قسم الفقه(/)
أحْكَام ُالهَدْيِ والأضَاحِي
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أحمد الله شاهدا أنه لا إله إلا هو الحي القيوم القائم بالقسط العزيز الحكيم.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وأشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
اللهم صل وسلم وبارك على عبد ورسولك محمد كفاء ما علّم وبيّن وكفاء ما أرشد وجاهد في الله حق الجهاد، وعلى الآل والصحب أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم اجعل قلوبنا خاشعة لك مُنِيبة إليك، نسألك الازدياد من العلم والعمل، ونعوذ بك من الضلال والغيّ بعد الهُدى والإيمان.
موضوع هذه المحاضرة أو هذا الدرس:
أحْكَامُ الهَدْي ِوَالأَضَاحِي
وهذا الموضوع يُذكر في كتب أهل العلم بعد أحكام الحج؛ لأن أحكام الهدي والأضحية متعلقة بالحج، لأن الهدي يُفعل في مكة -يفعله الحاج- والأضحية أيضا يفعلها الحاج ويفعلها غيرُه.
وبعض أهل العلم يذكر أحكام الهدي والأضاحي بعد كتاب الذبائح في أواخر أبواب الفقه؛ وذلك لأن بعضهم درج على ذكر أحكام الأطعمة والأشربة في أواخر كتب أهل العلم، ويذكر بعد الأطعمة الذبائح، ويذكر بعد الذبائح الأضاحي والهدي.
وعلى كلٍّ فهذا الموضوع مهم؛ لأنه متعلق بعبادة عظيمة يحبها الله جل وعلا ويرضاها ألا وهي إراقة الدم تقربا إلى الله جل وعلا.
?????
أحكام الأضاحي والهدي
الهدي غير الأضحية وبينهما فرق.
وأصل معنى الهدي هو ما يُهدى إلى الله جل وعلا في مكة -يعني في الحرم- مما يذبح تقربا إليه جل وعلا وازدلافا إليه.
وأما الأضحية فهي كل ذبح ودم أُريق لله جل وعلا في زمنه المخصوص.(1/1)
فالهدي قد يكون في أيام مخصوصة؛ يعني في يوم النحر والأيام التي بعده، وقد يكون في أي يوم من السنة في العمْرة، والهدي يكون في يوم الأضحى وأيام التشريق ويكون في غير هذه الأيام؛ لأن الهدي مستحب في العمرة كما أنه مستحب أو واجب في الحج بحسب تفصيل الأحكام التي ستأتي.
وأما الأضحية فهي ما يُذبح من بهيمة الأنعام في أيام مخصوصة في يوم الأضحى وثلاثة الأيام بعده سواء أكان في مكة أو في غيرها للحاضر وللمسافر.
فصار هناك أيضا اشتراك ما بين الأضاحي والهدي وهناك اختلاف فيما بينها.
وكذلك الأحكام أكثرها واحد فيما بين الأضاحي والهدي، وهناك اختلاف في بعض الأحكام كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
?????
المسألة الثانية:
أصل مشروعية الأضاحي والهدي
أصل مشروعية الأضاحي ما قصَّ الله جل وعلا علينا من خبر إبراهيم عليه السلام مع ابنه حيث قال جل وعلا ?فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ?[الصافات:102]، إلى أن قال جل وعلا ?فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ(105)[إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاَءُ المُبِينُ(106)]([1])وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ?[الصافات:103-107]، فَفُدِي إسماعيل عليه السلام بكبش أمَرَ الله جل وعلا إبراهيم أن يذبحه بدل ذبح نَفْسِ إسماعيل، وإبراهيم عليه السلام إمام الموحدين وإمام الحنفاء، وإسماعيل عليه السلام كذلك إمام الموحدين وإمام الحنفاء وأبٌ للعرب، وإبراهيم أب للعرب ولغيرهم.
فدلّ هذا على أن هذه السنة مضت بفعل إبراهيم عليه السلام حيث إن أصل الذبح كان فداءً لإسماعيل عليه السلام من الذبح.(1/2)
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم إن أصل مشروعية الذبح في الأضاحي والهدي إن أصل مشروعيته هو فداء النفس، والمقصود من ذلك المنة بما عوّض الله جل وعلا إبراهيم عليه السلام عن ذبح ولده وقرة عينه بذبح الكبش، وما اختص الله جل وعلا إسماعيل أيضا به من الامتنان والفضل.
والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يضحي؛ فضحَّى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حضرا وسفرا، وكان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يعظِّم ذلك ويحثُّ عليه حتى كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يضحي بكبش أو بكبشين في المدينة وفي غيرها وفي مكة؛ بل ضحى في مكة وأهدى لما حج عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى وأهدى أيضا فجمع بين هذه وهذه.
وقال ابن القيم وغيره من أهل العلم إن سنة الأضاحي والتقرب إلى الله جل وعلا بالدم موجودة بين أكثر أهل الملل؛ بل قال كل أهل الملل؛ لأنها من سنن المرسلين القديمة التي أمر الله جل وعلا أنبياءه بها.
?????
[فضل الهدي والأضاحي]
إذا تبين لك ذلك، فإن الأضحية من حيث هي وإن الهدي من حيث هو فيه فضل عظيم جدا، وهذا الفضل العظيم له جهات:
أولا: الذابح أو المتقرب إلى الله جل وعلا بهذا الذبح وهذه الأضحية أو الهدي يقوم في قلبه حب الله جل وعلا، ويقوم في قلبه تقوى الله جل وعلا والرغبة فيما عنده والرغبة في الأجر والثواب، وإلا فما معنى أن ينفق هذه النفقة وأن يتكلف هذا التكلف إلا رغبة فيما عند الله جل وعلا وإخلاصا له سبحانه وتعالى.
ففيها أولا أنَّ المتقرب إلى الله جل وعلا بهذا الذبح موحد لله سبحانه وتعالى؛ إذْ إنه لم يذبح إلا له سبحانه وتعالى، فالأضاحي والهدي كسائر الذبائح إنما تكون للحق جل وعلا؛ يعني أن تذبح باسمه سبحانه وتعالى، فلا تُهَلَّ لغير الله ولا يذكر عليها غير اسم الله جل وعلا وأن يتقرب بها إليه، وهذا هو عنوان التوحيد لأن الذبح لغير الله جل وعلا شرك بالله جل وعلا.(1/3)
فالذبح في الأضحية والهدي فيه إعلان من كل مسلم لهذا الشعار العظيم الذي قال فيه جل وعلا ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163] فالنسك ومنه الذبائح لله جل وعلا رب العالمين لا شريك له سبحانه وتعالى.
والثاني من الأمور التي تُبَيِّن لك فضل الأضحية: أنّ الأضحية شعار التقوى، والمضحي أو المهدي والمتصدق بهذه اللحوم، والمتقرب إلى الله جل وعلا قبل ذلك بهذه الدماء يدل على أنه معظم لشعائر الله جل وعلا، وقد قال سبحانه ?وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ?[الحج:32]، من يعظِّم ما فيه شعيرة لله جل وعلا في إعلاء أمره وإشعار بما أمر الله جل وعلا به فإن ذلك يدل على تقواه؛ يعني على حبه لله ورغبه فيما عنده وهربه مما يخالف أمره جل وعلا.
فإذن أمر الأضاحي والهدي ليس من أمر العادات؛ بل هو دليل وينبغي أن يكون معك في قلبك أنه دليل على تقواك لله جل وعلا وعلى تقربك إليه ورغبك فيما عنده.
والثالث: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين لنا معنى قوله جل وعلا ?لَن يَنَالَ اللهَ لحُوُمُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَناَلُهُ التَّقْوَى مٍنْكُمْ?[الحج:37]، لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا هو أعظم عند الله -أو أحب إلى الله- من إراقة الدم» فأعظم الأعمال في يوم الأضحى؛ أعظم الأعمال في اليوم العاشر من ذي الحجة أن يُتَقَرَّب إلى الله جل وعلا بهذا الذبح، قال «وإن الدم ليقع من الله بمكان» يعني يقع من الله جل وعلا في أجره وثوابه وعِظم رضاه عن فاعله والمتقرب به «يقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض»لم؟ لأنه قام في قلب المتقرب إلى الله جل وعلا قام في قلبه حب الله جل جلاله، وقام في قلبه تقواه، وقام في قلبه توحيده سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم.(1/4)
وهنا يذكر بعض أهل العلم حديثا في فضل الأضاحي وهو قوله فيما يروى عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «اسْتَفْرِهُوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط» ومعنى (استفرهوا) يعني استعظموا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط، وهذا الحديث رواه الديلمي وغيره بإسناد ضعيف جدا؛ بل حكم بعض أهل العلم بوضعه فليس صحيحا أنّ هذا من فضائل الأضاحي ولا من فضائل تعظيمها.
?????
[حكم الهدي والأضاحي]
حكم الأضحية: الأضحية سنة مؤكدة، فمن وجد سَعَة في ماله فإن الأضحية في حقه مؤكدة؛ وذلك لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحّى في كل سنة من سنواته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، تقرب إلى الله جل وعلا بذلك، وهذا يدل على سنية الأضحية، ومحافظته عليها عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الحضر والسفر يدل على تأكدها.
ولهذا قال بعض أهل العلم إنها واجبة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «من وجد سعة فلم يُضَحِّ فلا يقربن مصلاّنا»، وهذا يدل على وجوب الأضحية لأنه نهي عن أن يقرب المصلى لأنه أتى بوزر، وهذا الحديث رواه بعض أصحاب السنن، والصواب أنه موقوف على أبي هريرة فلا يصح رفعه للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وهذا يجعل الراجح من قولي أهل العلم أن الأضحية سنة مؤكدة، وفضلها عظيم وليست بالواجبة على أعيان المسلمين.
ويدل على عدم الوجوب أنّ أبا بكر رضي الله عنه ترك التضحية، وكذلك عمر ربما ترك التضحية، كذلك ابن عباس وعدد من الصحابة، خشية أن يرى الناس أن التضحية واجبة.
وأما الهدي: فالهدي يختلف، فمنه ما هو مستحب ومؤكد، ومنه ما هو واجب.(1/5)
والهدي الواجب: هو دم المتعة ودم القِرَان، والدم الواجب عن ترك واجب من واجبات الحج أو فعل محظور يعني الفدية الواجبة، فالمتمتع يعني من أحرم من تمتع فعليه هدي بما استيسر كما قال جل وعلا ?فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ?[البقرة:196]، وقوله جل وعلا (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ) هذا يشمل المتعة ويشمل القِران أيضا؛ لأن في كل منهما تمتعا بترك أحد السفرين، فهذا هو الهدي الواجب، وكذلك إذا ترك واجبا من واجبات الحج فإنه يُجبر بدم، وإذا فعل محظورا من محظورات الحج فإنه يجبر بدم، على تفاصيل في ذلك موجودة في كتب أهل العلم.
وهناك فرق ما بين هدي المتعة والقران والهدي الواجب بفعل محظور أو ترك واجب؛ وذلك:
· أن هدي المتعة والقران واجب وهو هدي شكر لله جل وعلا.
· وأما الآخر وهو الفِدْية في ترك واجب أو فعل محظور فهو هدي جُبْران.
وهذا يجعل ثم فرقا بينهما من جهة توزيع الهدي:
فهدي الشكر لله جل وعلا له حكم الأضاحي في أنه يقسم ما بين ثلاثة الأصناف الواردة في الآية كما سيأتي بيانها؛ يعني المتمتِّع له أن يأكل من هديه وله أن يتصدق، وكذلك القارن له أن يأكل من هديه ويُهدي وكذلك يجب عليه أن يتصدق بما يطعم به مسكينا لقول الله جل وعلا ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ?[الحج:28].
وأما هدي الجُبْران؛ يعني الفدية من ترك واجبا من واجبات الحج فإنه يجبر بدم لقول ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. فهذا دم جبران واجب لا يأكل منه ولا يُهْدِي؛ بل يجب للمساكين لأنه دم جبران لا دم شكر.
فإذن انقسم الدَّم إلى قسمين:
دم شكر وهو دم الأضحية التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا باستحباب أو وجوب تقرُّبا وشكرا لله جل وعلا، وكذلك دم الهدي هدي المتعة أو هدي القِران.(1/6)
بخلاف دم الجبران فإنه لا يأكل منه ولا يهدي؛ بل يجب أن يتصدق به كله.
?????
المسألة التي تلي هذه الكلام على:
أنواع [الهدي و]الأضاحي
الأضاحي والهدي إنما يكون في بهيمة الأنعام لقول الله جل وعلا ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ?[الحج:28]، ولقوله ?وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ?[الحج:36]، فالذي يضحى به هو الإبل والبقر والغنم بنوعيها الضأن والمعز.
وأفضل هذه الأنواع الثلاثة الإبل، ثم البقر، ثم الغنم.
وبعض أهل العلم يفضل التضحية بالضأن على الإبل وعلى البقر.
والصواب أن الترتيب في الفضل هو للإبل ثم للبقر ثم للغنم؛ وذلك لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في المسارع للجمعة «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشا» فدل على أن هذه الثلاث مرتّبة.
وهذا في بلاد توجد فيها هذه الثلاث، والمساكين يفرحون بالإبل أكثر من البقر أو يفرحون بالبقر أكثر من الغنم.
أما إذا كان البلد المساكين فيه يفرحون بالضأن أعظم من فرحهم بالبقر فإن الضأن يكون أفضل من البقر كما هو موجود في هذه البلاد مثلا، أو في بلاد لا يستسيغون أكل لحم الإبل فإن البقر يكون أفضل؛ لأن المقصود من الأضاحي أن يكون في ذلك قربة لله جل وعلا وأن يكون في ذلك طعمة للمساكين.
والتفضيل العام كما ذكرت لك هو للإبل ثم للبقر ثم للغنم.(1/7)
والغنم قسمان معز وضأن، المعز ذوات الشعر والضأن ذوات الصوف، والضأن والمعز الأفضل منهما ما كان أغلى ثمنا وأسمن وأوفر لحما، ثم يلي ذلك من جهة اللون، إذا كان أبيض، أشهب يعني فيه بياض ولو خالطه سواد قليل أو حمرة أو صفرة أو أشباه ذلك على اختلاف أنواع الضأن أو الغنم، ثم يليه الأسود، يعني أنّ الأفضل الأغلى ثمنا والأسمن سواء وافق اللونُ البياض أو وافق اللونُ السواد، فإن تساوت في الثمن والطيب فالأبيض أفضل؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى بكبشين أملحين أقرنين، فتضحيته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بأملح يعني الأشهب دليل على تفضيله، قد روى مسلم رحمه الله أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: ضحى بكبش ينظر في سواد ويأكل في سواد ويطأ في سواد. وهذا اختلف فيه أهل العلم ما المراد به هل المراد أنه أسود كامل السواد وفيه بياض قليل أو قد يخلطه لون آخر؟ أم أنه أملح ولكن رأسه مكان الأكل منه الفم والنظر والقوائم فيها السود؟ على قولين لهما والأظهر هو ما ذكرت لك من التفضيل.
وشيخ الإسلام ابن تيمية يفضِّل الأغلى ثمنا دائما، فإذا كانت الشاة أغلى ثمنا من الإبل فإن الشاة تكون أفضل، فما كان أغلى ثمنا فهو مفضَّل عنده، وهذا ليس على إطلاقه على الصحيح لأنّ الدليل دل على أن الاعتبار بتفضيل الإبل حيث قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ومن راح في الساعة الأولى كأنما قرَّب بَدَنَة».
وكون هذه الثلاث أنواع من بهيمة الأنعام هي التي يُضحى بها وتقع الأضحية منها هذا موقع إجماع بين أهل العلم، وأما التفضيل فثم خلاف بين أهل العلم في أيِّها الذي يُفَضَّل.(1/8)
وفي الهدي مثل الأضاحي في كون البعير أفضل، ثم البقر، ثم الغنم، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نحر إبلا كثيرة في حجة الوداع، فضحى عن نسائه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بالبقر، وضحى عن نفسه وعن أمته بكبشين أقرنين أملحين، فدل على أن هذه الثلاث مشروعة في الهدي وفي الأضاحي، وأنها حكمها في الأضحية حكمها في الهدي.
?????
[شروط الهدي والأضاحي]
أما من جهة صفات ما يجزئ من هذه، فثم شروط بها نعلم هل هذه الأضحية أو الهدي مجزئ أم لا؟
فأول هذه الشروط السن: فالذي يجزئ من حيث السن هو الثَّنِيُّ يعني الذي ظهرت له ثنيتان وهو الذي يسميه العامة الثِّنِي هذا:
في الإبل يكون فيما له خمس سنين.
وفي البقر فيما له سنتان.
وفي الغنم فيما له سنة، إلا أنه في الضأن أبيح ويجزئ أن يضحَّى بالجَذَع من الضأن وهو ما له ستة أشهر فأكثر؛ وذلك أنَّ النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثبت عنه أنه قال «يجزئ الجَذَعُ من الضأن أضحية» وهو حديث صحيح رواه مسلم وغيره، وقد أعله بعض أهل العلم؛ لكن الصواب أنه صحيح وأنَّ هذا من محفوظات أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
فإذن الأضحية إذا كانت من الضأن ستة أشهر فما فوق هذه مجزئة.
وإذا كانت من البقر من سنتين إلى أعلى.
وإذا كانت من الإبل من خمس سنين إلى أعلى وهذا من جهة سنها.
فإذا كانت أقل من ذلك فلا تجزئ.
بعض الناس قد يتساءل في هذا الأمر خاصة عندما يشتري الأضاحي أو يشتري الهدي من جهة السن، ما يعرف يفرق ما بين الجذع وما الثني، إذا أشكل عليك فلا تأخذ جذعا إذا كنت لا تميز بين ما له ستة أشهر وما له خمسة أشهر أو أربعة أشهر حتى لا تقع في تفريط في شرط من الشروط.(1/9)
والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ جاءه رجل وقد ذبح قبل الصلاة فقال له «اذبح بعد الصلاة» فقال: لا أجد إلا جذعة، قال «اذبحها فإنها مجزئة عنك ولن تجزئ عن أحد بعدك»، وهذا استدل به بعض أهل العلم على أن الجذع من الضأن لا يجزئ في الأضحية؛ لكن ذكرنا لك أن الصواب أنه مجزئ، فإذن صار ثم اشتباه عليه وعدم معرفة في السن، فخذ الثني بالكشف على أسنانه تعرف ما ظهر سنه واستطال حيث أنه يكون له سنة فأكثر. هذا من جهة السن من جهة العمر.
أما من جهة الصفات: فإن القاعدة العامة في الأضاحي أنه يجزئ فيها ما كان سليما وافر اللحم، ما كان سليما فيه لحمه؛ وذلك لأنه هو المقصود منه، سليم من العاهات والأمراض التي تنقص قيمته أو تنقص لحمه، لهذا ثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في حديث البراء بن عازب أنه قال -أعني البراء-: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيبا فقال «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البَيِّنُ عَوَرُها، والعرجاء البَيِّنُ عرجها، والمريضة البَيِّنُ مرضها، والعجفاء التي لا تنقي» يعني التي لا نقي لها لا مخ لها.
هذا يحتاج إلى بيان.
أما الأول فقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (العوراء البين عورها) نستفيد منه أن الذاهبة لإحدى العينين من الإبل أو البقر أو الغنم فإنها لا تجزئ لأنها عوراء، إذا ذهبت إحدى عيناها، وقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (البين عورها) يدل على أن التي لم يستبن عورها أنها تجزئ، ويُفهم منه أن ما هو أعظم من العور فإنه لا يجزئ من باب أولى كالعمى إذا كانت بهيمة الأنعام منخسفة العينين جميعا، أو كان فيها عينان لكنها عمياء فإنها لا تجزئ؛ لأن هذا نقص في ثمنها وكذلك نقص في أكلها وعظم بدنها.(1/10)
وقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (والعرجاء البين عرجها) يعني أنّ العرجاء التي لا تستطيع المشي مع صحاح الماشية فإنها لا تجزئ، وهذا معنى قوله (البيّن عرجها)، أما إذا كان عرجها خفيفا ليس بينا أو يمكنها معه المشي مع الصحيحات، وأنها ترد ما يردون من الرعي وتذهب معهم ونحو ذلك فإن هذا ليس بالعيب الذي يجعلها لا تجزئ؛ ولكن فيه الكراهة لأن السليمة أولى من المعيبة ولو كان عيبها لا يمنع من الإجزاء، فإذن قوله (العرجاء البين عرجها) نستفيد منه هذه الفائدة التي ذكرت لك.
وقوله (المريضة البين مرضها) المرض أقسام حدده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في بقوله (البين مرضها)، والبين مرضها إما أن يكون بضعف واضح وهزال واضح فيها، أو أن تكون دائما منطرحة، أو أن تكون لا تستطيع المشي أو لا تأكل أو أن تكون كبيرة السعال، أو نحو ذلك مما يكون المرض فيه بيِّنا.
وهنا أشياء قد تظن أنها مرض وليست بالمرض مما يكون في هذا الوقت، وذلك مثل ما يظهر في بعض الماشية خاصة الضأن النجدي وشبهه أنه يظهر فيها الغدد هذه التي يسميها العامة الطْلُوع وهذه لها أحكام الغدة، والغدة لا تؤكل ولكنها لا تعيب الأضحية بعدم الإجزاء، وإنما تُكره معها التضحية لكنها مجزئة، فمن وجد بعد شرائه للأضحية فيها من الغدة هذه في مكان منها كان بينا أو كان خافيا عليه، فإن هذا مما يكره إلا في حالة أنه أضرَّ بها فجعلها مريضة بيِّنا مرضها.
وهذه الأورام التي تظهر إذا كانت قليلة في بهيمة الأنعام إذا كانت قليلة في الخرفان فإنها لا تؤثر على لحمها بضعف فيه أو فساد، وإنما يفسد ما حولها، ولذلك جاء كلام أهل العلم ممن تقدم وأهل العلم في هذا الزمن بأنها تجزئ؛ لكن الأفضل أن تجتنب فإذا اشتريت وفيها هذه فإنك إذا ضحيت فإن هذا مجزئ لا شيء فيه.(1/11)
كذلك قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (والعجفاء التي لا تُنْقِي) يعني الضعيفة الهزيلة التي لا نقي لها؛ بمعنى أن عظمها ليس فيه مخ، وكذلك تكون شحمها شحم العينين فيها ضعيف، وهذا يدل على هزالها الشديد، فالعجفاء التي لا تنقي يعني لا نقي فيها شديدة الضعف شديدة الهزال فإنها لا تجزئ؛ لأن المقصود كما ذكرت لك من الأضاحي والهدي أن تجمع ما بين التقرب إلى الله جل وعلا بإراقة الدم وما [...] وتعظيم اللحم الذي تتقرب به إلى الله جل وعلا بصدقة ونحوها.
ويلحق بهذا أحكام في أشياء تكون عيوبا عند بعضٍ؛ لكنها لا تؤثر في الإجزاء.
والعلماء هنا اختلفوا هل غير هذه الأربع المذكورة في الحديث تؤثر في الإجزاء؟
والصواب من أقوال العلماء هنا أنه يقتصر في العيوب على هذه الأربع فقط وما هو أولى منها؛ يعني مثل العمى في العينين هو أولى من العور، ومثل انقطاع إحدى الرجلين رجل مقطوعة تماما أو مكسورة تماما فهذا أعظم من العرج وأشباه ذلك مما هو أولى مما ذكر.
أما ما لم يكن مذكورا في هذه الأربع مثل بعض العيوب التي لا تؤثر في ثمنها تأثيرا بالغا فإن هذا لا بأس به، مثل انقطاع بعض الأذن مثل الخروق في الأذن مثل قلة الصوف فيها وأشباه ذلك مثل انقطاع الإلية يعني إلية الخروف أو أشباه ذلك هذا لا يؤثر.
فلو اشتريت ضأنا لا إلية فيها فإن هذا لا بأس به، مثل ما يأتي الآن مهجنة تأتي في الأسواق خرفان مهجنة لا إلية فيها أو مثل ما إليته صغيرة جدا أو ما قطعت إليته هذا لا حرج فيه لأنه لا يؤثر على ذلك.
هنا من جهة نوع الضأن بخصوصه فإن:
الضأن تارة يكون ذكرا أو أنثى تضحية الذكر أفضل من التضحية بالأنثى وهذا واحد.(1/12)
والثاني أن الخصي يجزئ في الأضحية؛ لكن الأفضل الذكر غير المخصي، النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى بكبشين موجوءين فدل على جواز التضحية بالموجوء، والموجوء هو ما سُلَّت خصيتاه أو ضربت خصيتاه، أما إذا كان مجبوبا يعني قطع ذكره مع الخصيتين كما يفعله بعض البادية في الضأن حتى يسمن ويعظم فإن هذا لا يجزئ، فإذا قال لك خصي تنتبه هل هو قُطِع ذكره مع الخصيتين أم أنه ضربت الخصيتان حتى صارت صغيرة وأما الذكر فباق، فإن كان مجبوبا ذاهب الذكر مع الخصيتين فإنه لا يجزئ باتفاق أهل العلم، وأما إذا كان خصيا موجوءا بربط الخصيتين مع بقاء الآلة فإن هذا لا بأس به ويجزئ؛ لكن الأفضل أن يكون بذكر غير مجبوب.
من جهة العدد: أيضا ثم أحكام، يعني هل الأفضل أن يضحي باثنتين بناقتين ببقرتين بثلاث أم بواحدة ثمنها أغلى؟ وهذه المسألة عرض لها أهل العلم وقالوا -يعني قول الأكثر منهم-: إنه ما تعدد فيه إراقة الدم فإنه أفضل ولو كان أقل ثمنا، إذا كنت ستشتري ثنتين أو ثلاث تضحي بها وهناك واحدة من حيث السعر أغلى من هذه الثلاث فإن التعدد أفضل من الجنس الواحد، أما لو تعدد الضأن مع الإبل فإن سبعة من الضأن تعدل واحد من الإبل في الفضل، والإبل كما ذكرنا أفضل من شاة واحدة.
أيضا مما ينبَّه عليه في ذلك أن نوع بهيمة الأنعام له أثر في التفضيل وذلك مرتبط بثمنها، فالنوع الأفضل عند الناس والأعظم التضحية به أفضل وإهداؤه وإقامته هديا أفضل وذلك؛ لأن ما عظم عند الناس فهو أفضل لأن تخلصهم منه وشراءهم له فهو أغلى عندهم من جهة المال ومن جهة المعنى أيضا، فبعض الإبل من حيث السلالة أفضل من بعض، وبعض الغنم من حيث السلالة أفضل من بعض، وبعض البقر من حيث السلالة أفضل من بعض فما كان أفضل سلالة فهو من جهة التضحية والهدي أفضل في ذلك.
هذه بعض الأحكام المتعلقة بالأضاحي من جهة أنواعها وشرائطها والعيوب التي فيها من جهة الإجزاء وأشباه ذلك.(1/13)
وهنا نعرض لمسألة وهي أنه إذا اشترى أضحية ثم تعيَّبت عنده أصابها عيب؛ يعني صارت عرجاء أو نطحت شيء صارت عوراء أو انكسرت رجلها أو أشباه ذلك، فما حكم هذا؟
الحكم أن هذا يختلف باختلاف حال الذي يريد التضحية بها والتي هي عنده، فالذي هي عنده فهو أمين عليها مؤتمن عليها فإن كان مفرطا فإنه يضمن؛ لأن لها حكم الأمانات، وإن كان لم يفرط يعني مثلا وضعها في السيارة وضعا صحيحا؛ لكن مثلا وضعا على ظهر [...] ومكشوف وما وثقها لاشك أنها قد تقفز وتَتَعيب، فهنا إذا كان لم يفرط فلا حرج عليه يذبحها ولو معيبة إنما تعيبت بعد شرائه لها؛ ولكن إذا كان مفرطا فإنه يضمن غيرَها إذا كان هو المضحي بتلك الأضحية في حال كونها واجبة، وأما إذا كانت مستحبة فإنه يستحب أن يضمن غيرها.
?????
الموضوع الثالث الكلي مما يكون في أحكام الأضحية والهدي:
أحكام المضحِّين وصفة الذبح
أما المضحُّون الذي يريد أن يضحي فتبتدئ أحكامه بدخول العشر، وذلك أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ صح عنه فيما رواه مسلم أنه قال «إذا دخلت العشر وأراد أحدُكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره ولا من بَشَرَتِه شيئا» قال جمهور أهل العلم هذا يدل على الكراهة، وقال بعضهم هذا يدل على التحريم؛ لأنه نهي والنهي الأصل فيه التحريم وهو الصحيح.
فأولا من أراد أن يضحي يعني يقول أنا سأضحي، فإذا دخلت العشر ودخول العشر يكون من مغيب شمس آخر يوم من أيام ذي القعدة؛ يعني يبدأ من الليل مثل رمضان يبدأ من ليلة الأول؛ يعني من مغيب الشمس يبدأ الحكم فلا يأخذ من بشَرَته يعني من جلده، ولا من أظفاره ما يقض أظفاره، ولا من شعره ما يقص شعره ولا يأخذ منه شيئا، إذا أراد أن يضحي.(1/14)
وقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (وأراد أحدكم) أن يضحي محمول على من أراد أن يضحي عن نفسه، وأما الذي يضحَّى عنه من أهل البيت يعني مثل واحد في بيته يضحي عنه وعن أهل بيته، فهذا هو الذي يلزمه الحكم، أما الذي يضحى عنه فلا يلزمه أن يمسك من أظفاره وشعره، لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال (وأراد أحدكم أن يضحي) أما المضحى عنه فليس له الحكم هذا.
وكذلك قال أهل العلم المتبرع بالتضحية الذي يضحي عن والده ولم يدخل نفسه يضحي عن والده الحي أو الميت ولم يدخل نفسه في الأضحية التي يسميها العامة البريرة، أو كان وصيا على أضاحي أو كان وكيلا عليها فلا يلزمه أن يمسك على الأخذ من بشرته وأشعاره شيئا، وهذا لها تفاصيل في الأحكام نذكرها لكم إن شاء الله ربما في الإجابة على الأسئلة أو في موضع آخر.
كذلك من أحكام المضحين أن المضحي يستحب له أن يضحي أضحيته؛ أن يذبحها بنفسه.
والأضاحي كما ذكرنا والهدي الإبل والإبل تنحر هذا هو الأفضل فيها لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نحرها ويجعلها قائمة كما سيأتي في صفة الذبح.
والمضحي ينحر الإبل ويذبح البقر والغنم لقوله جل وعلا ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً?[البقرة:67]، البقر يُذبح، وكذلك الغنم تذبح وصفة ذلك تأتي.
والذابح كما ذكرنا المستحب له أن يفعلها بيده، وله أن يوكل فإن وكلَّ غيره قال: اذبح عني. فإنه يستحب له أن يشهد إراقة الدم وأن يذكر هو أيضا مع الذابح اسم الله عليها ويقول: باسم الله وجوبا، فإذا تركها عمدا فإنها لا تحل، وأما إذا تركها نسيانا أو سهوا فإنه يذكر اسم الله بعد ذلك وتحل له.(1/15)
أيضا من أحكام المضحي أن المُهدي والمضحي يستحب له أن يقسمها أثلاثا؛ يعني أن يجعل ثلثا يأكله، وأن يجعل ثلثا يهديه، وأن يجعل ثلثا يتصدق به، والصدقة واجبة بما تطعم به مسكين، وأما الإهداء والأكل فهذا مستحب له، وذلك لقول الله جل وعلا ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ?[الحج:36]، فجعل الله جل وعلا الناس ثلاثة أصناف، فقال (فَكُلُوا مِنْهَا) يعني يا أيها الذين ضحوا أو أهدوا هدي شكر (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ) هو الذي يأتي متقنعا لا يريد أن يُعرف من شدة المسكنة يعني الفقراء، والثالث (المُعْتَرَّ) الذي يعتريك من ضيف أو قريب أو نحو ذلك، فالله جل وعلا أمر بأن تأكل منها، وأن تطعم منها الضيف والذي يعتريك وتهدي، وأن تتصدق بها.
حمل أهل العلم الصدقة على الوجوب، الأمر هنا في الصدقة على الوجوب، وهذا مما يتركه كثير من الناس يقسمون الأضاحي ولا يتصدقون بشيء منها، وهذا لا يجزئ ولا يجوز وليست أضحية حينئذ؛ لأن الأضحية يجب أن تتصدق منها؛ لأن المقصود إراقة الدم والصدقة، قال العلماء: فإن لم يتصدق منها ضمن بما يقع عليهم من إطعام في اللحم حددوه في الزمن الماضي بأوقية وفي هذا الزمن بقدر كيلو أو كيلوين من اللحم.
يعني أن أكلك منها مستحب، وأن الإهداء مستحب، فأما الصدقة فواجبة يجب أن تتصدق من الأضحية، إذا كان عندك عدة أضاحي فلابد أن تتصدق من هذه، تنزع من هذه مثلا عضو أو أقل منه وتجعله صدقة، وهذه عضو أو أقل منه وتجعله صدقة وتعطيه المساكين، أما أن يفرق هكذا هذا يهدي لهذا وهذا يهدي لهذا وأشباه ذلك من دون أن يطعم منه المساكين، فهذا غير مجزئ لأنه يجب أن يتصدق لقول الله جل وعلا (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالمُعْتَرَّ).
وأما صفة الذبح فهي بالنسبة:(1/16)
للإبل أن تكون قائمة معقولة اليد، ثم يطعنها في الوَحدة هنا ويحرك قليلا فهذا النحر، ثم يحرك بشدة فيندفع الدم بقوة، ثم تسقط الإبل بطبيعتها، ثم يُتِم بعد ذلك، لقول الله جل وعلا ?فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ?[الحج:36]، وهكذا كان يفعل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فقام علي على بُدْنِهِ في أكثر من ستين؛ بل هي مائة فأقامها، ونحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحرا كثيرا، وترك لبعض أصحابه البقية.
وأما البقر فتوضع على جنبها الأيسر وتوجه إلى القبلة، وكذلك الإبل يوجه الدم حيث يكون خروجه إلى القبلة، توجه البقر والغنم إلى القبلة، وتوضع الرجل على الصفعة، وتذبح بسكين حادة ماضية.
والذي لا يحسن أن يذبح لا يعرض البهيمة للأذى والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثبت عنه أنه قال «إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلَّ شَيْء، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَةَ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» فبعض الناس يتعلم ويبقى يحرحر فيها وهي تتأذى، ومنها ما يقوم ويمشي وهذا يكون فيه أذية، إذا كان لا يحسن ولا يعرف من يده مضاءً من ذلك ومعرفة فإنه لا يستحب له أن يعذب البهيمة في ذلك، فيشهد أضحيته، ويجعل غيره ممن يحسن الذبح أن يذبح.
وينتبه في الذبح أنه يَذبح عنه من هو مأمون العقيدة، أما من ليس مأمون العقيدة بأن يكون مشركا أو وثنيا أو عابدا لغير الله جل وعلا فإن ذبيحته لا تحل لأنها ذبيحة مرتد.
كما ذكرنا إذا جعلها على جهتها اليسرى سمى الله وجوبا عند تحريكه يده؛ يعني قبل أن يخرج الدم يقول باسم الله والله أكبر اللهم هذا منك –يعني نعمة- ولك –مخلصا فيه لك لا أريق الدم إلا لوجهك لك وحدك لا أشرك بك شيئا–.(1/17)
والصحيح أن قول القائل: اللهم هذا منك ولك، أنه سنة خلافا لمن قال أنه بدعة، ثم يحرك يده ويذبحها ولا يكسر الرقبة، ويتأكد من أنه يُمضي الآلة الحادة حتى يبري المريء، ويبري الودجين والدم يخرج بقوة؛ لأن في هذا إسراعا في إزهاق الروح وإراحة للذبيحة.
ثم بعد ذلك يتركها حتى تبرد لا يكسر الرقبة كما يفعله بعض الناس، ولا يسرع في سلخها قبل أن تبرد لأن هذا فيه نوع إيذاء لها، وينتظر حتى يخرج الدم بكماله، وأما إذا أسرع فربما بقي الدم في العروق، وهو إن لم يكن مؤثرا في إجزاؤها وفي جواز الأكل منها؛ لكنه الأفضل أن ينتظر حتى تسكن أطرافها وتزهق الروح تماما.
?????
من الأحكام المتعلقة أيضا بالأضاحي والهدي في الزمن:
متى يبتدئ زمن الأضحية ومتى يبتدئ زمن الهدي؟
أما الأضاحي: فيبتدئ زمن الإجزاء فيها من خروج الناس أو انتهاء الناس من الصلاة صلاة عيد الأضحى، فإذا انتهى الناس من الصلاة والخطبة أيضا من باب التأكيد فأنه يشرع هنا بداية الذبح ولو لم يحضر الصلاة، كما في الحديث عن زمن الأضحية؛ يعني الزمن الذي إذا ذبح فيه كان مجزئا.
من جهة البداية ذكرنا لكم أنها بعد تمام الصلاة، فإذا كان في بلد فيه أكثر من مسجد يصلى فيه العيد فبأسبقها، فأسبق واحد؛ يعني إذا خرج الأول من الصلاة وأتم الخطبة فإنه يبتدئ هنا زمن التضحية، وكذلك الهدي في مكة.
وأما نهايته فاختلف فيها أهل العلم:
منهم من قال يومان بعد يوم النحر؛ يعني أن أيام الذبح ثلاثة يوم النحر ويومان بعده، فينتهي بغروب شمس الثاني عشر من ذي الحجة.(1/18)
وقال آخرون من أهل العلم بل ينتهي بغروب شمس الثالث عشر من ذي الحجة وذلك لقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «أيام مِنَى أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى» ولقوله جل وعلا أيضا ?وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ?[الحج:28]، وقوله أيضا جل وعلا ?وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ?[البقرة:203]، ويشمل ذلك الذكر على الذبائح؛ يعني حين ذبحها بذكر اسم الله عليها.
والصحيح أن أيام الذبح أربعة الأول يوم النحر وأفضلها، والذبح فيه هو الأفضل فإن لم يتيسر أو بدا للمرء أن يضحي بعد ذلك يوم إحدى عشر، يوم اثني عشر، يوم ثلاثة عشر الأيام صارت أربعة على الصحيح من قولي أهل العلم هنا.
والليل هل يضحي بالليل أم لا؟ ظاهر الآية (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) وقال (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) دخلوه دخول الأضحية أو الذبح في هذا دخول في الأيام ولهذا قال بعض أهل العلم إن الذبح في الليل لا يجزئ.
وقال آخرون إن الذبح في الليل مكروه مع إجزائه، وهذا القول –أنه مكروه مع إجزائه- مأخوذ من ظاهر الآية؛ لأنها خصصت بالأيام فجعل ذلك أفضل وغير الأفضل مكروه.
والقول الثالث أن النهار أفضل لاشك والليل تبع للنهار فإذا ضحى فيه أجزأ من غير كراهة؛ لكن النهار هو وقت التعبد، وأيضا لأن الله جل وعلا يحب التقرب إلى إليه في أيام التشريق وفي يوم النحر لقوله «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من إراقة الدم» فاليوم أفضل وإن ذبح في الليل أجزأ لعدم ورود ما يدل على عدم الإجزاء والأصل أن الذبح حدد بدايته وحددت نهايته وشمول الأيام والليالي في ذلك سواء.(1/19)
أما الهدي كما ذكرنا هو قسمان هدي شكر وهو دم المتعة والقران، وهدي جبران، وهدي الشكر حكمه حكم الأضحية يبدأ تطوعا أو كان واجبا عليه كالمتعة أو القران يبدأ كالأضحية من بعد الصلاة إلى آخر أيام التشريق إلى غياب الشمس من آخر أيام التشريق، أما هدي الجبران بفوات واجب أو فعل محظور فإن وقت وجوبه من حين فعل ذلك؛ يعني يجب عليه من حين فعل ذلك ويبقى في ذمته لو ترك ذلك.
?????
المسألة الأخيرة التي لم نتعرض لها فاتت في موضعها، وهناك أحكام كثيرة يعني ربما تركناها لضيق الوقت لكن هي مسألة يحتاج إليها وهي مسألة:
التشريك في الأضاحي والهدي
والسنة سلفت كما في حديث جابر أنه في زمن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أُمروا أن يذبحوا الإبل وأن يشتركوا في الإبل سبعة أو سبعة في البقر؛ يعني أنه يجوز أن يشترك سبعة أشخاص في واحدة من الإبل، وسبعة في واحدة من البقر وتجزئ عن الجميع أضحية.
وكذلك لو اشتركوا بعضهم يريد الأضحية وبعضهم يقول أنا ما أريد أضحي ولكن أريد اللحم، فكذلك يجزئ عنهم؛ لكن بشرط أن يشتركوا جميعا كلٌّ على نيته قبل الذبح، أما لو حصل نحر الإبل من ثلاثة ثم جاء بعض الناس وقال نشترك معكم إما في لحم أو في أضحية فإن هذا لا يجزئ؛ لأنه يجب أن يكون قبل الشروع في الذبح.
الشاة -والشاة يصدق على الذكر وعلى الأنثى من الغنم من المعز ومن الضأن- هذه تجزئ عن واحدٍ وعمن يدخله الواحد في أضحيته؛ لكن التشريك في الشاة لا يجوز ولا يجزئ؛ بمعنى أنه لا يجزئ أن يشترك اثنان كل واحد يدفع نصف القيمة ويشتركان في شاة واحدة؛ بل الشاة الواحدة عن واحد فقط، وللواحد هذا أن يشرك أهل بيته أو يشرك والديه أن يشرك من شاء في ذلك.(1/20)
وإذا كان جماعة يسكنون مكانا واحدا وأكلهم واحد يعني نفقتهم واحدة وأكلهم واحد يشتركون في الأكل، ونفقتهم على هذا البيت واحدة قال بعض أهل العلم لهم حكم الأسرة الواحدة، ويجوز أن يشتركوا في أضحية يضحيها واحد منهم عنه وعن من في هذه الدار جميعا لاشتراكهم في النفقة؛ بمعنى أن يكون أكلهم في هذا البيت جميعا أكلهم مصرفهم واحد وشراؤهم واحد سكناهم واحدة إلى آخره، مثل مثلا ما يحصل واحد ساكن فوق وواحد تحت عائلته وأكلهم واحد جميعا أكل واحد والمصرف واحد إلى آخره، فهذا يجزئ أن يكون أن تذبح شاة عن الجميع، بالشرط الذي ذكرت وهو أن يكون مصرفهم واحدا؛ يعني النفقة الفلوس التي تصرف على البيت واحدة، تصرف عليهم جميعا؛ لكن إذا كان هذا يستقل بنفقة وهذا يستقل بنفقة ولو كانت قليلة فإن هذا لا يجزئ لأن الأصل عدم الاشتراك.
والسُّبْع من الإبل، السُّبع من البدنة، والسُّبع من البقرة لا يجوز فيه الاشتراك أيضا، فما يجوز أن يضحي مثلا يقول هذا السبع من البدنة عني وعن أهل بيتي لا يشترك في سبع البدنة فوق واحد يعني عن شخص واحد بمفرده .(1/21)
من المسائل أيضا المتعلقة بما ذكرنا إذا اجتمع يوم العيد يعني يوم الأضحى أو أحد أيام التكبير أضحية وعقيقة فهل تدخل إحداهما بالأخرى؟ يعني واحد جاء مولود في اليوم الثالث من ذو الحجة فجاءت الأضحية في يوم النحر والعقيقة أيضا تستحب أن تكون في يوم سابع فهنا يجزئ أن يضحي عنه وعن ولده وتكون أضحيته عن ولده عقيقة له؛ لأن معنى العقيقة هو إراقة الدم وكل غلام مرتهن بعقيقته، فإذا ضحى عنه ولو كان معه ضحى عنه وعن ولده فإن هذا يكفي؛ أو كان اليوم الحادي عشر أو الثاني عشر، لكن هذا ليس هو الأفضل بل كل له سبب، الإمام أحمد رحمه الله تعالى روي عنه أنه قال يدخل هذا في هذا لدخول الأصغر في الأكبر؛ لأن العقيقة أقل من الأضحية، وروي عنه أنه قال هذه لها سبب وهذه لها سبب، فحمل قوله هذه لها سبب وهذه لها سبب على الأفضلية، وأيضا خروجا من الخلاف في ذلك.
ثَم مسائل كثيرة ربما نستعرضها في الأسئلة.
أسأل الله جل وعلا أن يفقهني، وإياكم في الدين.
اللهم اجعلني ممن فقهته في دينك، ومننت عليه بالعلم النافع والعمل الصالح.
اللهم مُنَّ علينا بما تحب وترضى وتقبل منا عباداتنا واغفر لنا لوالدينا أجمعين آمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[الأسئلة]
س1/ ما حكم دفع ثمن الضحية للمؤسسات الخيرية وذلك لذبحها ثم توزيعها على للأسر المحتاجة؟
ج/ الحمد لله.
أولا الأضحية التي هي إراقة الدم أفضل من الصدقة بالثمن لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا هو أحب إلى الله من إراقة الدم» فإراقة الدم يوم الأضحى وأيام التشريق أفضل من الصدقة بثمنها.
الثاني أن الأضحية متعلقة بالنعم التي يراها الفقراء، وإذا كان البلد التي يعيش فِيها فيها فقراء فإراقة الدم فيها وشهوده للذبيحة حين تذبح وللأضحية وشهوده لإراقة الدم وتقربه إلى الله بذلك والصدقة على المساكين في البلد لاشك أن هذا هو الأصل في ذلك.(1/22)
وبعض أهل العلم رخّص إذا كان ثم حاجة في بلد أعظم من الحاجة في هذا البلد أو أن يكون أهل هذا البلد مكتفين بنقلها، فلذلك نقول ترك النقل أولى وكل يلي أضحيته بنفسه ولا يعطيها الجمعيات الخيرية للأضاحي؛ لأنه ربما فوتوا الوقت، ثم أيضا الوكيل ليس كل وكيل يحسن هذه المسائل، فكل يلي أضحيته بنفسه ويقوم عليها ويؤدي الأمانة خاصة ممن يلي الوصايا ينتبه الذي يلي الوصايا يؤدي أمرا واجبا فينتبه لا يفرط، مثل بعض الناس ممن يأتي إذا جاء يوم عرفة راح مستعجلا إلى السوق واشترى أربع أو خمس أضاحي بحسب وصية والده أو ولدته أو من ولي وصيته على عجل لم يتأمل فيها ولم يراعي شروطها ثم ذبحها أي ذبحة إلى آخر ذلك وهذا لا يجوز؛ بل الواجب على الوصي أن يقوم بالأمانة التي أُنيطت به سواء كان تحملها هو أم حملها بتنصيص الموصي عليه في الوصية، فيجب أن يكون قبل مدة يتحرى في ذلك لأنها أمانة والله جل وعلا أوجب رد الأمانات إلى أهلها.
س2/ سَوْق الهدي هل يشترط دخوله بلد الحاج أم يشترى من أي بلد يمر به في الطريق حتى ولو كان قربا من مكة.
ج/ سوق الهدي مسنون والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ساق الهدي وضابط سوق الهدي أن يسوقه من خارج الحرم إلى داخل الحرم؛ لأن الهدي مكان ذبحه –هذه نسينا التعرض لها في المحاضرة- مكان ذبح الهدي في الحرم داخل حدود الحرم، فمِنى مشعر ومنحر فجاج مكة منحر كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أي مكان ذبح فيه داخل الحرم فهذا مجزئ له لكونه هديا وخارج الحرم ثم خلاف بين أهل العلم فيه.
وأما سوق الهدي فضابطه أن يسوقه من خارج الحرم إلى داخل الحرم، فلو اشتراه من عرفة محملا معه السيارة إلى داخل الحرم فإن هذا يعتبر سائقا للهدي، اشتراه من الطائف اشتراه من جدة اشتراه من المدينة اشتراه من أي مكان في طريقه هذا إذا كان ساقه إلى خارج الحرم إلى الحرم فإنه يصدق عليه أنه هدي ساقه وبلغه بالكعبة.(1/23)
س3/ فضيلة الشيخ آمل أن تبين لي الفرق بين الهدي والفِدية جزاكم الله خيرا؟
ج/ الهدي قسمان هدي شكر وهدي جبران، وهدي الجبران كما قلنا يكون عن تفويت واجب مثلا ما أحرم من الميقات، ما مكث في عرفة إلى ما بعد غروب الشمس، ما بات في مزدلفة، وأشباه ذلك، من ترك نسكا فعليه دم، وهذا يسمى هدي جبران ويسمى فدية، كذلك من فعل محظورا كمن كان به أذى في رأسه فحلق أو احتاج إلى أن ينذر ما تجرد من المخيط يجب أن يلبس ثوبه لمرض به فالله جل وعلا قال ?فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ?[البقرة:196]، وهذه الفدية على التخيير المسماة فدية الأذى من صيام أو صدقة أو نسك.
الهدي يخص أولا هدي الجبران هو عبارة عن دم وأما الفدية فقد تكون دما قد تكون صيام وقد تكون إطعاما وأشباه ذلك.
س4/ الحاج متمتعا كان أو غير متمتع هل يضحي أو يوصي أهله بالأضحية عنه؟
ج/ إذا ضحى فهو أفضل؛ لأن أضحيته التي يشهدها وفي مكة يجتمع في حقه المكان الفاضل والزمان الفاضل وشهوده لها لاشك هذا أفضل والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ جمع بين الهدي والأضحية وإذا وصَّى أهله أن يضحوا لغرض له في ذلك لكونه أرفق به أو لأنه لا يجد أين يذبح أو عليه مشقة في ذلك فهذا له ذلك، فأضحيته في مكة أفضل، وإذا وصى أهله أو أحد أولاده أنه يضحي فلا حرج عليه في ذلك.
س5/ هناك ظاهرة برزت بين بعض الشباب وهي أنهم يضحون عن عالم من العلماء يعجبون به هل لهذه الظاهرة أصل شرعي؟(1/24)
ج/ الأصل في ذلك أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ضحى بكبشين أما أحدهما فقال فيه: «عن محمد وعن آل محمد»، وقال في الثاني: «عن محمد وعن من لم يضحِّ من أمة محمد»، وآل محمد منهم الحي ومنهم الميت، من آل محمد خديجة، ومن آل محمد بعض بناته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ اللاتي مِتْنَ قبل تضحيته، وهذا يدل على أنّ التضحية عن الحي والميت جميعا هذا له أصل من السنة، كذلك قوله (عن محمد وعن من لم يضحِّ من أمة محمد) منهم الحي ومنهم الميت.
فالأضحية عن الميت بإشراكه فيها مع الحي هذه مشروعة.
