بسم الله الرحمن الرحيم ?
الشروط
في عقد النكاح
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن الله-تعالى- فرض على المسلم القيام بالحقوق والواجبات والوفاء بالعهود قال - سبحانه وتعالى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وكل ما بين المسلم والمسلم من عهد وعقد وشرط فإنه يجب الوفاء به إذا التزم به الطرفان أو التزم به أحدهما ولذلك عظم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أمور الشروط حتى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بالوفاء بها والقيام بحقوقها خاصة إذا كانت هذه الشروط في عقد النكاح والزواج فإذا وقع الزواج والنكاح وكانت هناك شروط بين الزوجين فإن الله - عز وجل - حمّل كل واحدٍ منهما الوفاء بما عليه من شرط ولا يجوز للمسلم أن ينكث العهد ويخلف الوعد ولا يفي بشرط إلا إذا كان مضطراً وأذن له الطرف الثاني - كما سيأتي إن شاء الله تفصيله - ، فالأصل أنه ليس من شيمة المسلم أن يضيع الشروط التي التزم بها ولذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه- : " مقاطع الحقوق عند الشروط ". مقاطع الحقوق أي أن الله - سبحانه وتعالى - جعل على كل إنسان التزم بالشرط جعل عليه حقاً أن يوفي بذلك الشرط فإذا وفى بالشرط فقد أدى الحق كاملاً إلى أهله .
ومن عادة الناس في عقود الزواج والأنكحة أنه تقع بينهم شروط فيشترط ولي المرأة على الزوج شروطاً ويشترط الزوج على زوجته شروطاً وحينئذ يرد السؤال عن موقف الشرع من هذه الشروط ، ما الذي أذن الله به فيفعل ويلزم الوفاء به وما الذي نهي الله عنه فلا يجوز اشتراطه ولا يجوز الالتزام به .(1/1)
ومن هنا كان من الأهمية بمكان أن يعتنى عند بيان حقوق الزواج ببيان الشروط لأن الشرط نوع من الحق فإذا كانت الحقوق يلزم الوفاء بها كذلك الشروط يلزم الوفاء بها ، ومن هنا قال العلماء : إن الحقوق في الزواج منها ما هو شرعي جعله الله - عز وجل - في أصل العقد ومن لوازم العقد ومقتضياته ، ومنها ما هو جعلي بمعنى أنه جعله الزوجان أو واحد منهما فهذا الذي جعل من الطرفين أو من أحدهما هو محل حديثنا اليوم وهو الذي سنبين موقف الشرع منه .
فالشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شروط شرعية ينبغي الوفاء بها ويلزم الطرفان أن يقوما بحقوقها .
القسم الثاني : شروط غير شرعية وهي الشروط المحرمة .
أما الشروط الشرعية فهي تنقسم إلى أقسام فمنها ما هو من لوازم عقد النكاح والمراد بهذا النوع من الشروط أن يشترط ولي المرأة أو تشترط المرأة أو يشترط الزوج أمراً هو من لوازم عقد النكاح ومن أشهر هذه الشروط أن يشترط ولي المرأة على الزوج أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وهذا هو الذي يسميه العلماء الميثاق الغليظ . قال الحسن البصري ، وطاووس بن كيسان ، وقتادة ، والضحاك-رحمة الله على الجميع- في تفسير قوله-تعالى- : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً }. قالوا الغليظ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، أخذ الله الميثاق على الزوج أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان فتلك هي العصمة التي أمر الله - عز وجل - أن يقوم النكاح بها فهذا الشرط لو اشترطه ولي الزوجة أو اشترطته الزوجة على زوجها شرط شرعي هو من مقتضيات عقد النكاح .(1/2)
قال بعض العلماء : كان السلف إذا زوجوا أو أنكحوا الغير اشترطوا عليه وقالوا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وفي حكم هذا الشرط أو مثله ما يقوله العامة اليوم يقول ولي المرأة زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي زوجتك بنتي وأختي على أن تلتزم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرتها والقيام بحقوقها ورعايتها ، قال العلماء : إذا اشترط هذا الشرط وجب الوفاء به ولزم الزوج أن يقوم بتحقيقه وأدائه على وجهه فإذا أضر بالمرأة ناله الإثم-والعياذ بالله- من وجهين : فلو أنه عاشر المرأة ولم يشترط وليها عليه الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان أثم من وجه واحد وهو تضييع حق الله مع ما للمرأة من المظلمة لكن إذا أخذ عليه هذا العهد في عقد النكاح أثم من وجهين-والعياذ بالله- :
أولاً : تضييع حق الله الذي ذكرناه .
وثانياً : أن عليه عهداً لم يوف به ونقض العهود من شيمة أهل النفاق ومن صنيع أهل النار-والعياذ بالله- كما ذكر الله أوصافهم في كتابه ، ولذلك قال العلماء : إن هذا الشرط وإن اعتاده الناس وألفوه لكنه عظيم ، ولذلك وصفه الله بكونه ميثاقاً غليظاً .
فإذاً اشترط ولي المرأة أو اشترطت المرأة الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان فهو شرط شرعي ومن مقتضيات عقد النكاح .
كذلك أيضاً من الشروط المشروعة التي يلزم الوفاء بها أن يتضمن الشرط جلب مصلحة أو درء مفسدة لا يعارض كل منهما شرع الله فتشترط المرأة أو يشترط الزوج مصلحة دينية أو دنيوية ويشترط ولي المرأة مصلحة دينية أو دنيوية وهذه المصلحة التي يشترطها كل منهما لا تتعارض مع الشرع بل قد تتفق معه أما إذا اشترطا أو واحد منهما مصلحة فالمصلحة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أما أن يشترط مصلحة دينية .
القسم الثاني : وإما إن يشترط مصلحة دنيوية .(1/3)
يشترط ولي المرأة مصلحة دينية كأن تقول موليته له أشترط أن يكون زوجي ديناً أو عالماً أو طالب علم أو حافظاً لكتاب الله أو خطيباً أو إماماً أو نحو ذلك من الأوصاف التي هي كمال في الدين وكمال في الطاعة والالتزام ، فهذا شرط ديني والرجل أيضاً يشترطه على المرأة فيقول لوليها اشترط أن تكون حافظة لكتاب الله أو تكون طالبة علم أو نحو ذلك مما هو من كمالات الدين ، كذلك - أيضاً - تكون لمصلحة دنيوية وهذا طبعاً هذا الشرط أفضل شرط ، وأحب شرط إلى الله - عز وجل - ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( فاظفر بذات الدين تربت يداك )) . فخاطب الزوج أن يبحث عن الدين وخاطب أولياء المرأة فقال : (( إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه )) . فهذا الشرط وهو اشتراط المصلحة الدينية الكاملة هو أفضل الشروط وأحبها إلى الله - عز وجل - .
الشرط الدنيوي المحض (المصلحة الدنيوية المحضة) أن يشترط الرجل أو تشترط المرأة مالاً أو مصلحة مالية كأن يشترط ولي المرأة أن يكون الزوج تاجراً أو موظفاً أو له مهنة معينة فهذه مصالح دنيوية فإذا اشترط الزوجان أو اشترط أحدهما مثل هذه الشروط التي لا تخالف شرع الله في جلب المصالح فإنه يجب الوفاء بها ، وحينئذ يلزم ولي المرأة ما التزمه من الشرط في العقد وعلى هذا فلو دخل على المرأة فلم يجدها حافظة لكتاب الله كان له الخيار (أي أن له خيار الفسخ) وذلك لأن المسلمين على شروطهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلمون على شروطهم )) .(1/4)
وفائدة الاشتراط ثبوت الخيار ، كذلك أيضاً يشترط درء المفسدة عن نفسه فيشترط ألا تكون فيها مفسدة دينية كأن لا تكون فاسقة ، أو تشترط المرأة على وليها أن يشترط على الزوج أن لا يكون فاسقاً ، وقد تشترط درء مفسدة دنيوية كأن لا يكون عصبياً أو مريضاً في نفسه أو مريضاً في بدنه أو نحو ذلك من العاهات التي تشترط عدم وجودها في الزوج أو يشترطها الزوج أن لا توجد في المرأة .
مثل هذه الشروط التي تجلب بها المصالح وتدرء بها المفاسد وتكون موافقة للشرع يلزم الوفاء بها وعلى ولي المرأة أن يوفي بها للزوج وعلى الزوج أن يوفي بها لولي المرأة .
لكن اختلف العلماء في شروط فيها جلب مصالح أو درء مفاسد يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر هل هي من النوع الأول أو من النوع الثاني ومن أشهر ما اختلفوا فيه أن تشترط المرأة على زوجها أن لا يخرجها عن والديها أن لا يخرجها من مدينتها أو أن لا يسافر بها أو تشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو أن لا تكون عنده زوجه فمثل هذه الشروط اختلف العلماء-رحمهم الله- فيها هل هي مشروعة أو ليست بمشروعة وسيأتي الكلام عليها في القسم الثالث من الشروط .
أما بالنسبة للقسم الثاني من الشروط وهي الشروط المحرمة: فهذه الشروط المحرمة منها ما يفسد عقد النكاح ومن أمثلته أن يشترط الزوج تأقيت عقد النكاح فيقول أتزوجها شهراً أو أتزوجها سنة أو أتزوجها نصف عام فهذا نكاح متعة ويوجب فساد العقد من أصله .
النوع الثاني أيضاً مما يوجب فساد العقد ويخالف الشرع أن يشترط البدل فيقول زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك أو زوجتك أختي على أن تنكحني بنتك أو أختك فهذا نكاح البدل والشغار وهو نكاح فاسد فهذان النوعان عارضا الشرع ، أما الأول فنكاح متعة وفي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن نكاح المتعة ونكاح المتعة هو النكاح المؤقت بزمان معين كأن يجعله إلى سنة أو إلى شهر أو إلى شهور يحدد أمدها .(1/5)
واختلف العلماء لو أنه تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها أو جاء إلى بلد ينوي الإقامة مدة وأراد أن يتزوج ثم يسافر وهذا كما يسميه العلماء بـ ( زواج الركاض ) والركاض هو الرجل الذي لا يستقر في أرض كأصحاب التجارات ينزلون في الأمصار يطلبون ارزاقاً يتأقت جلوسهم فيها بحسب تلك الأرزاق فيطول مقامهم ويقصر على حسب مصالحهم فهم غير مستقرين فهذا النوع من النكاح وهو أن يتزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يخبر المرأة بنيته أو يخبر ولي المرأة بالنية ويتفقان على ذلك فهذا نكاح متعة وحكمه حكم ما تقدم وبالإجماع أنه محرم ، إذا أخبر ولي الزوجة أنه يريدها لسنة أو يريدها مدة دراسته أو مدة إقامته في المدينة ثم بعد ذلك يطلق فهذا نكاح متعة وهو محرم .
الحالة الثانية : إذا لم يخبره وتزوج المرأة وفي نيته أنه إذا انقضت مصلحته خرج من المدينة وأنه يطلق .(1/6)
فللعلماء فيه وجهان أصحهما أن النكاح صحيح وأنه لا حرج عليه في ذلك لعموم الأدلة ولأن النهي عن التأقيت الظاهر وأما الباطن فلم يرد فيه نهي يدل على تحريمه ؛ ولأن فعل السلف وما كانوا عليه مشهور فيهم أنهم كانوا يرتحلون لطلب العلم وللتجارة وكان الرجل ينزل في المصر والقرية مدة تجارته فيتزوج بها ثم يترك أهله ويسافر إلى بلد آخر فقالوا أنه لا حرج عليه في ذلك وأختار هذا القول جمع من المحققين وأفتى به شيخ الإسلام-رحمة الله عليه- وهو الصحيح كما ذكرنا ولما فيه من درء كثير من المفاسد فإن الرجل تكون عنده المرأة ضعيفة لا تطيق السفر وقد لا ترضى بالخروج معه ويسافر إلى بلاد عديدة يتعرض فيها إلى فتنة وقد يسافر إلى بلد يلزمعليه المكوث بذلك البلد والجلوس فيه ، فإذا قلنا له لا تتزوج بهذه النية وأنت عندك نية الطلاق فإنه لا يأمن الوقوع في الحرام ومصلحته تلزمه بالبقاء في هذا البلد ، ولذلك كان من شرع الله التيسير على مثل هذا خاصة إذا عمت به البلوى كما هو الحال في زماننا ؛ ولكن مع هذا قال العلماء : إنما أجزنا نكاح مثل هذا لأنه ربما غير نيته وصلحت له المرأة فأخذها معه وهذا لاشك أنه قول وجيه وأن عموم الأدلة الدالة على جواز النكاح تقتضي صحته ولأن الحكم في الشرع على الظاهر وهذا لم يظهر للمرأة ولا للولي ما يريده .(1/7)
أما بالنسبة للنوع الثاني من الشروط التي توجب فساد العقد ، فقال العلماء : أن يكون هناك شرط يخالف شرع الله - عز وجل - من كل وجه ، أولاً : ذكرنا أنه يؤقت بالمدة أو يكون نكاح البدل وهو نكاح الشغار ، نكاح الشغار إذا اشترط وقال أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك ، فهذا لا يجوز سواء وجد مهر أو لم يوجد مهر فبعض العلماء يقول إذا وجد مهر جاز النكاح وهذا مروي عن نافع وهو من قول نافع الراوي للحديث عن ابن عمر أنه إذا كان بينهما مهر فلا بأس والصحيح أن نكاح الشغار يحرم مطلقاً والعلة في ذلك أنه إذا تزوج المرأة في مقابل المرأة بمجرد أن يسمع أن المرأة الثانية ظلمت فيظلم التي تحته فإذا ضر هذا بامرأته ضر هذا بامرأته وإذا آذى هذا الأخت أذى هذا أخته ، فأصبح نكاحاً مفضياً إلى الظلم ، ولذلك قال العلماء : أنه تدخله المحابه حتى لربما زوج الشيخ الكبير البنت الصغيرة لشيخ كبير أو لمن لا صلاح في دينه ولا استقامته له فيحابيه في زلت لمصلحة نفسه ، ولذلك قالوا لا يجوز هذا النوع من النكاح لما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن نكاح الشغار .
هناك نوع ثاني من الشروط محرم ولكنه لا يوجب فساد النكاح وإنما يلغى الشرط ويصحح العقد ومن أمثلة ذلك إذا تزوج المرأة واشترط الزوج أو اشترطت المرأة أن يكون المهر بشيء محرم شرعاً كأن يكون المهر خمراً أو لحم خنزير أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يصحح بمهر المثل فينظر إلى مثل مهر المرأة ويصحح العقد به لأن الأصل صحة العقد وبقاؤه ومتى ما كان ممكناً أن نصحح العقد فإننا نصححه لأن القاعدة : " أن الإعمال أولى من الإهمال " .
عرفنا أن هناك من الشروط المحرمة منها ما يوجب فساد عقد النكاح كالمتعة والشغار ومنها ما يوجب فساد المسمى وهو المهر ويصحح بمهر المثل .
هناك نوع ثالث من الشروط يسقط ويبطل ، وبعض العلماء يقول : يبطل ويبطل العقد معه وبعضهم يقول يبطل ويبقى العقد صحيحاً .(1/8)
ومن أمثلة ذلك أن يتزوج المرأة ويشترط أن لا نفقة لها وأن لا يسكنها فإن النفقة حق من مقتضيات عقد النكاح فإذا قال أتزوجك بشرط أن لا أنفق عليك فإنه ليس من حقه ذلك ، وقد عارض شرع الله - عز وجل - فيفسد هذا الشرط في قول طائفة من العلماء ويصحح العقد . قال بعض العلماء يفسد العقد والصحيح أنه يفسد الشرط دون العقد فيبقى العقد صحيحاً ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) ، وهذا يدل على أنه شرط باطل والنكاح بأصله صحيح .
وهنا مسألة وهي أنه يتزوج المرأة ويشترط أن يكون له جزء من راتبها أو يكون له مسماً من الراتب ، فهذا النوع من الشروط فيه نظر والأصل يقتضي عدم جوازه وذلك لما يأتي :
أولاً : أنه يخالف مقتضى الفطرة ، أن الرجل ينفق على المرأة فإذا بالمرأة هي التي تنفق عليه والله-تعالى- يقول : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ، ولذلك قال العلماء : إن الأصل أن ينفق الرجل على المرأة فإذا اشترط عليها أنها تنفق عليه فإن هذا شرط فاسد وليس له حق في هذا الشرط .
أما الدليل الثاني على فساد مثل هذا أنه يعتبر من الظلم وأكل المال بالباطل والله -تعالى- يقول : { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } . فإن المال إذا دفع لا يستحق إلى في مقابل وكونه زوجاً للمرأة لا يقتضي معاوضة بالمال وكونه يقول هي تعمل وهي موظفة وتضر بمصالحي نقول أنت بالخيار بين أمرين :
الأمر الأول : إما أن ترضى بالإضرار بمصالحك التي في بيتك وتسمح لها بالعمل .(1/9)
الأمر الثاني : وإما أن تبقيها في البيت وتترك العمل ، أما أن تأخذ من مالها بدون حق وبدون وجه حق فليس هناك ما يبرر هذا ولو قيل أن المرأة تحتاج إلى رعاية أولادها وأطفالها نقول : من حقك أن تمنعها من العمل وأن تبقى لرعاية أولادها ونص العلماء على أن من حق الزوج أن يلزم زوجته البقاء في البيت ؛ لأنه هو الأصل وأنه إذا سمح لها بعملها فلا إشكال فإذا لم تطب نفسه وألزمها أن تبقى فمن حقه ذلك ، لكن لو كان عنده أطفال وكانت تعمل وأرادت العمل فقال لها إتي بمن يقوم على الأطفال من خادمة أو نحوها وتكون نفقة الخادمة عليك فلا بأس ، قالوا لأنها في الأصل مطالبة بخدمة أولادها . فإذا كانت تريد أن توجد من يقوم مقامها في خدمة الولد وهي الخادمة مع أمن الفتنة والمحافظة عن ما يجب المحافظة عليه فإنه حينئذ لا بأس وليس الزوج آخذاً لهذا القدر من الراتب بدون حق إنما أخذه من جهة كونها مطالبة برعاية الأولاد فإذا كان عملها يحول بينهما وبين الرعاية وجاءت بمن يحفظ أولادها أو يحفظ البيت من كنس وتنظيف وطبخ في حال غيابها وحاجة زوجها فحينئذ لا إشكال ؛ لأن المعاوضة قائمة ولا يعتبر من أكل المال بالباطل ، أما أن يقول لها هكذا لي نصف راتبك أو لي ربع راتبك أو نحو ذلك فليس هناك وجه للمعاوضة وهو داخل في أكل المال بالباطل ، يقول العلماء : أكل المال بالباطل ، أن يأخذ المال وليس في مقابله ما يوجب الأخذ فكونه زوجاً ليس مما يوجب أخذ المال ولو قلنا من حقه أن يأخذ من راتبها بحكم الزوجية لكان من حقه أن يأخذ من إرثها وما تأخذه من والدها وما يكون لها من الهبات لأن هذا كله خارج من أصل واحد وهو مقام الزوجية ولكن إذا اعتذر بضياع حقوقه أو ضياع حاجته في داخل بيته من رعاية لأولاده أو رعاية لطعامه وشرابه فنقول تقم المرأة من يخدم ويقوم بتلك الرعاية ويكون ذلك على الوجه المعروف ولا يأخذ من الراتب أصلاً .(1/10)
هذا بالنسبة لمسألة اشتراط النفقة والمقصود أنه لا يجوز أن يشترط الرجل على المرأة أن تنفق عليه وإذا حصل هذا الشرط فإنه باطل ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( كل شرط ليس بكتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط )) .
