تحريم العينة ، وجواز التورق بلا قيد ولا شرط
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
... ما هي صورة التورق والعينة ، وما حكمهما ؟ 0
... الجواب : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
العينة : في اللغة السلف 0
وصورتها في الشرع : أن يبيع من رجل سلعة بحوزته بثمن معلوم إلى أجل مسمى ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعه به ، ومن ذلك أن يبيع سلعة بنقد ثم يشتريها منه بأكثر منها نسيئة 0
وهي محرمة في قول أكثر العلماء ، وهي وسيلة إلى الربا ، وموصلة إليه ، خلافاً للشافعي وأبي يوسف رحمها الله تعالى حيث أجازاها 0
قال النووي في روضة الطالبين (3/416) فصل : ليس من المناهي بيع العينة بكسر العين المهملة وبعد الياء نون ، وهو أن يبيع غيره شيئاً بثمن مؤجل ويسلمه إليه ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقداً 0
وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقداً ويشتري بأكثر منه إلى أجل ، سواء قبض الثمن الأول أم لا . وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد أم لا . هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب ، وأفتى الأستاذ أبو إسحق الاسفراييني ، والشيخ أبو محمد بأنه إذا صار عادة له صار البيع الثاني كالمشروط في الأول فيبطلان جميعاً 0
ونقل أيضاً في المجموع (9/261) عن الرافعي قوله - بعد كلام له سبق - لأن الاعتبار عندنا بظاهر العقود ، لا بما ينويه العاقدان ، ولهذا يصح بيع العينة ، ونكاح من قصد التحليل ونظائره 0
وجاء في حاشية ابن عابدين (5/273) وعن أبي يوسف العينة جائزة مأجور من عمل بها ، كذا في مختار الفتاوى الهندية .. ) 0
والصواب منع ذلك ، وتأثيم مَنْ فعلها ، وذلك لوجوه :(1/1)
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيعتين في بيعة) أخرجه الإمام أحمد (2/432) والشافعي (532) والنسائي (7/295) والترمذي (1231) كلهم من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه 0
وقال الترمذي حديث حسن صحيح 0
والعينة هي المقصودة في هذا الخبر 0
2- أن الوسيلة إلى الربا حرام ، ولا يختلف العلماء في تحريم الربا ، والعينة وسيلة إليه ، وحين سئل ابن عباس عن حريرة بيعت إلى أجل ، ثم اشتريت بأقل . فقال : دراهم بدراهم ، دخلت بينهما حريرة . رواه سعيد وغيره ، وجاء نحوه عند عبد الرزاق في مصنفه . وسئل أنس عن العينة ، فقال : إن الله لا يُخْدَع هذا مما حرم الله ، ورسوله . عزاه ابن القيم لمطين في كتاب البيوع 0
3- ما جاء عند الإمام أحمد في مسنده ، من طريق الأعمش ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء ، فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) 0
وهذا خبر ضعيف ، وقد جاء من غير وجه ، ولا يصح ، وذهب شيخ الإسلام ، وابن القيم ، إلى تقويته بمجموع طرقه 0
4- ما رواه علي بن الجعد في مسنده (80) ومن طريقه البيهقي في سننه (5/330) عن شعبة عن أبي إسحاق قال دخلت امرأتي على عائشة ، وأم ولد لزيد بن أرقم ، فقالت لها أم ولد زيد : إني بعت من زيد عبداً بثمانمائة نسيئة واشتريته منه بستمائة نقداً ، فقالت عائشة رضي الله عنها (أبلغي زيداً أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن تتوب بئسما شريت وبئس ما اشتريت) 0
قال البيهقي رحمه الله تعالى : كذا جاء به شعبة عن طريق الإرسال 0
وهذا الخبر : طُعِن فيه بعلتين :
1- جهالة العالية ، وقد رد حديثها الشافعي في الأم ، والدارقطني ، وابن حزم في المحلى 0(1/2)
ورُد هذا ، بأن العالية معروفة ، فقد دخلت على عائشة ، وسمعت منها 0
قال ابن الجوزي في التحقيق – العالية - جليلة القدر ، معروفة 0
وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق (2/558) هذا إسناد جيد ، وإن كان الشافعي قد قال : إنا لا نثبت مثله على عائشة رضي الله عنها ، وكذلك قول الدارقطني في العالية إنها مجهولة لا يحتج بها ، فيه نظر . وقد خالفه غيره ) 0
2- وعلة أخرى ، الاختلاف فيه ، فقد رواه الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن امرأة أبي السفر : أنها باعت من زيد بن أرقم .
