الحلقة الأولى
المقدمة: فكرة شائعة:
هناك فكرة رائجة تذهب إلى أن نصيب العلوم السياسية عند المسلمين نصيب ضئيل، وأن الفقه السياسي الإسلامي لم يتطور بالقدر الذي تطورت به بقية شُعَب الفقه الأخرى، فهو ليس غنياً غناها ولا شاملاً وافياً مثلها. فكتبه قليلةٌ نادرةٌ، ومباحثه قاصرة على مسائل محدودة. وهو في جلّته لا يفي بحاجات الدولة المعاصرة ووظائفها المتعددة.
ويعبر عن هذه الفكرة أحد الكتاب فيقول:
(من الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسية فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الأخرى أسوأ حظ، وأن وجودها بينهم كان أضعف وجود. فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً، ولا نعرف لهم بحثاً في شي من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة، اللهم إلا قليلاً لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون) [1].
وقد يبدو هذا الرأي للوهلة الأولى عل درجة كبيرة من الصحة. ومما ساعد على التسليم بهذه المقولة لدى الكثيرين بادئ الرأي أن معرفتهم بكتب الفقه السياسي لا تزيد على كتب قليلة مثل الأحكام السلطانية للماوردي، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وقليل غيرها. ويزداد المرء قبولاً لهذا الرأي إذا توجه بنظره إلى تاريخ الفكر السياسي في الغرب. فهناك مفكرون معروفون، وأسماء لامعة كثيرة وكتب مشهورة وقد أصبحت العلوم السياسية في الغرب منذ زمن ليس بالقليل فرعاً مستقلاً للمعرفة، وله كلياته وأقسامه، وفيه باحثون وخبراء ومتخصصون يحملون أعلى الألقاب العلمية. ونريد في الصفحات التالية أن نسبر غور هذه الفكرة ونتحقق من مدى صدقها وصحتها، وذلك بالبحث في الفقه الإسلامي عن تلك الدراسات التي يمكن تصنيفها تحت عنوان - علم السياسة - وننظر في قيمة تلك الدراسات وسعتها وعمقها وفائدتها.
موضوعات علم السياسة:(1/1)
من الضروري لتحديد مكانة السياسة في العلوم الإسلامية أن نلم بالمقصود من مصطلح علم السياسة. يعرف علم السياسة عموماً بأنه علم الدولة. فهو العلم الذي يبحث في الدولة وممارساتها السياسية ومؤسساتها وأشكالها ونظمها. ومن هذا يتبين أن أهم الموضوعات في علم السياسة تشمل الدولة مقوماتها ووظائفها، وتشمل الحكومة وأنواعها وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتشمل الرأي العام ومكوناته والجماعات والهيئات ذات الأثر في السلطة، كما تشمل العلاقات الدولية والقوانين التي تنظم هذه العلاقات [2].
هذه هي موضوعات علم السياسة بصفة عامة ومجملة فهل بحث الفقه الإسلامي هذه الموضوعات؟ وهل نجد مقابلاً لها في العلوم الإسلامية؟
صعوبات الدراسة:
للإجابة الدقيقة على هذا السؤال تواجه الباحث بعض المشاكل والصعاب [3].
1- أولى هذه الصعوبات، اختلاف المصطلحات: فلا شك أن المصطلحات المستعملة في علم السياسة اليوم لا وجود لها في الكتب الفقهية. فالمفهوم الحديث لكلمات مثل الدولة والحكومة والدستور والسيادة والفصل بين السلطات وحقوق الإنسان، وما إليها من مصطلحات القاموس السياسي لم تكن مستخدمة ولا معروفة عند علماء الإسلام.
ومن الجهة الأخرى فإن المصطلحات المستخدمة للتعبير عن المفاهيم السياسية عند المسلمين مصطلحات غريبة عن الذهن المعاصر، فمصطلحات مثل الإمامة والخلاقة والولاية، وإمارة الاستكفاء وإمارة الاستيلاء ووزارة التفويض والبيعة، والخراج والفيء والحدود والتعزير والحسبة وغيرها من المصطلحات ليست متداولة في لغة العصر، ومدلولاتها الحقيقية غامضة وتحتاج إلى شرح.(1/2)
2- الصعوبة الثانية: التي تواجه الباحث أن الموضوعات التي يضمها علم السياسة اليوم لا توجد في المصنفات الإسلامية مبحوثة في موضع واحد. بل إن هذه المباحث المتناثرة في مواضع مختلفة وتحت عناوين متعددة في كتب العقيدة والتفسير والحديث والفقه والسير والتاريخ والأدب، ولا ريب أن الناظر في الكتب التي حاولت جمع هذه المباحث وضمها بطريقة مستقلة لا يجد النظريات السياسية مبوبة مرتبة ومفصلة، بل قد يخيل إليه أن هذه الكتب تضم كثيراً من الحشو الذي لا صلة له بالسياسة.
3- الصعوبة الثالثة: أن هذه الكتب التي أفردت للبحث في مسائل السياسة تضم مباحث لا تمت بصلة إلى ما يعرف اليوم بعلم السياسة. فهذه الكتب تشمل النظام الإداري والمالي والقضائي بجانب النظام السياسي وتتحدث عن التشريعات الجنائية والمدنية بجانب التشريعات الدستورية والسياسية.
4- الصعوبة الرابعة: أن كثيراً من المبادئ الإسلامية والمصطلحات في القرآن والسنة وكتب الفقه لا يتصور أن لها صلة بالسياسة مع أنها في واقع الأمر تقرر مبادئ سياسية هامة. ولعل أظهر مثال لذلك كلمة الشهادة نفسها. فلا إله إلا الله التي تعلو به المآذن حتى في بلاد الكفر قد لا يدور بخلد أحد أن لها علاقة بالسياسة، مع أنها في حقيقة الأمر ليست مبدأ عقائدياً فحسب بل هي قاعدة دستورية وشعار سياسي.
