته في سير أعلام النبلاء وفي تذكرة الحفاظ وتاريخ بغداد ولم يذكروا عنه الضرب بالعود وإنما ذكروا ترخصه بالسماع ، وإنما هذا يذكر في كتب الأدب ممن ليس لهم عناية بالأسانيد ولا يمكن أن ينسب له هذا وهو من وصفه ابن حبان بقوله : كان فقيها ورعا متابعا لمذاهب أهل الحرمين مفرغا على أصولهم ذابا عنهم ، ووصف بأنه صاحب سنة وصيح يالناس في عام حجه : لا يفتي إلا مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة !! فكيف يترخص بالعود وعليه فلابد من النقل الصحيح بالإسناد الصحيح إليه لاسيما ولم تذكره كتب التراجم عنه
ثم قال : ( وابنه عبد الملك يبن عبد العزيز كان من أعيان أصحاب الإمام مالك بن أنس ومفتي المدينة في زمانه .....قال : (روى عن مالك وعن أبيه وكان مولعا بسماع الغناء ارتحالا وغير ارتحال قال أحمد بن حنبل : قدم علينا ومعه من يغنيه )
وكل هذا ليس فيه دليل وليس محل المسألة بل إن قوله ( ارتحالا وغير ارتحال ) يدل على أن المقصود الغناء المعهود للمسافر والسائر وهو الحداء
ثم قال : ( وأبو إسحاق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري كان من الثقات الحفاظ الكبار ....قال الذهبي : كان إبراهيم يجيد صناعة الغناء )(1/88)
وهل في هذا دليل على جواز الموسيقى ؟!!
ثم قال : ( وعنه في ذلك حكاية مروية بإسناد صالح فيها الخبر عن مذهبه في الغناء والموسيقى ويحكي في ذلك شيئا عن أبيه وأبوه قاضي المدينة في زمن أعلامها )
أيها القراء الكرام : أتدرون ماهو حال هذا الإسناد الصالح ؟ ! اقرأوا حال الراوي لهذه القصة قبل أن نقرأها وأذكرها: [ قال ابن حبان في المجروحين عنه : يروي عن أبيه عن الثقات الأشياء المقلوبات لا يشبه حديثه حديث الثقات ، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد )] أرأيتم فكيف إذا علمتم أن مارواه أيضا هو إنما عن أبيه ! فكيف إذا علمتم أنه لم يوثقه ذو نفس منفوسة ، فكيف إذا علمتم أن ابن عدي روى حديثا منكرا وفيه هذا الراوي فقال : [ لعل البلاء فيه منه ] هل يحق لأحد بعد هذا أن يستدل بمثل هذا
فكيف إذا علمتم أن متن هذه القصة يثبت أن الإمام المجتهد العدل الرضى : مالك بن أنس كان معه دف يغني الناس في أحد الولائم !! يا خجلتاه من هذا الكلام
والله إني لا أبالغ في هذا ولكن لا نقول إلا : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
أواصل ذكر القصة في الحلقة القادمة
يسر الله إكماله وإتمامه على خير وأعوذ به أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم وأنا به وإليه
المقرئ
إليكم القصة التي ذكرها وقال إنها بإسناد صالح !!
:(1/89)
قال : ( وأبو إسحاق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري كان من الثقات الحفاظ الكبار ...... وعنه في ذلك حكاية مروية بإسناد صالح فيها الخبر عن مذهبه في الغناء والموسيقى ويحكي في ذلك شيئا عن أبيه وأبوه قاضي المدينة في زمن أعلامها كالقاسم .........وفي القصة أيضا شهود مالك بن أنس لذلك وهو في مطلع شبابه ، قال سعيد بن كثير بن عفير المصري قدم إبراهيم بن سعد الزهري العراق سنة أربع وثمانين ومائة فأكرمه الرشيد وأظهر بره وسئل عن الغناء فافتي بتحليله وأتاه بعض أصحاب الحديث ليسمع منه أحاديث الزهري فسمعه يتغنى فقال لقد كنت حريصا على أن أسمع منك فاما الآن فلا سمعت منك حديثا أبدا فقال إذا لا أفقد الا شخصك علي وعلي إن حدثت ببغداد ما أقمت حديثا حتى أغني قبله وشاعت هذه عنه ببغداد فبلغت الرشيد فدعا به فسأله عن حديث المخزومية التي قطعها النبي في سرقة الحلى فدعا بعود فقال الرشيد أعود المجمر قال لا ولكن عود الطرب فتبسم ففهمها إبراهيم بن سعد فقال لعله بلغك يا أمير المؤمنين حديث السفيه الذي آذاني بالأمس وألجأني إلى أن حلفت قال نعم ودعا له الرشيد بعود فغناه
يا أم طلحة ان البين فد أفدا **** قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
فقال الرشيد من كان من فقهائكم يكره السماع قال من ربطه الله قال فهل بلغك عن مالك بن أنس في هذا شيء قال لا والله الا ان أبي أخبرني أنهم اجتمعوا في مدعاة كانت في بني يربوع وهم يومئذ جلة ومالك أقلهم من فقهه وقدره ومعهم دفوف ومعازف وعيدان يغنون ويلعبون ومع مالك دف مربع وهو يغنيهم
سليمى أجمعت بينا**** فأين لقاؤها أينا ****** وقد قالت لأتراب****** لها زهر تلاقينا***** تعالين فقد طاب **** لنا العيش تعالينا
فضحك الرشيد ووصله بمال عظيم وفي هذه السنة مات إبراهيم بن سعد )(1/90)
ما رأيكم أيها القراء بهذه القصة التي متنها يغني عن إسنادها أئمة الإسلام : سعد الزهري وجماعة من الأئمة أقلهم قدرا وفقها الإمام مالك بن أنس يغني لهم!!، أئمة الإسلام كانوا جالسين للغناء ويضربون الدف = أي عقلية هذه يا أستاذ الحديث هل هذه نخوتك لهم ودفاعك عنهم ؟!!
ولكن لعل هذا الكلام الإنشائي الوعظي لا يعجبك فاسمع إذا واقرأ
روى هذه القصة الخطيب وابن عساكر
من طريق عبيد الله بن سعيد بن عفير عن أبيه به
وعبيد الله بن سعيد متروك على أقل أحواله قال عنه ابن حبان في المجروحين ما يلي :
[ عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير أبو القاسم المصري يروي عن أبيه عن الثقات الأشياء المقلوبات لا يشبه حديثه حديث الثقات ...لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ] وقد تفرد بهذه القصة وهو يرويها عن أبيه
وروى ابن عدي حديثا له عن أبيه فقال : [ لعل البلاء فيه من عبيد الله ]
فكيف تجيز لنفسك أن تقول إن إسناده صالح يا أستاذ الحديث
واقرأ ما حشاه أيضا بعد أن رواه :
قال ( أخرجه الخطيب في تاريخه 6 / 83 -84 وابن عساكر في تاريخه 7 / 9 -11 بإسناد صحيح إلى عبيد الله بن سعيد بن عفير عن أبيه ، قلت وعبيد الله بن سعيد المصري صدوق ليس بالقوي لا يحتج بحديثه وإنما يعتبر به ميستشهد وهو في مثل هذا الأثر حسن النقل إذ غاية باب الآثار أن يستشهد به )
اتق الله وخف الله وراقب الله فيما تكتب العلم ليس عجنا وطحنا = العلم دين
ويحك يا أستاذ عبد الله كيف تقول لمن هذا حاله : صدوق ليس بالقوي هل عاصرته وخالطته حتى تخالف الأئمة ؟! أهل العلم وساسته يقولون لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا تفرد وأنت تقول صدوق دون أي حجة عن عالم آخر أليس هذا هو الهوى والرجم بالغيب ولا حول ولاقوة إلا بالله
قد أعتذر لفلان وفلان لمن لم يقف على إسناد القصة فيحتج بها أما أنت وقد وقفت على إسنادها وعلمت حال الرجل ثم تقول : صدوق ليس بالقوي(1/91)
ثم تقول إنه استشهاد !! ليس هذا استشهادا = لا والله ؟
بل فيه
1 - استدلال
2 – فيه وصف علماء الأمة بالغناء وعمل الفساق
كيف تقبل هذا عن مالك بن أنس ؟؟ وأنت من صحح قول مالك بن أنس رحمهم الله : إنما يفعله عندنا الفساق )
كيف يقول هذه المقولة وهو ممسك بدف ويغني = يا حسرة على العلم وأهله والله المستعان !!!
ثم قال : ( وسفيان بن عيينة الإمام الفقيه الحافظ لا ينكر من صنيع المغني غير ما يرغب في ممنوع فقد قال تلميذه الزبير بن بكار : قدم ابن جامع- قال في الحاشية : من مشاهير المغنين – مكة فقال سفيان بن عيينة : بلغني أن هذا السهمي قد جاء بمال كثير قال : أجل وعم يعطونه ؟ فقال رجل يغنيهم ، قال : وبأي شيء يغنيهم ؟ قال بشعر ، قال فتروي منه شيئا ؟ قال : نعم ، قال هاته فأنشده : ......فقال – سفيان - : جزى الله هذا خيرا ....)
ثم ماذا يا أستاذ عبد الله ؟!! ابن عيينة سمع شعرا = بشعر جميل جدا عن قيام الليل ولما سمع ما فيه التشبيب بالنساء قال أمسك
أين الدليل أين الموسيقى ؟ سبحان الله !!
ثم قال : ( وأما المحكي عن أهل العراق من ثقاتهم وفقهائهم من طبقة أتباع التابعين فيهم فذكروا في البصريين القاضي الفقيه الثقة العاقل عبيد الله بن الحسن العنبري حيث كان حسن الصوت وكان يسمع الغناء )
يا علماءنا أعظم الله أجركم بمن أساء إليكم !! هل سمعوا الموسيقى يا أستاذ عبد الله كثير منا يحضر المجالس ويسمع الغناء والحداء بدون آلات طرب
وواقعنا أصبح يطلق الغناء على مافيه آلات موسيقية ، وأما ما كان بدونها فيسميه نشيدا ، ألم أقل لك إنك متأثر بلغة مرباك !
ثم قال : ( وذكروا في الكوفيين المحدث الثقة المنهال بن عمرو الأسدي احتج به البخاري في صحيحه وحكم بثقته من نقاد المحدثين يحيى بن معين والنسائي والعجلي وغيرهم وكان يضرب بالطنبور )
يا ويحك – أي تدليس هذا ؟!! كان يضرب بالطنبور
( ستكتب شهادتهم ويسألون ) من يجرؤ على هذا ؟(1/92)
أيها القراء تذكروا هذا البهتان وانتبهوا له ، ليس فيه أي شبهة بأنه وصف المنهال بأنه يضرب بالطنبور ،
سترون في الحلقة القادة ما يغضبكم ويضحككم ، وإن لم يكن كلامي حقيقيا فلا تقرؤوا لي أبدا أبدا !! سترون أيها القراء تدليس أبي محمد على حقيقته دون حجاب وسأثبت لكم من كلامه ولن أرجع إلى أي مصدر آخر لأثبت حجتي بأنه أخذ الأستاذية في المراوغة والتدليس
يا أبا محمد : تب إلى الله والله إنك في نفق مظلم ، مالذي دهاك ؟ انتبه ، الدنيا قصيرة هؤلاء العلماء الذين افتريت عليهم ستجدهم أمامك يوم القيامة والأشهاد عليك =كل من قرأ هذا الكتاب ،
أتدري : لو أنك نقلت عن غيرك وقلت : قال فلان بأنه يسمع الطنبور لكان الأمر أيسر ، أما أن تثبت بنفسك بما لا تستطيع إثباته فأنت الخصم يوم القيامة
ووالله لغيرتي لأبي المنهال أشد بكثير من غيرتي عليك ولذلك لا تلمني في كل عبارة قلتها فيك في هذه المشاركة خاصة وأنا لم أتجن عليك بشيء ولكنني والله عجزت أن أصبر أن أراك تصف علماءنا بهذه البواقع وهذا الفحش وأسأل الله أن لا يؤاخذني فوالله ما كتبت الذي كتبت إلا ودافعها الغيرة على علماء الإسلام
ولو تعلم مقدار الأسى الذي أدخلته على نفسي خلال هذه الأيام التي بليت بها في قراءة كلامك لقلت : لعل له عذرا
فاللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري واسلل سخيمة فؤادي واهد أبا محمد وقه شر نفسه وشر الشيطان وشر قرين السوء
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
قال عن أبي المنهال : ( وكان يضرب بالطبنور فقال في الحاشية : قصة ضربه بالطنبور وردت في خبر شعبة بن الحجاج عنه أنه سمعه من بيته فلم يسمع منه الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء 4 / 237 والخطيب في الكفاية ص183 وابن عساكر في تاريخه 60 / 373 بإسناد صحيح )
على استحياء وبطريقة دبلوماسية رجم الكلام رجما
لقد قال : ( سمعه من بيته ) لا إله إلاالله(1/93)
أين التصريح أنه كان هو الضارب لعل له قريبا أو جارية عصت أمره أو ما شابه ذلك
أنت تقول : ( كان يضرب بالطنبور ) هل أنا أعجمي أو مافهمته هو الصواب ؟!! كيف تقول يضرب بالطنبور ثم تقول : سمعه شعبة من بيته
ولا تظن أيها القارئ أن الأستاذ عبد الله ينتهي تدليسه بهذا فقط
بل الطامة والقاصمة لو قرأت القصة التي واراها الأستاذ عبد الله عبلا غير عادته لأن فيها التبرئة من هذا الحال ولكن ما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل
أنقل لك أيها القارئ القصة من المصدر الذي عزا إليها المؤلف لتعلم أن الأمر غير خاف عليه :
قال العقيلي في نفس الصفحة التي عزا إليها المؤلف : منهال بن عمرو حدثنا عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد وسمعت أبي يقول أبو بشر أحب إلي من المنهال بن عمرو قلت له أحب إليك من المنهال بن عمرو قال نعم شديدا أبو بشر أوثق إلا أن المنهال أمتن حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن غيلان قال حدثنا وهب عن شعبة قال أتيت منزل منهال بن عمرو فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت ولم أسأله قلت وهل لا سألته فعسى كان لا يعلم
انظر إلى كلام وهب بن جرير ما أجمله : هلا سألته فعسى كان لا يعلم
ما أجمل هذا الكلام وأخونا عبد الله تجاوز هذه المعاذير وزاد في القصة بأنه – هو – كان يضرب بالطنبور ولا حول ولاقوة إلا بالله
والأطم والأدهى ماذكره بعد هذا
فقال : ( وروي أن له لحنا غنائيا كان يعرف بـ( وزن سبعة )وقد أخرج الرواية به ابن عساكر في تاريخه 60 373 وإسناده واه )
كم أنت مضحك يا أبا محمد إسناده واه
ألست أعرف الناس بمعنى هذه الكلمة فيما يظهر لي من قول الناس عنك ( إسناده واه ) يعني أنها شبه الكذب لغة واصطلاحا !!