أما النوع الثالث أو القسم الثالث : فهي الشروط التي اختلف العلماء هل هي مشروعة أو ليست بمشروعة ، قالوا من أمثلتها أن تشترط المرأة أن لا تخرج من بيتها أو أن لا تخرج من عند أهلها أو أن لا يسافر بها ، أن لا تخرج من بيتها ، امرأة تريد أن تبقى عند أهلها وفي بيت أبيها فيتزوج وتكون في داخل البيت أو تشترط عليه أن لا يبعدها عن والديها كأن تشترط الحي أن تسكن في الحي الذي فيها والداه أو أن لا يخرجها من مدينتها كأن يكون من مدينة أخرى وتخشى أن يسافر بها إلى مدينته فقال : اشترط أن تبقى بنتي ولا تسافر أو تشترط أن لا تسافر معه ، كأن يكون رجل صاحب تجارة وتخاف من السفر معه فقالت اشترط أن لا أخرج معك في سفر ، فمثل هذا الشروط اختلف العلماء فيها وهي تنقسم في الأصل إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون هناك مبرر للشرط بأن توجد حاجة ضرورية أو حاجة ملحة لولي المرأة أو للمرأة لكي تشترط هذا الشرط ومن أمثلة ذلك : أن يكون للمرأة والدان وهذان الوالدان ضعيفان أو أحدهما مريض ويحتاجان إلى رعاية و يحتاجان إلى عناية البنت وهي تريد أن تكون بجوار أبيها وأمها من أجل البر وحفظ حقيهما خاصة إذا لم يوجد أحد فهي مضطرة ومحتاجة لمثل هذا الشرط فحينئذ مثل هذا الشرط ينبغي للزوج أن يعينها عليه وهو مأجور والله يبارك للزوج في زوجته إذا أعانها على طاعة الله وبالأخص بر الوالدين فحينئذ يحاول أن يعينها على هذا الشرط وهو شرط له وجهه ، لكن إذا اشترط ولي المرأة أن لا تخرج من بيته وأن لا تسافر عنه أيضاً له حالتان :(1/11)
الحالة الأولى : أما أن يشترط بسبب كأن يرى البنت صغيرة في السن أو طائشة ويريدها أن تكون قريبة منه ويخشى إن سافر بها الزوج أن الزوج متساهل وقد تقع بنته في فتنة أو حرام أو يخشى أن يسافر بها الزوج إلى أهله وبينه وبين أهله عداوة أو يخشى أن يسافر بها الزوج وهي صغيرة طائشة قد تقع في المحظور والحرام ؛ لأن البيئة التي فيها الزوج فيها تساهل أو نحو ذلك فإن وجد ما يبرر ذلك من ولي المرأة كان شرطاً شرعياً ، ومن حقه أن يشترط التأقيت فيشترط إلى سن معين وإلى حد معين فيقول أشترط أن لا تخرج بنتي من المدينة إلى أن تبلغ خمسة عشرة سنة أو عشرين سنة خوفاً من الضرر عليها ، هذا شرط يقصد به دفع الضرر.
قال بعض العلماء : من حق الولي أن يشترط ذلك ؛ لأنه شرط في مصلحة الزوج والزوجة وفيه إقامة لطاعة الله - عز وجل - وحفظ لها عن الحرام .
لكن إذا كان هذا الشرط فيه شيء من الفضول كأن تشترط أن لا تخرج من بيت أبيها أو لا تخرج من جوار والديها وليست هناك حاجة من الوالدين أو تشترط أن لا تخرج من مدينتها وليس هناك ما يبرر هذا الشرط أو تشترط أن لا يتزوج عليها أو أن لا تكون عنده زوجه فهذا النوع من الشروط للعلماء فيه قولان :(1/12)
القول الأول : يقول إنه شرط لازم وصحيح ويجب على الزوج أن يفي به وأنها إذا قالت له اشترط أن لا تتزوج علي مثلاً وأراد أن يتزوج عليها في أي يوم بعد عقد النكاح فإن من حقها أن تطالب بشرطها وحينئذ يكون الفسخ أي ينفسخ النكاح ، يكون لها الخيار وينفسخ النكاح ، هذا بناء على أنه شرط بينه وبينها وبهذا القول قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه- ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال به معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص-رضي الله عن الجميع- أربعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرون شرعية مثل هذا الشرط ، وكان بعض التابعين يفتي به وهو قول شريح القاضي المشهور ، وكذلك قال به عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ، وهو مذهب الحنابلة أنها إذا اشترطت هذا الشرط أن لا تخرج من مدينتها أو أن لا يسافر بها أو أن لا يتزوج عليها أو أن لا تكون عنده زوجه من قبل أن هذا الشرط صحيح .
القول الثاني : وخالف هؤلاء جمهور العلماء سلفاً وخلفاً فقالوا ليس من حقها هذا الشرط وإذا وقع هذا الشرط فإنه شرط باطل وممن قال بهذا القول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وهو رواية ثانية عن عمر بن الخطاب ، كانوا يقولون إذا اشترطت فإن هذا الشرط لاغٍ رفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - امرأة اشترطت على بعلها واشترط أهلها أن لا تخرج معه فلما اشترطت هذا الشرط قال عمر - رضي الله عنه - : المرأة مع زوجها أي يخرج بها إلى حيث شاء .
وأثر عن علي - رضي الله عنه - وأرضاه- أنه رفعة إليه قضية في اشتراط امرأة لمثل هذا الشرط فقال - رضي الله عنه - سبق شرط الله شرطها ، أي أن الله - عز وجل - جعل الرجل قائماً على المرأة وهذا الشرط جاء تبع فلا تأثير له لأن الأصل أن تكون تبعاً لبعلها وزوجها .
وهكذا بالنسبة إذا اشترطت أن لا يتزوج عليها فإن الله فصل هذا الأمر وأحله وأباحه.(1/13)
والذين قالوا أنه يجب الوفاء بهذا الشرط وهم أصحاب القول الأول احتجوا بأدلة :
أولها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )). قالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الشرط في عقد النكاح أحق ما يفي به المسلم فقال : (( إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )) وهذا قد استحل فرج امرأته بشرط وهو أن لا يسافر بها واستحله بشرط أن لا يتزوج عليها واستحله بشرط أن لا تكون عنده امرأة ، فإذا حصل أو كان الأمر على خلاف ذلك كان من حق المرأة أن تطالب بفسخ النكاح وتمتنع .
وقالوا : أيضاً إن المرأة قد تشترط هذه الشروط كأن تكون شديدة الغيرة فتخشى أن تضيع حق بعلها فمن حقها أن تشترط هذا ويجب على الزوج أن يفي.
والذين قالوا إن هذا الشرط باطل يحتجوا بما ثبت في الصحيح عنه-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) . قالوا إن قوله : (( كل شرط ليس في كتاب الله )) يوجب علينا في الشروط أن نعرضها على شرع الله فما كان منها يحرم الحلال أو يحل الحرام فإننا نرده ولا عبرة به وهو باطل .(1/14)
فنظرنا فيها وهي تقول لا تتزوج علي وأشترط أن لا تكون عندك زوجة سابقة فإذا بها تحرم عليه ما أحل الله ووجدناه خلاف شرع الله - عز وجل - وخلاف دين الله فانطبق عليه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) ، كذلك أيضاً وجدناها إذا قالت له أن لا تكون عندك زوجه فإن الأصل أن الرجل له أن يتزوج قبل هذه المرأة وله أن يتزوج بعدها وله أن يجمع بين أكثر من واحدة ما دام في الحد الذي حده الشرع فإذا جاءت تقول له بشرط أن لا تكون عندك زوجة فقد منعته من زوجته الأولى ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفيء ما في إنائها )) قالوا : هذا عام ، فإذا قلنا بجواز الشرط فكأنه حينئذ سيقدم على تطليق الأولى وإدخال الثانية وهذا هو الذي حرمه الله ورسوله .(1/15)
فنحن إذا جئنا ننظر في الشروط ينبغي أن نتقيد فيها بما ورد في الشرع فليس في شرع الله تحريم الزوجة الثانية وليس في شرع الله - عز وجل - أن يبقى الرجل منحصراً مع زوجته في مكان معين ، بل إن الذي في شرع الله كل ذلك كله وإباحته ، وبناءاً عليه قالوا إن هذا الشرط باطل ونبقى على عموم قول كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، ثم قالوا أنتم تستدلون بقوله إن أحق ما وفيتم به من الشروط إن أحق قوله أحق يدل على أن الشرط في ذاته حق وليس بباطل فإذا كان الشرط في ذاته باطل فليس بحق ولا بأحق وحينئذ يكون قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( إن أحق ما وفيتم به من الشروط )) ، أي الذي وافق شرع الله واتفق مع هدي الإسلام في الزواج فإذا جاءت المرأة تشترط شيئاً خلاف ذلك فإنه يلغى شرطها ولا يعتد به وهذا القول هو أولى القولين للصواب أنه لا عبرة بمثل هذا الشرط ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( قضاء الله أحق وشرط الله أوثق )) ، وعليه فإنه نرى أن عموم قوله : (( كل شرط ليس في كتاب الله )) شاملاً لهذه المسألة التي معنا ، وليس من حق المرأة أن تشترط أن لا تكون هناك سابقة ولا لاحقه ، بل إن أصحاب القول الأول يوافقون أصحاب القول الثاني ويقولون لو أراد أن يكتب العقد أو يعقد على امرأة فقال ولي المرأة اشترط وأهل الزوجة يعلمون أن عنده زوجه سابقة فقالوا له نشترط عليك أن تطلق الأولى بالإجماع أنه حرام ، وأنه لا يجوز وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد في مسنده-رحمه الله- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينكح الرجل بطلاق الأخرى ، أي أن ينكح على المرأة على أن يطلق التي قبلها ، وعلى هذا فإننا نرى أن الشرع من حيث هو لا يقر مثل هذا ولا يجيزه .(1/16)
ثم انظر-رحمك الله- إذا قلنا أن من حق المرأة أن تشترط أن لا تكون هناك سابقة وأن لا تكون هناك لاحقة فدخل الرجل عليها ورضي بهذا الشرط فإذا بالمرأة تغير جمالها أو ذهب ما يعينه على العفة منها إذا به يبقى وهو يخشى على نفسه الفتنة فتنجب له الأطفال فيبقى حائراً إن جاء يتزوج الثانية فإن الأولى ستبين منه وإن جاء يبقى معها لا يأمن الوقوع في الحرام ، ولذلك هذا الشرط آثاره والنتائج التي تترتب عليه فيها أضرار عظيمة .
الرجل إذا لزمه هذا الشرط معنى ذلك أن المرأة يكون لها الخيار وحينئذ إذا أراد أن يتزوج عليها الثانية يكون من حقها أن تفسخ النكاح وتقول : أطالب بحقي فتنفنسخ بطلقة لا رجعة له عليها وحينئذٍ إذا كان الأمر كذلك سيتشتت أطفاله وقد لا يرضى بشتات أطفاله لأن الله - عز وجل - علق القلوب وجبل النفوس على حب الولد ، الولد مجبنه مبخله ، كان الصحابي إذا أراد الهجرة يريد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تعلق به ولده امتنع من الهجرة من فتنة الولد ، فهذا الرجل إذا تزوج ولزمه هذا الشرط وقلنا يلزمه وهو يعلم أنه ستتطلق منه امرأته وأولاده سيضيعون كيف سيقدم على الثانية فيبقى بين نارين وبين أمرين أحلاهما مر فإما أن يبقى مع المرأة ويقع في الحرام وإما أن يبين ما بينه وبينها فيتشتت أطفاله ويكون في ذلك من المفاسد ما الله به عليم .
وعلى هذا فإن أصح القولين قول الجمهور أن هذا الشرط لا يعتد به ولا يلزم الوفاء به ؛ لأنه شرط يعارض شرع الله .(1/17)
وهذه الشروط التي ذكرناها ، الشروط المشروعة والممنوعة أولاً ينبغي للمسلم أن يلتزم بما أمر الله به وأن لا يشترط إلا ما فيه صلاح دينه ودنياه وآخرته ، وعلى ولي المرأة أيضاً أن يشترط ما فيه صلاح امرأته في الدين والدنيا والآخرة لأن الولي إنما نصب من أجل النظر في المصلحة ولا ينبغي على ولي المرأة ولا على الزوج أن يتخذا من الشروط وسيلة للإضرار ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا ضرر ولا ضرار )) . فلا ينبغي أن يتخذ كل منهما الشروط وسيلة للإضرار بالآخر بل ينبغي أن تكون الشروط معينة على طاعة الله ومعينة على الوصول إلى ما يرجى من النكاح على الوجه الذي أذن الله به ، والله تعالى أعلم .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حق الزوج
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :(1/18)
فإن الله فرض الفرائض والواجبات وبين الحقوق والأمانات وكلف بها المؤمنين والمؤمنات وجعلها شريعة لعبادة أجمعين وهذه الفرائض والواجبات لا سعادة للمؤمن إلا بالقيام بها وأدائها على وجهها حتى يكون ذلك أدعى لرضوان الله عنه قال - عز وجل - في كتابه المبين : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً @ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } حمل المؤمن الأمانة على ظهره والله سائله أسئلة عنها يوم القيامة بين يديه ومن هذه الحقوق والواجبات التي فرض الله على المؤمنين والمؤمنات حقوق الأزواج والزوجات جعلها الله أمانة في عنق كلٍ من الزوج والزوجة وحملهم المسؤولية هذه لحقوق أمر الله بها في كتابه المبين ، وعلى لسان رسوله المصطفى الأمين - صلى الله عليه وسلم - أمر الله بها من فوق سبع سموات وأمر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها العلماء والصلحاء والأتقياء في كل زمان ومكان أمروا بها لعلمهم أن سعادة البيوت الزوجية موقوفةً على أداء هذه الحقوق ورعاية هذه الواجبات وأنك إذا رأيت ذلك البيت المسلم الذي يحفظ فيه الزوج حق زوجته وتحفظ فيه الزوجة حق زوجها ويتقي الله كلٌ منهما في الآخر إذا نظرت عيناك إلى ذلك البيت المسلم الذي يقوم على أداء الأمانات والواجبات ورعاية الحقوق والأمانات رأيت السعادة في ذلك البيت المسلم ورأيت الطمأنينة ورأيت المودة والرحمة التي أخبر الله عنها في كتابه المبين .(1/19)
كتب الله السعادة لبيوت قامت على رعاية الحقوق وأداء الأمانة كتب الله السعادة لكل زوج وزوجة يتقي الله - عز وجل - ويراقب الله فيما أوجب عليه وليس ذلك بغريب ؛ لأن طاعة الله - عز وجل - مظنة كل خير وبركة وسبيل لكل رحمة ونعمة ، ولذلك وعد الله كل مؤمن ومؤمنة قام بحقه وعده بالسعادة والحياة الطبية كما قال - سبحانه وتعالى - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } فأخبر الله - سبحانه وتعالى - أنه يكتب الحياة الطيبة لمن قام بحقوق الإيمان ومن ذلك أداء الأمانات والمسؤوليات وإذا ضيع الزوجان أو ضيع واحد منهما حقوق الزوجية وكان في جهل أو تجاهل لهذه الحقوق تنكد العيش وتنغصت الحياة وأصبحت جحيماً لا يطاق يدخل الرجل إلى بيت الزوجية بقلب منكسر وفؤاد مجروح لا يسمع ما يرضيه ولا يرى ما تقربه عينه ، وهكذا المرأة تعيس قد ضاعت حقوقها وضيع مالها عند ذلك تكون الحياة الضنكة والعيشة المليئة بالشقاء التي وعد الله بها من تنكب عن سبيله وخرج عن هدي كتابه أن أداء حقوق الزوجين أمانه عظيمة ومسؤولية كبيرة كانت الأمة الإسلامية ترعى هذه الأمانات حينما كان الأباء والأمهات يقمن بالواجب تجاه الأبناء والبنات فلا يدخل الابن إلى بيت الزوجية إلا وقد عرف ماله وما عليه ولا تدخل البنت بيت إلى الزوجية إلا وقد عرفت ما لها وما عليها وقد رغب كلٌ منهما في القيام بما عليه وأدائه على وجه ورهب من تضيع ذلك لما حفظ الأزواج والزوجات وحفظ الأباء والأمهات مهمة التوجيه والعمل استقرت بيوت المسلمين ولما صارت العصور المتأخرة وصار الجهل متفشياً بين كثير من المسلمين إلا من رحم الله تجاهل الناس حقوق الزوجية وأصبحت الحياة الزوجية تسير بالأهواء وتسير كيفما يرد كلٌ من الزوجين عندها كثرت المشكلات وتبدد شمل الأزواج والزوجات وعظمة المصائب والخلافات وجنى ما كان من وراءها من شر(1/20)
وبلاء الأبناء والبنات لذلك كان من الأهمية بمكان أن يعتني ببيان حقوق الزوجين وما ينبغي على كل منهما أن يرعاه تجاه الآخر وهناك أمران مهمان هما من أعظم الأسباب التي تعين على أداء الحقوق الزوجية ورعايتها والقيام بها على وجهها .
أما الأمر الأول : فتقوى من الله - عز وجل - غيبتها قلوب الأزواج والزوجات فالتقي والتقية كلٌ منهما حر أن يقوم بالحقوق على أتم وجوهها وأكملها ، ولذلك قال رجل للحسن البصري : - يا إمام - عندي بنت لمن أزوجها ؟ قال : زوجها التقي فإنه إذا أمسكها برها وإذا طلقها لم يظلمها فإذا كان كلٌ من الزوجين في قلبه تقوى من الله - عز وجل - وخشية ومراقبة لله - سبحانه وتعالى - كان ذلك أدعى للقيام بالحقوق على وجهها وهذا ما يسمى بـ ( الوازع الديني ) فإن الله - سبحانه وتعالى - قذف نور التقوى في القلوب وأصلح به ما يكون من الجوارح قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
أما الأمر الثاني : فهو البيئة والقرناء فإن للبيئة أثراً كبيراً في الدعوة للقيام بالحقوق وانظر إلى كل زوج نشأ في بيئة صالحة تربي فيها على الكتاب والسنة واهتدى فيها بهدي السلف الصالح للأمه تجده حافظاً لحقوق زوجة قائم بما أوجب الله عليه في بيته وكذلك المرأة الصالحة إذا رزقت بالبيئة الصالحة كان ذلك خير معين لها للقيام بحقوق بعلها وهذان الأمران مهمان جداً لصلاح البيوت ولاصلاحها والقيام بحقوق الزوجين .
وسيكون حديثنا - إن شاء الله - في هذا المجلس المبارك عن حق الزوج على زوجته .
وهذا الحق ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : حق معنوي .