التصور الإسلامي للسياسة:
ومع كل هذه الصعوبات فإن البحوث المتأنية والدراسات الشاملة تظهر أن كتباً ومؤلفات إسلامية كثيرة تحوي قدراً كبيرا من المباحث السياسية. ومن الممكن تقسيم هذه الكتب إلى أربع فئات تنبع من تصور الإسلام للسياسة. ففي حين أن الفكر الغربي الحديث يفصل فصلاً تاماً بين السياسة والدين وبين السياسة والأخلاق فإن الإسلام يجعل السياسة جزءاً من الدين، ويقيم الصلة وثيقة بين الأخلاق والسياسة، وتبعاً لذلك فقد عالج الإسلام السياسة من ثلاث زوايا:
الأولى: زاوية العقيدة(1/3)
والثانية: زاوية الفقه والقانون
والثالثة: زاوية الأخلاق
ولهذا فإننا نجد المباحث السياسية ضمن الدراسات العقدية، وضمن الدراسات الفقهية وضمن الدراسات الأخلاقية. وقد سجلت الدراسات التاريخية الممارسات العملية للسياسة. فهذه هي المجالات الأربعة التي ضمت المباحث السياسية في الإسلام.
ولا شك أن السياسة في أي مجتمع لها ارتباط وثيق بالمبادئ التي يؤمن بها المجتمع في تفسير ظواهر الكون ومكانة الإنسان فيه. والفلسفة السياسية هي أحد فروع الفكر السياسي في الغرب. وبمثل هذا الارتباط الوثيق بين الفلسفة والسياسة في الغرب وجدت صلة قوية بين السياسة والمبادئ العقائدية في الإسلام. بل كانت السياسة وقضية الإمامة على وجه التحديد أحد المحاور الأساسية للجدل بين الفرق الإسلامية التي ظهرت منذ منتصف القرن الأول الهجري. وهذا يفسر اهتمام رجال العقيدة والكلام والفلسفة بالسياسة وتناولهم لها في كتبهم.
وجدت السياسة عناية أيضاً عند الفقهاء، والعلاقة بين السياسة والفقه هي العلاقة ذاتها التي توجد اليوم بين السياسة والقانون. فالدستور وهو أعلى قانون في الدولة المعاصرة ما هو إلا تعبير عن المبادئ السياسية والفكر السياسي الذي تؤمن به الدولة. ولقد سعى الفقهاء لصياغة القواعد الهامة التي يقوم عليها الحكم، وتحديد وظائف الحكام ومؤهلاتهم، ووضع الحلول للمشكلات المختلفة التي نشأت من تطور الدولة الإسلامية.
أما الدراسات الأخلاقية فقد سعت لوضع قيم وآداب تحكم تصرفات رجال السلطة. وكانت هذه الدراسات تصاغ في شكل مواعظ ونصائح للخلفاء والملوك والسلاطين ومن دونهم من رجال الدولة. وهذه القيم الأخلاقية هي التي تجعل السياسة في الإسلام – في جانبها النظري على الأقل – نظيفة تقوم على الصدق والأمانة والعدل.(1/4)
وتضم الدراسات التاريخية الوثائق السياسية والإدارية للدولة الإسلامية منذ تأسيسها. وهذه الوثائق تشمل الخطب والرسائل والمعاهدات، وتسجل بدقة كل نشاط سياسي في المجتمع، سواء كان صادراً من رجال الدولة أو من المعارضين لها المتمردين عليها، وسواء كان في سياسة الدولة الخارجية في السلم والحرب. فهي بذلك ذات أهمية قصوى ومصدر رئيس من مصادر الدراسات السياسية، فبجانب الوقائع التاريخية فإننا نجد المبادئ السياسية والأحكام التنظيمية.
تطور علم السياسة في الإسلام:
إن تطور علم السياسة ذو صلة وثيقة بالتاريخ السياسي. ومن الممكن تبعاً لذلك تقسيم الأطوار التي مر بها هذا العلم إلى عصور موازية للحقب التاريخية التي ينقسم إليها تاريخ الإسلام السياسي. وهي العصر النبوي، وعصر الخلافة الراشدة، والعصر الأموي، والعصر العباسي، والعصور المتأخرة، ومنها العصر العثماني، ثم العصر الحديث. فالعصر النبوي وعصر الخلافة هو دور التأسيس والتأصيل ثم يأتي في العصر الأموي والعصر العباسي دور التدوين والاجتهاد. أما العصور المتأخرة فهي عصور التقليد والنقل. وفي العصر الحديث محاولات الإحياء والبعث.
ومن الممكن دراسة تطور علم السياسة خلال هذه العصور بهذا الترتيب. ومع ما لهذه الطريقة من مزاياها في إبراز الإنجازات التي تمت في كل عصر، والإضافات التي يضيفها كل عصر إلى جهود السابقين غير أن مثل هذه الدراسة تصلح إذا كانت الدراسات السياسية علماً مستقلاً واحداً. وقد سلف القول في بيان أن هذه الدراسات مبعثرة في عدد من الكتب، وتضمها شعب مختلفة من شعب العلوم الإسلامية. ولهذا رأيت تناول كل شعبة على حدة، ودراسة تطور المباحث السياسية التي تضمها. وهذا المقال يقتصر على تطور الفقه السياسي فقط، ونمهد لذلك بأصوله في القرآن والسنة.
مبادئ القرآن السياسية :(1/5)
أسس القرآن المبادئ والأصول التي تقوم عليها السياسة، وكثير من هذه الأسس قد جاء بيانها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وشروعه في تأسيس دولة فيها. وليس معنى هذا خلو العهد المكي من إشارات للسياسة، فقضية الألوهية وصفاتها وخصائصها التي ما انفك القرآن يعالجها منذ نزوله هي القضية الأولى في تصور الإسلام للسياسة. ومن المعروف في تاريخ القرآن أن مبادئه لم تعلن في وثيقة واحدة في يوم واحد، بل كانت تبين في فترات متتابعة تبعاً للمشكلات التي تنشأ. ومن الصعب حقاً أن يسجل المرء تسجيلاً دقيقاً التريث الزمني لنزول الآيات التي تحوي مبادئه السياسية. وقد تكون مثل هذه المحاولة قليلة الفائدة لأن التطور التاريخي للدولة في المدينة قد سجل بالتفصيل في كتب السيرة.
ونورد فيما يلي طائفة من هذه المبادئ السياسية التي أوضحتها بعض آيات القرآن [4] مع الإشارة بقدر الإمكان إلى الظروف والمرحلة التاريخية التي نزلت فيها.
1- اختصاص الألوهية بالحاكمية:
أكدت هذا المبدأ كثير من الآيات كقوله تعالى:-
أ – (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً) [النساء:60].
والنص فيما يبدو من النصوص المبكرة التي نزلت في السنوات الأولى من قيام دولة المدينة، حيث كان مجتمع المدينة يتكون من اليهود والمسلمين والمشركين. وقد نزل النص يؤكد أن الحاكمية لله تعالى وحده وذلك حين تخاصم رجل من المسلمين مع رجل من اليهود وذهبا لكاهن مشرك يقضي بينهما، وكان هذا الكاهن قاضياً في الجاهلية [5].