ثم قال بعدها بأنه جاء من طريق أخرى ؟! ولن أتكلم عليه لأني أخشى أن أفقد تماسكي معه والحر تكفيه الإشارة(1/94)
ثم قال خلاصة هذا الفصل فقال : ( ...بل فيهم من كان يهوى الغناء والموسيقى ويحبها ويستعملها مع الصلاح والدين والفقه والثقة )
أسألكم بالله أيها القراء : هل مر في كلامه الذي نقلت لكم ما يدل أنه ثبت عن إمام واحد ممن سماه أنه أجاز الموسيقى أو أنه يحبها أو يستعملها = أبرأ إلى الله من هذا الكلام
ثم قال : ( وإنما أردت أن أسوق نصوص عبارات السلف لينظر حقيقة ما يدعيه الذاهبون مذهب التحريم من الإجماع على ما ذهبوا إليه وليبين كذلك حقيقة ما ينسبونه إلى السلف من القول المجمل وتعلم أيضا خطأ من زعم أنه لم يخالف الجماعة سوى إبراهيم بن سعد الزهري وعبيد الله العنبري فذلك من نتاج التقليد وترك التحقيق )
يا صاحب التحقيق :
1 – لم يثبت لا عن إبراهيم ولا عبيد الله بل لم يخالف أحد في تحريم الموسيقى
2 – التحقيق عندك تبين طريقه وأسلوبه وحان لنا أن نعرف كيفية البحث عندك وطريقة المراوغة التي تسلكها في تأليفك على حساب أمانتك ودينك وما قصة المنهال عنا ببعيد وما قصة الأوزاعي عنا ببعيد وما قصة الزهري كذلك وغيرها وغيرها كثير
انتهى المؤلف من العبث في تاريخ علمائنا فالتفت إلى مبحث مضحك وقد كنت قلت سابقا في نقاشي معه في موضوع اللحية : إنه أبان عن ضعف في الملكة الفقهية وعن فهم دقيق لعباراتهم بما كان مستورا قبل بستر الله
ولكن أبى إلا أن يهتك ستر الله عليه
وسترى أيها القارئ دون أي جهد مني ولا ذكاء أبدا ودون أن أتعب نفسي بالرجوع إلى المصادر ما زبره الأستاذ في كتابه من الطوام مالا يحصيه إلا الله ومالا يمكن أن يقع به مبتدئ بالعلم فضلا عن الأستاذ والمحدث والمفتي والمؤلف أبي محمد
وانتظر بابا جديد سماه : ( تحرير العبارات المنقولة عن الفقهاء الأربعة في الموسيقى والغناء )
ويعلم الله أني متردد في المواصلة وأحس أن الأمر اتضح للقارئ الكريم فالمحافظة على الوقت والانشغال بغيره أنفع من الاشتغال بمثل هذا(1/95)
ولعل الله أن ييسر الخير لي وأن يوفقني لما فيه النفع والصلاح
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
ابتدأ المؤلف بذكر المذاهب الفقهية الأربعة وأن الخلاف محفوظ بينها
وسترى أيها القارئ بكل وضوح وبكل جلاء ودون ( تزوير ولا مخادعة ولا انتقائية ) ما يجعلك تتضوى من القهر من تهور وتدليس أبي محمد علينا وكأننا في كتاتيب الأطفال لا نفقه شيئا ويستطيع أن يخادعنا كيفما شاء
ألا فلتعلم أيها الأستاذ أن مصيبتك عليك وأن من تحاول مخادعتهم قد تجاوزوك وأما أهل الهوى فأنصحك بعدم التأليف لهم وتكفي ورقة واحدة بتجويزك لما يريدون وما يتمشى على أهوائهم ولن تجد مخالفا ولا ناصحا ولا مستغربا فأرح بالك
وسأسير على طريقة واضحة في المناقشة وذلك أولا بتقرير المذهب ثم أعرض عليكم بكل وضوح تدليس المؤلف وخداعه
المسألة الثانية :
وقبل أن أبدأ معه أقولها وبكل وضوح حقيقة = لقد أوقعنا أبو محمد في إشكالية عظيمة وذكر شيئا لا أدري كيف أتعامل معه
ولست أدري كيف رضي لنفسه بأن يذكر هذا الكلام في كتابه إليك ما قاله بسطوره :
قال : ( جمهور أتباع الفقهاء الأربعة يفسرون مذاهبهم على تحريم الآلات سوى الدف )
الحمد لله هذا كلام جميل وتشكر عليه إذا هذا اعتراف من أبي محمد بأن المذاهب أجمعت على تحريم آلات الملاهي سوى الدف
وأنا أعلم أنك لن تصدق أن أبا محمد كتب هذا الكلام في كتابه ولن أجد في نفسي حرجا عليك إذا رجعت إلى كتابه للتأكد من أن هذا النص موجود أم لا = لأنه حقيقة = أبى الله إلا أن يظهر الحق على قلمه وإن لم يشعلا
ثم قال : ( لكنهم لا ينسبون إلى أحد من الأربعة إباحة المعازف بإطلاق وأما الغناء فالذي ينسبونه لهم التردد فيه بين تحريم وكراهة وإنما يستثنى قليله في المناسبة المعينة كالعيد والعرس )
دعنا ثم دعنا من الغناء = نريد آلات اللهو أنت تقول إن المذاهب تقول بالتحريم لكنهم لا ينسبونها إلى الإمام نفسه !! أليس هذا مضحكا(1/96)
بالله عليك هل تفقه معنى كتب المذهب وما معناها ؟ وأنا أجيب : كلامك هذا يعني أنك لا تفقه منزلة كتب المذهب المعتمدة بالنسبة للإمام ولو كنت مسؤلا لرددتك إلى أول مستوى في الجامعة
كيف هذا ؟ إذا وجزاك الله خيرا فلعلك تلتفت إلى كلام الأئمة وتذكر مذهبهم فيما وجدت تصريحا لهم في المسألة وأما مالم تجده فحرم نسبته إلى مذهب الإمام وألغ كتب المذاهب وأنشأ مذهبا بدعيا جديدا
يا هذا : المذاهب نقحت وأشبعت في تحرير مذهب الأئمة ثم تأتي وتريد أن تثبت لنا بأن كتب أصحابنا تنسب إلى المؤلف ولا تنسب إلى مذهب الإمام سبحان الله !! كم قلت إنك كنت مستورا بستر الله في معرفتك الفقهية
ومع هذا فالأستاذ مقتنع من كلامه وسوف يبدأ يحلل كلام الإمام وينسف أئمة المذهب المتقدمين وكأنه محقق في جميع المذاهب
وعلى كل فلا علاقة لنا بتفكيره
وقبل أن أبدأ بمناقشته أنقل لكم قول المذهب ثم أنقل ما زبره الأستاذ في بحثه :
أولا : المذهب الحنفي :
يا أستاذ عبد الله اتفق أئمة المذهب الحنفي على تحريم سماع آلات الملاهي بالنص
وقد حاول أبو محمد أن يشغلنا بمسألة ضمان المتلف وقطع سارقها ، وكل هذا تشغيب وتشتتيت للقارئ = دعنا يا أبا محمد من هذه المسائل كلها ولسنا بحاجة إلى تقريرك لننظر إلى قول المذهب في سماع الملاهي المحرمة :
وها أنا أنقل لك من الكتب المعتمدة من المذهب الحنفي بل ومن أشهر كتبه ولو أردت الزيادة لأتيتك بضعفها وقد خصصتها بحكم سماع الملاهي أما بيعها أو ضمان إتلافها فذاك له شأن آخر سأتجاوزه حتى نكون على هدف واضح :
1 – في بدائع الصنائع للكاساني ( ت: 587هـ) : (الملاهي حرام كالضرب بالقصب وغيره قال عليه الصلاة والسلام استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها كفر وهذا خرج على وجه التشديد لا أنه يكفر )(1/97)
2 – وقال صاحب الهداية (ت : 593هـ) قال : (ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب وكذا قول أبي حنيفة رحمه الله ابتليت لأن الابتلاء بالمحرم يكون )
3 – قال صاحب تحفة الملوك ( ت : 666هـ ) : وسماع صوت الملاهي كلها حرام فإن ( سمع ) بغتة فهو معذور ثم يجتهد أن لا يسمع ( مهما) أمكنه
4 – وقال صاحب كتاب المختار ( ت : 683هـ) : ( واستماع الملاهي حرام ) وقال في شرحه للمؤلف نفسه : ( كالضرب بالقضيب والدف والمزمار وغير ذلك )
5 - وفي البحر الرائق : (ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القصب قال عليه الصلاة والسلام ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف أخرجه البخاري وفي لفظ آخر ليشربن اناس من أمتي الخمر يسمونها بغير عدا يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القرد والخنازير واختلفوا في التغني المجرد !! قال بعضهم إنه حرام مطلقا والاستماع إليه معصية لإطلاق الحديث وهو اختيار شيخ الإسلام ومنهم من قال لا بأس به ليستفيد به فهم المعاني والفصاحة وفهم من لصاحب الوحشة إذا كان وحده ولا يكون على سبيل اللهو وإليه ذهب شمس الأئمة السرخسي لأنه روى ذلك عن بعض الصحابة ولو كان في الشعر حكم أو قصة لا يكره)
6 - وفي الدر المختار : (ودلت المسألة أن الملاهي كلها حرام ويدخل عليهم بلا إذنهم لإنكار المنكر ... قلت وفي البزازية الملاهي كضرب قصب ونحوه حرام لقوله عليه الصلاة والسلام استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها كفر أي بالنعمة فصرف الجوارح ما خلق لأجله كفر بالنعمة لا شكر فالواجب كل الواجب أن يجتنب كي لا يسمع )
6 - في حاشية ابن عابدين : ( واستماع ضرب الدف والمزمار وغير ذلك حرام وإن سمع بغتة يكون معذورا ويجب أن يجتهد أن لا يسمع )(1/98)
7 - وفي حاشية ابن عابدين : (الملاهي نوعان محرم وهو الآلات المطربة غناء كالمزمار سواء كان من عود أو قصب كالشبابة أو غيره كالعود والطنبور لما روى أبو أمامة أنه عليه الصلاة والسلام قال إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق لمعازف ولمزامير ولأنه مطرب مصد عن ذكر الله والنوع الثاني مباح وهو الدف في النكاح وفي معناه ما كان من حادث سرور ويكره في غيره لما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما الدف بعث فنظر فإنه كان في وليمة سكت وإن كان في غيره عمده بالدرة وهو مكروه للرجال على كل حال للتشبه بالنساء ا ه )
بل تأمل هذا النص الذي نقله جماعة من الأحناف منهم الكاساني في البدائع حيث قال
: (: وأما الذي يضرب شيئا من الملاهي فإنه ينظر إن لم يكن مستشنعا كالقصب والدف ونحوه لا بأس به ولا تسقط عدالته وإن كان مستشنعا كالعود ونحوه سقطت عدالته لأنه لا يحل بوجه من الوجوه )
فقوله : ( لا يحل بوجه من الوجوه ) كافية لطالب الحق في قبوله والإذعان له بخلاف غيره
وسترون أيها الإخوة في الحلقة القادمة كيف ناقش هذه الأقوال وأخبركم أن الأستاذ الجديع أثبت أن قول أبي حنيفة في الموسيقى لا يتجاوز الكراهة التنزيهية !!!!!!!
ولله في خلقه شؤون
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
سنرى من الغرائب والعجائب في كلام أبي محمد ما يزهدكم في المواصلة لقراءة كلامه كما أصابني ولكن لا مانع من المرور على كثير منه لأبين للقارئ الكريم مسلك أبي محمد في كتابه :
قال : ( النص الصريح عن الإمام أبي حنيفة لم أقف عليه في شيء مما ينقله أصحابه )
وهل هذا خارم لإجماعنا يا أبا محمد أن لا يوجد نص لإمام من الأئمة والسؤال المقلوب عليك هل وجدت نصا من الإمام بجوازه أو كراهيته ؟
هذا السؤال وطريقتك هذه طريقة يسميها العوام ( تغده قبل يتعشاك ) نقاشنا لم يكن لفلان أو علان نقاشنا هل انخرم الإجماع أم لا ؟!!(1/99)
ثم تأتي وتقول : لم أجد نصا لأبي حنيفة !! كم هذا مضحك ومبك جميعا
ثم قال : ( وإنما ذكروا عنه في حضور الوليمة يكون فيها اللعب والغناء قال : ( ابتليت بهذا مرة )
أين الشاهد من هذا يا أبا محمد على جواز الموسيقى محل النقاش كم من مرة قلت لك نحن نريد منك ما نسبته من جواز الموسيقى أين هو ؟ لا يوجد
ثم قال : ( وفسر أتباعه من بعد ذلك التصرف منه على وجوه )
دع أهل المذهب يفسرونه كما يشاؤون ولا مانع من عدم قبولك لهم ولن أدخل في هذا حتى لا تغير في مساري إلى هدفي
أنا أسألك هل في هذا جواز أو كراهية للموسيقى أسألك بالله هل فيه جواز الموسيقى ؟!!
لا يوجد
وبعد أن ذكر كلاما طويلا ليضيع مسألته ،
بعد ذلك قال :
: ( ومنهم من فرع على قوله " ابتليت بهذا " بقوله ودلت المسألة على أن مجرد الغناء معصية وكذا الاستماع إليه وكذا ضرب القضيب والاستماع إليه ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه سماه ابتلاء ....وأقول : تفريعهم هذا توسع ظاهر فإن الرواية التي ذكروا عن أبي حنيفة ليس فيها تفصيل ثم هو تحميل للفظ فوق ما يحتمله فإن الابتلاء يكون بما يكرهه الإنسان ...)
ما شاء الله على المحقق الحنفي والمجتهد في هذا المذهب ، من أنت حتى توجه كل = كل = كل = علماء المذهب الحنفي والذين أطلقوا أن مذهبهم الحرمة تأتي وتفسر كلمة الإمام على ما يظهر لك دون أن تعرف أصول المذهب وطريقة فهم كلام إمامه
ثم أسألك دعنا من كلمة أبي حنيفة هذه هل عندك نص غير هذا فيه إجازة أبي حنيفة للموسيقى
إذا كان هذا النص في الغناء من أبي حنيفة فكيف إذا كان هناك آلات عزف وموسيقى ؟!! أين عقلك الإمام يقول ابتليت بالغناء في زواج !! فكيف يكون قوله لو ابتلي بموسيقى أليس حالك يدعو للشفقة
كيف وأنت ذكرت أن الإمام نص على أنه إذا كسر آلة موسيقية أنه يضمنها خشبا ولا يضمنها على هيئتها ألا تسأل نفسك لماذا ؟!(1/100)
ثم قال : ( هذا غاية ما نقل عن أبي حنيفة من قوله فيما وقفت عليه من كتب أصحابه )
والسؤال : لماذا تبحث عن قول أبي حنيفة ؟ هل لأنك سمعت غيره ؟
إن كنت سمعت غيره أو خلافا في مذهبه فهذا شأنك ، أما أن تبحث عن قوله ونقلنا لك إجماع المذهب على حرمة المعازف ثم تبحث في قول الإمام ثم يقول لم أجد شيئا !!
حسنا لم تجد شيئا هل هذا ينقض الإجماع كونك لم تجد نصا لأبي حنيفة
إذا هذه قاعدة بدعية جديدة = كل من استدل عليه بالإجماع فليذهب وليبحث في نصول الأئمة الأربعة فمن لم يجد نصا لأحد الأئمة فليقل : لا يمكن هذا الإجماع لأني لم أجد نصا عن هذا الإمام ، ليهنك العلم يا أبا محمد
ثم قال : ( وأما صاحباه فتعزى لأبي يوسف المسألة دون نص عبارته )
عجبا لك المذهب ينقلون رأيه وهم أحرص الناس على توثيقه ثم تأتي وتشكك في أصحابه كم هذا عجيب
ثم قال في الحاشية : ( إلا ما جاء في حكاية له مع إسماعيل بن جامع المغني في قصة أخرجها أبو الفرج في " الأغاني " )
ذكرت هذا كاستراحة للقراء ولك أذكر القصة لأنها مما يؤسف له من نواح عديدة ومن كان حريصا على قراءتها فليرجع إلى الكتاب لعله يعرف حقيقة أبي محمد وينظر هل فيها دلالة أو شبه دلالة على الموسيقى والله المستعان
ثم قال : ( وعن محمد بن الحسن الشيباني بعض النصوص فإليك ذلك : مقابلة لما نسب لأبي حنيفة من ضمان قيمة المتلف من آلات المعازف نسب إلى الصاحبين عدم الضمان ، كذلك عنهما : لا ينعقد بيع آلات الموسيقى لكونها موضوعة للفسق والفساد )
وهذا النص عنهما طبعا لم يعجب أبا محمد فلا أدري ماذا يريد
يقولان إن آلات الموسيقى وضعت للفسق والفساد ومع هذا يقول إنه لم يجد ما يدل على تحريمهما !! حسبنا الله ونعم الوكيل واقرأوا ما بعده :(1/101)
ثم قال : ( وقال محمد بن الحسن : كل قرية من قرى أهل الذمة أظهروا شيئا من الفسق مما لم يصالحوا عليه مثل الزنا وإتيان الفواحش فإنهم يمنعون من ذلك كله .....وعلى هذا إظهار بيع المزامير والطبول للهو وإظهار الغناء فإنهم يمنعون من ذلك كما يمنع منه المسلم )
اقرأوا اعتراف أبي محمد واحفظوه فنحن بحاجة إليه يا إخواني قال بعده : وفي هذا من محمد إنكار الغناء أيضا مع إنكاره الآلات )
ثم قال بعد كلام طويل : ( فحاصل المنقول عن أبي حنيفة في الآلات : غير صريح في تحريمها بل قوله بجواز بيعها دليل منه على جواز اقتنائها مع كراهته )
تهور ما بعده تهور واندفاع عظيم من أبي محمد من قال ذلك ومن الذي فهم من الأصحاب ذلك ، هل تقنع نفسك أم غيرك وهل الكتاب ألفته لنفسك ؟
أبو حنيفة أجاز بيعها لماذا ؟ لماذا لم تنقل النص كا ملا وقد نقلت من بدائع الصنائع كما في الحاشية(1/102)
أيها القراء أنقل لكم المصدر الذي نقل منه المؤلف وهو بدائع الصنائع : وكذلك قال محمد في الزيت إذا وقع فيه ودك الميتة أنه إن كان الزيت غالبا يجوز بيعه وإن كان الودك غالبا لا يجوز بيعه لأن الحلال إذا كان هو الغالب يجوز الانتفاع به استصباحا ودبغا على ما ذكرنا في كتاب الطهارات فكان مالا فيجوز بيعه وإذا كان الحرام هو الغالب لم يجز الانتفاع به بوجه فلم يكن مالا فلا يجوز بيعه ويجوز بيع آلات الملاهي من البربط والطبل والمزمار والدف ونحو ذلك عند أبي حنيفة لكنه يكره وعند أبي يوسف ومحمد لا ينعقد بيع هذه الأشياء لأنها آلات معدة للتلهي بها موضوعة للفسق والفساد فلا تكون أموالا فلا يجوز بيعها ولأبي حنيفة رحمه الله أنه يمكن الانتفاع بها شرعا من جهة أخرى بأن تجعل ظروفا لأشياء ونحو ذلك من المصالح فلا تخرج عن كونها أموالا وقولهما أنها آلات التلهي والفسق بها قلنا نعم لكن هذا لا يوجب سقوط ماليتها كالمغنيات والقيان وبدن الفاسق وحياته وماله وهذا لأنها كما تصلح للتلهي تصلح لغيره على ماليتها بجهة إطلاق الانتفاع بها لا بجهة الحرمة ولو كسرها إنسان ضمن )
إذا أيها القراء الكرام أبو حنيفة أجاز بيعها كما أجاز بيع غيرها من المحرمات لأنه يمكن الاستفادة منها في غير الحرمة وهذا سبب الإباحة وليس لأنه يرى جواز آلات الموسيقى وهو الذي قال في الغناء – تأمل – الفناء " ابتليت به – فكيف بآلات المعازف فلله الأمر من قبل ومن بعد
وعلى كل أرجع مرة أخرى وأقول أين جواز استماعها لم نره حتى تبني عليه ؟
ثم قال : ( ولعدم ذهاب أبي حنيفة إلى الحرمة لم يفارق مجلس الوليمة وإن كان كرهه )
سبحان الله ! أتخادعنا ونحن نقرأ النص ليس فيه آلات موسيقية وإنما فيه ( الغناء ) ومع ذلك قال كلمته ( ابتليت به ) فكيف تقول هذا ؟!
وبعد هذا البحث المزري وكأنه يعيش لوحده ويقنع نفسه(1/103)
قال : ( فالحاصل فيما أرى : إن لإمام أبا حنيفة يذهب إلى كراهة الآلات كراهة تنزيهية لا إلى تحريمها وذلك لمعنى اللهو وهذا أوفق لأصوله )
ما شاء الله ( أوفق لأصوله ) أسألك بالله هل قرأت أصول الإمام أبي حنيفة وما هو الأصل الذي بنيته في هذه المسألة وخرجت علينا بالإباحة - أقصد الكراهة – أتخادعنا وآن لي أن أقول بلسان الواثق : اكتب ما شئت فإنها والله خربشة تملؤها بهذه الأوراق البيض ولا والله لا يقلدك وهو قد عرف حالك إلا إنسان غلبه الهوى
أيها الأحناف رحم الله مذهبكم فقد لعب به على يديه
وبعد هذا العرض فلم يستطع أبو محمد أن ينقض الإجماع المنقول بحرمة الموسيقى
ثم انتقل بعد ذلك إلى مذهب مالك بن أنس فأعان الله المالكية عليه كيف وهو من صحح ذلك الأثر البالي والذي فيه أن إمام السنة يضرب بالدف ويغني للناس !! قاتل الله الجهل
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
ثم انتقل إلى مذهب مالك بن أنس وسترون أيها القراء جناية لا يمكن أن نغتفرها لأبي محمد فقد وقع في خطإ كبير جدا في فهم عبارات المالكية
وقبل أن أبدأ بمناقشة أبي محمد أنقل للقراء الكرام نصوص المذهب المالكي من أشهر كتبهم من أجل أن نعرف رأي المذهب المالكي من كتبهم :
وقد اتفق المذهب وأجمع على أن استماع الملاهي حرام وإليك نصوصهم :
1 - أصبغ بن الفرج ( ت : 225 هـ ) : ولا يجوز الكبر والدف ولا غناء معها ولا ضرب ولا برابط ولا مزمار وذلك حرام محرم في الفرح وغيره إلا ضربا بالدف والكبر هملا وبذكر الله وتسبيحا وحمدا على ما هدى أو برجز خفيف لا بمنكسر
2 – وفي رسالة أبي زيد المالكي القيرواني المشهور بمالك الصغير ( ت : 386هـ ): ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله ولا أن تتلذذ بسماع كلام امرأة لا تحل لك ولا سماع شيء من الملاهي والغناء )(1/104)
3 – قال ابن رشد في المقدمات (ت : 520 هـ) : ولا يجوز تعمد شيء من اللهو ولا من آلات الملاهي ورخص في الدف في النكاح وفي الكبر والمزهر أقوال انتهى )
والكبر سبق لنا تعريفه وأنه من قبيل الدفوف
والمزهر تكلم عليه أبو محمد في أول الكتاب ص29 : وقال : الدف ما كان بغير جلاجل أو صنوج فإذا كان بجلاجل أو صنوج فهو ( المزهر ) كذا قالوا !!وهو خلاف المعروف عن أهل اللسان في المزهر إذو أطرافه إذا ضرب بعضها بعضا ، س الصغيرة بالجلاجل ، وا وهو خلاف المعروف عن أهل اللسان في (المزهر) فهو عندهم آلة العود وليس الدف بالجلاجل أو الصنوج - قال في الحاشية قال أبو عبيد الهروي في تفسير ( المزهر) بأنه العود الذي يضرب به " فهذا المزهر لا يختلف فيه " )
وفي هذا الكلام نظر بين يا أبا محمد هداك الله : والله إنك أقحمت نفسك في شيء لست أهلا له ، هذا لا يصلح !!= أن تقرأ الكتب وتزبر ما فيها دون دراية ، يا أبا محمد نصيحة خالصة هذه الطريقة في الفقه خطأ لابد من القراءة على الشيوخ في كتب المذهب وخطؤك هذا هو آفة كثير من المشتغلين في الفقه وهي درس لك ولغيرك وما دمنا في مذهب المالكية إليك هذه الفتوى المالكية في مثل فعلك هذا :
قال الونشريسي المالكي : الذي يفتي الناس بما يرى في الكتب من غير أن يقرأ على الشيوخ لا يحل له نص على ذلك الفقهاء وسواء وجد غيره أم لا إ.هـ
وانظر إلى خطئك هذا رجعت إلى كتب اللغة في تعريف المزهر وما دريت أن المالكية يعنون به إطلاقا غير عربي وأولى من يتكلم بتفسير الشيء هم أربابه لماذا لم ترجع إلى كتب المالكية لترى تعريفهم للمزهر وكم من معنى لغوي يخالف المعنى الفقهي لعلة ما وأترك التمثيل لك
اقرأ ما قاله القرافي من أئمة المالكية : وفي التنبيهات : الدف بضم الدال – هو المدور بوجه واحد وهو الغربال والمربع من الوجهين هو المزهر وليس بعربي والمزهر عند العرب عود الغنا(1/105)
واقرأ ما جاء في مواهب الجليل وهو من أشهر كتب المالكية قال : تنبيه المعروف في اللغة أن المزهر العود ولم أر من أهل اللغة من ذكر خلافه وكتب الفقهاء مخالفة لذلك فإنهم إنما يعنون بالدف المربع المغلوف وصرح به يحيى بن مزين المالكي
أرأيت أيها الرجل كيف وقعت في شيء كان لك فيه أناة
ألا تلوم نفسك كيف وقعت وأوقعت غيرك بمثل هذا الخطأ الشنيع ألست مقتنعا بعد هذا أنك وضعت نفسك في مكان لما تصل إليه
أرجوك ثم أرجوك راجع نفسك وحاسبها وازجرها وانهها عن غيها
4 – قال أبو عبد الله المازري (ت : 536 هـ) : الغنا بغير آلة مكروه وبآلة ذات أوتار كالعود والطنبور ممنوع وكذا الزمار )
وقال أيضا : الغنا بآلة ممنوع )
5 - أبو العباس القرطبي ( ت : 656هـ) : وأما ما أبدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة فمن قبيل مالا يختلف في تحريمه )
6 – قال صاحب كفاية الطالب ( ت : 939هـ) : ولا يحل لك سماع شيء من آلات الملاهي كالعود إلا الدف في النكاح
وغيرها كثير جدا وسيأتي نصوص الإمام مالك رحمه الله عند نقاشه في بعض أقواله
وبعد هذه النصوص المتضافرة سيأتي أبو محمد ويقول : ليس عن مالك نص بالتحريم كذلك وإنما تدل العبارات عنه على الكراهة !!!
