تحويل القبلة
من القدس إلى الكعبة
إعداد أبو عبد الرحمن
محمد السيد عبده عبد الرازق
دراسات عليا في مقارنة الأديان
abrhman@hotmail.com E-
دار الرضوان
تحويل القبلة
تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة
رقم الإيداع بدار الكتب
10579/2004
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
*********************************
ت : 2717032 - 0101737239
إهداء
إلى من كنت أتمنى أن لا يفارق عيني ، ولكن الله تعالى أراد له الخير
إلى من امتلأ قلبي بحبه
ابني
عبدالرحمن
إلى روحه الطاهرة أهدي هذا الكتاب
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (2).
أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
__________
(1) النساء/1).
(2) الأحزاب/70 ،71).(1/1)
فمما هو معلوم أن تحويل القبلة من المسجد الأقصى بفلسطين إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة من الأحداث العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية ، ذلك لأن فيه الكثير من الدلالات ، والإشارات ، والتوجيهات ، والفوائد ، ولما ترتب عليها من نتائج ، ومواقف ، والتي انعكست بالسلب ، والإيجاب على المجتمع ككل ، أضف إلى هذا ما أضيف إلى ليلة النصف من شعبان من فضائل ، وأدعية ، وصلوات ما أنزل الله بها من سلطان ، لذا رأيت أن أكتب في هذا الموضوع باذلاً قصارى جهدي أن أصل إلى الحقيقة ، ومما شجعني على الكتابة في هذا الموضوع ارتباط هذا الحدث العظيم بمسجدين لهما في قلبي وقلب كل موحد منزلة عظيمة وهما: المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى .
وقد أسميت هذا البحث : تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة .
وقد قسمته إلى عدة مباحث ، وهى كالآتي :
"توطئة وتمهيد .
"ليلة النصف من شعبان في الميزان.
"الحكمة من تحويل القبلة .
"موقف أعداء الدين من تحويل قبلة المسلمين.
"دروس وعبر من تحويل القبلة .
ولا يسعني إلا أن أشكر الله تعالى الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة ، وباطنه ، وما كان في هذا البحث المتواضع من صواب فمن فضل الله تعالى وحده ، وما كان فيه من زلل ، أو خطأ فمن نفسي ، ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من ذلك .
ولا يفوتني وأنا ألملم أوراقي أن أتقدم بالشكر لكل من أعان على إخراج هذا البحث ، وهم كثيرون أخص منهم بالذكر: أبوي الكريمين أسأل الله تعالى أن يبارك لي فيهما ، ويرحمهما كما ربياني صغيرا ، كذا زوجي الكريمة أم عبد الرحمن فقد كانت خير معين لي على إنجاز هذا العمل وغيره ، والله يجيزها عني خير الجزاء .
وختاماً أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاَ لوجهه الكريم ، وأن ينفع به مؤلفه وكاتبه وقارئه إنه سميع الدعاء ، وأهل الرجاء ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وكتبه راجي عفو مولاه أبو عبد الرحمن
محمد السيد عبده عبد الرازق(1/2)
الشرقية - الحسينية - شهداء بحر البقر2
الاثنين ربيع الخير 1423هـ
توطئة وتمهيد
"الحدث
هو تحويل القبلة من المسجد الأقصى بفلسطين إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة زادها الله تشريفا ، وتعظيما ً، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : (كان رسول الله S صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّه S يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّه { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجهكَ في السَّمَاء ِ } (1) فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْيَهُودُ: { مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } (2) فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ S رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ Sوَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ) (3).
"الزمان:
تباينت الأقوال في تحديد الوقت الذي حُولت فيه القبلة (4) ، والمشهور أن هذا التحويل قد تم في ليلة للنصف من شعبان للسنة الثانية من الهجرة ، وهذا القول خلاف ما قال به الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر: وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح ، وبه جزم الجمهور (5).
__________
(1) البقرة/144).
(2) البقرة/142).
(3) رواه البخاري في الصلاة ، باب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَان ، برقم (397) ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم (818 ).
(4) ابن الجوزي ، زاد المسير،1/157.
(5) ابن حجر ، فتح الباري .(1/3)
قال صاحب عون المعبود : وكان تحويل القبلة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين (1).
قال ابن كثير: " عن ابن عمر أن أول صلاة صلاها رسول الله S إلى الكعبة صلاة الظهر ، وأنها الصلاة الوسطى ، والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر(2).
"المكان :
أما المكان ، ففي مسجد بنى سلمة بالمدينة النبوية ، وسمى هذا المسجد بمسجد القبلتين لأنه كما ذكر غير واحد من المفسرين أن الأمر بتحويل القبلة نزل بعد أن صلوا ركعتين ناحية المسجد الأقصى ، فاستداروا ، وصلوا ناحية المسجد الحرام ، وكان هذا أول نسخ في الإسلام (3).
قال ابن عباس :" كان أول ما نسخ من القرآن القبلة " (4).
وقال القرطبي :" وأجمع العلماء على أن القبلة أول نسخ في الإسلام" (5).
"مدة التوجه إلى بيت المقدس :
ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب والذي حدد فيه مدة هذا التوجه بقوله: (كان رسول الله S صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ) (6).
"مفهوم القبلة :
القبلة هي الجهة التي يُصلى نحوها ، ولا تصح الصلاة إلا بالاتجاه إليها ، والقبلة من شعائر الإسلام ، ومما يتميز به المسلمون وحدة قبلتهم ، وسميت القبلة قبلة : لأن المصلى يقابلها وتقابله ، وقيل لإقبال الناس عليها (7) ، ومن مظاهر تعظيم القبلة ما يأتي:
نهى النبي Sعن البصاق ناحية القبلة:
ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي S
__________
(1) أبو الطيب العظيم آبادي ، عون المعبود 3/365.
(2) ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، 1/196.
(3) للمزيد حول اسم ، وموضع المسجد انظر: ابن حجر ، فتح الباري 1/503 ، وابن سعد ، الطبقات الكبرى 1/242 .
(4) ابن جرير الطبري ، جامع البيان ، ،1/502.
(5) القرطبي ، الجامع لأحكام القران ، 2/151.
(6) صحيح وتقدم .
(7) عون المعبود1/14 .(1/4)
(رأي نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَال: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا)(1).
نهى عن استقبالها أو استدبارها ببول أو براز :
وذلك لأن جهة القبلة أشرف الجهات فصينت عن ذلك ، فقد قِيلَ لسلمان قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ S كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ فَقَالَ أَجَلْ: ( لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ)(2).
"البنيان والفضاء سواء:
ولا فرق في تحريم الاتجاه للقبلة عند قضاء الحاجة بين البنيان ، والفضاء على الراجح من كلام أهل العلم .
قال ابن القيم رحمه الله : " ومن خواصها أيضاَ أنه يحرم استقبالها ، واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض ، وأصح المذاهب في هذه المسألة أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء ، والبنيان لبضعة عشر دليلاَ قد ذكرت في غير هذا الموضع ، وليس مع المفرق ما يقاومها ألبتة ، مع تناقضهم في مقدار الفضاء ، والبنيان ، وليس هذا موضع استيفاء الحجاج من الطرفين" (3)
__________
(1) رواه البخاري في الصلاة ، ياب النبي رآى نخامة في القبلة فحكها برقم 423.
(2) رواه مسلم في الطهارة باب الاستطابة برقم 559.
(3) ابن القيم ، زاد المعاد في هدي خير العباد ،/49 ..(1/5)
ولعل أقوى الأدلة على عدم التفريق بين البنيان ، والصحراء فعل الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ S قَالَ ( إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى) (1).
أمر بالاتجاه إليها في اليوم والليلة خمس مرات :
أمرنا الله تعالى بالاتجاه للقبلة في اليوم ، والليلة خمس مرات ، وعلى هذا فإن المسلم إذا أتى بالفرائض الخمس وفقط يكون قد اتجه إلى القبلة في العام 1800مرة ، وذلك إذا ضربنا 5ر360 يوم = 1800مرة ، ناهيكم عن السنن ، والرواتب ، والجنائز ، والعيدين ، وغيرها من الصلوات .
علق الله تعالى على الاتجاه إلى القبلة صحة الصلاة :
فاستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة ، قال تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه } (2)، فلا تصح الصلاة إلا بالتوجه إلى المسجد الحرام الذي بمكة.
قال العلامة الألباني: "كان رسول الله S إذا قام إلى الصلاة استقبل الكعبة في الفرض ، والنفل ، وأمر S بذلك فقال للمسيء صلاته: (إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ) (3).
__________
(1) رواه البخاري في الصلاة باب إن النبي قال إذا أتيتم الغائط برقم (392) ، ومسلم في الطهارة باب فضل الوضوء ، برقم (562) .
(2) البقرة/144).
(3) رواه البخاري في الأيمان والنذور باب إذا حنث في الإيمان برقم 6519، وانظر: الألباني ، صفة صلاة الرسول S ، ص75 .(1/6)
وهناك حالات لا يجب التوجه فيها للقبلة وهي :
"في شدة الخوف:
الخوف من الضرورات الشرعية التي يباح فيه التوجه إلى غير القبلة ، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
قال شيخ الإسلام : " الثاني أنه سن صلاة الخوف جماعة ، وسوغ فيها ما لا يجوز لغير عذر كاستدبار القبلة " (1).
وقال ابن القيم:" وقد أمر الله سبحانه المسلمين حال مواجهة عدوهم أن يصلوا صلاة الخوف فيقصروا من أركانها ، ويفعلوا فيها الأفعال الكثيرة ، ويستدبروا فيها القبلة ، ويسلمون قبل الأمام ، بل يصلون رجالاَ ، وركباناَ حتى لو لم يمكنهم إلا الإيماء أتوا بها على دوابهم إلى غير القبلة (2).
"في النافلة في السفر:
فقد ثبت أن الرسول S كان يصلى إلى راحلته في السفر حيثما توجهت به (3)، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عبد الله قَال: ( كَانَ رَسُولُ اللَّه ِS يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ نَزَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ) (4).
"عند الجهل بمكانها:
فلا خلاف بين أهل العلم فيمن جهل مكان القبلة أن له أن يجتهد ، ويصلى ، ولا يعيدها إذا تبين له خطأ اجتهاده بعد ذلك.
قال شيخ الإسلام :" و من اشتبهت عليه القبلة فيصلي في الوقت بالاجتهاد ، والتقليد ، ولا يؤخرها ليصلي بعد الوقت باليقين " (5).
"عند العجز عن استقبالها لمرض ونحوه :
__________
(1) ابن تيميه ، مجموع الفتاوى (23/227) .
(2) ابن القيم ، الصلاة وحكم تاركها (1/100) .
(3) النووي ، المجموع ( 3/191) .
(4) رواه البخاري في الصلاة باب التوجه نحو القبلة حيث كان برقم (385) .
(5) مجموع الفتاوى (21/455) .(1/7)
من المعلوم شرعاَ أن الضرورات تبيح المحظورات ، والله تعالى من كمال رحمته بعباده رفع الحرج عنهم فيما لا قدرة لهم عليه ، نجد هذا في الكثير من تعاليم الدين الإسلامي ، قال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } (1) وقال تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا } (2) وقال تعالى : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } َ (3)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ S قَال: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (4).
" تمهيد القرآن للتحويل :
تحويل القبلة من الأحداث العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية ، لذا أسهب القرآن في الحديث عنها ، ومما هو معلوم أن القرآن لا يسجل إلا الأحداث التي لها شأن عظيم في حياة البشرية ، ولما كان شأن ذلك التحويل كبيراَ مهد الله تعالى له في القرآن تمهيداً طويلاً ، وأنزل في هذا التمهيد آيات كثيرة من سورة البقرة ، من الآية رقم (106) { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إلى الآية رقم (152) : { فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِي } .
__________
(1) البقرة/185).
(2) النساء/128).
(3) المائدة/6).
(4) رواه البخاري في الإيمان ، باب الدين يسر ، برقم (39) .(1/8)
قال العلامة ابن القيم : " تأمل حكمة العزيز الحكيم ، ولطفه ، وإرشاده في هذه القصة ، لما علم أن هذا التحويل أمر كبير كيف وطأه ، ومهده وذلله بقواعد قبله (1).
ليلة النصف من شعبان في الميزان
كثرت الأقوال عن هذه الليلة - ليلة النصف من شعبان- شأن الكثير من سائر الليالي.
"بيان عن ليلة النصف من شعبان :
كثرت الأقوال ، وتباينت حول هذه الليلة ، وقد ورد في فضلها طائفة كبيرة من الأحاديث ، وُجه إلى معظمها إن لم يكن إليها جميعا أسهم النقد ، فاستعنت بالله تعالى ، وقمت بجهد متواضع ، ووضعت هذه الليلة على ميزان الشريعة ، وجمعت أقوال أهل العلم ، وخرجت بهذه النتيجة :
أولاَ: معظم الأحاديث التي وردت في فضل ليلة النصف من شعبان ، أو يومها غير صحيحة ، وهذه الأحاديث تدور بين الوضع ، والضعف (2).
ثانياَ :لم يثبت في هذه الليلة عن رسول الله S ما يفيد الإتيان بعمل ما.
ثالثاَ : لم يرد أن الرسول S ، وكذا أصحابه الكرام احتفلوا بهذه الليلة بأي صورة من الصور .
والخير كل الخير في اتباع السلف والشر كل الشر في ابتداع من خلف
وهذا هو الحق الذي أدعو المسلمين إليه ، والحق هو ما كان عليه رسول الله S وأصحابه الكرام ، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ )(3) .
قال النووي: " وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام ، وهو من جوامع كلمه S في رد كل البدع والمخترعات ".
__________
(1) ابن القيم ، بدائع الصنائع ( 4/965) .
(2) انظر: لعلامة الألباني : السلسلة الضعيفة ، وضعيف الجامع ، وضعيف الترغيب والترهيب ، و المنار المنيف في الصحيح والضعيف ، وابن القيم الشوكانى الفوائد المجموعة .
(3) رواه البخاري في كتاب الصلح برقم (2499) ومسلم في الأقضية برقم (3242) .(1/9)
وقال: "وهذا الحديث مما ينبغي حفظه ، واستعماله في إبطال المنكرات ، وإشاعة الاستدلال به " (1).
قال حذيفة بن اليمان : " كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله S فلا تتعبدوا بها ، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ً، فاتقوا الله يا معشر القراء ، خذوا طريق من كان قبلكم " (2).
أقوال العلماء في ليلة النصف من شعبان :
وتأكيداً لما سبق سوف أنقل طائفة من أقوال العلماء الموثوق بهم ، والذين تلقت الأمة أقوالهم بالقبول :
الحافظ النووي:"الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب ، وهى اثنتا عشر ركعة بين المغرب والعشاء أول جمعة من رجب ، وصلاة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان " (3) .
الحافظ بن حجر : " وفي فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث أُخرى متعددة ، وقد اختلف فيها ، فضعفها الأكثرون ، وصحح ابن حبان بعضها ، وخرجها في صحيحه.
الحافظ العراقي : حديث صلاة النصف من شعبان موضوع على رسول الله S ، وكذب عليه(4).
الإمام ابن القيم : " صلاة ليلة النصف هذه وضعت في الإسلام بعد الأربع مائة ، ونشأت من بيت المقدس ، ووضع لها عدة أحاديث. (5)
العقيلي :" وفي النزول ليلة النصف من شعبان أحاديث فيها لين" (6).
الإمام أبو بكر بن العربي:" ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه .
__________
(1) النووي ، صحيح مسلم بشرح النووي (6/257) .
(2) اللالكائي : شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة1/90 ، وحلية الأولياء1/280، وأخرج البخاري نحوه برقم : 7282 .
(3) المجموع ( 3/ 549)، وعلى محفوظ والإبداع في مضار الابتداع ، ص ( 288) ، دار الاعتصام ، القاهرة ، ط. الخامسة ، سنة 1956م.
(4) الحافظ ابن رجب ، لطائف المعارف ، ص (261) ، وصحيح ابن حبان ( 7/470 ) وانظر الإبداع في مضار الابتداع، ص (288) .
(5) ابن القيم ، المنار المنيف في الصحيح والضعيف ، ص (99).
(6) للعقيلي ، الضعفاء (3/29) .(1/10)
وقال :" ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يعول عليه لا في فضلها ، ولا في نسخ الآجال فيها ، فلا تلتفتوا إليه (1).
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :"لم أدرك أحداً من مشيختنا ، ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان ، ولم ندرك أحداً منهم يذكر حديث مكحول ، ولا يرى لها فضلاً على سواها من الليالي "(2).
الحافظ أبو الخطاب بن دحية : " قال أهل الجرح والتعديل : ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يصح " (3).
ابن أبى مليكة :" قيل لابن أبى مليكة إن زياد النميري يقول : إن ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر ، فقال ابن أبى مليكة : لو سمعته منه وبيدي عصا لضربته بها ، وكان زياد قاضياَ "(4).
الشوكانى " وقد رويت صلاة هذه الليلة - أعنى ليلة النصف من شعبان - على أنحاء مختلفة كلها باطلة وموضوعة " (5).
عبد العزيز بن باز : "ومن البدع التي أحدثها بعض الناس ، بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان ، وتخصيص يومها بالصيام ، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه ، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها " (6).
