الوقف وعناية الصحابة به
د. عبد الله بن محمد الحجيلي
أستاذ مشارك بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
قسم القضاء والسياسة الشرعية
الصحابة رضوان الله عليهم خير سلف هذه الأمة الإسلامية ، فقد آمنوا بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعايشوا التنزيل ، ونصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل المواقف ، ورأوا بأم أعينهم أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصرفاته ، ومنها تصرفه في الأموال التي خصه بها الله سبحانه وتعالى من الغنائم والفيء ، قال الله تعالى : { مَا أفَاء الله عَلَى رَسُولِه مِن أهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي الْقُربُى وَالْيَتَامى وَالْمَسَاكين... الآية } (1) .
قال الإمام الخصاف : روي عن أبي يوسف أنه قال : (( صدقة رسول الله ، والأئمة من أصحابه ، مشهورة لا تحتاج في ذلك إلى حديث ، وهي أعرف وأشهر ، فلا ينبغي لأحد أن يخالفهم ، وإنما ينبغي اتباعهم في الأخذ بما كانوا عليه ))(2) .
وكان أول وقف في الإسلام هو وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث روى الإمام ابن سعد بسنده إلى محمد بن كعب قال : (( أول صدقة في الإسلام ، وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمواله لما قتل مخيريق بأحد ، أوصى إن أصبت فأموالي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصدق بها ))(3) .
وقال أيضاً : (( كانت صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أموال بني النضير سبعة : الأعواف ، والصافية ، والدلال ، والمثيب ، وبرقة ، وحسنى ، ومشربة أم إبراهيم ... ))(4) .
__________
(1) الحشر : 7 .
(2) أحكام الأوقاف : ص 4 .
(3) الطبقات الكبرى : 1/246 .
(4) الطبقات الكبرى : 1/247 .(1/1)
وقال أيضاً : (( بسنده إلى محمد بن كعب : (( قال : كانت الحُبُس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس سبعة حوائط بالمدينة - ثم ذكر ما مضى )) ثم قال : وقد حبس المسلمون بعده على أولادهم وأولاد أولادهم ))(1) .
وقد كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث صفايا هي : بنو النضير ؛ وكانت حبساً لنوائبه(2) ، وفدك ؛ وكانت حبساً لأبناء السبيل ، وخيبر ؛ وقد جزأها ثلاثة أجزاء : فجزآن للمسلمين والآخر لنفقة أهله ))(3) .
ولما انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى أخبر الناس كافة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا نورث ما تركنا فهو صدقة ))(4) ، وقال : (( لا يقسم ورثتي ديناراً ولا درهماً ، ما تركت بعد نفقة نسائي ، ومؤونة عاملي ، فهو صدقة ))(5) .
وهنالك أحاديث أخر ، وجاء في حديث صحيح عن أخي جويرية - وله صحبة - قال : (( ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا سلاحه وبغله ، وأرضاً جعلها صدقة ))(6) ، فكل ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يصح أن يكون وقفاً جعله وقفاً ، قبل مماته ، والحديث في هذا الباب طويل ، إنما أردت في هذه التوطئة المقتضبة التمهيد لما سأذكره من أوقاف الصحابة رضوان الله عليهم في المدينة المنورة وغيرها ، مستخلصاً مما ذكره الإمام ابن شبه في أخبار المدينة ، مما جرى عليه العرف في عهدهم من تسمية الأوقاف ( بالصدقات ) .
__________
(1) الطبقات الكبرى : 1/246 .
(2) الطبقات الكبرى : 1/247 .
(3) الطبقات الكبرى : 1/247 .
(4) البخاري ، الفرائض (6727) ، مسلم في الجهاد (1758) .
(5) البخاري ، الوصايا (2776) ، مسلم في الجهاد (1760) .
(6) رواه البخاري في الوصايا (2739) ، وفي الجهاد (2873 ، 2912) ، وفي الخمس (3098) ، وفي المغازي (4461) ، والنسائي في الأحباس : 6/229 .(1/2)
الوقف في اللغة : الحبس . يقال : وقفت كذا : أي حبسته ، ووقفت الرجل عن الشيء وقفاً : منعته عنه ، ومنه : وقفت الضيعة على المساكين ، إذا حبستها ، ولذا تسمى حبيساً .
ولا يقال : أوقفت : إلا على لغة غير مشهورة ، ولكن العامة عليها إلى اليوم . تقول : هذه الدار وقف ، أي : موقوف ، والجمع : أوقاف وَوُقُفْ كوقت وأوقات(1) .
لفقهاء المذاهب الإسلامية تعريفات كثيرة نختار منها تعريفًا لكل مذهب فقهي من المذاهب الأربعة .
أولاً : عند الحنفية :
أ - عرفه الإمام أبو حنيفة بأنه : (( حبس العين على ملك الواقف ، والتصدق بالمنفعة على الفقراء أو على وجه من وجوه الخير ))(2) .
وذلك بناء على مذهبه أن حقيقة الوقف تبرع بالمنفعة دون العين ، وهو غير لازم كالعارية .
ب- أما عند الصَّاحِبَين فهو : (( حبس العين على حكم ملك الله تعالى ، والتصدق بالمنفعة ))(3) .