القسم الثاني : حق مادي .(1/21)
فأما الحق المعنوي فإن الله - عز وجل - جعل للأزواج حق القوامة على الزوجات ولا يمكن لبيوت الزوجية أن تستقر وأن تقوم على الوجه المطلوب إلا إذا كان هذا الحق محفوظاً من المرأة لزوجها جعل الله في الرجل خصائص ليست في المرأة جعل فيه القوة والصبر والتحمل فهو أقدر على القيادة وعلى تحمل المسؤولية والإطلاع بالمهمات ، ولذلك فضل الله الرجال على النساء وكان من دلائل تفضيله أن جعل النبوة في الرجال وهي افضل ما يهب الله - عز وجل - ويعطي ، ولذلك قال العلماء : إن الله فضل الرجال من هذا الوجه لما جبلهم عليه وفطرهم عليه من القوة في الخلقة وهذا يقتضي من المرأة أن تكون تحت الرجل ولا يقتضي أن يكون الرجل تحت المرأة أو تحاول المرأة أن تكون مساوية للرجل ومنافسة له حق القوامة يقوم على أمرين مهمين :
أحدهما : تدبير الأمور والشؤون عن طريق الاجتهاد والنظر فالرجل هو الأحق بالنظر في الأصح والأقوم لبيته وأهله وولده .(1/22)
وأما الأمر الثاني : فهو تطبيق ما رأي صلاحه وأداه إليه اجتهاده فهو أحق بهذين الأمرين وقد جعل الله - عز وجل - في الرجال من الخصائص في النظر والمعرفة ما ليس في النساء ؛ لأن الرجل يخالط أكثر من المرأة ولو خالطت المرأة الرجال فإن مخالطتها قاصرة مهما فعلت ومهما كانت ؛ لأن الفطرة لا تتبدل ولا تتغير يقول العلماء : حق القوامة حق توجيه وإرشاد وتعليم وليس بحق استبداد واستبعاد وقصر وقهر وأذية وإضرار وهذا الحق أشار الله إليه بقوله : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإذا كانت المرأة تعترف للرجل بهذا الحق وشؤون البيت تخضع فيها المرأة لرأي الرجل واجتهاده وتدبر من الرجل ولا يمنع أن يكون هناك حظ لمشاركة المرأة بالرأي استقامت الأمور ؛ لكن أن تحاول المرأة أن تتدخل في الصغير والكبير والجليل والحقير وأن يكون رأيها هو الذي يعمل به وهو الذي يفرض حتى إنها ربما تحاول أغراء زوجها بقبول رأيها فإن امتنع آذته ونكدت عليه ونغصت حياته وربما دفعت أولاده وأبنائه وبناته من أجل أن يعدل الرجل عن رأيه ويصبح رأيها هو الماضي هذا الحق حق القوامة إذا فسدته المرأة بهذه التصرفات تنكد العيش وكان أول من يجنى سوء العاقبة هو المرأة ، ولذلك أفساد المرأة لأبنائه وبناتها وأفسادها على زوجها وتركها لهذا الحق وعدم قيامها به على وجه من أعظم المصائب إذ يترتب على ذلك شعور الرجل بالنقص وشعوره بأنه ظلم وأنه قد أخذ حقه خاصة إذا أفسد عليه أولاده وأصبح لا يستطيع أن يبت في قضية ولا يبت في مسألة إلا وقد تدخلت المرأة وأضرت وأفسدت حتى ربما كره النظر في أموره ، وفي بعض الأحيان خاصةً عند كبر الرجل قد ييئس الرجل ويترك زمام الأمور بسبب أذية المرأة وأفسادها عليه هذا الحق بقاءه والقيام به صلاح للبيوت ذهابه وفساده دمار وشقاء ، ولذلك إذا عود تعودة المرأة على التدخل في شؤون الرجل استرجلت(1/23)
وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عاقبة هذا الضباع لهذا الحق بقوله : (( لعن الله المسترجلات من النساء )) فالمرأة التي تتدخل في شؤون الزوج وتتقتححم في أوامره واجتهاداته ونظرة فيه شي من الاسترجال لا ترضى أن تكون تحت الرجل وتريد أن تكون إما مساوية له ، أو تظهر أنها أعلم وأحكم وأكثر دراية وخبرة تفرع عن هذا الحق وهو حق القوامة تفرع عليه لزوم الطاعة ، ولذلك يعتبره العلماء الحق الثاني فالمرأة مأمورة بأن تطيع الرجل وأن تكون تحته وهذا هو الأصل لأن الله - عز وجل - فضل الرجل عليها ؛ ولكن بشرط أن يكون أمره ونهيه موافق لشرع الله - عز وجل - تفرع حق الطاعة فتطيع المرأة بعلها وتلتزم بما يأمر بها وينهاها عنه وهذا هو الحق الثاني من حقوق الرجل على امرأته وأمر الرجل لامرأته تطيعه فيه إن كان واجباً في واجب وفرض صار فرضاً آكد كأن يأمرها بشيء من فرائض الله وقد أشار الله إلى ذلك بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } فجعل الأمر للرجل وجعل له حق التوجيه لأمرته وأثنى على نبي من أنبيائه فقال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا @ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } فلابد للزوجة من أن تطيع زوجها .(1/24)
ومن الأمور المهمة في الطاعة أن تطيعه في حق نفسه خاصة إذا دعاها لاعفاف نفسه عن الحرام وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تقصير المرأة في طاعة الرجل إذا دعاها لاعفاف نفسه أنه يوجب لعنة الله لها قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضباناً عليها باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح )) متفق عليه فدل هذا على أنه لا يجوز للمرأة أن تعصى زوجها في أوامره وبالأخص إذا كانت في طاعة الله كالأمر بفرائض الله وفي خاصة نفسه كحقه في اعفاف نفسه عن الحرام .
ويستثنى من ذلك كما ذكر الفقهاء : أن يكون بالمرأة عذر يمنع أو لا تستطيع معه أن تقوم بحقه إذا دعاها إليه فإذا كانت مريضة ولا تستطيع ومرضها يضر بها كان من حقها أن تعتذر ومع ذلك يقول العلماء : ينبغي أن تتلطف وأن يكون اعتذارها بطريقة تشعره أنه أمر ليس بيدها .
كذلك أيضاً من حقه في الطاعة أن لا تخرج من البيت إلا بإذنه ، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا في قوله : (( إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فليأذن لها )) قال العلماء : إذا كانت المرأة تريد الخروج للصلاة التي هي أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين ولا تستطيع أن تخرج لهذه الفريضة إلا بإذن زوجها وسؤاله ذلك فمن باب أولى أن يكون لخروجها لأمور الدنيا ، وقد نص العلماء على أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا أن يأذن لها زوجها وأنها إذا خرجت بدون إذن الزوج أو اعتادت الخروج من دون إذن الزوج أن ذلك يعتبر من النشوز ومن العصيان والتمرد خاصةً إذا واجهت الرجل بأنها حره في نفسها وأنها تفعل ما تشاء كأنها بذلك تعرض عن أمر الله بطاعتها لبعلها وتعرض عن شرع الله بالتزامها للقرار في بيتها فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها .(1/25)
تفرع على ذلك المسألة الفقهية إن خرجت المرأة من بيت زوجها وبقيت في بيت أهلها بدون إذن الزوج سقط حقها في النفقة وقد أجمع العلماء-رحمهم الله- على أنها إذا امتنعت وبقيت في بيت أهلها وخرجت من بيت زوجها من دون إذنه وأصرت على البقاء بعيد عن بيتها ولم تعود أنه لا حق لها في النفقة .
كذلك أيضاً من حقه عليها أن تكون أمينة حافظة لحقوق بعلها والأمانة صفة من أجل صفات المؤمنين وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا كان يوم القيامة وضرب الصراط على متن جهنم أوتي بالأمانة والرحم فقامتا على جنبتي الصراط قال بعض العلماء : لا يسلم من الصراط خائن أمانة أو قاطع رحم فأمانة المرأة تستلزم منها أمور :
الأول : ألا تأذن لأحد أن يدخل بيت زوجها إلاَّ إذا كان الزوج قد أذن لها بدخول ذلك الداخل والمستأذن وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله في خطبة حجه الوداع : (( ولا يطأن فرشكم إلا من ترضون أي لا يأذن بدخول أحد إلى بيوتكم إلا من ترضون دخوله )) فدل هذا على أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن لأحد بالدخول إلى بيت زوجها وبعلها إلا أن يأذن لها الزوج بذلك ، ولذلك قال العلماء : إذا ضيعت المرأة هذا الحق لا تأمن سوء العاقبة لأنها إذا أذنت لرجل لم يأذن الرجل ( الزوج ) بدخوله فإنه لا تأمن أن يسيء ظنه بها وحينئذ يكون من المشاكل مشكلات ما لا يخفى يكون من المشكلات والعواقب والوخيمة ما لا يخفى .(1/26)
كذلك أيضاً من حقه عليها قياماً لهذه الأمانة ورعاية لها أن تحفظ مال الرجل فلا تضيع المال ولا تسرف في الأنفاق فإذا أعطاها المال أو ائتمنها على أمواله ينبغي أن تكون الحكيمة الرشيدة التي تضع الأمور في نصابها ولا تضيع مال بعلها بأهوائها وشهواتها كذلك يتفرع عليه أن تحفظ حق الزوج في فراشه فلا تخونه والخائن فيه نوع من الغدر لأن الزوج إذا أمن زوجته فقد وكل الله - جل جلاله - رقيباً عليها ووكل الله حسيباً ومطلع على خافتتها فإن غدرت به وخانته فقد نكثت عهد الله الذي بينها وبينه مع ما فيه من عصيانها لله - عز وجل - فينبغي للمرأة أن تحفظ فرجها ؛ لأن الله استرعاها أمينة على ماء الرجل وعلى عرض الرجل وعلى ذرية الرجل ، ولذلك إذا تساهلت واسترسلت أو فتحت على نفسها باب الفتنة ووقعت في الحرام أفسدت على الرجل ذريته وأدخلت عليه ما ليس من ولده يأكل من طعامه ويشرب من شرابه وينظر إلى عرضه ويرثه وكل ذلك بالباطل وبدون حق ولقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما رأى الرجل يريد أن يطئ المسبية في سبي أو طاس وهي حامل فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أيريد أن يغذوه في سمعه وبصره ؟ )) يعني هل يريد أن يطئ هذه الأمة المسبيه وهي حامل من غيره فيغتذي جنينها في بماءه في سمعه وبصره أيغذوه في سمعه وبصره لقد هممت أن العنه لعنة تدخل معه في قبره .(1/27)
قال العلماء : إذا كان هذا بعد التخلق واكتمال الجنين أو يكاد أن يكتمل لأنها قد حملت وليس الأمر فقط إلا باغتذاءه بالسمع والبصر فكيف بامرأة أخلت غريباً كلاً على رجل بكليته على رجل فهو أمر عظيم ، ولذلك أثنى الله من فوق سبع سموات على المؤمنات الحافظات القانتات فقال - سبحانه وتعالى - : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } فالمرأة إذا غاب عنها زوجها تحفظ عرضه وإذا استأذنت أن تخرج لمان تكون صادقة أمينة تراقب الله - عز وجل - وتحفظ عرض الرجل لأنها ضعيفة ولا تأمن أن تقع في الحرام بإغراء أو بفتنة خاصة إذا فسد الزمان ولا تأمن على نفسها فمن حق البعل على زوجته أن تحفظ له عرضه وأن تصونه من هذا الحرام .(1/28)
وكذلك أيضاً من الأمانة أن تحفظ أسرار الزوج وأموره الخاصة ومن أسراره التي تكون بينه وبينها فإذا تحدثت بخاصة ما يكون بينها وبين بعلها فإن الله يمقتها ومما يوجب المقت أن يتحدث الرجل بما يكون بينه وبين المرأة وتتحدث المرأة بما يكون بينها وبين بعلها ولو أخذ ذلك على سبيل المزح ولو أخذ ذلك على سبيل اللعب واللهو { تَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، فالمرأة تحفظ هذه الأسرار وتجعل نصب عينيها الجنة والنار في جميع ما يكون من الأمور الخاصة بالزوج ثم تحفظ جميع ما تعرفه عن الزوج في أعماله وفي أقواله وأخلاقه وتصرفاته خاصة إذا ائتمنها على الأسرار لا يجوز أن تفشى سره والله حسيبها والرقيب المطلع عليها فيما تقول وما تخبر ومن الأخطاء التي يضيع بها بعض النساء حق الأزواج ويخن فيها الأمانة ويضيعن فيها هذا الحق أن المرأة إذا وقع بينها وبين زوجها أقل خصام أو شجار وذهبت إلى أهلها شاكية أفشت جميع ما تعرفه من الأسرار وتحدثت بعيوب زوجها وذكرت ما يكون من خاصة أمره وهذا لاشك أنه يعتبر من الآثام وعده بعض العلماء من كبائر الذنوب ؛ لأن خيانة الأمانة والتحدث بالأسرار لا يجوز إلا عند الضرورة فهذا من الحق الذي فرض الله على المرأة أن تحفظه وألا تفشيه وتبديه إلا بإذن صاحبه أو وجد أمر شرعي يبيح أن تتحدث أو تخبر به .
ومن حقوق الزوجة على زوجها وهي الحقوق المادية الخدمة ، والمراد بذلك خدمة المرأة لزوجها فإن الله - عز وجل - فطر المرأة وخلقها وجعل فهيا خصائص صالحة للقيام بشؤون البيت وتدبيره ورعاية أموره فإذا قامت المرأة بخدمة بيت الزوجية كما ينبغي قرت عين الزوج ورضي زوجها وأحس أن بيته قد حفظ حقه ورعيت مصالحه فيرتاح وترتاح نفسه ، وقد أشار الله - عز وجل - إلى هذا من مجمل قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي على النساء حقوق كما أن على الرجال حقوق .(1/29)
وللنساء حقوق كما أن للرجال عليهن حقوق بالمعروف، والمعروف إما أن يكون العرف كما يقول جماهير العلماء فيرجع إليه ويحتكم إليه فعرف الصالحين وعرف المسلمين في كل زمان ومكان أن المرأة تخدم بيت زوجها فانظر إلى أمهات المؤمنين كن يقمن على خدمة بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- قالت : كن نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما يشاء ، وفي الحديث الصحيح عن أم ميمونة-رضي الله عها- قالت : وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل فاتغتسل من الجنابة ، ولذلك أجمع العلماء على مشروعية خدمة المرأة لزوجها جماهير أهل العلم إلى من شذ وهو قول ضعيف على أن المرأة تخدم زوجها وتقوم على رعايته ؛ لأنه لا أفضل من أمهات المؤمنين وهذه بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكريمة بنت الكريم-صلوات الله وسلامه عليه-رضي الله عنها- فاطمة تخدم زوجها حتى أن يدها تقرحت بسبب طحنها للنوى-رضي الله عنها وأرضاها- .(1/30)
قال بعض العلماء : إنها قد جلت يدها من كثر الطحن للنوى ، والنوى يكون علفاً للدواب فكيف بالقيام على حق الزوج حتى ذكر بعض العلماء أنها تقوم حتى بما يحتاج إليه من مركبة إذا جرى العرف بذلك ، كذلك أيضاً ثبت في الحديث الصحيح عن أسماء-رضي الله عنها- أنها كانت تخدم الزبير وكانت تخرج إلى مزرعته وتمشي أكثر من ثلثي الفرسخ وهي تحمل على ظهرها وهذا هو الذي عرف عن نساء المؤمنين وعرف في أزمنة المسلمين أن النساء يقمن بخدمة البيوت ورعايتها وأن هذه الخدمة لا تغض من مكانه المرأة ولا تنقص من قدرها ولكنها فطره الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، هذا الأمر الذي هو خدمة البيت قد يراه البعض شيئاً يسيراً أو شيئاً صغيراً ؛ لكن عواقبه الحميده على نفسية الزوج حينما يخرج وهو يشعر أن بيته قد قامت برعايته والعناية به زوجه فيدخل وقد هيأت له أمورة وارتحات نفسه واطمأن قلبه وكان أبعد ما يكون عن ما يشوش عليه أو ينغص عليه ويوجب وقوع المشكلات بينه وبين أهله فلما تنكب النساء عن هذه الفطرة السوية أصبحت بيوت المسلمين كأنها مهملة والرجل يدخل إلى بيته فيرى أموراً لا يسر بها الناظر ولربما أن الرجل بنفسه يقوم بكناسة بيته وغسل ثيابه وطهي طعامه حتى قال الإمام ابن القيم-رحمه الله- : فإن ترفهت المرأة وقام الرجل بكنس بيته وطهي طعامه والعجن والخبز فذلك هو المنكر أي ذلك هو المنكر الذي لم يأذن الله به ، فالمرأة تقوم بما فطرها الله عليه والرجل يقوم بما فطره الله عليه وليس من الفطرة أن الرجل هو الذي يخدم نفسه وهو الذي يقوم برعاية بيته . فإن قالت المرأة أخدم نفسك أو افعل ما تشاء فقد كبرت كلمة تخرج من فمها حينما تخرج عن فطرتها وتباً لها من امرأة تسيء إلى بعلها وتنتزع الرضا منه الذي يكون سببا في دخول جنة الله - عز وجل - قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة )) .(1/31)
فإذا أصبحت تحمله أن يقوم بأعباء بيته وتكون مترفة في البيت منعمة أو تطلب منه أن يأتي بمن يخدمه ويقوم عليه ولربما على وجه يوجب الفتنة له فذلك كله خلاف الفطرة ؛ لكن إن وجدت الأمور التي تضطر المرأة إلى أن تطلب من يخدمها فحينئذٍ لا حرج ، ولذلك جاءت فاطمة-رضي الله عنها- تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيها خادم فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أولا أدلكما على خير لكم من خادم .. الحديث )) فهذا يدل على أنه لا حرج أن تسأل لكن إذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة ، أما أن تسأل ذلك ترفها واستكباراً أو ظناً منها أنها ما خلقت لهذا أو أن هذا ليس من شأنها فهو خلاف فطره الله وخلاف العشرة بالمعروف التي ينبغي على كل مؤمنة أن تحفظها لبعلها هذه الأمور كلها أمور مهمة ينبغي على المرأة أن تحفظها لبعلها وعلى المرأة الصالحة أن تعلم أنه لا أكمل من شرع الله ، ولا أكمل من دين الله وأن من رضي بشرع الله - رضي الله عنه - وأرضاه- وأنه فمنا سمعت من الدعوات أو رأت من العادات من التقاليد والعادات مما يخالف شرع الله أو يتنكب عن فطره الله فإنه لا تأمن معه سوء العاقبة فمهما كان شيء طيباً في ظاهره لكن عواقبه وخيمة وما عليها لا أن تلتزم بهذه الأمور التي عرفتها في فطرتها وعرفتها في هدي الصالحات من سلف هذه الأمة التي كن يقمن على رعاية العشير وأداء حقه على الوجه الذي يرضى الله-جل وعلا- .