ب - ومن النصوص المشابهة لهذا النص في دلالته وظروفه قوله تعالى:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون .. فأولئك هم الظالمون .. فأولئك هم الفاسقون) [المائدة:44، 45، 47].(1/6)
(أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن حكماً لقوم يوقنون) [المائدة 50].
وهذه النصوص أيضاً نصوص مبكرة إذ أنها كانت تعقيباً على حادثة رجم الزانيين من اليهود [6] وقد كان قبل الإجلاء النهائي لليهود والذي حدث في السنة الخامسة للهجرة [7].
ج _ (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) [آل عمران:64].
وهذه الآية تبطل صفة التشريع التي كان يتمتع بها الأحبار الرهبان من دون الله، وقد ضمنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي وجهها إلى هرقل عظيم الروم يدعوه فيها إلى الإسلام. وكان نزولها في الفترة السابقة لفتح مكة [8].
2 - منزلة الرسول التشريعية:
ونختار ثلاثة نصوص لبيان هذا المبدأ نزلت كلها في المراحل الأولى من العهد المدني.
أ – (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) [الحشر:7].
وتاريخ هذا النص يرجع إلى السنة الرابعة من الهجرة إثر غزوة بني النضير [9].
ب – (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) [النساء:115].
والحادثة التي كانت سبباً لهذا النص كانت في السنوات الأولى من العهد المدني أيضاً [10].
ج – (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) إلى قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء: 64،65].
والروايات التي تذكر في سبب نزول هذا النص لا نستطيع منها أن نحدد تاريخ النص، وإن كانت الإشارة قد وردت بأن نزولها كان بعد بدر بسبب طعن أحد المسلمين في حكم قضى به الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه له بالمحاباة في حكمه [11].
3 - مبدأ الخلافة:
وردت كلمة خليفة في موضعين في القرآن الكريم:(1/7)
أ – (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [ص:26] وهو نص من العهد المكي.
ب – (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) [البقرة:30] وهو نص من العهد المدني وسورة البقرة من أوائل ما نزل بالمدينة [12].
4 - طاعة الدولة:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) [النساء:59].
ونزل هذا النص في أحد أمراء السرايا يبين الحدود بطاعة الدولة [13].
5 - مبدأ الشورى:
وهذا المبدأ الهام نجده في نصين:
أ – (وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [الشورى:38].
وهذا نص من العهد المكي حين كان المسلمون جماعة وحركة لم تصل إلى مرحلة الدولة. وقد جعل هذا النص الشورى صفة أساسية من صفات هذه الجماعة.
ب – (وشاورهم في الأمر) [آل عمران:159]. وهذا النص ورد في مرحلة متأخرة، فمن المرجح أن ذلك عقب غزوة أحد التي كانت في شوال في السنة الثالثة من الهجرة [14] لأنه في السياق الذي يعقب على حوادث هذه الغزوة. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم استشارهم أيخرج إلى أحد للقاء العدو خارج المدينة أم ينتظرهم ويقاتلهم في المدينة، فأشاروا عليه بالخروج فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون فوقعت الهزيمة [15] فجاء النص يؤكد على ممارسة الشورى وإن كانت نتائجها خاطئة في بعض الأحيان.
6 - مبدأ البيعة :
البيعة عقد بين الأمة والحاكم ومن النصوص الواردة في شأنها:
(يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) [الممتحنة:12].(1/8)
وقد كانت المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية يمتحن بهذه الشروط ويبايعن على الوفاء بها، حتى عرفت صيغة هذه البيعة باسم بيعة النساء [16].
7 - وظائف الدولة:
أ – (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) [الحج:41] وهذه الآية جزء من سياق أول آيات أنزلت بالإذن بالقتال.
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) [الحج:39] وقد جاء ذلك الإذن في بداية العهد المدني [17].
ب – (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) [الحديد:25] وهذا نص مدني.
ج – (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نِعِمّا يعظكم به، إن الله كان سميعاً بصيراً) [النساء:58]. ومن المعلوم أن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة مباشرة تأمر بدفع مفاتيح الكعبة لأحد الرجال الذين أسلموا وكانت هذه المفاتيح عند أسرته في الجاهلية [18] والآية تؤكد عموماً قاعدتي العدل والأمانة في تسيير الدولة واختيار رجالها.
8 - وضع الأقليات غير المسلمة والعلاقات الدولية :
أ – (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) [الممتحنة:1]. وهذا النص كان قبيل فتح مكة في قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل خطاباً لكفار مكة يخبرهم باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لغزوهم [19].
ب – (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) [الممتحنة:8]. وهذا النص تابع لسياق النص السابق وجاء في ظروفه نفسها.(1/9)
ج – (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء، إن الله عليم حكيم) [التوبة:28] وقد كان نزول هذه الآية في العام التاسع من الهجرة.
د – (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [التوبة:29]. وكان نزول هذه الآية عام تسع من الهجرة أيضاً.
و – (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) [التوبة:4]
(فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين)[التوبة:7] وهذه النصوص جزء من صدر سورة براءة ومن المعلوم أنها نزلت في السنة التاسعة من الهجرة وهي آخر ما نزل من السور.
كتب التفسير والسياسة :
وما دام القرآن هو المصدر الأول لكثير من المبادئ السياسية فإن كتب التفسير تصبح مرجعاً مهماً لبيان تلك المبادئ والتعليق عليها وبخاصة الكتب التي اهتمت بإبراز الأحكام الفقهية مثل كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للإمام القرطبي توفي 671 هـ.
نصوص الحديث السياسية :
الحديث هو المصدر الثاني من مصادر الفقه السياسي وهو بمثابة الشرح والتفصيل للمبادئ الأساسية التي جاءت في القرآن. وقد تضمنت كتب الحديث الرئيسية فصولاً مستقلة جمعت فيها نصوص الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة. وقد دونت تلك النصوص تحت عناوين مختلفة وبالنظر في هذه العناوين تتفتح لك الاتجاهات التي كانت سائدة بين المحدثين في عصور التدوين والمصطلحات المتداولة لمفهوم السياسة.(1/10)
ففي بعض هذه الكتب نجد مباحث السياسة مفردة تحت عنوان الإمارة، ويبحث بعضها مسائل الإمارة والقضاء في موضع واحد، ويجعل بعضها مباحث الإمارة جزءاً من مباحث الجهاد، ويضم بعضها مباحث الإمارة مع مباحث السياسة المالية مثل الخراج، وقد اهتم بعض هذه الكتب بمسألة جزئية من فقه السياسة وأفرد له فصلاً خاصاً وعنوانا مثل البيعة.