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
قال أبو محمد : ( رأي مالك بن أنس : وأما الإمام مالك : فالمنقول عنه من رأيه في الموسيقى ما يلي : سأل سحنون بن سعيد عبد الرحمن بن القاسم : أرأيت هل كان مالك يكره الدفاف في العرس أم يجيزه ؟ وهل كان يجيز الإجارة فيه ؟ قال : كان مالك يكره الدفاف والمعازف كلها في العرس وذلك أني سألته عنه فضعفه ولم يعجبه ذلك )
أبا محمد ما أكثر عجائبك تأمل ما يلي لأثبت لك أن تنفخ في رماد :
1 – أنت اشترطت على نفسك مسلكا جديدا بأن لا ترضى كلام أحد سوى كلام الإمام نفسه وهو سبب عقد هذا المبحث المتهالك جدا ؟!! والآن تقول قال ابن القاسم كان مالك يكره ؟(1/106)
إيش الكلام هذا يا أبا محمد لكن سأحمل أنك نسيت ذلك !!
2 – أين الدليل على جواز الموسيقى : كان يكره الدفاف والمعازف كلها في العرس
وما معنى كان يكرهها ( الدفاف ونحوها من الكبر وغيره ) فيه خلاف عنه في العرس بينما المزمار والعود يرى تحريمه قولا واحدا انظر إلى هذا النص الذي نقلته أنت عن مالك لتعلم أنك تتشهى وتفسر الكلام على ما تريد يا أبا محمد :
لما سئل مالك عن المزمار والكبر أو غير ذلك من اللهو ينالك سماعه وتجد لذته وأنت في طريق أو مجلس غيره ؟ قال مالك : أرى أن يقوم من ذلك المجلس
.
أرأيت يقول تقوم من المجلس ما معنى هذه الكلمة هل هذا معناه أنه مكروه
بل الإمام مالك اسمع إلى كلمته في الغناء من واحد من أخص تلامذته وهو أبو محمد : عبد الله بن عبد الحكم بن أعين صاحب مالك فقد قال في مختصره : : وسئل مالك عن الغنا فقال : لا يجوز ، فقيل له عن أهل المدينة الذين يسمعونه فقال : إنما يسمعه عندنا الفساق
فليتك تتأمل وتنصف : إذا كان هذا رأيه في الغناء فكيف بآلات الملاهي والمزامير وتقول بأنه يكرهه
ثم تأمل ما ذكر بعده : ( وعن عبد الله بن وهب المصري أنه سمع مالكا يسأل عن الذي يحضر الصنيع فيه اللهو ؟ فقال ما يعجبني للرجل ذي الهيئة يحضر اللعب )
أين الدليل في هذا يا أبا محمد تأمل النص جيدا ( سئل عن اللهو ) لا علاقة لها في باب الموسيقى
ثم قال : ( وقال ابن وهب عن مالك وسئل عن ضرب الكبر والمزمار أو غير ذلك من اللهو ينالك سماعه وتجد لذته وأنت في طريق أو مجلس غيره ؟ قال مالك : أرى أن يقوم من ذلك المجلس .)
يا أبا محمد هذه والله عليك يقول الإمام ( يقوم : لماذا يقوم ؟ ) عجيب أمرك حقا
ثم قال : ( قلت هذه نصوص مالك في الموسيقى وهي دالة على كراهته لجميعها بما في ذلك الدف بل وفي العرس أيضا )
لا حول ولا قوة إلا بالله :(1/107)
1 - الإمام قال صراحة في الغناء : لا يجوز وهي لا تحتمل التأويل وهذه إحدى الروايات عنه في حكم الغناء
2 – الإمام قال صراحة : يقوم من مجلس فيه زمار وضرب بالكبر
3 – الإمام قال صراحة : يفعله الفساق
4 – الإمام مالك أصحابه كلهم وتلامذته ينقلون أنه يحرم آلات الموسيقى
وكل هذا لم يقنع أبا محمد ثم يقول : دالة على كراهته
إذا فلا حيلة لي بك يا أبا محمد ، وكيف لي بمن يفهم على مزاجه وهواه لا حيلة لي به أبدا
واقرأ ما قاله بعد ذلك : ( وكأنه لهذا خالفه صاحبه ابن القاسم في بعض قوله فقد سئل عن الذي يدعى إلى الصنيع ، فجاء فوجد فيه لعبا أيدخل ؟ قال إن كان شيئا خفيفا مثل الدف والكبر الذي يلعب به النساء فما أرى به بأسا )
يا أبا محمد الكلام كان عن الدفوف لا عن آلات الموسيقى ، وأنت تعلم أن مالكا رحمه الله له رواية بجواز الدف واللهو الخفيف في العرس فلماذا تخلط الأمور عنوانك كان عن الموسيقى أليس كذلك ؟!!
ثم قال : ( بل حكي عن مالك نفسه معنى قول ابن القاسم هذا مما يؤيد ما ذكرت عنه من الكراهة )
كلا ثم كلا المحكي عن مالك ليس الكراهة فقط بل حكي الجواز أيضا ومن نفس المصدر الذي أشرت إليه وهو التمهيد مما يدل عن الإمام مالكا له ثلاث روايات في الدفوف ونحوها ، أما آلات الموسيقى فهذا مما لا خلاف عنده ولم تأت بنص واحد يؤيدك
ثم نقل كلاما في الدف لا أريد ذكره لأنه ليس من محل النزاع بيني وبين أبي محمد
ثم قال : ( وأما رأي مالك في الغناء فإن من يشدد في هذا الباب لا ينفك يذكر عنه قوله حين سئل عن الغناء ؟ فقال " إنما يفعله عندنا الفساق )
طبعا وهذه الكلمة لا تعجب أبا محمد !!(1/108)
ثم قال : ( قال سحنون : قلت : أكان مالك يكره الغناء ؟ قال : كره مالك قراءة القرآن بالألحان فكيف لا يكره الغناء وكره مالك أن يبيع الرجل الجارية ويشترط أنها مغنية فهذا مما يدلك على أنه كان يكره الغناء قال سحنون : قلت : فما قول مالك إن باعوا هذه الجارية وشرطوا أنهامغنية ووقع البيع على هذا قال لا أحفظ من مالك فيه شيئا إلا أنه كرهه ، قلت – الجديع – وهذه النصوص تخريج على قول مالك وهو تخريج صحيح وغايته كراهة مالك للغناء فإذا ضممت إليه قوله المشهور " إنما يفعله عندنا الفساق " دل على ان مذهبه في الغناء الكراهة )
لن أعلق على هذا مع أنه غاية في اللجاج لأننا نتكلم عن الموسيقى وهذا ليس فيه دليل على جوازها
ولكن نقلته لتروا كيف يفكر الأستاذ بل اقرأوا ما بعده :
قال : ( ونقل عنه عبد الله بن نافع الصائغ في أهل الغناء : لا تقبل لهم شهادة )
وهذا النص أيضا=الأستاذ لم يفهم منه التحريم !!!! عموما دعونا من الغناء فليس بغيتنا
وأختم نقاشه لقول مالك بهذه الصعقة والرد على الإمام بقوله :
قال : ( فحكم مالك هذا – في قوله السابق إنما يفعله الفساق – إنما هو في وصف حال من كان يغني يومئذ وليس حكما بفسق كل مغن كما أنه ليس حكما لمجرد الغناء بل في العدول عن صريح الجواب في حكم الغناء ما يشعر بعدم التحريم لأصله عند مالك وإنما تناول بجوابه وصف الحال فتأمل )
آه ثم آه من هذا العبث وهذا الفهم الخارق – يفعله الفساق – عدول عن صريح الجواب في حكم الغناء !! ماذا تظننا يا أستاذ !! والله لا نرضى أن تخاطب عقولنا بهذه الطريقة – يفعله الفساق – ليس فيه حكما ؟! عجبي ثم عجبي إذا كنت لا تفهم من هذه الصيغة التحريم !!
إليك ما قاله تلميذه ابن عبد الحكم في مختصره عندما سئل مالك عن الغناء فقال : لا يجوز إنما يفعله الفساق ،=هيا أخبرني هل فهمت الآن هذه العبارة !! سبحان الله
بل اقرأوا ما بعده أيها القراء الكرام :(1/109)
قال : ( ولا يسلم لمالك ..هذا الإطلاق في وصف المغنين من أهل المدينة أو المترخصين فيه يومئذ )
أحسنت وكما يقول إخواننا ( هات من الآخِر ) قل هذا من أول ودعنا من عبثك السابق،حسنا لا تسلم أيها العالم الجهبذ إذا لماذا تبحث عن قوله أصلا لا يرتضي قوله ويستدل برأيه عجيب جد عجيب
إذا أيها القراء وبعد هذه الرحلة في غرائب المنتسبين لأهل العلم تبين أنه تجنى على مالك رحمه الله وتجنى على فقهه وورعه
والعجيب أن القرون السابقة بعلمائها كانوا يعدون الإمام مالك أشد الفقهاء في مسألة آلات الموسيقى حتى بعث الله هذا الأستاذ فأثبت أن مالكا يرى كراهة الموسيقى !! وليس تحريمها والله المستعان
يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
ثم انتقل إلى رأي الإمام الشافعي رحمه الله :
وقبل أن أبدأ بنقل كلامه : أنقل لكم رأي أئمة الشافعية عن سماع الملاهي من كتبهم المعتمدة :
وقد أجمع المذهب الشافعي على تحريم المعازف إلا ما استثناه الدليل من دف ونحوه إلا أنهم اختلفوا في بعض الآلات ولكنهم متفقون على تحريم المعازف :
1 - قال صاحب الوسيط الغزالي ( ت / 505هـ ) : المعازف والأوتار حرام لأنها تشوق إلى الشرب وهو شعار الشرب فحرم التشبه بهم
قال البغوي في التهذيب (ت :516هـ) : وإن كان فيها – أي الوليمة- شيء من المناكير من شرب خمر وضرب المعازف إن علم أنه إذا حضر يترك ويرفع أو إذا نهاهم انتهوا : عليه الإجابة .....)(1/110)
2 - قال صاحب البيان ( ت : 558هـ) : (وإن دعي إلى وليمة فيها منكر من خمر أو مزامير وطنابير و معازف وما أشبه ذلك فإن علم بذلك قبل الحضور فإن كان قادرا على إزالته لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة وإزالة المنكر وإن كان غير قادر على إزالته لم تلزمه الإجابة ولم يستحب له الحضور بل ترك الحضور أولى فإن حضر ولم يشارك في المنكر لم يأثم وإن لم يعلم به حتى حضر فوجده فإن قدر على إزالته وجب عليه تغييره وإزالته لأنه أمر بمعروف ونهي عن منكر وإن لم يقدر على إزالته فالأولى له أن ينصرف ......فإن لم ينصرف : فإن قصد إلى استماع المنكر أثم بذلك ..)
3 - الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح الشافعي (ت : 643هـ) : وقال ابن الصلاح في "فتاويه": « وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين. ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع
4 - وقال النووي في الروضة ( ت : 676هـ) : القسم الثاني أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه
وقال في المنهاج : ويحرم استعمال آلة من شعار الشربة كطنبور وعود وصنج ومزمار عراقي واستعمالها .
5 - تاج الدين السبكي ( ت756هـ) : ومن قال من العلماء بإباحة السماع فذاك حيث لا يجتمع فيه دف وشبابة ولا رجال ونساء ولا من يحرم النظر إليه .
6 - قال في مغني المحتاج للشربيني ( ت : 977هـ) : ويكره الغناء ....هذا إذا كان بلا آلة من الملاهي المحرمة و يكره سماعه كذلك ...أما مع الآلة فحرامان واستماعه .
هذه بعض نصوص الشافعية في حرمة آلات الملاهي غير أن أبا محمد أراد أن يثبت أن هؤلاء الأئمة كلهم لم يجدوا رأيا للشافعي وإنما هذا من آرائهم(1/111)
وسأنقل لكم في الحلقة القادة نقاشه للإمام الشافعي والله المستعان !!يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
ثم بدأ يحرر رأي الشافعي وكأن الإجماع سينتقض إذا لم يجد للشافعي نصا بالتحريم !! ولكنه أسلوب ومنهج جديد لم يعهده أهل العلم ، فمادمت لم تجد مخالفا أكان ماذا إن وجدنا نصا للشافعي أم لم نجد فسبحان الله
فقال : ( وأما رأي أبي عبد الله الشافعي في الموسيقى فإنه أسقط الضمان في إتلافها كما ألغى إقامة الحد في سرقتها ونصه جاء في الطنبور والمزمار والكبر فقال : ولو كسر طنبورا أو مزمارا أو كبرا فإن كان في هذا شيء يصلح لغير الملاهي فعليه ما نقص الكسر وإن لم يكن يصلح إلا للملاهي فلا شيء عليه )-قلت –وهذا من الشافعي بين في كونه يذهب إلى التشديد وإلا لما أبطل قيمتها عند إتلافها أو سرقتها وذكر فيها الكبر وهو الطبل ولم يذكر الدف ومعناهما واحد ولعل ذلك لمجيء النصوص صراحة باستعماله )
إذا : ماذا تريد تقول إنه شدد في آلات الملاهي والسؤال ماهذا الورع عن إطلاق التحريم ، الإمام بنفسه يقول : لا يضمن من اعتدى عليها مع أنها ملك لغيره وليست له ، وكذلك لا يقطع من سرقها وقد سرق فماذا تفهم من هذا ؟!
ثم تأملوا ماذا قال وتعجبوا :
قال : ( وأصحابه أباحوا الدف في العرس والختان ..)
ومالنا والأصحاب في هذا المبحث أنت تقول هذا مبحث أقوال الإمام ما علاقة الأصحاب ؟! أو نسيت ؟!
ثم قال : ( وهل تشديد الشافعي في الآلات من جهة التحريم لذاتها ؟ أم من جهة ما تتخذ له ؟ الوجهان محتملان وعليه فحيث لم يصرح بالتحريم فلا ينسب له به القول الصريح )
علم الله أني ضحكت عليك وها أنا أعتذر منك الآن ولا تلمني في ذلك فكلامك مضحك جدا =(1/112)
1 - أنت تقول لا ينسب إلى الشافعي قول في مسألة سماع آلات الملاهي وأنت تقول إنه شدد فيها ولم يضمن متلفها ولم يقطع سارقها وتعجز أن تفهم من هذا حكما !! لا أدري كيف أقنعك بعد هذا إذا كان هذا الكلام غير دال على التحريم
2 – أصحابه ينقلون التحريم في المذهب والإجماع منعقد على ذلك كل هذه الأمور لا تدل على قول الإمام الشافعي
ثم انتقل بعد ذلك إلى مسألة الغناء وهي لا تهمنا في مسألتنا
وإن كنت أود أن أنقل لكم بعض تحقيقاته ولكني لا أريد الإطالة ولعل ما سبق يكفي لبيان حاله
ولكن أرجو لمن ملك الكتاب أن يراجع تعليقه المتهالك على قول الإمام الشافعي :في الرجل يتخذ الغلام والجارية المغنيين وكان يجمع عليهما ويغشى لذلك فهذا سفه ترد به شهادته وهو في الجارية أكثر من قبل أن فيه سفها ودياثة )
انظر تعليقه عليه ولا أريد نقله
وبعد هذا قال في خلاصته : ( شدد الشافعي في بعض الآلات الموسيقية الطنبور والمزمار والطبل دون الدف ولم يصرح بالتحريم )
لاندري ماذا تريد من العبارات حتى تفهم التحريم وإن كنت لا أنسى مقولة الإمام مالك في الغناء ( إنه فعل الفساق ) ومع هذا لا تدل على التحريم !! فلله في خلقه شؤون
وفي الحلقة القادمة ختام هذا الرد يسر الله إكماله وإتمامه
المقرئ
أما بالنسبة للإمام أحمد فقد أقر على مضض أن رأيه التحريم ولهذا كانت عباراته تنزل على وجل كما سأنقل لك بعد قليل
ولكن إكمالا للمنهج الذي ارتضيناه سأنقل رأي المذهب الحنبلي في الموسيقى تتميما للفائدة وأن الإجماع محفوظ عند جميع المذاهب المعتبرة عند أهل السنة
1 - قال القاضي أبو يعلى ( ت: 458هـ) : الدف مندوب إليه في النكاح لأمر الشارع بخلاف العود والطبل فإنه لا يباح استعماله والتلهي به بحال .= بحال = = بحال
2 - قال ابن عقيل (ت : 513هـ) : ولا يجوز تعمد حضور اللهو واللعب ولا شيء من الملاهي المطربة كالطبل والزمر )(1/113)
3 – قال ابن قدامة المقدسي ( ت: 540هـ) : وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيه ... ولنا أنه آلة للمعصية بالإجماع
وقال أيضا : فصل في الملاهي وهي نوعان محرم وهي الآلات المطربة عناء كالمزمار وسواء كان من عود أو قصب كالشبابة أو غيره كالطنبور العود والمعزفة
4 – قال في صاحب المستوعب (ت : 616هـ ) : يحرم الغناء معه آلة لهو بلا خلاف بيننا =بلا خلاف بيننا = بلا خلاف بيننا
5 - شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ ) : ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا )
وقال أيضا : فمن فعل هذه الملاهى على وجه الديانة والتقرب فلا ريب فى ضلالته وجهالته وأما إذا فعلها على وجه التمتع والتلعب فمذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام )
وقال أيضا في المنهاج : قوله – يعني الرافضي- ( وإباحة الغناء ) فيقال له هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه
وقال أيضا في المنهاج : والمقصود هنا أن آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة ولم يحك عنهم نزاع في ذلك
6 – وقال ابن مفلح ( ت : 763هـ ) : زويحرم كل ملهاة سواه –أي سوى الدف – كمزمار وطنبور ورباب وجنك )
7 - قال ابن رجب (ت 795هـ) : وأما استماع آلات الملاهي المطربة المتلقاه من وضع الأعاجم فمحرم مجمع على تحريمه ولا يعلم عن أحد منهم الرخصة في شيء من ذلك ومن نقل الرخصة فيه عن إمام يعتد به فقد كذب وافترى )
وقال أيضا عن سماع الملاهي : ( لايعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها إنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية ممن لا يعتد به .)