هذه الحقوق لا تستطيع المرأة أن تقوم بها على وجهها إلا إذا هيئت من نفسها أموراً تتلخص فيما يلي :
أولها : أن تسأل الله - عز وجل - أن يعينها على الوفاء بحق بعلها وأن يعيذها من التقصير والإخلال بحقه ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - رضي لها أن توفى لبعلها وكره لها أن تضيع حقه وتسأل الله وتكثر من الدعاء أن يعينها الله على حقوق بعلها .(1/32)
ثانياً: أن تهيئ المرأة من نفسها العوامل النفسية للاستجابة لأوامر الله فتعلم أنها مأمورة وأنه مادام شرع الله يأمرها بطاعة الزوج وإعطاءه حق القوامة وأنها مطالبة بعشرته بالمعروف ومن المعروف خدمته واستئذانه عند الخروج وحفظ حقوقه وأماناته وأسراره إذا علمت ذلك واطمأنت بذلك فإنها ستستجيب بمقدار ما يكون فيها من الإيمان والظن بالمؤمنة أنها تستجيب لأمر الله ، ولذلك قال العلماء : إن الله صدر آيات الحقوق بقوله : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } لأنه لا يستجيب لأمر الله على الكمال وأتم الوجه مثل المؤمن .(1/33)
الأمر الثالث : على المرأة أن تعلم علم اليقين أنها إذا قامت بهذه الحقوق لا تنتظر مكافأة من الرجل ولا تنتظر جزاءً من الرجل ؛ ولكن ينبغي عليها أن تجعل نصب عينيها وأكبر همها وأعظم ما تطلبه رضوان الله - عز وجل - عليها فما من مؤمنة تشعر أنها تطلب رضوان الله إلا وجدتها أخضع ما تكون لزوجها وقائمة بحقه على أتم الوجوه حتى حدث بعض الصالحين أنه رزق بامرأة لا تهنأ ولا تقر إلا بالقيام بحقه يقول حتى ربما أخطأت عليها فتغير قلبي وأنا المخطئ فلا تبيت إلا وهي باكية تسألني أن أسمح عنها وهذا من قوة الإيمان النفس المؤمنة إذا زكت وسمت واستجابت لله طامت وأصبحت تحرص في جميع التصرفات وإلا حاسيس والمشاعر والكلمات كيف تلتمس مرضاة زوجها ليس هناك من غضاضة أن تخضعي للزوج وليس بنقص وليس بذله ولا بمهانة ؛ ولكنه والله كمال ورفعه وحسن توفيق من الله - عز وجل - ليس ينقص والله كمال للمرأة لأنها فطره الله التي فطر الله الناس عليها وجبلهم على هذا فإذا كانت المرأة تشعر من نفسها أن هذا ليس بنقص ؛ وإنما هو كمال استجابت وارتاحت واطمأنت بل وبادرت وكانت قوية النفس للاستجابة لأمر الله - عز وجل - في القيام بهذه الحقوق كذلك على المرأة أن تهئ الأسباب التي تعينها للاستجابة ومن أعظمها قراءة سيره الصحابيات ونساء السلف الصالح لهذه الأمة وما كن عليه من حسن تبعل للأزواج والنظر فيما ورد في النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تحبيب المرأة للقيام بحق الزوج وترغيبها في ذلك .(1/34)
كذلك أيضاً مما يعين المرأة على القيام بهذه الحقوق وأدائها على وجهها المطلوب حسن النظر في العواقب الحميدة في الدين والدنيا وكيف أن بيتها يستقر وأنها ترتاح وتطمئن ويرتاح زوجها ويطمئن بالقيام بهذه الحقوق ، والعكس بالعكس تنظر أيضاً إلى العواقب الوخيمة للعكس أنها إذا ضيعت حق القوامة فإنه سرعان ما يشعر الزوج أنه ناقص وإذا شعر بالنقص أخذ يكسر حده المرأة والمرأة تستعلي والرجل يصر حتى لربما كسرها فطلقها-والعياذ بالله- أو لربما أقدم على ضربها حتى يشعرها أنه أقدر منها على القيام بهذه الحقوق ويقول بعض العلماء : قل أن تجد مشكلة ضرب فيها رجل لامرأته إلا وجدت المرأة فيها نوع ن الاسترجال ، ولذلك ينبغي للمرأة أن تعلم أن تضييع الحقوق دائماً يأتي بأسوأ العواقب وأن الشر لا يطفأ بالشر والسيئة لا تدفع بالسيئة ؛ وإنما تدفع بالحسنة فالتفكير في مثل هذه الأمور يعين المرأة على إصلاح نفسها وإصلاح حالها مع بعلها .
ومن الأمور وهو آخر ما توصى به المرأة المسلمة عدم السماح للغير بالتدخل في شؤونها مع بعلها فإن بعض النساء يحرضن البعض بالتمرد على الزوج والعصيان له وعدم القيام بحقوقه فقرين السوء عواقبه وخيمة فتتقى المرأة التحدث مع النساء في أمور بيتها وخصائص ما يكون من حالها مع زوجها فذلك أدعى لسلامتها وحسن العاقبة لها .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حق الزوجة
الشرح :
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه ومنواله إلى يوم الدين أما بعد :(1/35)
فلا زال حديثنا موصولاً عن الحقوق الزوجية ، وقد تقدم في المجلس الماضي بيان ما فرض الله على الزوجة تجاه زوجها وفي هذا المجلس سيكون حديثنا إن شاء الله عن ما أوجب الله - عز وجل - على الزوج تجاه زوجته وهذا من عدل الله-تبارك وتعالى- فإن الله-سبحانه- عدل بين الزوجين فأمر الأزواج وأمر الزوجات ولم يخص واحداً منهما بالأمر ليكون ظلماً للآخر : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ، فرض الله على الأزواج حقوقاً تجاه زوجاتهم هذه الحقوق من حفظها وحافظ عليها وأداها على وجهها فقد حفظ وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهله .
قال - صلى الله عليه وسلم - : (( استوصوا بالنساء خيراً )) فمن حفظ هذه الحقوق وحافظ عليها فإنه من خيار عباد الله المؤمنين ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) .
فهي الحقوق العظيمة التي فرض الله على زوج يخافه ويتقيه ويعلم علم اليقين أنه محاسبه ومجازيه .
هذه الحقوق إذا قام الأزواج بها على وجهها كانت السعادة وكانت الطمأنينة وشعرت المرأة بفضل الزوج وأنه مؤمن قائم لله - عز وجل - بحقه وحقوق عباده ، وإذا رأت المرأة من زوجها الاستهتار والاستخفاف بحقوقها تنكد عيشها وتنغصت حياتها حتى ربما أنها لا تستطيع أن تقوم بعبادتها على وجهها بما ينتابها من الوساوس والخطرات وبما تحسه من الذل والاضطهاد والأذية .
ولذلك قال العلماء : إن إضاعة حقوق الزوجات أعظم من إضاعة حقوق الأزواج ، لأن الزوجة إذا ضاع حقها لاتدري ماذا تفعل ولا أين تذهب وهي تحت ذلك الزوج الذي يمسكها للإضرار والتضييق عليها .(1/36)
وأما الرجل فإنه إذا ظلمته المرأة وضيعت حقه استطاع أن يطلق وقد يكون بقوته وما أعطاه الله من الخلقة وفطره عليها أن يصبر ويتحمل ؛ ولكن المرأة لا تستطيع ذلك . ولهذا قال العلماء : ظلم النساء في حقوقهن عظيم والمرأة إذا ظُلمت ضاقت عليها الأرض بما رحبت فتحس أنها قد فشلت في حياتها وأنها لا مفر لها من هذا البلاء وليست كالزوج الذي يطلق وينفك من بلائه ، ولهذا يكون مفرها إلى الله وشكواها إلى الله وتبث حزنها إلى الله وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيراً .
ولذلك أنزل الله في كتابه آية المجادِلة وأخبر أنه سمع شكوى المرأة من فوق سبع سماوات ، قالت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- : إني لمن وراء الستر يخفى علي بعض كلامها وهي تقول إلى الله أشكو ثعلبة إلى الله أشكو ثعلبة ، قالت فسمعها الله من فوق سبع سماوات فسبحان من وسع سمعه الأصوات .
فالمرأة إذا ظلمت وضيق عليها واضطهدت لا تستطيع الشكوى إلا إلى الله بل يبلغ ببعض النساء أنه يضيع حقها وتضطهد في بيتها وتظلم من زوجها ولا تستطيع الشكوى لا لأبيها ولا لأخيها ولا لقرابتها وفاءاً لبعلها وزوجها ، وقد لاتستطيع الدعاء عليه ولا شكوى أمره إلى الله لأنها تحبه ولا تريد السوء له وهذا يقع في المرأة الحرة الأبية ، ولذلك تقع بين نارين لا تستطيع الصبر عليهما إلا بالله - عز وجل - . هذه الحقوق التي فرض الله على الأزواج تنزلت من أجلها الآيات ، ووقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أمام أصحابه في آخر موقف وعظ به أكثر أصحابه في حجة الوداع فكان مما قال : (( اتقوا الله في النساء )) .(1/37)
حق الأمر بطاعة الله : هذه الحقوق أعظمها وأجلها حق الأمر بطاعة الله - عز وجل - . فأول ما ذكر العلماء من حقوق الزوجة على زوجها أن يأمرها بطاعة الله-تبارك وتعالى- هذا الحق الذي من أجله قام بيت الزوجية فإن الله شرع الزواج وأباح النكاح لكي يكون عوناً على طاعته ويكون سبيلاً إلى رحمته ، فالواجب على الزوج أن يأمر زوجته بما أمر الله وأن ينهاها عما حرم الله ، وأن يأخذ بحجزها عن عقوبة الله ونار الله .
أشار الله-تعالى- إلى هذا الحق العظيم بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } .(1/38)
قال بعض العلماء : أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والأمر للأمة وللرجال من الأمة أن يأمروا أهليهم بما أمر الله وذلك بدعوتهم لفعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله - عز وجل - فيكون الزوج في البيت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر إذا رأى خيراً ثبت قلب المرأة عليه وإذا رأى حراماً صرفها عنه وحذرها ووعظها وذكرها وإلا أخذها بالقوة وأطرها على الحق أطراً وقسرها عليه قسراً حتى يقوم حق الله في بيته قال بعض العلماء : كان بعض أهل العلم يعجب من هذه الآية الكريمة : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } كان بعض العلماء يتعجب من هذه الآية لأن الله قال فيها : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } ثم قال بعد ذلك بعد أن أمره بالصبر وبالاصطبار عليها : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } ، قال : إنه ما من زوج يقوم بحق الله وما فرض الله عليه في أهله وزوجه ويَعِظُها ويُذكِّرها حتى يقوم البيت على طاعة الله ومرضاة الله إلا كفاه الله أمر الدنيا فالله - عز وجل - يقول : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } . كأن اقامته لأمر الله طريق للبركة في الرزق وطريق للخير والنعمة على هذا البيت المسلم القائم على طاعة الله ومحبة الله - عز وجل - .
للمرأة على بعلها حق الأمر بطاعة الله ، ولذلك كان من وصية الله لعباده المؤمنين إذا أرادوا الزواج أن يختاروا المرأة الدينة المؤمنة الصالحة لأنها هي التي تقيم بيتها على أمر الله - عز وجل - وما فرض الله .(1/39)
قال - صلى الله عليه وسلم - تنكح المرأة لأربع : (( لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك )). قال العلماء : إنما قال فاظفر بذات الدين لأنها غنيمة وأي غنيمة إن أمرها بطاعة الله أئتمرت وإن نهاها عن حدود الله ومحارمه انكفت وانزجرت. هذا الحق وهو حق الأمر بطاعة الله إذا ضيعه الزوج خذله الله في بيته وخذله الله مع أهله وزوجه وأولاده فلم تر عينك رجلاً لا يأمر بما أمر الله في بيته ولا يتمعر وجهه عند انتهاك حدود الله مع أهله وولده إلا سلبه الله الكرامة وجعله في مذلة ومهانة وجاء اليوم الذي يرى فيه سوء عاقبة التفريط في حق الله الذي أوجب الله عليه في أهله وولده .
أمرنا-جل وعلا- أن نقي أنفسنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة فمن ضيع هذا الحق سلب الله المهابة من وجهه وسلب الله المهابة من قلب أهله وولده ، وأما إذا رأت عيناك زوجاً آخذاً بحجز زوجته عن نار الله يقيمها على طاعة الله ومرضاة الله وجدت المحبة والمودة والهيبة والإجلال ، ومن وفى لله وفى الله له ، ولذلك قال الله -تعالى- : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدّاً } . فالذي يأمر زوجته بما أمر الله ويقيمها على طاعة الله ومرضاة الله يضع الله له القبول والمحبة والهيبة والكرامة ، ولذلك ينبغي على الزوج أن يضع نصب عينيه أول ما يضع أن يقيم بيت الزوجية على طاعة الله وتقواه ، ولا يستطيع أن يقوم بهذا الحق على أتم الوجوه وأكملها إلا بأمور مهمة نبه العلماء أو بعض أهل العلم على بعضها :(1/40)
أولها : وأعظمها أنه إذا أراد نصيحة زوجته بأمرٍ بما أمر الله أو نهي عما حرم الله فينبغي أن يكون السبب الباعث له هو مرضاة الله بمعنى أنه إذا وعظ زوجته فأراد أن يأمرها بطاعة الله أو ينهاها عن معصية الله لا ينطلق من جهة السمعة أو من جهة العاطفة ، ولذلك تجد الرجل يقول لامرأته ( فضحتيني ) ، أو ماذا يقول الناس عني أو نحو ذلك من محبة السمعة أو العواطف التي لا ينبغي أن تكون هي أساس دعوته ومحور وعظه ونصحه .
قال بعض العلماء : لا يبارك الله لكثير من الأزواج في وعظهم لزوجاتهم لأنهم يعظون خوفاً على أنفسهم وخوفاً على السمعة لكن إذا وعظ الرجل ووعظ الزوج وهو يخاف الله على زوجته ويخشى أن يصيبها عذاب الله بارك الله له في كلماته وبارك الله له في موعظته وبلغت الموعظة مبلغها وكان لها أثرها ، ولذلك أول ما يوصى به من يأمر أهله ويعظهم ويريد أن يحثهم على طاعة الله أن يخلص لله في دعوته .
أما الأمر الثاني : القدوة فإن الزوجة لاتطيع زوجها ولا تمتثل أمره ولا تعينه على أداء هذا الحق في امتثال ما يقول إلا إذا كان قدوة لها ، ولذلك الواجب على الزوج أن يهيء من نفسه القدوة لزوجته كيف تطيع الزوجة زوجها إذا أمرها بواجب وحثها على أدائه وهي تراه يضيع حقوق الله وواجباته ، كيف تطيع الزوجة رجلاً يقول لها اتقي الله وتراه ينام عن الصلوات ويضيع الفرائض والواجبات وتراه لايبالي بحقوق الناس ، فلذلك إذا وجدت القدوة تأثرت الزوجة وأحست أن هذا الكلام الذي يخرج من الزوج يخرج بإيمان وقناعة وأنه ينبغي أن تمتثله وأن تسير على نهجه لأنها ترى الكلام مطابقاً للفعل فتتأثر بذلك وسرعان ما تمتثل .(1/41)
أما الأمر الثالث : تخير الكلمات الطيبة التي تلامس شغاف القلوب وتؤثر في المرأة فتستجيب لداعي الله بامتثال أمره وترك نهيه وهذا هو الذي أوصى الله به كل من يعظ فقال-سبحانه- : { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} . فالذي يريد أن يقيم زوجته على طاعة الله يتخير أفضل الألفاظ وأحسنها والتي تؤثر في نفسية الزوجة ترغيباً أو ترهيباً فإن كانت الزوجة تستجيب بالترغيب حثها بالترغيب وإن كانت تستجيب بالترهيب حثها بالترهيب وخوفها ويكون ذلك بقدر مع اشفاق وخوف من الله - عز وجل - .
هذه الأمور إذا تهيأت ينبغي أن يَسْلَمِ الزوج من ضدها مما ينفر من قبول دعوته كالكلمات الجارحة والعبارات القاسية " أنت لاتفهمين ، أنت عاصية أنت كذا " ، فهذا لا ينبغي بل ينبغي على الزوج إذا وعظ زوجته خاصة عند الخصومة أو عند الخطأ والزلل أن لا يَفْجُرَ في قوله قال العلماء الفجور في القول أن يبالغ في وصفها فيصفها بأشنع الأوصاف وهي لا تستحق ذلك الوصف وهذا هو من شأن النفاق فإن المنافق إذا خاصم فجر فبعض الأزواج إذا رأى أقل تقصير من زوجته حمَّل ذلك التقصير ما لم يحتمل من الوصف وقرع زوجته بأشنع العبارات وأقساها وأقذعها فإذا كانت المرأة صالحة أحست بالنقص وتأثرت فإن القلوب تتأثر بالكلمات الجارحة ولو كان الرجل مستقيماً وعلى طاعة الله فإنه يتأثر ، ولذلك ينبغي على الزوج أن يتحفظ وأن يتوقى في الألفاظ وهذا أصل في الدعوة إلى الله - عز وجل - : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } . فالموعظة الحسنة هي الموعظة المشتملة على الكلمات الطيبة والنصائح القيمة الهادفة التي تنصب على الأمر الذي يراد فعله والنهي عن الأمر الذي لا يراد فعله .(1/42)
حق النفقة : أما الحق الثاني الذي أوجب الله للزوجات على أزواجهن فهو حق النفقة وهذا الحق دل عليه دليل الكتاب والسنة والإجماع قال الله في كتابه : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } .
ينفق إذا كان غنياً مما آتاه الله على قدر غناه وإذا كان فقيراً مما آتاه الله على قدر فقره هذه الآية الكريمة يقول العلماء فيها أمران :
الأمر الأول : وجوب النفقة في قوله : { لِيُنفِقْ } فالنفقة واجبه .
والأمر الثاني : أنها تتقيد بحال الرجل إن كان غنياً فينفق نفقة الغنى فذو سعة من سعته أي ذو الغنى من غناه وذو الفقر من فقره في قوله-تعالى- : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } .
فهذه ثلاثة أمور النفقة واجبة وعلى الغني على قدر غناه وعلى الفقير على قدر ما آتاه الله .
وكذلك أوجب الله النفقة في قوله-سبحانه- : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } .
فأخبر - سبحانه وتعالى - أن الرجل له فضل على المرأة بالقيام بنفقتها وثبتت في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالنفقة والحث عليها ووصية الأزواج بالقيام بها على وجهها حتى أباح للمرأة أن تأخذ من مال الزوج إذا امتنع من الانفاق عليها قال - صلى الله عليه وسلم - حينما اشتكت إليه هند-رضي الله عنها- فقالت : - يا رسول الله - إن أبا سفيان رجل شحيح مِسِّيك أفآخذ من ماله ؟ فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )).(1/43)
قالت : - يا رسول الله - إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك أي رجل شحيح ويمسك المال فإذا أنفق لاينفق نفقة تكفيني وكذلك أيضاً مسيك أي يخاف على ماله .
يقول بعض العلماء : لعل هنداً تجاوزت في الوصف وذلك أن هنداً كانت من الأثرياء ومن بيت غنى ، ولذلك قالت رجل شحيح مِسَّيك فبالغت في الوصف وقال بعض العلماء : لم تبالغ .
الذين قالوا إنها بالغت في الوصف قالوا إن جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لها قال : (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )) ولذلك قالوا : لم يعط لها الأمر بدون تقييد .
والذين قالوا إنها قد اشتكت من ضيق يد أبي سفيان قالوا إن هذا يؤكد أنها ظلمت لقوله : (( خذي )) - وهذا هو الصحيح أعني الوجه الثاني .
وعلى هذا لما قال لها خذي من ماله دل على أن المرأة لها في مال الرجل حق من أجل النفقة .
وأما الدليل الثاني من السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم على نسائكم حقاً فأما حقكم على نسائكم إن لايطئن فرشكم من تكرهون وألا يَأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون ، وأما حقهم عليكم أن تحسنوا إليهن في طعامهن وكسوتهن )) فأما حقهن عليكم قالوا قولة حق يدل على أنه واجب ولازم على الزوج فدل هذا الحديث على أن النفقة من الزوج على زوجته أنها واجبة ولازمة .
