بيع المرابحة للآمر بالشراء
الدكتور عبد العظيم أبو زيد
ويتضمن:
أولاً: جذور بيع المرابحة للآمر بالشراء
ثانياً: صورة عقد المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية
ثالثاً: بيع المرابحة للآمر بالشراء والاعتماد المستندي
رابعاً: بيع المرابحة للآمر بالشراء وعملية حسم الأوراق التجارية
خامساً: مزايا تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية
أولاً – جذور بيع المرابحة للآمر بالشراء:
... اقترح تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء(1) ليكون مادة عمل من أعمال المصارف الإسلامية ذات النشأة الحديثة، وكان ذلك الاقتراح في ظروف ألجأت تلك المصارف إلى العمل بهذا البيع، حتى صار ركيزة العمل الأساسية لها، وطغى على سائر أعمال المصرف الإسلامي. وبيان ذلك فيما يلي:
__________
(1) يمكن تصور بيع المرابحة للآمر بالشراء مبدئياً بأنه بيع المصرف مثلاً سلعةً رغب إليه عميل ما بشرائها منه وهي ليست لدى المصرف، فيشتريها المصرف لنفسه ثم يبيعها لهذا العميل بربح معلوم بيعاً بأجل.(1/1)
نشأ المصرف الإسلامي ليكون البديل – الذي طال انتظاره – عن المصرف الربوي الذي غدا الاستغناء عن خدماته أمراً ضرورياً، ورفع المصرف الإسلامي شعار مجانبة الربا وكل ما هو محظور شرعاً، مصحوباً بشعار النهوض بالمجتمع الإسلامي بإقامة المشاريع الاستثمارية التنموية، وكان آلية ذلك أن حَوَّلت المصارف الإسلامية كثيراً من المعاملات المصرفية الربويّة إلى صيغٍ إسلاميّة، وذلك كخطابات الضمان(1)، والاعتمادات المستنديّة(2)، أما ما لم يكن تحويله إسلامياً فاستغني عنه، وذلك كعملية حسم الأوراق التجاريّة(3).
__________
(1) خطاب الضمان: هو تعهد يصدر من البنك بناءً على طلب عميله بدفع مبلغ نقدي معيّن أو قابل للتعيين بمجرد أن يطلب المستفيد ذلك من البنك خلال مدة محددة، ويتقاضى المصرف فائدة عن ذلك المبلغ. عمليات البنوك، علي جمال الدين: ص569.
(2) الاعتماد: عقد بين المصرف وعميله، يتعهد فيه المصرف بوضع مبلغ معيّن تحت تصرف العميل خلال مدّة معينة، ويتقاضى المصرف عمولة عن فتح الاعتماد سواء استغله العميل فاتح الاعتماد أم لم يستغله، فإن استغله فرض المصرف على هذا المبلغ فوائد. والاعتماد المستندي يتميز عن الأول بأنه يكون في التجارة الخارجية، ويسمى مستندياً لأنه يكون مضموناً بحيازة مستندات. تطوير الأعمال المصرفية، سامي حمود: ص 304.
(3) تتلخص عملية حسم الأوراق التجارية في أن يقدم العميل للمصرف الورقة التجارية التي تثبت ديناً له على شخص أو جهة ما قبل موعد استحقاقها، من أجل الحصول على قيمتها حالاً بعد حسم الفوائد والعمولات التي يتقاضاها المصرف حسب الاتفاق، ويكون هذا عن طريق تظهير الورقة التجارية تظهيراً ناقلاً للملكية لأمر = = المصرف. وهكذا فإن العميل يبتغي بقيامه بهذه العملية الحصول على دينه المؤجل حالّاً مقابل حسم جزء منه. تطوير الأعمال المصرفية، سامي حمود: ص281.(1/2)
وعلى سبيل إقامة المشاريع الاستثماريّة، استعاضت المصارف الإسلامية عن تقديم القروض بفائدة بالقروض الحسنة تُقدَّم لأصحاب المشاريع الاستثماريّة، وأحياناً لذوي الحاجات الاستهلاكيّة على سبيل العون وسدِّ العِوَز.
كما قامت المصارف على صعيد الاستثمار بتمويل العملاء مريدي الاستثمار لا على سبيل القرض الحسن، بل على سبيل المشاركة أو المضاربة.
وبالمقابل فقد وزّعت المصارف الإسلامية أرباحاً غير مضمونة عن الودائع الاستثمارية لديها، بناءً على اعتبارها عاملاً مضارباً في أموال المودعين، أو شريكاً للمودعين والعمل منها. وقد توسعت المصارف الإسلامية في هذا الجانب على حساب تمويل العملاء مريدي الاستثمار قرضاً أو مضاربة أو إشراكاً، وذلك حفاظاً على سلامة الودائع من وقوعها بأيدي غير أمناء.
وأياً كان الأمر فقد أريد لهذا الاستثمار أن يكون في المشاريع التنموية التي تعود بالنفع على المجتمع الإسلامي، فيطور البنية الاقتصادية، ويحقق الاكتفاء الذاتي. ولكن ثمة أمور جعلت المصارف الإسلامية تُؤْثِر القيام بعمليات المرابحة، وتركن إليها بدل القيام بالمشاريع الاستثمارية، مع أن عمليات المرابحة لا يمكن أن تُقاس من حيث النفع بالمشاريع الاستثمارية التنموية، بل هي أحياناً ضارة باقتصاد المجتمع الإسلامي، وذلك عندما تتجه هذه العمليات لتمويل السلع الكمالية والباهظة التكاليف.
أما تلك الأمور فهي ما يلي:(1/3)
سطوة المصرف المركزي للدول على المصارف الإسلامية: تتجلى هذه المشكلة في البلدان التي تتنوع فيها المصارف بين إسلامية وغير إسلامية، إذ لا يفرِّق المصرف المركزي الذي تسوسه الدولة بين مصرف إسلامي وآخر ربوي، فيوجب تبعية الجميع له، ويفرض عليها ذات القيود، فيحدد نسبة الائتمان بـ 25 0/0 (1) من رأس المال المصرفي، مما يحد من إمكان قيام المصرف الإسلامي بالمشروعات التنموية، كما يمنع المصرف المركزي المصارف من تملك العقارات، مما يمنع المصرف الإسلامي من حل مشكلة الإسكان التي أريد منه حلها. وكذا يوجب إيداع نسبة من رأس مال المصرف لديه، مما يعني بقاء مقدار من أموال المصرف الإسلامي دون استثمار.(2)
ضعف خبرة العاملين في المصارف الإسلامية في المجال الاستثماري، وذلك لحداثة هذه المصارف من جانب، ولجهل بعض القائمين عليها بأحوال السوق الاقتصادية من جانب آخر، فلا تتوافر لديهم القاعدة الاقتصادية لإعداد المشروعات الاستثمارية ومعرفة غثِّ المعروض منها من سمينه،وطرق متابعتها وتنفيذها. وهذا، ولله الحمد، زائل تدريجياً بشكل ملحوظ، وبخاصةٍ وأن المصارف الإسلامية قد وظّفت لديها خبراء اقتصاديين ثقات يُعدِّون مشاريع مدروسة، لتكون بانتظار الأموال الوافدة.(3)
__________
(1) المقصود بالائتمان إسلامياً: التمويل بالمشاركة والتمويل بالمضاربة، حيث يكون المصرف الإسلامي شريكاً في الأول وربّ مال في الثاني. أما في المصرف الربوي فالائتمان هو التسليف، أي إقراض عملائه بفائدة. مجلة الاقتصاد الإسلامي، بحث المصطلحات المصرفية الإسلامية، بهاء الدين صابر:العدد(29)، ص39
(2) يشترط المصرف المركزي بقاء نسبة تقابل 2 إلى 10 0/0 من إجمالي ودائع أي مصرف لتكون بمثابة خط الدفاع الأول في حال وقوع خسارة ما، فلا تلحق عملاء المصرف.
(3) السياسة النقدية والمصرفية في الإسلام، د.عدنان خالد التركماني:ص248.(1/4)
ضعف السوق الاستثمارية والسوق التسويقية داخل الدول الإسلامية، مما لا يشجع على الاستثمار، وذلك بسبب تفكك البلدان الإسلامية، واختلاف أنظمتها، وعدم قيام سوق إسلامية تجمعها وتحقق التكامل الاقتصادي فيما بينها. هذا بالإضافة إلى عسر الأنظمة المالية المحلية، وعدم ملاءمتها للاستثمار الإسلامي،
وما سياسة المصرف المركزي الآنفة الذكر إلا فرعٌ عنها.
يقول في هذا الشأن بعض المختصين: إن النظام المصرفي ليس إلا جهازاً لخدمة النظام الاقتصادي، وإن نقطة الأساس هي تغيير النظام الاقتصادي بأكمله إلى النظام الإسلامي، حتى يفلح هذا النظام الإسلامي …وإن النظام الاقتصادي الإسلامي جزء من النظام الإسلامي العام.(1)
صعوبة قيام مشاريع استثمارية قصيرة الأجل، سريعة المردود، تلبي السيولة التي يتطلبها صندوق عمل المصرف الإسلامي، إذ أغلب المشاريع الاستثمارية طويلة الأجل ولا تؤتي ثمارها عاجلاً، مما يؤدي إلى غياب السيولة اللازمة لحركة المصرف اليومية.
إن المشاريع الإسلامية التي يمكن أن تقوم بها المصارف الإسلامية تكتنفها بعض المصاعب من حيث طبيعة العقد الذي يكيّفها فقهاً، فهي مثلاً: مضاربة، استصناع، سَلَم، مزارعة، شركات. وهذه العقود لم تخدم الخدمة الكافية لتلائم الظرف الاقتصادي الراهن (2)
__________
(1) البنوك الإسلامية، جمال الدين عطية:ص194.
(2) مثال ذلك عقد المضاربة، وهو أهم تلك العقود وأكثرها وقوعاً، إذ تكتنفه المصاعب التالية إذا ما أريد تطبيقه في المصارف الإسلامية:
أنه عقد غير لازم، فيملك كل من مالك المال والمضارب فسخه متى شاء، وعلى هذا فللمستثمر في المصرف الإسلامي سحب ماله متى شاء، مما يؤثر على العملية الاستثمارية. إلا أنه يمكن تطبيق مذهب الإمام مالك في هذه الصورة فتلزم المضاربة بالشروع. والأفضل من ذلك تطويع العملية الاستثمارية القائمة على أساس المضاربة بحيث يمكن خروج المستثمر ليحلّ آخر محلّه.
أن المضاربة تفسد بتدخل مالك المال بأعمال المضارب، فلو كان المصرف هو رب المال، فلا يحق له التدخل في أعمال المضارب على الرغم من أنه مسؤول عن ودائع الناس.ويمكن هنا تطبيق مذهب الإمام أحمد الذي يجيز أن يشترك بدنان بمال أحدهما، أي أن يكون المال من جانب والإدارة من جانب مالك المال والعامل المضارب.
أن المضاربة متى بدأت فلا يحق لطرف ثالث أن ينضم إليها بمال جديد. بل لا يحق لرب المال نفسه أن يزيد في ماله إذا بدأت المضاربة إلا إذا كان المال الأول ما يزال ناضّاً أو عاد إلى النضّ، أي النقد بعد أن كان عروضاً مثلاً.
مشكلة توزيع الأرباح. إذ لا تكون في المضاربة إلا بعد نض المال وانتهاء المضاربة. أما في المصرف الإسلامي فمن المفترض أن توزع الأرباح دوريّاً مع استمرار العملية الاستثمارية.
والواقع أنه يمكن الاستفادة من المذهب الحنبلي في تطوير عقد المضاربة ليلائم ظروف الاستثمار في المصرف الإسلامي، حيث عدّ هذا المذهب عقد المضاربة من جملة الشركات، ولم يعدّه ثابتاً على خلاف القياس كالجمهور. إعلام الموقعين لابن القيم: 3/384 -385، بدائع الصنائع للكاساني: 6/79، القوانين الفقهية لابن جزيّ: ص279، نهاية المحتاج للرملي:5/218.
وانظر أيضاً: بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/181، المغني لابن قدامة: 7/136، 165، كشاف القناع للبهوتي:3/516 –519، روضة الطالبين للنووي: 5/118، تحفة الفقهاء للسمرقندي: 3/20(1/5)
.
وهكذا فقد ترتَّب على الأمور الآنفة الذكر أن أريد البحث عن البديل لتلك المشاريع مؤقتاً ريثما تتحسن ظروف الاستثمار وشروطه، وما إن طرح عقد المرابحة ـ وهو ما عرف لاحقاً باسم بيع المرابحة للآمر بالشراء ـ ليطبَّق في المصارف الإسلامية حتى أصبح مادة العمل الأساسية لكثير منها. فما صورة العقد وما كنهه، وما مزايا تطبيقه في المصارف الإسلامية ؟
ثانياً ـ صورة عقد المرابحة (للآمر بالشراء) في المصارف الإسلامية:
تتمثل صورة هذا البيع في أن يلجأ شخص ما، اعتباري أو حقيقي، إلى المصرف الإسلامي راغباً بشراء سلعةٍ أو بضاعةٍ معينةٍ أو محددةٍ بصفات، مقابل ربح يتفقان عليه زيادةً عن رأسمال المصرف في تلك السلعة بعد شرائها، وغالباً ما يشتري المصرف السلعة نقداً ويبيعها بالأجل لعميله طالب الشراء. وقد يوقِّع هذا الأخير تعهداً مع المصرف يلتزم فيه كلٌ منهما بما يترتب على ذلك الاتفاق من شراء المصرف السلعة وعرضها على طالبها العميل، وشراء هذا العميل تلك السلعة من المصرف. وقد يكون هذا التعهد من جانب العميل فقط فيلتزم هو بالشراء من المصرف إن عرض الأخير السلعة عليه , ولا يلتزم المصرف بالشراء أصلاً. وقد اصطلح على تسمية هذا البيع بمجمل صوره باسم ( بيع المرابحة للأمر بالشراء ) إلا أن الصورة السائدة منه هي الصورة التي يشتري فيها المصرف بالنقد ويبيع بالأجل إلى العميل الآمر، ويكاد ينصرف اسم بيع المرابحة للآمر بالشراء إليها،أي أنها المقصودة عند الإطلاق.(1/6)
ويمكن القول بناءً على ما تقدم بأن دافع العميل إلى اللجوء إلى المصرف في هذا البيع هو ضعف قدرته الماديّة على الشراء مباشرة من مالك السلعة الأوّل، وذلك في الصورة السائدة من بيع المرابحة للآمر بالشراء حيث يكون الشراء الثاني بالأجل وتقسيطاّ. أمّا عندما يكون شراء العميل من المصرف نقداّ، فغالباً ما يكون دافع العميل هنا إلى اللجوء إلى المصرف هو ضعف خبرته في أمور الشراء وإجراءاته من الجهات الأجنبية المورِّدة، أي حين تكون السلعة مستوردة.
وثمة صورة للمرابحة تقوم بها المصارف الإسلامية إلا أنها ليست من قبيل المرابحة للآمر بالشراء، حيث يقوم المصرف الإسلامي فيها بدراسة السوق الاقتصاديّة ليعرف ما تحتاجه من سلع، وقد تتوجه إليه رغبات بشراء سلع معيّنة فيشتري المصرف تلك السلع المرغوبة في السوق ليقوم ببيعها تجارةً في السوق، ولمن رغب إليه بشرائها ولكن دون أن يكون بينهما سابق تواعد، فيبيعها مرابحةً على رأسماله فيها. وهذه الصورة من قبيل المرابحة الفقهية المعروفة، وهي قليلاً ما تحدث في المصرف الإسلامي نظراً لصعوبة ممارسة المصرف الإسلامي دور التاجر الكامل بشراء السلع قبل طلبها وذلك للأسباب التالية:
حصول المخاطرة باحتمال عدم رواج بعض السلع.
ضعف القدرة التخزينية للسلع في المصرف الإسلامي.
ضعف الكفاءات والخبرات في دراسة سوق السلع وتقلباتها.(1)
ثالثاً: بيع المرابحة للآمر بالشراء والاعتماد المستندي:
قد يظن بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا ما جرى دوليّاً فإنه كالاعتماد المستندي، حيث تتوسط البنوك بين مستورد السلعة والجهة الأجنبيّة المورّدة، لتضمن التزامات كلٍ للآخر.
__________
(1) ندوة خطة الاستثمار في البنوك الإسلامية المنعقدة في عمّان بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب في البنك الإسلامي للتنمية في شوال عام 1407هـ الموافق: حزيران 1987م، بحث د. عبد الحليم عمر: ص 182.(1/7)
لكن واقع الأمر غير ذلك،إذ كما تبينّ من صورة هذا البيع فإن المصرف الإسلامي يشتري السلعة من الجهة المصدرة لنفسه أولاً، ثم يبيعها لعميله بيعاً مستأنفاً، أي إن المصرف الإسلامي يتحمل تبعة هذا العقد الذي بينه وبين الجهة الموردّة، ولا يتحملها العميل، بخلاف الاعتماد المستندي، حيث العلاقة بين العميل والجهة الموردّة، والمصرف إنمّا هو وسيط وكفيل ضامن لهذا العمل.
ويمكن عد بيع المرابحة للآمر بالشراء من قبيل الائتمان التجاري الذي تكتنفه المخاطر نتيجة التعامل بالسلع، أمّا الاعتماد المستندي فهو من قبيل الائتمان المالي الذي لا يتضمن تعاملاً بالسلع أو الخدمات، وإنمّا يتضمن تقديم النقد الحالّ لقاء النقد الآجل، وهذا هو الربا. كما لا يتطلب خبرة في معرفة أحوال الناس ومقدرتهم على السداد، فلا يتضمن على هذا مخاطر.
رابعاـ بيع المرابحة للآمر بالشراء وعملية حسم الأوراق التجاريّة:(1/8)
يلعب بيع المرابحة للآمر بالشراء دوراً أشبه بما يتمُّ لأجله حسم الأوراق التجاريّة، حيث يزوِّد التجار عامة الناس بحاجاتهم بالبيع معتمدين على إمكان حسم الأوراق التجاريّة التي يحررها الناس لصالحهم والتي تمثل سندات تثبت دين التجار عليهم، فيحسمها التجّار لدى المصارف الربويّة ببيعها إليها بحسم من قيمتها مع بقاء مسؤولية التجّار عملاء المصارف عن الجهة المدينة لهم. ولمّا كان الحسم غير جائز شرعاً، والتاجر مضطراً له لتأمين السيولة اللازمة لاستجلاب البضائع، والناس لا يمكنهم الاستغناء عن الشراء بالدَّين، وسيمتنع التجار عن البيع بالدين إن لم يجدوا من يحسم لهم تلك الأوراق التجارية، كان تمويل الناس بحاجاتهم عن طريق بيع المرابحة للآمر بالشراء هو البديل الأمثل الذي يقدم نفس الخدمة بوجه مشروع، حيث يتولى المصرف بمقدرته المادية الضخمة دور التاجر، فيلبي حاجات الناس عن طريق بيع السلع لهم مرابحة، دون الحاجة لأن يقوم المصرف بحسم لدى جهة أخرى، نظراً لمقدرته المادية الضخمة، ولكثرة عمليات المرابحة التي تؤمن للمصرف الإسلامي المورد الدائم.
وهكذا يبدو التشابه بين المرابحة للآمر بالشراء، وعملية حسم الأوراق التجارية، من حيث النفع والثمرة، أما من حيث طبيعة المعاملة والأسلوب، فلا يمكن القول بوجود الشبه، وذلك أن عملية الحسم هي عملية مبادلة نقد بنقد زائد عليه مقابل الأجل، أي أنها قرض ربوي صريح، بينما بيع المرابحة للآمر بالشراء عملية بيع وشراء مع دخول الأجل، فيكون الفرق بين هذا البيع وبين عملية الحسم الفرقَ بين الربح الناتج عن البيع بالأجل، وبين الربح الناتج عن القرض لأجل بفائدة.
خامساً – مزايا تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية:
أ- إيجابيات التطبيق: تمثل الأمور التالية خلاصة الأسباب التي جعلت المصارف الإسلامية تركن إلى بيع المرابحة للآمر بالشراء.(1/9)
إن عقود المرابحة للآمر بالشراء تحقق أرباحاً جيدة من شأنها أن تمكن المصارف الإسلامية من الصمود، ومن التغلب على منافسة المصارف الربوية لها بجذب أموال المودعين.
عقد المرابحة للآمر بالشراء كفيل بتشغيل فائض السيولة في المصارف الإسلامية. ويجدر العلم بأن مشكلة تشغيل الفائض غير موجودة في المصارف الربوية، إذ يمكنها وضعه في مصارف ربوية أخرى بفائدة وسحبه متى شاءت.
من شأن عقد المرابحة للآمر بالشراء أن يؤمن أيضاً السيولة اللازمة لحركة المصرف الإسلامي اليومية، حتى يتمكن من دفع ما يطلبه عملاؤه منه يومياً دون تأخير. أمّا إن لم تكن لديه السيولة الكافية، فقد يضطر إلى طلب العون من المصرف المركزي، وذاك يعني قرضاً بفائدة، أو إقراضاً جديداً للمصرف المركزي للمحافظة على نسبة النقد الاحتياطي التي يفرضها المصرف المركزي على جميع المصارف لتودع فيه.(1)
وخير من يقوم بتأمين السيولة اللازمة: عقود المرابحة، إذ المشاريع الاستثمارية لا تؤتي ثماراً إلا بعد مضيِّ زمن من شأنه أحياناً أن يشلَّ المصرف عن حركته، وبخاصة عند خروج بعض المستثمرين من العملية الاستثمارية.
والمصارف الإسلامية في فترةٍ ما، نتيجة فائض السيولة الهائل دون استثمار، لم تقع في هذه المشكلة، مشكلة تأمين السيولة اليومية الضرورية، ولكن عند وجود المشاريع الاستثمارية المتوخَّى إقامتها، فإن تلك المشاريع سوف تمتص هذه السيولة فتنهض مشكلة تأمين السيولة اليومية إن لم تطوَّر أساليب عملية الاستثمار بما يكفل مرونتها، لاسيما عند استثمار أموال ودائع غير طويلة الأجل في استثمارات طويلة لا يمكن تسييلها والخروج منها عند الضرورة.(2)
__________
(1) النظام المصرفي اللاربوي، محمد نجاة الله صديقي:ص124 0
(2) البنوك الإسلامية، جمال الدين عطية: ص85.(1/10)
إن عقد المرابحة للآمر بالشراء يمكن به استغلال ما يسمّى بالودائع تحت الطلب أو الحسابات الجارية، وهي ودائع لا يمكن إدخالها في المشاريع الاستثمارية، نظراً لأنها سريعة الطلب وقصيرة الأجل، مما لا يتناسب وطبيعة المشاريع الاستثمارية طويلة الأجل. أما استغلال تلك الودائع بعقود المرابحة فمن شأنه أن يشكِّل رافداً ربحياً ضخماً إن أُحسِن استغلالها.
وتلجأ المصارف الربوية عادةً إلى منح جوائز على الحسابات الجارية، تحفيزاً للناس على التعامل معها، وتفيد تلك المصارف من تلك الأموال في تقديمها لآخرين بمثابة قروض بفائدة. أما المصارف الإسلامية، فبعد أن أمكنها أن تفيد من تلك الحسابات الجارية أيضاً عبر عقود المرابحة للآمر بالشراء، فإنها عملت أيضاً على جذب تلك الأموال بتوزيع جوائز أفتت بها الهيئة العليا للفتاوى والرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية بشروط هي:
أن لا يعلن عنها المصرف سابقاً.
أن لا تكون دوريّة.
أن لا تكون في فترات ثابتة.
أن تكون بحيث تتعدد وتتباين صورها كل مرة.(1)
كل ذلك حتى لا تصبح تلك الجوائز هدفاً يسعى إليه المدِّخر لدى المصارف الإسلامية، فيترتب على ذلك الربا، ربا القرض، إذ تأخذ تلك الودائع حكم القرض من العميل المودِع للمصرف، وتكون تلك الجوائز إن كانت معلومة القدر والصفة والوقت فائدةً ملاحظةً، ومتعارفاً عليها وإن لم ينصّ عليها في عقد الإيداع.
__________
(1) مجلة الاقتصاد الإسلامي، قرار الهيئة العليا للفتاوى والرقابة الشرعية/ العدد (28): ص8.(1/11)
بعقود المرابحة للآمر بالشراء يمكن الإفادة من عمليات لا سبيل للإفادة منها إلا بالمرابحة، وذلك كعملية تأمين حاجيات القطاع العام الذي هو مستهلك من الدرجة الأولى، فيمكن للمصرف الإسلامي أن يموِّل تجاريّاً حاجيات هذا القطاع بعقود المرابحة للآمر بالشراء، فيفيد منه ربحاً. وكذا شأن الحاجيات الشخصية، وهي كثيرة، يمكن تمويلها عبر المرابحة فيفيد الاثنان: المصرف والعميل. ولكن يقع على عاتق المصرف الإسلامي هنا أن يمول ما هو إنتاجي أو ضروري لا ما هو كمالي، وذلك ليحقق الهدف التنموي.
نلاحظ أثناء تطبيق عقود المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية عدم وجود عوائق قانونية، ولا إدارية، ولا اقتصادية، ولا سياسية، تعوقها كتلك التي تعرقل المشروعات الاستثمارية، غير أنَّ المصرف المركزي في بعض البلدان عدَّ المرابحة للآمر بالشراء من قبيل التمويل بالإقراض فقيده بنسبة 65 ? فقط من إجمالي الودائع.(1)
ربح عقود المرابحة للآمر بالشراء شبه مضمون، إذ لا مخاطر كبيرة، بخلاف المشاريع الاستثمارية، فإنها تنطوي على مخاطر كبيرة، وبخاصةٍ في ظل الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة لأكثر البلدان الإسلامية.(2)
الربح الكبير المتحصّل من عقود المرابحة يمكِّن المصارف الإسلامية من أن تسير في تطبيق رسالتها الاجتماعية التكافليّة،(3) كما يمكنها من أن تغطي نفقاتها الباهظة ؛ وإن جزءاً كبيراً منها موضع نقد.
__________
(1) ندوة. خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية، بحث د إسماعيل شلبي: ص 266
(2) المصارف المركزية في إطار العمل الإسلامي، د. محمد نجاة الله صديقي: ص150-151
(3) نشرت جريدة ( المستقلة) أنه قد بلغ ما قدمه البنك الإسلامي للتنمية كمساعدات لتطوير البنى التحتيّة في الدول الإسلامية وخاصة الفقيرة منها حتى عام 1997عشرين بليون دولار. العدد (154)، ص:4.(1/12)
تنفيذ عقود المرابحة للآمر بالشراء لا يحتاج إلى دقيق خبرةٍ ودراسة، شأن المشاريع الاستثمارية، خاصةً وأن المصارف الإسلامية تعاني من نقص الخبرة والباع الاقتصادي.
إن إجراء عقود المرابحة للآمر بالشراء كفيل بجذب عدد ضخم من العملاء على اختلاف صفتهم واختصاصاتهم،ممّا يتيح لهم جميعاً فرصة التعامل مع المصرف الإسلامي والتعرف إليه، وما ذاك إلا لأن البلاد الإسلامية التي تقوم المصارف الإسلامية على أراضيها هي في عداد الدول المستوردة أفراداً ومؤسسات، وعقود المرابحة للآمر بالشراء هي خير من يموِّل عمليات الاستيراد.(1)
أدى نجاح تطبيق عقود المرابحة للآمر بالشراء إلى نجاح المصارف الإسلامية ورسوخها، وبذاك خرست كثير من الألسنة التي رمت التشريع الإسلامي بالجمود، وعدم الصلاحيّة لدخول عالم الاقتصاد المعاصر. بالإضافة إلى ذلك، فإن قيام المصارف الإسلامية زرع الثقة في قلوب كثير من المسلمين بإمكان قيام بنوك إسلامية دون ربا، وبصلاحية التشريع الإسلامي لكل زمان ومكان.
وأخيراً فإن بيع المرابحة للآمر بالشراء يفيد العميل فائدة جمَّة، من حيث إنه يختصر حلقات الوصل بين المستهلك والجهة الموردة، مما يوفِّر على العميل مبلغاً معتبراً، فثمَّة فرق بين أن تمرَّ السلعة في أيدي تجار ينتفع كل منهم نفعاً بربحٍ منها، حتى تصل إلى يد المستهلك، وبين أن يُربح العميل (المستهلك) تاجراً واحداً بينه وبين الجهة الموَّردة هو المصرف الإسلامي.
__________
(1) لهذه الفائدة لجأت بعض البنوك الأجنبية إلى تطبيق هذا البيع لتفيد منه ولتجذب عملاء المصرف الإسلامي. بيع المرابحة للآمر بالشراء، د. رفيق يونس المصري: ص45.(1/13)
لكل الإيجابيات السابقة توسعت المصارف الإسلامية في تطبيق هذا البيع حتى بلغ نسباً كبرى من الأعمال الإجمالية لبعض المصارف الإسلامية، كما في الباكستان 90 0/0 وفي قطر98 0/0. وفي تركيا في مؤسسة فيصل المالية 94 0/0 (1)
ب- الآثار السلبية لتطبيق عقد المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية:
حاد التطبيق الواسع لبيع المرابحة للآمر بالشراء بالمصرف الإسلامي عن الهدف الأوّل الذي أنشئ له، وهو إقامة المشاريع الاستثمارية، لتعود بالنفع على المجتمع الإسلامي.
أدّى لجوء المصارف الإسلامية إلى هذا العقد إلى عدم إنماء خبرتها في المشروعات الاستثمارية، إذ لم تعتبر تلك المصارف لجوءها إلى المرابحة ظرفاً استثنائياً، ريثما تقوم بإعداد المشاريع الاستثمارية بما يوافق الظروف الاستثمارية المتاحة للبلاد الإسلامية، بل يؤخذ عليها جانب الإهمال لها والركون إلى المرابحة.
لم تؤدِّ المرابحة، من حيث الأثر الاقتصادي، الغاية المقصودة منها، إذ فضّلت المصارف الإسلامية السلع المستوردة لترابح فيها، لسهولة تصريفها وجودتها، ولأن الطلب عليها مأمون، فضلاً عن أن أكثر طلبات الشراء التي تأتي إلى المصرف الإسلامي تكون لسلع أجنبية مستوردة، ونسبة كبيرة منها لشراء الكماليّات، وهذا يترك الأثر الاقتصادي السيّئ على المجتمعات الإسلامية، إذ إن التوسَّع في الاستيراد يؤدي إلى اختلال الميزان التجاري وإلى انخفاض سعر العملة المحلّية (2).
ثم إن المصارف الإسلامية تتجه إلى تمويل القادرين – الذين غالباً ما يحرصون على استيراد الكماليّات – أكثر ممّا تموِّل الحرفيين أرباب المهن، نظراً لأن تحصيل
__________
(1) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية: ص229-136-328، بيع المرابحة للآمر بالشراء، د.رفيق يونس المصري: ص15، وانظر ملحق رقم (7)، ص: 239.
(2) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية، بحث د. حاتم القرنشاوي: ص 328(1/14)
الثمن من القادرين أيسر، وأن الربح في الكماليّات أكبر.
كثيراً ما يكتنف تطبيق عقد المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية مخالفات شرعية تُخرج هذا العقد من الحِل إلى الحرمة، حتى أَضحت السلع في بعض عقود المرابحة لبعض المصارف الإسلامية موجودةً على الورق فقط، كما في الباكستان، حتى إن عدداً من المصرفيين الغربيين الذين شاركوا في ندوة لندن عام (1985) لم يروا في هذا البيع ذي التطبيق المخالف اختلافاً عن التمويل الربوي إلا من حيث الشكل(1). وهذه المخالفات في التطبيق دفعت مجلس المجمع الفقهي في جدّه إلى إصدار توصيات تتضمن التقليل ما أمكن من استخدام أسلوب المرابحة للآمر بالشراء، وقصرها على التطبيقات التي تتمُّ تحت الرقابة ويؤمن فيها من وقوع المخالفة للقواعد الشرعية التي تحكمها، والتوسّعَ في مختلف الصيغ الاستثمارية الأخرى من المضاربة والشركات والتأجير.(2)
__________
(1) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية، مشاركة الأستاذ منذر القحف:ص 50
(2) قرار مجلس المجمع الفقهي رقم80/7/د8 عام 1414هـ. بشأن مشاكل البنوك الإسلامية. الفقه الإسلامي وأدلته، د.وهبة الزحيلي:9/627(1/15)
يشتبه عقد المرابحة للآمر بالشراء على كثير من الناس، وهذا ما جعلهم يرمون المصارف الإسلامية بأنها تخالف الشريعة الإسلامية، وبأنها تحلُّ لنفسها ما تحرّمه على غيرها، وأنها تتعامل بالربا تحت ستارٍ من الشرع، وهذا ما أساء إلى سمعة المصارف الإسلاميِّة، وبخاصةٍ وأن كثيراً من المتعاملين مع المصرف الإسلامي لا يحسن التمييز بين الربا والبيع. يقول في ذلك د. غسان القلعاوي، وهو أحد الذين راقبوا نشاط المصرف الإسلامي: (إن معظم المتعاملين مع المصرف الإسلامي من الجمهور لا يحسن التمييز بين كلٍ من القرض بفائدة أو البيع مرابحة، حيث بات من المألوف أن تسمع تلك العبارات ممن يرغب في شراء سيارة مثلاً: إنني أفضِّل المصرف الإسلامي لأنه يتقاضى 8 ? فقط بينما يتقاضى المصرف العادي12? !)(1)
... وهكذا فإن تطبيق بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية – بغض النظر عن حكمه الشرعي – له وعليه، ولكن نظراً لحداثة المصارف الإسلامية والظروف التي تمر بها، فإن حسناته أكثر من سيئاته.
تحرير محل البحث:
ممّا سبق يتبيّن واضحاً أهمية بيع المرابحة للآمر بالشراء، ممّا يستدعي ضرورة بسط الحديث فيه، بغية التوصّل إلى حكمه الشرعي الصحيح إن شاء الله تعالى. فأهمية معرفة هذا الحكم من أهمية المصارف الإسلامية، والله المستعان.
والخطة هي أولاً في توضيح الكلام في بيع المرابحة الفقهية بصفتها المقررة لدى الفقهاء، ثمَّ الانتقال إلى بيع المرابحة للآمر بالشراء، لا بتناءِ المرابحة الثانية على الأولى، وتفرعها عنها.
وسيكون الحديث عن المرابحة الأولى في باب مستقل، تحت عنوان: (بيع المرابحة)، وعن المرابحة الثانية في باب آخر، تحت عنوان: (بيع المرابحة للآمر بالشراء).
ويتضمن هذا الباب خمسة فصول:
الفصل الأول: تعريف بيع المرابحة وصورته ومشروعيته.
الفصل الثاني: شروط بيع المرابحة.
__________
(1) تقويم أداء النشاط المصرفي الإسلامي، د. غسان القلعاوي: ص69(1/16)
الفصل الثالث: أحكام رأس مال المرابحة.
الفصل الرابع: ما يجب بيانه أثناء إبرام عقد المرابحة.
الفصل الخامس: ظهور الخيانة في المرابحة وأحكامها.
الفصل الأول
تعريف بيع المرابحة وصورته ومشروعيته
المبحث الأول: تعريف بيع المرابحة:
البيع لغةً مبادلة الشيء بالشيء. والبيع ضد الشراء، وهما من أسماء الأضداد، إذ يطلق أحدهما على الآخر(1) قال الله تعالى:(( وشَرَوهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدودَةٍ وَكَانوا فيهِ مِنَ الزَّاهِدينَ ))(2) أي باعوه.(3) وجاء في المغني لابن قدامة (4): إن اشتقاق البيع من الباع،لأن كل واحد من المتعاقدين كان يبايع _ أي يمدّ باعه _ صاحبه عند البيع، لذا سمِّي البيع صفقة (5).
والبيع في اصطلاح الفقهاء: هو مبادلة شيء مرغوب فيه بمثله على وجه مخصوص. أي بالإيجاب والقبول أو بالتعاطي. واحتُرز بقيد (مرغوب فيه) عمّا لا يُرغب فيه شرعاً ولا عرفاً، كالميتة والأصنام. أو هو – أي البيع – مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملّكاً.(6) والمراد بالمال: كل ما له قيمة ويُلزم متلفه بضمانه، أو ما لا يطرحه الناس عادةً.(7)
__________
(1) لسان العرب لابن منظور.
(2) من سورة يوسف، الآية:(20).
(3) تفسير البيضاوي: 3/129.
(4) إبن قدامة: موفق الدين، عبد الله بن أحمد بن محمّد بن قدامة الجُمَّاعيلي، الحنبلي، الدمشقي، صاحب المغني،ولد بجُمَّاعيل في نابلس سنة 540هـ، رحل إلى دمشق، شيخ الحنابلة في دمشق، إمام في التفسير والفقه والحديث،من كتبه (الكافي) و(المقنع) توفي سنة 620هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:22/561 وما بعدها.
(5) المغني لابن قدامة: 6/5.
(6) الدر المختار للحصكفي: 7/11،المغني لابن قدامة: 6/5.
(7) الأشباه والنظائر للسيوطي: ص258.(1/17)
أما المرابحة: فهي مصدر رابح، مشتقة من الربح. والربح لغةً: النماء. وتجارة رابحة: أي يربح فيها. وأربحته على سلعة: أي أعطيته فيها ربحاً. ومنه: بعت الشيء مرابحة، وكذلك اشتريته مرابحة.(1)
فبيع المرابحة، كما عرَّفه أكثر الفقهاء هو: البيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح معلوم.(2)
بيع المرابحة أحد بيوع الأمانة:
يمكن تقسيم البيع باعتبار الثمن إلى بيع مساومة، وبيع أمانة. أمّا بيع المساومة: فهو البيع بالثمن الذي يتفق عليه المتعاقدان دون النظر إلى الثمن الأول.
وأمّا بيع الأمانة: فهو بيع مبناه على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن الأول الذي ملك به السلعة. وهذا هو سبب تسميته، وهو أنواع ثلاثة:
بيع التولية: وهو البيع بمثل الثمن الأول، أي برأس المال بغير ربح. فكأن البائع جعل المشتري يتولى مكانه في المبيع. فإن كان البيع لجزء من المبيع بحصته من رأس المال دون ربح، فهو الإشراك.
بيع الوضيعة: وهو البيع بمثل الثمن الأول مع انتقاص مقدار معلوم من الثمن، أي حطّه. واشتقاقه من الوضع وهو الحطُّ والانتقاص.(3)
بيع المرابحة وقد تقدَّم تعريفه.
المبحث الثاني: صورة بيع المرابحة:
صورة هذا البيع: أن يقول أحدهما للآخر:هذا الثوب رأسمالي فيه مائة، بعتك بها وربح عشرة. ويجري بعبارات كثيرة فيما يلي ذكرها.
عبارات بيع المرابحة:
أ-عبارات بيع المرابحة من حيث طريقة الإخبار عن الثمن الأول:
أكثر عبارات المرابحة دوراناً على الألسنة ثلاث:
الأولى: بعتك بما اشتريت وربح كذا.
الثانية: بعتك بما قام علي وربح كذا.
الثالثة: بعتك برأسمالي وربح كذا.
ويخبر في كل عبارة من العبارات السابقة عن المبلغ الذي اشترى به، أو قام عليه، أو رأسماله.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور.
(2) فتح القديرلابن الهمام: 6/123، بدائع الصنائع للكاساني: 5/222،حاشية الدسوقي: 3/157
(3) المغني لابن قدامة 6/276.وانظر كشاف القناع للبهوتي: 3/229-230.(1/18)
ويترتب على هذه العبارات أحكام مختلفة، فإذا قال: بما اشتريت. لم يدخل إلا الثمن، وإن قال: بما قام عليّ. يدخل الثمن والنفقة، لذا كان الخلاف عند الشافعية في إلحاق العبارة الثالثة (رأسمالي) بالعبارة الأولى (اشتريت) أو بالعبارة الثانية (قام عليّ)(1) وسيأتي تفصيل هذا في محله إن شاء الله تعالى.
ب- عبارات بيع المرابحة من حيث النص على الربح:
إما أن يقول البائع:
- بعتك هذا الشيء برأسمالي. أو: بما قام علي وربح كذا، عشرة دراهم مثلاً.
- أو أن يقول: بعتك هذا الشيء برأسمالي. أو: بما قام عليّ على أن أربح فيه عشرة بالمائة مثلاً. أو بكل عشرة دراهم درهماً.
وهذه الصورة الأخيرة ـ وربح كل عشرة دراهم درهماً ـ هي المعبَّر عنها في بعض كتب الفقه بده يازده ودوازده.(2)
ويترتب على التفريق بين العبارتين أثرٌ من حيث القول بمشروعية بيع المرابحة إذا ما تمَّ بالعبارة الثانية عند بعض الفقهاء، كما سيأتي.
المبحث الثالث: مشروعية بيع المرابحة:
__________
(1) روضة الطالبين للنووي: 3/527.
(2) دَهْ بفتح الدال وسكون الهاء اسم للعشرة بالفارسيّة.ويازْده بالياء وسكون الزاي:اسم أحد عشر بالفارسيّة،أما دوزاده: فهي اثنا عشر. قال ابن عابدين شارحاً:ده يازده:أي بربح مقداره درهم على عشرة دراهم،فإن كان الثمن الأول عشرين،كان الربح بزيادة درهمين، وإن كان ثلاثين،كان الربح ثلاثة دراهم: 7/352.(1/19)
بيع المرابحة بيع صحيح يندرج تحت عامة البيوع الجائزة، ما لم يتخلله ما يجعله فاسداً أو باطلاً، إذ هو بيع كسائر البيوع التي تنعقد لقصد الربح والنماء، والتي أقرتها الشريعة الإسلامية. قال تعالى:(( وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحرَّمَ الرِّبا)) (1) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبادة بن الصامت(2):(( الذهب بالذهب، والفضّة بالفضّة، والبُر بالبُر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد ؛ فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد ))(3)
__________
(1) من سورة البقرة، الآية (275).
(2) عبادة بن صامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، ولد سنة38 قبل الهجرة، شهد بيعة العقبة الأولى والثانية، مُعَلِّم أهلِ الصفّة القرآن الكريم، إمام حمص زمن عمر بن الخطاب وقاضيها، توفي بالرملة وقيل ببيت المقدس سنة 34 هـ.الإصابة لابن حجر العسقلاني: 3/624 وما بعدها
(3) أخرج هذا الحديث:
مسلم في صحيحه:3/1211،كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً، رقم(1587).
أبو داود في سننه: 3/248، كتاب البيوع، باب في الصرف، حديث رقم (3349-3350) (طبعة دار الفكر، بتحقيق محي الدين عبد الحميد).
- الترمذي في السنن: 4/236، كتاب البيوع، باب ما جاء أن الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل كراهية التفاضل فيه، رقم(1240).
- النسائي في السنن: 4/28، كتاب البيوع، باب بيع الملح بالملح، رقم (6157).
- ابن ماجه في السنن: 2/757، كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلاً يداً بيد، رقم (2254).(1/20)
فالنبي صلى الله عليه وسلَّم يقرّر بقوله ((فبيعوا كيف شئتم)) جواز البيع ما لم يتخلله ما يفسد مشروعيته كالربا المحرّم بنص كتاب الله تعالى. وقد قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يبتاعون، فأقرّهم. وثمة آثار كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد باع وابتاع بنفسه، فكان الإجماع على مشروعية البيع(1).
والحقيقة أن مضمون بيع المرابحة لا يختلف عن مضمون البيع العادي، وإن كان ثمَّ اختلاف، فهو في طريقة العلم بالثمن، فالذي يقول: بعتك الثوب بمائة وعشرة. كالذي يقول: بعتك هذا الثوب بمائة ـ وقد بيّن أنها رأسماله ـ وربح عشرة. إذ النتيجة واحدة، وهي مائة وعشرة، إلا أنه في العبارة الأولى ذكر الثمن جميعاً رأس المال والربح، أما في العبارة الثانية فقد أفرد الربح عن رأس المال، فَعُلِم مجمل الثمن بالحساب، والمآل واحد في كلٍ، وهو معلومية ثمن المبيع.
ثم إن الحاجة داعية إلى مثل هذه الصورة من البيع، إذ ربّما كان المشتري ممَّن لا يهتدي في البيع والشراء، فيحتاج إلى خبرة غيره، فيشتري الشيء بمثل ما اشتراه وزيادة معلومة يُتفق عليها.
آراء الفقهاء:
بناءً على ما سبق، فإن جمهور الفقهاء من أرباب المذاهب الأربعة، قد ذهبوا إلى جواز بيع المرابحة، وأنه سبب صحيح للتملك، حتى نقل ابن جرير(2) الإجماع على ذلك (3) وإن كان منهم قائل بالكراهة في بعض صوره، أو أنه خلاف الأولى، على التفصيل الآتي:
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 12/108
(2) محمد بن جرير، أبو جعفر الطبري، ولد في طبرستان سنة 224هـ،فقيه مجتهد مؤرِّخ مفسِّر إمام في الحديث، بلغ رتبة الاجتهاد المطلق،كان له مذهب مستقل،كان شافعياً أوّل أمره، من مصنفاته (جامع البيان في تفسير القرآن)، (أخبار الرسل والملوك) توفي ببغداد سنة 310هـ. الأعلام للزركلي 6/69.
(3) اختلاف الفقهاء، ابن جرير الطبري: ص75.(1/21)
الحنفيّة: ذهب الحنفية إلى جواز بيع المرابحة مطلقاً بشتى عباراته بلا كراهة، لعموم أدلة الإباحة وانطباقها على هذه الصورة من البيع، وللحاجة الداعية إليه.
يقول المرغيناني (1): (المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح. والتولية نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح، والبيعان جائزان لاستجماع شرائط الجواز، والحاجة ماسّة إلى هذا النوع من البيع لأن الغبي الذي لايهتدي في التجارات، يحتاج إلى أن يعتمد فعل الذكيّ المهتدي، و تطيب نفسه بمثل ما اشترى وربح زيادة، فوجب القول بجوازها)(2).
الشافعيّة: هم كالحنفيّة في إطلاق الجواز عبارةً دون كراهة واستثناء، قال الماوردي(3): ( وأمّا بيع المرابحة فصورته أن يقول:أبيعك هذا الثوب مرابحة على أن الشراء مائة درهم وأربح في كل عشرة واحداً. فهذا بيع جائز لا يكره )(4).
__________
(1) المرغيناني: علي بن أبي بكر،منسوب إلى مرغينان من نواحي فرغانة، ولد سنة 530هـ،كان جامعاً للعلوم نظّاراً، بلغ رتبة الاجتهاد في لمذهب، من كتبه: (كفاية المنتهى)، توفي سنة 593هـ.سير أعلام النبلاء للذهبي: 21/232.
(2) الهداية للمرغيناني: 3/56.
(3) الماوردي: علي بن محمّد بن حبيب، أبو الحسن الماوردي، ولد بالبصرة سنة 364هـ، فقيه شافعي أصولي مفسِّر أديب، كان حافظاً للمذهب، نُسب خطأً إلى الاعتزال، من كتبه (الأحكام السلطانية)،(أدب الدنيا والدين)، توفي ببغداد سنة 450هـ، سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/4.
(4) الحاوي للماوردي: 5/279(1/22)
الحنابلة: قال الحنابلة بالجواز أيضاً، إلا أنهم كرهوا تلك الصيغة التي ذكرها الماوردي رحمه الله تعالى وهي (أربح في كل عشرة دراهم من ثمنه درهماً) وهي بالفارسية ده يازده. فقد كرهها الإمام أحمد(1) كما نقل ابن قدامة عنه ( وإن قال بعتك برأسمالي فيه وهو مائة وأربح في كل عشرة دراهم درهماً أوقال:ده يازدة. فقد كرهه أحمد.)(2).
كما نقل ابن قدامة الرواية في كراهيتها عن بعض كبار الصحابة والتابعين، كابن عمر وابن عباس ومسروق والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار (3)
__________
(1) أحمد بن محمد بن حنبل، أبو عبد الله الشيباني، إمام المذهب المنسوب إليه، ولد ببغداد سنة 164هـ، إمام المحدثين، كان من أصحاب الإمام الشافعي أوّل أمره، امتحن بفتنة القول بخلق القرآن الكريم وسجن لذلك زمن المعتصم وثبت على قوله، من أشهر كتبه ( المسند ). توفي ببغداد سنة 241هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:11/177.
(2) المغني لابن قدامة: 6/266، وانظر كشاف القناع للبهوتي: 3/230.
(3) ابن عمر: عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن الصحابي الجليل، ولد بمكة سنة 11 قبل الهجرة، أسلم قبل بلوغه وهاجر قبل أبيه، عُرف بورعه وشدّة اتباعه للسنة، وهو أحد الستة المكثرين لرواية الحديث، اعتزل الفتن، توفي بمكة سنة 73هـ،الإصابة لابن حجر العسقلاني:4/181 وما بعدها.
- ابن عباس: عبد الله بن عباس، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلّم، ولد بمكة سنة 3 قبل الهجرة، لقب بحبر الأمة لكثرة علمه، وهو أحد المكثرين من رواية الحديث، روى 1660 حديثاً، توفي بالطائف سنة 68هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 4/141 وما بعدها.
- مسروق: مسروق بن الأجدع، الهمذاني،التابعي الكبير، من أهل اليمن، قدم المدينة أيام خلافة أبي بكر، شهد القادسية، توفي سنة 62هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/63.
... - الحسن البصري: (الحسن) عند الإطلاق في كل علم: ولد بالمدينة سنة 21هـ، من سادات التابعين، فقيه حافظ للحديث، له حكم مأثورة، توفي بالبصرة سنة 110هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/563.
... - عكرمة: بن عبد الله، من كبار التابعين، ولد سنة 25هـ، بربري الأصل من المغرب، مولى ابن عباس، عُرف عنه قوله بقول الخوارج، توفي بالمدينة سنة 105هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/12.
... - سعيد بن جبير: الكوفي، ولد سنة 46هـ، حبشي الأصل، من كبار أئمة التابعين، جهبذ العلماء، قتله الحجاج بواسط سنة 95هـ وعمره 49سنة. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/321.
... - عطاء بن يسار: التابعي المشهور، حدّث عن كبار الصحابة كعائشة وأبي هريرة، كان فقيهاً واعظاً ملازماً لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، توفي سنة 103 هـ وقيل قبل المائة. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/448.(1/23)
رضي الله عنهم.
وقد استدل الإمام أحمد على الكراهة بما يلي:
أن الكراهة مروية عن بعض الصحابة والتابعين.
أن فيها - أي تلك الصورة – جهالة، وهي الجهالة في الحساب لصعوبته، فكان التحرّز عنها أولى
وفي هذه الصورة قال إسحاق بن راهويه(1)ـ كما نقل الماوردي عنه ـ بعدم الجواز، واستدلَّ لذلك بأن الثمن مجهول في العقد، وبأن كذب البائع غير مأمون في الإخبار عن الثمن(2).
ويمكن الردّ على تلك الأدلة التي استدلّ بها الإمام أحمد للكراهة، وإسحاق للتحريم، بما يلي:
لا فرق بين عبارة (وربح في كل عشرة دراهم درهماً) أو (ده يازدة) وعبارة (وأربح كذا درهماً) مادام المآل واحداً، وهم العلم بالثمن.
الجهالة يمكن إزالتها بالحساب مادام عاقدا المرابحة قد عقدا البيع بما يصير به الثمن معلوماً بعد العقد، وذلك لا يمنع من صحّة العقد.
جمعٌ غفير من كبار الفقهاء والتابعين من أمثال سعيد بن المسيّب وابن سيرين وابن المنذر وشريح والنخعي والثوري،(3)
__________
(1) إسحاق بن راهويه: اسمه إسحاق بن إبراهيم، راهويه لقب أبيه لأنه ولد في الطريق ومعنى راهويه: ولد في الطريق، ولد سنة 161هـ، عالم خراسان، حافظ فقيه، أخذ عن الإمامين أحمد والشافعي، توفي بنيسابور سنة 238هـ سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/358.
(2) الحاوي للماوردي: 5/279.
(3) – سعيد بن المسيب: المخزومي القريشي، ولد سنة 15هـ سيد التابعين وإمامهم، صهر أبي هريرة على ابنته، أحد فقهاء المدينة السبعة، توفي بالمدينة سنة 94هـ.سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/217.
ابن سيرين: محمد بن سيرين، البصري، التابعي، ولد بالبصرة سنة 33هـ، إمام في التفسير والحديث والفقه وتعبير الرؤيا، ثقة ورع، أدرك ثلاثين صحابياً، من كتبه: (تعبير الرؤيا)، توفي بالبصرة سنة 110هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/606.
- ابن المنذر: محمد بن إبراهيم بن المنذر، النيسابوري، ولد بمكة سنة 309هـ، فقيه شافعي حافظ مجتهد أصولي، بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، صنف في اختلاف العلماء: (الإشراف في مذاهب الأشراف)، توفي في مكة. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/490.
- شريح: شريح بن الحارث،الكوفي، ولد سنة 42 قبل الهجرة، من كبار التابعين، من أشهر القضاة في صدر الإسلام،أصله من اليمن،مخضرم، ولي قضاء الكوفة زمن عمر ومن جاء بعده ستين عاماً ثم استعفى من الحجاج سنة 77هـ فأعفاه، توفي بالكوفة سنة 78هـ وهو ابن120سنة.سير أعلام النبلاء: 4/100.
- النخعي: شريك بن عبد الله، ولد ببخارى سنة 95هـ، قاضٍ فقيه عالم بالحديث، ولي قضاء الكوفة والأهواز، وله مآثر في القضاء، توفي بالكوفة سنة 177هـ. الأعلام للزركلي: 3/163.
... الثَوري: سفيان بن سعيد، ولد بالكوفة سنة 97هـ، أحد الأئمة المجتهدين في الفقه، منسوب إلى بني ثور من مُضر، من تابعي التابعين، له مذهبه الخاص، من كتبه: (الجامع الكبير)، (الجامع الصغير) وهما في الحديث، توفي بالبصرة سنة 161 هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 7/229.
(4) المغني لابن قدامة: 6/266. وانظر الحاوي للماوردي: 5/279.(1/24)
قد قال بعدم الكراهة في تلك الصيغة(4).
لا وجه لما ذكره إسحاق من أن كذب البائع غير مأمون، إذ الظاهر صدقه، ثم إنَّ ثمَّة أحكاماً خاصةً، لصالح المشتري، مترتبةً على خيانة البائع في الإخبار عن الثمن.
المالكيِّة: إن المالكيِّة مع قولهم بجواز بيع المرابحة فقد قالوا بأنه خلاف الأولى، فقد جاء في الشرح الكبير للدردير(1) وحاشية الدسوقي(2) عليه: ( وجاز البيع حال كونه مرابحة والأحب خلافه. فالمراد بالجواز خلاف الأولى، ومراده بخلاف بيع المرابحة بيع المساومة )(3).
وعلل الدسوقي كونه خلاف الأولى بقوله: (وأما بيع المرابحة، فهو غير محبوب لكثرة احتياج البائع إلى البيان)(4).
__________
(1) الدردير: أحمد بن محمد، أبو البركات، ولد بمصر سنة 1127هـ، فقيه مالكي، متكلم، صوفي، تعلم بالأزهر، من كتبه: (أقرب المسالك لمذهب مالك)، توفي بالقاهرة سنة 1201هـ.الأعلام للزركلي:1/244.
(2) الدسوقي: محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، ولد سنة 1230هـ في دسوق بمصر، من علماء العربية والشريعة،درس بالأزهر، من مصنفاته( الحدود الفقهية)، توفي سنة 1815 م.الأعلام للزركلي:6/17.
(3) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه 3/159، وانظر منح الجليل للشيخ عليش: 5/263، مواهب الجليل للحطّاب 4/488.
(4) حاشية الدسوقي: 3/159.(1/25)
إذن، فكونه خلاف الأولى عند المالكيّة إنما هو لاعتبار حسابي لا يرقى به إلى درجة الكراهة عندهم، ولم يفرق المالكيّة بين صيغة وصيغة مادامت كل الصيغ تستلزم عملية حساب، ولو أدنى عملية وأبسط، كضم الربح إلى الثمن الذي هو رأس المال، إذ قد لاتتوافر للمشتري ملكة الحساب، فيقع قي الغرر. وهذا الاعتبار الحسابي أيضاً هو الذي جعل البعض – كما سبق – يقول بكراهة عبارة (وأربح في كل عشرة دراهم درهماً أوده يازده) لما قد تؤدي إليه هذه الصيغة من جهالة في بيان الثمن والربح. وذاك الاعتبار لا صلة له بمشروعية بيع المرابحة بذاتها، بل مدار الكراهة على طريقة الإخبار عن الثمن، ويمكن القول بأن طريقة الإخبار عن الثمن أمر عرفي عَرضي خاضع للتبدل، ولا يؤدي إلى أدنى مشكلة مادام يمكن حسابه بسهولة بالوسائل المتعارفة.
الجعفرية والزيدية:
ذهب الجعفرية إلى جواز بيع المرابحة عموماً دون تفريق في الحكم بين العبارات والصيغ(1)، وكذا الزيدية، فقد جاء في الروض النضير للصنعاني(2): (قال زيد بن علي(3): لا بأس ببيع المرابحة إذا بينت رأس المال، ولا بأس ببيع ده يازده و دوازده، وإنما هي لغات فارسية فلا نبالي بأي لسان كان)(4).
موقف الظاهرية من بيع المرابحة:
__________
(1) اللمعة الدمشقية للعاملي: 3/428.
(2) الصنعاني:عبد الرزاق بن حمام، أبو بكر، ولد يصنعاء سنة 126هـ، حافظ مفسر، روي عن بعض التابعين كمالك وسفيان الثوري، من كتبه (المصنف)، (الجامع الكبير) وكلاهما في الحديث، توفي بصنعاء سنة 211هـ.سير أعلام النبلاء للذهبي:9/563.
(3) زيد بن علي: ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين، تنسب إليه الزيدية، ولد سنة 79هـ، إمام الكوفة، قرأ الأصول والتوحيد على واصل بن عطاء رأس المعتزلة فصارمن أتباعه على مذهب المعتزلة في الاعتقاد، قتل في حربه مع بني أمية سنة 122هـ. سيرأعلام النبلاء للذهبي: 5/389.
(4) الروض النضير للصنعاني:3/238.(1/26)
ذهب أهل الظاهر إلى عدم صحة بيع المرابحة عموماً، فقد جاء في المحلّى (ولا يحل البيع على أن تربحني للدينار درهماً، ولا على أني أربح معك فيه كذا وكذا، فإنْ وقَع فهو مفسوخ أبداً)(1).