وقد أقر أبو محمد بمذهب أحمد فقال : رأي الإمام أحمد بن حنبل : أما في الموسيقى فالبين من مذهبه تحريم الآلات : كالطنبور والعود والمزامير والطبل دون الدف وذلك لم يأت صريحا في مفردات أحمد لكنه ميتفاد من مجموع رأيه في ذلك وذلك من وجوه )(1/114)
وقال أيضا : ذهب أحمد إلى التشديد في آلات الموسيقى بعبارات يدل مجموعها على أنه كان يذهب فيها إلى التحريم )
وإن كان لدي تحفظ كبير على مثل هذا الأسلوب إلا أنه كاف في اعتراف أبي محمد أن أحمد يرى تحريم آلات الموسيقى
هذه نهاية مبحث أبي محمد في تحرير أقوال الأئمة الأربعة وكما رأيت لم يثبت ما أراد لا في نصوص الإمام ولا في نصوص أئمة المذهب وإنما مراوغة وتدليس للحقائق والله المستعان ، وكما رأيت لم ينخرم إجماع أهل العلم في تحريم الموسيقى كما بين أعلاه
وقبل أن أضع القلم أجدني مضطرا للتنبيه على مبحث متهالك أتبعه بعد المبحث السابق وليت من ملك الكتاب أن يقرأه بعناية من أجل أن يرى كيف يستميت أبو محمد لإثبات ما يريد على طريقة أهل الأهواء ولا مانع من إيضاحه للقارئ الكريم
عنون أبو محمد مبحثا بعنوان : حكم استعمال آلات المعازف واستماعها )
وكما ترى هو تكرار لما سبق وتحليلي لمثل هذا التصرف من أبي محمد إنما هو اضطراب وغياب منهج لديه
وأقتطف منه شيئا قليلا لأوضح ذلك للقارئ الكريم فقال :
( لكن الشأن هنا أن النصوص جاءت بحوادث تؤكد القول يإباحة الموسيقى أصلا )
قاتل الله العجلة والهوى ( الموسيقى ) جاءت النصوص بإباحتها
ثم قال : ( فمن ذلك )
ثم بدأ يستدل بالنصوص التي رددت عليها سابقا وأثبت أنها جاءت بالدفوف فقط وأنها خارجة عن محل النزاع وأن الإجماع بتحريم المعازف لا يتناولها
وقد علق على حديث عائشة الذي فيه الجاريتان اللتان تضربان بدف بقوله :
( فهذه إباحة صريحة للغناء والعزف إظهارا للسرور يوم العيد )
يا أيها القراء : كيف تريدون أن أحكم على أبي محمد وبماذا أحكم ؟ ! هل هناك تدليس أشد من هذا ؟ ولا حول ولاقوة إلا بالله
ثم استدل بالحديث الذي فيه ( أن المرأة نذرت أن تضرب بالدف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم علق عليه قائلا : فهذا الحديث حجة قوية في إباحة العزف والغناء بغير محذور )(1/115)
والله إن أبا محمد يظننا لا نعقل ولا نفهم !! أين أنت يا رجل ؟ كم مرة قلنا بأن الدف خارج عن محل النزاع أفلا تعقل ؟ أو أنت تعلم ذلك ولكنك تراوغ ؟!!
يا الله ماذا أكتب وماذا أنقل لكم التلاعب أمام عيني كل واحد أشد من الآخر أرجوكم أيها القراء اقرأوا هذا المبحث لتروا حال الرجل وتدعو له بالهداية فلقد أسرف على نفسه بهذا التزوير والتدليس
ثم قال : ( انتقال حكم الموسيقى عن الإباحة : ....أولا الاستحباب )
رباه رباه : الاستحباب = استحباب الموسيقى
والله لن أعلق عليه فأنا في حالة من القهر وأخشى على نفسي من الإثم أو التجني أو حظوظ النفس = الاستحباب للموسيقى هنيئا لكم أيها المغنون فأنتم في عبادة تثابون عليها وتؤجرون من الله جل وعلا
يا خجلتاه من ربنا = ويا خجلتاه من اللعب في ديننا = لست مستغربا وجود مثل هذه الطوام على مر الأزمان وأعرف ماهو أشد من هذا = وإنما الخجلة والحسرة أن مثل هذا الرجل يعتبر نفسه ويعتبره كثير من الناس العالم الذي لا يشق له غبار
ولبست هذه المشكلة أيضا = بل أتدرون من الذي يعتبره هكذا إنهم طلبة العلم = وليست هذه المشكلة أيضا = أتدرون ماهي المشكلة : هي أنهم أصحاب الحديث
يا أبا محمد أنصحك لوجه الله لا تعرفني ولا أعرفك أنصحك لوجه الله ، أنصحك لوجه الله ارجع إلى ربك وتب إليه فقد عبثت في شرعه وتلاعبت بالنصوص على غير هدى ،
يا أبا محمد دعك من لومي وإن كنت أعترف بالتقصير على كثير من كلماتي التي زل القلم بها ، ولا يخادعنك الشيطان فيشغلك بها عن الأهم = إنه أنت ، انشغل بنفسك
قل لها : ماذا دهاني
قل لها : أفيقي وارعوي أن تستدرجي فلطفا بحالي
تأمل أخبار المنتكسين ، وابرأ إلى الله من حولك وقوتك وطولك واحتم بحماه وقل يا مقلب القلوب ثيت قلبي على طاعتك
ألا تعرف القلق ، ألا تعرف الخوف والرهبة أن تكون أمة محمد كلها على تحريم شيء وتقف وحدك في صف تجاههم وتقول الحق معي(1/116)
يا أبا محمد تقول باستحباب الموسيقى هكذا بهذا الإطلاق واحر قلباه = واحر قلباه
وإني والله لمشفق عليك وناصح لك أنقذ نفسك وانج بنفسك واهرب إلى الله = اهرب إليه ومرغ وجهك في جنح الليل وقل : أعوذ بك أن تضلني
فاللهم يا جابر قلوب المنكسرين ويا هادي قلوب الحائرين في هذه الساعة المباركة أتوسل إليك بكل اسم هو لك ، أتوسل إليك بأنك أنت أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أن ترد أبا محمد إلى الحق وأن تدله صراطك المستقيم وأن تقيه شر نفسه وأن تختم له بخير وأن تعيذه من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن وألا تميته إلا وأنت راض عنه وأن تجعل ما بقي من عمره يستعمله في طاعتك وأن توفقه للتوبة النصوح وألا تجعله من الخاسرين يا رب العالمين
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المقرئ 3 / 7 / 1426 هـ
ملتقى أهل الحديث
تنزيه الشعائر عن عبث بعض أصحاب المحابر
رد على الأستاذ عبد الله الجديع
في كتابه : اللحية دراسة حديثية فقهية
...
... الحمد لله رب العالمين، هو وحده الموصوف بكل صفات الثناء والكمال من العظمة والمجد والجلال والكبرياء والجبروت، المسمي نفسه بأسماء الحسن.
أوجب كماله تعظيمه وتمجيده وحده وعبادته، لا إله إلا هو دون شريك ولا نظير.
والصلاة والسلام على أكمل الخلق وخاتم الرسل والأنبياء محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المبعوث بأفضل الشرائع، المتعبد بشرعه ونهجه.
أما بعد:(1/117)
فإن " من المستقر في أذهان المسلمين:أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء، هم الذين قاموا بالدين علما وعملا، ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقا، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فزكت في نفسها وزكى الناس بها وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، ولذلك كانوا ورثة الأنبياء، الذين قال الله تعالى فيهم: ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار) فالأيدي القوة في أمر الله، والأبصار: البصائر في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه.
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهما خاصا، كما قال أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه وقد سئل:
هل خصكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء دون الناس ؟ فقال:
"لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا من كتابه "
فهذا الفهم بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة، وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية وهي التي حفظت النصوص ،فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، وردوها كل بحسبه(قد علم كل أناس مشربهم ) وهؤلاء الذين قال فيهم النبي " : نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(1)ا.هـ
وأسعد الناس بهذا هم أصحاب النبي، أبر هذه الأمة قلوبا، وأقلها تكلفا، وأعمقها علما.
__________
(1) مجموع الفتاوى ج4 ص93(1/118)
فكان من اليسير على الدعاة إلى الله أن يكون الواحد منهم من إحدى هاتين الطبقتين، فإن لم يوفق أحدهم بأن يكون من الطبقة الأولى فاللحاق بالطبقة الثانية سهل ويسير، ولا يحتاج ذلك إلى كبير عناء و إنما إلى شيء من المتابعة في وجود أمانة علمية وصدق مع الله وإخلاص.
أما الاجتهادات الزائدة التي تخرج بالواحد منهم عن أن يكون من إحدى هاتين الطبقتين فذلك لا يكون غالبا إلا عند وجود خلل في المنهج العلمي أو في النية عافانا الله.
وقد قرأت كتابا بعنوان :(اللحية دراسة حديثية فقهية) لمؤلفه عبد الله بن يوسف الجديع، فوجدته قد اشتمل على كثير من الباطل فيما يتعلق بمسألة(إعفاء اللحية) ، وأتى فيها بالغريب عن العلم وأهله، فقد قرر: أن إعفاءها ليس من السنة إلا عند وجود الداعي والمقتضي وهو مخالفة أهل الكتاب، ومع هذا هو عند ذلك مستحب(1)أما إذا غاب هذا الداعي فحلقها وإعفاؤها سواء(2)، بل ذهب إلى أن إعفاءها حتى في وجود الداعي لا ينبغي الآن في كثير من الدور لعدم التمكين(3)أما إذا تخلف الداعي وشاع في عرف المسلمين الحلق فالأوفق للسنة في حق المسلم الحلق(4)
وألخص لك أخي الكريم ما ظهر لي من ملاحظات على كتابه مما تبين لي خلال قراءتي له سائلا الله التوفيق والسداد.
ويمكن أن ألخصها في ثلاث نقاط مجملة ثم أفصل في كل نقطة دون إطالة، وهي:
1- تعامله مع المسألة تصورا لها وتقديرا للأقوال الواردة فيها.
2- منهجه في الاستدلال .
3- وقوعه في مغالطات في عدة استدلالات
هذه هي النقاط مجملة وإليك التفصيل:
أولا: حول تعامله مع المسألة:
__________
(1) اللحية ص(192-214-309)
(2) اللحية ص(215 )
(3) ص (210-211-214)
(4) ص (310)(1/119)
كل من يقرأ الكتاب يعلم أن الرجل عند تعامله مع المسألة لا ينطلق في كثير من المواطن من منطلق علمي، وإنما من منطلق آخر، فالرجل من خلال كتابات له قديمة، وهذا الكتاب أيضا في مواطن منه، يلمس القارئ أنه على درجة من الفهم والإدراك، وعندما يخرج عن هذا الطور في مسألة ما ويتكلم بالكلام الذي لا معنى له والذي لا يصدر ممن يفهم، تعلم أن ثمة مؤثراً تسبب في هذا الخروج.
فانظر إليه وهو يتكلم عن قول مخالفيه في أول كلمات له في ذلك حيث قال صفحة (8): "فقد قال قائل: حالق اللحية فاسق
قلت: كيف أفسق مسلما بغير حجة من الله ورسوله، مسلما يقف إلى جانبي في صف الصلاة، وحبه لدينه وانتصاره له مما ينافس فيه...
وحيث حكم بفسقه قال: (لا تصح إمامته، ولا يقبل قوله، وترد شهادته )
فقلت ماذا لو كان أقرأ الحاضرين لكتاب الله ؟ والنبي?يقول: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله "...
ومن يزعم أن حالق اللحية لا تصح صلاته لنفسه فإنه يزعم الباطل، ويفتري على دين الله الكذب"ا.هـ
هذا أول موطن يتعرض فيه للمسألة في كتابه، والحقيقة أن هذا الكلام لا يلجأ إليه إلا سيء فهم وإنما اعتدنا أمثاله من الجهال، لا من الجديع وأمثاله المشتغلين بالعلم.
ما علاقة أنه يصلي إلى جانبك بالمسألة، وما علاقة حبه للدين وانتصاره له؟ .
ما تأثير هذه الأوصاف على المسألة ؟!وما الداعي لها؟.
أليس من المعروف أن كل مسلم يحب الله ورسوله ودينه و إن كان فاسقا؟
ألم يشهد النبي صلى الله عليه و سلم لشارب الخمر بذلك ؟
ومن الذي قال عن الحليق بأنه (لا تصح إمامته )؟
ألا يفرق الجديع بين قولهم: لا تجوز إمامته، وبين قولهم: لا تصح.
وما علاقة كونه أقرأ القوم بجواز إمامته؟!
ألا يعلم الجديع أن الباعث للقول بعدم جواز إمامته أمر آخر اتفق أهل العلم على اعتباره في الإمامة، لا علاقة له بالقراءة، ألا وهو تجنبه للمعاصي في الظاهر وسلامته من البدع؟.(1/120)
أيزعم الجديع أن الوصف التام المؤثر لوحده في أحقية الإمامة هو القراءة فقط ؟
إذا فما معنى قوله صلى الله عليه و سلم عن صاحب البدعة: " فليس منى" ؟! وما معنى لعنه لمن يؤويه؟! ونحو هذا مما جاء في السنة؟ .
أيعقل أن نقدم من كان هذا حاله في مواطن التكريم والتشريف والقدوة ليكون ضامنا للناس وجنة(1)في عبادتهم لربهم ؟!فنجعله إماما يقتدى به ؟.
هو غير مضمون في دينه فكيف يكون ضامنا ؟!! .
لقد كان على الجديع ألا يتعرض إلا للأقوال المعتبرة التي تصدر عن أهل العلم، أما القول بعدم صحة إمامة الحليق، أو عدم صحة صلاته فليس بمعتبر، ولا يقول به عامة القائلين بحرمة الحلق المفسقين لمن دأب على ذلك، فلم التشويش بهذا على العلم وأهله ؟.
والغريب أن الجديع تابع قائلا:
"وليس العجب في ورود مثل هذا الخلل من بعض عامة المسلمين، ولا بعض المنتسبين لطلب العلوم الدينية...
وإنما العجب أن يصدر مثل هذا الرأي من مشتغل بالعلم منتسب إليه، متصد للفتوى وبيان شرائع الإسلام، فتتوالى وتتواطأ الكتب والرسائل، تأتي جميعا في سياق التهويل والتعظيم، موردة على المسلمين الحرج، خارجة في أكثر الأحيان عن منهج البحث، ومهملة قواعد النظر، ومتعدية أدب الفكر.
ينطلق الكاتب فيها من فكرة مسلمة لديه، بل لو قلت: من عين الحقيقة عنده لم تباعد، فيأتي بحثه دفاعا عن الفكرة لا طريقا لاستفادة الحكم "(2)ا.هـ
فليسم لنا الأستاذ من من العلماء كتب وألف على أن الحليق لا تصح صلاته لنفسه؟ بل ليسم لنا العلماء الذين زعم أنهم تواطؤوا على هذا؟
ثم ما هذا التهجم على أصحاب الفتوى من أهل العلم، وما هذه الأوصاف التي ألصقها بهم.
__________
(1) الإشارة إلى الحديثين : الأول قوله صلى الله عليه وسلم :" إنما الإمام جنة " والثاني قوله صلى الله عليه وسلم : " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن"
(2) ص(9)(1/121)
تهويل وتعظيم، إيراد الحرج على المسلمين، خروج عن منهج البحث، إهمال لقواعد النظر، تعدي لأدب الفكر.
فما لذي بقي لهم ؟!
ثم يتابع الجديع بعد طعنه هذا مباشرة منزها نفسه ومبرئا لها من هذه النقائص التي ألحقها بأصحاب الفتوى المتصدين لها فيقول كما في ص(9) :
" لذا من المقصود لي أصالة بمثل هذا الكتاب:
الإيقاف على الحكم الشرعي وقدره في الأحكام، دون المبالغة ولا التجاوز، منطلقا من مسلمات الأصول، متجردا لما تقود إليه خلاصة البحث.
كما أن لي من مثل هذه الأبحاث مآرب أخرى، هي منبهات وإيقاظات ومعالم على الطريق..."
إلى أن قال صفحة (11):
" هذه المقاصد وسواها من بابها ومعناها، على مثلها أقمت تحرير هذه المسألة، مستدلا بثابت الخبر، مستعملا براهين النظر... ولا أرجح مذهبا أو رأيا إلا بحسب ثقله في ميزان الأثر والنظر "ا.هـ
فبينا الجديع يصف أصحاب الفتوى من أهل العلم بتلك الأوصاف إذا به يمنح لنفسه ضدها من أوصاف الثناء.
وبنحوها ما جاء في آخر الكتاب ص(307) حيث قال:
"بعد هذه الدراسة المستوعبة المستعرضة بالتحقيق والتنقيح للنصوص" ا.هـ
وما أكثر ما يردد في كتابه: " وإليك تحرير الجواب" أو بنحوها انظر ص(11-151 – 193-214-227) وغيرها.
أما القائلون بخلاف قوله من وجوب الإعفاء مطلقا وأنه سنة تعبدية فانظر إليه ماذا يقول عنهم:
" ولا ينقضي العجب هنا ممن يريد أن يجعل من الأمر بإعفاء اللحية عبادة محضة، ملغيا ما اتفقت على ذكره جميع الأحاديث الثابتة في اللحية، فذلك من الخروج عن طريق الفقه، وعمل ببعض الدليل، وإلغاء لسائره، وهو منهج مختل لا يصلح أن يوصف حتى بالجمود على النص، لأن الجمود لا يلغي صاحبه دلالة شيء من ألفاظ الخبر، فمن يصير إلى هذه المنهجية ضل طريق أهل الفقه والنظر، كما ضل طريق أهل الظاهر والأثر" ا.هـ
فالقول بخلاف قول الجديع في هذه المسألة خروج عن طريق الفقه، واختلال في المنهج، وضلال للطريق الصحيح.(1/122)
هذه هي نظرته لقول من يقول بوجوب الإعفاء وقد سبق قوله عن أهل الفتوى.
