المضامين العقدية
لخطبة الحاجة
إعداد / الدكتور / عبد الله موسى يعقوب
مدير مركز الدعوة والإرشاد بجامعة الفاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ? .
أما بعد :
فهذه رسالة وجيزة حاولت جاهدا فيها بيان ما تضمنته خطبة الحاجة ـ التي غالبا ما يستفتح بها الرسول صلى الله عليه وسلم خطبه ـ من مضامين عقدية مهمة عسى الله تعالى أن يجعل فيها دافعا مهما للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إلى التزامها في خطبهم ودروسهم ومكاتباتهم تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما فيها من البركة العظيمة عند التأمل الدقيق فيها ، ومما دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع عدة أسباب منها :(1/1)
رأيت إعراض كثير من الدعاة عن هذه الخطبة في استفتاح خطبهم ودروسهم ، إما لجهلهم بمضامينها العقدية المهمة ، أو لتهاونهم بها ، أو لعدم معرفتهم لها ، وهي من جملة السنن التي في طريقها إلى الاندراس كما أخبر بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث يقول : ( يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ نُسُكٌ وَلاَ صَدَقَةٌ وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ فَلاَ يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ فَنَحْنُ نَقُولُهَا ...) الحديث (1) فأسهمت بهذا الجهد عسى أن يكون فيه تذكير لمن غفل عن هذه الخطبة ، وإحياء لسنة عظيمة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) / الحديث رواه ابن ماجة في سننه : كتاب الفتن ، باب ذهاب القرآن والعلم برقم 4039 .وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 87 .(1/2)
هذه الخطبة بوحدها إذا وفق الله تعالى يمكن أن تكون سببا لهداية الناس ، وإخراجهم من ظلمات الجهل والكفر إلى نور الإسلام كما حصل ذلك لضماد الصحابي الجليل ، فإنه لما سمع هذه الخطبة من النبي صلى الله عليه وسلم وكان إذ ذاك مشركا فما كان منه إلا أن قال : ( هات يدك أبايعك على الإسلام ) فقد روى مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ(1) فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ فَقَالَ لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ قَالَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ... الخ الخطبة أَمَّا بَعْدُ . قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَ فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاَءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ(2)
__________
(1) / قال النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم : وَالْمُرَاد بِالرِّيحِ هُنَا الْجُنُون وَمَسّ الْجِنّ ، وفِي غَيْر رِوَايَة مُسْلِم : يَرْقِي مِنْ الأَرْوَاح أَيْ الْجِنّ سُمُّوا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ لاَ يُبْصِرهُمْ النَّاس فَهُمْ كَالرُّوحِ وَالرِّيح .
(2) / قال ابن الأثير في النهاية : قال أبو موسى : هكذا وقع في صحيح مسلم ، وفي سائر الروايات ( قاموس البحر ) ، وهو وسَطُه ولُجَّته ولعله لم يُجَوِّد كِتْبتَهُ فصَحَّفَه بعضُهم . وليست هذه اللَّفْظة أصلا في مُسْنَد إسحاق ( ابن راهُويه كما صرَّح النووي ) الذي رَوَى عنه مسلم هذا الحديثَ غير أنه قَرَنَه بأبي موسى ورِوايَتِه فَلَعلَّها فيها . النهاية في غريب الحديث والأثر 5/81 ، مادة نعس . وقال الإمام النووي في شرحه 6 / 157 : ( قال القاضي عياض : أكثر نسخ صحيح مسلم وقع فيها ( قاعوس ) بالقاف والعين . قال : ووقع عند أبي محمد بن سعيد : ( تاعوس ) بالتاء المثناة فوق . قال : ورواه بعضهم : ( ناعوس ) بالنون والعين . قال : وذكره أبو مسعود الدمشقي في أطراف الصحيحين والحميدي في الجمع بين رجال الصحيحين ( قاموس ) بالقاف والميم . )(1/3)
الْبَحْرِ قَالَ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلاَمِ قَالَ فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى قَوْمِكَ قَالَ وَعَلَى قَوْمِي قَالَ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلاَءِ شَيْئًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً فَقَالَ رُدُّوهَا فَإِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمُ ضِمَادٍ ) ، وكما حصل لي شخصيا ، وإن كانت قصتي تختلف عن قصة ضماد رضي الله عنه ؛ فلم أكن على الشرك والكفر في يوم من الأيام بفضل الله تعالى ، ولكنني نشأت بادء أمري في بلدتي ( سرف عمرة )(1) كما ينشأ كثير من الشباب ، من جري وراء الملهيات ، وضياع الأوقات فيما لا فائدة فيه من لعب ولهو إلا من رحم الله منهم وقليل ما هم ، كنت على تلك الحال حتى من الله تعالى علي بحضور محاضرة في يوم من الأيام لأحد الدعاة وهو الشيخ آدم عبد العزيز عبد المؤمن في مسجد سرف عمرة الكبير ، لم يشدني شيء في حديثه مثل ما شدتني خطبة الحاجة التي استفتح بها موعظته ، وثيابه البيضاء التي كان يرتديها ، فما أن خرجت من المسجد إلا وطلبت من والدي صحبة هذا الشيخ حتى أتعلم منه شرع الله تعالى ، وكنت إذ ذاك طالبا في المرحلة الثانوية ، فما زلت أتردد على ذلك الشيخ حتى حفظت منه خطبة الحاجة ، وكثير من أبواب التوحيد ... فالشاهد أن استفتاح الشيخ حديثه بخطبة الحاجة كان سببا في هدايتي على أن أسلك طريق طلاب العلم ، وما زلت على طريق طلب العلم سائر أسأل الله تعالي الثبات عليه ، ومن سار على الدرب وصل .
__________
(1) / سرف عمرة هذه هي إحدى أجمل بلاد الله تعالى تقع إلى غرب من مدينة كبكابية في ولاية شمال دار فور غرب السودان ، على بعد حوالي مئتي كيلو متر من مدينة الفاشر حاضرة ولاية شمال دار فور .(1/4)
ولذلك فإني أحب هذه الخطبة محبة شديدة ولا أزال ألتزمها بفضل الله تعالى في جميع خطبي ودروسي ومكاتباتي وبالجملة في كل حاجة ، ولا أرضى بها بدلا .
ومما دعاني إلى الكتابة والتأليف عموما وفي هذا الموضوع على وجه الخصوص ؛ هو أنني عندما زرت العاصمة الخرطوم ، وترددت على بعض المكتبات هناك رأيت أمرا قد أذهلني ، وهو كثرة المطبوعات والكتيبات الجديدة ، والتي كثير منها لا يسوي حتى ثمن المداد الذي كتب بها ، وفي قضايا خطيرة خاصة باب العقيدة ، فقد كتب في هذا الباب كل من هب ودب من أهل البدع وممن ليست لهم صلة بالعلم الشرعي اللهم إلا الادعاء ، في وسط غياب تام للكتب الصحيحة ، والمراجع الأصيلة في باب اعتقاد أهل السنة والجماعة ، فخشيت والله الإثم إن تركنا هذا المجال يرتاده أمثال هؤلاء الدخلاء على العلم الشرعي وطلابه(1) . وإني أطلق هذه الصيحة لطلاب العلم الشرعي في السودان وأقول : على الرغم من أن مشائخنا قد حذرونا من الإجهاض الفكري إلا أن قليل البضاعة قد ينفع محرومها ، والأعمش قد يقود الأعمى ، والناس في هذا الزمن ليس لهم الوقت الكافي لحضور المحاضرات والدروس العلمية المنهجية إلا قلة قليلة ممن رحمهم الله تعالى وهداهم إلى الحق ، أما السواد الأعظم من الناس فلهم زهد عجيب في العلم الشرعي ومجالسة أهله ، لكن قد يكون لهم بعض الوقت للقراءة ، وليس ثم أمامهم إلا ذلك الركام والغثاء من المؤلفات التي ذكرتها آنفا ، ولا يسد هذا الفراغ إلا بأن يلج طلاب العلم الشرعي باب التأليف والكتابة مع خطورته والله المستعان .
__________
(1) / وصدق من قال :
لقد تصدى للتدريس كل مهوس جهول يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس(1/5)
لهذه الأسباب استعنت بالله تعالى في كتابة هذه الأوراق والتي سميتها ( المضامين العقدية لخطبة الحاجة )(1) والتي أسأل الله تعالى أن تكون خالصة لوجهه سبحانه وتعالى ، وأن ينفع بها من قرأها ، وأن يدخر لي أجرها ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وقد استفرغت فيها وسعي ، وسهرت فيها الليالي ذوات العدد(2) ، نظرا لقلة بضاعتي في العلم الشرعي ، ولأنني ما زلت في بداية الطريق ، ولكن عزائي من سار على الطريق وصل . وقد سرت في جمع المادة العلمية لهذا الموضوع على المنوال التالي :
المبحث الأول : أصل الخطبة ونصها .
المبحث الثاني : تضمن الخطبة للشهادتين .
المبحث الثالث : الحمد ودلالاته العقدية .
المبحث الرابع : الاستعانة ودلالاتها العقدية .
المبحث الخامس : الاستغفار ودلالاته العقدية .
المبحث السادس : الاستعاذة ودلالاتها العقدية .
المبحث السابع : والهداية والضلال وعلاقتها بباب الاعتقاد .
__________
(1) / ومن خلال مطالعتي المستمرة للشبكة الإلكترونية الإنترنت اطلعت على بحث بعنوان خطبة الحاجة أصلها ومدلولها ، للدكتور / محمد ابن عبد الله القناص ، في سبع ورقات ، ولقد استفدت منها في بعض مواضع هذه الورقات تجده مشارا إليه في موضعه .
(2) / من بديع ما يذكر هنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية وضع رجلا على رجل وألف التدمرية التي وضح فيها معتقد أهل السنة والجماعة لأهل تدمر من بعد صلاة العصر إلى المغرب ، وقد درسناها مع فضيلة شيخنا عبد الرزاق العباد في أكثر من ثلاثة أشهر في كل أسبوع جلستان من بعد صلاة العصر إلى قبيل المغرب ، فرحم الله علماء السلف ولله در تلك العقول التي حفظ الله بها الإسلام .(1/6)
وبعد : فهذا جهد المقل وأستسمح القارئ الكريم عذرا إذا ما وجد في عملي هذا تقصيرا ، فهذا جهد بشر ، والمرء يستحضر في هذا المقام قول القائل : إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يوم إلا قال في غده : لو غير هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قدم هذا لكان أفضل ، ولو ترك هذا لكان أجمل ، وهذا من أعظم العبر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر )(1) ، وفي الختام : أتوجه بالشكر إلى الله تعالى الذي سهل لي أمر إعداد هذه الرسالة بفضل منه وتوفيق ، وأسأله سبحانه أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه وأن ينفعنا بما علمنا إنه على كل شيء قدير.
المبحث الأول : أصل الخطبة ونصها :
__________
(1) / هذه العبارة للعماد الأصفهاني ، وقد أوردها طه عبد الرؤوف في مقدمة تحقيقه لكتاب إعلام الموقعين (ص م).(1/7)
وردت هذه الخطبة المباركة عن ستة من الصحابة وهم عبد الله بن مسعود ، وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ، ونبيط بن شريط ، وعائشة رضي الله عنهم . وعن تابعي واحد هو الزهري - رحمه الله ـ وقد جمع الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في رسالته خطبة الحاجة الطرق المختلفة لروايات هؤلاء الصحابة ـ يزيد بعضهم وينقص البعض ـ والنص الكامل للخطبة كما يلي : : ( إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد(1) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ? ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ
__________
(1) / قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" (6/149): ( والأحاديث كلها متفقة على أنَّ : ( نستعينه ونستغفره ونعوذ به ) بالنون ، والشهادتان بالإفراد ، ( وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد ، و لاتقبل النيابة بحال ؛ أفرد الشهادة بها ، ولما كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار تقبل ذلك فيستغفر الرجل لغيره ، ويستعين الله له ، ويستعيذ بالله له ، أتى فيها بلفظ الجمع ، ولهذا يقول : ( اللهم أعنا ، وأعذنا ، واغفر لنا )... قال ابن القيم : وفيه معنى آخر ، وهو أنَّ الاستعانة والاستعاذة والاستغفار طلب وإنشاء ، فيستحب للطالب أن يطلبه لنفسه ولإخوانه المؤمنين ، وأمَّا الشهادة فهي إخبار عن شهادته لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ، وهي خبر يطابق عقد القلب وتصديقه ، وهذا إنما يخبر به الإنسان عن نفسه لعلمه بحاله بخلاف إخباره عن غيره ، فإنه إنما يخبر عن قوله ونطقه ، لا عن عقد قلبه. والله أعلم .(1/8)
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ? ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ? (1) .