__________
(1) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي (3/257) ، والإبداع ، ص (287) .
(2) ابن وضاح في البدع ص (46) بإسناد صحيح .
(3) أبو شامة المقدسي ، الباعث على إنكار الحوادث ص (52) .
(4) البدع ص (46) ، بإسناد صحيح.
(5) الفوائد المجموعة ، ص (51) .
(6) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، جمع وترتيب الشيخ /أحمد بن عبد الرزاق الدويش (3/46) ، طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الإدارة العامة للطبع والترجمة ، الرياض ، المملكة العربية السعودية ، سنة (1412) .(1/11)
القاسمي:" ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يصح " (1) .
حديثان صحيحان في ليلة النصف من شعبان
سبق أن ذكرت أن معظم الأحاديث التي وردت في ليلة النصف من شعبان غير صحيحة ، وعلى هذا فالقول بأن كل ما ورد في هذه الليلة من أحاديث غير صحيحة ، قول غير صحيح ، فيه من المبالغة ما فيه .
" رأي العلامة الألباني :
تعقب الشيخ الألباني - رحمه الله - في سلسلته الصحيحة القول بأن كل الأحاديث التي وردت في ليلة النصف من شعبان غير صحيحة قائلاً : " فما نقله الشيخ القاسمي في إصلاح المساجد عن أهل التعديل ، والتجريح ، أنه ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث يصح ، فليس مما ينبغي الاعتماد عليه ، ولئن كان أحد منهم أطلق مثل هذا القول فإنما أوتي من قبل التسرع ، وعدم وسع الجهد لتتبع الطرق على النحو الذي بين يديك " (2) .
وقد صح في فضل هذه الليلة حديثان بعد أن وضعا على ميزان الجرح ، والتعديل وهما :
الحديث الأول : (إذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ إلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ) (3).
__________
(1) القاسمي ، إصلاح المساجد ص (7) ، وهذا الذي ذهب إليه الشيخ القاسمي وغيره في مبالغة ، ولقد تعقبه العلامة الألباني طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه ، وسيأتيك بمشيئة الله تعالى قريبا.ً
(2) محمد ناصر الدين الألباني ، السلسلة الصحيحة.
(3) حديث حسن : رواه البيهقي والطبراني ، وابن أبى عاصم في السنة برقم 511 ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (171) ، والصحيحة برقم (1143) .(1/12)
الحديث الثاني : عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّه S قَالَ ( إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ ) (1) وإذا دققنا النظر في هذين الحديثين نجد الآتي :
أولاً: إنهما لا يدعوان إلى قيام ، أو صيام ، أو أي عمل من الأعمال.
ثانياً: الشرك من أعظم ، وأقبح الذنوب التي تحبط الأعمال ، وتحجب مغفرة الرحمن .
ثالثا : ما ورد في هذين الحديثين من منح ، وعطايا من الله تعالى لعباده محض فضل يشمل كل العباد إلا من استثناهم الحديث ، وهما : المشرك ، والمشاحن .
رابعا: سلامة الصدر من أجل القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه تعالى ، والشحناء وحقد المسلم على أخيه المسلم يحجب المغفرة حتى في أوقات الرحمة ، والمغفرة ، فقد صح الخبر أن رسول الله S قال (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ) (2).
صيام النصف من شعبان :
__________
(1) حديث صحيح: رواه ابن ماجة في إقامة الصلاة برقم (1380) ، وابن أبى عاصم في كتاب السنة برقم511، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1898) ، وفي الصحيحة برقم ( 1114) .
(2) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب برقم (4652) .(1/13)
قال الحافظ ابن رجب : " فأما صيام يوم النصف منه - أي شعبان- فغير منهي عنه فإنه من جملة الأيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر. (1) وهذه الأيام هي أيام : الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر من كل شهر عربي ، وأما ما وردمن أحاديث في فضل صيام النصف من شعبان فلم ترتق إلى درجة الصحة ، ومن ذلك :( إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ أَلَا مُسْتَرْزِقٌ فَأَرْزُقَهُ أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ أَلَا كَذَا أَلَا كَذَا حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ) (2) فهو شديد الضعف لا يقوى للاستدلال به ، وهذا الذي ذهب إليه ابن رجب هو الحق ، فصيام اليوم باعتبار أنه :
- من الأيام البيض التي يستحب صيامها ، أمر مشروع ومحمود ، لثبوت ذلك عن رسول الله S من حديث ابْنِ مِلْحَانَ الْقَيْسِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّه ِS يَأْمُرُنَا أَنْ نَصُومَ الْبِيضَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ قَالَ وَقَالَ هُنَّ كَهَيْئَةِ الدَّهْرِ) (3).
- صيامه إن وافق الاثنين ، والخميس ، وذلك لاستحباب صيام هذين اليومين .
- أو كان صيام نذر .
- أو صيام كفارة .
إذا كان صيام هذا اليوم بهذه الاعتبارات لاشئ فيه ، ولاغبار عليه .
__________
(1) لطائف المعارف ، ص (261) .
(2) حديث موضوع : رواه ابن ماجة في إقامة الصلاة والسنة فيها برقم ( 1378) ، وقال في الزوائد 1/247: إسناده ضعيف لضعف ابن أبى سبرة ، وضعفه الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف ص 261 ، وحكم عليه الشيخ الألباني بالوضع في السلسة الضعيفة برقم (2132)
(3) صحيح : رواه الترمذي في الصيام برقم (692) ، وأبو داود في الصيام برقم (2093) ، والنسائي في الصيام برقم (2379).(1/14)
أما صيام اليوم لأن له فضل خاص باعتبار أن القبلة قد تحولت في ليلته ، وأنه صيام مستحب لهذا الاعتبار ، فهذا لم يأت فيه عن المعصوم سند صحيح ، ولم يقل أحد من أهل العلم به ، ونحن إنما نتعبد إلى الله تعالى بما صح من الأدلة النقلية.
أوهام العوام في ليلة النصف من شعبان :
ومما يندو له جبين كل محب للسنة ما أحدثه العوام من بدع ، وأوهام في ليلة النصف من شعبان ، رأيت من الفائدة التنبيه عليها حتى لا يغتر بها البعض ، ومن هذه البدع ما يأتي :
"تخصيص يومها بالصيام :
وقد سبق أن صيام اليوم على اعتبار أنه من الأيام البيض ، أو إن وافق الاثنين ، والخميس فلا حرج فيه ، ولكن الحرج في صيام اليوم باعتبار أن له فضلاَ خاصاَ لأن القبلة قد حُولت فيه.
قال الشيخ محمود شلتوت رحمه الله :" والذي صح عن النبي S، وحفظت روايته عن أصحابه ، وتلقاه أهل العلم بالقبول إنما هو فقط شهر شعبان كله ، لا فرق بين ليلة وليلة ، وقد طلب فيه الإكثار من الصوم على وجه خاص ، تدريباَ للنفس على الصوم ، وتهيئتها لاستقبال رمضان حتى لا يفاجئ الناس فيه بتغيير مألوفهم ، فيشق عليهم " (1).
"تخصيص ليلها بالقيام:
قال النووي :" الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب ، وهى اثنتا عشر ركعة بين المغرب ، والعشاء أول جمعة من رجب ، وصلاة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان (2).
وقال الحافظ العراقي : "حديث صلاة النصف من شعبان موضوع على رسول الله S، وكذب عليه (3).
__________
(1) مجلة التوحيد ، عدد (8) ، لسنة (1409) هـ .
(2) المجموع 3/549 ، الإبداع في مضار الابتداع ، ص (288) .
(3) لطائف المعارف ، ص (261)، وصحيح ابن حبان 7/470 ، والإبداع في مضار الابتداع ، ص (288) .(1/15)
قال ابن القيم : " ومنها أحاديث صلاة ليلة النصف من شعبان ، كحديث: (يا علي من صلى ليلة النصف من شعبان مائة ركعة بألف قل هو الله أحد قضى الله له كل حاجة طلبها تلك الليلة وساق جزافات كثيرة وأعطي سبعين ألف حوراء لكل حوراء سبعون ألف غلام وسبعون ألف ولدان إلى أن قال ويشفع والداه كل واحد منهما في سبعين ألفا) والعجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذا الهذيان ، ويصليها ، وهذه الصلاة وضعت في الإسلام بعد الأربع مائة ، ونشأت من بيت المقدس فوضع لها عدة أحاديث منها: ( من قرأ ليلة النصف من شعبان ألف مرة قل هو الله أحد في مائة ركعة الحديث بطوله وفيه بعث الله إليه مائة ملك يبشرونه) وحديث :( من صلى ليلة النصف من شعبان ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة ثلاثين مرة قل هو الله أحد شفع في عشرة من أهل بيته قد استوجبوا النار) وغير ذلك من الأحاديث التي لا يصح منها شئ (1).
"تفضيلها على ليلة القدر :
ولم يقف الغلو عند هذا الحد ، بل وصل إلى تفضيل ليلة النصف من شعبان على ليلة القدر ، وقد أنكر علماء السلف هذا القول الباطل ، فقد قيل لابن أبى مليكة إن زياد النميري يقول : " إن ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر !!! " ، فقال ابن أبى مليكة :" لو سمعته منه وبيدي عصا لضربته بها " ، وكان زياد قاضياَ (2).
فمما أجمعت الأمة عليه خلفا بعد سلف : أن شرف ليلة القدر لا يدانيه شرف ، نطق بذلك القرآن ورسول الإسلام S .
"إدعاء أنها الليلة المباركة:
وزعم البعض أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة المباركة ، وليست ليلة القدر ، وأن هذه الليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ، وتنسخ الآجال فيها.
__________
(1) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (1/100).
(2) البدع ص (46) ، بإسناد صحيح.(1/16)
قال الطبري : وقوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة } (1)أقسم جل ثناؤه بهذا الكتاب أنه أنزله في ليلة مباركة ، واختلف أهل التأويل في هذه الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم نحو اختلافهم في الليلة المباركة ، وذلك أن الهاء التي في قوله فيها عائدة على الليلة المباركة ، فقال بعضهم هي ليلة القدر ، وقال آخرون بل هي ليلة النصف من شعبان ، وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال ذلك ليلة القدر لما قد تقدم من بياننا عن أن المعني بقوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ } (2)ليلة القدر والهاء في قوله فيها من ذكر الليلة المباركة وعنى بقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم ٍ } (3)في هذه الليلة المباركة يقضى ، ويفصل كل أمر أحكمه الله تعالى في تلك السنة إلى مثلها من السنة الأخرى (4).
"الاحتفال بهذه الليلة :
جرت العادة في كثير من الأقطار ، والبلدان أن يقيموا احتفالاَ في ليلة النصف من شعبان تقام فيه بعض الشعائر ، والطقوس من :
oتلاوة القرآن .
oالابتهالات .
oإلقاء الأحاديث ، والأشعار التي تدل على شرف ، وفضل هذه الليلة ، ومعظم هذه الأحاديث تدور بين الوضع والضعف كما سبق .
oصلاة ليلة النصف من شعبان.
oدعاء ليلة النصف من شعبان .
oومن العوام من يعد هذه الليلة موسما لأكل اللحوم ، والتوسعة على الأهل ، والتزاور.
__________
(1) الدخان/ 3: 5).
(2) الدخان/ 3).
(3) الدخان/4).
(4) جامع البيان (25/ 108) ، بتصرف .(1/17)
قال الشيخ أبو الوفاء درويش : " وكان من اعتقاد العامة ، وأشباههم أن ليلة النصف من شعبان ذات مكانة خاصة عند الله تعالى ، وأن الاجتماع لإحيائها بالذكر ، والعبادة ، والدعاء ، والقرآن مشروع ، ومطلوب ، وتبع ذلك أن وضع لهم في إحيائها نظام خاص يجتمعون في المسجد عقب صلاة المغرب ، ويصلون صلاة خاصة باسم : صلاة النصف من شعبان ، ثم يقرؤون بصوت مرتفع سورة معينة هي : (سورة يس) ، ثم يبتهلون كذلك بدعاء يعرف بدعاء النصف من شعبان يتلقنه بعضهم عن بعض ، ويحفظونه على خلل في التلقين ، وفساد في المعنى ، ويكررونه ثلاث مرات:
إحداها: بنية طول العمر.
والثانية: بنية دفع البلاء.
والثالثة: بنية الإغناء عن الناس.
ويعتقد العامة أن في التخلف عن المشاركة في الاجتماع نذيرا (بقصر العمر) و(كثرة البلاء) و(الحاجة إلى الناس) ، وينتهز بعض تجار الكتب ليلة النصف من شعبان فرصة يطبعون فيها سورة يس مع الدعاء ، ويكلفون الصبية توزيعها في المركبات ، والمجتمعات منادين على سلعتهم : سورة يس ، ودعاؤها بخمسة قروش !!!!" (1).
أقول : أمر طيب أن نتلوا القرآن ، وأن نتدبر معانيه ،وأن نصل الأرحام ، وأن نتحدث بنعم الله علينا ، لكن يجب أن يعلم المسلمون أن ذلك جائز في كل وقت ، وليس هناك وقت مخصص لذلك ، ومكمن الخطر في اعتقاد البعض أن يوماَ ما ، أو ليلة ما يجب الاعتناء بها دون دليل صحيح ثابت عن المعصوم S .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- : " ومن البدع التي أحدثها بعض الناس ، بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان ، وتخصيص يومها بالصيام ، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه " (2).
الحكمة من تحويل القبلة
"وحدة الأديان :
__________
(1) ليلة النصف من شعبان وحكم الاحتفال بها ، ص (28) .
(2) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، (3/46) .(1/18)
كان تحويل القبلة إلى المسجد الأقصى في بادئ الأمر لحكم جليلة ومنها : الإعلان عن وحدة الأديان ، وأن الهدف من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب واحد ، فالكل خرج من مشكاة واحدة ، قال تعالى { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيب } (1) وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (2)، فالرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعاً من عند الله العليم الحكيم واحدة ، ولذلك فإنها تمثل صرحاً واحداً يسلكه السابق ، واللاحق ، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أن الدين الذي دعت إليه الرسل جميعاً واحد وهو: الإسلام ، قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب } (3)، والإسلام في لغة القرآن : ليس اسماً لدين خاص ، وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء.
- فنوح - عليه السلام - يقول لقومه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكونَ منْ الْمُسْلِمِين } (4).
- والإسلام هو الدين الذي أمر الله به إبراهيم - عليه السلام - { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (5) .
__________
(1) الشورى/13).
(2) الأنبياء/ 25).
(3) آل عمران/19).
(4) يونس/72).
(5) البقرة/131).(1/19)
- ويوصى إبراهيم ، ويعقوب عليهما السلام أبناءهما { فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون } (1) .
- وأبناء يعقوب - عليه السلام - يجيبون أباهم { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } (2).
- وموسى - عليه السلام - يقول لقومه: { وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } (3) .
- والحواريون يقولون لعيسى - عليه السلام - : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } (4) .
- وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن: { قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } (5).
فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء ، وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية (6).
ولقد ضرب الرسول S مثلاً لاتفاق الرسل في الدين الواحد ، واختلافهم في الشرائع فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله S قال (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) (7).
__________
(1) البقرة /132).
(2) البقرة /133).
(3) يونس /84).
(4) آل عمران/52).
(5) القصص/53).
(6) د/ عمر سليمان الأشقر ، الرسل والرسالات ص (243) ، مكتبة الفلاح ، الكويت ، ط. الرابعة ، سنة (1991) .
(7) رواه البخاري في الأنبياء ، باب قولِ اللهِ: (واذْكُر في الكتابِ مريمَ) برقم3370 ، قال الحافظ ابن حجر: العلات بفتح المهملة : الضرائر ، وأولاد العلات : الأخوة من الأب ، وأمهاتهم شتى ، ومعنى الحديث : أن أصل دينهم واحد وهو التوحيد ، وإن اختلفت فروع الشرائع ، وانظر : فتح الباري ، 6/489.(1/20)
ومما هو معلوم أن بيت المقدس كان قبلة الأنبياء ، والرسل جميعاً (1)، فكان هذا التوجه من الرسول S للفت الأنظار إلى التوحد في الغاية ، والهدف الذي من أجله أرسلهم الله تعالى ، ويصور النبي S رحلة التسلسل في الرسالات ببناء جاء النبي S ليكمله ، ويجمله فيقول: (إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ) (2) .
"التدرج في التشريع :
ومن الحكم الجليلة في التوجه إلى بيت المقدس في أول الأمر ما يمكن أن نطلق عليه : التدرج في التشريع ، وهذا أمر مطلوب لنجاح الدعوة ، والتي كانت بحاجة إلى أتباع يعملون على نشر تعاليمها ، لاسيما في تلك الفترة ، وكثيراً ما سلك الإسلام منهج التدرج ، وذلك في كثير من الأحكام ، ولعل تحريم الخمر أظهر هذه الأحكام ، فإنه من المعلوم أن الخمر حرمت على ثلاث مراحل ، وذلك لأن القوم ألفوها ، وأدمنوها ، وكانت مصدراً من مصادر دخلهم ، فكان لابد للعلاج من هذا التدرج الحكيم في تحريمها .
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (1/308) .