ورواه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن امرأته قالت : سمعت امرأة أبي السفر تقول : سألت عائشة 0
تابعه عبد الله بن الوليد ، عن الثوري 0
قال ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى (7/550) قد صح أنه مدلس – يعني : أبا إسحاق - وأن امرأة أبي إسحاق لم تسمعه من أم المؤمنين ، وذلك أنه لم يذكر عنها زوجها ، ولا ولدها : أنها سمعت سؤال المرأة لأم المؤمنين ، ولا جواب أم المؤمنين لها ، إنما في حديثها : دخلت على أم المؤمنين ، أنا ، وأم ولد لزيد بن أرقم ، فسألتها أم ولد زيد ابن أرقم – وهذا يمكن أن يكون ذلك السؤال في ذلك المجلس ، ويمكن أن يكون في غيره ثم روى أبو محمد بسنده إلى محمد بن يوسف الفريابي ، عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق عن امرأة أبي السفر : أنها باعت من زيد بن أرقم خادماً لها بثمانمائة درهم إلى العطاء ...... فذكره 0(1/3)
قال : وبما رويناها من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق عن امرأته ، قالت : سمعت امرأة أبي السفر تقول : سألت عائشة ..... فذكره . قال أبو محمد : فبين سفيان وجه الدفينة التي في هذا الحديث ، وأنها لم تسمعه امرأة أبي إسحاق من أم المؤمنين ، وإنما روته عن امرأة أبي السفر ، وهي التي باعت من زيد ، وهي أم ولد لزيد ، وهي في الجهالة أشد وأقوى من امرأة أبي إسحاق ، فصارت مجهولة عن أشد منها جهالة ونكرة ، فبطل جملة ، ولله تعالى الحمد ، وليس بين يونس ، وبين سفيان نسبة في الثقة والحفظ ، فالرواية ما روى سفيان 0
وقيل إن هذا الاختلاف غير مؤثر ، وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين بصحته ، ورد على المخالفين في ذلك ، ولم أر لأحد من أهل الحديث المتقدمين تصحيحاً له ، وقد جزم الشافعي وغيره بضعفه ، والله أعلم 0
وفي الباب غير ذلك ، فقد جاءت آثار كثيرة في تحريم العينة ، والقياس ، والنظر الصحيح يقتضي ذلك 0
وقد قال مسروق : العينة حرام . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/282) 0
وجاء عن الحسن وابن سيرين ، أنهما كرها العينة ، وما دخل الناس فيه منها . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/283) 0
وقال طاووس : من اشترى سلعة بنظرة من رجل فلا يبيعها إياه ، ومن اشترى بنقد فلا يبيعها إياه بنظرة . رواه عبد الرزاق في مصنفه (8/186) 0
وقال معمر سألت حماداً عن رجل اشترى من رجل سلعة ، هل يبيعها منه قبل أن ينقده بوضيعة ؟ قال: لا، وكرهه حتى ينقذه. أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/186) 0(1/4)
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في الكافي (3/325) وأما بيع العينة فمعناه أنه تحيل في بيع دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل بينهما سلعة محللة ، وهو أيضاً من باب بيع ما ليس عندك ، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كانت السلعة المبيعة في ذلك طعاماً دخله أيضاً مع ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفى ، مثال ذلك أن يطلب رجل من آخر سلعة ليبيعها منه بنسيئة ، وهو يعلم أنها ليست عنده ويقول له اشترها من مالكها هذا بعشرة ، وهي علي باثني عشر أو القدرة عشر إلى أجل كذا فهذا لا يجوز لما ذكرنا ، واختلف أصحاب مالك في فسخ البيع المذكور بالعينة إذا وقع على ذلك ، فمنهم من رأى فسخه قبل الفوات ، وبعده يصلحه بالقيمة على حكم البيوع الفاسدة 0
وقال أبو محمد ابن حزم في المحلى (7/549) فإن ابتاع سلعة بثمن مسمى إلى أجل مسمى ، فإنه لا يجوز له أن يبيعها من الذي باعها منه بثمن أقل من ذلك الثمن، أو بسلعة تساوي أقل من ذلك الثمن نقداً ، أو إلى أجل أقل من ذلك الأجل أو مثله : لم يجز شيء من ذلك ، وله أن يبيعها من الذي باعها منه بثمن أكثر من ذلك الثمن نقداً ، أو إلى أجل أقل من ذلك الأجل أو مثله ، وليس له أن يبيعها من بائعها منه بثمن أكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل ، ولا بسلعة تساوي أكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل 0(1/5)