فهما خالفاه في خروج العين من الملكية الخاصة إلى الملكية العامة ، والمراد بها الجهات الخيرية الموقوف عليها ؛ سواء كانوا أقرباء أم بعداء ، عامّين أم خاصين .
ثانياً : عند المالكية :
قال ابن عرفة : هو : (( إعطاء منفعة شيء مدة وجوده ، لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً ))(4) .
ثالثاً : عند الشافعية :
عرفه الشربيني بقوله : (( حبس مال يمكن الانتفاع به ، مع بقاء عينه ، بقطع التصرف في رقبته ، على مصرف مباح موجود ))(5) .
رابعاً : عند الحنابلة :
__________
(1) لسان العرب : 9/360 ، المصباح المنير : ص 256 ، المطلع : ص 285 ، تحرير ألفاظ التنبيه : ص 237 ، طلبة الطلبة : 231 ، التعريفات : ص 253.
(2) الهداية : 3/ 13 ، شرح فتح القدير : 6/203 ، الفتاوى الهندية : 2/350 ، البحر الرائق : 5/202 .
(3) المصدر السابق .
(4) شرح حدود ابن عرفه : 2/539 ، مواهب الجليل : 6/18 .
(5) تحرير ألفاظ التنبيه : ص 237 ، مغني المحتاج : 2/485 .(1/3)
بقوله : (( تحبيس مالِكٍ ، مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ ، مالَه المُنْتَفَعَ به ، مع بقاء عينه ، بقطع تصرفه وغيره في رقبته ، يصرف ريعه إلى جهة بر ، تقرباً إلى الله تعالى ))(1) .
والخلاف في هذه التعريفات عند الفقهاء راجع إلى نظرتهم لحقيقة الوقف من حيث اللزومُ وعدَمُه ، وبقاؤه في ملك الواقف وخروجه منه ، فرأي الإمام أبي حنيفة والمالكية بقاءُ الوقف على ملك الواقف ، وسائر الأئمة يرون أن الموقوف يبقى أبداً على ملك الواقف حكماً(2) .
قسم العلماء الوقف باعتبار الغرض منه إلى نوعين ، هما(3) :
أولاً : الوقف الخيري :
وهو الذي يقصد واقفه أن يتصدق به على جهة من جهات البر ، سواء كانت تلك الجهة أشخاصاً ؛ كالفقراء والمساكين ، أم جهة عامة ؛ كالمساجد والمدارس والمستشفيات وغيرها ، مما يرجع نفعه لمجموعة غير محددة من الناس ، وهذا مجمع على جوازه بين الفقهاء قديماً وحديثاً .
ثانياً : الوقف الأهلي ( الذري ) :
وهو الذي يقصد واقفه أن يحصر ريع الوقف فيه على الواقف أو ذريته أو أقاربه الأقرباء أو البعداء ، ويكون مآل هذا الوقف على جهة بِرٍّ مستمِرٍّ في حالة فناء المستحقين . وقد عرف هذا الوقف في عهد الصحابة ؛ بل أكثر أوقافهم من هذا النوع ، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز هذا النوع من الوقف ، ولسيدنا الخليفة الراشد عثمان بن عفان وقف خاص في خيبر على ابنه ( أبان ) سنذكره في أوقاف الصحابة مستقبلاً .
ذكر أصحاب السير والحديث وغيرهم أن كل من كان له مال من الصحابة - رضي الله عنهم - كان له وقف ذري خاص أو عام ، ومن هذه الأوقاف :
1 - وقف الخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - :
__________
(1) منتهى الإرادات : 1/422 ، المقنع : 2/307 ، الدر النقي : 3/550 .
(2) أحكام الأوقاف للزرقا : ص 35 .
(3) محاضرات في الوقف ، لأبي زهرة : ص 39 .(1/4)
قال الإمام الخصاف : رُوي أن أبا بكر الصديق حبس رباعاً له كانت بمكة(1) .
وقال الإمام البيهقي : (( تصدق أبو بكر الصديق بداره بمكة على ولده فهي بأيديهم إلى اليوم - عصر البيهقي -(2) .
2 - وقف الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
قال الإمام البيهقي : (( وتصدق عمر بن الخطاب بربعة عند المروة وبالثنية على ولده ، فهي بأيديهم إلى اليوم )) - عصر البيهقي -(3) .
وتصدق بماله الذي بخيبر ، ووادي القرى ، وغير ذلك .
3 - وقف الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - :
قال الإمام البيهقي : (( وتصدق عثمان بن عفان برومة فهي إلى اليوم ))(4).
4 - وقف الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بأرضه بينبع :
ذكره الإمام ابن شبه وحصره تحت عنوان (( صدقات علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - )) ، ومما جاء فيه :
أ - أموال علي بن أبي طالب في ينبع ، وهي عيون متفرقة : منها : (( عين البحير ، وعين أبي نيزر ، وعين نولا )) .
- وعيون البغيبغات ، وهي عيون كثيرة ، منها : عين خيف الأراك ، وعين خيف ليلى ، وعين خيف بسطاس ، وعين الحدث .
ب - صدقاته بالمدينة المنورة : وهي : (( الفقيرين في العالية ، وبئر الملك بقناة ، والأدبية بالإضم .
ج - صدقاته بوادي القرى : ومنها : عين ناقة ، ويقال لها : عين حسن ، بالبيرة من العلا .