هذه هي خطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلمها أصحابه كما يعلمهم التشهد في الصلاة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفتتح خُطَبه بها ، وكان السلف الصالح يقدمونها بين يدي دروسهم ، وكتبهم ، ومختلف شئونهم تأسيًّا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
__________
(1) / رواها الإمام الترمذي في سننه كتاب النكاح ، باب ما جاء في خطبة النكاح 3/413 ، برقم 1105 ، وابن ماجة في سننه كتاب النكاح ، باب خطبة النكاح 1/609 ، برقم 1892 ، وأصلها في صحيح مسلم كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة ، والخطبة ص347 الحديث رقم 868 . وقد قام الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بتخريج هذه الخطبة تخريجا علميا دقيقا فمن أراد الاستزادة فعليه برسالته خطبة الحاجة .(1/9)
وهذه الخطبة يرويها أهل العلم غالبا في كتاب النكاح لتأكيد سنيتها في خطبة النكاح ، ومن أهل العلم من أوجبها كالظاهرية ، ولكن الظاهر الحاجة تشمل خطبة النكاح وغيرها من الخطب والحاجات ولذلك من أهل العلم من أورد هذه الخطبة في كتاب الجمعة كالإمام النسائي رحمه الله تعالى ، ولذلك قال السندي في حاشيته على النسائي : ( الظَّاهِر عُمُوم الْحَاجَة لِلنِّكَاحِ وَغَيْره فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْتِي بِهَذَا لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى قَضَائِهَا وَتَمَامهَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيّ الْخُطْبَة سُنَّة فِي أَوَّل الْعُقُود كُلّهَا ، مِثْل الْبَيْع وَالنِّكَاح وَغَيْرهمَا ، وَالْحَاجَة إِشَارَة إِلَيْهَا ، وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْحَاجَةِ النِّكَاح إِذْ هُوَ الَّذِي تَعَارَفَ فِيهِ الْخُطْبَة دُون سَائِر الْحَاجَات ، وَعَلَى كُلّ تَقْدِير فَوَجْه ذِكْر الْمُصَنِّف الْحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لأَنَّ الْأَصْل اِتِّحَاد الْخُطْبَة فَمَا جَازَ أَوْ جَاءَ فِي مَوْضِع جَازَ فِي مَوْضِع آخَر أَيْضًا ، وَكَأَنَّهُ جَاءَ فِيهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَم )(1) .
إن هذه الخطبة على وجازة ألفاظها وقلة كلماتها فقد تضمنت معاني عظيمة ، وكلمات جامعة فيها إظهار للعبودية والافتقار إلى الله عز وجل عند التأمل الدقيق فيها ، ولها تأثيرها البالغ على النفوس إيمانا ومحبة ورجاء (2)، وفيما يلي أذكر أهم هذه المضامين العقدية التي تضمنتها هذه الخطبة المباركة :
المبحث الثاني : تضمن الخطبة للشهادتين :
__________
(1) / سنن النسائي بحاشية السندي 2/454.
(2) / وقد تقدم في التقديم ذكر قصة ضماد رضي الله عنه .(1/10)
لقد تضمنت هذه الخطبة الشهادتين اللتين هما أول شعار الإسلام ، وأساسه ، وركنه الأول ، ولا يكون الإنسان مسلما إلا بالتلفظ بهما واعتقاد مضمونهما والعمل ظاهرا وباطنا بمقتضاها ، وذلك لأنه ما من بناء إلا وله أصل وأساس يقوم عليه ، وإن أساس بناء دين الإسلام يقوم على أصلين هما :
1- عبادة الله وحده لا شريك له .
2- الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا حقيقة قول ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) فمن خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين .
ومن أجل ذلك فإن من المتعين على كل مسلم أن يعرف ما يدل عليه كل واحد من هذين الأصلين وما تشتمل عليه من أمور وأحكام ، معرفة تخرجه من حد الجهل على أقل الدرجات ، وأن يلتزم بذلك اعتقادا وقولا وعملا لينال بذلك الفوز والسعادة في الحياة الدنيا وبعد الممات . ولعلي أقف هنا بشيء من الاختصار على معاني هذه الشهادة وفضلها :
أما شهادة أن لا إله إلا الله فمعناها الحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو : أن لا معبود حق إلا الله .
ولا يجوز لنا أن نقول : إن معناها لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، أو لا موجود إلا الله، كما هو قول طائفة من أهل الكلام ؛ وذلك لأمور منها :(1/11)
1/ أن كلمة إله عند العرب فِعالٌ بمعنى مفعول، كغِراس بمعنى مغروس ، وفِراش بمعنى مفروش ، كتاب بمعنى مكتوب ؛ فإله : فِعال بمعنى مفعول : أي مألوه ، والتأله في لغة العرب معناه التنسك والتعبد ، فمعنى مألوه : معبود ومنه قول رؤبة بن العجاج(1) :
لله در الغانيات المده ……سبحن واسترجعن من تألهي (2)
وقد سمَّت العرب الشمس لما عبدوها إلهةً ، وقالت مية بنت أم عتبة ابن الحرث :
تروَّحنا من اللعباء عصراً ……فأعجلنا الإلهة أن تؤوبا (3)
__________
(1) / رؤبة بن العجاج بن رؤبة التميمي السعدي أبو الجحاف أو أبو محمد ، راجز من الفصحاء المشهورين ، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، كان أكثر مقامه في البصرة ، وأخذ عنه أعيان أهل اللغة ، وكانوا يحتجون بشعره ويقولون بإمامته في اللغة ، مات في البادية وقد أسن سنة 145هـ ، لما مات رؤبة قال الخليل : دفنا الشعر واللغة والفصاحة ، انظر ترجمته في : وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان تحقيق : إحسان عباس ، الناشر : دار صادر ـ بيروت ، 2/303 .
(2) / انظر : لسان العرب 13/ 496.
(3) / المرجع نفسه 13/469 .(1/12)
قال الراغب الأصفهاني(1) رحمه الله تعالى : ( وأله فلان يأله الآلهة عبد ، وقيل تأله فالإله على هذا هو المعبود ... وإله حقه أن لا يجمع إذ لا معبود سواه لكن العرب لاعتقادهم أن ههنا معبودات جمعوه فقالوا الآلهة قال تعالى: (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) وقال: (ويذرك وآلهتك) وقرئ ( وإلاهتك )(2) أي : عبادتك ) (3).
2_أن كفار قريش والمشركين في الجاهلية لا ينكرون أنه لا خالق إلا الله، أو لا قادر على الاختراع إلا الله، قال_تعالى_في شأنهم :? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ?(4).
وأشعارهم مليئة بالإقرار بهذا الأمر ، أعني توحيد الربوبية، ومن ذلك قول زهير ابن أبي سلمى(5)
__________
(1) / هو الإمام أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الأصفهاني ، الملقب بالراغب ، صاحب التصانيف النافعة ، والتي من أجلها : مفردات ألفاظ القرآن .قال الذهبي : لم أظفر له بوفاة ، ولا ترجمة . انظر سير أعلام النبلاء 18/ 120 للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، طبع ونشر : مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ . ط8/ 1412 ه .1992 م .
(2) / وبها قرأ علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، والضحاك ، وهي قراءة شاذة ، انظر : الجامع لأحكام القرآن 7/262 . والقراءة الشاذة تحمل على المعنى كما هو مقرر في كتب أصول الفقه .
(3) / مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ص 82 ـ 83 .
(4) / سورة لقمان الآية : 25 .
(5) / زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني ، من مُضَر . حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافة
قال ابن الأعرابي: كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره : كان أبوه شاعراً ، وخاله شاعراً ، وأخته سلمى شاعرة ، وابناه كعب وبجير شاعرين ، وأخته الخنساء شاعرة . ولد في بلاد مُزَينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر (من ديار نجد)، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام.
قيل: كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة فكانت قصائده تسمّى (الحوليات)، أشهر شعره معلقته التي مطلعها :
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ..... ، ويقال : إن أبياته في آخرها تشبه كلام الأنبياء .(1/13)
:
فلا تكتُمُن الله ما في نفوسكم ……ليخفي ومهما يكتم الله يعلم
يُؤخر فيُوضَعْ في كتاب فيُدَّخَر ……ليوم الحساب أو يعجل فينتقم (1)
ومنه قول حاتم الطائي (2):
أما والذي لا يعلم السر غيره ……ويحيي العظام البيض وهي رميم (3)
3/ أن كفار قريش لما قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولوا : ( لا إله إلا الله ) ، قالوا كما أخبر الله تعالى عنهم : ? أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ? (4) .
فما الذي فهمه كفار قريش عندما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا لا إله إلا الله ؟ هل فهموا من لا إله إلا الله أن معناها لا خالق أو لا قادر على الاختراع إلا الله ؟.
الجواب لا ؛ لأنهم لا ينكرون ذلك ، إنما أنكروا أن تكون العبادة كلها لله وحده لا شريك له ، إذاً فمعنى لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا الله ، وتُقَدَّر كلمة حق لأن المعبودات كثيرة ، ولكن المعبود الحق هو الله وحده لا شريك له ، قال تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ? (5) .
__________
(1) / شرح ديوان زهير بن أبي سلمى ، ص25.
(2) / حاتم الطائي : حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني ، أبو عدي . شاعر جاهلي ، فارس جواد يضرب المثل بجوده . كان من أهل نجد ، وزار الشام فتزوج من ماوية بنت حجر الغسانية ، ومات في عوارض (جبل في بلاد طيء) عام 46 قبل هجرة النبي عليه الصلاة والسلام .
(3) / شرح ديوان حاتم الطائي ص25 .
(4) / سورة ص الآية : 5 .
(5) / سورة الحج الآية : 62 .(1/14)
إذا علم هذا فمعنى هذه الشهادة إذا : الاعتقاد والإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له والتزام ذلك قولا وعملا ؛ لأن المعبودات على قسمين : معبود بحق ؛ ومعبود بباطل ، المعبود بحق هو الله سبحانه وتعالى ، والمعبود بباطل هو كل ما سوى الله تعالى قال الله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ? (1) .
شروط(2)لا إله إلا الله :
__________
(1) / سورة الحج الآية : 62 .
(2) / الشرط في عرف الفقهاء : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، فانعدام الشرط يعني انعدام المشروط ، وعدم الاعتبار به شرعا ، ولذلك فهذه الشروط شروط صحة ، لا يصح إيمان الإنسان إلا باستكمالها ، وليست هي شروط كمال كما ادعى ذلك من ادعاه ممن تأثر بلوثة الإرجاء . انظر : شروح كتاب التوحيد تيسير العزيز الحميد وفتح المجيد وحاشية ابن قاسم في شرح باب تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ، وانظر معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي ص273_284، والشهادتان للشيخ عبدالله بن جبرين ص77_85 ، والأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة للشيخ عبدالرحمن الدوسري ص24_26، ولا إله إلا الله محمد رسول الله تفسير وتوضيح للدكتور الشريف حمدان بن راجح الهجادي ص36_40 ومختصر معارج القبول لهشام آل عقدة ص99_102، وغيرها من الكتب التي تكلمت على ذلك خصوصاً كتب أئمة الدعوة السلفية .(1/15)
ذكر العلماء لكلمة الإخلاص شروطاً سبعة ، لا تصح إلا إذا اجتمعت ، واستكملها العبد ، والتزمها بدون مناقضة لشيء منها (1). وهذه الشروط مأخوذة بالتتبع والاستقراء لنصوص الكتاب والسنة شأنها شأن جميع الشروط التي نص عليها العلماء في أبواب العلم المختلفة تتبعا واستقراء لنصوص الكتاب والسنة ، وقد نظمها الشيخ حافظ الحكمي(2)
__________
(1) / وليس المرادُ من ذلك عدَّ ألفاظِها وحِفْظَهَا ؛ فكم من عامي اجتمعت فيه هذه الشروط ، والتزمها ولو قيل له عَدِّدْها لم يحسن ذلك ، وكم من حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم ، وتراه يقع كثيراً فيما يناقضها .