وواضح من هذه الاتجاهات الربط بين الدولة ووظائفها فمن نظر إلى وظيفتها القضائية جعلها ضمن مباحث القضاء، ومن نظر إلى وظيفتها العسكرية جعلها ضمن مباحث الجهاد، ومن نظر إلى وظيفتها الاقتصادية جعلها ضمن مباحث الدولة المالية. وسنرى هذه الاتجاهات ذاتها هي التي كانت سائدة في الدراسات الفقهية.
فالإمام البخاري (194-256هـ) جمع أحاديث الفقه السياسي تحت عنوان الأحكام، وكلمة أحكام تعني ما يصدر من الحاكم، ويعني به البخاري الخليفة والقاضي، ولهذا ذكر هنا ما يتعلق بالخلافة وبالقضاء من أحاديث زادت على مائة حديث [20]. ولا يعني هذا أن البخاري قد جمع كل الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة في هذا الموضع. بل إننا نجد موضوعات هامة في مواضع أخرى. فالشورى مثلاً ضمها في المباحث التي جعل عنوانها (الاعتصام بالكتاب والسنة)[21].
ولصحيح البخاري عدد كبير من الشروح من أشهرها شرح ابن حجر ( - 852هـ) واسمه، فتح الباري، وشرح العيني ( -855هـ ) واسمه، عمدة القارئ، ومن المعلوم أن البخاري قد وضع عناوين كتابه بنفسه، أما الإمام مسلم (206-261هـ ) فمع أنه قد جمع الأحاديث ورتبها حسب الموضوعات غير أنه لم يعطها عناوين من عنده وقد عنونها الإمام النووي في القرن السابع الهجري، وكتب شرحاً لصحيح مسلم هو من أحسن الشروح. وقد أعطى النووي الأحاديث الخاصة بمسائل السياسة عنوان ( كتاب الإمارة ) ونجد تحت هذا العنوان أحاديث خاصة بالجهاد [22].(1/11)
وجعل الإمام أبو داود (202-275 هـ) في سننه فصلاً بعنوان ( كتاب الخراج والإمارة والفئ) [23] وواضح من هذا العنوان أنه يربط بين الدولة ووظيفتها الاقتصادية. وهو أحد اتجاهات السائدة في مباحث الدولة في ذلك العصر.
وممن شرح سنن أبي داود الخطابي ( -388 هـ) ويكتسب شرحه أهمية خاصة لأنه من العصور الأولى والدراسات المبكرة.
وأما في سنن الإمام الترمذي (209-279هـ ) فنجد مباحث السياسة موزعة بين أبواب الأحكام والسير والجهاد [24] أي أنها متصلة بمباحث القضاء والجهاد.
ويضع الإمام ابن ماجة ( 207-273هـ) أحاديث الإمارة ضمن أبواب الجهاد [25]. أما الإمام النسائي فيتجه اتجاهاً مختلفاً إذ يفرد في سننه كتاباً مستقلاً عن البيعة [26] ويورد تحت هذا العنوان مسائل الدولة. ونجد هذا الصنيع نفسه في مؤلف الإمام مالك ( 93-173هـ) وهو من أوائل كتب الحديث، إلا أنه لم يورد في مبحث البيعة إلا ثلاثة أحاديث فقط [27].
هذه أهم كتب الأحاديث ولم يأت ذكر لمسند الإمام أحمد ( 164- 241هـ) لأن أحاديثه لم ترتب حسب الموضوعات
. ولا شك أن هناك مصنفات أخرى في الحديث تأتي في مرتبة أقل من هذه. ومن المعلوم أن في كتب الحديث قد تتكرر الأحاديث ويرد الحديث الواحد في أكثر من كتاب. ولهذا اتجهت بعض المصنفات إلى جمع الأحاديث المفرقة في أمهات هذه الكتب وللإمام ابن الأثير ( 544-606 هـ) موسوعة في هذا المجال أسمها (جامع الأصول) وقد جمع عدداً تحت مادة الخلافة في حرف الخاء.
******
[1] الإسلام وأصول الحكم علي عبد الرازق ص 67.
[2] أنظر: المدخل إلى علم السياسة – بطرس غالي ومحمد خيري – ص 3 و 7 وانظر دائرة المعارف البريطانية مادة: علم السياسة.
[3] أنظر: نظرية الإسلام وهديه في السياسة، أبو الأعلى المودودي، ص 240.
[4] جمع الأستاذ أبو الأعلى المودودي كثيراً من هذه الآيات في كتابه الخلافة والملك.
[5] تفسير ابن كثير 1/518.
[6] تفسير ابن كثير 1/28.(1/12)
[7] البداية والنهاية ابن كثير 4/166.
[8] البداية والنهاية ابن كثير 1/371.
[9] البداية والنهاية ابن كثير 4/74.
[10] هي حادثة سرقة ابن أبيرق درعاً وأخفاها عند يهودي، تفسير ابن كثير 1/550.
[11] تفسير ابن كثير 1/520.
[12] تفسير ابن كثير 1/517.
[13] تفسير ابن كثير 1/39.
[14] البداية والنهاية لابن كثير.
[15] تفسير ابن كثير 1/409.
[16] تفسير ابن كثير 4/352.
[17] تفسير ابن كثير 3/252، 262.
[18] تفسير ابن كثير 1/515.
[19] تفسير ابن كثير 4/344.
[20] فتح الباري لابن حجر 16/227.
[21] فتح الباري 17/102.
[22] أنظر صحيح مسلم بشرح النووي 12/199.
[23] سنن أبي داود 3/180.
[24] سنن الترمذي الجزء 2 و 3.
[25] سنن ابن ماجة 2/953 – 959.
[26] سنن النسائي 7/137.
[27] الموطأ 2/982.
[28] قام أحمد عبد الرحمن البنا بترتيب مسند الإمام أحمد حسب الأبواب وأسماه الفتح الرباني وجعل فيه كتابا للخلافة والإمارة، أنظر 4/23.
الحلقة الثانية
مبادئ الحديث السياسية:
إن أهم الموضوعات التي تعالجها نصوص الأحاديث التي تضمنتها الكتب السابقة يمكن إجمالها فيما يلي:
[1] نظام الخلافة : (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون ) البخاري ومسلم.