وأما تخصيص الميت دون الحي بالأضحية هذه اختلف فيها أهل العلم، ومعلوم أن الأضحية الأصل فيها عن الحي، والميت إذا أُدخل فيُدخل تبعا وإذا ضحى عن الميت، فهذا جائز لكنه ترك الأفضل؛ لأن الأفضل أن يجمع بينه يعني الذي ضحى وبين الميت الذي يضحى عنه، إذا مثلا ضحى يقول عني وعن الإمام أحمد بن حنبل، وعني وعن شيخ الإسلام بن تيمية، عني وعن الإمام محمد بن عبد الوهاب أو عن ابن القيم أو عن ابن رجب أو نحو ذلك، فقد كان بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى يضحي بعدة أضاحٍ عنه وعن الإمام أحمد وعن ابن تيمية وعن إمام الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى.
فهذا على ما فصلت لك والله أعلم.
س6/ هل الأضحية عن الميت أفضل أم يتصدق عنه؟
ج/ إذا أدخل الميت معه فهو أفضل باتفاق يعني باتفاق الذين يقولون إن الأضحية أفضل من الصدقة.
وأما إذا أفرد الميت ففيه الخلاف والصواب عندي أن الأضحية مطلقا أفضل من الصدقة لأنها تقرب والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا هو أحب إلى الله من إراقة الدم» وقد قال اله جل وعلا أيضا ?لَن يَنَالَ اللهَ لحُوُمُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَناَلُهُ التَّقْوَى مٍنْكُمْ?[الحج:37]، الصدقة وقتها واسع وأما الأضحية فوقتها ضيق.(1/25)
س7/ بعض العامة يُحَنِّي رأس أضحيته فهل لذلك أصل؟
ج/ ما أدري.
ربما يُحَنِّي الرأس من جهة التعيين من جهة العلامة، فهذا يصبح له أحكام تعيين الأضحية، إذا عين أضحيته بعلامة فيها جعل شيء عليها أو كما قلّد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه النعل أو جعل علامة يعرف بأن هذه أضحية فهذا له أحكام التعيين فتكون علامة على التعيين لا سنة في الأضحية مجردة أما إذا كان كذا فلا بأس.
أما إذا كان المراد غير ذلك فلا أدري.
س8/ ما القول فيمن يستدين قيمة الأضحية؟
ج/ الحديث الذي ذكرناه لكم فيه قول «من وجد سعة فلم يضحِّ فلا يقربن مصلانا»، ذكرنا لم أنه الأصح فيه الوقف عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا يدل على أن الأضحية متعلقة بالسعة وقد تركها طائفة من الصحابة الأغنياء أبي بكر رضي الله عنه وكابن عباس وكغيرهما.
فالذي يقترض ليضحي نقول هذا ليس مرغبا فيه لأن شأن الدَّيْن؛ لأن الدَّين غُرْم والأضحية تقرب وبراءة الذمة من الغرم الذي لو مات وهو عليه لعذب حتى يبرأ من الدين لاشك أن هذا أعظم فالأصل في ذلك أن لا يستدين ليضحي؛ لكن إذا كان عنده قرب لمجيء المال كأيام أو أشباه ذلك وأراد أن يتقرب إلى الله جل وعلا بذلك فلا حرج لأجل انتفاء المانع.
س9/ ما حكم الذبح باليد اليسرى؟
ج/ الذبح عمل عبادة وعمل شريف، والأصل في استعمال اليمنى واليسرى أن اليمنى يُتناول بها الأشياء الشريفة واليسرى للأشياء المستقذرة، فالأفضل والسنة أن يذبح بيده اليمنى، فإن ذبح باليسرى أجزأت وترك الأفضل في ذلك.
س10/ هل القول عند ذبح الأضحية: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي وكل من له حق علي هل يعد هذا تلفظ بالنية.
ج/ لا، هذا إشعار والإشعار غير النية، النية العمل التوجه توجه المتوجه إلى الشيء والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك عن محمد وآل محمد، فقال عن محمد فإن لم يقلها فلا حرج فإن المقصود النية بالقلب.(1/26)
وهنا مسألتان يظن أنهما جهر بالنية وهي الإهلال في الإحرام والإهلال أيضا عند ذبح الأضاحي والهدي وهذه كلها ليست من الجهر بالنية النية غير الإهلال هذا إهلال تعلق بالنسك والحج نسك والذبح نسك.
والله جل وعلا أمر بذكر اسم الله على هذه الذبيحة، وأن يذكر اسم الله عليها والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بين ذلك بفعله، فدل على أن قول القائل؛ بل دل على أن قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ اللهم منك ولك عن محمد وآل محمد أن هذا من الذكر وليس من النية.
س11/ إذا كنت في بلد وأهلي في بلد آخر، وأنا أريد أن أضحي بأضحية واحدة عني وعنهم فأين أريق الدم؟
ج/ بحسب الحاجة إذا شهدتها فهو أفضل، وإذا كان أهلك بحاجة إليها أو أقاربك بحاجة إليها توكل أحدا معك فذلك أيضا لا بأس به، والمصلحة بحسب المكان المحتاج فيه إذا شهدها المضحي أو من أدخله في أضحيته.
س12/ معروف أن بعض أهل البادية لا يربطون الخصيتين لكنهم يخرجونهما مع إبقاء الذكر فهل تلك الذبيحة مجزئة أضحية وهديا؟
ج/ هذا له حكم الموجوء ما دام الذكر باق فهذا يقال له خصي سواء ربط الخصيتين فضمرت أو قطعهما أو سلَّهُما هذا كله يقال له موجوء ولا بأس بالتضحية به إذا كان غير مجبوب كما ذكرت لكم في المحاضرة.
س13/ هل شروط العقيقة هي نفسها شروط الأضحية ؟
ج/ نعم العقيقة أو الأضاحي والهدي من حيث الشروط أحكامها واحدة لكن من حيث التفصيل فيه خلاف في تقسيم اللحم، وهذا له موضعه.
س14/ إذا سقط من الصبي من بطن أمه ميتا فهل يعقُّ عنه؟(1/27)
ج/ إذا استهل صارخا خرج من بطن أمه له صوت فإنه يعق عنه، وهذا باتفاق، وقال بعض أهل العلم: وكذلك إذا نفخت فيه الروح فتحرك في بطن الأم فخرج فإنه صار نفسا منفوسا، والعقيقة متعلقة بافتداء هذه النفس كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «كل غلام مرتهن بعقيقته يعق عنه يوم سابعه ويسمَّى» فإذا نفخ فيه الروح وعلامة ذلك أنه تحرك في بطن الأم ثم بعد ذلك مات وسقط ميتا فإنه يعقّ عنه؛ لأنه فداء له ولتلك النفس التي نفخت فيه، ولهذا يجري على من نفخت فيه الروح من الأجنة يجري عليه أحكام الذي خرج حيا من تغسيله ومن تكفينه ومن دفنه إلى غير ذلك؛ لأنه كان نفسا منفوسا وهذا أصح.
س15/ ما حكم من نسي التسمية عند الذبيحة؟
ج/ ذكرت لك أن التسمية تجب عند الذبيحة، وإذا نسيها فإنه يسمي إذا ذكر، فتسقط مع النسيان، وإذا ذكر فإنه يسمي، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: إن ناسا يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال «سموا الله عليه أنتم وكلوا» وهذا يدل على أن التسمي واجبة مع الذكر، فإذا تركها عمدا فإنها لا تحل لأن لها حكم ما أهل به لغير الله وإذا نسيها فإنه يذكر اسم الله إذا ذكر، ويكفي هذا.
والمقصود التسمية قول باسم الله،فقط، بعض الناس يريد بسم الله الرحمن الرحيم، لا، لأن هذا ذبح والمشروع فيه قول باسم الله التسمية، هناك فرق بين قولنا التسمية والبسملة، البسملة هو منحوت من بسم الله الرحمن الرحيم، أما التسمية هو قول بسم الله، نعم.
س16/ إن حمل لحم الهدي من منى إلى مكة أمر شاق وإننا نجد عند المنحر أناسا يسألون ولا نعلم شهادتهم، وهل يجزئ إذا أعطينا هؤلاء الهدي بأكمله أو أعطيناهم بعضه؟(1/28)
ج/ إذا كان ظاهر عليهم الفقر ظاهر عليهم الضعف ولم يظهر لك خلاف ذلك فإنه مجزئ، إذا إدعى الفقر ولا دليل على خلافه فكذلك يجزئ؛ لأن هذا صدقة والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال في الزكاة وهي أبلغ من الصدقة في هذا الموطن قال لرجلين سألاه الصدقة فقلّب فيهما النظر وكانا جلْدين فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي» وفي لفظ «ولا لقوي مكثر» وهذا يدل على أن من كان ظاهره الفقر فإنه يعطى، ومن كان ظاهره الغنى فإنه يُسأل فإن لم يكن ثَم دليل على غناه عند المعطي فإنه يعطيه ويجزئه ذلك بحسب ذمة من سأله.
ولاحظ أن قولنا هنا في المحاضرة في هذا الباب الصدقة يتصدق بها المقصود بها الصدقة على الفقراء والمساكين؛ لأنها هي التي يطلق عليها الصدقة في هذا الباب، وأما إعطاء الغني أو إعطاء الأقارب فإن هذا له ألفاظ أخر يُعبر بها عن إعطائهم فيقال إعطاء الغني هبة وإعطاء الصديق أو القريب هدية، والفقير والمسكين صدقة، ففي هذا الباب ثَم ثلاثة ألفاظ صدقة وهبة وهدية.
?????
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) لم يذكرها الشيخ.(1/29)
الجلوس للتعزية للشيخ صالح آل الشيخ
[من الدرس 34 من شرح العقيدة الطحاوية]
س1/ يقول عندي سؤال مهم جدا السؤال هو: لقد كثر الكلام في موضوع التعزية لأهل الميت والجلوس لتقبل العزاء، وقد سألت أحد كبار العلماء في هذا البلد الطيب وقال: لا بأس أن يحدد يوم ويجلس للتعزية، ودليله في ذلك أنه لما جاء خبر جعفر - رضي الله عنه - ظهر في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحزن وجلس وتقبّل العزاء من الصحابة ولكن بدون صنع الطعام، ولكن قال لا بأس بالشاي والقهوة والماء.
وقد عارض هذا الكلام أحد طلبة العلم وقال لا يجوز الجلوس للعزاء وهذا من البدعة والنياحة، ودليله الحديث الذي في البخاري: كنا نعد الجلوس بعد الدفن وصنع الطعام من النياحة.
فنرجو من فضيلتكم البيان والتفصيل في هذا الموضوع لأنه حصل مشاكل وخصومات بين طلبة العلم والعامة في ذلك؟
ج/ النياحة على الميت من خصال الجاهلية، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «ثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت»، والنياحة على الميت من خصال أهل الجاهلية؛ لكن المهم ما هي صورة النياحة؟
صورة النياحة الذي عليه تفسير السلف لها -أعني الصحابة-: أن النياحة لها صور وكن من صورها في الاجتماع على العزاء أنها ما جمعت شيئين:
الأول: أن يكون هناك اجتماع للعزاء عند أهل الميت وجلوس طويل عندهم.
الثاني: أن يكون هناك صنع للطعام من أهل الميت لإكرام هؤلاء، والتباهي بكثرة من يمكث إظهارا للمصيبة لهذا الميت.
وهذا هو الذي قاله أبو أيوب - رضي الله عنه - ورحمه قال: كنا نعد الجلوس إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة.
فالنياحة هي ما جمعت الأمرين معا: الجلوس وصنع الطعام.(2/1)
أما الجلوس للتعزية فقط فهذا ما أعلم أن أحدا من السلف قال إنه من النياحة وحده، أو أنه نهى عنه؛ بل جاء في صحيح البخاري رحمه الله([1]) أن عائشة رضي الله عنها: كان إذا مات لها ميت اجتمع النساء عندها، فإذا أتى وقت الطعام أمرت بالبرمة فأُصلحت فشربوا منها أو أكلوا منها. يعني العدد القليل أقارب عائشة رضي الله عنها وهذا يدل على أن الاجتماع والجلوس إذا لم يصحبه منكرات أخر فإنه لا بأس به.
والعلماء من أئمة أهل السنة والحديث حينما نهوا نهو عن الأمرين مجتمعين، وقالوا إن السنة هو عدم الجلوس عدم الجلوس للعزاء؛ لكن أن يكون الجلوس نياحة دون صنع الطعام هذا لا ينبغي أن يقال به، ولا أن ينسب إلى أحد من الأئمة أو من الصحابة أو من التابعين.
الجلوس أُختلف فيه وحده، هل يجوز يشرع أو لا يشرع وحده؟ أما كونه من النياحة فهذا لا يكون من النياحة إلا إذا اجتمع معه صنع أهل الميت الطعام تفاخرا، هؤلاء عندهم كل يوم هذا الميت ما أكثر الذين يحبونه، أنظر كيف البيت الذي فيه، كل يوم ويذبحون وكذا والصور قائمة فاخرا وتظاهرا وهذا هو الذين كان عند أهل الجاهلية.
أما الجلوس جلوس أهل الميت للعزاء هذا اختلف فيها أهل العلم:
والجمهور على أن السنة أن لا تخص بجلوس لا لثلاثة أيام ولا لسبعة أو يوم، وهذا باعتبار الزمن السابق؛ يعني باعتبار أزمانهم أو القرى أو الأماكن التي يمكن حصول سنّة التعزية إذا لم يجلس المعزّى، ليش؟ لأنه في السابق في البلد إذا ما جلس في بيته هو بيجلس في السوق أو يجلس في المسجد؛ يعني البلد قريبة يمكن أن يجده في الضحى يجده في العصر يعني معروف المكان وهو قريب، أما إذا كان عدم الجلوس، سيترتب عليه فوات سنة التعزية فإن الوسائل لها أحكام المقاصد شرعا.(2/2)
ولذلك الذين لا يجلسون ممن رأيناهم -أخذا بفتوى بعض المشايخ في هذه المسألة-، الذين لا يجلسون يفوت على الناس أن يعزوهم وأن يواسوهم في مصيبتهم، هو في عمله، هو عند صديقه، هو في السوق، هو راح، ما يعرف أين هو؛ بل بعضهم يتعمد الخروج من البيت حتى لا يجلس، وهذا كله مخالف للحق؛ لأن التعزية مشروعة والوسائل لها أحكام المقاصد؛ فإذا كان الجلوس للتعزية ليس معه منكر وليس معه نياحة أو صنع للطعام من أهل الميت، فإن هذا من باب الوسائل لها أحكام المقاصد، وحديث البخاري الذي ذكرت لك من اجتماع النساء عند عائشة يدل على ذلك، والمرأة الأصل فيها ألا تخرج، الأصل في المرأة أن لا تخرج فيأتي المعزي يعزي عائشة وحدها، فكون النساء اجتمعنا عندها يدل على أن الاجتماع دون صنع الطعام للمعزين أنه لا بأس به.
هذه مسألة مهمة في هذا الأمر، فمن شدّد فيها من أهل العلم قوله يخالف الأصول التي ذكرتُ لك من السنة ومن القواعد ومن فهم معنى النياحة عند أهل الجاهلية.
والذي رأيناه من علمائنا في هذا البلد وفي غيره حتى علماء الدعوة من قبل أنهم كانوا يجلسون؛ لأنه لا تكون المصلحة إلا بذلك، إذا فات ذلك فاتت التعزية سنة التعزية لا يسوغ أن تفوت.
في الرياض مثلا -في المدن الكبار- كيف ستجد من تعزيه؟ لن تجده ستفوت التعزية سنة التعزية ستفوت لأجل أن لا يحصل الجلوس.
الجلوس في نفسه مختلَفٌ فيه، ثم من قال بأن الجلوس لا يشرع؛ يعني التعبد بالجلوس وهو أن يكون الجلوس سنة، يقول أجلس مع أن البلد صغير البلد مكانين ثلاثة، يجلس لأنه يخشى أن يكون جلوسه وسيلة للنياحة.(2/3)
فإذن هذه المسألة مهمة وهي راجعة إلى: هل الجلوس له صفة النياحة صفة أهل الجاهلية أم لا؟ كيف تكون له صفة أهل الجاهلية؟ إذا كان الجلوس واضح فيه نَوْح، واضح فيه تفاخر، واضح فيه [كثرة] مثل ما يفعل فيه بعض القبائل أو بعض البادية ونحو ذلك ليس جلوس للعزاء، وإنما هو جلوس لإظهار الفخر والخيلاء بكثرة أن يقدم للتعزية بوفاة هذا الميت.
أما الجلوس بمجرده -يعني دون نياحة- فلا بأس به.
فإذن النياحة التي جاءت في السنة التي قالها الصحابة هي ما يجمع أمرين -هي التي كان عليها أهل الجاهلية- فيجتمعون يتفاخرون بكثرة الجمع ثم يصنع أهل الميت الطعام، كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة، اجتمع الناس وصنعوا الطعام فصار نياحة؛ لأنه المقصود منه إظهار الفخر والنَّوح على فَقْد هذا الرجل.
... في أي محل، المقصود يعرفونه الناس؛ لكن ما يكون في المقبرة لأن المقبرة ليست مكان للتعزية، ليست مكان للجلوس.
... إذا كان أهل البيت لا بأس، لا يكون المعزين يجتمعون عشرين ثلاثين، خمسين، صار تفاخر بالكثرة إذا كان أهل البيت، ما جرت به العادة فلا بأس.
... الإعلان في الجرائد هذا يسمى نعي، ليس نياحة، النياحة غير النعي، النعي مكروه كراهة شديدة، وبعض العلماء حرمه؛ لكن النعي المحرم هو التفاخر يعني ذكر محاسن الميت على وجه التفاخر قبل دفنه أو بعد دفنه.(2/4)
لكن من أعلم الناس بموت الميت للصلاة عليه دون ذكر أمجاده أو ذكر فضائله أو نحو ذلك فهذا ليس نعيا منهيا عنه ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى إلى الصحابة النجاشيَّ في اليوم الذي مات فيه، وقال «صلوا على أخيكم أصحمة فإنه قد مات» فصلى بهم وكبر عليه أربعا يعني صلاة الغائب، فالصحابي عبّر بأنه نعى، نعى يعني أخبر بموته تأسفا، فإذا كان النعي وهو الإخبار بالموت تأسفا لأجل الصلاة عليه فلا بأس إخبار من يصلي عليه، أما التفاخر أو لأجل الاجتماع للعزاء ونحو ذلك، والعزاء في بيت فلان فهذا من النعي المنهي عنه.
?????
[من شرح الطحاوية الدرس 42]
س2/ لا يخفى عليكم ما يحصل من مخالفات في التعزية في هذا الزمن، وأقلها اجتماع أهل الميت القريبين والبعيدين في بيت أحدهم أو في بيت الميت، وتلقي العزاء لمدة أيام، وقد اختلفت آراء العلماء في هذا.
فالسؤال: إذا حصل لي ذلك هل أترك المنزل ولا أستسلم مع أن أقاربي يحملون الإنسان على ذلك، إلى آخره؟
ج/ مسائل التعزية واجتماع أقارب الميت الذين يقصد تعزيتهم أو مواساتهم في موت قريب لهم؛ يعني الاجتماع المعروف الذي يسمى اجتماع العزاء هذا حصل الكلام؛ كلام الشباب فيه وبعض الناس في هذا الوقت من جراء فتوى من لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين في أن الاجتماع لا يشرع، أصل الاجتماع بل الذي يشرع هو التفرق.
وبقية علمائنا وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية المشايخ يقولون لا بأس بالاجتماع، وهذا القول هو الأولى والراجح؛ لأن الاجتماع إلى أهل الميت في هذا الزمن يحصل به التعزية والتعزية سنة وعمل مشروع قد قال عليه الصلاة والسلام من عزى مصابا فله مثل أجره، والمواساة مشروعة، وإذا تفرق الناس فلن تحصل المواساة والتعزية إلا بكَلَفة؛ يعني أين تلقاه هل في العمل الفلاني ستجده أو في بيته أو خرج، سيكون هناك مشقة في التتبع وفوت للتعزية.(2/5)
ولهذا قال من أفتى بمشروعية الاجتماع قال: إنه يدخل تحت قاعدة الوسيلة للمشروع مشروعة، وأن الوسائل لها أحكام المقاصد، فلما كان المقصد وهو السعي مشروعا فوسيلته الآن وهي الاجتماع مشروعة، في مثل هذه المدن الكبار مثل تفرق الناس ونحو ذلك، لا يحصل إلا بهذا، إلا فيما نذر إذا كانت القرية صغيرة أو الإنسان معروف أنه طول الوقت في هذا أو كان المعزى واحد فقط؛ يعني واحد فقط إما أن يكون في بيته أو في عمله، فهذه المسألة تختلف؛ لكن إذا تعددوا وصارت التعزية لا تحصل إلا بالاجتماع اجتماع من يُعزى أولى من تفرقهم؛ لأن التعزية التي فيها تسلية ومواساة وتحصيل لأجر لا تحصل إلا بذلك.
هنا هل الاجتماع يُعد من النياحة؟ الاجتماع لا يعد من النياحة إلا إذا انظم إليه أن يصنع أهل الميت الطعام للحاضرين جميعا ليظهر الفخر وليظهر كثرة من يحضر الوليمة ونحو ذلك، وهذا موجود كان في الجاهلية، ولهذا جاء في حديث أبي أيوب: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة.
فالنياحة تشمل شيئين صنع الطعام مع الاجتماع لماذا؟ لأن أهل الميت هم الذين يصنعون الطعام ويدعون الناس ليقال هذا عزاء فلان أنه أكبر عزاء، أو أنهم اجتمعوا لأجل فلان، ما يموت ويروح هكذا، مثل ما يقول بعض البادية، فيعملون [...] ضخمة وكذا، وهم الذين يتكلفون بصنع الطعام وبنحر الإبل وذبح الذبائح؛ ليكثر من يجتمعوا عليها، هذه النياحة المنهي عنها بالاتفاق.
أما الاجتماع اجتماع المواساة والعزاء دون صنع الطعام ودون تكلف، فإن هذا لا يدخل في النياحة، وقد جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها كان إذا مات لها ميت اجتمع النساء من قرابتها إليها، اجتمعوا إليها، فقالت: فربما حضر وقت الطعام فقامت امرأة إلى برمتها أو كذا فصنعت شيئا يأكلونه. يعني هؤلاء القرابة القليلين.(2/6)
استدل بهذا الحديث على أن أصل الاجتماع للنساء لأجل المواساة تجتمع المرأة بقريبتها أختها فلانة كذا أن هذا له اصل من هدي السلف.
أيضا الاجتماع اجتماع الرجال ليس ثم ما يمنع منه.
ابن القيم رحمه الله وغيره تكلموا عن مسألة الاجتماع وقالوا: إن هدي السلف هو التفرق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أثر عنه أنه جلس في مكان ليقبل العزاء أو نحو ذلك، وهذا صحيح لكن ليس الحال هو الحال، وليس الوقت هو الوقت، وليست الصورة هي الصورة الموجودة في هذا الزمن، فكلام ابن القيم على بابه في قرية؛ واحد معروف إذا ما لقيته في بيته تلقاه في المسجد أو في السوق أو نحو ذلك، في شيء محدود هذا صحيح.
أما في مثل بلد لا يمكن أن يلتقي فيه الناس إلا باجتماع، أو إذا تفرقوا عسر على الناس تحقيق سنة العزاء فإن الاجتماع للعزاء لا بأس به.
أما تحديد مدة فلا أصل له، تحديد مدة ثلاثة أيام سبعة أيام اختلف فيها الفقهاء لكن لا أصل له من السنة، السنة ليس فيها دليل يدلُّ على أن مدة العزاء محدودة بأيام؛ بل مدة العزاء تكون بحسَب من يأتي، إذا كان الناس يأتون يوم فينتهي، يومين وانتهى، خمسة أيام وانتهى وهكذا، وإذا كان غالب أحوال الناس أنهم في ثلاثة أيام الأول ينتهون؛ لكن لا اصل لتحديد المدة في الشرع.
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])عن عائشةَ زوج النبيّ - صلى الله عليه وسلم - «أنها كانت إذا مات المَيْتُ من أهلِها فاجتمعَ لذَلك النساءُ ثمّ تَفَرّقْن -إلا أهلَها وخاصّتَها- أمرَت ببُرْمَةٍ من تَلْبينةٍ فطُبِخَت, ثمّ صُنِعَ ثريدٌ فصُبّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كلنَ منها, فإِنّي سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: التّلبينة مَجمّةٌ لفؤاد المريض, تَذهَبُ ببعضِ الحُزْن». وهو لفظ البخاري.(2/7)
الحجّ عبادة وميدان دعوة
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه ?إِنَّ أَوَّلَ بَيْتِ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا?[آل عمران:96]، والحمد لله الذي قال أيضا في كتابه ?جَعَلَ اللهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ?[المائدة:97].
فله الحمد على آلائه حمدا كَثْرا لا ينقطع ما دامت الأنفاس مترددة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة أدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، وأسأله جل وعلا أن يعيذنا أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.
وهذه دعوة العلماء وطلاب العلم العظيمة؛ أن يستعيذوا بالله من أن يزلوا أو يزلوا أو أن يضلوا أو يضلوا أو يجهلوا و يجهل عليهم.
هذا الموضوع:
موضوع الحج عبادة وميدان دعوة
انبثق من قول الله جل وعلا لإبراهيم عليه السلام ?وَأَذِّنْ فِي النَّاِس بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ?[الحج:27-28]، وقد تكلم أهل العلم من المفسرين وغير المفسرين أنّ الله جل جلاله في هذه الآية جعل العلّة من تأذين إبراهيم في الناس بالحج أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا اللام هنا لام التعليل أي من أجل أن يشهدوا منافع لهم.
وقالوا أيضا (مَنَافِعَ) هنا ذكرت ولم تعرف ولم تضف إضافة تخصيص؛ وذاك لتكون مطلقة فتكون عامة في أنواع المنافع، فكل منفعة جعلها الله جل وعلا منفعة في الحج فإنها مقصودة.
ولهذا اختلف المفسرون في رؤية هذه المنافع، واختلافهم من باب اختلاف التنوع:(3/1)
فقالت طائفة منهم: إن المنافع في قوله (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أنها التجارة. وذلك منهم نظر إلى قول الله جل وعلا في سورة البقرة ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ?[البقرة:198].
وقال آخرون: بل المنافع هي أن يأكلوا من اللحوم وأن يدّخروها وأن يتمونوها؛ لأن الله جل وعلا قال في سورة الحج ?وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافّ?[الحج:36].
وقالت طائفة: المنافع هنا هي العفو والمغفرة والخروج عند الحج من الذنوب كما ولدت الإنسان أمه؛ وذلك لقول الله جل وعلا ?فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى?[البقرة:203]، وما دلت عليه الأحاديث الصحيحة في ذلك منها ما خرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد»، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «العمرة إلى العمرة مكفرات لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»، وقال أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فمعنى ذلك أن الحاج إذا حج فاتقى فلم يرفث ولم يفسق رجع بأعظم المنافع؛ وهي أنه يرجع خاليا من الذنوب، ولاشك أن هذا شهود منفعة عظيمة.(3/2)
ولهذا كان الصحيح من أقوال أهل العلم في قول الله جل وعلا (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) يعني أن الحاج سواء تعجل أو لم يتعجل فتأخر فإنه يرجع من حجه ولا إثم عليه بشرط أن يكون متقيا، لهذا قال بعدها (لِمَنِ اتَّقَى)، فقوله (لِمَنِ اتَّقَى) يرجع إلى نفي الإثم في الموضعين، وليس راجعا إلى نفي الإثم فيما إذا تأخر؛ يعني أن الحاج ينتفع أعظم الانتفاع بأنه يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه وهذه منفعة عظيمة.
وهذا كله صحيح.
وأيضا مما قيل في تفسير الآية: أن المنافع أن يشهد الحجاج الكعبة وأن شهدوا الطواف والسعي ورمي الجماع وذكر الله جل وعلا، فيقيمَهم ذلك الشهود على توحيد الله جل جلاله؛ لأنهم يرون الكعبة ويتذكرون إبراهيم عليه السلام الذي بناها، فيتذكرون بذلك حق الله جل وعلا الذي هو توحيده سبحانه وخلع الأنداد والبراءة من الشرك وأهله.
ومن المنافع التي تتحصل -كما ذكره الشيخ الشنقيطي في تفسيره-: شهود الأمة بعضهم لبعض، والتقاء المسلمين بعضهم لبعض، وما في ذلك من الوحدة الإسلامية التي جاءت فيها الآية ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً?([1]) يعني أن الدين واحد، وهذه الأمة إذا التقت على دين واحد واجتمعت على دين واحد فهذا أعظم المنافع.
وهكذا في أقوال كثيرة.
وابن جرير رحمه الله إمام لمفسرين لما أتى لهذه الآية وساق بعض الأقوال التي ذكرت قال ما حاصله: إن هذه الآية لا صار فيها إلى قول دون قول؛ بل إن المنافع تشمل ما ذكر وتشمل كل ما فيه منفعة للحاج، فكل ما فيه منفعة للحاج في أمر دينه ودنياه في أمر دنياه وفي أمر آخرته، فإن شهوده ذلك في الحج من مقاصد الحج.(3/3)
وهذا التأصيل مهم حتى نرى أن الله جل جلاله جعل من مقاصد الحج الشرعية أن يشهد الحجاج المنافع لهم، وهذه المنافع منها أن يؤدوا فرضهم، أو أن يؤدوا نفلهم، وأن يرجعوا بالأجر والغنيمة من الخيرات، أو أن يرجعوا بالمال، أو أن يرجعوا وقد خلوا من الذنوب والآثام، وقد التقى بعضهم ببعض إلى آخر ذلك.
فإذن المنافع كثيرة.
وإذا كان كذلك كان من تحقيق المقاصد الشرعية في الحج أن يحقق المسلمون كل هذه المنافع ما استطاعوا، ما كان منها مباحا فهو مباح لهم كالتجارة، وما كان منها مستحبا فهو مستحب لهم كنشر العلم والدعوة وأشباه ذلك، وما كان منها واجبا فهو واجب عليهم وهكذا.
والحاج أيًّا كان يجب عليه أن يكون مخلصا لله جل جلاله في الحج، وقد جاء في الأثر؛ بل في الحديث «لا تقوم الساعة حتى يكون حج فقراء أمتي للمسألة وحج أغنيائهم للسياحة»، والحج ركن الإسلام الخامس، والإخلاص فيه واجب بل شرط صحته.
ولهذا لما تكلم العلماء على الذين يُستأجرون للحج قالوا: إن من أخذ المال ليحج فإن هذا جائز؛ ولكن من حج ليأخذ المال فهذا الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق؛ يعني من نصيب.
يعني أن المرء إذا أراد أن يحج ولكن ليس عنده نفقه وله رغبة في رؤية الكعبة ورؤية المشاعر والتعرض لنفحات الله في تلك المواقف العظام وحضور يوم عرفة وشهود تلك الساعة الأخيرة والقيام بما يتعبد به المسلمون في تلك المناسك والمشاهد العظيمة، ولكن ليس عنده مال، فليس ثَم بأس أن يأخذ من المال ما يعينه على الحج عن نفسه أو عن غيره؛ لكن من ليس له رغبة في الحج أصلا؛ ولكن إنما حج ليأخذ وإنما ليس له رغبة في رؤية الكعبة ولا رؤية المشاعر ولا أن يكون مع المتعبدين هناك، فهذا قال فيه شيخ الإسلام وغيره قال هذا الأشبه -يعني من حج ليأخذ- الأشبه أنه ليس له في الآخرة من خلاق. وهذا لأجل أنه فاته الإخلاص لله جل جلاله في هذه العبادة أو ضعف الإخلاص فيه جدا حتى كان رغبته في أمر الدنيا.(3/4)
التجارة أُبيحت في الحج، ولو كان الحاج ذهب ليتاجر فليس عليه جناح، كما قال جل وعلا ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَات?[البقرة:198] الآية، قال العلماء: إرادة الأمر الدنيوي فيما يراد به وجه الله جل وعلا إذا كان مأذونا به من جهة الشارع فلا يُعَدُّ قصده إخلالا بالإخلاص، ولا يدخل ذلك في قول الله جل وعلا في سورة هود ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّي إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ لاَ يُبْخَسُونَ(15)أُولَئِكَ الذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّار?[هود:15-16]، وقد ذكر العلماء إمام الدعوة وذكر أبناؤه وتلامذته أربع صور تدخل تحت هذه الآية، وليس منها أن يكون الأمر الدنيوي قد رتّبه الشارع على العبادة، مثل أن يصل رحمه امتثالا لأمر الله؛ ولكن أيضا ليحصل على الثر الذي رغب فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله «من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»، من جاهد لإعلاء كلمة الله ولكن له رغبة في المال فهذا قد حث عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقال «من قتل قتيلا فله سلبه» ترغيبا في أن يقاتل وأن يجاهد ولكن يكون قصده الله جل وعلا ويكون هذا معه.
وكذلك من أراد بالحج أن يكون حاجا أو أن يتعبد؛ ولكن مع ذلك أن يربح ما يربح من التجارة فلا بأس بذلك ولا يعد ذلك منافيا لإخلاص لأن الله جل جلاله أذن بذلك وقال (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ)، بخلاف الذي ليس له همة في الحج إلا أن يكون رابح للمال فلم يقصد أن يتقرب إلى الله بالحج وإنما قصده إلى المال فهذا الشبه أن يكون ممن يريد حرث الدنيا.(3/5)
المنافع كثيرة ولهذا نقول: إذا تحقق الإخلاص ورام العبد الحج فلا بد أن يرتب نفسه في أن يكون ممن تعرَّض لهذه المنافع العظيمة التي هي مقصد الحج، فيكون متعرِّضا من أول ما يذهب مستحضرا أن يرجع من حجه وقد خلا من الذنوب، (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) والحج حج البيت يبدأ من قصدك البيت؛ لأن الحج في اللغة هو القصد المكرر لمكان معظم.
إذا كان كذلك فمنذ أن تذهب للحج تكون أول منفعة تريد أن تشهدها وتحظى بها أن ترجع وقد خلوت من الذنوب، والحج المبرور يكفر ذنوب السنة التي سلفت.
الحج المبرور: يعني الذي ليس فيه معصية -يعني من الكبائر أو من إدمان الصغائر-.
فإذا كان كذلك كان أول منفعة يجب أن نشهدها أن تخلى من الذنوب والمعاصي، وأن نسعى في أن لا نرفث ولا نفسق.
الرفث: اسم جامع للحديث مع النساء، قد يكون الحديث عن مقدمات الجماع، أو قد يكون في تبسيط المرأة، أو قد يكون في الحديث مع المرأة، إلى آخر ذلك، فكل ما يتعلق على الحديث مع النساء مما يكون معه شهوة، فإن ذلك من الرفث، واجتنابه مما هو مؤكد في الحج.
وهذه الوصية أو هذه المنفعة تحتاج إلى تواصٍ بها وإلى دعوى إليها؛ لأن كثيرين يحجون ويكثرون في حجهم من الرفث، يكثرون من المزاح، يكثرون من القيل والقال وكأنهم في زمن لهو، وهذا لاشك من تعريض الحاج نفسَه لعدم شهود هذه المنفعة العظيمة؛ لأنه لابد من التقوى (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى).
من منافع الحج العظيمة التي تشملها هذه الآية أن يتعلم الحجاج ما به تكون منفعتهم في الآخرة.
أما به منفعتهم في الدنيا فالناس تقريبا أساتذة في ذلك.
لكن ما به تكون منفعتهم في الآخرة هذا الذي الناس اليوم بأشد الحاجة إليه، وإذا كان زمن الحج قصيرا، فإن الواجب أن يكثف العبد جهده في الحج في التعليم؛ تعليم الجاهل وفي تبصير الغافل وما أشبه ذلك .
والتعليم هو الذي تحتاجه أن تبثه في الحجاج.(3/6)
ولهذا أطرحُ رأيا لعله أن يكون مجالا للتطبيق لكل من يذهب إلى الحج ويكون عنده فضل علم في أن يبلغ هذا العلم؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نادى في الناس يوم عرفة فقال «اللهم هل بلغت اللهم فاشهد»، وقال «نظَّر الله امرؤا سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع».
فتبليغ العلم هذا من الضروريات، وأين تجتمع لك هذه الأمم وهذه الوفود حتى تكون في مكان واحد فتسعى فيها بالعلم؟
ولهذا من الغريب أن يكون ثم من طلبة العلم أو من الحجاج الذي عندهم فضل علم، بينهم أو فيما حولهم مخيمات كثيرة فيهم من المسلمين من هو جاهل بأمر التوحيد وأمر العقيدة -يعني العقيدة العامة- وكذلك بأمر العبادة وأمور أركان الإسلام والمعاملات إلى آخره.
وأعظم ذلك أمر العقيدة، لهذا لو توطن نفسك على أن تكون في هذه الحجة أن تكون في بعد ما فرض ناشرا للعلم ومعلما للجاهل، وقد ذكر أهل العلم أن طلب العلم وتعليم العلم أفضل النوافل، وهي أحد الروايات عن الإمام أحمد، فأفضل نوافل العبادات طلب العلم وتعليم العلم، ولهذا لما انصرف الناس عن الإمام مالك فذهبوا يصلون وهو يتحدث يحدث الحديث ويبين العلم قال: ما الذي ذهبوا إليه بأفضل مما تركوه.
فأنت قد تختار في الحج أن تكون مثلا ذاكرا أو أن تكون تاليا، وهذا أفضل إذا لم تكن المنفعة عندك متعدية يعني لم يكن العلم عندك واسعا فتستطيع أن تؤديه لغيرك، أما إذا كنت طالب علم فإن الأفضل في حقك أن تسعى في تبليغ العلم؛ في تبليغه في أصل الأصول وهو العقيدة.(3/7)
ولهذا الأخ الإمام لما تكلم في أول الكلمة وقال: إن المسلمين في هذه الأزمان يحتاجون أشد الحاجة إلى أن يعلَّموا وأن يدعوا وهذا أمر متفق عليه، والحج هو الميدان الأول، والبلاء الذي أصاب المسلمين ليس من جهة عدو خارجي فحسب؛ بل البلاء من شيء بينهم في أنفسهم من الإضلال عن العقيدة الصحيحة وعن التوحيد الخالص، فهناك من شبه لهم في أمر الاعتقاد، وهناك من شبه عليه في أمر التوحيد، فجعلهم يسعون في عبادة غير الله، وجعلهم لا ينكرون البدع، وجعلهم لا يفرحون بالسنن، إلى آخر ما هنالك.
وهذا من البلاء الذي تولد في الأمة من جراء دعاة الباطل فيها من قرون.
ولهذا أعظم ما يدعى إليه بالاتفاق العقيدة، فالعقيدة أولا لأنها هي الواجب الأول، فلهذا لو عملنا شيئا من التركيز في أن ينطلق كل أصحاب حملة، وأن لا يتكلموا طول الوقت مع أنفسهم أو يأتوا يحضرون يسمعون كلمات تلقى في الحملات مثلا أو تلقى في المخيمات ربما كانت كلمات يمكن أن يسمعوها في غير هذا الوقت؛ لكن الأهم في ميدان الحج أن يكون العلم الصحيح الذي معك في العقيدة بأدلتها، في العبادات بأدلة ذلك مما تيقنت منه وليس عندك فيه شك أو شبهة أن تبلغه لمن هو جاهل.
المسلمون اليوم ليسوا بحاجة إلى تفريعات، المسلمون اليوم بحاجة إلى أن يعلموا ألف باء في العقيدة والتوحيد، يعلمون أوائل ومقدمات ومهمات الإخلاص، والعبادة والديمومة لله جل وعلا وحده دونما سواه، وذلك لأن الشرك فشى في الناس الشرك الأصغر والأكبر.
فلهذا كان من المتأكد شهودا للانتفاع وإشهاد له وانتقالا به أن تسعى في تحصيل هذا المقصد العظيم من مقاصد الحج الذي شرعه الله جل وعلا في قوله (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) وأن تشهد الناس أعظم منفعة لهم بأن تدله على توحيد الله جل وعلا وأن تعلمهم ذلك.
الحاصل أن الذين يعلمون لتوحيد وينشرون العقيدة في الحج على أقسام:(3/8)
منهم من ينشر ذلك بالإنكار؛ يعني إذا سمع منكرا في العقيدة أو شيء أنكر واشتد وغلظ أو أغلظ في الإنكار على من فعل ذلك، ولا يسعى في التعليم ابتداء، وإنما عنده الإنكار، فقط.
وصنف لا يُنكِر ولكنه يعلم.
وصنف ثالث يعلم في ميدان التعليم، وإذا وجد منكرا من المنكرات المتعلقة بالعقيدة أو بالتوحيد أو المتعلقة بالعبادات فإنه ينكر ذلك، وينصح بالأسلوب الحسن الذي معه الانتفاع.
وتذكَّر في هذا كله أن الناس بحاجة دائما إلى أن تمتثل قول الله جل وعلا ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا?[الإسراء:53]، فأمر جل وعلا أن يقول العباد التي هي أحسن (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) فإذا وجدتَ كلمة حسنة وكلمة أحسن منها فقد أمرت بالأحسن فاترك الحسنة إلى الأحسن؛ لأنك لا تتكلم عن نفسك، وإنما تتكلم تريد أن ترغب الناس في دين الله جل جلاله، وهذا يلزمك أن تتلفظ بأحسن الألفاظ، وقد قال جل وعلا ?وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أَحْسَنْ إِلاَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ?[العنكبوت:46]، ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?[النحل:125].
فإذن ميدان التعليم في الحج يكون بتعليم الجاهل مع الصبر عليه، فتسعى في ذلك تنتشر من المخيم الذي أنت فيه أو الحملة التي أنت فيها أو المكان الذي أنت فيه، تتفقد من حولك، فتصادق هذا أو تخاطب هذا، وتتعرف عليه وتبدأ تتكلم معه في مناسبات وتتلقف حتى تدخل العقيدة الصحيحة في قلبه.(3/9)
ولا تظن أنك لما أنعم الله جل وعلا عليك بهذه العقيدة الصحيحة أن الآخرين لو تكلمت معهم لن ينتفعوا، هذا من تخييل الشيطان وقد قال الله جل وعلا ?كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا?[النساء:94].
كذلك كنا من قبل في دعوة الإمام المصلح رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة؛ لكن بالتعليم وبالدعوة وبتواصل جهود أهل العلم مع جهود الولاية في هذه البلاد انتشر الخير في الناس.
كذلك هنا ينطبق عليه ما انطبق علينا «فلا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» «الكلمة الطيبة صدقة» فإذن:
الخطوة الأولى: أن تنتشر من المكان الذي أنت فيه إلى ما جاورك في تعليم لأصول العقيدة، في تعليم لمعنى الشهادتين، في تعليم التوحيد بالأسلوب الحسن وبالأدلة لا تستعجل في الحكم؛ يعني أن تقول له: أن هذا شرك وهذا كفر وهذا ضلال وهذا طاغوت، إلى آخره.
فإن النفوس فيها من عدم الاقتناع بالحق ما يجعلها لا تقبل هذا الأسلوب؛ ولكن قل كما قال المصلحون من قبل مثلا: الله خيرٌ من هذا، إذا سمعت كلمة شركية، أو تأتي بأدلة فيها تحريم دعوة غير الله جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]. وتدخل بالألطف فالألطف حتى تصل معه بعد حين إلى النتيجة.(3/10)
في أمر العقيدة تحتاج معها إلى إيضاح وإلى توسع شيئا فشيئا، ومن المهم أن تكون مقدما للأهم فالمهم، لا تبحث مثلا في الشرك الأصغر، وأنت لم تتيقن من أن الذي أمامك قد كفر بالطاغوت، وقد فهم معنى كلمة التوحيد، هذا يكون من البداءة من المهم؛ ولكن تترك الأهم، وقد قال إمام الدعوة في كلامه على حديث ابن عباس في إرساله معاذ إلى اليمن على قوله «فليكن أول ما تدعوهم إليه» قال الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد فيه البداءة بالأهم فالأهم، وهذا من أصول الدعوة والتي سماها بعض المعاصرين فقه الأولويات؛ يعني أن تدرج الفرد وكذلك أن تدرج المجتمعات فيما هو أهم، أما أن تأتي إلى ما هو أقل وأن تترك المهمات فلا بد أن يكون ثم سوء في التصرف ونتيجة سيئة في هذا التصرف؛ لأنك أخللت بأمر شرعي وهو البداءة بالأهم فالأهم، وكثيرين ممن دعوا كانت هناك شبه في قلوبهم من أثر دعوة من دعاهم؛ لأنه لم يحسن الأسلوب ولم يبدأ بالأهم فالأهم لم بدأ بالأهم بالأدلته تاركا الحكم إلى فترة لاحقة.
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما خاطب الناس لم يأت بالحكم أولا، وإنما بين لهم الأدلة أولا وشرح لهم آيات الكتاب وأحاديث النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأوضح لهم ذلك شيئا فشيئا، حتى أقيمت عليهم الحجة، ثم بعد ذلك حكم عليهم الحكم المعروف بحسب ما يناسب الحال.
إذن فأول الأمر أن تنظر حالة المدعو هذا، تنتقل من ماكنك الذي أنت فيه إلى ما حولك، وهذا لاشك أنه من المهمات.
إذا كان من الموحدين وعرفت ذلك تلحظه في عبادته، الحظه في صلاته، الحظه في تلاوته، وهكذا تنمي معه الخير شيئا فشيئا.(3/11)
من المهمات أيضا أن تلحظ أن زمن الحج قصير لا يمكن أن تشرح فيه كل مسائل التوحيد وكل مسائل العقيدة، فإذا تلقيت مع جار لك في الحج وأخذت معه، رجل من هذه الأمصار المتفرقة، فحبذا لو أخذت عنوانه وقمت بجهد شخصي معه مع شخص واحد أو مع أكثر بما قواك الله بأن تسعى في مراسلته، تأخذ العنوان وتسعى في مراسلته، ترسل له كتيبات في العقيدة في التوحيد تبدأ معه الدعوة في مراسلات.
وقد جُرب هذا في بعض الميادين بمراسلات مع أناس مفتوحين غير معروف، فجاءت الأجوبة بما يُنتِج معه أن المراسلات عظيم من ميادين الدعوة تُرك في هذا الزمن، ولم يغشه إلا الأقلون، لم؟ لأن الرسالة ليس فيها مخاطبة، ليس فيها حجاج، ليس فيها وجه أمام وجه، ليس فيها تعبيرات إلا تعبيرات القلم أمام الورق، فهذه تستطيع أن تتصرف فيها وأن تدخل فيها إلى قلب المتحدث إليه.
مثلا من ميادين الدعوة التي أخذ بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ميدان المراسلات، فله مع كثير ممن حوله طلبة العلم والعلماء ومن الناس والأمراء فيما حوله له معهم مراسلات حَبَّبَ إليهم الخير، وكان مع تلك المراسلات ملا أن كتب إلى أحد القضاة في الأحساء واسمه عبد الله بن عبد اللطيف، وكتب للشيخ ينتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أقواله، فكتب له الشيخ رسالة لو قرأتموها لكانت نبراسا لنا في كيف يكون التحبيب بالرسائل؛ لأن الرسالة فيها لطف اللفظ وفيها عدم مواجهة الوجه للوجه وفيها وفيها مما يتيسر معه قبول الحق.
قال الشيخ رحمه الله في رسالة له: وأنا منذ رأيتك قد كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان إن هذا هو الحق، ما زلت أدعو لك لأن ما كتبته مخالف لما عليه أهل بلدك من العقيدة؛ يعني الأشاعرة، وما زلت أدعو لك وقد دعوت لك في صلاتي، وكنت أقول لعلّ الله جل وعلا يجعلك فاروقا لدين الله في آخر هذه الأمة، كما جعل عمر بن الخطاب فاروقا لها في أولها.(3/12)
هذا الأسلوب والرسائل ولين اللفظ لاشك له أثر في النفوس عظيم، لهذا ينبغي لكل واحد منا أن يسعى في أخذ ولو عنوان واحد يتعرّف عليه ويراسل، وأن يكون الغرض من ذلك غرض ديني دعوي صحيح، وأن يبين له شيئا فشيئا ويدرجه على مدى سنة سنتين ليس هذا بالكثير في سبيل إصلاح النفوس.
أيضا من المنافع التي ينبغي أن نشهدها في الحج: أن الحج ميدان يأتي فيه المسلمون من كل مكان، ويأتي فيه علماء من أماكن كثيرة، ويأتي فيه دعاة من بلاد كثيرة، ويجتمعون، فإذا تعرف العلماء على العلماء والدعاة على الدعاة، كان في هذا سبيلا لاجتماع الأمة على كلمة سواء وعلى نصرة للدين وللعقيدة وللمنهج الصحيح، لم؟ لأن تلاقح الأفكار يكون بالالتقاء، وقد يكون الداعية في بلد له ظروفه لا يسمع في عمله الرأي الآخر؛ لكن لو سمع الرأي الآخر لكان عنده تصحيح لمنهجه وتصحيح لطريقته.
مثلا بعض الدعاة قد لا يهتم أصلا بمسائل البراءة من المشركين، أو لا يهتم أصلا بدعوة الناس إلى التوحيد، تراه مثلا يرى قبة على قبر فلا يتغير قلبه؛ ولكن إذا رأى صورة في مجلة عارية تغيّر قلبه وقام وقعد، مع أن هذه معصية وكبيرة من الكبائر ولكن تلك وسيلة إلى الشرك أعظم وأعظم، وهذا من الخلل الذي في النفوس أن يكون في القلب عدم غيرة على حرمات الله العظمى، عدم غيرة على التوحيد، عدم غيرة على السنة، وأن لا يتحرك القلب إذا رئيت عبادة غير الله، أو إذا رئي الشرك أو رئيت البدع؛ لكن يتغير إذا رأى فسادا في الأخلاق أو فسادا في الاقتصاد أو نحو ذلك.
هذا خلل في المنهج؛ لأنه رُبِّي على أن يغار على الأخلاق، وأن لا يغار على التوحيد.(3/13)
وهذا لاشك أنه إذا قامت الأمّة على ذلك فإنه خلل في التربية عظيم، فكيف تفقه الأمة أن يكون تصحيح الوضع بتصحيح القاعدة، متى تفقه ذلك؟ وأن يكون تصحيح القاعدة بتصحيح قلوبها بتصحيح قلب الناس ?يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ(88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?[الشعراء:88-89]، والقلب السليم هو القلب المخلص لله جل وعلا، والإخلاص يتبعه السلامة من الشبهات والسلامة من الشهوات.