وفي حديث معاوية - رضي الله عنه - وأرضاه- : أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حق امرأتي علي ؟ قال : (( تطعمها مما تطعم وتكسوها مما تكتس )) . فدل على أن من حق المرأة على زوجها أن يطعمها ويكسوها .(1/44)
وأجمع العلماء-رحمة الله عليهم- على أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بالمعروف ، قال بعض أهل العلم : إنما وجبت النفقة على الرجال ؛ لأن المرأة محبوسة في البيت عاطلة عن العمل والأصل في المرأة أن تقوم على بيتها وأن ترعى بيتها . وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله في خطبته كما في الصحيح في حجة الوداع : (( استوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عندكم عوان )) . عوان أي أسيرات قالوا ولذلك أُمِرَ الرجل أن يقوم بالانفاق على المرأة من أجل هذا .
أما الأمر الثاني الذي جعل النفقة على الرجل للمرأة فالحقوق المتبادلة والمنافع التي يبادل كل منهما الآخر ، فالمرأة يستمتع بها الرجل ، قال-تعالى- : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فاستحقت أن تأخذ أجرها على ما يكون منها من القيام بحق بعلها في فراشه ، ولذلك قالوا إذا نشزت وامتنعت من الفراش كان من حقه أن يمتنع من الإنفاق عليها ونص بعض العلماء على أن من أسباب النفقة كونها فراشاً للرجل فلهذا كله أوجب الله على الرجال الإنفاق على النساء والقيام بحقوقهن وهذه النفقة فيها مسائل :
المسألة الأولى : ما هي أنواع النفقة التي ينبغي على الزوج أن يقوم بها تجاه زوجته ؟
المسألة الثانية : ما هي ضوابط النفقة التي ينبغي أن يتقيد بها الرجل بمعنى أن يؤديها على سبيل اللزوم وإذا أداها برئت ذمته؟
أما بالنسبة لأنواع النفقة فإنها تنحصر في الإطعام والكسوة والسكن فهذه ثلاثة أمور ينبغي للزوج أن يرعاها في إنفاقه على زوجته وأهله وولده .(1/45)
أما الإطعام فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه عليه في حديث عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - وأرضاه- في خطبته في حجة الوداع فقال : (( أما حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في طعامهن وكسوتهن )) قال العلماء : إن عموم الأدلة التي دلت على النفقة يدخل فيها الطعام ؛ لأن الله - عز وجل - قيد ذلك بالمعروف وقيده النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعروف والمعروف في أعراف المسلمين أن الزوج يطعم زوجته ويقوم على طعامها على الوجه الذي لا إضرار فيه . والطعام يستلزم أن يقوم الزوج بتهيئة ما تحتاجه المرأة وكذلك ولده بالتبع من جهة الأكل .
قال العلماء : يلزمه أمران : الطعام وما يحُتاج إليه لاستصلاح الطعام . فيطعمها فيكون الطعام كحب ونحو ذلك وما يؤتدم به الطعام فهذا كله لازم على الزوج ويكون مقيداً بالعرف فإذا كان غنياً فإنه يكون طعامه مرتبطاً بطعام الأغنياء مثله فلا يُطعم الغني طعام الفقير ولا يُطعم الفقير طعام الغني بمعنى لايلزمه ذلك ، ولا تطالبه المرأة بمثل ذلك .(1/46)
قال العلماء : الطعام ينقسم في الأعراف إلى ثلاثة أقسام (الأفضل والجيد والرديء والوسط بينهما ) فإن كان مال الرجل ودخله وما هو فيه من الحال هو حال أهل الغنى وجب عليه أن يطعم زوجته بالطعام الجيد الذي يطعمه مثله من ذوي اليسار ، وإذا عدل عن الطعام الجيد إلى اردائه فإنه يكون ظالماً وكان من حق الوالي والقاضي أن يلزمه بأجود الطعام وأحسنه كذلك أيضاً العكس فإنه إذا كان فقيراً وسألته المرأة أو وليها أن يطعمها طعاماً أفضل من طعام مثله وألحت عليه في ذلك لم يجب عليه أن يلبي لها ذلك ؛ لأن الله - عز وجل - أمر الإنسان أن ينفق على قدر ما أعطاه قال : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } وقوله : { وَمَنْ قُدِرَ } يعني من ضيق كما قال -تعالى- : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } . أي يوسع ويضيق فقوله : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } يعني ضُيِّق عليه .
وهنا مسألة : وهي أن الزوج ربما يكون ماله ودخله طيباً ولكن تنتابه ظروف لا يستطيع معها أن ينفق نفقة مثله وهذه الظروف تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : إما أن تكون ظروفاً قسرية تجبره على أن يقصر في النفقة وينزل عن نفقة مثله فهذا اغتفره العلماء كما لو طرأت عليه خسارة أو طرأت عليه مصيبة في ماله فاحتاج أن يدفع فأخذ يقسط من شهره حتى ضيق على أهله في طعامهم فهذا لا إثم عليه .(1/47)
القسم الثاني : أن تكون ظروفاً كمالية كأن يريد أن يشتري شيئاً صالحاً وهذا الشيء من باب الكمال كسيارة أو نحو ذلك كما ذكر بعض العلماء من دابة أو مركوب أو نحو ذلك يريد أن يشتري أفضل مركوب وهذا الأفضل مركوب سيكون على حساب زوجه وأولاده فيضيق عليهم في النفقة قالوا إنه يكون ظالماً في هذه الحالة وأنه لا يجوز له في هذه الحالة أن يطلب الكمال على وجه يضيع فيه الحق الواجب بل عليه أن يبقى على النفقة ويلزم شرعاً في الإفتاء والقضاء أن يبقى على نفقة مثله ولو اعتذر بهذا الكمال فإنه لا عذر له فيه ويحكم بإثمه إذا ضيق على أهله وولده .
الأمر الثاني مما يحتاج إليه في الإطعام يلزم الزوج بكل ما يُهيء به الطعام عرفاً فيشتري للمرأة الآلات والوسائل التي يمكن معها إصلاح الطعام ويعتبر شرعاً ملزماً به فإن امتنع أجبر قضاءاً ومن الأخطاء أن بعض الأزواج يمتنع من شراء بعض الآلات ويلزم الزوجة بشرائها وقد يلزم أولياءها بشرائها وهذا يعتبر من الظلم كما ذكر بعض أهل العلم-رحمة الله عليهم- بل ينبغي على الزوج أن يشتري آلة الطهي وإعداد الطعام ومواعينه ونحو ذلك وهو ملزم بها شرعاً ؛ ولكن قد تطالب المرأة بما هو أفضل فتطالب بشراء ما هو أغلى وأجود فمن حق الزوج أن يردها إلى الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط خاصة إذا كان من غير ذوي اليسار.
كذلك أيضاً ينبغي على الزوج وهو الحق الثاني في الإطعام إذا قلنا إنه ينبغي عليه أن ينفق عليها في طعامها .
فالسؤال هل يجب عليه أن يعطيها نفقة الطعام بيدها أم أنه يشتري الطعام لها ؟
إذا كان الزوج يريد إعطاء المرأة المال بيدها فلا بأس ؛ لكن إذا كانت المرأة سفيهة في التصرف ولا تحسن القيام والنظر لنفسها وولدها فإن من حقه أن يلي شراء ذلك .
قال العلماء : إنه إذا كانت المرأة لا تحسن الأخذ لنفسها والإعطاء لغيرها كان من حقه أن يأخذ النفقة لكن الأصل انه يعطيها النفقة بيدها .(1/48)
وقال العلماء : يختلف ذلك باختلاف الناس فإن كان من الفقراء والضعفاء لزمه أن يعطي النفقة كل يوم بيوم وإن كان من أواسط الناس وأمكنه أن يعطي كل أسبوعٍ أو شهر فعل ذلك وإن كان من ذوي الغنى واليسار فأعطاها على الحول كان له ذلك .
أما بالنسبة لنفقة اليوم فقال بعض العلماء : يلزمه أن يعطيها النفقة لما تستقبله من يومها فيعطي النفقة لليل لما يستقبل من صباحه إذا كان ضعيفاً أو عاملاً أو نحو ذلك يأخذ نفقته باليوم ولا يلزم شرعاً باعطاء زوجته نفقة الشهر ، ومن هنا من الخطأ ما يفعله بعض أولياء النساء من جبر الزوج مع ضيق حاله إذا كان ضيق الحال أو فقيراً أن ينفق على المرأة بالشهر أو بالأسبوع وهذا كما ذكر العلماء لا يلزمه شرعاً ؛ وإنما الواجب عليه أن يعطيها نفقة كل يوم بيومه هذا بالنسبة إذا كان ضعيفاً أو ضيق الحال .
ويقول العلماء : في الأمر سعة إذا كان الزوج قد اصطلح مع زوجته ورضي الزوج مع زوجته فلا حرج عليه في ذلك أن يعطيها على الوجه الذي تقوم فيه بحقوقها .(1/49)
أما الحق الثاني فكسوة المرأة وهذه الكسوة دل عليها دليل العموم وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( أن تحسنوا إليهم في طعامهن وكسوتهن )) . قال العلماء : على الزوج كسوتان كسوة في الصيف وكسوة في الشتاء هذا في الأصل ؛ ولكن إذا وُجد في العرف ما يوجب تكرار الكسوة ويكون على وجه لايضيق فيه على الرجل فيتحمل مالا يتحمله فإنه يعطي لها ذلك بالمعروف ؛ لأن الشرع قيد ذلك بالعرف وقال-تعالى- : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . قالوا : فمن العشرة بالمعروف أنه إذا احتاجت إلى كسوة داخل بيتها وكسوة لخروجها لمناسبة أو نحو ذلك كساها كسوة واحدة في صيفها وشتائها لخروجها ، لكن استغلال المرأة لحقها في الكسوة وتحميلها لزوجها ما لا يتحمله يعتبر من الظلم ، ولذلك قال العلماء : لا يلزمه أن يكرر الكسوة لها في كل عام ؛ وإنما هو من باب الفضل لا من باب الفرض خاصة ما أصبح يفعله بعض النساء في العصور المتأخرة من تكرار اللبس للمناسبات على وجه لا يُشك أنه عين الإسراف الذي حرمه الله وعين البذخ الذي لم يأذن به الله فهذا لا يجب على الزوج أن يؤتيه لزوجته ولا يجب على الزوج إن يتحمله لزوجته بل عليه أن ينفق عليها بالعرف في حدود حاجتها وما زاد على ذلك يقول العلماء : إنه يكون مرده إلى المرأة فالمرأة هي التي تشتري لنفسها ما فضل على ذلك وزاد .
الحق الثالث في الإنفاق على الزوجة السكن : فيجب على الزوج أن يسكن زوجته ويكون السكن بالمعروف فإن كان غنياً أسكنها سكن ذوي الغني وان كان فقيراً أسكنها على قدر حاله من الفقر ولا حرج أن يسكنها في سكن يملكه أو يستأجره أو يسكنها في رباط أو نحو ذلك إن كان ضيق الحال كما ذكر العلماء-رحمهم الله- .(1/50)
لكن إذا كان السكن في رباط أو موضع يأخذه بدون مقابل أو يستأجره بثمن زهيد وفي هذا الموضع ضرر على الزوجة وأذية على الزوجة فإنه يطالب شرعاً بالنقلة منه ويتعين عليه أن يسكنها فيما يليق به وبها .
واختلف العلماء ، قال بعض العلماء : إنه يسكن على قدر حاله من الغنى والفقر .
وقال بعضهم : بل يسكنها على قدر حالها هي فإن تزوج امرأة لها مكانه ولها منزلة لا يسكنها في سكن الفقراء والضعفاء ، لما في ذلك من الأذية والاضرار والتضييق عليها ، والعكس بالعكس .
والذي يظهر والعلم عند الله أن الأمر يتقيد بالزوج لأن الله-تعالى- قيد النفقة بالزوج والذين قالوا إنه يسكنها على قدر حالها استدلوا بقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )) ، فجعل الكفاية لها والأمر راجعاً إليها ؛ ولكن الصحيح هو المذهب الأول .
وأن قوله : (( خذي ما يكفيك )) وولدك رجع إلى التقصير وليس كالأصل العام المضطرد في النفقات ، وعلى هذا فإن الزوج يسكنها فيما يليق به على حسب ماله فلا يجُحف بها ولا يُضر بها في ضيق المسكن ولا يجُحف بها ولا يضر بها في بعد المسكن ولا يجحف بها ولا يضر بها في منافع المسكن .
بل قال العلماء : يلزمه أن يسكنها في المسكن الذي ترتفق به ويكون على حسب حاله كما ذكرنا من الغنى والفقر ، وعلى هذا فلو أسكنها في مسكن ضييق وحال مثله السعة يجبره القاضي ويُلزم في الفتوى ويكون ذلك ظلماً ويحكم عليه بأنه ينتقل إلى سكن مثله .(1/51)
لكن هنا مسألة وهي مسألة السكن بجوار الأهل أو البعد عن الأهل فبعض من النساء قد يطلبن السكن بجوار أهلهن بعيداً عن أهل الزوج وقد يطالب الزوج بسكن المرأة بجوار أهله وهذا أمر في الحقيقة يحتاج إلى نظر فإن المرأة والرجل إذا اعترض الواحد منهما على السكن بجوار أهل الزوج أو الزوجة نُظِرَ وعُدِلَ في الفصل بينهما فإن كان البعد عن أهل الزوجة لمقصد شرعي وهو خوفه على زوجته الفتنة أو خوفه على زوجته أن تفسد بالقرب من أهلها أو كان الموضع القريب من أهل زوجته فيه جار سوء أو نحو ذلك كان من حق الزوج أن يصرفها إلى أي سكن يرى أنه أصلح وأفضل لها وليس من حق الزوج أن يلزم الزوجة بالسكن بجوار أهله مادام أن أهله لا يحفظون حقوق الله في بيته فيتدخلون في شئون زوجته وشئون أولاده فإذا وقع هذا كان من حق الزوجة أن تطالبه بالانتقال من هذا السكن إلى سكن أبعد ومن حقها أن تطالب بذلك لأن بقائها في هذا الموضع فيه ضرر .
أما لو كان الزوج يريدها أن تسكن بجوار والديه لبره لوالديه ووجود حاجة من الوالد والوالدة لقرب الزوج فإنه حينئذ يلزم الزوجة أن تستجيب وأن تبقى بجوار أهله وجوار والديه إذا كان الوالدان لا يضران بالزوجة .
فإذاً عندنا حالات :
الحالة الأولى : أن يلزمها الزوج بالسكن بجوار أهله فتلتزم بذلك خاصة إذا كان والداه بحاجة إليه فإنه يلزمها شرعاً إلا إذا كان الوالدان يتدخلان في شئون الزوج ويضران بها ويؤذيانها فمن حقها ألا تستجيب وتطالبه بأن يبعدها عن والديه حسما لمادة الفتنة وأسبابها .(1/52)
الحالة الثانية : إذا كانت الزوجة تطلب أن تكون بجوار أهلها وكان الزوج لا مشقة عليه ولا ضرر من جهة والديها فالأفضل والأكمل أن يستجيب لها في ذلك لأنه يقوم بحق أهله وَرَحِمِه فإن أهل الزوجة لهم حق على الزوج والله وصى من فوق سبع سموات بالأرحام خيراً فقربه من أهل زوجته من صلة الرحم ومن الإحسان إلى الرحم ومن تقوى الله في الرحم فحينئذ يستجيب لها ، هذا بالنسبة لقضية القرب والبعد في المسكن .
لكن هنا قضية وهي مسألة الجمع بين الزوجات في السكن الواحد قال العلماء في نوعية السكن الواجب : أنه ينبغي للزوج أن يكون سكن المرأة كاملاً بمنافعه ، فإذا أراد أن يجمع أكثر من زوجة في سكن واحد نُظِر فإن كان لكل واحدة منهن سكنها منفصلاً في مكان راحتها ومنافع سكنها عن الثانية كان من حقه ذلك ولا حرج عليه في ذلك ، لكن إذا شَرَّكَ بينهم في الشقة الواحدة المجتمعة المنافع لم يكن من حقه ذلك لأن الغيرة توجب الإضرار بالزوجة ، إذا كان عند الأخرى خاصة إذا اشتركن في السكن ، ولذلك نبه العلماء على أنه في حالة التعدد لا يكون السكن مشترك المنافع بين الزوجات لأنه يوجب ايقاع الفتنة بين الزوجات وقد يفسد على الزوج الحياة الزوجية ، ولذلك قالوا يطالب بفصلهما عن بعضهما .
فإذا كانا مثلاً في شقة واحدة فصل بينهما وجعل لكل شقة منافعها المستقلة بها فحق له حينئذ أن يسكنهن على هذا الوجه ، أما إذا كانت المنافع مشتركة ومختلطة فحينئذ ليس من حقه ذلك ، إلا إذا رضي الزوجات وتراضين على ذلك واستقمن في عشرتهن فهذا شيء يستثنى .(1/53)
أما من جهة الحق الواجب فمن حق كل واحدة أن تطالب بالانفصال عن الأخرى وأن يكون لها انفصال في سكنها ومنافع ذلك السكن وليس من حق الزوج أن يلزمها بأن تكون مع ضرتها سواء كانت واحدة أو كانت أكثر من واحدة فإن اشتركن في السكن الواحد وكانت المنافع لكل واحدة منافع سكنها نظر فان كان قرب الزوجة من الزوجة فيه ضرر عليها كأن تكون الزوجة الثانية مؤذية للزوجة الأولى والقرب يوجب الأذية ويوجب الإضرار كان من حق الزوجة أن تطالب زوجها بأحد أمرين :
الأمر الأول : إما أن يكف الأذية عنها .
الأمر الثاني : وإما أن يتحول إلى سكن تكون فيه مستقلة بعيدة عن أذية الأخرى لها.
بقيت مسائل في النفقة أولها متى تجب النفقة ، ومتى تقسط ؟ متى تجب النفقة أي متى تستحق المرأة أن تطالب زوجها بالنفقة ومتى يحكم القاضي بوجوب النفقة على الزوج لزوجته .
الشرط الأول : ينبغي أن يكون العقد صحيحاً فلا تجب النفقة في عقد فاسد فإذا كان عقد النكاح فاسداً فإنه لا يطالب الزوج بالنفقة ؛ لأن النفقة أثر مبني على العقد الصحيح فإذا كان العقد فاسداً لم يؤمر بالنفقة كنكاح الشغار ونكاح المتعة ونحو ذلك فهذا لا تجب فيه النفقة .
الشرط الثاني : أن تكون الزوجة مدخولاً بها فإذا عقد الرجل على الزوجة ولم يدخل بها لا يطالب بالنفقة عليها إلا في حالة واحدة وهي أن يمكنه أهل الزوجة من الدخول بها فيتأخر ، فإذا قال له أهل الزوجة أدخل بها وها هي زوجتك أدخل بها فامتنع من الدخول بها حينئذ كأنها زوجته وكأنها في عصمته والحبس منه لا منها .
ولذلك قالوا : إذا استأجرت عاملاً للعمل فمكنك من نفسه يستحق الأجره ولو لم يعمل فلو جئت به ووضعته في بيته ، أو قال لك سأتيك يوماً وجاءك ولم يشتغل ذلك اليوم وكان عدم عمله منك أنت لزمتك نفقته ، ولذلك قالوا : هذا مستحق للحبس ، فلما حبسها في عصمته ومُكِّنَ من الدخول بها ولم يدخل كان من حقها أن تطالبه بالنفقة .(1/54)
الشرط الثالث : إن تمكنه من الاستمتاع فإذا كانت ناشزه ممتنعه عن زوجها أن يطأها سقط حقها في النفقة ، وليس لها حق أن تطالبه بالنفقة قال-تعالى- : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }.
