تنبيه الغافلين
إلى إجماع المسلمين
على أن ترك جنس العمل كفر في الدين
كتبه
حمد بن عبد العزيز بن حمد ابن عتيق
1421هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فقد كثر الخوض في هذه الأيام ، في مسائل الإيمان عموماً ، ومسألة ترك جنس العمل خصوصاً ، وحصل بذلك فتنة لا يعلم مآلها إلا الله سبحانه وتعالى ، أسأل الله أن يعصمنا من مضلات الفتن ، إنه سميع مجيب .
ولما كانت مسألة ترك جنس العمل من المسائل الواضحات ، من جهة الأدلة الشرعية والنقول السلفية عن الأئمة رحمهم الله ، استعنت بالله في كتابة هذه الأوراق التي بين يديك ، راجياً من الله عز وجل أن يجعل فيها الخير والبركة ، إنه على كل شيء قدير .
الفصل الأول : أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة :
أقوال أهل السنة متفقة على أن الإيمان قول وعمل ، قال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية ا.هـ(1).
وسأذكر بعض أقوالهم في ذلك ، ومنها :
1- قول الإمام أحمد : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ا.هـ(2).
2- قول الإمام الآجري في كتابه الشريعة : باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب ، وإقرار باللسان ، وعمل بالجوارح ، ولا يكون مؤمناً إلا أن يجتمع فيه هذه الخصال الثلاث ا.هـ .
3- وقول البخاري – صاحب الصحيح - : كتبت عن ألف نفر من العلماء ، وزيادة ، ولم أكتب إلا عمن قال : الإيمان قول وعمل ا.هـ(3).
إلى غير ذلك من عبارات السلف الصالح – رحمهم الله – في تعريف الإيمان ، وقد يستشكل البعض تنوع عبارات السلف في ذلك ، فيجدهم تارة يقولون : هو قول وعمل ، وتارة يقولون : قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح . وتارة يقولون : هو قول وعمل ونية ، وتارة يقولون : قول وعمل ونية واتباع سنة .
__________
(1) التمهيد ( 9 / 238 ) .
(2) السنة ( 1/ 307 ) .
(3) نقلها عنه اللالكائي ( 5/ 959 ) .(1/1)
وكل هذا صحيح ، فليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي ، كما بين ذلك ابن تيمية قائلاً : وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي ، ولكن القول المطلق ، والعمل المطلق ، في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان ، وعمل القلب والجوارح ، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين ، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد ، كقوله تعالى : ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب ، هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله ، فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر، لكن لما كان بعض الناس قد لا يفهم دخول النية في ذلك قال بعضهم : ونية ، ثم بين آخرون ، أن مطلق القول والعمل والنية لا يكون مقبولاً إلا بموافقة السنة ، وهذا حق أيضاً فإن أولئك قالوا : قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس ، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال ، ولكن كذلك قول من قال : اعتقاد بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالجوارح . جعل القول والعمل اسماً لما يظهر ، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب ، ولابد أن يدخل في قوله : اعتقاد القلب ، أعمال القلب المقارنة لتصديقه ، مثل : حب الله ، وخشية الله ، والتوكل على الله ، ونحو ذلك ، فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها . ا.هـ(1).
ومما يدل على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ، ما أخرجه مسلم – في صحيحه – عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم :" الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " .
الفصل الثاني : التلازم بين الظاهر والباطن اعتقاد أهل السنة والجماعة :
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 505 ) .(1/2)
إن من المقرر عند أهل السنة والجماعة تلازم الظاهر والباطن ، بمعنى أنه بحسب ما في القلب من إيمان ، فلابد – عند عدم المانع – من وجود مقتضى ذلك على الجوارح ، فمطلق الإيمان الباطن يلزم منه مطلق العمل الظاهر ، والإيمان المطلق الباطن ، يلزم منه العمل المطلق الظاهر .
قال ابن تيمية : الإيمان أصله الإيمان الذي في القلب ولابد فيه من شيئين : تصديق بالقلب وإقراره ومعرفته . ويقال لهذا قول القلب . قال الجنيد بن محمد : التوحيد : قول القلب ، والتوكل : عمل القلب ، فلا بد فيه من قول القلب وعمله ، ثم قول البدن وعمله ، ولابد فيه من عمل القلب ، مثل حب الله ورسوله وإخلاص العمل لله وحده ، وغير ذلك من أعمال القلوب التي أوجبها الله ورسوله وجعلها من الإيمان .
ثم القلب هو الأصل فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة ، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب " . وقال أبو هريرة : القلب الملك والأعضاء جنوده ، فإذا طاب الملك طابت جنوده ، وإذا خبث الملك خبثت جنوده . وقول أبي هريرة تقريب ، وقول النبي صلى الله عليه وسلَّم أحسن بياناً ، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار قد يعصون به ملكهم وبالعكس ، فيكون فيهم صلاح مع فساده ، أو فساد مع صلاحه ، بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم :" إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد " .(1/3)
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً ، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق ، كما قال أئمة الحديث : قول وعمل ، قول باطن وظاهر ، وعمل باطن وظاهر ، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر ، وإذا فسد فسد ا.هـ(1).
وقال : أصل الإيمان هو ما في القلب ، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك ، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح ، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب ، فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب . ا.هـ(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 186 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 7 / 198 ) .(1/4)
وقد نقل ابن تيمية – رحمه الله – كلام بعض المتقدمين ، حيث بين استحالة انفكاك الظاهر عن الباطن أو العكس وأنه لا يصح أحدهما ولا ينفع إلا بوجود الآخر ، وقد نقل ذلك ابن تيمية ولم يتعقبه في ذلك ، قال – رحمه الله - : فمثل الإسلام من الإيمان ، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم ، فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية ، فهما شيئان في الأعيان ، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كالشيء الواحد ، كذلك الإيمان والإسلام أحدهما مرتبط بالآخر ، فهما كالشيء الواحد ، لا إيمان لمن لا إسلام له ، ولا إسلام لمن لا إيمان له ، إذ لا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه ، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشتراط الله للأعمال الصالحة الإيمان ، واشترط للإيمان الأعمال الصالحة ، فقال في تحقيق ذلك : ( فمن يعمل من الصالحات فلا كفران لسعيه ) ، وقال في تحقيق الإيمان بالعمل : ( ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ) فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة ، ومن كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد ...
قال : ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لا يكون ذو جسم حي لا قلب له ولا ذو قلب بغير جسم ...
إلى أن قال : فلا إيمان إلا بعمل ، ولا عمل إلا بعقد ، ومثل ذلك مثل العمل الظاهر والباطن ، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب والجوارح . ا.هـ(1)3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 333 ) .(1/5)
وقال ابن تيمية – رحمه الله - : وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة ، لأنها لوازم ما في القلب ، لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما أخبر به الرسول وجب حصول مقتضى ذلك ضرورة ، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه ألبته فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر.
ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه ، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم كقوله تعالى : ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) وقوله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) الآية . ونحوها ، فالظاهر والباطن متلازمان لا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن ، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلَّم :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهي القلب " ... ولهذا كان الظاهر لازماً للباطن من وجه وملزوماً له من وجه ا.هـ(1).
وبناء على ذلك كله يتبين لنا بجلاء ، عظم قدر هذه العقيدة – ألا وهي التلازم بين الظاهر والباطن – عند أهل السنة والجماعة .
وقد دندن حولها أهل السنة – رحمهم الله – عند الرد على المرجئة ، وذلك لنقض أصلهم الفاسد ألا وهو : أنه قد يوجد إيمان تام في القلب بدون العمل الظاهر ، لذا تجد ابن تيمية – رحمه الله – بعد أن يقرر ذلك الأصل يتبعه ببيان فساد هذا القول كما في غير موضع من كتبه رحمه الله .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 18 / 272 ) .(1/6)
وقد تفرع عن هذا الأصل - العظيم – مسألة تكفير تارك جنس العمل ، وإن كانت مسألة غير عملية ، بمعنى أنه لا يمكن أن يقال : إن هناك زيداً – من الناس – قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ولم يعمل بعدها خيراً قط ، فإن هذا النفي المطلق لا يمكن لأحد إلا الله أن يحيط به .
فإن قيل : إذاً ما فائدة الكلام حول هذه المسألة ؟
فالجواب : أن أهل العلم يأتون بهذه المسألة لبيان قوة التلازم بين الظاهر والباطن ، وأن صلاح الباطن لابد أن يظهر على الجوارح بحسب صلاحه ، وأن فساد الباطن يلزم منه فساد الظاهر والجوارح بحسبه ، فإذا فسد الظاهر فساداً مطلقاً بحيث لم يظهر على الجوارح شيء من العمل ، دل ذلك على الفساد المطلق للقلب ولا شك . ومن ثمَّ يسقط الأصل الفاسد الذي قالت به المرجئة .
ولقد أخطأ بعض الناس – في هذا الزمان – لظنه أن أهل السنة لا يقولون بكفر تارك جنس العمل . مستدلاً ببعض الأدلة المشتبهة مؤيداً ذلك بكلام لبعض السلف فهمه على حسب ظنه ، مع أن المسألة قد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل السنة عليها ، أسأل الله أن يدلنا وإياهم إلى صراطه المستقيم ، إنه على كل شيء قدير ، وإليك بيان هذه المسألة بحسب الوسع والطاقة ، فاللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
الفصل الثالث : ترك جنس العمل كفر أكبر :
المبحث الأول : صورة المسألة :
صورة المسألة هي في رجل نطق بالشهادتين ، ثم بقي دهراً لم يعمل خيراً مطلقاً ، لا بلسانه ولا بجوارحه ، ولم يعد إلى النطق بالشهادتين مطلقاً ، مع زوال المانع .
وليتنبه إلى أن المقصود بقول اللسان عند عدّ أركان الإيمان المقصود به : نطق الشهادتين عند الدخول في الإسلام ، وليس المراد به كل عبادة قولية من ذكر وأمر بمعروف ونهي عن منكر . فإن هذه من أعمال الجوارح عند الكلام على أركان الإيمان ، وإن كانت من عمل اللسان .(1/7)
قال ابن القيم – رحمه الله - : وهاهنا أصل آخر وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل ، والقول قسمان : قول القلب وهو اعتقاده ، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام ، والعمل قسمان : عمل القلب وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح . ا.هـ(1).
وعليه فمن عمل بلسانه ذكراً أو استغفاراً ، أو أمراً أو نهياً ، فهو خارج عن محل النزاع .
المبحث الثاني : الأدلة على أن ترك جنس العمل كفر :
أ – ما أخرجه الشيخان من حديث النعمان بن بشير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .
فجعل النبي صلى الله عليه وسلَّم القلوب مع الجوارح على قسمين :
الأول : أن يكون القلب صالحاً فتصلح بذلك الجوارح تبعاً له ، وبحسب صلاح القلب تصلح الجوارح .
الثاني : أن يكون القلب فاسداً ، فتفسد بذلك الجوارح تبعاً له ، وبحسب فساد القلب تفسد الجوارح ، فإذا فسدت الجوارح فساداً مطلقاً ، دل ذلك على فساد القلب فساداً مطلقاً ، وعليه فمن ترك عمل الجوارح مطلقاً ، صار بذلك جسده فاسداً فساداً مطلقاً ودل ذلك على فساد قلبه فساداً مطلقاً . وهذا هو الكفر ولا شك .
فمن قال : إنه يوجد في القلب إيمان - من محبة لله وخوف ورجاء – ثم لا يظهر أثر شيء من ذلك على الجوارح ، فقد جاء بقسم ثالث لم يعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، ولكان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلَّم أن يقول : إذا صلحت صلح الجسد ، وقد يكون فاسداً.!! سبحانك هذا بهتان عظيم .
قال ابن تيمية : القلب هو الأصل ، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة ، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح :" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ألا وهي القلب " ...
__________
(1) من كتاب الصلاة ضمن مجموعة الحديث جمعها محمد رشيد رضا 483 .(1/8)
فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً ، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر ، والعمل بالإيمان المطلق ، كما قال أئمة أهل الحديث : قول وعمل ، قول باطن وظاهر ، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر ، وإذا فسد فسد ، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث : لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ا.هـ(1)2) .
تنبيه مهم : لقد حاول بعضهم التهوين من دلالة حديث النعمان بن بشير على عقيدة التلازم بين الظاهر والباطن بشيء دل على عدم تصوره للمسألة ، فقد قال بعد ذكره لحديث النعمان : وغاية ما يدل عليه هذا الأصل أن الإيمان الباطن دافع للعمل الظاهر ، ولكن ذلك لا يستلزم بالضرورة نفي الإيمان الباطن لمن لم يأت بالالتزام الظاهر ، كما أن وجود العمل الظاهر لا يستلزم الإيمان الباطن بالضرورة كما في المنافق مثلاً . ا.هـ
والجواب : أن المنافق يخالف تماماً صورة المسألة هنا ، ذلك أن المنافق وإن كان قلبه فاسداً ، إلا أنه حال دون ظهور هذا الفساد على جوارحه مانع ألا وهو خوفه على نفسه أو ماله أو جاهه أو غير ذلك . وإلا لو خلي المنافق ليظهر ما عنده ، لسرى فساد قلبه مباشرة إلى جوارحه ، ولذلك لا تجد في المهاجرين من كان منافقاً، وإنما ظهر النفاق في المدينة لما قويت شوكة المسلمين .