متى يربى الناس على ذلك؟ لاشك أن الحج ميدان لأنْ تكون هناك تبادل في الأفكار تبادل في الآراء في أن نجعل في مستقبلنا الدعوة في منهج هو منهج السلف الصالح، وأننا في هذا الزمن بحاجة أشد ما نكون إلى الدعوة المتفق عليه إلى المجمع عليه إلى ما تتفق عليه الأطراف جميعا، وأننا إذا اجتمعنا على ذلك وسرنا بالناس على هذا زمنا طويلا، فإن انتشار الصحوة وانتشار الدعوة سيكون أكثر وأكثر، وإنما تعبت الأمة في أن كل طائفة تتعصب إلى فرع من الفروع، يعذر المرء يتركه، وتترك أصل الأصول الذي جاءت الأنبياء والمرسلون بتحقيقه والدعوة إليه.
لاشك أن هذا كل واحد منا بحاجة إلى أن يعتقده، وإلى أن يدعو إليه.
وأهل هذه البلاد كما يقول القائل عليهم الشرهة يعني عليهم التبعة الكبيرة في أن يؤصلوا هذا في الناس.
إن لم تنطلق دعوة التوحيد واجتماع الجماعات واجتماع الفئات والطوائف على كلمة واحدة أو على التقاء على مجمع عليه وهو منهج السلف لصالح والدعوة إلى التوحيد والعقيدة، نستمر على ذلك سنين طويلة، إن لم نجتمع تجتمع الصحوة ويجتمع الدعاة في البلاد على ذلك، فنظل نكرر أنفسنا.(3/14)
وإذا لم يقم أهل هذه البلاد بهذه المهمة، فإنّ غيرهم لن يقوم، والحساب عليهم أشد؛ لأنهم قد رضعوا هذه العقيدة مع لبان أمهاتهم، وقد درسوها وهم لم ينبت لهم ريش، فدرسوها في الابتدائي ودرسوها في المتوسط، وسمعوها ليل نهار، وسمعوها في الدروس؟ فمتى ينطلقون بها متى يحببون للناس أن هذا الأصل هو الذي يجب أن يجتمعوا عليه الناس وأن يدعى إليه؟
نعم يحتاج الداعية في ذلك إلى أن يجعل الحج موسما لأنْ يكون التقاء الجميع على العقيدة الواحدة، على التقوى، على الصلاح الذي قال الله جل وعلا فيه ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً?[الأنبياء:92] يعني الأمة في هذا يعني الدين دين واحد وليس بدين متعدد.
وهذا الدين الواحد الذي يجب أن نجتمع عليه هو ما أجمعت عليه الأمة، أما ما صار فيه اختلاف فهذا يؤجل تؤجل مناقشته ويؤجل البحث فيه إلى مرحلة أخرى من مراحل الدعوة إلى دين الله.
أما أن نكرر أنفسنا وأن يكون كما صار في حج مضى ومضى ومضى، أن يُسمع في محاورات وأن يسمع في ندوات الكلام على أمور فرعية وتؤصل وتنمى، هذا لاشك أنه ليس مطلوبا إلا لمن تحقق فيه الأصل، فينتقل بعد تحقيق الأصل فيه إلى الأهم الثاني ثم الأهم الثالث وهكذا.
أما أن يأتي بالنسبة لعموم المسلمين وأن تترك أصول الديانة وأصول العقيدة وأن يترك الدعاة غرس الملة وغرس العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص في النفوس، هذا لاشك أنه تضييع لأهم المهمات التي رشد إليها؛ بل أمرها بها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ معاذا حين قال «إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله جل جلاله» كما هي رواية في البخاري في كتاب التوحيد .
فإن هذا قاعدة عظيمة من القواعد.
إذا انطلقت وأنت في الحج تشهد الناس المنافع في أمور شتى.(3/15)
أصحاب الحملات أيضا عليهم مسؤولية في أن يشهدوا من معهم منافع، وهذه المنافع هي المنافع الدينية، في أن يجعلوا حجهم -حج الناس- وفق السنة وأن يكون هذا الحج ييسر لهم، وأن لا يشغلوا الناس بأمور لا طائل تحتها، وأن لا يتعبوا الناس في عدم تحقيق شروط العقود التي تعاقدوا معهم عليها؛ لأن الحاج رغب في حملة كذا وكذا حتى يتيسر له حجه، فصاحب الحملة ليحتسب وليجعل عمله مخلصا فيه لله جل وعلا مع ما قد يناله من الربح والتجارة؛ لكن ييسر للناس الحج حتى يتفرغوا لشهود المنافع التي جعلها الله جل وعلا من مقاصد مشروعية الحج العظيمة.
فالحج عبادة عظيمة، والحج به يحصل للعباد أيضا منافع في دينهم بأنواعه وفروعه وكذلك في دنياهم.
فإذن الحملات تحتاج إلى ترتيب، تحتاج إلى أن يكون هناك فيها إشهاد لمن معهم المنافع بقدر الإمكان في التوجيه والتربية والدعوة على وفق المنهج الصحيح طريقة السلف الصالح وألا يسلكوا البدع والمحدثات والآراء المختلفة؛ لأن هذه تشتت الناس.
فالناس اليوم مع هذا المد الذي ترونه من صرف الناس عن الدين أصلا بالهجوم من جهات كثيرة من جهات خارجية من الشرق أو من الغرب كما ترون.
نحن بحاجة الآن إلى أن نحبب الدين للناس حتى لا يبعدوا عنه، هذا الذي نحن بحاجة إليه فلنسعى إلى أن تكون هذه الحملات ميدانا للدعوة الصحيحة حتى يستقيم الناس بعد الحج على طاعة الله جل وعلا ويكونوا من أصحاب الاستقامة وممن رضي الله عنهم.(3/16)
مسائل العبادات كثيرة والتوجيه فيها بإشهاد المنافع كثير، والعبادات تحتاج إلى فقه في الإرشاد، والذي يحصل في الحج أن يتكلم من يتكلم في إفتاء وهو ليس مؤهل للإفتاء، إما مفتي في حملة، أو مفتي مع مجموعة مع زملائه أو نحو ذلك، وهذا لاشك أنه مما يرغب عنه الصالحون، فالتعجل في الفتوى أو أنه إذا قرأ شيئا أو تعمله بأنه يحق له عند نفسه أن يفتي، هذا ليس بصحيح وليس بمطرد؛ بل لابد أن يتعلم ما عليه الفتوى في هذه البلاد، ما يفتي به أهل العلم وما كان عنده فيما قرأ يشكل عليه في شيء مشكل عليه الفتوى فإنه يسأل أهل العلم ويراجعهم، فليس ملزما هو بأن يفتي وليس هذا بفرض عليه، فإن الحديث «من سئل عن علم فكتمه» هذا إذا تعين عليه، فأما إذا لم يتعين عليه فهو في سعة، والحوادث عن الصحابة كثيرة رضوان الله عليهم في إحالتهم المستفتي إلى آخر وإلى ثالث وإلى رابع حتى ربما رجع المستفتي إلى من استفتاه أولا بعد سبعة أو أكثر.
وهذا هو الذي ينبغي، والذي يحصل من الإخلال مما ينبغي في الحج أن نجعل الحج ميدانا للتفاخر بالقراءات وبالعلم، هذا لا ينبغي([2]) وهو من ضعف الورع؛ لأنه يقرأ قليلا ثم بعد ذلك يأتي يكون هو مفتي المخيم أو مفتي الحملة ونحو ذلك، هذا لا شك أنه مما يتورع عنه الصالحون ويتورع عنه الأتقياء.
أما من لديه علم ويعلم ما عليه الفتوى ويعرف أقوال أهل العلم ويتجنب الأقوال الشاذة، فهذا فعه لإخوانه فيما عمله من المسائل بحجته أو بإحالته على من قاله من أهل العلم فهذا لاشك أنه من تيسير الفتوى على الناس.
أيضا مما ينبغي التنبه له في الحج أنْ نحفظ ألسنتنا في الحج من القيل والقال، والقيل والقال والغيبة والبهتان إذا كان موجودا قبل الحج فإنه لا يجوز أن يكون في الحج، إذا كان موجودا بظلم من الناس واكتساب للمحرم من نيل بعضهم ببعض، حتى صالح من صالح، وشخص طيب من آخر أيضا مثله، وهذا يغتاب هذا وهذا ينم على هذا إلى آخر ذلك.(3/17)
فإن الحج ميدان لأن نربي فيه ألسنتنا وأعمالنا على أن لا نقول ولا نتصرف إلا على وفق الشرع، هناك أهواء متعددة وهناك آراء مختلفة؛ ولكن لا يجوز أن جعل هذه الأهواء مسيطرة علينا وحكم على الشرع، الله جل جلاله قال ?لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ?[النساء:114]، فقط، هذا هو الذي فيه الخير: صدقة أو معروف وهو ما عرف حسنه في الشرع أو إصلاح بين الناس، وأما ما عدا ذلك فهو عليه وقد تدخل في أن تكون من أهل الفسوق؛ لأن الفاسق اسم فاعل الفسق وهو ضد الصلاح، والصالح من عباد الله هو القائم بحقوقه وحقوق عباده، فالذي يفرط في حقوق العباد يفرط في أعراضهم يفرط في أموالهم إلى آخره، فليس من أهل الصلاح، وبالتالي كان من أهل الفسق، فيرجع من حجه وليس من أهل تلك الفضيلة العظيمة.
لهذا لابد من ضبط اللسان في أن لا تتكلم في أحد إلا بما أُذن به في الشرع، تتكلم في مدح في الثناء عليه حتى ترغب الناس على الخير هذا طيب، أما الغيبة أما البهت أما القيل والقال، حتى ولو جعل ذلك في لباس الديانة، فإن هذا ينبغي التخلص منه في الحج إلا ما كان منه مما أذن فيه شرعا فإن هذا مطلوب في كل وقت، قال جل وعلا ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53].
ولاحظ قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمن قال له: يا رسول الله أوصني. قال «لا تغضب» قال: أوصني، قال «لا تغضب»، والغضب يكون ابتداء، ويكون أكثر عند الحوار وعند النقاش وإذا غضب المحاوِر أو المحاوَر أو غضب الاثنان اللذان يناقشان المسألة، فإن الغضب يجعل المتخاصمين يسيران إلى غير الصواب، والقاضي لا يقضي وهو غضبان.
كذلك من يجادل فيغضب فلا بد أن يحيد قليلا أو كثيرا، فلهذا إذا تناقشت مع أحد فاضبط نفسك مع هذه القضية العظيمة «لا تغضب».(3/18)
وفي الحج قد يأتي من يطعن فيك أو يطعن في العلماء أو يطعن من يطعن أهل البدع والضلال ولكن عليك بان تضبط نفسك بأن لا تغضب، فما نجح غاضب في الحوار قط.
ولهذا أوصي بأن تعوِّد نفسك على عدم الغضب، وإذا أردت أن تناقش أو تحاور أخا في الحج فإن الغضب قد يؤدي إلى هُجِر من القول، ثم قد يؤدي إلى قول سيئ، ثم يؤدي إلى كبيرة، وهكذا فلا بد من الانتباه للسان في ذلك.
إذن الحج لاشك أنه عبادة عظيمة ولابد فيها من إخلاص القصد والنية لله جل جلاله، ويسعى المرء بعد ذلك في أن يُشهد نفسه وإخوانه المسلمين المنافع فيما ذكرنا من أمور الدين، وفيما يترتب عليه المغفرة للحاج ورجوعه مغفورا له ذنبه.
هذه كلمات ربما عند كثيرين منكم تفصيلات للواقع العملي كيف ننتقل وننتشر بالدعوة في الحج؛ ولكن هي توجيه لابد أن نسعى إلى إنفاذه؛ لأجل أن نحظى بالأجر العظيم وأن نكون ممن دعا إلى الله جل جلاله، ولا تنسَ أبدا قول الله جل جلاله ?مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إٍنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ?[فصلت:33].
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعا ممن غفرت له الذنوب والآثام، وعظِّمت له الحسنات.
اللهم فاجعلنا من الأبرار.
اللهم من حج منا هذا العام فأرجعه من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
اللهم لا تؤاخذا إن سينا أو أخطأنا، واجعلنا اللهم من عبادك المتقين ومن الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم اختم لنا بالصالحات واغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
المقدِّم: أسأل الله تعالى أن يثيب فضيلة الشيخ على هذا الموضوع الطيب وأن يجعل ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة، إنه هو ولي ذلك والقادر عليه .
الأسئلة كثيرة لعل الشيخ إن شاء الله تعالى يجيب عليها بعد الأذان.(3/19)
بعض الأسئلة أجاب عليها فضيلة الشيخ أثناء المحاضرة، ألا وهي أن بعض يقول إن هناك مجموعة من الشباب يجلسون بعد نهاية نسك من الأنساك يتحدثون عن العلماء ويغتابون بعض الناس، يقولون فلان أخطأ، فلان فيه كذا، فلان فيه كذا، أجاب الشيخ جزاه الله خيرا عن هذه المسألة.
والواجب على المسلم الداعية أن يتقي الله تبارك وتعالى:
فلا تذكر لي عورة مؤمن فكلك عوات والناس ألسنة
وأذكر أني حضرت مناقشة الدكتوراه للشيخ صالح الفوازن جزاه الله خيرا وكان المناقش عبد الله [...] رحمه الله تعالى فقال فضيلته: عندما تحدث المناقشون عن بعض الخطاء في الرسالة، قال فضيلته جزاه الله خيرا: أنه ليس هناك عالم تكلم إلا وأخطأ، قال أن صاحب المغني ذكر مسألة وذكر فيها حديثا وقال أما الحديث فقد ضعفه علماؤنا والحديث في صحيح البخاري....
هذا هو العدل والإنصاف، أما أن يحج المرء ويتكلم في أعراض الناس ويقع في العلماء فهذا أمر لا يجوز.
الشيخ: وأما ما يدل على ما ذكره الأخ أنّ الكلام في أهل العلم ما تجرأ عليه أحد إلا وخُذل، ولهذا قال الحافظ ابن عساكر في أول كتابه تبيين كذب المفتري: لحوم العلماء مسمومة وعادة الله -يعني وسنة الله- لهتك أستار منتقصيهم معلومة.
لم كان ذلك؟ لأن النيل من العالم ليس نيلا من شخصه، وإنما هو نيل لما حمله من العلم وإلا فلو لم يكن عالما وتخلى من العلم؛ يعني لو تصورت أنه أزيل عنه العلم وبقي فلانا بن فلان المعروف أو العالم المشهور بدون علم، لأصبح هذا لا يقع فيه؛ لكن لما حمله من العلم الذي يخالف ما عنده فإنه يقع فيه، وهذا لاشك أنه من الباطل.
وهذا مما نهى عنه السلف أشد النهي وتكلموا في ذلك أشد الكلام.(3/20)
واستثنوا من هذا حالة، وهي فيما إذا كان التحذير من العالم تحذير من خطأ وقع فيه حكم عليه العلماء بأنه أخطأ فيه، مثل ما قال صالح بن كيسان ورويت أيضا عن الإمام أحمد فيما أذكر قيل له: إنك تتكلم في أناس من العلماء قد ماتوا، أفلا تخشى من ذلك؟ قال: ويحك ألا ترى أنفع لهم من أمهاته وآبائهم، ألا ترى كيف أحجز الناس عن أن يتبعوهم فيما أخطؤوا فيه فتعظم أوزار المتبع.
فهو يرى أن هذا الذي أخطأ فاتبعه الناس على خطئه أن من محبته أنه يبين أنه أخطأ حتى لا يتبعه الناس على خطئه فتعظم أوزاره؛ لأنه قد ثبت في الصحيح أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها أو وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
فإذن الكلام في العلماء هذا حرام، ولا يجوز.
وإذا احتاج العالم، العالم وليس العامي والشاب، إذا احتاج العالم أن يبين خطأ عالم آخر، فعند العالم ضوابطه فيخطئه فيما أخطأ فيه نصحا للأمة لكن لا تراه يطعنه في سلوكياته التي لا علاقة لها بالمسألة التي أخطأ فيها.
مثلا تجد أن بعضهم أخطأ في مسألة علمية، أو في مسائل علمية، فتجد أن الذي يتكلم ويريد أن يحذر من خطئه، يتعرض إلى مسائل سلوكية يقول كان في صغره يفعل كذا وكان يلبس كذا وكان يحضر كذا، وهذا لاشك أنه مما لا يؤذن به شرعا كيف تنتقل من شيء لا نفع للناس فيه في أن تبين لهم عورته، أنت اطلعت أنه فعل في صغره عمل معصية كذا، وأخذت له صورة كذا، أو أنه في بيته كان له كذا أو إلى آخره. فتنشر هذا. ليس له علاقة في خطئه الذي أخطأ فيه في التوحيد أو في العقيدة أو في الفقه أو إلى آخره.
فإذن إذا تجاوز الناصح حد النصيحة المأذون بها شرعا في تبيين ما غلط به العالم، فإنه ينتقل من كونه ناصحا إلى كونه متعديا على حق أخيه المسلم، فيما إذا قال شيئا لا يُحتاج إليه في نصيحته، مثل الكلام على سلوكياته الكلام على أشياء لا علاقة لها بالآراء وما أشبه ذلك.(3/21)
لهذا ترى أن الأئمة رحمهم الله تعالى، فيمن ردوا عليهم من معاصريهم لم يفضحوهم في شيء من أعمالهم، وإنما امتثلوا قول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أو قال «أمسكوا عن موتاكم» أو كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ والحديث في البخاري «واذكروا محاسن موتاكم ولا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» هذا في الصحيح .
فإذن هناك مسبة لا يؤذن بها وهي التي لا يتعلق بها نصيحة للأمة فيما تكلم به العالم.
فإذن هذه المسألة التي نبه عليها الشيخ لها ضابطان:
الضابط الأول: ألا تتكلم إلا فيما فيه نصيحة للأمة فيما تعلق به الخطأ الذي يخشى أن يتعدى للأمة هذا واحد.
والثاني: أن يتكلم العالم وأن لا يتكلم صغار طلبة العلم أو المنتسبين أو العوام يتكلموا في أخطاء الناس، وهذا يقول كذا وهذا يقول كذا؛ لأن هذا يربي في الناس نقد العلماء جميعا، هذا أخطأ في كذا وهذا أخطأ في كذا، وبالتالي لا يكون للدين ولا للعلم حرمة في القلوب بعد زمن.
فبهذا إذا أخذ بهذه الضوابط ألا ينتقد إلا عالم وأنه إذا انتقد وبين الخطأ لما فيه حاجة شرعية ماسة حفاظا على الأمة ونصيحة للأمة فإن هذا لابد منه، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز لأحد أن يشغل نفسه بذكر أهل العلم إلا بالخير؛ لأن من ذكرهم بغير الجميل فهو على غير السبيل كما قال الطحاوي في عقيدته.
س1/ فضيلة الشيخ يغلط بعض الشباب الذين ينكرون المنكر بأسلوب يزداد فيه البلاء شدة ويزداد فيه لمنكر ولا يتغير في مثل هذه بعض الشباب يأخذون الكاميرات ويكسرونها مما يجعل المنكر يزداد فما توجيهم لذلك جزاكم الله خيرا؟
ج/ قاعدة مهمة في هذا وهي أن العلماء قرروا أن المسائل التي فيها خلاف قوي فإنه لا ينكر فيها المسلم على أخيه.
الخلاف قسمان-يعني في الفقهيات-:
خلاف قوي.
وخلاف ضعيف.(3/22)
المسألة التي فيها خلاف قوي فلا يكن فيها إنكار، وهذا في مسائل كثيرة مثل أهل العلم بأمثلة نذكر منها مثلا في زكاة الحلي، من زكى أو لم يزكِّ، هذه المسألة فيها خلاف قوي فلا إنكار فيها ما يأتي واحد ينكر على أهله على أبيه أنه ما قال لأهله يخرجوا الزكاة أو القول الآخر، والذي كان عليه العلماء في هذه البلاد من قديم أن لا زكاة في الحلي كما هو معروف، والآن أفتى عدد من أهل العلم مثل سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله الشيخ محمد بن عثيمين وغير أولئك بأن الزكاة فيها، فإذا كان في مثل هذه المسألة فيها خلاف قوي؛ يعني اختلف فيها المفتون عندنا وهم إنما يختلفون في المسائل التي فيها معه قوة من جهة الاستدلال وهنا لا ينكر هذا.
كذلك مسألة قراءة الفاتحة، وفي مسائل من أشباه ذلك.
منها مسألة التصوير الفوتغرافي فإن المفتين انقسموا منهم من قال إنه يحرم ومنهم من قال لا يحرم، وهؤلاء الذين أفتوا بعدم الحرمة فيه لهم حجة، وإن كان القول الصحيح عندنا أن جميع التصوير بأنواعه حرام؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن المصورين ونهى عن التصوير وهذا يعم جميع أنواع التصوير الذي يكون ثابتا، ولكن ما دام فيه خلاف لبعض المفتين في هذه البلاد الكبار الذي يصار إلى قولهم فإنك إذا أنكرت على ما يستعمل ذلك فإنك قد تنكر عليه أنه أخذ بفتوى ذلك العالم، وهذا يحصل فيه خلل في كثير من المسائل؛ لكن هنا يأتي مسألة الدعوة والبيان والنصيحة، بأنك تقول له أن هذا التصوير ما يجوز وتأتي له بالأدلة لعله أن يترك ذلك ويأخذ بالقول الصحيح فيها.
المسائل التي فيها خلاف قوي؛ يعني اختلف فيها المفتون عندنا، يعني مثلا الشيخ ابن عثيمين يفتي بشيء الشيخ ابن باز يفتي بشيء آخر، هذه المسألة يصير فيها خلاف قوي الإنكار فيها معناه أنك تنكر على من أخذ بقول هذا المفتي وهذا فيه تضييق، وليس ماشيا مع قواعد أهل العلم.(3/23)
وإنما الإنكار يكون في المسائل التي الدليل فيها واضح أو التي الخلاف فيها ضعيف.
س2/ فضيلة الشيخ -حفظه الله- كيف أوفق بين القيام بإبلاغ ما لدي من علم ومعرفة وبين الالتزام بالتعليمات التي توجب الحصول على إذن من الوزارة أو من الجهة المسؤولة بالكلام والدعوة؟
ج/ الإذن مشترط للمصلحة العامة فيما فيه حديث مع أمام الناس.
أما إذا أردت أن تمارس الدعوة وتقوم بهذا الواجب في بيتك ومع زملائك وفي المخيمات المجاورة لك؛ تذهب وتنصح هذا وتدعو هذا، فهذا مطلوب منك في كل مكان وفي كل زمان.
لكن أن تتصدر وتوجه الناس على كرسي أو تجلس ويجتمع حولك جماعة أو تذهب إلى المساجد فتتكلم أمام العامة، فهذا لاشك يحتاج إلى إذن، واشتراط هذا الإذن قديم لأجل أن تتحقق المصلحة العامة بأن لا يوجه الناس إلا من علم علمه وتحريه للصواب فيما يذكر.
أما في جهدك الخاص فيما تدعو فهذا في كل مكان، تجلس في الطائرة، أنت داعية، تجلس في السيارة أنت داعية، تجلس في بيتك، أنت داعية في كل مكان، أنت داعية بقولك أو بفعلك لابد، قولك محسوب عليك وحركتك محسوبة فلابد أن تنتبه لهذا .
س3/ فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: لعل من أهم الأسباب التي يجب توفرها حتى يشهد الناس في الحج منافع سواء في العقيدة أو العبادات والمعاملات أن تقوم الجامعات لا سيما التي تعنى بالدراسات الإسلامية اختيار مجموعة من طلابها وتزويد المؤسسات بهم للقيام بشرح العقيدة وتوضيحها للحجاج، هل لكم توجيه على ذلك؟(3/24)
ج/ هناك ترتيب قديم منذ كانت أمور الحج في الدعوة في الداخل أو تبع للرئاسة العامة بإدارات البحوث العلمية والدعوة والافتاء والإرشاد ترتيب أنه ينتخب مجموعة من جميع الجامعات ومن أساتذة الجامعات للمشاركة في الحج ليقوموا بالدعوة دعوة الحجاج في أماكنهم في المراكز وكذلك في المخيمات وفي أماكن الطوافة إلى غيره، كذلك الهيئات يذهب الإخوان في الهيئات إلى المشاعر وإلى غيرها في المواقيت وغيره ويمارسون واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل سنة يحصل هذا مثل هذا العام فيه نحو من ثلاثمائة وثلاث وأربعين من الدعاة المشاركين من الجامعات المختلفة ومن وزارة المعارف من الأساتذة المدرسين في الوزارة يشاركون في الحج، وهناك ضوابط لهم وموضوعات نوقشت معهم في أن يؤدوا واجب الدعوة بمؤسسات الطوافة وكذلك في مراكز الدعاة وكذلك في المساجد وبرامج تمتد تقريبا شهرا من 20-11- إلى 20-12 وهناك بذل في هذه الجهة ومنتخب كثير ولله الحمد يأتون ويقومون بهذا الواجب.
لكن ليس هذا الشّأن الشأن أن تنطلق أنت فيما عندك من القدرات وتعمل في ذلك ولاشك أنك إذا جربت فإنك ستجد المجال رحبا واسعا.
واحذر من أن تسوف وأن يغرك الشيطان بأن تلقي اللائمة على غيرك دون عمل، فهذا من إغراءات الشيطان العظيمة في كل زمن وفي هذا الزمن عظمت عند كثيرين يلقي باللائمة على غيره وهو لا يعمل شيئا وهذا غير مقبول.
فالميدان كبير جدا في الدعوة وتبدأ أنت هنا أو تبدأ في الحج أو تبدأ في المشاعر مع الحجاج أو مع من يريد الحج، بالطبع مثلا بالكتيبات صغيرة وتوزيعها في العقيدة أو في العبادات وفي الأذكار أو نحو ذلك تبدأ أنت توزعها بما تريد وتشرح ذلك بحسب ما يتهيأ لك؛ لكن بشرط أن تكون متحققا بالعلم، أما إذا كان العلم عندك قاصرا فلا ترقى تلك العقبة فإنها كؤود.(3/25)
س4/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعض الحملات يقومون ببعض النشاطات في الدعوة للتعليم، ومن ذلك ما يقوم به البعض الحملات من عرض المسرحيات أو مشاهد في .....، فما رأيك في هذا الأمر؟
ج/ إذا كانت هذه الموجودة في بعض الحملات مثل الذي يُعرف أنه المسائل الموجودة في بعض المدارس ونحو ذلك على تلك الهيئة، فهذا لا يصلح أن يكون في الحج لأن هذه تنقل المُشاهد لهذا إلى شيء من الجو الغير مناسب للحج بما يتذكر فيه رؤية المسرح ورؤية كذا وكذا، فإن كان أمرا خيرا لكن تنتقل نفسيته إلى شيء آخر غير جيد.
يمكن التعليم فيه على غير أ يكون مسرح أو غيره بأن يكون اثنان يقومان بشرح تعليم الحج أمام الناس بدون أن يكون له صفة المسرحية والإعداد الذي يكون معروف؛ يعني إعداد حوار معروف وحضور على شكل معين وبداية ونهاية إلى آخر ذلك، يكون على شكل دعوة وتشرح لمجموعة من الناس كيف يكون مثلا يكون الاضطباء كيف تكون الصلاة في مكان معين مثلا كيف تكبر كيف تركع الركوع الصحيح كيف تبدأ كيف تحاذي الحجر الأسود إلى آخره، كيف ترفع يديك على الصفا، كيف ترفع يديك على المروى، وأشباه ذلك، وبما لا يكون معه صفة المسرحية .
أما صفة المسرح ونحو ذلك فهو مما ينبغي تنزه الحجاج عنه وتنزيه الحملات عنه؛ لأنه يجعل الحاج متصلا بما كان عليه قبل الحج من أمور المسرح، وهذه ربما يكون له في داخله تذكرات غير محمودة.
س5/ فضيلة الشيخ بعض النساء اللاتي يحضرن من بعض الدول بلا محارم هل في دعوتهن حرج عن الضوابط الشرعية، مع العلم أن بعضهن قد يكون غير متحجبة فه نستغل الفرصة في دعوتهن كذلك عند عدم وجود نساء داعيات ؟(3/26)
ج/ إذا لم يكن هناك خلوة في مجموعة من النساء، مثلا تتكلم في أتوبيس في مكان ويكون فيه شيء من الستر وأنت لا تباشر المرأة عينك بعينها ويكون معها محرم، فهذا من التعليم لا بأس به؛ لكن إذا كان هناك خلوة أو كان هناك مباشرة للرؤية ونحو ذلك، فهذا يمتنع منه إلا مع وجود ساتر وأشباه ذلك.
س6/ فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف ننكر على أهل البدع والشرك من الرافضة وغيرهم، هل ينكر عليهم مع العلم أنهم مقرون بذلك، أي بذلك المنكر، مثل دعاء فاطمة وعلي وغيرها من البدع والشرك؟
ج/ هذا من المنكرات العظيمة، فمن سمع ذلك وجب عليه أن يعلم وأن ينكر.
والتعليم مهم لأن به بيان الحق وإيضاح الأدلة، والإنكار إعلام بأن هذا منكر، فقد يفهم منه أنك من أهل السنة وهم الشيعة وهذا عقيدة وهذا عقيدة، لكن إذا بينت الأدلة صار هناك شيء من إيضاح المقام بحجته الشرعية لعل الله جل وعلا أن يجعل في قلبه خيرا.
وهذه الطائفة وأشباه أولئك ممن عندهم الشركيات الكبرى، مثل كثير من الطوائف أيضا المنتسبة للسنة في المسلمين من عبّاد القبور والأوثان والمشاهد وأشباه هؤلاء، إذا سُمع منهم الأشياء الشركية هذه والدعوات التي هي من دعوات الشرك الأكبر أو فيها دعاء غير الله جل وعلا أو استغاثة بغير الله أو طلب المدد من غير الله أو ما أشبه ذلك، فإنه يجب عليك أن تُعلّم وأن تقيم الحجة وأن توضح، وأن تصبر على ذلك فالدعوة ميدانها عظيم؛ ولكن يجب على من سمع ذلك أن ينكره، فإن كان يرى أن المقام يمكنه معه أن يعلم فيكون لتعليم، ثم بعده إذا لم يستجب فيكون هناك إغلاظ وشدة وإنكار.
وإذا كان لا يتيسر له التعليم في مقام سريع فينكر عليه ويغلظ عليه وهو ماشي، وفي هذا تبرأ ذمته.
ومن رأى شيئا منكرا أمامه مثل واحد يدعو بدعوات فيها الشرك بالله جل وعلا فيجب عليه أن يُسكت ذلك؛ لأن هذا من المنكر العظيم.(3/27)
لكن تنتبه إلى أن الرافضة قد يقول القائل منهم يا علي، وإذا قيل له أنك لا تستغيث إلا بالله. قال العلي من أسماء الله فأنا أدعو العلي الذي هو الله جل جلاله، وربما كان مهم في الماضي من قال ذلك، حينما قيل لا تقل يا علي قال العلي هو الله جل وعلا فأنا أنادي رب العالمين.
فتنتبه إلى الموقع الذي تتحدث فيه فهناك أشياء ينبغي منك أن تستفصل تنتبه إلى المراد بالكلام ثم بعد ذلك تعلم أو تنكر بحسب المقام.
وهذا من الأمور الواجبة في هذا الزمن الذي شاع فيه ترك الغيرة على التوحيد وعلى دين الله والله المستعان.
س7/ فضيلة الشيخ حفظه الله ما هي الكتب التي يرى فضيلتكم توزيعها في الحج؟
ج/ الكتب كثيرة لكن السائل إذا كان عنده مجموعة من الكتب يريد أن يستشير فيها يأتي بها إلي أو إلى أحد الإخوان هنا ويرشدوه إلى الكتب المناسبة.
س8/ فضيلة الشيخ ما رأيكم في قول القائل لنجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؟
ج/ هذه الكلمة سُئل عنها العلماء، وسئل عنها من سئل كثيرا، وترددت كثيرا.
وكنت أظن أن مثلها أصبح واضحا يعني الكلام في هذه الكلمة، وأنها أصبحت من الواضحات في بيان معناها وبيان أنها غلط على الشريعة، وأنها ليست من كلام المتبعين للسلف الصالح.
لكن لتأكيد المقام ولمزيد إيضاح، فإن هذه الكلمة معنى ألفاظها:
(نجتمع فيما اتفقنا عليه) هنا ما اتُّفق عليه من أمر الدين أو من أمر الدنيا يجتمعون عليه ويعين بعضهم بعضا عليه.
وهذا الذي اجتمعوا وليس معناه أجمعوا عليه، اجتمعوا عليه، قد يكون اجتماعا على غير الحق، وقد يكون اتفاقا على غير الحق، فما اجتُمع عليه لابد أن ينظر إليه بالمنظار الشرعي هل ما اجتمع عليه صحيح شرعا فقد يجتمع على شيء باطل شرعا.
فإذن هذا الجزء الأول (نجتمع فيما اتفقنا عليه) الاجتماع فيما اتفق عليه مثل ما ذكرت لك يحتمل أن يكون المتفق عليه فيما بينهم على ضلالة.(3/28)
مثل مثلا أن يأتي ناس من أهل السنة من المتصوفة ويجتمعون مع أناس من الشيعة ويجتمعون مع أناس فئة أخرى، ويتفقون على قدر من التصوف، هذا القدر؛ لأنه خرجت عنهم طائفة أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح فلا شك أن هذا القدر سيكون خارجا عن المنهج الصحيح، فسيجتمعون على أمر غلط، وقد اتفقوا عليه ولكن اتفقوا على أمر بدعي غلط.
فإذن (نجتمع فيما اتفقنا عليه) صحيح إذا كان المتفق عليه صحيح شرعا قد أقر بأنه صحيح شرعا أئمة أهل السنة والجماعة في كتبهم وعقائدهم وكلامهم.
والقسم الثاني (ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).
المختلف فيه أقسام ليس قسما واحدا، فالمختلف فيه:
?[القسم الأول] منه ما لا يجوز أن يختلف فيه، مثل الخلاف في حال الاستغاثة بغير الله شرك أو غير شرك، فهذا مختلف فيه صحيح بعض العلماء حسّن هذا ولكن لا عبرة بالخلاف في هذا؛ لأن الخلاف في هذا مخالف لأن الخلاف في هذا مخالف للقرون الثلاث المفضلة ولما أقره الأئمة في شرحهم للقرآن للتفسير ولكتب السنة في قرون المفضلة، هذا إذا قام هناك اختلاف فيه فلا عذر فيه؛ لأن الاختلاف اختلاف باطل والحق واحد وغيره باطل بيقين.
فنعرف أن التوحيد الخالص هو الصواب والحق وأن ما عداه باطل قطعا.
فهذا لا يجوز أن يعذر بعضنا بعضا في الخلاف فيه، فلا نعذر القبوري في قبوريته، ولا نعذر الرافضي في رافضيته، ولا نعذر الإسماعيلي في إسماعيليته، ولا نعذر كذا وكذا من الطوائف الضالة القادياني أو البهائي فيما ذهبوا إليه؛ بل نضللهم في ذلك ويكون بيننا وبينهم في ذلك ما بين أهل الحق وأهل الباطل، ولا يمكن أن نجتمع معهم، ولا أن يعذر بعضنا بعضا في تلك المسائل التي اختلفنا فيها معهم؛ لأنه معناه يجتمع الناس على كل شيء، وهذا به انجراف الديانة وذهاب صفاء الملة وديانة التوحيد.(3/29)
? القسم الثاني من المختلف فيه أن يكون الاختلاف فيه قوي، وهذا يصح -كما ذكرت- أن يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، إذا اختلفنا أنا وأنت في أشياء وكان لخلاف قويا لك أنت منزع من الأدلة وأنا لي منزع من الأدلة، هذا القول الذي قلت به أو ذهبت إليه قال به جماعة من أئمة أهل السنة، وقال آخرون بقول آخر فذهبت إليه، فهنا يصبح الخلاف قويا كمن ذهب إلى أحد القولين فلا ينكر عليه، وإنما تصبح المسألة مسألة حجاج وبيان للحق؛ في هل يقتنع المقابل أو لا يقتنع.
هذه يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؛ لأن الخلاف فيها قوي والصحابة اختلفوا في مسائل وعذر بعضهم بعضا، فقد قال الإمام أحمد في شأن إسحاق بن راهوية: إسحاق يصاحبنا وإن كان يخالفنا في مسائل.
?القسم الثالث مسائل الخلاف فيها ضعيف، هناك خلاف فيها؛ ولكن الخلاف فيها ضعيف، فهنا الإنكار فيها واجب بقاء لقوة الحق في مسائل، وهنا إعذار بعضنا بعضا يختلف بحسب المسألة التي الخلاف فيها ضعيف، إذا كانت من مسائل الفروع، فهنا يحصل هناك اجتماع ولو مع هذا الخلاف الضعيف، وإذا كان في مسائل من الأصول؛ بمعنى أن هذا الخلاف الضعيف يرجع على أصل من أصول العقيدة بإضعاف فإنه لا يعذر بعضنا بعضا فيه.
فتحصل من هذا التقسيم الثلاثي أننا نقسمه باعتبار آخر إلى قسمين:
· خلاف في العقيدة.
· وخلاف في الفروع.
الخلاف في العقيدة لا عذر فيه، إذا كان في أصول العقيدة.
والخلاف في الفروع يعني في الفقهيات نقسمه:
إلى خلاف قوي، وإلى خلاف ضعيف.
والخلاف القوي والخلاف الضعيف لا يكون معه منابذة منافرة؛ ولكن في الخلاف الضعيف ينكر ويبيَّن فيه ما يجب بيانه.
نخلص إلى أن الكلمة هذه غلط في معناها وكذلك ألفاظها تدل على معاني أوسع مما ذكرت مما لا يكون مطابقا ولا موافقا لمنهج المتبع للسلف الصالح.(3/30)
س9/ تقول إنها إمراة متدينة ولله الحمد؛ ولكنها تعيش من أناس لا يشهود صلاة الفجر فإنهم لا يصلون في الجماعة كيف تتعامل معهم جزاكم الله خيرا، وأحيانا أغضب عليهم ويغضبون علي فما حكم هذا الغضب؟
ج/ يجب المواصلة في النصيحة وأن تقومي بواجبك كل ليلة بأن توقظيهم للصلاة، وإذا أوقضوا للصلاة فأبوا مع رجوع الشعور لهم، فتكون قد أديت الذي عليك والحمد لله.
ولكن لا تيأس المرأة من إيقاظ زوجها أو إيقاظ إخوانها أو إيقاظ أبيها بالأسلوب الحسن الذي لعلهم معه أن تنفتح قلوبهم للحق وأن يتخلصوا مما يكون مع عدم القيام بهذا الواجب العظيم وهو القيام للصلاة في وقتها مع الجماعة في المساجد.
وأما الغضب الذي ذكرته السائلة، فإن الغضب إذا ل يكن في أمر لها حق فيه فليس لها أن تغضب، وإذا كان الغضب لأجل الشرع أو المصلحة الشرعية فإنها معذورة فيه، وقد تؤجر عليه لكن تنظر هل الغضب هذا سيجعل أولئك سيصدون عن طريقتها في النصيحة وعن الإلزام بالدين أو لا؟
فإن كان لا يصد والغضب سيؤتي بنتيجة فهذا جيد.
وأما إذا كان لم يأت معه نتيجة فإنها تتركه ولو غضبت في داخلها، فكظم الغيظ طيب والصبر وعدم الحزن مأمور به.
أعاننا الله وإياها على الخير والهدى .
س10/ أنا إمرأة ولها ولد في سن المراهقة.... ولكنه بدأ يشتكي من هذا الشيء... التلفاز ....من المعاصي كيف أتعامل معه هل أضربه وأزجره أم ماذا ؟
ج/ هذا من البلاء الذي ينبغي للوالدين أن يتعاملا معه بحِسْنَةٍ وسكينة وهدوء؛ لأنه في هذا الزمن يخشى من لقسوة ألاَّ يأتي معها النتيجة المرجوة.
صحيح أن القسوة أحيانا تنفع لكن أحيانا لا تنفع وخاصة في سن المراهقة وهي من تقريبا العاشرة إلى الخامسة عشر، فلهذا على الوالد وعلى الوالدة أن يتعاملا معه بحكمة وأناة وأن يحبب له الخير شيئا فشيئا.(3/31)
ومن الأساليب الجيدة أن يبحث له عن صديق أو عن أصدقاء فيهم صلاح، وأن يغري الوالد أو الوالدة ابنهما بأن يصحب هذه الرفقة الصالحة، ولو أغروه بمادة أو أغروه بكذا وكذا فإن هذا من الأمر المحبَّب للنفوس ربما يصلح معه؛ لأن الغالب لأن الشباب لا يصلحهم إلا من هو من أمثالهم.
?????
أعد هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) الأنبياء:92، المؤمنون:52.
([2]) انتهى الوجه الأول.(3/32)
الفرق بين كتب الفقه و كتب الحديث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد :
فابتداء كشف الشبهات نؤخره إنشاء الله تعالى اسبوعاً، وفي هذه الليله إن شئتم صار لقاءً مفتوحاً، أو ذكرنا شيئاً مما يتعلق بآداب طالب العلم، وما يحتاجه في تعلّمه في نظره في كتب أهل العلم.
نجمع بينهما ؟ طيب ، لا بأس نأخذ كلمة مختصرة .
فنقول وبالله التوفيق :
من المسلَّم به لدى كل طالب علم حريص عليه أن طلب العلم هو غاية ما يحصله المرء لنفسه من الخير، لأن العمل تابع للعلم، والعمل بلا علم لا ينفع، لأن من شرط صحة العمل وصحة النية الإخلاص والعلم بما يميز به عمله ويفرق به بين العادة والعبادة، فكثيرون يعملون أعمالاً هي من جهة العادات، أو قد يعملوها من جهة الجبلة والطبيعة أو بما جرى عليه أهله ومجتمعة، لكن العلم يحمله على أن يفرق بين نية العمل الذي يتقرب به إلى الله جل وعلا وبين العمل الذي يعمله عادة والعمل الذي يريد به أن يكون وسيلة إلى أمر محبوب .(4/1)
وطالب العلم في طريقه في طلب العلم يحتاج إلى فرق مهم وهذا الفرق كثيرون لم يدركوه، وهو الفرق بين تناول كتب الفقه وكتب الحديث، كتب الفقه فيها كلام على المسائل الفقهية وفيها الأدلة وفيها الخلاف. وكتب الحديث فيها أيضاً الكلام على المسائل الفقهية وفيها الأدلة وفيها الخلاف والترجيح. فمن جهة النظر إلى المحتوى قد يتشابه هذا وهذا ولهذا يشتكي كثير من طلاب العلم الذين في الكليات الشرعية، كلية الشريعة أو كلية أصول الدين في الرياض أو في نحوهما يشتكون من أنهم إذا دخلوا الكلية وابتدأو في دراسة الفقه والحديث، يشتبه عليهم تقرير هذا وتقرير هذا، يشتبه عليهم شرح الأستاذ الذي يدرسهم الفقه مع شرح الأستاذ الذي يدرسهم الحديث، من جهة أن كلاً منهما يورد أدلة وخلافاً وتصويراً للمسألة وربما كان إيراد هذا يختلف عن إيراد ذاك من جهة الاستيعاب أو الاستدلال أو بيان وجه الاستدلال أو استخدام علوم الآلة أو الترجيح... إلى غير ذلك، وهذا يجعل طالب العلم في كثير من الالتباس في جهة تحصيل العلم، وهل يطلب علم الأحكام من كتب الحديث أو يطلبها من كتب الفقة ؟ وبسبب عدم معرفة كيفية تناول الأحكام هل هو من كتب الحديث أم من كتب الفقه وما ميزة هذه وهذه ؟ وهل هذه تعارض هذه أم لا ؟ بسبب عدم العلم بهذه المسائل، حصل نقص عند كثيرين من طلاب العلم، وما اكتمل ملكتهم في العلم من جهة التكامل بين هذين العلمين العظيمين ، الفقه والحديث.
لهذا نقول : إن كتب الحديث كما هو معلوم سابقة لكتب الفقة وأول ما دون العلم دون على جهة الرواية والاسناد، حتى ما كان من فتاوى ووقائع وأسئلة نقلت في مصنفات أهل العلم المختصة أو العامة نقلت بالأسانيد، فعلم الحديث من حيث هو رواية ودراية يشتمل على إسناد وعلى متن، وهذا المتن قد يكون مرفوعاً للنبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون قولاً لصاحب أو قولاً لتابعي أو ما دون ذلك.(4/2)
يستعمل كثير من أهل الحديث هذه الكلمة : رواية ودراية، وفي تفسير الرواية والدراية اختلاف، فمنهم من يقول : الرواية هي نقل الحديث بالاسناد . والدراية هي تمحيص هذا الاسناد من حيث الصحة وعدم الصحة، من حيث هل هو مستقيم أم غير مستقيم؟ هل هو معلول أم غير معلول ؟ هل يحتج به أم لا يحتج به ؟ وهذا قول طائفة كثيرة من أهل العلم .
وآخرون يقولون : الرواية راجعة إلى النقل، والدراية راجعة إلى فقه الحديث، وفقه الحديث هو درايته. والرواية هي النقل، فيدخل على هذا في النقل مصطلح الحديث، يستعمل مصطلح الحديث، والنظر في الرجال . وتكون الدراية هي الفقه، يعني النظر في المتن .
هذا كان سابقاً، ولهذا مصطلح الحديث سابقٌ لأصول الفقه، وأصول الفقه أتت بعده من جهة التصنيف، من جهة تقعيد الفن، ومن جهة الاستعمال أصول الفقه سابقة لأصول الحديث، للمصطلح، لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط، وهي موجودة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يكون ثَمَّ أسانيد.
لهذا تنظر إلى علم الفقه وعلم الحديث إلى أنه لا انفصال بينهما في الحقيقة، فالفقه هو فقه الأحكام الشرعية وهذا يكون مبنياً على أدلة، ومن الأدلة السنة . ينتج من ذلك أن أدلة الفقيه أعم من أدلة المحدث، بمعنى أن الكتاب الذي يعرض لمسائل الفقه تكون أدلته أوسع من أدلة الكتاب الذي يعرض لفقه الحديث، لِمَ ؟ لأن من نظر في فقه الحديث يكون الدليل هو الذي يتكلم عليه من الحديث، عنده حديث في البلوغ ويشرحه، أو حديث في منتقى الأخبار ويشرحه، مثل نيل الأوطار، أو حديث في البخاري يشرحه أو نحو ذلك، فيكون شرحه مبنياً على هذا الحديث، واستنباطه للحكم بما في هذا الحديث من الحكم.
أما الفقيه فإنه يستنبط الحكم من عدة أدلة، قد يكون الدليل نصاً من الكتاب أو السنة، وقد يكون اجماعاً، وقد يكون قياساً شمولياً، وقد يكون قياس علة، وقد يكون قول صاحب، أو قول إمام ... الخ(4/3)
نرجع إلى تأصيلها فنقول : المقصود من هذا أن كتب الفقه تختلف عن كتب الحديث من جهة الأدلة .
إن كتب الحديث إذا رجعنا إلى أولها فتجد أن الإمام يبوّب على الحديث بما فيه من الفائدة، لكن لا يرى الاختلاف الذي فيه، فمثلاً الامام البخاري في تبويباته يبوِّب على فقه الحديث الذي عنده، أبو داود في تبويبه يبوّب على فقه الحديث الذي عنده، الترمذي النسائي ابن خزيمة ...الخ يبوِّبون ناظرين في التبويب - والتبويب هو عبارة عن الحكم أوالفائدة - راجع إلى فقههم إلى هذا المتن.
لكن إذا نظرت في المسألة نفسها نظرتها في كتب الفقه فتجد أن الفقيه يستدل بعموم آية، أو بمفهوم آية، أو يستدل بعدد من الأحاديث، أو يستدل بقاعدة أو أقوال الصحابة .. الخ.
رجع الأمر إلى أنه في الزمن الأول قبل شيوع المصنفات وشروح الحديث المطولة، المحدِّث يستنبط بناءً على هذا المتن الذي عنده، ولا ينظر إلى جميع أدلة المسألة، لا ينظر إلى كل ما في المسألة من الأقوال، لهذا يدخل في نظره إلى هذا المتن فيستنبط منه، أما المفتي أو الفقيه إذا أراد أن ينظر في هذه المسألة التي تناولها الحديث فإنه يستحضر أشياء أخر، لهذا صار كلام الفقهاء يختلف عن كلام طائفة من أهل الحديث، لِمَ ؟ لأنه قد يكون المحِّدث ينظر إلى هذا المتن باستنباط ما فيه فوائد من هذا المتن دون النظر إلى أن هذه الفائدة هل هي الحكم في نفس الأمر أم أنه يأتي معارض فينظر إليه من جهة أخرى، وقد ذكرت لك فيما مضى أن الأقوال المتضادة أو الأقوال المتقابلة في الفقه، فإنه يكون القول أرجح إذا كان المعارض له أقل، فإن القولين المختلفين في الفقه لا تظن أن أحد القولين له دليل والآخر ليس له دليل، هذا نادر، بل الأكثر - وجُل المسائل - يكون هذا القول له أدلته وهذا القول له أدلته، ولكن أي القولين يكون أرجح ؟ القول الأرجح هوالذي يكون الاعتراض على ما استدلَّ به أصحابه أقل من الاعتراض على القول الآخر.(4/4)
وهذه فائدة رصينة مهمة يحتاجها الناظر في كتب الفقه وكتب الحديث جميعاً.
هذه الأقوال المتقابلة والاختلافات جاءت نتيجة إلى نظر العلماء في المسائل الفقهيه، بعد ذلك صنفت متون الفقه ثم صنفت المطولات في الفقه، ثم ظهرت شروح كتب الحديث، شروح كتب الحديث استفادت من كتب الفقه، فأوائل كتب الفقه التي بسطت القول في المسائل الفقهية الخلافية كتب ابن المنذر، ومثلها مع شيء من الاختلاف المصنفات، مصنف ابن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق وأشباه هذه، فتجد أن هذه بسطت القول في المسألة بذكر أقوال العلماء المصنفات بدون ذكر أدلتهم لأنها رواية، ومثل كتب ابن المنذر تجد أنه يذكر القول ويذكر دليله.
ظهرت كتب الفقه بعد ذلك فيها ذكر الخلافيات وفيها دليل كل قول إذا كان الكتاب في الفقه عاماً مقارناً يقارن فيه صاحبه بين المذاهب، أما إذا كان كتاب مذهب خاص فإنه لا يورد أدلة الأقوال الأخرى.
