اللحية
بين الأخذ والإعفاء
في ضوء عمل السلف النجباء
إعداد : محمد بن خليفة الرَّبَاح الهاشمي
الحمد لله الذي خلق فسوّى ، وقدر فهدى ، وأمات وأحيا ، وأضحك وأبكى ، له وحده الأسماء الحسنى والصفات العلى .
وأشهد بأنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
أما بعد :
فهذا مبحث متواضع في مسألة الأخذ من اللحية وما يتعلق بها من أحكام ، قد كتب الله له الخروج إلى عالم النشر بعد أن كدت أيأس من ذلك ، بسبب ضياعه مني لمدة سنوات ، وقد كنت فرغت منه عام (1417هـ) ، فلما مَنّ الله عليّ بالعثور عليه أعدت النظر فيه حتى جاء على النحو الذي سترى إن شاء الله .
وقد وقفت على ثلاثة كتب ألفت في اللحية وأحكامها ، واستفدت منها في مراجعة هذا البحث ، وذلك بالوقوف على بعض النقول التي لم أقف عليها من قبل ، إما لأن مصادرها
لم تكن متوفرة لدي ، وإما لأن جهدي الضعيف قد كلّ عنها .
أولها : ( الجامع في أحكام اللحية ) للأخ علي الرازحي حفظه الله ، من مطبوعات دار الآثار
وبتقديم العلامة مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله .
والآخر : ( شمس الضحى في حكم الأخذ من اللحى ) للأخ صادق البيضاني ، من مطبوعات دبي ، وهو أولها صدورا .
الثالث : ( اللحية ، دراسة حديثية فقهية ) للأخ عبد الله بن يوسف الجديع ، من مطبوعات مؤسسة الريان بيروت .
وقد أغرب الأستاذ الجديع في هذا الكتاب ، بشهادة جل من قرأ الكتاب من طلبة العلم ، وأتى فيه بما أظن أنه لم يكن يعتقده من قبل ، ولعله من تأثير بعض الجماعات المتهاونة في
العمل بالسنة ، ولقد استعنت الله عليه ، فوفقني لكتابة رد ، كنت قد جعلته بادئ الأمر
مقدمة لهذا المبحث ، ولما رأيته قد طال ، عزمت على إفراده بالطبع ، بعد أن كنت قد نشرته
في شبكة سحاب ، وبملتقى أهل الحديث ، تحت عنوان : ( تنزيه الشعائر عن عبث بعض أصحاب المحابر ) أسأل الله أن ينفع به .(1/1)
وعن رسالة الشيخ الدكتور باسم الجوابرة المسماة بالحلية فلم أقف عليها للأسف
أما مبحثي هذا فهو بعنوان : ( اللحية بين الأخذ والإعفاء في ضوء عمل السلف النجباء ) أسأل الله أن أكون قد وفقت فيه للصواب ، وأن يرزقني فيه الإخلاص ، وأن يكتب لي فيه الأجر والمثوبة ، إنه سميع مجيب
وإني أتمنى من إخواني طلبة العلم أن لا يقصروا معي في النصيحة والإفادة ، فيما أكون قد جانبت فيه الصواب ، فإن هذا مما يسرني ، لأن غاية ما أرجوه هو موافقة الحق والظفر به
ومن أراد مراسلتي فعلى هذا العنوان إن شاء
Yahoo.com@ www.alrrpah
والله وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
حكم إعفاء اللحية
قد ثبت الأمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها ، وذلك في عدة روايات :
أ- عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" أحفوا الشوارب وأوفوا ( وفي رواية وأعفوا ) اللحى "
وفي رواية :
" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحى "
روى الحديث عن ابن عمر مولاه نافع ، ورواه عن نافع هكذا جماعة ، منهم :
1 ـ عبيد الله بن عمر العمري .
أخرج روايته البخاري (5554) ومسلم (259) وأبو نعيم في المستخرج (600) وأحمد في المسند (4654) (2/ 16) والنسائي في الكبرى (13) (1/66) (9294) (5/407) وفي المجتبى (15) (1/16) (5226) (8/181) وأبو عوانة (1/189) والطحاوي في شرح المعاني (3/229) وابن أبي شيبة (5/226) (25492) والبيهقي في الكبرى (1/149) (671) .
وعبيد الله من أثبت الناس في نافع كما ذكر ذلك الإمام النسائي ، فإنه قال :
" وأثبت أصحاب نافع مالك بن أنس ، ثم أيوب ، ثم عبيد الله بن عمر ، ثم ...ثم... "
وذكر جماعة , فقدمه على يحيى بن سعيد وابن عون وصالح بن كيسان وموسى بن عقبة وابن جريج والليث بن سعد .(1/2)
بل عده يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح أثبتَ من مالك في نافع ، وهو الراجح .
2ـ أبو بكر بن نافع .
أخرج روايته مالك في الموطأ ( 1764- رواية يحيى ) و من طريقه مسلم في صحيحه (259) وأبو داود (4199) والترمذي (2764) وأبو نعيم في المستخرج (601) وابن حبان (5475) وأبو عوانة (1/189) وابن المنذر في الأوسط (1/239) (146) وابن أبي حاتم في العلل (2529) والبيهقي في الكبرى (683) (1/151) وفي الصغرى (89) (1/79) وابن عبد البر في التمهيد (24/143)
كلهم من طريق مالك بن أنس عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به
هكذا رواه عن مالك :
قتيبة بن سعيد ، وابن مسلمة القعنبي ، ومعن بن عيسى ، وروح بن عبادة ، وعبد العزيز العامري ، و مطرف ، وعبد الله بن نافع ، ويحيى بن يحيى الليثي ، ومحمد بن حرب بن سليمان ، وأحمد بن أبي بكر ، وعبد الله بن يوسف .
بينما خالفهم حماد بن خالد الخياط ، وابن وهب في وجه ، والنعمان بن عبد
السلام ، فرووه عن مالك عن نافع مباشرة دون ذكر أبي بكر .
أخرج رواية الأول أحمد في المسند (2/156) والقطيعي في جزء الألف دينار (56) ص (79) .
وأما رواية ابن وهب فهي عند ابن المنذر في الأوسط (145) (1/239)
والطحاوي في شرح المعاني (4/230) وابن عبد البر في التمهيد (24/ 142)
بينما رواه يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب كما رواه الجماعة :
مالك عن أبي بكر بن نافع ... به
كما عند أبي عوانة (1/189) والطحاوي (1/230) .
وأما رواية النعمان بن عبد السلام فقد ذكرها القطيعي في جزئه ، وقال ص (79) :
" والمحفوظ هذا عن النعمان بن عبد السلام وابن وهب صحيح " ا.هـ
والصواب رواية الجماعة مالك عن أبي بكر بن نافع ... به
ومن خالفهم فرواه عن مالك عن نافع عن ابن عمر فقد وهم ، وإنما سلك به الجادة .
وأعل هذه الرواية المخالفة ابنُ المنذر في الأوسط وابنُ عبد البر في التمهيد .
3 - عبد العزيز بن أبي روّاد .(1/3)
أخرج روايته أبو علي الرفاء الهروي (ق:11/أ) و (13/ب) و (14/ ب)
وفي الطريق إليه راو ضعيف ، إلا أنها متابعة معتبرة ، والكتاب غير مطبوع لكن الجديع في كتابه اللحية ساق الطريق من المخطوط ، ومنه نقلت .
4- عبد الله بن عمر العمري .
أخرج روايته ابن المنذر في الأوسط (135) (1/239) وابن عبد البر في التمهيد (24/142)
وعبد الله ضعيف
5 ـ أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن .
كما أخرج روايته أبو يعلى في المسند (11/469)
وأبو معشر ضعيف
والخلاصة أن عبيدَ الله بن عمر العمري ، وأبا بكر بن نافع ـ وهو " أوثق أبناء نافع
وأجلهم " كما قال ابن عبد البر ، وقال أحمد : " أوثق ولد نافع " ولا شك أن رواية الرجل عن أهل بيته أثبت من غيرها ـ ، وعبدَ العزيز بن أبي رواد ، وعبدَ الله بن نافع وحديثه في المتابعات جيد ، وأبا معشر، هؤلاء جميعهم اتفقوا على رواية الحديث دون قوله : ( خالفوا المشركين )
بينما خالفهم عمر بن محمد بن زيد وروايته في الصحيحين ، فرواه عن نافع بهذه الزيادة ، دون ذلك الجمع ، فتفرده بمثل هذه الزيادة الهامة دون عبيد الله بن عمر العمري وحده لا يقبل ، فما بالك بالجمع .
فعبيد الله إلى جانب أنه أضبط منه بكثير وأثبت منه و أوثق ، فهو في روايته عن نافع أثبت من عمر بمرات ، بل هو أثبت من مالك بن أنس وأيوب على الراجح في روايته عن نافع ، ومن يحيى بن سعيد القطان وابن عون وصالح وموسى بن عقبة وابن جريج والليث بن سعد
وكثير بن فرقد باتفاق ، أثبت من هؤلاء في نافع ، وهؤلاء أثبت بكثير من عمر بن محمد بن زيد ، فكيف لو قارنته بعبيد الله ؟
بالإضافة إلى أن أبا بكر بن نافع وعبد العزيز بن أبي رواد وعبد الله العمري وأبا معشر قد
وافقوا عبيد الله في ترك رواية تلك الزيادة : " خالفوا المشركين "
فلا مقارنة بين الكفتين ، فكيف لو علمت بأنه قد توبع نافع على الحديث دون ذكر هذه(1/4)
الزيادة ، فقد روى عبد الرحمن بن علقمة أو ابن أبي علقمة عن ابن عمر مرفوعا بلفظ :
" أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب "
أخرج روايته النسائي (9292) (5/406) من الكبرى ، وفي الصغرى (5045-5046)
وعبد الرحمن ثقة
وكذا رواه هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمركما في معجم الشيوخ للصيداوي (1/337) دونها .
وانظر أطراف الغرائب والأفراد (3417)
فدون هؤلاء كلهم من تلاميذ نافع وأقرانه ، تفرد عمر بن محمد بن زيد بإضافة الزيادة لحديث ابن عمر ، ولهذا قال البيهقي في السنن (1/ 149) :
" وزاد فيه عمر بن محمد بن زيد عن نافع : خالفوا المشركين " ا.هـ
فاجتمعت في هذه الزيادة أمور ، منها :
1ـ أن عمر بن زيد تفرد بذكرها دون متابع .
2ـ أن جماعة من الرواة من تلاميذ نافع خالفوه ، حيث رووا الحديث دون ذكرها .
3ـ أنه خالف بذلك من هو أرفع منه بكثير وأوثق وأضبط وهو عبيد الله ، إضافة إلى أنه أثبت الناس في نافع .
4ـ أنه خالف بذلك أهل بيت الراوي ، وهو أبو بكر بن نافع حيث يروي عن أبيه ، والراوي أدرى برواية أهل بيته .
5 ـ أن أصحاب نافع أيضا الثقات كهشام بن عروة وابن علقمة ، رووا الحديث عن ابن عمر دونها .
6ـ وأمام كل هذا التيار المتدفق والسيل الجارف ، نجد أن عمر بن زيد لا يملك مقومات الثبات أمام هذا المد ، فهو قد لينه بعض الأئمة ... .
لينه ابن معين عندما قارن بينه و بين عمر بن حمزة ، فقال كما في الجرح و التعديل (6/ 104) :
" عمر بن حمزة أضعف من عمر بن محمد بن زيد " .
وعمر بن حمزة متفق على ضعفه ، ولذلك قال الذهبي في " ذكر من تكلم فيه وهو موثق " (263) :
" صدوق نزل عسقلان لينه ابن معين " .
وقال ابن عدي عن عمر بن محمد بن زيد :
" هو في جملة من يكتب حديثه "
وذكره ابن حبان في " مشاهير علماء الأمصار " (1/ 127) فقال :
" من خيار أهل المدينة مات فيها ، وكان يهم في الأحايين " ا.هـ(1/5)
ولا شك أن أحايينه التي عناها ابن حبان قد تجاوزت المعدل الطبيعي للأحايين التي لا يسلم من الوهم فيها أي ثقة ، لما اقتضته عادة البشر من الخطإ ، إذ لو حَمَل أحدٌ عبارة ابن حبان على هذا المعنى ، لكان هذا منه اتهاما للإمام ابن حبان باللغو والعبث .
فعمر بن محمد بن زيد وإن كان على شيء من الضبط ، إلا أنه ليس بالرفيع ولا
بالثبت بل فيه لين ، ومثله لا يحتمل منه هذا التفرد بلا شك ، وصنيع الحفاظ من أئمة العلل
يوجب طرح هذا التفرد ، والحكم على ما تضمنه من شذوذ .
وبالتالي فحديث عبد الله بن عمر لا يصح فيه الأمر بالمخالفة ، وإنما يصح الأمر بالإعفاء والحف فقط .
ب - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"جزوا الشوارب وأرْخوا اللحى خالفوا المجوس "
وفي رواية:
" اعفوا اللحى , وخذوا الشوارب , وغيروا الشيب , ولا تشبهوا باليهود والنصارى "
أخرجه مسلم (260) وأحمد (2/229-356-365-366-387) والبزار (3/371-كشف) وغيرهم من طرق عن أبي هريرة
ج- عن أبي أمامة رضي الله عنه قال :
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال :
" يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب ... "
إلى أن قال :
" فقلنا يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم ؟
قال - صلى الله عليه وسلم - : " قصوا سبالكم (1) ووفروا عثانينكم (2) وخالفوا أهل الكتاب "
................................................
(1)" السبلة بالتحريك : الشارب والجمع السبال ، قاله الجوهري ، وانظر النهاية في غريب الحديث (2/339) ، وقد يقصد بها اللحية .
(2) العثانين جمع عثنون ، وهي اللحية وانظر النهاية (3/183) .
أخرجه أحمد (5/264) من طريق زيد بن يحيى ثنا عبد الله بن العلاء بن زبر حدثني القاسم بن عبد الرحمن الشامي قال سمعت أبا أمامة يقول فذكره .(1/6)
وهذا إسناد حسن ،كل رجاله ثقات غير القاسم فيه كلام :
قال الغلابي كما في التهذيب : " منكر الحديث "
وقال العجلي كما في تهذيب الكمال : " ثقة يكتب حديثه وليس بالقوي "
وقال الإمام أحمد عن المنكرات التي يرويها : " ما أرى البلاء إلا من القاسم " كما في الجرح
والتعديل (7/ 112)
ولكن قد وثقه جماعة ، فقال ابن معين : " ثقة " ووثقه أيضا الترمذي ويعقوب بن سفيان ويعقوب بن شببة انظر " تهذيب الكمال "
وقال أبو حاتم : " حديث الثقات عنه مستقيم لا بأس به ، إنما ينكر عنه الضعفاء "
كذا في تهذيب الكمال ، ولم أجده في الجرح والتعديل .
وقال إسحاق الحربي : " كان من ثقات المسلمين "
فالراجح أنه على أقل أحواله حسن الحديث إذا روى عنه ثقة ، وإلى تحسين حديثه ذهب الإمامان ابن حجر والألباني ، انظر جلباب المرأة المسلمة ص (184-185)
ومفهوم الحديث : لا تقصوا عثانينكم كحال أهل الكتاب ، فهو يدل على النهي أيضا عن القص .
4- عن عبيد الله بن عبد الله قال :
جاء مجوسي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أحفى لحيته فقال ( أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) :
" من أمرك بهذا " ؟
قال ( المجوسي ) : " ربي "
قال ( - صلى الله عليه وسلم - ) : " لكن ربي أمرني أن أحفي شاربي وأعفي لحيتي "
أخرجه ابن سعد في الطبقات (1/ 449) ومحمد بن إسحاق بن يحيى في الأمالي والقراءة ( 304 ) من طريق سعيد بن منصور عن سفيان عن عبد المجيد بن سهيل عن عبيد الله بن عبد الله به .
وهذا إسناد رجاله ثقات غير أنه مرسل ، ولكنه شاهد جيد ، ويشهد له ما تقدم وبخاصة حديث أبي أمامة ، لأنه ذكر هناك قص اللحية عن أهل الكتاب وأمر بخلافه وهنا ذكر حف اللحية عن المجوس وهم في حكم أهل الكتاب وأمر بخلافه ، والقص والحف متقاربان .
فهذه الأحاديث الثابتة جاءت آمرة بإعفاء اللحى ومخالفة أهل الكتاب والمجوس في ذلك , والأصل في الأمر الشرعي الوجوب , ولا يجوز صرفه عن هذا إلا بقرينة ،(1/7)
والقرائن في هذا الأمر جاءت تؤكد الوجوب وتقرره , ولم تأت لصرفه , ومن هذه القرائن :
أ- مخالفة الكفار :
فإن من أصول الشريعة التي جاءت مقررة في غير ما آية وحديث النهيَ عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم ، (1) وفي حلق اللحية وقوع في هذا التشبه أو المشابهة ، ولهذا جاء في
...................................
(1) ترى الأدلة على هذا الأصل وبيانه في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم " لشيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة ، واستعن بجلباب المرأة المسلمة للشيخ الألباني رحمه الله من ص (161) وحتى ص (212) .
حديث أبي هريرة المتقدم قوله : " ولا تشبهوا باليهود والنصارى "
وفي الرواية الأخرى قوله :
" خالفوا المجوس "
وفي حديث أبي أمامة قوله : " خالفوا أهل الكتاب " أي خالفوهم بإعفائكم لحاكم ، فإن لم تعفوا فإنكم واقعون في مشابهتهم ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول :
" من تشبه بقوم فهو منهم "
أخرجه أبو داود (4031) وأحمد (2/ 50-92) وابن أبي شيبة (5/ 313) وابن الأعرابي في معجمه (1137) وعبد بن حميد (838) .
كلهم من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان قال حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر به .
وفيه عبد الرحمن بن ثابت اختلف أهل العلم فيه
وثقه أبو حاتم فقال كما في تهذيب التهذيب (6/ 136):
" ثقة يشوبه شيء من القدر ، وتغير عقله آخر حياته ، وهو مستقيم الحديث " ا.هـ
ووثقه دحيم كما في السير (7/ 313)
وقال ابن المديني والعجلي وأبو زرعة الرازي : " ليس به بأس " انظر الجرح والتعديل
(5/ 218 ) ومعرفة الثقات (1024) وتهذيب التهذيب (6/ 136)
وكذا قال أبو داود ، و بنحوه يعقوب بن شيبة انظر التهذيب (6/ 136)
وقال الفلاس : " حديث الشاميين كله ضعيف إلا نفرا " فاستثناه كما في الكامل لابن عدي (4/281)
وقال ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار (1440) :
" كان ثبتا "(1/8)
وقال صالح جزرة : " صدوق " السير (7/ 313)
بينما قال الإمام أحمد : " أحاديثه مناكير " كما في الجرح والتعديل (5/ 218)
واختلف فيه كلام ابن معين ، فتارة يقول : " ليس به بأس " وتارة يضعفه
وضعفه النسائي ، وقال ابن عدي في الكامل ( 4/282) :
" كان رجلا صالحا ويكتب حديثه على ضعفه "
فالراجح من مجموع كلام الأئمة أنه حسن الحديث .
وتابع عبدَ الرحمن الاوزاعيُّ كما في مشكل الآثار للطحاوي (1/ 213) رقم (231)
وفيه حدثنا أبو أمية ( الطرسوسي ) حدثنا محمد بن وهب بن عطية حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية ... به .
وفيه الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية ، فقد يكون أسقط الواسطة بين الأوزاعي وحسان كعادته في تنبيل شيخه ، وقد ترجع الطريق إلى عبد الرحمن ، بل إن هذه المتابعة لا تصح من الأصل ، فهي من طريق أبي أمية الطرسوسي وفيه كلام وخولف .
فأخرج ابن أبي شيبة (5/ 322) وابن المبارك في الجهاد (105) ومن طريقه القضاعي في مسند الشهاب (1/ 244رقم 390) من طريقين عن الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس به مرسلا .
وهذا هو الصواب عن الأوزاعي ، وفيه سعيد بن جبلة
قال عنه محمد بن خفيف الشيرازي : " ليس عندهم بذاك " انظر ميزان الاعتدال (8/115) و بنحوه في اللسان (3/ 25)
وللحديث شاهد آخر مرسل عند سعيد بن منصور (2370) (2/ 177) من طريق إسماعيل بن عياش عن أبي عمير الصوري عن الحسن به.
وأبو عمير هو أبان بن سليم شهد بعدالته ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (2/ 300)
ولم أجد شيئا عن ضبطه لقلة المراجع لدي ، على أنه في الجرح والتعديل جاء أبان بن سليمان وقد ذكره الحافظان المزي وابن حجر فأثبتاه هكذا ( ابن سليم ) انظر تهذيب التهذيب (7/ 86) وتهذيب الكمال (19/ 299)
وقد روي الحديث من طريق حذيفة عند الطبراني في الأوسط (8327) وفي مسند الشاميين (1862) وعند البزار (2966) وكأن الصواب فيه الوقف .(1/9)
وروي أيضا من طريق أبي هريرة ولا يصح عنه .