إذا علمت هذا تبين لك أن قوله في أول كتابه صفحة (7) حيث قال:
"والمقصود أن يدرك من يشتغل بفقه شرائع الإسلام، أن الحق مقطوع به مطلقا في أصول الدين ومقاصده، لا في تفاصيل شرائعه، فتلك للناس فيها الفسحة والسعة" ا.هـ
وقوله:
" ولست أريد منك أن تنتهي إلى ما انتهيت إليه ولكني أردت أن أطلعك على نظر قد تكون عنه غافلا, كما أردت أن تعترف بحقي في الرأي كما تراه لنفسك، إذ نستقى جميعا من معين واحد " ا.هـ
فقوله هنا إنما يدل على توتره في هذه المسألة واضطرابه في التعامل معها، فالمعين الواحد الذي اعترف به هنا صرفه لنفسه في مواطن أخرى وصرف لغيره الكدر والشوب، والفسحة والسعة التي قررها إنما هي له خالصة من دون أصحاب الفتوى.
وهاهنا حقيقة لابد أن يعلمها القاري، فالجديع هداه الله إنما يصطنع في أسلوبه السيئ، ويتجاهل به ما هو مستقر ومشتهر بين أهل العلم وطلبته، وما هو مقرر في كتب أهل العلم، من أن القول بالوجوب وحرمة الحلق هو القول الأشهر والذي عليه الأكثر وهو الأقدم، ولا أريد أن أقول هو الأقوى لأنه محل النزاع بيننا وبين الجديع.
فلم يدلس الجديع بهذا الأسلوب من إظهار التعجب منه ومن القول به، ومن سبه وشتمه له وكأنه قول محدث مخترع لم يقل به إلا المتطفلون على العلم وأهله من حثالة المتأخرين.
إن الجديع حقيقة لم يكن نزيها في تعامله مع المسألة عندما لجأ إلى مثل هذه الأساليب، وإلا فكل مشتغل بالعلم يعلم أن القول بوجوب الإعفاء وأنه من السنن التعبدية هو قول كثير من أهل العلم المتقدمين من أصحاب المذاهب وأتباعهم.
فلم كثرة التعجب وشدته لدرجة أنه لا ينقضي كما زعم؟ ولم التضليل والتسفيه والسب والشتم؟
ما هو إلا التهويل والتعظيم، وما رميت به أصحاب الفتوى آنفا من هذا الوصف فأنت أولى به يا أستاذ!(1/123)
أهذه هي النتيجة التي قادتك لها مسلمات الأصول، وبراهين النظر، وثابت الأخبار التي ادعيتها لنفسك؟
أم أن هذا هو التحرير والتحقيق الذي لهجت بزعمه ؟
أم هي معالم على الطريق و إيقاظات ومنبهات ؟
هذه هي نتائج حضرة المحرر والمحقق فلننتقل إلى أصوله في الاستدلال لنتعرف عليها وننظر ما فيها.
ثانيا: حول منهج الاستدلال عند الأستاذ الجديع:
لقد أعلن الجديع في كتابه اعتماده على الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة فقط، دون الاعتماد على فهم السلف من الصحابة والتابعين، فهذا إنما يستأنس به الجديع استئناسا ويستشهد به استشهادا، أما الاحتجاج به فحاشا وكلا أن يصل إلى هذه المرتبة عند الأستاذ.
قال في كتابه صفحة (10-11):
"...أن لي من مثل هذه الأبحاث مآرب أخرى، هي منبهات وإيقاظات ومعالم على الطريق من أهمها ما يلي:
أولا: تجرئة أهل العلم على العمل على إعادة النظر في كل ما يرجع إلى الاجتهاد في تحرير حكمه، وعدم الخضوع للاجتهاد السابق كحكم مسلم، فذلك إنما بني على نظر، ولا يخلو من أن يكون متأثرا بزمان ومكان وحال من صار إليه...
ثالثا: إبراز الاعتماد على الأدلة الشرعية من الكتاب العزيز والسنن النبوية، لتكون دائما عند من يؤمن بالله واليوم الآخر مرجعية الأحكام، وإليها تستند آراء المجتهدين والحكام، إذ هي الحكم الفصل فيما تنازع فيه الناس...
خامسا: إشعار المتعرض لإبانة شرائع الدين بأن الثبات على التقليد ينافي التجديد.
هذه المقاصد وسواها من بابها ومعناها على مثلها أقمت تحرير هذه المسألة...كما زدت الاستئناس بالآثار المروية عن علماء السلف من الصحابة والتابعين، ثم عن فقهاء الأمة بعدهم كالفقهاء الأربعة وأتباعهم وغيرهم من علماء الملة والدين، ولا أرجح مذهبا أو رأيا إلا بحسب ثقله في ميزان الأثر والنظر " ا.هـ(1/124)
فقد صرح الجديع بأن من مآربه تجرئة أهل العلم على عدم الخضوع للاجتهاد السابق كحكم مسلم إلى آخر ما قال، ولم يستثن اجتهاد الصحابة والسلف في المسائل، ثم نص على أنه لا يعتمد إلا على الكتاب والسنة فقط، ثم جدد الدعوة إلى التجديد مؤكدا ما سبق من عدم الخضوع للاجتهاد السابق، ثم صرح بأن الآثار المروية عن علماء السلف من الصحابة والتابعين إنما يستأنس بها استئناسا وينظر فيها وفي غيرها ثم جاء في ص(151)وقال:
" وأما ما سقت في الباب السابق[ الأخذ من اللحية] بعد الأحاديث من الأثر عن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم والتابعين، فليس ذلك لكون المنقول عنهم مما يكون موضعا للحجة في الدين "
ثم تابع الأستاذ المحقق ليبرر هذه الكبيرة فقال:
" فإن مذهب الصحابي في التحقيق ليس بحجة، وإنما ذكرت تلك المذاهب محررا لها لما يقع من الحاجة للاستشهاد بها في تفسير دلالات نصوص الكتاب والسنة" ا.هـ
فخلط بين أمرين ليمشي بضاعته، فمذاهب الصحابة والتابعين التي تنتشر في وقتهم ويتوافر النقل فيها وتنقل عن جمع منهم، أو عن عامتهم ولا يثبت فيها مخالف منهم لها شأن، ومذهب الصحابي الواحد الذي لم تثبت موافقة غيره له ولا مخالفته له لها شأن آخر،فما كان من الأول فهو حجة بلا خلاف يذكر أويعتبر بخلاف الثاني فهو حجة على الراجح.
والجديع الأستاذ المحرر والباحث المحقق يعلم هذا، فلم الغمغمة والإجمال والخلط، ثم المسألة التي تكلم عنها الجديع بالكلام السابق وهي مسألة الأخذ من اللحية، قد صحح فيها الجديع ما جاء عن عامة الصحابة في ذلك كأثر جابر: " كنا نعفى السبال إلا في حج أو عمره" وأثر عطاء: " كانوا يحبون أن يعفوا اللحية "
وقال بنفسه ص(139):
"ولم يقل أحد من الصحابة: لا يحل ذلك الأخذ في نسك أو غير نسك، ولم يأت بخلاف هذه الآثار شيء " ا.هـ(1/125)
بل عده الجديع من قبيل الإجماع السكوتي ص(305)، ونص ص(308) أنه في دلالة النقول الثابتة عن جمهورهم، ومع هذا لا يراها حجة وإنما يستشهد بها ويستأنس بها، وهذا انحراف في منهج الاستدلال.
فليس الانحراف أن تترك قولهم في مسألة متأولا كمسألة الأخذ مثلا، وإنما أن تجعل هذا الترك لأقوالهم منهجا وأصلا تنطلق منه كما صرح الأستاذ الجديع.
ثالثا: حول مغالطاته في الاستدلال:
وهذه النقطة الثالثة تمثل جل ملاحظاتي على كتاب اللحية للأستاذ الجديع و هي تتمثل في الأمور التالية:
1- سوء الأدب مع السنة النبوية
2- استغلال الألفاظ المجملة من عبارات أهل العلم
3- سوء فهم بعضها
4- التلاعب بالمعلومة لتقرير أمر ما
5- التكلف في تأويل ما ورد عن بعض أهل العلم
6- تجاهل بعض المعلومات
إضافة إلى إقامة دعاوى لا دليل عليها.
أولا: سوء أدبه مع السنة:
فقد قال في معرض كلامه على أن اللحية والسنن الظاهرة من الجهل القيام بها عند انعدام التمكين، وعند تعرضه لقيام طائفة من الناس بالتزام هذه المظاهر، واعتبره إصراراً على التمايز في الهيئات الظاهرة قال ص(212):
" وما هكذا والله دين الإسلام الذي أراده الله للأمم كافة، فكم يجني كثير من أهل هذا الدين على دينهم، حين يحتكرونه بعاداتهم وأعرافهم، أو يختزلون شرائعه وتعاليمه في قشور ومظاهر!"ا.هـ
وهكذا ينضم الجديع الأستاذ المحقق والباحث المحرر إلى ركب المناوئين للسنة، ويكشف لنا بنفسه عن المؤثرات التي كانت سببا في تناوله لهذه المسألة، وانتصاره للقول بجواز الحلق.
فإذاً لما هانت عليه هذه السنن الظاهرة هان عليه سوء الأدب معها، وهان عليه الغمز فيها والطعن، فهل هذا هو دين الإسلام الذي أراده الله للأمم كافة يا حضرة الأستاذ؟
ومن جنى على الدين؟ أنت أيها الطاعن في السنن الظاهرة أم المتمسكون بها في أشد الظروف والأحوال ؟! فسبحان الله الكبير المتعال.
ثانيا:استغلاله للألفاظ المجملة:(1/126)
لقد كان الأستاذ الجديع استغلاليا في كثير من مواطن الكتاب، فإذا ما وجد لفظا يحمل أكثر من معنى بادر بصرفه للمعنى الملائم له، وإن كانت القرائن تشهد بأنه في غيره، وأحيانا تستوي المعاني في الاحتمال فيحمله على معنى دون مرجح.
قال في كتابه اللحية ص(237-238):
" وممن صرح بالكراهة من أعيان الشافعية...والغزالي المتوفى سنة " 505 " وبعده النووي المتوفى سنة 676هـ فذكرا خصالا مكروهة في اللحية، منها بعبارة النووي: نتفها في أول طلوعها وذكرها النووي في شرح صحيح مسلم فجعلها اثنتي عشرة خصلة، فكانت الأخيرة حلقها..." ا.هـ كلام الجديع
قال النووي في شرح مسلم:
" وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحا من بعض:
أحدها: خضابها بالسواد إلا لغرض الجهاد
الثانية: خضابها بالصفرة تشبيها بالصالحين لا لاتباع السنة
الثالثة: تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم، وإيهام أنه من المشايخ
الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثاراً للمرودة وحسن الصورة
الخامسة:نتف الشيب
السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعا ليستحسنه النساء وغيرهن
السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذار من الصدغين، أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنفقة وغير ذلك.
الثامنة: تسريحها تصنعا لأجل الناس.
التاسعة:تركها شعثة ملبدة إظهارا للزهادة، وقلة المبالاة بنفسه.
العاشرة: النظر إلى سوادها وبياضها إعجابا وخيلاء، وغرة بالشباب وفخرا بالمشيب، وتطاولا على الشباب.
الحادية عشر: عقدها وظفرها
الثانية عشر: حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها " ا.هـ(1/127)
وهذه الخصال منقولة عن الإمام أبي طالب المكي من " قوت القلوب " كما ذكر النووي في المجموع(1/ 358)، والناظر فيها يعلم أن الكراهة المنصوص عليها ليست هي الكراهة التنزيهية فقط كما زعم الجديع، ولو راجع ما يقوله النووي عن بعض هذه الخصال من الحرمة لعلم ذلك فالإمام النووي يقول بحرمة الصبغ بالسواد كما في المجموع شرح المهذب (1 (360 /ويقول بحرمة نتف الشيب كما في المجموع أيضا (1/359) وقد نقل عنه القول بحرمة فيهما الحافظ ابن حجر فتح الباري (6/499) (10/ 351)، والجديع لا تخفى عليه مثل هذه المراجعات التي تكشف له عن معنى الكراهة في مثل هذه النصوص، ولكنه أعرض عن هذا واستغل إطلاق الكراهة فحمله على التنزيه بينما النووي قد ذكر أموراً محرمة مما يدل على عدم إرادته لما ذهب إليه الجديع .(1)ثم كرر الجديع هذا الاستغلال فنقل قول ابن الهمام:
"...وأما الأخذ منها وهي دون ذلك [أي القبضة] كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد" ا.هـ
فقال الجديع ص(232):
"فصدق ابن الهمام في أن ذلك الفعل لم يبحه أحد، وعدم الإباحة لا يعني التحريم، إنما الإباحة واحد من الأحكام التكليفية الخمسة ومنها الكراهة "
فأراد الجديع أن يحمل قوله: " لم يبحه أحد " على معنى الكراهة، باعتبار أن المكروه غير مباح أيضا، مع أن ظاهر الإطلاق " لم يبحه احد " هو الحرمة، فهو المتبادر للذهن من مثل هذا الإطلاق، ثم من حيث الاستعمال، فالذي أعلمه أن مثل هذا الإطلاق يستعمل غالبا في معنى الحرمة، فقد راجعت استعمالات كثير من العلماء فوجدتهم يستعملونه في معنى الحرمة، ولم أجد من استعمله في غير ذلك من معنى الكراهة أو نحوها.
__________
(1) وبعد كتابة ماسبق وقفت على كلام للإمام النووي أفرد فيه الحكم على اللحية بالكراهة ، ولم يفصح عن المراد بالكراهة ، وأياكان المراد فالجديع إنما استدل بالنص المذكور سابقا دون غيره فيلزمه ما ألزمناه به .(1/128)
وبمثل استعمال العلامة ابن الهمام جاء استعمال العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة نفسها فقال كما في الاختيارات:
" يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة ولم يبحه أحد "
وتابعت كتب شيخ الإسلام في هذا الإطلاق: " لم يبحه احد " فوجدته استعمله في ستة عشر موضعا كلها بمعنى الحرمة فانظرها في شرح العمدة
(3/ 157) والقواعد النورانية(1/ 207-210) وفى المجموع
(8/ 544) (9/161)(11/ 267)(24/ 269) (29 /149)
(29/ 165) (29/ 347) ومنهاج السنة (3/ 437) (6 /424) والرد على المنطقيين (1/ 169) وفى الفتاوى الكبرى مكررا(3/ 489) (3/ 491) (4/ 307)
وتابعه على هذا تلميذه ابن القيم كما في زاد المعاد (1/ 151) (5/80) (5/ 126) (5/ 519)
وانظر تفسير الطبري (2/452) والمجموع للنووي(1/ 306)
وعليه فمعنى تلك العبارة هو التحريم عند شيخ الإسلام على سبيل الخصوص، وعند غيره أيضا، ومن هذا نعلم أن الأستاذ الجديع إنما يستغل المجملات، فهو غفر الله له لو سلم بأن قوله:
" لم يبحه أحد " هو في معنى التحريم فإن هذا يعني أنه سيواجه مشكلة، لأنه يعلم أن النقل عن ابن الهمام قد تكرر في كثير من كتب الأحناف، كالهداية للمرغياني، والدرالمختار، والبحر الرائق لابن نجيم، فإذا اتفق هؤلاء على أن حلق اللحية لم يبحه أحد، بمعنى لم يجوزه أحد، كان تأكيدا منهم للإجماع الذي نقله ابن حزم وعنه ابن القطان في الإقناع، وكان ذلك التسليم إقرارا بما نقله شيخ الإسلام أيضا من أن حلق اللحية لم يجوزه أحد من أهل العلم، وتأكيدا لما نقله النفراوي المالكي حيث قال في شرحه للرسالة (2/ 306):
" فما عليه الجند في زماننا من أمر الخدم بحلق لحاهم دون شواربهم، لاشك في حرمته عند جميع الأئمة، لمخالفته لسنة المصطفى ? ولموافقته لفعل الأعاجم والمجوس..." ا.هـ
فنقله عن جميع الأئمة.(1/129)
فلو سلم الجديع بما تقدم لأصبح في ورطة، لأنه لم ينقل في كتابه نصا صريحا عن أحد من أهل العلم المتقدمين من أهل القرون المفضلة وما قاربها ينص على جواز حلق اللحية(1)، وسيجد نفسه بذلك يؤكد الاتفاقات المنقولة على تحريم الحلق، فلا مخرج إلا باستغلال المجمل من العبارات.
ولهذا كلما وجد عبارة مكروه عن أحد من أهل العلم صرفها للكراهة التنزيهية استغلالا منه لهذا الإجمال، ويعجبني بهذه المناسبة أن أنقل كلام العلامة ابن القيم حول استعمال المتأخرين لعبارة مكروه فقال كما في إعلام الموقعين (1 / 39-40):
" غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفت مؤنته عليهم، فحمله بعضهم على التنزيه وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جدا في تصرفاتهم، فحصل بسببه غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة، وقد قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين:
" أكرهه ولا أقول هو حرام"
ومذهبه تحريمه وإنما تورع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان..." ا.هـ
ولا أريد من هذا النقل الاستدلال على الأستاذ وإنما هو للفائدة
ثالثا: سوء فهم بعضها:
نقل الأستاذ الجديع كلاما للإمام الطبري وفيه:
__________
(1) بل التنصيص بالصريح على جواز حلق اللحية لم ينقله عن عالم قط، وإنما تعلق ببعض إطلاقات الأئمة للكراهة ممن جاؤوا في القرون المتأخرة ، ونقل عن اثنين تقريبا عبارات ظاهرها الجواز، كقول من قال أن الأمر بالإعفاء للندب ، مع احتمال إرادة الإعفاء المطلق دون أخد، أما مطلق الإعفاء فقد يكون عنده واجبا ، المهم كل هذا إنما نقله عن قليل من أهل العلم ممن يقربون من المتأخرين، أما التنصيص بالجواز فلم ينقله عن عالم سوى ما نقله عن شلتوت المعاصر ؟(1/130)
" وقال آخرون: يأخذ من طولها وعرضها ما لم يفحش أخذه ولم يحدوا في ذلك حدا، غير أن معنى ذلك عندي ـوالله أعلم ـ ما لم يخرج من عرف الناس"
هذا كلام الإمام الطبري نقله الجديع عن شرح ابن بطال للبخاري، وقد نقله أيضا العيني في عمدة القاري ثم علق الأستاذ فقال ص(304):
" قلت فتأمل ما يشير إليه ابن جرير من اعتبار العرف و حال المجتمع في صفة اللحية وهيئتها وهذا هو المعنى الذي نبهت عليه من قبل على أن السنة: أن يراعي المسلم في هيئته ومظهره عرف أهل زمانه ومكانه..." ا.هـ
وقد أخطأ الأستاذ، فليس المعنى الذي نبه عليه الإمام الطبري هو الذي نبه عليه الأستاذ.
فالإمام الطبري يقول كما نقل الحافظ في الفتح (10/ 363) بأن اللحية: " يؤخذ منها ما لم يفحش الأخذ " كذا نقله الحافظ بالمعنى.