(2) رواه البخاري في المناقب ، باب خاتَمِ النَّبِيّين S ، برقم (3459) ، ومسلم في الفضائل ، باب ذكر كونه خاتم النبيين ، برقم (5912) .(1/21)
ولو كان هذا التوجه إلى غير المسجد الأقصى لأدى ذلك إلى نفور المشركين من الدعوة ، لأن المشركين ،كانوا دائماً ينظرون إلى أهل الكتاب نظرة تقدير ، وإعجاب ، يكتمون هذا الإعجاب تارة ، ويظهرونه تارة أخرى ، وهذا ما دعاهم أن يسألوا اليهود هذا السؤال : ديننا أهدى أم دين محمد ؟ الشرك أم التوحيد ؟ النور أم الظلام ؟ وهنا سقط اليهود سقطة كبيرة ، سجلها عليهم القرآن عليهم عندما شهدوا زوراً ، وكفراً،وقالوا : أنتم أهدى ، ودينكم أفضل من دين محمد!!!!.
قال ابن كثير : " لما قدم جماعة من الذين حزبوا الأحزاب على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير ، أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه ؛ فأنزل الله عز وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً منَ الْكِتَاب } (1)، وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ، ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم ، وقد أجابوهم ، وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي S ، وأصحابه حول المدينة الخندق فكفي الله شرهم ، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفي الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا" (2)
فكان التوجه إلى بيت المقدس مهماَ في هذه المرحلة من تاريخ الدعوة ، حتى إذا ما رسخ الإيمان في القلوب ، وعلم الناس أنه الحق من ربهم ، ورباهم الإسلام على سمعنا ، وأطعنا ، سهل عليهم الاستجابة لأمر تحويل القبلة إلى المسجد الحرام كما أراد الله تعالى.
"تأليف قلوب اليهود:
__________
(1) النساء/44).
(2) انظر : تفسير القرآن العظيم (1/513) ، والإتقان(1/92) ، والجامع لأحكام القرآن (20/223) .(1/22)
ومن الحكم أيضاً تأليف قلوب اليهود- قبحهم الله تعالى- من سكان المدينة ، فقد توجه النبي S إلى المسجد الأقصى ما يزيد على العام والنصف ، وكان ذلك كفيلاً بأن يجعل اليهود يسارعون للدخول في الإسلام ، وأن تهدأ نفوسهم الحاقدة على الإسلام ، وأن يروا إن كانوا يبصرون أن الاتجاه إلى قبلتهم مبادرة طيبة من الإسلام ونبيه تدعوهم للدخول في هذا الدين - هذا الدين الذي جعل من الاتجاه إلى المسجد الأقصى شرطاً في صحة الصلاة ، المنطق يقتضي من اليهود ذلك ، لكنهم قوم بهت ، قوم لا منطق عندهم ، ولا فائدة فيهم ، ولا منهم ، بل على العكس تماماً ، لقد اتخذوا من الاتجاه إلى قبلة بيت المقدس ذريعة لإثارة الشبهات حول الإسلام ، وادعاء أنهم على الحق فقالوا : " إن محمداً اتجه إلى قبلتنا ، وغداً يدخل في ديننا "، واعتبروا أن الاتجاه إلى بيت المقدس نوعاً من اقتباس الهدى منهم ، وساروا بين المسلمين بدعوتهم: { كونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا } (1)فكان هذا الموقف منهم شديداً على نفوس المسلمين ، ورسولهم ، وهم الذين ينسبون إلى البيت الحرام الذي بناه جدهم(2) إبراهيم - عليه السلام - ، فتعلقت قلوبهم أن يتحولوا من هذه القبلة إلى أن استجاب الله تعالى لهم ، ورد على مكر اليهود وكفرهم بما يثلج صدور الموحدين ، فقال تعالى { وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون َ } (3) .
__________
(1) البقرة/135).
(2) شيخي الدكتور/ عبد الرحمن العدوى ، معركة تحويل القبلة بتصرف يسير ، منبر الإسلام عدد شعبان ، (1420) هـ ، ص (70).
(3) البقرة/144).(1/23)
قال ابن كثير: " عن ابن عباس قال كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله S لما هاجر إلى المدينة ، وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله S بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله S يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو ، وينظر إلى السماء فأنزل الله قد نرى تقلب وجهك في السماء إلى قوله فولوا وجوهكم شطره (1).
"رأي الشيخ الشعراوي في حكمة التوجه إلى بيت المقدس:
يرى الشيخ الشعراوي - رحمه الله - أن من أسباب اتجاه المسلمين إلى قبلة بيت المقدس أن الكعبة في ذلك الوقت لم تكن قد خلصت لله تعالى ، فقد اتخذها الكفار مقرا لأصنامهم ، وكانوا يطلقون عليها بيت العرب ، فلو أنهم توجهوا إلى الكعبة لكان مثلهم كمثل العرب في اتجاههم للأصنام ، فكان الله سبحانه وتعالى أن يستقر في الأذهان أولاَ أن هذا هو بيت الله ، وليس بيت العرب استقراراَ عقائدياَ ، كما أنه لم يكن للمسلمين ولاية على البيت ، بدليل أن المسلمين حينما تمكنوا من الكعبة كسروا الأصنام من حولها ، فإذا اتجهوا إليها وهى خالية تماماَ من الأصنام كان الاتجاه لله لا إلى الأصنام . انتهى (2).
"الرد على الشيخ الشعراوي:
ويوجد في كلام الشيخ الشعراوي - رحمه الله - عدة مآخذات وهي :
أولا : كان تحويل القبلة قبل فتح مكة:
حُولت القبلة على الراجح من كلام أهل العلم : في النصف من شعبان في السنة الثانية من الهجرة ، وقد امتن الله تعالى على نبيه S ، وعلى المسلمين بفتح مكة في رمضان من العام العاشر للهجرة .
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (1/158) .
(2) فتاوى الشعراوي ص (231) ، أعده وعلق عليه وقدم له الدكتور/ السيد الجميلي ، المكتبة التوفيقية ، سنة (1999) م .(1/24)
قال صفي الرحمن المباركفوري : ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك سنة 8 هـ ، غادر رسول الله S المدينة متجهاَ إلى مكة في عشرة آلاف من الصحابة رضى الله عنهم (1).
وحتى قبل الهجرة كان النبي S وهو في مكة يتجه نحو الكعبة ، ويجعل البيت بين يديه ليجمع بين القبلتين في الصلاة الواحدة . (2) ومعنى هذا أن الرسول S، وأصحابه الكرام كانوا يجعلون الكعبة بين أيديهم وهم في مكة ، وبعد الهجرة توجهوا نحو المسجد الحرام ما يزيد عن ثماني سنوات ، قبل فتح مكة ، وتطهيرها من الأصنام.
ثانيا: الكعبة بيت الله لا بيت العرب:
جميع العرب يعرفون جيدا أن الكعبة هي بيت الله تعالى ، وليست بيتاَ للعرب ، ولا للعجم ، ولو فرض أن منهم من قال بذلك فلا يخلو أن يكون هذا قول فردياَ لا يعبر عن رأي الجميع ، فلقد كان السواد الأعظم من العرب يعلمون يقيناَ أن هذا البيت بيت الله تعالى .
الأدلة والبراهين على معرفة العرب بأن الكعبة بيت رب العالمين:
وهناك عدة دلالات ، وبراهين تثبت أن العرب كانوا جميعاَ يعلمون أن الكعبة هي بيت الله تعالى ،ومن هذه الأدلة ما يأتي:
"قصة بناء الكعبة :
والمتأمل في قصة بناء الكعبة ، والأمور التي كان العرب في جاهليتهم يتعاملون بها مع هذا الحدث يدرك من أول وهلة أن هؤلاء القوم جميعاَ كانوا يعظمون هذا البيت باعتبار أنه بيت الله تعالى .
"التهيب من هدمها:
لشدة تعظيمهم البيت كانوا يتهيبون من الإقدام على هدمها ، وبنائها من جديد.
قال ابن إسحاق: " ثم إن قريشا اجتمعوا على بنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك فيهابون هدمها. (3)
"بناؤها من مال حلال :
__________
(1) الرحيق المختوم ، لصفي الرحمن ص(397) .
(2) صفة صلاة النبي Sمن التكبير إلى التسليم كأنك تراها ص (76) .
(3) ابن هشام ، السيرة النبوية , (2/82) .(1/25)
وهناك دلالة أخرى أنهم رفضوا أن يدخلوا في بنائها إلا المال الحلال ، فقد قام أبو وهب بن عمير - وكان خال رسول الله S ذا شرف وقدر- فأخذ حجرا من الكعبة فوثب الحجر من يده حتى عاد في موضعه فقال :" يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباَ ، ولا تدخلوا فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس " (1).
وفي لفظ أنه قال لهم : " لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغي أي زانية ، ولا بيع ربا ، وفي لفظ لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ، ولا قطعتم فيه رحماَ ، ولا انتهكتم فيه حرمة ، أو ذمة بينكم ، وبين أحد من الناس ، وكان رسول S ينقل معهم الحجارة ، واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة ، وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة ليس فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس " (2).
"الطواف بالبيت عرايا :
ومن دلالة تعظيم العرب لهذا البيت - باعتبار أنه بيت الله تعالى أنهم ما كانوا يطوفون بالبيت بملابسهم التي ارتكبوا فيها المعاصي ، وكانوا يطوفون بالبيت في معظم الأحيان عرايا الرجال ، والنساء في ذلك سواء .
قال عبد الله بن عباس :" كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ فَتَقُولُ مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ .
__________
(1) الماوردى ، أعلام النبوة ، (1/278) ، تحقيق : محمد المعتصم بالله البغدادي ، وابن كثير ، البداية والنهاية (2/301) ، والطبري ، تاريخ الأمم والملوك (1/525) ، وابن إسحاق ، سيرة ابن إسحاق (2/84) ، تحقيق محمد حميد الله .
(2) على برهان الدين الحلبي ، السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون ، (1/230) .(1/26)
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { خُذُوا زِينَتكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (1) .
"في قصة عزم إبرهة هدم الكعبة :
عندما هم إبرهة بهدم الكعبة ، وجيش الجيوش ، استنكر جميع العرب هذا ، واستعظموه ، وما مر ببلد عرفت بنواياه إلا قاومته ، وحاربته مع ضعفها ، وقلة حيلتها ، وكانت ترى أن الموت أشرف لها ، وأفضل من أن يهدم بيت الله تعالى.
قال ابن جرير: " لما سمعت العرب بذلك فأعظموه ، وفظعوا به ، ورأوا جهاده حقاَ عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام ، فخرج له رجل كان من أشراف أهل اليمن ، وملوكهم يقال له (ذو نفر) فدعا قومه ، ومن أجابه منهم من سائر العرب إلى حرب إبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه ، وإخرابه ، فأجابه من أجابه إلى ذلك ، وعرض له فقاتله فهزم ذو نفر ، وأصحابه ، وأخذ له ذو نفر أسيرا.....حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيث الخثعمي في قبيلتي خثعم شهران ، وناهس ، ومن تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه إبرهة ، وأخذ له نفيل أسيرا (2).
"موقف عبد المطلب من إبرهة :
__________
(1) الأعراف /31) والحديث رواه مسلم في التفسير ، باب في قوله تعالى: (خذوا زينتكم عند كل مسجد ) برقم (7493) .
(2) تاريخ الطبري (1/440) ، بتصرف.(1/27)
وأعظم هذه البراهين ، والأدلة الحوار الذي دار بين عبد المطلب جد النبي S ، وإبرهة الحبشي الذي جاء لهدم الكعبة : قال ابن كثير : " ولما نزل إبرهة المغمس بعث رجلاَ من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش ، وغيرهم ، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش ، وسيدها فهمت قريش ، وكنانة ، وهذيل ، ومن كان بذلك الحرم بقتاله ، ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك ، وبعث إبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وقال له : سل عن سيد أهل هذا البلد ،وشريفهم ثم قل له : إن الملك يقول لك إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرض حربي فائتني به ، فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش ، وشريفها ؟ فقيل له عبد المطلب بن هاشم ، فجاءه فقال له ما أمر به أبرهة فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك منه طاقة هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، أو كما قال فإن يمنعه منه فهو بيته ، وحرمته ، وإن يخل بينه ، وبينه فوا لله ما عندنا دفع عنه ، فقال حناطة : فانطلق إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك ، فانطلق معه عبد المطلب ، ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر ، فسأل عن ذي نفر - وكان له صديقاَ - حتى دخل عليه في محبسه فقال له: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له: ذو نفر ، وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا ، أو عشيا ، ما عندي غناء في شئ مما نزل بك إلا أن أنيساَ سائس الفيل صديق لي ، فسأرسل إليه فأوصيه بك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ، ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك ، قال حسبي ، فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش ، وصاحب عير مكة ، يطعم الناس بالسهل ، والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك(1/28)
مائتي بعير فاستأذن له عليه ، وانفعه عنده بما استطعت ، قال أفعل ، فكلم أنيس أبرهة قال له : أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك فأذن له فليكلمك في حاجته ، ووصفه له بما وصفه ذو نفر لأنيس ، فأذن له أبرهة ، وكان عبد المطلب أوسم الناس ، وأجملهم ، وأعظمهم ، فلما رآه أبرهة أجله ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه ، وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجمانه : قل له حاجتك ؟ فقال له : ذلك الترجمان ، فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي ، فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاَ هو دينك ، ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه!!!! قال عبد المطلب : إنى رب الإبل ، وإن للبيت رباَ سيمنعه ، قال : ما كان ليمتنع مني ، قال : أنت وذاك . فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل التي أصاب له ، فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال ، والشعاب تخوفاَ عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرونه على أبرهة ، وجنده فقال عبد المطلب ، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك
لايغلبن صليبهم ومحالهم غدوا محالك(1/29)
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك(1)
فكان ما أخبرنا الله تعالى به في القرآن ، كل هذه الأدلة تثبت أن العرب جميعهم كانوا يقولون : إن الكعبة بيت الله الحرام ، وما كانوا ليمنعوا أحداَ من الناس من العرب ، أو العجم من زيارتها ، بل كانوا يحسنون إليه ، ويقومون بتقديم الطعام ، والشراب له ، بل ويتقاتلون لنيل هذا الشرف.
ثالثاَ : ولم يكن للمسلمين ولاية على المسجد الأقصى:
ذكر الشيخ الشعراوي - رحمه الله تعالى - أن المسلمين لم تكن لهم ولاية على المسجد الحرام.
أقول : أيضاَ لم يكن للمسلمين في تلك الآونة ولاية على المسجد الأقصى الذي كانوا يتوجهون إليه في صلاتهم لمدة زادت عن العام والنصف ، فمما هو معلوم أن المسجد الأقصى ما فتح إلا في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، نسأل الله أن يعجل بتخليصه من أيدي اليهود عليهم من الله ما يستحقون.
الحكمة من التوجه إلى المسجد الحرام:
تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام له أهداف شرعية عظيمة ، ودلالات كبيرة ، ومن هذه الأهداف ، والدلالات ما يأتي:
"انتقال الرسالة :
__________
(1) أبو الربيع سليمان بن موسى الكلاعي الأندلسي ، الاكتفاء بما تضمنه من مغازى رسول الله والثلاثة الخلفاء ، (1/104: 109) ، تحقيق دكتور محمد كمال اليدين عز الدين على ،وتاريخ الأمم والملوك (1/440) ، وابن هشام ، السيرة النبوية ، (1/164) ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد ، دار الجيل ، بيروت ، ط. الأولى ، سنة (1411) ، البداية والنهاية (2/176) ، بتصرف.(1/30)
كان هذا التحويل إيذاناً ، وإعلاماَ للبشرية على اختلاف توجهاتها أن النبوة قد انتقلت من ولد إسحاق - عليه السلام - إلى ولد إسماعيل - عليه السلام - ، فقد شاء ت إرادة الله تعالى أن يأتي أنبياء بنى إسرائيل جميعاً من نسل إسحاق- عليه السلام - ، أما إسماعيل - عليه السلام - فلم يأت من نسله سوى رسول الله محمد S ، وختم الله به الرسالات ، قال تعالى: { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } (1) الحكم ، والنبوة ، بل والسيادة قد انتقلت من بنى إسرائيل إلى أمة العرب ، ولعل أصدق دليل على هذا : رحلة الإسراء برسولنا S إلى المسجد الأقصى ، ولقائه بالأنبياء جميعاً وإمامته لهم ، كان هذا إعلانا أيضاً من العلي القدير أن مواريث الأنبياء جميعاً قد آلت إلى خاتم الرسل S ، ومن العجيب أن اليهود أنفسهم يعرفون ذلك ، ولكن قبح الله الكبر ، والحقد ، قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون َ } (2)عرفوا الحق فأنكروه فاستحقوا بذلك أن تنزلت عليهم اللعنات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } (3).
"الابتلاء :
__________
(1) الأحزاب/40).
(2) البقرة/146).