خذ مثلاً كتاب ابن حزم "المحلى بالآثار شرح المجلى بالاختصار" وهو كتاب ألّفه للمبتدئ من طلاب العلم كما نص عليه في أثناء كلامه على صور صلاة الخوف، قال : "وإنما كتبنا هذا الكتاب للمبتدئ من طلاب العلم وتذكرة للفقيه، وهذا واقع من جهة أن الناظر فيه يجد أنه يذكر أقوالاً متعددة بالاسناد، فهو عبارة عن جمع ما يراه ناصراً لأصل المسألة، وقد يذكر الخلاف ويذكرالترجيح، أما الاستيعاب فإنه في كتب مطولة أُخر.
في هذا الكتاب مثلاً هل هو كتاب فقه أم كتاب حديث، هو على طريقة كتب ابن المنذر من جهة أنه يذكر المسألة ويذكر الاستطراد بذكر الأدلة تارة بالإسناد، وقليلاً بلا إسناد.
إذا نظرت في هذا الكتاب يحصل عندك شيء من التردد في فهم المسألة، لم؟ لأنه جاء تقرير المسألة مع بيان الخلاف مع الأسانيد مع الدراية مع الاستنباط مع رأي ابن حزم الأصولي، مع رده على المخالفين.(4/5)
مثال آخر : كتب ابن عبد البر “التمهيد" "والاستذكار" وغيرها، شروح الموطأ، لكنها شروح نظر فيها إلى المسألة لا إلى المتن، فهو قد يشرح المتن ثم يخرج من المتن إلى المسألة ثم يفصل الكلام في المسألة كأنها مسألة فقهيه مستقلة ، وهذا نوع من شروح كتب الحديث نقابله بكتاب ابن حزم، فكتب ابن عبد البر وكتاب ابن حزم متقابلان، هذا له طريقته وهذا له طريقته، إذا نظرت في هذا وهذا وجدت أن طريقة الفقهاء موجودة في كتاب ابن حزم، وطريقة المحدِّثين موجودة في كتاب ابن عبد البر، في الجملة.
بخلاف ما يظنه كثيرون، أن كتاب ابن حزم هو كتاب حديث، هو كتاب فقه، لكن فقه بناه على الأثر بتوسع، فكأنه صوّر المسائل الفقهية كمتن فقهي ثم استوعب ما في المصنفات وما نقل عن السلف في هذه المسائل ونظر فيها نظراً مختصراً، فهو كتاب فقه توسع فيه في الاستدلال.
تطورت المسألة من جهة التاريخ فدخلنا إلى مرحلة "المغني لابن قدامه، وما ماثله، مثل “المجموع شرح المهذب” للنووي، كتابان متقاربان من جهة أنهما كتابان فقهيان منهجهما واحد من جهة الفقه، هذا المغني كتاب حنبلي يعرض فيه إلى الأدلة والخلاف، وكتاب النووي كتاب شافعي يعرض فيه لتأصيل المسألة والأدلة والخلاف، يمتاز كتاب النووي عن كتاب ابن قدامه بأن فيه استيعاب للغويات، وفيه الحكم على كثير من الأدلة من جهة الإسناد، يقول : هذا اسناده صحيح، اسناده قوي، اسناده ضعيف ...الخ، وله ترجيحاته المخالفة للمذهب، كما أن ابن قدامة له ترجيحاته المخالفة للمذهب.
في مقابلتهما نذهب إلى كتب الحديث في ذلك الزمان “فتح الباري” مثلاً - بعده بزمان - فيه عرض المسألة بحسب إيراد البخاري واستيعابه للأدلة أو للخلاف هو بحسب حاجة المسألة إلى ذلك.(4/6)
فنخلص من هذا العرض الموجز إلى أن كتب الفقه وكتب الحديث يخدم بعضها بعضاً، فمن نظر في شروح كتب الحديث وأراد أن يستفيد، فلا بد أن يكون مؤصلاً في الفقه، فإذا أصل في الفقه كان نظره في كتب الحديث جيداً، لِمَ؟ لأن كتب الحديث ما تصوّر المسألة، وإنما تبني على أن المسألة صورتها واضحة، وأما كتب الفقه فهي تصور المسألة ثم تذكر دليلها - هذا واحد.
الثاني : أن كتب الحديث ليس فيها استيعاب للأدلة على اختلافها، لكن كتب الفقه تجد أنه يذكر دليل المسألة إذا كان من الكتاب أو السنة أو القياس أو القواعد الخ ذلك. يذكر كل ما في الباب عنده من أدلة في هذه المسألة؟
الفرق الثالث : أن كتب الحديث فيها إيراد المسألة بحسب مجيء هذا الحديث دون تكامل للباب، يعني الباب في كتب الحديث لا يتكامل في ذهن طالب العلم ، فإذا نظرت مثلاً في كتاب الجهاد في البخاري، أو الإمارة في مسلم، أو نظرت في باب من الأبواب في كتب الحديث فتجد أن هذه الأبواب فيها من الفوائد بقدر مجيئها في السنة لأنه مبني على الاستدلال من السنة فقط، لكن كتب الفقه يكون فيه عرض الباب بذكر المسائل التي تدخل تحت هذا الباب ودليلها من القرآن أو من السنة - وهو موجود في كتب الحديث- أو من القياس أو من القواعد أو من قول صاحب أو استنباط، أو فتوى للإمام، فتجد أن المسائل في كتب الفقه أكثر منها في كتب الحديث.
يعني ذلك أن من نظر في كتب الحديث جميعاً فإنه يخلص بنتيجة وهي أن المسألة إذا كان دليلها حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فهو موجود في كتب الحديث بتفصيل وببيان الخلاف فيه ودرايته وروايته وما يتصل بذلك، لكن إذا كان دليلها قاعدة عامة، دليلها آية، دليلها القياس، دليلها قول صاحب، دليلها فتوى الإمام، فلا تجدها في كتب الحديث.(4/7)
ينبني على ذلك أن الناظر في كتب الفقه يكون الباب في ذهنه أرتب وأوسع، لكن كتب الفقه فيها قصور - في العموم - من جهة النظر في الحديث أو في المتن بدون تأثر صاحب المذهب بمذهبه في النظر، لأنه يكون الدليل من السنة مثلاً في البخاري لكن في كتاب المذهب الفقهي ولو كان مطولاً خلافياً، فيه الخلاف العالي والنازل، لكن يكون نظره في الحديث بناءً على مذهبه، هذه الحيثية هي نوع من القصور في كتب الفقه من جهة طالب العلم المتوسع، فيكملها بالنظر في كتب الحديث، لكن كتب الحديث - يعني الشروح المطولة - تجد أن المسألة لا يتصورها طالب العلم تصوراً جيداً، يعني في المسائل التي تحتاج إلى تصور، أما في المسائل الواضحة فليس الكلام فيها، فلا يتصور المسألة تصوراً واسعاً، لا يتصور المسألة تصوراً دقيقاً، لا يستخدم أصول الفقه في الاستنباط، بخلاف كتب الفقه الموسع.
تستخدم أصول الفقه في كتب الحديث المطولة إذا احتاج إلى الترجيح في الخلاف.
من الفروق المهمة أنه يظن طالب العلم أن شارح الحديث أقرب إلى الاجتهادمن شارح المتن الفقهي، أو يكون - هذا الشارع - ولو كان يورد الأدلة، لكنه لا يسلم من التعصب.(4/8)
أما شارح الحديث فقد يظن كثير من طلاب العلم أنه يسلم من التعصب، فيقبل على كتب الحديث بناءً على أن أصحابها متجردون - رحم الله أهل العلم جميعا. وكتب الفقه يقول :لا عندهم تقليد، وعندهم نصرة لمذاهبهم، فلا ينظر فيها، وهذا غلط من جهة أن أصول الاستنباط التي بها يستنبط العالم ما هي ؟ العالم الذي سيشرح كتب الحديث يستنبط من الأدلة ويرجح بناءً على ماذا ؟ لا شك أنه بناء على ما عنده من أصول الفقه، - لأن أصول الفقه هي أصول الاستنباط- فهو سينظر في هذه المتون، ويستنبط ويرجح بين الأقوال، لكنه لن يسلم من التقليد لأنه سيرجح بناءً على ما في مذهبه من أصول الفقه، ويظن الناظر أنه يرجح بناءً على الصحيح المطلق، وهذا غير وارد البتة، لأنه ما من شارح للحديث، إلا وعنده تبعية في أصول الفقه، أصول الاستنباط، فهو سيشرح ويقول : هذا الراجح لأنه كذا، فيأتي طالب العلم المبتدئ أو المتوسط ممن ليس له مشاركة في الاستنباط عميقة، فينظر إلى ترجيح صاحب الحديث بأنه أكثر تجرداً من ترجيح صاحب الفقه، وهذا غلط لأن صاحب الفقه متأثر في استنباطه بمذهبه، وكذلك شارح الحديث متأثر في استنباطه بمذهبه، لكن بما أنه يشرح الحديث فينظر الناظر إلى أنه متجرد، وهو متجرد بلا شك لن ينصر ما يعتقد أنه غير صحيح، لكن سيتأثر في الباطن بأصول الفقه التي دَرَسَها، ولهذا لا بدّ أن تعلم أن الشراح إنما هم أتباع مذاهب، وليسوا مجتهدين الاجتهاد المستقل أو المطلق، لأن الاجتهاد المطلق أو المستقل - على خلاف في التسمية والتعريف - راجع إلى أنه يجتهد في أصول الفقه كما أنه يجتهد في النظر في الرجال، فله اجتهاداته في الفنين جميعاً، مثل الأئمة الأربعة، وبعض من اندرست مذاهبهم كسفيان والأوزاعي وابن جرير، فهؤلاء لهم اجتهادات في أصول الفقه وفي الرجال جميعاً، وكذلك ابن حزم له طريقة مخالفة لما قبله في أصول الفقه أصول الاستنباط وكذلك في النظر في الرجال، لا يقلد، وإنما له(4/9)
نظره المستقل، فهذا يسمى مجتهد مستقل، لكن بعدما دوِّنت المذاهب وانتشرت لا يوجد هذا، حتى شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه في أصول الفقه وهي أصول الاستنباط يتبع مذهب الحنابلة، إلا ما ندر مما رجحه أو بحثه بحثاً مستقلاً، مثل الكلام في عموم البلوى وأشباه ذلك، في مسائل أخذها من غير أصول الحنابلة، ولهذا إذا نظرت في المسودة، مسودة آل تيمية في أصول الفقه وجدت أن استدراكات شيخ الاسلام على قول أبيه وجده في هذه المسائل نادراً أو قليلاً.
إذا أتيت إلى مثل الحافظ ابن حجر والنووي وأشباه هؤلاء، فإنه من جهة الاستنباط سيدخلون في النظر، هل هذا اللفظ من ألفاظ العموم أم لا؟ هل المفهوم يخصص أم لا ؟ هل مفهوم المخالفة معتبر في هذا أم لا ؟ هل الدلالة دلالة نصية أو دلالة ظاهر؟ هل ينسخ هذا هذا أم لا ؟ فيرى طالب العلم الذي ليس عنده مشاركة في كتب أهل العلم في الأصول، يرى أن ما ذكره شارح الحديث أرجح مما ذكره الفقيه، لِمَ ؟ لأن هذا يشرح كتاب الحديث ويعتمد على السنة وذاك يعتمد على كتاب المذهب، وهو في الواقع ليس الأمر كذلك، لأن هذا وهذا جميعاً يتأثر في الاستنباط والنظر بأصول الفقه التي دَرَسَها . وهي أصول مذهبه.
فالنووي وابن حجر رحمهما الله تعالى في الاستنباط في أكثر المسائل بل في جل المسائل هم تبع للشافعية، ويأتي الناظر ويقول : رجّحه النووي، ويذهب عن قول ابن قدامة مثلاً أو يذهب عن قول فلان من الحنفية أو غيره باعتبار أن ذاك ينصر مذهبه لأنه رأى القول في كتاب فقهي، وهذا لن ينصر مذهبه باعتبار أنه وجده في كتاب شرح مسلم أو البخاري أو غير ذلك، هذا من عدم معرفة الفرق بين كتب الفقه وكتب الحديث.(4/10)
في كثير من المسائل يأتي طالب العلم وينقل أقوالاً عن الحافظ ابن حجر أو عن النووي، حتى في صورة المسألة، حتى في نوعية النظر في الخلاف، وإذا تأمل وتوّسع وجد أنهم نقلوها من كتب الفقه الشافعية، وعلماء الشافعية رحمهم الله تعالى خدموا كتب الحديث، ولهذا صارت ترجيحات المحدثين المتأخرين - أو الناظر في كتب الحديث من المتأخرين - تبعاً لترجيحات الشافعية لأنهم خدموا كتب الحديث أكثر من غيرهم . خدمة الحنفية لكتب الحديث قليلة، خدمة الحنابلة لكتب الحديث أقل، وهكذا.
فإذا طالب العلم الذي يريد أن يؤسس نفسه من جهة النظر - بدون أن يكون يوماً بالخليصا ويوماً بحزوى - يكون دقيقاً في النظر في أنه ينظر في كتب الفقه وكتب الحديث ويعلم هذه ما مميزاتها، وهذه ما مميزاتها، وحتى تصل إلى منهجية دقيقة في هذه المسألة فرتب نفسك في مراحل :(4/11)
المرحلة الأولى : أنه إذا عرضت لك المسألة في كتب الحديث، فاطلب تصورها من كتب الفقه، لأن تصوير شروح الحديث غالباً ما يكون ناقصاً، بناءً على أن الناظر في هذا الكتاب - وهو كتاب فيه الخلاف والترجيحات - ليس من الطلاب المبتدئين، خلاف حال كثيرين من الشباب أو طلبة العلم الصغار، فإنه يقبل على هذه الكتب المطولة وهو لا يعرف صورة المسألة أصلاً أو مقدماتها في كتب الفقه، فأولاً تطلب صورة المسألة من كتب الفقه، ثم تنظر في كتب الفقه ما دليل المسألة ؟ فإن كان دليلها من القرآن فهذه ظاهرة، في أنك لن تجد الكلام مفصلاً عليها في كتب الحديث إلا إذا كان ثم حديث يدل عليها، فإذا كان دليلها من القرآن فتحتاج إلى كتب أحكام القرآن، كتب أحكام القرآن كل كتاب تبع لمذهبه، أحكام القرآن للقرطبي مالكي، أحكام القرآن للكيا الهراس شافعي، أحكام القرآن للجصاص حنفي، أحكام القرآن لعبد الرزاق الرسعني حنبلي، وهكذا. فإذاً هناك تأثيرات أيضاً من هذه الجهة، فلا يظن الظان أنه بوجود المسألة في كتاب أحكام القرآن فإنه خلص المؤلف فيها من التقليد، ليس كذلك، بل تجد أنهم ينصرون مذاهب فيها الدليل واضح من الكتاب، لكن يدخلون في النظر منه من جهة أصول الفقه، فينصرون المذهب الخاص لقناعتهم بذلك. من جهة الدليل والاستدلال.
فإذا صورة المسألة أولاً أخذناها ثم يليها دليلها، فإن كان من القرآن فظاهر. إذا كان من السنة فتنظر إلى قول شارح كتاب الفقه، وبعده تنظر إلى قول علماء الحديث وشراح الحديث في كتبهم ، فيكون النظر في كتب أهل الحديث المطولة نظر في هل إيراد هذا الكتاب - الكتاب الفقهي - لهذا الدليل والاستدلال كاملاً أم غير كامل ؟ هل الأسانيد صحيحة أم لا ؟ هل الدليل صحيح من جهة النقل أم لا؟ ثم النظر في الدلالة، هل هي كما قال أم لا ؟ فيكون في هذه المرحلة تخدم كتب الحديث كتب الفقه ويكون الناظر في كتب الحديث مؤصلاً في المسألة الفقهية بعد معرفة دليلها.(4/12)
المرحلة الرابعة : أن ينظر في الدليل إذا كان من جهة القواعد، القواعد - كما ذكرنا - قسمان : قواعد متفق عليها وقواعد مختلف فيها.
القواعد المتفق عليها هذه تمشي مع جميع المذاهب، أما المختلف فيها فكل مذهب له قاعدة، ودليل هذه القاعدة في المذهب تارة يكون مبنياً على فهمهم لدليل من الكتاب أوالسنة، وتارة يكون مبنياً على فروع منقولة عن إمام المذهب.
فإذا كان الدليل من التقعيد عاماً يعني من القواعد الكلية فإن هذا القول به ظاهر وواضح، أما إذا كان هذه القاعدة دليلها خاصاً بمذهب أو فروع منقولة في مذهب فإنه لا تخلو المسألة أيضاً من جهة النظر إلى تنازع في الفهم والدلالة وفي دليل هذه القاعدة، تجد قواعد يستدل بها الشافعية لا يوافقهم عليها الحنابلة، قواعد عند الحنفية ليست مستقيمة عند المالكية والحنابلة والشافعية، قواعد يذكرها شيخ الاسلام ابن تيمية خرج بها عن بقية المذاهب، تعقيدات واضحة من دلالة النصوص العز بن عبد السلام أتى بقواعد في كتابه “القواعد الكبرى” قواعد الأحكام في مصالح الأنام في كثير من التقعيدات - كثير ليس الأكثر - خرج بها عما هو صواب في نفسه، وهكذا، فإذاً إذا كان الدليل بالقاعدة لا يعني أنه صحيح مطلقاً، بعض طلبة العلم أو الشباب إذا قيل له القاعدة كذا يظن إنها خلاص انتهت مسلّمة، بمعنى أنها كالنص، لا، ينظر في القاعدة إذا كانت كلية فهذا صحيح، أما إذا كانت قاعدة خاصة بمذهب من المذاهب فيعرض لها النزاع كما يعرض لأي مسألة فقهية.
بعد ذلك تنظر في قول الصحابي، هل استدلوا بأقوال الصحابة أم لا ؟ هل هذا الصاحب له مخالف أم لا؟ الخ تنظر فيما يأتي به من الأدلة، وللنظر في كتب الفقه أو كتب الحديث رتب نفسك في تصوّر أي مسألة لاستيعاب ما فيها بهذه المراحل الستة -هذا الآن تقسيم آخر -.(4/13)
الخطوة الأولى : تصوير المسألة . يعني أي مسألة تعرض عليك في كتب الفقه أو كتب الحديث رتبها حتى تفهمها بفقه على هذه المراحل الستة ... ([1][1])
الخطوة الثانية : حكم المسألة بحسب ما عُرف في كتاب فقه أو كتاب حديث الخ، ما حكمها ؟ مثلاً في المتن الفقهي يقول : كذا جائز، أو ويشترط كذا، فما هي صورة هذا الشرط ، والشرط حكم فتفهم الصورة ثم تفهم الحكم.
الخطوة الثالثة : دليل هذا الحكم، بحسب إيراد المؤلف، ثم ينظر في هذا الدليل بحسب الخطوات التي ذكرتها لك من قبل.
الخطوة الرابعة : وجه الاستدلال، وهو استخدام أصول الفقه في النظر في الأدلة، كيف استنبط من هذا الدليل ذلك الحكم.
الخطوة الخامسة : الخلاف في المسألة، ما هو الخلاف في المسألة؟ الأقوال الأُخر؟ وذاك القول الآخر تعمله بنفس الطريقة، ما دليل القول الآخر؟. ما وجه الاستدلال؟ الخ
الخطوة السادسة : الترجيح.
فلو جعلت لكل مسألة في كتاب فقه أو كتاب حديث هذه المراحل في النظر، وجدت أن كتب الفقه وكتب الحديث غير متعارضة، هذا يخدم هذا وهذا يخدم هذا، وهو الذي تراه في صنيع العلماء والأئمة، ما ترى عالماً يزهد في كتب الفقه، أو ترى عالماً يزهد في كتب الحديث، حاشا وكلا، بل يقول : كتب الحديث هي الأصل، وكتب الفقه هي استيعاب للأبواب بحسب أدلة المسائل.
هذا يحتاج إلى مزيد بسط وتفصيل في بعضه، لكن الخلاصة من هذه الكلمة الموجزة أن طالب العلم ينظر إلى كتب الفقه وكتب الحديث على أنها شيء واحد غير منفصل.(4/14)
وإذا نظر الناظر وقال: لا ليس الأمر كذلك، كتب الحديث هي الأصل استنباط من السنة، وأما كتب الفقه فهي آراء الرجال، فنقول : هذا الكلام غير دقيق، من مارس النظر في هذه وهذه، ولمن استقبل استفتاءات الناس ومشاكل الناس، لكن طالب العلم من حيث نظره لنفسه صح، هو يحتاج إلى نوع معين فيستوعب ما فيه، لكن من حيث فهم الباب فهماً كلياً فإنه لا بد له أن ينظر في هذا وهذا لا يستغني عن هذا ولا عن هذا.
جرّب في هذه وخذ مسألة، وانظر لها في كتاب فقه، فتجد أنها مذكورة ودليلها وقد يكون ثم خلاف بحسب الحكم، لكن تجدها في شرح كتاب من كتب الحديث قد يورد لك خلاف وأقوال فيها، إذا نظرت في كتاب فقهي أطول منه ستجد أنه يورد لك هذا، وذكرت لك في البداية كتب ابن المنذر، فإن كتب أهل الحديث في الخلاف وكتب الفقهاء في الخلاف، معتمدة بكثرة على كتب ابن المنذر، ومنها الموجود ومنها غير الموجود، وكتب ابن المنذر من أشهرها الأوسط والبسيط، الأوسط موجود أكثرة، والبسيط موجود قطع يسيرة منه، ونحو ذلك وكتب ابن عبد البر، تجد أنه ما يورد في المغني أو ما يورد في المجموع شرح المهذب أو في خلافيات أهل العلم هي مبنية على هذه الكتب.
فإذا الناظر من طلاب العلم ينبغي له أن يكون جامعاً في النظر بين هذا وهذا، لا يكون زاهداً في كتب الفقه فيحرم النظر وفهم الفقيه وذهن الفقيه وشمولية الفقيه في الباب، ولا يكون زاهداً في كتب الحديث لأجل أنها أدلة، والأدلة موجودة في كتب الفقه، فيفوته كثير من البسط في المسائل والخلاف ومعرفة آراء أهل العلم في المسألة، حتى يكون ترجيحه ونظره على أساس. وهو الاطلاع على أقوال الناس في المسألة .
نكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة، وهي لها في الحقيقة ذيول وشروح وبسط، ونستقبل بعض الأسئلة.
=== الأسئلة===(4/15)
س / يقول : قد يعترض شخص ويقول : إننا لو تأملنا الكتب في شروح الحديث لرأيت أنهم أقل خطأ من غيرهم، من الذين أقروا ... كتباً في الفقه، فنجد المحدثين لا يستدلون بقول صاحب، ولو وجدوا حديثا ولو ضعيفاً، والفقهاء أغلبهم يقدمون الرأي على الحديث إذا ضعف، فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب : المشكل في مثل هذه المسائل أن يكون طالب العلم الذي يلقي مثل هذه الإشكالات، أن يكون عنده النظري واسع، والتطبيق قليل، أي أنه فهم هذه الكليات من دون ممارسة، لكنه لو مارس ممارسة واسعة لوجد أن هذا الكلام غير صحيح، فيقول : لو تأملنا في كتب شروح الحديث لرأيت أنهم أقل خطأ من غيرهم، هنا أقل خطأ مبني على ماذا ؟ لا شك أنه لا بد أن يكون عند الناظر ترجيح في كل مسألة من أن كلام الشارح أرجح من كلام الفقيه المسن، وكلامنا ليس على الترجيح بين فلان وفلان، بين ابن حجر وابن قدامة، بين النووي وابن قدامة أونحو ذلك، ليس الكلام في هذا، الكلام في ميزة كتب الفقه وكتب الحديث وما الفرق بينهما حتى يستوعب طالب العلم هذا الفرق، وكون كتب الحديث أقل خطأ الجواب ليس كذلك، هي فيها معرض للاجتهاد والنظر، وكتب الفقه فيها معرض للاجتهاد والنظر، كتب الفقه تختلف بحسب صاحب الكتاب الشارح، فإذا كان محققا عالماً فيكون رؤيته في المسائل وترجيحاته بناءً على نظره في الأدلة نظره في القواعد ... الخ،هذه مكانة العالم، ونظر المحدث قد يكون ضعيفاً، مثلاً خذ شروح طائفة من علماء الهند لكتب الحديث، ؟؟؟ كثير من علماء الهند شرحوا البخاري شرحوا مشكاة المصابيح، وبعضهم شرح مسلم أيضاً، منهم من شرح الترمذي، هي شروح أحاديث، لكن شرحهم له هل هو على طريقة أهل الحديث، أو على طريقة الحنفية؟ أكثرها على طريقة الحنفية، فيقرر لك مذهب الحنفية من دون أن تشعر، فيأتي الناظر ويقول هذا كله سنة وأدلّة الخ، لكن أدلة الآخرين قد يورد منها دليلاً أو دليلين ويكون هذا الذي أورده ليس هو الحجة في(4/16)
الباب، إذا نظرت إلى بعض كتب الحديث المتقدمة لما فيه نصرة لمذهب معين، مثل مثلاً كتاب البيهقي "السنن الكبرى" و"السنن الوسطى" و"السنن الصغرى" له هذه كلها مطبوعة، تجد أنه أراد الاستدلال لأقوال الشافعي، أتى التركماني في تعقباته، وعارض ما استدل به البيهقي في المسائل، الحنابلة في بعض المسائل لهم رأي آخر، فإذاً اعتماد العالم على الأثر والحديث تكون الحجة معه ويكون أقل خطأً ممن يكون اعتماده على النظر والرأي، هذه كلية صحيحة، ولهذا يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في موضع له أظنه في أول "الاستقامة" يقول : إن أهل الحديث أو الذين يعتمدون على الأثر من أهل العلم هم أقدر الناس على الفتوى بما يناسب الزمان الذي يعيشون فيه، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان، فيكون عنده انطلاق وسعة في الفتوى، بخلاف أهل الرأي والفقه الجامد فإنهم يكونون عند النظر في المسائل النازلة والحادثة أكثر انحباساً وأقل انطلاقاً فيها، لِمَ؟ لأن هذا ينظر في النصوص ويستنبط منها، وذاك ينظر في نصوص إمام ويريد أن يطبقها، ونص الشارع يستوعب الأزمنة والأمكنة وأما نص الإمام المعين -على جلالته- فإنه كان بناءً على البلد التي كان فيها، ولهذا صاحب الأثر، -نقول : نعم-، أقل خطأ من صاحب الرأي وصاحب الفقه المجرد من الدليل، هذا لاشك، فذاك تكثر أخطاؤه وهذا أقل، لكن بالنسبة لكتاب حديث وكتاب فقه، لا، يكون بحسب المؤلف، المؤلف من هو ؟ انظر مثلاً للفرق بين سبل السلام ونيل الأوطار، تجد أن الفرق واضح بين هذا وهذا، الشوكاني مثلاً في مصطلح الحديث وفي النظر في الاسناد تبع للحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير ونحوه، ما له اجتهاد في الاسناد ولا يعرف الرجال ولا طبقاتهم ولا كذا. وإن كان نظر فيه فهو مقلد بحت، إذا أتى في الأصول فله اجتهادات في الأصول ربما خالف بها أئمة المذاهب، ربما له اجتهادات،كما في إرشاد الفحول، يرى أشياء مخالفة للجميع، طيب، يرى الناظر مثلاً في نيل(4/17)
الأوطار فإذا صحح ورجح يقول هذا مجتهد، يعني لا يقلد ولا يتعصب للآخرين، لكن ملكته الاجتهادية ليست كاملة لأنه في الأسانيد مقلد، فقليل ما يكون عنده معرفة بالتخريج والإسناد استقلالاً، وإنما هو ناقل عن غيره، لكن من جهة الأصول نعم من جهة اظفطلاع فخفى عليه بعض الأقوال وبعض الأدلة، فهو يرجح بناءً على ما أورد، لكن يكون في المسألة أدلة أخرى، قواعد، لصاحب هذا القول، لا يوردها، وفي الغالب هو لخّص الفتح وزاد عليه، لكن في سبل السلام تجد أن صاحبه ينظر نظراً آخر لأنه لخص كتاب البدر التمام وزاد عليه أشياء، فالنظر مختلف، نظر شرح الحديث في سبل السلام مختلف من حيث الوجهة والمنهج عن نيل الأوطار، وهما كتابا حديث، هذا شرح البلوغ، وهذا شرح المنتقى، إذا فهذا القول ناتج من عدم الاستيعاب، وعدم معاناة كتب الفقه وكتب الحديث ولو عانى واستوعب لوجد أن المسألة ليست على ذلك،، أما قوله أن الفقهاء أغلبهم يقدمون الرأي على الحديث إذا كان الرأي فيه ضعف،هذا غير صحيح.
س / ما هي عقيدة الماوردي، وما رأيكم في كتابه " الأحكام السلطانية"؟
الجواب / الماوردي أشعري، واتهم بالاعتزال، وهو صاحب تفسير النكت والعيون، طبع في الكويت ثم طبع في غيرها، واتهم بالاعتزال في مسائل وفي الجملة هو أشعري المذهب. وكتابه الأحكام السلطانية من جهة الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير دقيق، غير موافق لتفاصيل مذاهب السلف.
س/ يقال أن ابن حزم مذهبه ظاهري؟
الجواب / وهل يشك في ذلك أحد؟ ابن حزم ظاهري في الفقه وفي غيره.(4/18)
س/ من المعروف عند أهل الحديث أنه لا ينظر إلى حال الصحابي وعدالته وشخصيته فهو ثقة في جميع الأحوال،لما لهم من المنزلة الرفيعة، ولكن يعارض هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم لا يسلمون من سوء الحفظ وبينهم منافقون، وقول الله : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ } الآية نزلت في أحد الصحابة، وكيف لا ينظر في عدالة الصحابي، أرجوا التوجيه ؟
الجواب / إذا كان الله جل وعلا هو الذي زكى الصحابة وهو الذي عدلهم فلا قول لأحد، وبحث عدالة الصحابة بحث مطول معروف، والذي أورد هذه الشبهة من الزمن الأول المعتزلة، وهي شبهة موجودة عند الزيدية في هذا الزمن وما قبله، ولهذا تجد أن ابن الوزير اليماني أفاض في رد هذه الشبهة، في كتابه الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، وفي كتاب آخر سماه "العواصم والقواصم" .
س / هذه المرة الأولى التي أحضر فيها هذا الدرس، وهو أول درس أحضره، سؤالي : هل بدايتي في طلب العلم صحيحة بهذا الدرس، أم علي أن أحضر درساً قبل هذا الدرس، وماذا تقول فيما يرد على الذهن أحياناً من أن طلب العلم يحتاج إلى صاحب عقلية فذة، وأما غيره فلا نصيب له من العلم؟
الجواب : الكاتب ما شاء الله خطه جميل، وسياقه لما أورد سياق جيد وصحيح يعني من حيث العربية، تركيب جيد، وهذا يدل على أنه مؤهل لطلب العلم، والاستدلال بالخط على العقلية لها أصل، الحافظ الذهبي كان مقرئاً من القراء، قرأ بالعشرة وله كتاب طبقات القراء، كان من أسباب توجهه للحديث أن أحد مشائخه قال له حينما رأى خطه خطه غير جيد، قال له : خطك يشبه خط المحدثين، قال : فوقع حب الحديث في قلبي، ونقول للأخ : خطك يشبه خط العلماء فتوجه إلى لخير.
س/ ما الذي يمنع أن يكون النووي مثلاً مجتهداً مستقلاً، فله اجتهادات في الأصول ؟(4/19)
الجواب / مجتهد مستقل؟ لا هو شافعي مجتهد في المذهب لا مجتهد مطلق فضلاً من أن يكون مجتهد مستقل، وإذا كان مجتهداً في المذهب لا يعني أنه يجتهد في مسألة أو مسألتين أو خمس أو عشر غير مذهب الشافعي، لكن هو استيعابه لأقوال المذهب، وأما المجموع شرح المهذب فهو بداية للنووي رحمه وتوفي قبل إكماله، وأوله إلى كتاب الحيض ؟؟؟؟ وحاول أن يستوعب فيه الأقوال والروايات والنظر.. ثم طال عليه فاختصره بعد ذلك، مثل الحافظ ابن حجر أراد أن يشرح البخاري شرحاً مطولاً فصعب عليه ذلك فشرحه شرحاً متوسطاً وهو فتح الباري ، هذا ذكرها بعض أهل العلم ونقلها الكتاني في فهرس الفهارس والأثبات، عن بعضهم وقال هو على عهدته، وجدت له ما يؤيد هذا الكلام.
س/ هل المقصود بأهل الحديث الذين يدرسون علم الحديث والمصطلح وعلم الرجال و الجرح والتعديل، أم أن المراد بأهل الحديث الذين ورد ذكرهم عند بعض السلف ؟(4/20)
الجواب / فإذا قيل أهل الحديث فثم اطلاقان، أهل الحديث باعتبار العقيدة باعتبار السنة، وأهل الحديث باعتبار الرواية، فإذا قيل أهل الحديث فهذا يشمل رواة الأحاديث، وقد يكون في نفسه ليس من أصحاب العقيدة الصحيحة، ليس على عقيدة أهل الحديث، وأهل الحديث من جهة العقيدة قد يكون فقيها ليس عنده علم بطريقة أهل الحديث في الرواية والإسناد وطبقات الرواة ومصطلح الحديث والجرح والتعديل، لكن يكون على عقيدة أهل الحديث فهو من أهل الحديث، فإذا أهل الحديث لها اطلاقان ، اطلاق يدخل فيه الرواة، وهذا إذا نظر إلى جهة الرواية فقط، واطلاق يراد به صحة الاعتقاد فهو الذي قال فيه الامام أحمد لما سئل عن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، قال : إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم، قد يكون فقيها يكون موافق لأهل الحديث، فأهل الحديث الذي يعتقدون ما جاء في الأحاديث ولا يردون الحديث بالعقل، هذا من أهل الحديث بعام، وأهل الحديث باعتبار الرواية نعم كل راو يكون من رواة الأحاديث يدخل في مسمى أهل الحديث، في التقييد.
س/ هل هناك مراجع تكلمت عن هذا الموضوع باسهاب؟
الجوواب / هي موجودة في كتب آداب الطلب في بعضها، ومجموعة من جهة الممارسة.
س/ ما رأيك فيمن قال إن الامام المجدد يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب حنبلي غير مجتهد، وليس عنده نظر في الأدلة وأنه متميز في التوحيد فقط؟(4/21)
الجواب / هذا قول قاله بعض العلماء لكن منشأ هذا القول عدم معرفة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وعدم معرفة كتبه ، ولا حال نجد قبل مجيء الدعوة، نجد قبل مجيء الدعوة لا تعرف كتب الحديث أصلاً، ترى في رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، يقول لأحد أهل العلم كاتبه في رسالة قال: وقد نظرت يوماً عندك في كراريس نقلتها من أول البخاري في مسألة الإيمان إن هذا هو الحق، فسرني ذلك لما أعلم من أن ذلك مخالف لطريقة آبائك وأجدادك لأنهم أشاعرة...، نجد نادراً تجد فيها كتاب حديث، إذا وجد ففيها البخاري للبركة لكن تجد السنن، تجد شروح الأحاديث ؟ لا تجد وإنما فيه كتب الفقه وبعض البخاري للبركة وليس للنظر ، لما أتى الشيخ رحمه الله تعالى بدعوته امتلأت الدرعية بكتب الحديث حتى ترى أن الشيخ سليمان بن عبد الله في كتابه تيسير العزيز الحميد نقل عن أكثر من ستمائة كتاب من كتب الحديث بعضها لا نعرفه الآن، منها أشياء المعول في النقل عليه، ما ندري عنها أي هذا الكتاب، إلا عنده، والكتاب معروف لكنه انتهى. وبعضها معروف لكنه انتهى، أخذ لما جاءت الجويش أو الحملة الظالمة ، وأخذوا ما أخذوا من كتب الحديث وفرقوها، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب أبناءه محدثون، الشيخ عبد الله له شرح في البخاري، الشيخ سليمان بن عبدالله أيضاً له شرح في البخاري يومي بعد المغرب في مجلس الأمير، يذهب في الإمارة ويلقي هذا الدرس، وصفه ابن بشر، كذلك لهم إقراء في مسلم والسنن وفي المنتقى وفي البلوغ الخ. وأنت لو ذهبت إلى غير هذه البلاد وجدت أن العناية بكتب الحديث لا توجد إلا عند السلفيين، والسلفيون من أين جاءتهم العناية بكتب الحديث، هل هي ممتدة عندهم في بلادهم ورثوها؟ أم كانت نتيجة الدعوة السلفية ؟ اهتمام أصحاب الحديث واتباع الدعوة السلفية بكتب الحديث وكتب فقه الحديث كان ناشئاً من اهتمام علماء الدعوة بها، لكن كثرة كلامهم في الفقهيات وقلة كلامهم في كتب(4/22)
الحديث وشروح الأحاديث فيما بين أيديكم الآن له سبب وهو أن أكثر كلامهم كان لأجل الحاجة، حاجة العامة حاجة الناس، هم أئمة دعوة معلمون مفتون مدرسون، يستقبلون كلام الناس يستقبلون الفتاوى والاشكالات، أمامهم دولة وارساليات قاضي عليه مشكل، ومفتي في بلد استفتى فأرسل، فكان كلامهم راجعاً إلى قول فصل في المسألة بما هو راجح عندهم لأجل الحاجة العلمية لذلك، ولو درست دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دراسة جيدة لوجد أن سبب توجه الناس في كثير أو الأكثر من بلاد المسلمين اليوم من جهة السلفيين كان ناتجاً من اهتمام الدعوة بكتب الحديث. كتاب التوحيد فيه في كل باب : رواه أبو داود بإسناد جيد بإسناد حسن، هذا حديث صحيح... الخ
كيف يقال إن الشيخ ما يميز صحيح الحديث من سقيمه !!
والعالم الذي ذكر هذا الكلام عن الشيخ بناه على استدلاله بحديث خروج المصلي إلى المسجد، يعني دعاء المشي إلى الصلاة : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ... حديث أبي سعيد الخدري، وقال إنه أورده في أول كتاب آداب المشي إلى الصلاة وهو حديث ضعيف، وهذا يدل - هذا كلام ذلك العالم-على أنه لا يميز بين صحيح الحديث من سقيمه.
نقول : هذه النتيجة صحيحة لو كان الأصل الذي بنيت عليه صحيحاً، فهو قال هذا الحديث ضعيف ولهذا الشيخ لا يميز صحيح الحديث من سقيمه، نقول: أنت ضعفت الحديث لكن الحافظ ابن حجر حسنه، فالشيخ إذا أخذ كلام الحافظ وحسنه وأورده، وأورد هذا الحديث فهل يشترط لدرايته صحيح الحديث من سقيمه أن يتبع رأي أحد العلماء جاء بعده بمائتي سنة، أو ثلاثمائة سنة، هذا ما يقوله منصف، لأن نفس الأحاديث مختلف فيها بعضهم يصحح وبعضهم يضعف، فليس دليل الحكم على الإمام محمد بن عبد الوهاب أنه لا يدري أنه أورد حديثاً هو عند بعض العلماء ضعيف هذه حجة واهية، كون بعض العلماء ضعفه وهو أورده بناء على من صححه، هذا لا نخلص منه بما ذكر.(4/23)
س/يقول : قرأت مختصر تفسير ابن كثير للرفاعي، فماذا أقرأ بعد ذلك في التفسير ؟
الجواب / تقرأ كتاب ابن كثير الأصل مرة ثانية وثالثه فيه بركة.، إذا أردت أن تتوسع ترجع لابن جرير في بعض الآيات المشكلة، كتاب أحكام القرآن للقرطبي وما شابه ذلك.
س/ ما معنى أشعري المذهب ؟
الجواب / يعني أنه يتبع في العقيدة أبا الحسن الأشعري .
س/هذا يسأل يقول أن أحد الأخوان نصحه بأن لا يحضر دروس الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله، ويعلل ذلك بأن الشيخ حفظه الله لا يصلح لمن ابتدأ لطلب العلم لأن الشيخ يعلق تعليقات بسيطة لا تصلح إلا لمن تبحر في طلب العلم؟
الجواب / هذا يرجع إلى استيعاب طالب العلم إذا كان يحضر ويستوعب ويفهم فكلام الشيخ درر، وهو ما ينبغي العناية به من كلام أهل العلم في هذا الزمن حفظه الله.
س/ أيهما أصح عبارة : التوحيد هو أهم الواجبات، أو التوحيد أول الواجبات؟
هو أول واجب وآخر واجب وأهم واجب فيما بينهما. أول واجب يعني قبل البلوغ، وآخر واجب قبل الممات، وما بينهما هو أهم الواجبات.يعني التوحيد.
س / لماذا يذكر قوم لوط في القرآن بفعلهم ولم يذكروا بكفرهم؟ فهل هم مسلمون قبل دعوة النبي لوط أم ماذا؟
الجواب / هذا سؤال معروف، وفي جوابه نرجع السائل إلى كتب التفسير لأني ما أريد أن يأخذ كلامي، لأن هذه شبهة أوردها طائفة من المعاصرين بأن نبياً - وهو لوط عليه السلام - إنما ذكر عنه النهي عن الفاحشة فقط، وأصاب القوم ما أصابهم الخ. أولئك لم يكونوا كفاراً، وإذا رجع السائل إلى كتب التفسير في أول موطن ذكرت فيه قصة لوط وجد كلامهم فيه.
س/ هل هناك فرق بين الرِجْل والقدم؟(4/24)
الرجل من حيث اللغة يشمل ما بين أطراف الأصابع إلى اتصال الفخذ بالحوض، هذا كله رِجل، وهي تشمل الفخذ والركبة والساق والقدم، فإذا قيل: الرجل فتشمل هذا جميعاً .والقدم خصوص القدم، ففي الحديث : يضع الجبار فيها قدمه، وفي رواية رجله، وفي رواية رجله المقصود منها القدم تفسيرها بالرواية الأخرى، لأنه يطلق الكل ويراد به الجزء مثل تفسير قول الله جل وعلا { السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا } أيديهما ليس إلى آخر العضد، وإنما إلى الكف فقط.
س/ هل نكتفي بسماع الشروح العلمية بعد العودة إلى مدننا لقلة المشايخ هناك؟
الجواب / نعم تستمع لشروح الكتب في الأشرطة وما أشكل عليك تسأل أهل العلم عنه بالهاتف، أو إذا قدمت تجمع الاشكالات، لأن معرفة الإشكال علم في نفسه، إذا استشكلت فهذا دليل الفهم، لكن إذا مررت بالكلام ولم تستشكل شيئاً فهذا يدل على إما أنك فهمت كل شيء، وهذا -في الغالب-لا يكون في المبتدئ، وإما أن يكون فهمك لا شيء.لأنه ما استشكلت شيء ،كله واضح واضح واضح، يعني ما فهمت ؟؟؟ فاستماع الأشرطة طيب،نفع الله بها، لكن لا بد من الاتصال بأهل العلم لأن هناك الهدي والسمت والدل ورؤية العالم للأمور وكيف يتعامل مع العلم والفقه وكيف يتعامل مع من حوله، هذا ما يحصلها طالب العلم إلا بالمخالطة.
س/ ما رأيك فيمن يترك كتب خاصة في المذهب كالروض المربع والاقناع والمقنع وترك البحث في تخريج الرواية الصحيحة للإمام أحمد؟
هذه مراتب في المذهب، فمذهب الامام أحمد مرتب، ابن قدامة صاحب المغني ترى أنه رتب الكتب في مراحل.
أول مرحلة كتاب عمدة الفقه.
المرحلة الثانية المقنع
المرحلة الثالثة الكافي
المرحلة الرابعة المغني
ومما سمعت من الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله أنه كان يقول : ابن قدامة عمل الفقه على مراحل كالمراحل الدراسية الآن .(4/25)
فالعمدة للابتدائي، والمقنع للمتوسط، والكافي للثانوي، والمغني للجامعي. هذا ترتيبها، وهذا صحيح، ترتيب منطقي.
نكتفي بهذا القدر وجزاكم الله خيراً و صلى الله وسلم على نبينا محمد
---
---
([1][1]) بعد هذا حذف في التسجيل لا يفهم معه الكلام في آخر الوجه الأول وأول الوجه الثاني من الشريط(4/26)
الفقهاء ومتطلبات العصر
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله جل وعلا خير حمد وأوفاه، حمدا متتابعا ما تتابع الليل والنهار كلما حمده الحامدون وغفل عن حمده الغافلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأسأل الله جل جلاله أن يجعلني وإياكم ممن بارك في أقوالهم وأعمالهم، وممن بارك في أعمارهم، وأن يجعلنا مباركين معلمين الناس الخير حاضّين لهم عليه وأن يجعلنا ممن علم فعمل وعلم، إنه سبحانه جواد كريم.
موضوع هذه المحاضرة جاء بإلحاح الزمن عليَّ، ومعلوم أن المحاضرات تناسب المقام والمقال، وهذه الكلية صُلْبُ موادها وصلب تخصصها الفقه، وغيره فرع أو فروع عنه إذا صحَّ صح الباقي، وإذا ضعُف ضعف الباقي ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
والذي حدا لهذا العنوان هو ما نراه اليوم من أن المتفقهة وطلاب العلم الذين يعنون بالفقه سواء أكان من جهة درسهم للخلاف في الفقه، أو كان من جهة درسهم للخلاف في الأدلة والأحاديث من أي مدرسة شئت، هؤلاء لابد أن ينظروا إلى زمانهم وإلى هذا العصر نظرة تناسب مقام الجهاد الذي هو واجب على الجميع، بحسب الاستطاعة.
ولاشك أن طلب العلم الشرعي وبذل النفس في ذلك، وأن يكون طالب العلم قويا في ملكته، قويا في محفوظاته، قويا في فهمه لحدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، لاشك أن ذلك سلم الوصول للنتائج، فلا نتيجة لفقيه في هذا العصر إذا كان في بدايته مهزوز العلم أو ضعيف التكوين أو كان قليل البضاعة والتأصيل، وإذا كانت العلوم الشرعية الأصلية أو المساندة إذا كانت لها فنون وفروع فالفقه كذلك، لهذا ذكر العلماء أن الفقه:
· منه فقه أحكام.
· ومنه فقه المقاصد.
· ومنه فقه القواعد الشرعية.
· ومنه الجمع والفرق بين المسائل.(5/1)
· ومنه أصول الفقه التي هي الطرق الموصلة إلى الاستنباط الصحيح.
وغير ذلك أيضا.
لهذا نقول في المقدمة وتوطئة للحديث: إنّ الواجب على كل من آنس من نفسه رشدا وخيرا وقوة بما أنعم الله عليه، إن الواجب عليه أن يحصِّل هذا العلم؛ لأنه واجب كفائي، والناس اليوم أشد ما يكونون حاجة إلى من يعلم الشريعة ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الجاثية:18].
وهذا التفقه ذكر العلماء فيه أنّ طلب العلم لمن قويت ملكته ورُجي نفعه العام أن طلب العلم أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل جهاد النفل، ولهذا كان مما ينبغي على طالب العلم أن يُحسن النية والقصد في طلبه للعلم.
علم الفقه تدرسونه إما على كتاب على مذهب، أو على مذاهب بحسب المنهج، والفقه قُسِم إلى أقسام -كما هو معروف- إلى العبادات وإلى المعاملات إلى آخره.
واليوم الناس بحاجة إلى من يفقه الأحكام الشرعية من طلبة العلم، ومن الواقع ومن مجالساتي الكثيرة للزملاء ومما أعرفه عن كثيرين أيضا أنهم انشغلوا بالفقه الماضي عن الفقه الحاضر؛ وذلك له سبب، وأعني بالفقه الماضي المسائل المعروفة التي يكثر تداولها من مسائل العبادات ومشهور المعاملات إلى آخر ذلك، وهذه التفقه فيها مطلوب وواجب شرعي كفائي أو عيني بحسب الحال.
ولكن الملاحظ هو فيما يحتاجه الناس اليوم من فقه المعاملات والعقود، وفقه العصر فيما يجد كل يوم، فكل يوم ثَم جديد، وجديد ينسيك كل جديد، لهذا هل من صيغة يمكن أن يصل بها طالب العلم إلى فقه العصر في الأحكام؟ نعم مطلوب أن يكون التعلم للحاجة أن يكون التعلم بحسب حاجة العبد وحاجة الناس.
وأما التوسع في مسائل وهو يحتاج إليها في غيرها ويتركها لا يبحثها ولا يتعلمها ثم يقول لا أدري، وعنده الملكة، فهذا قصور منه إذا كان الجهاد في حقه متعينا في هذا العلم.(5/2)
المقصود أنّ علم الفقه اليوم يُدرس على الحقيقة في مرحلة من مراحله، وليست هي النهاية؛ ولكن هي البداية، فمن درس كلام العلماء في كتبهم الفقهية -علماء المذاهب-، وتدرَّب على معرفة صورة المسألة إلى آخره، فقد أخذ مرحلة مهمة، وهذه هي التي يدرسها طلاب كليات الشريعة ونحوهم.
ولكن هذه أيضا تحتاج من المعلم والمتعلم إلى أن يجعلها مفيدة له، وذلك أن يكون تصوره للمسائل سابقا للكلام عليها.
ولهذا نقول: إنَّ من المنهج الصحيح في دراسة الفقه أنْ يدرس طالب العلم الفقه الذي هو مدوَّن في الكتب المعروفة في المسائل كلها أو في أكثرها بحسب قوته أن يدرسه على النحو التالي:
أولا: أن يتصور المسألة، فالتصور ينبني عليه فهم المسائل والتفريق ما بين مسألة وأخرى.
والثاني: أن يعلم لغة العلم التي يعبر بها علماء الفقه عن علمهم، فلكل فن لغة، إذا خاطبت أهله بغير لغتهم لم يفهموا، وبالتالي إذا استقيت منهم على غير لغتهم فإنه سيصيبك قصور.
والثالث: حكم المسألة بحسب اجتهاد الإمام أو اجتهاد المذهب أو بحسب ما قرر.
ثم دليلها، ثم وجه الاستدلال من الدليل، والدليل عند الفقهاء أشمل من النص، قد يكون الدليل نصا -يعني من الكتاب ومن السنة-، ولا نعني بالنص النص عند الأصوليين، نص نصا من الكتاب ومن السنة، وقد يكون الدليل إجماعا وقد يكون إلى آخر ثلاثة عشرة دليلا معروفة عند الأصوليين، فيعرف الدليل بحسب كلام العالم أو الإمام بحسب المقرر.
ثم بعد ذلك يعرف وجه الاستدلال باستعمال أصول الفقه حتى يكون اتباعه للدليل عن فهم لوجه الاستدلال منه.
ثم معرفة القول الآخر في المسألة، والقول الآخر المهم هوالقول القوي، أما الأقوال فهي كثيرة بعض المسائل يصل الخلاف فيها إلى اثني عشر قولا، وبعضها إلى تسعة وبعضها إلى سبعة إلى أن تصل إلى قولين في المسألة، والمسائل المجمع عليها قليل.(5/3)
فيعرف الخلاف القوي في المسألة، ثم دليل القول الآخر، ثم يعرف ترجيحا لمن رجح من أهل العلم.