ومدار منع الإمام ابن حزم(2) رحمه الله تعالى لهذا البيع على اشتراط الربح بعد بيان رأس المال، أمّا مجرد الإخبار برأس المال ومقدار الربح الذي يربحه البائع إن تمّت الصفقة، فلا بأس به عنده، وذلك كما لو قال: (بعتك هذا الكتاب بمائة علماً بأني لا أربح فيه إذا بعتكه بمائة إلا خمسة دراهم) إذ لا مرابحة في هذه الصورة مادمنا قد عدمنا شرط الربح الصريح الذي في قول البائع مثلاً ( بعتك هذا الكتاب برأسمالي فيه والبالغ خمسة وتسعين على أن تربحني خمسة دراهم) أو الضمني كما في قوله: (بعتكه بخمسة وتسعين وربح خمسة دراهم) إذ في كلا هاتين الصيغتين شرط، لأن بيع الكتاب متوقف على إرباح المشتري البائع خمسة دراهم.
يقول ابن حزم (فلو تعاقدا دون هذا الشرط لكن أخبره البائع بأنه اشترى السلعة بكذا وكذا وأنه لا يربح معه فيها إلا كذا وكذا فقد وقع البيع صحيحاً)(3).
__________
(1) المحلّى لابن حزم: 9/14.
(2) ابن حزم: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، أبو محمد، ولد سنة 384هـ في قرطبة، فقيه مجتهد، من أئمة المذهب الظاهري، كان شافعيَّ المذهب ثم انتقل إلى المذهب الظاهري وتبعه خلق كثير سُمُّوا: (الحزمية)، عوقب لجرأته على العلماء، أشهر كتبه (المحلّى)، توفي سنة 456هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/182
(3) المحلّى لابن حزم: 9/14.(1/27)
فابن حزم إذاً يجعل تمام الإيجاب في قول البائع: بعتك الشيء بمائة. فيعتبر المائة هي الثمن وما يذكر بعد ذلك من شرط ربح مضافاً إلى الثمن المذكور أولاً شرطاً مفسداً للعقد مبطلاً له. ويدل ابن حزم على طريقة للنجاء من إبطال العقد فيما إذا ابتلي أحدٌ بالتعامل مع قوم لا يبيعون ولا يشترون إلا بصيغ المرابحة فيقول: ( من امتحن بالتجارة في بلد لا ابتياع فيه إلا هكذا فليقل: قام علي بكذا. ويحسب نفقته عليه أو يقول: ابتعت بكذا، ولا يحسب في ذلك نفقة، ثم يقول: لكني لا أبيعه على شرائي، تريد أخذه مني بيعاً بكذا وكذا وإلا فدع. فهذا بيع صحيح لا داخلة فيه)(1).
فابن حزم إذاً يشترط الإخبار عن ثمنٍ واحد دفعةً واحدةً – وليدخل فيه البائع النفقة والربح إن شاء – حتى يسوغ البيع، ولو كانت صيغة ( بعتك بمائة وربح عشرة دراهم ) من الصيغ الجائزة لديه لدلّ عليها، ولكنه دلّ على صيغةٍ ذُكر الثمن فيها جملةً واحدةً، لا يمكن أن تنطبق عليها صيغ المرابحة وأحكامها.
أدلة ابن حزم على ما ذهب إليه:
قوله صلّى الله عليه وسلّم:(( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ))(2)
__________
(1) المحلّى لابن حزم: 9/15.
(2) هذا جزء من حديث السيدة عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها، وقصتها مع بريرة. أخرجه البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة منها (( من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل…)) ومنها (( فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )).
البخاري في صحيحه: 2/757، كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء، رقم(2047) وفي العتق(2421)–(2424).
مسلم في صحيحه: 2/1143، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، رقم (1504).(1/28)
فقد عدَّ ابن حزم شرط الربح بعد بيان رأس المال في عقد المرابحة المتضمَّن في قول البائع: ( بعتك هذا بمائة وربح عشرة ) أو: (على أن تربحني عشرة) شرطاً لا أصل له، إذ ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فهو شرط باطل يبطل معه العقد، شأن أيّ شرط لم يرد في الأصلين الكتاب والسنة ما يجيزه، وما ورد فيهما سبعة شروط لا يُخرج عنها، وليس في تلك الشروط شرط الربح في البيع.(1)
أن بيع المرابحة بيعٌ بثمن مجهول فلو قال البائع: بعتك هذا الشيء على أن تربحني معه لكل دينار من ثمنه درهماً. فهو بيع فيه جهالة ولو أخبر بالثمن الأول، إذ الجهالة باقية لأن الثمن الجديد لم يعلم بعد، وهذا ممّا يوقع المشتري في الغرر، فقد يحسِبه مخطئاً في نفسه ويقبل البيع ثم يتبيّن له خلاف ما حسب، أو قد لا يوجد من أجزاء النقود ما يدفع في الثمن الجديد. يقول ابن حزم: ( فإن كان شراؤه – أي شراء البائع – ديناراً غير ربع كان الشراء – أي شراء المشتري بالثمن الجديد – بذلك والربح درهماً غير ربع درهم – أي إذا شرط ربح درهمٍ عن الدينار أو كان ذلك متعارفاً – فهذا الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والبيع بثمن لا يدري مقداره ).(2)
واستدلَّ ابن حزم أيضاً بما روي عن ابن عباس من كراهة بيع ده يازده ودوازده، وبما روي عنه أيضاً وعن ابن عمر أنهما قالا: هو ربا. وبما روي من كراهته أيضاً عن بعض التابعين كمسروق وسعيد بن جبير(3).
الرد على استدلال ابن حزم:
إنَّ عدَّ شرط الربح في عقد المرابحة شرطاً ليس في كتاب الله تعالى أو في سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم لا يصح، يُرد عليه من وجوه:
__________
(1) انظر المحلّى لابن حزم في تلك الشروط السبعة:8/412-413.
(2) المحلى لابن حزم: 9/14.
(3) المرجع السابق: 9/15.(1/29)
لا يُسَّلم أنَّ الأصل في الشروط المنع إلا ما ورد به نص، بل الخلاف بين الفقهاء قائمٌ بين كون الأصل فيها التقييد أو الإطلاق.(1)
اعتبار شرط الربح في البيع شرطاً مفسداً للبيع خطأ، إذ الربح هو المقصود من البيوع عادةً، لا فرق بين التصريح به وبين كتمانه، وليس هو منافياً لمقتضى العقد حتى يفسده، بل هو من متمّمات العقد مادام من متمّمات إيجاب البائع، إذ بذكر الربح المشروط يتمُّ الإخبار عن الثمن الذي يرضى به البائع أن يبيع سلعته به للمشتري. فالبائع هنا يشترط شيئاً من حقه، وهو الربح الذي يشاء، كالحال فيما لو قال المشتري للبائع: أشتري منك دارك على أن يكون مستودع السيارة تابعاً لها، فهنا اتفاق على حجم المبيع الذي يرضى به المشتري وهناك – في المرابحة -اتفاق على حجم الثمن الذي يرضى به البائع.
وأمّا قوله بأن بيع المرابحة بيع بثمن مجهول وفيه غرر، فغير مسلَّم أيضاً، إذ يمكن معرفة الثمن بالحساب، والعاقدان إن لم يكونا قد نصّا على مجمل الثمن في العقد نصّاً تامّاً، فإنهما قد عقدا المرابحة بما يصير به الثمن معلوماً، وذلك بالحساب، وهذا ممّا لا يمنع من صحة العقد ولو كان العلم به بعد العقد كما يقول الماوردي(2)، ثم إن جهالة الثمن ليست كإغفال الثمن مطلقاً في البيع، فهي جهالة يسيرة في مقدار ما سيدفع تحديداً لا في أصل الثمن ومبدئه.
وأما قول ابن حزم: (فلو كان شراؤه ديناراً غير ربع كان الشراء بذلك والربح درهماً غير ربع درهم فهذا بيع الغرر)، فواقع في زمانه منتفٍ في زماننا، إذ لم يكن آنئذ ربع درهم، أما في زماننا فتنقسم الوحدة النقدية إلى أجزاء كثيرة.
__________
(1) ذهب الحنابلة على خلاف الجمهور إلى أن الأصل في الشروط العقدية هو الاطلاق لا التقييد. شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/160، وانظر المبسوط للسرخسي: 13/13، حاشية الدسوقي: 3/ 65 وما بعدها.
(2) الحاوي للماوردي: 5/502.(1/30)
وأمّا رواية الحرمة عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم فيمكن حملها على إحدى الحالات التالية:
فيما لو قال له: بعتك هذا بمائة على أن تربحني فيه زيادة عشرةً إن تأخرت عن دفع الثمن. فيكون رباً صريحاً، لا عقد مرابحة.
إذا توفَّرت علَّة الرِّبا في العقد، كمن يبيع دراهم بدراهم مرابحة، فهذا يحرم قطعاً، إذ المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في أموال الربا ربا إن توافرت علته لا ربح(1) ؛ وإلا فأين الربا في قول الرجل: بعتك هذا الكتاب بمائة وزيادة عشرة دراهم. فالمبادلة واقعة بين الكتاب والدراهم لا بين ثمن الكتاب الذي هو مائة، وبين الثمن بعد المرابحة أي المائة وعشرة.
لو قال له مثلاً: بعتك هذا الثوب على أن تربحني فيه عشرة دراهم. ثم لا يخبر البائع عن رأس ماله، فيبقى الثمن مجهولاً، فيفسد العقد لجهالة الثمن.
... ولعل هذين الصحابيين رضي الله عنهما قصدا بالحرمة صيغة ( ده يازدة ودوازدة ) فهي أعجمية ربَّما جهلها المشتري فوقع في الغرر المحرَّم، فلا يصح العقد بها. أما سوى ذاك من الصيغ فهو على الإباحة.
وأخيراً، فلعل من الخير القول، بعد معرفة مشروعية بيع المرابحة والاختلاف فيه، بأن بيع المساومة كان أفضل من بيع المرابحة، نظراً لكون الأول أبعد عن احتمال الكذب والغلط، ولكونه أيضاً أبعد عن الجهالات وأبعد عن خلاف الفقهاء، ولكن هل واقع الحال كذلك اليوم ؟ أي هل ما تزال المساومة تعتبر أفضل من المرابحة ؟
__________
(1) هذا التفسير هو ما لمَّح إليه الماوردي. انظر الحاوي:5/279.(1/31)
الواقع أن صفقات ضخمة اليوم أضحت تنعقد بناءً على رأس مال ثابت ومعروف، مع إضافة ربح معلوم كنسبة مئوية. وكثيراً ما تتدخَّل الدول لتفرض هامش ربح معين على سلعة ما، بنسبة مئوية محددة من التكلفة الحقيقية المبذولة في إنتاج تلك السلع، وذلك يجعل التجّار الذين تتقلّب تلك السلع في أيديهم يبنون أرباحهم على أساس رأس المال مضافاً إليه نسبة الربح، لمعرفة جدوى الشراء والبيع، وذلك يجعل بيع المرابحة أكثر تطبيقاً ممّا كان عليه في السابق، وبلا شائبة تشوبه نتيجة تيسُّر الحساب، وتطور الوسائل الحسابيّة بالأجهزة التقنية الدقيقة.
وممّا يدلُّ على أن المسألة مسألة عُرْْف وزمان: قول البُهُوتي(1) ابن القرن الحادي عشر الهجري (وفي الإنصاف قلت: أمّا بيع المرابحة في هذه الأزمان فهو أولى للمشتري وأسهل)(2) وذلك بعد أن ذكر قولاً عن مشايخ الحنابلة بأن المساومة أفضل من المرابحة.
الفصل الثاني
شروط عقد المرابحة
ـ الشرط الأول: العلم بالثمن الأوّل:
يشترط العلم بالثمن الأول، لأن العلم به فرع عن العلم بالثمن الذي هو شرط في صحّة البيوع كافّة، فالثمن الأوّل سيكون الثمن في البيع الثاني الذي حصلت فيه المرابحة، مضافاً إليه مقدار الربح. فعلى هذا، إن لم يخبر البائع بالثمن الأوّل وقال مثلاً: قد بعتكه بالثمن الذي أبيعه به عادةً، وربح كل عشرة دراهم من ثمنه درهماً. ولم يبيّن الثمن الأول، لم يجز ذلك لبقاء الثمن مجهولاً.
__________
(1) البهوتي: منصور بن يونس، ولد سنة 1000هـ، فقيه مصري حنبلي، منسوب إلى بهوت في مصر، شيخ الحنابلة في عصره وفقيهم في مصر، من كتبه: (الروض المربع شرح زاد المستقنع)، توفي سنة 1051هـ. الأعلام للزركلي: 7/307.
(2) كشاف القناع للبهوتي: 3/229.(1/32)
وكذا الحكم: لو قال البائع مثلاً للمشتري: لا أعلم ثمن هذه السلعة تحديداً، لشرائي لها ضمن مجموعة سلع، ولكنّي أبيعكها بما يخرج الحساب من ثمنها عليّ وربح العشرة واحداً. فلا يجوز أيضاً، لأن العاقدين لم يعقدا عقد المرابحة هذا بثمن معلوم وقت العقد، أو حتى بما يصير به الثمن معلوماً بعد العقد في المجلس، وقد يجوز أن يختلفا في الثمن الذي يذكره البائع بعد العقد، ولا يمكنهما الرجوع إلى ما يحل هذا الخلاف. فجهالة الثمن الأوّل إذاً في بيع المرابحة مفسد له، وهذا باتفاق الفقهاء.(1)
يتفرع عن هذا الشرط مسائل:
المسألة الأولى: ما الحكم لو زالت الجهالة عن الثمن الأوّل في مجلس العقد ؟
قال الشافعية: لو زالت الجهالة عن الثمن الأوّل في مجلس العقد مرابحة، لم ينقلب البيع صحيحاً على الصحيح، وفي قولٍ آخر لديهم ينقلب صحيحاً. ووجه أن معرفة الثمن الأوّل سهلة بالرجوع إلى البائع، فبالحساب يعرف الثمن الثاني.
وقاسوا ذلك على حالة الشفيع يجاب إلى طلبه بالشفعة، ويحكم له بها قبل معرفة الثمن الذي بيع به ما فيه حق الشفعة، وذلك لسهولة معرفة الثمن الذي بيع به ما فيه حق الشفعة أولاً لغير الشفيع.(2)
__________
(1) بدائع الصانع للكاساني:5/220، المغني لابن قدامة: 6/266، حاشية الدسوقي:3/159، الحاوي للماوردي: 5/280، اللمعة الدمشقية للعاملي: 3/428، الروض النضير للصنعاني: 3/238.
(2) روضة الطالبين للنووي:3/529.(1/33)
أمّا الحنفية: فقد صحّحوا العقد إن حصل العلم في المجلس، بناءً على أن مجلس العقد يجمع المتفرقات. قال الكمال(1) في الفتح:(ولما كان المجلس جامعاً للمتفرقات يعتبر الواقع في أطرافه كالواقع معاً، فكان تأخير البيان –أي بيان قدر الثمن– كتأخير القبول إلى آخر المجلس، فإنه يجوز ويتصل بالإيجاب السابق أوّل المجلس، كذا هذا يكون سكوته عن تعيين الثمن في تحقق الفساد موقوفاً إلى آخره فإن تبيَّن فيه، اتصلّ بالإيجاب الذي سكت عنه، وإن انفضَّ قبله، تقرر الفساد فلا ينقلب بعده صحيحاً).(2)
فعلى هذا يكون العقد عند الحنفية في هذه الحالة فاسداً، له عرضية الصحّة على الصحيح. و المرويّ عن محمَّد (3) أنه ينعقد صحيحاً له عرضية الفساد.(4)
المسألة الثانية: هل يمكن أن تَحلَّ فواتير الشراء اليوم محلّ الإخبار بالثمن ؟
__________
(1) الكمال بن الهمام: محمد بن عبد الواحد، كمال الدين، عرف باسم ابن الهمام، ولد بالاسكندرية سنة 790هـ،فقيه حنفي أصولي، من كتبه ( التحرير ) في أصول الفقه، ( شرح فتح القدير ) في الفقه، وهو شرح الهداية للمرغيناني، توفي سنة 861هـ. الأعلام للزركلي: 6/255.
(2) فتح القدير لابن الهمام:6/134.
(3) محمد بن الحسن الشيباني، صاحب الإمام أبي حنيقة، ولد سنة 131هـ بواسط في العراق، أصله من حرستا بغوطة دمشق، صَحِبَ أبا حنيفة، وتفقه على أبي يوسف والإمام مالك، دوّن فقه أبي حنيفه، من كتبه ( الجامع الكبير)، (الجامع الصغير)، (السير الكبير)، (السير الصغير)، (المبسوط)، (الزيادات) وهي كتب ظاهر الرواية توفي بالريّ سنة 189هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:9/134
(4) فتح القدير لابن الهمام: 6/134.(1/34)
يمكن القول بأن فواتير الشراء في زمننا يمكن أن تحلَّ محل إخبار البائع عن رأس ماله، وذلك إذا كانت هذه الفواتير مطابقة للثمن الحقيقي للسلعة. أمّا إذا لم تكن مطابقة، وذلك كالفواتير التي تصاغ بأسعار أعلى من واقع الحال أو أخفض، لتقدَّم إلى موظفي الضرائب، أو بعض الجهات المعنيِّة، فلا عبرة بها، ولا بد من إخبار البائع عن الثمن الحقيقي.وكما يكون هناك فواتير لثمن الشراء، فهناك فواتير للنفقات التي تبذل في تلك السلعة، وكل ذلك في الحكم سواء. ويترتب على التزوير في الثمن المثبت في تلك الفواتير حكم الخيانة المترتب على كذب البائع في الإخبار بالثمن كما سيأتي.
المسألة الثالثة: هل الثمن الأوّل هو رأس المال ؟
هل الكلمة المركبة (رأس المال) تعني الثمن الأوّل فقط، أم أنها تحتمل دخول النفقات التي يبذلها البائع ويحق له ضمها إلى الثمن الأوّل الذي اشترى به السلعة، أي أن هذه الكلمة تعني ما قامت به السلعة على البائع ؟
يتبين من تعريف رأس المال عند الحنفيّة و تفصيلهم في أحكام المرابحة أنهم عدّوا رأس المال و الثمن الأوّل مترادفين، فقد عرفّ الكاساني(1) رأس المال بأنه: ما لزم المشتري بالعقد. كما عقد الكاساني فصلاً فيما يلحق برأس المال وما لا يلحق من النفقات.(2)
__________
(1) الكاساني: أبو بكر بن مسعود، علاء الدين الكاساني، فقيه حنفي من أهل حلب، يعرف بملك العلماء، وكاسان المنسوب إليها: بلد في تركستان، تفقه على السمرقندي صاحب تحفة الفقهاء، وتزوج ابنته، وشرح تحفته، من كتبه: (السلطان المبين في أصول الدين)، توفي بحلب سنة 587هـ , الأعلام للزركلي:2/70.
(2) بدائع الصنائع:5/222-223.(1/35)
وقد تكلم في هذه المسألة الشيرازي(1) من الشافعيّة، فكان من جملة ما قال في رجل اشترى ثوباً بعشرة، وأنفق عليه مقدار ثلاثة دراهم، تطريزاً وقصارة: ( وإن قال: رأس مالي ثلاثة عشر، ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز أن يقول: رأس المال. لأن رأس المال هو الثمن، والثمن عشرة. والثاني: يجوز لأن رأس المال ما وزن فيه، وقد وزن فيه ثلاثة عشر ).(2)
والصحيح عند الشافعيّة أن رأس المال هو الثمن، فلا تدخل النفقات، كما ذهب النووي.(3)
واستعمل ابن رشد (الحفيد)(4) من المالكيّة كلمة رأس المال على نحوٍ يشمل الثمن الأول والنفقة المبذولة في السلعة، فقد عنون لفقرة في معرض حديثه عن أحكام المرابحة بعنوان: (فيما يعد من رأس المال ممّا لا يعد ) وعباراته اللاحقة تدل على أن المعنيَّ برأس المال مجمل ما قامت به السلعة على البائع.(5)
ولم أعثر عند الحنابلة على ما يدلُّ على وجهتهم في هذه المسألة، لكن يمكن القول عموماً بأن العبرة للعرف هي هذه المسألة، وعلى البائع أن يبين الثمن الأول الذي اشترى به، والنفقات اللاحقة إن وجدت.
المسألة الرابعة: ما حكم بيع سلعة ملكت دون شراء مرابحةً ؟
__________
(1) الشيرازي: إبراهيم بن علي، أبو إسحاق، ولد بفيروز أباد سنة393هـ، فقيه شافعي، أصولي نظّار، هو المراد بالشيخ عند الاطلاق في كتب الشافعية، من كتبه: (التنبيه)،(اللمع)، توفي ببغداد سنة476هـ.سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/452، مرجع العلوم الإسلامية للأستاذ الدكتور محمد الزحيلي: ص429.
(2) المهذَّب للشيرازي: 1/289.
(3) روضة الطالبين للنووي: 3/528.
(4) ابن رشد (الحفيد):محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد، أبوالوليد، يلقب بالحفيد ليتميَّزعن جده،ولد بقرطبة سنة 520هـ فقيه مالكي أصولي طبيب فيلسوف، من كتبه(تهافت التهافت)، (فلسفة ابن رشد)، توفي في مراكش سنة 595هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:21/307
(5) انظر بداية المجتهد لابن رشد ( الحفيد ):2/161.(1/36)
إذا كان مبنى عقد المرابحة على العلم الثمن الأوّل الذي اشتريت به السلعة ليبنى الربح عليه، فكيف يكون الأمر لو لم يكن ثمَّة ثمن أوّل، كأن كانت السلعة قد ملكت بنحو هبة أو صدقة أو إرث حيث لا عوض ؟ رأيت أنَّ من تعرّض لهذه المسألة، ولو بإشارة هم المالكيّة والحنفيّة.
أمّا المالكيّة: فقد أشاروا إلى ذلك في تعريفهم لعقد المرابحة بأنه: ( بيع مرتَّب ثمنه على ثمن بيع تقدَّمه غير لازم مساواته له )(1).
يفهم من هذا التعريف أن المالكيّة يشترطون أن تكون السلعة التي يقصد بيعها مرابحةً قد ملكت بعقد معاوضة نقد فيها ثمن.
وأمّاَ الحنفيّة: فقد صرّحوا بالحكم في هذه المسألة، فقد فقال ابن عابدين(2): (وحاصله أنّ ما وهب له ونحوه ممّا لم يملكه بعقد معاوضة إذا قدَّر ثمنه وضمَّ إليه مؤنته … يجوز له أن يبيعه مرابحة ولكن لا يقول: قام عليَّ. حتى لا يكون كاذباً،بل يقول: قيمته كذا )(3).
وقد قال التمرتاشي(4) من الحنفيَّة: ( المرابحة: مصدر رابح شرعاً، وهي بيع ما ملكه من العروض ولو بهبة أو إرث أو وصيَّة … )( (5).
__________
(1) منح الجليل للشيخ عليش: 5/262.
(2) ابن عابدين: محمد أمين بن عمر، المعروف بابن عابدين، دمشقي، ولد بدمشق سنة 1198هـ، فقيه الديار الشاميّة، إمام الحنفيّة في عصره، كان شافعيّاً أوّل عمره، من كتبه (رد المحتار على الدر المختار) في الفقه الحنفي، وعرف هذا الكتاب باسم حاشية ابن عابدين، وله (نسمات الأسحار) في أصول الفقه، توفي سنة 1252هـ بدمشق. الأعلام للزركلي: 6/42.
(3) حاشية ابن عابدين:7/350.
(4) التمرتاشي: صالح بن محمد بن عبد الله، ولد سنة 980هـ فقيه حنفي، من كتبه (العناية في شرح النقاية) توفي سنة 1055هـ. الأعلام للزركلي: 3/195.
(5) الدرالمختار للحصكفي ( مطبوع مع حاشية ابن عابدين ): 7/349-350.(1/37)
وقال الطحطاوي(1) في حاشيته على الدر المختار في ذات المسألة: ( فله المرابحة على القيمة إذا كان صادقاً في التقويم )(2).
وتعقيباً على قول الطحطاوي، أرجِّح في هذه الحالة أن يخبر البائعُ المشتري بالحال، لأن المرابحة من عقود الأمانة، والتقييم يكون مبنيَّاً على الظن أو غلبته.
ـ الشرط الثاني: أن يكون الثمن الأوّل مثليَّاً:
شرط الحنفية والمالكية دون الشافعية كون الثمن الأول مثلياً على التفصيل التالي:
أولاً – الحنفيّة:
فرع الحنفية على الشرط السابق – شرط العلم برأس المال الأوّل – أن يكون الثمن الأول مثلياً، وذلك كالنقود من دراهم ودنانير، وكالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة كالبيض. أما إذا لم يكن الثمن الأوّل مثلياً، بأن كان قيميّاً يختلف بتقويم المقوّمين، وذلك كالثوب والحيوان والعقار والعدديات غير المتقاربة كالبطيخ والرّمان ونحوهما، فقد فسد العقد، وذلك لأن القيميّ مجهول الثمن، إذْ يختلف تثمينه بين مقوِّمٍ وآخر، وهذا يؤدي إلى جهالة الثمن في عقد المرابحة وإن علم الربح المشروط، نظراً لابتناء الربح على الثمن الأوّل المجهول، وهو ما يؤدي إلى فساد عقد المرابحة.
واستثنى الحنفيَّة حالةً يصح فيها أن يكون ثمن السلعة التي يقصد بيعها مرابحةً قيميَّاً، وذلك إذا كان هذا القيميّ الذي هو الثمن الأوّل مملوكاً للمشتري، وسيدفعه المشتري للبائع في عقد المرابحة مع زيادة ربح معلوم(3).
__________
(1) الطحطاوي: أحمد بن محمد بن إسماعيل الطحطاوي، والأصح: الطهطاوي نسبةً إلى طهطا بالقرب من أسيوط بمصر، ولد سنة 1231هـ بطهطا، تعلَّم بالأزهر، تقلَّد مشيخة الحنفيَّة، من كتبه (حاشية على مراقي الفلاح) و (حاشية على الدر المختار)، توفي بالقاهرة في الموافق لسنة 1816م. الأعلام للزركلي: 1/245.
(2) حاشية الطحطاوي على الدر المختار: 3/94.
(3) حاشية ابن عابدين: 7/351(1/38)
وصورة المسألة كالتالي: ( إذا اشترى زيد مثلاً من خالد سيارة، ودفع ثمنها فرساً – وهي مال قيمي – ثمَّ باع السيارة إلى بكر بتلك الفرس مع ربح معلوم (مرابحة) بعد أن كان بكرٌ قد ملك الفرس من خالد بأي سبب من أسباب الملك قبل شرائه السيارة من زيد.
ووجه صحة هذه الصورة أن الثمن هنا وإن كان قيميّاً إلا أنه لا فائدة في معرفة مقداره الحقيقي لكونه الثمن الأول،وكونه بذاته جزءاً من الثمن الثاني مرابحةً، فلا تؤدي جهالة قيمته الحقيقية إلى اختلاف بين البائع والمشتري. ولكن بشرط: وهو أن يكون الربح المشروط معلوماً متميزاً كعشرة دراهم مثلاً. أمّا لو كان نسبةً من الثمن الأول، فلا تصح المسألة للاضطرار إلى تقويم القيميّ حينئذ للتوصّل إلى معرفة الربح.
يدل ما سبق على أنه يشترط شرطان لصحَّة كون الثمن الأوّل قيميّاً هما:
إذا كان هذا القيميّ مملوكاً للمشتري مرابحةً، وسيدفعه ثمناً في عقد المرابحة مع زيادة ربح للبائع يدفعها المشتري.
إذا كان الربح معلوماً متميّزاً عن القيميّ.
وقد يُتساءل: كيف جاز عند الحنفيّة في المسألة السابقة المرابحةُ على القيمة، ومُنِع هنا كون الثمن الأوّل قيميّاً إلا أن يكون مملوكاً للمشتري ؟
يجاب عن هذا بأنه في الحالة الأولى تكون السلعة حاضرةً، فيمكن تقييمها، والمشتري مطّلع على ذلك بالسؤال عنها. أمّا في الحالة الثانية فيعسر تقييم الثمن القيميّ بخروجه عن اليد، ثم إن قيمة الشيء قد تختلف من يوم الشراء إلى وقت البيع مرابحةً.
ثانياً –المالكيّة:(1/39)
أما عن مذهب المالكيّة في هذه المسألة، فقد أجازوا أن يكون الثمن الأول عرضاً قيميّاً بمثل الشروط التي أجازبها الحنفيّة، إلا أنهم لم يشترطوا أن يكون ذلك الثمن بعينه ما سيدفعه المشتري مرابحة مع ربح معلوم للبائع، بل يكفي أن يكون ما سيدفعه مثل الثمن الأوّل في الوصف مع زيادة ربح متميز معلوم.فقد جاء في المنح: ( وتجوز المرابحة على مثل ثمن مثلي، ولم على مثل ثمن مقوّم معين كشراء دار بحيوان معيّن، ثم بيعها بمثله وزيادة معلومة من حيوان أو غيره لا بقيمته )(1).
ومذهب الجواز هذا هو مذهب ابن القاسم(2). ولكن هل جواز المرابحة على مثل الثمن المتقوم عند ابن القاسم مطلقٌ عن التقييد بكون المثل عند المشتري، إبقاءً لكلامه على ظاهره، أم هو مقيد بكون المثل المقوّم عند المشتري بالمرابحة حصراً، أي في ملكه، وإلا فلا تجوز المرابحة عليه ؟
__________
(1) منح الجليل للشيخ عليش: 5/263.
(2) ابن القاسم: عبد الرحمن بن القاسم، ولد بمصر سنة 132هـ، فقيه مالكي، صحب الإمام مالك عشرين سنة وروى عنه المدونة، توفي بمصر سنة 191هـ. سير أعلام النبلاء:9/120،الأعلام للزركلي:3/323.(1/40)
في ذلك تأويلان لقول ابن القاسم، جنح إلى الأوّل، وهو الإطلاق، اللخمي(1)، وإلى الثاني، وهو التقييد بكونه عند المشتري مرابحة، القابسي(2). إلا أنهما متفقان على شرط كون المشتري قادراً على تحصيل المثل وإلاّ منع إتفاقاّ(3).
ثالثاً – الشافعيّة:
لم يشترط الشافعيّة كون الثمن الأول مثلياً بدليل ماجاء في روضة الطالبين: ( لو اشترى شيئاً بعرض وباعه مرابحة بلفظ الشراء أو بلفظ القيام، ذكر أنه اشتراه بعرض قيمته كذا، ولا يقصر على ذكر القيمة )(4).
فقد أجازوا إذاً كون العرض القيمي ثمناً ولكن بشرط أن تُعلم قيمته، وأن يخبر البائع بذلك.
وأما الحنابلة: فلم أعثر على قول لهم يدل على رأيهم في المسألة.
ولا يخفى أن تقييم الأموال القيميّة أضحى أيسر منالاً وأضبط في أيامنا هذه بوجود خبراء السوق والتجارة، ولكن هذا يستدعي وجود الثمن الأوّل القيميّ حين عقد المرابحة، حتى يمكن تقييمه وبناء الربح عليه.
ـ الشرط الثالث: العلم بالربح:
يشترط العلم بالربح،لأن العلم به فرع عن العلم بالثمن،إذ الربح بعض الثمن، والعلم بالثمن شرط في صحّة جميع أنواع البيوع.وهذا الشرط متفق عليه بين جميع الفقهاء.
قال ابن قدامة: ( بيع المرابحة هو البيع برأس المال وربح معلوم )(5).
__________
(1) اللخمي: علي بن محمد الربعي، أبو الحسن، فقيه مالكي، قيرواني الأصل، من أحسن تصنيفاته (التبصرة) وهو تعليق على المدونة، وله فيها آراء خارجة عن المذهب المالكي، وله كتاب (فضائل الشام)، توفي سنة 478هـ. الأعلام للزركلي: 4/328.
(2) القابسي: علي بن محمد، أبو الحسن، القابسي، المالكي، عالم المغرب، ولد سنة 324هـ، إمام حافظ فقيه، من مصنفاته:(الممهَّد) في الفقه، توفي بالقيروان سنة 403هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:17/ 158.
(3) منح الجليل للشيخ عليش: 5/263-264.
(4) روضة الطالبين للنووي: 3/530.
(5) المغني لابن قدامة: 6/266.(1/41)
وقال صاحب اللمعة الدمشقية من الإماميّة(1): ( ويشترط فيها – أي المرابحة – العلم، أي علم كل من البائع والمشتري بقدر الثمن وقدر الربح …)(2).
وقال صاحب الروض النضير من الزيدية ( البائع إذا بيَّن رأس المال والربح، فقد خرج عن الخيانة فصحّ…)(3).
ـ الشرط الرابع: ألا يترتب على المرابحة ربا:
وذلك كأن يُشْترى المكيل أو الموزون بجنسه مثلاً بمثل، فلا يجوز بيعه مرابحة،لأن المرابحة بيع بالثمن الأول وزيادة، والزيادة في أموال الربا عند اتحاد الجنس رباً لا ربح.
وأيضاً لا يجوز بيع المال الربوي بجنسه وضيعةً، لتحقق الربا فيه أيضاً، إذ تكون الزيادة هنا في الجنس الربوي الواحد للمشتري بعد أن كانت للبائع في المرابحة.
أمّا التولية والإشراك فلا ضير في كون الثمن والمبيع جنساً ربويّاً واحداً، نظراً لعدم الزيادة والنقصان في التولية، إذ هي بيع بمثل الثمن الأوّل، ولكن يشترط حينئذ التقابض لقوله صلّى الله عليه وسلّم: (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرُّ بالبُرِّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل، يداً بيد…))(4).
وكذا الأمر في الإشراك، إذ لا يدفع الشريك زيادة عن قيمة حصته من المبيع وكذا لا ينقص، إذ الإشراك يقتضي حلول المشتري محل البائع في جزء من مال الشركة مقابل دفعه حصة هذا الجزء من الثمن تماماً دون زيادة أو نقصان، فينتفي حصول الربا.
ـ الشرط الخامس: أن يكون عقد الشراء الأوّل صحيحاً لا فاسداً:
__________
(1) العاملي: محمد بن مكيّ العاملي، ولد سنة 734هـ، من فقهاء الشيعة الإمامية، سكن لبنان، سجن في قلعة دمشق لاتهامه بعقيدته، من كتبه: (البيان) في الفقه الشيعي، توفي سنة786هـ. الأعلام للزركلي:7/109.
(2) اللمعة الدمشقية للعاملي: 3/428.
(3) الروض النضير للصنعاني: 3/238.
(4) سبق تخريج هذا الحديث في الصفحة رقم (21)(1/42)
فإن كان فاسداً، لم يجز البيع مرابحة، لأن المرابحة بيع بالثمن الأوّل مع زيادة ربح معلوم، وبالبيع الفاسد تفسد تسمية الثمن، ويجب البدل وهو القيمة أي ثمن المثل، فلا يمكن بناء المرابحة عليه كما لا يمكن بناء الصحيح على الفاسد، لأن الثمن هنا، فضلاً عن أنه قيمي، قد لا يرضى به البائع.
وهذا الشرط خاصّ بالحنفيّة تمشياً مع مبدئهم في التفريق بين الفساد والبطلان في المعاملات(1).
ـ الشرط السادس: أن يكون المبيع من العروض:
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني: 5/222.(1/43)
وهذا الشرط خاص بالحنفيّة أيضاً، فلا يصح عندهم بيع النقدين الذهب بالفضة أو العكس مرابحة، لأن النقود لا تتعين بالتعيين عندهم قي عقود المعاوضات بالاتفاق، فإذا اشترى عشرة دنانير ذهباً بتسعين درهماً فضّة، فلا يجوز بيع تلك الدنانير مرابحةً مادامت النقود لا تتعين بالتعيين، إذ يصح أن يقول: بعتك هذا الدينار بكذا ثم يعطيه ديناراً آخر. فالدينار نقدٌ لا يملك بالشراء بذاته لأنه لا يتعيّن. يقول الحصكفي(1) في الدر المختار: (المرابحة: بيع ما ملكه من العروض ) قال ابن عابدين شارحاً: ( قوله: من العروض احتراز عما ذكرنا من أنه لو اشترى دنانير بدراهم، لا يجوز له بيعها مرابحة كما في الزيلعي(2) والبحر والنهر والفتح وعلّله في الفتح بأن بدليّ الصرف لا يتعيّنان، فلم تكن عين هذه الدنانير متعيّنةً لتلزم مبيعاً )(3).
وبسبب هذا الشرط نجد بعض الحنفيّة كالمرغيناني صاحب الهداية يعرِّف المرابحة بأنها ( نقل ما ملكه بالعقد الأوّل بالثمن الأول وزيادة ربح ) فعبّر بما ملكه، احترازاً عن النقدين إذ لا يملكان(4).
الفصل الثالث
أحكام رأس مال المرابحة
ويتضمن المباحث التالية:
المبحث الأول: رأس المال النقدي ورأس المال العقدي
المبحث الثاني: سعر السوق ورأس المال
__________
(1) الحصكفي: محمد بن علي، علاء الدين الحصكفي، ولد بدمشق سنة 1025 هـ، فقيه حنفي، مفتي الحنفية في دمشق، ونسبته إلى حصن كيفا في ديار بكر، أشهر كتبه (الدر المختار في شرح تنوير الأبصار)، وله شرح لقطر الندى في النحو، توفي بدمشق سنة 1088 هـ. الأعلام للزركلي: 6/294.
(2) الزيلعي: عثمان بن علي بن محجن، فخر الدين الزيلعي، فقيه حنفي، سكن القاهرة، من كتبه: ( تبيين الحقائق في شرح كنز الدقائق ) و ( شرح الجامع الكبير ) وكلاهما في الفقه الحنفي، توفي سنة 743 هـ. الأعلام للزركلي: 4/210.
(3) حاشية ابن عابدين: 7/350.
(4) الهداية للمرغيناني: 3/62.(1/44)
المبحث الثالث: النفقات والتحسينات وأثرها على رأس المال
المبحث الرابع: البيع على الرقم في المرابحة
المبحث الخامس: أثر الربح السابق على رأس مال الرابحة
المبحث الأول – رأس المال النقدي ورأس المال العقدي:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هل المعتبر في رأس المال المسمّى في العقد أم ما ينقد فعلاً بدلاً عنه؟
سبق العلم بأن رأس المال في المرابحة: هو ما ملك به المشتري الأوّل المبيع بالعقد، أي المبلغ الذي اتُّفِق عليه في البيع الأول وقُيِّد في العقد. وعلى هذا فلا يعتبر رأس مالٍ في المرابحة ما نقده المشتري الأول بدلاً عن المسمى في العقد، لأن المرابحة بيع بالثمن الأول، والثمن الأول:هو ما وجب بالبيع. أمّا ما نقد بعد البيع فذلك وجب بعقد آخر هو الاستبدال. وعلى هذا، فيكون الواجب على المشتري الثاني مرابحةً هو المتفق عليه في العقد لا المدفوع بموجب اتفاق آخر. فإذا اشترى أحدٌ كتاباً مثلاً بمائة ليرة سورية، ونقد بدلها دينارين أردنيين، فيكون الواجب على المشتري مرابحةً هو المائة ليرة، أي إنه يرابح على المائة ليره، لا على الدينارين، لأنها هي التي وجبت بالعقد، وإنّما الديناران بدل الثمن الواجب بالعقد. وهذا ما عليه جمهور الفقهاء كما يفهم من المسائل التي أوردوها(1).
__________
(1) الحاوي للماوردي: 5/281، المغني لابن قدامة: 6/267، حاشية ابن عابدين: 7/351.(1/45)
وقال المالكيّة بوجوب بيان ما نقد بدلاً عمّا وجب في العقد على الأصح، ولا يبيع مرابحة إلاّ عمّا نقد فعلاً. قال الموّاق(1) في التاج والإكليل ناقلاً قول أئمة المذهب: ( إن اشترى بدنانير فنقد بدلها دراهم أو العكس، فلا يبيع على ما عقد بلا خلاف …..... وعبارة ابن يونس: قال مالك: إذا نقد دراهم عن الدنانير فليبع على ما نقده )(2).
المسألة الثانية: هل يلحق الحطُّ والزيادة بين البائع الأول والمشتري الأول برأس المال ؟
في المسألة حالتان:
الحالة الأولى:
وهي إذا ما كان الحطّ والزيادة قبل لزوم العقد كمدَّة خيار الشرط. ويسمى الحطّ في هذه الحالة في المصطلح الاقتصادي المعاصر: (الحسم التجاري):
يلحق الحطّ والزيادة في هذه الحالة بأصل العقد، لأن العقد لم يلزم بعد، فربّما كان الحط من البائع السببَ في إقبال المشتري على الشراء أو إجازته، فقد لا يشتريه لولا الحط.فالثمن بعد الحط هو الذي ارتضاه المشتري ثمناً للمبيع وهو ثمنه الحقيقي، فيجب أن يخبر به دون الثمن الذي أدلى به البائع قبل الحط، إذ يغلب على الباعة رفع أثمان سلعهم فوق قيمتها الحقيقية بدايةً. وكذلك الشأن فيما لو كانت الزيادة من المشتري، فقد تكون الزيادة منه سبباً لبيع البائع سلعته إذا ما كان له الخيار.
والخلاصة:
إن الثمن قبل فترة لزوم العقد لا يعبِّر عن رضا المتبايعين به، بل لا يعبّر عن الرضا إلاّ بعد لزوم العقد بينهما، فيعتبر هو الثمن الحقيقي حينئذ، لحِقَه حطّ أو زيادة أم لم يلحقه.
__________
(1) الموّاق: أبو عبد الله، محمد بن يوسف، الغرناطي، اشتهر بالموّاق، من آخر علماء الأندلس، فقيه مالكي، شرح مختصر خليل، من كتبه: (سنن المهتدين في مقامات الدين)، توفي في سنة 897هـ. شجرة النور الزكيّة لمحمد خلّوف ص: 262.
(2) التاج والإكليل للمواق: 4/ 491 (مطبوع بهامش مواهب الجليل)، وانظر المدوّنة للإمام مالك: 3/242.(1/46)
قال ابن قدامه:(وإن كان ذلك _ أي الحط أو الزيادة _ في مدّة الخيار، لحق بالعقد وأخبر به في الثمن. وبه قال الشافعي(1) وأبو حنيفة(2)، ولا أعلم عن غيرهم خلافهم )(3). وجاء في روضة الطالبين: ( لو اشترى سلعة ثم قبل لزوم العقد ألحقا بالثمن زيادة أو نقصاً وصححناه، فالثمن ما استقرَّ عليه العقد )(4).
الحالة الثانية:
وهي ما إذا كان الحطُّ أو الزيادة بعد لزوم العقد ( الحسم النقدي ) نجد في هذه الحالة قولين للفقهاء:
1 – قول بلحوق الحط والزيادة اللذين يقعان برضى المتعاقدين بعد لزوم العقد برأس المال. وهو قول جمهور الحنفيّة(5).
2 – عدم لحوقها. وهو قول جمهور الفقهاء من الشافعيّة والحنابلة والمالكيّة، وزفر(6) من الحنفيّة.
__________
(1) الشافعي: محمد بن إدريس، أبو عبد الله، ولد بغزة سنة 150هـ، إمام المذهب المعروف باسمه، أفتىفي مكة وهو ابن خمس عشرة سنة، أخذ الحديث عن مالك وفقه الرأي عن محمد بن الحسن، من مصنفاته (الأم)، ( الرسالة )، توفي بالقاهرة سنة 204هـ، سير أعلام النبلاء للذهبي: 10/5.
(2) أبو حنيفة: النعمان بن ثابت، إمام المذهب، ولد بالكوفة سنة 80هـ، أصله من فارس، كان تاجراً، قوي الحجة، شديد الذكاء، ضرب على القضاء وحبس واستمر على إبائه، جمع عنه تلامذته اجتهاداته، توفي في السجن سنة 150هـ زمن الخليفة المنصور، سير أعلام النبلاء للذهبي:6/390.
(3) المغني لابن قدامة:6/278، وانظر الذخيرة للقرافي:5/173.
(4) روضة الطالبين للنووي: 3/530.
(5) اللباب للغنيمي: 2/36.
(6) زفر: ابن الهذيل، ويكنى أيضاً بأبي الهلذيل، صاحب الإمام أبي حنيفة، ولد سنة 110هـ، قال فيه أبو حنيفة: أقيس أصحابي، يعتبر من المجتهدين، جمع بين الحديث والرأي، توفي بالبصرة سنة 158هـ، سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/38.(1/47)
ولكن المالكيّة دون غيرهم مع قولهم بعدم اللحوق ألزموا البائع في المرابحة ببيان ما حصل من حط أو زيادة بعد لزوم العقد(1).
دليل جمهور الفقهاء: استدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأن الحط هبة من البائع للمشتري إن كان بعد لزوم العقد، والزيادة أيضاً هبة من المشتري للبائع، ولا يمكن إلحاق أيٍّ من كلتي الهبتين هبة الحط والزيادة بالثمن.
أمّا هبة الحط: فلأن كل الثمن الذي لزم به البيع، صار مقابلاً بكل المبيع وقت اللزوم، فلو قلنا بإلحاق الحط، للزم بقاء جزء من المبيع بلا ثمن، وهذا غير ممكن، فيعتبر الحط إذاً هبةً مبتدأة.
وأمّا هبة الزيادة من المشتري للبائع، فلأن المشتري ملك المبيع بالثمن المسمّى في العقد، فكيف تكون الزيادة التي يعطيها المشتري للبائع في مقابل ملك نفسه إن قلنا بلحوقها بالثمن !! إذ يلزم من قولنا بلحوق الزيادة أن يكون المشتري قد أعطاها في مقابل ملكه، وهذا غير ممكن.
دليل الحنفيّة:
أجاب الحنفيّة عن الجمهور بأن ما ذكرتم صحيح لو قلنا بلحوق الحط والزيادة بالعقد مع بقاء العقد على حاله، ولكن ليس الأمر كذلك، إذ البائع والمشتري بالحط والزيادة غيَّرا العقد بتراضيهما من صفة إلى صفة، غيَّراه من كونه بذلك المقدار الذي كان قبل الحط أو الزيادة إلى كونه بالمقدار الذي آل إليه بعد الحط أو الزيادة. يقول الحنفيّة: الشرع يجيز للعاقدين تحويل العقد من صفة إلى صفة باختيارهما، بل يجيز لهما تحويله من وجوده بعد تحققه إلى إعدامه أو العكس، وذلك حين إسقاط الخيار أو إلحاقه والأخذ به. فالأولى إذاً أن يثبت لهما تغييره من وصف كونه مربحاً لأحد المتعاقدين إلى صفة كونه خاسراً، أو من صفة كونه مربحاً للبائع مقداراً إلى كونه مربحاً مقداراً أكبر أو أقلَّ، وذلك بالحطّ والزيادة.
__________
(1) المهذّب للشيرازي: 1/289، المغني لابن قدامة: 6/267، مواهب الجليل للحطّاب: 4/491، الذخيرة للقرافي: 5/175، اللباب للغنيمي: 2/36.(1/48)
واستدل الحنفيّة أيضاً بأن الشرع أثبت صحّة الحط شرعاً في المهر. قال الله تعالى: (( ولا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَريضَةِ ))(1) فبيَّن تعالى أن للزوجين إذا تراضيا بعد تقدير المهر على حطّ بعضه أو زيادته، جاز. وإذا ثبت تصحيح ذلك، لزم التحاقه بأصل العقد(2).
وأرى أن الحط والزيادة في هذه الحالة إن كانا لاعتبار شخصي لا علاقة له بقيمة السلعة ورواجها ولو بوجهٍ من الوجوه، فلا يلحقان برأس المال، ولا يجب على البائع أن يخبر بهما، لأن الأمر لا يعدو الهبة التي تكون من أحد شخصين للآخر. أمّا إن كان الحطّ من البائع أو الزيادة من المشتري لملاحظة تغيّر في قيمة السلعة أو رواجها في السوق – وإن كان ذلك لا يؤثر على الثمن المثبت في العقد فقد يلجأ أحد المتعاقدين إلى الحطّ أو الزيادة في هذه الحالة طمعاً في كسب ثقة الآخر لما يجدُّ بينهما من تعامل – فأرى أن يخبر البائع المشتري بالحطّ أو الزيادة دون لحوقها برأس المال أخذاً بقول السادة المالكيّة.
المسألة الثالثة: هل يحطّ أرش العيب من رأس المال ؟
لو اشترى أحد ثوباً بمائة مثلاً فظهر معيباً فأخذ أرش العيب عشرةً مثلاً، فهل يلحق أرش العيب برأس المال فيخبر البائع حينئذ عن تسعين أم لا ؟
__________
(1) من سورة النساء الآية (24).
(2) فتح القدير لابن الهمام وبهامشه العناية على الهداية للبابرتي: 6/142-143.(1/49)
يتبيّن من الكلام في الحطّ في المسألة السابقة أن على البائع أن يخبر عن تسعين لأن الرجوع بالأرش استرجاعٌ لجزء من الثمن كما يقول الشيرازي(1)،وما يقابل السلعة من الثمن بعد ظهور العيب هو التسعون لا المائة، فالمشتري لا يرضى السلعة معيبةً بمائة ولا يشتريها بها. يقول أبو الخطاب(2) من الحنابلة: ( لأن أرش العيب عوض ما فات، فكان ثمن الموجود هو ما بقي )(3).
المبحث الثاني– سعر السوق و رأس المال:
بما أن المرابحة بيع بالثمن الذي اشتريت به السلعة مع زيادة ربح معيًّنة، لا بسعر السوق، فلا عبرة لارتفاع سعر السوق أو انخفاضه من حين الشراء الأوّل إلى وقت البيع مرابحةً. فلا يحق لتاجرٍ إذا اشترى شيئاً بمائة ثم ارتفع سعره إلى مائة وخمسين أن يقول: رأسمالي فيه مائة وخمسون. بل إنَّ رأس ماله ما اشترى به وهو المائة.
أمّا لو كان البائع في المرابحة قد ملك السلعة بغير معارضة كهبة أو إرث، فإنه يقوِّم السلعة بسعر السوق يوم البيع لا اليوم الذي ملك فيه تلك السلعة، لأنه يبيع مرابحة على القيمة، أي القيمة الحاليّة للمبيع لا أيّ قيمة.
المبحث الثالث – النفقات والتحسينات وأثرها على رأس المال:
__________
(1) المهذَّب للشيرازي: 1/289.
(2) أبو الخطّاب: محفوظ بن أحمد الكلوذاني، ولد ببغداد سنة 432هـ، فقيه حنبلي أصولي، أصله من كلوذان من ضواحي بغداد، برع في علوم شتى وله فيها مصنفات منها: (التهذيب) في الفرائض، (عقيدة أهل الأثر )، توفي ببغداد سنة 510هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/348.
(3) المغني لابن قدامة: 6/269.(1/50)
يلحق برأس المال: كل ما أنفقه البائع على السلعة وأحدث زيادة في المعقود عليه في العين أو القيمة، وكل ما كان معتاداً إلحاقه برأس المال عند التجّار. وذلك كأجرة صبغ الثياب وتطريزها ونفقات الشحن، إذ العرف جارٍ بإلحاق هذه الأشياء برأس المال، ولأن الصبغ والتطريز يزيد في العين، والنقل يزيد في القيمة، إذ القيمة تختلف باختلاف المكان.
ولكن الإمام مالك(1) رحمه الله تعالى لم يجز أن يكون لنفقة النقل حظٌّ من الربح في المرابحة، لأنها لا تؤثر في عين السلعة. وما ذاك إلا لأنَّ الإمام مالك يشترط أن تكون النفقة التي تلحق برأس المال من شأنها أن تزيد في عين السلعة(2).
وفي الدّواب يلحق ثمن علفها إن كانت تتخذ للتسمين، لأن التسمين يزيد في القيمة. ولكن الحنفيّة قالوا بإسقاط ما نال صاحب الدواب من ربح بسبب نتاجها، كالصوف واللبَّن، ممّا أنفقه من ثمن في العلف لأنه انتفع من ذلك العلف بذلك النتاج فقد كان سببه(3).
واتفق الفقهاء فيما لو تطوّع متطوع بتلك الأعمال السابقة، أو قام البائع نفسه بالصبغ مثلاً على أنه لا يُضم شيءٌ من نفقة ذلك إلا ما دُفع ثمنه فعلاً، كمادة الصبغ مثلاً(4).
__________
(1) الإمام مالك بن أنس بن مالك، إمام دار الهجرة وإليه ينسب المذهب المالكي، ولد بالمدينة سنة 93هـ، محدِّث المدينة ومفتيها، صاحب الموطأ، من مؤلفاته غير الموطأ: (الرد على القدرية) (رسالة في الأقضية)، توفي بالمدينة سنة 179هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 8/48.
(2) بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد):2/161.
(3) تبين الحقائق للزيلعي: 4/74، فتح القدير لابن الهمام: 6/125-126، مغني المحتاج للشربيني:2/78.
(4) فتح القدير لابن الهمام: 6/125-126، مغني المحتاج للشربيني:2/78، المغني لابن قدامة:6/269،
حاشية الدسوقي: 3/160.(1/51)
أمّا ما لا يزيد في العين أو القيمة، فلا يضم إلى رأس المال، وذلك كأجرة الراعي وأجرة حفظ البضائع وتخزينها وأجرة السمسار، إلا أن جرى عرف التجار بضمّ ذلك.
وكذا لا تلحق أجرة الطبيب أو البيطار في معالجة الحيوان إن طرأ المرض بعد الشراء، أمّا لو اشتراه مريضاً فعالجه فشفي فتلحق حينئذ، لأننا نستطيع القول بأنه بالمعالجة زاد معنىً من السقم إلى الصحّة(1).
ذلك ما نص عليه الشافعيّة، وينبغي أن يكون الحكم كذلك عند الفقهاء حسب المبدأ الذي ذكروه، وهو:
كل ما زاد عيناً أو معنىً يلحق برأس المال.
ويمكننا القول بأن العبرة للعرف أوّلاً وآخراً في مثل هذه الأمور، فتدخل في أيّامنا هذه نفقات عقود التأمين الإذعانيّة التي لا تحمل الناقلات البضائع إلا بموجبها، ولكن يُراعى ألا يربح البائع عنها مادامت عقوداً الأصل فيها الحرمة ألجأ إليها اضطراراً. والأفضل أن يحاسب البائع المشتري عنها بحساب مستقل عن رأس المال.
المبحث الرابع – البيع على الرَّقم في المرابحة:
معنى البيع على الرَّقْم: أن يرقم البائع ثوباً مثلاً برقم ويقول: بعتك هذا الثوب برقمه؛ مثل أن يثبت رقماً على سلعة ما، فيقول: بعتكها بهذا الرقم وربح كذا. فهذا بيع لا بأس به عند عامَّة الفقهاء إن كان الرقم معلوماً كما ذكر ابن قدامة، لأنه بيع بثمن معلوم فأشبه ما لو ذكر الثمن بنفسه(2).
ولكن ما حكم بيع المرابحة على الرقم، كما لو اشترى ثوباً بعشرة دراهم ورقمه اثني عشر، فباعه مرابحة على الرقم ؟
الجواب: يجوز ذلك، كما قال الحنفيّة، إن كان الرقم معلوماً والربح معلوماً، ولا يكون خيانةً لأنه صادق، لكن لا يقول: اشتريته بكذا. حتى لا يكون كاذباً، بل يرابح على الرقم فيقول: بعتك هذا الثوب بالرقم المثبت عليه وربح درهمين مثلاً.
__________
(1) مغني المحتاج للشربيني: 2/78.
(2) بدائع الصنائع للكاساني: 5/224، المغني لابن قدامة: 6/274.(1/52)
وروي عن أبي يوسف(1) رحمه الله تعالى أن المشتري إذا كان لا يعلم عادة التجّار في ذلك وعنده أن الرقم هو الثمن، لم يجز أن يبيعه مرابحة على ذلك الرقم من غير بيان(2).
وقال مالك في مسألة البيع على الرقم مرابحة: لا يجوز. وعدّه من الخديعة والغش، فيحق للمشتري فسخ العقد. وقول الإمام مالك هذا محمول على حالةٍ أفهم فيها البائعُ المشتري أن الثمن المثبت على السلعة هو رأس ماله فيها(3).
وأرى أن البيع على الرقم مرابحة، بالصورة التي ذكرها الحنفيّة، يخرج عن المرابحة المعروفة باصطلاح الفقهاء بأنها من بيوع الأمانة، إذ لا يمكن التعويل في المرابحة على الرقم على أمانة البائع في الإخبار عن الثمن، لأنه يرابح على رقم مكتوب، ولا يخبر إخباراً عن الثمن الأول، فإنما هذا البيع مرابحةٌ لغةً.
المبحث الخامس – أثر الربح السابق على رأس مال المرابحة:
لو اشترى شيئاً ثم باعه وربح فيه ثم اشتراه فأراد بيعه مرابحةً، فهل يطرح كل ربح كان قبل ذلك جناه فيبيعه مرابحة على ما بقي من رأس المال بعد طرح كل ربح، أم لا عبرة للعقود المتقِّدمة وإنما العبرة للعقد الأخير فقط ؟
نجد في هذه المسألة مذهبين أحدهما لأبي حنيفة والآخر للجمهور:
مذهب الإمام أبي حنيفة:
__________
(1) أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم، صاحب أبي حنيفة وتلميذه، ولد بالكوفة سنة 113هـ، تولى القضاء زمن الرشيد، وهو أوّل من دعي: قاضي قضاة الدنيا، وهو أوّل من اقترح زي العلماء ليمتازوا به عن الناس، من كتبه: (الخراج)، (النوادر)، توفي ببغداد سنة 182هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/535.
(2) المبسوط للسرخسي: 13/91، بدائع الصنائع للكاساني: 5/224.
(3) المدونة لإمام مالك: 3/239، الذخيرة للقرافي: 5/165.(1/53)
ذهب أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، ووافقه ابن سيرين إلى أن البائع يطرح كل ربح كان ربحه قبل ذلك، فيبيعه مرابحة على ما بقي من رأس المال بعد الطرح، فإن لم يبق منه شيء بأن استغرقه الربح، لم يبعه مرابحة(1).
فعلى هذا، لو اشترى كتاباً بعشرة دراهم، فباعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة، فإنه يرابح على خمسة عند أبي حنيفة.
وحجته أن الشراء الأخير عندما اشتُري الكتاب بعشرة قد أكَّد الربح الذي ربحه سابقاً عندما باعه بخمسة عشر، وهو ربح الخمسة دراهم، لأن العقد الذي ربح فيه الخمسة كان يحتمل البطلان بالردّ بالعيب أو غيره من أسباب الفسخ، فلمّا اشترى الكتاب بعد ذلك، خرج هذا العقد الذي ربح فيه عن احتمال البطلان أو الفسخ، فتأكَّد الربح، فكان مشترياً للكتاب وربح الخمسة دراهم بالعشرة التي دفعها أخيراً. فقد آل إذاً رأسمال البائع في الكتاب إلى خمسة، فيرابح عليها لا على العشرة، وذلك نتيجة العقد الأخير الذي يرابح عليه(2).