قال أبو حاتم في العلل (956) (1/ 319) عن طريق أبي هريرة :
" قال دحيم : هذا الحديث ليس بشيء ، الحديث حديث الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن طاوس عن النبي " ا.هـ
والحديث على كل ثابت بما تقدم من طرق والله أعلم .
فحلق اللحية منهي عنه بهذا النص العام وبذاك النص الخاص ، ومجيء الأمر بالإعفاء في بعض الروايات مقرونا بالنهي عن مشابهة الكفار لا يعني أنه إن تخلفت المشابهة بأن درج الكفار على الإعفاء فإننا نتركه أو نقول بتوقف الأمر به ، فقد سبق أن حديث ابن عمر قد جاء آمرا بالإعفاء المطلق دون ربطه بالمخالفة .
ثم إن ذكرَ المخالفة في حديث أبي هريرة لا يعني أن المقصود المخالفة فقط ، بحيث لو أعفى المشركون يسقط الطلب به ، يقول شيخ الإسلام في الاقتضاء :
" فإن أعفى المشركون لحاهم فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية من سنن الفطرة ، ووافقوا فيها شرائع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وحينئذ تأتي المخالفة في وصف الفعل لا في أصله كما يأتي إن شاء الله
وعلى أي حال فإنه لا يسوغ لنا رفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يتلبس به بعض المخالفين لنا في الدين " ا.هـ
فهذا شيخ الإسلام وهو من أعلم الناس بهذا الباب ، يرى أن الأمر بالإعفاء مطلوب مطلقا لا ينعدم عند انعدام المخالفة ، بل يستمر الأمر بالإعفاء ويصار إلى نوع آخر من أنواع المخالفة ، والدليل على هذا عمل السلف قاطبة ، فقد درج المسلمون من الصحابة والتابعين على الإعفاء حتى بعد القضاء على الشرك وأهله ، وانحسار طوائف أهل الكتاب عن كثير من بقاع العالم الإسلامي ، وتواجد كثير من البيئات الخالية من أهل الشرك والكفر وأهل الكتاب ، فعلى ماذا يدل هذا أيها العاقل النبيه .
ب- تغيير خلق الله .(1/10)
لا شك أن في حلق اللحية تغييرا لخلق الله ، وقد توعد الله المغير لخلقه بالخسران المبين ، فقال تعالى حاكيا عن الشيطان قوله : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } فعقب تعالى بقوله : { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله } وذلك بمخالفة أوامر الله ومنها تغيير خلقه { فقد خسر خسرانا مبينا } .
وجاء اللعن لفاعل ذلك في صحيح السنة ، وذلك عندما لعن النامصة والمتنمصة وغيرهما
من الأصناف ثم قال :
( المغيرات خلق الله ) (1)
والحلق تغيير لخلق الله كما لا يخفى .
يقول العلامة الألباني في كتابه آداب الزفاف ص (136) :
" فلا جرم أن لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغيرات خلق الله للحسن ... ولا شك في دخول حلق اللحية للحسن في اللعن المذكور ، بجامع الاشتراك في العلة كما لا يخفى " ا.هـ
وله رحمه الله كلام قيم في الرد على الغماري ، عندما زعم أن الحلق ليس من تغيير خلق الله ، جاء فيه كما في السلسلة الصحيحة تحت رقم (2792) :
" أقول فهذا كلام باطل من وجوه :
الأول : أنه مجرد دعوى ...
الثاني : أنه خلاف ما يدل عليه زيادة : " الواصلات " فإن الوصل ليس كالوشم ...
] باعتبار أن الغماري حصر التغيير فيما له أثر كالوشم [
الثالث : أن ابن مسعود رضي الله عنه أنكر حلق الجبين ، واحتج بالحديث كما تقدم في رواية الهيثم ، فدل على أنه لا فرق بين الحلق والنتف ...
الرابع : أنه مخالف لما فهمه العلماء المتقدمون , وقد مر بك قول الحافظ الصريح في إلحاق الوصل بالوشم وغيره , وأصرح من ذلك وأفيد ما نقله (10/ 377) عن الإمام الطبري ... " ثم ساقه بطوله .
...........................
(1)أخرجه البخاري (5931-5939-5948-5948) ومسلم (2125) وغيرهما من حديث ابن مسعود .
ج- مشابهة النساء .(1/11)
وفي حلق اللحية تشبه ظاهر بالنساء ، فهن اللاتي لا تكون لهن لحى لا الرجال ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : المتشبهين من الرجال بالنساء والمشتبهات من النساء بالرجال(1)
وقد لا يشعر بهذه المشابهة الناس اليوم ، لنشأتهم في بيئات لا تعرف إلا الحلق .
د- أنه من المثلة .
قال شيخ الإسلام في شرح العمدة (1/236) :
" وأما إعفاء اللحية فإنه يترك ... " إلى أن قال :
" فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها وأشد ، لأنه من المثلة المنهي عنها وهي محرمة " ا.هـ
وقال الشيخ علي محفوظ في كتابه " الإبداع " :
" مذهب السادة المالكية حرمة حلق اللحية ، وكذا قصها إذا كان يحصل به مثلة , وأما إذا طالت قليلا وكان القص لا يحصل به مثلة فهو خلاف الأولى أو مكروه " ا.هـ (2)
وقد جاء في النهي عن المثلة حديثان ، أحدهما عن أنس بن مالك (3) والآخر عن عبد الله بن يزيد (4)
.....................................
(1)أخرجه البخاري(5885) وغيره من حديث ابن عباس
وانظر بقية الأدلة على ما ذكرت في جلباب المرأة المسلمة للعلامة الألباني رحمه الله ص (141) فما بعدها .
(2)ص(410) .
(3)البخاري(3957) .
(4)البخاري(5197) .
وكأن أهل العلم اعتبروا حلق اللحية كقطع العضو والله أعلم ، و إلا فلا أعلم معنى آخر لجعل الحلق من المثلة ، اللهم إلا أن تكون بمعنى العقوبة .
وعلى اعتبار أنه من المثلة جماعة من أهل العلم كما يدل عليه كلام ابن حزم الآتي وغيره .
وبعد كل ما تقدم ما إخال منصفا يسمع تلك الأوامر المؤكدة بكل هذه المؤكدات ثم يقول إن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الإرشاد إلى الأحب والأكمل لا الإلزام والإيجاب ، وخاصة إذا علم أن جمهور العلماء على القول بوجوب الإعفاء وحرمة الحلق بما في ذلك المذاهب الأربعة ، بل نقل العلامة ابن حزم اتفاق العلماء على ذلك فقال كما في مراتب الإجماع ص (182-183) :
" واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز "(1/12)
وعزز هذا النقل الإمام أبو الحسين بن القطان عندما قال في " الإقناع في مسائل الإجماع " (2/3953) :
" واتفقوا أن حلق اللحية مثلة لا تجوز " ا.هـ
فاتفقا على الاتفاق
وأكد هذا شيخ الإسلام في الاختيارات حيث قال :
" يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة , ولم يبحه أحد "
وتابعت كتب شيخ الإسلام في هذا الإطلاق : " لم يبحه أحد " فوجدته استعمله في ستة عشر موضعا كلها بمعنى الحرمة فانظرها في شرح العمدة (3/ 157) والقواعد النورانية (1/ 207-210) وفي المجموع (8/ 544) (9/161) (11/ 267) (24/ 269)
(29 /149ـ 165 ـ347) ومنهاج السنة (3/ 437)
(6 /424) والرد على المنطقيين (1/ 169) وفي الفتاوى الكبرى مكررا(3/ 489) (3/ 491) (4/ 307)
وتابعه على هذا تلميذه ابن القيم كما في زاد المعاد (1/ 151) (5/80 ـ 126ـ 519)
وانظر تفسير الطبري (2/452) والمجموع للنووي(1/ 306)
وعليه فمعنى تلك العبارة هو التحريم عند شيخ الإسلام على سبيل الخصوص ، وعند غيره أيضا
وممن تابع شيخَ الإسلام على هذا العلامةُ ابن الهمام فقد قال رحمه الله :
" ... وأما الأخذ منها وهي دون ذلك [ أي القبضة ] كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد " ا.هـ
وهذا النقل عن ابن الهمام قد تكرر في كثير من كتب الأحناف ، كالهداية للمرغياني ، والدر المختار ، والبحر الرائق لابن نجيم.
فإذا اتفق هؤلاء على أن حلق اللحية لم يبحه أحد ، بمعنى لم يجوزه أحد ، كان تأكيدا منهم للإجماع الذي نقله ابن حزم وعنه ابن القطان في الإقناع ، وكان ذلك التسليم تعزيزا لما نقله شيخ الإسلام أيضا من أن حلق اللحية لم يجوزه أحد من أهل العلم ، وتأكيدا لما نقله النفراوي المالكي ، حيث قال في شرحه للرسالة (2/ 306):
" فما عليه الجند في زماننا من أمر الخدم بحلق لحاهم دون شواربهم ، لا شك في حرمته عند جميع الأئمة ، لمخالفته لسنة المصطفى ? ولموافقته لفعل الأعاجم والمجوس ... " ا.هـ(1/13)
فنقله عن جميع الأئمة .
ومن يجرؤ على اعتراض هذا الطوفان ؟!
اللهم إلا من هانت عليه نفسه ، واعتاد المغامرة والمخاطرة .
أما من يطلب السلامة والعافية ، فلا يبغي بأهل العلم بدلا ، ولا عن أقوالهم عوضا ولا حولا
فليس لمن شق القفار إلا ملازمة الدليل ، ومن اعتاض عنه بغيره فما له إلا التيه والهلاك .
معنى الإعفاء المأمور به
تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعفاء اللحى ، ولابد من معرفة المراد بالإعفاء ومعناه لغة .
فوجدناه في كتب اللغة على عدة معاني ، أقربها إلى النص معنى " الترك " المؤدي للإكثار فجاء في لسان العرب أن معنى عفا :
" من العفو وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه "
وفيه عن الأزهري :
" وعفا له عما له عليه إذا تركه ... "
وفيه أيضا :
" ومعنى عفو المرأة أن تعفو عن النصف الواجب لها فتتركه للزوج "
وفيه عن ابن الأعرابي :
" ... وعفا يعفو إذا ترك حقا "
وفيه أيضا :
" حديث الزكاة : قد عفوت عن الخيل والرقيق فأدوا زكاة أموالكم ، أي تركت لكم أخذ زكاتها وتجاوزت عنه "
فجميع هذه الجمل اجتمعت على معنى الترك , وإذا حصل الترك حصل الإكثار وفيه :
" وعفا القوم كثروا ، وفي التنزيل : " حتى عفوا " أي كثروا ، وعفا النبت والشعر وغيره يعفو فهو عاف : كثر وطال ، وفي الحديث : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعفاء اللحى ، هو أن يوفر شعرها ويكثر ، ولا يقص كالشوارب ، من عفا الشيء إذا كثر وزاد " ا.هـ
ومثله : " وفروا " ففي القاموس المحيط :
" ووفره توفيرا أكثره " " وهم متوافرون فيهم كثر "
وفي اللسان: " ووفر الشيء..كثر "
هذا هو معنى الإعفاء والتوفير ، فمن ترك لحيته وأعفاها حتى طالت وكثرت فقد حقق الإعفاء الواجب .
قال العلامة ابن عبد البر في الاستذكار : " الإعفاء عندهم ترك الشعر لا يحلقه " ا.هـ
فمن ترك لحيته إلى حد الإكثار فقد حقق الإعفاء المأمور به
حد اللحية(1/14)
لقد ذكر علماء اللغة وغيرهم تعريفات للحية تبين حدها .
قال ابن سيده :
" اللحية اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين والذقن "
وقال ابن دريد :
" اللحية : اسم يجمع ما على الخدين والذقن من الشعر "
وقال الفيروز آبادي :
" اللحية بالكسر شعر الخدين والذقن ج لحى "
أما الخد ففي اللسان :
" والخدان جانبا الوجه ، وهما ما جاوز مؤخر العين إلى منتهى الشدق ... وقيل : الخدان اللذان يكتنفان الأنف عن يمين وشمال " ا.هـ
هذا الخد ، أما الذقن ففي القاموس :
" مجتمع اللحيين من أسفلهما "
وقال الجوهري كما في اللسان :
" ذقن الإنسان مجتمع لحييه "
فهذه هي اللحية في اللغة ، وقد أطلق العلماء دخول ما نبت على الخدين في مسمى اللحية ويؤكده الآتي :
قال ابن قتيبة في غريب الحديث :
" العارض أيضا الخد ... يقال أخذ من عارضيه أي من خدَّيه "
وفي اللسان :
" العارض الخد ، يقال : أخذ الشعر من عارضيه "
وفي النهاية لابن الأثير :
" العارض من اللحية ما ينبت على عرض اللحي فوق الذقن , وقيل عارضا الإنسان صفحتا خديه "
وأما اللحي ففي اللسان :
" واللحيان حائطا الفم ، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحي"
وفيه :
" واللحي الذي ينبت عليه العارض والجمع ألح "
ومنه سمي شعر الخدين والذقن لحية .
ومما تقدم تعلم بُعد قول من أخرج الشعر النابت على الخد من مسمى اللحية ، فكل ما نبت على الخدين هو من اللحية سواء من جهة اللحي أو من غيره ، لعموم ذلك في كتب اللغة ، وقد أغرب الأخ الجديع حيث نفى العموم السابق ، فقد قال في كتابه ( اللحية ) ص (17) :
" أما إدخال عموم ( الخدين ) في منبت اللحية فتوسع لم أر له شاهدا في كلامهم ، فإن غير العارضين من الخدين ليس منبتا للشعر في الأصل " ا.هـ
وقد سبق عن أئمة اللغة اعتبار ما على الخدين عموما من اللحية ، ولم يخصوا بعضه , وتعليلُه(1/15)
بأن بعضه ليس منبتا لا يفيد , لأن المراد عند أئمة اللغة إدخال ما نبت على الخد في مسمى
اللحية , لا محل الإنبات من الخد ، والمواضع التي ينبت فيها الشعر معروفة على وجه التقريب ولا يمكن تحديدها على وجه الدقة ، لتفاوت الناس في هذا الأمر من أصل الخلقة ، فكيف يعدل الجديع عن عبارات الأئمة ، و ينيط تحديد اللحية بهذا الأمر المتفاوت والغير منضبط ؟ فقد سبق عن ابن سيده قوله :
" اللحية اسم يجمع من الشعر ما نبت على الخدين ... "
وكذا ابن دريد والفيروز آبادي ، فكلهم إنما أدخلوا الشعر لا غيره ، وبه يتحقق المراد .
والحقيقة التي لمستها في الجديع أنه في عدة مواطن يُثبت أو يَنفي بحسب ميله في المسألة دون أن يكون له سلف فيها ، معتمدا على استقراء قاصر أو فهم خاطئ ، فيقرر ما يراه وكأنه يذكر منطوق آية أو حديث ، غير مبال بمن يخالفه ، فالعجب من هذا ولله في خلقه شؤون .
حكم الأخذ منها
تقدم بالأدلة أن اللحية واجب إعفاؤها ، وتقدم معنا معنى الإعفاء ، ومنه تعلم أن القول بالأخذ كما سيأتي لا ينافي القول بوجوب الإعفاء كما تقدم ، وذلك لأن الإعفاء الواجب هو توفير اللحية إلى حد الإكثار ، والأخذ المشروع هو الأخذ الذي لا يخرج باللحية عن هذا الحد الذي هو الإكثار ، وسيأتي ضابطه إن شاء الله .
أولا: الأخذ من اللحية في حج أو عمرة
فيشرع الأخذ من اللحية في كل نسك حج أو عمرة ، وذلك عند الإحلال أو التحلل من الإحرام ، لقوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم } سورة الحج الآية (29)
والتفث منه الأخذ من اللحية كما ذكر أئمة التفسير ، كابن عباس ومجاهد وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي ، ولم يأت عن أحد من أئمة التفسير ما يعارض هذا ، فبقيت الآية دالة بنفسها على ذلك(1/16)
أما عبد الله بن عباس ، العالم العلَم ، والحبر البحر ، ترجمان القرآن ، والمؤيد في التفسير خاصة من عند الرحمن ، فقد صح عنه من رواية عطاء بن أبي رباح عنه أنه قال في قوله تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم } :
" و التفث : الرمي , و الذبح , والحلق , والتقصير , والأخذ من الشارب والأظفار واللحية [ والموقف بعرفة والمزدلفة ] "
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (4/ 85) قال : حدثنا ابن نمير عن عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس به .
وعبد الملك هو ابن أبي سليمان العزرمي ، ثقة على الراجح ، وعطاء هو ابن أبي رباح الإمام
فالإسناد صحيح .
وقد تابع ابنَ نمير عليه هشيمُ بن بشير كما في تفسير الطبري (14/ 149) والزيادة له والمحاملي أيضا في أماليه (ص 163برقم135) .
وذكره ابن عبد البر في الاستذكار (8/336) من هذه الطريق ، وجاء فيه :
" والأخذ من العارضين "
أي عارضي اللحية ، وذكر الرواية ابن أبي حاتم في تفسيره (8/ 2489) برقم (13900) دون أن يسندها
وعزا الأثر السيوطي في الدر المنثور (4 /642) إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر .
وجاء الأثر من طريق أخرى عند الطبري (17/ 150) من طريق علي ( هو ابن داود القنطري ) قال ثنا عبد الله ( هو ابن صالح المصري ) قال : ثني معاوية ( هو ابن صالح الحضرمي ) عن علي ( هو ابن أبي طلحة ) عن ابن عباس بلفظ :
" يعني بالتفث وضع إحرامهم ، من حلق الرأس ، ولبس الثياب ، وقص الأظفار ونحو ذلك " دون ذكر اللحية
وإسناده ضعيف ، عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف ، ومعاوية بن صالح الحضرمي
" صدوق له أوهام " كما في التقريب
أما علي بن أبي طلحة فروايته عن ابن عباس مرسلة
قال ابن أبي حاتم كما في المراسيل (508) ص (140) :
" سمعت أبي يقول : علي .. عن ابن عباس مرسل ، إنما يروي عن مجاهد والقاسم بن محمد وراشد بن سعد ومحمد بن زيد "
وعدم ذكر اللحية في هذه الطريق لا يضر لما علمت من حالها ، ثم لاختصارها(1/17)
وأخرج ابن جرير أيضا من طريق أخرى (17/ 150) بإسناد واه أنه قال – أي ابن عباس – في معنى التفث: " نسكهم "
وهي لو صحت لا تضر الرواية الأولى فكيف بها واهية .
فالأثر باللفظ الأول صحيح لا غبار عليه
وأما تضعيف الأخ الرازحي له في كتابه ( الجامع في أحكام اللحية ) فغير مقبول منه ،
فهو قد أعله بثلاثة أمور :
1ـ بشذوذ لفظة اللحية .
2ـ بعنعنة ابن جريج وهو مدلس .
3ـ بالانقطاع بين عطاء الخراساني وابن عباس على تردده في تحديد عطاء .
وقد أخطأ حفظه الله في جميعها .
ـ فأما الشذوذ فهو قد أعل رواية ابن نمير بذكر اللحية ، بناء على أن هشيما تابعه ولم يذكرها ، والصواب أن هشيما وابن نمير كليهما رويا الأخذ من اللحية في هذا الأثر ، فعبر ابن نمير بقوله : " والأخذ ... من اللحية "
وعبر هشيم بقوله : " والأخذ من العارضين "
والعارضان باعتراف الرازحي في كتابه هما من اللحية ، انظر كتابه (الجامع ) ص (16)
فالفرق بين اللفظين أن ابن نمير أجمل ، بينما فصل هشيم ، وعلى هذا يكون هشيم هو الذي زاد ، والزيادة تتمثل في تحديده لمكان الأخذ من اللحية وهو العارضان ، فهشيم وافق ابن نمير في ذكر الأخذ من اللحية ، وزاد عليه تحديد موطن الأخذ ، وإن لم يكن " الأخذ من العارضين " كما هو لفظ هشيم إن لم يكن هو الأخذ من اللحية فيا ترى من أي شيء هو ؟ والرازحي نفسه قد قرر أنهما من اللحية كما في خلاصته في حد اللحية ص (16) من كتابه الجامع .
ـ وأما الإعلال بعنعنة ابن جريج فخطأ أيضا ، لأنه ليس لابن جريج ذكر في هذا السند إطلاقا ، وعبد الملك الذي في إسنادنا هذا هو عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي وليس بعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج
لأن عبد الملك الذي في الإسناد يروي عنه عبد الله بن نمير وهشيم بن بشير ، وهما رويا عن ابن أبي سليمان العزرمي كما في تهذيب الكمال ، ولم يذكر المزي أنهما رويا عن ابن جريج في ترجمتهما ، ولا أنهما من تلاميذ ابن جريج .(1/18)
فعبد الملك هو ابن أبي سليمان قطعا والإعلال السابق مردود .
وبعد كتابة ما سبق وجدت ابن عبد البر قد ذكر الأثر مسندا وصرح بأن عبد الملك هو ابن أبي سليمان فالحمد لله على توفيقه .
- وأما الإعلال بالانقطاع بين الخراساني وابن عباس فهو مردود أيضا ، لأن عطاء الذي في الإسناد هو ابن أبي رباح وليس بالخراساني ، فابن أبي رباح هو الذي يروي عن ابن عباس وعنه عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي ، بخلاف الخراساني فلم يروعنه ابن أبي سليمان كما في ترجمتهما من تهذيب الكمال .