[2] مسئوليات الدولة:
أ - (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) البخاري الترمذي وأبوداود.
ب - (إن شر الرِّعاء الحطمة) مسلم.
ج – (أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدناهم منه مجلساً إمام عادل وأبغض الناس إلى الله تعالى وأبعدهم منه مجلساً إمام جائر) رواه الترمذي.
د - (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة) وأبوداود.
و - (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) البخاري ومسلم.(1/13)
ز - (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً[1] فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة) مسلم.
[3] الشورى:
(شاور النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج) البخاري.
[4] صفات الخليفة:
أ - (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين) البخاري.
ب - ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) البخاري.
ج - (إن رسول الله استخلف ابن أم مكتوم على المدينة مرتين ) البخاري.
[5] اختيار الخليفة:
أ - قال عمر بن الخطاب (من بايع رجلا من غير مشورة فلا يتابع هو ولا الذي بايعه) البخاري.
ب - (من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) مسلم.
ج - ( إنا لا نولي هذا العمل أحداً سأله أو أحداً حرص عليه) البخاري ومسلم.
د - ( لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها). البخاري ومسلم.
و - (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) مسلم.
[6] البيعة:
أ - (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى وإن لم يعطه لم يف له ) الترمذي.
ب - كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الملك بن مروان يبايعه ويقول ( أقر لك بالسمع والطاعة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعت) البخاري.
[7] اختيار الوزراء ورجال الدولة:
أ - ( إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ) أبوداود.
ب - ( ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله) البخاري.
[8] حقوق الدولة:
أ - (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله) البخاري.(1/14)
ب - ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ).
ج - (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا إن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) الجماعة إلا الموطأ.
[9] حقوق الرعايا:
أ - ( إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم ) أبوداود.
ب - خطب عمر بن الخطاب فقال في خطبته: (إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص :لو أن رجلاً أدب بعض رعيته أتقتصه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده، ألا أقصه ولقد رأيت رسول الله أقص من نفسه ) أبو داود.
نقد الحكومة وتغييرها:
أ - ( إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون إلا من كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع، قالوا : أفلا نقاتلهم؟ قال لا ما صلوا) مسلم.
ب – (أعيذك بالله يا كعب بن عُجرة من أمراء يكونون بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أولم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض) الترمذي.
ج - (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فسلحت رجلاً منهم سيفاً فلما رجع قال: لو رأيت ما لامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عجزتم إذ بعثت رجلاً فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري؟) أبو داود.
د - (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه من فارق الجامعة شبراً فمات فميتته جاهلية) البخاري ومسلم.
الدراسات الفقهية في السياسة:(1/15)
تأتي اجتهادات الخلفاء الراشدين الأربعة في المرتبة الثالثة في مصادر الفقه السياسي بعد القرآن والسنة خاصة تلك المسائل التي أجمع عليها الصحابة في ذلك العصر. وتتسم فترة الخلفاء الراشدين بصفات مميزة مما يجعلها تشكل النموذج الذي قام عليه بناء الفقه السياسي برمته. فمن خصائص هذا العصر أن اجتهادات الخلفاء كانت تصدر بطريقة جماعية شورية مع مالهم هم أنفسهم من قدم راسخة في الفقه والعلم، كما أن تلك الاجتهادات كانت تأخذ صفة القانون الذي يحكم شئون الدولة. وبزوال عهد الخلفاء الراشدين فقدت إلى حد كبير هاتان الميزتان، فاتجه الفقه بكل شعبه بما فيها الفقه السياسي إلى التطور على يد أفراد وليس على يد هيئة تشريعية شورية، كما أن قانون الدولة لم يكن كله خاضعاً لآراء الفقهاء.(1/16)
إن كثيراً من المبادئ السياسية العامة التي أرساها القرآن والسنة نجد لها تفصيلاً وشرحاً أوسع في عهد الخلفاء الراشدين، لقد تأسس في ذلك العهد نظام الخلافة، وتبلورت ممارسة الشورى في اختيار الخليفة وفي إدارة الحكم وفي التشريع. وتشكلت نظم مختلفة لتحقيق مهمة الدولة في إقامة العدل وحفظ الدين وتنفيذ غاياتها وأداء وظائفها القضائية والمالية والعسكرية. وفي الفترة التي تلت عصر الخلفاء الراشدين حدث تحول في نظام الحكم من خلافة على منهاج النبوة إلى ملكية. وشهدت تلك الفترة أيضاً نشأة الفرق المختلفة من شيعة وخوارج وغيرهم. وقد كان لهذين الحدثين أثرهما في الفقه السياسي، وقد شغل الفقه في ذلك العصر بثلاث مسائل هامة: الصورة الصحيحة لانعقاد الخلافة، وقضية البيعة، والخروج على الحاكم الفاسق الظالم. ولقد أسهم فقهاء التابعين ببيان وجهة النظر الصحيحة في هذه المشكلات. ومن أشهر من تصدى لذلك الحسن البصري ( توفي 110هـ) وسعيد بن المسيب توفي ( 92هـ) وسعيد بن جبير توفي(95هـ)[2]، ويأتي في قمة هؤلاء عمر بن عبد العزيز الذي أعادت إصلاحاته في نظام الخلافة إلى عهدها الراشد وأصبحت إصلاحاته مصدراً تشريعياً للفقه السياسي فيما بعد.
ومع هذه الجهود فقد ظلت مسائل الفقه السياسي منثورة حتى عهد أئمة الفقه الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، حيث بدأ الفقه كله طوراً جديداً، طور التدوين والتبويب والترتيب.
ونلحظ في تدوين الفقه السياسي اتجاهات أربعة:[3]
الاتجاه الأول: المزج بين مباحث الدولة وبين إحدى شعب الفقه الأخرى ذات الصلة بالدولة ويمثل هذا الاتجاه كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف ( 113 -182هـ) أكبر تلاميذ أبو حنيفة، وقد زاوج بين مباحث الخلافة ومباحث موارد الدولة المالية.(1/17)
الاتجاه الثاني: بحث مسائل الفقه السياسي ضمن مباحث الفقه العام وتمثل هذا الاتجاه مدونات المذاهب الفقهية الكبيرة ومن أوائل هذه المدونات كتاب الأم للشافعي ( توفي 204هـ)
الاتجاه الثالث: أفرد الفقه السياسي بالتأليف ومن أول الكتب في ذلك كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي ( توفي 450هـ) وقد اشتمل على كل النظم الخاصة بالدولة من سياسية ومالية وقضائية وعسكرية.