(2) / هو الشيخ العلامة : حافظ بن أحمد بن علي بن أحمد بن علي الحكمي نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة أحد بطون قبيلة مذحج , ولد الشيخ حافظ في سنة 1342 هـ بقرية ( السلام ) التابعة لمدينة ( المضايا ) الواقعة في الجنوب الشرقي لمدينة جازان ، ثم انتقل مع والده إلى قرية ( الجاضع ) التابعة لمدينة ( سامطة ) المعروفة, ونشأ الشيخ حافظ نشأة علمية ، وقد تتلمذ على الشيخ عبد الله القرعاوي ، وفي عام 1362 هـ طلب الشيخ عبد الله القرعاوي من تلميذه حافظ الحكمي أن يؤلف كتابا في التوحيد يشتمل على عقيدة السلف الصالح نظما يكون كاختبار فصنف كتابه ( أرجوزة سلم الوصول إلى علم الأصول ) كما صنف في الفقه وأصوله ، وفي التوحيد ، وفي السيرة النبوية والمصطلح ، والفرائض ، وغير ذلك نظما ونثرا , وله من المصنفات المطبوعة ، وغير المطبوعة ما يزيد على خمسة عشر كتابا , وقد صنف هذه الكتب مع قيامه بالتدريس ومراقبته للمدارس الأخرى , وآخر وظيفة شغلها هي : إدارة المعهد العلمي بسامطة . بعد أن حج سنة 1377 هـ وافته منيته في الثامن عشر من ذي الحجة عام 1377هـ بمكة المكرمة وهو في ريعان شبابه ودفن في بلد الله الحرام رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ,وكان لوفاته رحمه الله وقعا شديدا في نفوس زملائه وتلاميذه ومحبيه فلقد خسروا رجلا يفتدى بالرجال وعلما لم تعرف المنطقة مثله من الأعلام , وقد رثاه كثير من تلاميذه وزملائه رثاء رائعا- رحمه الله ونفع بعلومه .(1/16)
بقوله :
العلمُ واليقينُ والقبولُ …… والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة ……وفقك الله لما أحبه (1)
وإليك تفصيلها بشيء من الإيجاز :
1/ العلم : والمراد به العلم بمعناها نفياً وإثباتاً ، وما تستلزمه من عمل ، فإذا علم العبد أن الله عز وجل هو المعبود وحده ، وأن عبادة غيره باطلة ، وعمل بمقتضى ذلك العلم فهو عالم بمعناها .
وضد العلم الجهل ؛ بحيث لا يعلم وجوب إفراد الله بالعبادة ، كأن يرى جواز عبادة غير الله مع الله ، مثل دعاء الأموات ، والاستغاثة بهم من دون الله تعالى ... قال تعالى :? فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ?(2) ، وقال?... إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?(3) أي : من شهد بلا إله إلا الله وهم يعلمون بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم ، ولذلك جاء في الصحيح عن عثمان قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة )(4). إذا ليس المقصود هو مجرد النطق دون فهم لمعنى ما يتلفظ به ، بل لابد من معرفة ذلك واعتقاده . إذا علم هذا فإن كثيرا من المسلمين قد وقع في الشرك بالله تعالى نتيجة جهلهم بمعنى هذه الكلمة العظيمة .
__________
(1) / منظومة سلم الوصول إلى علم الأصول ص23 .
(2) / سورة محمد الآية : 19 .
(3) / سورة الزخرف الآية : 86 .
(4) / رواه مسلم في كتاب الإيمان ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا برقم 31 .(1/17)
2/ اليقين : وهو من صفة العلم ومعناه كما يقول الراغب الأصفهاني : ( اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها ، ويقال : علم يقين ، ولا يقال معرفة يقين ، وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم )(1) وهو أن ينطق بالشهادة عن يقين يطمئن إليه قلبه ، دون تسرب شيء من الشكوك التي يبذرها شياطين الجن والإنس ، بل يقولها موقناً بمدلولها يقيناً جازماً . فلابد لمن أتى بها أن يوقن بقلبه ، ويعتقد صحة ما يقوله من أحقية إلهية الله تعالى وبطلان إلهية من عداه ، وأنه لا يجوز أن يُصرف لغيره شيءٌ من أنواع التأله والتعبد. فإن شك في شهادته ، أو توقف في بطلان عبادة غير الله ؛ كأن يقول : أجزم بألوهية الله ، ولكنني متردد ببطلان إلهية غيره بطلت شهادتُه ولم تنفعه. قال تعالى مثنياً على المؤمنين : ? وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ?(2) . وقد مدح الله المؤمنين _أيضاً_ بقوله : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ?(3) . وذم المنافقين بقوله : ? ... وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ? (4) .
وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ، وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشِّرْهُ بالجنة )(5) .
__________
(1) / مفردات غريب القرآن
(2) / سورة البقرة الآية : 4 .
(3) / سورة الحجرات الآية : 15.
(4) / سورة التوبة الآية : 45 .
(5) / مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا برقم 31 .(1/18)
3/ القبول : والقبول يعني أن يقبل كل ما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه ، فيصدق بالأخبار ، ويطيع الأوامر ، ويؤمن بكل ما جاء عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقبل ذلك كله ، ولا يرد منه شيئاً ، ولا يجني على النصوص بالتأويل الفاسد ، والتحريف الذي نهى الله عنه ، بل يصدق الخبر ، ويمتثل الأمر ، ويقبل كل ما جاءت به هذه الكلمة واقتضته بكل رضا ، وطمأنينة ، وانشراح صدر. قال_تعالى_واصفاً المؤمنين بامتثالهم ، وقبولهم ، وعدم ردهم : ? آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ? (1) .
وضد القبول : الرد ، فإن هناك من يعلم معنى الشهادة ويوقن بمدلولها ، ولكنه يردها كبراً وحسداً ، وهذه حال علماء اليهود والنصارى كما قال ـ تعالى ـ عنهم : ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ?(2) ، وقال تعالى : ?... حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ ?(3). وكذلك كان المشركون يعرفون معنى لا إله إلا الله ، وصدق رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم يستكبرون عن قبول الحق كما قال ـ تعالى ـ عنهم : ? إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ?(4). وقال ـ تعالى ـ عنهم: ?... فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ? (5) .
__________
(1) / سورة البقرة الآية : 285 .
(2) / سورة البقرة الآية : 146 .
(3) / سورة البقرة الآية : 109 .
(4) / سورة الصافات الآية : 135 .
(5) / سورة الأنعام الآية : 33 .(1/19)
ويدخل في الرد وعدم القبول من يعترض على بعض الأحكام الشرعية ، أو الحدود التي حدها الله_عز وجل _كالذين يعترضون على حد السرقة ، أو الزنا ، أو على تعدد الزوجات ، أو المواريث ، وما إلى ذلك ، فهذا كله داخل في الرد وعدم القبول ؛ لأن الله يقول : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ?(1). ويقول : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ?(2) .
4/ الانقياد : وذلك بأن ينقاد انقيادا كاملا لما دلت عليه كلمة التوحيد والإخلاص . ولعل الفرق بين الانقياد والقبول أن القبول إظهار صحة معنى ذلك بالقول. أما الانقياد فهو الإتباع بالأفعال، ويلزم منهما جميعاً الإتباع . فالانقياد هو الاستسلام ، والإذعان ، وعدم التعقب لشيء من أحكام الله ، ومن الانقياد أيضاً : أن ينقاد العبد لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - رضاً، وعملاً دون تعقب أو زيادة أو نقصان .
قال تعالى : ? فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ? (3). وإذا علم أحد معنى لا إله إلا الله ، وأيقن بها ، وقبلها ، ولكنه لم ينقاد لها ، ولم يعمل بمقتضاها فإن ذلك لا ينفعه ، كما هي حال أبي طالب ، فهو يعلم أن دين محمد حق ، بل إنه ينطق بذلك ويعترف ، حيث يقول مدافعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ……حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك لا عليك غضاضة ……وافرح وقر بذلك منك عيونا
ولقد علمت بأن دينَ محمدٍ ……من خير أديان البرية دينا
لولا الملامةُ أو حِذارُ مسبةٍ ……لوجدتني سمحا بذلك مبينا
__________
(1) / سورة البقرة الآية : 208 .
(2) / سورة الأحزاب الآية : 36 .
(3) / سورة النساء الآية : 65 .(1/20)
فما الذي نقص أبا طالب ؟ الذي نقصه هو الإذعان والاستسلام . وكذلك الحال بالنسبة لبعض المستشرقين ؛ فهم يعجبون بالإسلام ، ويوقنون بصحته ويعترفون بذلك ، وتجد بعض المسلمين يهشون لذلك الإطراء ، ويطربون لهؤلاء القوم ، ويصفونهم بالموضوعية والتجرد. ولكن إعجابَهم ويقينَهم واعترافَهم لا يكفي ، بل لابد من الانقياد. ومن عدم الانقياد ترك التحاكم لشريعة الله_عز وجل واستبدالها بالقوانين الوضعية ، الفرنسية ، والإنجليزية ، والسويسرية وغيرها من قوانين البشر(1) .
5_الصدق : وهو الصدق مع الله ، وذلك بأن يكون العبد صادقاً في إيمانه ، صادقاً في عقيدته . ومتى كان ذلك فإنه سيكون مصدقاً لما جاء في كتاب ربه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) / التحاكم إلى هذه القوانين كفر بإطلاق ( إما كفر أكبر ، أو أصغر ) ، وهذا حكم عام ، أما الشخص المعين فإنه لا يحكم بتكفيره إلا بعد انطباق الشروط وانتفاء الموانع كما مقرر في موضعه من كتب أهل العلم عندما تكلموا عن الضوابط في التكفير بالنسبة للشخص المعين . هذا هو لب القضية التي ما استطاع أن يفهمها أو لا يريد أن يفهمها بعض الناس ؛ فإذا سمع فقط أنك أطلقت الحكم في هذا الموضوع اتهمك بأنك من أهل التكفير و و و ، ولكن الصحيح هناك فرق بين إطلاق الحكم كما قاله ربنا سبحانه وتعالى ، وبين تطبيق ذلك الحكم في الشخص المعين .(1/21)
وقد ورد اشتراط الصدق في الحديث الصحيح حيث قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه دخل الجنة )(1) . وضد الصدق الكذب ، فإن كان العبد كاذباً في إيمانه فإنه لا يعد مؤمناً ، بل هو منافق ؛ وإن نطق بالشهادة بلسانه ، وحاله هذه أشد من حال الكافر الذي يظهر كفره . فإن قال الشهادة بلسانه وأنكر مدلولها بقلبه فإن هذه الشهادة لا تنجيه ، بل يدخل في عداد المنافقين ، الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ?. . . نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ? . فرد الله عليهم تلك الدعوى بقوله :? وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ?(2) .
6/ الإخلاص : وهو تصفية الإنسان عمله بصالح النية من جميع شوائب الشرك.
__________
(1) / رواه الإمام أحمد في مسنده 4/16 .
(2) / سورة المنافقون الآية : 1 .(1/22)
وذلك بأن تصدر منه جميع الأقوال والأفعال خالصة لوجه الله ، وابتغاء مرضاته ، ليس فيها شائبة رياء ، أو سمعة ، أو قصد نفع ، أو غرض شخصي ، أو شهوة ظاهرة أو خفية ، أو أن يندفع للعمل لمحبة شخص ، أو مذهب ، أو مبدأ ، أو حزب يستسلم له بغير هدى من الله . والإخلاص كذلك مهم في الدعوة إلى الله تعالى فلا يجعل دعوته حرفة لكسب الأموال ، أو وسيلة للتقرب إلى غير الله ، أو الوصول للجاه والسلطان. بل لابد أن يكون مبتغياً بدعوته وجه الله والدار الآخرة ، ولا يلتفت بقلبه إلى أحد من الخلق يريد منه جزاءً أو شكوراً. والقرآن والسنة حافلان بذكر الإخلاص ، والحث عليه ، والتحذير من ضده ، ومن ذلك قوله تعالى: ? وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ?(1) ، وقوله تعالى : ? قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ?(2). وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه )(3). وفي الصحيحين من حديث عتبان ( فإن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )(4) .
فإن فقد العبد أصل الإخلاص فإن الشهادة لا تنفعه أبداً ، قال_تعالى_:? وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ?(5) .
__________
(1) / سورة البينة الآية : 5 .
(2) / سورة الزمر الآية : 14 .
(3) / رواه البخاري في كتاب العلم ، باب الحرص على الحديث برقم 88 .
(4) / متفق عليه : البخاري في أبواب استقبال القبلة ، باب المساجد في البيوت برقم 407 . ومسلم في كتاب المساجد وموضع الصلاة ، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر برقم 1052 .