وعليه فالأثر صحيح لا إشكال فيه ، ومثل هذه الهفوات تؤثر كثيرا في الحكم على النصوص ، ثم بالتالي في فقه المسائل ، وهذا ليس بالهين ، فينبغي التنبه كثيرا عند الاشتغال بهذا النوع من العلم .
هذا ما جاء عن حبر الأمة عبد الله بن عباس .
2ـ مجاهد بن جبر:
فعنه أنه قال في معنى التفث :
" حلق الرأس ، وحلق العانة ، وقص الأظفار ، وقص الشارب ، ورمي الجمار ، وقص اللحية "
والأثر في " تفسير مجاهد " ( رواية أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد الهمداني ) ص (423) وأخرجه الطبري في جامع البيان (17/ 150) من طريق عيسى بن ميمون الجرشي وورقاء بن عمر اليشكري كليهما عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به .
وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ،
وهو عند ابن أبي حاتم في تفسيره دون إسناد (8/ 2490 رقم 13902)
والإسناد صحيح , فيه ابن أبي نجيح ثقة معروف ، تكلم في سماعه التفسير من مجاهد ، ففي تاريخ ابن معين للدوري ( 3/103 ) سمعت يحيى يقول :
قال ابن عيينة : " تفسير مجاهد لم يسمعه من إنسان إلا من القاسم بن أبي بزة ، فقلت ليحيى فابن أبي نجيح لم يسمع من مجاهد ؟ قال : هكذا قال سفيان "
وفي جامع التحصيل:(1/19)
" قال إبراهيم بن الجنيد : قلت ليحيى بن معين : إن يحيى بن سعيد يعني القطان يزعم أن ابن أبي نجيح لم يسمع التفسير من مجاهد ، وإنما أخذه من القاسم بن أبي بزة ؟
قال ابن معين: كذا قال ابن عيينة ، ولا أدري أحق ذلك أم لا "
وقال ابن حبان :
" ابن أبي نجيح نظير ابن جريج في كتاب القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في التفسير "
انظر تهذيب التهذيب (6 /49)
فالواسطة هو القاسم فقط كما هو صريح كلام ابن عيينة والباقين ، وهو ثقة معروف فالإسناد صحيح ، ولا يضر عدم السماع المذكور لمعرفة الواسطة ، ولهذا صحح ابن عيينة نفسه تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد كما في الجرح والتعديل (1/ 79) (5/ 203)
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم :
سألت أبي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أحب إليك أو خصيف عن مجاهد ؟
فقال : ابن أبي نجيح أحب إلي ، إنما يقال في ابن أبي نجيح القدر وهو صالح الحديث " ا.هـ فهذا من أبي حاتم قبول للرواية
وقال ابن معين كما في تاريخه ( رواية الدوري ) (4/300) :
" قلت ليحيى فأيما أحب إليك تفسير ورقاء [ أي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ] أو تفسير ابن جريج ؟
قال : تفسير ورقاء ، لأن تفسير ابن جريح عن مجاهد وهو مرسل ،لم يسمع من مجاهد إلا حرفا " ا.هـ
وقال شيخ الإسلام في الاقتضاء (260) :
" وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح "
وقال في المجموع (17/ 408-409) :
" وأخص أصحابه ( أي ابن عباس ) بالتفسير مجاهد ... ، والشافعي في كتبه أكثر الذي ينقله عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وكذلك البخاري في صحيحه يعتمد على هذا التفسير ، وقول القائل لا تصح رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ، جوابه : أن تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد من أصح التفاسير ، بل ليس بأيدي أهل التفسير كتاب في التفسير أصح من تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد ، إلا أن يكون نظيره في الصحة " ا.هـ(1/20)
ويكفي أن البخاري رحمه الله قد أخرج هذه الرواية في صحيحه في قرابة عشرين موضعا واحتج به في كثير منها وكذا مسلم رحمه الله .
وتابع عيسى بنَ ميمون وورقاءَ في الرواية عن ابن أبي نجيح معمرُ بن راشد كما في جامع البيان (17/ 150)
غير أنه رواه مختصرا بلفظ : " التفث حلق الرأس وتقليم الأظفار "
فلم يذكر حلق العانة ولا قص الشارب ولا رمي الجمار ولا قص اللحية ، وهي ألفاظ محفوظة لا تعل برواية معمر المختصرة ، بالإضافة إلى أن عيسى وورقاء اثنان وكلاهما ثقة.
وتابع ابنَ أبي نجيح عليه ابن جريج ، أخرج روايته ابن جرير (17/ 150) غير أن ابن جريج كما قال القطان :لم يسمع من مجاهد إلا حديثا واحدا : " فطلقوهن في قبل عدتهن " كما في تقدمة الجرح والتعديل ص (245).
وبنحو هذا قال ابن معين وقد تقدم ، ولكنه قد يكون كابن أبي نجيح في كتاب القاسم غير أن ابن جريج عنعنه وهو مدلس ، فلا يضر روايتنا أن ابن جريج لم يذكر عن مجاهد الأخذ من اللحية
وتابع ابنَ أبي نجيح أيضا عثمانُ بن الأسود كما في مصنف ابن أبي شيبة (4/ 84) ولم يذكر حلق العانة ولا رمي الجمار ولا قص اللحية ، فهي رواية مختصرة لا تعل بها الرواية التامة ، ثم ابن أبي نجيح عن مجاهد أصح .
و تابعهما الحكم بن عتيبة كما في جامع البيان (17/ 149) فذكر حلق الرأس فقط , ثم قال شعبة الراوي عن الحكم لهذا الأثر :
" وذكر أشياء من الحج لا أحفظها "
فالأثر عن مجاهد صحيح بذكر الأخذ من اللحية لا مطعن فيه .
فمجاهد مع ابن عباس في تفسير الآية وهو كما قال شيخ الإسلام في أصول التفسير
ص (71) :
" وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء ..." ا.هـ
وقال رحمه الله في الاستقامة ص (24) :
" ذكر البخاري في صحيحه تفسير مجاهد وهو أصح تفسير التابعين "
وقال كما في المجموع (17/ 408) :(1/21)
" وأخَصُّ أصحابه بالتفسير مجاهد ، وعلى تفسير مجاهد يعتمد أكثر الأئمة كالثوري والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري ، قال الثوري : إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك " ا.هـ
3 ـ محمد بن كعب القرظى :
فقد جاء عنه في معنى التفث قوله :
" رمي الجمار ، وذبح الذبيحة ، وأخذ من الشاربين واللحية والأظفار ، والطواف بالبيت وبالصفا والمروة "
أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (17/ 149) وابن عبد البر في التمهيد (3/38 فتح البر) من طريق ابن وهب قال : أخبرني أبو صخر ـ حميد بن زياد ـ عن محمد بن كعب به .
و إسناده حسن لحال أبي صخر
قال عنه الإمام أحمد : " ليس به بأس" كما في الجرح والتعديل (3/ 222)
ووثقه العجلي (1/ 323) والدار قطني كما في سؤالات البرقاني (93) وقال ابن عدي (2/ 685) :
" وهو عندي صالح الحديث "
وقال : " وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيما "
واختلف فيه قول ابن معين ، فمرة قال :
" لا بأس به " تاريخه رواية الدرامي (260)
وأخرى ضعفه كما في تهذيب الكمال ، وضعفه النسائي كما في التهذيب أيضا
وذكره ابن حبان في ثقاته (6/ 189) فأقل أحواله أن يكون حسن الحديث .
وجاء أثر القرظي من طريق أخرى ، فأخرج ابن أبي شيبة (4/ 84) من طريق العكلي – زيد بن الحباب – عن موسى بن عقبة عن محمد بن كعب به .
وليس فيه الأخذ من اللحية ، ولا رمي الجمار ، ولا الذبح ، ولا الطواف بالبيت
ولا السعي بين الصفا والمروة ، فهي مختصرة ، والإسناد فيه زيد بن الحباب ، مع أنه صدوق فإن في سماعه من موسى نظرا ، فليس هو من تلاميذه المذكورين فيمن أخذ عنه ، ولا ذكر موسى في شيوخه ، وبين وفاتيهما أكثر من ستين سنة ، بالإضافة إلى أن زيدا خراساني الأصل كان بالكوفة وموسى مدني ، وعليه فالطريق الأولى أقوى والله أعلم .
4ـ ابن جريج .
فعن المحاربي قال :
سمعت رجلا يسأل ابن جريج عن قوله : ( ثم ليقضوا تفثهم )(1/22)
قال : " الأخذ من اللحية ، ومن الشارب ، وتقليم الأظفار ، وتتف الإبط ، وحلق العانة ورمي الجمار "
أخرجه ابن جرير (17/150) من طريق نصر بن عبد الرحمن الأودي قال : ثنا المحاربي قال: سمعت رجلا يسأل ابن جريج عن قوله : (ثم ليقضوا تفثهم )... فذكره
والمحاربي هو عبد الرحمن بن محمد بن زياد قال فيه الحافظ: " لا بأس به ، وكان يدلس قاله أحمد "
وصرح هنا بالسماع فأمنّا بذلك تدليسه .
ونصر هو ابن بكار الناجي الوشّاء ثقة ، فالإسناد صحيح إن شاء الله .
وجاء نحوه عن عطاء بن السائب إلا أنه لم يذكر الأخذ من اللحية ، انظر ابن أبي شيبة
(4/ 84) وابن جرير (17/ 150) وإسناده صحيح .
وأيضا عن عكرمة كما سيأتي .
هذا ما ثبت عن الأئمة في تفسير هذه الآية وعليه عمل السلف كما سيأتي ، وصححه منهم ابن الجوزي في زاد المسير (5/ 421) ، وبه قال الألوسي في روح المعاني (17/ 146)
والخلاصة أن التفث عند أولئك الأئمة هو :
الوقوف بعرفة ومزدلفة , والطواف بالبيت , وبالصفا والمروة ، ورمي الجمار , والحلق والنحر , وقص الأظفار , والأخذ من اللحية , ومن الشارب , ونتف الإبط , وحلق العانة
ونستطيع أن نقول : هو قضاء المناسك كلها
ويؤيده ما صح عن عروة بن مضرّس الطائي فإنه قال :
أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالموقف ( يعنى بجمع ) قلت :
جئت يا رسول الله من جبل طيء ، أكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجُّه وقضى تفثَه "
أخرجه أبو داود (1950) والترمذي (891) وابن ماجه (3916) وأحمد (4/ 10-612-262)
كلهم من طريق الشعبي عن عروة به
وقال الترمذي : حديث حسن صحيح
وفيه قال : قوله : تفثه ، يعني نسكه ،
والإسناد صحيح .(1/23)
فهنا عد النبي - صلى الله عليه وسلم - الوقوف بعرفة والمزدلفة من قضاء التفث , وقد ذكر هذا ابن عباس كما تقدم , وهذا مما يقوي الظن بأنه ما قال ما قال إلا عن توقيف منه - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر ابن عباس فيما ذكر قص الأظافر وقد ثبت هذا عنه - صلى الله عليه وسلم - .
فعن محمد بن عبد الله بن زيد أن أباه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المنحر ، فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه ضحايا ، فلم يصب ولا أصحابه بشيء (كذا)
فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوبه فأعطاه إياه ، وقلم أظفاره فأعطاه صاحبه ، فإنه عندنا مخضوب بالحناء و الكتم "
أخرجه أبوعوانة ص (278) (الجزء المفقود)
من طريق أبان ـ العطار ـ عن يحيى بن أبي كثير أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه أن محمد بن عبد الله بن زيد حدثه أن أباه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره .
وهذا إسناد رجاله ثقات غير أن فيه إرسالا ، فمحمد بن عبد الله تابعي ، وهو يروي قصة أبيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أن يذكر الواسطة .
ولكن الغالب أن يكون محمد أخذ عن أبيه ، فهو لم يرو عن أحد من الصحابة فيما أعلم سوى أبيه وأبي مسعود الأنصاري .
وهذه الرواية تتعلق بأبيه ، فالظاهر أن أباه حدثه بها ، ومما يقوي هذا قوله في الرواية: " فإنه عندنا لمخضوب بالحناء والكتم "
أي في بيتهم ، وهل يتصور أن يهمل الأب ـ وهو الصحابي ـ ذكرَ قصة وجود شعر رسول الله في بيته لابنه التابعي ؟!!
ولو أهمل الأب لحرص الابن على معرفة ذلك ، لأنه يعلم أنه شعر رسول الله فلابد أن يسأل عنه والده ، فهو الذي أتى به وهو الذي أخبر عنه ، فالإسناد متصل صحيح
وقد صحح الحافظ ابن حجر في هدي الساري ص (379) رواية مرسلة كهذه بقرينة
مثلها .(1/24)
فتبين بهذا أن ما ذكره ابن عباس من قص الأظافر إنما هو مأخوذ من المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فكذلك بقية المذكورات في الأثر كلها من التفث الوارد في الآية
وإذا رجعت أخي الكريم إلى كتب التفسير لا تكاد تجد إماما يخالف ابن عباس في تفسير الآية ، فمن لم ينص على ذكر الأخذ من اللحية ضمن التفث فهو لا يذكر ما
يمنع من ذلك ، بل كل ما ورد يتوافق معه ، وإليك شيئا مما ذكره الأئمة .
1ـ روي عن ابن عمر أنه قال :
" التفث قضاء المناسك كلها "
أخرجه ابن جرير (17/ 149) وابن أبي شيبة (4/ 84) كلاهما من طريق أشعث بن سوّار عن نافع عن ابن عمر به .
وأشعث ضعيف .
2ـ عن عكرمة قال :
" التفث : الشعر والظفر "
أخرجه ابن جرير وابن أبي شيبة في نفس الموطن السابق ، وإسناده صحيح
3ـ عن ابن وهب قال : قال ابن زيد :
" التفث : حرمهم "
أخرجه الطبري (17/ 150) وإسناده صحيح
4ـ عن الضحاك أنه قال في الآية :
" يعني حلق الرأس "
أخرجه الطبري (17/ 150) وإسناده ضعيف
5- عن عطاء بن أبي رباح وسبق ذكره .
6- عن الحسن البصري قال :
" التفث حلق الرأس "
أخرجه المحاملي في أماليه (135) ص (173) قال : ثنا محمود بن خداش قال : حدثنا هشيم قال : أخبرنا منصور عن الحسن به.
وهذا إسناد حسن فيه ابن خداش "صدوق" كما في التقريب
وقال الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 315) :
" وأما قول مالك : التفث حلاق الشعر ولبس الثياب وما يتبع ذلك ، فهو كما قال لا خلاف في ذلك " ا.هـ
فلا خلاف في معنى التفث عند العلماء وإن تنوعت العبارات ، أي لا خلاف تضاد ، وقد بين شيخ الإسلام في أصول التفسير قاعدة هامة قرر من خلالها أن عبارات المفسرين وألفاظهم قد تتغاير وتختلف ويكون مؤداها واحدا ، فلا يعتبر خلافا حقيقيا يوجب قبول قول ورد آخر(1/25)
بل الكل مراد ، ومثّل لهذا بتفسير الصراط الوارد في فاتحة الكتاب ، فنقل عمن قال إنه السنة ومن قال إنه القرآن ، ومن قال إنه الملة أو الدين ، ثم بيّن أن الكل صواب .
وهنا الأمر كذلك فلا خلاف بين المفسرين في تفسير التفث وإن تغايرت عباراتهم ، فما تقدم عن الأئمة ابن عباس ومن معه ممن أدخلوا جملة من المناسك بما فيها الأخذ من اللحية في مسمى التفث ، نجد أن تفسير ابن عمر ـ على ضعفه ـ يشمله ، فكلها مناسك ، وكذا عكرمة فالشعر يشمل اللحية ، وأما تفسير ابن زيد والضحاك وعطاء والحسن فجميعهم
أرادوا التحلل من الإحرام وما الأخذ من اللحية إلا فردا من أفراده .
وهذا والله أعلم مراد ابن عبد البر في كلامه السابق : " لا خلاف في ذلك "
أضف إلى هذا أن ذكر الأخذ من اللحية ضمن التفث قال به أعلم أهل التفسير ، وأئمتهم الكبار.
فلو خالفهم أحد لكان قولهم أولى بالأخذ ، فكيف ولا خلاف في ذلك ، فلا حجة بعد هذا لأحد في رد ما ثبت عن ابن عباس وغيره ، من أن الأخذ من اللحية من قضاء التفث الذي أمر الله به ، فهذا تفسير صحابي ، بل أعلم الصحابة بكتاب الله .
موقف أهل التحقيق من تفسير الصحابي .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (3/153) :
" فلا ريب أن أقوالهم – أي الصحابة – في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم , وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع .
قال أبو عبد الله الحاكم في مستدركه :
" وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع "
ومراده [ الكلام لابن القيم ] أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج(1/26)
وله وجه آخر ، وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيّن لهم معاني القرآن وفسره لهم كما وصفه تعالى بقوله ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) فبين لهم القرآن بيانا كافيا شافيا ، فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه ، وتارة بمعناه ، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى ،كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها ، وهذا
أحسن الوجهين ... "
" ... فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ، ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره ، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء ، هذا محال "(1)
" ... ومن المستبعد جدا بل الممتنع أن يفتي حبر الأمة وترجمان القرآن ، الذي دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوة مستجابة قطعا أن يفقهه في الدين ويعلمه الحكمة ، ولا يخالفه فيها أحد من الصحابة ، ويكون فيها على خطأ ، ويفتي واحد من المتأخرين بعده بخلاف فتواه ويكون الصواب معه ، فيظفر به هو ومقلدوه ، ويحرمه ابن عباس والصحابة معه "(2)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا " ا.هـ (3)
وقال رحمه الله بعد أن تكلم عن تفاسير الصوفية :
" وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث ، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين ، فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله , محرف للكلم عن مواضعه " (4)
.............................
(1) إعلام الموقعين (4/ 153)
(2) إعلام الموقعين (4/ 146)
(3) مجموع الفتاوى (13/ 361-362)
(4)مجموع الفتاوى (13/ 243)(1/27)
وقد علمت حفظك الله أن اعتبار الأخذ من اللحية وأنه من قضاء التفث الوارد في كتاب الله هو قول عبد الله بن عباس , وتبعه على ذلك أئمة السلف وأعلمهم بالتفسير ، وسيأتي أنه هو الذي جرى عليه عمل عامة الصحابة كابن عمر وغيره ، فالعجب ممن يرُد هذه الآثار الطيبة ولا يلتفت إليها ، ويزعم أن الأخذ من اللحية لا يجوز في النسك.
أساء فهمُ ابن عباس ؟!
أم خاب دعاءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعليمه التأويل ؟!
يا ترى ما الذي قام في أذهان هؤلاء الناس وهم يردون تفسير السلف من الصحابة والتابعين وعمَلَ مَنْ عَمِل بذلك منهم ؟!
ومن أي جهة تصوروا خطأ ابن عباس وابن عمر وغيرهما ؟!
أمن جهة اللغة ، و التفث ومعناه ؟
أم من جهة المناسك والعلم بأحكامها ؟!
أو من جهة الغفلة عن أحاديث الإعفاء ومعانيها ؟!
أو من التفريط والكسل ؟!
لابد أن يقوم شيء في الذهن من هذه الأمور حتى تحصل التخطئة .
وكلها تصورات فاسدة دالة على فساد القول نفسه ، لا يتصورها من عرف القوم وقدرهم وإن لم تكن هذه التصورات أو بعضها هي الدافع للتخطئة فما هو الدافع ؟
أهو الإعراض ؟
لابد من جواب عن سبب ترك تلك الآثار وغيرها مما سيأتي ، ولابد من البحث عن شرعية لهذا الجواب ومسوغ له و إلا كان من قبيل العبث والله المستعان .
عمل الصحابة والتابعين على الأخذ في الحج والعمرة
وموافقتُهم قولَ أهلِ التفسير
ثبت عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين الأخذ من اللحية في الحج أو العمرة ، بأسانيدَ صحيحة ، وألفاظٍ صريحة ، وإليك ما وقفت عليه منها :
أولا : ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه :
فقد روى نافع في ذلك عدة روايات منها :
1ـ " كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه"
أخرجه البخاري في صحيحه (5892) من طريق عمر بن محمد بن زيد عن نافع عن ابن عمر به
2ـ " أن عبد الله بن عمر كان إذا حلق رأسه في حج أو عمرة أخذ من لحيته وشاربه "(1/28)
أخرجه مالك في الموطأ (1397) وإسناده صحيح
3 ـ " كان إذا قصر من لحيته في حج أو عمرة كان يقبض عليها ويأخذ من طرفها ما خرج من القبضة "
رواه الساجي ، قال : حدثنا بندار وابن المثنى قالا : حدثنا عبد الوهاب الثقفي
حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر به .
وهذا إسناد صحيح ، عبد الوهاب وإن كان قد اختلط إلا أنه لم يرو شيئا حال اختلاطه والأثر أورده ابن عبد البر في التمهيد (3/ 138-فتح البر )
4ـ " كان إذا حلق في الحج أو العمرة قبض على لحيته ، ثم أمر فسوى أطراف لحيته "
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6435) بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر به .