ومن هنا تعلم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلَّم – الذي هو أحسن الناس بياناً – لا استدراك عليه مصداقاً لقوله سبحانه : ( وما ينطق عن الهوى ) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 187 ) .(1/9)
لذا قال ابن تيمية : وهنا أصول تنازع الناس فيها ، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ، ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح وإنما يظهر نقيضه من غير خوف ؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح . ا.هـ(1). وعليه فالمنافق والمكره ليسا داخلين في صورة المسألة ، فتنبه .
ب – الإجماع على أن ترك جنس عمل الجوارح كفر مخرج عن الملة ، وقد نقل هذا الإجماع غير واحد من أهل السنة والجماعة ، ومنهم :
1) الشافعي : قال : كان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ، ومن أدركنا يقولون : الإيمان قول وعمل ونية ، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر ا.هـ(2)2)
2) الحميدي : قال : أخبرت أن أناساً يقولون : من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت . ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت ، فهو مؤمن ما لم يكون جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة ، فقلت : هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين ا.هـ(3)3).
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 14 / 120 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 7 / 209 ) .
(3) مجموع الفتاوى ( 7 / 209 ) .(1/10)
3) الآجري : قال : ثم اعلموا أنه لا تجزئ معرفة بالقلب والتصديق ، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق باللسان حتى يكون عمل بالجوارح ، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمناً دل على ذلك الكتاب والسنة ، وقول علماء المسلمين ، .. – إلى أن قال - : فالأعمال – رحمكم الله – بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان ، فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه ، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ، وأشباه لهذه ، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً ، ولم تنفعه المعرفة والقول ، وكان تركه للعمل تكذيباً لإيمانه وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه .. وقد قال الله تعالى في كتابه ، وبين في غير موضع ، أن الإيمان لا يكون إلا بعمل ، وبينه النبي صلى الله عليه وسلَّم ، خلاف ما قالت المرجئة الذين لعب بهم الشيطان . ا.هـ(1)1) .
4) ابن تيمية : قال : وهنا أصول تنازع الناس فيها ، منها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شيء على اللسان والجوارح ،وإنما يظهر نقيضه من غير خوف ؟ فالذي عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح ... وقد قال النبي صلى الله عليه وسلَّم :" إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " . فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد ، فإذا الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح . والقلب المؤمن صالح ، وعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً . ا.هـ(2)2) .
المبحث الثالث : الأدلة التي استدل بها من قال إن ترك جنس العمل ليس بكفر والجواب عنها :
(
__________
(1) الشريعة ( 2 / 611 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 14 / 120 ) .(1/11)
1) الأدلة التي فيها أن الله لا يغفر الشرك والكفر الأكبرين ويغفر ما دون ذلك ، ومنه قول الله سبحانه : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وما رواه مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " .
والجواب : أن هذا من الاستدلال بمحل النزاع ، إذ إننا نرى أن ترك جنس العمل من الكفر الأكبر المخرج عن الملة ، فكما أنه لا يجوز أن يستدل بهذه الآيات والأحاديث على عدم الكفر بترك جنس عمل القلوب ، فكذا لا يصح الاستدلال بها على عدم الكفر بترك جنس عمل الجوارح .
(2) الأدلة التي فيها دخول الجنة لمن لم يعمل خيراً قط : ومن ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وفيه :" ثم يقول الله عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها خيراً ، فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط ... قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة ، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه"
والجواب من أوجه :
الأول : أن التمسك بعموم هذه الأدلة دون النظر إلى الأدلة الأخرى يلزم منه عدم التكفير بترك جنس عمل القلوب ، بل وبترك النطق بالشهادتين ، فما كان جواباً لهم على ذلك فهو جواب لنا .(1/12)
الثاني : أنه يصح في اللغة والشرع نفي الشيء ما لم يتم التمام الواجب ، قال أبو عبيد : فإن قال قائل : كيف يجوز أن يقال : ليس بمؤمن واسم الإيمان ليس زائلاً عنه ؟ قيل : هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقة ، ألا ترى أنهم يقولون للصائغ إذا كان ليس بمحكم لعمله : ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً ، وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد لا على الصنعة نفسها ، فهو عندهم عامل بالاسم ، وغير عامل في الإتقان ، حتى تكلموا به فيما هو أكثر من ذلك ... وقد وجدنا مع هذا شواهد لقولنا من التنزيل والسنة ا.هـ(1).
وقال ابن خزيمة : قال أبو بكر : هذه اللفظة " لم يعلموا خيراً قط " من الجنس الذي يقول العرب : ينفى الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام ، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل " لم يعملوا خيراً قط " على التمام والكمال لا على ما أوجب عليه وأمر به وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي . ا.هـ(2).
وقال ابن تيمية : لأن ما لم يتم ينفى كقوله للذي أساء في صلاته " صل فإنك لم تصل " فَنَفيُ الإيمان حيث نُفِي من هذا الباب ا.هـ(3).
وكذا نفي العمل الظاهر في هذه الأدلة من هذا الباب ، ويدل له الوجه الثالث : جاء في السنة الصحيحة إطلاق " لم يعمل خيراً قط " على من عمل بعض أعمال الجوارح ، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال :" كان ممن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً " الحديث ، وفيه : " فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : " إنه لم يعمل خيراً قط " الحديث .
__________
(1) الإيمان ص 41 .
(2) التوحيد ( 2 / 732 ) .
(3) مجموع الفتاوى ( 7 / 27 ) .(1/13)
وعليه فالمراد بقول النبي صلى الله عليه وسلَّم في حديث الشفاعة " لم يعملوا خيراً قط " ليس نفي مطلق العمل الظاهر ، بل المراد به أن أعمالهم من الضعف والقلة لدرجة أنها لا تذكر بالنسبة لسيئاتهم ، كما هو حال قاتل المائة نفس ، فإنه خرج مهاجراً لله ، ومع ذلك قالت عنه الملائكة إنه لم يعمل خيراً قط ، وذلك لقلة هذا العمل في مقابل ما اقترفه من القتل .
(3) الأدلة التي فيها الاكتفاء بالشهادتين للنجاة يوم القيامة :
ومن ذلك ما رواه أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال : إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً ، كل سجل مثل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئاً ؟ أظلمك كتبتي الحافظون ؟ فيقول : لا يارب ، فيقول : أفلك عذر ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول : احضر وزنك ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ، فقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، فلا يثقل مع اسم الله شيء " .
قالوا : في الحديث إشارة إلى أنه ليس معه من الصالحات غير شهادة التوحيد ، هذا هو القطع لأنه لم يذكر شيء غيره .