(5) / سورة الفرقان الآية : 23 .(1/23)
7/ المحبة : أي المحبة لهذه الكلمة العظيمة ، ولما دلت عليه واقتضته ، فيحب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ويقدم محبتهما على كل محبة ، ويقوم بشروط المحبة ولوازمها ، فيحب الله محبة مقرونة بالإجلال والتعظيم والخوف والرجاء ، فيحب ما يحبه الله من الأمكنة ؛ كمكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، المساجد عموماً ، والأزمنة ؛ كرمضان ، وعشر ذي الحجة ، وغيرها ، وما يحبه من الأشخاص كالأنبياء ، والرسل ، والملائكة ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، وما يحبه من الأفعال كالصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والأقوال كالذكر وقراءة القرآن . ومن المحبة _ أيضاً _ تقديم محبوبات الله على محبوبات النفس وشهواتها ورغباتها، وذلك لأن النار حفت بالشهوات ، والجنة حفت بالمكاره . ومن لوازم تلك المحبة أن يكره ما يكرهه الله ورسوله ؛ فيكره الكفار ، ويبغضهم ، ويعاديهم ، ويكره الكفر ، والفسوق ، العصيان . قال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ?(1) وقال تعالى : ? لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ?(2) .
__________
(1) / سورة المائدة الآية : 54 .
(2) / سورة المجادلة الآية : 22 .(1/24)
وقال_تعالى_:? قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ?(1) .
معنى شهادة أن محمداً رسول الله :
لما كانت كلمة الشهادة علماً على النطق بالشهادتين معاً ، وكانتا متلازمتين لا تنفك إحداهما عن الأخرى، كان من الواجب على من أتى بكل منهما أن يعرف ما تدل عليه الكلمة، ويعتقد ذلك المعنى ، ويطبقه في سيرته ونهجه ، فبعد أن عرفت أن ليس المراد من لا إله إلا الله مجرد التلفظ بها، فكذلك يقال في قرينتها، بل لابد من التصديق بها والالتزام بمعناها ومقتضاها ، وهو الاعتقاد الجازم بأنه صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه عز وجل، قد حمله الله هذه الشريعة كرسالة ، وكلفه بتبليغها إلى الأمة ، وفرض على جميع الأمة تقبل رسالته والسير على نهجه، والبحث في ذلك يحتاج إلى معرفة أمور يحصل بها التأثر والتحقق لأداء هذه الشهادة والانتفاع بها .
__________
(1) / سورة التوبة الآية : 24 .(1/25)
الأمر الأول : أهلية النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الرسالة. قال الله تعالى: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار )(1) ، وقال تعالى: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته )(2) ، وقال تعالى: ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار )(3) . ونحو هذه الآيات التي تفيدنا بأن رسل الله من البشر الذين فضلهم واجتباهم وطهرهم، حتى أصبحوا أهلاً لحمل رسالته، وأمناء على شرعه ودينه، ووسطاء بينه وبين عباده، وقد ذكر الله عن بعض الأمم المكذبة للرسل أنهم قالوا لرسلهم : ? إن أنتم إلا بشر مثلنا ? (4) ، فكان جواب الرسل أن قالوا : ? إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ? (5) .
وحيث إن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل وأفضلهم ، وقد خصه بما لم يحصل لغيره ممن قبله ، فإنه بلا شك على جانب كبير من هذا الاصطفاء والاختيار الذي أصبح به مرسلاً إلى عموم الخلق من الجن والإنس ، وقد قال الله تعالى له : ? وإنك لعلى خلق عظيم ? (6) .
__________
(1) / سورة القصص الآية : 68 .
(2) / سورة الأنعام الآية : 124 .
(3) / سورة ص الآية : 47 .
(4) / سورة إبراهيم الآية 46 .
(5) / سورة إبراهيم الآية : 11 .
(6) / سورة القلم الآية : 4 .(1/26)
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ )(1) تعني أنه يطبق ما فيه من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي يشهد بحسنها وملاءمتها كل عاقل، فلقد كان قبل نزول الوحي عليه على جانب كبير من الأمانة والصدق والوفاء والعفاف ونحوها حتى كان أهل مكة يعرفونه بالصادق الأمين ، وقد تضاعفت وتمكنت فيه تلك الأخلاق بعد النبوة ، فكان يتحلى بأعظم درجات الكرم والجود والحلم والصبر، والمروءة والشكر ، والعدل والنزاهة ، والتواضع والشجاعة … إلخ ، كما يوجد ذلك مدوناً بأمثلة رائعة في كتب السيرة والتاريخ ، ولا يخالف في ذلك إلا من أنكر المحسوسات. وهكذا كان صلى الله عليه وسلم مبرءاً عن النقائص ومساوئ الأخلاق التي تزيل الحشمة ، وتسقط المروءة ، وتلحق بفاعلها الإزراء والخسة ، كالبخل والشح ، والظلم والجور ، والكبر والكذب ، والجبن والعجز والكسل ، والسرقة والخيانة ونحوها .
الأمر الثاني : عصمته من الخطايا :
__________
(1) / صحيح مسلم : بَاب جَامِعِ صَلاَةِ اللَّيْلِ وَمَنْ نَامَ عَنْهُ أَوْ مَرِضَ برقم 1233 .(1/27)
اتفقت الأمة على أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب ، لمنافاتها للاجتباء والاصطفاء ، ولأن الله حملهم رسالته إلى البشر ، فلابد أن يكونوا قدوة لأممهم ، وكلفهم أن يحذروا الناس من مقارفة الكفر والذنوب ، والفسوق والمعاصي ، فلو وقع منهم ظاهراً شيء من هذه الخطايا لتسلط أعداؤهم بذلك على القدح فيهم، والطعن في شريعتهم ، وذلك ينافي حكمة الله تعالى ، فكان من رحمته أن حفظهم من فعل شيء من هذه المخالفات ، وكلفهم بالنهي عنها ، وبيان سوء مغبتها ، كما جعلهم قدوة وأسوة في الزهد والتقلل من شهوات الدنيا التي تشغل عن الدار الآخرة، فأما صغائر الذنوب فقد تقع من أحدهم على وجه الاجتهاد ، ولكن لا يقرون عليها ، فلا تكون قادحة في العدالة ، ولا منافية للنبوة ، وإنما هي أمارة على أنهم بشر لم يصل أحدهم إلى علم الغيب ، ولا يصلح أن يمنح شيء من صفات الربوبية . وقد ذكر المفسرون وأهل العلم بعضاً مما وقع من ذلك ، كقوله تعالى: ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه )(1).
وقوله : ? وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتنك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ? (2) ، ونحو تلك الوقائع التي فعلها اجتهاداً لما يؤمله من مصلحة ظاهرة علم الله تعالى أنها لا تتحقق ، فأما المعاصي والذنوب فإن الله تعالى حماه من فعلها ، أو إقرارها ؛ لمنافاة ذلك لصفات الرسالة والاختيار، ولمخالفة ما ورد عنه من التحذير من الكفر والفسوق والعصيان ، فأما تبليغ ما أوصى إليه من الشرع فقد ذكر العلماء المحققون اتفاق الأمة على عصمته بل وعصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله تعالى من الوحي والتشريع بل إن الله جل ذكره قد عصمه قبل النبوة عن الشرك والخنا ونحو ذلك .
__________
(1) / سورة الأنعام الآية : 52 .
(2) / سورة الإسراء الآية : 52 .(1/28)
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به … وما هممت بسوء حتى أكرمني الله برسالته ) ذكره القاضي عياض في كتاب الشفا وغيره ، وقال ابن إسحاق في السيرة : ( فَشَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيّةِ لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ حَتّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلاً ، وَأَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا ، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا ، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا ، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا ، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالأَخْلاَقِ الّتِي تُدَنّسُ الرّجَالَ تَنَزّهًا وَتَكَرّمًا ، حَتّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلا الأَمِينُ لِمَا جَمَعَ اللّهُ فِيهِ مِنْ الأُمُورِ الصّالِحَةِ )(1) .
الأمر الثالث : إثبات العبودية للرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو عبد الله ورسوله ، وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين ومعنى العبد هنا : المملوك العابد : أي أنه بشر مخلوق مما خلق منه البشر يجري عليه ما يجري عليهم كما قال تعالى ? قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ? .
__________
(1) / السيرة النبوية لابن هشام 1/183 .(1/29)
وإنما ذكرنا هذا لأن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته قد أفرط في حقه عليه الصلاة والسلام ، وغلا فيه ، ورفعه من مرتبة العبودية إلى مرتبة المعبود ؛ فاستغاث به من دون الله ، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى من قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يطلب إلا من الله تعالى ، ولعمر الله إن هذا من أعظم البلايا التي ابتليت بها الأمة في هذا الزمن روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ )(1).
المبحث الثالث : إثبات الحمد لله تعالى :
ومما تضمنته هذه الخطبة ؛ إثبات الحمد لله تبارك وتعالى وحده لا شريك له ، والاعتراف بأنه يستحق الحمد وحده لا شريك له ، والتعبد لله تعالى بالحمد والثناء ، وأما معنى الحمد فقد قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى : الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل، والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر : وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدا فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، والمحمد : الذي كثرت خصاله المحمودة.
__________
(1) / رواه البخاري في كتاب كِتَاب أَحَادِيثِ الأَنْبِيَاءِ ، بَاب قَوْلِ اللَّهِ { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذْ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } برقم 3189 .(1/30)
قال الشاعر: إلى الماجد القرم الجواد المحمد ، وبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الشاعر(1) : فشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
والمحمدة : خلاف المذمة ، وأحمد الرجل : صار أمره إلى الحمد ، وأحمدته : وجدته محمودا ، تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته ، أي صادفته محمودا موافقا ، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه ، ورجل حمدة - مثل همزة - يكثر حمد الأشياء ، ويقول فيها أكثر مما فيها ، وحمدة النار - بالتحريك - : صوت التهابها. ) (2)
ومن نفائس الكلم ما قاله العلامة الشنقيطي ـ رحمه الله تعالى ـ في الأضواء عند تفسير سورة الفاتحة قال : قوله ( الحمد لله ) لم يذكر لحمده هنا ظرفاً مكانياً ولا زمانياً . وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية : السماوات والأرض في قوله : { وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض ? [ الروم : 18 ] الآية - وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية : الدنيا والآخرة في قوله : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة ? (3) ، وقال في أول سورة سبأ { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير ? (4)أهـ) (5). فالحمد لله تعالى في كل زمان ومكان .
الفرق بين الحمد والشكر :
__________
(1) / وهو حسان بن ثابت رضي الله عنه
(2) / الجامع لأحكام القرآن 1/
(3) / سورة القصص الآية : 70 .
(4) / سورة سبأ الآية : 1 .
(5) / أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن(1/31)
قال ابن القيم رحمه الله (1): والفرق بين الحمد والشكر : أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه ، وأخص من جهة متعلقاته ، والحمد أعم من جهة المتعلقات ، وأخص من جهة الأسباب ، ومعنى هذا أن الشكر يكون بالقلب خضوعا واستكانة وباللسان ثناء واعترافا ، وبالجوارح طاعة وانقيادا ، ومتعلقاته النعم دون الأوصاف الذاتية ، فلا يقال : شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه ، وهو المحمود على إحسانه وعدله ، والحمد يكون على الإحسان والنعم فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس ، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس فإن الشكر يقع بالجوارح والحمد يقع بالقلب واللسان ) .
ويقارب كلام ابن القيم ما ذكره القرطبي في تفسيره بعد أن ذكر كلام أهل العلم في الفرق بين الحمد والشكر قال : ( قلت : الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان ، وعلى هذا الحد قال علماؤنا: الحمد أعم من الشكر، لان الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا، فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر.)(2) .
__________
(1) / هو الإمام العلامة المحقق الحافظ الأصولي الفقيه النحوي . شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبى بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي المشهور ب:ابن القيم . صاحب التصانيف الكثيرة والنافعة ولد في بيت علم وفضل سنة 691 هـ وتوفى سنة 751هـ من مصنفاته : زاد المعاد في هدى خير العباد ، ومدارج السالكين ، وغيرها . انظر ترجمته في البداية والنهاية لابن كثير 7/252 ، والدرر الكامنة لابن حجر ، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/447.
(2) / الجامع لأحكام القرآن 1/134 .(1/32)
وللعلامة أبي السعادات ابن الأثير كلاما ماتعا في الموضوع قال : والحمد والشكر مُتَقاربان . والحمد أعَمُّها لأنَّك تحمَد الإنسان على صِفاته الذَّاتيَّة وعلى عطائه ولا تَشْكُره على صِفاته ، ومنه الحديث ( الحمدُ رأس الشُّكر ما شَكَر اللّهَ عبْدٌ لا يَحْمَده ) كما أنّ كلمة الإخْلاص رأسُ الإيمان . وإنما كان
رأسَ الشُّكر لأنّ فيه إظهار النّعْمة والإشادة بها ولأنه أعم منه فهو شُكْر وزيادة ) (1).