وعبد العزيز حسن الحديث
5- " كان ابن عمر يأخذ من أظفاره وشاربه ولحيته ، يعني قبل أن يزور "
أي قبل أن يطوف .
رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/231) من طريق ابن جريج وموسى بن عبد الله الجهني كلاهما عن نافع عن ابن عمر به .
وهذا إسناد صحيح .
6- " أن ابن عمر كان يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة "
أخرج هذه الرواية ابن سعد في طبقاته (2/ 181) من طريق محمد بن عبد الله الأسدي قال حدثنا سفيان ـ الثوري ـ عن محمد بن عجلان عن نافع به .
ورجاله ثقات غير أنه تكلم في رواية محمد بن عبد الله ( أبي أحمد الزبيري ) عن سفيان
فقال أحمد كما في تاريخ بغداد (5/ 403) :
" كان كثير الخطأ في حديث سفيان "
بينما وثقه في سفيان جماعة ، فقال أبو نعيم الفضل بين دكين في أصحاب سفيان :
" ليس منهم أحد مثل أبي أحمد الزبيري " كما في الثقات لابن شاهين .
وعده ابن معين في سفيان كعبد الرزاق ، وفضل الإمام أحمد نفسه روايته عن سفيان على رواية معاوية بن هشام وزيد بن الحباب .
فالأصل أنه محتج به في روايته عن سفيان ، ولهذا قال الحافظ في التقريب :
" ثقة ثبت إلا أنه قد يخطئ في حديث الثوري "
وقد قال أبو أحمد عن نفسه :
" لا أبالي أن يسرق مني كتاب سفيان إني أحفظه كله "(1/29)
وتُكِلم أيضا في رواية ابن عجلان عن نافع ، فقال القطان :
" مضطرب الحديث في حديث نافع " كما في الضعفاء الكبير (4/ 118)
والقطان من المتشددين .
بينما قدَّم ابنُ المديني والنسائيُّ ابنَ عجلان في روايته عن نافع على كثير من أصحاب نافع الثقات وغيرهم ، فجعله كلاهما في الطبقة الخامسة ، وكان ابن المديني قد قسم أصحاب نافع إلى تسع طبقات ، وزاد النسائي واحدة فجعلهم عشر طبقات
فالإسناد محتمل للتحسين ، وهو حسن إن شاء الله ، ويرتقي إلى الصحة بالطريق المتابعة
فروى البيهقي في شعب الإيمان (5/ 223رقم 6450) بسند صحيح عن عبد الله بن عمر العمري (المكبر ) عن نافع به بلفظ :
" لم يكن يأخذ من لحيته إلا لحل "
وهي بمعنى الأولى ، وعبد الله ضعيف غير أن روايته جيدة في المتابعات والشواهد ، فالأثر
صحيح لغيره بهذا المعنى والله أعلم .
7- " أن ابن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج ، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج "
أخرجه مالك في موطنه (1396) عن نافع عن ابن عمر به .
8 ـ " كان ابن عمر يأخذ من أطرافها "
أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/ 181) عن ابن جريح ، وفيه قلت لنافع : أفمن اللحية ؟ قال : " كان [ أي ابن عمر ] يأخذ من أطرافها "
وإسناده حسن لحال عبد الوهاب بن عطاء العجلي
وتابع نافعا مجاهد بن جبر فقال :
" رأيت ابن عمر قبض على لحيته يوم النحر ، ثم قال للحجام : خذ ما تحت القبضة "
أخرجه الخلال في الترجل ص (114) رقم (95) وابن عبد البر في الاستذكار (13/ 117) كلاهما من طريق محمد بن أبي عمر العدني ، قال : حدثني سفيان قال : حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد به
وإسناده حسن لحال العدني الإمام المعروف ( صدوق ) كما في التقريب
ويوم النحر هو اليوم الذي يتحلل فيه الحاج من إحرامه .
وأيضا تابع نافعا مروان بن سالم المقفع ، فإنه قال :
" رأيت ابن عمر يقبض على لحيته ، فيقطع ما زاد على الكف "(1/30)
وفي رواية : " قبض على لحيته فقطع ما زاد على الكف "
أخرجه أبو داود (2357) والنسائي (2/ 200- الكبرى ) والدارقطني (2/ 185) والحاكم في المستدرك (1 /422) وكذا المزي في تهذيبه (27/ 391) كلهم من طريق مروان به
ومروان هذا لم يوثقه أحد ، ولم يذكروا أنه روى عنه أكثر من اثنين ، وذكره ابن حبان في ثقاته على منهجه ، ولهذا قال الحافظ : " مقبول "
أي في المتابعات والشواهد ، فالإسناد ضعيف .
ويشهد له ما سبق .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف (8/563) وابن سعد في الطبقات (4/178) من طريق ابن أبي ليلى عن نافع دون ذكر الحج أو العمرة وإسناده ضعيف أيضا
فهذا عبد الله بن عمر الصحابي العالم ، المكثر من الرواية , راوي أحاديث الإعفاء والأمر به ، كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة كلما حج أو اعتمر ، بل ويحرص على ذلك ويتحرى كما في بعض الروايات ليوفر من شعره ما يُمكِِّنه من الأخذ ، معززا بهذا قول ابن عباس وغيره من أهل التفسير
ثانيا : ما جاء عن جابر بن عبد الله حكاية عنه وعن غيره من الصحابة .
فعن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال :
" كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة "
أخرجه أبو داود (4201) من طريق زهير عن عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير قراءة عليه عن جابر به .
فيه أبو الزبير عنعنه وهو مدلس .
ومن طريقه أيضا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/ 567) ، لكن في إسناده أشعث وهو ضعيف
وللأثر طريق آخر عند ابن أبي شيبة في المصنف (8/ 563) يرويه من طريق أبي هلال عن قتادة عن جابر به نحوه
وأبو هلال هو محمد بن سليم الراسبي لا يحتج به ، و قتادة لم يسمع من جابر كما هو في المراسيل لأبي حاتم ص(167-175) وجامع التحصيل (312-314) فلعل الواسطة بينهما أبو الزبير ، وبالتالي يتعذر تقوية هذه الطريق بالتي قبلها .(1/31)
وإن كان تحسين هذا الأثر محتملا لما صح عن عطاء ، وسيأتي أنه حكى عمن أدركهم من الصحابة أنهم كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة ، وقد أدرك قرابة المائتي صحابي
وسبق ذلك عن ابن عمر وابن عباس ، ولكن الجزم بحسنه فيه نظر والله أعلم
هذا ما كنت كتبته قبل ثماني سنوات ، ثم وجدت الأخ الجد يع في كتابه ( اللحية ) قد عزاه
للرامهرمزي في المحدث الفاصل (494) ، وفيه أن الرواية متصلة بين أبي الزبير وجابر ، فقد
جاء فيه :
" وقرأ أبو الزبير على جابر " أي هذا الأثر .
فصح الإسناد بذلك وثبت الأثر والحمد لله .
وقبل الوقوف على هذه الطريق ، بل قبل أحد عشر سنة ، كنت قد أرسلت إلى الشيخ العلامة الألباني رحمه الله ورقة بها بعض الأسئلة ، ومن ضمنها سؤال عن حال هذا الأثر بعد ذكر طرقه ، فكان الجواب من الشيخ بضعف الأثر ، وهو في ورقة بخطه رحمه الله ، ولكن بعد الوقوف على دليل الاتصال لم يبق للضعف مجال .
بل الأثر صحيح بإذن الله ، لأن رواية قتادة عن جابر الصواب أنها متصلة ، فقد جاء في ترجمته من تهذيب الكمال :
قال معمر : قال قتادة لسعيد بن أبي عروبة :
" يا أبا النضر خذ المصحف
قال : فعرض علي سورة البقرة فلم يخطئ فيها حرفا واحدا ، قال : يا أبا النضر أحكمتُ ؟
قال : نعم
قال : [ أي قتادة ] لأنا لصحيفة جابر بن عبد الله أحفظ مني لسورة البقرة ، قال وكانت قُرئت علي "
وقال الأثرم : سمعت أحمد يقول :
" كان قتادة أحفظ أهل البصرة ,لم يسمع شيئا إلا حفظه , وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها "
وقال علي بن المديني :
" سمعت يحيى بن سعيد يقول : قال سليمان التيمي :
ذهبوا بصحيفة جابر إلى قتادة فرواها أو قال فأخذها "
فرواية قتادة عن جابر متصلة ، وعليه فطريق قتادة هذه صالحة للاستشهاد وبها يتقوى الخبر والله أعلم .
" كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة "(1/32)
أي كنا نحن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نعفي اللحى ، لا نأخذ منها إلا في حج
أو عمرة .
وفي القاموس : " السبلة محركة الدائرة في وسط الشفة العليا أو ما على الشارب من الشعر ... أو ما على الذقن إلى طرف اللحية كلها ، أو مقدمها خاصة ، ج سبال "
وفي لسان العرب :
" ... في الحديث أنه كان وافر السبلة ، قال أبو منصور يعني الشعرات التي تحت اللحى الأسفل .
والسبلة عند العرب مقدم اللحية وما أسبل منها على الصدر ... قال أبو زيد : السبلة ما ظهر من مقدم اللحية بعد العارضين " ا.هـ
فالمراد نعفي اللحى إلا في حج أو عمرة .
فها هو جابر بن عبد الله الصحابي المعروف ، يحكي لنا حال عامة الصحابة وما كانوا عليه من العمل على الأخذ من اللحى في المناسك وترْكِ التعرض لها في ما سوى ذلك .
وقوله : " كنا " له حكم الرفع عند جماعة من العلماء .
قال الحافظ أبو عبد الله الحاكم :
" إذا قال الصحابي أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو كنا نفعل كذا ، أو كنا نتحدث كذا
فإني لا أعلم بين أهل النقل خلافا فيه أنه مسند " ا.هـ
أي مرفوع ، وتعقبه السخاوي بقوله :
" والحق ثبوت الخلاف (1) " ا.هـ
لكنّ نقلَ الإمام الحاكم عن الأئمة المتقدمين دون خلاف بينهم يدل على أنه هو المستقر عندهم ، وبالتالي فأثر جابر له حكم الرفع .
ولا خلاف مطلقا بين أهل العلم في أن هذه الصيغة تحتمل حكم الرفع ، وبما أنها حكاية عن عامة الصحابة الذين علم منهم جابر ذلك ، فهي تأكيد منهم على صحة ما جاء في تفسير قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم }
لأن هذه الرواية تمثل العمل منهم بهذا الأمر في ضوء التفسير السابق .
..................................
(1) " فتح المغيث " للسخاوي (1/ 113)
ثالثا : ما حكاه عنهم التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح .
لقد عزز عطاء بهذا الأثر ما رواه جابر آنفا ، فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عطاء بن أبي رباح أنه قال :(1/33)
" كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 562-563) عن غندر عن شعبة عن منصور قال سمعت عطاء بن أبي رباح فذكره
وهذا إسناد صحيح .
فهذا عطاء بن أبي رباح التابعي المعروف ، يخبر عمن أدركهم من أهل العلم والفضل ، الذين يُعنى بنقل أحوالهم من صحابة أولا ، ثم من التابعين , ينقل عنهم الأخذ من اللحى في المناسك من حج أو عمرة .
وعطاء قد أدرك مائتين من الصحابة كما أخبر عن نفسه بذلك ، وسمع من أكثر من عشرين منهم فهم أول من يعنيه بمثل تلك الصيغة " كانوا " ، والأصل المتقرر عند أهل العلم والفهم ، أن الراوي إنما يعني بروايته من شاهده وأدركه ،كما قد نص على هذا الإمام المعلمي رحمه الله في رسالته البناء على القبور(1) .
وأعلى هؤلاء المشاهَدِين مرتبة وأولاهم بالعناية ، هم الصحابة رضي الله عنهم ، وعليه فحمل رواية عطاء على التابعين فقط تحكم مرفوض ، والقول به لا يجوز إلا بدليل .
.....................................
(1) ص (96)
ومع ما سبق فالقرائن أيضا تشهد بأنه عنى من أدركهم من الصحابة في تلك الحكاية ومنها :
1ـ أنه ثبت عن الصحابة ما حكاه عطاء في هذه الرواية كما صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه ، وكذا عبد الله بن عمر ، وما رواه أيضا جابر عن عامتهم ، بل روايته على النحو من رواية عطاء .
2ـ أن هؤلاء الذين رووا الأخذ من الصحابة هم من شيوخ عطاء ، فابن عباس ممن أكثر عنه عطاء ، وقد روى عن جابر أيضا وسمع منه ، ورأى ابن عمر رضي الله عن الجميع .
3 ـ أنه قد حج عطاء أكثر من سبعين حجة ، جلها كانت مع الصحابة ، فهو على دراية تامة بما كانوا عليه في هذه المسألة ، ولا يخفى على عطاء أهمية نقله ، وأنه أولى من النقل عن شيوخه من التابعين فقط .(1/34)
4ـ أن علماء الأصول كالقاضي أبي يعلى في العدة (3/ 998) وأبي الخطاب في التمهيد (3/184) وابن عقيل ، قد قرروا بأن قول التابعي : " كانوا " كقول الصحابي ، بل اعتبروه نقلا لإجماع الصحابة .
قال في المختصر في أصول الفقه ص (9) :
" مسألة : قول التابعي : أمرنا أو نهينا أو من السنة ، كالصحابي عند أصحابنا ، لكنه كالمرسل ، وقوله : " كانوا " كالصحابي , ذكره القاضي (1) وأبو الخطاب وابن عقيل " ا.هـ
وقال أبو يعلى في العدة (3/ 998) :
" إذا قال الصحابي أو التابعي : كانوا يفعلون كذا , حمل ذلك على الجماعة دون الواحد
...............................................
(1) يريد أبا يعلى .
منهم وهو قول أصحاب أبي حنيفة " إلى أن قال :
" فإن قيل : يجوز أن يكون المراد به فعل بعض الصحابة ، لأن فعل بعضهم يكون حجة
قيل : الواحد لا يقع عليه اسم الجماعة " ا.هـ
ومراده بالجماعة الإجماع ، قال الإمام ابن قدامة في الروضة ص ( 93 ) :
" فإن قال التابعي (كانوا يفعلون ) فقال أبو الخطاب يكون نقلا للإجماع ، لتناول اللفظ إياه وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يدل ذلك على فعل الجميع ما لم يصرح بنقله عن أهل الإجماع " ا.هـ
فأنت ترى أنهم لم يختلفوا في أن المراد الصحابة ، ولكنهم اختلفوا هل المراد جميعهم أم بعضهم ، وأما قول العلامة أبي البركات بأنه : " ليس بحجة لأنه قد يعني به في إدراكه كقول إبراهيم كانوا يفعلون يريد أصحاب عبد الله بن مسعود " ا.هـ
ومثله في المسودة (296-297) فهو قياس مع الفارق لأمرين :
1- لأن إبراهيم لم يسمع من أحد من الصحابة ، ولم ير إلا عائشة رضي الله عنها ولم يسمع منها ، بخلاف غيره ممن سمع من الكثير وأدرك الأكثر كعطاء ، فهو قد أدرك مائتين منهم
2- أن إبراهيم أكثر من الأخذ عن أصحاب عبد الله ، كمثل خاليه الأسود وعبد الرحمن وعلقمة ومسروق وعبيدة ، فهم أولى بمثل تلك الصيغة والله أعلم .
ويكفي في إثبات الفرقِ الأمرُ الأول .(1/35)
وعلى من يريد أن يقول بمثل قول العلامة أبي البركات ويَسْلَم له الاستدلال أن يُمثّل لتابعي قد سمع من جماعة من الصحابة وأخذ عنهم ومع هذا روى بتلك الصيغة ( كانوا ) وأراد بها شيوخه من التابعين فقط ، وما لم يأت بأمثلة على هذا فلا يسلم له ذلك الاعتراض لأنه خلاف الأصل ، مع أن عبارة أبي البركات لاتدل على أن التابعي إنما يعني بمثل تلك الصيغة شيوخه من التابعين فقط ، وإنما مَنْ أدركهم بغض النظر عن صحبتهم أو تابعيتهم
ويتلخص مما سبق أن كلام الأئمة في كتب الأصول دل على أن تلك الصيغة تحتمل أمرين :
1- أن يكون المقصود بقول التابعي : ( كانوا ) كلَّ الصحابة .
2- أن يكون المقصود بعضهم ممن أدركهم التابعي نفسه .
والأقرب من حيث الأصل هو الثاني لأمور :
أ- أنه الأحوط .
ب- أنه الأصل في الرواية ، فتقدم أن الأصل أن تحمل الرواية عمن شاهده الراوي وأدركه .
ج- أنه الأقرب إلى الذهن والله أعلم .
وبالتالي فأثر عطاء قد دل في أقل أحواله على أن الصحابة الذين أدركهم عطاء كانوا يعفون لحاهم ، ولا يتعرضون لها بأخذ ويستحبون ذلك ، فإذا كانوا في نسك استحبوا الأخذ منها ، وهذا متفِق مع ما سبق عن جابر ، إلا أن أثر جابر أعم .
وعطاء رحمه الله كان من أعلم أهل زمانه بالمناسك حجا وعمرة ، وهذا مما يعطي أثره أهمية.
قال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه :
" ما أدركت أحدا أعلم بالحج من عطاء "
وقال أبو جعفر :
" ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء "
وقال ابن أبي ليلى :
" وكان عالما بالحج قد حج زيادة على سبعين حجة "
وقال إبراهيم بن عمر بن كيسان :
" أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحا يصيح : " لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي
رباح "
فيا سبحان الله أيتصور فيمن كان هذا حاله ، وحج مع صحابة رسول الله مرارا وتكرارا أن
ينسب لعامة الصحابة أمرا باطلا مخالفا للشرع ، لو كان الأخذ مخالفة ؟
هذا لا يتصوره أحد .(1/36)
رابعا : ما جاء عن جماعة من السلف من التابعين .
قد سبق عند ذكر آية التفث روايات بعض التابعين في تفسيرها بالأخذ ، كمجاهد وابن جريج ومحمد بن كعب القرظي ، وهم إن شاء الله على العمل بما رووا ، يضاف إليهم عطاء بن أبي رباح ، وجاء أيضا ذلك عن جماعة آخرين وهم :
1- قتادة بن دعامة السدوسي .
فقد جاء عنه أنه كان يكره أن يأخذ من لحيته إلا في حج أو عمرة
أورده الحافظ ابن عبد البر في كتابه التمهيد (3/ 139) ( فتح البر ) ولم يسق إسناده
2-إبراهيم النخعي .
فقد جاء في أثر عطاء السابق :
" وكان إبراهيم يأخذ من عارض لحيته "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 562-563) عن غندر عن شعبة عن منصور به
وإسناده صحيح
والظاهر أنه في النسك أيضا ، لأنه جاء في نفس سياق الأثر السابق عن عطاء
3ـ القاسم بن محمد .
فعنه أنه " كان إذا حلق رأسه أخذ من لحيته وشاربه "
أي إذا حلق رأسه في الحج ، بدليل أنه قرن مع الأخذ من اللحية أخذ الشارب ، ولا نعرف
مناسبة شرعية تجمع حلق الرأس والأخذ من اللحية والشارب إلا الحج أو العمرة
والأثر أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 563) بإسناد صحيح
وهذه آخر الآثار المنقولة في هذه المسألة .
وبما تقدم أخي الكريم ، يتبين لك أن الأخذ من اللحية في الحج أو العمرة أمر دل عليه الكتاب كما في تفسير أئمة هذا الشأن , ودل عليه عمل السلف من الصحابة والتابعين
وكفى بهذا حجة ودليلا .
وكيف يتصور أحد أن يجتمع الصحابة والتابعون على فعل شيء معارض للنصوص في منسك من المناسك كالحج أو العمرة , وفي يوم خاص من أيام العام الكثيرة , بل وفي لحظة من لحظاته وهي لحظة التحلل , فيتفقون جميعا على الأخذ من اللحية ويخالفون عموم الإعفاء وهم أدرى به ، دون توقيف من المعصوم أو من رب المعصوم ؟ هذا لا يتصور.(1/37)
أم كيف يتصور أحد أن يأتي صحابي عالم كابن عباس ، ومعه أئمة التفسير من التابعين فيجتمعون على إقحام مثل هذا الفعل المخالف ـ كما يزعم المعترض ـ للإعفاء المأمور به فيقحمونه ضمن ما أمر الله به من المناسك دون توقيف من الشريف ؟!.
هذا من أبعد ما يكون عن أمثال هؤلاء الربانيين .