د - وله بحرة الرجلاء من ناحية شعب زيد ، واد يدعى الأحمر. ، وله فيها أيضًا واد اسمه ( البيضاء ) فيه مزارع وعفا ، وأربع آبر يقال لها ( ذات كمات ) و ( ذوات العشراء ) و ( قعين ) و ( معيد ) و ( رعوان ) .
هـ - وله في فدك : مال بأعلى حرة الرجلاء يقال له ( القصية )(5) .
__________
(1) أحكام الأوقاف : ص 5 .
(2) السنن الكبرى : 6/160 .
(3) السنن الكبرى : 6/160 .
(4) السنن الكبرى : 6/160 ، أحكام الأوقاف : ص9 .
(5) أحكام الأوقاف : ص 9-10 ، أخبار المدينة : 1/136-141 .(1/5)
وله فيها أيضًا واد يدعى : ( رعية ) ، فيه نخل ووشل ، وله فيها أيضًا واد يقال له ( الأسحن ) .
5 - وقف سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
وتصدق سعد بن أبي وقاص بدُوره على أولاده من البنين والبنات ، وأن للمطلقة من بناته أن تسكن فيها غير مُضِرَّة ، ولا مُضَارٍّ بها ، واختصموا فيها عند مروان بن الحكم - أمير المدينة في عصره - لجعلها ميراثاً ، فأنفذها مروان على ما صنع سعد - رضي الله عنه - (1) - أي وقفاً - .
6 - وحبس الزبير بن العوام - رضي الله عنه - داره التي بمكة في الحرامية ، وداره التي بمصر ، وأمواله بالمدينة على ولده فذلك إلى اليوم - أي عصر البيهقي -(2) .
7 - وحبس طلحة بن عبيد الله بن عوف داره بالمدينة المنورة ، فهي صدقة بأيدي ولده ، إلا شيئاً خرج منها(3) .
8 - وحبس عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - داره(4) .
قال البخاري : (( وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجات من آل عمر )) .
9 - وحبس زيد بن ثابت - رضي الله عنه - داره التي عند البقيع ، وداره التي عند المسجد(5) .
10 - وحبس عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أرضه المسماة ( الوهط والوهيط ) في الطائف ، وداره التي بمكة على ولده فذلك إلى اليوم(6) .
وقال ابن شبه : إن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - تصدق بداره التي في المدينة على ولده فهي بأيديهم صدقة .
11 - وحبس خالد بن الوليد - رضي الله عنه - داره التي بالمدينة المنورة(7) .
__________
(1) أحكام الأوقاف : ص 14 ، أخبار المدينة لابن شبه : 1/145-146 .
(2) السنن الكبرى للبيهقي : 6/160 ، فتح الباري : 5/406 .
(3) أخبار المدينة لابن شبه : 1/148 .
(4) السنن الكبرى : 6/ 160 ، أخبار المدينة : 1/154 ، فتح الباري : 5/406 .
(5) المصدر السابق .
(6) المصدر السابق .
(7) أخبار المدينة لابن شبه : 1/150 ، أحكام الأوقاف : ص 14 .(1/6)
12 - ووقف حكيم بن حزام - رضي الله عنه - داره الشارعة في البلاط ، فهي بأيدي ولده إلى اليوم(1) .
13 - ووقف أنس - رضي الله عنه - داراً له بالمدينة المنورة :
قال البخاري : (( ووقف أنس داراً ، فكان إذا قدم نزلها ))(2) لأن سكناه بالعراق .
14- وقف أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وروى ابن شبه بسنده إلى نعيم بن عبد الله قال : (( شهدت أبا هريرة - رضي الله عنه - تصدق بداره حبيساً ))(3) .
15 - وقف عائشة رضي الله عنها :
روى الخصاف بسنده إلى هاشم بن أحمد : (( أن عائشة اشترت داراً ، وكتبت في شرائها : إني اشتريت داراً ، وجعلتها لما اشتريتها له ، فمنها مسكن لفلان ولِعَقِبِه ما بقي بعده إنسان ، ومسكن لفلان ، وليس فيه ولعقبه ، ثم يرد بعد ذلك إلى آل أبي بكر ))(4) .
16 - وقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها :
روى الخصاف بسنده : (( أن أسماء بنت أبي بكر تصدقت بدارها صدقة حبس لا تباع ولا توهب ولا تورث ))(5) .
17 - وقف أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها :
روى الخصاف بسنده عن موسى بن يعقوب عن عمته عن أبيها قال : (( شهدت صدقة أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة حبساً لا تباع ولا توهب ))(6) .
18 - وقف أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - :
روى الخصاف بسنده إلى عبد الله بن بشر ، قال : (( قرأت صدقة أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بالغابة ، أنها تصدقت على مواليها ، وأعقابهم ، وعلى أعقاب أعقابهم ؛ حبساً ، لا تباع ولا توهب ولا تورث تخاصم من يورثها )) فأنفذت(7) .
19 - وقف صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) أخبار المدينة لابن شبه : 1/142 .
(2) فتح الباري : 5/406 .
(3) أخبار المدينة لابن شبه : 1/156 .
(4) أحكام الأوقاف : ص 13 .
(5) أحكام الأوقاف : ص 13 .
(6) المصدر السابق .