ومن هنا قال العلماء : إذا خرجت من بيتها إلى بيت أهلها بدون إذنه ولم تأت إلى زوجها وامتنعت حبسها أهلها شهراً أو شهرين أو ثلاثة فهذه المدة كلها لا تستحق فيها الزوجة النفقة ، ومن هنا تسقط نفقة المريضة فلو احتبست لمرض فإنه تسقط نفقتها ولكن من باب الإحسان يعطيها ويحسن إليها .
الشرط الرابع : أن لا تكون ناشزاً فالمرأة إذا نشزت على زوجها وأصبحت تمتنع من فعل أمره وتخالفه ولا تستجيب لما يأمرها به وتؤذيه وتضاره ولا تعاشره بالمعروف كان من حقه أن يقطع النفقة عنها ، ولذلك قال العلماء : المرأة الناشز لا تستحق النفقة إذا كان نشوزها كاملاً ويدخل في ذلك امتناعها من الفراش كما قدمنا .
بقيت مسألة ثانيه : متى تستحق النفقة وهل إذا مرضت المرأة هل يجب على الزوج أن ينفق عليها في علاجها ودوائها ؟
جماهير أهل العلم وحكى بعض العلماء الإجماع على أن الزوج لا يجب عليه أن يعالج زوجته وأنها إذا مرضت فعلاجها عليها وليس عليه أن ينفق عليها لدواءٍ وعلاج لكن قالوا إذا جرى العرف بالمداواة والمعالجة وجرى ذلك بين الناس فإنه يستحسن له أن يفعل بها ذلك وأجره عند الله كبير لأن أفضل من تحسن إليه هو أقرب الناس منك وأفضل من توده وتكرمه هو اقرب الناس منك ، وأقرب الناس إلى الإنسان أهله فلذلك ينفق عليها ؛ ولكن إذا كان دوائها وعلاجها أو كان فقيراً أو كان ذلك يضر به وامتنع وقال لا يجب علي وامتنع كان من حقه عليه ذلك ولا يلزم به شرعاً .(1/55)
تستثنى من ذلك حالة وهي حالة الحمل فإذا كانت المرأة في حال حملها تحتاج إلى علاج وإلى دواء من أجل جنينها ومن أجل ولدها فإنه يجب عليه أن ينفق لاتصال الحق به من جهة ولده ، ولذلك يقوم على علاجها ويقوم أيضاً على حق الولادة وما يتبع ذلك من الأمور المستحقة لتعلق نفقة الجنين به .
هذه النفقات يجب على الزوج أن يقوم بها بالمعروف وإذا قصر الزوج حكم بإثمه قال العلماء : إذا امتنع من الإنفاق على الزوجة ترتب أمران :
الأمر الأول : الحكم بإثمه .
الأمر الثاني : أنه يعزره القاضي .
فإذا امتنع وأضر بالمرأة وحصل بسبب امتناعه إضرار ورفعت أمرها إلى القاضي فإنه يستحق التعزيز لمكان الأذية والإضرار ، وعلى القاضي أن يلزمه بقضاء ما مضى من النفقات فلو مضت مدة والزوج ممتنع من الإنفاق قدر القاضي نفقة الزوجة فيها وأمر الزوج بقضاء ذلك كله .
وقال بعض العلماء : تسقط النفقة بمضي المدة إذا سكتت المرأة وهذا قول مرجوح .
والصحيح مذهب الجمهور أنها حق في الذمة والمرأة تطالب به زوجها ؛ لأن الله - عز وجل - فرض عليه ذلك الحق فإذا قصر فيه ألزم بضمانه على الوجه المعروف .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الأبناء
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فسيكون حديثنا اليوم عن حقوق الأولاد هذه النعمة العظيمة التي أمتن الله بها على عباده وهي نعمة الولد ؛ إنما تكون نعمة حقيقية إذا قام الوالدان بحقها وحقوقها وأحسنا في رعايتها ، وقد جاءت نصوص كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين المنهج الأكمل والطريق الأمثل في تربية الأولاد .(1/56)
الأولاد ... نعمة من نعم الله - عز وجل - ، هذه النعمة رفعت الأكف إلى الله بالضراعة أن يكرم أصحابها بها، فقال الله عن نبي من أنبيائه : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } .
وقال الله عن عباده الأخيار : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
الأولاد والذرية تقر بهم العيون وتبتهج بهم النفوس وتطمئن إليهم القلوب إذا طابوا وقام الوالدان على رعاية الأولاد والعناية بهم وأداء حقوقهم كاملة على الوجه الذي يرضي الله - عز وجل - .
وحقوق الأولاد قسمها العلماء إلى قسمين :
القسم الأول : ما يسبق وجود الولد .
والقسم الثاني : ما يكون بعد وجوده . فالله حمل الوالدين المسئولية عن الولد قبل وجود الولد وحملهما المسئولية عن تربيته ورعايته والقيام بحقوقه بعد وجوده .
فأما مسئولية الوالدين عن الولد قبل وجوده فإنه يجب على الوالد ويجب على الوالدة أن يحسنا الإختيار ، فيختار الأب لأولاده أما صالحة ترعى حقوقهم وتقوم على شئونهم ، أماً أمينة تحفظ ولا تضيع وعلى الأم أيضاً أن تختار زوجاً صالحاً يحفظ أولادها ويقوم على ذريتها فاختيار الزوج والزوجة حق من حقوق الولد ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تنكح المرأة لأربع ، لدينها وجمالها ومالها وحسبها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) .
اظفر بذات الدين حتى ترعى الذرية وتقوم على إصلاحها وتربيتا على نهج ربها ، اظفر غنيمة وفوز .(1/57)
وكذلك المرأة تختار الزوج الصالح الذي ترضى دينه وأمانته وخلقه وإذا أساء الرجل في اختيار زوجته ونظر إلى حظه العاجل من جمال ومال ونسي حقوق أولاده فإن الله يحاسبه حتى ذكر بعض العلماء : أن الزوج لو أختار الزوجة وعلم أنها لا تحسن إلى ذريته من بعده فإن الله يحمله الإثم والوزر لما يكون منها من إساءة إلى ولده ، وكذلك المرأة إذا لم تحسن الاختيار لزوجها وعلمت أنه زوج يضيع حقوق أولاده وفرطت وتساهلت وضيعت فإن الله يحاسبها عما يكون من إثم ذلك الزوج وأذيته لأولادها ، حق على الوالدين أن يحسنا الإختيار وأن يكونا المنبت الطيب هو الذي يبعث عنه الإنسان ، فالناس معادن كما أخبر سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - فيهم المعدن الكريم الذي طابت أصوله وإذا طابت الأصول طابت الفروع .
إن الأصول الطيبات لها فروع زاكيه ، والله - سبحانه وتعالى - يقول : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } فإذا كان معدن المرأة كريماً من بيت علم أو دين أو عرف بالصلاح والإستقامه فإنه نعم المعدن ونعم الأمينة التي ستحفظ الأولاد والذرية في الغالب ، وكذلك الرجل إذا كان معدنه طيباً فإنه سيكون حافظاً لأولاده ، ولا يعني هذا أن المرأة إذا ابتليت بزوج مقصر أنها تيأس بل ينبغي عليها أن تحاول وأن تستعين بالله في إصلاح ذريتها وأولادها فإن الله - عز وجل - يقول : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ } فربما يكون الزوج غير صالح ؛ ولكن الله يخرج منه ذرية صالحة وقد يكون الزوج صالحاً ويخرج الله منه ذرية غير صالحة .
أخرج الله من أبي جهل عكرمة وهو من خيار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقائد من قواد المسلمين وعظم بلاؤه في الدين وقد يخرج الميت من الحي كما في ولد نوح - عليه السلام - .(1/58)
فالمقصود أن الأصل والغالب أنه إذا طاب معدن المرأة أن يطيب ما يكون منها من ذرية هذا هو الحق الأول ، وإذا أختار الإنسان الزوجة فمن حقوق ولده أن يسمي عند إصابة أهله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر التسمية عند الجماع أنها حرز وحفظ من الله للولد من الشيطان الرجيم قال العلماء : وهذا حق من حقوق الولد على والده إذا أراد أن يصيب الأهل .
وإذا كتب الله بخروج الذرية فليكن أول ما يكون من الزوج والزوجة شكر الله - عز وجل - من أراد أن يبارك الله له في نعمة من نعمه فليشكر الله حق شكره ؛ لأن النعم لا يتأذن بالمزيد فيها والبركة إلا إذا شكرت ، وإذا نظر الله إلى عبده شاكراً لنعمه بارك له فيما وهب وأحسن له العاقبة فيما أسدى إليه من الخير .
فأول ما ينبغي على الوالد والوالده إذا رأيا الولد أن يحمدا الله على هذه النعمة وأن يتذكرا العقيم الذي لا ذريه له وأن يسأل الله خير هذا الولد وخير ما فيه فكم من ولد أشقى والديه وكم من ولد أسعد والديه فيسأل الله خيره وخير ما فيه ويستعيذ به من شره ويعوذ بالله من ذرية السوء .(1/59)
ثم إذا كتب الله ولادة الولد فهناك حقوق أجملها العلماء منها حق التسمية أن يختار له أفضل الأسماء وأكرمها لأن الأسماء تشحذ الهمم على التأسي بالقدوة ، ولذلك قال بعض العلماء : خير ما يختار الأسماء الصالحة وأسماء الأنبياء والعلماء والفضلاء لأنها تشحذ همة المسمى إلى أن يقتدي وأن يأتسي قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري : (( ولد لي الليلة ابن سميته على اسم أبي إبراهيم )) فسمي إبراهيم على اسم أبيه ، ولذلك قالوا : أنه يراعى في الاسم أن يكون اسماً صالحاً ولا يجوز للوالدين أن يختارا الاسم المحرم وهو الاسم الذي يكون بالعبودية لغير الله كعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء كعبد النبي وعبد الحسين ونحو ذلك من الأسماء التي يعبد فيها البشر للبشر ؛ وإنما ينبغي أن يعبد العباد لله جلا جلاله وهي الأسماء المحرمة .
كذلك ينبغي أن يجنب الولد الأسماء القبيحة والأسماء المذمومة والممقوتة والمستوحش منها حتى لا يكون في ذلك اساءة من الوالدين للولد .
قالوا : من حقه أن يختار له أفضل الأسماء وأحب الأسماء إلى الله ما كان للعبودية لله كعبدالله ، وعبدالرحمن ونحو ذلك من الأسماء التي تكون مصدرة بالعبودية لله - عز وجل - .(1/60)
وينبغي أن يجنبه كذلك ما ذكره العلماء من الأسماء المكروهة التي فيها شيء من الدلال والميوعة التي لا تتناسب مع خشونة الرجل ، والعكس أيضاً فإن البنت يختار لها الإسم الذي يتناسب معها دون أن يكون فيه تشبه بالرجال وقد جاء عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أنه سمى بنته عاصية كما ذكر الإمام الحافظ أبو داود وغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمها إلى جميلة فقد جاء عنه-عليه الصلاة والسلام- في أكثر من حديث أنه غير الأسماء القبيحة فمن حق الولد على والديه إحسان الاسم ، والأسماء تكون للوالد ولا حرج أن تختار الأم لابنها وابنتها لا حرج في ذلك ولا باس إذا اصطلحا بالمعروف ومن حقوق الولد ان تكون التسمية في أول يوم من ولادته أو ثاني يوم أو ثالث يوم أو سابع يوم لا حرج والأمر في ذلك واسع ، وقد جاء عنه-عليه الصلاة والسلام- في حديث الحسن عن سمرة أنه ذكر العقيقة فقال : (( كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى )) فقال بعض العلماء : تستحب التسمية في السابع ولكن الجواز يجوز في أول يوم لحديث البخاري : (( ولد لي الليلة ابن سميته على اسم أبي إبراهيم )) . فهذا يدل على مشروعية التسمية في أول يوم ولاحرج في ذلك والأمر واسع .(1/61)
كذلك من حقه أن يختن الولد سواء كان ذكراً أو أنثي فالختان مشروع للذكور ومشروع للإناث وهذه المسألة ليست محل نقاش حتى يسأل فيها غير العلماء أو يرجع فيها إلى آراء الناس وأهوائهم ؛ وإنما ينظر فيها إلى الشرع يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل )) فالذي يقول ليس في الشريعة دليل يدل علي مشروعية ختان الإناث جاهل لا يعرف ما ورد في نصوص السنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال : (( إذا التقى الختانان )) فبين-صلوات الله وسلامه عليه- أن المرأة تختن كما يختن الرجل ، قال العلماء : إن هذا يخفف من حدة الشهوة من المرأة وهذا من حقها أن تختن ويراعى ختانها ، وكذلك الذكر يختن هذا إذا كان في صغره .
كذلك أيضاً من أعظم الحقوق وأجلها حسن التربية والرعاية للابن والبنت ، ولقد رغب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا العمل الصالح حتى ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه قال : (( من أبتلى بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كن له ستراً أو حجاباً من النار )) . فهذا يدل على فضيلة تربية الابن وتربية البنت على الخصوص على طاعة الله ، قال العلماء : إنما ذكر البنت لأنها هي المربية غداً لأبنائها وبناتها والقائمة على حقوق بعلها وبيت زوجها فلذلك ذكر رعاية البنات وإلا فالفضيلة موجودة .(1/62)
أيضاً لمن رعى الأبناء وقام عليهم وأدبهم فأحسن تأديبهم ، ومن هنا قال-عليه الصلاة والسلام- يبين حسن العاقبة لمن أنعم الله عليه بهذه النعمة وهي تربية الولد تربية صالحة ذكر حسن العاقبة فقال : (( إذا مات ابن آدم أنقطع عمله إلا من ثلاث ، صدقه جاريه وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له )) . قال العلماء : إن الله - عز وجل - يحسن المكافأة لعبده على ما كان منه من رعايته لولده فكما أحسن إلى ولده في الصغر يجعل الله له إحسانه نعمة عليه حتى بعد موته ، بل إن الذي يربى في الصغر ويحسن تربيه أولاده يرى بأم عينيه قبل أن يموت حسن العاقبة في ولده ، ولهذا تجد من ربى ابنه على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وعلى ما يرضي الله - عز وجل - ، إذا كبر فرق عظمه ووهن وأصابه المشيب والكبر وجد أبنه بجواره يساعده ويقوم على شأنه ويحفظ أمواله أميناً راعياً حافظاً على أتم الوجوه وأحسنها . وهذه هي ثمرة العمل الصالح وثمرة من ربى وتعب على تربية أبنائه ، والعكس فمن ضيع ابناءه فإن الله يريه في الحياة قبل الموت شؤم ما كان منه من التقصير فيصيبه الكبر فيهن عظمه ويرقد ويجد من تعب الحياة وشظفها فيأتي ابناءه ليكيدوا له ويؤذوه ويذلوه ويروه سوط العذاب في الدنيا قبل الآخرة وهذه كله من عواقب سوء التربية-نسأل الله السلامة والعافية- ، فلذلك رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا العمل الصالح وهو تربيه الأبناء ، رغب فيه لعلمه بحب الله لهذا العمل وحبه-سبحانه- لمن قام به على أتم الوجوه وأكملها وخير ما يربى علية الأبناء وأكد وأوجب ما يرعى من تربية الأبناء التربية الايمانية .(1/63)
فأول ما يغرس الوالدان في قلب الولد الإيمان بالله - عز وجل - الذي من أجله خلق الله خلقه وأوجدهم . { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } فأول ما يعتني به غرس الإيمان وغرس العقيدة لا إله إلا الله تغرس في قلب الصبي فيعتقدها جنانه ويقر بها وينطق بها وينطق بها لسانه وتعمل بها وبلوازمها جوارحه وأركانه قال الله-تعالى- : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فأول ما ابتدأ به وأول ما قام ودله عليه في وعظه ونصحه وتوجيهه أن ذكره بحق الله - جل جلاله - وبين له أن ضياع هذا الحق هو الظلم العظيم ؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وليس هناك أعظم من أن يصرف حق الله-جل وعلا- في عبادته لغيره كائن من كان ذلك الغير ، ولهذا وعظ لقمان وابتدأ موعظته بهذا الأصل العظيم .(1/64)
فأول ما ينبغي على الوالدين أن يغرسا في قلب الصبي الإيمان بالله - عز وجل - هو أطيب وأكمل وأعظم ما يكون من الأجر أن يغرس الأب وتغرس الأم في قلب الولد الأيمان بالله - عز وجل - وهو فاتحة الخير واساس كل طاعة وبر لا ينظر الله إلى عمل العامل أو قوله حتى يحقق هذا الأصل ويرعاه على أتم الوجوه وأكملها ، ولذلك لما ركب عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- مع رسول الأمه - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير السن ركب وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أختار-عليه الصلاة والسلام- أن يأخذ بمجامع قلبه وهو في صغره إلى توحيد الله - جل جلاله - : (( - يا غلام - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن )) وأنظر إلى الأسلوب : (( - يا غلام - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ينفعك الله بها نفع الدين والدنيا والآخرة احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فأستعن بالله وأعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف )) . ملأ قلبه بالله ملأ قلبه بالأيمان والعبودية والتوحيد وإخلاص التوجه لله - سبحانه وتعالى - . احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك فأخذ بكليته إلى الله واجعل الله نصب عينيك كأنه يقول اجعل الله نصب عينيك ، إذا سألت فكنت في فاقه وضيق وشده فسأل الله وإذا استعنت وألمت بك الأمور ونزلت بك الخطوب والشدائد فأستعن بالله ، ثم بعد ذلك ينفض يديه من الخلق وأعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، ولذلك ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله .(1/65)
يقول بعض أهل العلم-رحمة الله عليهم- إن الوالد مع ولده يستطيع في كل لحظه أن يغرس الإيمان فالمواقف التي تمر مع الوالد مع ولده ويكون الولد بجواره يذكره فيها بالله ويذكره فيها بوحدانية الله وأن الله قائم على كل نفس بما كسبت وأنه وحده بديع السموات والأرض خالق الكون ومدبر الوجود لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه-سبحانه- ، فإذا نشأ هذا القلب على الفطرة ونشأ هذا القلب على التوحيد نشأ على الأصل العظيم الذي فيه سعادته وصلاح دينه ودنياه وآخرته فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله فتأتي هذه الكلمات النيرات والمواعظ المباركة إلى قلب ذلك الصبي وهو على الفطرة وهو على الإيمان لا تشوبه شائبة كما قال-عليه الصلاة والسلام- : (( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه )) فيغرس هذا الايمان علي تلك الفطرة فتكون نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء وعلى هذا ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله - عز وجل - ، من التربية الايمانية الأمر بالصلاة قال-تعالى- : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } وقال-عليه الصلاة والسلام- : (( مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع )) فمن حق الولد على والديه الأمر بالصلاة أن يأمراه بالصلاة في مواقيتها ، قال العلماء : يجب على الوالد وعلى الوالدة أن يعلما الولد كيفية الوضوء وكيفية الطهارة ، واستقبال القبلة ، وصفة الصلاة ، والهدي الذي ينبغي أن تؤدي به هذه العبادة .(1/66)
والله ما علمت ابنك الوضوء فصب الماء على جسده إلا كان لك مثل أجره ولا حفظته الفاتحة أو شيء من كتاب الله فلفظ لسانه بحرف مما علمته إلا كنت شريكا له في الأجر حتى يتوفاه الله - عز وجل - ولو علم ذريته فأنت شريك له في الأجر فمن دعا إلى الهدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وما علمته الصلاة فقام في ظلمة ليل أو ضياء نهار بين يدي الله إلا أجرت على قيامه وكان لك مثل أجره وثوابه ، فخير كثير وفضل عظيم يتاجر فيه الوالد مع الله - عز وجل - وما قيمة الأولاد إذا لم يقاموا على طاعة الله - عز وجل - ويقاموا على منهج الله وتنشأ تلك النفوس على محبة الله ومرضاة الله والقيام بحقوق الله فلا خير في الولد إذا تنكر لحق الله وإذا ضيع الولد حق الله فسيضيع حقوق من سواه ممن باب أولى وأحرى ، فينشأه على اقامة الصلاة ويعوده إنه إذا أذن المؤذن ينطلق إلى بيت الله - عز وجل - عامره بذكره ، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة لسبع عند نعومة الصبي وصغر سنه حتى إذا كبر ألف ذلك الشيء واعتاده ، كذلك - أيضاً - هذه التربية الايمانية تستلزم التربية على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وما يكون من الإنسان في معاملته مع الناس : { يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ @ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ @ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .(1/67)
يقول بعض العلماء : هذه الآيات وصايا لقمان منهج في التربية على أكمل شيء ، فهو يجمع بين حق الله وحق عباده ، بل حتى حظ النفس فقد أمره بما فيه قوام النفس واستقامتها حتى في أخلاقها مع الناس ، ولذلك لا تصعر خدك للناس كبرياء وخيلاء ولا تمشي في الأرض مرحاً فالانسان إذا أراد أن يربى ولده يربيه على مكارم الأخلاق فكمال العبد في كمال خلقه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )) يعوده الصدق في الحديث وينهاه عن الكذب يعوده حفظ اللسان وينهاه عن أن يرتع لسانه بأعراض المسلمين بالغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن ، ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمن أن يعد فلوه صغيره ثم لا يفي له ، نهاه لأن الابن إذا رأى من والديه التقصير بالكذب في الوعد نشأ كاذباً-والعياذ بالله- فالولد يتأثر بوالديه فإن رأي منهما خيراً سار على ذلك الخير وأحبه وإن رأى منها الشر سار على ذلك الشر وأحبه والتزمه حتى يصعب أن ينفك عنه عند الكبر-نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك ينبغي أن يعود على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كما ذكر العلماء في قوله وعمله وقلبه يقولون في قلبه يغرس الوالد في قلب الابن حب المسلمين فلا يغرس في قلبه الحقد عليهم ولا يغرس في قلبه الحسد ولا يغرس في قلبه البغضاء وإنما يغرس في قلبه حب المؤمنين صغاراً وكباراً ، حب المسلمين خاصة صالحيهم وعلمائهم ودعاتهم ينشئه على حبهم ولو أخذه معه إلى مجالس الذكر حتى ينشأ على حب العلماء والاتصال بهم والارتياح لهم كل ذلك من الأمور المطلوبه من الوالد حتى يقيم قلب الصبي على طاعة الله .