ذكر من قال بالأخذ في النسك من أهل العلم
أ ـ مذهب مالك :
جاء في المدونة (1/ 340) :
" قال سحنون : قلت لابن القاسم هل كان مالك يوجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره ؟
قال : لم يكن يوجبه ، ولكن كان يستحب إذا حلق أن يقلم وأن يأخذ من شاربه ولحيته وذكر مالك أن ابن عمر يفعله " ا.هـ
وقال العلامة ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 316) بعد أن ذكر أثر ابن عمر في الأخذ في الحج :
" وهذا معناه لما كان حراما عليه أن يأخذ من لحيته وشاربه وهو محرم ، رأى أن ينسك بذلك عند إحلاله " ا.هـ
وقال القاضي عباض في شرح مسلم :
" ... ومنهم من كره الأخذ إلا في حج أو عمرة " ا.هـ
ب ـ مذهب الشافعي :
وجاء في " الإيضاح في مناسك الحج والعمرة " ص (340) :
" قال الشافعي رحمه الله : ولو أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئا كان أحب إلي ليكون قد وضع من شعره شيئا لله تعالى " ا.هـ
وفي الأم له :
" وأحب إلي لو أخذ من لحيته وشاربه حتى يضع من شعره شيئا لله ، وإن لم يفعل فلا شيء عليه , لأن النسك إنما هو في الرأس لا في اللحية "(1)
أي عند التحلل من الإحرام
ج مذهب أحمد :
جاء في كتاب الترجل للخلال ص ( 114 ) برقم (94) قال الإمام أحمد :
" ويأخذ من عارضيه ولا يأخذ من الطول ، وكان ابن عمر يأخذ من عارضيه إذا حلق رأسه في حج أو عمرة ، لا بأس بذلك " ا.هـ
وقال الإمام الطبري كما في الفتح (10/ 350) ـ وهو أحد الأئمة المجتهدين ـ :
" ... وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة "
ثم عقب الحافظ قائلا:
" وأسند عن جماعة واختار قول عطاء " ا.هـ (2)(1/38)
فهذه مقالات أهل العلم المعروفين ، وقد سبقها ما جاء عن السلف من الصحابة والتابعين ،
وهم متفقون على استحباب الأخذ من اللحية في كل حج أو عمرة ، ولم يأت عن أحد من
..........................................
(1) الأم (2/ 211)
(2) فتح الباري (10/ 362ـ363) .
أهل القرون المفضلة خلاف هذا ، لا عن صحابي ولا عن تابعي .
أما الصحابة فقد سبق أن هذا مذهب علمائهم ، كابن عباس وابن عمر وجابر ، بل عامتهم على ذلك كما دل عليه أثر جابر وأثر عطاء ، ولا مخالف لهذا منهم ، لا في أثر صحيح ولا ضعيف ، وما كان هذا سبيله فهو إجماع من الصحابة .
وإنَّ كتب أهل العلم - ورثةِ الأنبياء - لتنضح بنقل إجماع الصحابة على ما كان هذا صفته بل وفي كثير منها على ما دونه ، حتى إننا نراهم ينقلون إجماع الصحابة على مسألة إنما ثبت فيها قول اثنين منهم , وبناء على اشتهار ذلك دون وجود مخالف منهم نراهم ينصون على إجماع الصحابة .
قال الجصاص في أحكام القرآن (2/ 23) :
" ... ويدل ذلك على ما وصفنا من وجهين :
أحدهما : أن القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة واستفاض ، ولم يوجد له منهم مخالف فهو إجماع وحجة على من بعدهم ، وقد روي ما وصفنا عن هذين الصحابيين من غير خلاف ظهر من نظرائهم عليهم ، فثبت حجته " ا.هـ
وقال القرطبي في تفسيره (3/ 333) :
" ... ووجه الرواية الأولى وهي المشهورة ، ما ثبت من قضاء عمر بذلك ، وقيامه بذلك في الناس ، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار ، ولم يعلم له مخالف فثبت أنه إجماع قال القاضي أبو محمد :
وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره ، وهذا حكم الإجماع " ا.هـ
فحكموا بإجماع الصحابة لثبوته عن واحد وعن اثنين دون مخالف ، فكيف بما ثبت عن
عامتهم من أكثر من وجه .
وبنحو ما سبق جاء عن شيخ الإسلام وتلميذه .
ففي المجموع (23/ 332) :(1/39)
" ... الرابع : أن الجمعة لا تدرك إلا بركعة كما أفتى به أصحاب رسول الله ، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس وغيرهم ، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف ، وقد حكى غير واحد أن ذلك إجماع " ا.هـ
ولشيخ الإسلام عدة عبارات يثبت فيها هذا المعنى
وفي إغاثة اللهفان قال ابن القيم (2/ 20) :
" إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها ولا يتسرى عليها فالنكاح صحيح والشرط لازم ، هذا إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه صح عن عمر وسعد ومعاوية ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، وإليه ذهب عامة التابعين " ا.هـ
فلأن نحكم نحن على مسألتنا هذه بإجماع الصحابة فهو أولى وأولى ، بل عبارة كل من جابر وعطاء برهان ظاهر على ذلك : " كنا " أي نحن صحابة رسول الله جميعا ، و "كانوا " أي صحابة رسول الله الذين أدركتهم وهم أكثر من مائتين ، بما فيهم ابن عباس الحبر ، وابن عمر المكثر ، وجابر البر ، رضي الله عن الجميع
موقف المحققين من أهل العلم مما جاء عن بعض الصحابة
ولم يثبت عن أحد منهم خلافه
قال شيخ الإسلام في المجموع :
" وأما أقوال الصحابة , فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء " ا.هـ (1)
ويقول العلامة ابن القيم :
" وإن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر ، فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر ، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة , وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع ، وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين : لا يكون إجماعا
ولا حجة " ا.هـ (2)
فبئس الركب ركب المتكلمين .
يقول العلامة العَلَم والتلميذ النجيب في كتابه الإعلام :
" لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر ، يحتجون بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم ,ولا ينكره منكر منهم ، وتصانيف العلماء شاهدة بذلك ، ومناظراتهم ناطقة به ، قال بعض
...........................................
(1) المجموع (20/ 14) .
((1/40)
2) إعلام الموقعين (4/ 120) .
علماء المالكية :
أهل الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله ، وذلك مشهور في رواياتهم ، وكتبهم ومناظراتهم , واستدلالاتهم ، ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء كلهم على الاحتجاج بما لم يشرع الله ولا رسوله الاحتجاج به ، ولا نصبه دليلا للأمة .
فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل إلا وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة ، ووجدت ذلك طرازها وزينتها ، ولم تجد فيها قط :
ليس قول أبي بكر وعمر حجة ، ولا يحتج بأقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفتاواهم
ولا ما يدل على ذلك .
وكيف يطيب قلب عالم يُقَدِّم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال , وأفتى بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - , ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظا ومعنى ، قولَ متأخر بعده ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها ؟!
وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من آراء المتأخرين أرجحُ من الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين ، الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل , وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم ، وينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهرهم ..." ا.هـ (1)
ولهذا كان الإمام الشافعي يرى أن مخالفة الآثار ضلال ، يقول العلامة ابن القيم :
" وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه ، بأن قول الصحابة حجة يجب المصير إليه ، فقال :
المحدثات من الأمور ضربان :
..................................
(1) المصدر السابق .
أحدهما : ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا ، فهذه البدعة الضلالة "
فقال ابن القيم معلقا :
قد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالةً ، وهذا فوق كونه حجة "ا.هـ (1)(1/41)
هذا ما عليه أهل العلم ، ولم يخالف في هذا إلا من ذكرهم ابن القيم رحمه الله من المتكلمين وغيرهم ، ونحن إذ نعتمد هذا فإنما هو لاعتبارات كثيرة , منها ما ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات حيث قال :
" ولكنهم ( أي الصحابة ) يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين :
أحدهما معرفتهم باللسان العربي, فإنهم عرب فصحاء لم تتغير ألسنتهم , ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم ، فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده من هذه الجهة .
الثاني : مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة , فهم أقعد في فهم القرائن الحالية ، وأعرف بأسباب التنزيل , ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك , والشاهد يرى ما لا يرى الغائب " ا.هـ (2)
وهذا الذي ذكره الشاطبي هو فيما انفرد به الصحابة عمن بعدهم وكان سببا موجبا لاعتماد مذاهبهم , وقد ذكر هذا العلامة ابن القيم ، وأضاف إليه أمورا أخرى شاركهم فيها من بعدهم ، وقامت أمور بإزائها أوجبت تقدمهم فيها على غيرهم ، مما أكد وجوب اعتماد أقوالهم التي لا يعلم لها مخالف منهم .
.................................
(1) المصدر السابق .
(2) الموافقات (3/ 338 .
قال العلامة ابن القيم :
" ... أن الصحابي إذا قال قولا ، أو حكم بحكم ، أو أفتى بفتيا ، فله مدارك ينفرد بها عنا, ومدارك نشاركه فيها .
1- فأما ما يختص به :
فيجوز أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - شفاها ، أو من صحابي آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط بهم , فلم يرْوِ كل منهم كل ما سمع ، وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه والفاروق و غيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه ؟!(1/42)
فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث ، وهو لم يغب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مشاهده , بل صحبه من حيث بعث , بل قبل البعث إلى أن توفي , وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم ، بقوله وفعله وهديه وسيرته ، وكذلك أجلّة الصحابة , روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه ، ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة , فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين ، وقد روى عنه الكثير ...
فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة أوجه :
أحدها : أن يكون سمعها من النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : أن يكون سمعها ممن سمعها منه .
الثالث : أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهما خفي علينا .
الرابع : أن يكون ا قد اتفق عليها ملؤهم ولم يُنقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده .
الخامس : أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه (1) الذي انفرد به عنا .
......................................
(1) الجار والمجرور في قوله : " على الوجه " متعلق بمحذوف صفة لقوله : " كمال " .
أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب ، أو لمجموع أمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته ، وسماع كلامه ، والعلم بمقاصده ، وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله بالفعل ، فيكون فهم ما لا نفهمه نحن .
وعلى هذه التقادير الخمسة (1) تكون فتواه حجة يجب اتباعها .
السادس : أن يكون فهم ما لم يرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ في فهمه , والمراد غير ما فهمه , وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة .
ومعلوم قطعا أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من وقوع احتمال واحد معين هذا ما لا يشك فيه عاقل ، وذلك يفيد ظنا غالبا قويا ، على أن الصواب في قوله دون ما خالفه من أقوال من بعده ، وليس المطلوب إلا الظن الغالب ، والعمل به متعين ، ويكفي العارف هذا الوجه " ا.هـ(1/43)
ثم تابع العلامة ابن القيم الكلام على ما اشتركوا فيه مع غيرهم فقال :
2- " أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ و الأقيسة :
فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوبا , وأعمق علما ، وأقل تكلفا ، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن ، لما خصهم الله تعالى من توقد الأذهان , وفصاحة اللسان , وسعة العلم , وسهولة الأخذ , وحسن الإدراك وسرعته , وقلة المعارض أو عدمه , وحسن القصد , وتقوى الرب تعالى ، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم , والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم
........................................
(1) ويضاف تقدير سادس فيقال : السادس : أن يكون قد وفق فيها للصواب فتحا من الله وفضلا منه ، لما له من الفضل في الديانة وعلو الدرجة فيها ، كما كان يحصل لعمر رضي الله عنه من الإلهام ، وعليه تصبح التقادير ستة وما يليها هو السابع .
وعقولهم ولاحاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة ، وعلل الحديث والجرح والتعديل , ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين .
بل غُنوا عن ذلك كله ، فليس في حقهم إلا أمران :
أحدهما : قال الله تعالى كذا ، وقال رسوله كذا .
والثاني : معناه كذا وكذا .
وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين ، وأحظى الأمة بهما ، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما
وأما المتأخرون فقواهم متفرقة , وهمهم متشعبة
فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة .
والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة .
وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذت منها شعبة .
وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة .
إلى غير ذلك من الأمور .
فإذا وصلوا إلى النصوص ـ إن كان لهم همم تسافر إليها ـ وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كَلَّت من السير في غيرها , وأوهن قواها مواصلة السرى في سواها .
والمقصود أن الصحابة أغناهم الله تعالى عن ذلك كله ، فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط .(1/44)
هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائها , وصحتها وقوة إدراكها وكمالها , وكثرة المعاون ، وقلة الصارف , وقرب العهد بنور النبوة ، والتلقي من تلك المشكاة النبوية.
فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه ، فكيف نكون نحن
أو شيوخنا أو شيوخهم ، أومن قلدناهم أسعدَ بالصواب منهم في مسألة من المسائل ؟
ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم والله المستعان " ا.هـ
وهذا كلام رائع ، من إمام حاذق ، لا يستعذبه إلا أصحاب السنن والاتباع والأثر .
وكل ما تقدم عن الأئمة إنما هو في قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره واشتهر عنه ، وقد علمت ما فيه من احتجاج , فكيف بمسألتنا التي ثبتت فيها الرواية عن عامة الصحابة من جهتين ، وعن ثلاثة من علماء الصحابة دون وجود مخالف لهم ، فهو إجماع عن الصحابة صحيح ، وحجة على كل مسلم بلا شك ، توجب الاتباع والانقياد دون تردد .
شبهات وأجوبة
لا أعلم مستندا عند من ذهب إلى المنع من الأخذ مطلقا ، سوى التمسك بما ورد في النصوص العامة من الأمر بالإعفاء ، وإذا جئت لأحدهم وبينت له ما ورد في تفسير آية التفث , وما جاء عن الصحابة في ذلك , أعرض عنك زاعما أن هذا لا حجة فيه , مادام أنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك حديث , ثم ينطلق يسرد لك ما جاء من أصول أهل السنة في الاعتصام بما جاء عن رسول الله , وأنه إذا صح الحديث فلا عبرة بقول أحد وهلم جرا ...
ويُغفِل أصلا عظيما عند أهل السنة هو كالقيد لما سبق ، ألا وهو وجوب فهم الكتاب والسنة فهما موافقا لما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
فهذا الأصل العظيم نرى الكثير ممن يوافقنا في اعتباره كثيرا ما يعرض عنه , باسم التمسك بالسنة , وتحت مسمى الأصل السابق ، وخاصة في المسائل الفقهية المتنازع فيها بين المتأخرين وما ذلك إلا لغفلتهم عن الباعث لالتزام الأصل الثاني والذي هو قيد للأصل الأول .(1/45)
فنرى هؤلاء لا يخالفون فهم السلف فيما اتفقت عليه كلمة أهل السنة في مسائل الاعتقاد ونحوها , لظهور فهم السلف لهم , ولا فيما اتفقت عليه كلمة أهل الحديث وفقهاء السنة ولكن بمجرد أن يشتهر شيء من النزاع بين المتأخرين من العلماء ، نجدهم يغفلون عن ذلك الأصل وكأنهم لا يقولون به مطلقا ، وما ذلك إلا لغفلتهم عن الباعث لالتزام ذاك الأصل الذي هو فهم النصوص بما يوافق فهم السلف من الصحابة والتابعين .
فالداعي لالتزام فهمهم قائم في كل مسائل الدين , لا فرق بين مسائل الاعتقاد وغيرها .
ومن عاش هذه المعاني فلا يمكن أن يغفل عنها , بل تجده في كل مسألة إنما ينطلق في بحثها
من خلال آثار الصحابة والتابعين أولا , فإذا وجد اتفاقا بينهم على قول لم يخرج عنه إلى غيره , وإذا رآهم اختلفوا اختار من أقوالهم أقربها إلى الأدلة والقواعد ، والتمس أصوبها , هذا دأب أتباع الأثر .
أما أن يستظهرَ الواحد من الأدلة قولا فيتمسكَ به ويعرضَ عن آثارهم ، ويتعلق بنفي الإجماع ويتكلف في نقضه , ويتكئ على احتمال وجود خلاف وغير ذلك ، ويدعي الاعتصام بالسنة ، فهذا في حقيقته إنما هو معتصم بفهمه , مصادم لفهم السلف المعترف بفضلهم , ولكن باسم التمسك بالسنة والأخذ بالنصوص .
أتظن يا هذا أن الصحابي الذي خالفتَه معرض عن النصوص ، تاركٌ العملَ بها ، لا يلتفت إليها ولا يعبأ بها ؟!
فأنت تعي أن هذا الصحابي ( ولنقل مثلا ابن عمر في هذه المسألة ) أنت تعي أنه عالم بهذا النص ( الأمر بالإعفاء ) لأنه هو الراوي له ، فهو مع أخذه من لحيته ما زاد عن القبضة في الحج والعمرة ، إنما يعتقد في نفسه أنه آخذ بنصوص الإعفاء , معتصم بها , غير خارج عنها.
وأنت كذلك تزعم أنك متمسك بالأحاديث الواردة في ذلك .
فإذاً الخلاف بينكما إنما هو في الفهم ، لا أنك معتصم متمسك ، وهُو تارك معرض ، فهذه هي الحقيقة وإن زينتها وزخرفتها ، وحتى يتأكد لك هذا :
قاعدة بين قاعدتين :(1/46)
فابن عمر هو راوي الحديث ، وراوي الحديث أدرى بمرويّه من غيره ، كما هو مقرر عند أهل العلم في قواعدهم ، قال العلامة ابن عبد البر في الاستذكار (4/ 317) :
" وابن عمر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " واعفوا اللحى " وهو أعلم بمعنى ما روى ، فكان المعنى
عنده وعند جمهور العلماء الأخذ من اللحية ما تطاير والله أعلم " .
ولا ترِد هنا القاعدة الأخرى والتي تقول :
" العبرة برواية الراوي لا برأيه "
لأن هذه القاعدة محلها إذا خالف الراوي روايته مخالفة تامة ، بحيث لا يمكن حمل قوله على أنه مفهوم من مفاهيم النص ، ولا على أي صورة من صور التوفيق التي تتلاءم مع معنى الرواية المرفوعة (1) ، هذا هو محل القاعدة الثانية ، فلا يُعمل بها إلا في هذه الحالة .
والأمر هنا في هذه المسألة على خلاف هذا ، لأن النص الذي رواه ابن عمر وزعم ذلك القائل أنه متمسك به له معنى ظاهر لا يتعارض مع ما جاء عن ابن عمر من الأخذ , بأي صورة من صور التعارض .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اعفوا اللحى " أمر بالإعفاء , والإعفاء لغة : هو الترك حتى الإكثار أو إلى حد الإكثار كما سبق ، فقد تقدمت أقوال أئمة اللغة (2)
قال العلامة ابن عبد البر في الاستذكار :
" الإعفاء عندهم ترك الشعر لا يحلقه " ا.هـ
وقال في " البحر الرائق " من كتب الحنفية :
" قال أصحابنا الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر " ا.هـ
فإن أخذ منها بعد إطالتها وإكثارها بحيث لا يؤثر في وفرتها وطولها ، ولا يخرج بها عن حد
.....................................
(1) وهذا ما سمعته من بعض أشرطة العلامة الألباني رحمه الله ، وإلى هذا المعنى أشار في المعتمد (2/ 175) كما سيأتي نقله ، ويشهد لصحته النظر السليم .
(2) ارجع لزاما إلى ما تقدم تحت عنوان : معنى الإعفاء .
الإكثار ، فلا يكون بذلك مخالفا لهذا الإعفاء الواجب ، فلا تعارض بين مطلق الأخذ ومطلق الإعفاء(1/47)
قال العلامة الطيبي كما في شرح المشكاة (1/ 223) :
" هذا ( أي الأخذ ) لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم - " أعفوا اللحى " ...فالمراد بالإعفاء التوفير ... ، والأخذ من الأطراف قليلا لا يكون من القص في شيء ، وعليه سائر شراح المصابيح زين العرب وغيره " ا.هـ
أي لا يكون من القص المحرم المؤدي إلى ترك الإعفاء .
وقال ابن الهمام في فتح القدير :
" يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم ... فيقع بذلك الجمع بين الروايات " ا.هـ
وقال الحافظ في الفتح (10/ 36):
" والذي يظهر أن ابن عمر ... كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها
الصورة بإفراط شعر اللحية أو عرضه " ا.هـ
فهذا كلام أهل العلم عن عدم التعارض بين مطلق الإعفاء ومطلق الأخذ .
بل صح في المرفوع ما يدل على هذا ويقطع النزاع ، فقد تقدم عن جابر بن عبد الله أنه قال:
" كنا نعفي السبال [ أي اللحى ] إلا في حج أو عمرة "
فدل هذا الأثر المرفوع حكما ، على أن الأخذ لا ينافي مطلق الإعفاء وإن نافى الإعفاء المطلق
فتبين بكل ما تقدم معنى الإعفاء المأمور به وأنه لا يتنافى مع الأخذ القليل ، فمن ترك لحيته وأعفاها حتى طالت وكثرت فقد حقق الإعفاء الواجب وإن كان هناك أخذ .
والإكثار لا نعلم له حدا في اللغة
فهل مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإكثار أن تترك مطلقا ولا يؤخذ منها شيء ، حتى وإن وصلت إلى
السرة ؟
أم المراد توفيرها حتى تكون ظاهرة بحيث تعطي مظهرا متميزا فيكفي أن تكون بقدر القبضة ؟
لم يأت شيء في اللغة ، ولا في النصوص من الكتاب والسنة يبين حد الإكثار والتوفير ( الذي
هو الإعفاء ) ، وإنما جاءت النصوص مطلقة ، وجاء عن حَمَلة الوحي ونقَلَةِ الشرع تحديدٌ لأدنى الإكثار والتوفير ، وهو القبضة .
