القول الفصل
في
حكم الدم
إعداد / أحمد رجب آل حسان
مقدمة
والحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه دعا عباده إلى دار السلام فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلا وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنه وفضلا فهذا عدله وحكمته وهو العزيز الحكيم وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبده وابن عبده وأبن أمته ومن لا غنى به طرفة عين فضله ورحمته ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته واشهد أن محمد عبده ورسوله وأمينة على وحيه وخيرته من خلقه أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين بعثه للأيمان مناديا وإلى دارا لسلام داعيا وللخليقة هاديا ولكتابه تاليا وفي مرضاته ساعيا وبالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيزه وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى الجنة جميع الطرق فلم يفتحها لأحد إلا من طريقه فلو أتوا من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتح لهم حتى يكونوا خلفه من الداخلين وعلى منهاجه وطريقته من السالكين فسبحان من شرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره فدعا إلى الله وإلى جنته سرا وجهارا وأذن بذلك بين اظهر الأمة ليلا ونهارا إلى أن طلع فجر الإسلام وأشرقت شمس الإيمان وعلت كلمة الرحمن وبطلت دعوة الشيطان وأضاءت بنور رسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد تفرقها وشتاتها فأشرق وجه الدهر حسنا وأصبح الظلام ضياء واهتدى كل حيران فلما كمل الله به دينه وأتم به نعمته ونشر به على الخلائق رحمته فبلغ رسالات ربه ونصح عباده وجاهد في الله حق جهاده خيره بين المقام(1/1)
في الدنيا وبين لقائه والقدوم عليه فاختار لقاء ربه محبة له وشوقا إليه فاستأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأرفع الأسنى وقد ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء فسلك أصحابه وإتباعه على أثره إلى جنات النعيم وعدل الراغبون عن هديه إلى طرق الجحيم ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم فصلى الله وملائكته وأنبياؤه
ورسله وعباده المؤمنون عليه كما وحد الله وعبده وعرفنا به ودعا إليه
أما بعد
فهذا بحث في مسألة فقهية كان جماهير أهل العلم جميعا فيها على قول واحد إلا نفر يسير منهم خالف في ذلك ألا وهي القول بنجاسة الدم فأن الجمهور على القول بنجاسته وخالف في ذلك بعض أهل العلم فأثار ذلك البلبلةعند الشباب وخاصة والقائل بطهارة الدم في هذا العصر علم كبير من أعلام الأمة فأحببت أن أبصر أخواني فعرضت أدلة الفريقين في شكل موجز ودليل كل واحد من أهل العلم راجيا من ذلك نشر العلم الصحيح و أن يعرف طلبة العلم كل قول بدليله وما له وما عليه من الرد والقبول دون التعصب المذموم لقول دون قول
والله من وراء القصد وصلى الله على نبينا محمد وسلم .
... كتبه
... أبو همام
أحمد رجب آل حسان
اختلف العلماء في حكم الدم هل هو نجس أم طاهر علي ثلاث أقوال لأهل العلم
القول الأول : نجاسة الدم مع التفريق بين القليل والكثير واستثناء دم السمك واستدلوا بقوله تعالي
1 . ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل به لغير الله ) وقوله تعالي { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقالوا : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوى، ومعفو عما تعم به البلوى(1/2)
والذي تعم به البلوى هو الدم في اللحم وعروقه، ويسيره في البدن والثوب يصلى فيه. وإنما قلنا ذلك لان الله تعالى قال: " حرمت عليكم الميتة والدم " ، وقال في موضع آخر " قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " فحرم المسفوح من الدم . وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره، لان التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة، والإصر والمشقة في الدين موضوع . وهذا أصل في الشرع، أن كلما حرجت الامة في أداء العبادة فيه وثقل عليها سقطت العبادة عنها فيه، ألا ترى أن المضطر يأكل الميتة، وأن المريض يفطر ويتيمم في نحو ذلك .