وهنا أرجع هذا إلى العرف، أي أرجع القدر المأخوذ من اللحية، أما القدر المتبقي فلا بد أن يكون بمقدار لا يتجاوزه الأخذ، ولذلك اشترط في الأخذ ألا يكون فاحشا.
فالمسألة عند الطبري هي أنه لابد أن تكون للمسلم لحية وإن كان هناك أخذ، وحد هذا الأخذ ألا يفحش أي ألا يكون كثيرا، وأشار إلى مراعاة العرف أي عرف من كانوا يعفون لحاهم ويأخذون منها بقدر.
أما حلقها كما يريد الجديع، وأن المسلم يتماشى مع العرف حتى لو كان العرف الحلق، فهذا لا يقول به الإمام الطبري، و إلا فما معنى ما نقله الحافظ من اشتراطه ألا يفحش الأخذ، ثم إن الإمام الطبري أيضا كان يتكلم عن مسألة الأخذ فقط فهي التي أرجع فيها الأمر إلى العرف( مسألة الأخذ مع بقاء الإعفاء) فلا يحمل كلامه مالا يحتمل، ويستغل ليشمل الإعفاء من أصله وأنه يراعى فيه العرف أيضا، فهذا من سوء الفهم أو سوء القصد والله أعلم.
وكأن الأستاذ الجديع يريد أن يوجد لنفسه سلفا في المسألة وبأي طريقة.(1/131)
وللأستاذ أيضا من الخطأ مثل ما تقدم، فقد قرر أن إظهار مخالفة غير المسلمين في الصورة والتميز عنهم بها يخضع للتمكن وعدمه، ثم نقل كلاما لشيخ الإسلام، ولم ينبه إلى ما دل عليه كلام الشيخ من أن مخالفة الكفار في الهدي الظاهر إنما تترك عندما تكون سببا لوقوع الضرر، بل جعل الجديع كلامه في الكتاب كله مطردا، حيث غاب التمكين سقط الأمر بالمخالفة، وهذا سوء في الفهم.
قال الأستاذ الجديع ص(211):
" وفى هذا المقام كلمة تأصيلية تكتب بماء الذهب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله: " إن المخالفة لهم لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه... فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا " ا.هـ
هذا الكلام بطوله لشيخ الإسلام نقله الأستاذ الجديع فقول شيخ الإسلام:
" لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر " ا.هـ(1/132)
ظاهر في بيان سبب ترك المخالفة وأنه الضرر لا غير، واللام في قوله: " لما عليه في ذلك " هي للتعليل، فمن سوء الفهم أن يجعل الكلام عاما لكل من عاش في دار الكفر، ولو أنه أمن منهم حلول الضرر به كحال كثير من دور الكفر اليوم كالدول الأوربية، فكثير من المسلمين يعيشون فيها مظهرين شعائر الإسلام، وخاصة من كان أصلا من عرقهم، فكلام شيخ الإسلام لا يتناول هؤلاء باعتبار إمكان إظهارهم لشعائر الإسلام دون توقع حصول ضرر.
وكذلك قوله : " بل يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية "
هو واضح كذلك في تقيد ترك الظاهر بالمصلحة ، فحيث وجدت المصلحة الراجحة التي ترجح على مصلحة العمل بالظاهر وجب ترك الظاهر أو استحب بحسبه .
فكلام شيخ الإسلام ليس بمطلق كما زعم الجديع .
وإن من إحساني الظن بالأستاذ أن جعلت هذا من سوء فهمه وإلا فغير سوء الفهم وارد والله المستعان.
رابعا: التلاعب بالمعلومات:
لقد حاول الأستاذ الجديع أن يقرر استحباب إعفاء اللحية من خلال اقتران الإعفاء بقص الشارب في عدة أحاديث، وحتى تسير الأمور على ما يرام لم يكن من صالح الجديع أن يتعرض بوضوح لدلالة ما ورد في قص الشارب على حكم القص كما سيأتي إيضاحه، وإنما أطنب في صفة القص ومالراجح فيه وهذا لا يشوش على الجديع مبتغاه، أما حكم القص فلم يكن من صالحه أن يتعرض له بوضوح، ولا لمن قال بالوجوب وحجتة في الإيجاب، وإنما صرح باستحبابه ولم يطل عند تعرضه لذلك.
فحرص الأستاذ ابتداءا أن يستفيد من ذكر قص الشارب مقرونا مع إعفاء اللحية، فقرر أن الأمر بقص الشارب إنما هو لعلة المخالفة ليساوي بينه وبين إعفاء اللحية فقال ص(202):
" وقد علمت أن الأمر بالمخالفة هو المقصود في الأحاديث، وليس مجرد إعفاء اللحية وقص الشارب، فلا يجوز بعده التعلق بالأمر بالإعفاء والقص مجردين عن السبب فيهما " ا.هـ
وقال ص (192):(1/133)
" فإذا كان الأمر بإعفاء اللحية وقص الشارب لعلة تحقيق صورة المخالفة لغير المسلمين من المشركين أو المجوس، أو أهل الكتاب اليهود والنصارى، وجب أن يقترن حكم ذلك الأمر دائما بحكم نوع تلك المخالفة "ا.هـ
فتأمل قوله: (دائما) فهو دال على أن القص إنما أمر به للمخالفة فقط كما هو معنى كلامه الأول وقال ص(212):
" من خلال جواب المسألة الأولى تبين أن الأوامر الشرعية في اللحية والشارب إنما قصد بها المخالفة لغير المسلمين، وعليه فلو قال قائل: مادام الحكم علق بعلة المخالفة فإنه ينتفي حين تنتفي وهذا صواب بمقتضى الأصول، فإن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما،ً ويسلم لقائله القول به بمقدار ما دلت عليه الأحاديث الآمرة بالإعفاء والقص للعلة المذكورة، وتكون تلك الصورة غير مأمور بها إذا لم تفد المخالفة "ا.هـ
وبعد أن قرر أن كلا الأمرين الإعفاء وقص الشارب إنما أمر بهما لعلة المخالفة، ولم يؤمر بهما مجردين عن هذه العلة كما هو نص كلامه السابق.
قرر أيضا أن الأمر بهما في سياق واحد ولعلة واحدة يدل على أن حكمها واحد، وكل هذا ليعطي الإعفاء حكم الاستحباب بناء على ما ترجح عنده من أن القص (قص الشارب) مستحب أيضاً.
فقال ص(172) تحت عنوان: ( دلالة ما ورد بخصوص الشارب على حكم إعفاء اللحية ):
" يلاحظ أن الأحاديث الثلاثة اتفقت على الأمر بإعفاء اللحية مقترنا بالأمر بإحفاء الشارب، وحيث لم يأت الأمر ثابتا بخصوص اللحية إلا في هذه الأحاديث، فإن الواجب حين اتخذ المخرج والصيغة أن يتحدا في درجة الحكم، ولا يصلح ادعاء افتراق حكمها من نفس هذه الأحاديث "ا.هـ
ثم ذكر أن اللحية لم يرد فيها شيء زيادة على ما جاء في الشارب، بل العكس فما ورد في الشارب أزيد، ليقرر أنه لابد من إعطاء حكم الإعفاء من الدرجة في الحكم نفس حكم الشارب لا العكس، وبما أن القص عنده مستحب فالإعفاء كذلك.
وكرر نفس الاستدلال في حديث أبي أمامة الآتي فقال ص(206):(1/134)
" هذه الأوامر جميعاً خرجت مخرجا واحدا لعلة واحدة، فلا يجوز التفريق بين دلائلها، فلا يصح مثلا أن يقال: الأمر بالمخالفة في صبغ الشيب ولبس الأزر والانتعال مندوب، وفى قص الشارب وإعفاء اللحية واجب، أو في جميعها مندوب إلا في اللحية فواجب، إلا أن يرد في دليل آخر ما يفرق بينها " ا.هـ
وبما أن القص عنده مستحب فالإعفاء مستحب أيضا وهذا كل ما يريد أن يصل إليه الجديع فهما مقدمتان:
الأولى: أن إعفاء اللحية وقص الشارب إنما أمر بهما لعلة المخالفة فقط، وقصد المخالفة هو المراد فقط، فلوا انتفت المخالفة ينتفي الأمر بهما ومن هذا فهما مستويان في الأمر والعلة.
الثانية: فحيث اتحد المخرج والصيغة وجاءا في سياق واحد وجب اتحاد هما في درجه الحكم وبهذا حقق الأستاذ الجديع مبتغاه، وحرص حين تقريره لهذه النتيجة عن طريق تينك المقدمتين على ألا يبرز الجانب المتعلق بحكم قص الشارب على سبيل الوضوح، لدرجة أنه ادعى أن سنة قص الشارب إنما المقصود بها المخالفة، ولا ينبغي التعلق بالأمر بها دون هذه العلة، مغلباً في شرعيتها جانب المخالفة كما تقدم، بل لم يذكر إلا المخالفة فقط ونفى أي سبب آخر.
ولكنه بعد أن اطمأن على تقرير تلك النتيجة وحقق الأمل المنشود عنده، وفوت هذا المبحث الهام عاد ليقرر في مبحث آخر بعده ما يدل على تلاعبه ولكن في سياق متقن فقال ص(223):
" وأما حكم قص الشارب، فإنه سنة مستحبة على كل حال، فإن النصوص التي وردت في اللحية ذكرته آمرة به للمخالفة، لكن المعنى فيه لغير المخالفة أوكد منه للمخالفة، فإنه من سنن الفطرة وأمر النبى ? بالأخذ منه، ووقت لذلك مدة أقصاها أربعون ليلة..." ا.هـ
فأين كان هذا الكلام يا حضرة الأستاذ عندما قلت:
" وقد علمت أن الأمر بالمخالفة هو المقصود في الأحاديث، وليس مجرد إعفاء اللحية وقص الشارب، فلا يجوز بعده التعلق بالأمر بالإعفاء والقص مجردين عن السبب فيهما " ا.هـ(1/135)
ألست تدعوا بهذا الكلام إلى عدم اعتبار أي سبب في القص إلا المخالفة فقط .
ألم تقل أيضا:
" ... ما دلت عليه الأحاديث الآمرة بالإعفاء والقص للعلة المذكورة، وتكون تلك الصورة غير مأمور بها إذا لم تفد المخالفة " ا.هـ
فكيف أصبح المعنى في القص لغير المخالفة أوكد من المخالفة بعد أن كانت المخالفة هي المعتبرة فقط في القص (قص الشارب )(1)
هذا هو التلاعب الذي أشرت إليه، فعندما كان في حاجة لأن يسوي بين الأمر بالإعفاء والقص ليصل من خلال هذه التسوية إلى إعطاء إعفاء اللحية نفس حكم قص الشارب أبرز جانب المخالفة فقط، ليستويا في العلة وبالتالي ليقرر استواءهما في الحكم.
ولتحصيل المقصود أعرض الجديع عن التفصيل في حكم الشارب، وأعرض عن الأدلة التي تمسك بها القائلون بالوجوب، أي أعرض عن بيان علاقتها بحكم المسألة، وعن توضيح وجه الدلالة منها على الحكم وجوبا أو استجابا، وإنما نص على الاستحباب فقط، وأمرّها لتفوت على القاري.
وبعد أن حقق الجديع ما يريد، جاء في مبحث آخر وقرر أن الأمر بقص الشارب كان لمعنى غير المخالفة أوكد من المخالفة.
وكل ما سبق من الأستاذ إنما هو محاولة فاشلة لتقرير استحباب إعفاء اللحية، وسيتبين للقاري الكريم أن الطريقة التي سلكها الجديع بكلامه السابق إنما هي عليه وليست له.
فقد صح عن زيد بن الأرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:
" من لم يأخذ من شاربه فليس منا "
وجاء توقيت هذا الأخذ في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:
" وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط، وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة "
فالأخذ من الشارب واجب بنص الحديث الأول، وبدلاله الحديث الثاني، وقوله: " وليس منا " لا يحتمل إلا وجوب الأخذ ولذلك قال العلامة ابن مفلح في الفروع (1/ 100):
__________
(1) أرجوا أن يتأمل القارئ في السبب الذي دفع الجديع إلى هذا الاضطراب أو هذه المغايرة في العرض ليتضح له المراد.(1/136)
" وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم "
وقال أيضا (1/ 100):
" وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض" ا.هـ
وبنحوه ما جاء عن ابن عبد البر فقد قال في التمهيد (21/ 62):
" وقد أجمعوا أنه لابد للمسلم من قص شاربه أو حلقه "
وقال ابن حزم في المحلى (2/ 218):
" وأما قص الشارب ففرض"
وإلى وجوبه ذهب العلامة أبو بكر بن العربي كما في الفتح (10/ 339) ونقله ابن دقيق العيد عن بعض العلماء كما في الفتح أيضا (10/ 340).
وبه قال العلامة ابن القيم فقد قال في تحفة المولود (177):
" وأما قص الشارب فالدليل يقتضي وجوبه إذا طال، وهذا الذي يتعين القول به لأمر رسول الله به، ولقوله: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " ا.هـ
بل قوله " يتعين " فيه إلزام للقول به، وأنه لا ينبغي القول بخلافه، وهذا صواب إذ كل من ترك القول بالوجوب فهو قد ترك حديث النبي صلى الله عليه و سلم : " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " ولا يجوز ترك حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يمكن بحال حمل هذا الحديث على معنى يوافق القول بالاستحباب مطلقا.
وقال العيني في عمدة القارئ (22/ 42) عند شرحه للترجمة:
" أي هذا باب في بيان سنية قص الشارب بل وجوبه " ا.هـ
وبه بوب الإمام أبو عوانة فقال في كتابه:
" إيجاب جز الشوارب وإحفائه... "
وما أظن الأستاذ الجديع هرب من التعرض لذكر قول من قال بالوجوب توضيحا إلا لعجزه عن الجواب عما أورده القائلون بالوجوب، وبخاصة حديث زيد بن أرقم: " فليس منا " فلجأ الأستاذ المحقق إلى إهمال هذه الجزئية لتنفق البضاعة، وما هكذا يفعل أهل الصدق يا أستاذ، فأين أدب الفكر الذي تزعم فكسوت به نفسك وسلبته غيرك، فها أنت قد سلبته وجردت منه، فليس أمامك يا أستاذ إلا لباس التوبة والصدق (ولباس التقوى ذلك خير ).(1/137)
فإذا علمت أخي الكريم وجوب قص الشارب على ضوء التوقيت النبوي، علمت أن قاعدة الجديع السابقة قد رجعت عليه، فالأمر بالإعفاء مقرونا بقص الشارب يوجب اتحادهما في درجة الحكم، وحيث أن القص واجب فهو قرينة على وجوب إعفاء اللحية أيضا، ومنه تعلم أن علة المخالفة في الأمر بهما لم يكن المراد منها تخلف الأمر عند تخلفها بدليل وجوب القص في كل حال، سواء وجدت المخالفة أو انعدمت، وما أظن الأستاذ الجديع سيتخلى عن قاعدته السابقة وسيزعم التفريق بين قص الشارب وإعفاء اللحية من حيث الأمر بهما عند تخلف العلة.
وبهذا تعلم أن قاعدة الجديع السابقة إنما هي عليه وليست له، وتعلم أيضا حقيقة تلاعبه بتجاهل ما دل عليه حديث زيد بن أرقم من وجوب قص الشارب وأن من لم يفعل " فليس منا ".
وكذا حديث أنس بن مالك: " وقت لنا... أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة “.
فقوله: " أن لا نترك " هو في معنى النهي ولا صارف له.
ولورود الأمر بالإعفاء مقرونا مع قص الشارب في عدة أحاديث متغايرة كان توحيد حكمها لائقا وضروريا بخلاف ما لو قرنا في حديث واحد فقط، فإن توحيد الحكم سيكون محتملا، لأنه كما قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب (3/ 148):
" ولا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال تعالى: ?كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ? والإيتاء واجب والأكل ليس بواجب والله اعلم" ا.هـ .
غير أن مسألتنا قد احتف بها قرائن كثيرة، منها اتحاد العلة، وتكرار قرنهما في أحاديث متغايرة ونحو هذا.
ومن كلام الإمام النووي تعلم بطلان ما ذهب إليه الجديع في حديث أبي أمامة حيت قرر في كتابه ص(204-206) أن صبغ الشعر والائتزار والتنعل وقص الشارب وإعفاء اللحية جميعها يجب أن تتحد في الحكم، فليس كل ما قرن مع غيره أخذ حكمه بدليل الآية والله اعلم.
خامسا: تكلفه في تأويل كلام الأئمة:(1/138)
نقل إمام الشافعية في عصره العلامة نجم الدين أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن الرفعة المولود سنة خمس وأربعين وستمائة، في كتابه( الكفاية في شرح التنبيه )عن الإمام الشافعي أنه نص في الأم على تحريم حلق اللحية.
وتتابع جماعة من فقهاء الشافعية على نقله عن ابن الرفعة في كتبهم دون استنكار، كما في حاشية أحمد بن قاسم العبادي على تحفة المحتاج، و حاشية الشرواني، وكذا شرح العباب وإعانة الطالبين للدمياطي, فنقلوه ولم يستنكروا ثبوت هذا عن الشافعي.
ونقله عن الشافعي أيضا محمود بن السبكي في المنهل العذب المورود(1)، والمعصومي في عقد الجوهر الثمين ص(167)(1)والشيخ علي محفوظ في كتابه الإبداع في مضار الابتداع ص(410).
فضاق صدر الأستاذ الجديع مما نقله ابن الرفعة إمام الشافعية في وقته عن الإمام الشافعي، ولم يلتفت حضرة الأستاذ إلى تقدمه ومنزلته في المذهب، ولا إلى ما تتابع عليه فقهاء الشافعية من بعده من نقله دون اعتراض، ولا إلى من أيد ابن الرفعة في هذا النقل كالسبكي والمعصومي، فهوى عليه بمعول التكلف والتأويل محاولا طمسه ومحوه حتى لا يكون لمن يقول بوجوب الإعفاء سلف.
فقال الأستاذ في كتابه ص(229):" وكبار أئمة الشافعية حين تعرضوا إلى هذه المسألة لا يذكرون إلا كراهة حلق اللحية(2)ولو كان الشافعي قد نص على التحريم فالمظنون أن لا يفوتهم ذكره كما سيأتي عن جماعة منهم وأقول: كتاب الأم عن الشافعي بجملته محفوظ، وأوجدنا الاستقراء له من عبارة الشافعي ما أبان عن رأيه في الأخذ من اللحية...
__________
(1) كما نقله في ( الجامع في أحكام اللحى ) للرازحي ص (71)
(2) وهذا افتراء على أئمة الشافعية ، فهناك من كبار أئمتهم من قال بالحرمة وسيأتي بيانه(1/139)
وألصق ذلك بما عزي لابن الرفعة قول الشافعي في جراح العمد: " ولو حلقه حلاق...وهو و إن كان في اللحية لا يجوز"...فابن الرفعة فيما أحسب أراد قوله: " وهو إن كان في اللحية لا يجوز" وليس عن الشافعي في الأم ما هو أقرب إلى ما ذكر ابن الرفعة من هذا النص والله أعلم
وكأن سائر الأصحاب ممن تقدم ابن الرفعة من محققي الشافعية كالرافعي والنووي لم يروا هذا عن الشافعي نصا في التحريم كما فهمه ابن الرفعة " ا.هـ كلام الجديع
هكذا دائما حضرة الأستاذ، لابد أن يحرر ويحقق ولكن فيما يتعارض مع رأيه ومراده، أما الموافق له والملائم فمرور الكرام، ثم هو تحرير وتحقيق من نوع فريد لا يقوم إلا على ساق التكلف والتأويل والتعسف.