(7) المصدر السابق .(1/7)
روى الخصاف بسنده إلى منبت المزني قال : (( شهدت صدقة صفية بنت حيي بدارها لبني عبدان صدقة حبساً لا تباع ولا تورث حتى يرث الله عزوجل الأرض من عليها ))(1) .
20 - وقف أبي أروى الدوسي - رضي الله عنه - :
روى الخصاف بسنده إلى أبي مسورة قال : (( شهدت أبا أروى الدوسي تصدق بأرض لا تباع ولا تورث أبداً ))(2) .
21 - وقف جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - :
روى الخصاف بسنده إلى سالم مولى ثابت عن عمرو بن عبد الله العبسي قال : دخلت على محمد بن جابر بن عبد الله في بيت له ، فقلت : حائطك الذي في موضع كذا وكذا ، قال : ذلك حبس عن أبي جابر ، لا يباع ولا يوهب ولا يورث ))(3) .
22 - وقف سعد بن عبادة - رضي الله عنه - :
روى الخصاف بسنده قال يحيى بن عبد العزيز عن أهله أن سعد بن عبادة تصدق بصدقة عن أمِّه فيها سقي الماء ، ثم حبس عليها مالاً من أمواله ، على أصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ))(4) .
وقد تحدث عن وقف سعد الإمام البخاري في الصحيح ، وفرَّع عليه أحكاماً كثيرة(5) .
23 - وقف عقبه بن عامر - رضي الله عنه - :
روى الخصاف بسنده إلى أبي سعاد الجهني قال : (( أشهدني عقبة بن عامر على دار تصدق بها حبساً ؛ لا تباع ولا توهب ولا تورث على ولده وولد ولده ، فإذا انقرضوا إلى أقرب الناس مني ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها ))(6) .
ومن خلال ما تقدم يمكن أن نخلص إلى الفوائد التالية :
__________
(1) أحكام الأوقاف : ص 14 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق : ص 15 .
(4) أحكام الأوقاف : ص 15 .
(5) صحيح البخاري ، فتح الباري : 5/391 ، 396 .
(6) أحكام الأوقاف : ص 15 .(1/8)
1 - عناية الصحابة رضوان الله عليهم بالأوقاف مهما كان نوعها ، وحبهم للخير والمسارعة إليه . لذا قال الخصاف : (( كان أهل العقبة وبدر قد حبسوا أموالهم على أعقابهم ، وأعقاب أعقابهم ))(1) ، وأهل بدر والعقبة أفضل الصحابة رضوان الله عليهم ، وقال كذلك : (( قال جابر : لا أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس من ماله صدقة مؤبدة ))(2) .
2 - إن الصحابة عرفوا نوعَي الوقف ؛ العام والذَّري ، وهذا واضح من خلال النصوص الوقفية التي كتبوها في وقفياتهم ، وأشهدوا الناس عليهم ، فهذا عمر - رضي الله عنه - يقول : (( للسائل والمحروم ، والضيف ، وذوي القربى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وفي الرقاب ، والفقراء )) فهذه وقف عام ؛ لأن هؤلاء الأصناف ليسوا بمحصورين ، بل هم صنف من الناس يكونون في كل زمان ومكان .
3 - كذلك عرفوا الوقف الذري على الأبناء والأعقاب جيلاً بعد جيل ، فهذا الصحابي عقبة بن عامر - رضي الله عنه - يقول في صدقته : (( إنها حبس ؛ لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، على ولده ، وولد ولده ، فإذا انقرضوا فإلى أقرب الناس مني حتى يرث الله الأرض ومن عليها )) ، ومثل هذا كَتَب جمع من الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم .
4 - إن أغلب الأوقاف كانت من الدور والمساكن ، وهذا يدلنا على أهمية الوقف في مثل هذا النوع من الوقف ، وهو المعروف بعصرنا الحاضر
( بالأربطة ) ومن شاهد نفعها للقريب والبعيد ؛ حض الناس على الإكثار منها ؛ لأن السكنى من أهم مقومات الإنسان في كل عصر ، وقد أوقف بعض الصحابة بعض الأوقاف غير الدور ؛ كالمزارع ، ومن هؤلاء : أم حبيبة رضي الله عنها ، وسعد بن معاذ - رضي الله عنه - أوقف بئراً ، وعثمان - رضي الله عنه - أوقف رومة ، وأبو الدحداح وغيرهم ، فالماء يأتي في الدرجة الثانية بعد الدور .
__________
(1) أحكام الأوقاف : ص 16 .
(2) المصدر السابق..(1/9)
5 - الوقف الذري له مشكلاته القديمة والمعاصرة ، لهذا روي عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - من يعترض عليه ، ومن أشهرهم عائشة رضي الله عنها ، فإنها لما رأت صدقات الناس في عصرها قالت : (( إذا ذكرت صدقات الناس اليوم وإخراج الناس بناتهم منها ، أقول : ما وجدت للناس مثلاً اليوم في صدقاتهم إلا ما قال الله تعالى : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ } (1) ، وما أنكرته عائشة رضي الله عنها نشاهد بعضاً منه إلى اليوم ، ولكن يمكن ضبط ذلك من خلال صك الوقفية أولاً ، ثم رعاية المحاكم الشرعية للوقف مهما كان نوعه ثانياً .