فلِمَ صِرْتَ أيها القائل إلى فرض الخصومة بين الحديث والأثر ، وزعمتَ المعارَضَة والمصادَمة بينهما ؟(1/48)
على أي شيء استندت في ذلك ؟
من قال لك أن الأخذ مما زاد على القبضة يخرج باللحية من الإعفاء والإكثار إلى ضده ؟
في أي لغة وجدت هذا ؟ أم في أي نص أو أثر ؟
ما هو إلا فهمك أيها القائل ، فهو المعَوَّلُ عليه عندك , وهذه هي الحقيقة التي صيرتك في عداد أهل الغفلة عن فهم السلف ، وتحت مسمى الاعتصام بالسنة والتمسك بالحديث و التحاكم إلى الرسول أخفيت حقيقتك المؤلمة .
والآن آن لك أن تفيق من غفلتك ، وتصحو من نومك ، ففجر الأثر بزغ ، وظلام ليلك قد تبدّد ، وليس أمامك إلا السير في نهار الدليل وضوئه ونوره .
فابن عمر وهو أحد علماء الصحابة ، وراوي هذا الحديث ، ومعه أبو هريرة كما سيأتي ، وهو العالم المكثر ، وراوي الحديث أيضا ، قد كانا يأخذان مما زاد عن القبضة .
وقد جرى عمل عامة الصحابة على الأخذ في الحج والعمرة كما سبق ، وتبعهم جماعة من التابعين .
فهذا من هؤلاء السلف يعد تفسيرا لمعنى الإعفاء المأمور به ، وأنه الإكثار إلى حد معين
لا الإكثار المطلق ، وآية التفث من أهم ما يُستدَل به على تفسير الحديث ، كما في تفسير ابن عباس وغيره من السلف .
يا هذا من أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بإعفاء اللحى ؟ أليسوا هم هؤلاء ؟
فلِمَ أدرتَ لهم ظهرك ؟ وركبتَ دونهم عقلَك وفهمَك ؟
خذها مني نصيحة ، ارجِع والزم هذا الرَّكب ، وضع فهمك عند ذاك الكوكب
وتأكيدا لما سبق من العمل بقاعدة : الراوي أدرى بمرويّه من غيره ، فقد تقرر عند كثير من المحققين تخصيصُ النصوص العامة بعمل الصحابة ، واشترطوا لحمل عمل الصحابي على التخصيص ، أن يثبت لنا علمه بالنص العام .
قال شيخ الإسلام كما في المسودة ص (127) :
" قلتُ : إن كان الصاحب سمع العام وخالفه ، قويَ تخصيصُ العموم بقوله ... " ا.هـ
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات (3/338) :(1/49)
" فمتى جاء عنهم [ أي الصحابة ] تقييد بعض المطلقات ، أو تخصيص بعض العمومات ، فالعمل عليه صواب " ا.هـ
وقال الأنصاري في " فواتح الرحموت " (1/355) بعد أن أورد مقالة الماتن التي تقول :
" مسألة : فعلُ الصحابيِّ العادلِ العامُّ مخصص عند الحنفية والحنابلة "
فقال :
" وإذا وجد عمل الصحابي خلاف العموم احتمل عند العقل وجدان المخصص ، فإن من القطعيات أن عمله لا يكون إلا عن حجة شرعية في زعمه ، لأن العمل من غير حجة معصية قد عصمهم الله عن ذلك ، فينبغي أن يتوقف فيه حتى يعلم فساد حجته " ا.هـ
ثم قرر أن :
" عمل الصحابي دليل الدليل على التخصيص , لأنه بعد علمه لا يترك العمل بالعام إلا بدليل يدل على التخصيص , ولما كان عارفا باللغة لا يخطئ , فصار هذا العمل بمنزلة قوله : هذا العموم مخصوص ، فيخص به كالإجماع " ا.هـ
وقال أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري في المعتمد (2/175ـ176) :
" باب في مذهب الراوي إذا كان بخلاف روايته .
ما المعقول منه ؟ وهل يختص به روايته أم لا ؟
حكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة وغيرهم أن الراوي للحديث العام إذا خصه أو تأوله وجب المصير إلى تأويله وتخصيصه ، لأن بمشاهدته النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف (كذا ) بمقاصده ...
وقال أبو الحسن :
المصير إلى ظاهر الخبر أولى
ومنهم من جعل التمسك بظاهر الخبر أولى من تأويل الراوي ، إذا كان تأويله بخلاف ظاهر الخبر
قال : فإن كان تأويله هو أحد محتملي الظاهر حملت الرواية عليه ، وهو ظاهر مذهب
الشافعي ، لأنه حمل ما رواه ابن عمر من حديث الافتراق على افتراق الأبدان ، لأنه مذهب
ابن عمر رضي الله عنه .
وقال قاضى القضاة (2) :
إن لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه إلا أنه علم قصد النبي إلى ذلك التأويل ضرورة ، وجب المصير إلى تأويله وإن لم يُعلم ذلك ، بل جوَّز أن يكون صار إلى ذلك التأويل لنص أو قياس ...(1/50)
قال قاضى القضاة : فإن كان الخبر الذي رواه مجملا وبينه الراوي فإن بيانه أولى
ودليل الشيخ أبي الحسن رحمه الله هو أن مذهب الراوي ليس بحجة ، وقول النبي عليه السلام حجة ، فلم يجز العدول عنه إلى ما ليس بحجة .
ودليلنا أن نخص العموم لتخصيص النبي عليه السلام ، وإنما نستدل بمذهب الراوي على تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، ويجري مذهبهم مجرى روايتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ووجه الاستدلال بذلك : هو أنه إذا لم يكن فيما يعرفه من النصوص ووجوه الاجتهاد ما يقتضي ذلك التخصيص فلا يخلو الراوي :
ـ إما أن يكون ما قال لشهوة .
ـ أو لأنه اضطر إلى قصد النبي إلى التخصيص .
ـ أو لأنه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك نصا جليا لا يسوغ الاجتهاد في خلافه .
ـ أو سمع نصا محتملا .
........................................
(1) والوصف بقاضي القضاة مما نص بعض أهل العلم على حرمة صرفه إلى المخلوق انظر شرح النووي على مسلم (14/ 368) .
والظاهر من دينه يمنع من تخصيص العموم بالتشهي ، ويمنع من أن لا ينقل الحديث المحتمل لأنه لا يأمن أن يكون اجتهادُ غيره فيه خلافَ اجتهاده ، فيثبت القسمان الآخران
وأيها كان وجب التخصيص كما لو أظهر الرواية بذلك .
فإن قيل : لِم لَم ينقل قصدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أو النصَّ الجلي ؟
قيل : لأن تخصيصه العموم مع دينه يجري مجرى نقله النص من الوجه الذي ذكرناه
فإن قيل : أفما تجوِّزون أن يكون قد وهم فظن من قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا أصل له , وتوهم أنه عالم بذلك ؟
قيل: الظاهر من دينه أنه ما خص العموم إلا وقد اضطر إلى قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، كما أن الظاهر من رواية الضابط المتيقظ أنه لم يخطئ سمعه , وإن جاز خلاف ذلك بأن يتوهم خلاف ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - " ا.هـ(1/51)
ولو تأملت أخي الكريم الاحتمالات التي قد تُضعِف هذا النوع من التخصيص ، لعلمت أنها مع بُعدها وضعفها وأنها لا تصل إلى حد الاعتبار ، فهي مع ذلك لا ترِد في مسألتنا هذه لثبوت التخصيص عن عامة الصحابة بما فيهم رواة العموم ، وتأمل هذا فإنه جد مهم .
وإلى التخصيص بعمل الصحابة ذهب جماعة من الأئمة ، ومنهم :
1ـ مالك بن أنس كما في شرح التنقيح للقرافي ص (98)
2ـ أبو حنيفة كما في التمهيد لأبي الخطاب (2/ 119) وغيره
3- الشافعي كما في شرح التنقيح للقرافي ص (98) وأحكام الفصول ص (268)
4- أحمد بن حنبل كما في العدة (2/ 579) والمسودة ص (127)
5- أكثر الأحناف كما في بديع النظام ص (480)
6ـ بعض الشافعية كما في العدة لأبي يعلى (2/ 580) والتمهيد لأبي الخطاب (2/ 119)
7- أكثر الحنابلة كما في شرح اللمع (1/ 382) والقواعد والفوائد الأصولية (296)
8- ابن حزم الأندلسي كما في شرح الكوكب المنبر (3/ 376)
وقد سبق عن شيخ الإسلام والشاطبي وغيرهما.
فعلى من نصب الخصومة بين الحديث والأثر ، أن يراعي أصول أهل العلم وقواعدهم ، فتخصيص أحاديث الإعفاء ، وحَمْلُ معنى الترك والإكثار على حد القبضة هو الذي تشهد له أصول أهل العلم وقواعدهم .
وخاصة أن الإعفاء المطلق والإكثار المطلق لا يتعارض مع ما ورد عن السلف ، فهو معمول به لديهم في غير الحج والعمرة ،كما هو صريح أثر جابر وعطاء ، فقد كان الصحابة يعفون لحاهم مطلقا إلا في حج أو عمرة .
فالآثار الواردة قد أعملت العموم (1) في غير الحج والعمرة ، ولذلك كانت السنة أن تترك اللحى لا يتعرض لها بأخذ وإن جاوزت القبضة ، إلا عند القيام بالنسك .
فلا تعارض بين المرفوع والموقوف ، بل ما جاء عن جابر رضي الله عنه هو في حكم الرفع كما هو ظاهر من قوله : " كنا " وكذا ما صح عن ابن عباس من تفسير ، فلا مجال للرد والله أعلم .
.....................................
((1/52)
1)وعليه فالعموم وهو ( الإعفاء المطلق ) مراد أيضا في الحديث ، ومعمول به في غير الحج والعمرة ، فلِمَ الحرص على خلق الإشكال .
وأما قول بعضهم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس : " خذوا عني مناسككم " (1)
ولم يرِد عنه أنه كان يأخذ من لحيته يوم النحر ولا غيره ، ولو فعل صلى الله عليه وسلم ذلك لنقل فدل على أنه لم يفعل .
هذا ما قاله بعضهم ، وما تقدم من أجوبة هو كاف في رد هذه الشبهة .
وقد سبق أن أثر جابر له حكم الرفع , وكذا تفسير ابن عباس لآية التفث الذي تبعه عليه أئمة السلف .
وما أظن أن هذا القائل يشترط في كل مسألة أن يثبت فيها حديث قولي أو فعلي فقط , ولا أنه يقصر المرفوع على هذين الأمرين ، وعليه فما ادعاه باطل لا يصح .
فإذا لم يسلم بصحة الرفع المذكور فيجاب عنه بما يأتي :
أولا: لا ينبغي أن يحكُم أحد على شيء بأنه لم يقع أو لم يُفعل بمجرد أنه لا يعلم وقوعه ، فعدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه ، فقد يقع أو يُفعل إلا أننا لا نقف عليه أو لا
يبلغنا (2) ، أو أنه لا يُنقل اكتفاء منهم بنقل ما ينوب عنه .
.............................
(1) أخرجه مسلم (1297) و أحمد (3/ 301-318-332-337-367-378) وغيرهما من طريق أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله مرفوعا به .
(2) ومن أكبر الأدلة على أن هذا وارد ومحتمل ، أنه جاءت روايات مرفوعة في هذه المسألة قد تتقوى ببعض ، ولكننا لم نقف عليها بأسانيدها ، كالمتابعة التي ذكرها ابن عدي في الكامل لعمر بن هارون (5/ 1689) ولم يذكر إسنادها .
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله :
"... فإن ما انفردوا به [ أي الصحابة ] من العلم عنا أكثر من أن يحاط به , فلم يرو كلٌّ منهم كلَّ ما سمع ، وأين ما سمعه الصديق رضي الله عنه والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة
رضي الله عنهم إلى ما رووه ؟(1/53)
فلم يرو عنه صديق الأمة مائة حديث ، وهو لم يغب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مشاهده , بل صَحِبه من حيث بعث ، بل قبل البعث إلى أن توفي ، وكان أعلم الأمة به - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وهديه وسيرته
وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه , ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة , فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين وقد روى عنه الكثير .
فقول القائل : ولو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره
قولُ من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم , فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ، ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ..." ا.هـ
أضف إلى هذا أننا نعلم أن أمر الصلاة أهم من أمر الحج ، ووقوعها أكثر بكثير منه , فعلى أنها تفعل كل يوم خمس مرات وأكثر , فلا نعلم أنه ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أين يضع يديه في الجلوس بين السجدتين ، ولا عند الرفع من الركوع ، لا من قوله ولا من فعله ، على خلاف في الثاني ، ولا يستطيع أحد أن يقول : إنه ليس ثمة صفة لوضع اليدين في ذينك الحالين ، ولا
شك أنه كان ليدي النبي صلى الله عليه وسلم الكريمتين وضع معين ولم ينقل .
وقد ثبتت سنة في الحج لا نعلم فيها حديثا مرفوعا ، جاءت عن عدد من الصحابة كعلي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر رضي الله عن الجميع ، ونص العلماء على استحبابها ألا وهي الغسل لعرفة ، وأكتفي من تلك الآثار بأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، لأنه في حكم المرفوع
فعن زاذان قال :
" سأل رجل عليا رضي الله عنه عن الغسل ؟
قال : اغتسل كل يوم إن شئت .
قال : لا , أسألك عن الغسل الذي هو الغسل ؟(1/54)
قال : يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر ويوم الفطر " .
أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 181) مختصرا بإسناد صحيح
ومن طريق أخرى أكمل (1 / 94) والشافعي في الأم (1 /58) ومن طريقه البيهقي في السنن (3/ 278) وإسناده صحيح .
وإلى تصحيحه يذهب الشيخ الألباني حفظه الله .
فقول السائل لعلي : " الغسل الذي هو الغسل " أي أسألك عن الغسل المشروع المسنون فأجاب علي بما تقديره : الغسل المسنون يوم الجمعة و...
بدليل ذكر غسل الجمعة والعيدين معه ، وهذا في حكم المرفوع لمن تأمل ، ومع هذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من فعله ولا من قوله ، ونص العلماء على سنيته مع ذلك .
فهل يصح بعد هذا أن يقول أحد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ من لحيته لأنه هو القائل : " خذوا عني مناسككم " ولو فعل لنقل ؟
وبما تقدم تعلم أنه من المحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وإنما لم ينقله الصحابة اكتفاء بالآية
أو لاشتهار ذلك عندهم .
وفي هذا الاحتمال قوة ، لأنه درج على الأخذ في ذلك اليوم ـ يوم النحر ـ جماعة كثيرون من السلف , وهذا لا يكون إلا عن توقيف منه - صلى الله عليه وسلم - , فالأمر كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه الموافقات ، وذلك عند كلامه عن منهج الإمام مالك وأصوله حيث قال :
" ... إذ كان إنما يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ، ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث ، وكان ممن أدرك التابعين وراقب أعمالهم ، وكان العمل المستمر فيهم مأخوذ من العمل المستمر في الصحابة ، ولم يكن مستمرا فيهم إلا وهو مستمر في عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو في قوة المستمر ... " ا.هـ
ثانيا: أن القول بمثل تلك الشبهة واعتبارها يفتح لأهل الإحداث والابتداع الباب ، ويعطيهم متمسكا يتمسكون به ، فإن كثيرا من الأعمال ثبتت عن كثير من الصحابة ولم يثبت فيها شيء مرفوع ، وهي من السنن عند أهل العلم .(1/55)
وعلى القول بمثل تلك الشبهة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا يدخل أهل الإحداث ويزعمون أن الصحابة كانوا يضيفون أفعالا من عندهم ويعتقدون استحبابها ولم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا دليل على جواز ذلك ، مع أن هذا باطل عندكم أيضا .
وأخيرا ليس عندي ما أقول لمن ترك كل ما جاء عن السلف من الصحابة والتابعين في هذه المسألة وجاء بمعنى من عنده أو من عند غيره ممن هم دون السلف ، إلا ما قال الشاطبي رحمه الله حيث قال :
" ... هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أولم يوجد ؟
فإن زعم أنه لم يوجد ولابد من ذلك .
فيقال له : أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا ؟
ولا يسعه أن يقول بهذا ، لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع
وإن قال : إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها
قيل له : فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها ؟!
ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المتقول ، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية ، فكل ما جاء مخالفا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه " (1)
..................................
(1) الموافقات (3/ 73) .
ثانيا: الأخذ من اللحية في غير الحج والعمرة
كل ما تقدم من آثار إنما هي في الأخذ من اللحية في حج أو عمرة ، سوى ما جاء في رواية من روايات ابن عمر ، فقد روى مالك في موطئه عن نافع :
أن ابن عمر كان إذا أفطر من رمضان وهو يريد الحج ، لم يأخذ من رأسه ولا من لحيته شيئا حتى يحج "
مفهومه إذا لم يرد الحج فإنه يأخذ من رأسه ولحيته في غير الحج ، وقد سبقت الروايات عن نافع كلها مقيدة بالحج ، فرواه عن نافع مقيدا كل من :(1/56)
عبيد الله بن عمر ، وعبد العزيز بن أبي رواد ، وابن جريج ، وموسى بن عبد الله الجهني ، ومحمد بن عجلان ، ومالك في رواية أخرى ، وعبد الله بن عمر العمري ، وعمر بن محمد بن زيد
بينما تفرد مالك بهذه الرواية ، إلا أنه إمام جبل لا تضره هذه المخالفة ، وخاصة في مثل روايته عن نافع ، إلا أن تلك الروايات تدل على تقيُّد ابن عمر في الأخذ بالحج والعمرة في غالب أحواله ، وقد جاء هذا صريحا في رواية ابن عجلان وعبد الله العمري وأنه كان" يعفي لحيته إلا في حج أو عمرة "
وهذا يدل على أن ابن عمر كان لا يأخذ من لحيته في غير النسك إلا نادرا .
وقد صح الأخذ في غير الحج عن جماعة من السلف ، وإليك ما وقفت عليه منها :
1ـ أثر أبي هريرة رضي الله عنه .
فعن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي قال :
" كان أبو هريرة يقبض على لحيته ثم يأخذ ما فضل عن القبضة "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 562) والخلال في الترجل (97) كلاهما من طريق شعبة بن الحجاج عن ( عمر ) بن أيوب ـ من ولد جرير ـ عن أبي زرعة به .
وهذا إسناد حسن إن شاء الله ، فيه عمر بن أيوب بن أبي زرعة ، وهو من ولد جرير البجلي لم ينص على توثيقه أحد .
قال عنه أبو حاتم : "هو شيخ كوفي " انظر الجرح والتعديل (6/ 98)
وكلمة شيخ المراد بها ما نص عليه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل
فقد قال (2/ 37) :
" ... وإذا قيل له إنه صدوق ، أو محله الصدق ، أو لا بأس به ، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه ، وهي المنزلة الثانية .
وإذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية .
وإذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار .
وإذا أجابوا في الرجل بلين الحديث فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا " ا.هـ(1/57)
فكلمة شيخ هي أرفع من قوله : " صالح الحديث " ، ولا يراد بها معنى الضعف ، لأن ابن أبي حاتم نفسه جعل لها حكم من قيل فيه : ( صدوق ) و ( لا بأس به ) في كون الجميع يكتب حديثه وينظر فيه , وكونهم فوق مرتبة الاعتبار ، وإن كانت كلمة شيخ دونهما .
ويصدق هذا ما جاء في الجرح والتعديل نفسه عند ترجمة عبد الرحمن بن عطاء المديني حيث قال ابن أبي حاتم :
" سألته عنه ، فقال : ( شيخ ) ، قلت : أدخله البخاري في كتاب الضعفاء ، فقال : يحول من هناك " ا.هـ
فاعتراض الابن يدل على أن كلمة شيخ ليست بجرح ، وإنما هي إلى التعديل أقرب وتجاوب الأب بتحويله من الضعفاء كذلك .
وقد اعتبر العلماء الذين شرحوا عبارة ابن أبي حاتم أن رتبة شيخ من مراتب التعديل ، إلا أنها أدناها .
فعمر بن أيوب بن أبي زرعة شيخ يكتب حديثه وينظر فيه ، فإن خالف غيره أو أغرب أو نحو هذا فترد روايته .
أما إن كانت القرائن تشهد لصحة روايته فتمشى .
وذكره ابن حبان في ثقاته ، ولا أعلم روى عنه غير شعبة بن الحجاج ، والذي دفعني لتحسين حديثه أمور :
أولا : أنه من ولد جرير البجلي ، فهو هنا يروي عن أهل بيته ، وتحديدا عن جده ، ورواية الرجل عن أهل بيته أثبت من غيرها ، لتوفر دواعي العناية بها ، من تكرار سماعها باعتبار القرب ، وتكرار النقل لها باعتبار حرص الرواة على أخذها عن الولد ، وحرص الولد نفسه على حفظ مرويات أهله ونحوه .