وقال ابن قدامة في المغني (4/256) وجملة ذلك أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقداً لم يجز في قول أكثر أهل العلم ، روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي ، وبه قال أبو الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي ، وأجازه الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها كما لو باعها بمثل ثمنها . ونقل عن الإمام أحمد أنه قال : العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة ، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس . وقال : أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد ، وقال ابن عقيل إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل ، ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة ، وللبيع بنسيئة جميعاً ، لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقاً ، ولا يكره إلا أن يكون له تجارة غيره 0
وقال في الإنصاف (4/335) ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقداً ، إلا أن تكون قد تغيرت صفتها 0
قال : هذه مسألة العينة ، فعلها محرم . على الصحيح من المذهب . نص عليه . وعليه الأصحاب ، وعند أبي الخطاب يحرم استحساناً ، ويجوز قياساً . وكذا قال في الترغيب : لم يجز استحساناً . وفي كلام القاضي وأصحابه : القياس صحة البيع 0
قال في الفروع : ومرادهم أن القياس خولف لدليل راجح ، فلا خلاف إذاً في المسألة . وحكى الزركشي بالصحة قولاً ، وذكر الشيخ تقي الدين أيضاً : أنه يصح البيع الأول ، إذا كان بياناً ، بلا مواطأة ، وإلا بطلا ، وأنه قول أحمد 0
... وجاء في السؤال : ما صورة التورق 0
والتورق هو : شراء سلعة بثمن مؤجل بقصد بيعها على غير البائع 0
... وحكم ذلك : الجواز في أصح قولي العلماء ، وهو قول إياس بن معاوية ، والإمام أحمد في إحدى الروايتين ، وهي المشهورة عند الحنابلة 0(1/6)
قال في كشاف القناع (3/186) ولو احتاج إنسان إلى نقد ، فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين ، فلا بأس بذلك . نص عليه ، وهي مسألة التورق ) 0
ودليل الجواز :
(1) أن الأصل في العقود والمعاملات الحل حتى يقوم الدليل على تحريمها 0
... (2) وبدليل العموم المستفاد من قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) 0
فمن اشترى سلعة قرضاً ، سواء قصد ذاتها أو ثمنها فالآية مفيدة بجواز هذا البيع ويتأكد هذا بالأصل في حكم العقود والمعاملات ، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل 0
ولا أعلم دليلاً شرعياً يمنع هذه المعاملة ، وأما تعليل من منعها بكون المقصود منها الدراهم ، أو التحايل على الربا ، فليس فيه تحيل على الربا بوجه من الوجوه ، مع مسيس الحاجة إليها ، لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا ، وما دعت إليه الحاجة ، وليس فيه محذور شرعي ، لم يجز تحريمه على العباد 0
وذهب عمر بن عبد العزيز ، وطائفة من أهل المدينة ، والإمام أحمد في رواية إلى التحريم ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه العلامة ابن القيم0
... وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الفتاوى (29/303) إن كان المشتري محتاجاً إلى الدراهم ، فاشتراها ليبيعها ، ويأخذ ثمنها ، فهذا يسمى التورق وإن كان المشتري غرضه أخذ الورق ، فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء ، كما قال عمر بن عبد العزيز : التورق أخية الربا . وقال ابن عباس : إذا قومت بنقد ، ثم بعت بنسيئة : فتلك دراهم بدراهم ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد 0
... ومعنى قول عمر بن عبد العزيز أخية الربا ، يعني : أصل الربا قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، كما في الفتاوى (29/431)(1/7)
... وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضاً ، في بيان الدليل في إبطال التحليل (119) ولهذا كره العلماء أن يكون أكثر بيع الرجل أو عامته بنسيئة لئلا يدخل في اسم العينة ، وبيع المضطر ، فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه ، وأما إن باعها لغيره بيعاً بتاتاً ، ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهيته ويسمونه التورق لأن مقصوده الورق ، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ، وقال التورق أخية الربا وإياس بن معاوية يرخص فيه ، وعن الإمام أحمد فيه روايتان منصوصتان ، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر 0
... وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين (3/370) وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العينة وإن باعها لغيره فهو التورق وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل الربا والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق ، وقد كرهه عمر ابن عبد العزيز وقال هو أخية الربا ، وعن أحمد فيه روايتان وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر ، وهذا من فقهه رضي الله عنه قال فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر ، وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها ؛ فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه 0 ...
وقال أيضاً في تهذيب السنن (9/249-250 المطبوع ضمن عون المعبود) فإن قيل فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة ؟
قيل هذه مسألة (التورق) لأن المقصود منها الورق ، وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة ، وأطلق عليها اسمها 0
وقد اختلف السلف في كراهيتها ، فكان عمر بن عبدالعزيز يكرهها ، وكان يقول (التورق أخية الربا) ورخص فيها إياس بن معاوية 0(1/8)
وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان ، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر وقد روى أبو داود عن علي أن النبي نهى عن المضطر ، وفي المسند عن علي قال سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك ، قال تعالى (وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ويبايع المضطرون ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ... ) وذكر الحديث 0
فأحمد رحمه الله تعالى أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة ، وإن باعها من غيره فهي (التورق) ومقصوده في الموضعين : الثمن فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه ، ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة ، ولو لم يقصده كان ربا بسهولة 0
وقال ابن مفلح في الفروع (4/126) ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما ساوى مائة بمائتين فلا بأس ، نص عليه ، هي التورق ، وعنه : يكره . وحرمه شيخنا ، نقل أبو داود إن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتريه منك هو أهون ؛ فإن كان يريد بيعه فهو العينة وإن باعه منه لم يجز ، وهي العينة نص عليه 0
وفيه أدلة أخرى للذين يجيزون التورق ، والذين يحرمون ذلك0
والصواب من قولي العلماء جواز التورق ، وهذا مذهب الجمهور ، فإن الأصل في البيوع والمعاملات الحل ، ولم يأت دليل يقضي بأن التورق ربا ، أو فيه شبهة ربا ، فقد بيعت السلعة على غير المشترى منه ، فانتفت شبهة الربا الموجودة في بيع العينة ، والعجيب في المسألة أن بعض الفقهاء يجيز العينة إذا لم يكن فيه تواطأ بين البائع والمشتري ويمنع التورق ، وهذا تناقض ، وتفريق بين المتماثلين ، والله أعلم 0(1/9)
هذا ونحث المسلمين ، ممن آتاهم الله بسطة في المال ، وثروة في الاقتصاد ، مواساة ومساعدة إخوانهم المعسرين ، والقيام معهم في معيشتهم ، والنظر في شؤنهم ، فالمسلمون بعضهم لبعض كالعضو الواحد ، وقد جاء الإسلام بالتكافل الاجتماعي ، وجاء الركن الثالث من أركان الإسلام ، الزكاة ، ومما رغب فيه الصدقة ، ومما حث عليه إنظار المعسر والتعاون مع المعوزين ، والتوسيع على المعسرين مما يعزز عمق الأخوة الصادقة ، وينشر المودة الخالصة ، ويبث روح الرحمة بين أفراد المجتمع ، يحسن فيها القوي على الضعيف والغني على الفقير 0