(3) البقرة/159).(1/31)
قال الدكتور محمد خليل هراس :" اقتضت حكمة الله تعالى أن يبعث على الناس في عهد النبوة بين الحين ، والحين ريح فتنة يبتلى بها ما في النفوس ؛ ليظهر الصادق في إيمانه ، ، والتي لا تزلزله الفتن ، ولا تنال منه الزعازع ، من المنافق الذي لا يلبث أن يكشف ما في نفسه من ظلمات الشكوك ، وعوامل الهزيمة ، فيذوب في الفتنة كما يذوب الملح في الماء ، ولقد كان حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام إحدى هذه الابتلاءات الكبرى التي أراد الله تعالى بها هز المجتمع الإسلامي لتسقط عن شجرته المباركة الأوراق اليابسة ، والثمرات العفنة ، ولا يبقى إلا القوى الجيد الذي له من صلابة الإيمان، وقوة اليقين ، ونور البصيرة ما يرد عنه مضلات الفتن ، وينجيه من بوائقها (1).
ولقد ذكر الله تعالى صراحة أن من حكمة هذا التحويل الابتلاء فقال تعالى: }وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َالَّتِي كُنتَ عليها إلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } (2).
قال ابن جريج : " بلغني أن ناساَ ممن أسلموا رجعوا فقالوا : مرة ههنا ، ومرة ههنا. (3)
قال ابن عباس: " لنميز أهل اليقين من أهل الشرك ، والريبة " (4) .
فكان هذا التحويل بحق فتنة كبيرة ، وامتحان عظيم ما نجا منه إلا من كان صادق الإيمان ، ومتابعاً لرسول الإسلام S، وإنه لأمر كبير ، وشاق على النفوس ، والمعصوم من عصمه الله تعالى: { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه ُ } (5) .
"الاستجابة لدعاء رسول الله S:
__________
(1) تحويل القبلة د/محمد خليل هراس ، بتصرف ، التوحيد (1415)،عدد شعبان ص(14) .
(2) البقرة/143).
(3) السابق .
(4) صفة صلاة النبي Sمن التكبير إلى التسليم كأنك تراها ص (76).
(5) البقرة/143).(1/32)
كان النبي S يحب أن يوجه إلى الكعبة- كما تقدم في الصحيحين - ويتمنى هذا ، لاسيما بعد أن هاجر إلى المدينة ، فالأمر في مكة كان يهون بعض الشئ ؛ لأن الرسول Sكان يصلى بمكة نحو بيت المقدس ، والكعبة بين يديه (1).
يقول العلامة ابن كثير: " إنه S كان يكثر الدعاء ، والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم - عليه السلام - . (2)
قال صاحب عون المعبود : " ولما غلب أهل الإسلام ، وتمنى النبي S ودعا ربه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فقبل الله تعالى دعاء النبي S ، فأنزل الله هذه الآية الآتية: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (3)أي فلنحولنك ، ولنصرفنك عن قبلة بيت المقدس إلى قبلة ترضاها أي تحبها ، وتميل إليها فول وجهك شطر المسجد الحرام ،أي نحوه ، وتلقاءه ، وأراد به الكعبة ، وحيث ما كنتم ، أي من بر ، أو بحر مشرق ،أو مغرب (4) .
وما تمنى النبي S من الله تعالى شيئاً إلا وحقق الله له ما تمناه.
كم للنبي المصطفى من آيةٍ …غراءَ حارَ الفِكْرُ في معناها
لما رأى الباري تقلُّبَ وجهِهِ ولاَّه أعظمَ قِبلةٍ يرضاها
قال البيضاوي :" فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل :
1- تعظيم الرسول Sبابتغاء مرضاته .
2- وجري العادة الإلهية على أن يولي أهل كل ملة ، وصاحب دعوة وجهة يستقبلها ، ويتميز بها.
3- ودفع حجج المخالفين " (5).
"السر في هذه المحبة
لكن ما السر في هذه المحبة الشديدة من الرسول S للبيت الحرام؟ نقل القرطبي في تفسيره إجابات على هذا السؤال فقال:
__________
(1) إسناده صحيح ، وتقدم .
(2) انظر تفسير القرآن العظيم (1/251) ، وجامع البيان (2/5) .
(3) البقرة/144).
(4) عون المعبود(2/138) ، بتصرف يسير.
(5) تفسير البيضاوي (1/246) .(1/33)
لأنها قبلة إبراهيم- عليه السلام - .
لمخالفة اليهود.
وقيل لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام (1).
ويمكن أن تكون هذه الأمور مجتمعة ، ويمكن إضافة أمر رابع لا يقل أهمية عما سبق إن لم يكن أهمها وهو: أن الكعبة بيت الله الحرام ، والقلوب فطرت على حبها ، والتعلق بها ، قال تعالى حاكياً دعاء خليله ، وباني بيته الحرام إبراهيم- عليه السلام - : { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون } (2) فالقلوب تعلقت ، وحنت إلى هذا البيت ، لاسيما قلب رسول الله S الذي خرج من مكة فاراً بدينه ، ينظر إلى مكة نظرة وداع ، مخاطباً إياها بكلمات تنم عن حبه الجم لمكة، حباً ينبع من معرفته بحب الله تعالى لها قائلاً(وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ) (3) .
"مخالفة اليهود :
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (1/150) .
(2) إبراهيم/37).
(3) حديث صحيح : رواه الترمذي في كتاب المناقب ، باب في فضل مكة برقم (4094) ، وقال : حديث حسن غريب صحيح، وأحمد 4/305، وابن ماجة في المناسك ، باب فضل مكة برقم 3183، والدارمي في السير ، باب إخراج النبي S من مكة برقم (2509)، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7089) .(1/34)
نحن نضرع إلى الله تعالى في كل صلاة ، بل في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم ، وأن يجنبنا طريق الهالكين من اليهود والنصارى ، المغضوب عليهم ، والضالين ، لأن مخالفة أصحاب الجحيم هو بمثابة جواز المرور على الصراط المستقيم ، ولقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية مصنفاً خاصاً في هذا الموضوع جاء فريداً في بابه ، وأسماه : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ، ومما هو معلوم أن اليهود- قبحهم الله- يأخذون من بيت المقدس قبلة لهم ، والأمة الإسلامية لها ما يميزها عن سائر الأمم .
"تسلية الرسول S .
قال ابن كثير : " في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ، وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول S ، وأصحابه الذين أخرجوا من مكة ، وفارقوا مسجدهم ، ومصلاهم ، وقد كان رسول الله S يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ، أو سبعة عشر شهراَ ، ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ، ولهذا يقول تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (1).
موقف أعداء الدين من تحويل قبلة المسلمين
ما إن أمر الله تعالى نبيه ، والجماعة المؤمنة بالتوجه في صلاتهم ناحية المسجد الحرام ، حتى انطلق خفافيش الظلام ، سفهاء العقول ، والأحلام ، يشككون في أمر رسول الله S ، وفي صدق دعوته ، واضطراب أمره ، انطلقوا يسخرون ، ويستهزؤن من صنيع المسلمين ، يقصدون بهذا .
- صرف المسلمين عن الإسلام.
-وتنفير الناس من اتباع الرسول S ، وهؤلاء سماهم الله تعالى سفهاء من السفهاء ؟.
قال صاحب لسان العرب: " أصل السفه الخفة ، ومعنى السفيه : الخفيف العقل " (2).
__________
(1) البقرة/115) تفسير القرآن العظيم 1/158.
(2) ابن منظور ، لسان العرب13 /449.(1/35)
قال القرطبي : " السفيه هو: خفيف العقل ، والسفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم ".(1)
إذن السفيه هو: الجاهل الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بمواضع المصالح والمفاسد ، وهو الذي يضر نفسه من حيث يظن أنه ينفعها ، والمسلم العاقل ينأي عن مصادقة السفيه الأحمق.
قال الشافعي رحمه الله تعالى :
ابتعد عن الجاهل السفيه فكل ما يقال فهو فيه
ماضر بحر الفرات يوماً إن خاض بعض الكلاب فيه
ولقد تنازع السلف في المقصود بالسفهاء : فقيل هم اليهود ، وقيل هم مشركوا مكة ، وقيل هم المنافقون. (2)
والحق فهم جميعاَ سفهاء ، وكل من يعترض على حكم الله تعالى ، وحكمته ، وسنة نبيه S سفيه ، فاليهود ، والمنافقون ، والمشركون كل أدلى بدلوه في هذه القضية ، فهم جميعاً سفهاء .
"اليهود وتحويل القبلة
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن ، 2/148 .
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم 1/251، و زاد المسير 1/153.بتصرف يسير.(1/36)
اليهود هم أكثر الناس سفاهة مع أنبياء الله تعالى ،ورسله ، قال تعالى: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُون } َ (1)، ولا يمكن لليهود أن يرضوا عن رسول S بحال من الأحوال إلا إذا اتبع ملتهم ، وسار على نهجهم ، قال تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } (2) من أجل هذا فمهما صنع الرسول Sمن أمر لتأليف قلوبهم فلا يمكن أن يستجيبوا له ، فلما أمر الله تعالى نبيه S إلى بالتوجه إلى بيت المقدس لاستمالتهم ، وتأليف قلوبهم ، وكسب ودهم للدخول في الإسلام ، وليقول لهم : إن دعوة الإسلام التي أرسل بها لا تختلف عن سائر الرسالات السابقة ، فما كان منهم إلا أنهم قابلوا هذا الصنيع بالتطاول والسخرية ، فقالوا: اتبع قبلتنا أوشك أن يتبع ديننا!!! ، ولما شاءت إرادة الله تعالى أن يتحول المسلمون إلى المسجد الحرام ، تغيظ اليهود ، وازدادوا حمقاً ، وحقداً ، وسفاهة ، وسخرية فأطلقوا مجموعة من الشبهات ، والافتراءات ، فكان من ضلالهم:-
- لقد خالف محمد- S - قبلة الأنبياء من قبله ، ولو كان نبياً حقاً لاتبع قبلة الأنبياء من قبله!! (3).
- قد التبس عليه أمره ، وتحير (4).
- مالك تركت قبلة بيت المقدس ، إن كانت ضلالة فقد دنت بها الله ، وإن كانت هدى فقد نقلت عنها (5).
__________
(1) البقرة/87).
(2) البقرة/120).
(3) ابن القيم ، بدائع الفوائد ، 4/965.
(4) الجامع لأحكام القرآن 1/148.
(5) زاد المسير1/159 .(1/37)
- إلى جانب أنهم أنكروا وقوع النسخ (1)، { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } (2) ألم يعلم هؤلاء السفهاء أن المسجد الحرام الذي يعيبون على النبي S التوجه إليه ، والذي بناه جدنا وجدهم إبراهيم - عليه السلام - ، هو أشرف وأرفع مقاماً من سائر مساجد الأرض ؟ ألم يعلم هؤلاء السفهاء أن المسجد الحرام ،كان قبلة نبي الله إبراهيم - عليه السلام - الذي يزعمون جهلاَ وكذبا أنهم أتباعه !؟ { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور } (3) .
"سفاهة المشركين :
لم يسلم الرسولS ، ومن آمن معه من كيد المشركين ، واستهزائهم حتى بعد ما تركوا لهم البلاد ، والأموال ، وهاجروا بدينهم ، ما ترك المشركون فرصة للنيل من الإسلام ورسوله S ، وذلك بشتى الوسائل والطرق، فما أن علموا بنبأ تحويل القبلة حتى رددوا شبهات اليهود ، وزادوا على هذا قولهم :
- يا محمد رغبت عن ملة آبائك ، ثم رجعت إليها آنفاَ ، والله لترجعن إلى دينهم (4).
- لقد اشتاق محمد- S- إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم (5).
- قد رجع إلى قبلتكم يوشك أن يرجع إلى دينكم (6).
"سفاهة المنافقين :
__________
(1) انظر للرد على هذه الشبهة للمؤلف : القرآن الأمريكي أضحوكة القرن الحادي والعشرين ص 144، القاهرة ، دار الرضوان ، الطبعة الأولى ، سنة 2005م ، للحصول على نسخة إلكترونية من الكتاب أدخل على هذا الرابط:
http://www.saaid.net/book/5/840.zip.
(2) الكهف/5).
(3) الحج/46).
(4) الجصاص ، أحكام القرآن 1/106.
(5) انظر: الجامع لأحكام القرآن 1/148، وجامع البيان 2/5.
(6) بدائع الفوائد 4/965.(1/38)
المنافقون هم أخبث الجماعات التي تندس داخل الصف الإسلامي ، فهم يقولون مالا يفعلون ، ويظهرون خلاف ما يبطنون ، قال تعالى: { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } (1)، والمنافقون يظهرون ولاءهم للإسلام ، وقلوبهم تغلى بالحقد عليه ، وهؤلاء يصدق فيهم قول الشاعر:
إن الذين ترونهم أحبابكم
يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وكان لهؤلاء المنافقين دور خطير في تحويل القبلة ، فمع ترويجهم لإفك اليهود أدلوا بدلوهم الخبيث في تحويل القبلة ، فكان من سفاهتهم:
- ما يدرى محمد أين يتوجه ، إن أمره لمضطرب.
- إن كانت القبلة الأولى حق فقد ترك الحق إلى الباطل ، وإن كانت القبلة الأولى غير الحق فقد مكث هذه المدة على الباطل.
- إلى جانب أنهم كانوا يرجفون في المدينة : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (2).
- مالهم كانوا على قبلة زماناً ، ثم تركوها ، وتوجهوا إلى غيرها (3).
القرآن يرد على السفهاء :
لقد أفاض القرآن في الرد على هؤلاء السفهاء بما يثلج صدور المؤمنين ، والمتأمل في آيات سورة البقرة ، والتي عالجت هذا الموضوع يرى هذه الإشارات:
"أخبر الله تعالى بمقالة السفهاء قبل أن يقولوها:
من فضل الله ، ولطفه ، ورحمته أنه أخبر نبيه S في كتابه الكريم بمقولة السفهاء قبل أن يقولوها.
"لن يمروا على الحدث مرور الكرام:
__________
(1) البقرة/14).
(2) الجامع لأحكام القرآن1/148.
(3) انظر : جامع البيان 2/5.(1/39)
وبين أنهم لن يمروا على الحدث مرور الكرام ، بل سيمرون عليه مرور اللئام ، وفائدة ذلك :أن الإخبار بالمكروه إذا وقع قبل وقوعه كان فيه تهويناً لصدمته ، وتخفيفاً لروعته ، وكسراً لثورته(1) .قال تعالى: { سَيَقُولُ السُفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتي كَانُوا عَلَيْهَا } (2) .
"أهل الكتاب لن يتبعوا النبي S ، ولو أقام عليهم الحجة: وتسلية للنبي S ، وأصحابه الكرام أخبر الله تعالى أن أهل الكتاب لن يتبعوا قبلة المسلمين ، ولن يؤمنوا بدينهم حتى لو أقام عليهم الحجة الساطعة قال تعالى: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ } (3).
__________
(1) الشوكاني ، فتح القدير 1/150
(2) البقرة/142).
(3) البقرة/145).(1/40)
قال ابن كثير : "يخبر تعالى عن كفر اليهود ، وعنادهم ، ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله S ، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه ، وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } (1) ولهذا قال ههنا: { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } (2)وقوله: { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } (3)، إخبار عن شدة متابعة الرسول S لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم ، وأهوائهم فهو أيضا مستمسك بأمر الله ، وطاعته ، وأتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، ولا كونه متوجهاَ إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى ، ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره ، ولهذا قال مخاطباَ للرسول والمراد به الأمة : { وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِين } (4).
"لكل دين قبلة
وذكر رب العزة والجلال أن لكل ملة وجهة ، وأن الله تعالى امتن على الأمة بأن هداها إلى هذه القبلة.
قال ابن عباس : " { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلِّيهَا } (5) موليها يعني بذلك أهل الأديان يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة الله حيث توجه المؤمنون(6) .
وقال أبو العالية : " لليهودي وجهة هو موليها ، وللنصراني وجهة هو موليها ، وهداكم أنتم أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة " (7).
__________
(1) يونس/ 96، 97).
(2) البقرة/145).
(3) البقرة/145).
(4) البقرة/145) انظر: تفسير القرآن العظيم 1/196.
(5) البقرة/148).
(6) السابق .
(7) السابق .(1/41)
قال ابن الجوزي : " قوله تعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ موليها } أي لكل أهل دين وجهة المراد بالوجهة القبلة " (1).
"كرر الأمر بالتوجه إلى الكعبة .
وتأكيداَ لأمر هذا التحويل ، ولبيان أهميته كرر الله تعالى الأمر لنبيه ، وللجماعة المؤمنة بالتوجه إلى المسجد الحرام ، قال تعالى: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (2).
قال ابن الجوزي : " فإنه تكرير تأكيد ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبداَ إلى قبلتهم " (3).
قال الشوكاني : " كرر سبحانه هذا لتأكيد الأمر باستقبال الكعبة ،وللاهتمام به لأن موقع التحويل كان معتنى به في نفوسهم ، وقيل وجه التكرير لأن النسخ من مظان الفتنة ،ومواطن الشبهة فإذا سمعوه مرة بعد أخرى ثبتوا ، واندفع ما يختلج في صدورهم ،وقيل إنه كرر هذا الحكم لتعدد علله فإنه سبحانه ذكر للتحويل ثلاث علل:
الأولى : ابتغاء مرضاته .
والثانية : جرى العادة الإلهية أن يولي كل أهل ملة وصاحب دعوة جهة يستقل بها.