فنسخة كتاب الأم التي نقل منها العلامة ابن الرفعة نص تحريم حلق اللحية، المتوفرة عنده في القرن السابع الهجري لابد أن تخضع لتحرير الجديع واستقرائه، وإذا لم تتفق مع نسخته وما آل إليه تتعبه واستقراؤه فلا كبير اعتبار لذلك، ولن يجد ذلك النقل إلا التشكيك والتضعيف.
ولنتأمل ما اعتمد عليه حضرة الأستاذ في ذلك.
لقد ابتدأ الأستاذ محاولته بنقل باطل عن كبار أئمة الشافعية فقال كما سبق:
" وكبار أئمة الشافعية حيث تعرضوا إلى هذه المسألة لا يذكرون إلا كراهة حلق اللحية "
بماذا سيحكم القارئ لو علم أن خمسة من كبار أئمة الشافعية يقولون
بالحرمة ؟!
ألا يعتبر قوله:
" لا يذكرون إلا كراهة حلق اللحية " افتراءاً على أئمة الشافعية؟
فها هو الإمام أبو عبد الله الحليمي المولود سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة أحد شيوخ الحاكم الذي وصفه الإمام الذهبي بقوله: " شيخ الشافعية " وقال عنه: " ومن أصحاب الوجوه في المذهب " كما في السير (17/ 162-231) وقال عنه الحاكم: " أوحد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم وآدبهم... " كما في طبقات الشافعية (2/ 177).
هو ممن يقول بالحرمة، وقد نقل الأستاذ الجديع كلامه بعد نفيه السابق بست صفحات.(1/140)
بل هاهو الإمام أبو بكر محمد بن على الشاشي القفال الكبير شيخ الحليمي المتوفى سنة خمس وستين وثلاثمائة قد قال بحرمة حلق اللحية أيضا، وقد وصفه الذهبي في السير بالشافعي، وقال عنه:
" وعنه انتشر فقه الشافعي بما وراء النهر" كما في السير (16/ 284)
وقال عنه في طبقات الشافعية: " أحد أعلام المذهب " (2/ 148) وهو تلميذ الإمام ابن خزيمة، والطبري ابن جرير، وأبي القاسم البغوي، وممن أخذ عنه الحاكم وابن منده.
قد قال في كتابه "محاسن الشريعة " بحرمة الحلق كما في (الجامع في أحكام اللحية ) ص(71).
وقال بهذا أيضا من كبار أئمة الشافعية الإمام شهاب الدين المعروف بأبي شامة المولود سنة تسع وتسعين وخمسمائة فقد قال رحمه الله:
" وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها " ا.هـ
وقد نقله الحافظ في الفتح (10/ 351)
وأيضا الإمام شهاب الدين أبو العباس الأذرعي كما نقله عنه غير واحد من أئمة المذهب انظر إعانة الطالبين (2/ 340) ولفظه صريح في التحريم.
والأذرعي هو شيخ الإمام بدر الدين الزركشي وأخذ عن المزي والذهبي ولد سنة 707 هـ.
قال عنه في طبقات الفقهاء (1/ 276):
" كان ذا فهم ثاقب، وفكر دقيق، وله[ توجيهات] مليحة وتصانيف
عجيبة " ا.هـ
فهو من كبار أئمة الشافعية وقد قال بالحرمة.
وقال بها أيضا الإمام الزركشي بدر الدين محمد بن بهادر المولود سنة 745هـ كما نقله عنه الرازحي في كتاب الجامع ص(71) وهو تلميذ شهاب الدين الأذرعي ومغلطاي.
فكل هؤلاء، القفال الكبير وأبو عبد الله الحليمي وأبو شامة والأذرعي والزركشي كلهم من كبار أئمة الشافعية، وكلهم يقولون بحرمة حلق اللحية، فلم أعرض عنهم الأستاذ و زعم الباطل في حق أئمة الشافعية؟، ولم لم يستثن على الأقل؟، أليس كل هذا دليلا على تعسفه وتجاوزه وقلبه للحقائق ؟
وبالتالي ما رتبه على ذلك الزعم من أن المظنون أنه لو صح فلا يفوتهم، هو باطل بلا شك(1/141)
أما قوله: " وأوجدنا الاستقراء... " فلا عبرة بمثل هذه الاستقراءات التي يقوم بها أمثال الجديع للتشكيك في نقول الأئمة الكبار لأنه لا معنى لها من جهتين :
أولاً: من جهة المستقرئ وعدم أهليته لذلك بناء على ما ثبت عنه من ضعف الأمانة العلمية
وثانيا: من جهة الأمر المعني بالاستقراء، لكونه في شأن مسألة نقلها إمام متقدم عن كتاب لإمام مذهبه، قد تكون نسخته التي ينقل منها أكمل مما عندنا ولا سبيل أبدا لنفي ذلك.
ثم نقل الأستاذ الجديع من الأم كلاماً للشافعي هو صريح في التحريم وهو قوله رحمه الله:
" وإن كان [ أي الحلق ] في اللحية لا يجوز" ا.هـ
فالمراد به الحرمة، لأنه لاشيء يفارق الجواز إلا الحرمة، أما الكراهة فتجتمع مع الجواز، ولذلك نرى في كثير من كلام أهل العلم قولهم: " جائر مع الكراهة" ونحو هذا .
فانظر كيف تعامل الجديع مع هذا الكلام، وتأمل حرصه وتكلفه في نفي الحرمة.
فقد قال الأستاذ ص(230):
" فابن الرفعة [في نقله التحريم عن الشافعي]فيما أحسب أراد قوله:
" وهو إن كان في اللحية لا يجوز "
وليس عن الشافعي في " الأم " ما هو أقرب إلى ما ذكر ابن الرفعة من هذا النص والله أعلم.
وكأن سائر الأصحاب ممن تقدم ابن الرفعة من محققي الشافعية كالرافعي والنووي لم يروا هذا عن الشافعي نصا في التحريم، كما فهمه
ابن الرفعة" ا.هـ
وكأن الأستاذ لا يستطيع أن يصبر عن المغالطات والنقول الباطلة، ففي هذه الأسطر القليلة زعم الجديع المعاصر أن ابن الرفعة المولود سنة خمس وأربعين وستمائة إنما أراد بنقل التحريم- الذي لم ينقله باللفظ وإنما بالمعنى- هذا الكلام الذي لا توجد في أي من ألفاظه لفظة التحريم، مستندا في هذا على التخمين والظن، وما ادعاه من الاستقراء.(1/142)
وقد اعترف الأستاذ بأنه ظن عندما قال: " فيما أحسب " ثم بنى على هذا الظن أن سائر محققي الشافعية ممن تقدموا ابن الرفعة ذهبوا إلى الكراهة، لأنهم فهموا من كلام الشافعي الذي عثر عليه الجديع وزعم أنه مستند ابن الرفعة فهموا منه الكراهة خلافا لابن الرفعة.
فانظر إلى الأستاذ وهو يُفصِِِل ويُلبِس على مزاجه وظنونه، وهكذا هو التحرير والتحقيق عنده مادام أنه يقرر به كراهة الحلق وينفي به الحرمة، فهذه هي الغاية التي أعد لها العدة وتجشم لأجلها المتاعب والصعاب.
وما استند عليه من أن سائر محققي الشافعية على الكراهة ممن تقدموا ابن الرفعة فقد سبق بيان بطلان هذا وأن من كبار أئمة الشافعية قد قالوا بالحرمة.
فلماذا كل هذا الباطل يا أستاذ.
ومن تكلفه أيضا ما وجه به الأستاذ كلام ابن حزم حيث نقل عن ابن حزم قوله:
" واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز "
فقال الأستاذ ص(242):
" فحيث لم يجد ابن حزم من قال بإباحة حلق اللحية من السلف ومتقدمي العلماء، جعل ذلك منهم بمنزلة الاتفاق على المنع، مع أنه كما قدمت لم يأت عنهم القول بتحريم حلق اللحية، بل صورته محدثة، فينبغي أن لا ينسب إلى المتقدمين قول بخصوص ذلك لم يقولوه..." ا.هـ(1/143)
فابن حزم قد نقل اتفاق أهل العلم قبل ألف سنة تقريبا من وقتنا هذا، و جاء الأستاذ الجديع بعد ألف سنة ليبين لنا مستند ابن حزم في نقل الاتفاق، وأنه لم ينقل ذلك لأنه وقف على نصوص للعلماء ينصون فيها على تحريم حلق اللحية، فهذا لم يكن، والجديع بمهاراته وقدراته الخاصة وفراسته العجيبة أدرك هذا الأمر، فكأنما أوحي إليه وعلم أن ابن حزم إنما بحث فلم يجد من قال بإباحة حلق اللحية من متقدمي العلماء والسلف، فجعل من عدم وجوده هذا دليلا على أنهم متفقون على المنع وعلى التحريم، وإلا فهو على زعم الجديع لم يقف على اتفاقهم من خلال تواردهم على القول بالتحريم لأنه لم يأت عن المتقدمين من السلف ومن بعدهم القول بتحريم حلق اللحية كما قرر الأستاذ بل صورة الحلق محدثة.
وما دام أن حضرة الباحث المحرر لم يجد من قال بتحريم حلق اللحية من المتقدمين فينبغي على هذا أن يكون ابن حزم قبل ألف سنة لم يجد أيضا، وكيف يجد من النقول ما لم يجده الجديع وبالتالي فيلزم أن يكون مستنده في نقل الاتفاق هو هذا الأمر( عدم وجوده لمن قال بالإباحة).
وعلى هذا فلا ينبغي أن ينسب إلى المتقدمين قول بخصوص ذلك لم يقولوه كما قال الجديع فهو بمنزلة حذام و :
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
وهكذا يعبث الجديع بنقول أهل العلم ويثبت وينفي بمزاجه، ويتحكم في كلامهم ويتصور ويتخيل ويبني على هذه التخيلات العلالي والقصور، والغاية والغرض الانتصار للقول بجواز حلق اللحية وإبطال القول بالتحريم.
و إلا فإن من الثابت أن جماعة من العلماء نصوا على الحرمة من قبل أن يأتي ابن حزم كالشافعي والقفال الشاشي والحليمي وغيرهم مما لم نقف عليهم، فلم كل هذا التحكم ؟
أتصل المهزلة العلمية إلى هذا الحد ، فيكون جهلنا نحن حجة على الأئمة الأوائل في نقولهم ؟ اللهم طهر قلوبنا من الأهواء .
سادسا: تجاهله لأمور لا تلائم ما رجحه:(1/144)
تعرض الأستاذ في كتابه لنقول لا تلائم ما رجحه، ووجهها توجيها يتماشى مع ما ذهب إليه، ورد بعضها بتعليلات تبطل المراد منها وسبقت.
فقد تقدم نقله كلام ابن الهمام من أن الأخذ من اللحية دون القبضة لم يبحه أحد وأجاب عنه، بينما تجاهل كلام شيخ الإسلام في الاختيارات من أن الأحاديث الصحيحة دلت على حرمة حلق اللحية وأن الحلق لم يبحه أحد.
وقد سبق أن شيخ الإسلام قد عنى بقوله: " لم يبحه أحد" التحريم، وأنه استعمل هذا التعبير في معنى الحرمة في ستة عشر موطنا، وأنه لم يستعمله في معنى الكراهة.
وابن تيمية أجل وأرفع في العلم من ابن الهمام فلم التجاهل ؟
وتجاهل حضرة الأستاذ أيضا ما جاء في اقتضاء الصراط المستقيم من قول شيخ الإسلام:
"فإن أعفى المشركون لحاهم فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية... وحينئذ تأتي المخالفة في وصف الفعل لا في أصله... وعلى كل حال فإنه لا يسوغ لنا رفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يتلبس به بعض المخالفين لنا في الدين" ا.هـ
وتعرض الأستاذ الجديع لهذه الجزئية وأعرض عن كلام شيخ الإسلام وتجاهله مع أنه نقل عن الاقتضاء في أكثر من مرة ما ظن أنه يلائم قوله، أما هذه الجزئية فقد قرر فيها أن الأمر بالإعفاء ينتهي بمجرد أن يعفي المشركون لحاهم خلاف ما قرره شيخ الإسلام متجاهلاً كلامه .
إلى جانب تجاهله لنقول كثيرة عن أصحاب المذاهب وغيرهم من الأئمة، وتقريره لما يخالفها فهل هذا هو أدب الفكر يا أستاذ ؟ أم أن هذه هي براهين النظر ؟!!
ومن تجاهله أنه عرض الأدلة الثلاثة في الأمر بإعفاء اللحية، ونص على أنها جميعها جاءت معللة بعلة المخالفة، حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وأبي أمامة.
ثم علق ص(191) فقال:
" وما قد تراه في بعض مصادر الحديث من ترك ذكر العلة وسياق الأمر بالإعفاء والإحفاء مجردا عنها... " إلى أن قال:(1/145)
" ومتى صح أن الزيادة محفوظة وجب إعمالها...إلا أن تكون الزيادة من غير ثقة، أو من ثقة خالف فيها، أو ثقة لم يرتق إلى درجة المتقنين فيتفرد بها، وجميع هذه الصور ليست واردة هنا كما يمكن أن تلاحظه من طرق وألفاظ هذه الأحاديث في الباب الأول، إنما حفظ التعليل في هذه الأحاديث إما ثابت في أصل الخبر، أو جاءت به أكثر الروايات الثابتة" ا.هـ
فتجاهل الأستاذ حقيقة كان عليه أن يذكرها ويجيب عنها بأي جواب، إلا أنه تعمد ألا يقف عندها فقد جاءت زيادة " خالفوا المشركين " في حديث ابن عمر في الصحيحين من طريق عمر بن محمد بن زيد عن نافع عن ابن عمر به بالزيادة.
بينما أصل الرواية عن ابن عمر بلفظ:
" أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى "
دون قوله: " خالفوا المشركين " فقد تفرد بها عمر بن محمد بن زيد دون تلاميذ نافع الذين رووا عنه هذا الحديث و هم:
1- مالك بن أنس على ما رجحه الجديع
2- عبيد الله بن عمر العمري
3- أخوه عبد الله بن عمر العمري
4- أبو بكر بن نافع
5- عبد العزيز بن أبي رواد
6- أبو معشر السندي
بالإضافة إلى أن نافعاً قد توبع على الحديث دونها .
أما مالك ـ بحسب ترجيح الأستاذ الجديع ـ، وعبيد الله بن عمر العمري فهما أثبت الناس في نافع كما نص على ذلك الأئمة.
إضافة إلى أنهما من أثبت الناس عموما، فهما من الأئمة الرفعاء ومن الجبال الحفاظ المتقنين.
أما مالك فمعروف " هو رأس المتقنين وكبير المتثبتين" كما قال الحافظ، وعبيد الله أيضا كمالك في الحفظ والتثبت، فقد قدم على مالك في روايته عن نافع، وعده الأئمة أثبت من مالك فيها، ذهب إلى ذلك يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح.
بينما خالفهم عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن معين في رواية عنه والنسائي، وساوى بينهما ابن معين في رواية أخرى.
قال أحمد عن تلاميذ نافع بما فيهم مالك وأيوب:
" عبيد الله أثبتهم وأحفظهم وأكثرهم رواية "(1/146)
و إلى جانب أنهما أثبت الناس في نافع فقد شاركهما في ترك تلك الزيادة بقية الرواة، كعبد العزيز بن أبى رواد ـ وفي الإسناد إليه راو ضعيف ولكنه يشهد لرواية الجماعة ـ وعبد الله العمري وأبي معشر وأبي بكر بن نافع.
كلهم لم يذكروا تلك الزيادة: "وخالفوا المشركين " .
بل توبع نافع من قبل عبد الرحمن بن أبي علقمة أو ابن علقمة وهو ثقة، فروى الحديث عن ابن عمر دونها، ومن قبل عروة بن الزبير أيضا دون تلك الزيادة. وعمر بن محمد بن زيد الذي تفرد بهذه الزيادة هو دون مالك ودون عبيد الله في الحفظ والتثبت بل لا يقارن بأحد منهما، فهو قد لينه ابن معين عندما قارن بينه وبين عمر بن حمزة، فقال كما في الجرح والتعديل (6/ 104):
"عمر بن حمزة أضعف من عمر بن محمد بن زيد" .
وعمر بن حمزة متفق على ضعفه، وقال ابن عدي عن عمر بن محمد بن زيد:
"هو في جملة من يكتب حديثه "
وذكره ابن حبان في " مشاهير علماء الأمصار" (1/ 127) فقال:
"من خيار أهل المدينة مات فيها وكان يهم في الأحايين "
وقال الذهبي في " ذكر من تكلم فيه وهو موثق" (263):
" صدوق نزل عسقلان لينه ابن معين ".
فهو وإن كان ثقة على الراجح، إلا أنه ليس بالرفيع ولا بالثبت، ولا يقارن بأمثال مالك وعبيد الله فالبون شاسع، وخاصة في الرواية عن نافع، ومثل هذا التفرد من مثله قد لا يكون مقبولاً كما هو معلوم من قواعد علم الحديث وخاصة في استعمال أئمة العلل، فهو مع حاله هذه لوحده في ذكر الزيادة عن نافع،كما قال الإمام البيهقي (1/149 ) :
" وزاد فيه عمر بن محمد بن زيد عن نافع : خالفوا المشركين " .
بينما في الكفة الأخرى الأثبت والأحفظ والأكثر فهم ستة رواة، إضافة إلى علقمة وعروة اللذين تابعا نافعا، بل لو كان مالك لوحده أو عبيد الله لوحده لكانت رواية أحدهما أرجح، و لكانت تلك الزيادة غير مقبولة من مثل عمر بن محمد بن زيد فكيف وقد اجتمعا و معهما جماعة.(1/147)
و أنا لا أريد أن أجزم بإعلال الزيادة إلا أن الأستاذ قد تجاهل كل هذا، وما هكذا تكون الأمانة العلمية، ولا هكذا هو أدب الفكر ولا بمثل هذا تكون براهين النظر، فإضافة للتجاهل قد وقع هنا فيما يجرح عدالته عندما قال:
" ومتى صح أن الزيادة محفوظة وجب إعمالها...إلا أن تكون الزيادة من غير ثقة، أو من ثقة خالف فيها، أو من ثقة لم يرتق إلى درجة المتقنين فيتفرد بها، وجميع هذه الصور ليست واردة هنا كما يمكن أن تلاحظه من طرق وألفاظ هذه الأحاديث "ا.هـ
فقوله: " وجميع هذه الصور ليست واردة هنا كما يمكن أن تلاحظه من طرق وألفاظ هذه الأحاديث " ا.هـ
هو من الإخبار بخلاف الواقع المخل بأمانة العلم وبالصدق في النقل.
فزيادة: " خالفوا المشركين " تفرد بها عمر بن محمد بن زيد وهو ليس من المتقنين فلم هذا الكتمان.
فحاصل ما ارتكبه الأستاذ في هذه المسألة من تجاوزات هو التالي:
ا- أنه تجاهل حال الزيادة من أنه تفرد بها واحد.
ب- أنه تجاهل مخالفة هذا المتفرد للثقات ومنهم الجبال.
ج أنه أخبر بخلاف واقع الرواية.