فضل الحمد :
لقد ورد في فضل الحمد أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم منها :
1/ روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ) (2) .
2/ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلاَ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلاَنِ أَوْ تَمْلاَ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا )(3) .
__________
(1) / النهاية في غريب الحديث والأثر
(2) / متفق عليه ؛ البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ونضع الموازين القسط برقم 7563 ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل التهليل والتسبيح برقم 2694 .
(3) / رواه مسلم في كتاب الطهارة ، باب فضل الوضوء برقم 328 .(1/33)
3/ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لاَ يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ وَلاَ تُسَمِّيَنَّ غُلاَمَكَ يَسَارًا وَلاَ رَبَاحًا وَلاَ نَجِيحًا وَلاَ أَفْلَحَ فَإِنَّكَ تَقُولُ أَثَمَّ هُوَ فَلاَ يَكُونُ فَيَقُولُ لاَ إِنَّمَا هُنَّ أَرْبَعٌ فَلاَ تَزِيدُنَّ عَلَيَّ ) (1) . إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة في فضل الحمد .(2)
دلالة الحمد على الاعتقاد :
__________
(1) / رواه مسلم في كتاب الأدب ، باب كراهية الأسماء القبيحة برقم 2137 .
(2) / انظر :(1/34)
وأما دلالة الحمد على الاعتقاد ؛ فإن الحمد يدل على الاعتقاد والتوحيد دلالة تضمن لأن الحمد لا يأتي إلا بعد الاعتراف للمحمود بجميل الخصال ولهذا ـ والله أعلم ـ اختلف أهل العلم كما يقول الإمام القرطبي رحمه الله (1) : اختلف العلماء أيما أفضل، قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إله إلا الله ؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل، لان في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله، ففي قوله توحيد وحمد، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط . وقالت طائفة : لا إله إلا الله أفضل ، لأنها تدفع الكفر والإشراك، وعليها يقاتل الخلق ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) .واختار هذا القول ابن عطية قال : والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عند تفسير قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) نجد تحت هذه الكلمة إثبات كل كمال للرب تعالى فعلا ووصفا واسما ، وتنزيهه عن كل سوء وعيب فعلا ووصفا واسما ، فهو محمود في أفعاله وأوصافه وأسمائه ، منزه عن العيوب والنقائص في أفعاله وأوصافه وأسمائه ، فأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل لا تخرج عن ذلك ، وأوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت وجلال ، وأسماؤه كلها حسنى ، وحمده قد ملأ الدنيا والآخرة والسموات والأرض وما بينهما ، وما فيهما ، فالكون كله ناطق بحمده ، والخلق والأمر صادر عن حمده ، وقائم بحمده ، ووجد بحمده ، فحمده هو سبب وجود كل موجود ، وهو غاية كل موجود ، وكل موجود شاهد بحمده ...)(2).
المبحث الرابع : الاستعانة بالله :
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن
(2) / بدائع التفسير 1/112 .(1/35)
ومما تضمنته هذه الخطبة المباركة طلب الاستعانة من الله تعالى ، وهذا باب عظيم من أبواب العقيدة والتوحيد ، والاستعانة : الثقة بالله والاعتماد عليه ، والعبد محتاج للاستعانة بالله على مصالح دينه ودنياه، فهو محتاجٌ إليها في فعل المأمورات وترك المحظورات ، وفي الصبر على المقدورات ، كما قال يعقوب عليه السلام : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (1).
__________
(1) / سورة يوسف الآية : 18 .(1/36)
قال الحافظ ابن رجب(1) – رحمه الله – عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا استعنت فاستعن بالله ) قال : ( الاستعانة بالله وحده منتزع من قوله تعالى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ، وهي كلمة عظيمة جامعة يقال : إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها ، وفي استعانة الله وحده فائدتان : إحداهما : أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات ، والثانية : أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل ، فمن أعانه الله فهو المعان ، ومن خذله الله فهو المخذول ، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجزن )(2) ، وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: ( اللهم أعني على ذكر وشكرك وحسن عبادتك ) ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم ( يا رب أعني ولا تعن علي ) (3))(4).
أقسام الناس في عبادة الله والاستعانة به :
__________
(1) / هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الدمشقي الحنبلي الشهير بابن رجب ، الإمام العلامة الحافظ صاحب التصانيف الكثيرة والمفيدة والتي من أشهرها جامع العلوم والحكم بشرح خمسين حديثا من جوامع الكلم ، وشرح الترمذي ( مفقود ) وغيرها كثير ولد سنة 736 هـ ، وتوفي سنة 795 هـ . انظر ترجمته في : الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر 2/321 ، وشذرات الذهب 6/339 .
(2) / أخرجه مسلم في كتاب القدر ، بَاب فِي الأَمْرِ بِالْقُوَّةِ وَتَرْكِ الْعَجْزِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ وَتَفْوِيضِ الْمَقَادِيرِ لِلَّهِ برقم 4816 .
(3) / [ أخرجه أبو داود في تفريع صلاة السفر ، بَاب مَا يَقُولُ الرَّجُلُ إِذَا سَلَّمَ برقم 1291 .
(4) / جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي(1/37)
لقد قسم العلامة المقريزي(1) رحمه الله تعالى في كتابه القيم تجريد التوحيد المفيد الناس في عبادتهم لله تعالى واستعانتهم به إلى أربعة أقسام غاية في الدقة والروعة أجدني مضطرا إلى نقل كلامه بأكمله مع طوله حيث قال : ( وأعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به أقسام : أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها ، فعبادة الله غاية مرادهم ، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم ، ولهذا كان أفضل ما يسأل الرب تعالى الإعانة على مرضاته ، وهو الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل فقال (( يا معاذ ، والله إني أحبك فلا تدع أن تقول في كل دبر صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشرك وحسن عبادتك ))(2) فأنفع الدعاء ؛ طلب العون على مرضاته تعالى .
__________
(1) / هو أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد ..بن تميم المقريزي ، تقي الدين أبو العباس وقيل أبو محمد ، أحد المشاهير الأعلام بعلبكي الأصل مصري المولد والوفاة ، الحنفي ثم الشافعي ولد سنة 766 هـ ، وتوفي سنة 845 هـ ، صاحب التصانيف الكثيرة والتي من أشهرها : الخطط ، وتجريد التوحيد المفيد ...قال فيه الحافظ ابن حجر : كان إماما بارعا مفننا متقنا ضابطا دينا خيرا محبا لأهل السنة ، يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر حسن الصحبة حلو المحاضرة ) . انظر ترجمته في : إنباء الغمر بأبناء العمر لابن حجر 9/172 ، والضوء اللامع للسخاوي 2/23 ، والبدر الطالع للشوكاني 1/79 .
(2) / أخرجه الإمام أحمد 5/244 ، وأبو داود في السنن في باب الاستغفار برقم 1301 .(1/38)
ويقابل هؤلاء القسم الثاني : المعرضون عن عبادته والاستعانة به ، فلا عبادة لهم ولا استعانة ، بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به ؛ فعلى حظوظه وشهواته والله سبحانه وتعالى يسأله من في السماوات والأرض ، ويسأله أولياؤه وأعداؤه فيمد هؤلاء وهؤلاء ، وأبغض خلقه إليه إبليس ، ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته ومتعه بها ، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاته كانت زيادة في شقوته وبعده . وهكذا كل من سأله تعالى واستعان به على ما لم يكن عوناًً له على طاعته ؛ كان سؤاله مبعداً له عن الله فليتدبر العاقل هذا وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه ، ويكون منعه حماية له وصيانة ، والمعصوم من عصمه الله . والإنسان على نفسه بصيرة .
وعلامة هذا أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه سبحانه وتعالى يقضي حوائج غيره يسئ ظنه به تعالى وقلبه محشو بذلك وهو لا يشعر ، وأمارة ذلك حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها . ولقد كشف الله تعالى هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى ? فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن ، كلا ?(1) . أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخوّلته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته عليّ ولكنه ابتلاء مني وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفرني فأسلبه إياه وأحوله عنه لغيره ، وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذاك من هوانه عليّ ولكن ابتلاء وامتحان مني له : أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته أم يسخط فيكون حظه من السخط .
__________
(1) / سورة الفجر الآية : 15ـ 17 .(1/39)
وبالجملة فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره ، فإنه سبحانه وتعالى يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لهوانه عليه ، وإنما يكرم سبحانه وتعالى من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته . فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها .
القسم الثالث من له نوع عبادة بلا استعانة ... وهؤلاء نوعان : أحدهما أهل القدر القائلون : بأنه سبحانه وتعالى قد فعل بالعبد جميع مقدروه من الألطاف وأنه لم يبق في مقدروه إعانة له على الفعل فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق ، وإرسال الرسول وتمكينه من الفعل ، فلم يبق بعدها إعانة مقدورة يسألها إياها . وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد . قال ابن عباس رضي الله عنهما : الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه توحيده (1).
النوع الثاني : من لهم عبادة وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر ، وأنها بدون المقدور كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرك لها ، والمعول على المحرك الأول ، فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبب ومن الآلة إلى الفاعل فقل نصيبهم من الاستعانة . وهؤلاء لهم نصيب من التصرف بحسب استعانتهم وتوكلهم ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله .
__________
(1) / هذا الأثر أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة ص 123 ، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/623 ، وفي إسناده مقال . ضعفه الألباني في تخريجه لأحاديث شرح الطحاوية ص 305 .(1/40)
فإن قيل ما حقيقة الاستعانة عملا ؟ قلنا هي التي يعبر عنها بالتوكل ؛ وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى وتفرده بالخلق والأمر والتدبير والضر والنفع ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ؛ فتوجب اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وثقة به ، فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته ، فلو دهمه ما عسى أن يدهَمَهُ إلى الآفات لم يلتجئ إلى غيرها . فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة ? وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه ?(ُ(1) أي كافيه .
القسم الرابع : من له استعانة بلا عبادة وتلك حالة من شهد تفرد الله بالضر والنفع ولم يدر بما يحبه ويرضاه فتوكَّل عليه في حظوظه فأسعفه بها سواء كانت أموالاً أو رياسات أو جاهاً عند الخلق أن نحو ذلك ، وهذا لا عاقبة له ، فذلك حظه من دنياه وآخرته )(2) .
المبحث الخامس : الاستغفار :
__________
(1) / سورة الطلاق الآية : 2، 3 .
(2) / تجريد التوحيد المفيد من ص 83 إلى 88 ، ثم تبين لي أن هذا النص مطابق لما في مدارج السالكين لابن القيم 1/99ـ105 ، مع بعض الإضافات اليسيرة والتصرف القليل .(1/41)
ومما تضمنته هذه الخطبة المباركة : طلب الاستغفار من الله تعالى ، والاستغفار والمغفرة أصلها الغفر : أي التغطية والستر ، وغفر الله له ذنوبه أي سترها )(1) ، فالاستغفار من الذنوب هو طلب المغفرة ، والعبد أحوج ما يكون إليه لأنه يخطئ بالليل والنهار ، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما ، والحث عليهما في القرآن والسنة ، أما الكتاب فقد قال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }(2) ، وقال تعالى : {... َوأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(3) .
__________
(1) / انظر : مدارج السالكين لابن القيم 1/314 .
(2) / سورة محمد الآية : 19
(3) / سورة المزمل الآية : 20 .(1/42)
والله سبحانه وتعالى سمى نفسه بالغفور في إحدى وتسعين آية ، وسمى نفسه بالغفار في خمس آيات ، وكلاهما من أبنية المبالغة ، قال تعالى: ( أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وقال تعالى : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وقال تعالى : ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) وقوله تعالى : ( أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ، وقوله تعالى : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) ، وقوله تعالى :( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً )، وأما الغافر فقد ورد مرة واحدة في القرآن، وذلك في قوله تعالى : ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ) ، فالله – سبحانه وتعالى – هو الغفور والغفار والغافر الذي يغفر الذنوب جميعاً ويسترها ، وفي هذا حث لعباده أن يطلبوا منه المغفرة وستر الذنوب والتجاوز عن السيئات .
وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام فهي أيضا زاخرة بالأمر بالاستغفار والإكثار منه من ذلك :
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ...) (1).
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم 17577 .(1/43)
من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : وَاللَّهِ إِنِّي لاَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) (1)، وأخرج مسلم من حديث الأَغَرَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) (2)، وأخرج الإمام أحمد من حديث ابن عمر قال: ( إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِسِ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ )(3) .
