تعريف المسترشد حكم الغراس في المسجد
تحقيق: بشير عبد الغني بركات- القدس
تضم مكتبة دار إسعاف النشاشيبي في القدس مخطوطا نادرا بعنوان "تعريف المسترشد حكم الغراس في المسجد". ويدور موضوعه حول غرس الأشجار في المسجد الأقصى، حيث كانت المسألة مثار جدل خلال إقامة المؤلف في القدس. وقد رأينا عرضه لأهميته في دراسة غرس الأشجار الذي استمر في أرض المسجد عبر العهد العثماني وحتى عصرنا الحاضر. ولعله يحفز بعض الزملاء لإجراء دراسة أشمل حول الموضوع.
المؤلف
هو شمس الدين محمد بن محمد الحنفي الماضي، ويعرف بابن أمير حاج أو بابن الموقت. ترجم له السيوطي في نظم العقيان ووصفه بـ (عالم البلاد الحلبية)(1). كما ترجم له السخاوي في الضوء اللامع، والنجم الغزي في الكواكب السائرة وفي ديوان الاسلام.
ولد في حلب عام 825هـ/1442م ونشأ بها. وقد حفظ القرآن الكريم وتلقى علوم الشرع واللغة في مسقط رأسه ثم في حماة والقاهرة، حيث تتلمذ على كثير من العلماء. وأدى فريضة الحج أكثر من مرة، كانت آخرها في عام 878هـ/1474م حيث جاور بمكة المكرمة بنية الاستقرار بها. لكنه واجه فيها خصوما، فعزم على الاستقرار ببيت المقدس فسافر إليها، لكنه وجد بها أيضا من لا يرضون بفتاواه، ومنها ما ورد في المخطوط قيد البحث.
وهكذا قرر العودة إلى مسقط رأسه حلب بعد شهرين، حيث رأى أن رعاية جانبه في بلده ستكون أكثر. ولكن المرض عاجله في حلب فتوفي في 19 رجب 879هـ/1474م بعد إصابته بمرض لم يمهله أكثر من شهرين.
ومن التصانيف الأخرى التي نسبت إليه: شرح المختار لابن مودود الموصلي في فروع الفقه الحنفي، وداعي منار البيان لجامع التسكين بالقرآن، وذخيرة القصر في تفسير سورة العصر، والتقرير والتحبير في شرح التحرير لابن همام.
صفة المخطوط
__________
(1) نظم العقيان في أعيان الاعيان، 161.(1/1)
هو مخطوط صغير الحجم يقع في الأوراق 350أ- 352أ من المجموع رقم 31م. وقد نسخه عبد الحافظ بن مكية النابلسي عام 1004هـ/1596م بخط نسخي عثماني. ولم أعثر على نسخة أخرى منه في فهارس المكتبات الأخرى المتوفرة لدي. وعليه تمليك باسم هبة الله بن عبد الغفار المفتي بالقدس الشريف، ومحمد حميد ابن المولى أحمد سنة 1175هـ/ 1762م، والشيخ فخر الدين المعري أحد أجداد عائلة عويضة.
نص المخطوط
تعريف المسترشد حكم الغراس في المسجد
هل يجوز إحداث غرس الأشجار في المسجد ولا سيما مع التهافت عليه والاستكثار منه ولا ضرورة تدعو إليه، من كون المسجد ذا نز(1)لا تثبت أسطواناته إلا بذلك؟ وهل يفرق في ذلك بين الواسع والضيق، وبين أن يكون ذلك المحل من المسجد قد لا يصلى فيه لسعته وبين أن لا يكون كذلك؟ وإذا قلتم بعدم جواز إحداث ذلك فيه، هل يبقى أو يقلع؟
الجواب: لا يجوز إحداث غرس الأشجار في المسجد إذا لم تكن الضرورة المذكورة موجودة فيه، وخصوصا إذا تهافت الناس عليه واستكثروا منه. ولا فرق في عدم جواز إحداثه فيه بين أن يكون ضيقا وواسعا، وبين أن يكون محله قد لا يصلى فيه لقلة جماعته ونحو ذلك وبين أن يكون محله يصلى فيه دائما أو غالبا. وإذا أحدث فيه يقلع. والوجه في ذلك كله أظهر للمتأمل في القواعد الشرعية، فإن من المعلوم عند أهل العلم أن البقعة إذا صارت مسجدا لله تعالى صار كل جزء منها له حكم المسجدية من غير تفرقة بين كونها واسعة أو ضيقة وبين كون سعتها بحيث قد يستغني الناس عن إيقاع [كذا] الصلاة في ذلك المحل منها وبين أن لا يكون كذلك.