الاتجاه الرابع: بحث موضوع بعينه من موضوعات الفقه السياسي ومن أوائل الكتب في ذلك كتاب الأموال لمؤلفه أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة (224هـ) والكتاب في النظام المالي للدولة.
وفيما يلي قائمة بأهم المؤلفات القديمة في الفقه السياسي مرتبة حسب وفاة مؤلفيها:
*********
[1] الخراج – أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ( ت 182هـ )
[2] السير الكبير – محمد بن الحسن الشيباني ( ت 189 هـ)
[3] الخراج – يحى بن آدم القرشي (ت 204 هـ)
[4] الأموال أبو عبيد القاسم بن سلام ( ت 224 هـ)
[5] الأحكام السلطانية – علي بن محمد بن حبيب الماوردي ( ت 450هـ)
[6] قوانين الوزارة – الماوردي ( ت 450هـ)
[7] أدب القاضي – الماوردي ( ت 450 هـ)
[8] غياث الأمم – أبو المعالي الجويني إمام الحرمين ( ت 478هـ)
[9] نهاية الرتبة في طلب الحسبة – الشيزري ( ت 589هـ)
[10] العقد الفريد للملك السعيد – محمد بن طلحة القرشي ( ت 652هـ)
[11] السياسة الشرعية – ابن تيمية ( ت 728هـ)
[12] الحسبة في الإسلام – ابن تيمية ( ت 727 هـ)
[13] معالم القربة في أحكام الحسبة – ابن الأخوة ( ت 729هـ)
[14] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية – ابن القيم ( ت 751هـ)
[15] أحكام أهل الذمة – ابن القيم ( ت 751هـ)
[16] تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام – ابن فرحون المالكي( ت 799هـ)
[17] تحرير الإسلام في تدبير أهل الإسلام – عزالدين بن جماعة (ت 819 هـ)(1/18)
[18] معين الحكام فيما تردد بين الخصمين من الأحكام ( ت 824 هـ)
[18] لسان الحكام في معرفة الأحكام – ابن الشحنة ( ت 882 هـ)
ولا شك أن هذه الكتب كما يتضح من عناوين بعضها ليست قاصرة على النظام السياسي ولكنها اتجهت إلى الكتب المتخصصة في موضوعات ذات صلة بالنظام السياسي مثل النظام المالي أو النظام القضائي.
أشهر رجال الفقه وآثارهم :
[1] أبو يوسف وكتابه الخراج[4]:
هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، من سلالة أحد الصحابة، ولد عام 113 من الهجرة وتوفي عن سبع وستين سنة عام 182 هجرية. وكان موطنه الكوفة مركزاً علمياً مرموقاً، وقد تلقى العلم على أكابر أساتذة عصره، وكان من أنجب تلاميذ أبو حنيفة وأعلمهم وأكبرهم، وقام بتدوين فقهه ونشر مذهبه، وتولى القضاء في دولة بني العباس، واستحدث له هارون الرشيد منصب قاضي القضاة فاشتهر بحسن السيرة والعدل في قضائه، وكانت أهم أعماله في هذا المجال أنه استطاع توحيد الأمة على قانون واحد هو الفقه الحنفي وقضى على الفوضى القانونية التي كانت سائدة بسبب تأثيرات أهواء الحكام. ولما كان تعيين القضاة بيده فقد استطاع أن يختار قضاة صالحين من مدرسته الفقهية.
والكتاب الذي نحن بصدده هو كتابه (الخراج)[5] وكلمة خراج المقصود بها ضريبة الأرض ولكن أبو يوسف يستعملها هنا استعمالا عاما، وهو المعنى الشائع في ذلك العصر ويعني به إيرادات الدولة المالية ولكنه في الحقيقة يبحث كافة أمور الدولة تقريباً. وقد ألفه أبو يوسف بتكليف من الخليفة هارون الرشيد وهو بذلك يكتسب أهمية خاصة إذ هو بمثابة قانون يصدره قاضي القضاة للعمل به في كافة أقاليم الدولة.
وإذا تركنا جانباً موضوعاته الأخرى فإن أهم المبادئ التي يقدمها في تصوره للدولة ونظامها بطريقة موجزة هي:[6](1/19)
1 - يضع أبو يوسف حكومات الخلافة الراشدة نماذج تحتذى ويستدل بسوابقها القانونية ولا يعتد أبداً بنهج حكام بني أمية وبني العباس. وبهذا المبدأ يلغي عادات ومعاملات الحكومات التي لا تتفق مع الشريعة.
2 - يثبت أن للمسلمين نقد حكامهم نقداً حراً، وأن حرية النقد هذه خير للشعب والحكومة على السواء، وأن من حق المسلمين محاسبة الحاكم وسؤاله عن حقوقهم التي شرعها لهم الشارع ومساءلته عن أموالهم التي ائتمنوه عليها.
3 - يدعو إلى التزام المشروعية في نفقات خزانة الدولة - بيت المال - وينهى الحكام عن استخدام أموال الدولة في أغراضهم الشخصية وصرفها بغير وجه حق ويبين نظام الضرائب المشروعة.
4 - ويقرر مبادئ معاملة الأقليات غير المسلمة في الدولة - أهل الذمة- إذ أن المعاملة السخية النظيفة جعلت النصارى في عهد عمر أوفياء مخلصين للدولة ضد الرومان أبناء دينهم.
5 - يقول للرشيد أنه حرم عليه استعمال الظالمين والخائنين في حكومته ويعيد عليه النصح بأن يستوثق من أخلاق من يختارهم للعمل مثلما يستوثق من كفاءتهم وأن يبعث وراءهم من يحاسبهم إذا انحرفوا.
6 - ويقول عن القضاء أن واجبه الإنصاف وينبغي ألا يؤخذ أحد بشبهة، ويشير بضرورة إجراء تحقيق فيمن أودعوا السجون بلا اتهام ثابت، كما قدم مقترحات هامة في إصلاح نظام السجون.