د أن كل هذا لم يكن من الأستاذ مصادفة، في أمر ليست له فيه فائدة حتى يلتمس له العذر، وإنما هو في نقطة تعتبر فيصلاً في المسألة لو أثبت فيها ما أهمله لربما كان ذلك منه إهداراً لكتابه من أصله، فهو مستفيد من تلك الخطوات الثلاث من جهتين.
أولا: للوصول إلى تقرير ما يرنو إليه من أن الإعفاء لم يؤمر به إلا معللاً فقط وبالتالي فالأمر به ينعدم عند انعدام العلة، واقتران العلة بالأمر به في كل الأحاديث دليل على الاستحباب.
ثانيا : ليسد باب المحاجة حتى لا يكون للفريق الآخر دليل في الأمر بالإعفاء مجرداً عن ذكر العلة .
فهما عصفوران ولكن بحجر واحد.
وأنا لا أريد أن أطالب الأستاذ بأن يسلم بإعلالها، وإنما أطالبه بأن لا يتجاهل أمر هذا التفرد فيجيب عنه بما يراه مناسبا حتى لا يقع فيما يتعارض مع الأمانة العلمية، هذا أولاً.(1/148)
وثانيا بأن لا يقول خلاف الواقع، و لا أريد أن أقول بأن لا يكذب، و إلا فما معنى نفيه للتفرد بينما هو واقع، والأستاذ قد خرج الحديث وهو على علم بهذا.
ومما يعلمه الأستاذ ولا يخفى على غيره أنه لا يجوز لأحد أن يأتي لحديث ولو كان مما تلقته الأمة بالقبول كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " المعلوم أنه حديث فرد، فيزعم كذباً أنه حديث عزيز أو متواتر مثلا، لأن هذا إخبار بخلاف الواقع وكذب على العلم بغض النظر عن صحة الحديث.
هذا من جهة، وأما من جهة صحة الإعلال المذكور فذلك محتمل وهذا فيما يتعلق بزيادة حديث ابن عمر فقط، وأما من حديث أبي هريرة فهي ثابتة، وقد أخرجها ومسلم من حديث أبي هريرة.
تنبيه:
ولابن عمر رضي الله عنه حديث آخر غير الذي رواه نافع وابن علقمة وعروة، جاء من طريق معقل بن عبيد الله عن ميمون بن مهران عنه بلفظ:
" ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: إنهم يوفون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم
فكان ابن عمر يجز سباله كما تجز الشاة "
أخرجه ابن حبان (12/289) والبيهقي (1/151) والطبراني في الأوسط (2/8-173) وفيه معقل وقد اختلف فيه قال عنه الحافظ:
" صدوق يخطئ ".
ولو صح فهو حديث مستقل لا علاقة له بالحديث السابق من حيث الترجيح، ثم هو على ما في إسناده من كلام مرجوح أمام رواية نافع وابن علقمة وعروة إن أقحمناه في الترجيح والله أعلم .
ومن تجاهل الأستاذ أنه تكلم ص(196) عن معنى التشبه والمشابهة فبين أنهما فيما يتعلق بالهيئة والصورة على درجتين فقال:
" الأولى: مشابهة مقترنة بالقصد فهذا التشبه بهم..."
" والثانية: مشابهة مجردة عن القصد فهذه لا تسمى تشبها".
فجعل الأستاذ القسمة ثنائية، أما الدرجة الأولى فقد نقل فيها قول شيخ الإسلام في الاقتضاء:
" والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه"
أما الثانية فنقل فيها قوله أيضا في الاقتضاء:(1/149)
" فأما من يفعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر، لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة"ا.هـ
واكتفى الأستاذ الجديع بهاتين الدرجتين فقط، وتجاهل القسم الآخر الذي ذكره شيخ الإسلام، وقد تعمد هذا، لأن كلام شيخ الإسلام الذي نقله الأستاذ مؤيدا به القسمين السابقين قد تخلله وتوسطه ذكر قسم آخر، فتجاوزه الأستاذ إلى غيره.
و حتى تتضح لك الصورة أنقل لك كلام شيخ الإسلام تاما فقد قال رحمه الله ص(82):
" والتشبه يعم :
1- من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر
2- ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير
3- فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر، لكن قد ينهى عن هذا..." ا.هـ
فتجاهل الأستاذ القسم الثاني وجعل القسمة ثنائية، مع أن القسم الثاني هو الأصل في تقسيم شيخ الإسلام بخلاف القسم الثالث الذي اعتبره الجديع الثاني عنده.
بل هو أهم حتى من القسم الأول من حيث وقوعه، فالأول نادر الوقوع والحصول بنص كلام شيخ الإسلام، بخلاف الثاني.
وهو (أي الثاني ) أهم من القسم الثالث الذي ذكره الجديع من حيث أن شيخ الإسلام قدمه عليه، ثم إن تعبير شيخ الإسلام قد دل على هذا فهو رحمه الله عندما ذكر التشبه عبر بقوله: " يعم " أي يشمل، ثم ذكر مفعول هذا الفعل يعم فقال: " من فعل...و من تبع..."
فذكر القسمين الأول والثاني في سياق مفعولي الفعل: " يعم " .
أما القسم الثالث فلم يعطفه على ما سبق، وإنما عبر بما فيه تشكيك في جعل هذا القسم تابعا للقسمين الأول والثاني، وقوله: " ففي كون هذا تشبها نظر " صريح في التشكيك المذكور.(1/150)
فتبين بهذا أن أهم الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني، وقد أعرض الأستاذ عن ذكره تجاهلا للواقع، و كتمانا للعلم، وخروجا عن الأمانة، وما هكذا يكون أدب الفكر، وما بمثل هذا تقرر براهين النظر.
ومع كون القسم الثاني الذي أهمله الأستاذ وحذفه أهم الأقسام الثلاثة ـ وهذا يزيد من شناعة صنيع الأستاذ ـ، فقد قرر الأستاذ عند ذلك خلاف ما تضمنه كلام شيخ الإسلام في القسم المحذوف.
فالأستاذ قد قرر أن المشابهة إذا تجردت عن قصد التشبه بالكفار فلا تسمى تشبها.
بينما أدخل شيخ الإسلام عند كلامه عن القسم الثاني من كان هذا حاله في مسمى التشبه، فاعتبر من تبع غيره في فعل لا لأجل أنهم فعلوه وإنما لغرض آخر ما دام أن أصل الفعل مأخوذ عن ذلك الغير اعتبر هذا من التشبه أيضا، دون اعتبار قصد التشبه، وبهذا يتبين أن الجديع إنما خان أمانة العلم في هذا النقل لغرض تمشية ما يريد.
فهو يريد إخراج كل فعل من الأفعال المشابهة لما عليه الكفار من مسمى التشبه، بحجة عدم قصد المشابهة، هذه هي الخطوة الأولى.
ثم تأتي الخطوة الثانية وهي منح هذا القسم حكما شرعيا مخالفا لحكم التشبه، فذهب الأستاذ إلى الكراهة التنزيهية فقط.
وهذا هو بيت القصيد عند الأستاذ.
فبعد عناء من التخطيط والرسم والهندسة والتصميم شيد الأستاذ بيته الذي أراد وابتغى، ولكن ما الفائدة فالطريقة غير مشروعة، وقواعده وأسسه على غير تقوى موضوعة ،وإنما أسست على شفا جرف هار من التجاهل والكتمان والتلبيس.
وما كان هذا حاله فحري به أن يجتث من أصله فما له من قرار.
وقد ذكر شيخ الإسلام في نفس الصفحة التي تكلم فيها عن الأقسام السابقة حكم التشبه وبين أن أقل أحواله التحريم، وهو رحمه الله يرى أن المشابهة وإن تجردت عن قصد التشبه فهي من التشبه، ما دام أن أصل الفعل مأخوذ عن الكفار، فالتحريم هو قول شيخ الإسلام دون اعتبار لقصد التشبه، خلافا لما زعمه الأستاذ.(1/151)
ويتلخص مما سبق أن ما ارتكبه الأستاذ هو التالي:
أ أنه نقل تقسيم شيخ الإسلام مبتوراً ، فحذف قسماً منه
ب أن البتر كان من وسط الكلام مما يدل على التعمد
ج- أن البتر خصه الأستاذ بالقسم الذي هو أصل في القسمة وهو أهم الأقسام
د- أن الأستاذ قرر عند نقله للأقسام مبتورة خلاف ما تضمنه القسم المبتور
هـ- أنه منحه حكماً مخالفاً لما حكم به شيخ الإسلام
فكان عليه بدل أن يقع في مثل هذه المجاوزات على الأقل أن يكتفي بذكر التقسيم مجرداً عن كلام شيخ الإسلام ،حتى لا يكون منه مثل هذا العبث بكلام أهل العلم .
ثم إن الأستاذ ادعى ما ادعاه دون أن يأتي بدليل، فبغض النظر عن أنه خالف شيخ الإسلام في هذا وبغض النظر عما اقترفه من حذف وتجاهل وكتمان، فهو لم يسق دليلاً على ما ذكره وقعده، ولا ذكر سلفا له في هذا سوى أنه ذكر أمثلة فقط ليس إلا.
وهل بمثل هذا يكون التحرير والتحقيق يا أستاذ !!
وأنا أطالب الأستاذ بالأدلة الشرعية على ذلك، لا الأمثلة التي ينازع فيها، ثم أطالبه بذكر من قال به من أهل العلم، و إلا فلا اعتبار بأقوال جوفاء لا زمام لها ولا خطام، وخاصة من متهم كالجديع.
وتتميما للفائدة أنقل لك نصين عن شيخ الإسلام في حكم المخالفة عموما، وإن كان كلام الأستاذ خاصا بالمخالفة في الصورة والهيئة الظاهرة.
قال شيخ الإسلام في الاقتضاء ص(16):
" لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة، بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، سواء كان ذلك عموما عاما في جميع الأنواع المخالفة أو خاصا ببعضها، سواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب " ا.هـ
وقال شيخ الإسلام أيضا ص(21):
" ثم متى كان المقصود: بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا فجميع الآيات دالة على ذلك.(1/152)
وإن كان المقصود: أن مخالفتهم واجبة علينا، فهذا إنما يدل عليه بعض الآيات دون بعض، ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة، إذ كان هذا هو المقصود هنا.
أما تمييز دلالة الوجوب أو الواجب عن غيرها، و تمييز الواجب عن غيره فليس هو الغرض هنا " ا.هـ
خلاصة أخيرة
لقد أقام الأستاذ الجديع كتابه لتقرير مسألتين اثتنين تقريبا، وتفرعت عنهما مسائل
الأولى: القول بأن إعفاء اللحية ليس من السنن التعبدية
الثانية: القول بأنه شرع لأجل المخالفة فقط، فإن وجدت المخالفة استحب الإعفاء وكره الحلق كراهة تنزيهية، وإن تخلفت علة المخالفة لم يؤمر به على وجه الاستحباب.
وهاتان المسألتان يمكن أن ألخص القول فيهما بخلاصة نافعة إن شاء الله تبين بعد الأستاذ فيهما عن الصواب.
فإليك المراد:
أما القول بأن الإعفاء ليس من السنن التعبدية، فالجواب عنه بغض النظر عن حكمه بما صححه الأستاذ الجديع نفسه، فقد صحح أثرين أحدهما عن جابر بن عبد الله، والآخر عن عطاء بن أبي رباح، اتفقا على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون إعفاء اللحية، ولا يأخذون منها إلا في نسك.
أثر جابر بلفظ:
" كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة "
وأثر عطاء بلفظ:
" كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة "
وإذا تقرر أن عامة الصحابة (جميع الصحابة) كانوا يستحبون الإعفاء دون تعليق لذلك بالمخالفة وأنهم إلى عصر التابعين هم مستمرون على الإعفاء عن اعتقاد لاستحباب ذلك كما هو صريح أثر عطاء، مع تغير حال البيئات وخلو كثير منها من أهل الشرك والكفر.
دل ذلك أن الإعفاء عندهم من السنن التعبدية، وبالتالي فلم تعد لدعاوى الجديع أدنى قيمة أمام ما ثبت عن الصحابة الكرام بإجماع منهم، ومثل هذا الجواب قاطع للنزاع عند من سلمت أصوله، وسلمت نفسه من آفات الأستاذ الجديع التي لمسناها منه في كتابه هذا، من تلاعب وتكلف و استغلال للمجملات وتجاهل للحقائق نسأل الله الهداية.(1/153)
ناهيك عن ثبوت الأمر به دون إشارة إلى أي معنى يخالف معنى التعبد، أو قد يصرف الأمر إلى غير التعبد كما سبق من حديث ابن عمر( إن صح الترجيح)
أما المسألة الثانية والقول الآخر فالجواب عليه بما يلي :
أن القول بأن الإعفاء إنما شرع لأجل المخالفة فقط، وبالتالي فلا يمكن أن يكون واجبا وإنما الأمر في مثل هذا للاستحباب إنما أقامه الأستاذ على أمرين:
الأول: أنه لم يرد الأمر بالإعفاء مجردا عن التعليل بالمخالفة
والثاني: أن ما كان هذا سبيله فمتى عري عن قصد التشبه فالمخالفة فيه لا تكون إلا مستحبة فقط
والجواب على هذا بما يلي:
أما الفقرة الأولى فلا يصح القول بأن الأمر بالإعفاء لم يأت مجردا عن ذكر المخالفة، فقد سبق أن حديث ابن عمر: " حفوا الشوارب وأعفوا اللحى " قد جاء مجردا عن ذكر المخالفة في أكثر الروايات.
وسبق أن تلاميذ نافع الثقات وغيرهم قد اتفقوا على رواية الحديث بدونها، وأنه إنما تفرد بها ثقة غير متقن مخالفا الجماعة.
وثبوت هذا لوحده كاف في رد ما قاله الأستاذ.
ويشهد له أن عمل السلف قاطبة شاهد على نقض دعوى الأستاذ، فلم يتقيدوا بالعلة مطلقا لا الصحابة ولا التابعون ولا تابع التابعين، ولو أنهم تقيدوا بالعلة لأثر الحلق عنهم، باعتبار أن العلة زالت عن كثير من بقاع المسلمين آنذاك، ولم يثبت عنهم شيء من ذلك، بل الثابت هو الإعفاء فقط، وقد سبق نقل ذلك عن عامة الصحابة، وكذلك غيرهم من التابعين وتابعيهم، ومن أبطل
الباطل أن يهمل عمل أهل القرون المفضلة طيلة هذه القرون، فما الدين إلا ما كانوا عليه.
ولهذا قرر أهل العلم أن علة المخالفة التي وردت في بعض الأحاديث لا تعني أن الأمر بالإعفاء ينتفي عند انتفائها، فالحلق عندهم محرم مطلقا دون اعتبار العلة، قال الإمام شهاب الدين الاذرعي من الشافعية:
" الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها "
وسبق كلام شيخ الإسلام في الاقتضاء بأنه:(1/154)
" لا يسوغ لنا رفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يتلبس به بعض المخالفين لنا في الدين "
وقال النفراوي المالكي في الفواكه الدواني:
" فما عليه الجند في زماننا من أمر الخدم بحلق لحاهم دون شواربهم، لاشك في حرمته عند جميع الأئمة لمخالفته لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولموافقته لفعل الأعاجم والمجوس، والعوائد لا يجوز العمل بها إلا عند عدم نص عن الشارع مخالف لها، و إلا كانت فاسدة يحرم العمل بها، ألا ترى لو اعتاد الناس فعل الزنا أو شرب الخمر لم يقل أحد يجوز العمل بها"ا.هـ
فلم يعتبر العرف في المسألة، وإنما اعتبر الإعفاء مأمورا به مطلقا وإن تخلفت العلة.وقال أبو شامة:
" وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها "ا.هـ
فهذا أبو شامة وهو من علماء القرن السابع يستنكر الحلق في عصره، مع بعده عن المجوس وينقل أنه محدث ليبين أن الأمة استقرت على أن الإعفاء سنة سابلة لا تتوقف سنيتها على المخالفة هذا ما عليه أهل العلم وهؤلاء هم سلفنا في هذه المسألة.
والأستاذ الجديع لم ينقل لنا من سلفه في ذلك القول، بغض النظر عن القول بالاستحباب أو الوجوب، من سلفه بأن الإعفاء سواء كان مستحبا أو واجبا إنما يؤمر به فقط عند وجود المخالفة فإذا انعدمت المخالفة انعدم الأمر بالكلية؟
نريد عالماً معتبرا قال بهذا.
فالجديع لم ينقل ذلك عن أحد من أهل العلم، ولا في موطن واحد.
أما الفقرة الثانية:
وهى قوله: بأن المشابهة متى عريت عن قصد التشبه فلا تكون المخالفة فيها واجبة إنما تكون مستحبة فقط.(1/155)
فمع أن قوله لا دليل عليه فقد سبق أن شيخ الإسلام وهو من هو في الإمامة والعلم، وقد كانت له عناية خاصة بهذه المسائل وأمثالها، و ألف فيها كتاباً من أنفع الكتب، سبق أنه قرر خلاف هذا الكلام الذي قاله الجديع، وبين أن التشبه أقل أحواله الحرمة، وأن من التشبه مشابهة الكفار في الفعل وإن لم يكن لأجل أنهم فعلوه ما دام أن الفعل مأخوذ عنهم.
وبالتالي تبطل القاعدة التي قررها الأستاذ الجديع.
ثم إن الجديع قد بنى حكمه بالاستحباب انطلاقا من هذه القاعدة، بناءاً على مقدمات قد سبق أنها باطلة، وإذا بطل الأصل بطل الفرع.
والجدير بالذكر أن الأستاذ الجديع قد سبق أن قرر أن الأمر بالإعفاء إنما جاء مقرونا بأخذ الشارب في أكثر من حديث، وعليه فمن الواجب اتحادهما في الحكم.
وقد علمت أيضا أن النبى صلى الله عليه و سلم قال: " من لم يأخذ من شاربه فليس منا " .
وهى صيغة صريحة في وجوب الأخذ لا تحتمل غير ذلك.
ونهى عن ترك الشارب أكثر من أربعين يوم، كما هو صريح حديث أنس:" وقت لنا... أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة "
وقوله: " أن لا نترك " هو في معنى النهي.
وإذا كان الصحيح في الأخذ من الشارب الوجوب فكذلك الإعفاء.
وبهذا تنتهي هذه الخلاصة، وأظنها تكفي لبيان ما عليه الأستاذ من الباطل في هذه المسألة .
هذا وأسال الله العلي الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهدي الأستاذ الجديع إلى الحق، وأن يرده إلى جادة الصواب، وأن يجنبه الخطأ والزلل والانحراف.
وإني آمل من الله أن يرجع الأستاذ إلى ما كان عليه من الكتابات القيمة والبحوث العلمية النافعة إنه ولي ذلك والقادر عليه.(1/156)
ويعلم الله أني لم أسود حرفاً في هذا المبحث حسداً لأحد، ولا طلباً لمتاع، ولا حرصاً على أمر زائل، وإنما أحسب أني كتبت ما كتبت غيرة على دين الله، ورغبة في النصيحة ،وذباً عن سنن ثابتة صحيحة، و ذياداً عن حياض الحق وأهله، وحفاظاً على لواء الأثر والاتباع، وطمعاً في أن أكتب عند الله فيمن جاهد في سبيله بالكلمة والقلم، ممن ينفون عن شرعه الغالي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وأسأله أن يبقيني على هذا الثغر ما حييت، وإن عدتم عدنا وكفا بالله ناصراً ومعيناً
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وكتبه : أبو عبدالرحمن محمد بن خليفة الهاشمي(1/157)