إن الإسلام ضرب القدح المعلى ، وصور المثل العليا في التكافل الاجتماعي والتضامن الإسلامي ، فجاء في الإنفاق على المحتاجين ، والبذل للمعوزين ، والعطف على الفقراء والمدينين ، ورتب على ذلك تجاوز الله تعالى عن الذنوب والآثام ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، قالوا : أعملت من الخير شيئاً ؟ قال : كنت آمر فتياني أن ينظروا ويتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال : فتجاوزوا عنه) متفق عليه من طريق زهير ، عن منصور ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة رضي الله عنه 0
وإنظار المعسر ، من أسباب تنفيس كرب يوم القيامة،كما جاء في صحيح مسلم (1563) من طريق أيوب ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، أن أبا قتادة طلب غريماً له فتوارى عنه ، ثم وجده ، فقال : إني معسر ، فقال : آلله؟ ، قال : آلله قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر ، أو يضع عنه) 0(1/10)
وإنظار المعسر ، من أسباب الاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله ، روى مسلم في صحيحه (3006) من طريق يعقوب بن مجاهد أبي حزرة ، عن عبادة بن الوليد ابن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار ، قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا أبا اليسر ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له ، معه ضمامة من صحف ، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ، وعلى غلامه بردة ومعافري ، فقال له أبي : يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب ، قال : أجل كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال ، فأتيت أهله فسلمت ، فقلت ثم هو ؟ قالوا لا فخرج عليَّ ابن له جفر ، فقلت له أين أبوك ؟ قال سمع صوتك فدخل أريكة أمي ، فقلت اخرج إلي فقد علمت أين أنت ، فخرج ، فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني ؟ قال أنا والله أحدثك ، ثم لا أكذبك خشيت ، والله أن أحدثك فأكذبك ، وأن أعدك فأخلفك ، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت والله معسراً ، قال قلت آلله ، قال الله ، قلت آلله ، قال الله ، قلت آلله ، قال الله، قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده ، فقال إن وجدت قضاء فاقضني ، و إلا أنت في حل ، فأشهد بصر عيني هاتين (ووضع إصبعيه على عينيه) وسمع أذني هاتين ، ووعاه قلبي هذا (وأشار إلى مناط قلبه) رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول (من أنظر معسراً ، أو وضع عنه ، أظله الله في ظله) 0
إن النفوس الكريمة ، مجبولة على حب من أحسن إليها ، وصنائع المعروف ساترة لعيوب صاحبه ، غافرة لزلته ، متجاوزة عن هفوته
ويُظهرُ عيبَ المرءِ في الناس بخلُه ... ويَسترُه عنهم جميعاً سخاؤُه
تَغطَّ بأثوابِ السخاءِ فإنني ... أرى كلًّ عيبٍ والسخاءُ غطاؤُه
إن صاحب المعروف يستعبد قلوب الأحرار ، ويعطف قلوبهم إليه ، ويحبب الناس إليه ولو لم ينل الناس من إحسانه
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ ... فطالما استعبد الإنسان إحسانُ(1/11)
من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... إليه والمال للإنسان فتانُ
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة ... فلن يدوم على الأنسان إمكانُ
إن البذل والسخاء خلق كريم ، من أشرف القيم العالية ، والأخلاق الفاضلة به يتبؤ صاحبه الرتب العلية ، وينال الشرف الرفيع ، ذلك لأن الجود من أشرف المكارم وأخص الفضائل ، وأهله هم المكرمون عند الله تعالى
الجود مكرمةٌ والبخل مبغضةٌ
1@لا يستوي البخل عند الله والجودُ
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال ... ) رواه مسلم في صحيحه (2588) من طريق العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه 0
أخوك
سليمان بن ناصر العلوان
25/3/1424هـ(1/12)