كذلك ينشأه في لسانه على ما ذكرناه في صدق القول وحفظه عن أعراض المسلمين فإذا جاء يتكلم الابن يعرف أين يضع لسانه وإذا جاء يتحدث يعرف ما الذي يقول وما الذي يتكلم به وهذا يستلزم جانبين ذكرهما العلماء :(1/68)
الجانب الأول : الأدب الإسلامي ، مِن توقي المحرمات في الألسن وتعويده على أصلح ما يكون في طاعة الله من ذكر الله - عز وجل - كالتسبيح والاستغفار ونحو ذلك من الأذكار ويحبب إلى قلبه تلاوة القرآن هذا بالنسبة للجانب الديني .
الجانب الثاني : الجانب الدنيوي يعوده على الحياء والخجل فلا يكون صفيق الوجه سليط اللسان ويقولون جريء والدك على الكلام هذا لا ينبغي إنما ينبغي أن يعود الحياء أولاً ثم إذا كان جريئاً يكون جرئته منضبطه بالحياء كان - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس حياء من العذراء في خدرها ويقولون الولد ما يصبح رجل إلا إذا كان جريئاً فتجده يترك الولد يتكلم أمام من هو أكبر منه سناً وتجد الولد يتكلم حتى بقبائح الأمور فيتبسم الوالد ويقول هكذا الابن وإلا فلا ، لا والله لا ينشأ الابن على السوء فيكون كاملاً مهما كان ولو كانت الناس تظن أن هذا كمال فإنه نقص ، ولذلك لما جاء حويصه يتكلم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( كبر كبر )) فعلمه الأدب وهو كبير فقال له كبر كبر فإذا جلس بين الكبار لا يتكلم ؛ وإنما يكف لسانه ويجلس حيياً مستحياً بالحياء الذي يتجمل به أمام عباد الله - عز وجل - أما أن يعود الجرأة على الكلام والجرأة على الحديث فهذا مما لا تحمد عقباه ، فإذا تعود الجرأة من صغره ألفها في كبره ؛ لكن يعود الحياء يعود السكوت والإنصات لكبار السن ولا يتكلم بحضرتهم إلا بقدر فإذا كبر وعقل الأمور تكلم عند موجب الكلام وصدر عن انضباط وحفظ لسانه ؛ لأنه أعتاد ذلك وألفه وربى عليه .(1/69)
هذه بالنسبة للأمور الدنيوية أنه يعود على أجمل ما يكون عليه من الكلام الطيب والعبارات الطيبه ، فإذا خاطب من هو أكبر منه أمر بأن يخاطبه بالإجلال والإكبار والتقدير فلا يرضى الوالد لولده أن يخاطب كبير السن أمامه باسمه ؛ وإنما يقول له خاطبه بياعم أو نحو ذلك من الكلمات التي فيها إجلال وتوقير حتى ينشأ الصغير علي توقير الكبير وتلك سنة الإسلام قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولا يرحم صغيرنا )) فلابد من تعويد الابن على توقير الكبير واحترامه وتقديره وإجلاله .
وإذا وفق الله - عز وجل - الوالدين لحب التربية تربية الولد التربية الصالحة فليعلما أن ذلك لا يكون إلا بأمور مهمة إذا أراد الوالد والوالدة أن يقوما على تربية الولد فهناك أسباب تعين على التربية الصالحة :
أولهما وأعظمها وأجلها : الدعاء فيكثر الوالدين من الدعاء للولد يسأل الله - عز وجل - أن يكون الولد صالحاً كما قال الله-تعالى- : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } تكثر من الدعاء لولدك فلعلك أن توافق باباً في السماء مفتوحاً فيستجاب لك ، الله أعلم كم من أم وكم من أب دعا لولده دعوة اسعدته في الدنيا والآخرة ، أم سليم-رضي الله تعالى عنها- جاءت بأنس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت : - يا رسول الله - خويدمك أنس أدعو الله له فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بخير الدنيا والآخرة فتسببت له في ذلك الخير-رضي الله عنها وأرضاها- .
فيحرص الوالد على كثرة الدعاء أن الله يصلح ذريته والله-تعالى- يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ولا يسأم ولا يمل ولا ييأس من رحمة الله ولا يقنط من روح الله وإنما عليه أن يحسن الظن بالله - عز وجل - .(1/70)
كذلك أيضاً الأمر الثاني : وهو من الأهمية بمكان مما يعين على التربية الصالحة القدوة الحسنة الأولاد الأبناء البنات لا ينتظرون الكلام بمثل العمل والتطبيق فإذا نشأ الابن وهو يرى أباه على أكمل ما يكون عليه الأب ويرى أمه على أكمل ما تكون عليه الأم تأثر وأصبح متصلاً بهذه الأخلاق الحميدة والآداب الكريمة حتى تصبح سجية له وفطرة لا يتكلفها ولا يستطيع أن يتركها ، كذلك البنت إذا نشأت وقد رأت من أبيها الصلاح والاستقامة على الخير ورأت من أمها الصلاح والاستقامة على الخير أحبت الخير وألفته كيف يكون الابن صادقاً وهو ينشأ في بيت يسمع فيه أباه-والعياذ بالله- يكذب فلربما طرق عليه الضيف فيقول : أذهب وقل له ليس بموجود ، كيف ينشأ الابن صادقاً في قوله إذا كان والده يعلمه من خلال سلوكه وتصرفاته سيء العادات-والعياذ بالله- وكيف تكون البنت على صلاح واستقامة وهي ترى من أمها التقصير في الصلوات والطاعات نائمة عن فرض الله - عز وجل - أو مضيعة لحق الله في قولها وفعلها فأهم ما ينبغي قي التربية الصالحة القدوة وإذا كان الإنسان قدوة للغير تأثر الغير بكلامه وجعل الله لمواعظه وكلماته وتوجيهاته أثراً في النفوس وانتفع الناس وأنتفع أولاده بما يقول - نسأل العظيم أن يرزقنا القول والعمل - .(1/71)
كذلك أيضاً من الأمور المهمة : وهي من حقوق الأولاد التي ينبغي رعايتها ونختم بها هذا المجلس حق العدل بين الأولاد ، وهذا الحق أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) فلا يجوز تفضيل الإناث على الذكور كما لا يجوز تفضيل الذكور على الإناث كان أهل الجاهلية يفضلون الذكر على الأنثى وكانوا يقتلون الأنثىكما أخبر الله - عز وجل - في كتابه وقال : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } . فإذا بشر بالإناث تمعر وجهه وتغير وكأنه يبشر بسوء-نسأل الله السلامه والعافية- فلذلك أدب الله - عز وجل - المسلمين على الرضا بقسمة الله - عز وجل - ، يرضى الإنسان بالولد ذكراً كان أو أنثى ولا يفضل الإناث عن الذكور ولا الذكور على الإناث ؛ وإنما يعدل بين الجميع ، كان السلف-رحمهم الله- يعدلون بين الأولاد حتى في القبلة فلو قبل هذا رجع وقبل هذا حتى لا ينشأ الأولاد وبينهم الحقد ، ولذلك قالوا إن التفضيل يتسبب في مفاسد أولها يكون ضرره على الوالد نفسه فإنه ينشأ الأولاد على حقده وكراهيته وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بقوله في الحديث الصحيح للنعمان : (( أتحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟ )) قال : نعم . أي إذا كنت تريدهم في البر سواء فأعدل بينهم وكن منصفاً فيما تسدي اليهم .(1/72)
كذلك أيضاً من المفاسد التي تترتب على عدم العدل أنها توغر صدور بعضهم على بعض ، ولذلك حصل ما حصل بين يوسف وإخوته لأنهم : { قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } ، لذلك لا ينبغي أن يكون الوالد أو الوالدة فى التصرفات والأعمال على تفضيل ولد على ولد وإنما يكون كل منهم على تقوى الله - عز وجل - فيحسنوا إلى الجميع سواء كان ذلك التفضيل من الجانب المعنوى أو الجانب الحسي المادي ، فإذا أعطى الإبن شيئاً يعطي الأنثى كذلك .
واختلف العلماء في كيفية العدل بين الذكر والأنثى ولهم قولان مشهوران :
القول الأول : قال بعض العلماء : المال الذي يعطيه للذكر يعطي مثله قدراً للأنثى سواء بسواء فإن أعطى هذا ديناراً يعطي هذه ديناراً .
القول الثاني : وقال جمع العلماء : إن العدل بين الأولاد أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثثيين وهذا هو الصحيح ؛ لأنه قسمة الله - عز وجل - من فوق سبع سموات وقال-تعالى- : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } فإن الولد تنتابه من المصارف ويحتك بالناس وتكون مصارفه أكثر من الأنثى ، ولذلك قالوا : يجعل للذكر مثل حظ الإنثيين وهذا هو مذهب طائفة من أهل العلم وهو الصحيح ؛ لأنه قسمة الله - عز وجل - ولا أعدل من الله بين خلقه ، الله - عز وجل - عدل بين عباده ففضل الذكر على الأنثى من هذا الوجه وليس في ذلك غضاضه على الأنثى ولا منقصه .(1/73)
كذلك أيضاً قد تكون هناك موجبات خاصه أستثناها بعض العلماء من العدل فقالوا : إذا كان أحد الأولاد يتعلم أو يقوم على أمر من الأمور المختصه به يختاجها لصلاح دينه أو دنياه فلا بأس أن يخص بالعطيه إذا كان عنده عمل ومحتاج اليه قالوا ؛ لأنه من العدل أنه لما تفرغ للعلم أن يعان علىتعلمه ، ولذلك يعطى حقه لما تفرغ لهذا العلم الذي فيه نفعه ونفع العباد ، وهكذا إذا تفرغ لكي يتعلم حداده أو صناعة أو نحو ذلك فإن والده إذا أراد أن يعطيه من أجل هذا التعلم ينفق عليه على قدر حاجته ولا يلزم بإعطاء الأنثى مثل ما يعطيه أو نصف ما يعطيه ؛ لأن الأنثى لا تعمل كعمله فلو أعطى الأنثى مثل ما يعطيه فإنه في هذه الحاله قد ظلم الذكر ؛ لأن الأنثى أخذت من دون وجه ومن دون أستحقاق ، وعلى هذا فإن من حق الأولاد على الوالدين العدل سواء كان ذلك في الجانب المعنوي أو الجانب المادي وكان بعض العلماء يقول : ينبغي على الوالد أن يرى أحاسيسه ومشاعره ، وكذلك على الوالده يرعى كل منهما الأحاسيس والمشاعر خاصة بحضور الأولاد فلا يحاول الوالد أن يميل إلى ولدٍ أكثر من الآخر أثناء الحديث أو يمازحه أو يباسطه أكثر من الأخر ؛ وإنما يراعي العدل في جميع ما يكون منه من التصرفات لمكان الغيرة .
- ونسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يعصمنا من الزلل ، وأن يوفقنا في القول والعمل ، أنه المرجو والأمل - ، والله - تعالى - أعلم .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الأرحام
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :(1/74)
فسيكون حديثنا اليوم عن أمر عظيم وحق جليل كريم ، عن حق من الحقوق التي فرضها الله على الأزواج والزوجات ، لا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين وأن تتم الإلفة والمحبة والمودة إلا بالقيام بهذا الحق وأدائه على الوجه الذي يرضى الله - عز وجل - هذا الحق وصى الله - عز وجل - عبادة من فوق سبع سموات أن يتقوه وأن يتقوا الأرحام فقال - سبحانه وتعالى - : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
إنها الرحم خلقها الرحمن واشتق لها اسماً من اسمه فهو الرحمن وهي الرحم من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعة الله ، ومن قطعه الله فلا تسأل عن حاله في ضيعة وخسار ووبال-والعياذ بالله- ، هذا الحق هو حق الأرحام والدا الزوج ووالدا الزوجة وآل كل وقرابة كل .
فرض الله - عز وجل - على المؤمن أن يتقيه - سبحانه وتعالى - في الرحم وواجب على كل زوج إذا أراد أن يوفقه الله في زواجه وأن يسعده في أهله ونكاحه أن يحفظ حق قرابة زوجته وواجب على كل زوجه تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتقى الله في والدي زوجها وفي قرابته ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه )) فجعل الله - عز وجل - صلة الرحم من الإيمان به لأنه لا يحفظ زوج حق رحمه ولا تحفظ زوجة حق رحمها إلا بباعث من الإيمان بالله - عز وجل - هذا الحق وهو حق الأرحام قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - على أتم الوجوه وأكملها وأفضلها وأحسنها فكان يصل قرابة زوجه ، وفي السير أنه كان جالساً مع أم المؤمنين عائشة-رض الله عنها وأرضاها- فسمع صوت امرأة تستأذن فقام - صلى الله عليه وسلم - كالفزع فإذا بها امرأة كبيرة وإذا به يقول إنها هالة إنها هالة أخت خديجة ، ذكرته-عليه الصلاة والسلام-بحبه وزوجه وذكرته بما بينه وبين أهله .(1/75)
هذا الحق فرضه الله على الزوج لكي يكون كريماً مع أهل زوجته ولن يستطيع الزوج أن يحفظ حق أهل زوجة إلا إذا كان في نفسه من صفاء القلب وحفظ العهد ورعاية الحق ما يعينه على ذلك .
أول ما ينبغي على الزوج أن يتذكر حق والد الزوجة عليه ، حقه يوم اختاره من بين الناس زوجاً لابنته يوم أختاره من بين الناس كفؤاً كريماً يستر عورته ، يسترها ولا يفضحها ويكرم بنته ولا يهينها ولذلك أشبه الناس بالأب بناته كما ذكروا حتى قيل إن البنت الكبرى تشابه أباها . ذكرت عائشة-رضي الله عنها- كما في الصحيح مثالاً على ذلك فقالت-رضي الله عنها- : جاءت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما تخالف مشيتها مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فالذي يختار الزوج ويرضى به زوجاً لبنته فإن هذا يدل عن حسن النية وعن حسن الظن الأمر الذي يوجب على الزوج أن يحفظ هذا الحق وأن يعتبره دينا عليه ، ولذلك كان بعض الفضلاء يؤذي من زوجته وتضره وما وقف يوماً من الأيام على أبيها يشتكي فلما عظمت أذيتها واشتدت بليتها قيل له هلا اشتكيتها إلى أبيها ، قال زوجني وأكرمني فاستحي أن اقف على بابه شاكياً .
فإذا كان الإنسان حراً كريماً أعظم الإحسان وأجله ورده بمثله وأفضل منه وتلك سنة الأخيار ، وإذا تذكر الإنسان اختيار أهل زوجه له قابل ذلك بحسن المكافأة ورد الجميل وذلك من الإيمان كما قال-عليه الصلاة والسلام- : (( حفظ العهد من الإيمان )) .(1/76)
كذلك أيضاً عليه أن يتق الله في حقوق والدي الزوجة من الصلة والبر فصلة أهل الزوجة واجبة على الزوج كما هي واجبة على بنتهم وهي زوجته فلا يقطعهم من زيارة وإذا زارهم زارهم كريماً محباً مشتاقاً يظهر المحبة والمودة ويجعل من هذه الزيارة تأكيداً لما بينه وبين هذه الرحم من صلة ، فإذا نظر الله إلى ذلك رضي على صاحبه وجعل له الخير في حياته فنعمت عين الزوجة وهي ترى أهلها في كرامةٍ من بعلها الأمر الذي ينعكس بالآثار الحميدة في معاملتها لأهله ، وإذا زار رحمه فإن عليه أن يتوخى آداب الزيارة في مواقيتها .
وكذلك في الدخول والاستئذان وفي الجلوس فيراعي الحرمات ولا يبالغ في الدخول إلى البيت والجلوس إلى ساعات طويلة والدخول في عورات البيت إلى غير ذلك مما لا يليق بالكريم ولا ينبغي للمؤمن بل عليه أن يزور زيارة يحفظ بها ماء وجهه ويكون متسربلاً بسر بال التقوى الذي يحبه الله ويرضى ، وإذا جلس مع رحمه أجله وأكرمه فإذا لقيه تبسم في وجهه حافظاً لعهده وكأنه ينظر إليه كوالده ، فالغالب أن والد الزوجة ينزل منزلة الوالد إما لكبر سن أو لعظم حق وهو جد أبنائه وجد لبناته فله حرمة عند الإنسان فيجله ويكرمه ويقدره وينزله منزلته ، فإذا ما أجتمع معه في مجلس فمن حقه عليه أن يحفظ العورة وأن يتق الله - عز وجل - فيما بينه وبين هذا الرجل ، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن علي - رضي الله عنه - وأرضاه- أنه قال : كنت رجلا مذاءً أي كثير المذي فكنت أغتسل حتى تشقق ظهري فاستجييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لمكان بنته مني استحييت أن آتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن أواجهه وأقول أني مصاب بكذا وكذا مع أنه مضطر ومع أنه في دين وعبادة ولكن الكريم كريم في أدبه ووده وحفظه لماء وجهه .(1/77)
فينبغي على الزوج أن يحفظ حق رحمه ولقد ضيع بعض الناس في هذا الزمان الحياء فأصبح المجلس يجمعه بوالد زوجته فلا يستحيى ولا ينكف عن ذكر أمور يخجل من ذكرها أمامه ، وهذا لاشك أنه إساءة يقول بعض العلماء : أجمع العقلاء على أن هذا من بالغ الإساءة والإهانة لوالد الزوجة أن يذكر الزوج عنده ما يستحياً من ذكره فهذه آداب ومكارم أخلاق ينبغي حفظها والعناية بها ، ومن حقه أن يتفقد حاله وأن ينظر إلى حاله إن كان محتاجاً إلى معونة و مساعدة .