والجواب من أوجه :
الأول : أن التمسك بعموم هذه الأدلة يلزم منه عدم التكفير بترك جنس أعمال القلوب ، لأنها لم تذكر في حسنات هذا الرجل ، فإن قيل إنها لابد أن تكون معه بدلالة الأدلة الأخرى ، فكذلك أعمال الجوارح لابد أن تكون معه بدلالة الأدلة الأخرى ، فما كان جواباً لكم عن عدم ذكر أعمال القلوب ، فهو جوابنا عن عدم ذكر أعمال الجوارح .(1/14)
الثاني : أن هذا الرجل مسرف على نفسه ، فقد يكون عمل بعض الصالحات فلم تقبل منه لاختلال شرط أو وجود مانع ، ولذلك لم تسجل في بطاقته ، كما أن بعض الذنوب سبب لعدم قبول الصالحات كإتيان الكهنة والعرافين . وبعض الذنوب سبب لحبوط العمل كما قال صلى الله عليه وسلَّم :" من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" أخرجه البخاري .
الثالث : أن هذا الرجل – قطعاً – لم يقع في ناقض من نوا قض الإيمان كالاستهزاء بالله ، إذ لو كان كذلك لم تنفعه بطاقته ، فكذلك يقال : إن هذا الرجل لم يقع في ترك جنس عمل الجوارح ، لأنه ناقض بدلالة الأدلة المتقدمة .
الرابع : أن هذا الرجل كان يكرر لا إله إلا الله ويداوم عليها ، حتى صار لها هذا الوزن والثقل في الميزان ، ومن هذه حاله خارج عن محل النزاع ، إذ النزاع فيمن قال : لا إله إلا الله فدخل في الإسلام ، ثم لم يعد لها ولم يعمل خيراً مطلقاً ، وفرق بين هذا وذاك .
الخامس : أن يكون هذا الرجل من الذين جاء ذكرهم في حديث حذيفة الذي رواه ابن ماجة والحاكم وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" يُدرس الإسلام كما يُدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى منه في الأرض آية ، وتبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير والعجوز ، يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله ، فنحن نقولها .
فقيل لحذيفة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله ، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ، فقال : تنجيهم من النار" .(1/15)
وبعد : فإن هذه الأدلة حاصل ما يستدل به القوم ، وقد رأيتَ أنها غير قائمة للاستدلال بها ، وحتى لو كانت هذه الإجابات غير كافية لمن علقت به هذه الشبهة ، فيكفي في ذلك ، أن يُسلم المؤمن لإجماع أهل السنة فهو بإذن الله عصمة ، وعليه أن يتعامل مع هذه النصوص المشتبهة بردها إلى النصوص المحكمة ويقول : " آمنا به كل من عند ربنا " . وليعلم أن هذه الأدلة هي هي الأدلة التي استدل بها من قال : بأن إيمان القلب كاف للنجاة وكذا من قال : إن النطق بالشهادتين كذلك ، وما
ذاك إلا لأنهم خالفوا إجماع الأمة وحاولوا الاستقلال بفهم الأدلة ، والله يقول : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ) .
المبحث الرابع : سبب الخطأ ، ومنشأ الغلط عند من قال من أهل السنة – في هذه الزمان – بأن ترك جنس العمل ليس بكفر .
أولاً : ظنهم التلازم بين عدم التكفير بترك المباني الأربعة وعدم التكفير بترك جنس العمل .
لقد دخلت هذه الشبهة على كثير ممن قال : إن ترك جنس العمل ليس بكفر ، فهو يقول : إن من يكفر بترك أحد المباني الأربعة ، كالصلاة مثلاً فلا شك أنه يلزمه أن يكفر بترك جنس العمل ، وكذا من يكفر بترك الزكاة والصيام والحج ، أما وإني لا أكفر بترك أحد هذه المباني الأربعة ، فبأي شيء أكفر تارك جنس العمل .
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال : إنه لا تلازم أبداً بين عدم التكفير بترك المباني الأربعة ، وعدم التكفير بترك جنس العمل ،كيف لا ؟ وهذا هو الشافعي وهو ممن يرى عدم التكفير بترك أحد المباني الأربعة ، يرى في الوقت نفسه تكفير تارك جنس العمل بل وينقل الإجماع عليه . إذ إن القول بتكفير تارك جنس العمل ليس مبنياً أصلاً على القول بتكفير تارك المباني الأربعة ، فالقول بكفر تارك أحد المباني الأربعة له أدلته المنفصلة عن القول بتكفير تارك جنس العمل .(1/16)
وقد يقول قائل منهم : إن لم أكفر بترك المباني الأربعة مجتمعة ، فتركي للتكفير بترك ما دونها من باب أولى .
والجواب : أن التكفير بترك جنس العمل ، ليس تكفيراً بترك ما دون المباني الأربعة ، بل هو تكفير بترك المباني الأربعة وغيرها من الأعمال ، وفرق بين هذا وهذا ، فتنبه.
ثانياً : فهمهم الخاطئ لبعض عبارات السلف رحمهم الله ، وحملهم إياها على القول بعدم التكفير بترك جنس العمل .
ومن ذلك : ما يردده كثير من أهل السنة من أن أصل الإيمان في القلب ، وعمل الجوارح فرع عنه ، ففهموا من ذلك أن الأصل قد يوجد مع عدم وجود الفرع . وإليك كلام بعض أهل السنة في ذلك ، ثم يأتي الجواب عليه بحول الله وقوته :
أ- قال ابن مندة : وقال أهل الجماعة : الإيمان هو الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، غير أن له أصلاً وفرعاً ، فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه ، وبما جاء من عنده بالقلب واللسان مع الخضوع له ، والحب له والخوف منه والتعظيم له ، مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة ، فإن أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان ولزمه اسمه وأحكامه ولا يكون مستكملاً له حتى يأتي بفرعه ، وفرعه المفترض عليه إتيان الفرائض واجتناب المحارم ا.هـ(1).
__________
(1) كتاب الإيمان .(1/17)
ب- وقال ابن تيمية : ثم هو – أي الإيمان – في الكتاب بمعنيين : أصل ، وفرع واجب ، فالأصل الذي في القلب وراء العمل ، ... وهو مركب من أصل لا يتم بدونه ومن واجب ينقص بفواته نقصاً يستحق صاحبه العقوبة ، ومن مستحب يفوت بفواته علو الدرجة ، فالناس فيه ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات ... ، فمن أجزائه ما إذا ذهب نقص عن الأكمل ، ومنه ما نقص عن الكمال ، وهو ترك الواجبات أو فعل المحرمات ، ومنه ما نقص ركنه وهو ترك الاعتقاد والقول ، الذي يزعم المرجئة والجهمية أنه مسمى فقط ، وبهذا تزول شبهات الفرق ، وأصله القلب وكماله العمل الظاهر ، بخلاف الإسلام فإن أصله الظاهر ، وكماله القلب . ا.هـ(1)1).
ففهم –أولئك من هذا الكلام وأمثاله – أن إيمان القلب قد يوجد مع انتفاء أعمال الجوارح ، ومعنى ذلك أن إيمان القلب قد يكون سبباً لعمل الجوارح ، مع إمكان وجود إيمان القلب دون إيمان الجوارح .