فضل الاستغفار :
لقد وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة تدل على فضل الاستغفار ، وفضل ملازمته ولعلي أذكر بعضا منها هنا :
__________
(1) / وأخرجه البخاري في كتاب الدعوات ، بَاب اسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ برقم 5832 .
(2) / مسلم كِتَاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ ، بَاب اسْتِحْبَابِ الِاسْتِغْفَارِ وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ برقم 4871 .
(3) / رواه الإمام أحمد في مسنده برقم 4496 .(1/44)
قال الله تعالى ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون )(1) . عن أسماء بن الحكم الفزاري قال سمعت عليا يقول إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ثم قرأ هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)(2).
وقال تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} .
__________
(1) / سورة آل عمران الآية : 135 .
(2) / أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان.(1/45)
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له )(1).
وروى أبو داود عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب)(2). قال تعالى : ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) . وقال تعالى ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين )
وعن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه أن رسول الله قال: ( إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم , فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني )(3).
__________
(1) / متفق عليه البخاري في أبواب تقصير الصلاة ، بَاب الدُّعَاءِ فِي الصَّلاَةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ برقم 1077 ، ورواه مسلم في كِتَاب صَلاَةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا ، بَاب التَّرْغِيبِ فِي الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَالإِجَابَةِ فِيهِ برقم 1261 .
(2) / رواه أبو داود في أبواب قيام الليل ، بَاب فِي الِاسْتِغْفَارِ برقم 1297 وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضععيفة برقم 705 .
(3) / ) أخرجه أحمد وأبو يعلى والحاكم وقال صحيح الأسناد ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 103.(1/46)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالى، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى, يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة )(1).
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث معرور بن سويد عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة )(2).
دلالة الاستغفار على العقيدة والتوحيد :
للاستغفارِ آثارٌ عقديَّةٌ وثمارٌ إيمانيةٌ جليلةٌ(3) : منها :
__________
(1) / رواه الترمذي في كِتَاب الدَّعَوَاتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَاب فِي فَضْلِ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ برقم 3463 ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 127 .
(2) / متفق عليه : البخاري في كتاب التوحيد ، بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ } برقم 6856 ، ومسلم في كِتَاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَاب الْحَثِّ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى برقم 4832 .
(3) / انظر لزوما : الاستغفار: ثماره العقدية وآثاره النفسية والاجتماعية د. محمد عمر دولة بحث منشور على موقع شبكة المشكاة الإسلامية .(1/47)
1/ في الاستغفار إنابة العبدِ إلى ربِّهِ ، واعترافه بذنبه وإقراره بـ ( أن له ربّاً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب ) ؛ ولذلك ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ أَوْ أَصَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا قَالَ قَالَ رَبِّ أَصَبْتُ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاَثًا فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ )(1).
2/ في الاستغفار تربية الخشوع والخضوع في نفس المسلم ، وتلذُّذِه بالتذلُّل بين يدي ربِّه سبحاته وتعالى كما قال تعالى حكاية عن نبي الله صالح عليه السلام : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ )(2) .
__________
(1) / رواه البخاري في كتاب التوحيد ، بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ } برقم 6953 .
(2) / سورة هود الآية : 61 .(1/48)
3/ الاستغفار يتضمن شهادةَ العبدِ برحمةِ ربِّهِ وتوبته على عباده ؛ واستحضارِه قربَه وإجابتَه من دعاه ، ورحمتَه ومحبَّتَه عِبادَه ، كما قالَ نبيُّ الله شعيبٌ عليه السلام : ( وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ )(1) .
ولعلَّ المتأمِّلَ في حديثِ سيِّدِ الاستغفار يُدرك هذه الصلة الوثيقة ما بين الأدعية والأذكار ، وبين الأصول العقديَّة والمعاني الإيمانيَّة ؛ وهذا سِرُّ الوعدِ بالجنّة لكلماتٍ يقولُها العبدُ يسيرةٍ في حروفِها ومبانيها ، كبيرةٍ في رُوحها ومعانيها ، فقد روى البخاري رحمه الله في كتاب (الدعوات) باب (أفضل الاستغفار) حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيِّدُ الاستغفار أن تقول: اللهمَّ أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتَني وأنا عبدُك ، وأنا على عهدِك ووعدِك ما استطعتُ ؛ أعوذ بك من شرّ ما صنعتُ ، أبوء لك بنعمتِك عليَّ ، وأبوء بذنبي ؛ فاغفر لي ؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت . قال : ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يُمسي ؛ فهو من أهل الجنّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يُصبح ؛ فهو من أهل الجنة)(2).
__________
(1) / سورة هود الآية : 90.
(2) / رواه البخاري في كتاب الدعوات ، باب أفضل الاستغفار برقم 5831 .(1/49)
4/ الاستغفارُ يشتملُ على إظهارِ الرجاءِ في الله عز وجلَّ وحُسنِ الظنّ به جل جلاله ؛ وهذه المعاني ظاهرةٌ في أذكار الاستغفار ، كما روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله تعالى : يا ابنَ آدم إنك ما دعوتني ورجوتني ؛ غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابنَ آدم لو بلغتْ ذنوبُك عنانَ السماء ثم استغفرتني غفرتُ لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابنَ آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرةً )(1).
5/ الاستغفار توحيد وتمجيد لرب العالمين سبحانه وتعالى :
لَما كان الدعاءُ قائماً على توحيدِ الله عزَّ وجلَّ وإظهارِ الذُّل والافتقارِ إلى الله ؛ فقد نادى أيوب عليه السلام : ( أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ) ، وجمع في هذا الدعاءِ بين حقيقةِ التوحيدِ وإظهارِ الفَقرِ والفاقةِ إلى ربِّه ووُجودِ طعمِ المحبةِ في التملُّقِ له ، والإقرارِ له بصفةِ الرحمةِ وأنه أرحَمُ الراحمين ، والتوسُّلِ إليه بصفاتِه سبحانه وشدةِ حاجتِه هو وفَقرِه . ومتى وجد المبتلى هذا كُشِفَت عنه بلواه ، وقد جرب أنه من قالها سبعَ مرات ولاسيما مع هذه المعرفة كشفَ الله ضُرَّه"(2).
__________
(1) / رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده
(2) / انظر : الفوائد لابن القيم ص 222-223.(1/50)
ولله دَرُّ ابنِ القيم رحمه الله ؛ حيث قال : التوحِيدُ مَفزَعُ أعدائه وأوليائه ، فأما أعداؤه فيُنجِيهم من كُرَبِ الدنيا وشدائدها ، ( فإذا ركبوا في الفُلك دعوا الله مُخلِصِين له الدِّين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ) . وأما أولياؤه فينجيهم من كُربات الدنيا والآخرة وشدائدها ؛ ولذلك فزعَ إليه يونس فنجاه الله من تلك الظلمات ، وفزع إليه أتباعُ الرُّسلِ فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعدَّ لهم في الآخرة . ولما فزعَ إليه فرعون عند مُعاينة الهلاك وإدراك الغرق لم ينفعه ؛ لأنَّ الإيمان عند المعايَنة لا يقبل، هذه سُنةُ الله في عِباده؛ فما دُفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد؛ ولذلك كان دعاءُ الكربِ بالتوحيد، ودعوةُ ذي النون التي ما دعا بها مَكرُوبٌ إلا فرَّجَ الله كربَه بالتوحيد؛ فلا يُلقي في الكَرْبِ العِظام إلا الشِّرك، ولا يُنْجِي منها إلا التوحيد؛ فهو مَفزَعُ الْخَلِيقة ومَلجؤها وحِصْنُها وغِياثها.)(1) .
6/ الاستغفار استحضارٌ لمعاني العبودية :
ولا ريبَ أنَّ المؤمنَ الذاكرَ المستغفرَ دائمُ الاستحضارِ لِمَعاني العُبوديةِ لله عَزَّ وجلَّ ؛ فهو يَستَغفِرُ اللهَ ويُنيب إليه ، ويتوبُ مِن ذُنوبِه ؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( والله إنِّي لأسْتغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إليه في اليومِ أكثرَ مِن سَبعين مرّةً )(2) .
__________
(1) / الفوائد لابن القيم ص 61 . …
(2) / رواه البخاري في كتاب الدعوات ، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة برقم 5832 .(1/51)
وروى البخاري رحمه الله عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: ( ربِّ اغفرْ لي خطيئتي وجَهلي وإسرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفرْ لي خطاياي وعمدي وجهلي وهزلي؛ وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلَنْتُ، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر؛ وأنت على كل شيء قدير )(1). وفي روايةٍ: (اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطاياي وعَمْدي وكل ذلك عندي )(2).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله (3): ( استُشكِلَ دعاؤه صلى الله عليه وسلم بما ذُكِرَ مع أنه مَعصومٌ مَغفورٌ له ما تقدَّم وما تأخَّرَ؟ وأُجِيبَ بأجوبةٍ ، أحدها: أنه قصدَ التعليمَ لأمته ، ثانيها : أنَّ المرادَ السؤالُ منه لأُمَّتِه ؛ فيكون المعنى هنا : أعوذ بك لأمتي، ثالثها: سُلوكُ طريقِ التواضُعِ وإظهارُ العُبوديةِ وإلزامُ خَوفِ اللهِ وإعظامِه والافتقارِ إليه وامتثالِ أمْرِه في الرغبةِ إليه ، ولا يمتنع تكرارُ الطلبِ مع تحققِ الإجابة ؛ لأن ذلك يُحَصِّلُ الحسناتِ ويرفع الدرجات. وفِيهِ تَحْرِيضٌ لأمَّتِه على مُلازَمةِ ذلك ؛ لأنه إذا كان مَع تحقُّقِ المغفرةِ لا يترك التضرع ؛ فمَنْ لم يَتَحَقَّقْ ذلك أحْرَى بالملازَمة )(4).
__________
(1) / صحيح البخاري كتاب الدعوات ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت. حديث رقم 5919.
(2) / المرجع نفسه برقم 5920 .
(3) / هو أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن أحمد الكناني الشافعي المعروف بابن حجر العسقلاني . ولد بمصر في شعبان 773 هـ وتوفي في ذي الحجة 852 هـ حامل لوا ء السنة في زمنه ، وقاضي قضاة مصر ، صنف مصنفات عديدة نافعة خاصة في مجال السنة والحديث ، من أشهر تصانيفه ، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ولسان الميزان ، والنكت على ابن صلاح... وغيرها .
(4) / فتح الباري 2/319.(1/52)
7/ الاستغفار دليل على معرفة العبد لربه عزَّ وجلَّ وخَشْيَتِه وخشيته له :
وقد عبَّر عن ذلك ابنُ مسعود رضي الله عنه خيرَ تعبِيرٍ فيما رواه البخاري في (كتاب الإيمان) من قولِ ابنِ مسعودٍ: ( إنَّ المؤمنَ يرى ذُنوبَه كأنه قاعِدٌ تحت جَبلٍ يخافُ أن يقعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يرى ذُنوبَه كذُبابٍ مَرَّ على أنْفِه فقال به هكذا )(1). قال ابنُ أبي جَمْرة رحمه الله : "السببُ في ذلك أنَّ قلبَ المؤمنِ مُنَوَّرٌ ؛ فإذا رأى مِن نَفْسِه ما يخالِفُ ما يُنوَّر به قلبُه عَظُمَ الأمرُ عليه ! والحكمةُ في التمثيلِ بالجبلِ أنَّ غَيرَه مِن المهلِكات قد يحصلُ التسبُّبُ إلى النجاةِ منه عادةً ، بخلافِ الجبل إذا سقط على الشخصِ لا ينجو منه عادةً . وحاصلُه أنَّ المؤمنَ يغلبُ عليه الخوف ؛ لقوَّة ما عندَه من الإيمان ؛ فلا يأمنُ العُقوبةَ بسببِها. وهذا شأنُ المسلم أنه دائم الخوفِ والمراقبةِ يستصغرُ عملَه الصالح، ويخشى مِن صَغيرِ عَمَلِه السيِّء"(2). وقال المحب الطبري رحمه الله: "إنما كانت هذه صِفةُ المؤمنِ؛ لِشدةِ خَوفِه مِن اللهِ ومِن عُقوبَتِه؛ لأنه على يقينٍ من الذنب , وليس على يَقينٍ من المغفرة, والفاجِرُ قليلُ المعرفةِ بالله ؛ فَلِذلك قَلَّ خَوفُه واستهانَ بالمعصِية )(3) .
__________
(1) / البخاري كتاب الدعوات ، باب التوبة برقم 5833 .