يقول العلماء : صلة الرحم لم تأتي من فراغ أي أن الإنسان حينما أمر بصلة رحمه وبرهم وزيارتهم ليست خالية من معنى ومقصد وهو أن يتفقد حالهم فإن كانوا محتاجين ويستطيع المساعدة بذل ، ولو بالقليل الذي يستطيعه وإن كانوا مفتقرين إلى معونة معنوية كأن يدعوهم في أمر إلى الثبات على مصيبة أو بليه ثبتهم ، ومن ذلك إذا كان مريضاً عاده وإذا كان في نكبه ثبته على الصبر واحتساب الأجر ونحو ذلك مما يحتاج إليه عند الشدائد والملمات .(1/78)
ومن أكمل ما يكون من الزوج أنه إذا نزلت بأهل زوجه بليه أو مصيبة وجدوه أول رجل يطرق بابهم ، ومن أكمل ما يكون من الزوج أنه إذا أصيب والد زوجته بحاجة وفاقة كان أسبق الناس بالوقوف معه ومعونته ومساعدته لعلمه أن الله يرضى عنه ولعلمه أنه إذا وصله وصلة الله وأنه إذا أعطى اخلف الله عليه في دينه ودنياه وآخرته فحري بالزوج أن يسمو إلى الكمالات وأن يبذل من خيار ما يكون من التضحيات والمواقف الطيبة التي تنبئ عن طيب معدنه وزكاة نفسه وحبه للخير وما يريده لأهل زوجه وعليه إذا قام بهذه الحقوق ووجد من أهل زوجته ما ينتظر من تقيدر معروفه وتقدير سعيه أن يحمد الله - عز وجل - وأن يشكره وإذا وجد منهم نكران الجميل وكفران النعمة ونسيان الفضل فليعلم علم اليقين أن الله-تعالى- يقول في كتابه : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } فاكمل ما يكون الأجر إذا بلي الزوج برحم يصلهم فيقطعوه ويعطيهم فيحرموه ويرفعهم فيضعوه فإن كان كذلك فكأنما يسفهم المل .
فمن أفضل ما تكون الصدقة أي الإحسان والبر للقريب الكاشح وهو القريب الذي يكاشحك العداوة وتجد منه السوء والضر وأنت تبذل له الخير والنفع ولا شك أن ذلك أعظم ما يكون أجراً وأثقل ما يكون عند الله - عز وجل - صلة وبراً ؛ لأن الذي يصل مثل في هذه المواقف ويبذل لمثل هذا النوع إنما يريد وجه الله ولا يريد شيئاً سواه ، وأعلم أنك تعامل الله وأن هذا واجب عليك دعاك إليه الله - جل جلاله - فإن قصروا في حقك فلا تقصر في حقهم .(1/79)
قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أدي الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )) ذكر بعض العلماء أنه كان يرى بعض طلابه يأتيه والد زوجته فيسب طالبه ويؤذيه ويذكر عند الشيخ أموراً عجيبة مكذوبة ملفقة على هذا الطالب والطالب لا يعلم أن والد زوجته يأتي إلى هذا الشيخ فكان هذا الرجل الظالم الذي هو والد زوجته يقول الزور والكذب ويتهم الزوج بما ليس فيه من أجل أن يقول له أنصحه وذكر وهذا لا خير فيه وهذا كذا وكذا حتى جاء الطالب فإذا جاء الطالب سأله الشيخ كيف حاله مع رحمه فقال نعم الرحم ونعم الناس وهو من بالغ ما يكون في الإحسان إليهم ومن بالغ ما يكون في التودد والملاطفة لهم ، فاستحلفه بالله يوماً من الأيام ، فقال له والله ما غششت ولا كذبت عليك وليس بيني وبينهم إلا الود والمحبة وإني قائم بكذا وكذا وذكر ما يكون من بره وإحسانه ، قال فتأثر الشيخ أثراً كبيراً مما كان من حال والد الزوج ، فقال له أي بين إن والد الزوج يقول كذا وكذا فاتق الله - عز وجل - في والد الزوج إن كنت كاذباً وإن كنت صادقاً فاصبر على ما يكون منه فبكى ذلك الطالب وحلف بالله العظيم أنه صادق فيما يقول ، فلما حلف بالله العظيم انتظر الشيخ مجيء والد زوجته فقال له إنك زعمت كذا وزعمت كذا ، فقال له أي والله أنه كان كذا وكذا ، قال وتحلف بالله قال نعم أحلف بالله ، فدعا عليه الشيخ فقال له أسأل الله العظيم أن لا تمسي سالماً يومك هذا إن كنت كاذباً ، يقال : ما غابت الشمس إلا وهو مشلول-والعياذ بالله- ، فالظلم ظلمات وإذا كنت ترى من والد الزوج الإهانة والأذلال فاعلم أنك تعامل الله وأنك تتقي الله في رحم وصى عليها الله من فوق سبع سموات ، وعلى الزوج وعلى الزوجة أيضاً كما أن على الزوج أن يحفظ حق والد الزوجة .(1/80)
كذلك على الزوجة أن تحفظ حق والدي الزوج ، ولذلك ينبغي على المرأة الصالحة أن تعي وتدرك أن حنان الوالدين وأن ما في قلبي الوالدين من الرحمة والصلة بالولد فوق الخيال وفوق التصور ، فينبغي أن تقدر هذه العاطفة وأن تقدر هذه الرحمة التي قذفها الله في قلب الوالد والوالدة ولا يكون هناك ما يبعث على الغيرة أو يبعث على قطع الوالد عن والديه ولتكن على علم أنها إذا أرادت أن يبارك الله لها في زوجها وأن يقر عينها في بعلها فلتعنه على بر والديه ، على الزوجة إذا كان والدي الزوج بحاجة إلى قرب الولد أن تكون قريبة من والدي الزوج وأن تقابل والدي الزوج بالمحبة والإجلال والوفاء .
ولقد أباح الله وجعل والد الزوج محرماً للحليلة أبنه حتى يحصل التواد والتراحم والتواصل وتنظر المرأة لوالد زوجها وكأنه والد لها وتنظر إلى والد بعلها وكأنه والد لها فتشفق عليه وترعى أموره وتحسن إليه وكذلك لوالدته .
وأكثر ما تقع المشاكل بين الزوجات والأمهات ؛ والسبب في ذلك واضح ، أن أبلغ الحنان وأكمل ما تكون الرحمة من أمةٍ لعبد أو من عبد لعبد أو من أمة لأمه ، إنما هو حنان الأم لولدها ولا تلام في ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لما دمعت عيناه على ابنه إبراهيم ، قيل ما هذا يا رسول الله ، قال : (( رحمة أسكنها الله في قلوب عباده )) فالله أسكن في قلب الأم رحمة تحن بها إلى ولدها وتصبح فراغة الهم إلا من ولدها ، فما على الزوجة إلا أن تقدر ذل ، فإذا انطلقت من منطلق الغيرة أو وسوس الشيطان لها بالوساوس والخطرات قطعت الوالدة عن ولدها وقطعت الزوج عن أمه وأبيه وعندها تتأذن لسخط الله-والعياذ بالله- وغضبه .(1/81)
الله أعلم كم من قلب أم تقرح بسبب أذية الزوجة وأضرارها ، الله أعلم كم من عين بكت ودمعت بسبب ظلم الزوجة وأذيتها لوالدي الزوج ، الله الله على المرأة المؤمنة أن تخاف الله وتتقيه وإذا كانت تعين بعلها على الظلم وعلى القطيعة فلتعلم أنه سيأتي يوم يؤذنها الله هي وبعلها بالعقوبة ، فالعقوق لا خير فيه فإنه من الذنوب التي يعجل الله بها العقوبة ، يقول بعض العلماء : إذا كانت المرأة تعين زوجها على عقوق الولدين تجمع بين ذنبين وبين إساءتين :
الذنب الأول : أنها شريكة له في عقوق الوالدين-والعياذ بالله- .
والذنب الثاني : أنها قاطعة للرحم . وجاء في الخبر أنه ما من ذنب أحرى أن تعجل عقوبته في الدنيا مع ما أدخر الله لصاحبه من عقوبة الآخرة من قطعية الرحم ، فقطيعة الرحم عذابها عاجل ، ولذلك قال الله في كتابه : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ @ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } .(1/82)
يقول بعض العلماء : من قطع رحمه ختم الله على قلبه فمهما مرت عليه المواعظ ومرت عليه الآيات لا يتعظ-نسأل الله السلامة والعافية- ، ولو اتعظ يتعظ إلى حين ، ولذلك كان بعض العلماء : إذا اشتكى أحد من قسوة القلب سأله وقال له كيف أنت والرحم فالمرأة التي تعين بعلها على عقوق الوالدين قاطعة لرحمها لا تخاف الله - عز وجل - في زوجها ولا تخاف الله في رحمها وما عليها إلا أن تبذل كل ما تستطيع للصبر واحتساب الأجر وإذا كانت المرأة ترى من والدي الزوج أمورا توجب لها أن تضر بوالدي الزوج فعليها أن تسأل العلماء وأن ترجع لأهل العلم حتى تعلم ما الذي يجب عليها . ففي بعض الأحيان يتدخل والد الزوج ووالدة الزوجة أن يتدخل والد الزوجة ووالدة الزوجة في شؤون البيت الأمر الذي يحدث النفرة من الزوج أو يحدث النفرة عند الزوجة والواجب في مثل هذه المواقف أن ينظر الزوج والزوجة إلى المفاسد فإن وجد مفسدة تدخل والدي الزوجة أعظم من مفسدة إبعادها فحينئذ يبعدها عن والديها ، ويأذن لها بالزيارة في حدودٍ ضيقة حتى تصل وتقوم بحق البر مع الأمن من الأذية والإفساد والإضرار .(1/83)
وكذلك أيضاً إذا كان والداً الزوج يتدخلان في شؤون الزوجة وفي شؤون البيت بالإفساد والإضرار والأذية فالمرأة مخيرة بين أمرين ، إما أن تصبر وتحتسب الأجر فهذا أحسن وأفضل وأكمل ، وإما أن تنظر إلى المفاسد فإن غلبة مفسدة التدخل سألت زوجها أن يبعدها عن والديه ، وعلى الأزواج أن يتقوا الله في زوجاتهم فإذا نظروا أن تدخل الوالدين في شؤون البيت وأمور البيت أنه يحدث للمرأة أذية وإضراراً لا يسعها الصبر عليهما على الزوج أن يتقي الله في زوجته وأن ينصفها من أهله ووالديه ، وإذا قام بإبعاد زوجته عن والديه فلا يعد عاقاً لوالديه ولو سكن بعيداً عن والديه في هذه الحالة المشتملة على الإضرار والأذية مع تفقد الوالدين فإنه لا يعتبر عاقاً لوالديه ؛ لأن الله - عز وجل - لا يأمر بالظلم ولا يرضى بالظلم ، فلا يأمر الله - عز وجل - بالظلم فيقال للرجل أبقى هاهنا إرضاء لوالديك والولدان سوطا عذاب على المرأة في أذية وإضرار وظلم وإجحاف ، والعكس كذلك ، وعلى الزوج وعلى الزوجة أن يتقي الله كل منهما في الآخر وأن ينظر للأمور بمنظارها الشرعي من حيث ترتب المفاسد ووجود المصالح ، وإذا كانت المرأة ترى المفاسد عظيمة واختارت الصبر فهذا أفضل وأعظم أجراً ؛ لأن الله-تعالى- يقول : { فَبَشِّرْ عِبَادِي @ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } . قالوا : أحسنه يعنى أحسن القرآن لأن القرآن فيه حسن وفيه أحسن فحسن القرآن أن ترد المرأة الإساءة بالإساءة والرجل يرد الإساءة بالإساءة ؛ ولكن الأحسن أن يرد الإساءة بالإحسان وذلك لمن قال الله عنه : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } هذا من جهة والدي الزوجة ووالدا الزوج ، أما بالنسبة لبقية القرابة كالإخوان والأخوات ونحو ذلك فعلى كلا الزوجين أن يتقوا الله في القرابة .(1/84)
والأخ قد ينزل منزلة الوالد ، يقول بعض العلماء : وهو مذهب الحنفية وطائفة من أهل العلم : إن الأخ الكبير إذا مات الأب ينزل منزلة الأب في حفظ وده ورعايته وإكرامه وبره إن الأخ الكبير إذا مات الأب يكون له من الحق في البر والصلة كمنزلة الأب هذا يختاره جمع من العلماء ، و قال بعض العلماء : إن الأعمام ينزلون منزلة الآباء ، وكذلك أيضاً الأخوال ينزلون منزلة الأمهات ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الخالة بمنزلة الأم )) .
فإذا كان للزوجة أخ كبير أو هو الذي قام بتزويجها ورعايتها يكون له من حفظ الحق والود والإكرام والإجلال مثل الذي ذكرنا ، وليس الأمر بمختص بوالد الزوجة ولكنه يشمل كذلك الإخوان والقرابات ولو كان عمها ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إن عم الرجل صنو أبيه )) . فنزل العم منزلة الأب ونزلت الخالة منزلة الأم فقال : (( الخالة بمنزلة الأم )) ، لما اختصم في بنت حمزة - رضي الله عنه - فأمر بحضانتها للخالة وقضى بذلك وقال : (( الخالة بمنزل الأم )) كما ثبت في الصحيح . فهذا كله يدل على أن القرابة لها حق وأن الأمر لا يختص بالوالد والوالدة وإذا رأى الزوج حنان الزوجة لأخيها الأكبر وإكرامها فليعذرها في ذلك خاصة إذا تربت يتيمة في حجره وهو الذي قام عليها فعليه أن يكرم ذلك منه وعليه أن يقوم بإكرام أخيها والقيام بحقه كما ذكرنا في حقوق الوالدين . نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل .(1/85)
وهذه الحقوق أعني حقوق الأرحام أكثر ما يحتاج إليها في التطبيق والذي دعانا أن نفردها في هذا المجلس شدة الحاجة ، ولذلك كان الناس يحفظون حقوق قرابات الزوج والزوجة لأن الفطر لم تتلوث بالدخن وكان الناس يربون أبناءهم وبناتهم على حفظ حقوق الأرحام ، ولكن لما ساءت التربية في هذه الأزمنة المتأخرة وأصبحت هذه الحقوق ضائعة احتجنا للتنبيهه عليها وتحتاج إلى التنبيه عليها أكثر والدعوة إلى التزامها والقيام بها أكثر حتى على الخطباء وطلاب العلم عليهم أن يعتنوا بذلك ، فقد بلغ ببعضهم أن يجلس والد زوجته وهو حطمه في آخر عمره لكي يقاضيه ، يقول بعض القضاة من أصعب ما أراه من القضايا ومن أصعب ما يؤلمني ويزعجني في الفصل بين الناس أن أرى شيخاً كبيراً في آخر عمره له مكانته وجلالته يجلس معه حدث السن السفيه الجاهل لكي يسب بنته في وجهه ويكشف عورته ويهينه ويذله لا يرعى فيه إلاً ولا ذمة . قال : هذا هو الذي قرح قلبي حيث أني أتشوش في بعض الأحيان ولا أستطيع أن أفصل مما أرى ومما أسمع فأين الذي وصى الله به وأين الذي يفعله الناس تراه في آخر عمره وتجد الزوج يصب عليه البلايا وكل يوم وهو واقف على بابه يشتكي من بنته ويذكر عوراتها وسوءاتها وزلاتها وخطيئاتها وقد يكون رجلاً مريضاً لا يرحمه في مرضه ولا يرعى كبر سنه فهذه الأمور تتقرح لها القلوب ويحزن لها كل مؤمن فالواجب أن يعتنى بمثل هذا ولا يمكن لنا أن نتلافى مثل هذه السلبيات إلى بأمرين مهمين :
الأمر الأول : التربية الصالحة أبناءنا وبناتنا إذا زج بهم إلى الزواج يعلمون يوجهون يربون على الأخلاق الحميدة على الآداب الكريمة على حفظ الحقوق على رعاية الذمة فيصبح الإبن بمجرد أن يزوج كأنه مدين بالفضل ويصبح يرعى حق والد زوجته وقرابتها ، والمرأة كذلك البنت تعلمها أمها وترعاها وتجلس معها توجهها التوجيه الكامل الفاضل الذي يبعثها على مكارم الأخلاق وعلى محاسن العادات .(1/86)
وأما الأمر الثاني : فالتواصي بالحق ، كثرت هذه المشكلات والمشاكل الزوجية بين الناس فقل أن تجد من ينصح وقل أن تجد من يعظ وقل أن تجد من يذكر بل تجد الصاحب يجلس مع صاحبه والصديق مع صديقه والقريب مع قريبه يسمع بملء أذنه الزوج يسب آل زوجته ولا يقول له اتق الله ولا يقول له أذكر المعروف ولا يقول له ما قال الله : { وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } .
فيا أيها الأحبة في الله واجب أن نتناصح واجب أن نحي ما أمر الله باحيائه من تقوى الله في الرحم ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } .
كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا اشتد الأمر بين الرجل والرجل فأراد أن يعظه ويذكره ويخوفه حتى يعود إليه قال له سنشدتك الله والرحم فينكسر الرجل ويمتنع إن كان يريد منه ألا يفعل شيء تركه وإن كان يريد منه أن يفعل شيء فتلكأ عنه قال له سنشدك الله والرحم فعله ، وأنه يحس أن هذه الرحم شيء كبير ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : (( إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ، فاستوصوا بأهلنا خيراً ، فإن لهم رحماً )) وهي مصر يقول إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإنه لهم رحماً .(1/87)
أم إسماعيل هاجر وهي من مصر وكذلك أيضاً أم إبراهيم مارية وهي من مصر ، فقال-عليه الصلاة السلام- استوصوا بأهلها خيراً مع أنها رحم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله رحماً للأمة ، (( استوصوا بها خيراً )) فإنه لهم رحماً هذا كله في الرحم مع بعدها فيكف إذا قربت الرحم ، فلذلك ينبغي التواصي بمثل هذه الحقوق وإحياؤها في النفوس وإذا جلسنا في المجالس ورأينا من يذم أهل زوجه ذكرناه بالله وخوفناه بالله وإذا سمعنا بمشكلة بين قرابة منابين أرحام وصلت إلى قطعية الرحم تدخل العقلاء والحكماء فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينهم وذلك هو الذي يرضى الله وهو الذي وصى الله به من فوق سبع سموات .
نسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يحسن الأحوال ، وأن يحسن لنا لكم حسن الخاتمة المآل ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/88)