1 - التعريف اللغوي للتوثيق :
للتوثيق في اللغة العربية معان عدة ، اخترت منها معنيين هما :
الأول : الإحكام ، من وثق الشيء - بالضم - وثاقة ، فهو وثيق : بمعنى محكم ، ومنه : وثقت الشيء : إذا أحكمته ، ومنه قولهم : ناقة موثوقة الخلق ؛ بمعنى محكمة .
والوثيق : الشيء المحكم كقولهم : خذ الأمر بالأوثق ؛ أي : الأَسَدِّ المحكم . وعلى هذا المعنى سميت الوثيقة وثيقة ؛ لأنها تحكم ما جرى بين المتعاقدين من معاملة إحكاماً شديداً لا يمكن التخلص منه بسهولة ويسر .
المعنى الثاني : الشد والربط ، من الوِثاق : وهو ما يُشد به من حبل وقيد ونحوهما ، وجمعه : وُثُق ، كرِباط ورُبُط ، ووثقته ؛ بمعنى شددته وربطته حتى لا ينفلت ، وأوثقته : إذا جعلته في الوثاق ، ومنه قوله تعالى : { فَشُدُّوا الوَثَاقَ } (2) ، ومنه الميثاق للعهد ، واستوثقت منه : أخذت الوثيقة .
وعلى هذا المعنى سميت الوثيقة وثيقة : لأنها تشد المتعاقدين بما جرى حتى يصير ميثاقاً عليهما.
__________
(1) الأنعام : 139 .
(2) محمد : 4 .(1/10)
والعقد : نقيض الحل ، يقال : عقدت الحبل ، وعقدت النكاح ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } (1) ، فالعقد : الشد والربط ويطلق أيضاً على العهد ، كما يطلق على الميثاق .
قال الإمام ابن العربي : (( إن الوثائق سميت بذلك لأنها مِن الوثيقة ؛ وهي ربط الشيء لئلا ينفلت ويذهب ، وسميت عقوداً ؛ لأنها ربطت كُتْبَةً كما ربطت قولاً ))(2) .
2 - التعريف الاصطلاحي للتوثيق :
عرف الأستاذ الدكتور نزيه كمال حماد التوثيق بقوله : (( هو : عبارة عن مجموعة من الوسائل التي تؤدي إلى استيفاء الحق عند تعذره من المدين أو إثباته في ذمته عند الإنكار ))(3) .
وهذا التعريف رجحه الدكتور صالح الهليل وقال : وهذا التعريف لعله أولى من غيره ؛ لكونه جامعاً مانعاً(4) .
وهذا التعريف - في نظري - غير جامع ولا مانع إلا إذا قصد توثيق الدَّين خاصة ؛ لأنه قد حصر التوثيق في جزء معين من أنواع المعاملات وهي الديون ، وبإجماع الفقهاء فإن الآية وإن نزلت في الدين والسُّلَف ؛ لكنها ليست مخصوصة به .
والله سبحانه وتعالى شرع التوثيق لكافة الحقوق الشرعية من ديون وعقارات وأموال وغيرها ، مما هو قديم أو حديث ، وليس محصوراً في نوع من أنواع الحقوق ، وكفى بهذا الاعتراض نقضاً لكون التعريف جامعاً مانعاً . وعرفته بقولي :
(( مجموعة من العقود الشرعية المحكمة ، لتأكيد الحق واستقراره في يد صاحبه أو في ذمة الغير ، أو إثباته عند التنازع أمام القضاء ))(5) .
__________
(1) البقرة : 135 .
(2) معجم مقاييس اللغة : 6/85 ، مادة (وثق) .
... تاج العروس : 6/85 ، مادة (وثق) . لسان العرب : مادة (ولي) .
(3) توثيق الديون في الفقه الإسلامية (مقال) مجلة البحث العلمي ، جامعة أم القرى ، العدد 6/1403هـ ، ص41 .
(4) توثيق الديون في الفقه الإسلامي : ص 22 .
(5) علم التوثيق الشرعي : ص 40 .(1/11)
فلعل هذا التعريف اشتمل على التوثيق لكافة أنواع الحقوق الشرعية ؛ عينية أم ديونًا ، عقاراتٍ أو أموالاً ، ولكافة المُلاَّك ؛ من الأعيان أو الأشخاص ، الاعتباريين وغيرهم .
قسم العلماء التوثيق إلى أربعة أنواع(1) ، هي :
النوع الأول : التوثيق بالكتابة :
أمر الله سبحانه وتعالى بالتوثيق بالكتابة في كتابه العزيز بالآية المعروفة عند العلماء بآية ( المداينة ) وهي أطول آية في كتاب الله - عز وجل - فهذه الآية أساس نظام التوثيق في الإسلام ، وهي تتناول الديون الآجلة والحقوق العاجلة .
النوع الثاني : التوثيق بالشهادة :
تضمنت الآية المشار إليها - فيما سبق وهي آية الدين - الإشهاد حال المبايعة ، وقد فصل الفقهاء الحديث عن أحكام الشهادات وتوثيق الحقوق بها ، مما لا يخلو منه كتاب من كتب العلوم الدينية ؛ كالتفسير والحديث والفقه .
النوع الثالث : التوثيق بالأعيان وهو ( الرهن ) :
دل على مشروعية التوثيق بالرهن الكتاب والسنة والإجماع ، وقد فصل الفقهاء الحديث عنه في كتبهم العامة والخاصة ، وهنالك مجموعة من الدراسات الحديثة المعاصرة حول هذا الموضوع .