مذهب الجمهور:
ذهب جمهور الفقهاء والصاحبان من الحنفيّة إلى أنه يرابح على الثمن الأخير، فلا عبرة بالعقود المتقدِّمة ربح فيها البائع أم خسر. واستحبّ الإمام أحمد والشافعيّة الإخبار بما ربحه البائع سابقاً في السلعة. وفي وجه عند الحنابلة: يجب، وفيه نظر عندهم، والأرجح الاستحباب(3). ودليل الجمهور: أن العقود المتقدمة لا عبرة بها، إذ قد تلاشت، والعبرة للعقد الأخير، لأن حكمه هو القائم، بدليل ملك السلعة به فكان هو المعتبر، ولا تغرير بالمشتري في ذلك إذا كان البائع صادق في الإخبار عن الثمن الأخير(4).
الرأي المختار:
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني: 5/224.
(2) المرجع الساببدائع الصنائع: 5/224.
(3) شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/184، المغني لابن قدامة: 6/272، المدونة للإمام مالك: 3/246، بدائع الصنائع للكاساني: 5/224.
(4) المراجع السابقة والصفحات ذاتها.(1/54)
أرى هنا أن الراجح قول الجمهور، دون قول أبي حنيفة، لأن العقد الأخير الذي قال عنه أبو حنيفة بأنه أكّد الربح، لا صلة له بالعقود السابقة، ربح فيه المشتري أم خسر، إذ لو كان المشتري في ذلك العقد الأخير – كما في المثال السابق – أخذ الكتاب بعشرين درهماً، فهو خاسر، وعلى الرغم من ذلك ينبني على هذا الشراء منع البائع من فسخ شرائه السابق لعيب أو لسبب آخر، ولا يحق للمشتري الخاسر أن يضم خسارته إلى رأس المال فيزيد فيه مع أن رأسماله فيه قد ارتفع بتلك الخسارة.
ثم إن امتناع الفسخ ليس مبنياً على عقد الشراء الأخير فحسب، بل يثبت بوجوه أخرى، كما لو باع ذلك المشتري تلك السلعة لغير مالكها الأوّل، أي لشخصٍ أجنبي وقد اطّلع على السلعة. فهذا يدلّ على أنه ليس شراء المشتري الذي سيبيع تلك السلعة مرابحةً لاحقاً هو الذي منع الفسخ، بل خروج تلك السلعة عن ملكية صاحبها هو الذي أدّى إلى منع الفسخ، سواء لمالكها الأوّل أم لأجنبي. فلا يقال إذاً بأن شراء بائع المرابحة السلعة هو الذي أكَّد ربحه السابق حتى يحسمه من رأس ماله الأخير في تلك السلعة.
وأرى أن قول الإمام أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، المذكور كان يحتمل وجهاً فيما لو قال به في صيغة (قام عليّ) فحسب دون الصيغ الأخرى، لأن لفظ القيام يحتمل من وجهٍ ـ وإن كان بعيداً ـ خلاصة ما استقر عليه رأسمال البائع في السلعة بعد حساب الأرباح المتحققة.
ومع ذلك فهذا الحكم ضعيف لوجوب اعتبار الخسارة أيضاً كما يعتبر الربح على النحو الذي تقدم، والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع
ما يجب بيانه أثناء إبرام عقد المرابحة
أولاً – بيان العيوب الطارئة:
المسألة فيها مذهبان: مذهب للجمهور وآخر للحنفيّة.
أ - مذهب الجمهور:(1/55)
قال الجمهور بإلزام البائع ببيان العيوب الطارئة على المبيع، سواء أحصلت بفعله، أم بفعل أجنبي، أم بفعل آفة سماوية ؛ فلا يحق للبائع أن يبيع شيئاً مرابحة دون يبين ذلك العيب وأنه حدث عنده(1). ودليل الجمهور أن كل عيب مهما كان سببه ينقَص قيمة المبيع، فيكون بيعه من غير بيان خيانةً، والثمن الذي نقده البائع في المرابحة كان مقابلاً بالمبيع غير معيب، فلمّا تعيَّب بعد ذلك وجب إسقاط ما يقابل ذلك العيب من الثمن، وهو الشيء الذي قد لا يرضى المشتري الشراء مرابحة إلا عليه، لذا وجب بيان هذا العيب، وأنه حدث عند البائع دون تفريق في سبب حدوثه مادام العيب قد وقع فعلاً.
ب- مذهب الحنفيّة:
فرّق الحنفيّة غير زفر بين العيب الحادث بآفة سماوية والعيب الحادث بفعل البائع أو بفعل أجنبي، فلم يوجبوا بيان العيب الذي حدث بآفةٍ سماوية، بل للبائع أن يبيع السلعة المعيبة بسببها بجميع الثمن من غير بيان. قال الكاساني:(إذا حدث بالسلعة عيب في يد البائع أو في يد المشتري فأراد أن يبيعها مرابحة، ينظر: إن حدث بآفة سماوية، له أن يبيعها مرابحة بجميع الثمن من غير بيان … وقال زفر والشافعي: لا يبيعها مرابحة حتى يبين. وإن حدث بفعله أو بفعل أجنبي لم يبعه حتى يبين بالإجماع)(2).
ودليل الحنفيّة قولهم بأن البعض الفائت من المبيع بالآفة السماوية جزء لا يقابله ثمن، بدليل أنه لو فات جزء من المبيع بآفة سماوية قبل القبض فلا يسقط بحصته شيء من الثمن. هذا بخلاف ما إذا فات جزء من السلعة بفعله أو بفعل أجنبي، لأن الفائت حينئذ صار مقصوداً بالفعل، فيقابله جزء من الثمن، فيلزم البيان لذلك(3).
__________
(1) مغني المحتاج للشربيي:2/79، شرح منتهى الإرادات للبهوتي:2/183، منح الجليل للشيخ عليش:5/270.
(2) بدائع الصنائع للكاساني: 5/223.
(3) بدائع الصنائع للكاساني: 5/223.(1/56)
وأرى أن دليل الجمهور أقوى من دليل الحنفيّة إذ لا فرق بين سبب للعيب وآخر ما دام العيب قد حلَّ بالسلعة، فالمشتري الأول حين ملك السلعة لم تكن معيبة فكان الثمن مقابلاً لها، أمّا بعد أن تعيّبت فقد نقصت قيمتها، فوجب عليه أن يبيّن العيب إذا أراد بيعها مرابحة ما دام العيب منقصاً لقيمتها. وقد رجح قول الجمهور بعض متأخري الحنفية كالكمال وأبي الليث(1).
ثانياً – بيان الزيادة الطارئة:
الزيادة إمّا أن تكون متولدة عن الأصل، سواء أكانت متصلةً به، كالسمن والصوف على ظهر الغنم، أم منفصلة عنه، كالولد والثمرة، وإما أن تكون غير متولدة عن الأصل، كالخدمة والمنفعة بالاستغلال، وذلك كاستغلال الأرض وركوب السيارة، فهذان منفعتهما غير متولدة عن أصل الشيء بطبيعته.
الحالة الأولى: وهي ما إذا كانت الزيادة متولدة عن الأصل، سواء أكانت زيادة متصلة أم منفصلة: في هذه الحالة ليس للبائع أن يزيد في رأس المال مقابل تلك الزيادة، وله أخذها ولا يلزمه بيان ذلك. هذا عند الشافعية وفي قول للإمام أحمد. وفي قول آخر عن أحمد. يلزمه بيان ذلك(2).
أمّا الحنفيّة: فقالوا بوجوب بيان الزيادة المتصلة، وبأنها تلحق بالمبيع، فيجب بيانها إن باع الأصل وحده لأنه بترك الإخبار يكون البائع قد حبس بعض المبيع وباع الباقي، فلا يجوز من غير بيان، وليس له أن يزيد في الثمن إن باع الفرع مع الأصل.(3)
وأوجب المالكيّة بيان هذه الزيادة أيضاً.(4)
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 7/360-361.
وأبو الليث هو: نصر بن محمد، السمرقندي، الملقب بإمام الهدى، فقيه حنفي، له كتب في التفسير والفقه والعقائد والتصوّف، توفي سنة 373 هـ. الأعلام للزركلي: 8/27.
(2) روضة الطالبين للنووي: 3/532، المغني لابن قدامة: 6/268.
(3) بدائع الصنائع للكاساني: 5/223.
(4) منح الجليل للشيخ عليش: 5/276.(1/57)
الحالة الثانية: وهي الزيادة غير المتولدة عن الأصل كما لو كان المبيع أرضاً، فاستغلها البائع وانتفع بها، أو سيارة فركبها. فكل هذا لا يقابله حصة من الثمن، ولا يلزمه بيانه في عقد المرابحة عند جمهور الفقهاء، لأنه من قبيل الخدمة. وثَمّ رواية عن الإمام أحمد بأن الزيادة غير المتولدة عن الأصل يجب بيانها(1).
وعلل الحنفيّة ذلك أيضاً، بناءً على مبدئهم السابق في الزيادة، بأن الزيادة غير المتولدة عن الأصل لا تلحق بالمبيع أي لا تكون مبيعة.
وكل ذلك مشروط بأن لا يؤدي الانتفاع إلى نقص في المبيع، أمّا لو أدى إلى نقص في المبيع كركوب جائر للسيارة، فإنه يشترط بيانه بالاتفاق، إذ غدا من قبيل العيب. قال الشيخ عليش ( وإن اشترى دابةً وركبها ركوباً منتقصاً ثم أراد بيعها مرابحة وجب بيان الركوب … وإن اشترى ثوباً ولبسه لبساً منتقصاً ثم أراد بيعه مرابحةً وجب بيان اللبس المنقص )(2).
والعبرة للعرف فيما يعد استعمالاً منقصاً، أو غير منقص.
ثالثاً – بيان الحطّ والزيادة، وكيف يبيّنهما:
سبق العلم بأن الحط والزيادة إمّا أن يكونا قبل لزوم العقد أو بعده.
أ – قبل لزوم العقد: في هذه الحالة يلحق الحط والزيادة بأصل العقد باتفاق العلماء، فيكون رأس المال ما نقد فعلاً لا ما أدلى به البائع أو المشتري من سعرٍأوّل، وعندئذ لا فرق بين أن يقول البائع: بعت بما قام عليّ.أو:بما اشتريت.مادام مخبراً عن الثمن الذي نقده فعلاً.
ب- بعد لزوم العقد: بناءً على مذهب من قال بلحوق الحط والزيادة – وهم الحنفيّة – فإن البائع مرابحةً يخبر بالثمن الحقيقي بعد الحط والزيادة. وبناءً على هذا، لا فرق عندهم بين أن يقول: قام عليّ. أو: اشتريته بكذا. لأن كليهما واحد كحكم الحالة الأولى.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/268.
(2) منح الجليل للشيخ عليش: 5/276-277، وانظر روضة الطالبين للنووي: 3/532، المغني لابن قدامة: 6/268، بدائع الصنائع للكاساني: 5/223.(1/58)
أمّا على مذهب من قال بعدم لحوق الحط والزيادة وأنها هبة، فالشافعيّة والحنابلة منهم لم يشترطوا بيان الحط والزيادة، وجوّزوا الإخبار عن الثمن الأوّل المثبت في العقد فقط، ولكن درءاً للكذب لا يقول البائع مرابحة عندهم: قام عليّ بكذا، ثم يخبر عن الثمن المثبت في العقد، بل إن قال: قام علي ؛ وجب إخباره عن الثمن الذي نقده فعلاً، وله أن يقول: اشتريته بكذا، ولا يكون كاذباً، لأن الشراء متعلق بالثمن الذي عقد عليه لا الذي نقده.
أمّا المالكيّة، فشرطوا بيان الحط والزيادة في هذه الحالة. قال ابن الحطَّاب(1) رحمه الله تعالى: ( يجب بيان ما نقده، أي ما سلّم في تلك السلعة، وما عقده فيها في أصل
البيع، أيما اشتراه به مطلقاً، أي سواء باع على ما عقد عليه أو على ما نقده )(2).
رابعاً – بيان رأس المال المعجل ورأس المال المؤجَّل:
ليس الثمن المؤجل كالمعجل،فالأجل يقابله جزء من الثمن عادة. وعلى هذا يلزم البائع مرابحة بيان صفة الأجل في رأس ماله مادام الأصل في الثمن النقد. (3)
ويترتب على عدم الإخبار بالأجل أثر الخيانة والغش، وهذا ممّا اختلفت فيه المذاهب كما يذكر في حينه. وأضاف المالكيّة بأن التأجيل إن حصل بعد تمام عقد المرابحة – بأن أجَّل البائع الأول بائع المرابحة في الثمن بالتراضي – فذلك يلحق بعقد المرابحة، ويجب على البائع حينئذ بيان ذلك، لأن اللاحق كالواقع.(4)
__________
(1) الحطّاب: محمّد بن محمّد، أبو عبد الله، ولد بمكة المكرمة سنة 902هـ، فقيه مالكي أصولي مفسر لغوي، من كتبه: (مواهب الجليل) وهو شرح لمختصر خليل، (حاشية على تفسير البيضاوي)، توفي في طرابلس الغرب سنة 954هـ. شجرة النور الزكية لمحود خلوف: ص270.
(2) مواهب الجليل للحطّاب: 4/491.
(3) الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي مع المغني: 5/395، الذخيرة للقرافي: 5/167، المبسوط للسرخسي:13/78، نهاية المحتاج للرملي: 4/12.
(4) حاشية الدسوقي: 3/165.(1/59)
وقد يظن هنا بأن ما قاله المالكية ينبغي أن يكون مذهب الحنفيّة أيضاً، نظراً لأنهم ألحقوا الحطّ بالزيادة بعد لزوم العقد بالثمن، فكأنهم جعلوا اللاحق كالسابق، ولكنَّ الحنفيّة في هذه المسألة قالوا بأن التأجيل بعد تمام العقد يعتبر مسامحةً من البائع للمشتري، فلا يلزمه البيان.( (1)
خامساً – بيان النفقات التي تُضم إلى رأس المال:
من الفقهاء من اشترط بيان ما أنفق البائع على السلعة وزاد فيها حتى يسوغ له إدخاله في رأس المال. ومن هؤلاء فقهاء المالكيّة والحنابلة وبعض التابعين والفقهاء:
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 13/79.(1/60)
يقول ابن قدامة: ( أن يقصرها، أو يرفوها، أو يجمّلها، أو يخيطها، فهذه متى أراد أن يبيعها مرابحةً، أخبر بالحال على وجهه، سواء عمل ذلك بنفسه، أو استأجر مَن عمله. هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال: يبين ما اشتراه وما لزمه ولا يجوز أن يقول: تحصّل عليّ بكذا. وبه قال الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيّب وطاووس(1) والنخعي والأوزاعي(2) وأبو ثور(3) ).(4)
أمّا الحنفيّة والشافعيّة: فلم يشترطوا الإخبار بذلك بل اكتفوا بأن يقول البائع: قام عليّ. ويضم أجرة ما أنفق ولا يقول: اشتريت. حتى لا يكون كاذباً، لأن الشراء متعلِّق بالثمن الذي في العقد لا بالتكلفة. أمّا لو قال البائع: برأسمالي ؛ وضمّ أجرة كل ذلك فوجهان عند الشافعيّة الثاني منهما يجوز، لأن رأس المال هو ما جعل فيه فيشمل كل ذلك.(5)
__________
(1) طاووس: ابن كيسان، من أكابر التابعين، ولد باليمن سنة 33هـ، سمع من بعض كبار الصحابة، شيخ اليمن وفقيههم، توفي بمكة سنة 106 هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/38.
(2) الأوزاعي: عبد الرحمن بن عمرو، ولد ببعلبك سنة 88هـ، إمام أهل الشام في عصره، من تابعي التابعين، منسوب إلى قبيلة أوزاع من همدان في اليمن أو قرية الأوزاعى بدمشق، سكن دمشق، وانتقل إلى بيروت مجاهداً، كان مجتهداً مطلقاً، انتشر مذهبه في الشام والمغرب زهاء 200 سنة ثم انقرض لقلة علمائه ومنافسة المذاهب الأخرى، توفي سنة 157هـ. سير النبلاء للذهبي: 7/107.
(3) أبو ثور: إبراهيم بن خالد، الكلبي البغدادي، صاحب الإمام الشافعي، كان من أصحاب الرأي ببغداد ثم أخذ عن الشافعيّ، أضحى صاحب مذهب مستقل، توفي ببغداد سنة 240هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:12/72.
(4) المغني لابن قدامة: 6/269، وانظر منح الجليل للشيخ عليش: 5/264-266.
(5) المهذب للشيرازي: 1/289، فتح القدير لابن الهمام: 6/125.(1/61)
وفي أيامنا هذه يمكن للبائع أن يُبرز فواتير بالنفقات التي بذلها تحلُّ محلَّ إخباره أو تؤكده، شريطة سلامتها من التزوير ومطابقتها للواقع.
سادساً – بيان انخفاض سعر السوق. وذلك عند بعض الفقهاء:
ذهب المالكيّة إلى لزوم إخبار البائع في المرابحة المشتري بانخفاض سعر السوق، ورتَّبوا على ترك الإخبار حكم الغش عندهم وهو تخيير المشتري بين الإمساك والردّ.
وهذا ما استحسنه ابن قدامة أيضاً من الحنابلة يقول: ( ويحتمل أن يلزمه الإخبار بالحال – أي انخفاض سعر السوق – فإن المشتري لو علم ذلك لم يرضها – أي السلعة التي انخفض سعرها في السوق – بذلك الثمن فكتمانه تغرير به ).(1)
وأخيراً فقد أوجب المالكيّة بيان زمان بقاء السلعة عند البائع إن طال ذلك الزمن ولو كان المبيع عقاراً كما يقول الدردير، لأن الناس يرغبون في الذي لم يتقادم عهده في أيديهم. أمّا إن كان مكث السلعة عند بائعها يسيراً، فلا يجب بيان ذلك إن أراد صاحبها بيعها مرابحةً. نصَّ عليه الدسوقي. (2)
وفي الجملة: يلزم بيان كل ما يُعدُّ كتمه تهمةً في صدق البائع وأمانته، إذ مبنى هذا العقد على الأمانة، فيلزم إضافةً لما سبق بيان الظروف التي تمَّ فيها العقد الأوّل والتي لو علم بها المشتري، لما رضي الشراء بذلك الثمن الذي اتفق عليه، أو ما رضي الشراء أصلاً.أمثلة ذلك:
ما لو كان الشراء الأوّل بغبنٍ فاحش لا يتغابن فيه الناس عادةً ولا يتساهلون فيه كما لو اشترى ما قيمته مائة بمائة وخمسين فيلزم البائع بيان ذلك إن علِم أنه كان مغبوناً في شرائه(3)
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/268، وانظر الذخيرة للقرافي: 5/172-173.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه: 3/165.
(3) حاشية ابن عابدين: 7/362.(1/62)
ما لو كان الشراء حاصلاً بين الأصول والفروع، لحصول المحاباة في الثمن عادةً بينهم. وفي ذلك يقول ابن قدامة: ( وإن اشتراه من أبيه أو ابنه أو ممّن لا تقبل شهادته له، لم يجز بيعه مرابحة حتى يبيّن أمره، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمّد: يجوز من غير بيان لأنه أخبره بما اشتراه عقداً صحيحاً، فأشبه ما لو اشتراه من أجنبي )(1).
... ثم يقول: ( ولنا أنه مهتم في الشراء منهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم، فلم يُجِز أن يخبر بما اشتراه منهم مطلقاً … وفارق الأجنبي، فإنه غير مهتم في حقه. وقال أبو الخطّاب: إن فعل ذلك حيلةً - أي مع الأجنبي – لم يِجز، وظاهره الجواز إذا لم يكن حيلةً. وهذا أصح لأنه أجنبي، لكن لا يختص هذا بغلام دكّانه، بل متى فعل هذا على وجه الحيلة لم يجز وكان حراماً وتدليساً ) (2).
والمقصود بمسألة غلام الدُكَّان: ما لو باع صاحب الدكَّان السلعة إلى غلامه الذي يعمل في دُكَّانه بيعاً صورياً، أو وهبه إيّاها حيلةً، ليشتريها منه بثمنٍ عالٍ ثم يرابح على هذا الثمن الأخير مخبراً عنه أنه رأس ماله، فهذا حرام وتدليس.
ما لو كانت سلعة المرابحة مصالحاً بها عن دين، لأنه يتسامح في مثل هذا أيضاً. يقول الكاساني معللاً: ( ولو اشترى من إنسان شيئاً بدينٍ له عليه، له أن يبيعه مرابحةً من غير بيان، ولو أخذ شيئاً صلحاً من دين له على إنسان، لا يبيعه مرابحةً حتى يبيِّن. ووجه الفرق أن مبنى الصلح على الحط والإغماض والتجوّز بدون الحق، فلا بُدَّ من البيان ليعلم المشتري أنه سامح أم لا، فيقع التحرّز عن التهمة، ومبنى الشراء على المضايقة والمعاكسة فلا حاجة إلى البيان )(3).
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/271.
(2) المغني لابن قدامة: 6/271.
(3) بدائع الصنائع للكاساني: 5/224.(1/63)
ويمكن القول بأن العبرة للعرف فيما يعدّ خيانةً كتمه وفيما لا يعدّ. فيجب بيان ما يعدّ كتمه خيانةً، وكل ما يؤثر في إقبال المشتري على السلعة على حساب الثمن.
الفصل الخامس
ظهور الخيانة في المرابحة وأحكامها
الخيانة في عقد المرابحة إما أن تكون في قدر الثمن أو في صفته. وسأبحث كل حالةٍ في مبحث.
المبحث الأول: الخيانة في قدر الثمن.
المبحث الثاني: الخيانة في وصف الثمن.
المبحث الأول ـ الخيانة في قدر الثمن:
إن خان البائع المشتري في قدر الثمن بأن أخبره بأنه اشترى بمائة مثلاً، فظهر بدليل أنه اشترى بأقلّ، أو بأن أضاف نفقاتٍ إلى رأس المال هو فيها كاذب وظهر كذبه. فأقوال ثلاثة في حكم ذلك:
القول الأول:
يثبت الخيار للمشتري بفسخ البيع أو إمضائه بجميع الثمن دون الرجوع على البائع بقدر الخيانة. وهو قول الطرفين أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله تعالى. ودليلهما أن البائع لم يرض بلزوم العقد إلا بالقدر المسمّى من الثمن فلا يُلزم بدونه، فلا يُرجع عليه بالفرق، ولكنْ للمشتري الرد لفوات وصف السلامة عن الخيانة، كفوات وصف السلامة عن العيب يثبت فيه الخيار.(1)
وتجدر الإشارة إلى أنّ الإمام أبا حنيفة فرّق في هذا الحكم بين المرابحة والتولية، فلم يثبت للمشتري في التولية الحق في فسخ البيع، بل أثبت له حق حط قدر الخيانة، وذكر في ذلك تعليلاً دقيقاً فقال بأن الخيانة في المرابحة لا تخرج العقد عن كونه مرابحةً، لأن المرابحة بيعٌ بالثمن الأوّل وزيادة ربح، وهذا قائم حاصل بعد الخيانة، فلم يخرج العقد عن كونه مرابحةً بالخيانة، وإنما أوجب تغييراً في قدر الثمن، وهذا يورث خللاً في الرضا فيثبت الخيار.
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني: 5/225-226.(1/64)
أمّا التولية: فخلاف ذلك، لأنَّ التولية بيع بالثمن الأوّل من غير زيادة ولا نقصان، وقد ظهرت الزيادة عن الثمن الأوّل بالخيانة، فلو أثبتنا هنا حكم الخيانة من الفسخ، لكنّا ضمنأ قد أخرجنا العقد عن كونه توليةً فجعلناه مرابحةً، وهذا إنشاء لعقد لم يحصل فلا يجوز، وبتعبير آخر نكون قد فسخنا عقداً على أنه مرابحة مع أن مرابحةً لم تنعقد بين الطرفين، بل نعمل هنا على إرجاع العقد إلى كونه توليةً فعلاً بحطّ قدر الخيانة. وبعبارة أخرى، فإن الأصل أن يأخذ المشتري السلعة بجميع الثمن بشرط أن يبقى اسم العقد على حاله، مرابحة أو تولية، وهذا ممكن في المرابحة دون التولية، لأنه إن أخذه بجميع الثمن في التولية، لم يكن القد تولية، بل مرابحة. هذه وجهة نظر الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.(1)
القول الثاني:
يثبت الخيار للمشتري بين فسخ البيع ورد المبيع إن كان قائماً أو الإمساك والرجوع على البائع بالفرق. وهذا قول الشافعيّة والمالكيّة.(2)
وقد نبَّه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى أن للمشتري الحق في إسقاط الزائد من أصل الثمن الحقيقي وما يقابله من الربح، فما كان رأس ماله تسعين مثلاً فأخبر عنه بأنه مائة يُرجع فيه بأحد عشر: عشرة من الزيادة في رأس المال، وواحد عن الربح إذا كان الربح الحاصل عشرة دراهم.(3)
وأرى أنَّ ما نبّه عليه الإمام الشافعي هو أصل متفق عليه عند الجميع وإن سكت بعضهم عن النصّ عليه، لوجوب الأخذ به عقلاً. هذا إذا كان شرط الربح في عقد المرابحة نسبةً من رأس المال.
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/226.
(2) الأم للإمام الشافعي: 3/93، الحاوي للماوردي: 5/284، حاشية الدسوقي: 3/168.
(3) الأم للإمام الشافعي: 3/93، الحاوي للماوردي: 5/248.(1/65)
وتجدر الإشارة إلى أن المالكيّة قد فرقوا في الحكم بين الكذب والغش، فرتبوا على الكذب، وهو الخيانة التي تكون في قدر الثمن، حق الفسخ أو الإمساك مع الرجوع بالفرق ؛ وعلى الغش، وهو الخيانة التي تكون في وصف الثمن أو في كل موجود مقصود في البيع، حق الإمساك بجميع الثمن أو الفسخ.
القول الثالث:
يثبت حق حط مقدار الخيانة فقط دون الفسخ. وهو قول الحنابلة وأبي يوسف من الحنفيّة،وحجتهم أن الثمن الأوّل أصل في المرابحة، فإذا ظهرت الخيانة، تبيّن أن تسمية قدر الخيانة لم تصح، فيلغى مقدار الخيانة من الثمن ويبقى العقد لازماً بالثمن الباقي.(1)
المبحث الثاني ـ الخيانة في وصف الثمن:
لو كانت الخيانة في وصف الثمن كما لو اشترى شيئاً نسيئةً فأخبر بأنه اشتراه نقداً، وباعه مرابحةً على ذلك، أو باعه مرابحةً وكتم أن شراءه بالنسيئة وهو في بلد لا يتعامل أهله بالنسيئة فحسب، فالفقهاء على ثبوت الخيار للمشتري بين الإمساك بالثمن المذكور في العقد أو الردّ، نظراً لعدم وجود فرق في الثمن معلومٍ يرجع به المشتري على البائع كما هو الحال في الخيانة بقدر الثمن عند من قال بالحطّ من الثمن.(2)
وتجدر الإشارة إلى أن المالكيّة قد اعتبروا الخيانة في وصف الثمن من قبيل الغش الذي عرَّفه ابن عرفة بقوله: ( الغش أن يوهم وجود مفقود مقصود وجوده في البيع، أو يكتم فقد موجود مقصود فقده منه )(3).
فالأجل عنصر مقصود وجوده في البيع عادة لنفعه للمشتري، فيورث كتمه الغش في المرابحة،وحكم الغش عند المالكيّة أن يخيرالمشتري بين الإمساك بجميع الثمن أو الفسخ.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/266-267، بدائع الصنائع للكاساني: 5/226.
(2) بدائع الصنائع للكاساني:5/226،الحاوي: 5/282، المغني لابن قدامة:6/273، حاشية الدسوقي:3/165.
(3) حاشية الدسوقي: 3/168.(1/66)
بعد أن انتهى الحديث عن بيع المرابحة بأحكامه وتفصيلاته كما نص عليه الفقهاء في كتبهم يمكننا وقد عرفنا سابقاً صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء أن نذكر الفروق بين هذين البيعين المختلفين أسلوباً.
الفروق بين المرابحة لمصرفيَّة – بيع المرابحة للآمر بالشراء – وبين المرابحة الفقهيَّة البسيطة:
في المرابحة الفقهية لا يكون ثَمَّ مرحلة مواعدةٍ سابقةٍ على عقدها، بينما تسبق مرحلة عقد المرابحة المصرفية مرحلة مواعدة.
السلعة التي يراد بيعها في عقد المرابحة المصرفية إنما يتملكها المصرف البائع، بناءً على طلب من العميل المشتري، بينما في المرابحة الفقهية تكون السلعة في ملك البائع دون طلب من المشتري.
الغالب في المرابحة المصرفيّة أن يكون الثمن فيها مؤجلاً ومقسَّطاً، أمّا الفقهية البسيطة فما احتمال التأجيل فيها بأكبر من احتمال النقد.
في المرابحة المصرفية يشتري المصرف السلعة ليبيعها مباشرة إلى جهة معينة هي العميل الذي التمس إليه شراءها، بينما في المرابحة الفقهية البسيطة قد يتملك البائع السلعة لغرض الانتفاع بها أوّلاً، أو ليعرضها للبيع للعموم، وفي كلٍ قد لا يبيعها إلا بعد مكثها لديه فترة طويلة.
السلعة في المرابحة البسيطة قد يدخلها تطوير وتحسين يدخله البائع عليها، نظراً لأنه قد يتملكها لنفسه أولاً، أو ليُزاد في ثمنها تجارةً ؛ أما في المصرفيّة فالمصرف يشتريها ليبيعها مباشرة للعميل، وبالتالي لا يحدث في السلعة أيَّ تطوير أو تحسين.
في المرابحة المصرفية غالباً ما يُعلم العميلُ المشتريَ بثمن السلعة وصفاتها قبل عقد المرابحة، فيكون احتمال الخيانة في وصف الثمن أو جنسه أو في السلعة نفسها قليلاً، بخلاف المرابحة الفقهية البسيطة.
تحدث المرابحة الفقهية البسيطة في كل ذي قيمة ماليةٍ بين الناس، أمّا المصرفية فيرفض فيها المصرف التعامل بسلع كثيرة لاعتبارات شتّى، كرفضه التعامل فيما يكثر خطره ومؤونته، كتجارة البهائم.(1/67)
بيع المرابحة للآمر بالشراء
ويتضمن تمهيداً وسبعة فصول:
الفصل الأول: تكييف بيع المرابحة للآمر بالشراء وذكر الفقهاء له.
الفصل الثاني: شبهات بيع المرابحة للآمر بالشراء.
الفصل الثالث: العقد والوعد.
الفصل الرابع: الذرائع الربوية والقصد المؤثم.
الفصل الخامس: بيع المرابحة للآمر بالشراء على ضوء الشبهات السابقة
الفصل السادس: ضوابط شرعية بيع المرابحة بالشراء على الصعيد التطبيقي.
الفصل السابع: خطوات بيع المرابحة للآمر بالشراء في التطبيق المصرفي الإسلامي.
التمهيد
ثار جدل كبير حول شرعية عقد المرابحة الذي تقوم به المصارف الإسلاميّة، ولعلَّ ممّا أثرى هذا الجدل النظرة العامّة التي طُبع بها عمل المصرف مذ عرفته البشرية بأنه مموِّل لا تاجر، إذ لمّا كان عمدة أعمال المصرف الإسلامي قيامه بأعمال الاستثمار والاتجار، تأثَّر تقييم تلك الأعمال بالنظرة المعهودة إلى المصرف من أنّه مموّل لا تاجر، مع أن واقع الأمر غير ذلك، إذ يقوم المصرف الإسلامي بعمليّات الائتمان التجاري والمالي على السواء.
وأيَّاً كان الأمر، فلا بُدَّ من النظر في حكم المرابحة المصرفيّة بدقة، لازدياد أهميتها في عصرنا الحاضر، عصر الاتصالات والتقدم التقني والصناعي، عصر التبادلات التجاريّة بين أقاصي الشرق والغرب، حيث تنوّعت البضائع وازداد التخصص فيها، ممّا استدعى قيام وسطاء بين الجهات المستهلكة والجهات الموّردة، وكان الوسطاء أشخاصاً وشركاتٍ ومصارفَ تخصصت في هذا المجال، ووقعت في تعاملها الوسيطي في محرَّمات، فأكلت الربا، وشرعت لنفسها عقود التأمين الممنوعة، ومارست البيوع المحرمة، لذا كان طمع المصارف الإسلامية أن تقوم بدور الوساطة ذاك دون وقوع في محرَّم، عبر عقود أهمها المرابحة، فيحصل الناس أفراداً وجماعات على مبتغاهم دونما تأثم، وهذا أمر بالغ الأهمية.(1/68)
وانطلاقاً من الأهمية السابقة للمرابحة، التي هي من أهمية المصارف الإسلامية، لا بُدَّ من التدقيق في إطلاق الحكم عليها، والإحاطة بكل جوانبها.
وإني لموقن حين النظر في هذه المسألة وأمثالها أن الباحث فيها إن لم يجد عليها دليلاً، فالأصل في المعاملات الإباحة، وأنَّ المعاملات إنما كانت لتحقيق مصالح الناس، وأن هذا الدين يسر، وأنه يمكن الأخذ بالأيسر من قول الفقهاء حيث وجدناه يصحح عملاً عليه المسلمون مادام قول هذا الفقيه يُعتدُّ به،، إذ إمّا أن تصحَّح هذه العقود، وإمّا أن يُحكم عليها بالفساد، وهذا أمرٌ عوائده خطيرة سواء على الأفراد ـ كعملاء للمصرف لإسلامي ـ أو على المصرف الإسلامي الذي هو مؤسسة إسلاميّة نعتزُّ بها، أو على المجتمع الإسلامي كافَّة ….. وبالله التوفيق.
الفصل الأول
تكييف بيع المرابحة للآمر بالشراء وذكر الفقهاء له
وفيه مبحثان
المبحث الأول: تكييف عملية المرابحة للآمر بالشراء
المبحث الثاني: بيع المرابحة للآمر بالشراء في كتب الفقهاء.
المبحث الأول
تكييف عملية المرابحة للآمر بالشراء.
تتمثل عملية ما يعرف ببيع المرابحة للآمر بالشراء كما سبق في أن يلجأ أحدٌ إلى المصرف الإسلامي فيلتمس إليه شراء سلعةٍ ما، يحدد له مواصفاتها وثمنها ومصدرها، ثم يعده بشرائها منه مرابحةً على تكلفتها عندما يشتريها المصرف.
كما يتضح من صورة هذه العملية، فإنها تتضمن عقد بيع مرابحةٍ صريح، وهو الذي يتمُّ عقب شراء المصرف السلعة، بناءً على ربحٍ مسمّى على رأس مال معلوم، وتتضمن اتفاقاً سابقاً قبل إجراء هذا العقد وقبل شراء المصرف السلعة على التنفيذ، ويمكن تسمية مرحلة هذا الاتفاق بمرحلة الوعد، ويقترن هذا الوعد بضمانات في بعض المصارف لحمل الطرفين أو أحدهما على التنفيذ، وسيأتي حكم ذلك مفصلاً.(1/69)
إذاً، فهناك في عملية بيع المرابحة للآمر بالشراء مرحلتان، مرحلة وعد، وهي السابقة، ومرحلة عقد، وهي اللاحقة. ومعلوم أنه لامناص من تقسيم هذه العملية إلى مرحلتين، مادام المصرف ممنوعاً من بيع ما ليس عنده، ثم على فرض جواز هذا، فقد يعجز المصرف عن شراء تلك السلعة لسببٍ خارجي مثلاً، فلا يتحقق البيع.
هذا وقد يعترض على هذا التكييف بأن العملية ليست من قبيل المرابحة، إذ ما من شبهٍ بينها وبين المرابحة الفقهيّة المعروفة إلا من حيث أسلوب الإخبار عن الثمن النهائي، حيث يحدِّد المصرف الربح بنسبة من ثمن السلعة أو رأس ماله فيها بالاتفاق مع المشتري. وكذا من حيث أن المصرف قد يضم بعض النفقات إلى ثمن السلعة، كما يضم البائع في المرابحة الفقهية المعروفة ما أنفق على السلعة مما يصح إلحاقه برأس المال، أما في واقع أمر المرابحة المصرفية، فإن المشتري ـ عميل المصرف ـ غالباً ما يعلَمُ ثمن السلعة التي يرغب إلى العميل بشرائها علماً سابقاً عن إخبار المصرف بهذا الثمن، بل إن العميل نفسه هو الذي يدل المصرف على السلعة ليشتريها، وهو الذي يصفها له، وكثيراً ما يحدّد له جهة شرائها، وكل هذا لا يكون في المرابحة الفقهية البسيطة المعروفة.
الجواب على هذا بأن وجه الشبه المذكور كافٍ لاعتبار هذا البيع في حيّز المرابحة، إذ لا فرق بين بيع المرابحة والبيع العادي ( المساومة ) إلا علمُ المشتري برأس مال البائع في السلعة، وبناءُ ربحٍ مقطوع معلوم أو نسبي على رأس المال ذاك.
ثم إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى نصَّ في ( الأم ) على أن نحو الصورة التي تتمُّ في المصرف الإسلامي هو من قبيل المرابحة حيث قال: ( وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعة فقال اشتر هذه وأربحك فيها فالشراء جائز …).(1)
إذ معنى قوله: ( أربحك فيها ): أعطيك فيها ربحاً. أي أشتريها منك مرابحةً على رأسمالها.
__________
(1) الأم للإمام الشافعي:3/39.(1/70)
وهذه الصورة التي ذكرها الإمام الشافعي هي على الوجه الذي يتمُّ في المصارف الإسلامية، حيث يحدٍّدُ العميل للمصرف الإسلامي السلعة بذكر مواصفاتها ويعده بإرباحه فيها.
بيع المرابحة وبيع المواصفة:
روى ابن أي شيبة(1) في المصنف آثاراً تدل على شَبَه عملية المرابحة للآمر بالشراء بما يسمّى ببيع المواصفة، حيث يصف الرجل السلعة لآخر ليشتريها ثم يبيعها له، فعن سعيد بن المسيِّب ( أنه كان يكره بيع المواصفة، والمواصفة: أن تواصف الرجل بالسلعة ليست عندك )(2).
وروى أيضاً سؤال بعضهم الحسن البصري: ( الرجل يأتيني فيساومني بالحرير ليس عندي. قال فآتي السوم ثم أبيعه. قال: هذه المواصفة. فكرهه )(3).
فهل يمكن أن يعدّ بيع المواصفة هذا معبِّراً عن بيع المرابحة للآمر بالشراء بحيث يمكن تسميته به ؟
__________
(1) ابن أبي شيبة:عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، الكوفي، العبسي، ولد سنة 195هـ، وهو أخو عثمان بن مجد بن أبي شيبة الحافظ المحدّث، حافظ محدّث، فقيه، وفسر، من كتبه: (المصنف)، (التفسير): توفي سنة 235هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 11/122
(2) المصنف لابن أبي شيبة:6/130
(3) المصنف لابن أبي شيبة: 6/131.(1/71)
الواقع أنْ _ بغض النظر عن الحكم الشرعي الذي أطلقه بعض الفقهاء على بيع المواصفة_ ليس ثمة ما يحول دون انطباق بيع المواصفة على بيع المرابحة للآمر بالشراء ما دام البائع لا يبيع السلعة في بيع المواصفة إلا بعد شرائها، هذا إذا لاحظنا أن بيع المواصفة يخبر فيه المشتري البائع عن السلعة التي يريد ويصفها له ويحدّدها، ويبقى الفارق بينهما أن ما يسمى ببيع المرابحة للآمر بالشراء يتم بطريقة المرابحة، وهو ما يمكن أن يشمله بيع المواصفة، إذْ سكتت تعاريف الفقهاء له ـ كما سبق ـ عن طريقة تحديد الثمن وحسابه. فيمكن اعتبار هذا البيع الذي يعقد في المصارف الإسلامية بيع مواصفة تمَّ بطريقة المرابحة، ولا مانع من تسميته ( بيع مرابحة ) أو ( مواصفة ) ما دام المضمون واحداً ووجه التسمية حاصلاً، إلا أن العرف الحالي جرى بتسميته ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
مناقشة صحَّة التسمية:
قد يعترض بأن تسمية مسألة البحث ببيع المرابحة للآمر بالشراء مشكل، من حيث إن الأمر يكون من الأعلى للأدنى، وليس كذلك الحال بين المصرف والعميل، وبأن الأمر يجعل المأمور بمثابة الأجير، وهذا مشكل، لأن المصرف المأمور لا يصلح أن يكون أجيراً للعميل لئلا تجتمع الإجارة مع السلف، حيث يدفع المصرف ثمن السلعة من عنده مما يجعله مقرضاً، ثم يكون أجيراً على الشراء، وهذا لا يصح !!
والحق أنه اعتراض وجيه من حيث التفصيل والاحتياط، بيد أنه لا عبرة للتسمية، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح حيث المضمون سليم. وعلى كل حال فقد وُجد من سمّى من يطلب من آخر شراء سلعةٍ ليبيعها إليه لاحقاً آمراً كما جاء في المبسوط للسرخسي(1) وغيره.
__________
(1) السرخسي: محمد بن أحمد، أبو بكر، شمس الأئمة، من سرخس بخراسان، فقيه حنفي، أصولي، قاض، مجتهد، من أئمة الحنفية، أملى نصف كتابه المبسوط وهو سجين جبّ، له كتاب (الأصول)، توفي بفرغانة سنة 483هـ معجم المؤلفين لرضا كحالة: 8/239، الأعلام للزركلي: 5/315.(1/72)
فعن ابن القيّم(1) مثلاً في إعلام الموقعين: ( رجل أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم وأخبره أنه إن فعل اشتراها الآمر بألف ومائة، فخاف المأمور إن اشتراها ألا يرغب الآمر في شرائها. قال: يشتري الدار على أنه بالخيار …)(2).
فقد صُحِّح هذا البيع بوجه، وسُمِّي طالب الشراء آمراً، ومشتريها مأموراً.
المبحث الثاني
بيع المرابحة للآمر بالشراء في كتب الفقهاء.
نجد في كتب بعض فقهاء المذاهب مسائل تماثل في مضمونها بيع المرابحة للآمر بالشراء ممّا يدل على أنهم عرفوا هذه الطريقة في تعاملهم، فمن هؤلاء الفقهاء:
أولاً ـ الحنفيّة:
جاء في المبسوط للسرخسي: ( رجل أمر رجلاً أن يشتري داراً بألف درهم وأخبره أنه إن فعل، اشتراها الآمر منه بألف ومائة، فخاف المأمور إن اشتراها، ألا يرغب الآمر في شرائها. قال: يشتري الدار على أنه بالخيار ثلاثة أيام ويقبضها، ثم يأتيه الآمر، فيقول له: قد أخذتها منك بألف ومائة. فيقول المأمور: هي لك بذلك. ولا بُدَّ له أن يقبضها على أصل محمد رحمه الله تعالى، أمّا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى فلا حاجة إلى هذا الشرط، لجواز التصرف في العقار قبل القبض عندهما. والمشتري بشرط الخيار يتمكّن من التصرّف في المشترى بالاتفاق)(3)
أهم ما يلاحظ على هذا النص:
__________
(1) ابن القيم: محمد بن بكر، الدمشقي، ولد سنة 690هـ بدمشق، فقيه حنبلي، تتلمذ على ابن تيمية، من كتبه: (الطرق الحكميّة)، (زاد المعاد)، توفي سنة 751هـ. الأعلام للزركلي:6/56.
(2) إعلام الموقعين لابن القيم: 4/29، وانظر المبسوط للسرخسي: 3/237.
(3) المبسوط للسرخسي: 30/237. وانظر كتاب المخارج في الحيل (من رواية السرخسي) لمحمد بن الحسن الشيباني، باب في البيع والشراء، ص127.(1/73)
يدل النص بطرق الإشارة على أنه لا وجه لإلزام الآمر بالشراء بشراء السلعة التي أمر الآخر بشرائها، بدليل عرض المسألة خاليةً عن إلزام المأمور، إذ لو كان الإلزام ممكناً لما احتيج إلى السؤال هنا، أو لدل المسؤول على الأخذ بالإلزام.
دلَّ النص على طريق للنجاة من ضرر إعراض الآمر عن الشراء، وهي شراء المأمور السلعة على الخيار، وهو ما أطلق عليه بيع المخايرة.
ثانياً ـ الشافعيّة:
جاء في كتاب الأم: ( وإذا أرى الرجلُ الرجلَ السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها كذا، فاشتراها الرجل فالشراء جائز، والذي قال: أربحك فيها بالخيار: إن شاء أحدث فيها بيعاً وإن شاء تركه،وهكذا إن قال: اشتر لي متاعاً. ووصفه له، أو: متاعاُ أي متاعٍ شئت وأنا أربحك فيه. فكل هذا سواء، يجوز البيع الأول ويكون هذا فيما أعطى من نفسه بالخيار، وسواء في هذا ما وصفت إن كان قال: ابتعه وأشتريه منك بنقد أو بدين. يجوز البيع الأوّل ويكونان بالخيار بالبيع الآخر، فإن جدّداه جاز وإن تبايعاه به على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول فهو مفسوخ من قبل شيئين:
أحدهما: أنه تبايعاه قبل أن يملكه البائع.
الثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا )(1).
يلاحظ على النص السابق:
التأكيد على خيار الآمر بالشراء بعد أن يشتري المأمور السلعة كشرط لصحة المسألة، وعلى أن البيع يفسد حالة قيام الإلزام بين الآمر والمأمور، لتمكن شبهة بيع ما لم يملكه البائع، ولخطر الجهالة.
لا فرق في المسألة من حيث الصحّة إن كان شراء الآمر بدين أو بنقد.
ثالثاً ـ الحنابلة:
ذكر ابن القيّم نصّاً في إعلام الموقعين شبيهاً بنص الحنفية الذي جاء في المبسوط، دلّ فيه على طريقة الشراء بالخيار مخافة نكول الآمر.(2)
رابعاً ـ المالكيّة:
__________
(1) الأم للإمام الشافعي: 3/39.
(2) إعلام الموقعين لابن القيم: 4/29.(1/74)
خلافاً لجمهور الفقهاء، عدّ المالكيّة مسألة بيع المرابحة للآمر بالشراء من قبيل العينة فقد قال الدردير في الشرح الكبير في معرض حديثه عن العينة: ( فهي بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إيّاها لطالبها بعد شرائها، سميت بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل مقصوده من دفع قليلٍ ليأخذ عنه كثيراً ).(1)
وقال ابن رشد (2) في المقدمات في معرض تعداده لصور العينة: ( وأما الثانية وهي أن يقول: اشترِ لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر. فذلك حرام لا يحل ولا يجوز)(3).
كما ذكر الإمام مالك رحمه الله تعالى صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء في الموطأ في باب بيعتين في بيعة، فكان يرى أنها كذلك. فقد روى مالك في الموطأ في باب النهي عن بيعتين في بيعة أنه بلغه أن رجلاً قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى أبتاعه منك إلى أجل، فسأل عن ذلك ابن عمر، فكرهه ونهى عنه.(4)
__________
(1) الشرح الكبير للدردير.مطبوع بهامش حاشية الدسوقي:3/88.
(2) ابن رشد (الجد): محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، أبو الوليد القرطبي، ولد بقرطبة سنة 455هـ، فقيه مالكي، انتهت إليه رياسة فقهاء المالكية في المغرب والأندلس، من كتبه (المقدمات الممهدات) وهو مقدمة لكتاب (المدونة)، توفي بقرطبة سنة 520هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:19/501.
(3) المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد): 2/57.
(4) المنتقى بشرح الموطأ للباجي: 5/38.(1/75)
وعدَّ الباجي(1) أيضا ًفي المنتقى هذه المسألة من قبيل بيع ما ليس عند البائع، فقد قال فيها: (وفيها مع ذلك بيع ما ليس عنده، لأن المبتاع بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل البعير قبل أن يملكه )(2)، وعدّها أيضاً من قبيل القرض الربوي ( السلف بزيادة ) قال: (وفيها سلف بزيادة، لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلّفه عشرةً في عشرين إلى أجل، وهذه كلها معان تمنع جواز البيع والعينة فيها أظهر من سائرها )(3).
إذاً فقد نُصَّ على مسألة البحث في فقه المالكية على أنها من قبيل:
بيع العِينة. أي أنها ذريعة ربوية.
البيعتين في بيعة.
بيع ما ليس عند البائع.
السلف والزيادة.
وكل من ذلك كفيل بحرمة المسألة كما قال الباجي، وهذا ما يستدعي تفصيل القول في هذه المسألة عندهم، وفي الشبهات التي أوردوها، ليظهر مدى انطباقها على مسألة بيع المرابحة للآمر بالشراء. ويمكن القول: إن من لم يذهب إلى صحّة بيع المرابحة للآمر بالشراء قديماً وحديثاً إنما نطق أو انطلق من المسوغات التي ذكرها المالكية لحرمة المسألة، فبالقدر الذي تناقش فيه أدلة المالكيّة لمعرفة صحة الاستدلال بها، فإننا نستطيع الحكم على هذه المسألة بالصحة أو الفساد.
وفي ما يلي تفصيل كل شبهة من الوجهة الفقهيّة عامّة، والمالكيّة خاصة، لمعرفة مدى انطباقها على مسألة البحث.
الفصل الثاني
شبهات بيع المرابحة للآمر بالشراء
... ويتضمن المباحث التالية:
... المبحث الأول: شبهة العينة.
... المبحث الثاني: شبهة البيعتين في بيعة.
... المبحث الثالث: شبهة بيع ما ليس عند البائع.
__________
(1) الباجي: سليمان بن خلف الأندلسي، القرطبي، أبو الوليد، ولد سنة403هـ، حافظ،فقيه، أصولي، أشهر كتبه: (المنتقى) وهو شرح للموطأ، توفي بالأندلس سنة 474هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/535.
(2) المنتقى للباجي: 5/38-39.
(3) المنتقى للباجي: 5/39.(1/76)
المبحث الرابع: شبهة السلف بزيادة.
المبحث الأول
شبهة العينة.
أولاً ـ تعريف العينة:
لغة: العِينة بكسر العين: السلف. يقال: اعتان الرجل. إذا اشترى الشيء بالشيء نسيئة. ويقال: اعتان الرجل. إذا اشترى نسيئة.(1)
ويرى الكمال بن الهمام أن بيع العينة سًمي بذلك لأن العين تسترجع فيه، أي هو من العين المسترجعة.(2)
وقيل سميّت بذلك لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها من البائع عيناً، أي نقداً حاضراً.(3)
وقال الزيلعي: سميت كذلك لِما فيها من الاعراض عن الدين إلى العين.(4)
ويرى الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير أنها سميّت عينة لإعانة أهلها للمضطر على تحصيل مطلوبه على وجه التحيُّل.(5)
وقال الجوزجاني(6): أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق، فيشتري السلعة، ويبيعها بالعين التي احتاج إليها، وليست به إلى السلعة حاجة.(7)
اصطلاحاً: يكاد يتفق الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة على أن بيع العينة ينطبق على بيع السلعة بثمن زائد نسيئةً ليبيعها المشتري ثانيةً بثمن حاضر أقلَّ ليحصل على المال. فهو بيع يعقد ليكون حيلة للحصول على المال بدل قرض الربا الصريح، على تفضيل سيأتي في شرط أن يكون البائع أولاً هو المشتري ثانياً.
__________
(1) المصباح المنير للفيّومي، مختار الصحاح للرازي.
(2) حاشية ابن عابدين: 7/613.
(3) كشاف القناع للبهوتي: 3/186.
(4) تبيين الحقائق للزيلعي:4/163.
(5) حاشية الدسوقي: 3/88.
(6) موسى بن سليمان الجوزجاني، فقيه حنفي، حدَّث ببغداد، عُرف بورعه، عرض عليه المأمون القضاء فأبى، توفي سنة 210هـ. أنظر تاريخ بغداد: 13/16، الأعلام للزركلي: 7/123.
(7) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم: 5/108.(1/77)
ونجد عند الحنابلة تفسيراً آخر للعينة، هو موضع خلاف لديهم، وهو أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، فإن باعه مرَّةٍ بنقد وأخرى نسيئة فلا بأس، وعُلِّل ذلك بأنه يضارع الربا، لأنه يقصد الزيادة بالأجل.(1)
أمّا المالكية: فمسمَّى بيع العينة عندهم مندرج في بيوع الآجال، أي بيوع الذرائع الربوية، إذ جعلوا بيوع الآجال نوعاً يشمل كل بيع يتخذ كذريعة ربوية والأجل عنصر فيه والسلعة مسوغ للحصول على الربح غير مقصودة حقيقة ؛ أما العينة فجعلوها مصطلحاً خاصاً بصورة بيع المرابحة للآمر بالشراء كما سبق. وأحياناً نراهم قد عرّفوا بيع العينة بما يشمل مسألة البحث وبيوع الآجال التي منها العينة بمصطلح الجمهور. يقول الخرشي(2) في تعريف العينة: ( هي دفع قليل في كثير ) وهذا التعريف يشمل صوراً كثيرةً منها صورة العينة بمصطلح الجمهور. وينقل أيضاً عن ابن عرفة(3): ( هو ـ أي بيع العينة ـ البيع المتحيّل في دفع عين في أكثر منها ) ومثَّل له بقوله: ( إذا باع سلعةً بعشرةٍ إلى شهر ثم اشترى السلعة بخمسةٍ نقداً ).(4)
ثانياً ـ الآثار الواردة في بيع العينة:
__________
(1) المغني لابن قدامة: 4/158.
(2) الخرشي: أبو عبد الله، محمد بن عبد الله الخرشي، انتهت إليه رئاسة المالكية بمصر، شرح مختصر خليل بالحاشية التي عرفت باسمه، توفي سنة 1101هـ. شجرة النور الزكية لمحمّد خلّوف:317.
(3) ابن عرفة: محمّد بن محمّد بن عرفة، التونسي، ولد سنة 716هـ بتونس، فقيه مالكي، إمام جامع الزيتونة، من كتبه (المبسوط) في الفقه المالكي، و(الحدود) في التعريفات الفقهية، توفي بتونس سنة 803هـ، شجرة النور الزكية لمحمد خلوف: ص227.
(4) حاشية الخرشي على مختصر خليل: 5/105.(1/78)
ما رواه أبو داود(1) من حديث ابن عمر مرفوعاً: (( إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاًَّ لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم.))(2)
ورواه الإمام أحمد أيضاً في مسنده عن ابن عمر بلفظ (( إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا إذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم )) (3)
__________
(1) أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني، ولد سنة 202هـ، إمام أهل الحديث في عصره وسيد الحفّاظ، سمع من الإمام أحمد بن حنبل وعرض عليه كتابه، جمع في كتابه السنن 4800 حديثاً أنتخبها من 500000 حديثاً، توفي بالبصرة سنة 275هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 2/203
(2) مختصر السنن للحافظ المنذري: 5/99 كتاب البيوع،حديث، رقم (3317).
(3) مسند أحمد، حديث رقم (4825).(1/79)
ما رواه الدارقطني(1) وغيره من أنَّ امرأة أبي إسحاق السبيعي(2) دخلت على السيدة عائشة(3) رضي الله تعالى عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: ( يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم(4) بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقداً. فقالت لها عائشة: بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب ).(5)
الكلام في الأسانيد:
__________
(1) الدار قطني: علي بن عمر، أبو الحسن، صاحب السنن، ولد ببغداد سنة 306هـ، فقيه شافعي، إمام عصره في الحديث، أول من صنّف في القراءات، ودارقطن محّلة في بغداد، من كتبه: (العلل الواردة في الحديث) توفي ببغداد سنة 385هـ. سير أعلام النبلاء:16/449.
(2) أبو إسحاق السبيعي: عمرو بن عبد الله بن ذي يُحمِد، من التابعين، ولد لسنتين مضتا من خلافة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أي نحو سنة 33 هـ، شيخ الكوفة ومحدثها، ثقة في الحديث، توفي سنة 127هـ، سير أعلام النبلاء: 5/392.
(3) السيدة عائشة: بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، أم عبد الله، ولدت سنة 9قبل الهجرة بمكة، أسلمت صغيرة، أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، أفقه النساء، روت 2210 أحاديث، لها مناقب كثيرة، توفيت بالمدينة سنة 58هـ ودفنت بالبقيع. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 8/16.
(4) زيد بن أرقم بن زيد بن قيس، أبو عامر، وقيل أبو عمر، الصحابي الجليل، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، شهد صفين مع علي بي أبي طالب كرم الله وجهه، توفي بالكوفة سنة 66هـ، وقيل سنة 68هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 2/589.
(5) سنن الدارقطني: 3/52 كتاب البيوع حديث رقم (211)، وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن: 5/33 كتاب البيوع. باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل. عبد الرزاق في المصنف: 8/185 كتاب البيوع. باب الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد رقم (14812).(1/80)
في سند الحديث الأول الذي رواه أبو داود مقال، إذ قال الحافظ المنذري(1): فيه إسحاق بن أسيد، أبو عبد الرحمن الخراساني(2)، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضاً: عطاء الخراساني(3) وفيه مقال(4). وقد وثَّق ابن القيّم رجال هذا الحديث، إلا أنه لم ينكر طروق الضعف إليه من احتمال أن يكون الأعمش فيه سمعه من عطاء، أو أن عطاءً سمعه من ابن عمر. وهذا الاحتمال كافٍ لتضعيفه.(5)
__________
(1) الحافظ المنذري: عبد العظيم بن عبد القوي، ولد بالقاهرة سنة 581هـ، حافظ، فقيه شافعي، عالم بالعربية، أصله من الشام، من كتبه (الترغيب والترهيب)، توفي بالقاهرة سنة 656هـ سير أعلام النبلاء للذهبي: 23/319.
(2) إسحاق بن أسيد ـ بالفتح ـ الأنصاري، أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو محمد المروزي، نزيل مصر، قال فيه ابن عدي: مجهول، وقال ابن حبّان في الثقات: يخطئ، وحكي أن الأزدي قال فيه: منكر الحديث. تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني: 1/206.
(3) عطاء الخراساني: عطاء بن عبد الله، أبو أيوب، ولد سنة 55هـ، من كبار التابعين، من فقهاء خراسان، سكن الشام، توفي ببيت المقدس سنة 135هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/140.
(4) مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري: 5/99.
(5) تهذيب السنن لابن القيم: 5/104.(1/81)
في سند الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ضعف أيضاً، إذ فيه الأعمش(1) وهو مدلِّس، وفي هذا الحديث لم يذكر سماعه عن عطاء، وعطاء هذا يحتمل أن يكون عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية كما يقول ابن حجر(2)، بإسقاط نافع(3) بين عطاء وابن عمر. فذكر ابن حجر تضعيفه على الرغم من أن ابن القطَّان(4) صحَّحه، إذ رجال أحمد فيه ثقات.(5)
أمّا حديث السيدة عائشة المذكور فقد ضُعِّف سنداً ومتناً.