(2) / فتح الباري 11/105 .
(3) / المرجع نفسه والصفحة .(1/53)
ورَحِم الله القرطبي حيث قال في تفسير قول الله عز وجل : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )(1) "قوله تعالى :( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ) أي: ليس أحدٌ يغفر المعصية ولا يزيل عُقُوبتَها إلا الله (وَلَمْ يُصِرُّواْ) أي: ولم يثبتوا ويعزموا (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، وقال مجاهد أي : ولم يمضوا... الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه ، ومنه صَرُّ الدنانير : أي الربط عليها... قال سهل بن عبد الله : الإصرار هو التسويف ، والتسويف : أن يقول : أتوب غدا ، وهذا دعوى النفس كيف يتوب غدا وغدا لا يملكه سهل؟!... قال علماؤنا: الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رَغباً ورَهباً، والرغبة والرهبة ثمرةُ الخوفِ والرجاء ، يخاف من العقاب ويرجو الثواب والله الموفق للصواب. وقد قيل : إنَّ الباعثَ على ذلك تنبيهٌ إلَهيٌّ يُنبِّه به من أراد سعادتَه لِقُبحِ الذنوبِ وضَرَرِها ؛ إذ هي سُمومٌ مُهلِكَةٌ . قلت : وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى فإنَّ الإنسانَ لا يتفكرُ في وَعدِ الله ووَعِيدِه إلا بتنبيهِه ؛ فإذا نظر العبدُ بتوفيقِ الله تعالى إلى نفسِه ؛ فوجدها مشحونةً بذنوبٍ اكتسبَها وسيئاتٍ اقترفَها وانبعثَ منه الندمُ على ما فرطَ وترك مثل ما سبق مخافةَ عُقوبةِ الله تعالى صدقَ عليه أنه تائبٌ ؛ فإن لم يكن كذلك كان مُصِراًّ على المعصية ومُلازِماً لأسبابِ الْهَلَكة ، قال سهل بن عبد
__________
(1) / سورة آل عمران الآية : 135 .(1/54)
الله : علامة التائب أن يشغله الذنبُ عن الطعام والشراب كالثلاثة الذين خُلِّفوا ).(1)
المبحث السادس الاستعاذة :
ومما تضمنته هذه الخطبة المباركة الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى وهو باب عظيم من أبواب التوحيد والاعتقاد ، وأما معنى الاستعاذة فيقول ابن القيم رحمه الله تعالى : اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها تدل على التحرز والتحصن والنجاة ، وحقيقة معناها ؛ الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا كما يسمى ملجأ ووزرا ، وفي الحديث أن ابنة الجون لما دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها قالت : أعوذ بالله منك ، فقال لها : لقد عذت بمعاذ الحقي بأهلك ) (2) .
وقال في إغاثة اللهفان : ومعنى استعذ بالله : امتنع به ، واعتصم به وألجأ إليه ...) (3).
فالاستعاذة إذا معناها الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى والاحتماء بجنابه جل وعلا من كل ما يخاف منه الإنسان مما لا يستطيع دفعه عن نفسه ، والله سبحانه وتعالى وحده المستعاذ به ، ولا يستعاذ بأحد من خلقه بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره ، وقد أخبر تعالى عن من استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا فقال تعالى حكاية عن مؤمني الجن : ? وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ?(4).
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن 4/411-412.
(2) / بدائع الفوائد 2/201 . وحديث ابنة الجون في سنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد بن حنبل وصححه الألباني رحمه الله تعالى .
(3) / إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ص 99 .
(4) / سورة الجن الآية : 6 .(1/55)
وأما قوله عليه الصلاة والسلام في الخطبة ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) فللعلامة ابن القيم رحمه الله تعالى كلام بديع في هذا الموضع أنقله بطوله قال : الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين : إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه ، ويكون هذا الشر من الذنوب وموجباتها ، وهو أعظم الشرين وأدومها وأشدها اتصالا بصاحبه ، وإما شر واقع به من غيره ، وذلك الغير إما مكلف ، أو غير مكلف ، والمكلف إما نظيره وهو الإنسان ، أو ليس نظيره وهو الجني ، وغير مكلف مثل الهوام وذوات الحمى وغيرها ) (1) . وقال أيضا : فقوله - صلى الله عليه وسلم - في تشهد الخطبة ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) يتناول الاستعاذة من شر النفس الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة فيسال دفعه وأن لا يوجد ، وأما قوله : ( من سيئات أعمالنا ) ففيه قولان : أحدهما : أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد ومن الشر الموجود فطلب دفع الأول ورفع الثاني .
__________
(1) / بدائع الفوائد 2/204 .(1/56)
والقول الثاني : أن سيئات الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها ، وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا ؛ دفع المسبب ، والأول دفع السبب ، فيكون استعاذ من حصول الألم وأسبابه ، وعلى الأول يكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها ، وعلى الثاني يكون من باب إضافة السبب إلى مسببه ، والمعلول إلى علته ، كأنه قال : من عقوبة عملي ، والقولان محتملان ، فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح ، فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس ، فشر النفس يولد الأعمال السيئة فاستعاذ من صفة النفس ، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة ، وهذان جماع الشر وأسباب كل ألم فمتى عوفي منهما عوفي ؛ من الشر بحذافيره ، ويترجح الثاني بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل ، وأسبابها شر النفس فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها ، والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر ) (1).
وأما دلالة الاستعاذة على الاعتقاد فغاية في الوضوح ؛ إذ الاستعاذة عبادة من جملة العبادات ، شأنها شان الدعاء ، والاستغاثة ، والاستعانة ... فالمستعيذ بالله تعالى عابد له موحد له ، والمستعيذ بغيره عابد لغيره مشرك به سبحانه وتعالى ولهذا قال تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ) . ولذلك تضافرت نصوص الكتاب والسنة على الأمر بالأستعاذة بالله وحده لا شريك له .
ونصوص الاستعاذة والتعوذ في السنة كثيرة جدا منها مثلا:
__________
(1) / بدائع الفوائد : 207 ـ 208 .(1/57)
في الحديث سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَنْبَشٍ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ قَالَ جَاءَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الأَوْدِيَةِ وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْجِبَالِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَرُعِبَ قَالَ جَعْفَرٌ أَحْسَبُهُ قَالَ جَعَلَ يَتَأَخَّرُ قَالَ وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ قَالَ مَا أَقُولُ قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لاَ يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَ طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ فَطَفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينِ وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَل".(1)
__________
(1) / رواه أحمد والطبرانى وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 840 .(1/58)
وفى صحيح مسلم عن عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِاسْمِ اللَّهِ ثَلاَثًا وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ )(1).
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ فَقَالَ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ فِي صَلاَتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ).(2)
__________
(1) / رواه مسلم في كتاب السلام ، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء برقم 4082 .
(2) / رواه البخاري : كتاب الأذان ، باب الدعاء قبل السلام برقم 789 .(1/59)
وعن سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قال سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ )(2).
__________
(1) / قال النووي رحمه الله تعالى : قوله صلى الله عليه وسلم : ( أعوذ بكلمات الله التامات ) قيل : معناه الكاملات التي لا يدخل فيها نقص ولا عيب , وقيل : النافعة الشافية , وقيل : المراد بالكلمات هنا القرآن . والله أعلم .
(2) / رواه مسلم : كتاب الذكر والدعاء ، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره برقم 4881 .(1/60)
المبحث السابع : طلب الهداية من الله : ومما تضمنته هذه الخطبة المباركة طلب الهداية من الله تعالى فقوله عليه الصلاة والسلام ( ونستهديه ) أي : ونطلب الهداية منه ؛ وذلك لأن جميع الخلق مفتقرون إلى هداية الله تعالى في أمور دينهم ودنياهم ، والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فمن هداه الله تعالى للإيمان فبفضله وله الحمد ، كما قال تعالى: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) ، وقوله تعالى: ( وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِين ) ، ومن أضله فبعدله ، قال سبحانه : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَمٍ لِلْعَبِيدِ ) ، وقال عز وجل: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ )، وقوله : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى للهداية سبلاً وطرقاً فمن أخذ بأسبابها هداه الله ، ومن أخذ بأسباب الضلال أضله الله ، قال تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) ، وقال: ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) ، قال ابن رجب : ( الإنسان يولد مفطوراً على قبول الحق ، فإن هداه الله سبب له من يعلمه الهدى ، فصار مهتدياً بالفعل بعد أن كان مهتدياً بالقوة ، وإن خذله الله قيض له من يعلمه ما يغير فطرته... والهداية نوعان هداية مجملة وهي الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن وهداية مفصلة وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام وإعانته على فعل ذلك وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلا ونهارا ولهذا أمر الله عباده أن يقرأوا في كل ركعة من صلاتهم قوله : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " )(1)
__________
(1) / جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم 2/40 .(1/61)
.
أنواع الهداية : والهداية نوعان :
الأولى : هداية إرشاد وبيان ؛ وهي التي يملكها الرسل وأتباعهم من الدعاة إلى الله تعالى والتي ذكرها الله تعالى بقوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) ، وبقوله تعالى : {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }(1) وهذه الهداية هي التي يتحدث عنها علماء الدعوة فيذكرون شروطها وأساليبها ووسائلها المختلفة ، فهي مرادفة للدعوة إلى الله تعالى ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي سبب للهداية الثانية .
__________
(1) / سورة الشورى الآية : 52 .(1/62)
والثانية : هداية توفيق ؛ وهي أن يوفق الإنسان لسلوك الصراط المستقيم ؛ وهي التي بيد الله تعالى وهي المقصودة في خطبة الحاجة ( من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ) ، وهذه الهداية هي التي يتحدث عنها أهل العقيدة فيذكرون في كتب العقيدة : أن من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة أن الهداية والضلال بيد الله سبحانه وتعالى ، خلافا لمن نفى ذلك من أهل البدع والضلال مثل المعتزلة قال ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية في شرح كلام الإمام الطحاوي : ( يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلاً . وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلاً ) هَذَا رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ فِعْلِ الأَصْلَحِ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْهُدَى وَالضَّلاَلِ . قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ : الْهُدَى مِنَ اللَّهِ : بَيَانُ طَرِيقِ الصَّوَابِ ، وَالإِضْلاَلُ : تَسْمِيَةُ الْعَبْدِ ضَالاًّ ، أَوْ حُكْمُهُ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّلاَلِ عِنْدَ خَلْقِ الْعَبْدِ الضَّلاَلَ فِي نَفْسِهِ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِمُ الْفَاسِدِ : أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَلَوْ كَانَ الْهُدَى بَيَانُ الطَّرِيقِ - لَمَا صَحَّ هَذَا النَّفْيُ عَنْ نَبِيِّهِ ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الطَّرِيقَ لِمَنْ أَحَبَّ وَأَبْغَضَ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } { يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَلَوْ كَانَ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ الْبَيَانُ ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَفْسٍ لَمَا صَحَّ التَّقْيِيدُ بِالْمَشِيئَةِ .(1/63)
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } وَقَوْلُهُ { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } )(1) ، فمعتقد أهل السنة والجماعة أن الهداية والضلال بيده سبحانه وتعالى ، فمن اهتدى فقد اهتدى بفضله ، ومن ضل فبعدله وأن الله تعالى خص المؤمنين والمهتدين بمزيد عناية وذلك فضله يؤتيه من يشاء تبارك ربنا وتعالى ، ولهذا يروى عن جعفر الصادق أن قدريا دخل عليه وقال له : يا ابن بنت رسول الله تعالى الله عن الفحشاء ، فقال له جعفر الصادق يا أعرابي وجل ربنا أن يكون في ملكه ما لا يشاء ، فقال القدري : يا ابن بنت رسول الله أيحب ربنا أن يعصى ؟ قال : يا أعرابي أفيعصى ربنا قهرا ؟ قال : يا ابن بنت رسول الله أرأيت إن صدني الهدى ، فسلك بي طريق الردى أحسن بي أم أساء ؟ فقال رضي الله عنه : إن منعك شيئا هو لك فقد ظلم ، وأساء وإن منعك شيئا هو له ، فإنه يختص برحمته من يشاء فأفحم القدري وبهت ولم يجد جوابا )
__________
(1) / شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي(1/64)
والهداية أكبر نعمة ينعم بها الله سبحانه وتعالى على العبد ، وبقدر هدايته تكون سعادته في الدنيا والآخرة ، والأنبياء عليهم السلام هم أكمل البشر هداية ، وكانوا يسألون الله سبحانه وتعالى الهداية ومن ذلك قول موسى عليه السلام : ( عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه من طلب الهداية من الله ، ومن ذلك ما أخرجه مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )(1) ، وما أخرجه أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ) (2)، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بطلب الهداية منه في كل ركعة من صلاتنا فقال تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، قال ابن القيم : ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم : توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل
__________
(1) / أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه برقم 1289 .