النوع الرابع : التوثيق بالأشخاص ، وهو ( الضمان ) :
والمقصود به : (( ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه )) .
__________
(1) انظر حول هذا الموضوع الكتب التالية :
... - علم التوثيق الشرعي (للباحث) ، نشر مكتبة الملك فهد الوطنية عام 1424هـ .
... - كتاب توثيق الديون في الفقه الإسلامي ، د.صالح بن عثمان الهليل ، نشر جامعة الإمام عام1421هـ .
... - كتاب دراسات في أصول المداينات أ.د. نزيه كمال حماد ، نشر دار الفاروق ، الطائف ، السعودية .(1/12)
وللفقهاء تعريفات كثيرة له ، ودل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع ، ولا يخلو كتاب فقهي من الحديث عنه ، وهنالك الرسائل المعاصرة المفردة عنه . وقد اهتم بهذه الأنواع جميعاً من تحدث عن التوثيق الشرعي للديون ؛ كالدكتور الهليل ، والأستاذ الدكتور نزيه حماد وغيرهم .
حرص الصحابة رضوان الله عليهم على توثيق الأوقاف ، وذلك بالتوثيق الكتابي ، والتوثيق بالشهادة ، ولعل أول وقفية وصلت إلينا بطرق صحيحة متواترة هي وقفية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وهنالك مجموعة من الوقفيات الأخرى كوقفية عثمان ، وعلي بن
أبي طالب ، وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم ، ذكرت طرفًا منها في كتابي
( علم التوثيق الشرعي )(1) ، وهذا عرض موجز لنماذج مختارة من وقفياتهم ، بعد تعريف الوقفية ، وذكر مراتبها :
تعريف الوقفية :
المراد بالوقفية : (( الصك الذي يكتب فيه الواقف عقد وقفه ، ويبين فيه عقاراته الموقوفة ، وحدودها ، والجهة الموقوف عليها ، وشروطه في مصارف الغلة ، وإدارة الوقف ، أي التولية عليه ، وغير ذلك )) .
وعرفها الشيخ مصطفى الزرقا بقوله : (( هي الصك الذي تدون فيه عقارات الوقف وعقده ، وإرادة الواقف فيه استحقاقاً وتولية ))(2) .
والوقف لا يتوقف صحته على وجود الوقفية وعدمها ، فيكفي فيه النطق والإشهاد وعليه ، ويمكن إثبات الواقف بشيء من طرق الحكم المعروفة عند الفقهاء .
مراتب الوقفيات :
الوقفيات : الصكوك الشرعية الخاصة بالأوقاف ، وتختلف من حيث القوة واللزوم ، والصحة والفساد ، وقد تعتدي عاديات الزمن على أصولها فتنتهب أو تحرق أو تتلف بسبب أو بدون سبب ، ولهذا كانت هذه الوقفيات على مراتب ودرجات ، ذكرها الأستاذ الزرقا وهذا نص ما قاله : (( إن الوقفيات واعتبارها على مراتب :
أولاً : الوقفيات المقضي بصحتها ولزومها ، إذا كانت في سجل قاضيها لا عن زمن متأخر عنه .
__________
(1) الصفحات : 133-139 .
(2) أحكام الأوقاف : ص 126 .(1/13)
ثانياً : الوقفيات المسجلة في سجل المحكمة ، من قِبَل واقفها ، ودُوِّن ملحقُها حُكِم بصحتها ولزومها .
فهذه الوقفيات بنوعيها تعتبر ثابتة المضمون ، ويعمل بها ، ويثبت بها الوقف وشروطه عند الاختلاف ، غير أن النوع الثاني لا يمنع النزاع في صحة الوقف أو لزومه ؛ لعدم الحكم بذلك .
ثالثاً : الوقفيات المسجلة في سجل خاص متأخر غير قاضيها ، من قِبَل غير واقفها .
رابعاً : صور الوقفيات المستخرجة من سجلات المحاكم ، ولو كانت تحمل خاتم قاض وتوقيعه ، إذا كان أصلها مفقوداً من السجل ، أو كانت تخالف الأصل المسجل .
خامساً : صكوك الوقفيات غير المسجلة ، مما يوجد في أيدي بعض المدعين ، فهذه الأنواع الثلاثة لا تعتبر ، ولا يثبت بها الوقف وشروطه ، ومثلها الوقفيات التي توجد في سجلات دوائر الأوقاف اليوم ، وليس لها أصل موافق معتبر في سجلات المحاكم ، فليس لها قوة إثباتية ))(1) .
وهذا التقسيم الذي ذكره تقسيم بديع ، ودقيق ، ولا غرابة أن يصدر من علم مثل الأستاذ الزرقا ، لذا أوردته بحذافيره .
1 - إن أهم نص صحيح وصل إلينا هو نص وقفية الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وقد نص بعض العلماء على أنها من إملاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإرشاده ، وهذا نصها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به عبد الله ؛ عمر بن الخطاب ، أمير المؤمنين ، إن حدث به حدث ، أن ثمغاً ، وصرمة بن الأكوع ، والعبد الذي فيه ، والمائة سهم الذي بخيبر ، ورققية الذي فيه ، والمائة الذي أطعمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوادي ، تليه حفصة ما عاشت ، ثم ذوي الرأي من أهلها ، ولا يباع ، ولا يشترى ، ينفقه حيث رأى ؛ من السائل والمحروم ، وذوي القربى ، ولا حرج على من وَلِيَه إن أكل ، أو آكل ، أو اشترى رقيقاً منه ))(2) .