__________
(1) قال في لسان العرب، 5: 416: (النز ما تحلّب من الأرض من الماء).(1/2)
والحكم الثابت لكون البقعة مسجدا هو خلوصها لله تعالى وكونها محلا للعبادة من صلاة أو اعتكاف أو اقتداء بإمام فيها تباعد ما بينه وبين المقتدين تباعدا لو كان في غير المسجد لم يجز الاقتداء به، ونحو ذلك. ومن المعلوم أنه ما دامت المسجدية قائمة كان هذا الحكم ثابتا لها وأنه لا يجوز إبطاله. والغرس في جزء من المسجد كائنا ما كان إبطالٌ لهذا الحكم فيه، ولا يجوز. وإذا لم يجز إحداث الغراس لا يجوز إبقاؤه لقوله صلى الله عليه وسلم: ليس لعرق ظالم حق؛ أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن غريب. لأن الظلم وضع الشيء في غير محله، وهذا كذلك كما بينا.
ولما تقرر من الأصل الذي لا يعلم له مخالف من أن كل صفة منافية بحكم يستوي فيه الابتداء والبقاء، كالمحرمية في باب النكاح كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاؤه ولو كان عارضه عليه بعد ثبوته، ألا ترى لو كان الزوج صغيرا أو كبيرا فمكنت الزوجة ابن زوجها من نفسها ارتفع النكاح في كل من هاتين الصورتين بعد ثبوته؟ أما في الأولى فبالاجماع وأما في الثانية فعند أصحابنا ومن وافقهم خلاف الشافعي ومن وافقه نعم، اللهم إلا أن يخرج شيء من هذا بالنص، كبقاء الصلاة في حق من سبقه الحدث حتى جاز له البناء، كما هو قول أصحابنا للنص الوارد في ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم، رواه ابن ماجة وغيره. ولا نص هنا على جواز البقاء مع صفة المسجدية، فيقلع.(1/3)
تنبيه: وما ذكره غير واحد من المشايخ من أنه لو غرس شجرة في المسجد للمسجد فهي للمسجد أو ثمرتها للمسجد ونحو هذا من العبارات المفيدة لهذا المعنى، لا يفيد أنه يحل غرس الاشجار فيه من غير حاجة شرعية وأنه يحل إبقاؤها فيه كذلك، وإنما هو لإفادة هذا الحكم له لو وقع. ولا يلزم من مجرد الوقوع الحل الشرعي له، إذ ليس كل واقع حلالا، وكم في الفروع من نظائر له، كإعطاء حكم الزيادة المتولدة من العين المغصوبة إذا أدى قيمة العين الغاصب أنها له أو لمالك العين الأول، فإنه لا يستدل على أن الغصب حلال، إلى غير ذلك مما يطول تعداده.
على أنه لو سلم إشعار المذكور يحل الإبقاء في الجملة، فليحمل المذكور على الواقع الجائز بأن كان في مسجد ذي نز والاسطوانات لا تثبت إلا بذلك فإن الغرس بهذا يخرج عن الحظر ابتداء [؟] لأنه من باب عمارة المسجد، وتلك الاشجار لا تخرج عن كونها زيادة في أسطوانات له محتاج إليها، فلا يمسه النص المذكور ولا القاعدة الشائعة جميعا بين إشارة كلامهم وصريح عبارتهم، إذ هو أولى من إبطال أحدهما، على أنه لو ذهب ذاهب إلى قيام التعارض مع عدم تأتي الجمع بينهما كما ذكرنا لقِدم عدم الجواز على الجواز، لِما عرف في الأصول من تقديم العبارة، وهي هنا عدم الجواز، على الاشارة وهي هنا الجواز، وخصوصا في هذه المسئلة، فإن العبارة على وفق يقتضي الدليل الشرعي بخلاف الإجارة.(1/4)
ثم مما أوضحناه من النص والقاعدة، عُرف أنه لا يقال: لم لا يجوز البقاء نظرا إلى ما يؤول إليه غرسها من انتفاع المسجد بثمرتها، وإن كان الإبتداء غير جائز، مع أن هذا في نفسه كلام فاسد الاعتبار، كما يعرفه من يعرف الاصول، فإن من المعلوم أن المسجد ما وضع للاستغلال، وأن فعل هذا مناف لوضعه شرعا. على أنه غير خاف بقليل تأمل، أن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى استغراق المسجد أو أكثره بالغرس، بواسطة كثرة نوادر الغارسين فيه، فيؤدي إبقاء ذلك فيه إلى جعله بستانا ونحوه. وما أظن أن أحدا من أئمة الدين يقول به.