وأقف عند هذه المسألة الأخيرة بشيء من التفصيل وهو: أننا نسمع كثيرا من يقول عند المتفقهة الراجح كذا، أو يستعملها من يُعنى بدراسات فقه الحديث الراجح كذا، وكلمة الراجح عند العلماء المحققين ليست مطلقة وإنما هي راجح نسبي، فالعالم الذي قال الراجح كذا، لا يعني الرجحان المطلق أنّ هذه المسألة الحكم فيها راجح مطلقا، وإنما يعني راجح بحسب ما ظهر له.
فإذن إذا قيل في كتاب ما: الراجح كذا، فالذي يعنيه من قالها الراجح عندي؛ يعني عند المتكلم، لا يعني أنه الراجح المطلق يستلزم أن يكون متفقا عليه.
فإذن ليس ثَم عند علماء الفقه ولا المتفقهة بعامة، ليس ثم راجح مطلق إلا المسائل التي الخلاف فيها شاذا.
أما أكثر المسائل التي تتعاطاها فالراجح فيها راجح نسبي بحسب الإضافة إلى من رجّح، وهذا يعني أن المرء المتفقه في تلقيه لكتب علماء المذاهب بعامة أو شروح الأحاديث لا يغترّ بقول القائل الراجح كذا ويظن أنه راجح مطلقا؛ بل هو راجح بحسب ترجيح المرجِّح.
وهذا الذي رجّح:
· تارة يرجح بحسب مذهبه.
· وتارة يرجح بحسب اجتهاده.
· وتارة يرجح بحسب أصول الفقه التي درسها، مثلا الحافظ ابن حجر يرجح كثيرا بناء على أصول الفقه عند الشافعية، فإذا أتى المجتهد وأراد أن يقول رجّحه الحافظ، فيقال صحيح لكنه راجح نسبي ويُنظر فيه، قد يوافق عليه وقد لا يوافَق، هكذا غير الحافظ من العلماء من المتقدمين والمتأخرين.
هذه ليس المقصود منها عند طالب علم الفقه الاعتراض على العلماء، وإنما المقصود عند المتفقه أن يكون عنده دربة ليتصور العلم، وكيف تعامل العلماء مع المسائل الخلافية، وكيف رجحوا، وكيف استدلوا، إلى آخر ما هنالك.
هذه مسألة ينبغي أن يعتني بها طالب العلم حيث درس الكتب التي تعنى بالفقه.(5/4)
المسألة الثانية أنّك إذا رأيت كتب الفقه في المعاملات بخاصة وجدت أن ترتيبها جعل تصور المعاملات والعقود بأنواعها جعله تصورا ليس سهلا، وذلك لأنهم:
أولا لم يقسموا العقود إلى أقسام وكان الأسهل -وهذا سيأتينا نتيجته إن شاء الله- كان الأسهل أن يقسموا العقود إلى أقسام:
· عقود لازمة من الطرفين كالبيع ومن تفرع عنه.
· عقود جائزة من الطرفين كالوكالة ونحوها.
· عقود جائزة من طرف ولازمة من طرف.
وهذا اللزوم في العقد هذا يسهل تصوّر كثير من الأحكام التي في داخل تلك الأبواب، فمبنى المعاملات على فهم العَقد في منشئه وأصله، ولهذا اجتهد بعض المعاصرين في أن يكتبوا ما سموه نظرية العقد وما أسموه بالمدخل إلى الفقه الإسلامي أو نظرية الفقه في المعاملات ونحو ذلك من الكتابات الكثيرة، وهذه خلاصتها أنهم يعيدون صياغة الفقه بعد أن درسوا وعرفوا ما عند العلماء فيما قرروه لا يخترعون أمرا جديدا؛ ولكن درسوا وعرفوا ما قُرِّر في كتب أهل العلم لأنها القاعدة والأساس، ثم بعد ذلك بدؤوا في تخطيط تصور المسائل وبنائها.
مثال ذلك -مثال آخر غير أنواع العقود-، إذا نظرت الآن في كل باب يجد طالب العلم في المعاملات يجد التعريف، ثم يجد الأركان، ثم يجد الشروط، وتفصيلات الكلام على هذه المسائل، وهذه التعامل معها من جهة العصر مهم.
فكثير من الناس منع من مسائل وأفتى بعدم جوازها أو أفتى بجوازها إلى آخره بالنظر إلى تعريف العلماء للمسألة أو للباب.(5/5)
ومعلوم أن حركة التعريف في علم الفقه على مر التاريخ حركة التعريف اصطلاحية، ولهذا لا يصوغ لأحد أن يقول تعريف الإجارة شرعا كذا، أو تعريف الشركة شرعا كذا، وإنما هي تعاريف اصطلاحية، فيقول تعريف البيع اصطلاحا يعني على ما اصطلح عليه علماء هذا المذهب، تعريف الإجارة اصطلاحا، تعريف الشركة اصطلاحا، وأيضا التعريف يكون في اصطلاح أهل الفن في المذهب الواحد يكون بينهم خلاف فيه، وليس -إذن- التعريف أمرا مجمعا عليه.
وهنا طالب الفقه لا يعتمد التعريف في رد مطلقات النصوص، فيأتينا عظم فائدة النصوص الشرعية لشمولها للأزمنة وللأمكنة لأنها أنزلت من لدن حكيم خبير ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14].
التعاريف لها تاريخ كيف نشأ التعريف؛ تعريف المسائل، فلابد طالب العلم في الفقه أنه ينتقل بعد أن عرف التعريف وعرف محترزاته وعرف ما يتصل بالتعريف من مسائل في الباب وأحكام، ينتقل إلى أن يعرف كيف نشأت هذه التعاريف، وهل هذا التعريف مستقيم أم لا؟
كتاب الحوالة عرّفوه يتعريف يشمل المسائل كلها، مع أن الحوالة كلها ليس فيها إلا حديث واحد في الشرع، «ومن أحيل عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ»، فجاءنا التعريف وجاءتنا مسائل كثيرة هذه التعاريف اصطلاحية ينشغل بها من ينشغل بها في العصر الحاضر ومنعوا كثيرا من المعاملات الجارية بين الناس رجوعا للتعريف، هذه الصورة لا تصح أن تكون حوالة، لماذا؟ لأن العلماء عرفوا الحوالة بكذا وكذا.(5/6)
أصل المسألة كيف نشأ هذا التعريف؟ وكيف نشأ الباب بفروعه إلى آخره؟ هذا يحتاج من طالب العلم ليس أن يجتهد ويخرج أحكاما فهذه للعلماء الراسخين؛ لكن يحتاج حتى يفهم أن يعرف متى وُجد هذا التعريف وكيف نشأ إلى آخره، وإذا طال الأمر وازداد العلم بطالب العلم فإنه سيرى حركة الفقه كحركة غيره من العلوم تمر في الزمان مرا، وكيف ينشأ وينشأ وينشأ في خلال الأزمنة اجتهادات مختلفة بعضها صائب وبعضها غير صائب.
الأركان والشروط مثلا الآن يقول البيع شروطه سبعة، ثم يأتي ويذكر الشروط إلى آخره، نحتاج من الكليات الشرعية إما في آخر سنة للطلاب أو في الدراسات العليا أن تقلب هذه قلبا من جديد، وأن تعيد ترتيبها، فالشريعة جاءت لأناس يتعاملون بالبيع يتعاملون بالشراء، فصححت أوضاعهم، وحرّمت بعض المعاملات.
فالأركان ما هي؟ الأركان هذه موجودة في الإسلام وفي الجاهلية وفي أي بلد، أركان الشيء ما تقوم عليه حقيقة الشيء، أركان البيع ما هي؟ لابد من المتعاقدين، ولابد من سلعة يقوم عليها العقد ويتوجه إليها العقد، ولابد من صيغة -سواء كانت قولية أو فعلية- لابد من صيغة ينشأ عنها للإيذان في الإرادة ما بين هذا وذاك، هذه الأركان موجودة سواء قبل الإسلام أم بعد الإسلام.
هنا جاءت الشروط إذا نظرت إلى كتب الفقه بغير استثناء وجدت أنهم يسردون الشروط سردا ليس مرتبا، وفي الحقيقة هذه الشروط أكثرها شرعي -يعني له دلالة من النصوص-، وبعضها اجتهادي منهم.(5/7)
المقصود هذه الشروط ترجع شروطا إلى الأركان، فيأتي طالب العلم والأستاذ والمتفقه يأتي إلى هذه الشروط ويقسمها من جديد، فيقول: هناك شروط متعلقة بالعاقدين. يعرفها، هناك شروط متعلقة بالصيغة، هناك شروط متعلقة بالمعقود عليه، فيرتبها من جديد، فصار هنا فهم الشرط من حيث توجهه أسهل، وإذا كان هذا في باب واحد قد يكون الأمر سهل لو كانت غير مرتبة؛ لكن يكفيك في كل باب على هذا النحو أنّ الشروط لا ترتب بحيث إن الشرط يتوجه إلى ركن من الأركان إما بالتصحيح أو غيره.
ويقول مثلا السلعة أو المعقود عليه أن يكون مباح النفع من غير حاجة، هذه داخل الشروط، هل هو الأول الثاني الثالث؟ هذا متوجه إلى المعقود عليه.
فطالب العلم إذن بعد أن يعرف كلام العلماء يبدأ يرتبه من جديد في معرفة ما يخص الركن الأول من الشروط، ثم يناقش ما يخص الركن الثاني من الشروط ثم يناقش؛ لأن الشريعة جاءت لأناس عندهم بيع وعندهم إجارة، وعندهم وعندهم من المعاملات، فصححت بعض المعاملات وأبطلت بعضا، والأصل التصحيح الأصل في المعاملات التصحيح، وكان المنهي عنه قليلا بالنسبة إلى كثرة ما أذن به وأحل الله البيع بأنواع كثيرة، وحرم الربا. هذه صورة.
مما يحتاجه طالب العلم في الفقه في هذا العصر أن يكون مراعيا في فقهه -لا إلى نص العالم في بحثه- وإنما إلى دلالة النصوص أولا؛ وذلك أنه بالاتفاق أن النص يستوعب الأزمنة والأمكنة، وأما اجتهادات العلماء فهي بحسب زمانهم ومكانهم، وهذا له أمثلة كثيرة في التاريخ، تختلف اجتهادات الحنابلة، مثلا مختلفة اجتهادات الحنابلة في نجد عن الحنابلة في فلسطين عن حنابلة بغداد في مدارس، الشافعية مختلفة شافعية خراسان غير شافعية بغداد غير شافعية مصر؛ يعني ثم خلاف في الآراء، ما الذي يولد هذه الآراء المختلفة في المذهب؟ حاجة الوقت حاجة الزمن حاجة الناس إلى آخره.(5/8)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له: وفقهاء النصوص العالمون بها هم أقدر العلماء والفقهاء على إجابة ما يسأل عنه الناس ويوافق ما يحتاجون إليه، حتى إن بعض فقهاء الحنفية إذا وقع في مسألة ليسأل من يعلم من فقهاء السنة لأجل أنه يحتاج إليه بما يعمل.
هذا مهم، دلالة النص واسعة، تأتي تقييدات كثيرة، هذه التقييدات مقبولة تفهمها تتصورها؛ لكن إذا جئنا إلى دلالة النص العامة الشاملة مع غيرها مما تكلم فيه العلماء فيما اختلفوا فيه في مقاصد الشريعة في القواعد الشرعية فيما سيأتي يخرج لطالب العلم يخرج للعالم يخرج للمجتهد شيئا آخر فيما يحتاج إليه الناس.
الثالث: مقاصد الشريعة.
الشريعة جاءت معللة، وأهل السنة والجماعة يقولون أفعال الله جل وعلا الكونية معللة، وكذلك أحكامه الشرعية أيضا معللة، فهناك مقصد مما شرع الله جل وعلا من الأحكام، قال الله جل وعلا ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?[البقرة:185]، وقال ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ?[الحج:78]، وقال ?وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[البقرة:179]، فيه تنبيه على أن هذه الشريعة في أحكامها بنيت على مقصد، والمقاصد الشرعية علم مهم وخاصة في هذا العصر؛ وذلك لأنه تداوله طوائف كثيرة بالعناية في ما بين مُفْرِط وما بين مُفَرِّط، فيما بين مفرِط فيه بحيث إنه عارض النصوص فيما يتوهمه مقاصد ومصالح في الشريعة، وما بين مفرِّط فيه بحيث إنه لا يرى علم المقاصد الشرعية.(5/9)
والعلماء علماء الإسلام وأئمة الاجتهاد رعوا كثيرا علم المقاصد الشرعية، وعُرِّف علم المقاصد الشرعية بأن المقاصد هي الغايات التي رامها الشارع أو قصدها الشارع من تشريعه للحكم المتعلق بالخلق في الدنيا والآخرة، والتعاريف كثيرة في ذلك فالمقاصد الشرعية لها تعلق بالشريعة من جهة الغاية، ما الغاية من الشريعة، ما الغاية من الحكم ما الغاية من أن يكون هذا الأمر كذا؟ الشارع إلى أي شيء يتشوف في هذا؟ لهذا من الناس من يقصد ظاهر اللفظ دون نظر إلى المقاصد، ولهذا يقول بعض الأئمة المحققين يقول: إنّ الناس انقسموا في المقاصد وإعمالها إلى ثلاثة أقسام:
? منهم من ألغاها وهم الذين لا يحكمون بالتعليل أصلا -والمقاصد غير العلة التي في باب القياس معلومة لدى المشتغلين أنها أعم بكثير-؛ منهم من لا ينظر إلى المقاصد أصلا ويحكم بظاهر ما دل عليه الدليل الظاهر، سواء أوافق مقصود الشارع المعروف من النصوص والقواعد أو لم يوافقه يأخذ بالظاهر فقط، وهؤلاء في جهة.
? وآخرون يقابلونهم ممن ضربوا عرض الحائط بالنصوص، فلم يعتنوا بها تمام العناية من جهة الاستدلال، وأعملوا القواعد والمقاصد التي توهموها والتي هي مقاصد عندهم، وتركوا دلالة النص فأفرطوا وهم أهل الرأي في مدرستين في المدينة وفي الكوفة.
ومنهم من جمع بين هذا وهذا فأعمل النص وأخذ بالمقاصد وجمع دلالات الشريعة، وخرج بأحكام توافق المقصود الشرعي.
مقاصد الشريعة إذا نظرت إلى هذا الزمن وجدت أن كل متفقه وكل طالب علم لابد أن ينظر في المقاصد الشرعية، المقاصد الشرعية العامة والخاصة، العامة في المجتمع، العامة في بناء الشريعة، العامة في بناء الأحكام، والخاصة في كل باب: المقاصد من العبادات، المقاصد من البيع، المقاصد من المساقاة والمزارعة، المقاصد من عقود التبرعات، من الوقف والوصية، المقصود من النكاحـ المقصود من القصاص، من الديات إلى آخره.(5/10)
المقاصد العامة والخاصة ضروري أن يتعلمها المرء في هذا الزمان؛ لأنه بها يربط النصوص الشرعية ويكون له بها فقه يتّفق مع جمع النصوص، لا أن يُضرب نص مع نص آخر، ولهذا تميز بعض الأئمة الكبار بهذا مثل ابن عبد البر ومثل ابن تيمية وابن القيم وبعض العلماء الآخرين -غير علماء الأمة الأوائل- تميزوا بأنهم جمعوا ما بين دلالات النصوص وما بين المقاصد الشرعية، وهذا علم مهم أن يتعلّمه طالب العلم أن يعرف المقاصد ما هي.
تعلمون أن فقهاء المقاصد قالوا: إن الشريعة جاءت للحفاظ على خمسة أشياء للحفاظ على الدين أولا مرتبة الدين ثم النفس ثم العقل ثم النسل ثم المال، خمسة مرتبة؛ لأنّ الفقيه إذا تعارض واحد لابد أن يقدم ما جاءت الشريعة بالمحافظة عليه أولا، ثم هذه الخمس أيضا قسمت في المقاصد إلى مقصد ضروري ومقصد حاجي ومقصد تحسيني.. بما هو معروف من بحث الشاطبي في الموافقات وهذه لها تفاصيل.
إذا علم طالب العلم هذه المراتب وتفصيل ذلك والمقاصد العامة والمقاصد الخاصة، فهل سيقدم مقصدا حاجيا على مقصد ضروري في الشريعة؟ لن يقدم؛ لأنه أصبح فقيها، فهل يقدم تحسيني على حاجي إذا تعارض؟ لا يمكن، هل سيقول لا تدفع المال لقاء نجاة نفسك، لا تدفع المال لقاء نجاة عقلك، لا تدفع المال لقاء نجاة نسلك، لا تدفع النفس مقابل الدين؟ إذن الفقه في المقاصد إذا أخذ باتزان وعلى ما قرره الأئمة المحققون بدون هوى وبدون غلو ولا جفاء فإنه يقوي فهم الفقه الحقيقي وما نحتاجه في هذا العصر من أحكام يحتاجها الناس في مسائل كثيرة جدّا جدا؛ بل تجدّ كل يوم.(5/11)
المسألة التي تليها فيما ينبغي لطالب العلم في الفقه أن يعتني به: أن نعيد النظر في تدريس المعاملات، الآن المعاملات عندنا في الفقه بيع الحصاة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة وإلى آخره، وبيع الدود والسرجين النجس وين هذه الأشياء؟ طيب طالب العلم يمر عليها؛ لكن الآن يحتاج إلى أن يذهب الأستاذ في تصورها وهي ليست موجودة والتصور إنما يكون على الموجود، إذا قلنا هذا، لو تسأل أحدا قبل زمن ما هو منديل ورق لن يتصور؟ ما هو منديل ورق تحتاج أن تفسره بسطرين ثلاثة قد يتصور وقد لا يتصور؛ لكن الآن هذا منديل الورق، انتهى.
فإذن ثَم مسائل موجودة ينبغي أن يُعاد النظر في ترتيب دراسة المعاملات التي يحتاج إليها، في أي جهة؟ نعيد النظر في أن لا نكرر لابد لطالب العلم أن يمر عليها حتى يتصور ما قال العلماء المرة الأولى؛ لكن أن يكون يدور حول هذه الحلقة دائما؟ لا، يتصور لأول مرة ويعرفها في عمره ويتصور ويعرف كلام العلماء فيها طيب.
لكن ينتقل إلى مرحلة أخرى وهي أن الشريعة جاءت حين جاءت وحددت المحرمات في المعاملات، جاءت، نهى عن الغرر، صور لي الغرر، نهى عن الميسر، القمار، الربا، أكل أموال الناس بالباطل، هذه قواعد، إذا تصور طالب العلم هذه القواعد وما يتفرع عنها من الصور فإن علم المعاملات يكون تاما، فقه المعاملات ينتهي عندك.
أما الحاصل الآن يتخرج من الشريعة وتسأله ما هو الميسر؟ ما هو الغرر؟ ما الفرق بين الميسر والقمار؟ لا يحسن الجواب، مع أنّ هذه هي الأصل، هذه هي الأساس حيث جاءت الشريعة بالنهي عن صور خمسة والباقي صححته، لا تكن المعاملة ربا، لا تكن المعاملة فيها غرر فاحش، أما الغرر اليسير فمأذون به، لا تكن المعاملة فيها ميسر، لا يكون المعاملة فيها قمار، لا تكن فيها ظلم للناس أو أكل أموال الناس بالباطل إلى آخره.(5/12)
فهذا يُحتاج أن يطبق في هذه السنة الأخيرة في الكليات الشريعة في الفقه أو في الدراسات العليا حتى يتفتق ذهن طالب العلم إلى ما يراه اليوم، الذي نراه اليوم فيرجع إلى ما دلت عليه النصوص في الأول، لا إلى ما نقرؤه بالتفاصيل في كتب الفقه.
المسألة التي تليها طالب العلم في الفقه ينبغي أن يكون متابعا لما بحثه العلماء والفقهاء في هذا العصر، يكون متابعا لما أصدرته الهيئات العلمية في المسائل العصرية، متابع لقرارات هيئة كبار العلماء عندنا، وفيها ولله الحمد أجل علماء العصر، يتابع ما في المجامع الفقهية وما تصدره من قرارات مجمع الفقه الإسلامي، يكون متخصص في الشريعة ولا يعرف قرارات المجامع، ما يتابع بحوث هيئة كبار العلماء، ما يتابع المسائل المعاصرة.
إذن كيف سيجيب؟ كيف سيرشد الناس؟ كيف سيتعامل؟ ننشغل بأمور الحاجة إلى غيرها أقوى، ونعتني بها، لا يجب، نشتغل إذن بهذه المسائل نتعرف إلى ما عند المجامع الفقهية، هذا يعطيك ملكة عظيمة.
خذ مثالا على ذلك طال البحث قبل السنين الأخيرة حول بيع الاسم، واحد يحب أن يبيع اسم شركة، اسم شركة مشهورة أو اسم مؤسسة مشهورة لها سمعتها إلى آخره، فقال هذا الاسم سأبيعه بعشرة ملايين ريال، عدد من الناس قال هذا أكل لأموال الناس بالباطل، اسم يباع كيف هذا الاسم ليس مالا وليس له حقيقة ولا شيء يلمس في عدد من الأقوال؛ لكن لما بُحثت بحق ونظر، فإذا الخلل جاء من أن تعريف المال عند العلماء والفقهاء ما تُصور حقيقة.
قالوا: المال هو ما يتمول، المال هو ما يتمول؛ يعني يتموله الإنسان للمستقبل؛ يعني يكون عنده ليستفيد منه، المال هو ما يتمول.
إذن الاسم أعظم من بيت وأعظم من عمارة وأعظم من كذا سيارة، الاسم يتمول الاسم صار له قيمة عظيمة.
فإذن تعريفهم للبيع مبادلة مال بمال ولو بالذمة إلى آخره هذا المال ما هو؟ المال المتصوْرِينَه قبل مائتين ثلاثمائة سنة؟ لا، المال هو ما يتمول.(5/13)
فإذن انطلقنا من اللفظ الشرعي الذي هو المال في دلالته اللغوية الواسعة، وتجد أن تطبيقه يسع الأزمنة والأمكنة؛ لأن ما يتموله الناس يختلف، يتمولها الناس في وقت دون ما يتموله الناس في وقت؛ لكن ما دام أنه يتمول ولا يدخل في أنه محرم في ذاته فإنه يباح تعاطيه وبيعه إلى آخره لأنه مبادلة مال بمال، وهذا مال.
والأمثلة على هذا كثيرة.
فينبغي -إذن- على أساتذة الشريعة وعلى الفقهاء والذين يعتنون بالفقه أن يتابعوا ما يُنشر في المجامع، وما يتوصل إليه في المجامع، وأن ينظر أيضا إلى البحوث والمناقشات التي دارت حتى يكون عنده مشاركة فيما يحتاج إليه الناس.
الآن مثلا في قضايا معاصرة خذ مثلا البطاقة؛ البطاقة الموجودة منهم من قال البطاقة التي يسمونها مثلا إيش؟ بطاقة الإئتمان، واحد قال بطاقة الإئتمان، هل تصح التسمية؟ لا، إيش نسميها، بطاقة إيش؟ بطاقة الصرف؟ أيضا ما يصلح.
هذه أنواع منها ما هو بطاقة الائتمان التي تسمى بالإنجليزي (credit carte) ومنها ما يسمى بطاقة دفع (charge carte) منها ما يسمى بطاقة خصم (debit carte) ومنا ما يسمى بطاقة سحب أنواع كثيرة، فيأتي من يقول هذه ربا ويعمم الكلام ما يصلح.
إذن لابد من دراسة لحقيقة الأمر والمقاصد الشرعية به.
منهم أتى وقال هذه البطاقة حوالة وضمان وإلى آخره ودخلنا في مسائل كثيرة منها.
ومنهم من نظر من المجتهدين وصحح هذه البطاقات إذا لم يكن ربا؛ لأن الأصل الجواز، والناس متعارفون هذا يسحب من هذا، والبائع يراجع البنك ويأخذ نصيبه وإلى آخره.(5/14)
فإذن النظر في هذه المسائل يحتاج منك إلى متابعة، لماذا نقول يحتاج إلى متابعة؟ لأنه سيأتي بعد ذلك بعد قليل زمن لن يكون في يدك نقد -في جيبك لن يكون ثم ريال- ليس من فقر ولكن مالك كله في البطاقة يعني سيلغى النقد، فقد صدر كتاب في أمريكا في العام الماضي من أحد المتخصصين الكبار في الجامعة بروفسور في الاقتصاد سماه موت النقد بالإنجليزي (the death of money) يعني موت النقد وهذا الآن الدول تسعى إليه سعيا حثيثا، هل سنضل متأخرين فيما ننظر بعد ذلك ندرس خمسين سنة ونشوف أوش يصير؟ لا الذي ينبغي أن نكون جيلا يستطيع أن يبحث للعلماء هذه المسائل وأن يعطيها الراسخين في العلم حتى ينظروا فيها ليخرجوا الأحكام.
المشكلة الآن ليست هي في الواقع في نظر العلماء، المشكلة في أنه لا يوجد عدد كبير من الباحثين المطّلعين الذين يُسعفون العلماء ببحوث وهم فقهاء -يعني الباحث فقيه عارف- يسعفه بالبحوث والقواعد إلى آخره، وكيف نصحح هذه المعاملة وكيف لا نصححها إلى آخره، كيف سنخرج هؤلاء العدد الكثير من الباحثين لابد أن يدرسوا الفقه على طريقة تناسب الزمن المستقبل، أخشى أن يأتي زمن بسبب تقصيرنا تتهم الشريعة بأنها غير مسايرة لهذا الزمن، وأن العلماء ما استطاعوا أن يتكلموا، والناس يتقدمون إلى آخره، وهذا في الواقع ليس الخلل فيه من الشريعة وحاشا وكلا، بل هي تنزيل رب العالمين وإنما هي قصور لهذا ذكرتُ لك في المقدمة أن المسألة جهاد تحتاج إلى بذل وإلى نظر.(5/15)
المسألة الأخيرة طالب العلم في الفقه يهتم بالقواعد، القواعد الشرعية منقسمة، القواعد الفقهية منقسمة إلى قواعد متفق عليها، وقواعد مختلف فيها، والقواعد المختلف فيها قد تقرب ما بين مذهب ومذهب كما هو معروف؛ لكن معرفة القواعد يَلُمُّ لك شمل المسائل وتخلص منه إلى معرفة بعلم القواعد الشرعية، ثم إلى معرفة لعلم الجمع والفرق الذين من لم يحسنه فإنه سيخطئ عن الشريعة، لا يعرف الجامع بين المسائل، والمسائل المتشابهة أو المسائل المختلف بعضها عن بعض، قد تدخل هذه في هذا وقد تخرج هذه من هذه والباب باب واحد.
لهذا العناية بعلم القواعد مهم مهم للغاية بعد العناية بالسابق أو قبله إن شئت، فلابد من العناية بالقواعد الفقهية، والقواعد منها قواعد قد لا تهم كثيرا في البداية، منها قواعد مهمة للغاية.
مثلا قاعدة الخراج بالضمان هذه فيها الحديث المعروف هو حسن، وهي قاعدة عند العلماء، ما معنى الخراج بالضمان والضمان نوعه؟ والأيدي، أنواع الأيدي، اليد ما نوع اليد فيه يد أمانة، فيه يد تملك إلى آخره، هذه الأشياء ما تعرفها من كتب الفقه ولو نظرت مائة مرة فإنك لن تخرجها بوضوح إلا لمن كان عنده نفس فقهي عالي جدا يمكن أن يخرجها؛ لكن الأسهل أن تأخذها من كتب القواعد، وتعلم أنواع تقسيمات الأشياء.
الملك مثلا، المنفعة هل تملك، الانتفاع -أترك المنفعة- الانتفاع هل يملك؟ الصكاك هل تباع؟ هذه المسائل من أين تأخذها من الفقه، هي موجودة في كتب القواعد.
الانتفاع مثلا الآن مرت فترة كان يسأل عن بيع رقم الهاتف، واحد يسأل يتنازل عن رقم هاتف يبيعه بمبلغ كبير، هل له أن يبيع أو ليس له أن يبيع؟ ثَم كثير ممن قال لا يجوز له أن يبيع ثم كثير قالوا يجوز له أن يبيع.(5/16)
علماء القواعد ذكروها في كتبهم مثل ابن رجب مثلا لما عدد أنواع الملك قال ملك الانتفاع، الذي الآن يسبق، له مكان مخصص، الذي يسبق إلى هذا المكان في الشارع يجلس فيه يبسط مبسطه بإذن ولي الأمر، جاء واحد قال والله أنا باغي محلك قال لا هذا حقي لأني سبقت إليه، تعوضني عنه ذكرها ابن رجب.
كذلك حق الانتفاع بالرقم هذا، هذه ما تخرجها من كتب الفقه ومن كتب الفتوى القديمة، إنما تخرجها بمعرفة القواعد؛ لأن القواعد تقعيد يندرج تحته من المسائل ما قد عُرف وما لم يعرف لمن أحسن التطبيق وإدراج المسألة تحت القاعدة، لهذا العناية بعلم القواعد لطلاب الشريعة؛ بل ولأساتذتها بل ولمشايخها وفقهائها من أهم المهمات، القواعد التي تقسم لك العلوم القواعد الشرعية العامة، ثم تأخذها شيئا فشيئا لاشك أن القواعد مراتب.
الحديث ذو شجون، وإنصاتكم يغري، وحسن ما أراه من الاستقبال يغري بالمزيد؛ لكن الوقت يقصر، ولعل فيما ذكرت فتح باب لمناقشة هذا الموضوع أو كتابة بحوث فيه، أو إعادة النظر في منهجية لما يناسب للعصر الجديد في إرشاد الناس وإفادتهم فيما يجب من المسائل التي يحتاج الناس إليها في دنياهم أو في معاملاتهم، إلى آخره.
أسأل الله جل وعلا أن يثيبكم جميعا على استماعكم وأن يجزي الجميع خيرا وأن يمن علينا وعليكم بالفقه في دينه وباتباع كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، كما أسأل المولى جل وعلا...
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري(5/17)
القِمَارُ وصُوَرُهُ المُحَرَّمَة
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كما ينبغي بجلال وجهه وعظيم سلطانه، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّمًا } [الكهف:1-2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يمنحني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا ممن تفقّه في الدين، وعُلِّمَ الشريعة، كما أسأله سبحانه أن يُعيننا فإنه لا حول ولا قوة لنا إلا به، اللهم فأعننا على أمر ديننا ودنيانا، وامنحنا البصيرة في الدين، والفقه في الشريعة، واجعلنا من نقلة العلم وحملته ومحصليه.
ثُم إن هذه المحاضرات التي تقام في هذا الجامع المبارك، متميّزة في موضوعها؛ حيثُ إنها تُعنى بقه المعاملات، وببعض المسائل المتصلة بذلك، وفقه المعاملات واسع، وقاعدة الشريعة:
¨ أن العبادات الأصل فيها التوقيف، فلا تشرع عبادة إلا بدليل.
¨ وأن المعاملات الأصل فيها الحل فلا تحرم منها معاملة إلا بدليل.(6/1)
فلهذا من محاسن هذه الشريعة المباركة؛ شريعة الإسلام، أنّ باب المعاملات فيها باب واسع يسع حاجات الناس، مهما اختلفت صفاتهم، ومهما اختلفت أحوالهم، ومهما بعد زمانهم عن زمان النبوة، ومن محاسن هذه الشريعة أن جعلت الأصل في المعاملات الإباحة، إلا ما حرم بدليل من الشريعة، ولهذا تجد أن المحرم في المعاملات قليل بالنسبة إلى كَثرة المباح من ذلك، فصور البيوع أكثرُها مباح، وصور الإجارة أكثرها مباح، وصور الشركات أكثرها مباح، والكفالة، والضمان، إلى غير ذلك، إلى أن تَفِي إلى آخر أبواب المعاملات تجد أن الكثرة الكاثرة منها معاملات مباحة باتفاق أهل العلم أو بالقول الصحيح من المحققين من أهل العلم، وأما المحرم فإنه قليل، ولهذا يجتهد أهل العلم في أن يجعلوا المحرمات في المعاملات تخضع لقواعد معلومة، وبرعاية هذه القواعد يمكن حصر المحرمات بالمعاملات.
فإذن المعاملات أنواعها كثيرة، وصورها متعددة، وثَم قواعد محدودة يمكن أن يفهمها طالب العلم، ثُم بعد ذلك يندرج تحت تلك القواعد فروع متعددة بالنسبة لاختلاف الصور.
لهذا نقول إنّه من حيث تأصيل طالب العلم في فهم المعاملات أن يُعنى:
?بادئ ذي بدء بفهم القواعد العامة التي تنبني عليها المعاملات.
?ثم يفهم القواعد العامة التي ينبني عليها ما حرم من المعاملات.
ولهذا نجد أن أهل العلم ذكروا أن المحرم من المعاملات من حيث التقعيد يمكن أن يندرج تحت ثلاث قواعد، أو تحت أربع قواعد، ومن هذه القواعد التي يندرج تحتها ما حُرِّم من المعاملات قاعدة الميسر والقمار والغرر ونحو ذلك، وهذه القاعدة هي التي لبيانها تُنشأ هذه المحاضرة، واعتنى بها من نظّم لهذه المحاضرات، فله منها الشكر الجزيل، ونسأل الله له ولمن أعانه على تنظيم هذه المحاضرات التوفيق والسداد، وأن يجزيهم الله عني وعن المستمعين خير الجزاء.(6/2)
نقول إنّ المحرمات في المعاملات في هذه الشريعة محدودة؛ فثَمّ قاعدة الربا وما يحرم من المعاملات لأجل أنه ربوي، وهذا له محاضرة ربما في هذه السلسلة من المحاضرات، وما نختص بالحديث عنه هو قاعدة الميسر والقمار ومن المعلوم أن هذا الموضوع مهم لأن هذا الموضوع ألا وهو الميسر والقمار -وسيأتيك الفرق ما بين القمار والميسر إن شاء الله تعالى- هذا الموضوع نادر من كَتَبَ فيه من علماء الشريعة وكَتَبَ فيه كتابات محررة، بل تجد أن الكلام الشرعي فيه متفرق بين كتب كثيرة، ولا تكاد تجمع صورا واضحة جدا إلا بمزيد تحقيق ونظر؛ وذلك لغموض هذه المسألة بعض الشيء على كثير ممن كتب، لهذا نقول أن المؤلفات في الربا تجد أنها عشرات، ولكن المؤلفات في الميسر والقمار تجد أنها نوادر، حتى لا تكاد تجد منها ما هو بعدد أصابع اليد الواحدة مما فيه تحقيق أو تحرير.(6/3)
لهذا نقول الموضوع مهم أن يعتني به طالب العلم، ومن أوجه أهمية هذا الموضوع ما تراه في فتاوى أهل العلم المحققين من علمائنا -حفظهم الله تعالى ووفقهم لكل خير- من تعليل كثير من فتاواهم من المسائل المعاصرة بأن هذا من القمار، وهذا من الميسر، أو يقولون أن هذا محرم لأنه غرر، وهذا التعليل واضح عندهم؛ لأن صورة القمار، صورة الميسر، صورة الغرر، واضحة عندهم، فلابد لطالب العلم المتلقي للفتوى حتى يشرح للناس معنى ذلك أن تكون صورة القمار والميسر والغرر والرهان والمغالبات إلى آخره، أن تكون صور هذه المسائل واضحة عنده، وذلك لأن كلام أهل العلم يعلل في التحريم في بعض المسائل المعاصرة، وبعض الفتاوى التي يجيبون فيها عمن سأل عن بعض الواقع، يجيبون أنها من الميسر أو من القمار، فلهذا ينبغي الاهتمام بهذا الموضوع، وهذه بعض أوجه أهميته وطالب العلم أيضا من اهتمامه بالشريعة يهتم بما جاء في الشريعة، ومما جاء ذكر الميسر، وذكر الغرر، وذكر القمار، في النص، قد قال جل وعلا { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة:219]، إذن ذكر الميسر موجود وذكر القمار موجود كما في الحديث «من قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق» وكذلك الغرر كما روى مسلم في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ, وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» .(6/4)
فإذن إذا كانت هذه الألفاظ موجودة في الشريعة وجُعلت قواعد فيما حرم -كما ذكرت لك- أنّ المعاملات ثَم قواعد تضبط المحرمات فيها؛ لأنها قليلة -أي المحرمات في المعاملات-، فإذن لا بد من فقه هذه الألفاظ، ولابد أيضا لطالب العلم حتى يفقه الأحكام الشرعية القمار والميسر والغرر أن يعرف ما كان عليه أهل الجاهلية من الحال فيما يتعاطونه من القمار والميسر، وأن يعلم لما سموا الميسر ميسرا، ولما سموا القمار قمارا، فإذا عرف ذلك تيسر له الربط بين ما حرم في الشريعة وبين ما كان عليه أهل الجاهلية، أيضا مما ينبغي تعاهده وتعلمه أن يعلم طالب العلم أن الشريعة منوطة في أحكامها بمقاصد؛ فتحريم ما حُرِّم مرتبط بمقاصد في الشريعة، ولهذا الذي ينظر في المسائل العصرية المعاصرة الواقعة أو يعتني بالنوازل لابد له أن يفقه أشياء:
?أولا: أن يفقه كلام العلماء فيما أوردوه في كتب الفقهاء بالدقة؛ يفهم كلام العلماء فيما أوردوه في كتبهم الفقهية بالدقة حتى تتميز له صور المسائل؛ هذا أولا.
?والثاني: أن يعلم النصوص التي جاء فيها ذكر المسائل؛ نصوص الشريعة في القمار، نصوص الشريعة في الميسر، نصوص الشريعة في الغرر، نصوص الشريعة في الربا، إلى غير ذلك من الوقائع والقضايا المختلفة.(6/5)
?الأمر الثالث: أن يعلم اللغة التي انبنى عليها الاصطلاح الشرعي في التعبير عن تلك المسائل، وفهم اللغة مهم لطالب العلم؛ لأنه بفهم اللغة يعلم حدود ما يدخل في اللفظ الشرعي، أم ضيق ما يدخل في اللفظ الشرعي، فالألفاظ الشرعية تستوعب الألسنة والأمكنة، أما نصوص الفقهاء ونصوص العلماء فهي تطبيق للنصوص على ما عرفوه في زمانهم، ولذلك كلما كان طالب العلم، بل كلما كان العالم أحذق بالنصوص وأعرف بدلالات الألفاظ الشرعية التي جاءت في النصوص -مع فهمه لكلام العلماء- كانت فتواه أقرب للصواب، بل كانت فتواه أصوب؛ لأنه ينزل دلالات النصوص على الواقع المختلف، وكلام العلماء والفقهاء هذا منوط بالزمن، وأما كلام الشارع في القرآن وفي السنة هذا صالح لكل الأزمنة ولكل الأمكنة.
?الأمر الرابع: أن يعلم طالب العلم ما يسميه أهل الفقه الجمْع والفرْق، يعني القواعد التي تجمع المسائل والفروق بين المسائل، فإن في معرفة علم الجمع والفرق ما يجعل لطالب العلم ملكة في الاجتهاد في هذه المسائل المعاصرة، والواقع الذي يتجدد كما ترون باليوم، وتكثر الوقائع والأحوال في مسائل كلما نصبح أستخفي على صورة جديدة من صور المال، أو صور المعاملات، أو إلى آخر ما يجرى به الزمان وينقل لنا من بلاد كثيرة.
?الأمر الخامس: الذي ينبغي للعالم أو طالب العلم أن يعتني به حتى يفقه النوازل أن يكون ذا علم بمقاصد الشريعة، ومقاصد الشريعة؛ معلوم أنّ مقاصد الشريعة علم مستقل مهم، فالشريعة بُنيت على:
¨ مقاصد تُحقَّق في العبادات.
¨ مقاصد تُحقّق في المعاملات ككل.
¨ ومقاصد تُحقّق فيما أبيح من المعاملات.
¨ ومقاصد تتحقق فيما حرم من المعاملات.(6/6)
فإذن الشريعة لها مقاصد، والله جل وعلا جعل الأحكام منوطة بعلل، وهذه العلل قد تكون علل قياسية، وقد تكون حكما ومصالح يرعاها العباد، ولهذا يقول العلماء في القاعدة المشهورة المعروفة الشريعة ”جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.“
إذا تبين لك ذلك فإن الكلام في مسائل المعاملات وما استجد منها وتوضيح الصورة فيها مُنْبَنٍ على هذه الأصول الخمسة:
? فلا بد من معرفة كلام العلماء والفقهاء وشراح الأحاديث.
? لابد من معرفة نصوص الكتاب والسنة فيما أتى من هذه الألفاظ.
? لابد من فهم اللغة.
? لابد من فهم القواعد؛ لابد من فهم الجمع والفرق.
? لابد من فهم مقاصد الشريعة فيما يعانيه المرء في المسائل.
وإذا فات المرء بعض هذه الأشياء وجد أنه قاصر عن فهم الشريعة كما ينبغي أن تفهم عليه.
هذه المقدمة مهمة حتى يتبين لك أن الموضوع هذا ليس موضوعا سهلا، أعني الكلام في مثل هذه القواعد العظيمة، كقاعدة الربا، كقاعدة الميسر والقمار، وكقاعدة الغرر وأشباه ذلك.(6/7)
الميسر -وهو موضوع هذه المحاضرة- والقمار جاء في القرآن تحريمه متدرجا؛ فنُهي عنه في أول الأمر ونُبِّه على بشاعته، ثم بعد ذلك نزل تحريمه، قال جل وعلا في سورة البقرة { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } [البقرة:219]، وقال جل وعلا في سورة المائدة { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(90)إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ } [المائدة:90-91]، ففي الآية الأولى بين جل وعلا فيها نفع، ولكن إثمها كبير (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فيها منفعة؛ فيها منفعة اقتصادية بعض الشيء لمن يكسب، فيها منافع في إدارة المال من غير تعب ولا كد، في الميسر منافع فيما يكون من إفادة بعض المحتاجين في بعض صوره التي كانت في الجاهلية، نعم فيها منافع للفقراء؛ لأن بعض صور الميسر كانت لنفع الفقراء عند أهل الجاهلية؛ لكن إِثْمُهَا (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)، فإثم الميسر أكبر لما؟ لأن الميسر فيه قعود عن العمل، والشريعة جاءت بحثّ الناس على العمل، وعلى الانتشاط، وعلى تقوية الأمة، وأما الميسر فهو انتقال للمال من غير كد ولا تعب؛ يعني في بعض صوره، أو نقول القمار انتقال للمال من غير كد ولا تعب، وذلك لا يهيئ ما تطلبه الشريعة من تقوية الأمة وانتشار الناس وتنمية أنواع الصناعات، وتقوية الأمة بما فيه إعداد للقوة، كذلك فيهما إثم لأن مبنى الميسر على أكل أموال الناس بالباطل، والشريعة جاءت بحفظ المال، وجاءت بدفع الظلم، والله جل(6/8)
وعلا أمر بالقسط، وحرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، وكل مسألة فيها ظلم فهي محرمة في الشريعة، ثم قال جل وعلا في سورة المائدة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ) رجس يعني خبيث، يعني أن هذه خبيثة فالميسر من ضمنها فهو خبيث، ثم وصفه بوصف ثاني فقال (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) وكونه من عمل الشيطان هذا مما يوجب على المؤمن أن يبتعد عنه؛ لأجل أنه وصف بكونه من عمل الشيطان، لهذا قال العلماء دلت آية المائدة على تحريم ما ذكر فيها من الخمر والميسر بعدة أوجه من التحريم منها:
أنه وصفه بأنه رجس.
والثاني وصفه بأنه من عمل الشيطان.
والثالث أمر باجتنابه فقال (فَاجْتَنِبُوهُ) هذا أمر، ثم قال في آخرها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) يعني انتهوا في قول كثير من أهل التفسير، وقال بعضهم قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) أورده مورد السؤال لأنه أبلغ من الأمر المباشر، كما هي القاعدة المقررة عند اللغويين والبلاغيين في الفرق ما بين التعبير في الأمر ما بين الخبر و ما بين الأمر المباشر؛ فالخبر والاستفهام فيه بما يراد به الأمر إذا عُدل عن الأمر إليه فإنه يدل على أنه أبلغ وأشد في الأمر به.
إذن نفهم من هذا أن الميسر محرم قطعا، والميسر كان عملا تتعامل به الجاهلية، والناس في الجاهلية يتعاملون بأنواع من المعاملات التي حرمت في الشريعة ومنها الميسر، والميسر عندهم كانت له صفات متعددة:
¨ كانوا يتعاملون بالميسر والقمار في المغالبات والرِّهان.
¨ وكانوا يتعاملون بالميسر في المعاملات.
ولهذا قال سعيد بن المسيب لما رواه مالك في الموطأ (كان من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان في اللحم وبالشاة والشاتين).
إذن فعندنا أهل الجاهلية كان الميسر فيهم على نوعين:
1. ميسر في المغالبات والرهان والمسابقات.
2. والنوع الثاني ميسر في المعاملات.(6/9)
ولهذا قال علماؤنا إن الميسر الذي حَرَّمته الشريعة في نوعين: ميسر في المغالبات والرهان، وميسر في المعاملات، ويأتي مزيد بسط لهذه الكلمة.
كان من أغراض أهل الجاهلية في الميسر:
· أنه يفتخر بعضهم على بعض هذا واحد.
· من أغراضهم أنهم إذا أرادوا أن يتصدقوا لعبوا بالميسر وبالقداح حتى يخرج من له الفضل في التصدق إذا نحروا جَزورا ونحو ذلك، فكانت فائدة الميسر عندهم في بعض صوره للمساكين؛ يتبارون من يتصدق على المساكين بهذا الجزور المشترك، ولهذا يسمى الجازِر ياسر، ويسمى الجَزور يعني الجمل إذا ذُبح، يسمى أيضا ميسر تسمية للشيء باسم الفعل الذي منه.
وسبب اشتقاقهم هذه الكلمة من الفعل الذي فعلوه كلمة (ميسر)، العلماء اختلفوا فيها قالوا إنها مصدر ميمي كالموعد؛ ميسر والموعد من يسر توعد، ميسرا وموعدا، ومعنى الميسر هنا أنه من اليُسر؛ لأنه يحفظ المال بيسر، أو من اليَسَار لأنه يغتني بهذا الفعل، المقصود أن الميسر فيه من حيث اشتقاق اللغة:
¨ أنه كسب للمال بلا تعب.
¨ والثاني أن الميسر كسب للمال وسبب للغنى ولذلك سمي ميسرا.
إذا تبين ذلك، فهنا سؤال مهم وهو: ما الفرق بين الميسر والقمار؟
هذه كلمة تعمل كثيرا ميسر ومن القمار، العلماء اختلفوا في ذلك اختلافا كبيرا، والحاصل أن لهم قولين في ذلك:
1. الأول: أنّ الميسر والقمار مترادفان؛ فكما أن الميسر يكون في المعاوضات المالية، وغير المعاوضات المالية، فكذلك القمار يكون عن عوض المال، وعن غير عوض المال.
2. وقال آخرون: لا؛ الميسر ثَم فرق بينه وبين القمار في نوعه:
? فإن القمار: مغالبة ومخاطرة -كما سيأتي تفصيل المعنى- مغالبة ومخاطرة فيها المال.(6/10)
? وأما الميسر: فإنه يشمل كل أنواع المخاطرة بالتعريف الذي سيأتي، مما يكون معاوضة، أو يكون رِهانا، أو يكون معاملة، ولهذا –كما ذكرت لك- قد يكون في الميسر مقابلة المال، وقد لا يكون، ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله تبعا لشيخ الإسلام ابن تيمية قال: ”السلف كانوا يعبِّرون بالميسر عن كل ما فيه مخاطرة محرمة، ولم يشترطوا المال في الميسر“، وهذا كما قال الإمام مالك الميسر نوعان: ميسر لهو وميسر مال.
إذا تبين لك ذلك، يظهر أن الميْسر يختلف عن القمار –كما ذكرت لك- من أن القمار ما فيه مخاطرة وغرر المال وأما الميسر فأعم من ذلك.
فإذن الميسر عام والقمار بعض صوره أو أحد شقيه عند أكثر أهل العلم.
ما هو الميسر؟ وما هو القمار؟
الميسر: حقيقته الشرعية أنّ القمار –القمار أحد صور الميسر- نقول الميسر –كتعريف عام ثم نأتي للقمار- الميسر يشمل كل معاملة يدخل فيها المتعامل مع التردد فيها لا يدري، مع التردد فيها، لا يدري هل يغنم أو يغرم.
فإذن ضابط الميسر أنه دخول في معاملة مع جهالة الحصول؛ هل يحصل على ربح فيها، أو يحصل على الشيء أو لا يحصل.
وفرق بين هذا وبين التجارة؛ لأن التجارة فيها تحصيل سلعة، أما الميسر لا يدري هل يذهب ماله بعوض يأتيه، أو لا؛ يذهب ماله ويأتيه الغل.(6/11)
إذن فكل معاملة دار الأمر فيها في المتعامل مابين تردد –حين دخل- تردد بين غرمه وغنمه فإنها من الميسر، فإن كان غنمه وغرمه ماليا صارت المعاملة قمارا، يوضح ذلك مثال: لو –يعني يُفرق بينه وبين التجارة والميسر والقمار-أراد أن يشتري سلعة وهو يرد أن يبيعها، هذه السلعة أراد منها الربح، فاشتراها فحصلت له السلعة، هنا فيه مخاطرة هل يَربح أو لا يربح؟ لكن هذه الخاطرة لم يمنع منها الشرع؛ لأنه ما من أحد يشتري شيئا ليربح، إلا وقد يربح وقد لا يربح؟ ولهذا قال المحققون من أهل العلم: إنّ الشريعة لم تأتِ بنفي أو تحريم كل نوع من أنواع المخاطرة. بل لا تصلح المعاملات إلا بنوع من المخاطرة، لكن هنا المخاطرة أنواع، فإذا كانت المخاطرة في الربح هل يربح أم لا؟ فهذا لم تحرِّمه الشريعة، لأن الشاري تحصّل على السلعة، فإذن هو دخل في المعاملة، وقد تحصّل على سلعة. هذه صورة تجارة فيها مخاطرة ولكنها مخاطرة لم تحرم.