أمّا من حيث السند:
فقد قال الإمام الشافعي بأن امرأة أبي إسحاق ( العالية بنت أنفع ) وهي الراوية عن السيدة عائشة مجهولة. وذكر ذلك الدارقطني أيضاً.(6)
وأمّا من حيث المتن:
__________
(1) الأعمش: سليمان بن مهران، الأسدي، كوفي تابعي، ولد بالكوفة سنة 61هـ، حافظ محدث، عالم بالقرآن الكريم وبالفرائض، أخذ عن الإمام مالك،توفي بالكوفة سنة 148هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي:6/226
(2) ابن حجر: أحمد بن علي، الكناني العسقلاني، من عسقلان بفلسطين، ولد بالقاهرة سنة 773هـ، وابن حجر لقب بعض آبائه، حافظ، مؤرخ، فقيه شافعي، من كتبه (ميزان الاعتدال)، (لسان الميزان) وهما في الرجال، توفي بالقاهرة سنة 852هـ. الأعلام للزركلي: 1/178.
(3) نافع: ابن هرمز، من كبار التابعين، مولى ابن عمر والراوي عنه، ثبت لا يعرف له خطأ في جميع ما رواه، وإسناد نافع عن ابن عمر من أصح الأسانيد، توفي بالمدينة سنة 117هـ سير أعلام النبلاء:5/95.
(4) ابن القطّان: أحمد بن سنان بن أسد، الواسطي، أبو جعفر، من علماء الحديث، حافظ، روى عنه أصحاب الكتب الستّة إلا الترمذي، له مسند، توفي بواسط سنة 259هـ. الأعلام للزركلي: 1/133.
(5) التلخيص الحبير لابن حجر العسقلاني: 3/19.
(6) الأم للإمام الشافعي: 3/79، سنن الدارقطني: 3/52.(1/82)
فقال الإمام الشافعي بأنه من شأن السيدة عائشة وهي الفقيهة ألا تحكم ببطلان جهاد زيدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرٍ أو صله اجتهاده إلى حلِّه، وقال:
( لو أن رجلاً باع شيئاً أو ابتاعه نراه نحن محرَّماً وهو يراه حلالاً، لم نزعم أنّ الله يحبط من عمله شيئاً )(1).
وقال ابن حزم: ( فكيف يظن بأم المؤمنين إبطال جهاد زيد بن أرقم في شيء عمله مجتهداً، لا نصَّ في العالم يوجد خلافه، لا صحيح ولا من طريق واهية )(2).
كما حمل الإمام الشافعي قول السيدة عائشة، لو كان ثابتاً عنها، على أنها أنكرت عليها البيع إلى أجل غير معلوم، وهو البيع إلى العطاء، وهو أجل مجهول، لا أنها عابت عليها أنها اشترت نقداً ما باعته نسيئة.(3)
وهكذا فكل أحاديث العينة لا تخلو عن مقال، لكنها بالجملة تنهض ببعضها البعض، واجتماع مثل هذا الوعيد على شيء لا يمكن أن يوقف عليه بالرأي.
ثالثاً ـ مذاهب الفقهاء في حكم العينة:
نجد في العينة عند الفقهاء قولين بالجواز وعدمه، الأول للشافعية والحنفيّة، والثاني للحنابلة والمالكيّة، وذلك على التفصيل الآتي:
الشافعيّة:
ذهب الإمام الشافعي إلى صحة بيع العينة مطلقاً بعد أن رأيناه كيف ضعَّف الاستدلال بأحاديث العينة، ولم يفرِّق الإمام الشافعي في إطلاق الحكم بالصحّة بين كون المشتري ثانياً هو البائع أولاً أو لا. يقول في الأم: ( فإذا اشترى الرجل من الرجلِ السلعة فقبضها وكان الثمن إلى أجل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه ومن غيره بنقدٍ أقل أو أكثر ممّا اشتراها به، أو بدين، كذلك أو عرض من العروض ساوى العرض ما شاء أن يساوي، وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل )(4).
__________
(1) الأم للإمام الشافعي: 3/79.
(2) المحلّى لابن حزم: 9/50.
(3) الأم للإمام الشافعي: 3/79.
(4) الأم للإمام الشافعي: 3/79.(1/83)
ومذهب الإمام الشافعي مبني على مبدئه في اعتبار ظواهر العقود دون بواعثها في الحكم على صحتها كما سيأتي.
الحنفيّة:
فرّق الحنفيّة بين كون المشتري ثانياً هو البائع أولاً أو غيره، فمنعوا الأولى وجوّزوا الثانية.
أمّا منعهم للصورة الأولى من بيع العينة، فاستدلالاً بحديث السيدة عائشة حيث قالوا بأن مثل هذا الوعيد لا يوقف عليه بالرأي ؛ وأمّا تجويزهم للصورة الثانية، فلأن الأصل عندهم تصحيح العقود، أخذاً بظاهرها وعدم اعتبار مقاصدها، أي أنهم في ذلك كالشافعية، وإنما استثنى الحنفية من مبدئهم هذا تلك الصورة الممنوعة فحكموا عليها بالفساد -وهي الحالة التي يكون فيها البائع أولاً هو المشتري ثانياً – لورود النص فيها، وهو حديث السيدة عائشة، حيث فيه تقييد برجوع السلعة إلى البائع نفسه، وقد اعتبروا الحكم في هذه الحالة معدولاً به عن القياس، فأبقوا ما وراءه على أصل القياس من عدم اعتبار النيات في العقود، وفسّروا حالة المنع بأن الثمن الثاني يصير قصاصاً بالثمن الأول، فيبقى عن الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة، وهو عين الربا.
واستحسن الحنفية ـ بناءً على تفسيرهم فساد هذه الصورة ـ الصحّة فيها حال اختلاف الجنس بين الثمن والمبيع، إلا في الدراهم والدنانير، ذلك أن الثمنية كجنس واحد.(1)
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني: 5/198-199.(1/84)
وقد عرف عن محمد بن الحسن من الحنفية كراهته للعينة رغم قوله بصحة بيع العينة في الصورة الصحيحة السابقة، حيث لا يكون البائع أولاً هو المشتري ثانياً، إذ يروى عنه قوله: (هذا البيع ـ أي بيع العينة ـ في قلبي كأمثال الجبال، ذميم اخترعه أكلة الربا). وحمل بعضهم قوله هذا على عود السلعة إلى البائع بواسطة شخص ثالث،لأنه ـ كما رجح ابن الهمام من الحنفية ـ لا يسمّى البيعُ بيعَ العينة، ما لم ترجع العين التي خرجت من البائع إليه، لأنه اشتقاق هذا الاسم من العينة المسترجعة لا العين مطلقاً ؛وإلا، فكل بيعٍ بيعُ العينة.(1)
وعلى هذا يكون للعينة حكمان عند محمد من الحنفية:
الفساد: حال عدم توسط ثالث في عودها إلى مالكها الأوّل.
الكراهة: حال وجود تلك الواسطة.
أما أبو يوسف، فكان قوله بمقابلة قول محمد، حيث عدَّ العينة مأجوراً من عمل بها، لأنه يعين المضطر بها ويقضي حاجته، واحتج بأن كثيراً من الصحابة فعلوه. وقوله هذا محمول على بيع الرجل المعتان للسلعة في السوق دون تدخل من البائع الأول، وهو ما يسمّى بالتورق عند الحنابلة، كما سيأتي.
هذا وقد عدَّد الحنفيّة صوراً أخرى للعينة كلها جائزة منها: أن يقرضه خمسة عشر مثلاً إلى أجل ثم يبيعه ثوباً قيمته عشرة بخمسة عشر، فيعطيه المقترض الخمسة عشر ثمناً للثوب، ويأخذ الثوب ليبيعه في السوق بعشرة مثلاً، فيبقى ما في ذمته خمسة عشر إلى أجل هي عن القرض.(2)
الحنابلة:
يفِّرق الحنابلة بين مصطلحي العينة والتورّق، فيعنون بالعينة شراء البائع أولاً السلعة التي باعها على نحو يفيد منه، ويعنون بالتورّق حالة أن يعمد مشتري تلك السلعة إلى رجل آخر فيبيعه إيّاها في السوق مثلاً. فعلى هذا: إن عادت السلعة إلى بائعها الأوّل فهي العينة إن لم تعد فهي التورّق.
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 7/613، وانظر فتح القدير للكمال بن همام 6/71 وما بعدها.
(2) حاشية ابن عابدين: 7/613، تبيين الحقائق للزيلعي: 4/163.(1/85)
يقول ابن القيم حاكياً قول الإمام أحمد: ( العينة إنّما تقع من رجل مضطر إلى نقد، لأن الموسر يضنّ عليه بالقرض، فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم يبيعها ؛ فإن اشتراها منه بائعها،كانت عينة؛ وإن باعها من غيره، فهي التورّق، ومقصوده في الموضعين الثمن )(1).
أمّا حكم العينة والتورّق عندهم: فتحرم العينة، وعن أحمد روايتان في التورّق: رواية بالجواز، وهي التي ذكرها البهوتي في كشاف القناع، وأخرى بالحرمة على اعتبار أنه من العينة.
ويستدل الحنابلة لذلك بأحاديث تحريم العينة، وبأنها ذريعة ربوية فتحرم لأنها حيلة على الربا(2).
المالكيّة:
سبق العلم بأن المالكية أدرجوا العينة التي عناها الجمهور في المحرّم من بيوع الآجال، أي كل بيع يتخذ كذريعة ربويّة للحصول على زيادة مال مقابل الأجل. ولمّا لم تكن كل زيادة في ثمن مبيعٍ مقابل الأجل ربا، فقد شملت بيوع الآجال عندهم بيوعاً جائزة مشروعة وأخرى محرّمة ممنوعة.
أما العينة، فأطلقوها على مسائل منها مسألة البحث ( بيع المرابحة للآمر بالشراء ).
فلِمَ إذاً كان هذا التفريق عندهم بين بيوع الآجال والعينة ؟
لا بدَّ للإجابة هذا السؤال من بسط القول في بيوع الآجال والعينة عند السادة المالكية، حتى يعلمَ فقههم في مسائل بيوع الذرائع الربوية التي زعموا أن مسألة الباب منها.
بيوع الآجال عند المالكيّة:
أولاًـ تعريفها: لا نجد تعريفاً محدداً لبيوع الآجال عند المالكية، لأنه ليس كل بيع دخله الأجل كان محرّماً أو مكروهاً، ولكن إذا ما أطلقت بيوع الآجال، عنى بها المالكيّة البيوع الممنوعة منها.
قال الدردير: هي ـ أي بيوع الآجال ـ بيوع ظاهرها الجواز لكنها تؤدي إلى ممنوع.(3)
__________
(1) تهذيب السنن لابن القيم: 5/108.
(2) كشاف القناع للبهوتي: 3/186، تهذيب السنن لابن القيم: 5/108-109،المغني لابن قدامة: 6/260-261
(3) الشرح الكبير للدردير (مطبوع بحاشية الدسوقي): 3/76.(1/86)
ثانياً ـ صورها: يمكن ردُّ جميع صور بيوع الآجال، المحرّم منها وغير المحرّم، إلى ضابط واحد يصلح تعريفاً لبيوع الآجال وهو ( بيع شخص لآخر شيئاً لأجل ثم شراؤه منه إلى أجل آخر أو نقداً ) مع ملاحظة أن العلاقة ثنائية بين البائع والمشتري.
بتحليل هذا الضابط يمكن تصور اثني عشر نوعاً لبيوع الآجال، لأن الشراء الثاني إما أن يكون نقداً، أو لأجل هو أدنى من الأول، أو مثله، أو أبعد منه ؛ وبثمن هو إمّا أقل من الثمن الأول، أو مساوٍ له، أو أكثر.
يترتب على ما ذكر اثنتا عشرة صورة، حاصلة من ضرب أحوال وقت الدفع الأربعة بأحوال الثمن الثاني الثلاثة. والمحرّم من تلك الصور عند المالكيّة ثلاث صور هي التالية:
أن يشتري ما باعه لأجل بثمن أقل نقداً، كما لو باعه بعشرة إلى أجل، فاشتراه بثمانية نقداً.
أن يشتري ما باعه لأجل بثمن أقل منه ولأجل أدنى منه، كما لو باعه بعشرة لأجل هو شهر، فاشتراه بثمانية لأجل هو أسبوعان.
أن يشتري ما باعه لأجل بأكثر من الثمن الأوّل لأجل أبعد من الأجل الأوّل، كما لو باعه بعشرة لأجل هو شهر، فاشتراه باثني عشر لأجل هو شهران.
وما عدا ذلك من الصور الباقية فجائز.(1)
يلاحظ على ما سبق أمور:
إذا تساوى الأجلان أو الثمنان، فالحكم الجواز.
المستفيد الحقيقي في الصورتين الممنوعتين الأولى والثانية هو البائع، إذ عادت إليه السلعة التي باعها، وقد ثبت له في ذمة المشتري مال أكثر ممَّا دفعه له.
في الصورة الثالثة: المستفيد هو المشتري، لأنه قد ثبت له في ذمَّة البائع مال أكثر ممّا يدفعه هذا المشتري عند حلول الأجل الأوّل، يستلمه عند حلول الأجل الثاني.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3/78.(1/87)
فكأن البائع في الصورة الأولى والثانية قد أقرض المشتري مالاً وأخذ عليه أكثر منه، وكذا المشتري في الصورة الثالثة، كأنه أقرض البائع عند حلول الأجل الأول مالاً يأخذ أكثر منه عند حلول الأجل الثاني، فأشبه ذلك قرضاً جرَّ نفعاً، وإنما السلعة واسطة أدخلت للتحليل. فحرَّم المالكية تلك الصور الثلاثة سدَّاً لذريعة الربا.
أمّا بقية الصور، فلا وجه للذرائع الربوية فيها، إذ لا يمكن مثلاً لمن يبيع ساعةً بعشرة مثلاً إلى أجل، ثم يشتريها باثني عشر حالةً أو لأجل أقلَّ من الأجل الأول أن يستفيد من هذا العمل مالاً زائداً مقابل ما دفعه، أو أن يحصل على السيولة مقابل زيادة يدفعها لاحقاً فيفيد المشتري.
وما كان المالكية ليقولوا بتحريم تلك الصور الثلاث من بيوع الآجال، لو لم يكثر قصد الناس التوصل إلى الربا بهذه البيوع، فلمّا كثر قصد الناس بها التوصل إلى الربا، حكموا على هذه الصور الثلاث بالحرمة، حتى ولو لم يقصد العاقد فيها حقيقةً التوصل إلى الربا في بعض الأحوال، بل حقيقة البيع والشراء، وما ذاك إلا بناءً على مبدئهم بالتوسع في سد الذرائع كما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.
يقول الشيخ محمد علي(1) في تهذيب الفروق عن بيوع الآجال المحرّمة:( وإن كانت على صورة بيع الجائز في الظاهر إلا أنها لمّا كثر قصد الناس التوصل إلى ممنوع في الباطن كبيع وسلف، وسلف بمنفعة، منعت قياساً على الذرائع المجمع على منعها، بجامع أن الأغراض الفاسدة في كل هي الباعث على عقدها )(2).
__________
(1) محمد على بن الشيخ حسين فقيه المالكية، مقدمة كتاب الفروق. لم أعثر له على ترجمة.
(2) تهذيب الفروق للشيخ محمد علي، مطبوع مع كتاب الفروق للقرافي: 3/275.(1/88)
والخلاصة: لا ضابط ولا عِلَّة للمالكية في حرمة صورة دون أخرى من بيوع الآجال إلا كثرة القصد إلى ممنوع أو عدمه، وحتى يعلم هذا القصد الممنوع شَرَط المالكية شروطاً جعلوا توفّرها قرينة على إرادة الربا الممنوع، فبتوفرها يحكم على المسألة بالمنع، وبفقدها يحكم عليها بالصحّة.
وهذه الشروط عند مالك هي:
أن تكون البيعة الأولى لأجل.
أن يكون المشتري ثانياً هو البائع أولاً أو من ينزل منزلته.
أن يكون البائع ثانياً هو المشتري أولاً أو من ينزل منزلته.
أن يكون المشترى ثانياً هو المبيع.
أن يكون جنس ثمن الشراء الثاني من جنس الثمن الذي باع به أولاً.(1)
بناءً على ما سبق، يمكن القول: إن حكم بيوع الآجال عند المالكية حال توسط شخص ثالث هو حكمها حال عدم توسط ذلك الشخص ما دام إدخال الثالث لغرض التحليل. أما إن لجأ المشتري إلى بيع ما اشتراه من البائع في السوق، فالمسألة مكروهة كما ذكره بعضهم، كما سيأتي.
العينة عند المالكية:
سبق أن رأينا انطباق تعريف العينة عند المالكية على نحو مسألة الباب، ولكن ما صور العينة عندهم وهل جميعها في الحكم سواء ؟
ذكر المالكية صوراً للعينة عَدَّدوا منها جائزاً ومكروهاً ومحظوراً.
أما المباح الجائز: فكالرجل يقول للرجل: أعندك سلعة كذا، فينقلب المسؤول على غير مواعدة، فيشتري تلك السلعة ثم يلقى السائل فيقول: تلك السلعة عندي. فيبيعها إليه، فله أن يبيعها بما شاء من نقدٍ أو نسيئة دون كراهة، ما لم يكن ثمَّ تعريض بالربح من قِبَل المشتري، أو مواعدة بينهما على الشراء، أو عادة جرت بذلك، فتخرج المسألة عندهم من حيِّز الجائز المباح.(2)
__________
(1) تهذيب الفروق للشيخ محمد علي: 3/275.
(2) مواهب الجليل للحطّاب: 4/404.(1/89)
وأمّا المكروهة: فهي أن يقول رجل لآخر: اشتر سلعة كذا حتى أبتاعها منك وأربحك فيها. دون أن ينص على قدر الربح، ولو أومأ له بالربح إيماءً من غير ذكر لفظ ربح، فتلحق بالصورة الأولى، وهي عدم الكراهة، كأن يقول له: اشتر سلعة كذا ولا يكون إلا خيراً.
قال الدردير: ( وكره: اشتره ويومئ لتربيحه ـ مراده بالإيماء هنا ذكر الربح من غير تسمية قدره ـ فإن صرّح بقدر الزيادة حرم، وإن أومأ من غير تصريح بلفظه نحو: ولا يكون إلا خيراً، جاز )(1).
وألحق المالكية بالعينة المكروهة ما مسمّاه صورة من صور العينة عند الجمهور، لا تعود فيها السلعة إلى البائع، وهي التورّق بمصطلح الحنابلة، وهي صورة أن يقول رجل لآخر أسلفني ثمانين، وأردّ لك مائة. فيقول الثاني ـ درءاً للربا ـ بل خذ مني بمائة إلى أجل ما قيمته ثمانون حالَّة؛ أي فيدذهب، فيبيعه في السوق بثمانين.(2)
والمالكية، وإن كانوا يعنون بالكراهة الحرمة أو الإثم أحياناً، إلا أنهم في هذه الصورة، لم يبلغوا بالكراهة درجة الفسخ مع أن المسألة فيها ذريعة الربا !!(3) وسيأتي التعليق على هذه الصورة لاحقاً.
أمّا المحظورة: فهي إذا ما راوض المشتري البائع على الربح كأن قال له: اشتر سلعة كذا بعشرة دراهم نقداً، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل.(4)
وسبب تفريق المالكية في الحكم بين هذه الصور الثلاث يعود لسببين:
__________
(1) حاشية الدسوقي: 3/89.
(2) التاج والإكليل للمّواق (مطبوع بهامش مواهب الجليل): 4/405
(3) منح الجليل للشيخ عليش: 5/105، مواهب الجليل للحطّاب: 4/405.
(4) مواهب الجليل للحطّاب: 4/405.(1/90)
الأول: أنهم أعطوا الاتفاق السابق بين الآمر الراغب بالشراء والمأمورشبهة العقد، فأورث ذلك شُبهاً منها أن المأمور البائع يبيع ما ليس عنده؛ فكان حكمهم على المسألة مرتبطاً بقدر قرب هذا الاتفاق إلى العقد، ومعياره هنا وضوح عنصر الثمن؛فكانت الصورة الأولى والثانية، حيث لا نص على قدر الثمن جائزة مع الكراهة أو بدونها، وكانت الصورة الثالثة محظورة، لتوفر عنصر الثمن معلوماً بيّناًًًًًًً.
الثاني: أن هذه المسألة قد تنطوي على شبهة الربا برغبة البائع بتحقيق ربح مضمون من المشتري، بتمويله بالثمن وقد عجز المشتري عن دفعه نقداً ابتداءً؛ فكان ذكر الربح مورثاً للكراهة، والنص على قدره مورثاً للحظر، لأنه أدل على تحقق فائدة البائع من جرّاء قيامه بالعمل التمويلي (بحسب مفهوم المالكية) وسيأتي مزيد بيان لهذا لاحقاً.
صورٌ للعينة المحظورة:
وذكر المالكية أنه لو قال: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا آخذها منك باثني عشر نقداً. فهي ممنوعة أيضاً رغم انعدام الأجل، ووجه المنع اجتماع السلف والإجارة، وفي ذلك شبهة بالربا، إذ أن المأمور هنا أجير للآمر ليشتري السلعة له بدليل قول الآمر: ( لي)، ولكن المأمور هنا لا يستحق أجراً (ربحاً) نظراً لأنه دفع الثمن من عنده ليرجع إلى الآمر، ولو صحَّ له أخذ الأجرة عن الإجارة، لأدّى ذلك إلى شبهة أخذها مقابل سلفه للآمر لا للإجارة، ويكون قول الآمر حينئذ:( وأنا آخذها منك ) لغواً لا معنى له، لأن العقد له وبأمره، فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط مسبق، فذلك جائز لانتفاء شبهة السلف حينئذ، فتنتفي شبهة الربا.(1)
__________
(1) المدونة للإمام مالك: 5/401.(1/91)
ولو كان شراء الآمر بثمن آجل في هذه الصورة بأن قال: اشترها لي بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر إلى أجل. فيحرم أيضاً لذات العلة السابقة ( اجتماع السلف والإجارة )، بل إن وجود الأجل هنا يؤكد أن نقد الثمن هو عن الآمر، فتتأكد شبهة قرضٍ بزيادة ؛ ولو وقعت تلك الصورة، فالحكم عند المالكية أن السلعة تلزم الآمر، لأن الشراء كان له وبأمره، وعندئذ يعطي المأمورَ ما نقد فعلاً ويكون له أجر مثله فقط!!(1)
ولو قال الآمر للمأمور: اشتر سلعة كذا بعشرة نقداً، وأنا آخذها منك باثني عشر نقداً. فلا بأس عند المالكية بهذا على الراجح مادام الآمر لم يقل:( لي ) أو:(انقد عني)، لأن الشراء حينئذ لذات المأمور لا للآمر، وشبهة الربا مندفعة بانتفاء الأجل. ومع ذلك نرى الإمام مالكاً قال مرَّةً بحرمة هذه الصورة بحجّة المرواضة التي وقعت بين الآمر والمأمور قبل دخول السلعة في ملك المأمور (2). وسيأتي تفصيل ذلك وتفسيره إن شاء الله تعالى.
وتجدر الإشارة إلى أن العينة عند المالكيّة كالآجال، إذا ما أطلقوها، عنوا بها المحرّم منها، وهو ما قلدتهم فيه.
التفريق بين بيوع الآجال وبيوع العينة عند المالكية:
السؤال الآن: ما مدى صلة بيوع الآجال ببيوع العينة عند المالكية، ولمَ لم يجعلوهما نوعاً واحداً، وما مدى التفريق بينهما ؟
__________
(1) المرجع السابق: 5/402.
(2) منح الجليل للشيخ عليش: 5/109، المدونة للإمام مالك: 5/402.(1/92)
من استقراء تطبيقات المالكيّة وفروعهم في صور مسائل الآجال والعينة، يمكن أن يقال بأن من المالكيّة من أطلق بيوع العينة لتشمل بيوع الآجال، بجامع الاشتراك في علَّة التحيل على الربا. يقول القاضي عياض(1) في بيع العينة: (هو أن يبيع الرجلُ الرجلَ السلعة بثمن معلوم إلى أجل، ثم يشتريها منه بأقلَّ من ذلك الثمن، أو يشتريها بحضرته من أجنبي، ثم يبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها به إلى أجل، ثم يبيعها هذا المشتري الأخير إلى البائع الأول نقداً بأقلَّ مما اشتراها به)(2).
فقد دلَّ عياض في تفسيره للعينة على بيوع الآجال، حيث تعود السلعة إلى بائعها (مالكها الأول في المسألة ) وقد استفاد منها بدفع قليل في كثير، دون واسطة في الصورة الأولى، وبواسطة في الصورة الثانية، مع الاتفاق سلفاً على دخول هذه الواسطة لغرض التحليل، وتلك هي بيوع الآجال المحرَّمة عند المالكية كما سبق حين الحديث عن بيوع الآجال عامةً، ولعلّ ممّا يُعين على إمكان القول بشمول بيوع العينة لبيوع الآجال تعريفُ ابن عرفة للعينة بأنها (البيع المتحيل به إلى دفع عين في أكثر منها). ومثَّل له بما إذا باع سلعةً بعشرة إلى شهر ثم اشترى السلعة بخمسة نقداً (3)، وهذه صورة من صور بيوع الآجال المحّرمة عند المالكية كما رأينا.
__________
(1) عياض بن موسى، أبو الفضل، القاضي، ولد في سبته في المغرب سنة 476هـ، فقيه مالكي، مفسر، محدث، تولى قضاء سبته ثم غرناطه، من كتبه: (الشفا بتعريف حقوق المصطفى )، (شرح صحيح مسلم) توفي بمراكش سنة 544هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/212.
(2) مواهب الجليل للحطاب: 4/404.
(3) حاشية الخرشي: 5/105.(1/93)
وعرَّف الخرشي بيع العينة بأنه: ( دفع قليل في كثير ) (1) وهو تعريف عام يشمل بيوع الآجال والعينة، حيث يدفع البائع إلى المشتري عيناً لينال أكثر منِ قيمتها متحيلاً، عندما يستفيد من فارق الثمن مقابل الأجل. وقد تعود السلعة إلى مالكها وقد لا تعود، وقد يقتنيها المشتري وقد يبيعها، ولعلَّ اشتقاق العينة حينئذ يكون من مطلق العون، حيث يعين كل من البائع والمشتري صاحبه في الحصول على بغيته.
ولكنَّ القول بإطلاق بيوع العينة لتشمل بيوع الآجال مقابل بأقوالٍ وتعريفات كثيرة تدل على اختصاص بيع العينة عند المالكيَّة بصورة طلبِ رجلٍ من آخر شراء سلعة وليست لديه، ليبيعها إليه بثمن أعلى نقداً أو نسيئة.
يقول الدردير في الشرح الكبير:( العينة هي بيع من طلبت منه سلعة للشراء وليست لديه لطالبها بعد شرائها ).(2)
ويقول ابن رشد الحفيد عن بيع العينة:( هو بيع الرجل ما ليس عنده )(3).
ويقول الدردير عن أهل العينة:(قوم نصبوا أنفسهم لشراء السلع منهم وليست لديهم)(4).
ونحو هذه الأقوال كثير، وكلها تفيد أن بائع العينة يبيع ما ليس عنده، أي ينطبق على صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء، ولعل وجه تسمية العينة حينئذ هو أن البائع يحقق قصد المشتري في الحصول على السلعة (العين) وليس لديه ثمنها.
وممّا يقوي تميز بيوع العينة عن بيوع الآجال عند المالكية: أننا نجد صوراً من بيوع العينة قد قيل بتحريمها ولا ذكر للأجل فيها، وذلك كما لو قال: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً.(5)
__________
(1) المرجع والموضع السابقين.
(2) الشرح الكبير للدردير: 3/88.
(3) بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/116.
(4) الشرح الكبير للدردير: 3/88.
(5) المدونة للإمام مالك: 5/401.(1/94)
ثم إنه باستقراء مسائل بيوع الآجال المحرّمة، ومن ضوابطها التي ذكرها الإمام مالك، يتبيّن لنا أن السلعة ترجع إلى بائعها الأوّل، بواسطة أو بغير واسطة، أي أن تملك السلعة ليس مقصوداً حقيقة، بل السلعة أدخلت للتحليل، والقصد الحقيقي هو القرض الربوي.
والأمر مختلف في بيوع العينة بمفهومها الخاص عند المالكية، فالسلعة غالباً ما تكون مقصودة بالشراء، ولكن مع ذلك دخلها الربا في بعض صورها ومحاذير أخرى فقيل بحرمتها.
أمّا شبهة الربا في بيوع العينة المحرّمة، فلأصل الإمام مالك ومبدئه في البيوع. يقول ابن جزيّ حاكياً مذهب الإمام مالك، رحمهما الله تعالى:( أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة كذا وأربحك فيها كذا. مثل ان يقول اشترها بعشرة وأعطيك فيها خمسة عشر إلى أجل. فإن هذا يؤدي إلى الربا، لأن مذهب الإمام مالك أنه ينظر إلى ما خرج عن اليد ودخل به ويلغي الوسائط )(1).
وقال ابن عبد البرّ(2) بعد أن نقل تحريم العينة عن الإمام مالك وانه المذهب: (وتفسير ما ذكره مالك وغيره في ذلك، أنها ذريعة إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل)(3). وتحليل ذلك: أن الربا يتسلل إلى بيع العينة بمعناه الخاص عند المالكية من وجهين مع أن تملك السلعة قد يكون مقصوداً.
أمّا الوجه الأوّل: فهو أن بائع العينة استعان بالمشتري على تحقيق مقصوده في دفع مال والحصول على أكثر منه كما سبق من قول الدردير في تعريفه للعينة.
وقد يقال هنا بأن ذلك شأن التجارة، فكل بائع يشتري بقليل ويبيع بكثير !!
__________
(1) القوانين الفقهية:ص 257.
(2) ابن عبد البرّ: يوسف بن عبد الله، ولد بقرطبة سنة 338هـ، فقيه مالكي، محدِّث، مؤرخ، أديب، تولى القضاء، له كتب كثيرة منها: ( الاستيعاب في معرفة الأصحاب ) توفي في شاطبة بالأندلس سنة 463هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 18/153.
(3) الاستذكار لابن عبد البرّ: 19/252.(1/95)
الجواب بأن المالكية قيدوا التعامل في مسألة العينة مع قوم لا تجارة لهم ولا سلع، وإنما همهم الشراء للناس، ثم بيع السلع لهم. فقد ذكروا صور العينة الجائز منها والمكروه والمحرّم وقالوا في كلٍ:( أن يمرّ الرجل بالرجل من أهل العينة فيقول له000)(1)
ويقول الدردير:( وأهل العينة قوم نصبوا أنفسهم لشراء السلع وليست عندهم 000)(2).
إذن، فأهل العينة ليسوا تجّار سلع، وإنما دأبهم تصيُّد حاجات الناس واضطرارهم، فكان عملهم تمويلياً لا تجارياً.
أمّا الوجه الآخر ـ وهو وجه نفع المشتري ـ فهو أن المشتري المحتاج إلى سلعةٍ ما وليس لديه ثمنها، ولا يعرف من يقرضه ذلك الثمن أو تاجراً يبيعها له بأجل، لجأ إلى شخص آخر هو بائع العينة فأمره بشراء تلك السلعة، ومن ثم ليبيعها له بربح إلى أجل، بدل الاستقراض منه بفائدة لشراء تلك السلعة التي هو محتاج إليها.
فبائع العينة إذاً حصل على قصده في دفع قليل نقداً، لينال أكثر ممّا دفع إلى أجل. وكذلك المشتري حقق قصده في الحصول على السلعة وليس لديه ثمنها، بدفع مالٍ مؤجل زائد عن قيمتها الحقيقية إلى شخص مموِّل، وفي هذا شبهة الربا.
__________
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد):2/55-56.
(2) الشرح الصغير للدردير: 3/77.(1/96)
خلاصة: يتبين مما ذكر وجه الربا في بيع العينة عند المالكية، وهو ذاته في بيوع الآجال عندهم، حيث تؤول جميع تلك البيوع إلى سلف ومنفعة، أي قرض بربا. وبهذا تلتقي بيوع الآجال مع بيوع العينة في علَّة الحرمة، فكلاهما حيلةٌ على الربا، حيث يستغلُّ البائع في بيوع الآجال وبيوع العينة حاجة الناس لينال قصده من دفع قليلً في كثير متحِّيلاً، حتى جعل المالكية أهلهما سواء، فكان من يتعامل ببيوع الآجال هم من أهل العينة كما ذكر ابن رشد في مقدِّماته:( إذا باع الرجل من الرجل سلعةً ثم اشتراها منه بدين أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بنقد 0000 فإنك تنظر في هذا إلى الذي أخرج دراهمه أولاً فإن كان رجع إليه مثلها أو أقلّ فذلك جائز، وإن رجع إليه أكثر منها، نظرنا فإن كانا من أهل العينة أو أحدهما لم يجز ذلك بحال000 وذلك أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحّة لعملهم المكروه )(1).
وهكذا نجد اشتراكاً في علّة حرمة بيوع الآجال وبيوع العينة، حتى وجدنا من يُتَّهمُ في أحدهما متَّهماً في الآخر، ولكن مع ذلك وجدنا تفريقاً وتمييزاً عند المالكية بين هذين البيعين في كتبهم، فلم كان هذا التفريق ؟
__________
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد): 2/42.(1/97)
الواقع أن المالكية نظروا في صور بيوع العينة فوجدوها قد جمعت إلى جانب شبهة الربا الصريح والتحيل عليه محاذير أخرى مؤيّدةً بنصوص في هذه البيوع، هذه المحاذير لا نجدها في بيوع الآجال، فتقوّى جانب التحريم في حق بيوع العينة بسببها، بل تكفَّلت بعض تلك المحاذير منفردةً بتحريم بعض صور العينة كما سيأتي، كل ذلك استدعى تمييز بيوع العينة عن بيوع الآجال. ثمَّ إن من العينة مسائل لا نصَّ فيها على الأجل، فلا يمكن أن تشملها بيوع الآجال فتنضبط بعلَّتها مع أنها محرَّمة لشبهة من شبه الربا، وذلك كما لو قال رجل لآخر: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً، فإننا لا نرى في هذه الصورة أجلاً، والنصّ على الأجل شرط من شروط حرمة بيوع الآجال كما سبق أن رأيناها في شروط الإمام مالك، مع ذلك، فهذه الصورة حرام لموقعها من الربا، إذ علَّل المالكية حرمتها بأن المأمور أجير على شراء السلعة للآمر بدينار لأنه إنّما اشتراها للآمر، بدليل قول الآمر: (اشتر لي) فيتحقق في المسألة اجتماع السلف وإجارة كما سبق تفصيله في صور بيع العينة المحرّمة (1)، واجتماع الإجارة مع السلف أصل من أصول الربا كما يقول المالكية، حيث إن الإجارة نوع من البيع، وهو بيع المنافع، وبيع وسلف أصلٌ من أصول الربا كما يقول ابن رشد.(2)
أمّا تلك المحاذير التي أوجبت تفرد صورة العينة المحرّمة عن بيوع الآجال عند المالكية، فهي مما سبق أن نصَّ عليه الإمام الباجي في المنتقى:
بيعتان في بيعة. وذلك إذا أخذنا ظاهر انطباق هذه الشبهة على مسألة الباب لا مضمونها كما سيأتي.
بيع ما ليس عند البائع.
وهذه المحاذير تجمع بين خطر الغرر والجهالة والربا، على اختلاف في صورها وتفسيرها بين الفقهاء كما سيأتي.
المبحث الثاني
شبهة البيعتين في بيعة
__________
(1) انظر ص (93) من هذا البحث.
(2) تهذيب الفروق للشيخ محمد علي ( مطبوع بهامش الفروق للقرافي ):3/275.(1/98)
أولاً ـالأحاديث الواردة في البيعتين في بيعة:
عن أبي هريرة (1) رضي الله تعالى عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة ))(2).
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ))(3).
عن ابن مسعود(4) رضي الله تعالى عنه قال: (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة ))(5).
الكلام في الأسانيد:
حديث أبي هريرة الأول صحَّحه الترمذي(6) وقال: حديث حسن صحيح.(7)
__________
(1) أبو هريرة:عبد الرحمن بن صخر الدوسي،ولد سنة41 قبل الهجرة،من الستة المكثيرين للحديث، دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفظ فكان يحفظ فلا ينسى،روى(5374)حديثاً توفي سنة 57هـ.الإصابة:7/425.
(2) الترمذي في السنن 4/226. كتاب البيوع. باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة رقم (1231).
النسائي في السنن: 7/295. كتاب البيوع. باب بيعتين في بيعة، حديث رقم (2632).
أحمد في المسند: 2/586 رقم (6639).
(3) مختصر سنن أبي داود: 5/97. كتاب البيوع. باب بيعتين في بيعة. حديث رقم (3316).
البيهقي في السنن الكبرى: 5/343. كتاب البيوع. باب النهي عن بيعتين في بيعة.
(4) ابن مسعود:عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب،أبو عبد الرحمن،من السابقين إلى الإسلام،أول من جهر بقراءة القرآن الكريم، روى (848) حديثاً، توفي بالمدينة سنة 32هـ.الإصابة لابن حجر العسقلاني:4/233.
(5) أحمد في المسند: 2/55 حديث رقم (3783).
الطبراني في الأوسط: 2/364 رقم (1633).
(6) الترمذي: محمد بن عيسى بن سوره، ولد بترمذ على نهر جيحون سنة 209هـ، تتلمذ على الإمام البخاري،من كتبه أيضاً: (العلل)، توفي سنة 179هـ. سيرأعلام النبلاء للذهبي: 13/270.
(7) سنن الترمذي: 4/ 226.(1/99)
أما الحديث الثاني فقد قال فيه الحافظ المنذري في مختصر السنن: في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة(1)، وقد تكلَّم فيه غير واحد.(2) وقال فيه الشوكاني(3) كذلك، وروى عن الخطابي(4) قوله: لا أعلم أحداً أخذ بظاهر الحديث وصحّح البيع بأَوْكَس الثمنين إلا ما حكي عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد.(5)
وأما الحديث الثالث، فهو من رواية عبد الرحمن(6) بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، وفي سماعه منه كلام، حيث ذكر أن أباه توفي وهو ابن ست سنين. وقد أورده الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير وسكت عنه.(7)
__________
(1) محمد بن عمرو بن علقمة: إمام محدث،صدوق، وقال الجوزجاني فيه: ليس بالقوي، وقال النسائي فيه: ليس فيه بأس. توفي سنة 145هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/136
(2) مختصر السنن للمنذري: 5/98.
(3) الشوكاني: محمد بن علي الشوكاني، الصنعاني، وشوكان مكان في اليمن، ولد سنة 1173هـ فقيه، مجتهد، مفسر، أصولي، قاضٍ، مفتٍ، كان يرى وجوب الاجتهاد وتحريم التقليد، من كتبه: (ارشاد الفحول) في أصول الفقه، توفي بصنعاء سنة 1250هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 6/298.
(4) الخطّابي:محمد بن محمد، أبو سليمان،ولد سنة 319هـ، من نسل زيد بن الخطّاب أخو عمر بن الخطاب، من كتبه (أعلام السنن) في شرح صحيح البخاري، توفي سنة 388هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/23.
(5) نيل الأوطار للشوكاني: 5/162.
(6) عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، تكلموا في روايته عن أبيه لصغره، وقال ابن معين: سمع من أبيه، وقال مرّة: لم يسمع منه، وروايته من أبيه في السنن الأربعة.ميزان الاعتدال للذهبي: 2/573.
(7) التلخيص الجبير لابن حجر العسقلاني: 3/12.(1/100)
وقال الهيثمي(1) في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات (2) وروي موقوفاً، وهو كذلك (موقوف) عند أحمد في الحديث رقم (3725).(3)
فأحاديث البيعتين في بيعة لا يخلو بعضها من ضعف، وثمّ من صحح بعضها.
ثانياً ـ معنى البيعتين في بيعة:
وردت تفسيرات كثيرة في معنى البيعتين في بيعة، فقد قيل معناها:
أن يذكر البائع ثمنين مختلفين في السلعة زيادة ونقصاً لاختلاف صفة الثمن، أو أحدهما حالّ والثاني مؤجل، ويتفرقا من غير أن يتفقا على أحدهما. وكذلك إن اختلف أحد المثمّنين أي المبيعين.
مثال الأول: أن يقول البائع: بعتك بعشرة دراهم مكسّرة أو بتسعة صحاحاً.(4)
مثال الثاني: أن يقول: بعتك داري بألفٍ نقداً أو بألفين نسيئة، فخذ أيهما شئتَ أو شئتُ أنا. وهذا التفسير للإمام الشافعي.(5)
أما اختلاف المثمّنين فمثاله أن يقول: بعتك هذا الكتاب بمائة أو هذا القلم بعشرة.
أن يشترط أحد المتبايعين على الآخر عقداً آخر، كقرض أو صرف أو إجارة، كأن يقول البائع مثلاً: بعتك هذه الدار على أن تقرضني ألف دينار. وهذا تفسير آخر للإمام الشافعي.(6)
__________
(1) الهيثمي: علي بن أبي بكر، ولد بصحراء مصر سنة 735هـ، من حفّاظ الحديث، من كتبه: (تقريب البغية في ترتيب أحاديث الحلية)، توفي بالقاهرة سنة 807هـ.الأعلام للزركلي 4/266.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي: 4/151. كتاب البيوع. باب ما جاء في الصفقتين في صفقة أو الشرط في البيع. عند الحديث رقم (6382).
(3) مسند الإمام أحمد: 2/5. قال فيه أحمد: موقوف على ابن مسعود.
(4) المغني لابن قدامة: 6/333.
(5) سبل السلام للصنعاني: 3/31. شرح سنن الترمذي لابن العربي: 5/239-240.
(6) مغني المحتاج للشربيني: 2/381. سبل السلام للصنعاني: 3/32(1/101)
أن يقول البائع: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالّة. ورجّحه ابن القيم.(1) أو ان يقول: أبيعكها بثمانين نقداً على ان أشتريها منك بمائة إلى أجل.
أن يقول البائع: بعتك هذا بعشرة دنانير مثلاً على ان تعطيني بها صرفها دراهم. وقال باحتمال هذا الوجه من التفسير فقهاء منهم الإمام الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، إذ يجتمع حينئذ البيع مع الصرف في عقد واحد.(2)
ثالثاً ـ أقوال الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة:
رأينا كيف أن في البيعتين في بيعة معانيَ كثيرة، ولعلَّ الراجح منها تلك الصور التي يذكر فيها ثمنان أحدهما أقل من الآخر، نظراً لموافقتها رواية: ( فله أوكسهما أو الربا ) حينئذ. ومعنى أوكسهما: أقلهما. وهذا يحتمل تفسير البيعتين في بيعة على المعنى الأول، كما لو قال: بعتك داري هذه بألفٍ نقداً أو بألفين نسيئة ؛ ثم افترقا من غير أن يتفقا على أحد الثمنين.
ويحتمل أيضاً التفسير على المعنى الثالث، وهو أن يقول له: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالّة. وهو مضمون العينة عند الجمهور، والآجال عند المالكية.
وقد عرفنا حكم ذلك إبّان الحديث عن العينة وبيوع الآجال.
أمّا حكم البيعتين في بيعة على المعنى المرجح الأول وهو ( أبيعكها نقداً بكذا ونسيئةً بكذا ) أو عند اختلاف صفة الثمنين وأحدهما أكثر من الآخر مع الافتراق دون تحديدٍ لأحدهما فمذاهب الفقهاء فيه على النحو التالي:
__________
(1) تهذيب السنن لابن القيم: 5/106.
(2) شرح سنن الترمذي لابن العربي: 5/239-240.(1/102)
ذهب الجمهور من الحنفيّة والحنابلة والشافعية إلى فساد هذا البيع في هذه الصورة للجهالة، ويصح العقد إن زالت الجهالة في مجلس العقد عند الحنفيّة، نظراً لأن مجلس العقد يجمع المتفرقات. والمقصود بالجهالة جهالة الثمن، إذ لم يجزم بأحد الثمنين، ممّا يورث جهالة في العقد وتنازعاً.(1)
أما المالكيّة: ففرَّقوا بين أن يكون العقد لازماً بأحد الثمنين أو غير لازم، فإن كان لازماً لأحد الثمنين، فالحكم الفساد عندهم ؛ وإن كان غير لازم، فالحكم الصحّة، نظراً لأنهم لم يعلِّلوا فساد المسألة بما علَّل به الجمهور من جهالة الثمن والغرر، بل علَّلوا بالذريعة الربوية التي يمكن أن تؤدي إلى الربا. وتفسير ذلك أن المشتري قد يختار أولاً في قرارة نفسه إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجَّل أو المعجَّل، ثم يبدو له غير ذلك، فيكون حينئذ قد ترك أحد الثمنين إلى الآخر، أي كأنه باع أحد الثمنين بالثمن الآخر، وسبب ذلك أنه عندما اختار في قرارة نفسه أحد الثمنين فكأنَّما ملك السلعة به، والحال أن العقد لازم على كل حال، ثم غيَّر رأيه واختار الثمن الآخر، فقد آل الأمر إلى أنه استبدل ثمناً عاجلاً بآخر آجلٍ مع تفاضل أو العكس. وهذا هو الربا.
أمّا إذا كان الخيار للمشتري بعدم التزامه بالبيع أصلاً، فَتَنْتَفي هذه الشبهة، لأن العقد غير لازم أصلاً، فلا عبرة حينئذٍ بالانتقال من ثمن إلى ثمن في اختيار المشتري مادام غير لازم في حقِّه، ولم يصرِّح بإنفاذه البيع بأحد الثمنين.(2)
قال الإمام مالك في رجل ابتاع سلعةً من رجل بعشرة دنانير نقداً، وبخمسة عشر إلى أجل وقد وجبت للمشتري بأحد الثمنين:( إنه لا ينبغي ذلك، لأنه إن أخَّر العشرة، كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن نقد العشرة، كان إنَّما اشترى بها الخمسة عشر إلى أجل ).
__________
(1) المهذب للشيرازي: 1/266. بدائع الصنائع للكاساني: 5/158. المغني لابن قدامة:6/ 333.
(2) بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/116.(1/103)
فسَّر الزرقاني(1) ذلك بنحو ما فسَّره به ابن رشد فقال:( لجواز أنَّ من له الخيار اختار أولاً إنفاذ البيع بأحد الثمنين، ثم بدا له فلم يظهره وعوَّل على الآخر )(2).
هذا ونجد ابن جُزيّ(3) من المالكية، خلافاً لهم، قد علَّل عدم صحَّة هذه الصورة من معاني البيعتين في بيعة بما علَّل به الجمهور من الغرر والجهالة.(4)
رابعاً ـ وجه ارتباط شبهة بيعتين في بيعة بالمرابحة للآمر بالشراء عند المالكية:
أورد الإمام مالك مسألة ( ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل ) في باب البيعتين في بيعة، وذكر أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كرهه ونهى عنه، فكان الإمام مالك يرى أن هذا البيع من قبيل البيعتين في بيعة.
وتفسير انطباق هذه المسألة على البيعتين في بيعة من وجهين:
الأوّل: ما فسّره الباجي بقوله: ( ولا يمتنع أن يوصف بذلك، من جهة أنه انعقد بينهما ـ أي بين البائع المأمور والمشتري الآمر ـ أن المبتاع للبعير بالنقد إنما يشتريه على أنه لزم مبتاعه بأجل بأكثر من ذلك، فصار قد انعقد بينهما عقد بيع تضمَّن بيعتين، إحداهما الأولى وهي بالنقد والثانية المؤجَّلة )(5).
__________
(1) الزرقاني: محمّد بن عبد الباقي، أبو عبد الله، مصري، ولد بالقاهرة سنة 1055هـ، فقيه، محدّث، منسوب إلى زرقان: قرية في مصر، من كتبه: (شرح الموطأ)، (شرح البيقونيه) في مصطلح الحديث، توفي بالقاهرة سنة 1122هـ. شجرة النور الزكيّة لمحمّد خلّوف: ص317.
(2) شرح الزرقاني على الموطأ: 3/312.
(3) ابن جُزيّ: محمد بن أحمد، أبو القاسم، ولد سنة 693هـ، فقيه مالكي، برع في علوم كثيرة، من مصنفاته: (القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكيّة)، استشهد في موقعة طريف، وهي جزيرة في البحر، سنة 741هـ. الأعلام للزركلي: 5/325.
(4) القوانين الفقهية لابن جُزيّ: ص255.
(5) المنتقى للباجي: 5/38-39.(1/104)
وتفسير الباجي هذا يدلُّ على أن ذلك الاتفاق الذي كان بين الآمر والمأمور، كان له قوة العقد، حتى كان هذا الاتفاق هو البيعة التي تضمَّنت بيعتين: البيعة الأولى: شراء المأمور السلعة، والثانية: شراء الآمر من المأمور، وكلاهما بمقتضى الاتفاق ( البيعة ) الأوّل. ويؤكّدُ هذا قوله: ( قد انعقد بينهما عقد بيع تضمن بيعتين إحداهما الأولى وهي بالنقد، والثانية المؤجلة ).
الثاني: ما عبَّر عنه الزرقاني وعدل عن تفسير الباجي إليه بقوله: ( لأن مبتاعه بالنقد ـ أي مبتاع البعير في مسألة: ابتع لي هذا البعير بنقد حتى ابتاعه منك إلى أجل ـ إنما ابتاعه على أنه لزم مبتاعه لأجل بأكثر من ذلك الثمن، فتضمن بيعتين: بيعة النقد وبيعة الأجل )(1) ولم يزد الزرقاني على قوله ذلك.
وتفسير كلام الزرقاني أنَّ ذلك الاتفاق بين الآمر والمأمور جعل العقد الذي يبتاع فيه المأمور بالشراء السلعة المأمورّ بشرائها عقداً مركباً، حيث إنه سيبيع ما اشترى إلى الآمر بمجرد الشراء، تنفيذاً للاتفاق بثمن أعلى لأجل، فكأنه عقد تضمَّن بيعتين:الأولى بالنقد، وهي التي يشتري فيها المأمور السلعة، والثانية بالأجل، وهي التي يبيع فيها المأمور السعة للآمر.
__________
(1) شرح الموطأ للزرقاني: 3/311.(1/105)
فعلى ما سبق يكون المالكية قد أضافوا معنىً جديداً للبيعتين في بيعة، وهو ما صرَّح به ابن العربي في معرض حديثه عن معاني البيعتين في بيعة وسمّاه بيع ما ليس عندك.(1) ويكون هذا المعنى الجديد مستقلاًَّ في ظاهره عن كل المعاني السابقة للبيعتين في بيعة، ولكنه في جوهره، من وجهة نظر الإمام مالك، يشابه في مضمونه صورة (أبيعكها بمائة على أن أشتريها منك حالّة) وهو معنى من المعاني التي ذكرها ابن رشد الحفيد للبيعتين في بيعة ولكن بلفظ: أبيعكها بثمانين نقداً على أن أشتريها منك بمائة إلى أجل. ولا فرق بينهما (2)
أما وجه الشبه بينهما فحاصل إذا أخذنا مضمون صورة ( أبيعكها بمائة على أن أشتريها منك بثمانين حالّة ) وهو الجمع بين النقد والنسيئة في بيع واحد، وبيع دراهم عاجلة بأخرى آجلة أكثر منها، ولكن مع ملاحظة أن الشراء هنا صوري، إذ تملُّك السلعة ليس مقصوداً، وإنما لغرض الحصول على المال، أي بخلاف الحال في ( ابتع هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل ) إذ قد يبتاع الآمر هذا البعير من المأمور ليقتنيه، فيكون قاصداً تملّك المبيع. فأخذاً بالمضمون السابق، لعلَّ الإمام مالك قد رأى أن مريد شراء البعير لم يملك ما يشتري به البعير، ولم يعرف من يبيعه مثله نسيئة، ثم لم يجد من يقرضه ثمنه، فلجأ إلى رجلٍ يجد غنىً فأمره بشرائه بنقد ليشتريه منه إلى أجل، بدل أن يقترض بفائدة منه فيقعان في الربا الصريح. فتحقق بعمله ذلك مضمون قرض بفائدة وإن لم يكن صريحاً، على النحو الذي يجري في أبيعكها بمائة إلى أجل على أن أشتريها منك بثمانين حالّة، إذ كأن البائع هنا يدفع ثمانين قرضاً لينال مائة إلى أجل.
__________
(1) شرح سنن الترمذي لابن العربي: 5/239.
(2) بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/115.(1/106)
وأمّا وجه اعتبار صورة ( أبيعكها بمائة إلى أجل على أن أشتريها منك بثمانين حالّة ) من قبيل البيعتين في بيعة أصلاً، فهو أن في إقبال كلٍ من البائع والمشتري على تحقيق ما اتَّفقا عليه بيعتين: الأولى: التي تتم بالمائة إلى أجل، وهي الشراء من المالك. والثانية: التي تتمًّ نقداً، وهي شراء المالك ما باعه حالاًَّ. كل ذلك في صورة البيع الواحد، إذ ليست البيعة الأولى مقصودةً لذاتها، وإنما لتتمَّ البيعة الثانية، وكذلك الثانية لا يمكن النظر إليها باستقلالٍ عن البيعة الأولى، فكان الواقع فعلاً بيعة واحدة بين الطرفين تمَّت على شكل بيعتين. وسواء فيما سبق: ( أبيعك هذا الثوب بمائة على أن أشتريه منك بثمانين حالّة )، أو ( أبيعك هذا الثوب نقداً بثمانين على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بمائة ). إذ المضمون واحد، وإنما اختلف طالب العون، فهو المشتري في الأولى، والبائع في الثانية.
اعتراض وردّه:
قد يعترض على تفسير الزرقاني السابق بالقول بأن ذلك الاتفاق الذي كان بين الآمر والمأمور على الشراء والبيع لا يكون الآمر فيه ملزماً بالشراء إن اشترى المأمور السلعة، لأن ما بينهما محض مواعدة، فقد يشتري الآمر بعد أن يشتري المأمور السلعة، وقد لا يشتري، فكيف يقال بأن المأمور اشترى السلعة لتؤول إلى الآمر ؟ وهو ما عبَّر عنه الزرقاني بقوله: ( لأن مبتاعه بالنقد إنما ابتاعه على أنه لزم مبتاعه بأجل بأكثر من ذلك الثمن ).(1/107)
الجواب عن ذلك من وجهة نظر المالكية ـ والجواب هنا بإسقاط فائدة قيد (لي) لملاحظة عدم اعتباره في غالب نصوص المالكية واضطرابهم فيه (1)ـ بأنه لمّا كان المأمور إنما يشتري السلعة ليبيعها إلى الآمر بموجب الاتفاق السابق بينهما، لا ليبيعها في السوق أو ليقتنيها، فقد أثَّرت ملاحظة هذا الاتفاق حين شراء المأمور السلعة، فجعل هذا الشراء مركباً، إذ بُني عليه وبمجرد حصوله عقدٌ آخر هو شراء الآمر منه بأجل، وهو ما عبَّر عنه الزرقاني بقوله: ( لزم مبتاعه بأجل بأكثر من ذلك الثمن ). وهذا عند المالكية من باب التوسُّع في شبه الربا والاحتياط في بيوع الذرائع الربوية. يُقرُّ بذلك ابن العربي(2) من المالكية فيقول عن بيعتين في بيعة، وقد قال بأن أحد معانيها: صورة ( اشتر سلعة بكذا وأربحك فيها كذا ) وهو ما سمّاه ( بيع ما ليس عندك )، فقال: ( لا يمكن تفسيره به على التصربح إلا إذا شارطه عليه والتزم له ما يشتري، وأما إذا فاوضه فيه وأوعده عليه، فليس يكون حراماً محضاُ، ولكنه من باب شبهة الحرام والذريعة به )(3).
فانطباق البيعتين في بيعة على المسألة المذكورة، وقد خلت عن الإلزام، إنما هو من باب الاحتياط وسد الذرائع كما يقول ابن العربي.
ومثلُ الاعتراض السابق قد يوجَّه إلى تفسير الباجي، فكيف يكون لمسألة: ( ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل ) قوة العقد فتورث البيعتين في بيعة على ما فسَّره هو، مع أن ما صدر عنهما إنّما هو مجرد مواعدة لا عقد !؟
الجواب على هذا من وجهة نظر المالكية المتشددة في هذه المسائل من وجهين:
__________
(1) انظر ص (114) من هذا البحث، وانظر قول ابن العربي ص (123،124) من هذا البحث.
(2) ابن العربي: محمد بن عبد الله، أبو بكر، الإشبيلي، ولد سنة 468هـ، فقيه مالكي، تولى قضاء إشبيلية، من كتبه: (أحكام القرآن)، توفي سنة 543هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 20/197.
(3) شرح سنن الترمذي لابن العربي: 5/240.(1/108)
الأوّل: أن يكون الباجي قد بنى قوله ذلك على حالةٍ تشارط فيها الآمر والمأمور والتزما ما اتفقا عليه، ففي هذه الحالة يمكن أن يقال بأن ما حصل بينهما له قوة العقد مادام ملزماً، فيكون انطباق البيعتين في بيعة على تلك المسألة على التصريح كما قال ابن العربي، إذ ما أقبل المأمور حينئذ على الشراء، ولا اشترى الآمر من المأمور بعد ذلك، إلا تنفيذاً للاتفاق الملزم السابق بينهما، فهو اتفاق على بيع تضمن بيعتين، فكان بيعتين في بيعة.
الثاني: أن يكون قد قال بذلك من باب التوسع في الشبه، لأن مضمون العقد إنما هو التقاء إرادة طرفين على تنفيذ أمرٍ ما يترتب عليه التزام متقابل، مع شروط أساسية لا بُدَّ من توفرها فيه، كالعلم بالمبيع والعلم بالثمن، وسلامة المتعاقدين00000 وبقدر ما تتوفَّر هذه الأمور في اتفاقٍ ما، بقدر ما يقترب من العقد من حيث المضمون. يؤكد هذا أن المالكية قالوا فيما لو قال: ( اشتر سلعة كذا و أنا أربحك فيها ) من غير أن يتفقا على ربح محدّد بأنها عينة مكروهة.(1)
أي أنهم عدّوا المسألة التي لم يذكر فيها تحديد للربح (2)
__________
(1) المدونة للإمام مالك: 5/400.
(2) لا يقال في صورة (ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل) بأن ليس ثمَّة نصٌ على مقدار الربح فينبغي أن تكون هذه صورة مكروه لا محرَّمة. لا يقال هذا، لأن مراد الإمام مالك مطلقُ صورة وجود ثمنين: أحدهما بالنقد والثاني بالنسيئة. وهو إن سكت عن ذكر مقدار الثمن، فذاك لأنه يؤكِّد هنا مسألة الأجل والنقد لأجل البيعتين في بيعة، فلم يراعِ ذكر الثمن والنصّ عليه. يؤكّد هذا تفسير الإمام الباجي لقول الإمام مالك وعدِّه المسألة من قبيل البيعتين في بيعة، فهو في شرحه قد أتى بتحديد الثمن إذ قال: ( وفيها سلف بزيادة، لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلفه عشرة في عشرين إلى أجل ). المنتقى للباجي: 5/39.