__________
(1) أحكام الأوقاف : ص 127-128 .
(2) هذا النص أخرجه الإمام أبو داود في سننه : 3/117 رقم (2879) .(1/14)
وفي رواية أبي داود : (( وكتب معيقيب ، وشهد عبد الله بن الأرقم ))(1) .
2 - وثيقة وقفية صدقة لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - على ابنه أبان :
هذا نصها : (( بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به عثمان في حياته ، تصدق بماله الذي بخيبر ، يدعى ( مال ابن أبي الحقيق ) على ابنه أبان بن عثمان صدقة ، بتته بتلة(2) ، لا يشترى أصله أبدًا ، ولا يوهب ولا يورث . شهد علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد وكتب ))(3).
وروى الخصاف أن عثمان تصدق من أمواله على صدقة عمر بن الخطاب وكان الناظر لأوقاف عثمان - رضي الله عنه - ابنه أبان بن عثمان .
3 - نص وقفية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
__________
(1) تخريج الحديث :
... أخرج الإمام البخاري في صحيحه طرفاً منه ، انظر الأرقام : 5/392 ، رقم (2764 ، 2772 ، 2777 ، 2737) ، 4/11 كتاب الوصايا .
... مسلم مع النووي : 11/86 كتاب الوصية .
... أبو داود في سننه : 3/299 رقم (879) ، كتاب الوصايا ، ورقم (2878) .
... الترمذي في الجامع : 3/650 رقم (1375) كتاب الأحكام .
... النسائي في السنن : 6/230 رقم (3597-3605) كتاب الأحباس .
... ابن ماجه في سننه : 2/800 رقم (2396) الصدقات. وغيرهم كثير .
... انظر دراسة علمية بعنوان : ( دراسة وثائقية لأول وثيقة وقفية في الإسلام ، وقفية عمر بن الخطاب ? ) ، للباحث ، نشر في مجلة أوقاف الكويتية [ ص : 101-120] ، العدد (3) السنة الثانية ، رمضان 1423هـ .
(2) بتل الشيء أبانه من غيره ، ومنه قولهم : طلقها بتة وبتلة . القاموس ، مادة بتل .
(3) أحكام الأوقاف للخصاف ، ص 9 . علم التوثيق الشرعي ، ص 134 .(1/15)
ذكرها كاملة الإمام ابن شبه ، وعنه نقلت في كتاب علم التوثيق الشرعي ، قال ابن شبه : قال أبو غسان : (( هذه نسخة كتاب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حرفاً بحرف ، نسختها على نقصان هجائها ، وصورة كتابها ، أخذتها من أبي ، أخذها من حسن بن زيد )) وذكر نص الوقفية(1).. وذكر طرفاً منها غير واحد من أهل العلم قديماً .
4 - نص وقفية سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
وقد ساق ابن شبة وقفية سعد في كتابه أخبار المدينة ، وأشهد عليها ستة من أجلاء عصره(2) .
روى ابن شبة بسنده إلى عائشة بنت سعد قالت : (( صدقة أبي ؛ حبس لا تباع ولا توهب ولا تورث ، وللمردودة أن تسكن غير مُضِرَّةٍ ولا مُضَرٍّ بها ))(3) .
5 - نص من وقفية الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :
روى الخصاف وابن شبه قال أبو غسان - وساق سنده - إلى عروة بن الزبير : أن الزبير بن العوام (( جعل دُوره صدقة على بنيه ، لا تباع ولا تورث ، وإن للمردودة من بناته أن تسكن غير مُضِرَّة ، ولا مضر بها ، وإن استغنت بزوج فليس لها حق ))(4) .
6 - وقفية خالد بن الوليد - رضي الله عنه - :
قال ابن شبة بعد أن ساق السند : (( إن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - حبس داره بالمدينة لا تباع ولا توهب ))(5) .
7 - وقفية زيد بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه - :
__________
(1) ونظراً لطول الوقفية أحيل القارئ إلى المصدر الأصلي كتاب : أخبار المدينة المنورة لابن شبه : 1/136-141 .
وانظر : أحكام الأوقاف للخصاف ، ص 9-10. ، وكتاب علم التوثيق الشرعي ، ص 135-136 .
(2) أخبار المدينة المنورة لابن شبه : 1/147 ، وكتاب علم التوثيق الشرعي : 137 .
(3) أخبار المدينة المنورة لابن شبه : 1/146 .
(4) أخبار المدينة المنورة لابن شبه : 1/142 ، أحكام الأوقاف للخصاف : ص 11 .
(5) أخبار المدينة المنورة لابن شبه : 1/150 ، أحكام الأوقاف للخصاف : ص 14 .(1/16)
ذكر الإمام البيهقي وقفيته ، وقال : (( وكتب في كتاب حبسه : على ما حبس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ))(1) .
وقال الخصاف : (( إن زيد بن ثابت جعل صدقته التي وقفها على سُنَّة صدقة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وكتب كتاباً على كتابه )) .