نأتي إلى صورة الميسر، الميسر معاملة دخل فيها لا يدري هل يغنم أم يغرم؟ هل يحصل على شيء أم لا يحصل على شيء ألبتة؟ ومعلوم أنّ أي متعامل بأي نوع من أنواع التعامل يريد أن يكسب لنفسه شيئا، فهو يدفع مالا في مقابل، أو يدفع عملا وجهدا في مقابل، فإذا كان يدفع ويعمل بشيء وهو لا يدري هل يحصل له أم لا يحصل له، وذاك الآخر هو الذي يستفيد، فإنه يعد ذلك ميسرا؛ لأن حقيقة الميسر ما تردِّد فيه بين الحصول وعدم الحصول، ما تردد عيه بين الغرم والغنم.(6/12)
والثالث القمار وهو التردد الحاصل بالمال مثل ما يحصل الآن من –يعني في بعض الصّور- من أنّ الشخص يشتري شيئا؛ يشتري ورقة كوبون، أو يسمونها في بعض البلاد اليانصيب، أو عندنا كوبونات مسابقات إلى غيره يشتريها بسعر غال مثلا يشتريها بمائة، وهذه المائة يدفعها وهو لا يدري هل يحصل على الجائزة أم لا يحصل؟ هل يحصل على مردود أم لا يحصل؟ فإذن حقيقة الميسر ونوعه؛ القمار في هذه واضحة من أنه بذل هذا المال، وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا يحصل؟ يُنظر هنا إلى هذا البذل للمال هل هو قليل فيغتفر، أو هو كثير فلا يُغْتَفر.
ومن المعلوم أن الشريعة جاءت بالتفريق ما بين قاعدة الغرر والجهالة:
فالغرر: هو تردد في الحصول على شيء.
وأمّا الجهالة: فالشيء موجود، ولكن تُجهل أحد أوصافه، أو يُجهل حاله، أو تُجهل هيئته، أو نحو ذلك.
والغرر منقسم في الأحكام الشرعية إلى ثلاثة أقسام:
1. غرر كثير نُهي عنه، كما في حديث أبي هريرة «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ, وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ».
2. وغرر قليل اغتفرته الشريعة؛ كالغرر فيما اشتريت بيتا، ما تدري عن أساسه هل هو جيد أم ليس بجيد؟ اشتريت مثلا شيئا تلبسه، ما تدري داخل هذه الجبة مثلا أو الفروة، هل ما في داخلها من القطن أو المادة هو جيد أو ليس بجيد؟ يعني ثَمّ شيء من الغرر مغتفر، هذا لا بد منه؛ لأنه ليس من شرط البيع أن تتضح جميع الأحوال على التفصيل، فهذه أنواع من الغرر والمخاطرة معفو عنها.(6/13)
3. والنوع الثالث غرر متوفِّق؛ ليس بالضخم الكبير، وليس بالقليل، وهذا النوع من الغرر هو الذي اختلفت فيه أنظار أهل العلم، هل يُعفى عنه أو لا يعفى عنه؟ ومن صوره المعاصرة -لهذا الغرر المتوفِّق- ما ذكرته لك من أنواع المسابقات الذي دفع المائة هذه، أو التأمين التجاري؛ بأنّ (ألف أ) من الناس يدفع مائة كل سنة، حتى إذا حصل على سيارته شيء، أو بيته شيء، تُصلَّح له مجانا، وقد يكون بآلاف مألفة، و(باء ب) يدفع مائة، إلى آخره، كل الناس يدفعون –يعني من اشترك- ثم المستفيد من هذه المعاملة قليل، فنظر ناظرون في ذلك: هل هذا من الغرر الكبير؟ أو من الغرر المتوسط؟
¨ ومن أباحه -وهم قليل من العلماء-؛ من أباح التأمين التجاري قال إنّ الذي يبذله المرء قليل في مقابلة ما سيحصل له هو غرر يسير؛ يعني مائة ريال ما تهمك كثيرا، مائتين ريال ما تهمك كثيرا في مقابلة ما سيأتيك من الفائدة.
¨ ومن نظر إلى مجموع الناس، وما يحصل للشركة من الفائدة، قال إن الغرر كبير؛ لأنهم جمعوا عشرات الملايين، أو مئات الملايين، والذي بذلوه للناس في مقابلة ذلك ملايين محدودة؛ يعني أنهم استفادوا من غير كد منهم ولا تعب؛ استفادوا مبالغ كبيرة جدا -مئات الملايين في بعض الأحوال، أو أكثر للشركات الكبيرة- والمبذول هو من الناس، فيكون الذي بذلوه وصلّحوا به ما صلحوا، أو ضمنوا به ما ضمنوا، يكون قليلا في مقابلة ذلك.(6/14)
وإذا تقرر هذا، فإن نظر المجتهد من أهل العلم ينظر لا إلى الفرد من الناس، بل ينظر إلى حماية الناس جميعا؛ لأن الشريعة جاءت لحماية أموال الناس، كما هو معلوم فإن الكليات التي حافظت عليها الشريعة خمس، ومنها المحافظة على المال؛ مال الفرد وأيضا مال الجماعة، فهذا المال الوفير الذي أخذته شركات التأمين مثلا في مقابلة فائدة أناس قليلين، هذا غرر كبير جدا؛ لأنهم يحصدون مائتين مليون، ثلاثمائة مليون، والذي أنفقوه خمسين مليون مثلا في السنة في بعض أحوال الشركات.
إذا تبين ذلك هنا، إذن في مسألة الغرر المتوفق يكون ثم خلاف بين أهل العلم.
نأخذ الآن مقارنة لك ما بين الغرر والميسر:
الغرر نوع من أنواع الميسر، فالميسر أعم من الغرر، فالغرر يدخل في المعاملات؛ يعني في المعاملات والمعاوضات، والميسر عام يشمل ذلك ويشمل غيره، لهذا عدّ السلف أنواع كثيرة من اللهو الباطل، عدوها من الميسر لأجل ما فيها من مشابهة أهل الجاهلية في ذلك، ولم يعدوها غررا لأنها ليست معاوضة.
فإذن الغرر قد يكون في المعاملات؛ يعني في أنواع التعامل في البيع، في الإجارة، في الشركات، في أنواع الأبواب الفقهية؛ يعني في المعاملات.
أما الميسر فيشمل كل معاملة تُرِدِّدَ فيها هل تحصل أم لا تحصل، والغرر أيضا إذا كان فيه معاملة فينطبق على ذلك، فالميسر يدخل في المسابقات والرِّهان.(6/15)
وأما الغرر فلا يدخل في المسابقات والرهان، ولهذا نقول مثلا في المسابقات نقول هذه قمار، ولا نقول غرر لأن –مع أن بعض أهل العلم يعبر عنها بالغرر لكنها غرر بمعنى، وهي بالمعنى أكثر إذا كانت مالية قمارا وميسرا- نقول إذن إن الميسر كما ذكرت لك نوعان: نوع في المغالبات والرهان، ونوع في المعاملات. والميسر الذي في المعاملات هو الغرر، ولهذا كل بيع فيه غرر فيدخل باسم الميسر في الاسم الواسع، وأما المغالبات والرهان فهذا يدخل فيه أحوال كثيرة، مثل مل هو معروف عند الناس، تقول أراهنك على كذا وكذا، يعني بشيء يحصل أو لا يحصل، أو نعمل كذا وكذا بالمراهنة، هذا يدفع مبلغ وذاك الثاني يدفع مبلغ، وأيهما فعل أو سبق صاحبه فإنه يكون الآخذ للمال؛ يعني مال الآخر. معلوم أن هذه المغالبة هي أخذ للمال بغير وجه حق، ولهذا نهت الشريعة عن كل أنواع المسابقة والمغالبة والرهان إلا ما كان فيه نصرة للدين وفيه جهاد، لهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «لا سَبَقَ إلاّ في خُف أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ» لأنّ الخف والنصل والحافر هذه فيها إعداد للجهاد؛ يعني لا عِوَضَ يبذل على مسابقة إلا فيما فيه إعانة للجهاد؛ مسابقة الخيول تبذل فيها عوض لا بأس لأنه فيها إعانة على الجهاد، مسابقة الرمي بالسهام للإصابة؛ بالسهام في الزمن الأول أو بالرماح، أو الآن بالبنادق أو بأشباه ذلك، هذه كلها فيها إعانة على الجهاد، هذه لا تدخل في تحريم المغالبات، فإذن نقول القاعدة أن أنواع المغالبات والرهان محرم إلا ما كان فيه نصرة لدين الله جل وعلا، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا سَبَقَ إلاّ في خُفّ أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ»، قال أهل العلم إن العلم من أعظم أنواع الجهاد، ولذلك فإن المغالبة والمسابقة والرهان فيه جائز؛ لأنه قائم على الجهاد، يعني مثلا اثنين يِتْسَابَقُونْ أنا أضع ألف، وأنت تضع ألف ريال، الذي يسبق في حفظ سورة البقرة يأخذ ألفين، هذا فائدة للدين،(6/16)
وفائدة للعلم، أو يحفظون متنا، أو يحررون بحثا، قال طائفة من أهل العلم كابن تيمية وابن القيم وجماعة أنّ هذا مما فيه إعداد للجهاد.
إذن فقاعدة الميسر والمغالبات يُستثنى منها ما كان فيه نصرة لدين الله جل وعلا، والرهان؛ أنواع المراهنات محرمة، فكل رهان ميسر؛ لأنه يُراهن؛ يدخل في هذا النوع على تردد هل يحصل له أم لا يحصل له؟ هل يتحقق يكسب أم لا يكسب؟ وبعض أهل العلم أجاز الرهان استدلالا بحادثة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما نزل قول الله جل وعلا { الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ } [الروم:1-4]، فكان المسلمون يفرحون بنصرة الروم على الفُرس، وكان المشركون بنصرة الفُرس على الروم، فلما نزلت الآية وكانت الدائرة للفرس، تراهن أبو بكر مع أحد المشركين، فقال أحد المشركين ستغلب فارس أو غلبت فارس. فقال أبو بكر - رضي الله عنه - بل الروم ستغلب. وراهنه على مال، وكسب المالَ أبو بكر - رضي الله عنه -، وأهل العلم في هذا الرهان الواقع من أبي بكر لهم منحيان :
¨ المنحى الأول أنّ هذا منسوخ بتحريم الميسر في المدينة.(6/17)
¨ والثاني أنّ هذا ليس بمنسوخ بل هو محكم؛ لأن أبا بكر لم يدخل في معاملة الأمر فيها متردد بين الحصول وبين عدمه، حين دخل في المعاملة دخل بوعد الله جل وعلا، بل بإخبار الله جل وعلا، وهذا أوثق أنواع الإخبار؛ لأنه لو ظن هو أو تحقق هو من نفسه بأنه ستحصل، الأبلغ منه أن يخبره المولى جل وعلا وأن يحكم بأن الروم ستغلب، لذلك أبو بكر الصديق حين راهن تسمى المعاملة رهانا، ولكن هو كاسب فيها داخل متيقنا بالكسب لا على غرر ولا على جهالة؛ لأن الله جل وعلا هو الذي أخبر بأن الروم ستغلب { الم(1)غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ } [الروم:1-4]، فلما انتهت بضع سنين غلبت الروم، فإذن هذه الصورة لا تدل على إباحة المراهنة ولا تدخل في الميسر ولا في القمار ولا في الغرر؛ لأن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - دخل فيها وهو عالم أنه سيكسب بيقين، فلا تصلح دليلا على إباحة الرهان ولا المراهنة، ولا إباحة بعض صور الميسر.
ما الفرق مابين الرِّهان والقمار؟
الرِّهان فيه توقُّع مع عمل، وأما الميسر فهو توقع بلا عمل هناك؛ يعني أن الميسر والرهان يشتركان في أن كلا منهما فيه تردد في الحصول من عدمه، لهذا صار الرهان من أنواع الميسر، لكن الرهان يختلف عن القمار بأن المراهن لم يعمل عملا يكتسب فيه هذا المال، بينما المقامر فإنه قد يعمل عملا يحصل له هذا الشيء، والعلماء في الفرق ما بين الرهان والقمار في دخول العمل لهم تعابير مختلفة باعتبار العمل تارة، وبعدم اعتباره تارة.
إذا تبين ذلك في تبيين هذه المسألة فأعود ألخص:
?بأنّ حقيقة القِمار الشرعية أن القمار نوع من أنواع الميسر وقد يعبر بعض أهل العلم عن الميسر بالقمار، والقمار بالميسر.
?الثاني أن القمار والميسر كل منهما فيه تردد هل يحصل الشيء أم لا؟
?القمار فيه بذل للمال بلا عوض يحصّله، يقابله.(6/18)
?أيضا القمار نوع من أكل أنواع الناس بالباطل، وهو يغامر بماله رجاءَ أنْ يغتني والثاني يغامر بماله رجاء أن يغتني، وهذا فيه بذل للمال من غير عوض، ومن الجهة المقابلة فيها أكل للمال بالباطل بغير وجه حق.
والقاعدة التي يمكن أن يندرج تحتها أكثر الصور المعاصرة مما يُشكل على الناس في قاعدة الميسر والقمار: أنّ –هذه تنتبه لها وهي حصيلة الكلام المتقدم- أن المعاملة التي يدخل فيها الداخل:
?والأمر يدور فيها ما بين أن يخرج غانما أو غارما فهي من القمار أو الميسر؛ يعني يدخل وهو متردد هل يكون -يعني لا يدري؛ تردد يعني لا يدري- هل يغنم أو يغرم هذه تكون ميسرا وقمارا. فإذن أعود أكرّر إذا دارت المعاملة التي تتعامل بها، دار بذل المال الذي تبذله، دار بذل العمل الذي تعمله، بين أن تكون غانما شيئا، أو غارما المال أو العمل، فهذه المعاملة من الميسر.
?الحال الثانية أن تدور المعاملة التي تتعامل بها ما بين أن تكون غانما أو سالما؛([1]) يعني إمّا أن تغنم وإما أن تسلم؛ إما أن تستفيد وإما أنه لا شيء عليك، فهذه الصورة لا شيء فيها وليست من الميسر أو القمار المحرم.
بالمثال:
?مثلا تدخل إلى محل تجاري تجد فيه مسابقة؛ أو يعني جوائز، هنا تأتي الجائزة تنظر فيها، هذه الجائزة التي ستعطى، هل تكون ببذل منك لمال؟ أو بشراء لأشياء غير مرادة لك؟ يعني تبذل خمسين ريال عَشَانْ تأخذ كوبون مثلا، تأخذ قسيمة ستربح أو لا؟ هذا بذلت شيئا، أو تشتري أشياء لا حاجة لك فيها، ما أردتها، وإنما أردت هذه القسيمة؛ أردت المشاركة، فهنا أنت دار أمرُك فيما بذلت بين أن تكون غانما بالجائزة أو غارما لهذا المال، أو شراءك لهذه الأشياء التي لا تحتاجها، فإذا دار الأمر على هذه الصورة صارت الصورة محرمة؛ لأنها ميسر، لأن الأمر في حقيقته دار بين الغنم والغرم، وترددت بين أي الأمرين يحصل لك.(6/19)
?الصورة الثانية دخلت مثلا في مكان، واشتريت بأي مبلغ، ما يشترط مبلغ معين، أنت خاطب تشتري هذه السلعة بعينها، ثم لما أتيتَ للمحاسبة قال خذ هذا الكوبون عبِّئ اسمك وحط مثلا عنوانك، فهنا دخولك فيها دخولك في هذه المعاملة دائر بين أحد إحتمالين: إما أن تستفيد الجائزة، وإما أن تسلم فلا تخسر شيئا، حينئذ دار الأمر ما بين السلامة، وما بين الغنم، فحينئذ لا تكون المعاملة قمارا ولا ميسرا.
فإذن هذه القاعدة يمكن أن تطبق عليها أكثر الصور المعاصرة التي يسأل عنها الأكثرون في مسائل القمار والميسر.
?الحال الأولى التي هي ميسر أن تدخل لا تدري هل تغنم أو تغرم.
?الحال الثانية ليست من الميسر تدخل على أحد احتمالين:
•إما أن تسلم ما تخسر شيء.
•أو أن تستفيد فهذا نوع من أنواع التبرع من المقابل.
وكما ذكرت لك يأتي كثيرا أسئلة من هذا النوع، فيمن يدخل المحلات التجارية وفيها جوائز لمن اشترى بمائة، فيها جوائز لمن اشترى بخمسمائة ريال، فيها جوائز لمن اشترى بألف ريال، إلى آخر ذلك، فهنا إن كان شراؤك مأخوذا يعني أنت محتاجا لهذه السلع ستشتريها للحاجة، فإذن الجائزة تأتي تبعا، يعني احتمال أخذك للجائزة يعني تبعا، فإذن أنت ما بذلت لتأخذ الجائزة بذلت لحاجتك، فحينئذ الجائزة إما أن تغنمها، وإما أن تسلم فلم تدفع مقابلا، وهذه فيه صور كثيرة يمكن أن تطبقها، فيه حالات لا، يكون إما دفع -وهذا من القمار المحرم والميسر الذي هو كبيرة من كبائر الذنوب- لابد تدفع مال، مثل ما ذكرت لك، ما يسمونه اليانصيب، وأشباه ذلك في بلاد أخرى، هنا يحتالون عليه بأنواع الاحتيال.(6/20)
إذا تبين ذلك فإن هذه الصور والتعاريف تقرب لك حقيقة الأمر، وأنّ الميسر والقمار محرم، وأنه كبيرة من كبائر الذنوب، وأن الشريعة نهت عنه لما في ذلك من حفظ المال العام والخاص، ودفع الغرر، ودرء تلاعب المتلاعبين، وأيضا لما فيه من دورة المال ونمو المال بالطريقة الصحيحة، بما فيه قوة البلاد، وقوة الأمة، وقوة المسلمين، لأن القمار يفضي إلى الخسارة، ويفضي إلى الذل، ويفضي إلى العداوات كما قال جل وعلا { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ } [المائدة:91].
الميسر إسم عام –ألخص لك بعض المسائل التي وردت- يشمل ميسر اللهو وميسر المعاملات. ميسر اللهو ولو لم يكن فيه مال كما قال الإمام مالك الميسر نوعان: ميسر لهو وميسر مال. وعد علي - رضي الله عنه -وابن عباس وطائفة من السلف كعطاء والحسن وجماعة أن اللعب بالنرد، واللعب بالشطرنج، واللعب بالجور وكعاب الأطفال أنه من الميسر لأنه وسيلته.
الميسر في المغالبات المالية هو القمار، والقمار –وأنا نسيت ربما أن أعرف القمار- القمار مأخوذ في الأصل في اللغة من نور القمر؛ لأن نور القمر متردد بين الكمال والضعف، كل يوم له حالة، فكذلك المقامر كل يوم له حالة. والمقامرة خاصة بالمال تدخل في أنواع المغالبات، والتعاملات المالية.
قاعدة الغرر كقاعدة المغالبة والميسر والقمار قائمة على تردد هل يحصل الشيء أم لا يحصل، إذا دخلت في معاملة بذلت شيئا لا تدري بَذْلُكَ هذا له يحصل معه شيء أم لا شيء وراءه، فإنها تدخل باسم الميسر، أما إذا كانت دائرة ما بين السلامة والغنم فهذه لا تدخل في اسم الميسر .(6/21)
هناك صور كثيرة من أنواع المعاملات المعاصرة يعدها طائفة من الناس في القمار وهي لا تدخل في القمار، فقط تكون في أكل أموال الناس بالباطل، والقمار –كما ذكرت لك- له تعريفه، والميسر له تعريفه.
هذه المسألة بما ذكرتُ قرّبنا لك تعريف القمار، تعريف الميسر، والرهان، والفرق بين هذه الألفاظ، وأنواع الميسر، وأنواع المغالبات، وما يستثنى من ذلك، ولعل فيما ذكرت فتح باب لمن أراد التوسع لمراجعة هذه المسألة المهمة والقاعدة العظيمة من قواعد المعاملات وهي قاعدة الغرر أو قاعدة الميسر.
أسأل الله جل وعلا أن يمنحني وإياكم مزيد الفقه في الدين، وأن يكفر عنا السيئات، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأن يصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، كما أسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن وفقوا في أقوالهم وأعمالهم، نعوذ بالله أن نقول ما لم نعلم، أو أن نعلم ولا نعمل، كما أسأله سبحانه لي ولكم الدعوة إلى دينه، وأن يوفقنا إلى ذلك بالدعوة والعلم والتعليم في أحوالنا كلها إنه أكرم مسؤول، وأسأله سبحانه أن يوفق علماءنا لما فيه رضاه، وأن يمنحهم مزيدا من البصيرة والتوفيق في الدين، وأن يزيدهم من الهدى في النظر في هذه المسائل الواقعة المعاصرة التي يسأل عنها الناس كثيرا فيما استقدمه كثيرون من بلاد الكفر من أنواع المعاملات، كما أسأل المولى جل وعلا أن يُوفق ولاة أمورنا إلى ما فيه رضاه، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاملين على البر والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الأجوبة علىالأسئلة:([2])(6/22)
1- الجواب: الحمد لله، الشركات شراءُ أسهمِها وبيعه جائز بشروط، أهمها أن يكون عمل الشركة مباحا؛ يعني أن تكون الشركة تعمل عملا مباحا كشركة زراعية، أو صناعية، أو ...... ([3]) أو ما أشبه ذلك، ما تكون شركة بنك يعني، مثلا فيه الربا، أو شركة لتصنيع الخمور، أو شركة للمتاجرة بالأفلام الخبيثة، أو شركة إعلامية فيها دعوة الناس للفساد والرذيلة، وأشباه ذلك، فإذا كان نشاط الشركة جائز شرعا فإن شراء أسهمها جائز، ثم إن المشتري لأسهم الشركات له حالان:
•إما أن يحتفظ بهذه الأسهم لكي تجر عليه الأرباح سنويا وهذا جائز.
•والثاني أن يشتري الأسهم لا لينتظر بها سنة حتى يحصل على الأرباح، ولكن ليبيع فيها ويشتري وهذا جائز أيضا.
ويكون لهذه الأسهم حكم عروض التجارة، فعليه أن يُقَوِّمَهَا كلَّ سَنَة ويُخْرِجَ زكاتها كما تُخرج زكاة عروض التجارة، فإذن شراء أسهم الشركات وبيعها، والتربص بها ارتفاع السعر حتى يبيع جائز إذا كان نشاط الشركة غير محرم، ومن قال إنه من القمار هذا ليس بجيد إلا في حالة واحدة، هي غير موجودة في نشاط الأسهم عندنا في هذه البلاد، موجودة في البورصة العالمية من أن هناك أناس لا ينقلون السعر فعلا؛ يشترون الأسهم وتنتقل الملكية، وإنما يخاطر بالشراء للارتفاع؛ ارتفاع السهم أو نزوله، وترى أنه يشتري بالكلام ويبيع بالكلام، لم يدفع مالا، ولم تنتقل السلعة أو الأسهم من ملك فلان إلى ملكه، ثم بعد ذلك يبيع لأجل فرق السعر، فهذا لاشك أنه نوع من المقامرة، أمّا ما هو موجود عندنا في أنه يشتري الأسهم ينقلها باسمه، ثم يتربص بها ارتفاع السعر فيبيع ذلك فهذا جائز، كما ذكرنا والحمد لله على تيسيره.(6/23)
2- التأمين بحث واسع في حكمه، وفي أصوله الشرعية، وفي أصوله أو صوره المعاصرة، والذي عليه أكثر العلماء أن التأمين التجاري المعروف عندكم أنه محرم؛ لأنّ فيه أكلا للمال بالباطل، لأنّ فيه غررا في المعاملة، ولأنّ فيه قمارا كما ذكرنا، صورة التأمين التجاري ما ذكرته لك في المحاضرة من أن فلان يدفع مائة ريال سنويا تأمينا على سيارته، والثاني يدفع مائة تأمينا على سيارته، فيجتمع للشركة ملايين ثم هي تصلح سيارة من خربت سيارته، أو تعطلت، أو صدمت، أو أصابها حادث، فيكون مردود الشركة أكبر بكثير جدا مما تحصَّلته، المحافظة على المال العام واجبة، فلهذا أكثر أهل العلم يقولون إن التأمين التجاري محرم. وبعض العلماء أجازه لأجل أن الغرر عندهم يسير بالنسبة للفرد، وأن مصلحته أكبر، قالوا هذا الزمان كثرت فيه الأموال، والناس مواردهم محدودة باعتبار الأفراد، فهو يرغب في أن يأمن على نفسه من الكوارث بمساندة غيره إذا دفع، والشركة لا يمكن أن تقوم بذلك إلا اجتمع الجميع، فصورتها متعددة عندهم، لكنها في الحقيقة عندهم تعاونية معنا، وإن لم تكن تعاونية شرطا ولفظا. وهذا فيه نظر والتأمين التجاري الأولى تركه، وأنَّ المرء يتوكل على الله جل وعلا لأجل أن لا يدخل في مثل هذه المعاملات، وهو في الحقيقة محل بحث ونظر ينبغي أن يبحث مرة أخرى ببحث واسع وينظر في عاقبته.(6/24)
النوع الثاني من التأمين، التأمين التعاوني وهذا أباحه كبار العلماء عندنا فيما أصدرته هيئة كبار العلماء من فتوى في إباحة التأمين التعاوني، التأمين التعاوني صورته غير صورة التأمين التجاري، التأمين التعاوني أن يكون المشتركون في شركة التأمين هذه بصفة شركاء، لهم الربح وعليهم الخسارة، فهُم يتعاونون في أن يُسَدِّدَ بعضهم عن بعض، الشركة ما تستفيد هي يستفيد شخص خارج، إنما الإستفادة ترجع إلى المشتركين، فمثلا فلان من الناس ((أ)) دفع مائة، ((ب)) دفع مائة، ((ج)) دفع مائة، إلى العاشر، اجتمع ألف ريال، فهذه يشتركون فيها وتكون عندهم، ثم إذا مضت السنة ولم يحدث حادث لأحد منهم، فإنّ الألف هذه تعود فائدتها عليهم، فتُنمّى لهم، فإذا دفعوا مائة في السنة المقبلة، فإنّ هذه المائة تُنمَّى لهم أيضا، يعني تحفظ لهم لحوادث هذه السنة، ثم تنمى لهم، يعني أنهم شركاء في شركة تعاونية للتأمين، هؤلاء أعضاؤها لهم غنْمها وعليهم غرْمها، وهذه لا شك أنها صورة شركة بشرط والمؤمنون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا، وهذه الصورة جائزة، ولذلك أفتى كبار العلماء بجوازها، وهي حلٌّ مثالي، لكن هذه لا يستفيد منها أصحاب الأموال وأصحاب الشركات، إنما يستفيد منها الناس، وهم لا يريدون أن يستفيد الناس، وإنما يريدون أن يستفيدوا هم، ولو قام هذا النوع من الشركات لكان في ذلك تيسير للناس وقضاء لحوائجهم.(6/25)
3- الجواب عن الحكم يتوقف على قراءة عقد التأمين، وأنا لم أقرأ عقد التأمين، ولكن بحكم ما أسمع أنها ليست بتعاونية بالمعنى الذي ذكرناه آنفا؛ يعني أنّ الشركاء مغرومون ولهم الغرم، وأنّ الموال التي لم يستفيدوا منها أنها ترد عليهم بأرباح إلى غير ذلك؛ يعني إذا نميت، وإنما اسمها تعاونية للتأمين وفي حقيقتها لم تطبق التأمين التعاوني الذي أفتى به العلماء، لكن الكلام على الحكم متوقف على قراءة العقد، وإذا كان أحد يأتي بالعقد إن شاء الله نرى ما فيه، وأظنهم أحيانا يستندون على فتاوى بأنّ عملهم جائز ولا ندري هل هذه الفتاوى صحيحة أم ليست بصحيحة. نعم
4- أما الهدية؛ فهو اشترى منه أهداه هدية فهذا تبرع منه وجزاه الله خيرا، لأن الشاري ما غرم شيئا وإنما غنم بدفع التاجر له برضاه؛ يُرَغِّبُ الناس في الشراء منه، فهذا لا بأس به، أمّا المسابقات فراجعة إلى ما ذكرته لك من القاعدة؛ بأن المعاملة إذا دخلت فيها وأنت لا تدري حين دخلتَ وبذلت عوضا، لا تدري هل تغنم أم تغرم؟ متردد أي الأمرين يحصل لك بعد أن دفعت ما دفعت، هذه تكون من الميسر والقمار، أما إذا كنت لا تدري يحصل أو لا يحصل، لكن لم تغرم شيئا، لم تدفع شيئا، إنما أنت ما بين سالم من الغُرم، وما بين غانم، فهذه لا بأس بها، ويمكن أن تدخل فيها صور كثيرة، فطيّب لو فهمتم هذه العبارة، والفرق ما بين الصورتين، لأنها سهلة التطبيق في الواقع. وإذا كان لا حاجة له في الجريدة إلا لأجل المسابقة، مالَكَ أي حاجة فيها إلا لهذا، فهذا نوع غرر، وقد يكون المبلغ يسيرا عند بعض الناس، يعني ريال أو ريالين، لكنها تدخل في الغرر، هل هو من الغرر المعفوّ عنه أم لا؟ هذه محل نظر، لكن في الغالب الجرائد هناك ناس يحصلونها ويحصلون عليها، وتكون المسابقات مقصودة مع غيرها.(6/26)
5- المسابقات كما ذكرت لك، هذا المال الذي دفَعَه عوض عن شيء لا يدري يحصل له أو لا يحصل له، يدفع ريالين مثلا، هل تحصل له الجائزة أو لا تحصل له؟ هل يكسب أو لا يكسب؟ فإذن تردد في الحصول على الشيء وعدم الحصول، فإذن هو غرر ولا شك، لكن هل الريالان غرر يسير يغتفر، مثل غرر في أساس البناء، ومثل الغرر في باطن الملابس، ونحو ذلك، أم لا يغتفر؟ أم نقول هذا دفع للمال وليس بغرر؟ هذا دفع للمال بحكم المجموع، يكسبون أموال كثيرة الجوائز أقل منها، فمثلا اشترك مليون شخص في هذه المسابقة كل واحد قد دفع ريالين، فما الذي تَحصَّل؟ مليونين، طيب، فالجوائز كم؟ مليون, وذاك يأخذ مليون مقابل إيش؟ فإذا نظرنا لهذه النظرة وجدنا أن العلماء على أصولهم يختلفون في ذلك:
? فمن رأى الفرد بمفرده قال: هذا الريالان غرر يسير فلا بأس.
?ومن رأى المجموع وأن الجهة تستفيد بمبالغ ضخمة من الأمة دون مقابل فقال: هذا بالمجموع ضرر كبير، وإذن يدخل في الميسر والقمار، ويدل على هذا الثاني أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول «المؤمنون كالجسد الواحد»، وقوله «يسعى بذمتهم أدناهم»، فإذن كما ذكرت لك من نظر إلى المجموع قال هذه ولو كان المدفوع ريالين، فإنها لا تجوز.
6- هذا مقابل عمل، يعني هذا داخل في السَّلم، ليس له علاقة بالميسر والقمار.
7- أولا: العاقل لا يشتري إلا ما يحتاجه.
الثاني: أنه إذا عُرِض عليه مثل هذا فهو بالخيار، فكأنه قُدِّمَ له؛ يعني قيل له أنا أخصم لك الثلث، يعني مثلا أخصم لك ثلاثين في المائة، اشتري مني ثلاثة وأنا أخصم لك بالقيمة ثلاثين في المائة أو خمسين في المائة، وهذا كما يقول إذا اشتريت أكثر.....([4])؛ كلما تشتري أكثر أنا خفضت لك في السعر، هذا لا بأس به، ولا يدخل في الغرر ولا الميسر.(6/27)
8- أولا السؤال بناه على مقدمة أو قاعدة ليست بصحيحة، قوله (الشارع لا يأمر بشيء إلا فيه خير محض) هذا غلط، لأن الشارع يأمر بالشيء إذا كان فيه خير محض أو غالب، وينهى عن الشيء إذا كان فيه ضرر محض أو غالب، لأن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتكميلها، فالخمر فيه منفعة، لهذا ذكر المفسرون عند قوله تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [البقرة:219]، من منافع الخمر منافع دنيوية في التجارات والأموال، ومن منافعها منافع بدنية يعني تعود على البدن بصحة إلى آخره فيما ذكره المفسرون، كذلك الميسر فيه منافع فيما ذكرتُ لكَ في المحاضرة، فإذن الشريعة تحرم ما كان خالص المضرّة، أو ما كانت مضرّته أكبر، والمضرة هنا في ميزان الشرع راجعة إلى مضرّة دنيوية، وإلى مضرّة أخروية، أما المضرة الأُخروية فَلِمَا في التعامل بنوع المعاملة، أو تعاطي هذا الأمر من أي أمر كان؛ الخمر، الميسر، السرقة، الرشوة، الزنا، القذف، إلى آخره، لأن فيه إثم يرجع على القلب بظلمته، وعدم رضوخ القلب وخضوعه لله جل وعلا، فما فيه عنفوان القلب؛ تَكَبُّرَه، تَجَبُّرَه، وعدم رضوخه وخضوعه لأمر الله جل وعلا، هذا يُحَرَّم للغرض الأخروي ولتحصيل القلب العابد الخاضع لله جل وعلا، ثم الغرض الدنيوي يُحَرَّم إذا كان فيه ظلم، أكل أموال الناس بالباطل، فيه ضرر. وما يجمع ذلك قول العلماء: إن الشريعة عُنيت بحفظ الضروريات الخمس وهي مرتبة: الدين. ثانيا: النفس. الثالث: العقل. الرابع: العرض. الخمس: المال. ولهذا نقول إن الشريعة لما جاءت بالمحافظة على هذه الكليات الخمس، وكل منها مهم أن يدفع الضرر عنه، فلهذا شرع الجهاد لأجل حفظ الدين، وشرع القصاص لأجل حفظ النفس، وشرع حد الخمر وحرمت الخمر حفاظ على العقل، إلى آخر تفصيلات ذلك معروف في كتب مقاصد الشريعة.(6/28)
9- الرهان المحرم وهو المغالبة بعوض من غير عمل شرعي، هذا عَدَّهُ كثير من أهل العلم من الكبائر، وهو داخل في عموم قوله جل وعلا { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [البقرة:188]، والواجب على من أُبتلي بذلك أن يتوب إلى الله جل وعلا، ويردّ المال الذي في يده لمن أخذه منه إن كان يعلمه، وإن كان لا يعلمه فإنه يتوب إلى الله جل وعلا والمال الذي أخذه أو الشيء الذي أخذه فإنه يخرجه من ماله تصرفا لا تصدقا.
إذا ما كان فيه نصرة للدين ما تجوز المراهنة.
ولو، هو بالنسبة لآخر غير متيقن، هذا يقين غير معتبر.
10- هذا قول لبعض أهل العلم بأن اللعب قسمان: لعب لهو، ولعب بالأجسام. يعني لتقويتها، والسلف عَدُّوا اللعب الذي لا فائدة منه شرعية، عدوه تارة من الباطل، وتارة من الميسر، فيدخل في ذلك كل أنواع اللهو بالباطل، لهذا قال كثير من أهل العلم: إن اللهو بالباطل.
وهذا الشيء: اللعب بالورقة، هل هو لهو بالباطل أم لا؟ هنا يكمن النظر:
• فإن كان عن عوض، يعني فيه مال يُدار فلا شك أنه قمار، فيكون محرما، وكبيرة، لأجل ما صاحبه من القمار، وأكل المال بالباطل.
• والحال الثانية: أن يكون مُشْغِلاً عن الطاعة صاحبه ممن يلعب هذه اللعبة أو غيرها، يمكثُ السَّاعات الطوال تاركا واجباتَه في بيته، تاركا الأُنس المطلوب والسكن لأهله، تاركا رعاية أولاده، أو في مجالس فيها أنواع محرمات أخر، فيحرم اللعب لأنه وسيلة إلى غيره، فهو وسيلة إلى تضييع الصلاة، وسيلة إلى تضييع واجبات الأهل والمنزل، ووسيلة لتضييع واجب الأولاد ورعايتهم، ووسيلة لتضييع كسب المال، لما فيه رعاية للمال، فأي حالة من هذه انطبقت فيكون اللعب بالورقة المذكور محرما، لأنه صار وسيلة للمحرم، ومن المتقرر عند علماء الشريعة أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان اللعب سيؤدي إلى شيء محرم صار لهوا بالباطل، ليس لهوا مأذونا به، صار لهوا بالباطل.(6/29)
• الحال الثالثة: أن يلعب أحيانا، وليس في لعبه تفريط بأمر واجب شرعي، وليس فيه إضاعة لواجب من صلاة أو واجب رعاية، ونحو ذلك، فهذا يدخل عند عامة أهل العلم بأنه مكروه يعني تجنبه أولى، لأن اللهو الأصل فيه المنع.
11- البورصة هذه كلمة أجنبية، ترجمتها التقريبية بالعربي (محل عقد الصفقات السريعة) يعني بعضهم ترجمها...... ([5]) يعني صفقة، محل عقد الصفقة قالوا..... ([6]) جمعها ...... ([7]) يعني البورصة كلمة معناها المحل الذي تعقد فيه الصفقات بسرعة، فهي اسم لمحل تتداول فيه السلع، أو تتداول فيه الأسهم، أو تتداول فيه العملات فيكون البيع والشراء فيه سريعا وفي المحل، وغالب هذا يكون فيه قبض ولا يكون فيه انتقال الأملاك، بل على الشاشة مثل ما هو موجود الآن في البيوت، ممكن الواحد يعمل عمليات يتصل بالبورصات العالمية من منزله بواسطة الكمبيوتر إما المستقل أو بواسطة الدخول في شبكة الإنترنت، وغير ذلك، المقصود أن كلمة بورصة محل مغلق، مثل سوق تجاري فيه عرض للسلع وفيه بيع وشراء لمن حضر ولمن اتصل به، هذا معنى البورصة.(6/30)
12- السؤال غير واضح، يتسابقون، كما ذكرنا، لكن القاعدة في المسابقات أنه لا يجوز أخذ العوض على المسابقات، أو أخذ السَّبَق إلاّ إذا كانت المسابقة فيها نُصرة للدين، كما قال عليه الصلاة والسلام «لا سَبَقَ إلاّ في خُف أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ»، السبق هو العوض الذي يجعل لمن سَبَق، ويرويه بعض الناس «لا سَبْقَ إلاّ» –يعني لا مسابقة- وهذا ليس بجيد الأولى ضبط الحديث «لا سَبَقَ» يعني لا عوض «إلاّ» في هذه الثلاثة «في خُف أوْ نَصْلٍ أوْ حَافِرٍ» يعني المسابقة بالجمال، المسابقة بالخيول، أو الرمي السهام، وهذه الثلاث مثلت لأن فيها قوة المسلمين في الجهاد بالرمي، كما قال عليه الصلاة والسلام على قوله { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال:60]، قال«ألا إن القوة الرمي»، قل بأنواع الرمي؛ الرمي بالنبل الرمي بالسهام، الرمي بالرماح، والخف؛ الجمال تستخدم في الحروب والجهاد، وكذلك الخيول تستخدم، فهذا معنى مثَّل فيها تمثيلا لكل ما فيه نصرة لدين الله جل وعلا، لهذا قال العلماء: إنَّ كل أنواع الجهاد جائز فيها المسابقة. هذه المسابقة التي يَذكر هل هي مسابقة على التقوية على الجهاد، يعني مسابقة بالأقدام؟ هل هي مسابقة على الخيل ونحو ذلك، فتباح بشروطها؟ أم مسابقات أخر؟ ما ندري. المسابقات العلمية جائزة، المسابقات بالخيول جائزة، مسابقات الرمي جائزة، لأن كل هذا فيها إعداد للجهاد، والفروسية والقوة التي كان يتميز بها الصحابة رضي الله عنهم وبها قَوُوا على الجهاد نوعان:
• فروسية في العلم والبيان.
•وفروسية للركوب؛ ركوب الخيل ونحوها، يعني ركوب الفرس.
هم أعدوا العدة للجهاد بالنوعين، فكانوا أهل فروسية حقا في العلم، وفي الركوب، واستعمال ما كان متاحا لهم من المخلوقات التي أعدها الله جل وعلا للجهاد، فإذن السؤال غير واضح، ونوع المسابقة تحتاج إلى إيضاح.(6/31)
13- ذكرتُ لك أن المعاملات صعبة من حيثُ فهم أحكامها، لكن:
? لا بد لك من معرفة كلام العلماء في كتب الفقه.
? معرفة كلام أهل العلم في معاني القرآن والسنة في الدرجة الثانية.
? لا بد أن تقدم كلام الفقهاء حتى تتصور المسائل، لأن فهم كلام العلماء على النصوص مبني على تصور المسائل، وتصور المسائل لا يُحدِثُه لك إلا كتب أهل العلم؛ يعني أهل الفقه، تنظر إلى كتب التفسير، وإلى كتب الحديث، ثم بعد ذلك تنظر في الفتاوى المعاصرة، وتحاول تقارب وتجمع بين ذلك.
من الكتب المفيدة في ضبط مسائل المعاملات كلام الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه انطلق فيها بدلالات النصوص مع الربط بكلام أهل العلم من الفقهاء وغيرهم، وكلام ابن القيم أيضا تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، فإن في كلامهما، ومن تأثر بهما، على قواعد المعاملات فيها ثواب عظيم.
طُبع لشيخ الإسلام كتاب اسمه قاعدة أو نظرية العقد أو قواعد العقود، ولابن القيم أيضا كتاب الفروسية تكلم فيها مسائل كثيرة متصلة بذلك، وفي زاد المعاد وإعلام الموقعين.
أما الكتب المعاصرة فتهتم بكتب التقعيد يعني كتب التي تسمى نظريات: نظرية العقد، نظرية المال، نظرية الغرر، قاعدة الربا، قاعدة الغرر، يعني هذا التقعيد مُهِم؛ لأنه تندرج المسائل الفرعية تحت تلك القواعد العامة، سؤال أخير.
14- ما درستُها وما نظرتُ فيها.
15- الجمعيات التعاونية غير التأمين التعاوني غير الذي يسميه الموظفين الجمعية، عندنا ثلاثة أشياء: تأمين تعاوني، جمعية تعاونية، الجمعية التي يستعملها الموظفون كل واحدة لها حال.
نكتفي.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---
([1]) انتهى الوجه الأول من الشريط.
([2]) الأسئلة غير مسموعة من الشريط ولذلك دُوّنت إلا الإجابة عليها.
([3]) كلمة غير واضحة.
([4]) كلمة غير واضحة.
([5]) كلمة غير واضحة.
([6])كلمة غير واضحة.
([7])كلمة غير واضحة.(6/32)
قواعد القواعد
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريط له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله وصفيّه وخليله، نشهد أنَّه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، صلّى الله وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فموضوع هذه المحاضرة أو هذا الدرس (قواعد القواعد)، وكمقدمة لهذا الموضوع ومدخل بين يديه فإنَّه لا يراد أن يُدْرَسَ في هذا الدرس تأصيل القواعد الشرعية ووضع القواعد للتقعيد؛ فإن هذا مجاله مجال الدراسات المتخصصة والبحوث المتخصصة، وإنَّما نريد من هذا البحث أو هذا الدرس أن نَخْلُص إلى نتيجة فيما يتعلق بالتقعيد وفَهْمٍ للقواعد ثم ما ينبغي اتخاذه مع القواعد وما لا ينبغي اتِّخاذه مع القواعد.
وسبب هذا الدرس سبب إنشائه أنَّ الناس يمر بهم كثيرًا وخاصة القراء وطلبة العلم يمر بهم كثيرًا التقعيد يمر بهم كثيرًا ذكر القواعد؛ القاعدة في هذا كذا، والأصل في هذا كذا، وإذا جاء التقعيد فإنه يُفهم اندراج الفروع تحت هذه القاعدة، وأنّ المسلم يطبق هذه القاعدة بإدراج فروعها التي تندرج تحت ألفاظها ويشملُ عموم لفظ القاعدة للفروع يدرجها فيها بما فهم من القاعدة، ولهذا كثُرَ في هذا الوقت التأصيل والتقعيد، كلٌّ يقول القاعدة كذا وكذا، وفهم السلف لهذه المسألة كذا، والأصل في هذا كذا، والسلف نقلوا في هذه المسألة كذا، وربما جُعل بعض الأقوال للسلف قاعدة مطردة، وربما طرحت قواعد وأصول قررها أهل العلم في كتبهم ودلَّلوا عليها، فلهذا كان من اللّوازم أنْ يُجعل مدخل لهذه القواعد ولفهم التقعيد ولما ينبغي اتخاذه مع التقعيد مع ضرب بعض الأمثلة.(7/1)
والثاني: من سببي إنشاء هذا الدرس أنْ نعطي أصولاً عامة ينضبط بها التفكير، ينضبط بها عقل طالب العلم أو عقل المسلم بعامة في هذا العصر الذي كثرت فيه الآراء، وهذا العصر كما ترون وتسمونه وتشاهدون كثرت فيه الأقوال، كثرت فيه الاتجاهات، كثرت فيه الآراء حتى إنها تكثر بعد كلّ يوم وليلة، وسبب ذلك الإخلال بالتأصيل العلمي، وسبب ذلك الإخلال بالرجوع إلى قواعد العلم.
ومن أسباب حدوث ذلك التفرّق أو كثرة الآراء وكثرة المدارس من أسباب ذلك كثرة التقعيد الذي يورده أصحاب كل جهة، ويكون ذلك التقعيد تارة مسلَّمًا وتارة غير مسلَّم وربما كان مسلَّما من جهة غير مسلَّم من جهة أخرى، كما سيأتي لذلك مثال.
وهذا مما جعل كثير من الناس وخاصة الشباب يتخبطون في وضع ضوابط عقلية؛ لأنّ الكل ولله الحمد يريد السلامة، يريد أنْ يتقرب من ربه جلّ وعلا، يريد أنْ يعلم الحق ثم يتّبع الحق، هذا ديدن الجميع، ولهذا كل ما دعا داع إلى الحق بطريقته فإنه يجد له أتباع ويجد من يتقنع بفكرته، وسبب الاقتناع بالأفكار الخاطئة أو الأفكار الناقصة أو الأفكار المتبلبلة يعني غير الثابتة التي ليس لها أصول واضحة هو الكلام، هو الآراء، إيراد أصول، إيراد نقول، إيراد شواهد، إيراد أدلة ونحو ذلك، ويكون ذلك الإيراد من الأدلة والأصول والقواعد والشواهد يكون ناقصًا، يكون صحيحا في نفسه لكن يكون ناقصا، وسبَّب ذلك أنْ كثرت الآراء وعرض كلٌّ فكرته بطريقة وعارضت ما عند الآخر، ولو رجع الجميع إلى العلم لضبطهم العلم ولكانوا يدا واحدة على من سواهم.
لهذا أقول إنّ هذا الدرس مدخل وليس تقعيدا كاملا لهذه المسألة العظيمة؛ بل هو مدخل لذلك يفتح لطالب الحق ولطالب الصواب في هذه المسائل ما يُمَكنُّه أنْ يَضبط عقله وفهمه وإدراكه للأمور وللأحداث وللموازين المختلفة.
القواعد عرَّفها أهل العلم بأنها جمع قاعدة، والقاعدة ما يُبنى عليها غيرها، قاعدة الشيء ما يبنى عليها غيرها.(7/2)
ولهذا قالوا إنّ تعريف القاعدة عند أهل الاصطلاح: أنها أمر كليّ ترجع إليه فروع كثيرة.
وقال بعضهم: إنّ القاعدة أمر أغلبيّ ترجع إليه فروع كثيرة.
ونفهم من هذا التعريف أنّ القاعدة عبارةٌ تجمع قلة في الألفاظ لكن يدخل تحتها صور كثيرة؛ لأنّ القاعدة موضوعة لجمع الفروع المختلفة.
وهذه القواعد التي وضعها أهل العلم وأُصلت هذه أقسام منها: ما هي قواعد عامة، ومنها ما هي قواعد خاصة.
قواعد عامة لجميع أهل العلم؛ يعني يتّفق عليها العلماء جميعا خاصة في الفقه.
ومنها قواعدُ خاصة في الفقهيات تختلف ما بين مذهب وآخر.
والقواعد تُقسم باعتبار آخر إلى أنّ:
منها قواعد وأصول متصلة بالعقيدة.
ومنها قواعد وأصول متصلة بالفقه.
ومنها قواعد وأصول متصلة بالسلوك وأنواع التعامل.
وإذا تأملت الكتب المؤلفة في هذا الشأن فتجد أنّ ظهور القواعد المتصلة بالعقيدة في كتب أئمة السلف ظهور ذلك بيِّن واضح لمن طلبه، وكذلك القواعد الفقهية، وكذلك قواعد السلوك التي تُبحثُ عند ذكر الاعتصام بالكتاب والسنة واتّباع طريقة السلف الصالح في الفهم وفي العبادات وفي أنواع التعامل.
هذه أنواع للقواعد وللأصول قد ترد قاعدة في العقيدة، قاعدة في الفقه، قاعدة في السلوك والتعامل، وهذه لابدّ أنْ ترعى جميعا؛ لأنّ ذلك التقعيد ما وضع إلاّ لفائدة.
نعلم أنّ كل شيء شرعي لابدّ له من دليل، هذه القواعد ما دليلها؟ القواعد بأقسامها لابدّ أنْ يكون لها دليل، والدليل تارة يكون بنص من الكتاب والسنة، يقال دليل هذه القاعدة كذا من الكتاب أو من السنة، مثلا قاعدة: الأمور بمقاصدها. دليلها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات»، مثلا: لا مُحَرَّم مع ضرورة. دليلها قول الله جلّ وعلا ?إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ?[الأنعام:119]، وهكذا، وكذلك في مسائل الاعتقاد هناك قواعد لها أدلتها، وفي مسائل السلوك هناك قواعد لها أدلتها.(7/3)
فإذن تعرف القاعدة ويستدل لها في النص من الكتاب أو السنة.
كذلك القاعدة يستدل لها بالإجماع، أجمع السلف، أجمع الأئمة على أنّ من القواعد كذا.
وكذلك يستدل للقاعدة بالاستقراء، باستقراء إمام من الأئمة، مسائل معينة في باب أو في أبواب، فيخرج قاعدة باستقرائه وهو رجل مأمون إمام من الأئمة فيكون ذكره للقاعدة واستنتاجه للقاعدة صوابا صحيحا.
إذا نظرت في الكتب تارة تجد أنه يُنَص على أنّ هذه قاعدة، يقال لأنّ القاعدة كذا، لأنّ الأصل كذا، وتارة لا تجد هذا النص بأنّ هذه قاعدة وأنّ هذا هو الأصل، وإنما تجد التعبير بأمر كلّي يرجع إليه أفراد كثيرة، أمر كلي، يقال مثلا أنّ كل كذا ثم يذكر الحكم، أو يقول فكل شيء ثم يذكر الحكم، التعبير بأمر كلي يفهم منه أنّ هذا تقعيد؛ لأنّ الكليات ترجع إليها أفرادها، فتجد ذلك تارة بذكر القاعدة الأصل والأصل هو القاعدة؛ لأنّ الأصل يأتي بمعانٍ عند أهل العلم، ومن إيراداتهم للأصل أنْ يكون الأصل بمعنى القاعدة، فيقال مثلا: إنّ أكل الميتة بخلاف الأصل. فيكون معنى الأصل هنا يعني القاعدة؛ لأنّ القاعدة أنّه لا يجوز الأكل إلاّ مما أحلّ الله جلّ وعلا، كما ذكر ذلك الأصوليون وغيرهم.