والجواب من أوجه :
الأول : أن ابن تيمية – رحمه الله – قد رد هذا الفهم ، وبين الفهم الصحيح لقول أهل السنة : أن أصل الإيمان في القلب ، وفرعه عمل الجوارح . فقال : وقول القائل الطاعات ثمرات التصديق الباطن يراد به شيئان ، يراد به أنها لوازم له ، فمتى وجد الإيمان الباطن وجدت ، وهذا مذهب السلف وأهل السنة . ويراد به أن الإيمان الباطن قد يكون سبباً وقد يكون الإيمان الباطن تاماً كاملاً وهي لم توجد ، وهذا قول المرجئة من الجهمية وغيرهم . ا.هـ(2)2) .
الثاني : أنه يستحيل قطعاً أن ينسب لابن تيمية القول بأن ترك جنس العمل ليس بكفر ، وذلك لأنه يرى أن ترك الصلاة كفر ، ومن لازم ذلك أن يكفر بترك جنس العمل .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 637 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 7 / 363 ) .(1/18)
الثالث : لو كان ابن تيمية يرى أن ترك جنس العمل ليس بكفر ، فكيف يقول ويقرر عقيدة التلازم بين الظاهر والباطن ؟! بل ويُلزِم مرجئة الفقهاء ويحتج عليهم بها فيقول : والمرجئة الذين قالوا : الإيمان تصديق القلب ، وقول اللسان ، والأعمال ليست منه ، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها ، ولم يكن قولهم مثل قول جهم ، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه ، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم ، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم ، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح فإنها لازمة لها . ا.هـ
ولو كانت أعمال الجوارح يمكن أن تنفك عن أعمال القلوب ، ولو عند ضعفها ، لكان هذا الإلزام غير لازم ، ولأجاب الخصم : لا ليست لازمة إذ يمكن أن توجد أعمال القلوب ، ولا توجد أعمال الجوارح ، وذلك عند ضعف أعمال القلوب .
الرابع : مما يزيد ذلك وضوحاً وبياناً أنه – رحمه الله – لما استدل على تلازم الظاهر بالباطن ، بحديث النعمان بن بشير " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد " الحديث ، واستشهد بقول أبي هريرة :" القلب ملك والأعضاء جنوده " عقب ذلك بقوله : قول أبي هريرة تقريب ، وقول النبي صلى الله عليه وسلَّم أحسن بياناً ، فإن الملك وإن كان صالحاً فالجند لهم اختيار قد يعصون به ملكهم وبالعكس ، فيكون فيهم صلاح مع فساده ، أو فساد مع صلاحه ، بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم :" إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد " ا.هـ(1).
فلو كان ابن تيمية يتصور وجود إيمان في القلب دون عمل للجوارح ، لما قال ذلك، ولكان المثال المنقول عن أبي هريرة مطابقاً ، لا تقريباً كما قال ابن تيمية .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 187 ) .(1/19)
الخامس - من الأجوبة على فهمهم الخاطئ لبعض عبارات السلف- أن يتصور المخالف: أنه لا تنافي بين أن يكون أصل الإيمان في القلب وفرعه عمل الجوارح ، وبين كونهما متلازمين ، فإذا وجد أحدهما وجد الآخر بحسب الأول ، فالإيمان المطلق لابد أن يقابله العمل المطلق ، ومطلق إيمان القلب لابد أن يقابله مطلق عمل الجوارح ، فهما بمثابة الروح مع حركة البدن ، فإن الروح هي الأصل ، والفرع هو حركة البدن ، فإذا وجدت الروح فلابد أن تكون حركة في البدن ، وإذا كانت هناك حركة في البدن دل ذلك على وجود الروح ، أما إذا زالت الروح لزم من ذلك زوال حركة البدن ولابد ، وإذا زالت حركة البدن مطلقاً لا قلبه ولا دماغه ولا دمائه ولا أطرافه دل ذلك قطعاً على زوال الروح .
وعليه فإن قول ابن مندة : " ولا يكون مستكملاً له حتى يأتي بفرعه ، وفرعه المفترض عليه إتيان الفرائض واجتناب المحارم "، لا ينافي أبداً كون العمل الظاهر من أركان الإيمان ، وكذا قول ابن تيمية - المتقدم - وكذا قوله : وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه ا.هـ(1).
لأن من استحضر أن ابن تيمية لا يمكن أن يقول بعدم كفر تارك جنس العمل ، علم أن مراده بقوله " وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه" ، إما نفي الوجود فيقابله عدم إيمان القلب وعبر عنه بقوله " دل على عدمه " وإما نفي للكمال الواجب فيقابله ضعف إيمان القلب والذي عبر عنه بقوله " أو دل على ضعفه " .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 644 ) .(1/20)
السادس : أن أهل السنة عندما يتكلمون في الإيمان فإنهم يردون في وقت واحد على فرقتين ضالتين ألا وهما : المرجئة والخوارج . فإذا جاء الكلام على بدعة الخوارج ، رأيتهم يقولون : إن ترك العمل لا يُخرج عن الملة ، وإنما يريدون بذلك أفراد العمل التي هي من جنس الذنوب ، ولذلك ينقلون الإجماع عليه ، ويريدون به الأفراد ، كالزنا والسرقة ، وترك شيء من الواجبات ، لأنهم لو أرادوا جنس العمل فكيف ينقلون إجماع السلف على أن تاركه لا يكفر ، ومنهم من يكفر بترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج . ومن ذلك قول ابن تيمية : ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر النزاع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي ... فهم يقولون – أي مرجئة الفقهاء – إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة ا.هـ(1)3) .
وقد رأيت بعضهم استدل بهذا النقل عنه ليثبت أن ابن تيمية لا يرى كفر تارك جنس العمل .
والجواب من وجوه :
1) أن ابن تيمية لا يمكن أن ينسب إليه هذا القول لما تقدم .
2) أن – ابن تيمية – نسب هذا القول إلى إجماع أهل السنة بقوله " كما تقوله الجماعة " . ومعلوم أن الخلاف في التكفير بالمباني الأربعة أشهر وأظهر من أن يخفى على مثل ابن تيمية ، لاسيما في هذا الموضع ، كيف لا ؟ وهو ممن يكفر بترك الصلاة . فعُلم من ذلك أن نقله لإجماع أهل السنة والجماعة إنما هو على عدم التكفير بترك أفراد الواجبات أو فعل المحرمات التي هي من جنس المعاصي ، لا كما تقول الخوارج بتكفير من وقع في واحد منها ، وبمثل هذا الجواب يجاب أيضاً عن كلام ابن مندة المتقدم .
3) أنه قرن مع ترك الفرائض فعل المحرمات ، ويبعد أن يقال : إن ابن تيمية يريد بها جميع المحرمات صغيرها وكبيرها ، بل الظاهر أنه يريد بعضها ، فكذلك الحال في ترك الفرائض فهو لا يريد ترك جميعها بل يريد ترك بعض أفرادها .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 297 ) .(1/21)
ثالثاً – من أسباب غلط من قال بهذا القول – : ظنهم أن النطق بالشهادتين عند الدخول في الإسلام كاف لإثبات قدر من الإيمان الباطن والذي يبقى مع صاحبه دهره كله إلى أن يموت .