والثالثة : دفع حجج المخالفين فقرن بكل علة معلولها.
__________
(1) زاد المسير1/159
(2) البقرة/149، 150).
(3) السابق .(1/42)
وقيل أراد بالأول ول وجهك شطر الكعبة إذا صليت تلقاءها ،ثم قال: وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة ،وغيرها فولوا وجوهكم شطره ، ثم قال : ومن حيث خرجت يعني وجوب الاستقبال في الأسفار فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواطن من نواحي الأرض (1).
"لا حجة لأحد على رسول الله S .
وبين الله تعالى أنه لا حجة لأحد على رسول الله S ، إلا هؤلاء الذين يعرفون الحق ، ويتنكرون له.
قال القرطبي: " نفي الله أن يكون لأحد حجة على النبي S ، وأصحابه في استقالبهم الكعبة ، والمعنى لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة حيث قالوا:ما ولاهم ، وتحير محمد في دينه ، وما نوجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تبعث إلا من عابد وثن ، أو يهودي ، أو منافق ، والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة ، والمجادلة ، وسماها الله حجة و، حكم بفسادها حيث كانت من ظلمة " (2) .
"أينما تولوا فثم وجه الله :
__________
(1) انظر :فتح القدير1/156، البيضاوى1/246 ، و الجامع لأحكام القرآن 2/168 ، وتفسير القرآن العظيم 1/196.
(2) الجامع لأحكام القرآن 2/168.(1/43)
لما زعم اليهود أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها لأنها مواطن الأنبياء عليهم السلام ، وقد شرفها الله تعالى وعظمها ، فلا وجه للتولي عنها فأبطل الله تعالى قولهم ، فالمواطن من المشرق إلى المغرب لله تعالى ، يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل ، وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها(1) قال تعالى: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } (2) وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسعٌ عَلِيمٌ } (3) .
قال ابن كثير رحمه الله : " أي الشأن كله في امتثال أوامر الله فحيثما وجهنا توجهنا ، فالطاعة في امتثال أمره لو وجهنا كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده ،وفي تصرفه ، وخدّامه ، حيثما وجهنا توجهنا " (4) .
نعم فالجهات كلها ملك لله عز وجل ، فلا يستحق شئ منها لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما يصير قبلة لأن الله تعالى جعله قبلة ، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة لأخرى ، وما أمر به فهو الحق.
"فلا تخشوهم واخشون :
وأمر الله تعالى عباده المؤمنين ألا يلتفتوا إلى هؤلاء المجرمين ولا يقيموا لهم وزنا ، فهم أقل من ذلك ، وأمرهم أن يفردوا الله وحده بالخشية ، قال تعالى: { فَلَا تَخْشوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون } (5).
__________
(1) أحكام القرآن 1/160 بتصرف يسير
(2) البقرة/142).
(3) البقرة/115).
(4) تفسير القرآن العظيم 1/191.
(5) البقرة/149، 150).(1/44)
قال ابن عباس : " فلا تخشوهم في انصرافكم إلى الكعبة واخشوني في تركها. (1) واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية(2).
قال البيضاوي : " فلا تخشوهم فلا تخافوهم فإن مطاعنهم لا تضركم ، واخشوني فلا تخالفوا ما أمرتكم به (3).
"تحويل القبلة علامة على صدق النبوة:
__________
(1) زاد المسير1/159.
(2) روح المعانى2/16، بتصرف يسير ، والإمامية إحدى فرق الشيعة ، وسموا بالأمامية لأنهم جعلوا الإمامة هى القضية الأساسية التي تشغلهم ، وهم يمثلون القسم المقابل لأهل السنة والجماعة في فكرهم وآرائهم وسُمُّوا بالإثني عشرية ؛ لأنهم قالوا باثني عشر إماما ، دخل آخرهم السرداب بسامراء علي حد زعمهم ، وهم : علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، الذي يلقبونه بالمرتضي والحسن والحسين ، وعلي زين العابدين بن الحسين ويلقبونه بالسجاد ، ومحمد الباقر بن علي ويلقبونه بالباقر ، وجعفر الصادق بن محمد ، ثم ولده موسي الكاظم ، ثم علي الرضا ثم محمد الجواد بن علي الرضا ويلقبونه بالتقي ، وعلي الهادي بن محمد ويلقبونه بالنقي ، ثم الحسن العسكري بن علي ويلقبونه بالزكي ، ثم محمد المهدي بن الحسن العسكري ويلقبونه بالحجة القائم المنتظر والإمام الغائب ، انظر للمؤلف : جماعة الإخوان في الميزان ، تحت الطبع يسر الله نشره ، وعبدا لله بن محمد السلفي ، من هم الشيعة الإثنى عشرية ، مكتبة الرضوان السلفية.
(3) البيضاوي والسابق.(1/45)
من علامات نبي آخر الزمان عند أهل الكتاب أنه يصلى إلى القبلتين ، وهذا الوصف لم يتحقق لنبي إلا لرسولنا S ، حيث صلى النبي S سبعة عشر شهراَ للمسجد الأقصى ثم صلى بعد ذلك اتجاه المسجد الحرام ، والعجيب أن أناجيل النصارى الموجودة الآن ، والتي امتدت إليها الآيادي الآثمة تشهد بذلك ، ففي إنجيل يوحنا ما يؤكد على صدق النبوة ، ومجيئ النبي الذي يجمع بين القبلتين ، ففي إنجيل يوحنا الإصحاح الرابع :" 19: َقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: "يَاسَيِّدُ ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ. 20آبَاؤُنَا عَبَدُوا اللهَ فِي هَذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمُ الْيَهُودَ تُصِرُّونَ عَلَى أَنَّ أُورُشَلِيمَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْكَزَ الْوَحِيدَ لِلْعِبَادَةِ". 21فَأَجَابَهَا يَسُوعُ: "صَدِّقِينِي يَاامْرَأَةُ ، سَتَأْتِي السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا تَعْبُدُونَ الآبَ لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ" (1).
__________
(1) إنجيل يوحنا الإصحاح الرابع :19/ 21 .(1/46)
ومعنى هذا أنه سيأتي زمان يتحول السجود من بيت المقدس إلى مكة المكرمة ، ومن المعلوم أن أهل الكتاب كانوا يعرفون هذا جيداَ ، ولقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا فقال تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون َ } (1)فأهل الكتاب يعرفون ذلك من اليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة ، وانصرافكم عن بيت المقدس ، يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت ، والصفة لرسول الله S وأمته ، وما خصه الله تعالى به ، وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداَ ، وكفراَ ، وعناداَ ، ولهذا تهددهم تعالى بقوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } (2) .
دروس وعبر من تحويل القبلة
"الكعبة والقدس في القلب
ومن أعظم دلالات تحويل القبلة توجيه الأنظار إلى مكانة المسجدين الأقصى والحرام ، وبيان فضلهما عن سائر مساجد الأرض ، وسوف نرى في هذه الصفحات القليلة ما لهذين المسجدين من فضائل .
المسجد الحرام : هو المسجد الكائن بمكة المكرمة ، قبلة المسلمين في مشارق الأرض ، ومغاربها ، وهو أول مسجد وضع في الأرض لعبادة الله الواحد الأحد .
المسجد الأقصى : المسجد الأقصى الذي بأرض فلسطين ، له في نفوس المسلمين أهمية خاصة ، ومكانة عظيمة ، يُكنّون له الودّ الشديد , والحب العميق , وما ذلك إلا لتفضيل الله إياه ، وهو مُتعبَّد النبيين ، ذلك المسجد الذي أٍسس على التقوى من أول يوم بُدئ فيه البناء , تولى إمامته
__________
(1) البقرة/144).
(2) البقرة/144) انظر: تفسير القرآن العظيم 1/196.(1/47)
الأنبياء , وتنسك بساحته الأولياء , واتخذ منبره الداعون إلى الإسلام عبر الدهور منارة ترشد السائرين , ومعلماً يهدي الحائرين ، وهو أولى القبلتين ، ومسرى رسول الله S .
وقد سمى بالأقصى لبعد المسافة بينه ، وبين المسجد الحرام بمكة المكرمة فلم يكن وراءه حينئذٍ مسجد(1) .
ارتباط وثيق بين المسجد الأقصى والبيت العتيق:
لقد ارتبط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام برباط وثيق ، يدرك ذلك من أول وهلة من عرف تاريخ المسجدين ، فأوجه الشبه والاتفاق بينهما كبيرة ، وهى :
1- رحلة الإسراء والمعراج:
كان المسجد الأقصى مركزاً لنهاية رحلة أرضية بدأت من المسجد الحرام ، وبداية لرحلة علوية ، وهى: رحلة الإسراء والمعراج ، قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (2) .
2- تحويل القبلة:
وكان تحويل القبلة ذلكم الحدث العظيم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، قال تعالى: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام ِ } (3).
3- شد الرحال :
__________
(1) د. محمد سعيد عرام ، الضياء في تفسير سورة الإسراء ، ص (24) .
(2) الإسراء/1) .
(3) البقرة/144) .(1/48)
ويشترك المسجد الأقصى مع المسجد الحرام ، ومعهم المسجد النبوي ، أن هذه المساجد الوحيدة على ظهر الأرض التي يشرع شد الرحال ، والسفر إليها ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عنِ النبي Sقال: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاّ إلى ثلاثةِ مَساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، ومسجدِ الرسول Sومسجد الأقصى) (1)فلا يجوز لمسلم أن يشد الرحال لأي مسجد غير هذه المساجد (2).
4- القبلة :
وكما أن المسجد الأقصى كان قبلة لجميع الأنبياء ، والرسل فالمسجد الحرام أيضاً قبلة المسلمين إلى يوم الدين .
5- البناء :
ويشترك المسجد الأقصى ، والمسجد الحرام في أن الذي بناهما أنبياء :
المسجد الحرام : بناه نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ، قال تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (3)
المسجد الأقصى :تنازع العلماء في تعيين أول من بنى المسجد الأقصى ، ولعل أعدل هذه الأقوال : أن الذي بناه يعقوب - عليه السلام - (4).
6- الأول والثاني :
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، باب فضلِ الصلاةِ في مَسجدِ مَكَّةَ والمدينةِ برقم 1171، ومسلم في كتاب الحج ، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره برقم 3215.
(2) وعلى ذلك فسفر بعض العوام إلى مسجد السيد البدوي ، أو الدسوقي أو الحسين - رضي الله عنه - يعد من المخالفات الشرعية الجسيمة.
(3) البقرة/127).
(4) انظر: زاد المعاد في هدى خير العباد 1/50،49 ، والبداية والنهاية 2/26.(1/49)
ومن الأمور التي تجمع المسجد الحرام بالمسجد الأقصى أنهما من أول المساجد التي بنيت لله في الأرض ، ففي الصحيحين أن أبا ذر قال قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّل ؟َ قَالَ: ( الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ )(1).
7- مضاعفة الحسنات:
ويشترك المسجد الحرام والمسجد الأقصى في مضاعفة الحسنات فيهما مع اختلاف في الدرجات.
الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة :
فعن جابر قال: قال رسول الله S ( صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ) (2).
الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة:
__________
(1) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء باب قول اللهِ تعالى: (واتَّخَذَ اللهُ إِبراهيمَ خليلاً ) برقم 3301 ، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة برقم 1113.
(2) حديث صحيح : رواه أحمد 4/5 بإسناد صحيح ، وابن ماجة في إقامة الصلاة ، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبيّ S ، برقم 1452 ، وصححه ابن حبان في صحيحه برقم 1027، والمنذري في الترغيب والترهيب 4/4، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم3481.(1/50)
عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله S عن الصلاة في بيت المقدس أفضل ، أو في مسجد رسول الله S فقال : (صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر وليأتين على الناس زمان ولقيد سوط أو قال قوس الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له أو أحب إليه من الدنيا جميعا) (1).
8 - مغفرة الذنوب :
ويشتركان أيضاً في أن من قصدهما الأول للحج ، والثاني للصلاة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، ولا حرج على فضل الله .
ففي المسجد الحرام يقول الرسول S ( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) (2) .
وفي المسجد الأقصى يقول النبي S ( لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا :حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فَقَالَ النَّبِيُّ S أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ ) (3) .
__________
(1) حديث صحيح : رواه البيهقي بإسناد لا بأس به ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب2/1179.
(2) رواه البخاري في كتاب الحج ، باب فضلِ الحَجِّ المَبْرُورِ برقم 1503 ، ومسلم في الحج ، باب فضل الحج والعمرة ، برقم 1799 واللفظ له.
(3) حديث صحيح : رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس برقم 1454 ، وصححه ابن كثير في البداية والنهاية 2/26، وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة برقم 1156.(1/51)
قال ابن كثير: " فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى فقد أثنى الله تعالى عليه ، وعلى أبيه في قوله تعالى { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ َفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } (1)وقريب من هذا ماثبت في الصحيحين من حديث أبى الزناد، عن الأعرج عن أبى هريرة قال : قال رسول الله S(كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ وَقَالَتِ الْأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) (2).
__________
(1) الأنبياء/ 78، 79) .
(2) رواه البخاري في الفرائض ، باب إذا ادَّعتِ المرأةُ ابنا ًبرقم (6621) ، ومسلم في الأقضية ، باب بيان اختلاف المجتهدين ، برقم (4449) .(1/52)
أما الملك الذي لاينبغي لأحد من بعده ، فقال رب العزة عن تسخير الريح والجن: قال تعالى { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفي وَحُسْنَ مَآبٍ } (1)بالإضافة إلى أنه عُلم منطق الطير فسمع كلام النملة ، وخاطب الهدهد ، وخاطبه ، فسبحان الذي { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } (2)فإذا كان الله بفضله ، وبرحمته استجاب لنبيه سليمان - عليه السلام - ، وجعله موفقاً ، ومصيباً في حكمه ، وآتاه ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده ، وقد حدث هذا ، وعرفناه من أوثق المصادر على الإطلاق وهو: القرآن الكريم فنحن نحتسب أن يكون الله تعالى قد استجاب له الدعاء الثالث ، وهو أنه لا يأت هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه ، إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، لاسيما وقد عقب الرسول S بقوله : (وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَة)
فضائل المسجد الحرام :
ومع هذا الربط الكبير ، والفضائل العظيمة إلا أن كلا من المسجدين انفرد بفضائل عن غيره من سائر مساجد الأرض ، فمن فضائل المسجد الحرام :
1- خير أرض الله وأحبها إليه :
ومما ينفرد به المسجد الحرام أنه يقع في أرض هي خير أرض الله ، وأحب أرض إليه سبحانه ، وكفي به شرف ، فلما خرج الرسولS من مكة ، وقف يخاطبها قائلاً: (وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ) (3).
2 - مثابة للناس :
__________
(1) ص /36: 40) .
(2) العلق/4 ، 5) .
(3) صحيح وتقدم.(1/53)
قال تعالى: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } (1)فمما يتميز به المسجد الحرام أن الله تعالى جعله مثابة للناس ، أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ، ولا يقضون منه وطراً ، بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا.
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها
حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً
قال ابن القيم : " جعل البيت مثابة للناس يثوبون إليه ، ولا يقضون منه وطراً ، فالقلوب فطرت على محبته ،دائمة الاشتياق إليه متوجهة إليه حيث كانت. (2) فلله كم لها من قتيل ، وسليب ، وكم أُنفق في حبها الأموال ، والأرواح ، والأحباب ، والأوطان ، مقدماً بين يديه أنواع المخاوف، والمتالف ، والمعاطب ، والمشاق ، وهو يستلذ ذلك كله ، ويستطيبه ويراه- إن ظهر سلطان المحبة في قلبه - أطيب من نعم المتحلية ، ولذاتهم (3).
3- مهوى الأفئدة :
ومن فضائل هذا البيت أن الله تعالى جعله مهوى لأفئدة الموحدين ، في كل زمان ومكان ، قال تعالى حاكياً دعاء خليله ، وباني بيته الحرام إبراهيم - عليه السلام - : { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } (4).
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : " لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس ، والروم ، واليهود والنصارى ، والناس كلهم ، ولكن قال : من الناس فاختص به المسلمون (5).
قال ابن القيم : " وهذا واضح جلى في انجذاب الأفئدة ، وهوى القلوب ، وانعطافها ، ومحبتها لهذا البيت فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد " (6) .
4- بيت الله تعالى :
__________
(1) البقرة/125) .
(2) بدائع الفوائد، 4/ 966.
(3) زاد المعاد (1/52،51).
(4) إبراهيم/37) .
(5) تفسير القرآن العظيم (2/542) .
(6) زاد المعاد (1/51) .(1/54)
ومن الفضائل العظيمة لهذا البيت أن الله تعالى أضافه لنفسه إضافة تكريم ، وتشريف ، فكل شئ أضافه الله تعالى لنفسه فله من الفضل ، والاختصاص عن غيره ما يوجب له الاصطفاء ، والاجتباء ، قال تعالى: { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (1) أي تطهيره من كل ما لا يليق ببيوت الله من الأقذار ، والأرجاس ، والأوثان .