وقال أيضاً : (( كتب زيد بن ثابت صدقته على كتاب عمر بن الخطاب )) .
8 - وقفية معاذ بن جبل الأنصاري - رضي الله عنه - :
قال الخصاف : (( حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه قال : كان معاذ بن جبل أوسع أنصاري بالمدينة ربعاً ، فتصدق بداره التي يقال لها : ( دار الأنصار ) اليوم ، وكتب صدقته ))(2) .
9 - وقفية عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - :
قال الخصاف : (( إنها كتبت في شرائها لدار اشترتها : (( إني اشتريت داراً وجعلتها وقفاً لما اشتريتها له ، فمنها مسكن لفلان ولعقبه ما بقي بعده إنسان ، ومسكن لفلان وليس فيه لعقبه ، ثم يرد ذلك إلى آل أبي بكر ))(3) .
هذه نصوص مقتطفة من وقفيات الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم أجمعين .
وهذه بعض الفوائد والثمرات التي خلصت إليها من خلال ما سبق :
1 - وَصَلَت إلى عصرنا الحاضر بعض الوقفيات كاملة النص ؛ كوقفية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وهي من أصح النصوص الوقفية التي وصلت إلى عصرنا ، وكذلك نص وقفية عثمان - رضي الله عنه - التي رواها الخصاف ، ونص وقفية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التي رواها ابن شبة ، ونص وقفية سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - .
أما بقية النصوص الوقفية فيذكر الرواة طرفاً منها ، لذا أوردت ما ذكر الرواة لأن هذا هو الممكن الآن ، حسب المصادر التي بيدي .
__________
(1) السنن الكبرى : 6/161 ، أحكام الأوقاف : ص 12 .
(2) أحكام الأوقاف : ص 11-12 .
(3) المصدر السابق : ص 13 .(1/17)
2 - أغلب الصحابة رضوان الله عليهم كتبوا وقفياتهم . وقد يذكر اسم الكاتب كما في وقفية عمر بن الخطاب وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ، وقد لا يذكر إلا على سبيل الإجمال : هكذا : ( وكتب صدقته ) ونحو هذا .
3 - كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كتب كتابة على منوال وقفية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فهذا زيد بن ثابت كتب صدقة على كتاب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وغيره جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - .
4 - إن الصحابة رضوان الله عليهم وثَّقوا جميع وقفياتهم بالكتابة والإشهاد ، وبعدد وافر من الشهود ، كما فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة .
5 - إن تدوين الوقفية كان له الأثر العظيم في حفظ الوقف ؛ فقد يقع النزاع فيه بعد موت الواقف ، وقد تنازع بعض أبناء الصحابة - رضي الله عنهم - ، فلجؤوا إلى الأمراء وبأيديهم الصكوك الوقفية والشهود ، فحكم بما في الصكوك الشرعية ، وهذا مثال :
قال الخصاف : (( إن بعض ورثة سعد بن أبي وقاص أرادوا جعل وقفه ميراثاً ، فاختصموا إلى مروان بن الحكم - والي المدينة في عصر بني أمية - فجمع لها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنفذها على ما صنع سعد ))(1) .
6 - تضمنت كل الوقفيات التي نقلت عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم نصوا على نوع الوقف عاماً كان أو خاصاً ، وهذا واضح جلي من خلال النصوص التي تضمنتها الوقفيات ، وكلهم نصوا على أنها وقف ، سواء أكان عاماً أم خاصًا بقولهم : (( حبساً لا تباع ولا توهب ولا تورث )) ، والبعض يذكر من يؤول إليه الوقف بعد زوال الموقف عليهم .
7 - بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قد يذكر ناظر الوقف في صك الوقف ، كما فعل عمر ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ، والبعض الآخر من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يذكر الناظر .
__________
(1) أحكام الأوقاف : ص 14 .(1/18)
8 - لا يشترط في الموقوف عليه أن يكون قريباً من الموقف عليه ، أو من نسله ، بل لصاحب الوقف أن يعطي القريب والبعيد على درجة سواء ، فالوقف يجوز فيه التفاضل ، ويجوز فيه تخطي القريب إلى البعيد ، لذا قال الإمام ابن حجر في فوائده البديعة - في معرض شرحه لحديث وقف أبي طلحة - ما نصه : (( إنه لا يعتبر في القرابة من يجمعه والواقف أب معين لا رابع ولا غيره ، لأن أُبَيًّا إنما يجتمع مع أبي طلحة في السادس . وأنه لا يجب تقديم القريب على القريب الأبعد ، لأن حساناً وأخاه أقرب إلى أبي طلحة من أُبَيّ ونبيط ومع ذلك فقد أشرك معهما أُبَيًّا ونبيط بن جابر ، وفيه أيضاً : أنه لا يجب الاستيعاب للكل ، لأن بني حرام الذي اجتمع فيه أبو طلحة وحسان كانوا بالمدينة كثيراً ، فضلاً عن عمرو بن مالك الذي يجمع أبا طلحة وأبياً ))(1) ، وهذا من الفقه الدقيق الذي لاحظته كثيراً منه للإمام ابن حجر ، وبودي لو أفرد فقهه في الفتح في كتاب مفرد .
-
__________
(1) فتح الباري : 5/398 .(1/19)