ذكرنا أنّ القواعد أقسام:
ومنها القواعد العَقَدية.
مثالها: أنّ النص مُحَكَّم والعقل معطَّل في أبواب العقائد.
مثلا من قواعد العقيدة: أنّ الأسباب مرتبطة بمسبَّباتها وأنّ إلغاء الأسباب لا يجوز وهو معارضة للشرع وقدح في العقل.
مثال الفقهية كما ذكرنا:
الأمور بمقاصدها.
والتابع تابع.
ومثال السلوكية:
كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تتعبدوها. يعني أنّ العبادات مبناها على التوقيف وأنّ المعاملات مبناها على الإخلاء؛ يعني بما يكون عند الناس بما يُصلح دنياهم ما لم يرد فيها نص يحرِّمها.
القواعد أنشأها العلماء لماذا؟(7/4)
لأنّ بعد الفتوح الإسلامية وبعد أنْ توسعت رقعة دولة الإسلام ظهرت مشاكل، ظهرت أراء، ظهرت مذاهب، ظهرت أفكار جديدة، وظهرت صور للمسائل كثيرة، فكان لزاما حتى تُضبط المسائل في الباب الواحد -وهو ما يسمى بالضابط- أو تضبط المسائل في أبواب مختلفة أنْ تُجعل قواعد يرجع إليها فهم تلك المسائل، هذا في الفقهيات.
كذلك في العقديات لما كثر خلاف المخالفين للجماعة لطريقة أهل السنة، لطريقة السلف الصالح وُضعت قواعد تضبط هذا الأمر.
فإذن القواعد في الأصل لم تكن موجودة معبَّر عنها بالقاعدة عند السلف الصالح يعني عند الصحابة والتابعين، وإنما وضع العلماء هذه القواعد وعبروا عنها بقاعدة، بأصل ونحو ذلك من التعبيرات؛ لأجل أن تُضبط المسائل وحتى يسهل على الناظر أنْ يتفطّن للمسائل المتفرقة وما يجمعها من قاعدةٍ وأصلٍ واحد.
فكثرة الفروع كانت من أسباب نشأة القواعد، كثرة المسائل، كثرة الإيرادات، كثرة الفروع، وكثرة الأقوال لابدّ أنْ تُضبط بضابط، فكان لذلك أُنشئت تلك القواعد وأنشئت الأصول حتى ينضبط العلماء بضابط واحد، وحتى إذا أتى من ليس بمجتهد، من ليس بعالم غزير العلم لا يأتي ويستقرئ مرة أخرى ويُخرج أصولا يضبط بها علمه ونفسه، والعمر قصير لا يتحمل أنْ ينظر المرء في أمور كثيرة، لكن إذا ضبطت القواعد فإنه تُرَدُّ الفروع وتُرَدُّ المفردات إلى تلك القواعد فينضبط الأمر.(7/5)
من أسباب النشأة؛ أسباب نشأة علم التقعيد أو القواعد أنّ العقل والفهم إذا لم ينضبط بضابطٍ إذا لم ينضبط بتقعيد فإنه يشذّ؛ لأن الآراء مختلفة، والحكم على المستجدات الحكم على النوازل يختلف فيه فلان عن فلان، حتى من العلماء يختلف فيه، ولهذا تجد أنّ اختلاف السلف من التابعين خاصة تجد أنّ اختلافهم في الغالب لا يرجع إلى اختلاف القواعد، أما اختلاف العلماء من أهل المذاهب المعروفة يرجع إلى تقعيد؛ وذلك لأنّ أولئك نظروا في القواعد وضبطوا المسائل بالتقعيد، وأما من قبلهم فإنه لم تتأصل ذلك فكانت المسائل عندهم مبنية على اجتهاده في النازلة، فيأتي من بعده ولا يدري قاعدته في هذه المسألة فيقلده في هذا الباب أو في تلك المسألة ولا ينظر إلى مأخذه من جهة التقعيد العام.
أيضا من أسباب وضع التقعيد ومن أسباب نشأة القواعد أنْ لا يتأثر طلاب العلم وأنْ لا يتأثر الناس بالمتشابهات؛ لأنّ التقعيد يضبط، ومن المعلوم أنّ القواعد كما ذكرنا دليلها المحكم عن الكتاب والسنة، وأما المتشابهات التي ترد -وسيأتي تفصيل للمحكم والمتشابه إنْ شاء الله تعالى- أما المتشابهات فإذا أوردت على من ليس براسخ في العلم فربما تشتتت، ربما نظر إلى المسألة ولم يتفطن لمأخذها من القواعد، فكان من اللّوازم أنْ توضع في العقيدة، قواعد في السلوك، قواعد في الفقهيات حتى ينضبط الناس، وإذا أوردت المتشابهات فإنّ طالب العلم إذا نظر إلى المتشابه الذي يخدش القاعدة يعلم أنّ للعلماء فيه نظرا يعلم أنّ للعلماء فيه توجيها، ولا يترك القاعدة وهي الأصل الأصيل لأجل إيراد أحدٍ من الناس متشابه من المتشابهات ولو كان دليلا من الكتاب والسنة؛ لأنّ من أدلة الكتاب والسنة ما هو متشابه لا يعلم به إلاّ بعد رده إلى المحكم.(7/6)
هذه أمور مهمة بين يدي هذا الموضوع، ومع تجدد الأحوال وتغير الأمور في تاريخ الإسلام حدثت نوازل، وحدثت حوادث كثرة؛ حوادث متغيرة، حوادث متجددة، هذه التي سماها العلماء نوازل، والتي قال فيها عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. لابدّ أنْ يكون هناك نوازل متجدة تنزل بالناس قضايا جديدة، فلابدّ أنْ يحدث لها أحكام.
هل كلما أتت قضية وكلما أتى شيء يرجع الأمر فيه إلى اجتهاد جديد؟ أم أنّ هناك ضوابط؟ هناك قواعد إذا رجع العلماء إليها قلّ اجتهادهم في النوازل، وتيسّر الأمر عليهم في نظرهم إلى المستجدات، لا شكّ أنّ حدوث النوازل كان من أسباب التقعيد وأيضا خدم التقعيد العلماء وطلبة العلم في النظر إلى النوازل والمستجدات.
النوازل يعني الحوادث المختلفة والمستجدات في البلاد وفي الدول وفي المجتمعات، هذه ترجع إلى أسباب:
من أهم أسبابها التطور؛ لأن الناس يتطورون، كل زمن تجد أنه يدخل تحسينات على ما قبله خاصة في أمور المعاملات، تأتي معاملات جديدة ليست في الزمن الأول، والعقل بطبعه يحب أنْ يجدد يحب أنْ يأتي بأشياء جديدة، هذا التطور الذي يحدث عند الناس إذا لم ينضبط بتقعيد فإنه لا حدّ للعقل؛ لأن العقل يريد أنْ يتطور ويصل إلى أشياء قد تبعده تماما عن الشريعة وعن الدين الذي ارتضاه الله جلّ وعلا.(7/7)
فكانت القواعد مُرجعَةً لهذه النوازل إلى أصول ثابتة مهما حدث تجدد في الأحوال ومهما حدث تجدد وتغير في الأمور وفي المستجدات فإنّ القواعد تضبط ذلك في فهم طالب العلم وفي حكم العالم وفي فتواه حتى ترجع إلى أصول ثابتة؛ لأنّ هذه الشريعة ثابتة، من أوصاف الشريعة أنها شريعة ثابتة، ثابتة من جهة النظر إلى الأشياء، ثابتة من جهة الأحكام، ثابتة من جهة تعبيد الناس لله جلّ وعلا، ولكن الفتوى كما هو معلوم تتغير بتغير الأحوال والأزمان؛ لأنّ الفتوى مبنية كل اختلاف أحوال الناس، وتارة يكون اعتماد المفتي على العرف، وهذا له بحثٌ آخر ليس هذا مجاله.
أيضا من أسباب وجود النوازل التي دعت إلى ضرورة فهم القواعد وضرورة التقعيد وأنْ يربط المسلم نفسه بالقاعدة فضلا عن طلاب العلم فضلا عن العلماء، أنّ الزمان يفسد وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام «لا يأتيكم زمان إلاّ والذي بعده شر منه حتى تتلقوا ربكم» فإذا استجد الزمان بأنواع من الفساد وأنواع من التغييرات كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. هل إذا تجدد الفجور وازداد الفجور أو ازداد بعد الناس عن الدين هل يتأتى لهم بأشياء جديدة لم يكن عليها الأمر الأول؟! التقعيد يضبط هذه النوازل التي هي راجعة إلى فساد الزمان وفساد أهله بأمر يجعل الشريعة ثابتة ويجعل النظر وحكم الكتاب والسنة ثابتًا لا يتغير؛ لأنّ هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان كما هو معلوم، وحكمها في أول الزمان كحكمها في آخره، والله جلّ وعلا عَلِمَ أنّ هذا الدين باقٍ إلى قيام الساعة فجعل أحكامه باقية إلى قيام الساعة.(7/8)
فإذن مهما حدث من فساد الناس مهما حدث من تغير مهما حدث من أمور فإرجاعها إلى أصول الشرع يضبط ذلك ويجعل ذلك الفساد ليس وسيلة إلى تغيير الشرع، وسيلة إلى تغيير أهله، وسيلة إلى انقلاب العقل، وإلى انقلاب الفهم في معالجته لتلك الأمور؛ لأنّ القواعد ثابتة ولأنّ التقعيد واحد لا يتغير جعله العلماء والأئمة من قبل حتى يمشي عليه الناس جيلا بعد جيل.
إذا تأملت هذا فمن الذي قعَّدَ هذه القواعد؟ ومن الذي يُقَعِد؟ ومن الذي يحق له أن يطبق القواعد؟
الذي يُقبل تقعيده أهل العلم، فإذا كان التقعيد في العقيدة بذكر أصول وقواعد يرجع إليها في أبواب الاعتقاد، فلابدّ أنْ يكون ذلك التقعيد من عالم بالعقيدة عالم بدقائق أقوال السلف عالم بالأقوال المخالفة بأقوال السلف، ولهذا قلّ التقعيد في العقيدة بعد زمن السلف الصالح، وأئمة الإسلام، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأجل طول باعه في هذا الأمر أيضا أتى بقواعد ضبطت لنا مسائل العقيدة وقرّبت لنا أقوال السلف في ذلك.(7/9)
فإذن، التقعيد لابد أنْ يكون من عالم راسخ في علمه، فإذا كان في العقيدة فلابد أنْ يكون من عالم راسخ في العقيدة، وقد ذكرنا مرارا أنّ العقيدة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة منها أبواب متصلة باعتقاد القلب وهو شرح أركان الإيمان الستة؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، ومن العقيدة عقيدة السلف ما سماه بعض أهل العلم بالمنهج ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وهو طريقة التعامل في الأمور مثل مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه من العقيدة، مثل مسائل الإمامة من العقيدة، الصحابة من العقيدة، الكلام في الولاية وكرامات الأولياء وما يتعلق بذلك هذا من العقيدة، وهكذا في المسائل التي خالف فيها أهل السنة غيرهم وجُعلت تلك المسائل من العقيدة؛ لأنها كانت مما ميّز أهل عن غيرهم من فرق الضلال، لابد أنْ يكون المُقَعِّد عالمًا بما خالف فيه أهل السنة غيرهم.
فإذن العقيدة في أبوابها جميعا تشمل مسائل الاعتقاد أركان الإيمان وتشمل المنهج وتشمل أيضا السلوك، ولهذا في العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية جعلها على هذه الأقسام الثلاثة:
شرح أركان الإيمان.
ثم مسائل التعامل المنهج، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الإمامة، والصحابة، وكرامات الأولياء، وما يتصل بذلك من مباحث.
ثم في آخره مبحث الأخلاق والسلوك عند أهل السنة والجماعة.(7/10)
من يُقَعِّد هذه المسائل؟ لابد أنْ يكون راسخًا في ذلك، هل يقبل من كل أحد أنْ يقعد؟ لا يسوغ أنْ يقبل من كل أحد أنْ يقعد، لمَ؟ لأنه لو قُبل من كل طالب علم أنْ يقعد في العقيدة مسائل لصار هناك انحرافات؛ لأن العقيدة أمرها واحد منذ زمن السلف الصالح وإلى وقتنا هذا وإلى أنْ يرث الله الأرض ومن عليها، فالتقعيد لابد أنْ يكون راجعًا إلى قول أئمة السلف أو إلى قول المحققين من الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن نحا نحوهم وشُهد له بالإمامة في هذا الباب.
أيضا التقعيد فيه استحضار المقعِّد الفروع الكثيرة التي تندرج تحت هذه القاعدة، وأحيانا بعض الناس قد يستعجل يُقَعِّد وهو لا يستحضر كل الفروع التي تندرج تحت هذه القاعدة مما عايشه أو مما علمه، وإنما استحضر بعضا فأخرج قاعدة، ولهذا تجد أنّ من الناس حتى من بعض طلبة العلم يُقَعِّد قاعدة ثم يورد عليه معترض بشيء فيكون خارما لقاعدته صحيح أنّ القواعد أغلبية لكن هذا لا يعني أنْ تكون المعارضات للقاعدة كثيرة.(7/11)
الثاني: التقعيد إذا جاء من مختلفين يعني فلان له طريقة تخالف طريقة فلان، وأتى التقعيد في هذه المسائل المختلف فيها فإنه نتيجة لاختلاف الآراء وللرغبات وللغايات يكون ثمَّ تقعيدات مختلفة، ولهذا تجد في مثل هذا الزمان من قعَّد ممن هو ليس من أهل العلم، تجد أنّه يقعد بحسب الواقع الذي يعيشه، إنْ كان واقعا دعويا يقعد بحسب الواقع الذي هو فيه، إنْ كان واقعا فقهيا يقعد بحسب الواقع الذي هو فيه، والواجب أنّ الذي يحقُّ له أنْ يقعد أنْ يكون متخلصًا من أنْ يكون متبنيا لرأي من الآراء؛ لأن التقعيد هو استقراء المسائل وذكر أصول هذه المسألة من أدلة الشرع حتى تكون مرجعا يرجع إليه إذا حضرت فروع جديدة، وقد رأينا في هذا لازمن أنه حصل هناك تقعيد لأشياء لا يوافق عليها الأئمة من قبل، وجُعلت قواعد وتبُيّنت وصارت هناك آراء وآراء مما سبب اختلافا في وجهات النظر وعدم دقة في ذكر هذه الآراء.
الثالث: من المسائل المتصلة بمبحث من الذي يقعد؟ ومن الذي يحق له التقعيد؟ أنه لا يسوغ لأحد أنْ ينسب قاعدة من القواعد للسلف الصالح، يقول القاعدة عند السلف هي كذا إلاّ عن أحد طريقين:(7/12)
الأول: أنْ يجد نصا على أنها قاعدة، يجد نص: والقاعدة كذا، والأصل كذا. في قول إمام من الأئمة أو في كتب الاعتقاد أو في كتب السلف الصالح رضوان الله عليهم، لابد أنْ يكون ثمَّ نص حتى لا نجعل السلف مقعدين لقواعد خاطئة، والسلف لا شك أنهم خير هذه الأمة « خَيْرُ النّاسِ قَرْنِي، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ» فمن الناس من يأتي ويقول القاعدة عند السلف كذا، هل نص السلف على هذه القاعدة؟ لا تجد جوابًا بالإثبات بأنهم نصوا عليها، من أين أوتي بهذه القاعدة؟ بفهم ذلك المقعد، والمقعد إذا كان من أهل العلم فإنه لن يجترئ على تقعيد دون نص من السلف الصالح على هذا التقعيد إذا نُسبت تلك القاعدة للسلف. هذا الطريق الأول لفهم التقعيد المنسوب للسلف الصالح أن ينص على هذه القاعدة عند السلف.
الثاني: أنْ يستقرئ عالم راسخ متأني لكلام السلف في المسألة ثم يُقعِّد، فإذا أتي عالم راسخ في العلم متأني فيما يأتي وفيما يذر ويستقرئ كلام السلف وبعد استقرائه لكلامهم ولأحوالهم يخرج تقعيدا، مثل ما قعد لنا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قواعد كثيرة في العقيدة وكذلك في السلوك، ونسب هذه القواعد للسلف فإنه انضبطت الأفهام وإذا نظرت في أقوال السلف وفي أحوالهم لا تجد أنها تخرج عن تقعيدات شيخ الإسلام ابن تيمية، لمَ؟ لأنّ شيخ الإسلام استقرأ وهو راسخ في العلم، واستقرأ وهو ينظر إلى أقوال السلف جميعا ما استعجل فنظر إلى قولٍ أو قولين أو عشرة أو عشرين أو خمسين فأخرج فيها قاعدة ربما لا يكون السلف موافقين على هذه القاعدة، ويكون ذلك القول وذلك التقعيد مخالفا لأقوال السلف.
من القواعد المهمة التي ينبني عليها النظر في كلام الناس وفي أقوال المقعدين وفي الأدلة وفي الآراء المختلفة أصل وقاعدة: المحكم والمتشابه.(7/13)
تجدُ أنّ المصنفين في علوم القرآن يذكرون المحكم والمتشابه، المصنفين في أصول الفقه يذكرون المحكم والمتشابه، والمحكم والمتشابه من المباحث المهمة التي -ولا أكون مجازفا- يجب أنْ يفهمها كل مسلم، خاصة في مثل هذا الزمان والأزمنة التي فيها الأقوال والآراء والتقلبات المختلفة، الله جلّ وعلا قال في محكم كتابه ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?[آل عمران:7]، بيّن جلّ وعلا أنه جعل من آي القرآن منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه ابتلاءً من الله جلّ وعلا لعباده.
ما هو المحكم من الآيات؟ هو الواضح المعنى هو البيِّن المعنى الذي يفهمه من قرأه بدون إشكال، واضح المعنى مفهوم، وهناك آيات أخر مشتبهات يعني تشتبه ولا يدرى وجهها حتى تُرَدَّ إلى المحكم، هذه المشتبهات كثيرة في القرآن، يشتبه النظر في هذه الآية هل هذه الآية على ظاهرها؟ هل هذه الآية يؤخذ منها الحكم؟ أم أنّ هذه الآية مبيّن معناها في مكان آخر مبيّن معناها في آية أخرى؟ جعل الله القرآن منه محكم ومنه متشابه، المحكم الواضح المعنى، والمتشابه الذي يشتبه على الناظر فيه معناه.(7/14)
كذلك السنة منها محكم ومنها متشابه ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «إِذَا رَأَيْتُمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ, فَأُولَئِكَ الّذِينَ سَمّىَ اللّهُ, فَاحْذَرُوهُمْ»، (الذين يتبعون ما تشابه منه) هم أهل الزيغ، قال جلّ وعلا (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)، ولهذا لما جاءت الخوارج، احتجت الخوارج على مبدئهم وعلى مذهبهم بنصوص من الكتاب والسنة، احتجوا على تكفير صاحب الكبيرة بنص من القرآن، واحتجوا على ذلك بنص من السنة، احتجوا على آرائهم بنصوص، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ثبت عنه كما في الصحيحين من أوجه متعددة أنه قال في الخوارج « يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ. أينما لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. فَإِنّ فِي قَتْلِهِمْ لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَجْراً عِنْدَ اللّهِ جل جلاله» ما سب ضلالهم؟ أنهم أخذوا المتشابه وتركوا المحكم، من الذي يعلم المتشابه من المحكم؟ من الذي يردّ المتشابه إلى المحكم؟ صحابة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والخوارج لم يرجعوا إلى الصحابة، فصار استدلالهم بالمتشابه استدلوا بالقرآن وبالسنة وليس كل مستدل بالقرآن وبالسنة مصيبا وناجيا؛ بل لابدّ أن يكون استدلال بالقرآن وبالسنة راجعا إلى فهم أهل العلم الذين يُرجعون المتشابه إلى المحكم.(7/15)
إذا نظرت في الآراء المختلفة في أقوال المرجئة في أقوال القدرية كل يحتج بالقرآن والسنة؛ لكن هل احتجاجه بالكتاب والسنة على فهم السلف؟ هل هو على فهم الصحابة؟ هل هو على فهم أئمة الإسلام؟ لو كان على فهمهم لما حصل خروج عن الجماعة الأولى، و لكانت هذه الأمة جماعة واحدة لكن سبب الخلاف وسبب الفرقة الأخذ بالمتشابهات وترك المحكمات، لهذا من الأصول العظيمة في التقعيد أنْ تتبين المحكم من المتشابه، أنْ تضبط محكمات الشرع محكمات الدين، محكمات العقيدة، فإذا أتى آت بدليل آخر يخالف المحكم فلابدّ أنْ تسأل عنه؛ لأنك واقف على محكم واقف على دليل، على قاعدة ولا تخرج عنه إلاّ بشيء قوي من نص من الكتاب أو السنة أو تقعيد أهل الإسلام.
إذا نظرت في المحكم والمتشابه على هذا النحو فإنّك تتعجب أنْ كان في
كتاب الله وهو كلام الله جلّ وعلا الحكيم الخبير أنْ كان فيه ما يشتبه، أنْ كان فيه ما ضل بسببه بعض الناس، ما ضل بسببه أمم، ما ضلت بسببه فرق وجماعات ومذاهب متعددة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة، وهي الجماعة.»(7/16)
قال الشاطبي في الموافقات: إنه لا يعجز أحد أنْ يستدل على رأيه في مسألة من المسائل بالكتاب أو بالسنة، فهذه النصارى استدلت على رأيهم في أنّ بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم حق ولكنها مخصوصة بالعرب، بقول الله جلّ وعلا ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، وبقوله ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ?[الزخرف:44]، كذلك استدل من لم يحرم الخمر وقال: إنّ الخمر لم تحرم في كتاب الله جلّ وعلا استدل على ذلك بقول الله جلّ وعلا ?إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[المائدة:90]، فأمر بالاجتناب ولم يذكر التحريم نصا، كذلك استدل كما قال أهل الفرق المختلفة استدل الخوارج بما استدلوا به إلى آخر ما ذكرنا لك...
إذا كان هذا في الكتاب والسنة منه محكم ومنه متشابه، وإن اتباع المتشابه من الكتاب والسنة نوع من أنواع الزيغ الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم «إِذَا رَأَيْتُمُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ, فَأُولَئِكَ الّذِينَ سَمَّى اللّهُ, فَاحْذَرُوهُمْ» فلأَنْ يقع التشابه في الكلام وفي الأقوال وفي الآراء وفي الأفعال، لأنْ يقع التشابه في أحوال الصحابة في أقوالهم وفي أفعالهم من باب أولى لأنه وقع التشابه في الكتاب وفي السنة، وقع التشابه أيضا في أقوال السحابة وفي أفعالهم، ووقع التشابه أيضا من باب أولى في أقوال وأفعال التابعين، ووقع التشابه ومن باب أولى في أقوال وأفعال الأئمة والعلماء، وقع التشابه ومن باب أولى في الذين صنفوا كتبا.
فإذن ليس النجاة وليست معرفة الحق في أنْ تجد قولاً مكتوبا في كتاب أو قولاً منسوبا إلى عالم، أو رأيا يستدل عليه صاحبه بالكتاب أو بالسنة أو بالسنة أو بأقوال بعض أهل العلم حتى يكون استدلاله موافقا للقواعد المحكمة التي قررها أئمة الإسلام.(7/17)
فإنّ هذه القاعدة وهي معرفة المحكم والمتشابه، وأنه لا فهم لأقوال السلف ولا نجاة ولا بُعد عن طريق الزائغين وطريق المخالفين حتى يكون ذهاب المرء إلى المحكمات من القواعد والأدلة دون المتشابهات.
القواعد من مزاياها أنها محكمة لأنها أمرٌ كلّي وضعه العلماء بالاستدلال بالنصوص المحكمة دون المتشابهة، أما أقوال أهل الزيغ، أقوال أهل الضلال فإنهم يستدلون بأدلة لكن هذه الأدلة معارَضة بمثلها، معارضة بغيرها، وأبلغ منه في البعد وأبلغ نه في البطلان أنْ يستدل بحال من الأحوال بفعل تابعي، بفعل مجموعة من التابعين بقول من أقوالهم، بقول وجده في كتاب، بقول وحده منسوبا إلى عالم ولو استدل عليه حتى يوافق ذلك النصوص من الكتاب والسنة، وما قعَّده أهل العلم من القواعد التي تعصم من أخذ بها من الخطأ في هذا الباب العظيم.
أيضا في الفقهيات المحكم والمتشابه هذا تنظر إليه في أبواب العقيدة وفي أبواب التعامل وفي أحوال كثيرة.(7/18)
إذا نظرنا في الفقهيات نأخذ مثالا لقاعدة تقعيدية في هذا البيان، وهذا التقعيد في الفقه الذي يضبط الذهن ويُخلص المرء في تقلبات الأحوال من كثير من الإشكالات أنْ تعلم أنّ الفقه هو العلم بالحلال والحرام من نصوص الكتاب والسنة وما فهمه الأئمة واستنبطوه من الأحكام، الفقه مرتبط بعضه ببعض، الفقه مبني بعضه على بعض، ففهم أحكام العبادات مبني على فهم القواعد، مبني على معرفة النصوص والأحكام في أبواب أخرى من الفقه، ويتأكد ذلك في بناء واعتماد الفقه بعضه على بعض إذا أتت النوازل؛ لأنّ النازلة قد يردها بعض الناس إلى دليلٍ؛ دليل واحد يردها بعض الناس إلى باب من أبواب الفقه، فيكون نظره فيها تارة مصيبا وتارة يكون النظر خاطئا، متى يكون خاطئا؟ إذا كانت المسألة لها صلة بأكثر من باب من أبواب الفقه، مسألة لها صلة بدليل، لها صلة باجتهاد، لها صلة بفهم لباب من الأبواب الفقهية، والفقه في النوازل مرتبط بعضه ببعض، لا يتصور أنْ يأتي احد ويفتي في نازلة عظيمة أو يحكم في واقعة أو يحكم في مسألة من المسائل التي تهم المسلمين وهو يعلم بابا من الأبواب، أو متخصص كما يقال في لغة العصر بأبواب البيوع مثلا أو المعاملات وتأتي نازلة من النوازل ويحكم فيها، الفقه الذي يحتاج إليه المجتهد ويفتي به في النوازل هذا مرتبط بعضه ببعض، فإذا أتي متجرد مثلا وتكلم في مسألة فقهية عظيمة ينبني عليها رأي، ينبني عليها اختلاف، ينبني عليها تفرق، ينبني عليها أنْ يتبعه منها أناس، أو يتبعه فيها فئات أو جماعات أو يتغير فيها حال بلد، أو ينبني عليها مواقف، أو ينبني عليها عمل وجهاد أو نحو ذلك، إذا تكلم في مسألة وهو يعلم منهاج السنة نفسه أنه لم يضبط الفقه كله فإنه قد جنى على نفسه؛ لأنه تكلم في هذه النازلة ببعض ما عنده من العلم وهو يعلم أنه لم يضبط هذا العلم كله.(7/19)
النوازل تحتاج في التقعيد من السائل والمسئول وتحتاج إلى التقعيد والمتبوع والتابع ومن الفرد ومن الجماعة إلى أنْ يكون الذي يتكلم فيها ضبط الفقه، والفقه متصل بعضه ببعض، لا يكون خبيرا في باب من الأبواب أو بابين أو ثلاثة؛ لأنّ هذا مرتبط بعضه ببعض، والفقه مبني على التقعيد فإذن يكون الارتباط بكلام الأئمة والعلماء وبالتقعيد وبالأدلة من الكتاب والسنة، ولو كان الناس كذلك لانضبطوا؛ لكن الجرأة والإعجاب وأسباب كثيرة جعلت المرء يتكلم ثم جعلت من يتبعه، ولا شك أنّ كل من عنده علم لابد أنْ يكون عنده نوع حجة ويكون عنده احتجاج؛ لكن الشأن ليس في وجود الاحتجاج، الشأن أن يكون الاحتجاج في المسائل الفقهية وفي المسائل الخلافية خاصة التي ينبني عليها آراء ومواقف وأحوال أنْ يكون الاحتجاج في نفسه سليما ثم أنْ يكون سالما من المعارضة؛ لأنّ كثرا من الاحتجاجات إذا نظرت إليها في نفسها تجد أنها سليمة، لكن إذا نظر إليها عالم، قال: هذا معارض بدليل كذا، هذا معارَضٌ بقاعدة كذا، هذا لا يستقيم لأنّ فيه كذا وكذا.
فإذن ليس الشأن في هذه الأبواب أنْ يتجرأ متجرّئ في تقعيد الفقهيات التي ينبني عليها المواقف والأحوال والآراء المختلفة، أنْ يكون علاما ببعض الفقه، عالما ببعض المسائل، عنده مراجعة فإنّ الفقه ملكه، لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم بطول ملازمة الفقه حتى يكون هذا الناظر وهذا الفقيه مجتهدا قد فهم أدلة الشرع وأمِنَ وأمِنَ هو أنْ يتكلم الشرع بهوى.(7/20)
وهذا لا شك أنه من الأصول المهمة، ونخلص منه إلى أنه الذي يحق له التقعيد في هذه المسائل ويُتّبع قوله هم المجتهدون، الذي يحق له ذلك هم أهل الاجتهاد لأنّ الفقه بعضه مبني على بعض وبعضه يقود إلى بعض، ولا يمكن أنْ يفرَّق بين كلام الله جلّ وعلا، ولهذا من تجرأ على كلام الله وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم فيعلم من نفسه أنه يعلم بعضًا دون بعض وترك التأني ولم يزدرِ نفسه في هذا الباب فإنه قد جنى على نفسه وليس بمعذور؛ لأنه علم نفسه وتجرأ وحكم على ما لا يسوغ له الحكم فيه. ([1])
التقعيد لفهم القواعد في الفقهيات له آثار.
من آثاره -وهذا للمثال وليس للحصر- ما يعلمه كل منكم من دخول كثير من الناس وخاصة بعض المنتسبين إلى العلم أو طلبة العلم دخلوا في مسائل التفسيق والتكفير والتبديع وجعلوا قواعد للتبديع ليست معروفة عند أهل العلم، ولهذا تجد أن أهل العلم يخالفونهم، استدلوا على ذلك التقعيد بأدلة وبأقوال لكن لِمَ لَمْ يستدل أهل العلم ولِمَ لم يفهموا تلك القواعد على نحو ما أورد أولئك؟ لأجل أن الفقه بعضه مرتبط ببعض، بعضه صلة لبعض، والتقعيد والعلم بعضه صلة لبعض، وأولئك أخذوا بعضًا وتركوا بعضًا، كذلك في مسائل التكفير تجد هذا يكفر وذلك لا يكفر ويأتي احتدام إما تكفير دول وإما تكفير أشخاص أو تكفبير علماء أو تبديع لأشخاص أو علماء أو طلبة علم أو دعاة أو تفسيق لهذا أو هذا ويختلف هذا مع هذا، وإذا نظرت إلى كلام أهل العلم وجدت أنه موافق للعلم منضبط لا اعتراض عليه، وهؤلاء يتجادلون فيما بينهم، وهذا يورد حجه وقاعدة وذاك يورد حجه وقاعدة، وسبب الخلاف فيما بينهم أنهم لم يرجعوا إلى تقعيد القواعد التي يتكلمون فيها ومن أهمها في هذه المسائل أنّ الفقه مبني بعضه على بعض، وأيضًا الفقه في بعض مسائله مبني على العقيدة، والعقيدة في مسائل التكفير مبنية على باب حكم المرتد، وباب الردة.(7/21)
فإذن هذه متصلة بهذه فالجرأة على التقعيد والجرأة على التطبيق يُسبب آثارًا من الخلاف وآثارًا من التفرق وآثارًا من الاستقلال بالآراء، هل يقال فلان له رأي هذا أخطأ فيه هو رأي هذا صحيح والأمر سهل لو كان هذا يرجع إليه ومقتصرٌ عليه لكن فيما نرى في هذا الوقت نجد أنه ليس الأمر كذلك، نجد أنّ كل من له رأي وله فهم لا بد أن تجد من يتبعه على ذلك، وهذا سبب لنا آراء كثيرة وفرق كثيرة وأقوال كثيرة، وهذا مما يجب أن يُدْرَأ وأن يجتمع أهل الحق وأن يجتمع المؤمنون، وطلاب الإصلاح، وطلاب الخير، وطلاب الدعوة، وطلاب الجنة، وطلاب الدار الآخرة أن يجتمعوا على كلمة سواء، وأن لا يسعوا في التفريق في زيادة الفرقة فيما بينهم بأن ينضبطوا في تقعيد قواعدهم وفي تقعيد كلامهم وفيما يأتون وفيما يذرون؛ لأنَّ مراد الجميع الخير وهداية الناس إلى الدين والإصلاح وإزالة المنكرات والأمر بالمعروف وفُشُوِّ الخير وزوال الباطل، وهذا إنما يكون بالاجتماع والائتلاف، وأما الفرقة فإنها مُفْرِحَةٌ للشيطان ومُحْزِنَةٌ لعباد الله المؤمنين.
في السلوك –هذا مثال يعني لتقعيد القواعد في العقيدة، مثال لتقعيد القواعد في الفقهيات-.
مثال لتقعيد القواعد في السلوك وقد ذكره بعضهم وهو: أن ينضبط ذهنك في التعامل والسلوك بأنه ليس كل قدح ولا كل مدح حقًا فلابدَّ إذن من التثبت، التثبت في القوادح والتثبت فيما يمدح به، كلمة للحافظ الذهبي الذي له من اسمه نصيب فقد قال فيه المُحَدِّث الطرابلسي وكان يسمع به ولم يره حتَّى قَدِمَ عليه دمشق ورآه قال في الحافظ الذهبي:
ما زلت بالسمع أهواكم وما ذكرت أخباركم قط إلاّ مِلْتُ من طرب
وليس من عَجَبٍ أن مِلْتُ نحوكم فالناس بالطبعِ قد مالوا إلى الذهب(7/22)
قال الذهبي رحمه الله تعالى: ما من إمام كامل في الخير إلاَّ وثمَّ أُناسٌ من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في التجهم والرِّفض والضلالة إلاّ وله أناس ينتصرون له ويذبون عنه ويدينون بقوله بهوىً وجهل، وإنما العبرة بقول الجمهور الخالين من الهوى والجهل المتصفين بالورع والعلم. انتهى كلامه رحمه الله ومأخذه في آخر كلامه من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في جنازة مُرَّ بها فأثنوا عليها خيرًا ومُرَّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنازة الأولى التي أثنوا عليها خيرًا هي في الجنة، وقال في الجنازة الثانية التي اثنوا علينا شرًا هي في النار قال «أنتم شهداء الله في أرضه» من هم شهداء الله في أرضه؟ هم المسلمون المتمسكون بما كان عليه صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين خَلَوا من الهوى والجهل والذين اتصفوا بالورع والعلم، فهاتان صفتان أعدميتان وصفتان وجوديتان، أما الصفتان الوجوديتان فأن يكونوا متورعين وأن يكونوا علماء، يكون عن هم ورع وعندهم علم، من الناس من عنه ورع ولكن لا علم عنده فهل يقبل كلامه في الناس فبما يُقدح به في فلان ويُمدح من أجله لفلان، هل من عنده ورع بلا علم يقبل قوله في هذا؟ أما الصفتان الأعدميتان فأن يكون خاليًا من الهوى وخاليًا من الجهل، خالي من الهوى لأن الهوى يجعله يقدح فيمن ليس على طريقته، والهوى يجعله يمدح من كان على طريقته، فبإعجابه وهواه مدح وبإعجابه وهواه قدح وهذا يسبب خللاً في السلوكيات وخللاً في التعامل وخللاً في القلوب وخللاً في محبة المؤمنين بعضهم لبعض، وفي أمور كثيرة من الشرع تنبع من أهل الإخلال بهده القاعدة وهي قاعدة (أنه ليس كل قدح أو مدح حقًا) فلا بد إذًا من التثبت.(7/23)
ولهذا نقول لا بد أن يكون الناظر في المدح في القدح تابعًا للجمهور وهؤلاء الجمهور هم الذين اتصفوا بالعلم فالورع واتصفوا بالخلو من الهوى والجهل تجد من الناس متصف بالعلم وعنده ورع كلن عنده بعض هوى لذلك تجد أن في كلامه ما يخدش في كلامه ما لا يطمئن المرء معه أن هذا هو القول المنسوب لأئمة الإسلام أو للسلف الصالح، يكون عنده ورع ولكن ليس عنده علم، عنده علم وليس عنده ورع، وهكذا يكون عنده علم ويكون عنده جهالة ببعض الأشياء فيتسبب من أجل ذلك بما مدح وبما قدح في خلل في أذْهُنِ الناس وفي أذهُن وأفهام المسلمين.
فلا بدَّ إذن من أن يكون هناك تقعيد عام في مسائل النظر في المدح والقدح، وهذا الزمن كما ترون وتعلمون ما من إنسان وخاصةً من المشتهرين من طلبة العلم أو من العلماء أو من الدعاة أو من غيرهم إلاّ وله مادحٌ وله قادحٌ.
الإمام أحمد ثَم من قدح فيه حتّى قال الكرابيسي كلمته المعلومة في قدح من قدح في الإمام أحمد، كذلك الإمام الشافعي ثم من قدح فيه لكن الله جلّ وعلا أظهر فضائل أولئك وجعل قدح من قدح في أهل العلم الراسخين أمره راجع إليه وليس بذي صواب.
قدح ومدح، القدح له أسباب، ومدح المادح له أسباب، وهذه القاعدة أو تقعيد لقواعد التعامل (ليس كل قدح أو مدح حقًا) لا بدَّ أن نعرف لأسباب القدح يَقدح طالب علم في طالب علم؟ لِمَ يقدح مسلم في مسلم؟ لِمَ يقدح مؤمن في مؤمن؟ ما أسباب القدح عندهم؟ القدح له أسباب من الأسباب:(7/24)
?أن يكون هذا قرينًا لهذا، وكون هذا قرينًا لذاك يجعل القدح سهلاً؛ لأن القرين يكون مع مُنَافِسِهِ القرين في تنافس، فربما أراد أن يغلبه أو أن يكون مُقَدَّمًا عليه فجعله ذلك يقدح. الإمام مالك تكلم في ابن أبي ذئب، وابن أبي ذئب قال فيه الإمام مالك يستتاب مالك فإن تاب وإلاَّ قتل، الإمام مالك أحد أئمة الإسلام وابن أبي ذئب ثقة إمام وهذا إمام وهذا إمام بينهم وما بين الأقران، وقد قال ابن عبَّاس ما حاصله: إنَّ العلماء -أو قال نحوها- إن العلماء ليتنافسون أو يتحاسدون كما تنافس أوتحاسد التيوس في زروبها. وهذا ظاهر بيّن، فقد يكون قدح هذا في ذاك سببه أن هذا قرين لذاك، والمؤمن المسدَّد الورع يحب من ينصر دين الله، يحب من يقول الكلمة ولو كان ما معه إلاَّ واحد أو ليس معه أحد، وذاك معه أمم من الناس، المهم أن يكون دين الله جلّ وعلا منصورًا وأن تكون الكتاب والسنة منشورًا بين الخلق، ليس المهم أن يكون هذا أكثر أو أنا عندي أكثر، وذاك أفرح يخطئه، بل أفرح بصوابه ولو لم يكن معي أحد، وأحزن لخطئه ولو كان معي أمة من الناس، لهذا من أسباب القدح أن يكون هذا قرين لذاك.
? من أسباب القدح الحسد، والحسد نهى الله جلّ وعلا عنه وهو يأكل الحسنات كما جاء في الحديث، قال جلّ وعلا ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ?[النساء:54-55]، وقد قال عليه الصلاة والسلام «إيَّاكم والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب».(7/25)
الحسد ما سببه؟ سببه أنه حسد هذا وتمنى زوال نعمة الله عليه لشيء في صدره عليه، وحقيقة الحسد أنه عدم رضى بفعل الله، عدم رضى بقضاء الله جلّ وعلا، من أعطى ذاك؟ من الذي أعطاه الفضل؟ من الذي أحسن إليه؟ من الذي جعله هاديًا للناس؟ من الذي جعله كذلك وأمده بمال؟ وأمده بسمعة حسنة؟ الذي أمده بذلك هو الله جلّ وعلا، فإذا حسدته فتكون في الحقيقة معترضًا على فضل الله الذي يؤتيه من يشاء.
? من أسباب أيضًا القدح التحزّبات المختلفة، هذا من فئة وهذا من فئة، وهذا يقدح في ذاك وهذا يقدح في ذاك؛ لأجل حزبه وفئته.
? من أسباب القدح أيضًا أن يُقدح في عالم يُقدح في إمام لأجل إسقاطه، وإذا أسقط كان ثم هدف من وراء إسقاطه، فإذا قُدح في عام فزال ذلك العالم، كان السبيل لهذا أن يأتي ويقرر للناس ما يريد فيكون بعد ذلك سائرًا.
من أسباب القدح في العلماء أو من أسباب القدح في الموجّهين أن يكون لذلك القادح هدف يسعى من ورائه بعد القدح إلى إسقاط ذلك، وإذا أسقط هذا المقدوح وهو المشهود له بالخير وتفرق الناس عنه لم يكن موجهًا ولم يسمع الناس كلامه، فخسر الناس وخسر الدين ناصرًا من أنصاره.
المدح أيضًا له أسباب: من أسباب المدح الذي يكون تارة بحق وتارة بغير حق:
? من أسباب المدح زيادة الإعجاب: يعجب بشخصية، يعجب برجل فيكون إعجابه هذا سببًا لأنْ يمدحه بدون استثناء، يملك عليه قلبه، يملك عليه مشاعره حتَّى يكون هو الكامل الذي لا عيب فيه، هذا الإعجاب يجعله يمدح بإطلاق ولا يرى عيوبه كذلك.
? كذلك من أسباب المدح الزائد أو غير الحق، تارة يكون حقًا وتارة يكون على غير الحق، من أسباب المدح التحزبات أيضًا والجماعات المختلفة والآراء المختلفة، يمدح لكي يظهر هذا فيقبل الناس عليه لأنه من الفئة الفلانية، يمدح آخرلم؟ لأنه من الفئة المقابلة.(7/26)
والقاعدة التي تضبط لك هذا (أن ليس كل قدح أو مدح حقًا) فلا بدَّ أن تتثبت والوَرِع يتخلص من الهوى، يتخلص من أن يرى بقلبه، بل تنظر بالعلم، تنظر في هذا في المقدوح فيه وفي الممدوح تنظر فيه بعلم، والموازنة في هذا الأمر بأن تكون مع نفسك متحرِّيًا للحق طالبًا الصواب، وألاَّ تكون ذي هوى لا على هذا ولا على ذاك؛ بل نتج من جراء إهمال هذه القاعدة أن كان من يتوسط فلا يمدح بإطلاق ولا يقدح بإطلاق كان متهمًا من الفئتين، لا هؤلاء يرضون عنه يعني المادحين ولا القادحين يرضون عنه، وكلٌ كان مدحه أو قدحه متجاوزًا للحد أو ليس بدقيق في وصف من وصفوه، ويكون فيه نوع فيه خير وفيه غير ذلك، والمؤمن إذا كانت حسناته كثيرة وكانت سيئاته قليلة فإنه هو المسدَّد كما قال بعض أهل العلم: إذا زادت حسنات الرجل وقلَّت سيئاته فهو العَدْل.
من ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرءَ نُبلاً أن تعدَّ معايبه
هذا من جهة ما يقوم بقلبك يعني من القدح أو المدح، أما من جهة التعامل فقد أوضحنا أنواع التعامل في الدرس الماضي.
هذه نتيجة لعدم رعاية هذا الأصل، وهو أن طائفة جعلوا المدح حقًا جميعًا، وطائفة أخرى جعلت المدح غير حق والقدح هو الحق، وهذا فيه عدم دقة وأولئك فيهم عدم دقة، والصواب أن ينظر يعني الورع، ويكون المرء في نفسه ما دل عليه الشرع، فمن وافق الشرع فهو المحمود ومن خالف الشرع فهو المذموم.
ومن قواعد أهل السنة أن المؤمن يجتمع فيه موجب المحبة ويجتمع فيه موجب عدم المحبة؛ لأنه إن أصاب وسدَّد فهو يحب فيما أصاب فيه وسدد، وإن ضل أو عصى أو خالف الحق عامدًا عالمًا بذلك أو عُرِّف به ولم يرجع فإنه يجتمع فيه هذا وذاك فيكون محبوبًا من جهة غير محبوبٍ من جهة.
والتوسط هو شعار هذه الشريعة وشعار هذا الدين وأن هذا الدين وسطا بين الأديان السالفة وهذه الطائفة أهل السنة والجماعة وسط بين الطوائف المختلفة.
خاتمة لهذا الموضوع(7/27)
أمثلة لتطبيق بعض القواعد خطئًا.
بعض القواعد العامة نمثل لتطبيقهًا خطئًا، وثمَّ عدة أمثلة لكن نذكر منها مثالين:
الأول: قاعدة: الجماعة ما وافق الحق وإنْ كنت وحدك. هذه قاعدة عامة قالها ابن مسعود رضي الله عنه وأهل العلم تتابعوا عليها.
هذه القاعدة منها دُخِل إلى أن المرء إذا تبنّى فكرة أو قولاً واقتنع به فإنه ينظر إلى المخالفين الكثير ويقول أنا على الحق، ودليل ذلك أننا قليل، وأما المخالفون فهم كثرة ودليل باطلهم أنهم كثير، وقد قال ابن مسعود: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.
لا شك أن العبرة ليست بالكثرة بل العبرة بموافقة الحق، قد تكون موافقة الحق من قلة وقد تكون موافقة الحق من كثرة، ففي أول الإسلام كانت موافقة الحق من قلة، ثم لما انتشر الإسلام كانت موافقة الحق من كثرة.
فإذن ما جاء في النصوص في ذم الكثرة ومدح القلة كقوله تعالى ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[الأنعام:116]، وكقوله ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]، وكقوله جلّ وعلا وعلا ?وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ?[هود:40]، وغير هذا من النصوص التي تدل على مدح القلة، هذا لا يدل على أن القلة محمودة دائمًا بل كما قال ابن مسعود في هذه القاعدة العظيمة (الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك) الجماعة العبرة فيها ما وافق الحق، وأي حقٍ هذا؟ هو الحق الذي دلت عليه القواعد التي استدل عليها أئمة الإسلام بالنصوص من الكتاب والسنة، هذا هو الحق، أما مجرد القلة فإنه قد يكون المرء انفرد وكان أصحابه قليل ويكونون شُذَّاذًا، وقد يكون في زمن من الأزمة أو في مكان من الأمكنة يكون أهل الحق الذين هم على الصواب قليلاً، فلا بدَّ إذن من رعاية القواعد الشرعية التي بها نطبق هذه القاعدة.(7/28)
مثال ثاني: وأخير للتطبيق الخطأ أو لذكر بعض القواعد خطئًا القاعدة المستنبطة من قول الله جلّ وعلا ?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى?[الأنعام:152]، ومن قوله جلّ وعلا ?وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8]، العدل أمر الله جلّ وعلا به ?إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى?[النحل:90]، ويتصل بذلك ما جعلت قاعدة وهي أن السلف لا يوازنون بين الحسنات والسيئات وأن السلف إذا كان عند الرجل سيئة فإنهم لا ينظرون إلى حسناته، وهذا التقعيد من أن العدل مأمور به ومطلوب هذا أمر معلوم وهو أصل من أصول الدين وليس قاعدة فحسب؛ بأصل من أصول الدين، والعدل مطلوب في لفظك وفي قولك وفي أقوالك لأن السموات والأرضين ما قامت إلاّ بالعدل والله جلّ وعلا حكم عدل لا يرضى بالظلم وحرم الظلم عن نفسه وجعله بين العباد محرمًا، يظلم المرء غيره ويتخذ غير سبيل العدل في قوله في عرضه في رأيه له إلى آخر وذلك.
مسألة الموازنة أيضًا بين الحسنات والسيئات وربطها بالعدل هذا التقعيد وهذا الربط ليس بدقيق؛ لأن قاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات تارة تكون حقًا وتارة تكون مردودة، فيُرَدّ أن يوازن بين الحسنات والسيئات في مسائل ويقبل أن يوازن بين الحسنات والسيئات في مسائل، ولهذا من رأى طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية وجد أنه ذكر الحسنات والسيئات في مسائل معلومة موجودة وفي حكمه على بعض الفئات حتّى بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة، ولم يأخذ بهذه القاعدة في مسائل، فجعلها قاعدة مطردة هو مما افتقر إلى تنظيم وتأصيل متبعًا في طريقة السلف الصالح وكان فيها نوع عدم استقراءً كامل لذلك فحصل منها الخلل.(7/29)
نعم لا يوازن بين الحسنات والسيئات إذا كان المقام قام رد على المخالف، مقام رد على مبتدع، مقام رد على ضال؛ لأنك إذا ذكرت حسنات ذلك المردود عليه أو ذلك الضال أو ذلك المبتدع أو ذلك الظالم ذكرت حسناته في مقام الرد عليه فإنك تغري، وفي هذا المقام إنما يذكر ما عنده من الأخطاء أو السيئات ويرد عليه فيها؛ لأنّ القصد نصيحة الأمة وذكر الحسنات في هذا المقام إغراء به.
وفي المقابل أو في الحالة الأخرى أن الحسنات والسيئات تذكر إذا كان المقصود تقيم الحالة، المقصود تقيم الشخص، المقصود تقيم المؤلَّف، المقصود تقييم الكتاب، المقصود تقييم فئة إلى آخر ذلك.
فالأخذ بهذا والتقعيد له عامة ونسبة ذلك إلى السلف بإطلاق ليس بدقيق لا في هذه الجهة ولا في تلك الجهة، وتحتاج المسألة هذه وغيرها من المسائل التي يقعد منها أن تُعرض على أهل العلم كغيرها من التقعيدات الحاضرة؛ لأني ذكرت لكم في المقدمة أن التقعيد لا بد أن يكون من الراسخين في العلم حتَّى لا يحصل خلل في الأمة خلل في الفهم أو خلل في التصورات.