ولابن القيم - رحمه الله تعالى- كلام قيم حول هذه الإضافة قال رحمه الله: " وأضافه إليه بقوله : { طَهِّرَا بَيْتي } وهذه الإضافة مع التي أسكنت في القلوب من محبته ، والشوق إليه ما أسكنت لِلَّهِ ، وهى التي أقبلت بأفئدة العالم إليه ، فلما استقرت هذه الأمور في قلوب أهل الإيمان ، وذكروا بها ، فكأنها نادتهم أن استقبلوه في الصلاة ، ولكن توقفت على ورود الأمر من رب البيت ، فلما برز مرسوم { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } (2) تلقاه رسول الله S، والراسخون في الإيمان بالبشر ، والقبول ، وكان عيداً عندهم ؛ لأن رسول S الله كثيراً ما كان يحول وجهه في السماء ينتظر أن يحوله الله عن قبلة أهل الكتاب ، فولاه الله القبلة التي يرضاها (3).
5 - حرم آمن:
ومن فضائله أن الله تعالى جعله حرماً آمنا ً، لا يسفك فيه دم ، ولا تعضد به شجرة ، ولا ينفر فيه صيد ، فلقد دعا خليل الرحمن إبراهيم- عليه السلام - ربه قائلاً : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } (4)وقال رب العزة: { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } (5)وقال سبحانه: { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } (6)
__________
(1) البقرة/125) .
(2) البقرة/144) .
(3) بدائع الفوائد4/966.
(4) البقرة/126) .
(5) آل عمران/97) .
(6) البقرة/125) .(1/55)
فصان الله تعالى بيته في الجاهلية ،والإسلام من الصراعات ، والمشاجرات ، وسفك الدماء ،وجاء الإسلام ليؤكد هذه الحرمة ، فيقول الرسول S (لاَ يَحِلُّ لأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ السِّلاَحَ بِمَكَّةَ) (1) ويا سبحان الله في الوقت الذي كانت القبائل خارج مكة ، ومن حولها تتصارع ، وتعيش على سفك الدماء ، ونهب الأموال ، وانتهاك الأعراض ،كان أهل مكة ينعمون بظلال الأمن ، والله سبحانه وتعالى ذكر أهل مكة بهذه النعمة ، والتي تستوجب الشكر، فقال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُون } (2) .
6- ينعم أهله بالخيرات :
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج ، باب النهي عن حمل السلاح بمكة ، بلا حاجة ، برقم 3261.
(2) العنكبوت/67) .(1/56)
ومن فضائله أن الله تعالى جعل كل البلاد تصب خيراتها فيه ، ولقد دعا نبي إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يرزق سكان هذا البيت من الثمرات ما يغنيهم عن غيرهم تكريماً لهذا البيت ، فقال: { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون } (1)، وقال تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } (2) فاستجاب الله تعالى دعاء نبيه إبراهيم - عليه السلام - ، فبينما كان الناس يعيشون حياة القحط ، ويتقاتلون على لقمة العيش ، كان أهل الحرم أسعد حالاً من غيرهم ، ذكر ذلك رب العزة في معرض الامتنان على أهل مكة فقال: { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون } (3) وإزاء هذه النعم والمنح الربانية ، طلب الله تعالى من أهل مكة أن يشكروا هذه النعم ، وأن يخلصوا العبادة له سبحانه وتعالى: فقال: { لِإِيلَافِ قرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحَْةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (4) .
7- جعله الله تعالى قياماًَ للناس :
__________
(1) إبراهيم/37) .
(2) البقرة/126) .
(3) القصص:57).
(4) قريش) .(1/57)
قال تعالى: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاس } (1) قال ابن كثير : " أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء " قال ابن عباس : " لولم يحج الناس إلى هذا البيت لأطبق الله السماء على الأرض" (2) .
8- بلد المغنم والمغرم :
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي S فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ) (3) ، وهذا من فضل الله تعالى على عباده ، لكن هذا في غير البيت الحرم ، فللبيت الحرام قوانينه الخاصة ، فمكة كما قيل عنها: بلد المغنم ، والمغرم.
بلد المغنم: الحسنات فيه تتضاعف كما تقدم.
وبلد المغرم : من هم فيه بسيئة ، ولم يعملها كتبت عليه سيئة ، وذلك لحرمة المكان ، قال تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم } (4) .
__________
(1) المائدة:97).
(2) تفسير القرآن العظيم 1/169.
(3) رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب من همَّ بحسنةٍ أو بسَيِّئة برقم 6344، ومسلم في الإيمان ، باب إِذا همّ العبد بحسنة كتبت وإذا همّ بسيئة لم تكتب ، برقم 296.
(4) الحج/25) .(1/58)
فالحسنات في الحرم تضاعف كماً وكيفاَ لقوله تعالى: { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } (1)، فمن عمل حسنة ضاعفها الله لصاحبها إلى أضعاف كثيرة، وفضل الله واسع ، وعطاؤه لا راد له ، وهو ذو الفضل العظيم.
أما السيئة فالقول الراجح فيها : أنها تضاعف بالكيف لا بالكم ، فالسيئة عظيمة في البلد الحرام ، لقوله تعالى { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم } (2). فالله عز وجل لم يذكر مضاعفة السيئة ، بل بين سبحانه أنه يذقه من عذاب أليم ، وهذا قول شيخ الإسلام بن تيميه وتلميذه بن القيم رحمهما الله .
وعلى ذلك فتكون مضاعفة السيئة في مكة والمدينة مضاعفة كيفية ، قال تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم } (3).
وبقول بن سعدي في تفسيره " فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم موجب للعذاب ... وفي هذه الآية الكريمة وجوب احترام الحرم ، وشدة تعظيمه ، والتحذير من إرادة المعاصي فيه ، وفعلها "(4).
وأكثر العلماء على أن من هم بالسيئة في حرم مكة ، وإن لم يعملها فإنه معاقب على ذلك بخلاف بقية البلاد ، أما الهاجس والخاطر فلا يعاقب عليه لا في مكة ولا في غيرها .
وقال ابن قاسم: " فالحسنات بالكمية بالإجماع والسيئات بالكيفية وقوله تعالى : { فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } (5) أي واحدة ، وإن كانت عظيمة" (6).
__________
(1) الأنعام/160).
(2) الحج/25) .
(3) الحج/25) .
(4) تيسير الكريم الرحمن 5/170
(5) الأنعام/160).
(6) حاشية الروض المربع 4/86 ، انظر : يحيى بن موسى الزهراني الحج أدلة وأحكام ، موقع صيد الفوائد بتصرف(1/59)
قال مجاهد : "بظلم يعمل فيه عملاً سيئاً ، وهذه خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر عازماَ عليه ، وإن لم يوقعه (1).
وقال عبد الله بن مسعود: " لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعون أبين(2) ، لأذاقه الله من العذاب الأليم " (3).
قال القرطبي: " والمعاصي تتضاعف بمكة كما تتضاعف الحسنات ، فتكون المعصية معصيتين: أحداهما :بنفس المخالفة ، والثانية : بإسقاط حرمة البيت الحرام " (4).
قال ابن القيم :" فالسيئة في حَرَمِ الله وبلده ، وعلى بساطه آكد ، وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ، ولهذا ليس من عصى الملك على بساطه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره ، وبساطه" (5) .
9- لقطته للتعريف لا للتمليك:
ومما ينفرد به هذا البيت ، ويميزه عن غيره من المساجد أن أحكام اللقطة لا تنطبق عليه ، فمن وجد لقطة في الحرم وأراد أن يأخذها فيكون ذلك لتعريفها لا لتملكها ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا أَنَّ النَّبِيَّ S قَال: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ) (6).
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3/215.
(2) عون أبين : مكان في عدن ، وعدن مدينة مشهورة واقعة بالقرب من مدخل البحر الأحمر.
(3) إسناده صحيح : رواه أحمد1/ 428 ، وذكره القرطبي في التفسير12/35، عن ابن مسعود وابن عمر قالا: " لوهم رجل بقتل رجل بهذا البيت ، وهو بعون أبين لعذبه الله ، وقال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري ، تفسير القرآن العظيم 3/216.
(4) الجامع لأحكام القرآن 12/35
(5) زاد المعاد1/51.
(6) رواه البخاري في كتاب جزاء الصيد ، باب لا يُنفَّرُ صَيدُ الحرَمِ برقم (1812) .(1/60)
10- الجنة ثواب لمن حج هذا البيت:
ومن فضائله أن الله تعالى الجنة ثواباَ لمن أتاه حاجا، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله S (تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ) (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله S قال: (الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَاوَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ) (2).
11- الطواف:
ومن فضائله أنه لا يشرع ، ولا يجوز الطواف حول أي بقعة من البقاع إلا حوله ، قال تعالى: { وَلْيَطوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (3)، وعليه فإن طواف بعض العوام - نسأل الله تعالى لهم الهداية- بقبور الأولياء ، وغيرهم شرك لأنه صرف العبادة إلى غير الله تعالى ، فلا يجوز الطواف حتى داخل المسجد النبوي ، ولا المسجد الأقصى .
12- التقبيل:
وليس على ظهر الأرض موضع يشرع تقبيله ، واستلامه ، وتحط الخطايا ، والأوزار فيه غير الحجر الأسود.
"فضائل الحجر الأسود:
وهذا الحجر له فضائل وخصوصيات ليست لغيره وهى أنه :
o كان أشد بياضا من اللبن وسودته خطايا بني آدم.
o يشرع بل يستحب تقبيله.
o من أحجار الجنة.
o يبعث الحجر يوم القيامة له عينان ولسان.
__________
(1) حديث صحيح : رواه الترمذي في الحج ، بابُ ما جَاءَ في ثَوابِ الحَجِّ والعُمرةِ ، برقم 804 ، قال أبو عيسى : حديث حسن غريب من حديث ، والنسائي ، في مناسك الحج ، باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة ، برقم 2631، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 2631.
(2) رواه البخاري في العمرة باب العُمرةِ. وُجُوبُ العُمرةِ وفَضْلُها برقم 1752، ومسلم في الحج ، باب فضل الحج والعمرة برقم 3243.
(3) الحج/29) .(1/61)
o يشهد الحجر يوم القيامة لمن استلمه بحق.
o كان في القدم شفاء من العاهات ، فأفسد الجاهليون هذه الخاصية فيه بأياديهم النجسة.
وهذه هي الأدلة على هذه الخصوصية: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S (نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ) (1) وعن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال : ( إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ S يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ ) (2) وصح عنه S أيضاً (لولا ما مس الحجر من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفي ، وما على الأرض شئ من الجنة إلا غيره) (3) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله S في الحجر: (وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ ) (4)
__________
(1) حديث صحيح : رواه الترمذي في كتاب الحج باب ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام برقم 877، وقَالَ : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وابن خزيمة في صحيحه 4/220، وصححه الألباني في صحيح سنن اترمذي 1/631.
(2) رواه البخاري في الحج ، باب ما ذُكِرَ في الحَجَرِ الأسودِ برقم 1578، ومسلم في الحج ، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف برقم 3021، قال النووى : ( لا تضر ولاتنفع ) لئلا يغتر قريبي العهد بالإسلام الذي كانوا ألِفوا عبادة الأحجار، وتعظيمها ورجاء نفعها ، وإن كان امتثال ما أمر شرع فيه ينفع بالجزاء والثواب ، انظر: صحيح مسلم بشرح النووى 5/22 ، بتصرف يسير.
(3) حديث صحيح : صححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم 5334.
(4) حديث صحيح : رواه الترمذي في كتاب الحج ، بابٌ ما جاء في الحجر الأسود ، برقم 957، و قال : هذا حديث حسن ، وأحمد1/247 ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي برقم 768.(1/62)
.
هذا ولقد حاول أعداء الدين الطعن في عقيدة المسلمين ، وإثبات أن الحجر الأسود ، ليس من أحجار السماء بل من أحجار الأرض ، فقالوا: إنه من صخور البازلت الغامقة اللون التي تنتشر حول البيت ، وكان ذلك في بداية هذا القرن(1) ، وعزموا على إثبات هذا الإدعاء حتى يشككوا في صحة الحديث ، وانطلاقاَ من قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } (2) أعدت الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية رجلاً لتلك المهمة ، واسمه (برتون) حيث تعلم العربية في مدة ثماني سنوات ، وأتقنها بلهجة أهل المغرب العربي ، وأرسلوه إلى هناك ، ومن المغرب إلى مصر ، ثم الحجاز باعتباره مسلماً ينوى الحج إلى البيت الحرام ، فأكرم المصريون وفادته ، فأعجب أشد العجب بأخلاق المسلمين الذين رافقهم في رحلة الحج ، ولكن الرجل كان له هدف آخر، وعندما رأي الكعبة لأول مرة سجل أن أجمل منظر رآه في حياته هو منظر البيت ، اختلى (بروتن) بالحجر الأسود في وقت لم يكن فيه الزحام الذي نشاهده في أيامنا هذه ، وتمكن من الحصول على جزء من الحجر الأسود ، وما زال هذا الجزء محفوظاً بمتحف العلوم الطبيعية في لندن حتى يومنا هذا ، وقد سلم هذا الجزء للقنصل البريطاني في ذلك الوقت في حفل على شرف برتون ، ثم انتقل هذا الجزء من الحجر الأسود إلى بريطانيا حتى يثبتوا أنه حجر من أحجار القشرة الأرضية ،وكانت المفاجأة آلتي أذهلتهم أنه حجر نيزكي فريد- أي ليس من أحجار الأرض- وإزاء هذه المعجزة الباهرة أعلن (برتون) إسلامه ، وألف كتاباً رائعاً من جزئين اسمه: رحلة إلى مكة Ajourney to Mekka وصدق الله تعالى:
__________
(1) العشرين.
(2) الأنفال/36) .(1/63)
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (1).
13- يجب على القادر أن يأتيه:
ومما ينفرد به هذا لبيت أنه يجب على المسلم المستطيع أن يأتيه للحج، بل إنه لايتم إسلام المسلم القادر إلا به ، فحج هذا البيت ركن من أركان الإسلام ، قال تعالى: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } (2)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله S (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ ) (3).
14- يحرم استقباله أو استدباره عند قضاء الحاجة:
ومن خصائص هذا البيت أنه يحرم استقباله ، أو استدباره عند قضاء الحاجة ، دون سائر بقاع الأرض فقد قيل لسلمان الفارسي S (قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ قَالَ فَقَالَ أَجَلْ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ ) (4) وقد تقدم أنه لا فرق بين البناء ، والفضاء على الراجح من كلام العلماء .
15- لا يدخله مشرك:
__________
(1) التوبة /32) انظر: منبر الإسلام ، عدد ذو الحجة ، السنة : 1422هـ ، ص45.
(2) آل عمران/97) .
(3) رواه البخاري في الإيمان ، باب أمور الإيمان برقم 8 ، مسلم في الإيمان ، باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام برقم79.
(4) صحيح وتقدم .(1/64)
ومن خصائص البيت الحرام أنه لا يدخله مشرك ، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (1)وعن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ S يَقولُ:( لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا) (2)
قال ابن كثير: " وأوصى رسول الله S أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان ، وأن تجلى اليهود والنصارى منها ، ولله الحمد والمنة ، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام ، وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراَ ، ونذيراَ صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام صدوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله عنده ، والطواف به عرياَ ، وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله (3).
16- أم القرى:
__________
(1) التوبة/28) .
(2) رواه مسلم في الجهاد والسير ، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، برقم 4548.
(3) تفسير ابن كثير 1/158.(1/65)
ومن فضائل البيت الحرام أنه يقع بمكة ، وما أدراك ما مكة ؟ مكة التي أقسم الله تعالى بها لشرفها فقال: { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } (1)وهى أم القرى ، فالقرى كلها تبع لها ، وفرع عليها ، وهى أصل القرى ، فيجب أن لا يكون لها في القرى عديل ، فهي كما أخبر النبي Sعن الفاتحة بأنها أم القرآن كما في حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله S: ( لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْتَرِئْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ) (2) ولهذا لم يكن لها في الكتب السماوية عديل. (3) قال تعالى مخاطباً نبيه: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير } (4) .
فضائل المسجد الأقصى:
وعلى الجانب الآخر فالمسجد الأقصى ينفرد بفضائل ، وخصائص عن سائر مساجد الأرض ، وقد ذكر العلامة ابن كثير كلاماً طيباً في بيت المقدس ، ونقل أول خطبة ألقيت فيه بعد أن حرره الله - تعالى - على يدي وليه صلاح الدين .
__________
(1) التين/3) .
(2) رواه البخاري في الآذان ، باب وُجوبِ القراءَةِ للإِمامِ والمأْمومِ في الصلواتِ كلِّها في الْحَضَرِ والسفرِ، وما يُجهَرُ فيها وما يُخافَتُ برقم747 ، ومسلم في الصلاة ، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وإِنه إِذا لم يحسن الفاتحة ولا أَمكنه تعلمها قرأَ ما تيسر له من غيرها برقم 825.
(3) زاد المعاد1/50.