وتصوروا أنهم بذلك لم يعطلوا عقيدة التلازم بين الظاهر والباطن ، وأنهم تخلصوا من إلزامنا لهم بهذا الأصل .
والجواب من أوجه : الأول : أن هذا يضاد ما تواتر عن أهل السنة والجماعة من أن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالجوارح والأركان .
الثاني : أن الإلزام لهم بتلازم الظاهر بالباطن قائم ، إذ لو كان في قلبه إيمان ، فما الذي يمنعه أن يظهر ذلك على جوارحه ، ولو بتكرار كلمة التوحيد مرة أخرى طوال حياته ، و دهره .قال ابن تيمية بعد أن ذكر حديث النعمان : فبين أن صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد ، فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح ،والقلب المؤمن صالح ، فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لا يكون قلبه مؤمناً . ا.هـ(1)1) .
فإن قال قائل : يلزمكم على هذا أن من نطق بالشهادتين للدخول في الإسلام ، لا يكون مسلماً حتى يعمل بجوارحه .
والجواب : أن هذا غير لازم ، ويكفي في ذلك نيته وعزمه على العمل عند الدخول في الإسلام ، فإن كلامنا على من ترك العمل الظاهر مطلقاً ، ولا يقال عن هذا الشخص إنه تارك للعمل حتى نلزم بتكفيره .
وهذا مثل من يقول بكفر تارك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج ، فإنه لا يلزمه هذا اللازم . والله أعلم .
رابعاً: -من أسباب غلط من قال بهذا القول – ظنهم أن إثبات التلازم بين الظاهر والباطن – عند أهل السنة – مقصور على صورة الإيمان التام ، دون أن يتعداه إلى صورة ضعف الإيمان أو زواله .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 14 / 120 ) .(1/22)
والذي حملهم على ذلك إنهم رأوا أهل السنة يقررون هذا الأصل عند ردهم لأصل المرجئة الفاسد ، ألا وهو : إمكان وجود إيمان تام في القلب دون أن يظهر موجَب ذلك على الجوارح ، فتوهموا أن إثبات التلازم بين الظاهر والباطن عند أهل السنة مقصور على هذه الصورة .
والجواب من أوجه :
الأول : هذا الفهم مسقط لعقيدة التلازم بين الظاهر والباطن ، ذلك أن من تصور انفكاك الظاهر عن الباطن حال ضعف إيمان القلب ، لزمه أن يتصور إمكان انفكاكهما حالة تمام إيمان القلب ولا فرق .
الثاني : أن في ذلك تخصيص لحديث النعمان بن بشير دون مُخصص ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال : "إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله " ، فكان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم –على قولهم – أن يقول : " إذا صلحت صلاحاً تاماً صلح الجسد " وهذا ما لم يتفوه به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالث : أن ابن تيمية – وهو رافع راية أهل السنة – لم يفهم هذا الفهم ، يدلك لذلك مايلي :
أ- إلزامه لمرجئة الفقهاء بعقيدة التلازم بين الظاهر والباطن ، وذلك ليقروا بأن الأعمال من الإيمان ، ولو كان يتصور انفكاكهما حالة ضعف الإيمان لما كان هذا الإلزام لهم لازماٌ ، كما مر معنا .
ب- تعقيبه على تمثيل أبي هريرة ، ولو كان يتصور انتفاء عمل الجوارح مع ثبوت الإيمان في القلب ولو كان ضعيفاً ، لما تعقبه ، وقد مضى بيان ذلك .(1/23)
ج- تصريحه في عدة مواطن من كتبه أن التلازم بين الظاهر والباطن لا ينفك أبداً ، سواء مع تمام الإيمان أو ضعفه ، ومن ذلك قوله : فتبين أن الأعمال الظاهرة الصالحة لا تكون ثمرة للإيمان الباطن ومعلولة له ، إلا إذا كان موجباً له ومقتضياً لها ، وحينئذ فالموجب لازم لموجبه والمعلول لازم لعلته ، وإذا نقصت الأعمال الظاهرة الواجبة كان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان ، فلا يتصور مع كمال الإيمان الواجب الذي في القلب أن تعدم الأعمال الظاهرة الواجبة ، بل يلزم من وجود هذا كاملاً ، وجود هذا كاملاً ، كما يلزم من نقص هذا ، نقص هذا. ا.هـ(1)
الفصل الرابع : علاقة مسألتي ترك الصلاة ، والحكم بغير ما أنزل الله بمسألة جنس العمل :
المبحث الأول : مسألة ترك الصلاة وعلاقتها بمسألة جنس العمل :
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 7 / 581 )(1/24)
قد وقع البعض في خطأ شنيع فوصف غير المكفر بترك الصلاة بأنه مرجئ ، أو دخلت عليه شبهة الإرجاء ، حيث جعل القول بعدم كفر تارك الصلاة مبنياً على القول بعدم الكفر بترك جنس العمل . وهذه من التهم التي منبعها إما الجهل أو الهوى – وكلاهما قد أضرا بالدين غاية الضرر – إذ كثر في كلام أئمة الدين السلفيين ، أن تارك الصلاة كسلاً من غير جحود ليس كافراً ، وبهذا قال بعض علماء المسلمين ، كالزهري ومالك والشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام ، فهذا ليس قولاً للمرجئة ، بل قول ثان لأهل السنة(1).
__________
(1) قال أبو بكر الإسماعيلي - في معرض ذكره اعتقاد أئمة الحديث -: واختلفوا في متعمدي ترك الصلاة المفروضة حتى يذهب وقتها من غير عذر فكفره جماعة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه قال : بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ، وتأول جماعة منهم بذلك من تركها جاحداً لها ا.هـ ( اعتقاد أئمة الحديث ص 65 – 66 ) . وقال أبو عثمان الصابوني : اختلف أهل الحديث في ترك المسلم صلاة الفرض متعمداً ، فكفره بذلك أحمد بن حنبل ، وجماعة من علماء السلف – ثم قال- وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف – رحمة الله عليهم أجمعين – إلى أنه لا يكفر ما دام معتقداً لوجوبها – ثم قال- وتأولوا الخبر : من ترك الصلاة جاحداً ا.هـ ( عقيدة السلف وأصحاب الحديث ص 125 – 126 ) . وقال المروزي : وكان ممن ذهب هذا المذهب – أي عدم كفر تارك الصلاة – من علماء أصحاب الحديث الشافعي – رضي الله عنه – وأصحابه : وأبو ثور وغيره ، وأبو عبيدة في موافقيهم -ثم ساق بإسناده هذا القول عن الزهري - ا.هـ ( كتاب تعظيم قدر الصلاة ( 2/ 956) ) ..ونقل الخلاف بين أهل السنة ابن المنذر في كتاب الإشراف (3 / 270 ) والبغوي في شرح السنة ( 2 / 179 ) وابن عبد البر كما في التمهيد ( 4/ 230- 231 ) والاستذكار ( 5 / 345، 610 ) ، وابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ( 7/ 371) ،وابن القيم في كتاب الصلاة ص 33 وغيرهم كثير.