وكذلك حدَّد ابن رشد الثمن حيث قال في معرِض تعداده لمعاني البيعتين في بيعة: ( أبيعك هذا الثوب نقداً بثمن كذا على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بكذا ). بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/115. وهو المعنى الذي فسَّرنا (ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل) على ضوئه.(1/109)
مكروهةً غير محظورة.
ووجه الفرق بين تلك المكروهة والمحظورة، أن الأخيرة فيها تحديد للثمن، وصورتها: ( اشتر سلعة كذا بعشرة دراهم نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل ).(1) أي أنَّ المكروهة غاب عنها شرط أساسي من شروط العقد، وهو تحديد الثمن الذي نصَّ عليه في الصورة المحظورة الآمر في التزامه.
فيستنبط من هذا: أنه بمقدار ما يقترب الاتفاق بين البائع والمشتري من العقد، بمقدار ما تكون له شبهته.
ويلاحظ أيضاً في تلك الصورة المكروهة: أن مجرَّد قول الآمر: (وأربِحك) كافٍ لتمكن شبهة الربا عند المالكية في أصل المسألة، ومع ذلك لم يقولوا بحرمتها بل بكراهتها. وهذا يؤكد أهمية شبهة العقد عند المالكية التي يورثها الاتفاق بين الآمر والمأمور في التحريم. أي أن المالكية لمّا فرَّقوا بين صورةٍ تحدّد فيها السعر فقالوا فيها بالحرمة، وصورة غاب عنها تحديد السعر مع النص على أصل الربح فقالوا فيها بالكراهة مع أنهم إنما يبالغون في الاحتياط عن الربا، أفاد ذلك اعتبارهم لقرب ذلك الاتفاق بين الآمر والمأمور إلى العقد؛ فكلما كان أقرب إلى العقد والإلزام، كلما كانت ذريعة الربا أقرب إليه، وكلما كان أبعد عن العقد بغياب العناصر الجوهرية فيه، كلما كان أبعد عن الربا وشبهته.
نتيجة:
__________
(1) منح الجليل للشيخ عليش: 5/106، مواهب الجليل للحطّاب: 4/ 405.(1/110)
بناءً على ما سبق من الحديث عن شبهة البيعتين في بيعة، يمكن القول بأن مردّ هذه الشبهة التي قال بها المالكية إنما هو إلى الربا الناشئ عن وجود ثمنين أحدهما بالنقد والآخر بالنسيئة، مع تفاوت في قدر أحدهما عن الآخر، أي أن هذا البيع ذريعة ربوية، وليس مردّ هذه الشبهة إلى الغرر أو الجهالة. فمناقشة وجهة نظر الإمام مالك إذاً في هذه الشبهة، إنما ينبغي أن تتوجه إلى مناقشته في صلب الربا وذرائعه عنده، لا إلى ظاهر انطباق هذه الشبهة على هذا البيع أو عدم انطباقها (1)، أو على ضوء أيٍ من المعاني الأخرى للبيعتين في بيعة المستقلة عن الربا وذرائعه. وستأتي مناقشة المالكية والرد عليهم في هذا.
وإذا شئنا الأخذ بظاهر النهي عن بيعتين في بيعة، والالتفات إلى ظاهر انطباق هذه الشبهة على المسألة، فمناقشة المالكية في هذا تكون عبر النظر في مدى صحة تنزيلهم المراوضة والمواعدة في هذه المسألة منزلة العقد، وهذا أمر تبيَّن أنه ناشئ عندهم بسبب توسّعهم في الشبه، وتنزيلهم شبهة الشيء منزلة حقيقته احتياطاً ومنعاً للذريعة، فهو أمر خاص بهم لا يلزم غيرهم، ولا يسلم لهم بدليل تصريح ابن العربي منهم بأن ما ذكر من وقوع شبهة البيعتين في بيعة على مسألة الباب ـ العينة عندهم ـ ليس على التصريح مادامت المواعدة فيها مطلقة ولم يصرح فيها بالإلزام.
وقفة في فقه المالكية في شبهة البيعتين في بيعة:
__________
(1) انظر مناقشة د. القرضاوي في كتابه بيع المرابحة للآمر بالشراء ص53(1/111)
قبل الانتقال إلى المبحث التالي، ثمَّة ما يستدعي الوقوف هنا، وهو أن قول القائل كما ذكر الإمام مالك في الموطأ: ( ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك إلى أجل ) لم يُفسَّر على أنه توكيل من الآمر للمأمور بالشراء له، ذلك أن كلاً من الباجي والزرقاني في شرحيهما على الموطأ لم يفسّراه به، وفسَّراه بما سبق من بيعتين في بيعة وغيره، وهذا يناقض التوكيل، لأن شراء الموكَّل لموكله عقد واحد تعود فيه ملكية المشترى إلى الموكِّل بمجرد الشراء، إذ المشترى له. ومع ذلك فإننا نجد ـ كما سبق ـ في مدونة الإمام مالك وغيرها من كتب المالكية أن صورة ( اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، أو نقداً ) ممنوعة بسبب أن المستأجَر أجيرٌ على شراء السلعة للآمر، فلا يصح نقده عنه، مخافة اجتماع السلف والإجارة. وأن قول الآمر: وأنا أشتريها منك. لغو، لأن العقد له وبأمره (1)، فلم تُفسَّر هذه الصورة الأخيرة على أنها عقد تضمّن بيعتين في بيعة مع أن مسبّب هذا التفسير واقع هنا على النحو الذي عرفنا، فكيف يحكم على شراء المأمور بأنه وكالة، أي شراء بأجر، فلا يصح مادام النقد من الوكيل تارةً، ثم يحكم تارةً أخرى على شراء المأمور أو الاتفاق نفسه بأنه عقد شراء تضمن بيعتين. كل ذلك في نفس الصيغة، إذ لا فارق بين ذكر الثمن وعدمه مادام الآمر قد قال: ( لي ) !!.
__________
(1) المدونة للإمام مالك: 5/402، منح الجليل للشيخ عليش: 5/109.(1/112)
الحقيقة أن الباحث في فقه المالكية في مسائل العينة والآجال يرى اضطراباً في التكييف والتعليل، وما ذاك إلا لتوسّع المالكية في الذرائع الربوية، وأخذهم بالذرائع البعيدة، وذاك أمر يتفاوت فيه النظر والتكييف بحسب الواقعة، ولمحاولتهم دعم ما يحكمون عليه بالحرمة ـ سداً لذريعة الربا ـ بضوابط نصيّة جعلوا كثيراً منها تصبُّ في مجرىً واحد هو سد الربا وذرائعه، مع أن هذه الضوابط ـ والتي منها البيعتان في بيعة ـ مختلف في ثبوتها ومعانيها المقصودة منها. وقد سبق أن رأينا كيف أن الإمام مالك وكثيراً من أتباعه عللوا فساد صورة ( أبيعك هذه بعشرة نقداً وبخمسة عشر إلى أجل ) مع الافتراق دون تحديد أحد الثمنين ليلزم به العقد بالربا على النحو الذي تقدم من احتمال اختيار أحد الثمنين أولاً ثم العدول عنه إلى الآخر، مع أن الجمهور منعوا تلك الصورة لأجل الغرر وجهالة الثمن (1).
ثم إننا نرى الإمام مالكاً أحياناً يُؤْثَر عنه القولان في الواقعة الواحدة بالصحة والفساد، كما سنرى ذلك في المبحث القادم حين الحديث عن شبهة بيع البائع ما ليس عنده. وهذا يؤكد حصول الاضطراب في هذه المسائل، مسائل العينة والآجال.
المبحث الثالث
شبهة بيع ما ليس عند البائع
أولاً ـ الأحاديث العامة الواردة في بيع ما ليس عند البائع:
وردت أحاديث كثيرة خاصةٌ بالنهي عن بيع الطعام إذا لم يكن عند البائع، ولكن الذي يعنينا هو ما كان من النهي نهياً عاماً في الطعام وغيره.
__________
(1) انظر ص (106) من هذا البحث(1/113)
عن حكيم بن حزام(1) قال: (( قلت يا رسول الله: يأتي الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك )).(2)
عن عمرو بن شعيب(3) عن أبيه عن جدِّه رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في البيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك )).(4)
__________
(1) حكيم بن حزام: بن خويلد، ابن أخي السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولد قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة، أسلم عام الفتح، كان يودّ ويودّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، توفي سنة 50هـ وله من العمر نحو 120سنة نصفها في الإسلام.الإصابة لابن حجر العسقلاني: 2/112-113.
(2) أخرجه:أبو داود في السنن:3/768. كتاب البيوع والإجارات. باب الرجل يبيع ما ليس عنده.رقم(3503).
الترمذي في السنن: 4/228. أبواب البيوع. باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك. رقم (1232).
النسائي في السنن: 7/289. كتاب البيوع. باب بيع ما ليس البائع. حديث رقم (4613).
ابن ماجه:2/737.كتاب التجارات.باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن. رقم (2187).
الإمام احمد في مسنده: 5/226. حديث رقم (15311).
(3) عمرو بن شعيب: أبو إبراهيم، وقيل أبو عبد الله، أحد علماء زمانه، وثَّقه ابن معين وابن راهويه، وقال الأوزاعي:ما رأيت قريشياً أكمل من عمرو بن شعيب، توفي سنة118هـ.ميزان الاعتدال للذهبي: 3/263.
(4) أخرجه: أبو داود في السنن:3/769.كتاب البيوع والإجارات. باب الرجل يبيع ما ليس عنده.رقم(3504).
الترمذي:4/230،وقال:حسن صحيح.كتاب البيوع.باب ما جاء في كراهة بيع ما ليس عندك. رقم(1234).
النسائي في السنن: 7/288. كتاب البيوع. باب بيع ما ليس عندك. حديث رقم (4611).
الإمام أحمد: 2/595. عن عبد الله بن عمرو بن العاص. رقم (6683).
أبو داود في السنن: 3/769. كتاب البيوع والإجارات. باب الرجل يبيع ما ليس عنده. رقم (3504).(1/114)
تقييم الأسانيد:
الحديث الأول: روي هذا الحديث عدة روايات في بعضها عبد الله بن عصمة الجشمي الذي ذكره ابن حجر فقال: (ذكره ابن حبَّان في الثقات، وروى له النسائي حديثاً واحداً. وقال ابن حزم في البيوع من المحلَّى: متروك. وتلقّى ذلك عبد الحق فقال: ضعيف جدّاً. وقال ابن القطّان: بل مجهول الحال)، وقال فيه الذهبي: لا يعرف.(1)
وبالمقابل روي هذا الحديث من طرق عن يوسف بن ماهك(2) عن حكيم بن حزام بإسقاط عبد الله بن عصمة الجشمي. وقال فيه الترمذي: حسن. ولفظه عنده (( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي ))(3).
وأخرجه ابن حبَّان(4) في صحيحه من طريق يوسف بن ماهك بلفظ (( قلت: يا رسول الله إني رجل أشتري المتاع، فما الذي يحلُّ لي منها وما يحرم علي. فقال: يا ابن أختي إذا ابتعت بيعاً، فلا تبعه حتى تقبضه ))(5).
فالحديث إذاً مقبول من بعض الطرق.
__________
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني: 5/281، ميزان الاعتدال للذهبي: 2/461.
(2) يوسف بن ماهك: فارسي من موالي أهل مكة، وثَّقه يحيى بن معين، حدّث عن بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وحكيم بن حزام، توفي على الراجح سنة 110هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/68.
(3) سنن الترمذي: 4/229.
(4) ابن حبَّان: محمد بن حباَّن، أبو حاتم البستي، ولد في بِست في سجستان، محدث، فقيه شافعي، مؤرخ، جغرافي،ثقة،من كتبه:(المسند الصحيح)،(غرائب الأخبار)، توفي ببست سنة 245هـ.الأعلام للزركلي:6/78.
(5) صحيح ابن حبّان، كتاب البيوع، باب البيع المنهي عنه، حديث رقم (4983).(1/115)
الحديث الثاني: صحّحه الحاكم(1)و الترمزي.(2)، ولكن عمرو بن شعيب معلوم الكلام فيه، فقد ضعَّفه الجمهور في روايته عن أبيه عن جدّه، إذ ربَّما دلَّس بلفظ (عن أبي) ويريد ما كان في الكتاب دون سماعه منه إلا إن قال: (حدثني )، ثم إن جدّه يحتمل أن يراد به عبد الله بن عمرو بن العاص (3)ـ وهو جدّه الأعلى ـ ويحتمل جده المباشر: محمد بن عبد الله بن عمرو(4)، ولا صحبة له، فيكون حديثه مرسلاً كما قال ابن عدي(5)، وكون شعيب سمع من عبد الله بن عمرو بن العاص لا يزيل ذلك الاحتمال.
إلا أن في مسند الإمام أحمد تصريحاً بالتحديث، ونصاً لرواية عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6) فالحديث صحيح إذاً.
ثانياً ـ معنى بيع ما ليس عندك:
الكلام كثير في معنى النهي عن بيع ما ليس عند البائع، وخلاصته أنه يحتمل المعاني التالية:
__________
(1) الحاكم: محمد بن عبد الله، النيسابوري، ولد بنيسابور سنة 321هـ، إمام أهل الحديث في عصره، شافعي، تولى قضاء نيسابور ولذا عرف بالحاكم، عرف بحبه لعلي بن أبي طالب دون تشيّع، من كتبه: (العلل)، توفي بنيسابور سنة 405هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 17/162. وانظر مرجع العلوم الإسلامية للدكتور محمد زحيلي:ص260.
(2) الحاكم في المستدرك:" 2/17. كتاب البيوع. سنن الترمذي: 4/230.
(3) عبد الله بن عمرو بن العاص، الصحابي الجليل، ولد سنة سبع قبل الهجرة، أسلم قبل أبيه، وكان بينهما من العمر اثنتا عشر ة سنة، كان يكتب الحديث بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكتب بالسريانية، روى 700 حديثاً، قلت الرواية عنه لسكنه مصر حيث توفي سنة 65هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 4/192.
(4) محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص: أبو شعيب السهمي، روى عنه ابنه شعيب، والظاهر موته في حياة أبيه. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/181.
(5) ميزان الاعتدال للذهبي: 3/266.
(6) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني: 8/45-46.(1/116)
أن يبيع الرجل سلعة معينة يملكها، ولكنها غائبة وقت البيع عن مجلس العقد، فيكون من بيع الغرر. لاحتمال تلف السلعة قبل القبض، أو قد لا يرتضيها المشتري بعد رؤيتها. وهذا هو أحد قولين فسَّر بهما هذا النهي ابنُ المنذر كما نقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري.(1)
أن يبيع شيئاً معيناً مملوكاً للغير على أن يشتريه له من صاحبه، أو على أن يسلمه صاحبه للمشتري، كأن يقول: أبيعك هذه الدار على أن أشتريها لك من صاحبها. فيكون في هذا البيع غرر أيضاً، إذ قد لا يبيعها مالكها، أو قد لا يقدر البائع على شرائها له. وهذا هو القول الثاني لابن المنذر وهو الذي رجّحه.(2) وقد ذكره الخطابي أيضاً في معالم السنن كأحد الأقوال لمعنى (بيع ما ليس عند البائع).(3)
أن يبيع شيئاً غير معيَّن كسيَّارة من نوعٍ معين وبمواصفات معيّنة وهو لا يملكها. وبعبارة أخرى ؛ أن يبيعه شيئاً موصوفاً في الذمّة لا يملكه.
ثالثاً ـ أقوال الفقهاء في حكم بيع ما ليس عند البائع:
اختلف الفقهاء في حكم العقد على الغائب عن مجلس العقد على المعنى المذكور أولاً_ وهو بيع السلعة المملوكة الغائبة عن مجلس العقد ـ بين مجيز، وبين مانع محتج بهذا الحديث، فذهب الجمهور إلى جواز ذلك على تفصيل بينهم في الشروط وثبوت الخيار عند الرؤية للمشتري، وذهب الشافعية إلى المنع مطلقاً.وذلك على التفصيل التالي:
الحنفيّة: أجاز الحنفية هذا البيع ولو من غير وصف، وأثبتوا الخيار للمشتري حين يرى المبيع مطلقاً ولو جاء على الصفة، واحتجوا للجواز بأنه لا غرر مادام خيار الرؤية ثابتاً على كل حال.(4)
__________
(1) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 4/439.
(2) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 4/439.
(3) معالم السنن للخطابي (مطبوع مع مختصر السنن للمنذري وتهذيب السنن لابن القيم): 5/143.
(4) بدائع الصنائع للكاساني: 5/163.(1/117)
أما المالكية: فأجازوا بيع الغائب على الصفة إذا كان المبيع ممّا لا تتغير صفته قبل القبض. ويلزم البيع عندهم إذا رأى المشتري المبيع على النحو الذي وُصف له، أما إن خالف الصفة فله الخيار.(1)
ويصح في ظاهر المذهب عند الحنابلة بيع العين الغائبة إذا وصفت، وشرطوا أن يكون الوصف على نحو يصح في السَّلَم، ويلزم البيع إذا جاء على الصفة. وفي رواية عن الإمام أحمد: لا يصح حتى يرى تلك العين ولو وصفت، لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع.(2)
وأما الشافعية: فلم يجز الإمام الشافعي في الجديد بيع العين الغائبة ولو وصفت وذلك للغرر والجهالة، وفي المذهب القديم للإمام الشافعي: يصح البيع ويثبت للمشتري الخيار. والتعليل بالغرر والجهالة يُفهم جواز بيع العينة الغائبة إذا كان المشتري قد رآها، وهي مما لا تتغير.(3)
وأرى رجحان مذهب الحنفية من جواز البيع، وثبوت الخيار بالرؤية ولو وافق الوصف الصفة، لأن الوصف، وإن نفى الجهالة في المبيع، فإن رضا المشتري لا يحصل على التمام إلا بالرؤية، لأن الخبر ليس كالمعاينة، إلا إن كانت السلع ممّا لا تختلف عن مثيلاتها في السوق، وهي مشاهدة معلومة من قبل المشتري فلا خيار للمشتري، وذلك كسيارة من نوع معيّن إن كانت جديدة غير مستعملة، لأنه لا يمكن القول بوقوع الجهالة حينئذ أو الغرر، فالمعمل ينتج آلاف السيارات دون تفاوت بينها، ممّا يجعل الأمر منضبطاً.
__________
(1) الشرح الكبير للدردير: 3/25.
(2) المغني لابن قدامة: 6/33.
(3) المهذَب للشيرازي: 1/263، الحاوي للماوردي: 5/18.(1/118)
أما على المعنى الثاني، وهو أن يقول له مثلاً: أبيعك هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو أن يسلمها لك صاحبها. فقد ذهب الشافعية والحنابلة في رواية إلى منعه، لأنه تصرّف الإنسان فيما لا يملكه فيشتمل على الغرر، إذ قد يُعجز في هذا البيع عن التسليم برفض صاحب السلعة أو تلفها. فتصرّف البائع تصرّف فضولي فيما لا يملك، وهو باطل.(1)
أما الحنفية والمالكية فجعلوا الملكية والولاية على المبيع شرط نفاذ لا شرط انعقاد ؛ فأجازوا تصرف الفضولي موقوفاً على إجازة مالك السلعة، فإن أجازه نفذ، وإن ردّه بطل.(2)
وأرى هنا الأخذ بقول الشافعية والحنابلة، لأن الأخذ بمذهب المجيز يفضي إلى اضطراب العقود، وإلى احتمال نشوء الخصومة بين الفضولي ومالك السلعة، إذ غالباً ما يبتغي الفضولي بعمله هذا أخذ أجرة على عمله لم يتفق عليها هنا، أو على مقدارها.
أما على المعنى الثالث: فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحة بيع ما ليس موجوداً حال العقد وليس في ملكية البائع وهو موصوف في الذمّة، واعتبروا ذلك بيع معدوم، بدليل أنهم اعتبروا السلم الذي هو بيع شيء موصوف في الذمّة إلى أجل بشروطٍ مخصوصة، اعتبروه جائزاً أو مرخَّصاً به استثناءً من قاعدة عدم جواز بيع المعدوم.(3)
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/295. المهذب للشيرازي: 1/262.
(2) بدائع الصنائع للكاساني: 5/ 148. الشرح الكبير للدردير: 3/12.
(3) حاشية الدسوقي: 3/195. المغني لابن قدامة: 6/385. بدائع الصنائع للكاساني: 5/201. المهذب للشيرازي: 1/262-263.(1/119)
قال الشوكاني: ( قال البغوي(1): وظاهر النهي تحريم ـ بيع ـ مالم يكن في ملك الإنسان ولا داخلاً تحت مقدرته، وقد استثنى من ذلك السلم، فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم )(2).
وأبقى جمهور الفقهاء الحكم بعدم جواز بيع المعدوم في غير السَّلَم، إلا أن ابن تيمية(3) وتلميذه ابن القيِّم الجوزيّة لم يعتبرا السّلم استثناءً من القياس بعدم جواز بيع المعدوم المفهوم من حديث (( لا تبع ما ليس عندك )) بل جعلا المنهي عنه بيع ما لا يقدر على تسليمه، أمّا ما يقدر على تسليمه ولو غير مملوك له وهو موصوف في الذمّة، فيجوز بيعه. يقول ابن القيِّم: ( وأمّا السّلم فمن ظنَّ أنه خلاف القياس، توهَّم دخوله تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم (( لا تبع ما ليس عندك )) فإنه بيع معدوم والقياس يمنع منه. والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع موصوف في الذمّة، مقدور على تسليمه غالباً)(4).
__________
(1) البغوي: حسين بن مسعود، ولد سنة 436هـ، يلَقَّب بمحي السنة، فقيه شافعي، محدث، مفسِّر، نسبته إلى بغا من قرى خراسان، من كتبه: (معالم التنزيل) في التفسير، (التهذيب) في الفقه الشافعي، توفي سنة 510هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/439.
(2) نيل الأوطار للشوكاني: 5/165.
(3) ابن تيمية: احمد بن عبد الحليم، شيخ الإسلام، ولد بحرّان سنة 661هـ، سكن دمشق، حنبلي، سجن في مصر لبعض أقواله، ثم في دمشق لفتواه في الطلاق، من كتبه: (الفتاوى)، توفي في سجنه بدمشق سنة 728هـ. الأعلام للزركلي: 1/144.
(4) إعلام الموقعين لابن القيم: 2/19(1/120)
وفي معنى الحديث يقول ابن القيم: (وأمّا قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: (( لا تبع ما ليس عندك )) فيُحمل على معنيين: أحدهم: أن يبيع عيناً معيَّنة وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها ويسلمها إلى المشتري. والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمّة، وهذا أشبه، فليس عنده حسَّاً ولا معنى)(1)
والخلاصة: أن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أنَّ المنهي عنه في هذا الحديث هو بيع ما ليس مملوكاً لصاحبه، سواء كان عيناً أم كان موصوفاً في الذمّة، واستُثني الموصوف في الذمّة بشروط على سبيل السلم الثابت بالنص (2). أمّا عند البعض كابن تيمية وابن القيِّم، فالمنهي عنه هو بيع الأعيان دون الموصوف في الذمّة ممّا ليس مملوكاً لصاحبه ؛ فجعلوا السّلم أصلاً لا استثناءً، فجوَّزوا القياس عليه، فحكموا بجواز بيع الموصوف في الذمة لا على سبيل السّلم، إذا كان يمكن تحققه في المستقبل.
رابعاً ـ وجه ارتباط شبهة بيع ما ليس عند البائع ببيع المرابحة للآمر بالشراء عند المالكية:
سبق أن رأينا كيف أن الدردير عرَّف العينة بأنها (بيع من طلبت منه السلعة قبل ملكه إيّاها لطالبها بعد شرائها)(3). وقال ابن رشد الحفيد في بيع العينة: (هو بيع الرجل ما ليس عنده)(4).
__________
(1) المرجع والموضع السابقان.
(2) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: (( من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم )).
أخرجه: البخاري في الصحيح: 2/781. كتاب السلم. باب السلم في وزن معلوم. حديث رقم (2125/2126).
ومسلم في صحيحه: 3/1227. كتاب المساواة. باب السلم. حديث رقم (1604).
(3) الشرح الكبير للدردير: 3/88.
(4) بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/116.(1/121)
وقال الباجي مفسِّراً ذلك (وفيها ـ أي في (( ابتع لي هذا البعير بنقد.حتى أشتريه منك إلى أجل )) ـ بيع ما ليس عند بائعه لأن المبتاع للبعير بالنقد قد باع من المبتاع بالأجل قبل أن يملكه)(1).
فكيف كان إذاً في هذه المسألة بيع لما ليس عند البائع، أو بيعٌ لما لا يملكه البائع، كما قال الباجي ؟
قبل الجواب على ذلك، لا بدَّ من القول بأن بناء الباجي هذا المحذور على صورة (ابتع لي0000) غير ممكن بخلاف صورة (اشتر سلعة كذا000) دون لفظ (لي) وذلك إذا أخذنا بظاهر اللفظ وبنينا الحرمة عليه، لأن الأول يكون توكيلاً، فلا يتحقق فيه بيع ما ليس مملوكاً للبائع، بخلاف (اشتر سلعة كذا 000) والذي يبدو أن الباجي، ومثله الزرقاني، بنيا حكمهما وتفسيرهما على أن غرض الآمر ليس التوكيل، وإنما مطلق الشراء، وقد صرَّح بعدم الفارق بين الصورتين مرَّة ابن العربي حين فسَّر (بيعتين في بيعة) بأنها مسألة العينة عند المالكية، وسمّاها بيع ما ليس عندك، وكان من جملة ما قال: ( إذا جاء الرجل فقال للآخر: اشتر لي أو اشتر سلعة بكذا أو: بما اشتريتها وبعها منّي بكذا000). فلم يفرِّق بين الصورتين وعدّهما بيع ما ليس عندك.(2)
أمّا كيف أن في مسألة الباب بيعاً لما يملكه البائع، فلا ريب أن العينة التي قال فيها المالكية: إن فيها بيع ما ليس عند البائع. لا يمكن أن تنطبق بوجه على المعنى الأول الذي ذكرته في معاني بيع ما ليس عند البائع، وذلك أن البائع في العينة _ بمصطلح المالكية _ يبيع ما لم يملكه بعد كما فسره الباجي، وفي المعنى الأول نرى البائع مالكاً للسلعة ولكنها غائبة عن المجلس.
__________
(1) المنتقى للباجي: 5/38-39.
(2) شرح سنن الترمذي لابن العربي (عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي): 5/239.(1/122)
وكذلك لا يمكن أن تنطبق على المعنى الثاني، لأن تصرّف البائع في الشراء ليس من الفضول في شيء، لأنه إنما يشتري بتوجيهٍ من المشتري، وغالباً ما يوجِّه المشتري البائعَ إلى شراء سلعةٍ ما لا يبيعها من السوق. ثم إن النهي ينصبُّ في هذا المعنى للغرر، باحتمال عدم موافقة المالك، وهو ما لم يقصده المالكية في العينة.
أمّا المعنى الثالث، فهو ما يمكن أن يشمل ما فسَّر به المالكية تلك المسألة، ذلك أنهم قالوا بأن البائع في العينة يبيع المشتري شيئاً وصفه المشتري له، واتفق معه على شرائه منه. إلا إن هذا الشيء في العينة قد يكون من جملة ما يمكن أن يوصف في الذِّمَّة، وقد يكون عيناً محدَّدة بالذات. وأيّاً كان الأمر فهو غير مملوك له، وهذا ما أراده المالكية.
أمّا تفسير ذلك في مسألة العينة من وجهة نظر المالكية المتشدِّدة في هذه المسألة: فإن الاتفاق الذي حصل بين الآمر(المشتري) والمأمور (البائع) قبل شراء البائع المأمور السلعة، والذي ترتَّب عليه توجُّهُ المأمور لشراء تلك السلعة لتؤول إلى الآمر، جعل المأمور قد باع تلك السلعة قبل شرائها، إذ ما إقباله على شرائها إلا ليبيعها إلى الآمر، فكان شراء المأمور أثراً ترتب على الاتفاق السابق بينهما، الذي موضوعه بيع السلعة من المأمور إلى الآمر، وما هو إلا خطوة لا بدَّ منها في سبيل امتلاك الآمر السلعة شراءً من المأمور.
وقد يقال هنا ثانياً بأن تلك الشبهة إنما تتحقق إذا اعتبرنا ما حصل بين الآمر والمأمور عقداً، أي عقد بيع وشراء، لا مجرد مواعدةٍ بينهما، فكيف يُحكم بتمكّن تلك الشبهة وتُفسَّر المسألة بها، مع أن الحاصل بينهما ليس عقداً بل مواعدة ؟(1/123)
الجواب على ذلك كما سبق حين الحديث عن شبهة البيعتين في بيعة، حيث إن ما بين المشتري الآمر والبائع المأمور من اتفاق كان له شبهة العقد عند المالكية، فلم يبق مواعدة، لمّا توجّه المأمور لشراء السلعة ليبيعها إلى الآمر، إذ هو يشتريها لا ليقتنيها أو ليتجِّر بها تجارةً تحتمل الربح والخسارة، وإنما يشتريها لينفِّذ مضمون المراوضة التي كانت بينه وبين الآمر، فلم يعد إذاً ما كان بينه وبين الآمر مجرد مواعدة، بل عقد، فهو وإن لم يتضمن إيجاباً وقبولاً، إلا أن مضمونه مضمون العقد، تحقَّق ذلك بعملية الشراء والبيع التي وقعت.
هذا ما عليه واقع الحال عند المالكية في تفسير بيع العينة ببيع ما ليس عند البائع، إذ هم يعطون شبهة الشيء حكم حقيقته، احتياطاً منهم، يدلُّ على هذا أن مالكاً قال في مسألة (اشتر سلعة كذا بعشرة نقداً، وأنا أشتريها منك باثني عشر نقداً) بحرمة ذلك، وعلًّله بالمراوضة التي وقعت بين الآمر والمأمور في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور.(1) فقد جعل للمراوضة حكم العقد من حيث الأثر في تحقق شبهة بيع ما ليس عند البائع احتياطاً، مع أن ظاهر المسألة انعدام وجه التحيّل على الربا لانعدام الأجل في الثمن الأعلى.
__________
(1) المدونة للإمام مالك: 5/402.(1/124)
هذا، ولمّا كان الأمرُ أمرَ احتياط عند المالكية وسدٍّ للذرائع، ولو البعيدة منها، فقد اضطربت أقوالهم وتفاوتت، حتى أُثِر القولان المختلفان في المسألة الواحدة، إذ أن الذرائع إنْ جعلت أصلاً في هذه البيوع، اختلف التكييف والتعليل بحسب الواقعة وظروفها، وحسب حال الناس إقبالاً عليها وإدباراً، فهاهو الإمام مالك يقول في مسألة (اشتر بعشرة نقداً، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل) كما روى سحنون(1) عن ابن القاسم وحكاه عن مالك: لا يجوز، وإن وقع ذلك، فإن الآمر يلزمه الشراء باثني عشر إلى الأجل، لأن المشتري كان ضامناً للسلعة لو تلفت في يده قبل أن يشتريها منه الآمر. قال ذلك مرّةً، وأضاف: ولو أراد أن لا يأخذها بعد شراء المأمور، كان له ذلك، واستحب للمأمور أن يتورّع فلا يأخذ إلا ما نقد.(2)
فتعليله ذلك بضمان المشتري للسلعة لو هلكت صريح في أن المأمور كان مالكاً للسلعة قبل بيعها للآمر، أم كيف يضمنها دون أن يملكها ؟!!
وهكذا نرى شدَّة احتياط المالكية،وتوسعهم في الشبه، وإعمالهم للذرائع، فقد جعلهم ذلك يتوسعون في التحريم والكراهة. وممّا يؤكّدُ احتياطهم في شأن المواعدة وأثرها، وجعلهم المواعدة في شبهة العقد: أنهم لم يجيزوا المواعدة على الصرف. يقول ابن رشد: (فلا يجوز في الصرف ولا في بيع الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة مواعدة ولا خيار ولا كفالة ولا حوالة، ولا يصح إلا بالمناجزة000)(3)
__________
(1) سحنون: عبد السلام بن سعيد التنوخي، ولد سنة 160هـ، لقب بسحنون، أصله من حمص، فقيه مالكي، تفقه على ابن القاسم وأشهب، ولّي قضاء القيروان، صنف كتاب المدونة عن الإمام مالك، توفي سنة 240هـ. شجرة النور الزكية لمحمد خلوف: ص69.
(2) المدونة للإمام مالك: 5/402.
(3) المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد):2/15.(1/125)
وتفسير ذلك أن الصرف يقتضي التقابض في مجلس العقد، وهم ما منعوا التواعد إلا لخشية أن يكون التقاء إرادتي المتصارفين على إيقاع الصرف قد انبثق من التواعد، لا من عقد الصرف الذي تمَّ بينهما لاحقاً، فيكون للتواعد شبهة ذلك العقد، فينتج عن هذا عقد صرف بلا تقابضٍ حالّ.
ثم إن من المالكية من أجاز عقد الصرف الناشئ عن المواعدة بعد وقوعه، وهو مذهب ابن القاسم. ومنهم من أوجب الفسخ، وهو أصبغ. ووفَّق ابن رشد بين القولين بحمل كلام ابن القاسم على حالةٍ لم يتراوض فيها المتواعدان على السوم بتحديد بدل الصرف ومقداره، بل قال أحدهما للآخر: اذهب معي أصرفْ منك، وحمل كلام أصبغ على حالةٍ تراوض فيها المتواعدان على السوم فقال أحدهما للآخر: اذهب معي أصرف منك ذهباً ـ مثلاً ـ بكذا وكذا.(1)
وبالنظر في توفيق ابن رشد بين القولين، يتبيَّن واضحاً أثر توفّر شروط العقد في المواعدة على مشابهة تلك المواعدة للعقد وإعطائها شبهته، إذ حين تحدد سعر الصرف وبدله في المواعدة ـ وذلك مما يشترط تحديده في عقد الصرف ـ وجب فسخ العقد الناشئ عن المواعدة، وحيث لم يتم تحديد ذلك أجيز العقد. وذلك نظير ما سبق في العينة حيث عُدَّ مكروهاً منها صورة ٌ نُصَّ فيها على أصل الربح دون قدره، وحراماً صورةٌ نُصَّ فيها على قدر الربح، فتحدَّد الثمن. فهنا قد فسد عقد الصرف نتيجة المواعدة بعد أن تضمنت هذا المواعدة شبهة عقد الصرف، ولم يحصل تقابض في الحال، وهناك قد فسدت العينة للمواعدة التي نصَّ فيها على الربح وقدره، فتضمنت تلك المواعدة شبهة عقد، فأورثت بيعتين في بيعة، وبيع ما ليس مملوكاً.
__________
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد): 2/15.(1/126)
وبمقابل قول المالكية، نجد أن الشافعية قد أجازوا المواعدة على الصرف. قال الإمام الشافعي في الأم: ( وإذا تواعد الرجلان الصرف، فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعا ويصنعا بها ما شاءا )(1) وذلك لأن الإمام الشافعي لم يرَ في المواعدة هنا بيعاً حتى يقولَ بحرمتها، وهذا ما صرَّح به ابن حزم بقوله: ( والتواعد في بيع الذهب بالذهب، أو بالفضّة في بيع الفضّة بالفضّة، وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا، لأن التواعد ليس بيعاً)(2).
نتيجة:
ممّا تقدّم، نرى أن قول المالكية بوقوع شبهة بيع ما ليس عند البائع على مسألة الباب لمطلق المواعدة، إنما هو من باب التوسّع في الشبه احتياطاً، وإعطاء شبهة الشيء حكم حقيقة، كما هو شأن المالكية. وهذا أمر خاص بهم، ومبدأ من مبادئهم قد توسّعوا فيه، ولكنهم مع ذلك قد أصابوا من حيث إن هذه المسألة تحتمل طروء شبهة بيع ما ليس عند البائع عليها، وخطؤهم أنهم قالوا بذلك عند مطلق المواعدة، ولم يقيدوها بالملزم منها، إذ حال الإلزام فقط يمكن أن يقال حقاً بوقوع هذه الشبهة وقوعاً مستقلاً عن الربا وذرائعه، وعن الشبه والتوسع فيها، لتضمن الوعد الملزم حينئذٍ حكم العقد، كما صرَّح بذلك من لا يأخذ بذرائع الربا، ولا يتوسّع في الشبه، كما سيأتي. بل إن وقوع هذه الشبهة يكون على التصريح عند المالكية حال الإلزام، بناءً على أصل ابن العربي المتقدم.
المبحث الرابع
شبهة السلف بزيادة
أولاً ـ معنى السلف
يراد بالسلف فقهاً معنيان: 1- القرض، 2- السلم.
والمعنى المراد في هذا المبحث هو القرض، أي القرض بزيادة، وذلك يعني ربا الدين أو ربا القرض، وله صورتان:
__________
(1) الأم للإمام الشافعي: 3/32. ومعنى يقرانها هنا: يجعلاها.
(2) المحلّى لابن حزم: مسألة(1501)، 8/513.(1/127)
الأولى: أن يكون للرجل على الرجل دين في الذمّة، سواء أكان هذا الدين بسبب بيع أم قرض أم أي شيء آخر، حتى إذا جاء أجله ولم يجد المدين وفاءً لدينه قال للدائن: زدني في الأجل أزدك في الثمن. وقد يعرض الدائن على المدين قبل حلول الأجل المتفق عليه أن يزيد له في أجل الدين مقابل الزيادة في مقداره.
الثانية: أن يقرض رجلٌ آخر قرضاً مشروطاً بزيادةٍ ابتداءً، تدفع هذه الزيادة مع أصل القرض عند حلول الأجل المتفق عليه. وهذه الصورة هي المرادة هنا.
ثانياً ـ حكم السلف (ربا القرض)
ربا القرض محرّم بالنص وفيه نزلت آيات من القرآن الكريم.
قال تعالى: (( يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ))(1)
قال السيوطي(2) ناقلاً سبب نزول هذه الآية: ( أخرج الفريابي(3) عن مجاهد(4) قال:
كانوا يتبايعون إلى الأجل، فإذا حلَّ الأجل زادوا عليهم وزادوا في الأجل فنزلت. وأخرج عطاء أيضاً قال: كانت ثقيف تداين بني النضير في الجاهلية فإذا جاء الأجل قالوا: نُرْبِكم وتؤخِّرون عنَّا. فنزلت )(5)
__________
(1) من سورة آل عمران، آية رقم 130.
(2) السيوطي:عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين،ولد بالقاهرة سنة 849هـ،إمام في الفقه والتفسير،مؤرخ، أديب أصولي، شافعي، من كتبه،( الأشباه والنظائر)، توفي بالقاهرة سنة911هـ.الأعلام للزركلي: 3/301.
(3) الفريابي: محمد بن يوسف،ولد سنة مائة وبضع وعشرين،إمام حافظ، سمع عن ابن عمر،روى عن البخاري والإمام أحمد،وثقه النسائي وآخرون،توفي سنة 212هـ.سير أعلام النبلاء للذهبي:10/114.
(4) مجاهد بن جبر، أبو الحجاج من التابعين، ولد سنة 21هـ،مقرئ، مفسر، فقيه، حافظ، مكّي، أخذ التفسير عن ابن عباس، قبض وهو ساجد سنة 104هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 4/449.
(5) لباب المنقول في أسباب النزول للسيوطي (مطبوع بهامش تفسير الجلالين) ص: 146-148.(1/128)
وهذه الآية الكريمة وغيرها وإن كانت تنطبق في سبب نزولها على الصورة الأولى من صور القرض الربوي، إلا أن الإجماع حاصل على حرمة الصورتين. قال ابن قدامة: (وكل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرام بغير خلاف. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المتسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أن أخد الزيادة على ذلك ربا)(1)
ثالثاً ـ وجه اعتبار العينة عند المالكية (مسألة البحث) من قبيل السلف بزيادة:
سبق أن رأينا كيف أن الباجي ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه المنتقى قال في صورة (ابتع لي هذا البعير بنقد حتى أبتاعه منك بأجل) وبعد أن ذكر شبهة بيعتين في بيعة، وشبهة بيع ما ليس عند البائع: (000 وفيها سلف بزيادة، لأنه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين إلى أجل، يتضمن ذلك أنه سلّفه عشرةً في عشرين إلى أجل)(2)
فقد ردَّ إذاً الباجي بقوله وبتفسيره لوقوع شبهة السلف بزيادة المسألة إلى الربا، وهذا الرَّدُّ منه هو على النحو الذي جعل الإمام مالك يقول بوقوع شبهة البيعتين في بيعة، وذلك بالنظر إلى مضمون هذه الشبهة على المعنى الذي رجّحناه للبيعتين في بيعة، وهو أن مضمونها دفع دراهم عاجلة بأخرى آجلة، وهو ذاته مضمون السلف بزيادة. ويبدو أن الباجي حين أضاف شبهة السلف بزيادة إلى شبهة البيعتين في بيعة، وشبهة بيع ما ليس عند البائع، كان قد أخذ بظاهر انطباق شبهة بيعتين في بيعة على المسألة دون النظر إلى المضمون الذي تؤدي إليه هذه الشبهة. والله أعلم.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/ 436، وانظر بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/96.
(2) المنتقى للباجي: 5/39.(1/129)
أمّا تفسير كلام الباجي بانطباق شبهة السلف بزيادة على المسألة، فهو أنَّ المأمور بالشراء لما كان شراؤه آيلاً للآمر بمقتضى الاتفاق السابق الذي كان بينهما، فكأنما يدفع ثمن السلعة نيابةً عن الآمر سلفاً، وذلك أن السلعة إنما هي للآمر نتيجة الاتفاق السابق، فيدفع المأمور ثمنها نيابةً عن الآمر ليأخذ زيادة على ما دفع عند حلول الأجل المتفق عليه. وهذا سلف بزيادة كما يتبين من معناه. ولو كانت السلعة إنما يشتريها المأمور لنفسه، لحُقَّ له أن يأخذ ربحاً عليها فلا يكون ثمة ربا، لأنه يبيع ملكه بزيادة، وتلك تجارة أحلها الله تعالى، ولكنه لا يشتري لنفسه، وإنما للآمر بمقتضى الاتفاق الذي كان بينهما.
ويلاحظ هنا أيضاً أن هذا التفسير مبني عند المالكية على أن ما كان بين الآمر والمأمور لم يبق مجرَّد وعد مادامت العناصر الجوهرية للعقد قد توفرت فيه، وقد تحقَّق مقتضاه، وهذا لتوسعهم في الشبه كما سبق، وإعطائهم شبهة الشيء حكم حقيقته.
وقد يقال هنا أيضاً بأن هذا المحذور واقع حال قول الآمر: (اشتر لي). بذكر ضمير المتكلّم مقترناً بحرف الجر (اللام). إذ يكون المأمور في هذه الحالة قد نقد ثمن السلعة عن الآمر فوقع في شبهة السلف بزيادة مادام الشراء للآمر لمّا قال: ( لي ).
يُردَّ على هذا بأنه نُظِر هنا إلى مضمون الواقعة لا صورتها، إذ لا فرق في المضمون بين (اشتر سلعة كذا) أو (اشتر لي) مادام شراء الآمر لأجل، حيث تتحقق شبهة السلف بزيادة على النحو الذي تقدَّم، والآمر لا يريد هنا توكيل المأمور وإنما يريده أن يشتري تلك السلعة ليبيعها إليه بأجل.
وهكذا فإن مردّ هذه الشبهة عند المالكية إلى الربا، شأن شبهة العينة وشبهة البيعتين في بيعة، فيكون ردّها إذاً بالقدر الذي تناقش فيه مبادئهم في الربا وذرائعه كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
نتيجة: من استعراض الشبهات السابقة وهي:
البيعتان في بيعة.
بيع ما ليس مملوكاً للبائع.(1/130)
السلف بزيادة.
يتبين لنا أن مردَّ هذه الشبهات جميعاً عند المالكيّة إلى شيئين:
الأوّل: اعتبار الوعد الملزم في حكم العقد.
الثاني: مبدأ إعمال الحدس في نية المتعاقدين، وسد ذرائع الربا.
ومناقشة ذلك تستدعي بسط القول في العقد والوعد، ومن ثمَّ في اعتبار النيّات في العقود، ومبدأ سد الذرائع.
ولكن قبل الانتقال إلى ذلك نبحث في شبهة قد يُظنُّ تمكّنها من هذا البيع، وهي في الحقيقة لا تنطبق عليه، وهي شبهة التعليق:
شبهة عقد البيع المعلّق:
قد يُظنُّ بأن بيع المرابحة للآمر بالشراء مع الإلزام إنما هم عقد بيع معلق حيث تجتمع إرادتا طرفين على إنشاء عقد يتعلق حصول أثره على أمر آخر.
ولمعرفة مدى صحّة ذلك، لا بُدَّ أولاً من معرفة مذاهب الفقهاء في حكم البيع المعلّق.
أقوال الفقهاء في عقد البيع المعلق:
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحّة تعليق البيع على شرط، وكل ما استثنوه من حالات يعود إلى شرط الخيار، كرضا الغير في فترة الخيار، أو يعود إلى موافقة مقتضى العقد، كبعتك إن شئت، أو: إن كان ملكي فقد بعتكه، وهو مُلْكه. وحجّتهم أن البيع مع التعليق ينافي الرضا حال العقد ويحقق الغرر، إذ قد يحصل الشيء المعلّق عليه وقد لا يحصل، والرضا يكون مع الجزم.(1) ولكن ابن القيِّم ذهب إلى غير ذلك، حيث أجاز تعليق البيوع فكان ممّا قال: ( وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلَّف)(2).
ـ مناقشة ما قد يظن من حصول شبهة التعليق:
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 7/520، تبين الحقائق: 4/134، المهذب للشيرازي: 1/266، تهذيب الفروق للشيخ محمد علي،(مطبوع مع الفروق): 1/229، الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي: 5/330.
(2) إعلام الموقعين لابن القيم: 3/391.(1/131)
باستقراء نصوص المالكيّة في الكتب التي نقلت عنها، لا نجد تعليلاً لفسادها عندهم بأنها من قبيل التعليق، مع أن المالكيّة هم أكثر من فصَّل في شبهات هذا البيع. بل نجدهم قد عدّوها بيعاً تسبقه مواعدة كما تدلّ على ذلك نصوصهم. يقول ابن رشد في العينة ـ وهي التي تطابق عندهم مضمون بيع المرابحة للآمر بالشراء ـ حاكياً الحكم: (الجائز ـ أي من العينة ـ لمن لم يتواعد على شيء ولم يتراوض مع المشتري)(1).وكان قد عدّ المحرّم من العينة مسألة (اشتر سلعة كذا بكذا نقداً وأنا أبتاعها منك بكذا إلى أجل). فجعل هذه الصيغة مواعدة ومراوضة على البيع وإن كان قد أعطاها شبهة العقد من حيث الحرمة.
وقد يُستدلُّ لشبهة العقد المعلّق في بيع المرابحة للآمر بالشراء بكلام الإمام الشافعي حيث قال: ( وإن تبايعا على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول، فهو مفسوخ من قِبَل شيئين:
أحدهما: أنهما تبايعاه قبل أن يملكه.
الثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا )(2).
ووجه الاستدلال هذه الجملة الأخيرة، وذلك بالقول بأن مراده من المخاطرة خطر التعليق.
يجاب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: إن المرابحة بصيغة ( اشتر سلعة كذا وأربحك فيه كذا )، وهي الصيغة التي أتى بها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ليست من قبيل العقد المعلّق لما يلي: العقد المعلّق، كما تحدَّث عنه الفقهاء، إنما يقع باستعمال أدوات الشرط كإذا وإن. يقول التفتازاني(3)
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 4/404.
(2) الأم للإمام الشافعي: 3/39.
(3) التفتازاني: مسعود بن عمر، سعد الدين، ولد بتفتازان في خراسان سنة 712هـ، فقيه حنفي، أصولي، من أئمة العربية، من كتبه: (شرح العقائد النفسية)، توفي بسرخس سنة 793هـ. الأعلام للزركلي:7/219.
ومثال استعمال إذا في معنى الوقت قولك: القطاف إذا نضج الثمر.(1/132)
:(إذا تستعمل عند الكوفيين في معنى الوقت وفي معنى الشرط،وإذا استعملت في معنى الشرط، يسقط عنها معنى الوقت وصارت حرفاً كإن ـ أي للشرط)(1).
فتكون إذاً صورة البيع المعلّق واقعة إذا قال: إذا اشتريت سلعة كذا بكذا، أو إن اشتريت سلعة كذا بكذا، فقد أربحتك فيها، أو اشتريتها منك بكذا. حيث يعلِّق المشتري الثاني شراءه على شراء المشتري الأوّل للسلعة، فيكون التعليق على أمرٍ قد يحصل وقد لا يحصل، وهذا أمر فيه من الغرر ما فيه، فيفسد.
والفقهاء عندما تكلّموا في البيع المعلَّق أرادوا به صيغة بيع وشراء جازم يوقعها العاقد، ليتمَّ أثرها من وقوع البيع فور حصول الشيء المعلَّق عليه دون حاجة لتجديد العقد، فقالوا بفساد البيع المعلَّق وعدم وقوعه، للغرر في حصول ذلك الشيء المعلَّق عليه. أمَّا صيغة ( إن اشتريت سلعة كذا بكذا أشتريها منك بكذا، أو أربحك فيها كذا ) فليست صيغةً جازمة حتى تكون عقداً، حيث أتى القائل بها بصيغة المضارع الواقع مستقبلاً، فإنه وإن كان ملزماً بوعده، فسيستأنف عقد الشراء مع المشتري الأول في المستقبل بعد شرائه السلعة، أي أن هذه الصيغة هي اتفاق على الشراء والبيع في المستقبل، فلا هي تعليق، لا من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى.
الوجه الثاني: إن الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى، لم يرد خطر التعليق بكلامه لما يلي:
أنه حكم بفساد المسألة حال الإلزام لسببين يتحققان معاً، وكل واحد منها كفيل بإفسادها. وفي الأول قال: تبايعاه قبل أن يملكه. فلو كان مراده من المخاطرة في السبب الثاني خطر التعليق لناقض ذلك السبب الأول، إذ كيف يحكم بأنهما يكونان قد تبايعاه قبل ملكه ثم يقول في السبب الثاني: بأنه على خطر التعليق، مع أن عقد البيع المعلَّق لا يقع فلا يكون ثَمّ تبايع بينهما !!!
__________
(1) التلويح على التوضيح للتفتازاني: 1/120.(1/133)
قال الإمام الشافعي: الثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته بكذا أربحك كذا. هذه الصيغة التي المسألة على مخاطرتها ليست من قبيل التعليق لمجيء الفعل للاستقبال (أربحك) فهو مضارع قد تمحّض للاستقبال، فلو أراد الإمام الشافعي التعليق لقال:على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحتك فيه كذا. فيأتي بالماضي.
أمّا عن المعنى الذي أراده الشافعي بتلك المخاطرة فهو أن مسألة ( اشتر هذه وأربحك فيها كذا ) كما صوّرها كلامه، فيها مخاطرة عدم رضا البائع ثمن السلعة التي اتّفق مع المأمور على شرائها منه، وذلك إذا لم يكن الآمر عالماً بثمن السلعة التي يرغب إلى المأمور بشرائها، فهو إذا قال له مثلاً: ( اشتر هذه وأربحك فيها عشرةً ) فإنه لم يرد أي ثمن تضاف إليه العشرة، وإنّما أراد ثمناً في حدود معيّنة، أو بقدر معيّن. فإذا كان الآمر ملزماً بالشراء ولم يحصل تحديد للثمن، فإن الأمر سيؤول إلى عقد لم يرض به المشتري إن انتهى الثمن إلى فوق ما قدّره وأراده، فكان في المسألة مع الإلزام خطر أن الآمر أراد الشراء مرابحةً على ثمن معيّن دون غيره، وهو ما عبّر عنه الإمام الشافعي بقوله: ( أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته بكذا أربحك فيه كذا ). فإذا لم يتحقق الشراء بذلك الثمن، تحقق إكراه الآمر على الشراء بثمن لا يرضاه مادام ملزماً بالشراء. فكان في المسألة التي ذكرها الشافعي إذاً حال الإلزام شبهة بيع ما لم يملكه البائع، وخطر البيع على ثمن معيّن قد لا يتحقق، فينعدم الرضا. أمّا لو كان ثَمَّ خيار للآمر بالشراء وعدمه، فلا محذور في هذا،لأنه إن اختار الشراء وقد علم الثمن، فقد تحقق رضاه وعلم بإقباله على العقد.
الفصل الثالث
العقد والوعد
ويتضمن ثلاثة مباحث
المبحث الأول: العقد
المبحث الثاني: الوعد
المبحث الثالث: منشأ الشبهة بين العقد والوعد
المبحث الأول
العقد
أولاً ـ معنى العقد(1/134)
لغةً: قال صاحب اللسان(1) العقد: نقيض الحل، وهو العهد، والمعاهدة،وعُقدة النكاح والبيع: وجوبهما.(2)
يقول صاحب مقاييس اللغة (3): العين والقاف والدال أصل واحد يدلُّ على شدِّ وشدَّة وثوق، وإليه ترجع فروع الباب كلها.(4)
وقد استعملت كلمة العقد للربط المعنوي بين كلامي المتعاقدين استعمالها للربط الحسّي بين طرفي الحبل، لتفيد معنى التوثيق والإحكام، وليكون ما يتمُّ بين المتعاقدين عهداً موثقاً.
هذا وليس استعمال العقد في الذي يكون بين المتعاقدين من قبيل المجاز، لأن الربط بمعنى العقد يكون في الحسّيَّات والمعنويات. يقول الشوكاني:
( العقود: العهود، وأصل العقود: الربوط، وأحدها عقد، يقال: عقدت الحبل والعهد، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني، أفاد أنه شديد الإحكام، قوي التوثيق ) (5)
__________
(1) هو ابن منظور: محمد بن مكرّم بن علي، جمال الدين الإفريقي، ولد بمصر سنة 630هـ، لغوي حجّة، أديب، اختصر كتباً كثيرة منها (مختصر تاريخ دمشق)، توفي سنة 711هـ. الأعلام للزركلي: 7/108.
(2) لسان العرب لابن منظور.
(3) هو أحمد بن فارس القزويني، ولد سنة 329هـ، من أئمة اللغة والأدب، أصله من قزوين، قرأ عليه البديع الهمذاني والصاحب بن عَباد، من مصنفاته: (جامع التأويل) وهو كتاب في التفسير، توفي سنة 365هـ. الأعلام للزركلي: 1/193.
(4) مقاييس اللغة لابن فارس.
(5) فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من علم التفسير: للشوكاني 2/6.(1/135)
العقد اصطلاحاً: نجد خلافاً بين الفقهاء في إطلاق كلمة العقد، إذ أطلقه بعضهم على كل تصرف ينشأ عنه حكم شرعي، سواء أكان صادراً من طرف واحد كالنذر والطلاق والصدقة، أم من طرفين متقابلين كالبيع والإجارة. فيكون هذا معنىً عاماً للعقد يفيد مطلق الالتزام، وعلى ذلك الجمهور غير الحنفية. ويستدل لذلك الإمامُ الفخر الرازي(1) في تفسيره بأن الله سبحانه وتعالى قد سمَّى التكاليف الشرعيَّة عقوداً أيضاً، إذ هي مشمولةٌ بقوله تعالى: (( يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقودِ )) (2) وإنما سمّاها تعالى عقوداً لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء، بالحبل الموثق، تأكيداً على لزومها وأهميتها.(3)
وبالمقابل نجد تقييداً لكلمة العقد اصطلاحاً بأنه الذي يكون بين طرفين متقابلين، أو هو كما يقول صاحب العناية: ( تعلَّق كلام أحد المتعاقدين بالآخر شرعاً على وجه يظهر أثره في المحل ). (4)
فهذا هو المعنى الخاص للعقد، وعليه لا يكون الالتزام الذي يصدر من طرفٍ واحدٍ عقداً، وذلك كالنذر والإبراء. والفقهاء عموماً عندما يطلقون كلمة العقد، فإنمَّا يعنون المعنى الخاص كما هو عند الحنفيَّة.
__________
(1) الفخر الرازي:محمد بن عمر،فخر الدين الرازي،ولد بالري سنة544هـ، فقيه شافعي،أصولي، متكلَّم،مفسِّر، من كتبه: ( المحصول في علم الأصول )، توفي بهراة سنة 606هـ. سير الأعلام النبلاء للذهبي: 21/500.
(2) من سورة المائدة، آية رقم (1).
(3) التفسير الكبير ( تفسير الرازي): 11/125، وانظر نظرية العقد لابن تيمية:ص78. بل إن تسمية كتاب نظرية العقد ثم إدراج اليمين والنذر وكثير من العبادات ليدل على عموم مصطلح العقد لدى ابن تيمية.
(4) العناية للبابرتي (مطبوع بهامش فتح القدير): 5/456.(1/136)
ويأتي القانون أيضاً ليوافق تعريف العقد بالمعنى الخاص الذي ذكره الحنفيَّة، كما يدلُّ على ذلك السنهوري في الوسيط في تعريفه: ( توافق إرادتين على إحداث أثرٍ قانوني من إنشاء التزام أو نقله أو تعديله أو إنهائه). (1)
ثانياً ـ عناصر العقد: يتألف العقد من عاقدين، ومعقود عليه، وصيغة التعاقد.
أمّا العاقدان: فهما مَنْ اجتمعت إرادتهما لإنشاء العقد وتحصيل مقصوده، كالبائع والمشتري في عقد البيع.
وأمّا المعقود عليه: فهو ما يقع عليه التعاقد. كالسلعة المبيع في عقد البيع.
وأما صيغة التعاقد: فهي الإيجاب والقبول.
وفي تحديد الإيجاب والقبول وتعريفهما يختلف الحنفيّة مع الجمهور، إذ يعدُّ الحنفية إيجاباً ما صدر أوًّلاً من المتعاقدين، معبِّراً عن إرادته في إنشاء العقد.
والقبول: ما صدر ثانياً بعد الإيجاب معبِّراً عن موافقته على كلام الموجب.
وعلَّل الحنفيَّة سبب تسمية الأوّل إيجاباً بأنه يوجب، أي يثبت، للطرف الآخر خيار القبول، فإذا قبل سُمّي كلامه قبولاً.(2)
أمّا الجمهور: فالإيجاب عندهم ما صدر من المملِّك، والقبول ما صدر من المتملك.(3)
فعلى هذا لو قال أحدٌ لآخر: اشتريت منك سلعة كذا بكذا. فقال الآخر: قبلت. انعقد البيع عند الجميع، ويكون الكلام الصادر أولاً ـ وهو قول المشتري ـ إيجاباً عند الحنفية، وقبولاً عند الجمهور. والكلام الصادر ثانياً قبولاً عند الحنفية، وإيجاباً عند الجمهور. وليس في هذا الخلاف ثمرةٌ في حيِّز التطبيق العملي فيما أعلم.
__________
(1) الوسيط للسنهوري: 1/137.
(2) فتح القدير لابن الهمام والعناية بهامشه: 5/456.