(4) الشورى/7) .(1/66)
قال ابن كثير - رحمه الله - :" أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان ، والنواقيس ، والرهبان ، والقساقس ، ودخله أهل الإيمان ، ونودي بالآذان ، وقرئ القرآن ، ووحد الرحمن ، كانت أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان ، بعد يوم الفتح بثمان ، فنصب المنبر إلى جانب المحراب ، وبسطت البسط ، وعلقت القناديل ، وتلي التنزيل ، وجاء الحق ، وبطلت الأباطيل ، وصفت السجادات ، وكثرت السجدات ، وتنوعت العبادات ، وارتفعت الدعوات ، ونزلت البركات ، وانجلت الكربات ، وأقيمت الصلوات ، وأذن المؤذنون ، وخرس القسيسون ، وزال البوس ، وطابت النفوس ، وأقبلت السعود ، وأدبرت النحوس ، وعبد الله الأحد الصمد الذي: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } (1)
__________
(1) الإخلاص /3، 4) .(1/67)
، وكبره الراكع ، والساجد،والقائم ، والقاعد ،وامتلأ الجامع ، وسالت لرقة القلوب المدامع ، ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال ، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاة وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباَ ، فلبس الخلعة السوداء ، وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة ذكر فيها شرف البيت المقدس ، وما ورد فيه من الفضائل ، والترغيبات ، وما فيه من الدلائل ، والأمارات ،وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها ، وكان أول ما قال : فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين ، ثم أورد تحميدات القرآن كلها ، ثم قال: " الحمد لله معز الإسلام بنصره ، ومذل الشرك بقهره ، ومصرف الأمور بأمره ، ومزيد النعم بشكره ، ومستدرج الكافرين بمكره ، الذي قدر الأيام دولاَ بعدله ، وجعل العاقبة للمتقين بفضله ، وأفاض على العباد من طله وهطله ، الذي أظهر دينه على الدين كله ، القاهر فوق عباده فلا يمانع ، والظاهر على خليقته فلا ينازع ، والآمر بما يشاء فلا يراجع ، والحاكم بما يريد فلا يدافع ، أحمده على إظفاره ، وإظهاره ، وإعزازه لأوليائه ، ونصرة أنصاره ، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك ، وأو ضاره ، حمد من استشعر الحمد باطن سره ، وظاهر أجهاره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه ، وأرضى به ربه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشكر ، وداحض الشرك ، ورافض الإفك ، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى ، وعرج به منه إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى ، عندها جنة المأوى ما زاغ البصر ، وما طغىS ، وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان ، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار(1/68)
الصلبان ، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين ، جامع القرآن ، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ، ومكسر الأصنام ، وعلى آله ، وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان ، ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس الذي من شأنه كذا وكذا ، فذكر فضائله ومآثره وأنه أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين (1)، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ، وإليه أسري برسول الله S من المسجد الحرام ، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام ، ومنه كان المعراج إلى السماوات ، ثم عاد إليه ، ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق ، وهو أرض المحشر ، والمنشر يوم التلاق ، وهو مقر الأنبياء ، ومقصد الأولياء ، وقد أسس على التقوى من أول يوم قلت ويقال إن أول من أسسه يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل المسجد الحرام بأربعين سنة كما جاء في الصحيحين ، ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام كما ثبت فيه الحديث. (2).
وهذه جملة من فضائل المسجد الأقصى :
1- صلاة الأنبياء فيه جماعة:
__________
(1) لقد اختص الله - عز وجل - مكة والمدينة بهذه الصفة - التي هي الحرمة - دون سائر البلاد ، ولم يأت دليل ثابت يدل على تحريم شئ غير مكة والمدينة ، وما شاع على ألسنة كثير من الناس من أن المسجد الأقصى ثالث الحرمين هو من الخطأ الشائع ؛ لأنه ليس هناك للحرمين ثالث ، ولكن التعبير الصحيح أن يقال : ثالث المسجدين ، أي المشرفين المعظمين ، انظر: عبد المحسن بن حمد العباد البدر ، فضل المدينة وآداب سكناها وزيارتها ، ص 7 ، المدينة المنورة ، دار المغني للنشر والتوزيع ، سنة 1423هـ ، ط الثالثة.
(2) البداية والنهاية ،12/325.(1/69)
ومن أعظم ما ينفرد به المسجد الأقصى عن غيره من المساجد : اجتماع الأنبياء فيه ليلة الإسراء والمعراج ، حيث كانوا في شرف استقبال الرسول S ، وصلوا جميعا في رحاب المسجد الأقصى ، وكان إمامهم في هذه الصلاة رسول الله S ، ولم ينقل أن الأنبياء اجتمعوا في مكان واحد في غير المسجد الأقصى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه ِS:(لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ ) (1) .
2 - أول قبلة :
ومن فضائله- فك الله أسره - أنه كان القبلة الأولى للمسلمين لمدة زادت عن العام والنصف .
3- مسرى رسول الله S:
كان المسجد الأقصى مركزاً لنهاية رحلة الإسراء ، وبداية لرحلة المعراج ، حيث السماوات العلا ، قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } (2) .
4- بارك حوله:
__________
(1) رواه مسلم في الإيمان برقم251.
(2) الإسراء/1) .(1/70)
ومما يتميز به المسجد الأقصى أن الله تعالى بارك فيه ، وحوله ، وجعله في أرض مباركة ، وقد وصف المسجد الأقصى بالبركة فى أكثر من موضع من القرآن الكريم: قال تعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (1) أي الذي أحللنا البركة حوله ، وفيه بتكثير الأشجار، وإجراء الأنهار، والبركة ، وهي النماء ، والزيادة في الخيرات ، والمنح والهبات (2).
ومن مظاهر هذه البركة لهذا المسجد ما يأتي:
"على أرضه سيقصم الله اليهود:
ففي رحابه وعلى أرضه المباركة ، سوف يقصم الله تعالى - بأيدي أوليائه- اليهود ويدمر كيانهم ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عن رسول الله S قال (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ ) (3).
"يقتل على أرضه المسيح الدجال :
__________
(1) الإسراء/1) .
(2) انظر: محاسن التأويل 10/185، وانظر للشيخ أحمد فريد ، وقفات تربوية مع السيرة النبوية ، ص121، المكتبة التوفيقية ، القاهرة ، سنة (2000 م) ، وتفسير القرآن العظيم (3/534) .
(3) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب قتال اليهود برقم ، 2859، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء برقم 7286.(1/71)
وعلى هذه الأرض المباركة يقتل المسيح الدجال ، أعظم فتنة ، وأعظم خطر ينتظر المسلمين ، ويكون قتله على يدي المسيح - عليه السلام - ، فأول الأعمال التي يقوم بها عيسى - عليه السلام - هى مواجهة الدجال ، فبعد نزول عيسى- عليه السلام - يتوجه إلى بيت المقدس ، ويصلى مع المسلمين حيث يكون الدجال محاصراً عصابة من المسلمين فيأمرهم عيسى - عليه السلام - بفتح الباب كما في سنن ابن ماجة من حديث أبى أمامة الباهلي قال:" خطبنا رسول الله S فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال ، وحذرناه فكان من قوله أَنْ قَالَ : ( إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلَّا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ وَأَنَا آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ آخِرُ الْأُمَمِ وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ فَأَنَا حَجِيجٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شِمَالًا يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي إِنَّهُ يَبْدَأُ فَيَقُولُ أَنَا نَبِيٌّ وَلَا نَبِيَّ بَعْدِي ثُمَّ يُثْنِّي فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ وَلَا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ(1/72)
فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ فَتَكُونَ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتِ النَّارُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لِأَعْرَابِيٍّ أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأُمَّكَ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَقُولَانِ يَا بُنَيَّ اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا وَيَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ حَتَّى يُلْقَى شِقَّتَيْنِ ثُمَّ يَقُولَ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي أَبْعَثُهُ الْآنَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ وَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْتَ الدَّجَّالُ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ بَعْدُ أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّنَافِسِيُّ فَحَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S ذَلِكَ الرَّجُلُ أَرْفَعُ أُمَّتِي دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ قَالَ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ وَاللَّهِ مَا كُنَّا نُرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ قَالَ الْمُحَارِبِيُّ ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ قَالَ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ وَيَأْمُرَ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ فَلَا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلَّا هَلَكَتْ وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرَ(1/73)
السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ وَيَأْمُرَ الْأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ وَأَعْظَمَهُ وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُرُوعًا وَإِنَّهُ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَا يَأْتِيهِمَا مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا إِلَّا لَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الظُّرَيْبِ الْأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ فَتَنْفِي الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَلَاصِ فَقَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ بِنْتُ أَبِي الْعَكَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ قَالَ هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ وَجُلُّهُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ فَرَجَعَ ذَلِكَ الْإِمَامُ يَنْكُصُ يَمْشِي الْقَهْقَرَى لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ تَقَدَّمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ عِيسَى - عليه السلام - افْتَحُوا الْبَابَ فَيُفْتَحُ وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ(1)
__________
(1) هذا الحديث وغيره من الأحاديث تدل على أن هذه الصواريخ والقنابل والمدافع ستتلاشى ، وأغلب الظن أنها ستدمر نفسها بنفسها ، وأن البشرية ستعود لاستعمال السيف والرمح ، ولا يفهم من هذا الدعوة للتكاسل وإعداد السيوف والرماح ؛ بل يجب على المسلمين أن يأخذوا بأحدث الأساليب القتالية المتطورة للدفاع عن الدين والأوطان ، عملا بقول الله تعالى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُم } (الأنفال/60) .(1/74)
مُحَلًّى وَسَاجٍ فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا وَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ فَيَقْتُلُهُ فَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ يَتَوَارَى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلَّا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَا حَجَرَ وَلَا شَجَرَ وَلَا حَائِطَ وَلَا دَابَّةَ إِلَّا الْغَرْقَدَةَ فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لَا تَنْطِقُ إِلَّا قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S وَإِنَّ أَيَّامَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً السَّنَةُ كَنِصْفِ السَّنَةِ وَالسَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَآخِرُ أَيَّامِهِ كَالشَّرَرَةِ يُصْبِحُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ فَلَا يَبْلُغُ بَابَهَا الْآخَرَ حَتَّى يُمْسِيَ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْقِصَارِ قَالَ تَقْدُرُونَ فِيهَا الصَّلَاةَ كَمَا تَقْدُرُونَهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الطِّوَالِ ثُمَّ صَلُّوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S فَيَكُونُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلًا وَإِمَامًا مُقْسِطًا يَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَذْبَحُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ فَلَا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلَا بَعِيرٍ وَتُرْفَعُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَتُنْزَعُ حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الْوَلِيدُ يَدَهُ فِي فِي الْحَيَّةِ فَلَا تَضُرَّهُ وَتُفِرَّ الْوَلِيدَةُ الْأَسَدَ فَلَا يَضُرُّهَا وَيَكُونَ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا وَتُمْلَأُ الْأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا(1/75)
يُمْلَأُ الْإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللَّهُ وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَتُسْلَبُ قُرَيْشٌ مُلْكَهَا وَتَكُونُ الْأَرْضُ كَفَاثُورِ الْفِضَّةِ تُنْبِتُ نَبَاتَهَا بِعَهْدِ آدَمَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ وَيَكُونَ الثَّوْرُ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ وَتَكُونَ الْفَرَسُ بِالدُّرَيْهِمَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُرْخِصُ الْفَرَسَ قَالَ لَا تُرْكَبُ لِحَرْبٍ أَبَدًا قِيلَ لَهُ فَمَا يُغْلِي الثَّوْرَ قَالَ تُحْرَثُ الْأَرْضُ كُلُّهَا وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا ثُمَّ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فِي الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ فَلَا تُقْطِرُ قَطْرَةً وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتَحْبِسُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ فَلَا تُنْبِتُ خَضْرَاءَ فَلَا تَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ إِلَّا هَلَكَتْ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ قِيلَ فَمَا يُعِيشُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالَ التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ وَيُجْرَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مُجْرَى الطَّعَامِ) (1).
__________
(1) حديث صحيح : صححه الألبانى في صحيح الجامع برقم7752 .(1/76)
وفي رواية لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ لَا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّأْمَ خَرَجَ فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ ) (1).
"يبيد الله تعالى على أرضه جحافل يأجوج ومأجوج:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن برقم5157.(1/77)
وعلى أرضه يبيد الله تعالى جحافل يأجوج ومأجوج ، وذلك بعد هزيمة الدجال ، ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان أن الرسولS قال:(.... ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ(1) وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّة (2) َ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَف (3) فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى (4) كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ (5) وَنَتْنُهُمْ فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ(6) فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَر(7)
__________
(1) يقصد الصعود إلى الجبل .
(2) بحيرة طبرية : بحيرة كبيرة في فلسطين ماؤها عذب .
(3) النغف دود يكون في أنوف الإبل والغنم.
(4) جمع فريس ، وهو القتيل .
(5) زهمهم: دسمهم ورائحتهم الكريهة .
(6) البخت : جمال طوال الأعناق.
(7) المدر : الطين اليابس.(1/78)
ٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ (1)ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا (2) وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ(3) مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ(4) مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ(5) مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ(6) فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ) (7) .
8- أرض المحشر والمنشر:
__________
(1) الزلفة : المرآة وهو كناية عن عموم الماء جميع الأرض .
(2) قحفها: قشرها.
(3) اللقحة: الناقة الحلوب القريبة العهد بالولادة.
(4) الفئام : الجماعة .
(5) الفخذ : الجماعة من الأقارب .
(6) أي يجامع رجالهم نساءهم علانية كما يجامع الحمير بعضهم بعضاً علانية
(7) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه برقم 7322.(1/79)
دلت الأحاديث الصحيحة أن هذه الأرض المباركة هى محشر الناس في آخر الزمان ، فعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال:( اطلع النبي S عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ فَقَالَ مَا تَذَاكَرُونَ قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ قَالَ إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ S وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ) (1) وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال رسول الله S :( سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَوْ مِنْ نَحْوِ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ) (2) والأرض التي تحشر الناس إليها هى بلاد الشام ، ففي كتاب فضائل الشام للربعي عن أبى ذر بإسناد صحيح أن رسول الله S قال:( الشام أرض المحشر والمنشر) (3).
دلالة هذا الارتباط الوثيق :
__________
(1) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة ، باب ذكر الدجال وصفته وما معه برقم 7322.
(2) حديث صحيح : رواه الترمذي في كتاب الفتن ، بابُ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ قِبَلِ الْحِجَاز ، برقم2249 قال : هذا حديث حسن غريب صحيح ، وصححه الألباني في الصحيحة 6/336 .
(3) حديث صحيح: صححه الألبانى في صحيح الجامع برقم 3726.(1/80)
إن هذه الفضائل التي ذكرت للمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى والربط الوثيق بينهما فيه دلالة على ما ينبغي أن يوجد لدى المسلمين في كل عصر ، ومصر من الحفاظ على هذه الأرض المقدسة ، وحمايتها من مطامع الدخلاء ، وكأن الحكمة الإلهية تهيب بمسلمي هذا العصر أن لا يهنوا ، ولا يجبنوا ، ولا يتخاذلوا أمام عدوان اليهود على هذه الأرض المقدسة ، وأن يطهروها من رجس اليهود.
عشنا أعزاءَ ملءَ الأرض ما
لمست جباهُنا تُرْبَها إلاَّ مُصَلِّينا
لاينزل النصرُ إلا فوقَ رايتِنا
ولا تَمَسُ الظُّبا إلا نواصينا
فقبِّلوا أرضَ حِطِّينٍ فإنَّ بِها
دمَ البطولةِ من أيامِ حِطِّينا
ياربِّ فارددْ لنا بَيتَ مقْدِسِنا
واحفظْ كرامتنا دمِّر أعادينا
نعم فالمسجد الأقصى في القلب ، وهو جزء لا يتجزأ من مقدسات المسلمين ، وإنني على يقين من نصر الله تعالى ، وأن المسجد الأقصى سوف يعود إلينا عوداً حميدا ً، فأبداً لن تظل أرحام الناس عقيمة أن تلد للعالم الإسلامي قائدا كصلاح الدين يطهر القدس ويحررها كما حررها من قبل ، وما ذلك على الله بعزيز ، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون َ } (1) .
يا أمّتي إن قسوتُ اليوم معذرةً
فإن كَفِّيَ في النيران تلتهبُ
فَكَم يَحُزُّ بقلبي أن أرى أُمَمًَا
طارتْ إلى المجد والعُرْبانَ قد رَسَبُو
ونحنُ كنا بهذا الكون أَلْوِيَةً
ونحن كنا لِعِزِّ الشَمْسِ نَنْتَسِبُ
مَهْمَا دَجَى الليلُ فالتاريخُ أَنْبَأَني
أنَّ النهارَ بَأَحْشَاءِ الدُّجى يَثِبُ
إني لأَسْمَعُ وَقْعَ الخيلِ في أُذُني
وأُبْصِرُ الزمنَ الموعودَ يقتربُ
وفِتْيَةً في رياضِ الذِّكرِ مَرْتَعُهُمْ
للهِ ما جَمَعوا للهِ ما وَهَبوا
جاءوا على قَدَرٍ واللهُ يَحْرُسُهمْ
وشِرْعَةُ اللهِ نِعْمَ الغَايُ والنَّسَبُ
دروس في السمع والطاعة :
__________
(1) يوسف/21) .(1/81)
قال تعالى: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحونَ } (1) وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله S قال: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) (2).