تنبيهان / 1) اتهام من لا يكفر تارك الصلاة - كسلاً - بأنه مرجئ تهمة قديمة، وفرية غير جديدة، قد نطق بها بعض المبتدعة ، كما نقل السكسكي عن الطائفة المنصورية أنها سمت أهل السنة والجماعة مرجئة ؛ لقولها:إن تارك الصلاة إذا لم يكن جاحداً لوجوبها مسلم على الصحيح من المذهب . ويقولون : هذا يؤدي إلى أن الإيمان عندهم قول بلا عمل ا.هـ البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص95-96 .
2) أن الذين لا يكفرون تارك الصلاة كسلاً – من أهل السنة السلفيين – يرونه آثماً وعلى خطر عظيم ، وهذا ما لا يتفق ولا يجتمع مع مذهب المرجئة المبتدع إلا إذا اجتمع الضدان وارتفع النقيضان وهذا ما لا يكون ولا كان ، قال الألباني – رحمه الله - : ومما لا شك فيه أن التساهل بأداء ركن من هذه الأركان الأربعة العملية مما يعرض فاعل ذلك للوقوع في الكفر –ثم قال-فيخشى على من تهاون بالصلاة أن يموت على الكفر والعياذ بالله ا.هـ السلسلة الضعيفة (1/212 –213) . بل إنهم يصفون تركه بالكفر الأصغر كما فعل الألباني في رسالة حكم تارك الصلاة ص44 ، ص55.(1/25)
إلا أنه يتنبه أنه إذا قيل لرجل : صل فلم يصل-مع إمكانه ولامانع- حتى لو وضع تحت السيف، رضي بالقتل على ألا يصلي فإن مثل هذا كافر بالاتفاق(1).
ومن لم يكفره دخلت عليه شبهة الإرجاء(2)، وهذا ليس خاصاً بالصلاة ، بل وأيضاً في باقي أمور الدين ، كما لو آثر القتل على النطق بشهادة أن محمداً رسول الله وهكذا(3)
المبحث الثاني : مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وعلاقتها بمسألة جنس العمل :
__________
(1) قال ابن تيمية : ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ، ولا ملتزماً بفعلها ، وهذا كافر باتفاق المسلمين ، كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا ا.هـ مجموع الفتاوى ( 22/ 48 ) . وذكر ابن القيم أن الكتاب والسنة وإجماع الصحابة على كفر مثل هذا . ( كتاب الصلاة ص 63 ) .
(2) قال ابن تيمية : فهذا موضع ينبغي تدبره فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب ، وعلم أن من قال من الفقهاء أنه إذا أقر بالوجوب ، وامتنع عن الفعل لا يقتل ، أو يقتل مع إسلامه ، فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية ا.هـ مجموع الفتاوى ( 7 / 616 ، 219 ).
(3) قال ابن تيمية : ونظير هذا لو قيل : إن رجلاً من أهل السنة قيل له : ترض عن أبي بكر وعمر ، فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاده فضلهما ، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما ، فهذا لا يقع قط ، وكذلك لو قيل : إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلَّم باطناً وظاهراً وقد طلب منه ذلك ، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها ، فامتنع منها حتى قتل ، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله ... ا.هـ مجموع الفتاوى ( 7 / 219 ) .(1/26)
وكذلك في هذه المسألة أخطأ بعضهم لما وصف قول الذين لا يكفرون بالحكم بغير ما أنزل الله إلا إذا استحل ؛ بأنه قول المرجئة الضالة حيث جعل القول بعدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله مبنياً على القول بعدم الكفر بترك جنس العمل .
وخطؤه راجع لأمرين :
الأول : أنه لا تلازم بين القول بعدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله وبين القول بعدم كفر من ترك جنس العمل ، إذ إن الحكم بما أنزل الله من العمل وليس هو جنس العمل .
الثاني : أن – عدم التكفير بترك الحكم بما أنزل الله دون استحلال – قول أهل السنة(1)
__________
(1) قال ابن عباس : -في تفسير قوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } "هي به كفر ، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر " أخرجه المروزي وإسناده صحيح . وقال طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة . أخرجه المروزي وإسناده صحيح . وقال عطاء بن أبي رباح : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، فسق دون فسق . أخرجه المروزي بإسناد صحيح .
ونص الإمام أحمد على أنه كفر لا ينقل من الملة ( مسائل ابن هاني ( 2/ 192) ) وبهذا قال أبو عبيد القاسم بن سلام كما في كتاب الإيمان ص 45 . فدلت هذه الأقوال على أن مجرد الفعل ليس كفراً أكبر، فمن ثم صار الحكم بغير ما أنزل الله كالقتل الذي وصف بأنه كفر في قول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم :"وقتاله كفر " والمراد هنا كفر أصغر ، ولا يكون كفراً أكبر إلا إذا احتف به اعتقاد كفري كالاستحلال مثلاً . وقال ابن تيمية : والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه ، أو بدل الشرع المجمع عليه ، كان كافراً مرتداً، باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله ا.هـ مجموع الفتاوى (3/ 267) ، وقال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن : وإنما يحرم التحكيم إذا كان المستند إلى شريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة ، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهواؤهم ، وكذلك سوالف البادية وعاداتهم الجارية . فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها فهو كافر قال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين : أن الكفر المراد هنا كفر دون الكفر الأكبر ، = = لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله ، وهو غير مستحل لذلك ، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل ، وأن كفره مخرج عن الملة ا.هـ ( منهاج التأسيس والتقديس ص71) . وقالت اللجنة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية : لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كفر أكبر ، وظلم أكبر ، وفسق أكبر يخرج من الملة ا.هـ فتوى رقم ( 5741) المفتون : الرئيس / سماحة الشيخ ابن باز ، ونائبه / عبد الرزاق عفيفي ، وعضو / عبد الله الغديان .
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – اطلعت على الجواب المفيد القيم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – وفقه الله – المنشور في جريدة الشرق الأوسط وصحيفة المسلمون الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل ، فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيه الحق ، وسلك سبيل المؤمنين ،وأوضح – وفقه الله – أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه ... ا.هـ جريدة الشرق الأوسط عدد ( 6156) تاريخ ( 12/ 5/ 1416هـ ) فهذه كلمات أهل العلم متواترة على أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر ، وأنه لا يكفر بمجرد الفعل ، ولم يفرقوا بين كثير ولا قليل ولو كان ثمة فرق – عندهم - لأبانوا .(1/27)
وتنبه – أخي القارئ – أن هناك فرقاً بين عدم ترجيحك لهذا القول ، وبين وصفه قولاً للمرجئة دون أهل السنة.