(3) حاشية الشيخ الجمل على المنهج:3/6-7-8، مواهب الجليل للحطّاب:4/228،المغني لابن قدامة:6/7.(1/137)
ثالثاً ـ حكم العقد من اللزوم وعدمه: لا خلاف في أن العقد ملزم، فيترتب عليه التزام كل طرفٍ بما يجب عليه، ولكلٍ من الطرفين الحق بإجبار الطرف الآخر على تنفيذ مقتضى ما التزمه قضاءً، إذ هذا ما يوافق معنى العقد الذي استعمل له؛ ولولا الالتزام، لما كان للعقد فائدة.(1) قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا أَوفُوا بِالْعُقُودِ ))(2).
المبحث الثاني
الوعد
أولاً ـ معنى الوعد
لغةً: يدور المعنى اللغوي والاصطلاحي للوعد على الإخبار بإيصال الخير أو الشر، ويغلب استعمال الوعد في الخير، والوعيد في الشر. وإذا أدخلت الباء إلى الشر الموعود به كالسجن، جيء بالألف فقيل أوعده بكذا.(3)
والمواعدة هي التي تكون بين اثنين. قال الزبيدي(4):واعدتَ زيداً إذا وعدك ووعدته. ووعدتَ زيداً إذا كان الوعد منك خاصَّة.(5)
اصطلاحاً: يقول العيني(6): الوعد في الاصطلاح: الإخبار بإيصال الخير في المستقبل. والإخلاف: جعل الوعد خلافاً. وقيل هو عدم الوفاء به.(7)
ثانياً ـ مذاهب الفقهاء في حكم الوعد من اللزوم وعدمه
__________
(1) نظرية العقد لابن تيمية:ص78، الفروق للقرافي: 4/13.
(2) سورة المائدة. الآية (1).
(3) مختار الصحاح للرازي.
(4) الزبيدي: محمد بن محمد، الملقب بالمرتضى، ولد بالهند سنة 1145هـ، منشؤه باليمن، وإقامته بمصر، من أئمة اللغة، من كتبه: (مختصر العين للخليل بن أحمد)، توفي بالطاعون بمصر سنة 1205هـ. الأعلام للزركلي: 7/70.
(5) تاج العروس للزبيدي
(6) العيني: محمود بن أحمد، بدر الدين العيني، ولد سنة 762هـ، أصله من حلب، استقر بالقاهرة، فقيه حنفي، مؤرخ، محدث، قاضٍ، نحوي، لغوي، من كتبه (عمدة القاري شرح صحيح البخاري) توفي بالقاهرة سنة 855هـ. الأعلام للزركلي: 7/163.
(7) شرح العيني على صحيح البخاري: 1/220.(1/138)
ذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية إلى استحباب الوفاء بالوعد مطلقاً دون وجوبه، ولو معلّقاً على شرط، أو دخل الموعود بسببه في النفقة.(1)
يقول الإمام النووي(2): ( وقد أجمع العلماء على أنّ من وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده، وهل ذلك واجب أو مستحب ؟ فيه خلاف بينهم، ذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور، رحمهم الله تعالى،إلى أنه مستحب... وذهب جماعة إلى أنه واجب. قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي: أجلُّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز(3)، قال " ابن العربي": وذهبت المالكية مذهباً ثالثاً إلى أنه إن ارتبط الوعد بسبب كقوله: تزوّج ولك كذا. أو احلف أنك لا تشتمني ولك كذا. أو نحو ذلك، وجب الوفاء، وإن كان وعداً مطلقاً لم يجب.)(4)
__________
(1) المغني لابن قدامة: 6/284، المحلّى لابن حزم: 8/27، الاستذكار لابن عبد البر: ص396.
(2) النووي: يحيى بن شرف، الحوراني، محي الدين، أبو زكريا، ولد بنوى من قرى حوران بسورية سنة 631هـ، فقيه شافعي، حافظ، من تصانيفه ( رياض الصالحين) في الحديث، (منهاج الطلاب) في الفقه الشافعي، توفي بنوى سنة 676هـ. الأعلام للزركلي: 8/149.
(3) عمر بن عبد العزيز، بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين، خامس الخلافاء الراشدين، التابعي، الأمام العادل، ولد بالمدينة سنة 61هـ، حافظ للحديث، فقيه مجتهد، زاهد، دامت خلافته سنتين وخمسة أشهر، توفي بدير سمعان قرب المعرَّة بسورية سنة 101هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/114.
(4) الأذكار للنووي، باب الأمر بالوفاء بالعهد والوعد: ص396.(1/139)
إلا أنه عند التحقيق في مذهب الحنفية نجد إمكان التفريق عندهم بين وعدٍ مطلق ووعد معلَّق على شرط، فيلزم الوعد المعلَّق على شرط في عقود المعاوضات منعاً للتغرير بالموعود، وجعلوا ذلك من قبيل الضمان الذي يثبت بالكفالة. وعُبّر عن ذلك بقاعدة: ( المواعيد بصورة التعاليق تكون لازمة ) ومُثِّل له بما لو قال رجلٌ لآخر: بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه، فأنا أعطيه لك. فلم يعط المشتري الثمن، لزم الرجل أداء الثمن المذكور بناءً على وعده المعلَّق. ففي قول الواعد: (وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك) تعليق بخلاف: (بع ما لك من فلان وأنا أدفع لك الثمن). فليس ثَمَّ تعليق هنا، فلا يلزم الواعد شيء.(1)
أمّا مذهب المالكية، فليس كل المالكية قائلاً بلزوم الوعد، وليس قول القائلين منهم به على إطلاقه، بل ثَمَّ تفصيل:
القول بلزوم الوعد مطلقاً: من أبرز القائلين به ابن العربي إذ قال: (والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر).(2)
وابن الشاط(3) كابن العربي حيث يقول في حاشيته على الفروق المسمّاة: (أدرار الشروق على أنواء الفروق): (الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقاً).(4)
__________
(1) فتح القدير للكمال بن همام: 6/185، حاشية ابن عابدين: 7/623، مجلّة الأحكام العدلية وشرحها لسليم رستم باز، مادّة (84): ص56.
(2) أحكام القرآن الكريم لابن العربي: 4/243.
(3) ابن الشاط: قاسم بن عبد الله بن محمد الشاط، الأنصاري، فقيه، أديب، حسن الشمائل، صنّف في علم الفرائض، توفي سنة 723هـ. الديباج المذهّب لابن فرحون: 2/152.
(4) أدرار الشروق على أنواء الفروق لابن الشاط (مطبوع مع كتاب الفروق): 4/24-25.(1/140)
عدم اللزوم مطلقاً: من القائلين بذلك القرافي(1) كما يتبيّن من مناقشته لأدلة الوفاء بالوعد وكلامه فيه.(2)
اللزوم إن كان معلَّقاً على سبب: وإلا فلا يلزم سواء أدخل الموعود في السبب بالفعل، أم لم يدخل. وهو قول أصبغ.(3)
اللزوم إن كان معلَّقاً على سبب ودخل الموعود في هذا السبب: كمن قال لآخر: اهدم دارك وأنا أسلفك. فهدم داره، وجب إسلافه. وهو قول مالك وابن القاسم وسحنون. وهو الراجح عند المالكية.(4)
أقوال لبعض فقهاء السلف:
ذهب ابن شبرمة(5) إلى وجوب الوفاء بالوعد مطلقاً، كما يذكر ذلك ابن حزم عنه فقد نقل عنه: ( الوعد كله لازم ويقضى به على الواعد ويجبر ).(6)
__________
(1) القرافي: أحمد بن إدريس، شهاب الدين، المصري، ولد بهنسا في مصر، فقيه مالكي، أصولي، مفسر، محدث، متكلم، نحوي، من كتبه (شرح المحصول للرازي) في أصول الفقه، توفي بالقاهرة سنة 684هـ. الديباج المذهّب لابن فرحون: 1/236، شجرة النور الزكية لمحمد خلوف: ص188
(2) الفروق للقرافي: 4/21-25.
(3) فتاوى الشيخ عليش: 1/212، تفسير القرطبي: 18/77.
وأصبغ هو:أصبغ بن الفرج، أبو عبد الله، ولد بمصر، سنة 150هـ، فقيه مالكي، أخذ فقه المالكية عن أشهب وابن القاسم، جمع أقوال مالك، من كتبه (تفسير غريب الموطأ)، توفي بمصر سنة 225هـ. شجرة النور الزكية لمحمد خلوف:ص66.
(4) فتاوى الشيخ عليش: 1/212. تفسير القرطبي: 18/77.
(5) ابن شبرمة هو: عبد الله بن شبرمة الفقيه التابعي قاضي الكوفة، وثقه كثير من الأئمة، كان قليل الحديث، توفي سنة 144هـ. سيرأعلام النبلاء للذهبي: 6/347، ميزان الاعتدال للذهبي: 2/438.
(6) المحلى لابن حزم: 8/28. مسألة (1125).(1/141)
وذكر البخاري(1) في صحيحه أن ابن الأشوع(2) كان يقول بلزوم الوعد، وقد قضى به وهو قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد بن القسري(3) على العراق. وذكر ابن الأشوع القضاء بإنجاز الوعد ولزومه عن سمرة بن جندب(4) رضي الله تعالى عنه أيضاُ.(5)
وكذلك قضى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بالوعد إن قيّده الواعد بسبب.(6)
__________
(1) البخاري: محمد بن إسماعيل، أبو عبد الله، ولد ببخارى سنة 194هـ، أمام المسلمين في الحديث، فقيه، مؤرخ، جمع نحو 600ألف حديث اختار منها لكتابه (الجامع الصحيح) وهو أصح كتب الحديث، ومن كتبه: (الأدب المفرد)، توفي سنة 259هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/322.
(2) ابن الأشوع: سعيد بن عمرو بن أشوع، الهمداني، الكوفي، القاضي، قال ابن معين مشهور، وذكره ابن حبان في الثقات، توفي في ولاية خالد بن عبد الله. تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني: 2/329.
(3) خالد القسري: خالد بن عبد الله، الدمشقي، أمير العراقين لهشام بن عبد الملك، أمير مكّة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان، كان كريماً جواداً، مات قتلاً سنة 126هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/425.
(4) سمرة بن جندب: بن هلال، الصحابي الجليل، من الأنصار، كان غلاماً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، نزل البصرة، كان شديداً على الخوارج، توفي سنة 58هـ.الإصابة لابن حجر العسقلاني:/178.
(5) عمدة القاري للعيني: 13/258.
(6) الفروق للقرافي: 4/24-25.(1/142)
والإمام الغزالي(1) يرى لزوم الوفاء بالوعد إن كان جزماً، إذ قال: ( ثم إذا أفهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بُدَّ من الوفاء إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي فهذا هو النفاق )(2).
وابن حجر العسقلاني في شرحه على صحيح البخاري يرجح لزوم الوعد. فقد ساق أدلّةً للوجوب ثم قال: ( والدلالة للوجوب منها قويّة، فكيف حملوه على كراهة التحريم مع الوعيد الشديد !؟000)(3)
وعملُ ابن القيّم في إعلام الموقعين يدلّ على ترجيحه وجوب الوفاء بالوعد، فقد أورد أدلّة الوعد مع النصوص الدّالة على وجوب الوفاء بالعقد، وأجاب عن أدلة الوعد من حيث سندها فقال: ( أمّا ضعفها من جهة السند، فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع بالاستشهاد بالضعيف إن لم يكن عمدة ).(4)
وهكذا تبين واضحاً كثرة القائلين بوجوب الوفاء بالوعد، وأنَّ هذا القول لا يستهان به، وإن كان في مقابلة الكثرة القائلة بعدم اللزوم. إلا أن الخلاف بينهم مشهور كما قال ابن حجر في فتح الباري.(5)
ولا بُدَّ من استعراض أدلة الفريقين، نظراً لأهمية الوعد في مسألة البحث لتوقفها في جانب عظيم منها عليه.
أدلّة القائلين باللزوم:
من أبرز تلك الأدلة:
__________
(1) الغزالي: محمد بن محمد، أبو حامد، حجّة الإسلام، ولد بخراسان، سنة 450هـ، فقيه شافعي، متكلم، أصولي، مفسِّر، متصوّف، فيلسوف،، شاعر، من مصنفاته (إحياء علوم الدين)، (المستصفى) في أصول الفقه، (تهافت الفلاسفة)، توفي بخراسان سنة 505هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 19/322.
(2) إحياء علوم الدين للغزالي: 3/142.
(3) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 5/142.
(4) إعلام الموقعين لابن القيم: 1/345-348. وانظر لمزيد من الأقوال (بيع المرابحة للآمر بالشراء) للقرضاوي:ص65 وما بعدها.
(5) فتح الباري لابن حجر العقلاني: 5/290.(1/143)
قوله تعالى: (( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ - َكبُرَ مَقْتاً عِنْدَ الله أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ))(1)
فالآيتان بعمومهما نصٌّ في وجوب التزام المؤمن بما يصدر عنه، وأن غير ذلك إثم كبير، فيكون محرّماً.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان ))(2)
فالحديث يجعل الخلف بالوعد نفاقاً، وكفى به إثماً يوجب الوفاء بالوعد.
حديث الكذب على النساء. وهو ما أخرجه مسلم بسنده (( عن أم كلثوم بنت عقبة(3) أنها لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها ))(4)
فهذا الحديث يثبت بطريق المفهوم المخالف أن غير ما استثني كذب حرام ؛ والخلف بالوعد كذب، فيكون حراماً.
وثمّة أحاديث أخرى لم تخل من ضعف، ذكرها ابن حزم في المحلّى.(5)
أدلّة القائلين بعدم لزوم الوعد:
__________
(1) من سورة الصف، آية (2-3).
(2) البخاري في الصحيح: 1/21، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، حديث رقم (33).
مسلم في الصحيح: 1/78. كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، حديث رقم (107).
(3) أم كلثوم بنت عقبة: بن أبي معيط، من الصحابيات المهاجرات، فيها نزل قوله تعالى: (( إِذَا جاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أعْلَمُ بِإيْمَانِهِنَّ )) [ سورة الممتحنة، آية 10]، حيث فرَّت من أهل مكة زمن الحديبية توفت في خلافة علي رضي الله تعالى عنهما. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 8/291.
(4) مسلم في الصحيح:4/2012.كتاب البر والصلة والآداب.باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه،رقم(2605).
أبو داود في السنن: 5/219. كتاب الأدب. باب في إصلاح ذات البين. حديث رقم (4921).
(5) المحلّى لابن حزم: 8/29.(1/144)
لا نجد دليلاً قطعياً استند عليه الكثرة القائلون باستحباب الوفاء بالوعد وعدم لزومه رغم أنه القول الغالب، إلا أنهم تواتروا على القول بالاستحباب دون الوجوب، حتى نقل بعضهم الإجماع على ذلك، ممّا استدعى قول ابن حجر: نقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل.(1)
ومن أدلّة هذا الفريق، والتي أوردها القرافي في الفروق:
ما رواه زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إذا وعد أحدكم أخاه ومن نيته أن يفي ولم يجئ للميعاد، فلا شيء عليه ))(2).
وهذا الحديث سكت عنه أبو داود، ولكن ذكر المنذري في مختصره عن أبي حاتم الرازي(3) أن في سنده راويين مجهولين هما أبو النعمان وأبو وقاص. وقال فيه الترمذي: غريب، وليس اسناده بالقوي. وقال: لا يعرف النعمان وأبو وقَّاص وهما مجهولان.(4)
وقال ابن الشاطّ المالكي ـ رداً على الاستشهاد بهذا الحديث ـ بحمله على أنه لم يفِ مضطراً جمعاً بين الأدلّة.(5)
__________
(1) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 5/290.
(2) أخرجه: أبو داود في السنن: 5/268. كتاب الأدب. باب في العِدة. حديث رقم (4995).
... الترمذي في سننه: 7/291. أبواب الإيمان. باب ما جاء في علامة المنافق. حديث رقم (2635).
(3) أبو حاتم الرازي: محمد بن إدريس، ولد بالري سنة 195هـ، حافظ للحديث،من أقران البخاري ومسلم، له (طبقات التابعين)، (كتاب الزينة)، توفي ببغداد سنة 277هـ. سير أعلام النبلاء للذهبي: 13/247.
(4) مختصر السنن للمنذري: 7/283. سنن الترمذي: 7/291.
(5) الفروق للقرافي: 4/22.(1/145)
ما روى مالك في الموطأ:((أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذب امرأتي يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في الكذب. فقال الرجل يا رسول الله، أفأعدها وأقول لها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاجناح عليك ))(1)
وقد طعن في هذا الحديث بالإرسال، إذ أرسله عطاء بن يسار، وهو في الموطأ عن صفوان بن سليم(2) دون ذكر عطاء.(3)
وقد رُدَّ على الاستدلال بهذا الحديث بأنه رُخِّصَ فيه بالخلف، إصلاحاً لما يكون بين الرجل وزوجته، وما عدا ذلك يبقى على الأصل من اللزوم.
كما نوقش هذا الاستدلال بأنه لا دلالة في الحديث أصلاً على جواز إخلاف الوعد، فإن الحديث ينفي الجناح عن وعد الزوج زوجته وعداً قد يمكن الوفاء به وقد لا يمكن، ولا تعرض فيه لجواز الإخلاف.
كما استدل هذا الفريق أيضاً بأن الوعد في معنى الهبة، والهبة لا تلزم إلا بالقبض عند الجمهور.(4)
ولقد ردَّ هذا الفريق على استدلال الفريق الأول بأدلّته بأنَّ الآية نزلت في أمور الطاعة والعبادة، وذمِّ الرياء، ومن يأمر بالمعروف ولا يأتيه.
__________
(1) الموطأ للإمام مالك: 2/989. كتاب الكلام باب ماجاء في الصدق والكذب. وهو في الموطأ من رواية مالك عن صفوان 000 رفعه. فهو معضل.
(2) صفوان بن سليم: أبو عبد الله، مدني، تابعي، إمام، ثقة، حافظ، فقيه، وثقه الإمام أحمد ابن حنبل، عرف بكثرة العبادة، توفي سنة 132هـ وقد عاش 72 سنة. سير أعلام النبلاء للذهبي: 5/364.
(3) المغني عن حمل الأسفار للعراقي، مطبوع مع كتاب الأحياء: 3/137.
(4) الأذكار للنووي، باب الأمر بالوفاء بالعهد والوعد: ص396.(1/146)
وقالوا في حديث ( آية المنافق ) بأن الذمّ إنّما يحسن فيما إذا كان الخلف سجيِّةً في الواعد، وهي صفة المنافق. واستدلّوا على أن المراد ذلك بأن إخلاف الوعيد محمود، وبأن مخلف الوعد قد يكون مطيعاً، فالذي يخلف وعده بارتكاب المعصية هو طائع لا عاص. ولم يسلموا بأن مخلف الوعد ليس كاذباً، فقالوا: مخلف الوعيد لا يسمّى كاذباً، فكذا مخلف الوعد.(1)
الاختيار والترجيح:
باستعراض ما سبق، أرى أن الوفاء بالوعد المطلق غير المعلَّق على سبب، والذي لا يترتب عليه ضرر معتبر بالموعود لازم إن أمكن ذلك الواعد، لأنه إن أخلف وفي مقدوره الوفاء، أو لم يقم داع للخلف، انطبق على الواعد مسمّى الكذب الذي هو معصية يأثم بها، ولكن مع لزوم هذا الوعد المطلق، ليس للقضاء أن يتدخّل فيلزم الواعد، نظراً لعدم تضرر الموعود حقيقةً بهذا الخلف، فلا تسمع دعواه، ويبقى أمر الجزاء بين الواعد وربِّه سبحانه وتعالى، كالكذبة التي يكذبها الإنسان ولا يتضرر بها أحد.
وأرى الأخذ بالراجح عند المالكيّة من لزوم الوعد إذا كان معلَّقاً على سبب، ودخل الموعود في ذلك السبب، كاهدم دارك وأبني لك خيراً منها أو أقرضك، فهدم داره، لزم الوعد، وكان للموعود مقاضاة الواعد ليفي بوعده أو ليعوّضه، ولكن بمقدار الضرر الفعلي الذي لحق به من جرَّاء نكول الواعد، دفعاً للضرر عن الموعود الذي لحق بسبب هذا الوعد، وللتغرير الذي كان من الواعد.
اختيار المجمع الفقهي:
قرر المجمع الفقهي لزوم الوعد ديانةً إلا لعذر، ولزومه قضاءً إذا كان معلّقاً على سبب، ودخل الموعود في كلفةٍ نتيجة هذا الوعد. وحدَّد أثر الإلزام بالتنفيذ أو التعويض بمقدار الضرر الفعلي، إذا كان الخلف بلا عذر.(2)
ثالثاً ـ مجال الوعد
__________
(1) الفروق للقرافي: 4/25، المحلّى لابن حزم: 8/29.
(2) قرار مجلس المجمع الفقهي في دورته الخامسة سنة 1988 رقم (2-3) بالكويت. الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 9/556.(1/147)
لا شك أن الوعد من حيث معناه اللغوي يشمل كل إخبار بفعل أو ترك للمستقبل. وهذا المعنى اللغوي للوعد مستعمل عند العرب لغويِّهم وفقيههم على السواء،فهي ـ كلمة وعد ـ مفردة لاغنى عنها في العربية،وهي في المعنى الذي تُراد له لا بديل عنها بغيرها.
ولكن السؤال هنا: هل الوعد الذي اختلف الفقهاء في حكمه كما رأينا بين قائل بلزوم الوفاء به، وقائل باستحبابه، يتَّجه ليشمل كل ما ينطبق عليه لغةً من أمور معروف وأمور معاوضات، أم يختص بأمور المعروف والإحسان، فيترتب على هذا أن ما كان معاوضةً فسبيله العقد عند من يقول بلزوم الوعد، ولا عبرة للاتفاق الحاصل خارج هذا العقد من حيث اللزوم وعدمه !؟
الجواب على هذا بأنّا نجد نصوصاً تفهم بأن الوعد الذي تحدّث لفقهاء في حكمه ـ وهو المعنى الاصطلاحي عندهم ـ يختص بأمور المعروف والإحسان.
يقول العيني في شرحه على صحيح البخاري: الوعد في الاصطلاح: الإخبار بإيصال الخير في المستقبل.(1)
ويقول ابن عرفة ـ وهو من المالكية ـ في تعريف الوعد: هو إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل.(2)
ويقول القرافي بعد أن ذكر قولين في دخول الكذبِ الوعد وعدم دخوله، الأول: لا يدخل لأن الوعد للمستقبل، والكذب يختص بالماضي والحاضر. والثاني: يدخل. قال بعد ذلك: وإنما سُومح فيه تكثيراً للعدة بالمعروف.(3)
فمجموع تلك الأقوال يشير إلى أن الوعد الذي حكى الفقهاء حكمه قد عنوا به الذي يكون في أمور المعروف والإحسان.
__________
(1) عمدة القارئ للعيني: 1/220.
(2) فتح العلي المالك (فتاوى الشيخ عليش): 1/212.
(3) الفروق للقرافي: 4/24.(1/148)
وممّا يدعم عدم شمول الوعد الملزم ـ عند من قال بلزومه ـ جانب المعاوضات وبخاصَّةٍ فيما يكون بين طرفين اثنين، أن المالكيَّة ـ و هم من انتهى إليهم القول بلزوم الوعد على اختلاف حالاته من بين فقهاء المذاهب كما سبق ـ يفهم كلامهم في مسائل العينة عندهم ـ والتي منها مسألة البحث ـ أن المواعدة في تلك المسائل لا دخل للإلزام فيها، ولولا هذا التصريح منهم غير مرَّة، لأمكن تفسير أقوالهم في بناء محاذير العينة من بيعتين في بيعة، وبيع ما ليس عند البائع، وسلف بزيادة على قولهم بلزوم الوعد، إذْ أنَّ بناء هذه المحاذير لا يكون على التصريح إلا في حال لزوم الوعد، أمّا في غير هذه الحال، فهو من باب الشبهة وسد الذريعة كما سبق ذكره مفصَّلاً 0
يقول ابن العربي المالكي مفسِّراً للبيعتين في بيعه، وأن العينة تنطبق عليها، وهو ما سمّاه ببيع ما ليس عندك: ( إذا جاء الرجل فقال لآخر اشتر لي. أو: اشتر سلعة بكذا. أو: بما اشتريتها و بعها منى بكذا0000 قال: أمّا تفسيره ببيع ما ليس عندك 000 ولا يمكن تفسيره به على التصريح إلا إذا شارطه عليه و التزم له ما يشتري، أمّا إذا فاوضه فيه و أوعده عليه، فليس يكون حراماً محضاً ولكن من باب شبهة الحرام والذريعة به)(1)
فقد جعل ابن العربي هنا المواعدة بمقابلة الاشتراط و الالتزام.
كما جعلوا هذه المواعدة من قبيل المراوضة، و المراوضة لا تكون اتِّفاقاً ملزماً، فقد أُثِر تسمية هذه المواعدة مراوضةً، إذ علَّل الإمام مالك بالمراوضة مرَّةً حرمة صورة ( اشتر سلعة كذا بعشرة وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل )،(2) وهي مواعدة كما علم.
كل ذلك يدلّ على عدم شمول المواعدة التي تكون في أمور المعارضات للوعد الذي تحدَّث الفقهاء في حكم لزومه.
رابعاً ـ الإلزام الدّياني والقضائي:
__________
(1) شرح سنن الترمذي لابن العربي: 5/240.
(2) المدونة للإمام مالك: 5/402.(1/149)
هل ثمَّ فرق في الشريعة الإسلامية بين ملزمٍ ديانةً وملزم قضاءً ؟ أي هل هناك ما يكون ملزماً ديانةً ولا يكون ملزماً قضاءً. وبعبارة أخرى: هل يمكن لمن يقول بأن الوعد لازم الوفاء به أن يقول: هو ملزم ديانةً فيما بين العبد وربِّه، وليس ملزماً أمام القضاء إن رفع الأمر إليه.
الجواب: إنَّه من المعلوم أن الشريعة الإسلامية قائمةٌ على الظاهر والباطن معاً، وكل لازم ديانةً لازم قضاءً إذا أمكن الاطلاع عليه وتعلَّق به حق الغير، لأن القضاء قائم على الظاهر ويستدعي طالب حق. وقد يكون هذا الحق أيضاً حقَّاً لله سبحانه وتعالى لا مطالب له من جهة العباد، كما لو أهمل مالك الدوّاب دوابَّه فلم يُطعمها حتى تعرَّضت للهلاك، فإن للقضاء هنا أن يتدخل فيُلزم ذلك المالك برعاية دوابّه، مع أن رعاية الحيوان المنتفع به وترك الضرر به واجب دياني في الأصل.
فعلى هذا، ما كان من قال بلزوم الوعد إذاً ليفرِّق بين لازم ديانة ولازم قضاءً فيقول: الوعد لازم ديانةً وليس لازماً قضاءً، ما دام قد تعلَّق بالوعد حق للموعود يُقره القضاء، واطلَع الموعود عليه، إذ القضاء حارس على حكم الشريعة ومنفذ له.
وقد سبق تصريح بعض من قال بلزوم الوعد بالقضاء به، فقد صرَّح المالكيّة بذلك إن دخل الموعود بسبب الوعد المعلَّق على سبب في شيء ـ أي في كلفة ـ وهو القول الراجح عندهم، وقد سبق القضاء بالوعد عن عمر بن عبد العزيز، وابن الأشوع، وابن شبرمة، ولا مناص من حمل ذلك على حالةٍ تضرّر فيها الموعود ودخل في كلفة.(1)
المبحث الثالث
منشأ الشبهة بين العقد والوعد الملزم وأثر ذلك
__________
(1) انظر ص (143) من هذا البحث، وانظر للتوسع في ذلك، وفي مسألة شمول الوعد بالمعاوضات كتاب د. القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء ص: 76 وما بعدها.(1/150)
من الحديث عن العقد والوعد يتبين لنا أن العقد غير الوعد ملزماً كان الأخير أم غير ملزم. ولكن، لمّا كان العقد يفيد التوثيق والإحكام، وكان الإلزام في الوعد يورثه توثيقاً وإحكاماً، وكان كلٌ من الوعد والعقد اتفاقاً ؛ نشأت الشبهة بينهما، وقيل بأنّ الوعد الملزم له شبهة العقد.
واكتساب الوعد الملزم شبهة العقد في المعاوضات يثير إشكالات كثيرة في الفقه، فقد يترتب على ذلك فسادُ التصرّف الذي تمّت المواعدة الملزمة بين طرفين عليه ـ أي إن اختارا الإلزام وتشارطا عليه في اتفاقهما وتواعداهما ـ وقد رأينا كيف أن المالكية لمّا كانوا يتوسَّعون في الشبه، ويعطون لشبهة الشيء حكم حقيقة، فقد أعطوا لمطلق المواعدة على العقد حكم العقد، فقالوا بفساد صورة ( اشتر سلعة كذا بعشرة مثلاً نقداً وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل ) لوقوع شبهة بيعتين في بيعة، وبيع ما ليس عند البائع، وشبهة السلف بزيادة بسبب المواعدة الحاصلة في تلك الصيغة، على الرغم من أن المواعدة هنا خالية عمّا يدلّ على صيغة إلزام أو تشارط. فهذه الصورة عندهم يجب أن تخلو عن أي تواعد أو اتفاق ضمني أو صريح حتّى تصحّ.
يقول خليل(1): ( جاز لمطلوب منه سلعةً أن يشتريها ليبيعها بمال، ولو بمؤجل بعضه ).
__________
(1) خليل: خليل بن إسحاق، ضياء الدين الجندي، فقيه مالكي، مصري، أفتى في مصر، أتقن علوماً كثيرة، من كتبه: (المختصر) وهو أشهر مختصر في فقه المالكية، وعلى هذا الكتاب أكثر من ستين شرحاً وحاشية، وقد ترجم إلى الفرنسية، والراجح وفاته سنة 776هـ. شجرة النور الزكية لمحمد خلوف:ص223.(1/151)
قال ابن رشد شارحاً: ( الجائز لمن لم يتواعدا على شيء، ولا يتراوض مع المشتري، كالرجل يقول لآخر: أعندك سلعة كذا ؛ فيقول: لا؛ فينقلب على غير مواعدة، ويشتريها، ثم يلقاه صاحبه، فيقول: تلك السلعة عنده. فهذا جائز أن يبيعها بما شاء من نقد وكالئ، ونحوه ـ أي نحو هذا القول ـ لمطرِّف(1). قال ابن حبيب(2): ما لم يكن تعريض أو مواعدة أو عادة )(3).
فإذا كان المالكية يقولون بفساد المسألة لمجرد المواعدة مع أنها غير ملزمة هنا، ويبنون عليها تلك المحاذير توسّعاً في الشبه، فإنهم يقولون بوقوع تلك المحاذير من باب أولى حال الاتفاق على الإلزام، بل إن وقوعها حينئذ على التصريح كما قال ابن العربي.(4)
وممّا يؤكد أثر الوعد الملزم، وتحقق معنى العقد فيه، ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد أجاز التواعد في مسألة العينة عند المالكية، ولم يتكلّم عن محذور بيع ما ليس عند البائع حالتئذ. قال الإمام الشافعي: ( وإذا أرى الرجلُ الرجل َ السلعة فقال: اشتر هذه وأربحك فيها، فالشراء جائز، والذي قال أربحك فيها بالخيار، إن شاء أحدث فيها بيعاً وإن شاء تركه 000)(5)
__________
(1) مطرِّف بن عبد الله، أبو مصعب، ولد بالمدينة سنة 139هـ، فقيه مالكي، صحب الإمام مالك عشرين سنة، وهو ابن أخته، محدث، أخذ عنه البخاري، ثقة، توفي بالمدينة سنة 220هـ. شجرة النور الزكية لمحمد خلوف: ص57.
(2) ابن حبيب: عبد الملك بن حبيب بن سليمان، القرطبي، ولد سنة 174هـ، فقيه مالكي، أديب شاعر، انتهت إليه رياسة المالكية، من كتبه: (تفسير موطأ مالك)، (طبقات الفقهاء والتابعين)، توفي بقرطبة سنة 220هـ. شجرة النور الزكية لمحمد خلوف:109.
(3) مواهب الجليل للحطّاب: 4/404.
(4) شرح سنن الترمذي لابن العربي: 5/240.
(5) الأم للإمام الشافعي: 3/39.(1/152)
فالإمام الشافعي رأى أن ما كان بين الطرفين مواعدة غير ملزمة، فقال بصحّة المسألة، ولم يرتب عليها بيع ما ليس عند البائع. أمّا لو كان ثمَّ التزام بين الآمر والمأمور على الشراء والبيع، فيرى الإمام الشافعي أنَّ في المسألة شبهة بيع ما ليس عند البائع. أي أنَّ الإمام الشافعي يتّفق مع المالكية باحتمال وقوع محذور شبهة بيع ما ليس عند البائع في هذه المسألة، ويختلف معهم في أنَّ هذا الوقوع لا يكون لمطلق الوعد، بل لا بدَّ من شرط اللزوم، بدليل أنّه أجاز المسألة عند مطلق المواعدة، بشرط أن يجدّدا عقد الشراء بينهما، ولا يكتفيا بمجرّد ما حصل بينهما من وعدٍ هو غير ملزم.
يقول الإمام الشافعي: ( وسواء ـ أي في الجواز ـ ما وصفت إن كان قال: ابتعه وأشتريه منك بنقد أودين. يجوز البيع الأوّل، ويكونان بالخيار في البيع الآخر، فإن جدّداه جاز، وإن تبايعاه على أن ألزما أنفسهما الأمر الأوّل ـ أي شراء المأمور السلعة ليبيعها إلى الآمر ـ فهو مفسوخ من قبل شيئين:
أحدهما: تبايعاه قبل أن يملكه البائع.
والثاني: أنه على مخاطرة أنك إن اشتريته على كذا أربحك فيه كذا.)(1).
وهكذا فقد قرّر الإمام الشافعي وقوع شبهة بيع ما ليس عند بائعه حال الاتفاق الملزم، فحكم بأنَّ هذا الاتفاق الملزم له حكم العقد، فقد توفرت أغلب عناصر العقد فيه، وهي هنا: رضا الطرفين،واللزوم، والاتفاق على المبيع والثمن، والمعقود عليه، وله صفة اللزوم، ولكنه مع ذلك باطل لأنّه يتضمن بيع معدوم، أي بيع ما ليس عند البائع.
__________
(1) الأم للإمام الشافعي: 3/39.(1/153)
ولا يقال بأنَّ مراد الإمام الشافعي بقوله: ( وإن تبايعاه على أن ألزما أنفسهما الأمر الأول ) هو أنهما يقعان في شبهة بيع ما ليس عند البائع لو اقتصرا على المواعدة التي كانت بينهما، ولم يعقدا عقداً لاحقاً، أمّا لو أجريا عقد بيعٍ لاحق بعد شراء المأمور السلعة، فلا يكون هناك محذور بيع ما ليس عند البائع، أي: بأن المراد بألزما أنفسهما الأمر الأول، هو الاقتصار على تلك الصيغة السابقة في إجراء العقد. لا يقال هذا، لأن هذه الصيغة بحيالها لا تصلح للتعاقد، حتى يترتب عليها ذلك المحذور، لأن ألفاظها مضارعة متمحضة للاستقبال، فتفيد الوعد لا العقد الملزم، فلا بُدَّ من فهم أن المراد بـ ( ألزما أنفسهما الأمر الأوّل) أنهما اتفقا على التزام بينهما بشراء المأمور، وشراء الآمر منه لاحقاً.
الخلاصة:
يتبينُ واضحاً ممّا سبق ما في الوعد الملزم من شبهة العقد، وهو السبب الذي بنى عليه الإمام الشافعي شبهة بيع ما ليس عند البائع في المسألة التي ذكرها ـ وهي التي تنطبق على صورة مسألة البحث ـ فضلاً عن المالكية الذين منعوها لمجرّد المواعدة وإن كانت غير ملزمة، توسُّعاً في الشبه.
وتجدر الإشارة إلى أن كلاً من القانون المدني السوري، والمصري، والأردني قد عدَّ الوعد بالتعاقد عقداً كاملاً، ولكنه عقد تمهيدي لا عقد نهائي، وهو خطوة نحو التعاقد النهائي، بشرط أن يتعيّن في مرحلة الوعد بالتعاقد جميع المسائل الجوهريّة للعقد المراد إبرامه، والمدّة التي يجب إبرامه فيها، مع شكليات العقد اللازمة.
يشرح ذلك السنهوري بقوله: ( وبيان هذا، ان الواعد بالتعاقد، بالبيع مثلاً، يلتزم أن يبيع الشيء الموعود بيعه، إذا أبدى الطرف الآخر رغبته في الشراء، وهذا أكثر من إيجاب، لأنه إيجاب اقترن به القبول، فهو عقد كامل ؛ ولكنْ، كلٌّ من الإيجاب والقبول لم ينصَبَّ إلا على مجرَّد الوعد بالبيع ).(1)
__________
(1) - الوسيط للسنهوري: 1/251.
القانون المدني السوري، مصطفى الزرقا، المادة (102): ص59.
شرح القانون المدني الأردني، د. منذر الفاضل وصاحب الفتلاوي، مادة (105): ص34.(1/154)
قرار المجمع الفقهي:
قرر مجلس المجمع الفقهي أن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة للآمر بالشراء تشبه البيع نفسه، أي أنه أعطى الوعد الملزم حكم العقد، وفيما يلي نص مجلس المجمع الفقهي الذي يتعلق بذلك:
المواعدة ( وهي التي تصدر من الطرفين ) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار
للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً لما يبيع، حتى لا تكون هناك مخالفةٌ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.(1)
الفصل الرابع
الذرائع الربوية والقصد المؤثم
ويتضمن ثلاثة مباحث
... المبحث الأول: النيّة وأثرها على العقود
... المبحث الثاني: مبدأ سد الذرائع
... المبحث الثالث: مناقشة ما تقدم من المقاصد والذرائع
...
المبحث الأول
النيّة وأثرها على العقود
لا خلاف في أن النيّة مدار حِلِّ الفعل وحرمته، والأصل في هذا الحديثُ المشهور ((إنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ))(2)
__________
(1) قرار مجلس المجمع الفقهي رقم (2،3) بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء، في دورة مؤتمره الخامس عام 1409هـ، الموافق عام 1988م. الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي:9/556.
(2) أخرجه: البخاري في الصحيح من رواية سيدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: 1/3. كتاب بدء الوحي. باب كيف كان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث رقم (1).
مسلم في الصحيح: 3/1515، كتاب الإمارة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيّة ). رقم الحديث (1907).(1/155)
من تطبيقات ذلك أنه من نظر إلى الأجنبية بقصد الخطبة والنكاح، حلَّ نظره، ومن نظر بقصد التشهي والتلذذ، أثم. ومن تصدّق ناوياً إعانة الفقير والتقرب إلى الله تعالى أثيب، وإن نوى الرياء والمنّة أثم. ومن عقد على امرأةٍ ناوياً التأقيت ومجرّد الاستمتاع بها أثم، وإن نوى قصد استدامة النكاح وعفاف نفسه وإكثار الذريّة أثيب.
كل ذلك لا خلاف فيه، ولكن الخلاف في أثر النيّة على صحّة العقد وفساده، فهل تؤثر نيّة السوء على العقد فتفسده إن ظهرت، أو حُفَّ العقد بما يدلُّ عليها، أم لا أثر لها، لأنها أمر بين العبد وربِّه، والأحكام إنّما تجري على الظاهر ؟
في ذلك اتجاهان عند الفقهاء: اتجاه باعتبار الظاهر في العقود دون النيّات، ويمثّله الشافعية والحنفيّة والظاهريّة. واتجاه باعتبار النيّة في العقود تصحيحاً وإفساداً، ويمثّل هذا الاتجاه المالكيّة والحنابلة. وذلك على التفصيل التالي:
مذهب الإمام الشافعي: يقول الإمام الشافعي حاكياً مذهبه ومعلِّلاً: ( الأحكام على الظاهر، والله وليّ الغيب، من حكم على الناس بالإزكان(1)، جعل لنفسه ما حظر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله عزَّ وجل إنّما يتولّى الثواب والعقاب على المغيَّب، لأنه لا يعلمه إلا هو جل ثناؤه. وكلّف العباد أن يأخذوا من العباد بالظاهر، ولو كان لأحد أن يأخذ بباطنٍ عليه دلالة، كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم )(2)
__________
(1) الإزكان: التفرّس والظن. انظر لسان العرب.
(2) الأم للإمام الشافعي: 4/120. باب لا وصيّة لوارث. وقد أورد الإمام الشافعي أدلة كثيرة لمذهبه هذا ذكرها في الأم (4/120) وذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين (3/107).(1/156)
فعلى هذا لا يفسد العقد عند الإمام الشافعي بالقصد الحرام، لأنه إنّما يأخذ بالظاهر، إلا إنْ صرح بهذا القصد في العقد، إذ يفسد العقد حينئذ لخروجه عمّا هو له صراحةً، ومناقضته لمقتضى العقد وغرضه. أمّا إن كان ذلك التصريح سابقاً للعقد، فالعقد صحيح.
يقول الإمام الشافعي في الأم ( ولا يفسد عقد إلاّ بالعقد نفسه، لا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخره، ولا بتوهم، ولا بأغلب0000)(1).
الحنفيّة: نحا الحنفيّة منحى الشافعية، فلم يفسدوا عقداً بقصد محرّم إلا إن دلَّت صيغة العقد عليها. يقول الحصكفي على سبيل المثال في عقد المحلِّل، أي الذي يتزوج المطلقة ثلاثاً بغرض تحليلها لزوجها السابق: ( وأمّا إذا أضمرا ذلك ـ أي غرض التحليل ـ لا يكره، وكان الرجل مأجوراً لقصد الإصلاح، وتأويل اللعن إذا شرط الأجر)(2)
وقد يظن بأن موقف الحنفيّة هذا تجاه العقود يعارض القاعدة التي اعتمدوها من أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني. وليس في ذلك معارضة، لأن مراد الحنفيّة من تلك القاعدة أن العبرة في تكييف العقود بالمدلول الذي يُفهم من العبارات التي أنشئ بها العقد، لا بظاهر اللفظ ذاته، وليس مرادهم باعث العاقد ونيّته، أي إنهم يرتِّبون نوع العقد على مدلول اللفظ الذي أنشئ به العقد، لا على ظاهره، فلو قال العاقد مثلاً: وهبتك هذا الكتاب بمائة. فقال الآخر: قبلت. فقد قال الحنفيّة بأن العقد هنا عقد بيع لا عقد هبة، مع أن الإيجاب صريح بلفظ الهبة لا البيع، فمع ذلك حكم على هذا العقد بأنه بيع، لأنّ كُلاً من الهبة والبيع يفيد التملك، وفارق الثاني الأوّل بأنه بعوض. فلمّا ذكر الثمن، دلَّ ذلك على أن مقصود العاقد البيع لا الهبة فكان بيعاً.(3)
__________
(1) الأم للإمام الشافعي، كتاب إبطال الاستحسان: 7/312.
(2) حاشية ابن عابدين: 5/48.
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم:ص242.(1/157)
المالكيّة: يتميَّز فقه المالكيّة في العقود بأنه فقه يعتبر البواعث والنيّات في الحكم على العقود، وهذا العمل إنما هو فرع عن توسع المالكية في أخذهم بالذرائع، فيحكم هذا الفقه على العقد صحةً وفساداً من النيّة الباعثة عليه. ويكتفي المالكية للحكم على النيّة بالقرائن التي تدلُّ عليها، ومن ذلك غالب القصد، فإذا كان غالب قصد الناس من عقد معيّن يتمُّ على وجهٍ معينٍ قصداً حراماً، حكموا على كل عقد يتمُّ على ذلك الوجه بالفساد. يقول القرافي: ( من علم منه تعمد الفساد حمل عقده عليه، وإلا أمضى، فإن اختلفت العادة منع الجميع ).(1)
ويقول الدسوقي: (التهمة على قصد ذلك (الممنوع) تنزل منزلة اشتراط ذلك والنص عليه بالفعل)(2).
من تطبيقات ذلك: إبطالهم لعقد المحلل مراعاةً لنية التحليل فيه، ومنعهم لبيوع الآجال لما رأوا أن غالب قصد الناس منها الحصول على المال، لا البيع والشراء حقيقةً. يقول الشيخ محمد علي صاحب تهذيب الفروق في بيوع الآجال: ( وإن كانت على صورة بيع الجائز في الظاهر، إلا أنها لمّا كثر قصد الناس التوصل إلى ممنوع في الباطن0000، منعت قياساً على الذرائع المجمع منعها بجامع أن الأغراض الفاسدة في كلٍ هي الباعث على عقدها )(3).
ويقول الدردير ( يمنع من البيوع ما أدى لممنوع بكثرة قصدٍ للمتبايعين ولو لم يقصد بالفعل )(4).
الحنابلة: وافق الحنابلة المالكيّة في أثر النيّة على العقد صحّةً وبطلاناً إن علمت النيّة أو حُفَّ العقد بما يدلّ عليها.
يقول ابن القيم ( قد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في العقود صحةً وفساداً ) (5)
__________
(1) -الفروق للقرافي:3/268.
(2) -حاشية الدسوقي:3/76.
(3) تهذيب الفروق للشيخ محمد علي (مطبوع مع الفروق): 3/275.
(4) الشرح الصغير للدردير: 3/69.
(5) إعلام الموقعين لابن القيم: 3/121.(1/158)
ويقول أيضاً: ( المتكلم بصيغ العقود ….. وإن قصد ما لا يجوز قصده كالمتكلم بنكحت وتزوجت بقصد التحليل، وبعت واشتريت بقصد الربا ….، فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده، وجعل ظاهر اللفظ وسيلةً إليه، فإن في تحصيل مقصوده تنفيذاً للمحّرم، وإسقاطاً للواجب، وإعانةً على معصية الله تعالى، ومناقضة لدينه وشرعه)(1).
الظاهريّة: إن تسمية مذهبهم دالة على حكمهم في هذه المسألة، فهم يأخذون بظاهر اللفظ، ولا ينظرون إلى ما وراءه من علّة وحكمة ومقصد، فهم يقولون إذاً بعدم اعتبار النيّات والمقاصد في العقود، فنراهم يقولون بصحة النكاح الذي يقصد به التحليل، إلا إن نَصَّ في العقد على أنه يطلقها ليُحلّها لغيره فيفسد. (2)
وكذا يصححون بيوع الآجال والعينة. يقول ابن حزم: ( من باع سلعة بثمن مسمى حالةً أو إلى أجل مسمّى، قريباً أو بعيداً، فله أن يبتاع تلك السلعة من الذي باعها منه بثمن مثل الذي باعها به منه وبأكثر منه …. كل ذلك حلال لا كراهية في شيء منه ما لم يكن ذلك عن شرط مذكور في نفس العقد ؛ فإن كان عن شرط، فهو حرام مفسوخ أبداً، محكوم عليه بحكم الغصب ) (3).
وهكذا نخلص من عرض تلك المذاهب إلى أن في المسألة قولين، وهما: قول للشافعية والحنفية ومعهم الظاهريّة باعتبار ظواهر الألفاظ والعقود وإن كانت المقاصد والنيّات بخلافها، ما لم ينصَّ على ذلك في العقد فتفسد اتفاقاً.
والقول آخر للمالكية والحنابلة بتأثير المقاصد والنيّات على العقود صحةً وفساداً. ولكل فريقٍ أدلته وسيأتي ذكر بعضها لاحقاً.
والذي يهمّنا بعد أن عرفنا الخلاف بين الفقهاء في ذلك أن نتوصلَّ إلى معرفة أقوال فقهاء المذاهب في عقود البيع التي غالباً ما يتحيَّل بها للوصول إلى الربا المحرَّم شرعاً كبيوع الآجال والعينة.
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم: 3/133.
(2) المحلّى لابن حزم: 10/180.
(3) المرجع السابق:9/47 مسألة ( 1558 ).(1/159)
وقد علمنا، بناءً على أصول تلك المذاهب أن الشافعيّة والحنفيّة والظاهريّة يصححون تلك العقود، وبالمقابل فإن المالكيّة والحنابلة يبطلونها، إلا أن الحنفيّة مع تصحيحهم لتلك العقود استثنوا حالة من بيوع العينة ( الآجال عند المالكيّة ) خلت عن توسّط شخص ثالث فقالوا فيها بالفساد، وذلك لا لأنهم خالفوا مبدأهم في اعتبار الظاهر دون الباطن، بل لدليل آخر أوجب ذلك، وهو حديث السيّدة عائشة السابق مع زيد بن أرقم رضي الله عنهما (1) الذي نجد فيه أن المبيع يعود إلى البائع دون توسط ثالث، فتقيدوا بالنص، وصحّحوا ما عدا هذه الصورة. وممّا يدّل على أن الحنفيّة على مبدئهم في عدم إفساد عقد البيع بالقصد المحرّم، أنهم يقولون بصحّة بيع العنب لعاصر الخمر وإن علم البائع أن المشتري إنما سيتخذه لعصر الخمر وقصد إعانته، ولكن مع الحرمة حينئذ.(2)
فهذه مذاهب الفقهاء في اعتبار النيّة في العقود صحّةً وفساداً، وسيأتي لاحقاً مناقشة ذلك لمعرفة الراجح إن شاء الله تعالى.
المبحث الثاني
مبدأ سد الذرائع
أولاً ـ تعريف الذرائع: عرًف الشوكاني الذريعة بقوله: هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصّل بها إلى فعل المحظور.(3)
ثانياً ـ أخذ الفقهاء بالذرائع:
مبدأ سد الذرائع معمول به بالجملة بين مختلف الفقهاء، حتى عند من أخذ بظاهر الأمور ولم ينظر إلى المقاصد، ولكنَّ هؤلاء لم ينصّوا على اعتماد أصل الذرائع كأصل من أصول الفقه، بل عملوا به في بعض فروعهم.
ويتمسك المالكيّة بالذرائع كأصل من الأصول، وبالمقابل: يقف الشاقعيّة على النقيض منه، مع موافقتهم لهم أحياناً.
__________
(1) انظر ص (89) من هذا البحث.
(2) تكملة فتح القدير لقاضي زادة: 8/493.
(3) إرشاد الفحول للشوكاني:ص411.(1/160)
يقول الشوكاني ناقلاً عن ابن الرفعة(1) ـ وهو شافعي ـ في الذرائع: الذريعة ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقطع بتوصيله إلى الحرام، فهو حرام عندنا وعندهم ( أي عند الشافعيّة والمالكيّة ).
ثانيها: ما يقطع بأنه لا يوصل، ولكن اختلط بما يوصل، فكان من الاحتياط سد الباب وإلحاق الصورة النادرة التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه، قال: هذا غُلوٌّ في القول بسد الذرائع.
والثالث: ما يحتمل ويحتمل، وفيه مراتب، وتختلف الترجيح عنهم بسبب تفاوتها.
قال: ونحن نخالفهم ـ أي يخالف الشافعيَّةُ المالكيَّةَ ـ إلا في القسم الأوّل لانضباطه، وقيام الدليل عليه.(2)
ويلي المالكيّة بالأخذ بالذرائع الحنابلة. يقول ابن تيمية عن موافقة الإمام أحمد لمالك في الذرائع: ( والإمام أحمد موافق لمالك في ذلك في الأغلب، فإنهما يحرّمان الربا ويشدّدان فيه حق التشديد، لما تقدّم من شدّة تحريمه وعظم مفسدته، ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى يمنعا الذريعة المفضية إليه وإن لم تكن حيلةً )(3)، وتطبيقاً لمبدأ الذرائع عند المالكية، فقد حرَّموا كل ما من شأنه أن يؤدي إلى الوقوع في المنهي عنه، أو ما جرت العادة بإيصاله إليه على وجه الاحتيال، وإن كان ذلك الأمر لا يجزم بإيصاله إلى المنهي عنه على وجه التفصيل، لاختلاف حالٍ عن حال ومكلَّف عن مكلَّف.
__________
(1) ابن الرفعة: أحمد بن محمد بن علي الأنصاري، نجم الدين، المعروف بابن الرفعة، ولد سنة 645هـ فقيه شافعي، كان محتسب القاهرة، من كتبه: (كفاية النبيه في شرح التنبيه للشيرازي)، توفي سنة 710هـ. الأعلام للزركلي: 1/222.
(2) إرشاد الفحول للشوكاني: ص413.
(3) الفتاوى لابن تيمية: 29/27.(1/161)
وما يتّصل بمسألتنا ـ وهو بيع العينة من حيث هو حيلة ربوية تشترك في علتها تلك مع بيوع الآجال، أي من حيث هو ذريعة ربوية كما قال ابن عبد البر بعد ذكر العينة بمفهومها الخاص عند مالك: (وتفسير ما ذكره مالك وغيره في ذلك أنها ذريعة ربوية إلى دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل )(1) ـ فإن بيوع الذرائع الربوية هي في القسم المختلف فيه لا المجتمع عليه، يقول القرافي: الذرائع أقسام، قسم معتبر بالإجماع كحفر بئر في الطريق العام، فإنه ذريعة للوقوع في المهلكة، …وقسم ملغى بالإجماع كمنع زراعة العنب خشية صنعه خمراً. فهذا باطل باتفاق، وقسم ثالث مختلف فيه كبيوع الآجال.(2)
وهذا القسم الأخير هو الذي توسَّع فيه مالك، وقال فيه بحرمة بيوع الآجال والعينة من حيث هي حيلة ربوية يتوصل بها إلى الربا.
يقول ابن رشد في المقدمات: (أصل ما بني عليه هذا الكتاب ـ أي كتاب بيوع الآجال ـ الحكم بالذرائع، ومذهب مالك القضاء بها والمنع منها، وهي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور، ومن ذلك البيوع التي ظاهرها الصحَّة ويتوصل بها إلى استباحة الربا، وذلك مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمائة دينار إلى أجل، ثم يبتاعها بخمسين نقداً، فيكونان قد توصّلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى سلف خمسين ديناراً في مائة إلى أجل، وذلك حرام لا يحلّ ولا يجوز )(3).
الإمام الشافعي والذرائع الربويّة:
يمثل الإمام الشافعي الاتجاه الفقهي القسيم للاتجاه المالكي في الذرائع والنيّات، فلا يقيم لها اعتباراً في الحكم على العقد صحةً وفساداً، فالإمام الشافعي يقول بجريان أحكام الشريعة على الظاهر، وأن لااعتبار للباطن إلا من حيث الثواب والعقاب.
__________
(1) الاستذكار لابن عبد البر: 9/252.
(2) الفروق للقرافي: 3/266.
(3) المقدمات الممهدات لابن رشد (الجد): 2/39.(1/162)
ومبدأ الإمام الشافعي هذا جعله لايقول بالذرائع، وذلك أن الحكم على تصرّفٍ ما بالفساد مع سلامة ظاهره عملاً بسد ذريعة الربا، تجاوزٌ للظاهر، وسبرٌ للنيّات، وإعمال لها في تصحيح العقد وفساده، وهو ما لم يقل به الشافعي.
وثمة سبب آخر جعل الإمام الشافعي لا يقول بالذرائع، وهو أنه يرى أن العمل بالذرائع اجتهاد بالرأي، والاجتهاد بالرأي لا يقرُّه الإمام الشافعي، ولا يعتبره من مصادر الشريعة. يقول الإمام الشافعي في الرسالة: ( ولم يجعل الله لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا من جهة عالم مضى قبله، أو جهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار، وما وصفتُ من القياس عليها )(1).
حتى إن الإمام الشافعي قد أنكر الاستحسان لذلك، معتبراً إيّاه اجتهاداً بالرأي. يقول في ذلك: ( إنما الاستحسان تلذذ )(2)
وعلى هذا فالإمام الشافعي ينكر الحكم بالذرائع الربوية، ويصحح بيوع الآجال والعينة، ولا يقيم للنيّة وزناً في معيار صحّة العقد وفساده. يقول الإمام الشافعي: ( يبطل حكم الإزكان من الذرائع في البيوع وغيرها من حكم الإزكان، فأعظم ما فيما وصفت من الحكم بالإزكان خلاف ما أمر الله عزَّ وجلَّ به أن يحكم بين عباده من الظاهر)(3).
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعي، فقرة (1468): ص508.
(2) الرسالة للإمام الشافعي: ص507.
(3) الأم للإمام الشافعي: 4/120.(1/163)
أمّا عن موقف الإمام الشافعي من الأحاديث التي تحذِّر من العينة فقد ضعّفها الإمام الشافعي، ومنها حديث السيدة عائشة مع زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهما، فقد ضعّفه بما سبق من أن الراوية عن السيّدة عائشة مجهولة، وبأن متن هذا الحديث مشكل، إذ لا يصح الحكم ببطلان جهاد زيد لأمر أوصله إليه اجتهاده. ثم على فرض صحّة الحديث: يمكن فهم الحرمة لجهالة الأجل في تلك الصورة ـ وهو العطاء ـ أو أن القياس مع زيد لا مع قول السيدة عائشة، لأنه بيع كسائر البيوع، فيترجح عمله على قولها(1).
المبحث الثالث
مناقشة ما تقدّم من المقاصد والذرائع
أولاً ـ مسألة النيات وأثرها على العقود
لقد ذكر الشافعية ومن وافقهم أدلّةً كثيرة جداً تؤيد أن المعتبر في كثير من أحكام الشريعة ـ والعقود منها ـ من حيث الفساد والصحّة الفعل الظاهر لا النيّة، ومن هذه الأدلّة.
__________
(1) المرجع السابق: 3/79. وانظر أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 2/899.(1/164)
حديث المتلاعنين: حيث اتّهم هلال بن أميّة(1) امرأته بشريك بن سمحاء(2)، وبأنها حملت منه، ورفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن جاءت به أحمر قصيراً، كأنه وحَرَةٌ، فلا أراها إلا صدقت وكذب عليها، وإن جاءت به أسود أعين، ذا أَليتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها )) فجاءت به على ما تهمت به، وكان ذلك دلالة واضحة على كذبها وزناها، ومع ذلك لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الحد، ولم يأخذ بتلك الدلالة، بل أجرى عليها حكم الظاهر، ودرأ الحدَّ عنها لعدم البيّنة وقال: (( لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن ))(3)
__________
(1) هلال بن أميّة بن عامر، الأنصاري، شهد بدراً وما بعدها، أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، قيل أنه عاش إلى خلافة معاوية. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 6/546.
(2) شريك بن سمحاء، سمحاء أمّه، واسم أبيه عبده بن مغيث البلوي حليف الأنصار، يقال بأنه شهد مع أبيه أُحداً، وكان أحد الأمراء بالشام في خلافة أبي بكر. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 3/345.
(3) الحديث أخرجه:
1-البخاري في الصحيح:5/2034 كتاب الطلاق. باب التلاعن في المسجد. حديث رقم (5003)،(4470).
ومعنى وحَرَة: دويبة تتداعى على الطعام واللحم فتفسده، وهي من نوع الوزع. فتح الباري: 9/566.
2-مسلم في الصحيح من رواية أنس بن مالك: 2/1134. كتاب اللعان. حديث رقم (1496).(1/165)
حديث أبي سعيد الخدري(1) وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أكلّ تمر خيبر هكذا )). قال: لا والله يا رسول الله، إنّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( لا تفعل، بع الجَمْع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنيباً ))(2).