لقد ضرب أصحاب الرسول S أروع الأمثال في الاستجابة لأمر الله تعالى ، والانقياد لحكمه ، وأمره ، فما أن جاء الأمر من العلى القدير لهم أن يتوجهوا إلى المسجد الحرام ، وكانوا ساعتها يصلون وهم ركوع ، فإذا بهم يستديرون ناحية المسجد الحرام ، وهم ركوع ، فعن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ S كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ S قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ) (3).
__________
(1) النور/51) .
(2) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب الاقتِداءِ بسننِ رسولِ اللَّه S برقم7117.
(3) رواه البخاري في الإيمان ، باب الصَّلاةُ مِنَ الإِيمانِ رقم 40.(1/82)
يعقب العلامة ابن كثير على هذا الصنيع بقوله :" وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ، ولرسوله ، وانقيادهم لأوامر الله عز وجل ، رضوان الله عليهم أجمعين ".(1)
واستحق الصحابة بهذا الصنيع أن أثنى الله تعالى عليهم فقال: { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّه } (2).
"إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ :
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ S سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ S( أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ) (3) حقاً إن الله بالناس لرؤف رحيم ، فتشريعه كله رحمة :لا يكلف نفساً فوق طاقتها ، رحمته سبقت غضبه ، وعفوه سبق عقوبته ، يملى للظالم فإن عاد قبله ، وإن أصر أخذه ، يفرح بتوبة التائب ، ويقربه إليه ، ويحاسب أولياءه بالفضل ، وأعداءه بالعدل ،كلتا يديه يمين ، وفي هذا الحدث العظيم: تحويل القبلة تتجلى رحمة الله تعالى فيما يأتي:
1- أنه أتم علينا النعمة:
تنازع السلف في معنى تمام النعمة في قوله تعالى: { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون } َ(4) ومن هذه الأقوال ما يأتي :
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 1/253.
(2) البقرة/143) .
(3) رواه البخاري في الأدب ، باب رحمةِ الولدِ وتقبيلهِ ومعانقتِه برقم5862 ، ومسلم في التوبة ، باب في سعة رحمة اللّهِ تعالى وأنها سبقت غضبه برقم 6927.
(4) البقرة/150) .(1/83)
فقيل : تمام النعمة دخول الجنة ، وقيل الموت على الإسلام: وقيل الهداية إلى القبلة ، وقيل إتمام النعمة في الآخرة إرسال الرسول منكم (1).
2- جعلنا أمة وسطاً:
قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (2).
قال القرطبي: " والمعنى كما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا ً، أي جعلناكم دون الأنبياء ، وفوق الأمم ، والوسط العدل ، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها ، فعن أبي سعيد الخدري عن النبي S في قوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا كُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (3) والوسط العدل) (4) ولما كان الوسط مجانباً للغلو ، والتقصير كان محموداً أي هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم(5).
3- شهداء على الناس :
__________
(1) انظر: تفسير البيضاوى1/168 ، وتفسير القرآن العظيم 1/196.
(2) البقرة/143) .
(3) البقرة/143) .
(4) رواه البخاري في تفسير القرآن ، باب وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً برقم4373.
(5) الجامع لأحكام القرآن2/156 بتصرف يسير.(1/84)
ومن الخصائص ،والمنح الربانية للأمة المحمدية أنهم - مع أنهم آخر الأمم- شهداء على الناس ، قال تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا كمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (1)وفي الصحيح من حديث أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله S : ( يُدْعَى نُوحٌ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغْتَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ وَمَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ فَيُقَالُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ قَالَ فَيُؤْتَى بِكُمْ تَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ ) (2).
__________
(1) البقرة/143) .
(2) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ، باب إنا أرسلنا نُوحاً إِلى قومهِ برقم 3269.(1/85)
وفي رواية (يَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَيَجِيءُ النَّبِيُّ وَمَعَهُ الثَّلَاثَةُ وَأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتَ قَوْمَكَ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيُقَالُ مَنْ يَشْهَدُ لَكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَتُدْعَى أُمَّةُ مُحَمَّدٍ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَ هَذَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ وَمَا عِلْمُكُمْ بِذَلِكَ فَيَقُولُونَ أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا بِذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغُوا فَصَدَّقْنَاهُ قَالَ فَذَلِكُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (1).
__________
(1) صحيح : رواه ابن ماجة في الزهد ، باب صفة أمة محمد S ، برقم4376، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 8033.(1/86)
والأمة المحمدية عندما تدلى بشهادة يكون ذلك أصدق دليل على شرفها ، ومكانتها ، فإنه من المعلوم أنه لا تقبل إلا شهادة العدول ، والله سبحانه وتعالى من كمال فضله ، ورحمته بهذه الأمة يقبل شهادتهم فيمن مات منهم ، وذلك إن شهدوا له أو عليه ، عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه يَقُولُ : ( مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ S: وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه مَا وَجَبَتْ ؟ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ) (1).
4- الرسول S شهيد علينا:
قال تعالى: { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا } (2)فقد أخبر الله تعالى أن النبي S سوف يشهد على هذه الأمة يوم القيامة ، ولكن بأي شيء يشهد؟ ، قال القرطبي: قيل يشهد بأعمالنا ، وقيل يشهد لنا بالإيمان ، وقيل يشهد عليكم بالتبليغ (3).
5- اختيار القبلة :
__________
(1) رواه البخاري في الجنائز ، باب ثَناء الناسِ على الميِّتِ برقم1343، ومسلم في الجنائز ، باب فيمن يثنى عليه خير أو شر من الموتى ، برقم2154.
(2) البقرة/143) .
(3) الجامع لأحكام القرآن (2/156) بتصرف يسير.(1/87)
من المعلوم أن الأماكن ، والاتجاهات في الحقيقة على حد سواء فلا يتفاضل مكان على آخر إلا بتفضيل الله له ، فإذا اختار الله سبحانه وتعالى لنا نحن المسلمين جهة معينة ، وأمرنا بالاتجاه إليها في أشرف أوقاتنا ، وهى أوقات الصلاة ، أدركنا أن الخير كل الخير ذلك ، والله سبحانه وتعالى أرتضى لنا المسجد الحرام قبلة فقال: { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (1).
قال ابن القيم :" وأخبر أن الذي يهدى من يشاء إلى صراط
مستقيم ، هو الذي هداهم إلى هذه القبلة ، وأنها هي القبلة التي تليق بهم ، وهم أهلها ، لأنها أوسط القبل ، وأفضلها ، وهم أوسط الأمم ، وخيارهم ، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم ، كما اختار لهم أفضل الرسل ، وأفضل الكتب ، وأخرجهم من خير القرون ، وخصهم بأفضل الشرائع ، ومنحهم خير الأخلاق ، وأسكنهم خير الأرض ، وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل ، وموقفهم في القيامة خير المواقف ، فهم على تل عالٍ ، والناس تحتهم، فسبحان من:
{ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم ِ } (2).
__________
(1) البقرة/144) .
(2) البقرة/105) ، وانظر: زاد المعاد 3/68.(1/88)
وكان هذا الفضل من أسباب حسد اليهود - قبحهم الله- فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:(بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ S إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ السَّامُ عَلَيْكَ فَقَالَ النَّبِيُّ S وَعَلَيْكَ قَالَتْ فَهَمَمْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ قَالَتْ ثُمَّ دَخَلَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ S وَعَلَيْكَ قَالَتْ ثُمَّ دَخَلَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ السَّامُ عَلَيْكَ قَالَتْ فَقُلْتُ بَلِ السَّامُ عَلَيْكُمْ وَغَضَبُ اللَّهِ إِخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ أَتُحَيُّونَ رَسُولَ اللَّهِ S بِمَا لَمْ يُحَيِّهِ بِهِ اللَّهُ قَالَتْ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ مَهْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ قَالُوا قَوْلًا فَرَدَدْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَضُرَّنَا شَيْءٌ وَلَزِمَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ )(1) .
6- لا يضيع عمل عامل:
__________
(1) صحيح : رواه أحمد 6/134، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (515) .(1/89)
قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم } (1)، وقال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُنْ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } (2)عندما أثيرت شبهة من السفهاء عن حالة النبي S ، وتحوله من قبلة إلى قبلة ، دفع هذا بعض المسلمين أن يسألوا عن صلاتهم ناحية المسجد الأقصى هل يثابون عليها ، لاسيما وقد مات منهم من مات قبل تحويل القبلة ؟ فأنزل الله تعالى ما يثلج صدورهم ،ويخرس ألسنة أعداء الدين من اليهود، والمنافقين ، والمشركين ، فقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم } (3) .
فهرس المحتويات
مڑالموضوعڑالصفحةٹڑ
ڑ1ڑالمقدمةڑٹڑ
ڑ2ڑالفصل الأول توطئة وتمهيدڑٹڑ
ڑ3ڑالحدث والزمان والمكانڑٹڑ
ڑ4ڑالحدثڑٹڑ
ڑ5ڑالزمانڑٹڑ
ڑ6ڑالمكانڑٹڑ
ڑ7ڑمدة التوجه إلى بيت المقدسڑٹڑ
ڑ8ڑمفهوم القبلةڑٹڑ
ڑ9ڑمظاهر تعظيم القبلة ڑٹڑ
ڑ10ڑنهى عن استقبالها أو استدبارها ببول ڑٹڑ
ڑ11ڑالبنيان والفضاء سواء
ڑ
ٹڑ
ڑ11ڑأمر بالاتجاه إليها في اليوم والليلة خمس ڑ
ٹڑ
ڑ12ڑعلق على الاتجاه إلى القبلة صحة الصلاةڑٹڑ
ڑ13ڑتمهيد القرآن للتحويلڑٹڑ
ڑ15ڑما حدث في هذه الليلةڑٹڑ
ڑ16ڑليلة النصف من شعبان في الميزانڑٹڑ
ڑ17ڑبيان عن ليلة النصف من شعبان ڑٹڑ
ڑ18ڑأقوال العلماء في ليلة النصف من شعبانڑٹڑ
ڑ19ڑحديثان صحيحان في ليلة النصف من شعبانڑٹڑ
ڑ20ڑرأى العلامة الألبانيڑٹڑ
ڑ21ڑصيام النصف من شعبانڑٹڑ
ڑ22ڑأوهام العوام في ليلة النصف من شعبانڑٹڑ
ڑ23ڑتخصيص يومها بالصيامڑٹڑ
ڑ24ڑتخصيص ليلها بالقيامڑٹڑ
ڑ25ڑتفضيلها على ليلة القدرڑٹڑ
ڑ27ڑإدعاء أنها الليلة المباركة ڑٹڑ
ڑ28ڑالاحتفال بهذه الليلةڑٹڑ
ڑ29ڑالفصل الثالث: الحكمة من تحويل القبلةڑٹڑ
__________
(1) البقرة/143) .
(2) النساء/40) .
(3) البقرة/143).(1/90)
ڑ30ڑوحدة الأديانڑٹڑ
ڑ31ڑالتدرج في التشريعڑٹڑ
ڑ32ڑتأليف قلب اليهودڑٹڑ
ڑ33ڑرأي الشيخ الشعراوي في حكمة التوجه ڑٹڑ
ڑ34ڑالرد على الشيخ الشعراويڑٹڑ
ڑ35ڑتحويل القبلة قبل فتح مكةڑٹڑ
ڑ36ڑالكعبة بيت الله لا بيت العربڑٹڑ
ڑ37ڑالأدلة والبراهين على معرفة العرب بأن الكعبة ڑٹڑ
ڑ38ڑقصة بناء الكعبة ڑٹڑ
ڑ39ڑالتهيب من هدمهاڑٹڑ
ڑ41ڑبناؤها من مال حلالڑٹڑ
ڑ42ڑالطواف بالبيت عراياڑٹڑ
ڑ43ڑعزم إبرهة هدم الكعبةڑٹڑ
ڑ44ڑلم يكن للمسلمين ولاية على المسجد الأقصى ڑٹڑ
ڑ45ڑالحكمة من تحويل القبلةڑٹڑ
ڑ46ڑانتقال الرسالةڑٹڑ
ڑ47ڑالابتلاءڑٹڑ
ڑ48ڑالاستجابة لدعاء رسول الله Sڑٹڑ
ڑ49ڑسر محبة النبى للكعبةڑٹڑ
ڑ50ڑمخالفة اليهودڑٹڑ
ڑ51ڑطائفة من التوجيهات النبوية في هذا البابڑٹڑ
ڑ52ڑتسلية الرسول Sڑٹڑ
ڑ53ڑموقف أعداء الدين من تحويل القبلة ڑٹڑ
ڑ54ڑمن هم السفهاءڑٹڑ
ڑ55ڑاليهود وتحويل القبلةڑٹڑ
ڑ56ڑسفاهة المشركينڑٹڑ
ڑ57ڑسفاهة المنافقينڑٹڑ
ڑ58ڑالقرآن يرد على السفهاءڑٹڑ
ڑ59ڑأخبر بمقالتهم قبل أن يقولوهاڑٹڑ
ڑ60ڑلن يمروا على الحدث مرور الكرامڑٹڑ
ڑ60ڑذكر أن أهل الكتاب لن يتبعوا النبي S ڑٹڑ
ڑ62ڑلكل دين قبلةڑٹڑ
ڑ63ڑكرر الأمر بالتوجه إلى الكعبةڑٹڑ
ڑ64ڑلا حجة لأحد على رسول الله S ڑٹڑ
ڑ65ڑأينما تولو فثم وجه اللهڑٹڑ
ڑ66ڑفلا تخشوهم واخشون ڑٹڑ
ڑ67ڑتحويل القبلة علامة على صدق النبوةڑٹڑ
ڑ68ڑدروس وعبر من تحويل القبلةڑٹڑ
ڑ69ڑالكعبة والقدس فى القلبڑٹڑ
ڑ70ڑتعريف المسجد الحرامڑٹڑ
ڑ71ڑتعريف بالمسجد الأقصىڑٹڑ
ڑ72ڑسبب التسميةڑٹڑ
ڑ73ڑارتباط وثيق بين المسجد الأقصى والبيت العتيقڑٹڑ
ڑ74ڑرحلة الإسراء والمعراجڑٹڑ
ڑ75ڑتحويل القبلةڑٹڑ
ڑ76ڑشد الرحالڑٹڑ
ڑ77ڑالقبلةڑٹڑ
ڑ78ڑالبناءڑٹڑ
ڑ79ڑالأول والثانىڑٹڑ
ڑ80ڑمضاعفة الحسناتڑٹڑ
ڑ81ڑالصلاة فى المسجد الحرام بمائة ألف صلاةڑٹڑ
ڑ82ڑالصلاة فى المسجد الأقصى بخمسمائة صلاةڑٹڑ
ڑ83ڑمغفرة الذنوبڑٹڑ
ڑ84ڑفضائل المسجد الحرامڑٹڑ(1/91)
ڑ85ڑخير أرض الله وأحبها إليهڑٹڑ
ڑ86ڑمثابة للناسڑٹڑ
ڑ87ڑمهوى الأفئدةڑٹڑ
ڑ88ڑبيت الله تعالىڑٹڑ
ڑ89ڑحرماً آمناًڑٹڑ
ڑ90ڑينعم أهله بالخيراتڑٹڑ
ڑ91ڑجعله الله تعالى قياماًَ للناسڑٹڑ
ڑ92ڑبلد المغنم والمغرمڑٹڑ
ڑ93ڑلقتطه للتعريف لا للتمليكڑٹڑ
ڑ94ڑالجنة ثواب لمن حج هذا البيتڑٹڑ
ڑ95ڑالطوافڑٹڑ
ڑ96ڑالتقبيلڑٹڑ
ڑ97ڑفضائل الحجر الأسودڑٹڑ
ڑ98ڑيجب على القادر أن يأتيهڑٹڑ
ڑ99ڑيحرم استقباله أواستدباره عند قضاء الحاجةڑٹڑ
ڑ100ڑلا يدخله مشركڑٹڑ
ڑ101ڑأم القرىڑٹڑ
ڑ102ڑفضائل المسجد الأقصىڑٹڑ
ڑ103ڑصلاة الأنبياء فيه جماعةڑٹڑ
ڑ104ڑمسرى رسول الله S ڑٹڑ
ڑ105ڑبارك حولهڑٹڑ
ڑ107ڑعلى أرضه سيقصم الله اليهودڑٹڑ
ڑ108ڑيقتل على أرضه المسيح الدجالڑٹڑ
ڑ109ڑيبيد الله تعالى على أرضه يأجوج ومأجوجڑٹڑ
ڑ110ڑأرض المحشر والمنشرڑٹڑ
ڑ111ڑدلالة هذا الارتباط الوثيقڑٹڑ
ڑ112ڑدروس في السمع والطاعةڑٹڑ
ڑ113ڑتم علينا النعمةڑٹڑ
ڑ114ڑجعلنا أمة وسطاًڑٹڑ
ڑ115ڑشهداء على الناسڑٹڑ
ڑ116ڑالرسول S شهيد عليناڑٹڑ
ڑ117ڑاختيار القبلةڑٹڑ
ڑ118ڑلا يضيع عمل عاملڑٹڑ
ڑ119ڑالمراجعڑٹڑ
ڑ120ڑالمحتوياتڑ(1/92)