فليتق الله امرؤ مِن وصْفِ هذا القول بأنه قول المرجئة ، وليتذكر يوماً قال الله فيه : ( أين المفر ، كلا لا وزر ، إلى ربك يومئذ المستقر ، ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ، بل الإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره ) .
الخاتمة.
أحب أن أختم هذه الرسالة بكلمتين :
الأولى : لمن تلبس بهذا القول ، المخالف لدلالة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، تعلقاً ببعض الأدلة المشتبهة – والتي استدل بها حتى غلاة المرجئة على مذهبهم الفاسد – والأقوال المحتملة عن بعض السلف رحمهم الله .(1/28)
وهي ما قاله الشاطبي : إنك لا تجد مبتدعاً ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي ، فينزله على ما وافق عقله وشهوته ، وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها ، قال تعالى : ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ) وقال : ( كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح ، والقليل منها لا الكثير ، وهو أدل دليل على اتباع الهوى ، فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره ، فهو الحق ، فإن جاء على ما ظاهره الخلاف ، فهو النادر والقليل ، فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير ، والمتشابه إلى الواضح . غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه ، فهو في تيه من حيث يظن أنه على الطريق ، بخلاف غير المبتدع ، فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه ، وأخر هواه – إن كان – فجعله بالتبع(1)، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في الطلب الذي بحث عنه ، فوجد الجادّة ، وما شذّ له عن ذلك ، فإما أن يرده إليه ، وإما أن يكله إلى عالمه ، ولا يتكلف البحث عن تأويله . وفيصل القضية بينهما قوله تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) ا.هـ(2).
الثانية : وهي لمن قال بقول أهل السنة في هذا الباب ، وخاض ورد على المخالف ثبتنا الله جميعاً على الحق ، فأقول له :
__________
(1) وهذا هو الظن بإخواننا هداهم الله إلى الصراط المستقيم .
(2) الاعتصام ( 1 / 177 ) .(1/29)
أولاً : إياك إياك – أيها المبارك – أن تتخذ الكلام في هذه المسألة ذريعة للتشفي وتصفية الحسابات – إن صح التعبير – بل ليكن همك هو إظهار الحق ، فإن من كان هذا همه فهو ما بين أجر وأجرين ، أما من كان قصده ونيته التشفي ، ومحاولة إسقاط الخصم – لحاجة في نفسه يعلمها الله – فوالله لو نطق بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلَّم فهو مأزور غير مأجور ، وليعلم أن ما ناله من عاجل هذه الدنيا من شهرة أو صيت ، لن يغني عنه من الله شيئاً يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم .
ثانياً : إننا ننتظر منك - أيها الغيور على عقيدتك – أن تتواصل هذه الغيرة ، فتقف في وجه كل المخالفين لطريقة السلف الصالح ، وترد عليهم ، فعجل فنحن ننتظر ردك .
ننتظر ردك – أيها المبارك – على من جعل مذهب السلف في الصفات شر المذاهب - ألا وهو مذهب التفويض - وميع الدين حتى جعل عداء المسلمين مع اليهود إنما هو من أجل الأرض لا من أجل الدين(1).
وننتظر ردك على من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مما قال في حق معاوية خال المؤمنين وعمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين – والله حسيبه – قال : إن معاوية وعمراً لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب ، ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح وهو مقيد بأخلاقه في اختيار وسائل الصراع ، وحين يركن معاوية وزميله إلى الغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم ، لا يملك عليٌ أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل ... (2).
__________
(1) كماقال حسن البنا وأتباعه،انظر كتاب مجموعة رسائل حسن البنا (498)وكتاب الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ(1/409).
(2) قال ذلك سيد قطب في كتابه كتب وشخصيات(242)،وقد رد عليه الأديب محمود شاكر،فماذا كان جواب سيد؟ابحث وسترى العجب.(1/30)
وننتظر ردك على من قال في حديث الذبابة : إنه أمر طبي يأخذ فيه بقول الطبيب الكافر ولا يأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من تخصصه(1).
والله يحفظك ويرعاك ردأ للإسلام ، وذخراً للمسلمين ، وأستودعك الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
تم الفراغ منه في صبيحة يوم الخميس
6 / 8 / 1421 هـ
والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً
كتبه
حمد بن عبد العزيز بن حمد ابن عتيق
الفهارس.
الفصل الأول : أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة . ... 1
الفصل الثاني : التلازم بين الظاهر والباطن اعتقاد أهل السنة . ... 2
الفصل الثالث : ترك جنس العمل كفر أكبر . ... 4
المبحث الأول : صورة المسألة . ... 4
المبحث الثاني : الأدلة على أن ترك جنس العمل كفر . ... 5
تنبيه مهم حول دلالة حديث النعمان بن بشير . ... 5
المبحث الثالث : الأدلة التي استدل بها من قال إن ترك جنس العمل ليس بكفر والجواب عنها . ... 7
الأدلة التي فيها أن الله لا يغفر الشرك والكفر الأكبرين ويغفر ما دون ذلك . ... 7
الأدلة التي فيها دخول الجنة لمن لم يعمل خيراً قط . ... 7
الأدلة التي فيها الاكتفاء بالشهادتين للنجاة يوم القيامة . ... 8
المبحث الرابع : سبب الخطأ ، ومنشأ الغلط عند من قال : إن ترك جنس العمل ليس بكفر . ... 10
أولاً : ظنهم التلازم بين عدم التكفير بترك المباني الأربعة وعدم التكفير بترك جنس العمل . ... 10
ثانياً : فهمهم الخاطئ لبعض عبارات السلف رحمهم الله . ... 11
ثالثاً : ظنهم أن النطق بالشهادتين عند الدخول في الإسلام كاف لإثبات قدر من الإيمان الباطن والذي يبقى مع صاحبه دهره كله إلى أن يموت . ... 13
رابعاً: ظنهم أن إثبات التلازم بين الظاهر والباطن – عند أهل السنة – مقصور على صورة الإيمان التام ، دون أن يتعداه إلى صورة ضعف الإيمان أو زواله . ... 14
__________
(1) قال ذلك حسن الترابي انضر كتاب الرد القويم (14) وسترى غيرها من البلايا .(1/31)
الفصل الرابع : علاقة مسألتي ترك الصلاة ، والحكم بغير ما أنزل الله بمسألة جنس العمل . ... 15
المبحث الأول : مسألة ترك الصلاة وعلاقتها بمسألة جنس العمل . ... 15
المبحث الثاني : مسألة الحكم بغير ما أنزل الله وعلاقتها بمسألة جنس العمل . ... 16
الخاتمة . ... 18(1/32)