(وقصارى القول أن الاقتراحات القانونية التي اقترحها أبو يوسف على حاكم مطلق السلطة بصفته وزير العدل وقاضي القضاة في حكومته إذا طابقناها على التصور الإسلامي الصحيح تبدو ناقصة من نواحٍ عديدة، ولكن هذا لا يعني أن تصور أبو يوسف للدولة هو ما جاء في تلك المقترحات، وإنما الحق أن ذلك هو مبلغ ما كان يتوقعه في الدولة العباسية. وبصفته مفكراًَ عملياً فلم يكن يرمي إلى مجرد تقديم خطة نظرية إنما كان يريد إعداد خطة قانونية أقل ما فيها أنها تحوي الجوهر المطلوب للدولة الإسلامية ويمكن إلى جانب هذا تنفيذها في تلك الظروف)[7].(1/20)
[1] الشيباني وكتابه (السير الكبير)[8]:
هو محمد بن الحسن الشيباني، ولد بواسط عام 132 هجرية، ونشأ بالكوفة وتتلمذ على أبي حنيفة، وكان لأبي حنيفة أثر كبير في تكوين ثقافته. واشتهرت مكانته العلمية حتى أنه ليعد ثاني أصحاب أبي حنيفة بعد أبي يوسف. تولى من المناصب الحكومية منصب القضاء مرتين وتوفي عام 189 هجرية.
وأكبر مآثر الشيباني أمران: الأول: كثرة إنتاجه الفقهي بل كان أكثر فقهاء القرن الثاني إنتاجاً ونشر بذلك المذهب الحنفي. الثاني: يعتبر كتابه المبسوط من أول المدونات الفقهية الشاملة. ولقد ألفت المدونات الفقهية التالية اقتفاء لأثره واتباعاً له.
ويعتبر كتابه السير الكبير من أجمع ما ألف في ما ألف في موضوعه منذ عهد مبكر. وكلمة سير هي جمع سيرة وهي من المصطلح الإسلامي لفقه العلاقات بين المسلمين وغيرهم في الحرب والسلم. ولقد كان المصدر الأول لهذا الفقه هو سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه ومغازيهم ومن هنا نشأ المصطلح. ولقد كانت مواد كتاب السير الكبير الأولية قد أملاها الإمام أبو حنيفة على تلاميذه ونقلها عنه الشيباني وصاغها صياغة أولى في كتابه السير الصغير ثم عاد ونقحها وزاد فيها زيادة كبيرة فكانت كتابه السير الكبير. وقد تناول في كتابه هذا مبادئ الإسلام في الأمور التالية:
1 - تنظيم العلاقة مع غير المسلمين في حالة السلم. وتشمل هذه ثلاث فئات: الأقليات غير المسلمة داخل الدولة الإسلامية، سواء كانت إقامتها دائمة ( أهل الذمة) أو مؤقتة (المستأمنون) الأقليات المسلمة خارج الدولة.
2 - تنظيم الحروب الخارجية وإدارتها وقواعد القتال وأثرها في الأموال والأشخاص ( الأسرى والغنائم ) وطرق إنهاء الحرب والآثار المترتبة على إنهائها.
3 - الحروب الداخلية وتشمل قتال المتمردين (البغاة) والمرتدين.(1/21)
وبهذا الشمول فإن الكتاب يعتبر أول كتاب في العلاقات الدولية. وقد شرح الكتاب الإمام السرخسي -من فقهاء الحنفية في القرن الخامس الهجري[9].
[3] أبو عبيد القاسم وكتابه الأموال:[10]
هو أبو عبيد القاسم بن سلام من المؤلفين الأوائل في الفقه السياسي. وكتابه الأموال من أحسن ما صنف في نظام الدولة وقد كان أبو عبيد نابغاً في القراءات والتفسير والحديث. واشتهر بكتابه غريب الحديث الذي مكث في تأليفه وتنقيحه أربعين سنة. تقلد من المناصب الحكومية قضاء طرسوس وتوفي بمكة في أثناء الحج عام 224 هجرية.
ويبحث كتاب الأموال في موارد الدولة المالية وأوجه صرفها. وميزة الكتاب أنه بجانب موضوعه الرئسي قد جمع كثيرا من الأحاديث والآثار وكثيرا من الرسائل والمعاهدات فكان بذلك سجلاً وثائقياً لهذه الفترة المبكرة من صدر الإسلام. ولا يكاد كتاب في الفقه السياسي جاء من بعده إلا ويقتبس منه.
[4] الماوردي وآثاره:[11]
من أشهر كتب الفقه السياسي ( الأحكام السلطانية ) الإمام الماوردي. وقد كان الماوردي إمام الشافعية في عصره، واسمه الكامل علي بن محمد بن حبيب. ولد في البصرة عام 364 هجرية، وفيها تلقى العلم، وأتم تحصيله في بغداد، تقلد القضاء في عدة مناطق حتى وصل منصب قاضي القضاة، وكان ذا خلق ودين وله علاقة وطيدة مع الخليفة ورجال الدولة في زمانه. وكان الخليفة يثق فيه وجعله سفيراً بينه وبين بني بويه وبينه وبين السلاجقة، وكانت بيد هؤلاء مراكز القوة في الدولة، ولقد أهلته ثقافته العالية ووظائفه المتعددة واتصاله برجال السلطة عن قرب وخبراته السياسية للكتابة في الفقه السياسي. وله مؤلفات في كثير من العلوم وله من الكتب السياسية أربعة كتب:
1 - الأحكام السلطانية.
2 - قوانين الوزارة.
3 - نصيحة الملوك.
4 - تسهيل النظر وتعجيل الظفر (في سياسة الملك).(1/22)
وقد نال كتاب الأحكام السلطانية شهرة واسعة وهو يعد بحق أول من جمع مسائل الفقه السياسي المنثورة في مواضع متفرقة في كتاب واحد. ويقول عن ذلك في مقدمة كتابه:
(لما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير أفردت لها كتاباً)[12].
وقد ألف الكتاب بأمر من خليفة العصر فالكتاب بذلك ليس كتاب فقه نظري بل هو موجه للسلطة الحاكمة للعمل به وتنفيذه.
يبدأ الكتاب بإعطاء تعريف للإمامة والمؤهلات المطلوبة لتقلد هذا المنصب الهام، والطرق الصحيحة لانعقاد الإمامة، ثم يبين واجبات الدولة وواجبات الشعب نحوها والأمور التي تؤدي إلى عزل الإمام. وبعد أن يعطي تعريفاً لكل من الوزارة والإمارة يتحدث عن أنواع الوزارة والإمارة وسلطات كل نوع والمؤهلات المطلوبة لتوليها، ثم ينتقل لمناقشة المهام التفصيلية لأجهزة الدولة المالية والقضائية والعسكرية.