(2) / رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل برقم 4898 .(1/65)
إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ...وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة )(1) ، وهداية الله سبحانه وتعالى وسعت كل المخلوقات ، فقد هدى سبحانه وتعالى جميع الأحياء إلى جلب مصالحها ودفع مضارها ، قال تعالى: ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )، وقال تعالى : ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) ، فهدى سبحانه كل مخلوق إلى ما لابد منه في قضاء حاجاته.
موانع الهدية :
يقول كثير من الناس لماذا مع كثرة التوجهات والدعاء لا زلنا نشكو من ضعف الهداية ؟ إنني أرغب في الهداية لكني لا أستطيع فما هو السبب ؟ هذه هي صورة المشكلة فما أسبابها وما نتائجها وما علاجها ؟!:
لا شك أن موانع الهداية كثيرة قد تجتمع كلها في الواحد مرة واحدة، وقد يتخلف بعضها، وقد يحول بين العبد والهداية مانع واحد. وعلى كل سوف نذكر جملة منها :
1- من موانع الهداية : ضعف المعرفة : فإن كمال العبد في أمرين : معرفة الحق من الباطل ، وإيثار الحق على الباطل . فإن من الناس من يعرف الحق لكن إيثاره على الباطل قد يكون عنده ضعيفا ، ومن الناس من لا يتعرف على الحق أصلا لكثرة المؤثرات الخارجية عليه ، وكثرة الشبه والأوهام التي تقف أمامه ، وهذا السبب هو الذي حال بين كثير من الكفار وبين الإسلام ، فإنهم لا يعرفون عنه شيئا ، وغاية ما يعرفونه عن الأسلام هو ما يعرض لهم عبر وسائل الإعلام المختلفة من صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين ولذلك يكرهونه ويعادون أهله ، وكما قيل: الناس أعداء لما جهلوا .
__________
(1) / مدارج السالكين ( 1/23 – 24 ) .(1/66)
2- ومن موانع الهداية عدم الأهلية : فإنه قد تكون المعرفة تامة لكن يتخلف عنه عدم زكاة المحل وقابليته كما قال تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسمعهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } (1) ، مثل : الأرض الصلدة التي يخالطها الماء ، فإنه يمتنع النبات فيها لعدم قبولها .
__________
(1) / سورة الأنفال الآية : 23 .(1/67)
3- ومن موانع الهداية الحسد والكبر: وقد فسر عليه الصلاة والسلام الكبر بأنه ( بطر الحق وغمط الناس ) ، وضده التواضع ؛ وهو قبول الحق مع من كان ، ولين الجانب، والمتكبر متعصب لقوله وفعله ، وذلك هو الذي حمل إبليس على عدم الانقياد للأمر لما أمر بالسجود قال تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } البقرة34 ، وهو داء الأولين والآخرين ، إلا من رحم الله ، وبه تخلف اليهود عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام ، وقد عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام وشاهدوه ، وعرفوا صحة نبوته قال تعالى : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(1) ، فذكر سبحانه أنهم يعرفون صفات الرسول كما يعرفون أبناءهم ولكنهم قوم بهت. وبهذا الداء امتنع عبد الله بن أبي بن سلول عن الإيمان ، وبه تخلف الإيمان عن أبي جهل ، ولهذا لما سأله رجل عن امتناعه مع أنه يعرف أنه صادق قال : تسابقنا نحن وبنو هاشم على الشرف حتى إذ ا كنا كفرسي رهان قالوا ، منا نبي ، فمتى ندركها ؟ والله لا نؤمن به )(2) ، وكذلك سائر المشركين فإنهم كلهم لم يكونوا يرتابون في صدقه ، وأن الحق معه، ولكن حملهم الكير والحسد على الكفر والعناد .
__________
(1) / سورة البقرة الآية :146.
(2) / انظر : السيرة النبوية لابن هشام 1/315 .(1/68)
4- ومن موانع الهداية : مانع السلطة الرياسة : ولو لم يكن في صاحبه حسد ولا كبر عن الانقياد للحق لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد للحق وملكه ورياسته ، فيضن بملكه ورياسته ، كحال هرقل وأضرابه ، فإنه قال في آخر كلامه مع أبي سفيان : ( فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين ، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ) (1)، أنه لا يستطيع الوصول إليه لتخوفه على حياته ومملكته من قومه . وما نجا من هذا الداء - وهو داء أرباب الولاية - إلا من عصم الله كالنجاشي رحمه الله . وهذا هو داء فرعون وقومه { فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } (2) ، وقال تعالى { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ }(3) وقد قيل ، إن فرعون لما أراد متابعة موسى وتصديقه شاور هامان وزيره ، فقال له : بينما أنت إله تعبد تصير عبدا تعبد غيرك ، فاختار الرياسة على الهداية .
__________
(1) / قصة هرقل مع أبي سفيان رواها البخاري في أول الصحيح كتاب الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث رقم 6 .
(2) / سورة المؤمنون الآية : 47 .
(3) / سورة الزخرف الآية :51 .(1/69)
5- ومن موانع الهداية : مانع الشهوة والمال : وهو الذي منع كثيرا من أهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكلهم وأموالهم التي تصير إليهم من قومهم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }(1) ، وقد كان كفار قريش يصدون الرجل عن الإيمان بحسب شهوته ، فيدخلون عليه منها ، فكانوا يقولون لمن يحب الزنا : إنه يحرم الزنا ، ويقولون لمن يحب الخمر : إنه يحرم الخمر ، وبه صدوا الأعشى(2) الشاعر عن الإسلام ، وأخبروه بأنه يحرم الخمر ، فرجع وهو في طريقه إلى الرسول ، فوقصته ناقته فسقط فمات .
__________
(1) / سورة التوبة :34.
(2) / الأعشى الكبير أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة وهو حصن بن عكابة بن صعب ابن علي بن بكر بن وائل ، ويلقب الصناجة ، وأمه بنت علس أخت المسيب بن علي من بني خماعة ثم من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار ولد الأعشى بقرية باليمامة يقال لها منفوحة وفيها داره وبها قبره. ويقال إنه كان نصرانياً وهو أول من سأل بشعره ووفد إلى مكة يريد النبي صلى الله عليه وسلم ومدحه بقصيدته التي ألولها :
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
يقول فيها : أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله ... وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
فلقيه أبو سفيان بن حرب فجمع له مائة من الإبل ورده فلما صار بقام منفوحة رمى به بعيره فقتله .(1/70)
وقد قال بعض أهل العلم : لقد فاوضت غير واحد من أهل الكتاب عن الإسلام ، فكان آخر ما قال لي أحدهم : أنا لا أترك الخمر وشربها ، وإذا أسلمت حلتم بيني وبينها وجلدتموني على شربي ، وقال آخر بعد أن عرض عليه أحد الدعاة الإسلام : إن ما قلت حق ، ولكني لي أقارب أرباب أموال وإني إذا أسلمت لم يصل إلي منها شيء ، وأنا آمل أن أرثهم . ولا ريب أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار ، فإذا اجتمع في حقهم قوة داعي الشهوة والمال مع ضعف داعي الإيمان ، فلا ريب أن العبد يجيب داعي الشهوة والمال { وَمَن لاَ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ } (1) ، وقال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } (2).
__________
(1) / سورة الأحقاف الآية : 32 .
(2) / سورة آل عمران الآية : 14 .(1/71)
6- ومن موانع الهداية : مانع محبة الأهل والأقارب والعشيرة : فيرى أنه إذا اتبع الحق وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم ، وهذا سبب بقاء خلق كثير من الكفار بين قومهم وأهليهم وعشائرهم ، وهذه الحالة تحصل كثيرا بين اليهود والنصارى ، وكيف أنهم ينبذون كل من خالف مذهبهم ويعادونه كلهم ، مما جعل كثيرا من أبنائهم وممن ينتسب إليهم يتركون الحق بعد معرفته ويعرضون عنه ولذلك قال تعالى : { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (1).
__________
(1) / سورة المجادلة الآية : 22 .(1/72)
7- ومن موانع الهداية : محبة الدار والوطن وإن لم يكن بها عشيرة ولا أقارب ، لكن يرى أن في متابعته للرسول أو أهل الحق الذين اتبعوه فيه خروج عن داره ووطنه إلى دار الغربة ، فيضن بوطنه على متابعة الحق أو الدخول في الإسلام بعد تيقنه ، ومن قرأ سيرة سلمان رضي الله عنه وما لاقى من المتاعب في سبيل الوصول إلى الحق لعلم أي مجاهدة جاهد بها نفسه ، وكيف ترك أهله وعشيرته ووطنه وهاجر إلى المدينة ، وقد سمي ( الباحث عن الحقيقة ) ، وكذا الأمر في سائر الصحابة الذين تركوا أهلهم وأبناءهم وأموالهم وخرجوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون خلافا لأولئك الذين قال الله تعالى فيهم :{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً }(1) .
__________
(1) / سورة النساء الآية : 97 .(1/73)
8- ومن موانع الهداية : من تخيل أن في الإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم إزراء وطعنا منه على آبائه وأجداده : وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام ، فرأوا أنهم إذا أسلموا سفهوا أحلام آبائهم وأجدادهم ، ولهذا قال أعداء الله لأبي طالب عند الموت : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ في الوقت الذي يقول له النبي عليه الصلاة والسلام : قل : لا إله إلا الله ، فكان آخر ما قاله : هو على ملة عبد المطلب ) (1)
__________
(1) / روى الشيخان عن سعيد بن المسيب عن أبيه قالَ : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَمِّ قُلْ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لاَ إِلَهَ إِلاَ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا وَاللَّهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ? ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ? .(1/74)
، فصدوه عن الحق من هذا الباب ، لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب ، ولهذا قال أبو طالب : لولا أن تكون مسبة على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك ، وقد قرر ذلك في شعره من قبل :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقَرَّ بذاك منك عيونا
ودعوتني، وعرفتُ أنك ناصحي ... ولقد صَدَقْتَ، وكنتَ ثمَّ أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حِذار مسبة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا(1)
9- ومن موانع الهداية : متابعة من يعاديه من الناس أو دخوله في الإسلام أو سبقه إليه : وهذا القدر منع كثيرا من الناس من إتباع الهدى بعد معرفتة ؟ حيث يكون للرجل عدو ويبغض مكانه ولا يحب أرضا يمشي عليها ويقصد مخالفته ؛ فيراه قد اتبع الحق فيحمله بغضه له على معاداة الحق وأهله ولو لم يكن بينه وبينهم عداوة ، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار فإنهم كانوا أعداءهم وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي وأنهم يتبعونه ويقاتلونهم معه ، فلما سبقهم الأنصار إليه وأسلموا حملتهم معاداتهم على البقاء على كفرهم ويهوديتهم قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ } (2) .
__________
(1) / انظر : السيرة النبوية لابن كثير 1/464 .
(2) / سورة البقرة الآية : 89 .(1/75)
10- ومن موانع الهداية : مانع الألفة والعادة والمنشأ : وهذا السبب وإن كان أضعف الأسباب معنى فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنحل ؛ وذلك لأن ودين العوائد هو الغالب على أكثر الناس ، والانتقال عنه كالانتقال من طبيعة إلى طبيعة ثانية ، فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وكيف غيروا عادات الأمم الباطلة ونقلوهم إلى الإيمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عاداتهم وطبيعتهم الفاسدة المتمثلة في قولهم : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (1) ، ولا يعلم مشقة هذا على النفوس إلا من زاول نقل رجل واحد عن دينه ومقالته إلى الحق ، فجزى الله المرسلين أفضل ما جزى به أحدا من العالمين .
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المهتدين السالكين الصراط المستقيم ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .
و أسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه موافقاً لمرضاته نافعاً لعباده ، إنه جواد كريم ، كما نسأله أن يتجاوز عن تقصيرنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
أموت ويبقى ما كتبته فيا ليت من يقرأ كتابي دعا ليا
لعل إلهي أن يمن بلطفه ويرحم تقصيري وسوء فعاليا
د .عبد الله موسى يعقوب
جامعة الفاشر كلية التربية
قسم الدراسات الإسلامية .السودان
البريد الإلكتروني : abubsheer2000@hotmail.com
__________
(1) / سورة الزخرف الآية : 23.(1/76)