ثم يلزم تعين هذا أنه إذا بنى بان في المسجد للمسجد ما يستغل منه، من نحو دكان، أنه يبقى فيه لهذا القصد، وأنه إذا أشغل شاغل بقعة منه بأمتعة ونحوها، أنه يبقي ذلك بأجرة مثلها، فإن كلا من هذه الأمور لا يجوز إحداثه ابتداء. وحيث جاز البقاء في الأول للانتفاع بالثمرة يجوز في هذين للانتفاع بالغلة، إذ المشاركة في الغلة توجب المشاركة في الحكم، بل يكون الجواب في هذين بطريق الأولى، فإن الثمرة موهمة الحصول في الشجرة بعد حين، فإن كثيرا من الأشجار لا تخرج الثمرة المعتبرة، وكثير منها إن أخرجها لا تخرج إلا بعد سنين. ثم بعد ذلك قد يطرأ فيها آفة من الآفات فيدخل هذا الوهم البعيد في حكم الفوات، بخلاف هذين وخصوصا الثاني منهما، وثبوت هذا الحكم فيها لا يقول به عاقل متشرع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تذييل: ومن العجب العجاب، ما فاه به وفيه بعض من أخطأ الصواب، وهجم على الإفتاء على مذهب الإمام أبي حنيفة مما لا يقوم به رواية عن أحد من الأصحاب ولا دراية عند أولي الألباب، فغضب من غير ما جرم عند العوام، زاعما جواز الغرس وحرمة القلع لعلة يرى أنه من روي البعض والإبرام، واستند في هذه الدعاوى إلى ما قدمناه في التنبيه.(1/5)
وقد أوضحنا فيه أن كلا من عدم جواز إحداث الغرس ومن عدم جواز إبقائه هو القول الوجيه، وإلى ما في خلاصة الفتاوى: غرس الأشجار في المسجد لا بأس به إذا كان فيه نفع للمسجد، بأن كان المسجد ذا نز والاسطوانات لا تستقر بدونها، وبدون هذا لا يجوز، انتهى. فصحف "ذا نز" بالذال المعجمة والنون والزاي المشددة أي صاحب "نزو"؛ في الصحاح النز والنذ ما يحلب من الارض من الماء، وقد نزت الارض: صارت ذات نز، انتهى؛ إلى داثر بالدال المهملة والثاء المثلثة والراء، أي خراب. فسجل على نفسه بأنه كما لم يفهم المعنى، قد صحف المبنى. ثم هذا مع قوله: والاسطوانات لا تستقر بدونها، في إفادة كون الضبط على ما ذكرناه وما له من المعنى من الوضوح، بحيث لا يخفى على من له مسحة من فهم معنى أصل التركيب العربي، كما هو وظيفة أدنى العوام.
ثم حيث كان اللفظ على ما ذكره من التصحيف، فالواقعة التي هي مثار ذكر هذه المسئلة، إنما هي في عامر آهل وهو المسجد الأقصى، ومن المعلوم أن ما يجوز في الخراب لا يلزم أن يجوز في العامر، وخصوصا إن خرج عن المسجدية بالدثور، كما هو أحد قولي العلماء فيه. ثم يا ليت شعري ما يصنع بقوله: وبدون هذا لا يجوز، فإنه نص مفيد في إفادة أنه إذا لم يكن داثر لا يجوز الغرس فيه كما هو الصواب، وفي إفادة أنه: إذا لم يكن خرابا لا يجوز الغرس فيه، على ما وقع من التصحيف، فكيف يستدل به على جواز الغرس إذا كان عامرا آهلا ليس بذي نز.(1/6)
وإن هذا لجدير بقول القائل: وكم من عائب قولا صحيحا، وآفته من الفهم السقيم. وبالمثل السائر: سكت ألفا وقال خلفا. اللهم أعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وتب علينا توبة نصوحا، إنك أنت التواب الرحيم، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه والباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، إنك سبحانك ذو الفضل العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1)
هذه المسئلة من كلام المرحوم شمس الدين محمد بن أمير حاج الحلبي ألّفها بالقدس الشريف في عَوده من الحج سنة تسع وسبعين وثمانماية. وقد سئل عن الغرس بالمسجد الاقصى، فأجاب بما ذكر، ووافقه الشيخ كمال الدين بن أبي شريف الشافعي(2)، وخالفهما بعض الحنفية حين لجأ إليه العوام لما استبشعوا القلع، معتمدا كلام صاحب الخلاصة مع ما احتوى عليه من التصحيف، ومن الشافعية من يقصد خلاف ابن أبي شريف.
تمت الفوائد بعون الله وكرمه وإحسانه وحسبنا الله ونعم الوكيل، في نهار الاربعاء عشرين ذي الحجة الحرام من شهور سنة أربع بعد الألف، على يد أفقر عباد رب البرية عبد الحافظ بن أحمد بن عبد الحافظ بن مكية النابلسي سكنا الحنفي مذهبا، غفر الله له ولوالديه ولمشايخه، ولمن كتبت هذه النسخة له ولجميع المسلمين أجمعين آمين.
__________
(1) لم يفلح ابن أمير حاج في إقناع أولي الأمر برأيه، فعاد إلى حلب، وما زالت الأشجار قائمة في المسجد.
(2) كمال الدين محمد بن محمد ابن أبي شريف (822-906هـ/1419-1501م). ولد في القدس. تلقى العلم على كبار مشايخ عصره في القدس والقاهرة. تولى مشيخة المدرستين الصلاحية والأشرفية، والتدريس في المسجد الأقصى والخانقاة الصلاحية.(1/7)