وعموماً يمكن إجمال تقديم الكتاب في النقاط التالية:
أ - بما أن الكتاب قد ألف في القرن الخامس الهجري وقد تأصلت المذاهب الفقهية وتمايزت فإن الكتاب يعتبر جمعاً ونقلاً لأراء الفقهاء وتلخيصاً لنظرياتهم في مسائل السياسة. ولا يظهر فيه اجتهاد خاص الماوردي.
ب - حاول الماوردي استيعاب الآراء الفقهية، وقد أشار في مواطن عديدة إلى من اقتبس منهم. وقد كان منهجه في منهج الدراسة المقارنة، فلم يقتصر على ذكر مذهب واحد بل تعرض لكل المذاهب وقارن بينها. وكان يذكر أيضاً أدلة الآراء من القرآن والسنة وآراء الصحابة والتابعين وأعمال الخلفاء السابقين.
ج - سعى المؤلف لضم كل الموضوعات في مؤلف واحد، ولقد اضطره ذلك إلى صياغة عباراته صياغة موجزة وذكر الأدلة ذكرا مختصراً.(1/23)
د - ألف الكتاب أواخر الدولة العباسية حين بلغت الخلافة غاية الضعف، واتسعت الهوة بين النظرية الإسلامية الصحيحة للدولة وبين الواقع، ومع العرض النظري لنظام الدولة عالج الماوردي مشكلات عصره، فنجده يناقش شرعية الخلافة الاسمية التي فقدت نفوذها وانتقلت سلطاتها إلى نائب أو هيئة، وقد كانت تلك حال الخلافة في تلك الآونة. فقد استبد بنو بويه الرافضة بالأمر من دون الخليفة العباسي وكان ألعوبة في أيديهم لا سلطة له. وكذلك أيضاً ناقش شرعية ما أسماه (إمارة الاستيلاء)[13] وقد كان كثير من حكام أقاليم في الدولة قد استولوا على الحكم بالقوة وفرضوا على الخليفة الاعتراف بحكمهم. وإذا كان قد انتهى إلى إجازة هذين الوضعين حتى اتهم بمحاولة البحث عن المسوغات الشرعية للأوضاع الظالمة فمما لا ريب فيه أنه لم ينظر إلى تلك الأوضاع على إلا أنها أوضاع استثنائية وما كتبه عنها وما كتبه عن شرعيتها لا يتجاوز أن يكون أحكاما اضطرارية.
والكتاب الثاني من كتب الماوردي السياسية هو كتابه ( قوانين الوزارة ) وهذه رسالة هامة تبحث في موضوع متخصص من موضوعات الفقه السياسي. فقد بحث المؤلف فيها كل ما يتصل بالوزارة من فقه، ابتداء من تعريف الوزارة وأنواعها، ومؤهلات الوزراء إلى علاقتهم برئيسهم ووظائفهم وما يعينهم من سياسة للقيام بهذه الوظائف. وانتهى في هذه الرسالة إلى أن أهم غايات الوزارة تحقيق الهداف التالية: (دين متبع، سلطان قاهر، عدل شامل، أمن عام، وخصب دائم)
أما كتابا الماوردي الآخران (نصيحة الملوك) و (تسهيل الظفر) فهما كتب الآداب والأخلاق السياسية ولا تدخل في نطاق الفقه. وسيأتي الحديث عنهما في موضعه.
[5] أبويعلى وكتابه (الأحكام السلطانية)[14]:(1/24)
من الكتب المشهورة في الفقه السياسي كتاب آخر بعنوان (الأحكام السلطانية) ومؤلفه هو يعلى محمد بن الحسين الفراء عالم العراق في عصره ولد في بغداد عام 380 هـ، وبها نشأ ونهل من منابع شتى ونبغ فيه حتى صار شيخ الحنابلة في أيامه. وألف مصنفات عديدة وبخاصة في الفقه الحنفي وأصول الفقه ولكن أكثر مصنفاته مفقود.
وقد عاصر المؤلف الماوردي إذ توفي بعده بثمانية أعوام وكتابه الأحكام السلطانية يشابه كتاب الماوردي إلى درجة كبيرة فهو يشاركه في العنوان وفي التبويب والترتيب بل ويتطابق الكتابان أحياناً في النص. ولعل الفرق الوحيد بين الكتابين هو أن كتاب أبي يعلى اقتصر على بيان وجهة النظر الحنبلية، أما الماوردي فقد كان كتابه دراسة فقهية مقارنة.
وهذا التشابه بين الكتابين يدفع إلى التساؤل أيهما الأصيل؟ وليس من السهل الإجابة على هذا السؤال. فلا أحد يعرف تأريخ تأليف الكتابين، ويميل الظن إلى اعتبار كتاب الماوردي هو الأسبق[15] ومهما يكن الأمر فالكتابان يمثلان اتجاهاً واحداً وقد مهدا السبيل لكتاب آخر هام وهو كتاب الجويني.
*******************
[1] - إبرة.
[2] - انظر الخلافة في الفكر الإسلامي د. مصطفى حلمي ص 293 وما بعدها.
[3] - أنظر من أصول الفكر السياسي الإسلامي محمد فتحي عثمان ص 32 وما بعدها.
[4] - البداية والنهاية ابن كثير ج 10 ص 180، تاريخ التراث العربي فؤاد سيزكين 2/94.
[5] - لكتاب الخراج شرح مطبوع بعنوان الرتاج ألفه عبد العزيز بن محمد الرحبي.
[6] - الخلافة والملك – المودودي ص 192 وما بعدها.
[7] - الخلافة والملك – أبو الأعلى المودودي ص 201.
[8] - البداية والنهاية ابن كثير 10/202، وتاريخ التراث العربي سيزكين 2/52.
[9] - طبع الشرح في خمس مجلدات كبرى.
[10] - طبقات الشافعية - السبكي 5/267 - مقدمة قوانين الوزارة للماوردي ص 5 وما بعدها.(1/25)
[11] - له كتاب في التفسير وكتاب ضخم في الفقه بعنوان الحاوي وكتاب أدب الدنيا والدين.
[12] - الأحكام السلطانية ص 3.
[13] - المصدر نفسه.
[14] – القاضي أبو يعلى الفراء، د. محمد عبد القادر أبو فارس، ص 516 وما بعدها.
[15] – حقق الكتاب د. فؤاد عبد المنعم ود. مصطفى حلمي وكبعته دار الدعوة سنة 1979م(1/26)