ثانيا : لرواية شعبة عنه ، فقد كان لا يروي في الغالب إلا عن ثقة ، والغالب في حال عمر بن أيوب هو كالغالب في حال شيوخ شعبة ، ولا يشك منصف أن غالبهم ثقات ، وقد أشار الإمام ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (99) إلى معنى مفيد في معرفة شيوخ شعبة ، فقد قال بعد أن قرر أن غالب رواية شعبة عن الثقات :
" وقد يروي [ أي شعبة ] عن جماعة من الضعفاء الذين اشتهر جرحهم والكلام فيهم ،
الكلمةَ والحديثَ والحديثين وأكثر من ذلك " ا.هـ(1/58)
ثم ذكر بعضَهم ، فشعبة إنما يروي إما عن ثقة , وهذا السائد في حاله ، وإما عن مجروح مشهور بالجرح وهذا قليل نادر .
أما أن يروي عن مجهول ، أو مجروح غير مشتهر بالجرح فلا ، وهذا بلا شك على الغالب الأغلب ، وعمر بن أيوب ليس معروفا بضعف فضلا عن أن يكون مشهورا به ، فالأغلب في حاله أن يكون ممن يحتج بروايته .
ثالثا : أن طبقته متقدمة ، وقد كانت الآفات فيهم أقل ممن بعدهم .
رابعا : أن ما رواه مما يسهل ضبطه ، لقصر المتن من جهة ، ثم لخفة معناه من جهة أخرى باعتبار أنه حدث بسيط وبدليل أن مثله لا يحتاج لاستخدام أي وسيلة من وسائل الحفظ والضبط .
خامسا: أن روايته خالية من النكارة والمخالفة ومن كل قرائن الوهم ، والله أعلم .
وجاء عن أبي هريرة من طريق أخرى عند ابن سعد في الطبقات (4/ 334) من طريق أبي هلال قال: حدثنا شيخ من أهل المدينة قال :
"رأيت أبا هريرة يحفي عارضيه ويأخذ منهما ، قال – الراوي – : ورأيته أصفر اللحية "
وفيه أبو هلال ، الظاهر أنه محمد بن سليم الراسيى قال فيه الحافظ : "صدوق فيه لين " والناظر في كلام الأئمة يعلم أنه لا يحتج بروايته .
أما الشيخ المدني فالراجح أنه عثمان بن عبيد الله كما قال الشيخ الألباني رحمه الله ، فقد جاء في السلسلة الضعيفة المجلد الخامس :
" فإن ابن سعد روى بعده أحاديث بسنده الصحيح عن ابن أبي ذئب عن عثمان بن عبيد الله قال :
" رأيت أبا هريرة يصفّر لحيته ونحن في الكتاب "
وقد ذكره ابن أبي حاتم في كتابه (3/ 1/ 156) فقال :
عثمان بن عبيد بن أبي رافع مولى سعيد بن العاص المديني ... رأى أبا هريرة وأبا قتادة وابن عمر وأبا أسيد يصفرون لحاهم ، روى عنه ابن أبي ذئب ، فهو هذا " ا.هـ كلام الشيخ
وكون أبي حاتم يميزه في ترجمته برواية تصفير اللحية عن أبي هريرة ، وأنه مدني ، دليل ظاهر على أنه نفسه الشيخ المدني والله أعلم .(1/59)
وعليه فذكر الأخذ في هذه الرواية يعتبر منكرا ، لأنه تفرد به أبو هلال وهو " لين " ، بينما رواه عن هذا الشيخ المدني جماعة من الثقات بذكر التصفير فقط ، دون ذكر الأخذ كما في رواية ابن أبي ذئب عند ابن سعد في الطبقات (4/ 335) وعند البخاري في التاريخ الكبير (6/ 233) وابن أبي ذئب ثقة مشهور .
وتابعه ابن طهمان وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كما في التاريخ الكبير (6/ 233-234) فلم يذكرا الأخذ .
فالخلاصة أن الأثر حسن بلفظه الأول والله أعلم .
وليس فيه التقييد بالحج أو العمرة ، فهو ظاهر في الأخذ مطلقا ، وأبو هريرة أحد رواة الأمر بالإعفاء
2ـ تلاميذ عبد الله بن مسعود .
فعن إبراهيم النخعي أنه قال :
" كانوا ينظفون لحاهم ويأخذون من عوارضها "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 564) والبيهقي في شعب الإيمان (5/ 220برقم 6438)
من طريق سفيان عن منصور عن إبراهيم به.
قوله : " ينظفون " جاء محرفا في المصنف والتصويب من الشعب .
والسياق ظاهر في أن هذا كان في غير الحج ، وإبراهيم إذا قال (كانوا ) فهو يريد أصحاب ابن مسعود كخاليه الأسود وعبد الرحمن وعلقمة ومسروق وعبيدة .
3 ـ 4 الحسن البصري ومحمد بن سيرين .
عن أبي هلال قال :
" سألت الحسن وابن سيرين فقالا :
لا بأس أن تأخذ من طول لحيتك "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 564) من طريق أبي هلال به.
وأبو هلال وإن كان لينا إلا أنه السائل ، وهذا من قرائن الضبط وبه يثبت الأثر .
وقد تنبهت لهذه القرينة من كتاب ( اللحية ) للجديع .
وللأثر شاهد عن الحسن فقد روي عنه أنه قال :
" كانوا يرخصون فيما زاد عن القبضة أن يؤخذ منها "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 564) وفي إسناده أشعث بن سوار
ولا ذكر للحج والعمرة في الأثر ، فالأخذ مطلق .
5- طاوس بن كيسان .
فعن ابن طاوس عن أبيه :
" أنه كان يأخذ من لحيته "
وفي رواية :
" كان أبي يأمرني أن آخذ من هذا ، وأشار إلى باطن لحيته "(1/60)
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 563) من طريق أبي خالد ـ الأحمر ـ عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه باللفظ الأول .
وفيه ابن جريح عنعه وهو مدلس .
أما الرواية الثانية فقد أخرجها الخلال في الترجل ص (115) رقم (96) وابن عبد البر في الاستذكار كلاهما من طريق سفيان بن عيينة حدثنا ابن طاوس به .
وهذا إسناد صحيح .
وهو ظاهر أيضا في أنه لم يكن مقيدا بالحج .
6ـ عطاء بن أبي رباح .
قال ابن جرير الطبري ، قال عطاء :
" لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت "
كذا نقله العيني في عمدة القاري (22/ 47)
فأبو هريرة رضي الله عنه وهو راوي حديث الإعفاء والأمر به ، ومعه ابن عمر راوي الحديث أيضا ، ومعهما أصحاب عبد الله بن مسعود ، الأسود وعبد الرحمن وعلقمة ومسروق وعبيدة
وغيرهم من أصحابه ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، وطاوس بن كيسان ، وعطاء بن أبي رباح ،كل هؤلاء الأئمة ، أهل العلم والفضل ، وأصحاب الرفعة والنُّبْل ، هم يقولون بجواز
الأخذ من اللحية في غير الحج والعمرة ، وهم القوم لا يشقى بهم رفيق .
وقد سبق بيان معنى الإعفاء المأمور به ، وأن الأخذ مما زاد على القبضة لا ينافيه ، وسبق أيضا أن راوي الحديث أدرى بمرويه من غيره .
وهنا وإن كان ابن عمر على الأخذ في النسك أكثر ، وأما في غيره فنادر ، وكذا عمل عامة الصحابة كما في أثر جابر وعطاء ، بل عامتهم على ترك الأخذ مطلقا في غير الحج ، فهذا إنما يُمَثّل الأولى والأفضل .
قال العراقي في طرح التثريب :
" الجمهور على أن الأولى ترك اللحية على حالها ، وأن لا يقطع منها شيء ، وهو قول الشافعي وأصحابه " .
وأما من حيث الجواز فجائز في غير الحج ، بدليل ما جاء عن ابن عمر في ذلك وأبي هريرة وغيرهم من السلف .
فالإعفاء المراد ، أدناه القبضة ، وأعلاه هو الإعفاء المطلق .(1/61)
هذا الذي دلت عليه الآثار ، وثبت عن الصحابة الأخيار ، ومَن بعدهم مِن السلف الأبرار . " اعفوا اللحى " اتركوها حتى تكثر ، لا تتعرضوا لها مطلقا ، إلا في نسك من حج أو عمرة ، فإن كان ولابد فلكم أن تأخذوا ما زاد عن القبضة .
والحاصل أن لأهل العلم في المسألة أقوالا ، هي :
1- جواز أخذ ما زاد عن القبضة واستحباب الإعفاء .
2- استحباب الأخذ مطلقا مما زاد عن القبضة .
3- القول بوجوب أخذ ما زاد عن القبضة .
4- المنع من الأخذ مطلقا في حج وغير حج .
وإليك ما وقفت عليه من أقوالهم :
أ- القول الأول :
يقول الحافظ ابن عبد البر في الاستذكار :
" وفي أخذ ابن عمر من آخر لحيته في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج " ا.هـ
وقال شيخ الإسلام في شرح العمدة (1/236) :
" وأما إعفاء اللحية فإنه يترك ، ولو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره ، نص عليه كما تقدم عن ابن عمر ، وكذلك أخذ ما تطاير منها " ا.هـ
وفي الإنصاف (1/121) :
" ويعفي لحيته ... ولا يكره أخذ ما زاد عن القبضة ، ونصه [ أي عن أحمد ] لا بأس بأخذ ذلك وأخذ ما تحت الحلق ... " ا.هـ
وفي المستوعب (1/ 260) :
" ولا يقص لحيته إلا ما زاد على القبضة إن أحب ، و إلا الأولى ألا يفعله " ا.هـ
وفي حاشية ابن عابدين :
" لا بأس بأخذ أطراف اللحية إذا طالت " ا.هـ
وقد نص كثير من أهل العلم على جواز الأخذ مما زاد على القبضة ، ولم يأت عن أحد
من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم ولا ممن قرب عهده منهم , القول بالمنع من
الأخذ ، وما كان هذا حاله فليس بعلم .
ونقل الغزالي أيضا عن جماعة من أهل العلم ذلك فقال :
" وقد اختلفوا فيما طال منها :
فقيل : إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس ، فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين " ا.هـ
ونقله النووي في المجموع (1/ 357)
ب- القول بالاستحباب :
فقد جاء في البحر الرائق :(1/62)
" قال أصحابنا : الإعفاء تركها حتى تكث وتكثر , والقص سنة فيها ، وهو أن يقبض الرجل لحيته , فما زاد منها على قبضة قطعها ، كذلك ذكر محمد في كتاب ( الآثار ) عن أبي حنيفة قال : وبه نأخذ " ا.هـ
وقال القرطبي في المفهم :
" ولا يجوز حلق اللحية ولا نتفها ولا قص الكثير منها , فأما أخذ ما تطاير منها وما يشوه ويدعو إلى الشهرة طولا وعرضا فحسن عند مالك وغيره من السلف " ا.هـ
وقال القاضي عياض :
" وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن ، ويكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في قصها
وجزها " ا.هـ
وعند الباجي في المنتقى :
" قيل لمالك : فإذا طالت جدا ؟
قال : أرى أن يؤخذ منها وتقص " ا.هـ
وقال الزرقاني :
" الاعتدال محبوب ، والطول المفرط قدح يشوه الخلق ، ويطلق ألسنة المغتابين , ففعل ذلك مندوب ما لم ينته إلى تقصيص اللحية " ا.هـ
وإلى الاستحباب ذهب ملا علي القاري في المرقاة .
ج- القول بوجوب الأخذ مما زاد على القبضة .
جاء في الدر المختار شرح تنوير الأبصار (2/417) :
" لا يكره دهن شارب ... أو تطويل اللحية ، إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة ، وصرح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة بالضم ، ومقتضاه الإثم بتركه ، إلا أن يحمل الوجوب على الثبوت " ا.هـ
وعبارة صاحب النهاية كالآتي :
" واللحية عند طولها بقدر القبضة ـ بضم القاف ـ وما وراء ذلك يجب قطعه "
قال القاري في المرقاة (8/ 223) :
" قوله يجب بمعنى ينبغي , أو المراد أنها سنة مؤكدة قريبة إلى الوجوب ، وإلا فلا يصح على إطلاقه " ا.هـ
وظاهر عبارة صاحب النهاية الوجوب الذي يأثم تاركه ، وهذا كقول الطبري على ما نقله
العيني في العمدة :
" اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها " ا.هـ
وممن قال به من المعاصرين فضيلة العلامة الألباني رحمه الله ، وقد استند رحمه الله على جريان
عمل السلف على الأخذ كلما جاوزت اللحية القبضة ، وبناء على هذا أعمل القاعدة التي تقول :(1/63)
إن كل نص عام كما هو معلوم له عدة جزئيات ، فما لم يجر عمل السلف بجزئية من هذه الجزئيات ، فالعمل بها بدعة .
هكذا أو بنحوها كان كثيرا ما يرددها الشيخ رحمه الله رحمة واسعة ، وقد نص على هذه القاعدة الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه العظيم الموافقات ، فقد قال رحمه الله
(3/ 74-75) :
" فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق ، فرأيت الأوّلين , قد عُنوا به على وجه واستمر عليه عملهم ، فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر ، بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه " ا.هـ
وقال في موطن آخر :
" والنظر في أعمال المتقدمين قاطع لاحتمالاتها حتما ، ومعين لناسخها من منسوخها ، ومبين لمجملها ، إلى غير ذلك , فهو عون في سلوك سبيل الاجتهاد عظيم ، وأيضا فإن ظواهر الأدلة إذا اعتبرت من غير اعتماد على الأولين فيها مؤدية إلى التعارض والاختلاف ، وهو مشاهد معنى ، ولأن تعارض الظواهر كثير مع القطع بأن الشريعة لا اختلاف فيها .
ولذلك لا تجد فرقة من الفرق الضالة ، ولا أحدا من المختلفين في الأحكام , لا الفروعية ولا
الأصولية يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة , وقد مر من ذلك أمثلة ...
فلهذا كله يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به ، فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل " ا.هـ
وهذا كلام رائع من هذا الإمام , والقاعدة المشار إليها قاعدة عظيمة جليلة , وحفظها
وصونها والعمل بها صون لأعظم معاقل الاتباع وأهمها ، وحصن جد منيع في وجه الإحداث وأهله .
ولا أعلم أحدا قررها ، وناشد بها ، ودعا إليها في عصرنا ، كشيخ السنة ، وحامل لواء الأثر مجدد مذهب السلف ، الإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
الجندي المخلص ، والقائد الباسل لطلائع الاتباع والأثر .(1/64)
ولكن الشأن كل الشأن في مسألتنا هذه هو في تنزيل القاعدة ، فهل جرى فعلا عمل السلف على الأخذ كلما جاوزت اللحية القبضة أم لا ؟
هذا هو محل البحث , وعند النظر في الآثار الواردة عن السلف في المسألة نجد أن القول بجريان عمل السلف على ذلك من أبعد ما يكون ، فكما هو ظاهر فإن إثبات مثل هذا الأمر لا يصار إليه من خلال ثبوت ذلك العمل عن صحابي واحد أو عن اثنين منهم ، فعَمَل بعض السلف لا يعني عمل السلف عامة ، وخاصة إذا ثبت أن بعضهم على خلافهم
ومسألتنا التي قصدتُ هي الأخذ من اللحية دائما كلما جاوزت القبضة ، وليست متعلقة بأي أخذ .
وعليه فمن رأى جريان عمل السلف على ذلك ( أي الأخذ كلما جاوزت القبضة ) فيلزمه نقل هذا عن السلف , إما عن عامتهم , وإما عن طائفة منهم دون وجود مخالف لهم منهم وفي المقابل متى ثبت عن أحد من الصحابة أو عن جماعة من التابعين عدمُ الأخذ دائما كلما زادت عن القبضة ، فإن هذا يعني نقض القول بجريان عمل السلف على ذلك .
وإذا علمت أن عامة الصحابة قد ثبت عنهم الإعفاء المطلق إلا في حج أو عمرة كما في الأثرين الآتيين ، دون التقيد بالأخذ كلما جاوزت القبضة دائما ، تبين لك جليا أن عمل السلف لم يجر على ذلك فقد صح كما تقدم عن جابر أنه قال :
" كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة "
وأيضا عن عطاء أنه قال : " كانوا يحبون أن يعفوا اللحية إلا في حج أو عمرة "
فدل كل من الأثرين على الآتي :
أ ـ أن حد الأخذ من حيث الوقت هو النسك فقط ، ولا يحصل في غيره .
ب ـ أن الأخذ إنما يحصل في يوم النحر فقط ، بل في لحظة معينة من لحظات ذلك اليوم ،كما وضح هذا أثر ابن عباس ، وأثر ابن عمر الوارد في النسك ، ولا يتكرر(1/65)
ج- أن مَن كان مِن الصحابة لا يستطيع النسك إلا مرة في العام ، فإنه يترك لحيته ولا يأخذ منها عاما كاملا حتى تتكرر تلك اللحظات من العام المقبل , ومن كان ينسك في العامين مرة كذلك , فإنه يبقى لمدة عامين لا يأخذ شيئا ، وهكذا ، وبما أن اللحى تطول وتنمو والأمر في هذا يختلف من شخص إلى آخر , قوة وضعفا ، فلا شك أنه كان من الصحابة من كانت لحيته تتجاوز القبضة ولا يأخذ منها , وتبقى هكذا لفترات طويلة حتى يمن الله عليه بحج أو عمرة , ومن لم يتيسر له الأمر بقي طويل اللحية إلى ما شاء الله .
فالأثران يدلان على أن عامة الصحابة لم يكونوا يأخذون من لحاهم كلما جاوزت القبضة وهذا كاف في إثبات أن عمل السلف لم يجر عليه كما نقل الموجبون .
وما أظن منصفا يفهم من ذينك الأثرين أن الصحابة المحكي عنهم الأخذ في النسك كانوا لا يتركون لحاهم تتجاوز القبضة ، حتى في غير الحج ، إذ هذا مناقض لظاهر الأثرين , أو يَفهم
أن الصحابة جميعا أكتعين أبتعين أبصعين كانوا ينسكون في كل سنة مرارا و تكرار ، بحيث أن النسك لم يترك لأحد منهم مجالا تطول فيه لحيته عن القبضة لفترة .
وإذا بطل هذا تبين بما لا مجال للشك أن عمل السلف لم يجر على الأخذ مما زاد على القبضة
نعم يمكن أن يقال إن هذا جرى عليه عمل أبي هريرة رضي الله عنه وحده ، دون غيره من الصحابة ، وهو مخالف في هذا لما عليه عامتهم .
وأما ابن عمر فقد سبق أنه كان متقيدا بالنسك إلا في النادر ، فلا يصح القول بأنه كان لا يترك لحيته تتجاوز القبضة ، أو أنه كان مستمرا على ذلك في الحج وفي غير الحج على حد سواء .
بل صح عن علي أيضا في صفة لحيته ما يدل على أنه كان لا يأخذ من لحيته كلما جاوزت القبضة ، وأن الغالب في لحيته مجاوزتها ، فعن الشعبي قال :
" ما رأيت رجلا أعرض لحية من علي ، قد ملأت ما بين منكبيه "(1/66)
أخرجه ابن سعد في الطبقات (3/ 25-26) وابن أبي شيبة (8/ 844) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي به .
وهذا إسناد صحيح , إسماعيل أثبت الناس في الشعبي .
فلحية علي رضي الله عنه عظيمة جدا ، قد ملأت منكبيه على ضخامتهما ، فقد كان ضخم المنكبين كما صح عنه
وإذا كان ضخم المنكبين , ولحيته قد ملأت هذا الموضع الموصوف بالضخامة , فلابد أن تكون مجاوزة للقبضة والله أعلم .
وعلى كل فالقول بوجوب الأخذ مما زاد عن القبضة لا يصح ، مع أن القاعدة صحيحة
وللعمل بها شروط ، وهي :
أ- أن يثبت التخصيص الوارد عن الصحابة والتابعين ثبوتا تقوم به الحجة ، من حيث ثبوت المعنى الدال على ذلك .
ب- أن لا نعلم لما ورد من تخصيص مخالفا من صحابي آخر أو من جماعة من التابعين .
ج- إن كان التخصيص فعليا فينبغي أن يكون عن أكثر من صحابي , اللهم إلا أن يكون هو الراوي لذلك العموم .
ولم تتوفر هذه الشروط في مسألتنا هذه والله أعلم .
وأخيرا من الضروري مراعاة موقف أهل العلم من التابعين في المسألة ، للتأكد من جريان عمل السلف على أمر ما ، لأن الاتكاء على عمل السلف من استظهار أثر أو أثرين دون مراعاة موقف علماء أتباع التابعين المعروفين بتتبع ما كان عليه الناس قبلهم ،كمالك والأوزاعي ونحوهم ، يعد من التجاهل لحقيقة ما جرى عليه عمل السلف ، فكثيرا ما كان يأتينا عنهم :
أدركنا الناس وهم يفعلون ، أو هم يقولون .
فنعم الناس هم ، ونعم الدّين ما كانوا عليه .
د- المنع من الأخذ مطلقا في نسك أو غيره .
قال الإمام الطبري رحمه الله :
" ذهب قوم إلى ظاهر الحديث ، فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها وعرضها "
وقال العلامة النووي في المجموع :
" الصحيح كراهة الأخذ منها مطلقا , بل يتركها على حالها كيف كانت ، للحديث الصحيح : واعفوا اللحى " ا.هـ
وقال في شرح مسلم :
" والمختار ترك اللحية على حالها , وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا "
قال الحافظ في الفتح (10/ 350) :(1/67)
" وكأن مراده [ أي النووي ] في غير النسك , لأن الشافعي نص على استحبابه فيه "
وبالمنع قال العلامة المباركفوري والإمام الرباني ابن باز رحمهما الله .