حيث أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الطريقة من يشتري تمراً بتمرٍ خير منه متفاضلاً، ووجهُ دلالة الحديث: أن الرجل حين عَمَلِهِ بما أُرشد إليه لا يكون قد قصد ببيع الجمع ـ وهو الرديء من التمر ـ ما يقصد له البيع عادةً، وإنما قصد الوصولَ إلى التمر الجيد، ومع ذلك صحَّ عقده اعتباراً بالظاهر، ثم إن الرجل قد يبيع الجمع إلى ذات الشخص مالك الجنيب حملاً للفظ على إطلاقه، إذْ أفهمَ اللفظ مطلق البيع، فيحتمل البيع إلى مالك الجنيب نفسه، فيكون في الأمر كمال الحيلة، ومع ذلك صحَّ عمله.
__________
(1) أبو سعيد الخدري:سعد بن مالك بن سنان،الأنصاري،الخزرجي، ولد سنة10قبل الهجرة،غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، روى1170حديثاً،توفي بالمدينة سنة74هـ.الإصابة لابن حجر العسقلاني: 3/78.
(2) أخرجه:
البخاري في الصحيح: 2/767. كتاب البيوع. باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (2089).
مسلم في الصحيح: 3/1215. كتاب المساقاة. حديث رقم (1593).
والجمع:هو الرديء من التمر لجمعه من أنواع متفرقة،والجنيب:هو الجيد منه. انظر تاج العروس للزبيدي.(1/166)
حديث أم سلمة(1) رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه:(( إنكم تختصمون إليّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعةً من النار ))(2)
ومن أدلة المالكية والحنابلة:
قوله تعالى:(( ولَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ))(3) حيث كان عمل بني إسرائيل اعتداءً وإثماً عندما نصبوا الشباك يوم الجمعة ليقع الصيد يوم السبت، فالظاهر أنهم لم يباشروا صيداً يوم السبت، وقد نهوا عن العمل فيه، ولكن واقع الأمر أنهم قد اصطادوا فيه برمي الشباك قبل يوم، فلعنوا لذلك، وكان عملهم اعتداءً. فالعبرة لمقاصد الأمور إذاً لا لظواهرها.
__________
(1) أم سلمة: هند بنت حذيفة، أم المؤمنين، قرشية، مخزومية، هاجرت إلى الحبشة مرتين، استشهد زوجها من جرح أصيب به يوم أحد، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة للهجرة، توفيت سنة 59هـ ولها 84 سنة ودفنت بالبقيع. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 8/221.
(2) أخرجه:البخاري في الصحيح:2/867.كتاب المظالم.باب اثم من خاصم في باطل وهو يعلمه رقم(2326).
مسلم في صحيحه: 3/1337. كتاب الأقضية. باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة. حديث رقم(1713).
(3) من سورة البقرة، آية رقم (65).(1/167)
حديث عمر بن الخطّاب(1) رضي الله تعالى عنه المشهور: (( إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله؛ ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه))(2)
حيث أثبت هذا الحديث الاعتبار في عموم الأعمال للنيّة لا للظاهر، فالنيّة هي روح العمل وقوامه والعمل تبع لها، فيصلح بصلاحها ويفسد بفسادها.
حديث جابر(3) رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قاتل الله اليهود: إن الله عزَّ وجلّ لما حرَّم عليهم شحومها ـ أي الميتة ـ جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ))(4)
فلو كانت العبرة باللفظ والظاهر لا بالقصد، لما استحقّ اليهود اللعنة على عملهم، وذلك أنهم إنما نهوا عن بيع شحوم الميتة، وهم قد باعوها بعد أن استحالت إلى مادة أخرى، ولكنهم مع ذلك لعنوا، إذ العبرة بحقيقة الفعل لا بظاهره ؛ فهم مخالفون حقيقةً لما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه.
__________
(1) عمر بن الخطّاب بن نفيل، أبو حفص، الفاروق، ثاني الخلفاء الراشدين، ولد بمكة سنة 40 قبل الهجرة، فضائله كثيرة جداً، عرف بقوته في الحق، أعزّ الله تعالى به الإسلام، تولّى الخلافة سنة13هـ، توالت الفتوح في زمنه، استشهد في صلاته بالمدينة سنة23هـ.الإصابة لابن حجر العسقلاني:4/588.
(2) متفق عليه. سبق تخريجه ص (158).
(3) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، أنصاري، خزرجي، الصحابي الجليل، ولد سنة16 قبل الهجرة، أحد المكثرين لرواية الحديث، له 1540 حديثاً، شهد بيعة العقبة، آخر الصحابة وفاة بالمدينة سنة78هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 1/434.
(4) متفق عليه: البخاري في الصحيح: 2/779. كتاب البيوع. باب بيع الميتة والأصنام. رقم (2121).
مسلم في صحيحه: 3/1207 كتاب المسافاة. باب تحريم الميتة والخنزير والأصنام. رقم (1581).(1/168)
حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لعن الله المحلِّل والمحلَّل له ))(1) حيث استحق المحلِّل والمحلَّل له اللعنة مع أن ظاهر عمل المحلِّل الصحّة، إذ هو عقد نكاح استوفى شروطه. واللعنة تقتضي فساد العمل الذي وقعت عليه اللعنة.
الموازنة والترجيح:
إذا قابلنا بين الأدلّة التي ذكرها الشافعية ومن وافقهم، والمالكية ومن وافقهم، يتبيّن أنه يجب التفريق في مسألة بناء أحكام الشريعة على الفعل الظاهر أو على النيّة بين أمرين:
الأمر الأول: فيما يكون بين العبد وربه سبحانه وتعالى، فذلك يحكمه مبدأ الثواب والعقاب، فيكون مداره على النيّة والقصد صحة وفساد. وذاك كالعبادات، فالذي يقصد من صلاته الرياء والسمعة يأثم وإن كان ظاهر فعله الصحّة ويقال بأنه صلّى. والذي يصلّي مع جماعة يصلون الفرض وينوي النفل تقع صلاته نفلاً. وكالمنافق هو كافر وإن جرت عليه أحكام الإسلام مادام معلناً الإسلام ظاهراً.
__________
(1) أخرجه: أبو داود في السنن: 2/562. كتاب النكاح. باب في التحليل. رقم الحديث (2076).
والترمذي في سننه:4/80. كتاب النكاح. رقم الحديث (1120)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
والنسائي في السنن:6/149.كتاب الطلاق. باب إحلال المطلقة ثلاثاً وما فيه التغليظ.ح رقم(3416)
وابن ماجه في السنن: 1/622. كتاب النكاح. باب المحلِّل والمحلَّل له. رقم الحديث (1935).
والإمام أحمد في المسند: 2/166. رقم الحديث (4308).(1/169)
الأمر الثاني: ما يكون بين العباد من معاملات كبيع وشراء وزواج وعقود، فهذا لا خلاف بأن مدار الثواب والعقاب عند الله سبحانه وتعالى فيه على النيّة، وذلك أن جميع الأعمال منوطة بالنية كما في الحديث الشريف (( إنّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى 000))(1). ولكنْ الحكم على عملٍ ما بالصحة أو لفساد في الدنيا شيء آخر غير الثواب والعقاب، فإطلاق الحكم بالفساد على أمرٍ ما بناءً على النيّة رجم بالغيب، إذ أمر النيّة الحقيقيّة من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله جلَّ وعلا، فنحكم في الدنيا بحسب الظاهر، ونوكل الباطن إليه سبحانه وتعالى. وهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، إنّما يتميّز عن الشرائع الوضعية بأنه لا يمكن التحيُّل عليه حقيقةً، فالمتحيّلُ القاصد للإثم سيلقى جزاءه عاجلاً أو آجلاً، إن لم يلقه في الدنيا ولم يغفر الله تعالى له، لقيه في الآخرة، إذ ما جعلت الآخرة إلا للحساب والجزاء. أمّا الشرائع الدنيوية فيمكن التحيُّلُ عليها والنجاء من مؤيداتها حقيقةً، إذ لا مؤيدات لها إلا في هذه الدنيا، ومن فرَّ منها فرَّ لا إلى عقاب فيها.
__________
(1) سبق ذكره وتخريجه ص (158).(1/170)
وهكذا فإن النهي عن شيء أمرٌ آخر غير الصحّة والبطلان كما يقول الغزالي(1)، وتحكيم النيّات من خلال القرائن أمرٌ مضطرب عسير المنال، وذلك أن القرائن غير منضبطة، فأنّى للقرافي أنه يقول: (من عُلِم منه تعمّد الفساد، حمِلَ عقده عليه وإلا أمضى) !! إنه لم يملك إلا أن يتبع قوله ذلك بما هو عملي، فيقول:( فإن اختلفت العادة منع الجميع )(2) ذلك أنه لا يمكن العلم بالنيّة على اليقين في عقدٍ ما. ثم إن احُتجّ بالقصد الغالب كما يقول المالكية، لظلم ذو القصد السليم، ولما عَدِمَ أهل التحَيّلُ طُرقاً أخرى يصلون بها إلى مآربهم، يفرّون من حيلة إلى أخرى، فلو قيل بفساد كل ما سلكوه، لضاق على الناس أمرهم، ولأُخِذَ صالحوهم بجريرة طالحيهم.
أمّا ما أورده المالكيّة من أدلّة فإنما يصلح شاهداً على الثواب والعقاب الأخروي،لا على فساد التصرّف في الدنيا، إلا بعض أدلةٍ صيغها تقتضي إبطال عقودٍ نُصَّ عليها منها:
حديث (( قاتل الله اليهود..)) إذ يقتضي هذا الحديث فسخ عقد البيع الذي تمَّ مادام اليهود قد استحقوا عليه اللعنة والحرب من الله تعالى،إلا أنه يمكن الردّ على الاستشهاد بهذا الحديث بالقول بأنهم استحقوا اللعنة لأمرٍ امتحنوا به تعبداً، فكانت اللعنة لمخالفتهم أمراً ابتلاهم الله وتعالى وتعبدهم به، لا صلة له بما يكون بين العباد من معاملات.
__________
(1) المستصفى: للغزالي: 2/36.
(2) الفروق للقرافي: 3/268(1/171)
حديث لعن المحلل. يمكن الردّ على الاستشهاد بهذا الحديث بأنه لا يصلح أن يكون دليلاً، إذ لا يمكن فهمه على عمومه، فإنه وإن خصّصناه في أمر النكاح، فإنه يشتمل حينئذ كل من يكون سبباً في تحليل المرأة لزوجها السابق، وإن لم يكن ناوياً التحليل بأن تزوجها وهي بائن بينونة كبرى، ثم طلقها عرضاً، فإنه يكون محلّلاً، فكيف يستحق اللعنة وهو غير قاصد التحليل، ويفسد العقد لذلك !؟. فلا بُدَّ إذاً من التقييد بأن يكون المحلل قد قصد التحليل، وهذا أمر غامض لا يمكن الجزم به حتى يفسد عقده، فلا مناص إذاً من حمله على حالةٍ نُصَّ فيها في العقد على غرض التحليل حتى يمكن إفساد عقده، إذ ذاك هو المنهي عنه، لأن شرط التحليل شرط ينافي مقتضى العقد من الديمومة فيفسده.(1)
ثانياً ـ مبدأ سد الذرائع ( عند المالكية ).
سبق أن المالكية توسّعوا في تطبيق سد الذرائع حتى عُرفوا به، والمشهور عنهم إعمالهم له في بيوع الآجال، وبيوع الذرائع الربوية، على نحو لم يقل به أحد حتى الإمام أحمد الذي اتفق معهم في كثير ممّا ذهبوا إليه، ووافقهم على منع الحيل. يقول ابن تيمية عن الإمام مالك وأحمد: (فإنهما يجريان الربا ويتشدَّدان فيه حق التشديد لِما تقدم من تحريمه وعِظَم مفسدته ـ ويمنعان الاحتيال عليه بكل طريق، حتى يمنعان الذريعة المفضية إليه وإن لم تكن حيلة، وإن كان مالك يبالغ في سد الذرائع ما لا يختلف قول أحمد فيه أو لا يقوله، لكنه يوافقه بلا خلاف على منع الحيل كلها )(2)
__________
(1) انظر ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: ص318.
(2) الفتاوى لابن تيمية: 29/27.(1/172)
فالمبالغة في الذرائع التي عُرِف بها الإمام مالك مأخذ عليه، فقد قسّم الذرائع تقسيمات كثيرة قال في بعضها بالمنع، وفي بعضها بالكراهة، وفي بعضها بالجواز، فبلغ قوله في الذرائع نحواً جعل الذريعة البعيدة التي من شأنها ألاّ توصل إلى المحرّم إلاّ نادراً معمولاً بها، وهو ما أخذه عليه كثير من الفقهاء، إذ شرطوا للذريعة حتى يقال بها قوَّة الإفضاء إلى المحرّم، وهو ما أخذ به المجمع الفقهي في أيامنا هذه، حيث لم يأخذ بالذريعة البعيدة، واشترط للذريعة المعمول بها قطعيّة الإفضاء إلى المفسدة، أو أن يكون ذلك الإفضاء كثيراً، وأن تكون مفسدة الفعل أرجح مما قد يترتب على اعتماد الوسيلة من المصلحة.(1)
ومن تطبيقات الإمام مالك التي تثبت إعماله للذرائع البعيدة في جانب البيوع حذر الربا: تعليله حرمة أمور كثيرة بالرّبا مع بُعد ذلك، مخالفاً الجمهور:
ـ عللَّ الإمام مالك عدم جواز كون مال المضاربة ديناً على العامل المضارب بمخافة أن يكون العامل المضارب قد أعسر بماله، فهو يريد أن يؤخره عنه على أن يزيد فيه، فيكون الربا المنهي عنه !! وهذا غلوٌّ في التعليل، لأن المضاربة ليس فيها ربح مضمون، بل تحتمل الخسارة، ويتحملها رب المال في مال المضاربة.
أما الجمهور، فلا يصح ذلك عندهم لأن ما يكون في الذمّة مضموناً لا يتحوّل ويعود أمانة (2).
__________
(1) قرار المجمع الفقهي رقم 96/9/د9. بشأن سد الذرائع، صدر في أبو ظبي في ذي القعدة 1415هـ. الموافق إبريل 1995. انظر الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي:ص 9/657.
(2) بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/179.(1/173)
عللّ الإمام مالك ـ وقد سبق هذا ـ عدم جواز (بعتك هذا الثوب نقداً بكذا ونسيئة بكذا) والبيع لازم في أحدهما، بأن المشتري ربما اختار في قرارة نفسه أولاً أحد الثمنين فيكون بذلك قد ملك السلعة به، ثم غيرَّ رأيه واختار الثمن الآخر وصرّح به، فيؤول الأمر إلى أنه استبدل ثمناً عاجلاً بآخر آجل مع تفاضل أو العكس، وهو ربا، فحرّمه سدَّاً لذريعة حصول ذلك !!!
أمّا الجمهور من الفقهاء، فعللوا عدم الصحّة في ذلك بجهالة الثمن التي تورث الغرر، وهذا هو التعليل المنطقي الظاهر الصحّة، إذ الجهالة في هذه المسألة واضحة، أما ما علّل به المالكيّة فذريعة بعيدة، واحتياط مبالغ فيه، وتفسير فيه غُلوٌّ.(1)
ثم إن الناظر في تطبيقات المالكيّة في الذرائع الربوية ـ نظراً لعدم وجود ضابط يضبطها ـ لا يعدم اضطراباً في هذا الباب، وقد سبقت ملاحظة هذا الاضطراب في معرض الحديث عن شبهة البيعتين في بيعة وبيع ما ليس عند البائع.(2)
__________
(1) انظر ص (106) من هذا البحث.
(2) أنظر الصفحات (114،115،125،126) من هذا البحث.(1/174)
فيظهر فيما سبق أن للمالكية في الذرائع فقهاً خاصاً بهم، فقد تشددوا فيها على نحوٍ حملهم على القول بحرمة بيوع كثيرة لتهمة الربا مع أن الذريعة فيها بعيدة، فخالفوا في ذلك جمهور الفقهاء، ولم يكن لهم فيما ذهبوا إليه أدلةٌ قوية ترجح جانبهم، وكل ما استدلّوا به في تلك البيوع إنما هو أدلَّة لأصل سد الذرائع عموماً لا لهذه البيوع خاصة، فهم استدلوا للذرائع عموماً ثم عمدوا إلى تقسيم الذرائع وإعمال البعيد منها في بيوع الآجال ونحوها. وهذه الطريقة لم يوافقهم عليها القرافي،وهو منهم، فقد قال بأن أدلَّة بيوع الآجال التي استدلَّ بها المالكية إنما تصلح للاستشهاد لمبدأ سد الذرائع عامّةً،لا لبيوع الآجال على سبيل الخصوص،وحَصَر القرافي الدليل الخاص في هذه البيوع بأحاديث العينة التي عمدتها حديث السيدة عائشة أم المؤمنين مع زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنهما.(1)
هذا وقد سبق العلم بأسانيد هذه الأحاديث، وبيان ما فيها من ضعف.
خلاصة مناقشة المالكية في بيوع الذرائع الربوية:
يتبين من مناقشة أدلّة المالكيّة في إبطال البيوع التي أطلقوا عليها بيوع الذرائع الربوية ومنها مسألة البحث، ومن عرض اتجاهات الفقهاء في الذرائع والنيّات ما يلي:
ـ رجحان قول الشافعيّة والحنفيّة والظاهريّة في اعتبار الظاهر في العقود للحكم عليها صحةً وفساداً دون النيّات والمقاصد، مادام غير مصرّح بها في العقد، ويبقى إثم الإنسان على نفسه، وهو أمر بين العبد وربّه سبحانه وتعالى.
__________
(1) الفروق للقرافي: 3/266.(1/175)
هذا من حيث الترجيح بحسب الأدلة، وعلى سبيل التطبيق: يستحسن في أيامنا هذه الأخذ برأي المجمع الفقهي من اعمال الذرائع ذات الإفضاء الكثير إلى المفسدة في بيوع الذرائع الربوية، وهذا الإعمال يورث منع بيوع تتخذ كذرائع للربا، كالبيع الذي أبطله الحنفيّة، وهو حالة شراء البائع ما باع من المشتري بثمن أقلّ، وكالبيع الذي كرهه محمّد، وهو البيع الذي تعود فيه السلعة إلى بائعها الأوّل بواسطة شخص ثالث أدخل تحيّلاً. وذلك سدّاً للفساد الذي تفشّى مؤخراً على نحوٍ جعل كثيراً من التجّار ينصرفون إلى مداينة الناس بهذه البيوع بدل التجارة.
وهذا الإعمال للذرائع لا يورث بحال منع مسألة الباب، مادام القصد منها حقيقة البيع لا التذرع بها للربا.
ـ تشدد المالكيّة الزائد في كثير من البيوع والمعاملات الماليّة بإعمالهم الذرائع البعيدة فيها على نحوٍ لم يوافقهم فيه أحد حتى الإمام أحمد المتفق معهم في جانب كبير من الذرائع.
ـ في فقه المالكيّة مسائل مضطربة في بيوع الآجال والعينة، منشؤها عدم وجود الضابط، والنظر إلى النيات الخفية، والأخذ بالقرائن، ومنهم قائل بالمنع للقصد الحرام الغالب منها. ومنهم قائل بالمنع سدّاً للذرائع، فيمنع تلك البيوع مطلقاً.
ـ بناءً على قول بعض المالكيّة أنفسهم، وهم من قال بمنع بيوع الذرائع الربوية لأنها أكثر معاملات أهل الربا كما ذكر اللخمي(1)، فإن من كان مقصده صحيحاً، ينبغي القول بصحة عقده كما صرح بذلك القرافي(2)، إذ أن الشراء يكون لأغراض شتَّى كما يقول ابن تيمية، للانتفاع والاتجّار والعينة (3)، فالذي مقصوده من السلعة الانتفاع أو الاتّجار فينبغي القول بصحّة بيعه وشرائه وإن جرى على وجه بيوع الآجال والعينة. والأصل المقصد الصحيح حتى يثبت خلاف ذلك حملاً لحال المسلم على الصلاح.
__________
(1) الفروق للقرافي: 3/268
(2) المرجع والموضع السابقين.
(3) الفتاوى لابن تيمية: 29/441-442.(1/176)
ـ المالكيّة عندما تحدثوا عن بيوع الآجال والعينة الممنوعة ذكروا في كثير من نصوصهم تقييد التعامل مع أهل العينة، وأهل العينة قوم لاتجاره لهم ولاسلع، وإنما همهم الشراء للناس ثم بيع السلع لهم على وجه التحيّل. يقول الدردير:( وأهل العينة قوم نصبوا أنفسهم لشراء السلع وليست عندهم فيذهبون إلى التجّار فيشترونها منهم ليبيعوها لمن طلبها )(1) فهم إذاً ممَّن يتصيدون حاجات الناس على وجه التحيّل، هذا ما قصده المالكيّة. ولما كان هذا شأنهم، فقد عُدَّ بعض البيوع محرمّاً عليهم جائزاً لغيرهم. يقول ابن رشد: ( فإذا باع الرجل من الرجل سلعة بنقد ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بنقد وقد غاب على النقد، فإنك تنظر في هذا إلى الذي أخرج دراهمه أولاً ؛ فإن كان رجع إليه مثلها أو أقل، فذلك جائز ؛ وإن رجع عليه أكثر منها، نظرت فإن كان من أهل العينة أو أحدهما لم يجز ذلك بحال ؛ وإن لم يكونا من أهل العينة، جاز إن كانت البيعة الأولى بالنقد، ولم يجز إن كانت بالنسيئة، ذلك أن أهل العينة يتّهمون ما لا يتهم فيه أهل الصحّة لعملهم المكروه )(2).
فيتبيّن واضحاً إذاً أن المنع المذكور عن المالكيّة في البيوع التي ظاهرها الربا يمكن تقييده بما كان على وجه التحيّل،كما لو كان التعامل مع أهل العينة،أي إذا كانت السلعة غير مقصودة بالشراء؛ أما لو كانت مقصودة بالشراء فعلاً لنحو انتفاعٍ أوتجارة، فلامحذور فيها من حيث الربا كما تفيد نصوص المالكيّة، ويبقى هذا البيع على الأصل من الحل.
الفصل الخامس
بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية على ضوء الشبهات السابقة
__________
(1) الشرح الصغير للدردير:3/77.
(2) المقدمات الممهدات لابن رشد:2/42(1/177)
... بناءً على ما تقدم من كلام في هذا البيع، يمكن القول بأنه إن انتفى عن المصرف الإسلامي شبهة ممارسة الربا والتمويل الربوي في بيع المرابحة للأمر بالشراء بالقول بأن المصرف الإسلامي ينظر في نشاط العميل عندما يتقدم إليه بطلب الشراء، ليعلم هل يقصد العميل فعلاً تملك تلك السلعة أم لا، وبأنه يتنبّه من احتمال حصول اتفاق بين العميل الآمر بالشراء والجهة التي يشتري منها المصرف سلعة المرابحة، يردَّ بمقتضى هذا الاتفاقِ العميل سلعة المرابحة بعد شرائها من المصرف إلى البائع، ويأخذ ما دفعه المصرف إلى هذه الجهة البائعة أو أقلّ. كما أوصت بذلك توصيات ندوة خطة الاستثمار في البنوك الإسلامية(1)، إن إنتفى ذلك من المصرف الإسلامي، فلا يعني ذلك أن بيع المرابحة للآمر بالشراء يبقى على الحِلّ المطلق، بل لابُدَّ للمصرف الإسلامي أن يراعيَ أمر الإلزام بينه وبين العميل في المواعدة التي تكون بينهما سابقةً على عقد الشراء، ذلك أن الإلزام _ كما سبق _ يورث شبهة العقد، فيترتب على ذلك محاذير كثيرة، ذكر بعضها المالكيّة. ووقوع هذه المحاذير في حال الإلزام ليس من قبيل الاحتياط والتوسع في الشبه، كما عليه الحال عند المالكيّة عند عدم الإلزام، بل على التصريح والتحقيق، وذلك ما يقول به المالكيّة من وجه أَولى.
وخلاصة تلك المحاذير:
حصول شبهة البيعتين في بيعة:
قال بهذه الشبهة المالكيّة، ومرّدها أن بيع المرابحة للآمر بالشراء مع الإلزام فيه بيعتان:
بيعة بالنقد، وهي التي بين المصرف ومن يشتري منه هذا المصرف، والثانية بالأجل، وهي التي تكون بين المصرف والعميل والتي تنعقد بانعقاد الأولى، وذلك بمقتضى الإلزام الذي كان بينهما، إذ يجعل هذا الاتفاق الملزم عقد شراء المصرف عقداً مركباً، إذ ستؤول السلعة إلى العميل الآمر بمجرد شراء المصرف السلعة، وبثمن أعلى لأجل، فكان ذلك بيعتين في بيعة.
__________
(1) ندوة خطة الاستثمار في البنوك الإسلاميّة: ص492.(1/178)
وبتفسير آخر، فإنَّ ما كان بينهما من التزام كان له قوة العقد، فقد حوى مضمونه، وقد تضمن هذا بيعتين: الأولى: شراء المصرف بالنقد، والثانية: شراء العميل من المصرف، وهي بالأجل يقول الباجي: ( قد انعقد بينهما عقد تضمن بيعتين إحداهما الأولى، وهي بالنقد، والثانية مؤجّلة )(1).
فعلى التفسير الأوّل: يكون الإلزام مورثاً لبيعتين في بيعة، وعلى الثاني: الإلزام نفسه عقد تضمن بيعتين.
وانطباق هذه الشبهة ـ كما سبق ـ هو حال اعتبار ظاهرها، والأخذ بحرمتها لذلك، لا باعتبار مضمونها الربوي الذي سبق ترجيحه حين الحديث عن معاني البيعتين في بيعة.
بيع ما ليس عند البائع ( مملوكاً له ):
صرّح بهذا المالكية والإمام الشافعي. وتفسيره: إن ذلك الاتفاق الملزم لمّا كان أثره واقعاً على كلا الطرفين ومضمونه بيع وشراء، فهو عقد، إذ العبرة للمعنى لا للمبنى، وما إقبال المصرف على الشراء إلا خطوة في سبيل تنفيذ ذلك العقد، وكذلك بيعها للعميل فيما بعد. ولمّا كان عقداً فقد حصل فيه بيع المصرف للآمر ما ليس مملوكاً له. ولا يقال بأن إيجاباً وقبولاً صريحين لم يحصلا، مادام الرضا حاصلاً بين الطرفين، ومقتضى الاتفاق سينفّذ، إذْ مضمون العقد التزامٌ بين الطرفين نتيجة إلتقاء إرادتين برضاهما، وهذا هو الحال في بيع المرابحة للآمر بالشراء، إذْ يترتب إلزام من جرّاء ما كان بين المصرف والعميل من اتفاق ملزم برضاهما،ثم يكون بعد ذلك شراءُ المصرفِ السلعة خطوةً على سبيل التنفيذ، وكذا بيعها للعميل الذي غدا بيعاً صورياً.
سلف وزيادة:
__________
(1) المنتقى للباجي: 5/38-39.(1/179)
قال بهذه الشبهة بعض المالكية. وتفسيره: لما كان ما يشتريه المصرف آيلاً إلى عميله بمقتضى الإلزام الذي كان بينهما، فكأنّما يدفع المصرف ثمن السلعة نيابةً عن العميل سلفاً له، ليأخذ زيادة على ما دفع عند حلول الأجل المتفق عليه، وهو أجل حلول الثمن المؤجل الذي يدفعه العميل، وهذا سلف بزيادة. ولو كانت السلعة إنما يشتريها المصرف لنفسه، لحقَّ له أن يأخذ عنها ربحاً، فلا يكون ثمَّة ربا، لأنه بيع مُلكِهِ بزيادة، وهذا مشروع. هذا وقد سبق تفسير هذه الشبهة على ضوء مضمون شبهة البيعتين في بيعة، إلا أنّ الباجي قد فرَّق بينهما.
ويضاف إلى تلك المحاذير السابقة:
بيع مؤجل البدلين:
إن قلنا بأن الوعد الملزم عقد في مسألتنا ـ وهو مقبول كما فسّره الإمام الشافعي ـ فإن هذا يؤدي إلى أن في المسألة بيعاً مؤجل البدلين وهو بيع فاسد، لأنه بيع دين بدين، وقد (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ ))(1)
__________
(1) هذا الحديث رواه: الدارقطني عن ابن عمر في سننه، كتاب البيوع، حديث رقم (269).
الحاكم في المستدرك: 2/57، كتاب البيوع، عن ابن عمر. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجه.
البزّار عن ابن عمر، انظر كشف الأستار عن زوائد البزّار على الكتب الستة لعلي بن أبي بكر الهيثمي: 2/92، باب ما نهي عنه من البيوع حديث رقم (1280).
ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب البيوع والأقضية، باب من كره أجلاً بأجل، وحديث رقم (2169).
وقال الشوكاني في هذا الحديث: صحّحه الحاكم على شرط مسلم، وتعقّب بأنه تفرّد به موسى بن عبيدة الربذي، كما قال الدارقطني وابن عديّ، وقد قال فيه أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره. وقال: ليس في هذا حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين، وقال الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث، وانظر نيل الأوطار: 5/66.(1/180)
أي الدين بالدين، إذ لا العميل يسلّم ثمن السلعة للمصرف، ولا المصرف يدفع السلعة للعميل.
ربح ما لم يضمن:
إذا كان المصرف إنما يشتري السلعة لتؤول إلى العميل بمجرد شرائها بمقتضى سابق الاتفاق الملزم، فإن هذا يورث ربح ما لم يُضمن المنهي عنه بالحديث السابق:(( لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك))(1) ومعناه كما قال الشوكاني أنه لا يجوز أن يأخذ البائع ربح سلعة لم يضمنها، مثل أن يشتري متاعاً ويبيعه إلى آخر قبل قبضه من البائع (2)، فالنهي عن ربح ما لم يضمن إذاً عائد إلى النهي عن بيع ما لم يقبض.
وتفسير وقوع هذه الشبهة على مسألة البحث مع الإلزام: أن المصرف يربح من العميل جرّاء شرائه ربحاً من سلعة لم تدخل في ضمانه، لكونها آلت إلى العميل فور شراء المصرف لها. هذا هو الأصل، وإن كان المصرف يضمن السلعة لاحقاً بوجه من الوجوه كما عليه التطبيق الحالي. وقد ذكر هذا المحذور ابن عبد البرّ.(3)
ويلاحظ أن المحاذير الخمسة السابقة مبناها على أن ما حصل بين المصرف والعميل من اتفاق ملزم كان له حكم العقد. وهو ما انتهى إليه المجمع الفقهي، حيث رأى أن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة للآمر بالشراء تشبه العقد نفسه.(4)
وـ منافاة مبدأ الرضا المقصود في العقود:
__________
(1) سبق تخريجه ص (116).
(2) نيل الأوطار: 5/191.
(3) الاستذكار لابن عبد البر:19/252.
(4) قرار المجمع الفقهي رقم(2-3) بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء. في دورة مؤتمره الخامس عام 1409هـ.الموافق 1988 م.انظر الفقه الإسلامي وأدلته للاستاذ الدكتور وهبه الزحلي:9/556-557.(1/181)
وتفسيره ان الثمن قد لا يُنَصّ عليه في صيغة الوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء للجهل به في هذه المرحلة، أي قد لا يَرِدْ تقييدٌّ للثمن الأصلي محددٌّ في الصيغة، فربما أُجبر العميل على التملك بثمن لا يرتضيه، مادام ملزماً، إذْ قد يشتري المصرف السلعة بثمن لا يرتضيه العميل. وهذا ينافي مبدأ الرضا المقصود في العقود.
زـ سقوط خيار المجلس عند من يقول به ( وهم الشافعية والحنابلة )(1):
وذلك أن الإلزام يعدم خيار المجلس عندما يشتري العميل السلعة من المصرف، إذ يكون مجبوراً حينئذ، فلا يمكن له أن يستعمل حقه في خيار المجلس. وقد يقال بأن خيار المجلس قد كان للمتواعدين حال الاتفاق الملزم بينهما. ويجاب على هذا بأن الشارع أعطى خيار المجلس عند من يقول به في كل عقد بيع.
ولا يقال بأنه يمكنهما الاتفاق حين المواعدة الملزمة على إسقاط خيار المجلس سلفاً، لأنه لا يمكن إسقاطه قبل حدوث سببه كما يقول الشافعيّة (2)، إلا أَنْ يُؤخذ بقول الحنابلة، إذ أجازوا ذلك.(3)
__________
(1) المهذّب للشيرازي: 1/257. المغني لابن قدامة: 6/10.
(2) المهذب للشيرازي: 1/258.
(3) المغني لابن قدامة: 6/16.(1/182)
وهكذا يتبيَّن واضحاً مما سبق خطر القول بإلزام الوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء، فخطر القول به أكبر من مجرد شبهة الربا، لأن محاذير أخرى كثيرة تنبني عليه كما سبق، قال ببعضها الإمام الشافعي الذي لا يأخذ بالذرائع الربوية ويجري العقود على ظواهرها. والإمام محمد بن الحسن وابن القيم رحمهما الله تعالى حينما سئلا عن نحو مسألة الباب دلاّ على بيع المخايرة ـ كما سبق ـ حيث يشتري المأمور السلعة من مالكها على أنه بالخيار مخافة نكث الآمر، ولو كان في الأخذ بالإلزام بالوعد مسوِّغ شرعي لدلاّ عليه هنا، ولكنهما أكّدا عدم جواز اللزوم بإثبات الخيار للآمر، وجعلا المخايرة منجاةً من ضرر نكول الآمر. فعلى هذا، لا نملك أن نقول بلزوم الوعد في مسألة البحث وقد تبيّن خطره، فإنه إن جاز الإلزام بالوعد مستقلاً عند بعض الفقهاء، ووجدنا من يقول به من غير المالكية واخترنا ذلك، فلا يمكن بحال أن نقول به هنا، بل يجب أن نتدخّل جبراً في مسألة بيع المرابحة للآمر بالشراء فنقول بعدم الإلزام، حتى ننأى به عن تلك الشبهات التي ذكر بعضها وأكّده المالكيّة والإمام الشافعي.
مسألة: السؤال الآن هل تقع المحاذير التي سبق ذكرها في حالة إلزام المصرف دون العميل أو العكس ؟
أولاً ـ إلزام المصرف دون العميل:(1/183)
إذا كان الخيار للعميل دون المصرف، فإن المصرف يعلم أنه بعد شرائه السلعة قد يشتريها العميل منه، وقد لا يشتريها، فيكون عندئذ لإقبال العميل وموافقته على الشراء كل قيمة واعتبار، فيقال بأن عقداً حصل بينهما ترتَّب عليه آثاره، ولا يكون شكلياً كما لو كان العميل ملزماً أيضاً، إذ تؤول السلعة في هذه الحالة إلى الآمر بمقتضى الاتفاق السابق بينهما، ولا يكون لعقد البيع الذي يجريانه لاحقاً قيمة، إلا من حيث إنه وسيلة ضروريّة لتنفيذ مقتضى اتفاق سابق. أمّا في حال خيار العميل، فإن في إقباله على الشراء كل الاعتبار، فهو منشئ لعقد حينئذ لا منفِّذ لمقتضى اتفاقٍ سابق لازم، وحينئذ لا يمكن القول بحصول شبهة بيعتين في بيعة، أو بيع ما ليس مملوكاً للبائع، أو سلف وزيادة، أو أدنى شبهة أو شائبة إكراه، إذ لا تؤول السلعة حينئذ إلى الآمر إلا باختياره، وبمقتضى عقد جديد. ويبقى خطر المراوضة الذي قال به المالكيّة، وهي مسألة تبع لمبدئهم في التوسع في الشبهة.
ثانياً ـ إلزام العميل دون المصرف:
إذا كان الخيار للمصرف دون العميل، أي أن المصرف حُرٌّ في شراء السلعة وفي عرضها للعميل إن اشتراها، والآمر ملزم إن عرض عليه المصرف السلعة، ففي هذه الحالة إن اشترى المصرف السلعة وهو ينوي بيعها للعميل، فيخشى من وقوع بعض الشبهات السابقة، نظراً لأن العميل ملزم بالشراء على كل حال، والمصرف إنما يشتريها ليبيعها للعميل. ولا يمكن الجزم بوقوعها، نظراً لخروج الوعد الذي كان بينهما عن حكم العقد وأثره، وإنما وجه خشية تمكن الشبهات السابقة هو هذه المراوضة التي كانت بين المصرف والعميل، وهي التي حملت الإمام مالكاً على القول بحرمة هذه المسألة، نظراً لتوسّعه في الشبهة، وإعطائه شبهة الشيء حكم حقيقته على ما سبق بيانه.(1/184)
ولكن لو اشترى المصرف السلعة، والحال أنه حُرٌّ في الشراء بخلاف العميل، لا ليبيعها إلى العميل، وإنما ليعرضها للتجارة، أو ليقتنيها، ثم بدا له بيعها للآمر، فهنا يمكن القول بانتفاء أكثر الشبه، نظراً لأن شراء المصرف للسلعة غير مرتبط ببيعها للعميل، بل هو شراء مستقل كل الاستقلال، فلا يمكن عندئذ عدُّه من قبيل بيعتين في بيعة أو بيع ما ليس عند البائع وغيرهما من شبهات العقد، ولكن تبقى حينئذ شبهة إكراه الآمر على الشراء، فلا يتحقق رضاه عِند مَنْ يأخذ بخيار المجلس في البيع ولا يجيز إسقاطه قبل حصول سببه، وهم الشافعية على ما سبق؛ وكذا شبهة التملك بثمن قد لا يرتضيه البائع.(1)
وتجدر الإشارة إلى أن المجمع الفقهي أجاز الوعد الملزم في بيع المرابحة للآمر بالشراء إن كان الخيار للمصرف أو العميل، ولم يجزه إن لم يكن ثمَّ خيارٌ لأحدهما، إذ رتَّب على ذلك حصول بيع الإنسان ما ليس عنده.(2)
مسألة: حكم بيع المرابحة للآمر بالشراء حال خلوِّه عن الأجل:
__________
(1) انظر ص (182) من هذا البحث.
(2) انظر القرار المذكور ص (181) من هذا البحث.(1/185)
إن كان الاتفاق بين المصرف والعميل على بيع السلعة له بالنقد لا بالأجل ـ وهذه الحالة كما سبق الحديث عنها تتم في المصرف الإسلامي حال ضعف خبرة العميل بأصول شراء السلع الخارجّية وخطواته، فيلجأ إلى المصرف الإسلامي لخبرته ـ فيمكن القول بأنه لا محذور حال عدم الأخذ بالإلزام بين العميل والمأمور، أما لو كان ثَمَّ اتفاق ملزم بينهما، فيمكن القول بوقوع شبهة بيع ما ليس مملوكاً للبائع كما ذكر الإمام مالك والإمام الشافعي، حيث لم يميزا بين بيعة النقد وبيعة الأجل.(1) وتفصيل ذلك الوقوع على ما سبق الحديث عنه في بيع المرابحة للآمر بالشراء بالأجل، ولكن لا يمكن القول بوقوع شبهة بيعتين في بيعة على ما ترجَّح من معناها، لأن مبنى هذه الشبهة على حصول بيعتين، بيعة بالنقد وأخرى بالأجل، بل وإن كان شراء المصرف السلعة بالأجل ليبيعها إلى العميل بالنقد، لأن مردّ شبهة بيعتين في بيعة في مسألة المرابحة للآمر بالشراء عند الإمام مالك ـ وهو من قال بها ـ إلى شبهة الربا بالانتفاع من القرض كما سبق ـ وهذا منتفٍ هنا مادام المصرف يبيع السلعة بالنقد إلى العميل ويحصّل ربحاً من هذا البيع، أي أن المصرف لا يكون مقترضاً بزيادة من العميل، ولا العميل يكون مقترضاً من المصرف.
أما شبهة البيع مؤجل البدلين، وربح ما لم يضمن، واختلال رضا الآمر، فلا تنتفي عن هذا البيع مع انعدام الأجل، لأنها من محاذير الوعد الملزم واكتساب هذا الوعد حكم العقد في بيع يتضمَّن ربحاً، فالأُولى تتحقق باكتساب الوعد الملزم حكم العقد، والثانية بالإلزام وتحققِ الربح، والثالثة بمجرد الإلزام.
__________
(1) الأم للإمام الشافعي: 3/39، منح الجليل للشيخ عليش: 5/109.(1/186)
وأضاف المالكية شبهة اجتماع سلف وبيع فيما لو قال الآمر للمأمور: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقداً وأنا آخذها منك باثني عشر نقداً. وهي صورة المرابحة للآمر بالشراء حال خلوِّها من الأجل. وتفسير هذه الشبهة: أن الآمر بقوله: (لي) صيَّر المأمور أجيراً له، فتجتمع الإجارة والسلف، والإجارة نوع من أنواع البيع، حيث هي بيع المنافع، فكان في تلك الصورة سلف وبيع. ولكن واقع الحال في المصارف الإسلامية غير ذلك، إذ لا يذكر العميل في نص المواعدة أو طلب الشراء أن الشراء له.
بناءً على ما سبق لا يسلَم بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد خلا عن الأجل، من بعض الشبهات حال الإلزام بالوعد، أما لو كان الإلزام من قبل أحد الطرفين، فالكلام في هذا من حيث وقوع الشبهات كسابق الكلام في مسألة إلزام المصرف، أو العميل، فيما لو كانت المرابحة لأجل.
الفصل السادس
ضوابط شرعية بيع المرابحة للآمر بالشراء على الصعيد التطبيقي
بعد هذا التطواف، يتبين لنا أن أخطر ما في مسألة بيع المرابحة للآمر بالشراء هو الأخذ بالإلزام بالوعد فيه، وبترك الإلزام تبقى المسألة مشروعة، ولا تبقى إلا الشبهة التي قال بها المالكية، وهي شبهة ذريعة الربا (العينة) وقد عرفنا وجه الردّ عليها إبّان الحديث عن الذرائع الربويّة والقصد المؤثم. إلا أن القول بحل المسألة حال عدم الإلزام ليس على إطلاقه، بل لا بُدَّ من توفر ضوابط تنأى بالمسألة عن تلك الشبه التي سبقت، وخصوصاً الشبهة الكبرى، وهي الربا ذو المسالك المتعددة والأبواب المختلفة. وهذه الضوابط لا بُدَّ وأن تتحقق في المصارف الإسلامية ذات الصلة الوثيقة ببيع المرابحة للآمر بالشراء.
هذه الضوابط أكثرها يتعلّق بكل ما ينفي عن هذا المبيع شبهة التمويل الربوي، ويجعله بيعاً وشراءً حقيقياً بربح مشروع.
تتضح هذه الضوابط في المباحث التالية:
المبحث الأول: قبض السلعة. وفيه المسائل التالية:
قبض المصرف للسلعة قبل بيعها.
التسجيل.(1/187)
توكيل المصرف للعميل بالقبض أو ليشتري لنفسه وليبيع لنفسه.
كون الشاحن وكيلاً عن المصرف والعميل.
المبحث الثاني: كفالة المصرف لحقّه. ويضم المسائل التالية:
كفالة العميل للجهة المورّدة.
رهن السلعة حتى دفع أقساط الثمن.
شرط البراءة من العيوب.
نفقات التأمين.
المبحث الثالث: التعويض عن الضرر. ويضم المسائل التالية:
ضرر النكول.
ضرر التأخر في دفع أقساط الثمن.
ضرر موت العمل.
ضرر تغيّر قيمة العملة في سعر الصرف.
المبحث الأول
قبض السلعة
أولاً ـ قبض المصرف للسلعة قبل بيعها:
أ ـ الأحاديث الواردة في قبض المبيع قبل بيعه:
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله )) وفي رواية حتى يستوفيه، وهي رواية البخاري.(1)
عن زيد بن ثابت(2) رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (( نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحُوزها التجّار إلى رحالهم ))(3)
وثمّة أحاديث كثيرة خاصة بالطعام.
ب ـ خلاصة أقوال الفقهاء في حكم قبض المبيع قبل بيعه:
__________
(1) أخرجه:
البخاري في الصحيح:2/748،كتاب البيوع،باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك.رقم(2029).
مسلم: 3/1159 كتاب البيوع. باب بطلان المبيع قبل القبض رقم (1525).
(2) زيد بن ثابت بن الضحّاك، الأنصاري، الخزرجي، الصحابي الجليل، ولد بالمدينة سنة11 قبل الهجرة، كاتب الوحي، أحد ثلاثة جمعوا القرآن الكريم زمن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم، روى 92 حديثاً، توفي سنة 45هـ على الأرجح. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 2/592.
(3) أخرجه: أبو داود في السنن: 3/675. كتاب البيوع حديث (3466).
الدارقطني في سننه: 3/13.كتاب البيوع.
الحاكم في المستدرك: 2/40. كتاب البيوع
ابن حبّان في صحيحه: 11/360. كتاب البيوع. باب ذكر الخبر المصرِّح بأن حكم الطعام وغيره من الأشياء في البيع سواء (4984).(1/188)
من الفقهاء من أوجب قبض الشيء قبل بيعه بإطلاق، ومنهم من قيد المنع بأشياء دون غيرها على التفصيل التالي:
الحنفيّة:
أوجب الإمام محمد قبض المبيع قبل بيعه منقولاً كان أم عقاراً، وأجاز الشيخان بيع الشيء قبل قبضه في العقارات دون المنقولات.(1)
وتفريق الشيخين بين المنقول والعقار يظهر علة النهي عندهم عن بيع الشيء قبل قبضه، وهي الغرر، ومعناه هنا: احتمال الهلاك والتغيّر. وذاك يكثر احتماله في المنقول دون العقار.
الشافعيّة:
ذهبوا إلى شرط القبض في جميع المبيعات، لعموم المنهي بحديث زيد بن ثابت السابق الذي يوجب حيازة التجّار السلع إلى رحالهم، أي قبضها قبل بيعها.
واحتجَّ الشافعيّة أيضاً بأنه إذا مُنع بيع الطعام قبل قبضه مع شدَّة الحاجة إليه، فغيره ممنوع من باب أولى. واستدلوا أيضاً بأن النهي للغرر، والغرر حاصل في كل السلع لا في الطعام فقط، وبأن إفراد فرد من أفراد العام في الحكم لا يخصصه، وبضعف الملك قبل القبض مطلقاً بدليل انفساخ العقد بالتلف قبل القبض.(2)
الحنابلة:
أوجب الحنابلة القبض في المقدرات كالمعدودات والموزونات والمكيلات، وأجازوا بيع الشيء قبل قبضه فيما عدا المقدرات، وعلَّلوا ذلك بسهولة القبض في المقدّرات عادةً. وبأنها لا تخرج عن ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن أو العدّ، واستدلوا أيضاً بالأحاديث التي توجب الكيل والوزن، وبأحاديث الطعام عامّةً، إذ الغالب فيها أن تباع بالكيل أو الوزن.(3)
المالكيّة:
__________
(1) الهداية للمرغيناني: 3/59.
(2) مغني المحتاج للشربيني: 2/461. المهذب للشيرازي: 1/262. الأم للإمام الشافعي: 3/70.
(3) المغني لابن قدامة: 6/181-185.(1/189)
أجاز المالكيّة بيع ما عدا الطعام قبل قبضه، وأجازوا بيع الطعام قبل قبضه إذا كان جزافاً، والمراد بالطعام هنا عندهم: الأجناس الربوية منه، وغير الربوية على الراجح، إذ ثَمَّ رواية عن مالك بعدم اشتراط القبض في الطعام غير الربوي، واحتجَّ المالكيّة بالمفهوم المخالف للأحاديث التي ورد فيها الإقتصار على الطعام.(1)
الظاهريّة:
اشترط الظاهرية القبض في القمح، أما في غيره فلا يشترط مادام قد ملكه بغير معاوضة مالية كهبة أو قرض أو صداق أو صدقة. أما شراءً فيشترط القبض كالقمح.(2)
ج ـ ما يتم به القبض
القبض عند الحنفيّة تكفي فيه التخلية، أي أن يخلي البائع بين السلعة والمشتري، ولكن لا يحق للمشتري أن ينتفع أو يبيع المثلي من المكيل و الموزون إلا بالكيل أو الوزن، وإن كان المثلي يخرج عن ملك البائع بالتخلية.(3)
أمّا عند الجمهور فالعبرة في القبض للعرف، أي حسب ما يتعارفه الناس قبضاً، إلا العقار فتكفي فيه التخلية عند المالكية والشافعية.(4) أمّا الظاهرية فهم كالحنفية في الاكتفاء بالتخلية وإطلاق اليد.(5)
هذا وقد قرر المجمع الفقهي أن قبض الأشياء يتحقق بحسب حالتها، وتبعاً للعرف.(6)
__________
(1) المدونة: للإمام مالك: 3/134، بداية المجتهد لابن رشد (الحفيد): 2/108.
(2) المحلّى لابن حزم: 8/518. مسألة (1508).
(3) بدائع الصنائع للكاساني: 5/244.
(4) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 3/ 145، المهذّب للشيرازي:2/263، المغني لابن قدامة: 6/187-188.
(5) المحلّى لابن حزم: 8/518.
(6) قرار المجمع الفقهي رقم 55/4/6 في دورة مؤتمره السادس 1410هـ.الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 9/575.(1/190)
فقبض السلعة إذاً مشروط عند بعض الفقهاء في غير الطعام دون البعض الآخر، وكذا تخرج السلعة عن ضمان البائع إلى المشتري بالتخلية عند البعض. وقد يقال بناءً على هذا بأنه في بيع المرابحة للآمر بالشراء يمكن الأخذ بقول من لم يشترط قبض السلعة، فيبيع المصرف السلعة للعميل قبل قبضها من الجهة الموردة. أو الأخذ بقول من اكتفى بالتخلية في القبض، فتعدّ تخلية المورد بين المصرف والسلعة قبضاً تدخل السلعة بناءً عليه في ضمان المصرف، فيبيع المصرف السلعة للعميل حينئذ، ثم يشحنها العميل لحسابه.
ولكن بإمعان النظر في فائدة النهي عن بيع ما لم يقبض، وفي الأحاديث الواردة في ذلك، يتبيّن لنا أن النهي واقع لسببين:
1 ـ ما يترتب عليه من بيع البائع ما لم يدخل في ضمانه، فينتج عنه ربح ما لم يضمن، حيث يبيع البائع ـ بربح غالباً ـ ما لم يقبضه، فيؤول الأمر في كثير من الأحيان إلى بيع صوري، وهذا شبهة الربا. وقد يكون الرابح البائع وقد يكون المشتري.
2 ـ إن في بيع ما لم يقبض غرراً من حيث احتمال هلاك المعقود عليه أو تغيّره ولو كان في ضمان البائع. أمّا خطر التغير فذلك نادر في غير الطعام، فيبقى احتمال الهلاك قائماً.(1/191)
وبناءً على هذا فإن المصرف الإسلامي ـ وهو أحوج ما يكون إلى نفي شبهة الربا عنه ـ عندما يبيع السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء قبل قبضها، فإنه يقع في المحذور الأوّل، وهو ربح ما لم يضمن الذي يثير شبهة الربا، فيتحقق في عمله الصفة التمويلية لا التجارية. وعندما يكتفي المصرف بالتخلية قبضاً للسلعة ويشحنها لحسابه ولكنه يبيعها قبل حيازتها بموجب بوالص الشحن، فإنه يقع في المحذور الثاني، فهو وإن ضمن السلعة حتى لحظة تسليمها إلى العميل، فإنه لا يأمن خطر هلاكها في الطريق، إذ قد تهلك، فيتعذر التسليم، فيكون في بيعه الغرر. هذا في السلع المستوردة، أمّا في السلع المشتراة داخليّاً. فشبهة التمويل آكد، حيث تكون السلعة في متناول يد العميل ومع ذلك يلجأ إلى المصرف، ممّا يستدعي ضرورة تحقق القبض والضمان لتتأكد عملية البيع لا التمويل، وذلك بقبضها وحيازتها فعلاً وعدم الاكتتفاء بالتخلية قبضاً، ومن ثم يبيعها إلى العميل. وبذلك تتحقق عملية البيع والشراء، لاسيّما وأن ضمان المصرف للسلعة هنا يسيرٌ، لانعدام خطر الهلاك أو التعيُّب أو نُدرتهما، والضمان يؤكِّد الشرعيّة.
ثانياً ـ التسجيل. هل التسجيل ضروري لتحقق القبض ؟
لتسجيل السلعة المشتراة في سجلاّت الدولة الخاصّة نفقات وإجراءات من شأنها أن تثقل كاهل المصرف والعميل، إلا أن الظروف الاقتصاديّة الحاليّة اقتضت لأي مشترٍ أن يسجِّل بعض الأشياء كالسيارة والعقار والآلات الصناعية، وأضحى لا يعترف بملكية المشتري لها على نحو ثابت، ولا تدخل في ضمانه قانوناً إلا بالتسجيل.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا: ( الذي أخذت به سورية ومصر أن العقد غير المسجَّل يسري مفعوله ويلزم الطرفين، ولكن لا بُدَّ منه ـ أي التسجيل ـ لحصول بعض آثاره كانتقال الملكيّة في البيوع العقاريّة، فيتوقف على التسجيل بالنسبة إلى العاقدين وإلى الغير معاً )(1).
__________
(1) القانون المدني السوري. للشيخ مصطفى الزرقا: ص30.(1/192)
فالتسجيل من حيث الحكم لا يناقض الشريعة الإسلاميّة مادام يعتبر وسيلة لحفظ الحقوق وإثبات الملكيّات، والحاجة إليه واقعة في أيّامنا هذه نظراً لكثرة العقود، وتداول السلعة الواحدة في أيدي العشرات من الناس، وتنامي الخصومات.
فما دامت دوائر الدولة إذاً لا تعترف بملكية المشتري إن لم يسجِّل، ولا تأخذ بسريان هذه الملكية في حق غير المتعاقدين إلا بالتسجيل، فمن الخير أن يقوم المصرف الإسلامي بتسجيل ما يشتريه ليبيعه إلى العميل، إذ التسجيل غدا في أيّامنا هذه من تمام العقد وشرطاً لحصول بعض آثاره، ممّا يجعل مجمل العملية أقرب إلى حقيقة عملية البيع والشراء المتعارفة، وذلك أقرب إلى الشرعيّة.
وقد صدرت فتوى في البنك الإسلامي الأردني عن رقابته الشرعيّة بضرورة التسجيل عند شراء المصرف السلعة في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهي خطوة طيّبة، وعلى ذلك مصارف إسلامية أخرى.(1)
إلا أني أرى اقتصار التسجيل إن أمكن ـ تخفيفاً على المصرف والعميل وبما يحقق المقصد الشرعي ـ على سلع المرابحة المشتراة داخليّاً، حيث لا أخطار ولا مشاقَّ يتحملها المصرف الإسلامي وتؤكِّد ممارسة عمله التجاري، ولا نفقات باهظة يتحمّلها العميل، كما هو الحال في المشتريات الخارجيّة. فينبغي للمصرف حتى يؤكدَ عمله التجاري في المشتريات الداخليّة أن يُحقِّق امتلاكه للسلعة وحيازتها، وأن يقوم بالإجراءات القانونية التي تستدعي ذلك، ممّا يجعله مالكاً لها أمام الناس والقانون، ثم يقوم ببيع تلك السلعة إلى العميل إن شاء هو وشاء العميل.
ثالثاً ـ توكيل المصرف للعميل بالقبض أو ليشتري لنفسه وليبيع لنفسه:
__________
(1) خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية. بحث د. عبد الحميد السائح، ص: 239.(1/193)
قد يلجأ المصرف الإسلامي أحياناً إلى توكيل عميله طالب شراء السلعة بالشراء نيابةً عنه، ومن ثُمَّ ببيع ما اشتراه لنفسه. أو قد يشتري المصرف الإسلامي بنفسه السلعة التي التمس إليه العميل شراءها، ثم يوكِّل العميل بقبضها والبيع لنفسه. كل ذلك اختصاراً للوقت وخفضاً للتكاليف، وربّما تهرّباً من ضمان المصرف للسلعة، أو قد تكون للعميل خبرة في أمور البيع والشراء والتخليص الجمركي أكبر ممذا لدى المصرف فيوكِّله. فما حكم ذلك ؟
لا خلاف في جواز أن يوكِّل المصرفُ العميل بشراء السلعة، أو بقبضها فقط نيابةً عنه ليسلمها للمصرف، إذ الأمر لا يعدو كونه وكالةً مجرّدة وهي جائزة. ولكن المسألة في توكيله ليبيع لنفسه مرابحةً أيضاً، أو في قيام المصرف بإصدار شيك باسم العميل، ليأخذه العميل، فيشتري للمصرف وكالةً السلعة، ثم يبيعها لنفسه.
وذلك ممنوع، لعدم تحقق قبض المصرف للسلعة حقيقةً، وبالتالي عدم دخولها في ضمانه، مادام العميل سيبيعها لنفسه فور شرائها نيابةً عن المصرف أو قبضها، وهذا يجعل العملية بيعاً صورياً بين المصرف والعميل، ويجعل المسألة أقرب إلى عملية التمويل الربوي لا التمويل التجاري، ونحن إنما نريد أن ننأى قدر الإمكان بالمصرف الإسلامي عن الربا وشبهه.
أمّا عن شبهة عدم جواز أن يشتري الوكيل ما وُكِّل ببيعه لنفسه فمندفعة على سبيل التوسّع في المذاهب، إذ أجاز المالكية ذلك بإذن الموكل، كما أجاز ذلك الإمام أحمد الذي لم يمنع أن يتولى الشخص الواحد طرفي العقد.(1)
رابعاً ـ كون الشاحن وكيلاً عن الطرفين:
يحدث أن يكون الشاحن وكيلاً عن المصرف بالقبض من البائع، ووكيلاً عن العميل بالقبض من المصرف، أو عن المصرف بالقبض، ومن ثُمَّ عن المصرف والعميل بإجراء عقد المرابحة.
__________
(1) اللباب: 2/74، حاشية الدسوقي: 3/387، روضة الطالبين: 3/538، الكافي: 2/253، كشاف القناع للبهوتي: 3/171، المغني لابن قدامة: 7/231.(1/194)
أ ـ كونه وكيلاً عن المصرف بالقبض وعن العميل بالقبض من المصرف:
لا حرج في كون الشاحن وكيلاً عن المصرف بالقبض، فذاك لا يعدو الوكالة الجائزة، ولكن أن يكون ذات الشاحن وكيلاً عن العميل أيضاً بالقبض من المصرف بعد أن قد تحقَّق قبض المصرف للسلعة بقبض الشاحن باعتباره وكيلاً عنه، فهذا غير سائغ لما يلي:
الواجب على العميل في بيع المرابحة للآمر بالشراء ألا يشتري السلعة إلا بعد قبضها
من قبل المصرف، وبعد وصول السلعة إليه بذاتها لا بموجب مستندات الشحن، إذ يبقى خطر هلاكها قائماً مادامت في الطرق، فكيف يكون للعميل إذاً أن يوكِّل آخر في قبض شيء لم يشتره بعد، ولم يدخل في ملكه.