هذا وأسأل الله وجل وعلا أن ينفعني وإياكم بما ذكرنا وأن يغفر لي زللي وخطئي وخطلي وكل ذلك عندي، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والهداية، وأن يجعلنا من المتبعين لسلفنا الصالح المبتعدين عن طرق أهل الضلال والخلاف وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
[أسئلة والجواب عنها] هذه بعض الأسئلة:
س1/ هل خلاصة القول أن تُقدَّم دراسة القواعد والأصول الفقهية على دراسة الفقه كما هو الحاصل في غالب من يطلب العلم؟
ج/ الجواب: أن دراسة الفقه والتوحيد بهما ينجو المرء، أما دراسة القواعد فإنما يحتاج إليها المجتهد، والقواعد كما ذكرنا منها قواعد عامة وقواعد خاصة في الفقهيات، وهذه صَنعة المجتهدين أو صنعة طلبة العلم المتقدمين، وهناك قواعد عامة تضبط السلوك، تضبط التعاملات، تضبط التعامل مع أهل العلم، تضبط القراءة إلى آخر ذلك.(7/30)
فهذا هو الذي يَحسن بطالب العلم أن يتتبّعها لأنها تضبط عقله وتصرفاته من أول طريقه في طلب العلم، أما العلم النافع كما قال ابن القيم:
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله ونعته
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
فالعلم النافع التوحيد والفقه؛ يعني الحلال والحرام وعلم الجزاء وما يحصل يوم القيامة، هذه هي العلوم النافعة.
فتركيز طلاب العلم عن الفقه والتوحيد هذا لا شك أنه هو الذي به تصح قلوبهم وتصح عباداتهم.
س2/ يقول أنا شاب وعندي همة ورغبة في طلب العلم، ولكن لا أعلم ما هي الطريقة الصحيحة التي يسير علها الإنسان إذا أراد طلب العلم، أرجو منك توضيح ذلك لي ولغيري إلى آخره؟
ج/ طلب العلم من الأمور المهمة؛ لأنه يحصل المرء على فضيلة العلماء وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، وهذه الفضيلة لأجل العلم ولطلبة العلم، «وَإِنّ المَلاَئِكَةَ لتَضَعُ أَجْنَحِتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ»، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
طريقة طلب العلم تحتاج إلى تطويل وإلى كلام مفصل؛ لكن ثَم كلمة سبق أن ألقيتها بعنوان المنهجية في طلب العلم، وهي موجودة مسجلة، وحبذا إن شاء السائل أن يراجعها أو يراجع غيرها من الكلمات التي فيها بيان الطريقة المرحلية لطلب العلم وتأصيل الطالب.(7/31)
س3/ من خلال الحديث في الدرس السابق عن معاملة الوالدين، فهناك مشكلة تواجهني وهو عندما تحصل مناسبة زواج لأحد الأقارب يكون في هذه المناسبة بعض المنكرات الظاهرة كالغناء والرقص ولبس القصير وغيرها من الأمور الأخرى، فاضطررت من منع زوجتي من الحضور إلا أن والدتي أقامت الدنيا ولم تقعدها؛ لماذا تمنع زوجتك من ذلك؟ فأوضحت لها، ولكنها لم تقتنع من ذلك، وعللتْ بأنّ الناس جميعهم يفعلون ذلك، سؤالي: هل عملي هذا صواب أولا، وكيف أعمل مع والدتي وما الأساليب المناسبة في ذلك؟
ج/ إذا كان حضور مثل هذه الدعوات؛ الدعوات الواجبة التي هي وليمة العرس، إذا كان حضورها فيه منكرات إذا كان حضورها فيه فعل العبد بعض المنكرات كسماعه للغناء أو رؤيته لبعض المنكرات ولا يستطيع إنكارها، فيجمع بين الأمرين بأن يحضر ثم ينصرف، وهذا الذي كان يعمله الإمام أحمد ويعمله غيره من السلف؛ في أنهم إذا دعوا إلى دعوى واجبة حضروا وإذا رأوا منكرا أنكروا وانصرفوا، فهذا يكون فيه إجابة الدعوة الواجبة ويكون فيه أيضا إنكارا للمنكر ثم انصراف ويكون معذورا.
وحق الوالدة لاشك أنه عظيم وتجب طاعة الوالدين في غير معصية الله تعالى، الذي ينبغي على هذا السائل أن يقنع والدته وأن يجعل زوجته ووالدته في أحسن تعامل، وأن يحيل بأمر المنع إليه لا إلى زوجته لأجل أن يحصل الائتلاف؛ لأنه غالبا الوالدة لا تغضب على ولدها أولا تقاطع ولدها، وأما زوجة الولد فإنه كثيرا ما تحصل بينها وبين أم الزوج كثيرا من الخلافات فيرجع المنع إليه ويقول ستذهب إذا رأت منكرا فإنها تتصل بي وآتي لآخذها من هذا المكان، يكون فيه جمع ما أمر به شرعا وترك ما حظر شرعا.(7/32)
س4/ يقول: ذكرتَ أن الذي يحكم في النوازل لابد أن يكون مُلمًا بالفعل بأكمله من أوله إلى آخر بسبب ارتباط بعضه ببعض، مع أننا نجد بعض الأبواب لا ارتباط بعضه ببعض مع أننا نجد بعض الأبواب لا ارتباط لها البتة بأبواب أخرى، وقد ذكرت بعض المحققين من الأصوليين أن الاجتهاد يتجزأ، فيكون مجتهدًا في باب دون باب آخر وهكذا، وقد ورد عن بعض الأئمة الذي لا يشك أحد في إمامتهم واجتهادهم أنهم سئلوا عن بعض المسائل فقالوا لا ندري، كما ورد عن مالك وغيره، فكيف نوفق بين هذا وبين ما ذكرت؟
ج/ هذا السؤال كنت مستحضرًا له حين كلامي عن المسألة، ولهذا قيدت ارتباط الفقه بعضه ببعض بالإفتاء في النوازل، أما في غير النوازل؛ يعني فيما يعرض كثيرًا ويتردد فيكون من أحوال الناس المعتادة فهذا كما قيل الاجتهاد يتجزأ؛ يعني من ضبط أبواب الطهارة فإنه يجيب عن مسائل الطهارة، أو من ضبط أحكام النكاح والطلاق والعدد والنفقات إلى آخره يتكلم في الأحوال الشخصية وأحوال البيوت، ومن ضبط مسائل البيوع يتكلم في البيوع؛ لكن إذا كانت المسألة نازلة بالأُمّة كالنوازل التي يحصل معها تغير من الأحوال وتقلب في الآراء يتوقع معها تفرق الناس فإنّ الذي يحكم في هذه النوازل خاصة إذا كان فيها حكم على فئة أو حكم على طائفة أو فيها إقرار شيء أو منع شيء أو نحو ذلك -النوازل العظيمة- هذه متعلقة بأهل العلم الراسخين فيه المجتهدين الذين استحضروا الفقه وربطوا بعضه ببعض واستحضروا القواعد والأصول العقدية وما قاله الأئمة.
فكلامي ليس معارضًا لما هو متقرر عند الأصوليين وهو صواب، وهو أن الاجتهاد يتجزأ وأن المرء يمكن أن يجتهد في مسألة لاسيما في باب من الأبواب ولا يجتهد في الباب الآخر لضبطه هذا الباب؛ لكن المسائل النازلة التي تتعلق بالأمة، فكما قال عمر رضي الله عنه: كانت تنزل به النازل فيجمع لها أهل بدر.(7/33)
س5/ كيف يجمع المرء بين طلب العلم والأهل من ناحية الوقت، وأيهما أولى في ذلك؟
ج/ لا شك أن الواجب مقدم على النفل, بعض العلم واجب فرض عين ما تصحح به عقيدتك وهو أجوبة الأسئلة الثلاثة –ثلاثة الأصول- من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ تعلم ذلك بأدلته هذا فرض عين على كل مسلم, لابد أن يتعلمه ولو فرط في بعض حقوق الأهل.
كذلك عي الفقه ما تصح به عباداتك, ما تصح به صلاتك, إذا كان صاحب مال كيف يزكي والنصاب إلى غير ذلك، هذا واجب تعلمه.
فإذا كان العلم واجبا فهو مقدم على النفل, أما إذا كان العلم نفلا وكان هناك واجبات معارضة للنفل فإنه يقدِّم الواجب مثل حق والديه ومثل حق أهله وزوجته وأولاده، فإنه لا يفرط في هذا الحق الواجب لأجل تحصيل نفل من النوافل.
الناس مختلفون منهم المشغول، ومنهم من يعتمد عليه أهله، ومنهم من يكون الاعتماد عليه متوسطا؛ يختلفون، والواجب أن يقدم المرء الواجبات، والنوافل هي تلوى الواجبات، وما تقرب إلى الله جل وعلا بشيء هو أحب إليه ما افترضه الله سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث الصحيح «ما تقرّب إليّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افتَرَضْته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحبه» يعني بعد الواجبات، فلابد -من المهمات- أن تقدم الواجبات على النوافل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إِنّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقّا، إِنّ لِنَفسِكَ عَلَيْكَ حَقّا, وَلِرَبّكَ عَلَيْكَ حَقّاً َأَعْطِ كُلّ ذِي حَقٍ حَقّهُ»، فالواجبات كثيرة تؤدي الواجبات، والنوافل تقدم عليه الواجبات، ولا يُفقه تطبيق ذلك إلا بالمِران وتقديم واجبات الشرع على ملذات النفس.(7/34)
أبعد من ذلك بعض الناس يذهب إلى نوافل ليس إلى واجبات؛ بل إلى مباحات ويفرط في واجبات، يذهب في سهر متنوع ويترك أهله، يترك واجبات مطلوب منه أن يفعل كذا، والده كبير في السن يتكلف لو فعل الفعل وذاك يذهب للقيل والقال أو فيما يؤنس نفسه، ليس في فعله لا آتٍ بفرض ولا نفل ومع ذلك يفرط بواجبات.
لاشك أن كثير من مشاكل الناس ومخالفاتهم للشرع كثير من المشاكل والشكوى التي تحصل من الأهالي على الأبناء، من الآباء على الأبناء، ومن الزوجة على الزوج، ومن الزوج على زوجته هو من الإخلال بأداء الواجبات وتقديم الواجب على المستحب فضلا على المباح.
س6/ الأخير قال: كيف يجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم «يَئِسَ الشّيْطانُ أنْ يَعْبُدَهُ المسلمونَ, وَلَكِنْ في التّحْرِيش بَيْنَهُمْ» مع أنه قد حصل الشرك في هذه الجزيرة والشرك اتباع للشيطان، أفتونا جزاكم الله خيرا.(7/35)
ج/ الجواب أن هذا الحديث رواه مسلم في الصحيح «إِنّ الشّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» خلاصة جواب أهل العلم أنه أيس لم يؤيَّس, أيس هو لما رأى انتشار الإسلام وقوة الإسلام وأهل الإسلام, أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب, لكم لم يُؤيسه الله جل وعلا من ذلك، فيأسه من عبادة المصلين له في جزيرة العرب لما شاهده من قوة الإسلام وقبول الناس للحق، والله جل وعلا لم يؤيسه، ولهذا لما وجد له كرة أخرى نشط وعاد للدعوة إلى الشرك وتحبيب عبادة غير الله للناس، فحصل رجوع الناس لعبادة غير الله، والشيطان فرح بذلك لأنه أيس أول مرة ولكنه لم ييأس بعد ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «إِنّ الشّيْطَانَ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ – في لفظ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ –الْمُصَلّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ», قال بعض أهل العلم في قوله (الْمُصَلّونَ) تنبيه إلى أنه الذي لا يضره الشيطان الذي يوصف بأنه من المصلين الذين قال جل وعلا فيهم ?إِلَّا الْمُصَلِّينَ(22)الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ?[المعارج:22-23]. ولتمام البحث في ذلك موضع آخر إن شاء الله تعالى.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
فرّغ هذه المادة: www.alsalafia.com
وحاول تنظيمها: سالم الجزائري
---
([1]) انتهى الوجه الأول من الشريط.(7/36)
كيفية دراسة الفقه
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفية دراسة الفقه/ لفضيلة الشيخ صالح آل الشيخ.
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه و على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أسأل الله جلّ وعلا لي ولكم التوفيق للصالحات والسداد في القول والعمل. والإصابة في كل حال وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يمن عليه بالعلم النافع والعمل الصالح وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، لا حول لنا ولا قوة إلا به سبحانه، اللهم وفقنا للصالحات، ومُنّ علينا بما تحب وترضى.
أما بعد:
فنذكر مقدمة في كيفية الاستفادة من كتب الفقه، وكيف يدرس طالب العلم الفقه على أنجح السبل.
أولاً : الفقه من حيث مسائله:
منه المسائل التي كانت واقعة في زمن النبوة فنزلت فيها آيات أو آية فأكثر وبيّن فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحكم، فهذه مسائل منصوص على حكمها وفي الغالب تكون النصوص الدالة على ذلك ظاهرة في المعنى، ومنها ما هو قابل لاختلاف المجتهدين في فهم دلالة النصوص على تلك المسائل.
ومنها مسائل وقعت بعد زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهذه المسائل احتاج إليها الناس لتوسع البلاد الإسلامية، ومخالطة العرب لغيرهم ومعلوم أن طبيعة أهل مكة والمدينة وأهل الجزيرة ليست هي طبيعة أهل الشام والعراق وأهل فارس وأهل خراسان وأهل مصر، فطبائع مختلفة في الحالات الاجتماعية في المساكن فيما يستخدمون في الوقت في الجوّ إلى آخره، فظهرت مسائل احتاج إليها الناس يسألون عنها الصحابة رضوان الله عليهم.(8/1)
وهذا هو القسم الثاني، وهي المسائل التي اجتهد فيها الصحابة رضوان الله عليهم، واجتهاد الصحابة في هذه المسائل كان مبنياً إما على دلالة نص في ادخال مثلاً المسألة في عام، أو في الاستدلال بمطلق على هذه المسألة أو بالاستدلال بقاعدة عامة دلّ عليها دليل في هذه المسألة نحو القواعد المعروفة كرفع الحرج والمشقة تجلب التيسير والأمور بمقاصدها، ونحو ذلك من القواعد العامة.
وهناك مسائل اجتهدوا فيها والاجتهاد كان على غير وضوح في الدليل يعني يُستدل له ولكن قد يُستدل عليه وهذا ظهر وظهرت الأحوال المختلفة بين الصحابة بقوة في هذا الأمر فهذا النوع مما دُوِّن بعد ذلك في أقوال الصحابة وصارت المسألة عند الصحابة قولين أو أكثر من ذلك من مثل حكم الصلاة في الجمع بين الصلاتين للمطر، هل يقتصر فيها على المغرب والعشاء أم يلحق بها أيضاً الظهر والعصر ومن مثل الكلام في الأقراء هل هي الطهر أم الحيضات، ونحو ذلك من مسائل اختلف فيها الصحابة وهذا من نوع الاختلاف الذي له دلالته في النصوص.
هناك مسائل كما ذكرتُ لكم ظهرت مثل استخدام مصنوعات أو أطعمة، مِثل الكفار التي قد يستخدمون في صنعها بعض الأمور مثل أنفحة الميتة ونحو ذلك، هذا ما ظهر إلا لما دخل العراق ظهر مثل هذه المسائل مثل بعض الألبسة الخاصة التي كانت عندهم مثل الحمام، ودخول الحمام، وهو بيت الماء الحار الذي كان في الشام ونحو ذلك.(8/2)
وكذلك مثل أنواع من البيوع لم تكن معروفة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أُحدثت بعد ذلك، وأمثال هذا كثير مما فيه الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم، هذا الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم غالبه مسائل اجتهاد، وقليل منه مسائل خلاف، والفرق بينهما أنّ المسائل المختلف فيها تارة تكون مسائل اجتهاد وتارة تكون مسائل خلاف فيُعنى بمسائل الاجتهاد ما لم يكن في الواقعة نصٌ فاجتهد هذا الاجتهاد، ويُلحق به ما كان فيها نص، ونعني بالنص ما كان فيها دليل من الكتاب أو السنة، لكن هذا الدليل يمكن فهمه على أكثر من وجه، فاجتهد في المسألة ففهم من الدليل كذا وفهم آخر من الدليل شيئاً آخر مثل { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } هنا هل القرء هو الطهر أم هو الحيضة؟ هذه تدخل في مسائل الاجتهاد الذي لا تثريب على المجتهدين فيما اجتهدا فيه.
القسم الثاني: مسائل الخلاف وهو وجود خلاف في بعض المسائل وكما ذكرت لكم كان نادراً عند الصحابة رضوان الله عليهم والخلاف ما يكون اجتهد برأيه في مقابلة الدليل مثل ما كان ابن عباس رضي الله عنه يفتي في مسألة الربا بأنه لا ربا إلا في النسيئة وأنّ التفاضل في الربويات ليس من الربا، وإنه ليس ثم أصناف ربوية، لكن النسيئة (التأجيل) أما التفاضل بين نوعين مختلفين مما هو معروف بربا الفضل فإن هذا لا يعده ربا، هذا اجتهاد في مقابلة النص.(8/3)
كذلك إباحته مثلاً في زمن طويل كثير من عمره رضي الله عنه نكاح المتعة وظنه أنّ هذا ليس بمنسوخ ونحو ذلك، وغير هذا من المسائل التي جاء فيها دليل واضح، هذه تسمى مسائل خلاف وهذا يكون الخلاف فيها ضعيفاً ولا يجوز الاحتجاج بمثل هذا، لأن المجتهد من المجتهدين من الصحابة فمن بعدهم قد يجتهد ويغيب عنه النص يغيب عنه الدليل أو يكون له فهم ولكنه معارض بفهم الأكثرين، فهذه هي التي يسميها أهل العلم ويخصها شيخ الإسلام ابن تيمة بالذكر بأنها (مسائل خلاف) ومسائل الخلاف غير مسائل الاجتهاد، قالوا وعليه فأن المقالة المشهورة (لا انكار في مسائل الخلاف)، وتصحيحها : (لا انكار في مسائل الاجتهاد ) ونفى بمسائل الإجتهاد المسائل التي حصل فيها خلاف، وللخلاف حظٌ من النظر للخلاف حظ، من الأثر حظٌ من الدليل.(8/4)
أما إذا كان القولان: أحدهما مع الدليل بظهور والآخر ليس كذلك فإنا نقول: ليس هذا من مسائل الاجتهاد، بل من مسائل الخلاف، والخلاف منهيٌ عنه، والعالم إذا خالف الدليل بوضوح فيقال هذا اجتهاده وله أجر، لكنه أخطأ في هذا الأمر، ولا يعوّل على اجتهاده في مقابلة النص، هذه الأقوال أيضاً كثرت في زمن التابعين وزمن التابعين كانت الحاجات تزيد في وقائع جديدة وكثرت الفتوى بناء على ما استجد من الواقع على نحو ما ذكرت من استدلالهم بالكتاب، استدلالهم بالسنة، استدلالهم باجماع الصحابة ونتجت هناك أقوال في مسائل في التابعين، ومن المتقرر أن المسألة إذا كانت بعينها في زمن الصحابة، فإن احداث قول زائد على أقوال الصحابة يعد هذا من الخلاف الضعيف، يعني إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسألة على قولين، فإن زيادة التابعي بقول ثالث، فإن هذا يعد ضعفاً يعني يعدّ من الخلاف الضعيف عند أكثر أهل العلم، ذلك لأنه يكون القول الثالث فهمٌ جديدٌ للأدلة فهم زائدٌ على فهم الصحابة للأدلة، وإذا كان كذلك كان مقتضى أن الصحابة رضوان الله عليهم قد فاتهم فهم قد يكون صواباً في الآية ، وهذا ممتنع لأن الصحابة رضوان الله عليهم الفهم الصحيح للآية عندهم ولم يدخر لسواهم من الفهم الصحيح ما حجب عنهم بل الخير فيهم، فهم أبرُّ الأمة قلوباً وأعمقها علوماً وأقلها تكلفاً كما ذكر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه، يجتهد التابعي في مسألة نازلة جديدة اختلفت في حيثياتها عما كان في زمن الصحابة رضوان الله عليهم ظهرت هناك أيضاً مسائل جديدة حتى جاء في القرن الثالث للهجرة فدونت الكتب لما دونت الكتب كان تدوين الكتب على نوعين:
كتب للأثر ، وكتب للنظر وللرأي.(8/5)
أما الكتب للأثر فهي الكتب التي يصنفها أئمة الحديث والفتوى يجعلون باباً للطهارة وباباً للآنية وباباً للجلود وباب خاص لجلود السباع مثلاً جلود ما يؤكل لحمه ... الخ. ويأتون بالآثار في هذا كما صنع ابن أبي عروبه وعبد الرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة وغير هؤلاء كثير، وكما صنع أيضاً مالك في الموطأ وجماعات هذا نوع، وهو العلم الذي نقل فيه هؤلاء الأئمة أقوال من سبقهم في الأحكام، وهذا لما صُنف صار أئمة الأثر والحديث يدورون في المسائل حول أقوال المتقدمين من الصحابة والتابعين، ومن اشتهر بالفقه ممن بعدهم يدورون حول هذه الأقوال.(8/6)
والقسم الثاني من الكتب هي كتب الرأي، ويعنى بكتب الرأي الكتب التي تعتمد في الأحكام على الأقيسة، وهذا مبني على مدرسة كانت في الكوفة ، وهي مدرسة أهل الرأي من مثل حماد بن أبي سليمان، قبل إبراهيم النخعي وأبو حنيفة وكذلك في المدينة مثل ربيعة الرأي شيخ مالك ونحو ذلك ظهرت كتب لهؤلاء ولمن بعدهم ممن تبعهم هذه معتمدة على الأقيسة وعلى القواعد العامة فيفرعون الأحكام على الأقيسة والقواعد، لاحظ أنَّ هذه هي التي عناها أهل العلم بالأثر وأهل الحديث بالذم، إيّاكم وكتب الرأي، أياكم وأهل الرأي، فإنهم اعيتهم الآثار أن يحملوها فذهبوا إلى الرأي ونحو ذلك، لأنه يستدلون بالقياس وبالقواعد، ويقدمونها على الآثار، وهذا لا شك أنه ليس بطريق سويّ، وذلك لأن أولاً من حيث التأصيل أولئك جعلوا القياس أصحّ من الحديث، ويقولون القياس دليله قطعي، القاعدة دليلها قطعي، طبعاً القياس حينما نقوله هو أعم من خصوص ما عليه الاصطلاح الأخير، يعنى بالقياس ما يدخل فيه تحقيق المناط، يعني القواعد التي تدخل في العبادات والمعاملات، فيستدلون بأدلة قطعية على القواعد، فإذا أتى دليل يخالف القاعدة يقولون هذا حديث آحاد فلا نقدمه على الأقيسة، يقدمون مثلاً القياس على الحديث المرسل، يقدمون القياس على الحديث المتصل إذا كان لا يوافق القواعد، وهكذا فظهر عندهم خلاف للآثار وهذا الذي عناه السلف بذلك، وهم لهم أصولهم فالحنفية مثلاً عندهم أصول الفقه التي تخالف أصول أئمة الفقه الذين هم من أهل الحديث مالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين في أنحاء كثيرة في أبواب كثيرة، مثلاً عندهم أنّ العام أقوى من الخاص، فعندهم أن دلالة العام على أفراده قطعية إذا كان الدليل قطعياً.(8/7)
وأما دلالة الخاص على ما اشتمل عليه من الفرد يعني من المسألة الخاصة فهذه دلالتها ظنية فيجعلون العام مقدماً على الخاص، ولا يحكمون للخاص على العام، وهكذا في التقييد والإطلاق هكذا في مسائل شتى مثلاً عندهم الحديث المرسل مقدم على المسند فالحديث المرسل مثلاً عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، عن إبراهيم النخعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وهكذا المراسيل عامة كمراسيل أبي العالية ونحوهم من كبار التابعين وغيرهيم، يعتبرون أن هذه المراسيل أقوى من الأحاديث المسندة، فإذا أتى حديث مرسل وحديث متصل في المسألة نفسها، أخذوا بالحديث المرسل وتركوا الحديث المسند المتصل لأصولهم لدلالة عقلية عندهم على ذلك، وهذا طبعاً انتج أقوالاً أكثر من الأقوال التي كانت موجودة في زمن الصحابة والتابعين، فصار عندنا تفريعات كثيرة.(8/8)
كذلك في مسألة القواعد يقولون الاستدلال بالقياس مقدم على الاستدلال بالأثر لأن القياس دليله واضح يعني مثلاً القاعدة دليلها واضح، وأما الأثر فإنه فرد، والقاعدة شملت أحكاماً كثيرة، كل أدلتها تعضد هذه القاعدة، وأما الأثر فهو واحد في نفسه، وعندهم أن القاعدة هي قطعية على ما اشتملت عليه وأما الآثار فإنها ظنية، هذا هو الذي نهى عنه السلف بشدة، وحذّروا من النظر في الرأي لهذا الأمر، وكتب الحديث على هذا، على الذي أسلفت فيما هو تبويب وإيراد ما في الباب من أدلة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يعني من آثار أو من كلام الصحابة أو من التابعين أو من تبع التابعين بالأسانيد أهل الأثر ويمثلهم بوضوح في اتباع أصولهم الإمام أحمد رحمه الله ورحمهم أجمعين ينظرون في المسألة فإذا كان فيها حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قدّموه إذا كانت دلالته ظاهرة أو من باب أولى إذا كانت نصاً فإذا لم تكن كذلك نظروا في فتاوى الصحابة فيما يثبت أحد الاحتمالين في الفهم كذلك إذا جاءت فتوى عن الصحابي وكان فيها احتمال في الفهم نظروا في أقوال أصحابه من التابعين بما يوضح لهم معنى قول الصاحب إذا كان القول ظاهراً أو نصاً من الصحابي في مسألة نازلة وليس له مخالف أخذوا به، وإذا اختلف الصحابة في المسألة على قولين هنا تنازعوا، يأخذون بقول من؟ فمنهم من قال نأخذ بقول الخلفاء الراشدين أو بأحدهم إذ وُجِد ذلك،لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وإذا مثلاً عثمان خالفه ابنُ عباس أخذوا بقول عثمان، وإذا عمرُ خالفه ابنُ عمر أخذوا بقول عمر وهكذا، وإذا اجتمع الخلفاء الأربعة في مسألة أخذوا بها بقوة، وتارة تكون الآثار متعارضة في المسألة فيكون للإمام أكثر من قول وفي هذا كثرت الروايات عن الإمام أحمد في المسائل تجد مسألة له فيها عدة روايات لأنه في الرواية الأولى مال إلى ترجيح أحد الآثار في(8/9)
المسألة، والرواية الثانية نظر في المرة الأخرى واختار الآخر، وهكذا، فالمقصود أنهم يدورون بالنظر مع الآثار، والإمام أحمد لما استفتي أو كان يستفتى كثيراً تلامذته صنفوا المسائل عنه فهذه المسائل عن الإمام أحمد كثيرة تبلغ نحو سبعين كتاباً من المسائل أو نحو ذلك لأصحابه منها الشيء المختصر ومنها الكثير، أعني الكبير، هذه نقل منها طائفة من أصحابه ما هو معتمد عنده مما يعرفونه من كلام الإمام أحمد وهم المسمون بالجماعة عن الإمام أحمد، هذه الأقوال دونها بعض الحنابلة في المختصرات ابتداءاً من الخرقي.
فمن بعده حولوا الفقه إلى أنه فهم الإمام في النصوصكان سابقاً مثل ما ذكرت لكم الأئمة ينظرون في الآثار فلما أتى التلامذة كثرت عليهم الآثار تنظر مثلاً في الفقه في المصنف مصنف ابن أبي شيبة مصنف عبد الرزاق تحتار أقوال مختلفة وأسانيد، ومسائل تعترضها أحياناً أدلة أصولية، وأحياناً أدلة تحتاج إلى معرفة رجال الإسناد.(8/10)
وأحياناً النظر في القرآن وفي السنة وهل يحمل هذا على هذا أو لا، فالتلامذة ضعفوا عن ذلك مع وصية الأئمة بأن يأخذوا من حيث أخذ الأئمة، لكن وجدوا في أنفسهم الضعف فتمسكوا بفهم الأئمة للنصوص لأجل أن يريحوا أنفسهم دونوا هذا، وهذا التدوين أضعف باب النظر في آثار السلف تدوين الفقه، مثل مختصر الخرقي وغيره أو مختصر المزني للشافعية أو مختصر الطحاوي أو مثلاً كتب محمد بن القاسم عن مالك مثل المدونة وغيره أضعف النظر في الآثار التي هي عمدة هؤلاء الأئمة فصاروا يدورون مع نصوص الأئمة بل زاد الأمر بعد ذلك حتى أصبحو يخرجون عليها كأن هذه قد نص عليها الإمام بمسألة جامعة، وهي كما ذكرت لكم أنهم ذكروها جواباً على الاستفتاءات والمُستفتي إذا استفتى فالجواب يكون على قدر الفتوى ولا يستحضر المفتي حين السؤال أن كلامه سيكون عاماً أو خاصاً أو نحو ذلك، فإنما يجيبون على حسب السؤال أحياناً ينتبه لهذا الأمر فيجيب قدر السؤال، لهذا ظهرت هناك أقوال، أقوال في المذهب الواحد، مثلاً عند الشافعية أقوال العراقيين وأقوال الخراسانيين قول للشافعي في القديم وقول في الجديد ومن منهم من أخذ بهذا ومن منهم من أخذ بهذا لأجل نظرهم بأن الإمام ما أراد بنصه هذا المعنى المعين بل أراد شيئاً آخر هذه كانت جواب، أو هذه أراد بها خصوص المسألة ما أراد مثيلاتها ونحو ذلك.
كذلك أصحاب الإمام أحمد كثرت عندهم الأقوال وأصحابه كثير ولأجل كثرة الروايات تعددت الأقوال في المذهب لهذا مثلاً عند الحنابلة عندنا عدد مراحل مرت بها وهي ثلاثة مراحل:
1- مرحلة المتقدمين.
2- مرحلة المتوسطين.
3- مرحلة المتأخرين.(8/11)
فالمتقدمون من أوله يعني من الخرقي او ما قبله إلى القاضي أبي يعلى ومن القاضي أبي يعلى إلى آخر الشيخين الموفق والمجد هذه تعتبر من المتوسطين ثم بعد ذلك يبدأ المتأخرون على خلاف بعضهم يزيد في هذا قليلاً، مثلاً فالشافعية عندهم قسمان متقدمون ومتأخرون والحد عندهم بين المتقدمين والمتاخرين رأس الأربعمائة وهكذا عند المالكية أيضاً عندهم طبقات هذا تجديد في فهم الكتب فهم نصوص الأئمة الى آخره.
هذه المراحل في كل مرحلة دونت كتب هذه الكتب تختلف في أسلوبها سواء في الفقه أو في أصول الفقه تختلف في أسلوبها تختلف في استيعابها ما بين ماتن وموسع قليلاً ما بين ضابط للعبارة وسهل العبارة وما بين ذاكر للخلاف وغير ذاكر للخلاف.
فلهذا المسائل التي يذكرها المتقدمون تجدها أوضح من التي يذكرها المتأخرون، فكل ما تقدم الزمن كلما كان الكلام أوضح، فالمتأخرون يذكرون المسائل لكن يصعب فهم كلامهم في بعض الأنحاء.
فإذا صعب فهم كلامهم ترجع إلى كلام المتقدمين في نفس المسألة تجدها أوضح، وليس المقصود بذكر المذهب الحنبلي فقط، لكن كتأصيل عام لهذا نقول أن التفقه وحرص المرء على أن يكون عنده ملكة فقهية يكون مبنياً على هذا الذي ذكرته وأنت تلاحظ فيما ذكرتُ كان هناك متون وهذا الأخير وكان هناك استفتاءات وهي المتوسطة وكانت هناك الآثار وهي المتقدمة.(8/12)
فأولاً: الآثار هي التي ظهرت في الأمة وهذه الآثار كان منها ما هو جواب أسئلة ثم بعد ذلك كلام الأئمة كان عن استفتاءات مثل المدونة سئل الإمام مالك فأجاب كذلك الإمام الشافعي كثير منها أسئلة، وعلم الإمام أحمد في المسائل كثير والثالث مصنفات، لهذا الفقه وتنمية الملكة الفقهية والحاسة الفقهية في فهم المسائل وفي التعبير عنها وفي إدراك كلام العلماء على المسائل الفقهية يكون برعاية هذه الثلاث مجتمعة . أولاً: العناية بالمتون. ثانياً: العناية بالفتاوى. ثالثاً: العناية بالآثار. لا بد منها على هذا النحو يعني تعكس هي في تاريخ الأمة بدأت الآثار الفتاوى ثم تدوين المتون الآن نعكس إذا أردنا طلب الفقه لأن مثلاً في زمن أهل الآثار زمن الصحابة والتابعين عندهم اللغة وأصول الفقه، وأصول الفقه مبناها على اللغة فعندهم ملكة في الفهم والاستنباط وهذه ليست عند المتأخرين لكن ننمي هذه الملكة وتتنامي هذه الملكة: إذا عكسنا الطريق
أولاً : نبدأ بالمتون ثم بالفتاوى ثم بالآثار، فإذا اتيت إلى الناحية التطبيقية مثلاً عندنا تقرأ في الزاد متن من متون الكتب للمتأخرين من الحنابلة، هذا تأخذه وتتصور مسائله مسائل مجردة تفهم صورة المسألة وهذا أهم مما سيأتي بعد لأن ما بعده مبني عليه فإذا لم تتصور المسألة كما هي صار ما بعدها مبنيٌ على غلط وما بُني على غلط فهو غلط، فإذن تبدأ أولاً بتصور المسائل، مسائل الباب إذا كان هناك معها أدلة واضحة في كل مسألة هذه دليلها كذا، وهذه دليلها كذا كحجة للمسألة. .. الخ.(8/13)
ثم تنظر في فتاوى الأئمة، تنظر في فتاوى علمائنا مثلاً فتأخذ مثلاً باب المسح على الخفين، تقرأ هذا الباب وتفهم مسائله على حسب ما يذكر من الدليل المختصر ما تتوسع لأنك إذا توسعت ضعت إذا توسعت في كل مسألة وطلبت أدلتها والآثار فيها ما نخلص في كل مسألة فيها في الكتب كتب الآثار وكتب الحديث وكتب العلماء من الخلاف الشيءالكثير، لكن تفهم هذه المسائل ثم تنظر في الفتوى السؤال والجواب من علماء وقتك يعني من علمائنا فإذا نظرت إلى هذا يقوى عندك أنّ الفهم الذي فهمته في المسائل مع ربطه بالواقعة الذي هو بالسؤال يكون الفهم عندك اتصل من المتن إلى الواقع، وكثير من الناس يفهم الفقه فهما نظرياً لكن إذا أتى يُسأل، ذهنه ما دربه على هذا الانتقال أي الانتقال من المسائل الفقهية بأدلتها إلى أن هذه الصورة المسئول عنها هي داخلة في ذلك الكلام، أو هي المرادة بتلك الجملة في المتن.(8/14)
كيف تتنمي هذه الملكة؟ إذا الربط بين الكتاب الفقهي والواقع بمطالعة الفتاوى هنا تتنامى، تبدأ يكون عندك حاسة في المقارنة إذا سُئلت ذهنك مباشرة ينتقل لأجل هذه الدربة أو ما نقول سُئلت مثلاً سألك أحد في بيتك أو أنت سألت نفسك أو وقعت واقعة تبدأ تتأمل سيكون عندك دربة إلى أنَّ هذا هو المراد أن هذه داخلة في المسألة أنت تلحظ أنه بمطالعة كلام المفتين على المسائل يصير عندك سعة في الدليل (واحد)، وتثبيت لتصور المسألة ولحكمها (اثني)ن، (والثالث) يكون عندك معرفة بما عليه الفتوى من علمائك، وهذه الثالثة مهمة لماذا؟ لأننا مثلاً الآن الواحد عمره مثلاً خمسة وعشرين سنة أو ثلاثين سنة. كم هذه المسائل عهده بها عهده بها خمس سنين أو عشر سنين، صحيح؟ لكن العالم الذي يفتي مثلاً عمره خمسين أوستين أو سبعين أو ثمانين، هذا له بها من العهد خمسين سنة مرت عليه ما هو مرة أو مرتين، مرت به عشرين ثلاثين خمسين مرة، ألف مرة، حتى صارت عنده واضحة مثل اسمه من كثرة تكررها، فإذن هنا هذه الفتاوى بمنزلة المصفِّي للكلام الذي تقرأه في المتن، هل هو مما يُفتى به ويعمل به أم لا؟.(8/15)
مما نلحظ مما سبق أن ذكرناه فيه مسائل نقول ليس عليها العمل، يعني الفتوى ليست عليها في مسائل كثيرة، مثلاً في طهارة جلد الميتة بالدباغ من المعروف مثلاً في ما قرأناه في زاد المستقنع أنه لا يطهر جلدُ ميتة بدباغ مطلقاً، لكن لو كان الحيوان قالوا يباح استعماله في يابس من حيوان طاهر حال الحياة، مما يحل بالزكاة فيه أي يحل أكله بالزكاة يعني مما يباح في ذلك، أو مما كان دون الهرة في الخلقة، إلى ما هو معروف، إذا نظرت في الفتوى الفتوى على خلاف ذلك، فإذن هنا الضرب الفتوى تبين لك ما عليه العمل في المتن مما ليس عليه العمل فإذا ضبطت هذا الضرب يأتي عندك هناك سعة جديدة في الفهم فتنتقل - بعد ما تحكم هذا الأمر تحكم الباب أو تحكم الأبواب - إلى كتب الخلاف كتب الآثار يكون عندك فهم إلى أن هذا القول أقوى من هذا القول، هذا القول ليس عليه العمل تظهر عندك إشكالات، لماذا يفتون مثلاً بهذا أو بهذه الفتوى؟ والآثار جاءت فيها كذا وكذا، بغير ذلك، في مثلا هل المرأة الحائض تقرأ القرآن أو النفساء تقرأ القرآن أم لا؟ تعرف الفتوى عند أكثر المشائخ على أي قول؟ ثم إذا نظرت في الآثار ظهر عندك شيءٌ ثاني، يبدأ عندك هناك علم مهم جداً في الفقه، وهو يوجد في كل فن وهو علم الاستشكال، إذا استشكل مستشكل هذا معناه أنه يفهم إذا كان استشكاله واقعياً إذا استشكل لماذا يفتون بكذا؟ مع أنّ الأثر دل على كذا مع أن الدليل يحتمل كذا، فإذا سأل أحداً من أهل العلم أزال عنه الإشكال وأجاب عن إشكاله، وقد قال القرافي في "فروقه" قاعدة الفرق بين الكبائر والصغائر "ومعرفة الإشكال علم في نفسه"- من المهم أنك تستشكل ما فهمت كيف يقولون كذا، والدليل محتمل لكذا ليش، ما اعتنوا بكذا؟ لماذا ما ذكروا القاعدة؟ هذه القاعدة تشمل هذه لماذا ما ستدل بالقاعدة؟. هنا استدلالات كانت مهجورة عند السلف، الأدلة موجودة ولم يستدلوا بدليل منها، ولما أتى المتأخرون أو بعض(8/16)
المعاصرين استدلوا بأدلة لم يستدل السلف في المسألة بتلك الأدلة هذا اشكال لماذا؟ لماذا السلف ما استدلوا إلى مسألة كذا وكذا بالدليل الفلاني واستدل به بعض الناس من هذا العصر ما استدل السلف بالدليل واستدل به بعض الناس من هذا العصر بعض المشايخ أو بعض طلبة العلم لماذا؟ هذا الاشكال يتولد عندك مع اشكالات أخرى تحل هذا وتحل هذا حتى يرسخ الباب في ذهنك يرسخ الباب بتصوره بمعرفة دليله وبمعرفة الفتوى وبمعرفة الأقوال الأخرى بعد حين هذه مراتب ومعرفة الأقوال الأخرى وجواب هذا وجواب هذا. إذا عكست المسألة ما يحصل عندك ملكة فقهية، إذا بدأت مثلاً بالآثار فسيكون عندك معرفة بالخلافيات كثيرة لكن الملكة الفقهية ضعيفة وتحصيلك للمسائل قليل لإن مثلاً إذا نظرنا في كل مسألة سنبحث عما جاء فيها في الأسانيد والمصنفات أو في كتب الحديث وهي هذا صحيح أم غير صحيح وما ورد عن الصحابة والتابعين سوف تطول المسألة والأئمة في عهدهم كانوا على قرب من عهد الآثار على قرب من عهد الصحابة ما عندهم علوم كثيرة جداً اشغلت أذهانهم.
الآن مثلاً من القرن الثالث إلى الآن ألف ومائة سنة كم ظهر من العلوم التي شغلت اذهاننا وأخذت خيراً منه من الأذهان، ولذلك صار الذهن لا يستطيع أن يكون مركزاً على ذلك يعني غالب الطلاب يكون مُركّزاً على الآثار ومستخرج منها الفقه الصحيح لهذا نعم نقول الغاية هي الآثار وهذا الذي يجب فالدين هو كتاب وسنة وأثر ولكن كيف تصل إليه؟ لا بد أن تسلك الطريق الذي سلكه العلماء في الأزمنه المتأخره بعد فوات التمكن في العلوم والآتها. بدأوا بالمتون المختصرة جداً هذا كالبناء ثم بعد ذلك يرون فتاوى العصر فيرون ماذا يفتي به علماء عصرهم الشافعية على الشافعية والحنفية على الحنفية ثم يبدأون بإيراد الإشكالات والنظر في الآثار.
* مسألة : كيفية التدرج في طلب الفقه.(8/17)
الفقه طويل وهذا شيء مما لا شك فيه، ويحتمل في تدرسيه كل يوم عدة سنين لو ندرس مثلاً مثل كتاب زاد المستقنع لكن هذا الأمر وهو كون الفقه طويلاً وأنهيحتاج إلى سنين هذا يسهل باتباع الطريقة الآتية:
أولاً: أن تأخذ كل باب على حده ما تخلط بين الأبواب تأخذ متن فتأخذ مثلاً كتاب الزكاة تأخذه وتفهمه لو تجلس فيه شهر مع معلم أو مع نفسك تدرسه جملة جملة تقرأ وتنظر حتى تتصور الجملة هنا إذا كان المعلم قد وصل معك إلى كتاب الزكاة أو كان في أحد من المشائخ يقرأ على سبيل المثال في الزكاة فهنا تستمر معه يجري لك الأمر وإذا لم يمكن ذلك وأردت أن تقرأ أنت فلا بد من أنت تكون على صلة بأحد العلماء الذين بعون كلام أهل الفقه هذه الصلة فائدتها كلما استشكلت شيئاً تسأل كل ما فهمت عبارة تسأل تركيبية ما استقام في ذهنك تسأل وهو يوضحك هذا الإيضاح أما باتصال هاتفي أو بملاقاة هذا الإيضاح وهذه الصلة تجعل المسائل تتضح ثم أيضاً يكون الحرص على ملازمة أهل العلم في سماع كلامهم لأنه جربنا هذا قبلكم في مسائل كثيرة في الفقه تمر عليها لكن ما تتضح لك إلا بسماع كلام أهل العلم فيها، إما مثلاً في كلمة أو في فتوى أهو تكلم يناقش المسألة تناقشه تجد أنه يعطيك مفتاح لفهم هذا الباب أو لفهم هذه المسألة ما أدركته بمجرد القراءة.
فاذن.
أولاً: أحكام الباب يكون بدون مداخله يعني تأخذ كتاب معيناً ككتاب الزكاة مثلاً أو باباً معيناً فتدرسه بدون مداخله، يعني مثلاً واحد يقول أنا باقرأ مثلاً في كتاب الزكاة وفي نفس الوقت يأخذ في كتاب البيوع، وفي نفس الوقت يأخذ كتاب في الحدود فالذهن لا يجمع بهذا الطريقة فتختلط عليه المسائل، فإذا أخذت مثلاً كتاباً على هذا تبدأ بتحرير جملة وإذا حررت جملة على وقت ما عندك فهمت، أعني بتحرير الجمل معرفة كل لفظ ومعناه من حيث اللغة ثم بعد التركيب.(8/18)
طالب العلم في الفقه بخصوصه لا بد أن يكون حساساً في اللغة، لأنه إن لم يكن حساساً في اللغة استعمل في كلامه غير لغة العلم وهذا يضعف مع طالب العلم، فإذا تكلم مثلاً في الفقه كلام ثقافي يعني موعظة كأنه، كلاماً عاما، هذا يضعف الواحد معه، لكن إذا درب ذهنه ولسانه على أن كل لفظ له دلالته يجتهد على أن يستعمل ألفاظه مع مرور الزمن، يبدأ يتربى شيئاً فشيئاً حتى يستعمل ألفاظه، فإذن : 1- معرفة ألفاظ الفقهاء ودلالة كل لفظ . ثم : 2- معرفة التركيب لهذه الجملة، ثم: 3- الحكم. 4- دليل الحكم، قد يكون راجحاً في نفس الأمر وقد يكون مرجوحاً، المهم تعرف الدليل الذي اعتمد عليه في هذا الحكم، لأن معرفة الدليل يعطي ذهنك قريحة في استنتاج الحكم من الدليل على فهم جماعة من العلماء الذين صنفوا هذا أو رضوه أخذوه مذهباً.
الخامس : القول الآخر في المسألة بشرط أن يكون قولاً قوياً، وليس في كل مسألة، يعني مثلاً: مثل ما كان في المشايخ رحمهم الله الأولين الذين يدرسون الفقه عندنا هنا يذكرون اختيارات شيخ الإسلام ، وقد يكون بعدها استدلال أو ترجيح.
هذه خمس خطوات، إذا أخذت مثلاً باب من الكتاب بعد ذلك ترجع إلى نفسك باختبار، إذا سمعت شرح الباب مثلاً من معلم من شيخ او عالم أو قرأته وناقشت فيه أحد العلماء أو سمعته بواسطة شريط أو نحوه بعد ذلك اختبر نفسك في هذا الباب. كيف تختبر نفسك ؟(8/19)
تأخذ متن مجرداً عن الشرح وتجتهد في أن تشرح، أن تعلق مثلاً، الروض المربع أو شرح الشيخ بن العثيمين أو حاشية البليهي أو حاشية بن قاسم إلى اخره، ستلحظ في أول مرة أنك فيه مسائل تصورتها ، وعبارتك كانت عبارة جيدة رضيت عنها، لكن في مسائل أردت أن تتكلم اشتبكت عندك الخطوط ما عرفت، اشتيكت مع أنك حين القراءة كانت واضحة، مثل ما يأتي في الاختبار فقبل الاختبار تقول : أنا والله فاهم، وحينما جاء الاختبار استشكلت أو ضاعت عليك، كذلك في الفقه، فإذا راجعت على هذا النحو وحاولت أن تشرح فسيكون تقييمك لنفسك شيئاً فشيئاً، بهذا الطريقة تقوى مداركك تقوى قوة ذهنك.
ثانياً : يقوى تعبيرك عن مسألة بلغة العلم يقوي تعبيرك عن مسألة بلغة العلم.
ثالثاً : يكون لسانك متحرياً في الألفاظ لا تأتي إلى المسألة فتذكرها بالمعنى، يعني تذكر ما يدل عليها بحسب ما تفهم، بل تكون دقيقاً في اللفظ فتعبر بتعبيره، تعبر بلغته شيئاً فشيئاً بحسب ؟؟؟(8/20)
أنت والله أخذت خمسين من عندك نفسك استشكلت مسائل تعيدها ثم تكرر مرة أخرى حتى يكون عندك دربة هنا وأنت تسير على هذا تأتيك مسائل يكون لك رغبة في أن تطلع على الكلام فيها، فهنا لا بأس في أن تذهب إلى المطولات، مثل المغني في الفقه، أو المجموع أو نحو ذلك، لكن ما يكون ديدنك هذا في الباب كله تطالع . لا. هذا يكون في مسائل تختارها فتطالعها ، لماذا؟ لأن الكتب المطولة كتب سائحة،والكنب المختصرة كتب مجموعة، تناول المجموع أسهل من تناول المبسوط أو السائح، لماذا؟ لأنك طبعاً المغني أصعب من الزاد، والله واحد يجيء يقول الزاد عبارته كده والمغني كله أدلة، فتمشي معه بسلاسة، ولكن الواقع أن المغني بالنسبة لطالب العلم المبتدئ مضرٌ، بخلاف مثلاً المختصرات لأن المختصر يعود العقل على نوعية معينة من التعامل مع الكلام الفقهي يعوده على الحصر، يعوده على العبارة من لفظين ثلاثة، يعوده على مبتدأ وخبر، يعوده على شروط، يعني يحكم الذهن، أما ذاك فيكون مبسوطا، والمبسوط الذهن يقرأه بسهوله، يمشي ثم بعد ذلك ما يتربى عنده إلا يتذكر أن المسألة فيها أقوال، أما العبارة والإدراك ما يتربى عنده، ولهذا كان الشيخ عبد الرزاق رحمه (عفيفي) الله يقول الموفق، صنف في الفقه كتاباً أربعة للابتدائي وللمتوسط وللثانوي وللجامعي، فصنف للابتدائي العمدة في الفقه، وصنف للمتوسط المقنع، وصنف للثانوي الكافي، وصنف للجامعي المغني، فلاحظ عمدة، ثم مقنع، ثم كافي ثم مغني، والغناة لا يريد أحد بعدها شيء.(8/21)
لكن هذا لا بد يمشي على هذا النحو، لا بد أن يكون عندك تسلسل، فقراءة في المغني المطول دائماً، هذا غلط، وتركه دائماً أيضاً غلط. لماذا ؟ لأن المطولات فيها اسهاب في الاسهاب يحل بعض الاشكالات، فأحياناً يأتيك قول لم تفهمه أصلاً كيف تحل المسألة؟ مثلاً اتصلت ما وجدت أحداً، كيف تفهم هذا القول في الفقه بخصوصه؟ تذهب إلى الخلاف في المسالة، إذا لم تفهم قولاً من الأقوال اذهب إلى الكتب التي فيها ذكر الخلاف بمعرفة الأول المختلفة يتضح لك المراد بالقول الذي استشكلته، هذه مجربة ونافعة جداً في حل مثل هذا.
على كل حال هنا عدة أشياء أُخر لكن ربما احتاج الكلام عليها إلى طول مثل كلام مراتب كتب الحنابلة لماذا اختاروا كتاباً دون كتاب، كيفية الدمج بينها؟ وهل يسوغ لطالب العلم أن ينوع مثلاً عند أحد العلماء من الزاد وعند الثاني منار السبيل وعند الثالث من كذا .. . هذه كلها أشياء تحتاج إلى أجوبة لكنها تحتاج إلى مزيد من الوقت، نكتفي بهذا القدر .
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله.(8/22)