غير أن النووي نص على الكراهة ، وقد يراد بها التنزيهية كما هو معروف عند بعض المتأخرين ، فلا يستكثر به من يقول بالتحريم .
والقول بالمنع هو قول طائفة قليلة من أهل العلم جلهم من المتأخرين , ولم يقل به أحد من السلف ، لا من الصحابة ولا من غيرهم ، وقد أبعد من نقل هذا عن الجمهور .
وأما قول الحافظ العراقي في طرح التثريب ، فهو ليس في القول بتحريم الأخذ مطلقا ، وإنما هو في استحباب الإعفاء وأنه أولى من الأخذ ، وهذا إن كان المراد به في غير نسك فصحيح أما إن أريد به النسك أيضا فغير صحيح .
أما القول بالمنع فلا أحد من الصحابة ، ولا من التابعين ، ولا من تابع التابعين ، نقل عنه القول بهذا ، لا من طريق صحيح ولا ضعيف .
ولا أحد من الأئمة الأربعة ، فقد سبق عنهم جميعِهم القولُ بالأخذ ، على تفاوت بينهم في تفاصيله ، وكذا بقية أهل العلم ، فلم يأت عن أحد من العلماء المتقدمين سوى ما يفهم من كلام الطبري ، وقد نقله عن قوم مجهولين ، ولم أقف على تصريح بذلك إلا عند بعض العلماء المعاصرين ، فلا يصح عزوه لجمهور أهل العلم والله أعلم .
وأما عن بُعد هذا القول عن الأدلة ، وعن قواعد أهل العلم وأصولهم فذلك ظاهر ، وكل ما تقدم في بيانه .
حد الأخذ وضابطه
لقد سبق بيان حكم الأخذ ودليله ، وتم التعرض من خلاله للحد الراجح في الأخذ ، إلا أنه لم يتم الوقوف عند هذه النقطة بوضوح , فسأذكر هنا ما جاء عن أهل العلم فيها ، حتى تتضح الصورة أكثر .
يقول الحافظ في الفتح :
" حكى الطبري اختلافا فيما يؤخذ من اللحية ، هل له حد أم لا ؟ ... "
ثم ذكر ثلاثة أقوال ، يأتي ذكرها إن شاء الله ، وعبارته عند العيني في العمدة وفيها :(1/68)
" ... اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها ، على اختلاف من السلف في قدر ذلك وحده " ا.هـ
فهنا الإمام الطبري نقل الاختلاف , و حاصله ينحصر في صورتين :
الأولى : الحد بالقبضة .
وهذه الصورة قد اجتمعت فيها أمور لا توجد في غيرها صيرتها راجحة ، وهي :
1- أنها تمثل الحد بأمر محسوس منضبط بخلاف الثانية .
2- أنه الحدّ الذي جاء عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما رواة حديث الإعفاء .
3- أن العمل عليه ينفي مظنة الخروج عن الإعفاء المأمور به .
4- أنه يضمن لصاحبه عدم الوقوع في القص الممنوع ، الذي كان عليه أهل الكتاب ، باعتبار أن هذا الحد ورد عمن شاهد القص الذي كان عليه أهل الكتاب .
5- أنه أيضا يضمن عدم الوقوع في المحاذير التي أشار إليها أهل العلم ، من الوقوع في المثلة ومشابهة أفعال المخنثين ، والأخذ الفاحش ، ونحوها من الأمور التي حذر منها أهل العلم .
6- أنه أنسب حد لكثير من التقييدات الغير منضبطة ، والواردة عن جماعة من أهل العلم في المسألة ممن لم ينصوا على هذا الحد بعينه ، كالقول بأخذ القليل ، أو الأخذ من طولها ، أو من الأطراف ، أو أخذ ما تطاير ونحوها ، فالقبضة تتفق وتتناسب مع هذه القيودات أيضا .
7- أنه الحد الذي عليه أكثر أهل العلم ، في مقالاتهم ، وفي عَمَل مَن عمِل به منهم .
فعن المزني أنه وصف الشافعي فقال :
" ما رأيت لحية أحسن من لحيته ، كان ربما قبض عليها فلا تفضل عن قبضته "
قال النووي في المجموع (1/ 358) :
" قال أحمد بن حنبل : لا بأس بحلق ما تحت حلقه من لحيته ، ولا بقص ما زاد منها على قبضة يده " ا.هـ
قال ابن هانئ :
"سألت أبا عبد الله عن الرجل يأخذ من عارضيه ؟
قال : يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة " ا.هـ
وقال الخلال :
" أخبرنا حرب قال : سألت أحمد عن الأخذ من اللحية ؟ قال : إن ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة ، وكأنه ذهب إليه " ا.هـ(1/69)
قال الحليمي كما في شعب الإيمان للبيهقي :
" فقد يحتمل أن يكون لعفو اللحى حد ، وهو ما جاء عن الصحابة في ذلك ، فروي عن
ابن عمر أنه كان يقبض على لحيته فما فضل عن كفه أمر بأخذه " ا.هـ
وقال القاضي عياض :
" ومنهم من حدّد ، فما زاد على القبضة فيزال " ا.هـ
وفي شرح العمدة لشيخ الإسلام :
" فلو أخذ ما زاد على القبضة لم يكره ..." ا.هـ
وقال الأبي في شرحه على مسلم (2/ 66) :
" وتحديد ذلك بما زاد عن القبضة كما كان ابن عمر يفعل " ا.هـ
وقال صاحب الدر المختار (2 /417) :
" لا يكره دهن شارب ... أو تطويل لحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة ... وأما الأخذ منها وهي دون ذلك ،كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد " ا.هـ
وفي النهاية شرح الهداية :
" واللحية عند طولها بقدر القبضة " ا.هـ
وفي تحفة الأحوذي نقلا عن الدراية :
" إن المسنون في اللحية أن تكون قدر القبضة " ا.هـ
وقال ملا علي القاري :
" استحباب الأخذ من اللحية طولا وعرضا , ولكنه مقيد بما زاد على القبضة "
ثم قال :
" وأقول ينبغي أن يدرج في أخدها لتصير مقدار قبضة ، على ما هو السنة والاعتدال المتعارف " ا.هـ
كل هذه الأمور السبعة التي سبقت توجب اختيار القبضة كحدّ أدنى للأخذ ، بل أي أمر
منها يوجب ذلك ، فكيف بها مجتمعة .
وإذا ما قارنا القبضة كحد ، ببقية ما ورد عن بعض أهل العلم مما جُعل حدا ، نجد أنها انفردت عن بقية الحدود بكل الموجبات السبعة السابقة ، فما من حد وتوفر فيه أمر من تلك الأمور .
بل جميعها لا يملك المواصفات الحقيقية للحد ، من صلاحيته كضابط يعول عليه من الناحية العملية في التمييز .
والذي جاء عن أهل العلم في هذا نوعان :
أ ـ الحد بمكان الأخذ أو قدره .
ب ـ الحد ببيان القدر الممنوع بلوغه .
أما الأول فتنوعت فيه الأقوال والآراء ، ومنها :
1ـ تقييده بالعرف .
قال الإمام الطبري كما في عمدة القاري (22/47) :(1/70)
" وقال آخرون : يأخذ من طولها وعرضها ... ولم يحدوا في ذلك حدا ، غير أن معنى ذلك عندي ما لم يخرج من عرف الناس "(1)
......................................
(1)وكلام الطبري ظاهر في أنه في تحديد القدر المأخوذ من اللحية .
وقوله : " ما لم يخرج ..." بيّن وصريح في أنه يرى أن الأخذ له حد لا يجوز تجاوزه ، ولا الخروج عنه ، وبالتالي فهو لا يرى جواز أخذها كلها ولا حلقها إذا اقتضى العرف ذلك ، فهو يريد عرف من كان ملتزما للإعفاء ويأخذ منها بقدر ، والدليل قوله نفسه كما
=
3 ـ تقديره بالقليل :
قال عطاء بن أبي رباح كما نقل الطبري فيما نقله العيني :
" لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها وعرضها إذا كثرت " .
وقال الطيبي في شرح المشكاة :
" والأخذ من الأطراف قليلا لا يكون من القص في شيء " .
3- بأخذ ما تطاير وشذ :
كما هو قول مالك وتقدم ، وإليه ذهب القرطبي في المفهم
4- بأخذ أطرافها : وتقدم عن الطيبي
5- بالأخذ من طولها بما لا يخرج عن الطول .
كما هو مفهوم أثر الحسن وابن سيرين .
...................................................
= في عمدة القاري (22/ 46) حيث قال أي الطبري :
" فإن قلت ما وجه قوله : " اعفوا اللحى " . قيل : قد ثبتت الحجة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خصوص هذا الخبر ، وأن اللحية محظور إعفاؤها وواجب قصها على اختلاف من السلف " ا.هـ
ثم ذكر اختلافهم في الحد ، ورجح ما سبق نقله , فقوله : " على خصوص هذا الخبر " ظاهر في أن الإعفاء مراد عنده أصلا ، وإنما له حد ، ولهذا نقل عنه الحافظ في الفتح ترجيحه لقول عطاء في الأخذ منها ما لم يفحش الأخذ ، فهو يمنع من الأخذ الفاحش ، وأما ما بناه الجديع في كتابه ( اللحية ) ص (304) فهو غير مراد للطبري ، لأن الجديع حمله على أن الإعفاء من أصله خاضع للعرف ، بينما كلام الطبري ظاهر في أنه عن حد الأخذ مع بقاء أصل الإعفاء .(1/71)
الثاني : الحد ببيان القدر الممنوع بلوغه .
وقد تنوعت فيه أقوال أهل العلم أيضا ومنها :
1ـ ألا يبلغ درجة الفحش .
وحكاه الطبري عن جماعة فقال :
" وقال آخرون : يأخذ من طولها وعرضها ما لم بفحش "
ونقله عن الحسن أيضا .
2ـ ألا يدخل في قص الأعاجم والتشبه بأهل الإشراك .
كما روي عن النخعي في قوله : " لا بأس أن يأخذ الرجل من لحيته ، ما لم يتشبه بأهل الإشراك " .
قال الخطابي في معالم السنن (1/ 42) :
" وأما إعفاء اللحى فهو إرسالها وتوفيرها ،كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم "
وقال السندي في حاشيته على النسائي :
" المنهي قصها (أي اللحية ) كصنع الأعاجم " ا.هـ
3- ألا يبلغ حد الشهرة .
كما هو قول القاضي عياض في شرحه لمسلم :
" ويكره الشهرة في تعظيمها وتحليتها كما تكره في قصها وجزها " ا.هـ
4- ألا يبلغ درجة القص المنهي عنه .
قال الزرقاني في شرحه ، عن الأخذ :
" ففعل ذلك مندوب ما لم ينته إلى تقصيص اللحية وجعلها طاقات فيكره "
وقال الغزالي :
" والأمر في هذا ( أي الأخذ ) قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب "
5- ألا يحصل به مثلة .
كما هو قول جماعة من أهل العلم وتقدم .
6- ألا يشابه أخذ المخنثين .
كما في حاشية ابن عابدين من قوله :
" ... لا بأس بأخذ أطراف اللحية إذا طالت ... ما لم يشبه فعل المخنثين "
وأما ما جاء في الفواكه الدواني من قوله :
" والمعروف لا حد للمأخوذ , وينبغي الاقتصار على ما تحسن به الهيئة "
فهو أبعد الأقوال عن الصواب ، لعدم استناده على شيء من الأدلة و لا متعلقاتها .
والحد الذي يجمع هذه الحدود كلها , ويحقق غاياتها , ويفي بمقصودها , ولا يتعارض مع أي منها , بل ينفرد عن جميعها بما لا يوجد في جميعها ، ويُبعِد عن الشبهات التي لا تنفك عن(1/72)
كثير منها , ويصلح لما لا يصلح له أكثرها , ويحظى بالتأييد الذي لم تحظ به بقيتها ، من قبل أعلم الناس بالمسألة وأسبقهم إلى العلم بها , وهو أضبط منها كلها , بل غيره لا يضبط شيئا مما يضبطه ، وبه تنتظم الأقوال وتجتمع وتأتلف ، هو حد القبضة ، ما جاوزها جاز ، وما لم يجاوز لم يجز ، ولا يجاوز القول به إلا من جاوز الحق وأدلته ، والنظر السليم وطرقه
وقد سبق النقل عن جماعة من الأحناف كما في الدر المختار وحاشية ابن عابدين ، أن الأخذ ما دون القبضة لم يبحه أحد من أهل العلم .
وفي القدر المتقدم كفاية ، وقد سبق في فصل الشبهات ما يوضح بعض جوانب المسألة والله أعلم .
الأحاديث والآثار الضعيفة الواردة في الباب
أ ـ الأحاديث المرفوعة :
1- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" كان يأخذ من عرض لحيته وطولها بالسوية "
أخرجه الترمذي في كتاب الأدب , باب ما جاء في الأخذ (2762) وأبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - (306) وابن عدي في الكامل (5/1689) ومن طريقه البيهقي في الشعب (5/ 220-221رقم 6439)
كلهم من طريق عمر بن هارون ثنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب ... به.
وقال الترمذي : " هذا حديث غريب "
أي ضعيف ، وهو كذلك ، بل هو ضعيف جدا ، لأن فيه عمر بن هارون قال ابن سعد :
" تركوا حديثه "
وكذبه ابن معين وغيره ، ورماه بالترك النسائي ، وصالح بن محمد ، وأبو علي الحافظ. فحديثه لا يصلح حتى للاعتبار ، إلا أن ابن عدي قال بعد أن ساق متنه وإسناده :
" وقد روى هذا عن أسامة غير عمر بن هارون "
ولم أقف على هذا الغير فالله أعلم .
والحديث أورده العلامة الألباني – حفظه الله ورعاه – (1) في سلسلة الأحاديث الضعيفة
............................................
(1) كان هذا في حياته ، واليوم نقول : رحمه الله رحمة واسعة .
رقم ( 288 )
2 ـ عن جابر بن عبد الله قال :(1/73)
رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجلا مجفل الرأس واللحية فقال :
" على ما يشوه أحدكم نفسه ... "
قال وأشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى لحيته ورأسه يقول :
" خد من لحيتك ورأسك "
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/ 221- رقم 6440)
من طريق أبي مالك النخعي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله به.
وقال البيهقي :
" أبو مالك عبد الملك بن الحسين النخعي غير قوي " ا.هـ
وفي التقريب : " متروك "
ثم قال البيهقي :
" وقد روينا عن حسان بن عطية عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشعث والوسخ ،لم يذكر الأخذ من اللحية والرأس والله أعلم " ا.هـ
ورواية حسان عند أبي داود (462) والنسائي (8/ 183) وابن حبان (5483) والحاكم (4/ 186) وأحمد (3/ 357) كلهم من طريق الأوزاعي عن حسان به دون ذكر الأخذ وحسان " ثقة فقيه عابد "
فما تفرد به أبو مالك يعد منكرا ، والحديث أودعه الشيخ في الضعيفة (2355)
3ـ عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" لا يأخذ أحدكم من طول لحيته ولكن من الصدغين "
أخرجه الخطيب في تاريخه (5/ 187) وابن عدي في الكامل (5/ 2017-2018)
من طريق أبي اليمان حدثنا عفير بن معدان عن عطاء عن أبي سعيد به.
وفيه عفير ، قال أحمد : " ضعيف منكر الحديث "
وقال ابن معين : " لا شيء " وقال : " ليس بثقة "
وقال دحيم : " ليس بشيء "
وقال أبو حاتم بعد أن ذكر أنه أكثر من رواية ما لا أصل له قال :
" لا يشتغل بروايته "
وقال أبو زرعة : " منكر الحديث جدا "
وقال البخاري : " منكر الحديث "
فهو متروك , وحديثه ضعيف جدا
ب ـ الآثار الموقوفة والمقطوعة :
1ـ عمر بن الخطاب :
روي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا قد ترك لحيته حتى كبرت ، فأخذ يجذبها ثم قال : ائتوني بحلمتين (كذا ) ، ثم أمر رجلا فجز ما تحت يده ، ثم قال :(1/74)
" اذهب فأصلح شعرك أو أفسده , يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع " كذا نقل الطبري فيما نقله عنه العيني في عمدة القاري (22/ 46-47)
ونقل ابن حجر عنه في فتح الباري (10/ 350) فقال :
" ثم ساق بسنده إلى ابن عمر أنه فعل ذلك , وإلى عمر أنه فعل ذلك برجل ، ومن
طريق أبي هريرة أنه فعله " ا.هـ
ولم أقف عليه مسندا ، فالله أعلم
2ـ علي بن أبي طالب :
عن سماك بن زيد قال :
" كان علي يأخذ من لحيته مما يلي وجهه "
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8/ 562)
من طريق زمعة بن صالح عن ابن طاوس عن سماك به.
وفيه زمعة " ضعيف "
4ـ طاوس :
عن طاوس أنه كان يأخذ من لحيته ولا يوجبه .
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 563)
من طريق أبي خالد عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه به .
وفيه ابن جريج عنعنه وهو مدلس .
والأخذ ثابت عن طاوس كما تقدم ، إلا أن ذكر الإيجاب عنه لا يصح
5- الحسن البصري :
عن الحسن قال :
"كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها "
أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 563)
من طريق عائذ بن حبيب عن أشعث ـ ابن سوار ـ عن الحسن به
وفيه أشعت " ضعيف "
وله شاهد عن إبراهيم النخعي تقدم ، ولكن ذكر القبضة منه لا يصح
ولقد اقتصرت في هذا الفصل على ما كنت كتبته قديما ، ولم أجد في نفسي نشاطا لإضافة شيء كما هو الشأن في الفصول السابقة ، مع أن عدة روايات ضعيفة قد مرت بي ، فالمعذرة أيها القارئ الكريم .
وهذا ما اجتمع لدي في هذا البحث من طرق وروايات ، وهذا ما حضرني من بيانها في هذه الوريقات ، وأسأل الله تعالى التوفيق والتسديد في الباقيات .
وسبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .
كتبه : محمد بن خليفة الرباح
فهرس المواضيع
المقدمة 5
حكم إعفاء اللحية 7
طرق حديث ابن عمر 7
تفرد عمر بن زيد بزيادة الأمر بالمخالفة 10
حال عمر بن زيد 12
قرائن الوجوب من خلال الأمر بالإعفاء 15(1/75)
اتفاقات أهل العلم المتقدمين على تحريم حلق اللحية 22
معنى الإعفاء المأمور به . 25
حد اللحية 27
حكم الأخذ منها 31
الأخذ في حج أو عمرة 32
تفسير آية الحج : ( ثم ليقضوا تفثهم ) 32
أثر ابن عباس 32
الرد على من أعل الأثر 34
أثر مجاهد 36
رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد 36
تفسير مجاهد
أثر محمد بن كعب القرظي 39
أثر ابن جريج 40
خلاصة معنى التفث 41
من قرائن الوصل في الأسانيد الظاهرة الإرسال 43
لا خلاف بين المفسرين في معنى التفث 45
تفسير الصحابي 46
عمل الصحابة والتابعين على الأخذ في المناسك وموافقتهم قول أهل التفسير 49
ما جاء عن ابن عمر 49
ما جاء عن عامة الصحابة 54
تصحيح أثر جابر 55
رواية قتادة عن جابر 55
ما حكاه عطاء بن أبي رباح 58
قول التابعي كانوا 58
ما جاء عن جماعة من السلف من التابعين 63
ذكر من قال بذلك من أهل العلم 65
عن إجماع الصحابة 67
موقف المحققين من العلماء مما جاء عن بعض الصحابة ولم يثبت عن أحد خلافه 69
شبهات وأجوبة 77
قاعدة بين قاعدتين 78
لا تعارض بين مطلق الأخذ ومطلق الإعفاء 80
تخصيص النصوص بعمل الصحابة 82
شبهة وجوابها 87
الأخذ من اللحية في غير النسك 93
أثر أبي هريرة 94
مراد أبي حاتم بقوله : شيخ 95
فائدة عن شيوخ شعبة 95
آثار التابعين 97
حاصل أقوال أهل العلم في مسألة الأخذ عموما 100
القول بجواز الأخذ واستحباب الإعفاء 101
القول باستحباب الأخذ 102
القول بوجوب الأخذ 103
قاعدة عظيمة في العمل بالنصوص العامة 104
تقرير الإمام الشاطبي لها 104
الإمام الألباني مِن أعظم مَن ناشد بها ودعا إليها 105
تنزيل القاعدة على المسألة 105
إثبات أن عمل السلف لم يجر على الأخذ كلما جاوزت اللحية القبضة 105
شروط العمل بالقاعدة 107
القول بالمنع من الأخذ في نسك أو غيره 108
حد الأخذ وضابطه 111
الحد بالقبضة 111
الحد بغيرها 114
الأحاديث والآثار الضعيفة الواردة في الباب 119
الخاتمة 123
الفهرس 125(1/76)