ذلك ينافي ضمان المصرف للسلعة الذي قلنا باشتراطه حتى تتحقَّق العملية التجاريّة لا التمويليّة، إذ في اللحظة التي يقبض فيها الناقل الشاحن السلعة نيابةً عن المصرف، فإنها تدخل في ضمان العميل بموجب توكيله الشاحن بالقبض عنه. هذا إن صحَّ بيع المصرف العميل السلعة قبل وصولها.
لا يصح كون الشاحن وكيلاً عن الطرفين يجمع صفتين متضادّتين كالتسلم والاستلام، إذْ كيف يكون مستلماً ومسلِّماً في آنٍ واحد !!! ومَن مَنَعَ كون الشخص الواحد وكيلاً عن الطرفين بإجراء البيع علَّل ذلك بأنه حينئذ يجمع بين صفتين متضادّتين من تسليم وتسلّم، وكونِه طالباً ومطالباً في آنٍ واحد، وهذا غير ممكن. والحنابلة لمَّا أجازوا ذلك، فلأن حقوق العقد عندهم تتعلّق بالموكِّل، لا الوكيل العاقد، وهنا في هذه المسألة يتحمّل الوكيل جانباً من هذه الحقوق كالتسليم والتسلّم، فلا يصح ذلك بوجه.(1)
ب ـ كون الشاحن وكيلاً عن العميل والمصرف بإجراء عقد المرابحة بعد قبض السلعة عن المصرف وكالةً:
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني: 5/135-136. شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/308-309. المغني لابن قدامة: 7/230-233.(1/195)
ممّا سبق تفصيله في السبب الثاني والثالث يُعْلَم عدم جواز ذلك، إذ ينافي ضمان المصرف للسلعة، ويؤدي إلى جمع الوكيل الشاحن بين صفتين متضادّتين.
المبحث الثاني
كفالة المصرف لحقّه
أولاً ـ كفالة العميل للجهة المورّدة:
للمصرف الإسلامي في الأصل أن يشترط على العميل الآمر بالشراء أن يكفل له الجهة التي حدّدها لشراء المصرف منها، فقد لا يعلم المصرف جدّية هذه الجهة المورّدة، ولا مدى سلامة التعامل معها، فيناسبه أن يكفلها له العميل. وهذه الكفالة هي كفالة مستقلة عن المرابحة سابقة لها، أي أنها كفالة لشيء مستقبلي، والكفالة للحق الذي سيجب أمر أجازه الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة، وسمّاه بعضهم ضمان السوق أو الدّرك، وصوّروه كالغريب يريد العمل في السوق، فيحتاج إلى أن يكفله تاجرٌ أو شخص ما معروف.(1)
ولكن في تطبيق ذلك على مسألة البحث في المصارف الإسلاميّة حرج من حيث إن مثل هذه الكفالة من العميل للجهة المورّدة تنأى بالمصرف عن خطر التجارة الذي هو شأنها، ونحن إنما قلنا بحل المسألة باعتبار تكييفها بيعاً لا قرضاً، فيجب أن يتحقق فيها ما يتحقق في البيع عادةً ؛ فليس للمصرف أن يشترط على العميل أن يسدّ له باب المخاطرة، حتى تظلّ المسألة دائرةً في فلك البيع والشراء. هذا من وجه، ومن وجه آخر فإن في كفالة العميل للجهة المورّدة زيادة عبء على المشتري (العميل) ما كلّفه الله تعالى به، والمشتري إنما هو المصرف، فيجب أن يتحمل هو تبعة شرائه.
ثانياً ـ رهن المصرف السلعة حتى دفع أقساط الثمن:
للمصرف الإسلامي إن كان المبيع عقاراً، أو ممّا يشترط تسجيله، لدى دوائر الدولة الخاصة أن يرهنه رهناً رسميّاً (تأمينياً) ضماناً لحقه، وهذا يورثه حق التتبّع والتقدّم(2)
__________
(1) الهداية للمرغيناني: 3/90، المغني لابن قدامة: 7/73، حاشية الدسوقي: 3/333.
(2) حق التتبّع: هو تتبع الدائن الشيء المرهون في يد أي حائز له لاستيفاء الدين عند حلول الأجل.
حق التقدّم: هو حق الدائن المرتهن بالأولوية أو التقدم أو الامتياز على بقية الدائنين العاقدين في اقتفاء دينه. انظر العقود المسمّاة. د. وهبة الزحيلي:ص354-355.(1/196)
. أمّا إن كان المبيع مرابحةً سلعةً لا تسجّل، أو ممّا يسجّل ولم يتم تسجيله، فلا يمكن للمصرف عملياً أن يرهنه عنده رهناً حيازيّا بدل الرهن التأميني، أو أن يحتبسه عنده فلا يسلمه إلى العميل حتى دفع كامل الأقساط المؤجلة، ذلك لأن عميل المصرف الإسلامي لا يرضى غالباً باحتجاب السلعة عنه حتى لحظة تمام سداد الثمن، حيث يخرج المصرف الإسلامي بذلك عن عرف التجّار، إذ يسلِّم التجّار غالباً سلعهم قبل استلام كامل الثمن المؤجل على أقساط.
وعلى أي حال، يمكن للعميل إن اشترط عليه المصرف رهناً أن يرهن شيئاً آخر غير سلعة المرابحة، أو أن يحتفظ المصرف بعقود بيع ابتدائية لبعض أملاك العميل ضماناً لحقه، وفي ذلك مندوحة عن رهن سلعة المرابحة بذاتها، وضمان لحق المصرف الإسلامي الذي آلت علاقته مع العميل بعد تسليمه سلعة المرابحة إلى علاقة دائن ومدين.(1)
ثالثاً ـ شرط البراءة من العيوب:
اشتراط البائع على المشتري براءته من العيوب أمر سائغ شرعاً، ولكن الخلاف بين الفقهاء في شمول شرط البراءة المطلقة من العيوب للعيب الحادث بعد البيع قبل القبض، وفيما لو كان البائع المشترط عالماً بالعيب أو لا.
فأجاز الحنفية شرط البراءة من كل عيب بإطلاق، ولو كان المشتري عالماً بالعيب، ولو كان العيب حادثاً بعد البيع قبل القبض.(2)
__________
(1) أجاز المجمع الفقهي في قراره رقم ( 53/2/6 ) للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة. انظر الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 9/571.
(2) الهداية للمرغيناني: 3/41.(1/197)
أمّا الشافعية والمالكيّة، ومعهم الإمام محمد من الحنفيّة، فقالوا بأن البراءة إنما تتناول الشيء الموجود لا الحادث، فلم يقولوا بشمول شرط البراءة للعيب الحادث بعد البيع قبل القبض. وقيَّد المالكيّة والشافعيّة، والحنابلة في رواية، شرط البراءة من العيوب بعيب لا يعلمه البائع. وفي رواية أخرى عن الحنابلة: لا تصحّ البراءة من العيوب إلا من عيب يعلمه المشتري، وروي عن أحمد أيضاً القول بمذهب الحنفيّة في الشمول مطلقاً.(1)
ولكن إذا ما أريد تطبيق شرط البراءة من العيوب في بيع المرابحة للآمر بالشراء، فإن في ذلك حرجاً من حيث إنه يقلل من تحمل المصرف الإسلامي لتبعات السلعة التي يشتريها، ويقلل من مخاطر عقد البيع الذي صحّحنا المسألة بناءً على تكييف المسألة به، لاسيّما حين تكون السلعة مشتراة داخلياً، حيث تنعدم الأخطار وتخفّ التبعات.
رابعاً ـ نفقات التأمين:
قد يشترط المصرف على العميل نفقات تأمين نقل السلعة ضد الأخطار، وهذا شرط مجحف بحق العميل، إذ المشتري هو المصرف لا العميل، فيجب أن يتحمل المصرف تلك النفقات كونه المالك، وليأخذها لاحقاً من العميل بعد إجراء عقد المرابحة معه.
ولكن يجب أن يُتنبه هنا أنه ليس للمصرف الإسلامي أن يدخل نفقات عقد التأمين في رأس مال المرابحة فيأخذ ربحاً عن تلك النفقات مادامت نفقاتٍ إذعانية في عقود الأصل فيها أنها محرّمة، بل له أن يأخذ مقدار ما دفع في تلك العقود دون ربح زائد عليه، لئلا يربح المصرف عن أصل محرّم. والله تعالى أعلم.
__________
(1) القوانين الفقهية لابن جزيّ: 264. نهاية المحتاج للرملي: 4/37-38. المغني لابن قدامة: 6/264-265.(1/198)
وتعمد بعض المصارف إلى اشتراط أن يؤمِّن العميل على السلعة بعد استلامها من المصرف ضد الأخطار لصالح المصرف حتى سداد كامل الأقساط.(1) وهذا فضلاً عن كونه شرطاً زائداً مجحفاً بحق العميل لأن السلعة قد دخلت في ضمانه بقبضها فلا حاجة لإرهاقه بنفقات التأمين، فإنه يتضمن محظوراً من حيث عدم شرعية مثل هذه العقود من التأمين كما تقدّم ـ وهو ما يسمّى بالتأمين التجاري ـ لبنائها على الغرر والمقامرة، وهو ما انتهى إليه مجلس المجمع الفقهي في مؤتمره الثاني عام1406هـ.(2)
المبحث الثالث
التعويض عن الضرر
أولاً ـ التعويض عن ضرر النكول:
تتحمل المصارف الإسلامية التي لا تأخذ بإلزام الوعد تبعة نكول الآمر عن الشراء بعد شراء المصرف للسلعة التي رغب إليه بها، وغالباً ما يبيع المصرف السلعة حينئذ لحسابه في السوق ويتحمّل الخسارة إن حصلت.
وبوسع المصارف الإسلامية هنا أن تدرأ عن نفسها خطر الخسارة بشراء السلعة بالخيار حتى يمكنها ردّ السلعة إن نكل الآمر عن الشراء، وهو ما يُسمّى ببيع المخايرة كما دلّ عليه الإمام محمد من الحنفيّة وابن القيم من الحنابلة.(3) هذا إن ارتضت ذلك الجهات التي يشتري منها المصرف، والواقع صعوبة ذلك، لاسيّما في السلع المستوردة.
أمّا المصارف الإسلامية التي تأخذ بإلزام الوعد، فإنها تعمد سلفاً إلى توقيع عقد وعد مع العميل قبل عقد الشراء يتعهّد بمقتضاه كل طرف أن يتحمّل الضرر الذي يلحق بالآخر جرّاء نكوله، ولا تأخذ المصارف الإسلامية بالتنفيذ الجبري القضائي.
ويتراوح الضرر الذي يتحمله العميل من جرّاء نكوله عن الشراء بعد شراء المصرف السلعة في المصارف الإسلامية بين:
__________
(1) انظر ص (217) من هذا البحث.
(2) قرار المجمع الفقهي رقم (9) بتاريخ 1416هـ الموافق 1985م، في مؤتمره الثاني بجدّة، بشأن التأمين وإعادة التأمين. انظر الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 9/487.
(3) انظر ص (78) من هذا البحث.(1/199)
بيع المصرف سلعة المرابحة بسعر السوق السائد، والرجوع إلى العميل بالفارق إن كان الثمن الذي بيعت به السلعة أقل من تكلفتها على المصرف، ويأخذ المصرف الزيادة إن باعها بأكثر من تكلفتها مادام هو المالك للسلعة.
وتأخذ بعض المصارف، فضلاً عن ذلك، تعويضاً عن فوات الكسب فترة احتجاز المال في صفقة المرابحة التي لم تتم، ويقدر هذا التعويض على أساس متوسط كسب المصرف في ذلك المقدار من المال، في مثل هذه الفترة.
مصادرة دفعةٍ تقدّم بها العميل حين توقيعه عقد الوعد ضماناً لجديته بطلب الشراء، بالغاً ما بلغت هذه الدفعة.
أمّا في حال نكول المصرف بعدم شرائه أصلاً بعد توقيعه عقد وعد مع العميل، أو بشرائه وعدم بيعه للآمر، فتنص لوائح المصرف الإسلامي على الإحالة إلى لجنة تحكيم، لتحدّد مقدار الضرر اللاحق بالعميل ليدفعه المصرف.(1)
والحقيقة أنّ إلزام العميل بأي تعويض عن نكوله يتناقض مع مبدأ الخيار الذي ينبغي أن يقال به وجوباً في بيع المرابحة للآمر بالشراء كما سبق، لأن ذلك التعويض سينفي الخيار الحقيقي للعميل، وقد يحمله على تنفيد وعده السابق، وهو أمر أشبه بالإلزام الذي علمنا ما يترتب على وجوده من محاذير تخرج السألة عن دائرة الشرعية. والمصرف الإسلامي مادام يمارس دوراً تجارياً، فينبغي أن يتحمّل ما قد يقع من خسائر، إذ هذا شأن التجارة. وهو عندما يشترط التعويض عن نكول الآمر، فإنه في سبيل أن يسد باب الخطر عنه يوقع كل عقود المرابحة التي يمارسها مع عملائه في دائرة الشبهة والتحريم، مع أنّ نكول العميل نادر، كما يؤكد ذلك بعض الذين راقبوا عقود المرابحة في المصارف الإسلامية.(2)
__________
(1) ندوة خطّة الاستثمار، بحث د. عبد الحليم عمر: ص211-212.
(2) انظر أبحاث المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي، بحث د. معبد علي الخارجي: ص120.(1/200)
وقد سوّغ بعضهم مصادرة دفعةٍ نقدية تقدّم بها العميل ضماناً لجديته في حال نكوله على اعتبار أنها من قبيل العربون الذي قال به بعض الفقهاء، وهذا باطلٌ كما يتبين في الحديث عن العربون فيما يلي:
معنى العربون: يطلق العربون عرفاً ويراد به أحد معانٍ ثلاثة:
مبلغ يدفعه المشتري عند العقد إلى البائع ليتمتّع بحق العدول عن العقد، فإن اختار اللزوم، كان العربون عن الثمن، وإلا فهو هبة للبائع.
مبلغ يدفعه شخص ليحجز سلعة ما، كيلا يبيعها مالكها لآخر، فإن اشتراها كان العربون من الثمن وإلا فالعربون لمالك السلعة.
مبلغ يدفعه المشتري بعد العقد تأكيداً له، وليبدأ البائع بتنفيذ مُقتضى العقد. ويلاحظ أن العربون هنا إنما هو دفعة من الثمن لا أكثر ولا أقل.
... ولكن أيّاً من هذه المعاني الثلاثة عناه الفقهاء بالعربون ؟
... لقد تحدّث الفقهاء عن بيع العربون أو بيع العربان، وعنوا به: أن يشتري الرجل السلعة ويعطي البائع قدراً معيّناً من النقد يكون من الثمن إن رضي السلعة، وإلا فهو هبة لصاحب السلعة.(1)
... يقول الإمام مالك في العربون: (أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدَّابّة، ثم يقول للذي اشترى منه،أو تكارى منه: أعطيك ديناراً أو أكثر من ذلك أو أقلّ على أنّي إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك، فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة، أو من كراء الدّابّة، وإن تركتُ ابتياع السلعة أو كراء الدّابّة،فما أعطيتك لك باطل بغير شيء)(2).
وعلى هذا فالذي قصده الفقهاء منطبق على المعنى الأول فقط من المعاني العرفية الآنفة الذكر.
الآثار الواردة في بيع العربون:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان ))(3)
__________
(1) شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 2/165. مغني المحتاج للشربيني: 2/395. الشرح الكبير للدردير (مطبوع مع حاشية الدسوقي): 3/63.
(2) الموطأ للإمام مالك: 2/609-610.
(3) أخرج الحديث:
الإمام مالك في الموطأ: 2/609. كتاب البيوع. باب ما جاء في بيع العربان.
أبو داود في السنن: 3/768.كتاب البيوع الأجارات. باب في العربان حديث رقم (3502)
ابن ماجة في السنن: 2/738. كتاب التجارات. باب بيع العربان رقم (2192).
أحمد في المسند:2/606في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رقم الحديث(6735)(1/201)
عن زيد بن أسلم(1) أنه (( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأحلّه))(2)
ما ذكره ابن أبي شيبة أن نافع بن عبد الحارث(3) اشترى داراً للسجن من صفوان بن أميّة (4) بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر، فالبيع له. وإن عمر لم يرض، فأربعمائة لصفوان.(5)
الكلام في الأسانيد:
الحديث الأوّل قال الشوكاني فيه: منقطع، لأنّه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب، فبينهما راوٍ لم يسمَّ، وسمَاه ابن ماجه بأنه عبد الله بن عامر الأسلمي(6)، وهو ممن لا يحتج بحديثه. وقيل هو ابن لهيعة(7)، وهو ضعيف.(8)
__________
(1) زيد بن أسلم بن ثعلبة بن أُبي، صحابي جليل، قيل بأنه شهد بدراً، وقيل بأنه شهد صفين مع علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 2/591.
(2) المصنف لابن أبي شيبة: 7/304. كتاب البيوع والأقضية رقم (3246).
(3) نافع بن عبد الحارث بن حباله، قال البخاري وابن سعد وابن عبد البر والعسكري بأن له صحبة، وقيل بإسلامه يوم الفتح، وأنكر الواقدي صحبته. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 6/408.
(4) صفوان بن أمية بن خلف الجمحي القرشي، اسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، من أشراف قريش، شهد اليرموك، له من كتب الحديث 13حديثاً، مات بمكّة سنة 41هـ. الأعلام للزركلي:3/205.
(5) المصَّنف لابن أبي شيبة:7/306.كتاب البيوع والأقضية رقم (3252 ).
(6) عبد الله بن عامر الأسلمي: المدني، قارئ القرآن، كثير الحديث، ضعّفه جماعة في الحديث منهم أحمد والنسائي وابن المديني، ميزان الاعتدال للذهبي: 2/448.
(7) ابن لهيعة: عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحيم، قاضي مصر وعالمها، ولي قضاء مصر سنة 155هـ، ضعّفه خلقٌ كثير منهم ابن معين والنسائي وضعّفه جماعةٌ بعد احتراق كتبه فقط. ميزان الاعتدال للذهبي: 2/475.
(8) نيل الأوطار للشوكاني: 5/163.(1/202)
أما الحديث الثاني فمرسل، وفي اسناده ابراهيم بن يحيى(1) وهو ضعيف(2). وعلى هذا فكلا الحديثين المجيز منها والمانع ضعيف لا يحتج به، وبهذا يتساقطا.
مذاهب الفقهاء في بيع العربون:
... اختلف الفقهاء في بيع العربون على مذهبين:
الأول: الجواز، وهو مذهب الإمام أحمد، ونقل عن ابن سيرين وسعيد بن المسيب. واستدلوا بقصّة شراء السجن.
الثاني: عدم الجواز، وهو مذهب الجمهور، ونقل عن ابن عباس والحسن البصري. ودليلهم النهي والغرر، إذ مدّة الخيار مجهولة، ولأن فيه شرط للبائع بغير عوض(3).
هذا وقد أخذ المجمع الفقهي ببيع العربون شريطة تحديد فترة الانتظار التي يكون فيها الخيار للمشتري.(4)
فعلى ما علمنا، إذا أخذنا بقول الإمام أحمد وبرأي من أجاز العربون، فإن تلك الدفعة المقدّمة التي يدفعها العميل في مرحلة المواعدة ضماناً لجديته ليست من العربون الذي ذكره الفقهاء، لأنها تُدفع قبل عقد البيع، بينما يدفع العربون وقت العقد ليضمن الدافع حقّه في التراجع.
__________
(1) إبراهيم بن يحيى بن محمد بن عبّاد بن هاني، الشجري، ضعّفه أبو حاتم، وقال الأزدي: منكر الحديث. ميزان الاعتدال للذهبي: 1/74.
(2) نيل الأوطار للشوكاني: 5/163.
(3) المغني:6/331. مغني المحتاج:2/395. حاشية الدسوقي: 3/63.
(4) قرار المجمع الفقهي(رقم76/3/85) بشأن بيوع العربون.الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي:9/617.(1/203)
هذا، ولقد طرح بيع العربون في المصارف الإسلاميّة ليكون بديلاً عن الوعد الملزم وشبهاته في بيع المرابحة للآمر بالشراء، حيث يكون للمصرف الإسلامي حينئذ أن يأخذ هذا العربون حال نكول العميل، ولكنّ بيع العربون كما علم، يستدعي عقداً مبرماً، ولا يكون في المرحلة السابقة لعقد البيع، ولو أوقعنا بيع العربون ابتداءً، لوقع المصرف في بيع ما ليس عنده، وهذا ما أخذ به المجمع الفقهي، حيث قرّر أن بيع العربون لا يجري في بيع المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة البيع التالية للمواعدة(1). وعلى هذا، لا يصح مصادرة تلك الدفعة التي يدفعها العميل سلفاً على أنها من العربون.
ثانياً ـ ضرر التأخر في دفع أقساط الثمن:
قد يتأخر العميل قي سداد أقساط ثمن ما اشتراه مرابحةً، وفي ذلك: العميل إما معسر أو موسر. والحكم الفقهي كما يلي:
إن كان معسراً، فلا خلاف في وجوب إنظاره، إذ هو واجب بنص الأية الكريمة: (( وَإِن كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ ))(2) فيمهل المعسر إلى أن يوسر باتّفاق الفقهاء.(3)
وأمّا إن كان موسراً، فيجبر على الدفع ويعاقب على اختلاف في العقوبة بين الحبس والتشهير به، للحديث الشريف (( لي الواجد يَحلُّ عرضه وعقوبته ))(4)
__________
(1) القرار السابق.
(2) من سورة البقرة، آية (280).
(3) نهاية المحتاج للرملي: 4/323. البدائع للكاساني: 7/173. القوانين الفقهية لابن جزيّ: ص313. المغني لابن قدامة: 6/585.
(4) الحديث. راويه هو الشريد بن سديد الثقفي رضي الله تعالى عنه. وأخرجه:
البخاري تعليقاً في صحيحه: 2/845. كتاب الاستقراض. في ترجمة باب (لصاحب الحق مقال).
أبو داود في السنن: 4/45. كتاب الأقضية. باب في الحبس في الدين ونحوه. رقم (3628).
النسائي في السنن: 7/316. كتاب البيوع. باب مطل الغني، حديث رقم (4689).
ابن ماجه في السنن: 2/811. كتاب الصفقات. باب الحبس في الدين والملازمة. رقم (2427).
الإمام أحمد في المسند: 7/117. رقم (19473) مسند الشاميين.
الحاكم في مستدركه وصحّحه: 4/102 كتاب الأحكام.(1/204)
وعلى هذا، فلم يجوِّز الفقهاء عقوبة المماطل بمال زائد يدفعه، لأن الأمر حينئذ يؤول إلى الربا، إذ مآل الأمر آنئذ إلى زيادة في الدين مقابل زيادة حدثت في الأجل. هذا هو الحكم الفقهي الشرعي. إلاَّ أن بعض المصارف الإسلامية لدى التطبيق ـ على ما أفتت به رقاباتها الشرعية ـ جوَّزت أخذ تعويض من العميل لتأخّره عن السداد إن ثبت يساره، وبنت هذا التعويض إمّا على أساس فوات الكسب: فيدفع العميل متوسط ما يكسبه هذا المصرف عادةً في مدّة التأخّر، أو على أساس أرباح العميل بجعل مال الدين مالَ مضاربة بيد العميل. وبعض المصارف تحيل الأمر إلى هيئة التحكيم الخاصّة بالمصارف لتقدِّر الضرر، كما هو الحال في المصرف الإسلامي الدولي.(1)
وعلى هذا، فإن هناك معيارين إذاً في تحديد مقدار التعويض:
مقدار الضرر المتوقّع، حيث ينظر المصرف إلى فوات الكسب. ويلاحظ في هذا تفاوت الضرر بين مصرف ومصرف، بحسب توسعه في التجارة والأرباح التي يحققها عادةً. وهذا يثير مسألة عدم العدالة في فرض التعويض بين مصرف وآخر.
مقدار ما حصّل المدين من ربح بسبب هذا المال. وهنا قد يحصُل ربح وقد لا يحصل. وهذا واقع أيضاً في المعيار الأوّل، إلا أنه في المعيار الثاني أكثر احتمالاً، لأن الغالب أن العميل فرد لا يملك من الخبرة وأدوات دراسة السوق وأفق الاستثمار ما يملكه المصرف.
وخرّجت تلك الرقابات هذا التعويض على قواعد الغصب، باعتبار أن العميل غصب المصرف حقه في المال وربحه، فيجب عليه أن يردّ هذا المال مع ربحه.
__________
(1) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية، بحث د. عبد الحليم عمر: ص220.(1/205)
وهناك من خرّجه على مبدأ مضاربة المثل، واستدّل بعمل أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب مع أبي موسى الأشعري(1)، رضي الله تعالى عنهما، حين أعطى أبو موسى عبد الله وعبيد الله(2) ابني عمر بن الخطّاب مالاً ليوصلاه إلى بيت المال في المدينة، وسمح لهما بالاتّجار به، فربحا، فحكم أمير المؤمنين عمر بنصف الربح لبيت المال والنصف الآخر لهما. فقد اعتبر المال مضاربةً مع أن اتفاقاً سابقاً عليها لم يكن.(3)
والبعض خرّج التعويض على مبدأ التغريم بالمال. ويلاحظ أن هذا المبدأ لا ينظر إلى مقدار الضرر ليرفعه، وإنما هو عقوبة.
ولكنّ هذه التخريجات، وبغض النظر عن مشروعيتها، لا يمكن تطبيقها في أمر الدَّين، لأن ذلك يؤدي إلى الربا لا محالة، إذ كما لم تصح زيادة الدين في ( زدني في الأجل أزدك في الثمن )، فلا يصح أخذ تعويض عن التأخير في السداد أو التوقّف، إذْ كلاهما زيادة تدفع مقابل حصول تأخر في دفع الدين عن الأجل المحدد.
__________
(1) أبو موسى الأشعري: عبد الحمن بن قيس، من بني الأشعر من قحطان، ولد باليمن سنة 21 قبل الهجرة، معلم اليمن، أحد الحكمين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما بعد صفين، حسن الصوت في القرآن الكريم، ولي البصرة والكوفة زمن عمر بن الخطاب، توفي بالكوفة سنة 44هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني:4/11.
(2) عبيد الله بن عمر بن الخطّاب، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أمه كلثوم بنت جرول الخزاعيّة، من الفرسان الشجعان، قتل الهرمزان لظنّه أنه قاتل أبيه عمر، قتل يوم صفين سنة 36هـ. الإصابة لابن حجر العسقلاني: 5/52.
(3) نيل الأوطار للشوكاني: 5/285.(1/206)
وقد قرر المجمع الفقهي عدم جواز شرط التعويض عن الضرر حال التأخر في أداء الدين في البيع بالتقسيط، وأقرّ اشتراط البائع على المشتري حلول بقيّة الأقساط قبل مواعيدها حال تأخر المدين في أداء بعضها.(1)
وليعمدْ المصرف الإسلامي، إن شاء دفع الضرر عنه، إلى أخذ ضمانات سلفاً من العميل كعقود بيعٍ ابتدائيّة لبعض أملاك العميل، أو أموال للعميل يرهنها عنده يتصرف فيها في مثل هذه الحالة، أو ليشترط كفالة شخص مليء إن لم تف دراسة الواقع المادي لسمعة العميل ومقدرته المالية قبل إبرام عقد المرابحة معه بالحاجة.
ثالثاً ـ ضرر موت العميل:
لا يتصور موت المصرف، بل يتصور موت العميل إن كان شخصاً، وموت العميل قد يكون قبل إجراء عقد المرابحة أو بعدها:
أمّا قبل إبرام عقد المرابحة: فيتحقق ضرر المصرف فعلاً إن كان قد اشترى سلعة المرابحة ثم مات العميل قبل إجراء عقد المرابحة معه، وبخاصةٍ إذا كانت هذه السلعة ممّا يندر طلبها. والحكْم هنا أن يتحمّل المصرف كامل الضرر لعدم جريان عقد البيع بينهما، إذ ما كان بينهما إنما هو مجرّد وعد لا عقد.
أمّا بعد إبرام عقد المرابحة مع العميل، فيؤول ثمن السلعة بربحها المتفق عليه إلى دين في تركة العميل فيطالب به الورثة. ولكن هل يحلُّ ذلك الدين أم يبقى على الأجل المتفق عليه ؟
__________
(1) قرار المجمع الفقهي رقم 53/2/6 بشأن البيع بالتقسيط. عام 1410هـ. الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 9/571.(1/207)
جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشافعيّة، والحنابلة في قول، على حلول هذا الدين بموت المشتري، لعدم إمكان بقاء هذا الدين مؤجلاً في ذمّة المشتري لموته، أو في ذمّة الورثة، لأن الشراء لم يكن منهم، ولأن المصرف أو البائع عموماً قد لا يرضى ذِممهم، ولا في أعيان التركة، لأنه يضر بالورثة من حيث قسمتها، وبالميت من حيث انشغال ذمّته بهذا الدين، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (( نفس المؤمن معلّقة بدَينه حتى يقض عنه ))(1)
فعلى هذا يحل الدين بموت العميل، ويؤول إلى دين في التركة (2). إلا أننا نجد قولاً للحنفيّة بأنه مع حلول دين الثمن في عقد المرابحة، فإنه لا يؤخذ من الربح إلا بمقدار التأجيل الحادث فعلاً حتى موت المشتري.
كذا أفتى متأخروهم، فلو اشترى شيئاً بعشرة مثلاً وباعه بعشرين إلى أجل هو سنة، فمات المشتري بعد ستة أشهر، فإن البائع يأخذ خمسةً فقط زيادةً على رأسماله، لأنها تقابل الستة أشهر.(3)
إلا أن هذا لا يقيّدُ المصرف الإسلامي، فله أن يأخذ من المذاهب بالأنفع له شريطة أن ينصَّ على ذلك مسبقاً في لوائحه.
رابعاً ـ ضرر تغيّر قيمة العملة في سعر الصرف:
__________
(1) أخرجه:
الترمذي في السنن: 4/33. أبواب الجنائز. باب ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (نفس المؤمن…) حديث رقم (1079). وقال فيه: حسن.
ابن ماجه في السنن: 2/806. كتاب الصدقات. باب التشديد في الدين، رقم (2413).
أحمد في المسند: 3/515 بلفظ ( نفس المؤمن معلَّقةٌ ما كان عليه دين ) رقم (10160).
الحاكم في المستدرك: 2/27 وصححه وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه. كتاب البيوع.
(2) المهذّب:1/327. ابن عابدين: 7/387. المغني: 6/567. بداية المجتهد: 2/215، كتاب التفليس.
(3) حاشية ابن عابدين: 7/387.(1/208)
قد يشتري المصرف الإسلامي سلعةً خارجيّةً بنقد يتعذّر عليه أن يبيعها في بلد المصرف بهذا النقد، كأن يكون هذا البلد يحظر التعامل بالعملات الأجنبيّة ؛ أو قد يتفق المصرف والعميل طوعاً على إجراء البيع في عقد المرابحة بنقد آخر غير نقد شراء المصرف. واحتمال الضرر يتطرق من احتمال انخفاض عملة الشراء عن عملة البيع، أو ارتفاعها من حين الشراء إلى حين البيع.
فإذا اشترى المصرف مثلاً السلعة بعملة هي الدولار، وكان الدولار الواحد وقتها يعادل/40ل.س/، ثم ارتفعت قيمة الدولار الواحد عن العملة السورية إلى/50ل.س/ فهل يحسب ثمن الصرف لتحديد مقدار الثمن في عقد المرابحة بالعملة السورية بحساب/40ل.س/ أم/50ل.س/ ؟
بناءً على ما تقدّم من أن العبرة في رأس مال المرابحة بما ملك به المشتري الأوّل السلعة، فإن على العميل أن يدفع ثمن السلعة مع الربح بالدولار أو ما يقابله من العملة السوريّة على أساس سعر الصرف يوم شراء العميل/ 50 ل.س/، لأن ما يقابل الدولار من العملة السوريّة يوم شراء العميل هو رأس المال فعلاً، والأمر لا يعدو كونه صرفاً ؛ ولو دفع العميل ثمن السلعة بالعملة السوريّة بسعر الصرف يوم شراء المصرف، لما كان العميل دافعاً رأس مال المصرف والربح المتفق عليه، إذ بحساب الفارق ستنخفض قيمة السلعة من الدولارات عن الثمن المتفق عليه.
فالعبرة إذاً بالثمن الذي يبذله المصرف، ولا يؤثر اختلاف العملة وانخفاضها، وإذا أريد الدفع بعملةٍ أخرى، قوبلت تلك العملة مع عملة شراء المصرف، أي يوم شراء العميل السلعة مرابحةً من المصرف.(1/209)
تأسيساً على ما سبق، ينبغي أن يكون الحكم كذلك فيما لو حصل العكس فانخفضت عملة شراء المصرف يوم بيع السلعة مرابحةً عمّا كانت عليه، بأن أضحى الدولار مثلاً يعادل/40ل.س/ بعد أن كان يعادل/ 50 ل.س/، وبناءً عليه ينبغي للمصرف أن يبيع السلعة مرابحةً للعميل، إن كان البيع بالعملة السوريّة، بحساب/40ل.س/ للدولار الواحد. فإن كان مجمل ما قامت به السلعة عليه ألف دولار مثلاً، كان رأسماله أربعين ألف ليرة سوريّة، ثم أضاف الربح بنفس سعر الصرف.
وسواء فيما سبق إن كان انخفاض العملة أو ارتفاعها لا عند عقد البيع مرابحةً ولكن أثناء سداد الأقساط، فيُتقيد بسعر الصرف يوم عقد البيع مرابحةً. وهذا ما قرّره المجمع الفقهي حيث لم يعتبر تغيّر قيمة العملة في سداد الديون. (1)
ولكن من أجل رفع الضرر عن المصرف الإسلامي، وعن كل دائن يتضرر بتغير قيمة العملة الذي غدا مشكلة اقتصادية راهنة حيث التضخم وانخفاض القوة الشرائية المفاجئ والبالغ للعملات، فإنه يمكن الأخذ بالمفتى به عند الحنفيّة، وهو قول أبي يوسف، من أنه إذا اشترى أحد بفلوس في الذمّة أو أقرضها ثم انقطعت أو كسدت أو غلت أو رخصت، طولب الدين بقيمتها بالذهب أو الفضة يوم البيع أو يوم وقع القبض.
وعلّلوا ذلك بأن الذهب والفضة أثمان خلقةً، أي لهما قوة شرائية ثابتة، بخلاف الفلوس فإنها تنخفض وترتفع ؛ فتكون العبرة بالذهب والفضة، لثباتهما، لا بالفلوس، مادامت الفلوس لا تعبّر عن قوّة شرائيّة ثابتة، أي أن الحنفيّة يعتدون بالقوة الشرائية الثابتة لا المتغيّرة.(2) وينبغي أن يكون قولهم في الأوراق النقديّة في أيّامنا هذه كذلك، إذ هي كالفلوس ـ من حيث هي أثمان ـ في سرعة تقلّب قيمها انخفاضاً وارتفاعاً، وعدم ثباتها.
__________
(1) قرار المجمع الفقهي رقم (4) في دورته الخامسة 1409هـ بشأن تغير قيمة العملة. الفقه الإسلامي وأدلّته للآستاذ الدكتور وهبة الزحيلي: 9/558.
(2) حاشية ابن عابدين: 7/55.(1/210)
فعلى هذا، يمكن أن ينصَّ المصرف الإسلامي في لوائحه على أنه يأخذ بهذا القول، فيشترط على عملائه حساب الأثمان في سلع المرابحة باعتبار قيمة ما بذل فيها من عملات بحساب الذهب أو الفضة، فيضمن بذلك حقّه على نحوٍ له أصل فقهي.
كما يمكن تطبيق هذا في السلع الداخليّة أيضاً، حيث تنخفض القوة الشرائيّة للعملة المحليّة نفسها انخفاضاً فاحشاً في أسعار المصرف المركزي من حين شراء المصرف السلعة إلى حين بيعها مرابحة للعميل، أو أثناء دفع الأقساط المستحقّة.
الفصل السابع
خطوات بيع المرابحة للآمر بالشراء في التطبيق المصرفي الإسلامي
1- أوّل ما يكون بين العميل والمصرف هو طلب الشراء يتقدّم به العميل إلى المصرف الإسلامي، وهو ورقة يحصل عليها من المصرف فيملأ بياناتها ويقدمها.
أما البيانات التي تظهر على طلب الشراء فأهمها:
مواصفات البضاعة المطلوب شراؤها.
القيمة الإجمالية للبضاعة أو السلعة.
بيان المستندات المقدَّمة.
بيانات من العميل.
وثمّة بيانات خاصّة ببعض المصارف هي:
النصّ على نسبة الربح المضمومة إلى الثمن دفعة واحدة، والتي سيدفعها العميل.
مصدر البضاعة.
شروط ومكان التسليم.
دفعة جدية التعاقد التي يمكن أن يدفعها العميل، وهذا في المصارف التي تأخذ بإلزام بالوعد. ( انظر ملاحق رقم (1-2) ) (1).
2- يقوم المصرف الإسلامي بعد ذلك بدراسة طلب العميل لمعرفة جدواه ومخاطره، وتختلف جوانب هذه الدراسة بين مصرف وآخر. وعلى سبيل المثال في بنك فيصل الإسلامي يتّبع ما يلي:
التأكّد من سلامة البيانات المقدّمة من جهة العميل.
دراسة سوق السلعة لمعرفة مدى إمكان تسويقها حال نكول العميل.
التأكد من أن العملية تتفق والأغراض التي يمولها المصرف الإسلامي.
التأكد من أن الطلب يدخل فعلاً ضمن نشاط العميل، لئلا تكون العمليّة ستاراً للحصول على المال.
__________
(1) انظر ص (225،226،227) من هذا البحث.(1/211)
التأكد من أن العملية تتفق والأحكام الشرعيّة الإسلاميّة، والقوانين السائدة.
دراسة القدرة الماليّة للعميل في سداد الثمن.
دراسة تكلفة العملية بالتفصيل.
تحديد نسبة الربح طبقاً لنوع السلعة وأجل السداد.
تحديد الأسلوب المقترح لتنفيذ العمليّة من حيث كيفية دفع الثمن للمورّدين وتحصيله من العميل.
تحديد الضمانات المقترحة لضمان حق المصرف في تحصيل الثمن على أساس حالة العميل وقيمة الصفقة.
كما تقوم بعض المصارف بمحاولة الحصول على عروض أخرى من جهات أخرى غير التي يحّددها العميل، لعلّها تحظى بعرضٍ أفضل(1).
وأول ما يلاحظ هنا:
دراسة المصرف للصفقة من حيث شرعيتها وكونها من نشاط العميل أمرٌ حسنٌ، وكذا محاولة بعض المصارف الحصول على عروضٍ وامتيازات شراء أفضل من جهةٍ مورِّدةٍ أخرى غير التي حدَّدها العميل. كل هذا يؤكد الدور التجاري لعمل المصرف الإسلامي.
بالنسبة لتحديد نسبة الربح طبقاً لنوع السلعة وأجل السداد، فهذا أمر حسن من حيث عدم التزام المصرف الإسلامي بنسبة ربح ثابتة على كل أنواع السلع التي يبيعها مرابحة ( 18? مثلاً )، إذ في ذلك الالتزام مضارعة لعمل المصارف الربوية التقليدية، مما يلبس عمل المصرف الإسلامي شبهة التمويل الربوي لا التجاري.
__________
(1) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية. بحث د. عند الحليم عمر ص: 181-188.(1/212)
وقد تجبر الحكوماتُ المصارفَ الإسلامية، من حيث إنها تقوم بدور تجاري، على تحديد هامش للربح سلفاً على أنواع السلع التي تتاجر بها، وهذا وإن كان من قبيل التسعير الجبري المختلف فيه، إلا أن فيه مزيةً حميدة في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وهي تأكيد العمل التجاري للمصرف بتفاوت نسب الربح في السلع (1).
3ـ بعد دراسة المصرف لطلب الشراء الذي تقدمّ به العميل مريداً الشراء، تلجأ بعض المصارف، وهي تلك التي تأخذ بإلزام الوعد، إلى إبرام عقد وعد أو ما يسمّى بالتعهدّ بالشراء مع العميل إن وافقت على طلبه ووافق على شروطها في نسبة الربح وكيفيّة سداد الثمن والضمانات المشروطة. وعقد الوعد هذا يشمل بياناتٍ أهمها:
مقدمة مضمونها بيانات خاصّة بطرفي العقد وموضوعه.
الإحالة إلى طلب الشراء فيما يتعلّق بتحديد نوع السلعة ومواصفاتها، وغير ذلك من بيانات مهمّة وردت فيه.
إقرار العميل بأهليته للتعاقد، والتزامِه بأحكام الشريعة الإسلامية والنظام الأساسي للمصرف.
النص على نسبة الربح المتفق عليها.
كيفية سداد ثمن السلعة بعد عقد المرابحة بينهما.
شروط ومكان التسليم.
إقرار العميل بتنفيذ وعده بالشراء حالة إخطار المصرف له بجاهزية البضاعة.
إقرار كل طرف بتحمّل الأضرار التي تلحق بالطرف الأخر حال عدم تنفيذ وعده. وفي بعض المصارف إقرار من العميل فتحسب، إذ تأخذ بإلزامه وحده.
النصّ على أن الشاحن يعتبر وكيلاً عن المصرف، وفي نماذج أخرى عن الطرفين، و ذلك في بعض المصارف.
وجوب قيام العميل بدفع مبلغ مقدّم عند توقيع عقد الوعد تأميناً لضمان جديته.
__________
(1) أجاز المجمع الفقهي التسعير الجبري في ظروف استثنائية كطروء الخلل في أسعار السوق على نحو يضر بالناس ويورث الاحتكارات. قرار رقم (8) بشان تحديد أرباح التجارة. الدورة الخامسة عام 1409هـ. الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 9/562(1/213)
عدم مسؤولية المصرف في حال امتناع المورّد الذي حدّده العميل عن تنفيذ البيع، ولا يعتبر المصرف ناكلاً حينئذ، وعلى العميل أن يدفع المصاريف التي بذلها في هذه الصفقة التي لم تتم، وذلك في بعض المصارف.
لا يُعدُّ المصرف مسؤولاً في حال تأخّر وصول البضاعة أو تلفها نتيجة ظروف قاهرة، وذلك في بعض المصارف.
تعهد العميل بتحمّل المصاريف الطارئة التي لا ترد في بنود تكلفة العملية. وذلك في بعض المصارف.
انظر ملاحق (3-4) (1).
ملاحظات على البيانات السابقة:
فيما يتعلّق بالإحالة إلى طلب الشراء، فإن بعض المصارف الإسلامية تحمل العميل على توقيع عقد الوعد على نموذج طلب الشراء نفسه على الصفحة الخلفيّة اختصاراً في ذات الوقت، وهذا يترتب عليه اخلاف المصرف وعده في المصارف التي تأخذ بإلزامه، وذلك عندما يعدل المصرف الإسلامي عن الصفقة نتيجة تبيّن عدم جدواها بعد دراستها. (2)
عدم مشروعية الأخذ بمبدأ إلزام الوعد بين المصرف والعميل، والأخذِ بالتعويض، على ما سبق بيانه وتفصيله.
عدم مشروعية اعتبار الشاحن وكيلاً عن الطرفين كما سبق.(3)
لا شرعية لدفعة ضمان الجدية على ما تقدم.
تحميل العميل مسؤولية الجهة الموردة وكفالتها أمرٌ فيه نظر على ما سبق.(4)
البضاعة قبل بيع المصرف إياها إلى العميل هي من مسؤولية المصرف، ولا يسعه أن يبيعها إلا بعد قبضها.
تعهد العميل بتحمّل المصاريف الطارئة لا بأس به ما دام ذلك لا ينافي شرط معلوميّة الثمن التي تشترط في عقد المرابحة الذي يتّم لاحقاً.
__________
(1) انظر ص (228،229،230) من هذا البحث.
(2) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية. بحث د. عبد الحليم عمر ص193.
(3) انظر ص (194) من هذا البحث.
(4) انظر ص (196) من هذا البحث.(1/214)
4 ـ بعد توقيع عقد الوعد بين العميل والمصرف، يتمُّ اتصال المصرف بالمورِّد للتعاقد معه، ويستلم المصرف السلعة. ويجب أن يراعى هنا ما سبق الحديث عنه من قبض المصرف السلعة بنفسه أو بوكيل عنه، كما يجب أن ترِدَ مستندات البضاعة باسم المصرف، لكي تتحقق ملكيته لها، لا باسم العميل إن كان وكيلاً عنه بالقبض فقط.
5 ـ يتم عقد المرابحة بين العميل و المصرف، ويتضمن عقدَ بيع المرابحة بياناتٍ كثيرةً منها:
موضوع العقد، والإحالة في أوصاف البضاعة وكميتّها إلى عقد الوعد أو طلب الشراء.
تحديد الثمن وطريقة دفعه.
براءة المصرف من العيوب.
تعهد المصرف بتسليم مستندات البضاعة المباعة حال وصولها إلى العميل، وفي حال رفض العميل استلامها يحق للمصرف أن يبيع البضاعة لحساب العميل ويقبض المبلغ استيفاءً لحقه، وإذا نقص عن الثمن الذي باعها به العميل، رجع على العميل بالفرق. وبعض المصارف تصادر دفعة ضمان الجديّة في هذه الحالة.
تعهد العميل بالتأمين على البضاعة ضد كافة الأخطار لصالح المصرف حتى تمام سداد الأقساط.
ضمانات للمصرف منها: حق امتياز البائع في سلعة المرابحة، تحويل ورهن بعض أملاك العميل لصالح المصرف، توقيع إيصالات أمانة، تحويل حساب العميل الجاري _ إن وُجد _ لصالح المصرف.
عدم مسؤولية المصرف عن البضاعة بعد استلامها من قبل العميل من حيث غرامات مخالفة أنظمة الدولة في معايير السلع ومواصفاتها، أو سوء التخزين.
للمصرف الحق بالمطالبة بضمانات احتياطيّة ضمن فترةٍ محددّة.
يتحمل العميل النفقات الطارئة.
حلول الأقساط في حال تأخير سداد أي قسطٍ منها.
تعهّد العميل بدفع تعويض عن التأخر في سداد الأقساط تعويضاً للضرر، وهذا التعويض هو على أساس متوسط الأرباح المتوقعّة في فترة التأخّر.
الإحالة إلى هيئة تحكيم منصوص عليها في حال نشوء نزاع.
الرجوع إلى القوانين والأعراف التجاريّة في كل ما لم يذكر في العقد، وبما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية.(1/215)
انظر ملاحق ( 5-6) (1)
ملاحظات على ما سبق:
فيما يتعلق بموضوع الإحالة إلى طلب الشراء أو عقد الوعد فإن ما ورد فيهما ممّا هو جوهري ويحقق رضا الطرفين لا بُدَّ من إعادة ذكره مجدَّداً في عقد المرابحة، ما دامت العبرة بهذا العقد لا بما قبله.
بالنسبة للثمن: يجب أن يراعى ما يلي:
على المصرف أن ينص في عقد المرابحة – كما علم في فقه المرابحة - على صفة ثمن شراء السلعة إن كان بالأجل على ما تقدَّم عند الفقهاء.
قد يختلف الثمن المذكور في عقد المرابحة عنه في عقد الوعد لأسباب منها: قيام المورُّد بشحن جزء من البضاعة المتفق عليها فقط، أو لتغّير الأسعار، أو لتغير قيمة العملة، وهذا أمرٌّ لا شبهة فيه ما دامت العبرة بعقد المرابحة لا بما قبله.
لا بُدَّ من النصّ على رأس مال المصرف والربح المضاف إليه، ولا يكتفى بذكر الثمن الإجمالي كما تفعل بعض المصارف، ما دام بيع المرابحة مبناه على زيادة معلومةٍ على رأسمال معلوم، وما دامت العبرة بهذا العقد الذي يُحرَّرُ بين العميل والمصرف، أو ليُنَصَّ على الثمن الإجمالي ثُم يُفصَّل فيذكر رأس المال ثم الربح.
يجب ألا يُنصَّ حين ذكر الثمن على أن نسبة الربح هي 20% مثلاً إذا كان الدفع إلى شهرين، و30? إذا كان الدفع إلى أربعة، لأن هذا حال الربا، وإنما يتفق مسبقاً على أجل محدد وربح محدد ؛ وأمّا حصول التأخر عن وقت السداد فهذا أمر آخر قد سبق الحديث عنه. (2)
يلاحظ أن المصرف يبيع السلعة برأسمالها مضافاً إليه الربح، أي إنه يعد رأسماله ما نقد فيها، لا سعر السوق الذي قد يختلف بين وقت الشراء ووقت البيع رخصاناً وغلاءً، وعمل المصرف هذا هو الصحيح.
__________
(1) انظر ص (231حتى238) من هذا البحث.
(2) انظر ص (205) من هذا البحث.(1/216)
لو حطَّ المورِّد عن البائع (المصرف ) من ثمن سلعة المرابحة، فالحطّ يلحق برأسمال المرابحة على تفصيلٍ سبق ذكره عند الفقهاء بين كون الحط بعد لزوم العقد أو قبله.(1) وفي الاصطلاح الاقتصادي المعاصر: يسمّى الحط قبل لزوم العقد حسماً تجارياً وبعد لزوم العقد حسماً نقدياً. وبعض المصارف الإسلامية تأخذ بالحسمين التجاري والنقدي فتلحقه برأسمال سلعة المرابحة، وبعضها يأخذ بالتجاري فقط على اعتبار أنه يكون لترغيب المشتري بالشراء، أمّا النقدي فأمرٌّ خاص بين شخص البائع والمشتري، وهذا مذهب الجمهور غير الحنفية كما سبق، وبعض المصارف لا تأخذ بأيٍ من الحسمين، وهذا خلاف حكم الشريعة.
إذا ظهرت خيانة في إخبار المصرف عن الثمن، فما قررته هيئات الرقابة الشرعيّة في بعض المصارف (2) أن البيع صحيح، وللمشتري الخيار بين أخذ السلعة بما اخبر به المصرف، وبين فسخ البيع أو إسقاط الزيادة، وهذا يعني أنها أخذت بقول الشافعية والمالكية.(3)
تشترط بعض المصارف على العميل أن يؤمِّن على سلعة المرابحة في مخازنه ضد كافة الأخطار حتى سداد كافة الأقساط، وهذا على اعتبار أن قيام البنك ببيع البضاعة للعميل لا يعتبر بيعاً ناقلاً لملكيتها إلى العميل، وإنما يعتبر بيعاً مع الاحتفاظ بحق الملكية لحين سداد قيمتها بالكامل. وفي هذا الشرط نظر من حيث شرعيّة عقود التأمين هذه، ومن حيث أن المصرف هو الذي يقبض مبلغ التامين إن وقع الخطر، فَلِم يتولى العميل الدفع عنه ؟!
__________
(1) انظر ص (59) من هذا البحث.
(2) ندوة خطة الاستثمار في المصارف الإسلامية. بحث الأستاذ شوقي إسماعيل شحاته ص391.
(3) انظر ص (66) من هذا البحث.(1/217)
يشترط المصرف على العميل تقديم أكثر من ضمان، مخافة تخلفه في دفع الأقساط أو تأخرّه، ومن تلك الضمانات ما هو شخصي سابق للعقد، وهو توثيق سمعة العميل ومركزه المالي، ومنها ما هو مالي ككفالة جهة رسميّة للعميل، أو شخص مليء، وقد يشترط ضمانات لاحقة، وكل ذلك لا حرج فيه.
لا حرج في عدم مسؤولية المصرف الإسلامي عن السلعة بعد تسليمها للعميل من حيث سوء تخزينها أو مخالفة أنظمة الدولة في مواصفات السلعة ومعاييرها، إذ هذا يتطلب دراية خاصّة لا يشترط توافرها لدى المصرف.
أما عن النفقات، فإن بعض المصارف تضيف الرسوم الجمركية التي تكون بعد وصول البضاعة إلى ميناء الوصول، ومصاريف نقل البضاعة من ميناء الوصول إلى مخازن المشتري إلى رأس المال، وبعضها لا تضيفها باعتبار أن مكان التسليم هو ميناء الوصول مادام قد اتُفِق عليه، وإذا دفعها المصرف، فيرجع بها في هذه المصارف الأخيرة إلى العميل دون احتساب ربحٍ عليها. والمصارف الأولى تبرِّرُ ذلك بأن المصرف يبذل جهداً في إتمام هذه العملية. والحكم أن الواجب أن لا يحتسب في رأس المال ما ينفقه المصرف بعد تسليم السلعة إلى العميل، نظراً لدخولها في ضمانة حينئذ فيتحمل نفقاتها، والمعتبر في مكان التسليم ما اتفق عليه، وما يدفعه المصرف بعد التسليم يرجع به إلى العميل دون احتساب ربحٍ عنه لانتهاء عقد المرابحة بالتسليم.(1/218)
وبعض المصارف تضيف مصروفات أخرى غير مباشرة إلى رأسمال المرابحة، تمثل هذه المصروفات نصيب عملية المرابحة في المصروفات العامة للمصرف الإسلامي. وهذا مشبوه من حيث عدم إمكان علم المشتري بهذه المصاريف، ممّا يورث جهالةً بالثمن، لعدم إمكان تحديد هذه المصاريف بدقّة فيقع التجاوز فيها. ثم إن العميل لو علم بهذه النفقات تفصيلاً، فلربما لم يرض إدخالها في مُسمَّى النفقات. وللمصرف هنا ـ إن شاء ـ أن يقدِّر تلك النفقات نسبياً فيضمّها إلى إجمالي الربح الذي يشترطه من غير تفصيل، فإن كان يشترط في صفقةٍ ما 15? مثلاً ربحاً فليشترط 16?. وفي هذا منجاة.(1)
الخاتمة والنتائج
بعد التطواف السابق في رحاب المرابحة، من كتب الفقهاء الأقدمين إلى رحاب المصارف الإسلامية، يتبيّن لنا جانب من عظمة هذا الدين، وخصوبة هذا الفقه، الذي مافتئ يحل ما هو نافع ويحظر ما هو ضارّ، يحل البيع ويحرم الربا، يفرض قيوده وأحكامه مؤكداً خيرها وإن جهله الناس.
والمصارف الإسلامية، وهي اللبنة الأولى في صرح الاقتصاد الإسلامي، عليها أن تجانب كل مشبوه حرصاً على سمعتها، وأن توحد أنظمتها وتعيد النظر في صيغ كثير من معاملاتها، حتى لا تثير في أذهان الناس الشكوك في شرعية بعض أعمالها.
وفيما يتعلق بأحكام المرابحة أذكر النتائج التالية:
بيع المرابحة البسيطة بيع صحيح لا تشوبه شائبة، وعلى شرعيّته جمهور الفقهاء، ويمكن إخضاع كثير من أحكامه لظروف التعامل المادّي المعاصر على نحو لا محذور فيه.
بيع المرابحة الذي تمارسه المصارف الإسلامية معاملة سبق أن عرفها الفقهاء، ونصّوا على صورتها، وأطلقوا الحكم فيها.
بيع المرابحة للآمر بالشراء إنما هو بيع صريح تسبقه مرحلة مواعدة، وليس من قبيل التعامل الربوي بمكان ما دامت تلك المواعدة غير ملزمة.
__________
(1) انظر ندوة خطة الاستثمار في المصاريف الإسلامية.بحث د. عبد الحليم عمر. ص 206-207.(1/219)
لا يمكن الأخذ بقول المالكية بلزوم الوعد المعلق على سبب في هذه المسألة، لا لحرمة التلفيق على فرض وقوعه والتسليم بحرمته، بل لأن الوعد الذي تحدث المالكية والفقهاء عموماً في لزومه إنما يختص بجانب المعروف والإحسان.
لا مجال لإمكان القول بلزوم الوعد في هذه المسألة اجتهاداً، نظراً لما يترتب عليه من محاذير تخرج هذا البيع عن دائرة الشرعية.
وقوع شبهات بيع المرابحة للآمر بالشراء دون لزوم الوعد هو من قبيل الاحتياط عند المالكية والتوسع في الشبه والذرائع.
لا وجه لتكييف بيع المرابحة للآمر بالشراء بأنه عقد بيع معلَّق.
بيوع العينة عند المالكية هي غير بيوع الآجال، بل الشبهة فيها آكد، نظراً للمخالفات الشرعية التي تكون فيها.
وجود مسائل مضطربة في فقه المالكية فيما يتعلق بمسائل الآجال والعينة، منشؤها إعمال الحدس في النيّات، وتحكيم البعيد من الذرائع.
رجحان قول من يصحح العقود آخذاً بظاهرها، مع إمكان الأخذ بالقوي من الذرائع، منعاً للتحيّل على الربا الذي تفشَّى في أيَّامنا هذه.
قيّد المالكية كثيراً من نصوصهم حرمة بيوع الذرائع التي لا تكون السلعة فيها مقصودة بالبيع والشراء حقيقةً بالتعامل مع أهل الربا، فعلى هذا ينبغي أن يقال عندهم بصحّة كل معاملة تتمُّ على صورة بيع الذرائع إن كانت السلعة مقصودة بالفعل.
لا يمكن الأخذ بقول من تساهل في اشتراط قبض المبيع قبل بيعه، أو بقول من لم يشترط الحيازة في بيع المرابحة للآمر بالشراء، وذلك لتتأكد شرعية هذا البيع.
لا يمكن اعتبار الشاحن وكيلاً عن المصرف والعميل معاً حتى عند من أجاز كون الشخص الواحد وكيلاً عن الطرفين.
لا وجه لأخذ تعويض من العميل الناكل في بيع المرابحة للآمر بالشراء، نظراً لمناقضته لمبدأ الخيار الذي قيل به لزوماً في المسألة، ولكن على الواعد أن يفي بوعده لحرمة الخلف ديانةً إذا تضرر الموعود.(1/220)
لا مسوِّغ شرعاً لإدخال النفقات الإذعانية المحرَّمة، كنفقات التأمين، في أصل رأس مال السلعة للمرابحة عنها في بيع المرابحة للآمر بالشراء.
لا وجه لمصادرة دفعة ضمان الجدية التي يتقدم بها العميل حال نكوله على أنها من العربون، لعدم انطباق مسمّى العربون عليها.
لا وجه لأخذ تعويض من العميل عن تأخره في سداد أقساط الثمن، لما يؤول إليه ذلك من ربا القرض.
ليس للمصرف أن يشترط كفالة العميل للجهة الموردة، لعدم مسؤوليتها عنها، ولأن المصرف هو التاجر، لا العميل.
وأخيراً، على المصارف الإسلامية أن تقلل ما أمكن من ممارستها لعقود المرابحة، وأن تتجه للمشاريع الاستثمارية ذات النفع العام لتحقق الأهداف التي أعلنتها حين قيامها.
كانت تلك أهم النتائج التي خرجت بها من دراستي لهذا البيع، والله تعالى أرجو أن أكون قد وفقت فيها، ولله الحمد أوّلاً وآخراً، وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.(1/221)