قالوا : ذكر الله سبحانه وتعالى الدم هاهنا مطلقا، وقيده في الأنعام بقوله " مسفوحا " وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيد إجماعا, فالدم هنا يراد به المسفوح، لان ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وكذلك الكبد الطحال مجمع عليه . والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها وتذكيتها ويكون كذلك من الآدمي، فهو الدم الذي يراق في حال الحياة ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يراق عند ذبح الشاة أو نحر البعير أنه نجس، وهذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع، حيث نقل إجماع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية نجس، وذلك لظاهر قوله تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145] فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق، فوصف كل دم مسفوح بكونه رجساً، والدم المراق في الحياة هو دم مسفوح؛ لأن الدم المسفوح هو الذي خرج عند الذكاة والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت البهيمة وماتت بالتذكية فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً .
وقالوا : اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به(1/3)
2 . بما روى عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت سألت امرأة رسول الله فقالت أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع فيه فقال رسول الله ( ( إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل فيه ) ) (1)
قالوا : وهذا الحديث أصل في غسل النجاسات من الثياب لأن الدم نجس إذا كان مسفوحا ومعنى المسفوح الجاري الكثير ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس وأن القليل من الدم الذي لا يكون جاريا مسفوحا متجاوز عنه وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها
وقد ذكر عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر قال أدركت فقهاءنا يقولون ما أذهبه الحك من الدم فلا يضر وأما أخرجه الفتل مما يخرج من الأنف فلا يضر وتنخم بن أبي أوفى دما في الصلاة
وقال مجاهد لم يكن أبو هريرة يرى بالقطرة والقطرتين من الدم بأسا في الصلاة
وعصر بن عمر بثرة فخرج منها شيء من دم أو قيح فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ
وذكر بن المبارك عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن النبي- عليه السلام - كان يقتل القملة في الصلاة ومعلوم أن في قتل القملة دما يسيرا
وقال النووي : والدلائل علي نجاسة الدم متظاهرة ولا أعلم فيه خلافا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين انه قال هو طاهر ولكن المتكلمين لا يعتد بهم في الإجماع والخلاف علي المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم لاسيما في المسائل الفقهيات
3 . لقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم ) وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: (إنما ذلك عرق ) قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان خارج من عرق، ولذلك قالوا: إن الدم نجس، وظاهر القرآن يقويه في قوله تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ .
__________
(1) البخاري ( 1 / 325 ) و مسلم ( 1 / 166 )(1/4)
وقالوا : فإن العلماء اتفقوا أن من أعيان النجاسة أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بملئي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا، أعني كثيرا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك خلاف .
4 . أجابوا عمت استدل به الأخرون من حديث عباد بن بشر لما جاءه السهم وهو قائم يحرس، فنزعه فنزف، فقالوا: لو كان نجساً لقطع صلاته، وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه: (اغسلي عنك الدم ) وجوابه كما نبه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي في النزيف، والنزيف سواءً كان بسهم أو كان باستحاضة -كالمرأة المستحاضة- فإنه متفق على أنه يعتبر رخصة، يعني: يصلي الإنسان ولو جرى معه الدم، كما صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب؛ لأنه لا يستطيع الإنسان أن يوقف النزف؛ وإنما يستقيم الاستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها قليلاً بمعنى: أنه يرقأ، فلو كان الدم يرقأ لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص ولكنه في مسائل مستثناة، ولذلك لا يعتبر حجة على الجمهور؛ لأن الجمهور يقولون: من نزف جرحه أو رعف أنفه أو المرأة المستحاضة غلبها الدم فهذه تصلي على حالتها ولو خرج منها الدم، وكذلك الذي رعف لو غلبه الرعاف فإنه يصلي على حالته ولو كان على ثوبه ولو كان على بدنه؛ لأن التكليف شرطه الإمكان فليس هذا دليلاً في موضع النزاع. وكذلك قصة عمر لأنها في النزف .(1/5)
5 . عدم التفريق بين دم الحيض وغيره من الدماء فقالوا : وقد قال عليه الصلاة والسلام: (اغسلي عنك الدم ) قالوا: إن هذا دم حيض، ولا شك أن صورة السؤال تقتضي أنه دم حيض، ولا فرق بين دم الحيض وغيره. قالوا: لا. هناك فرق فإن دم الحيض يخرج من الموضع ولذلك حكم بنجاسته، فنقول: الموضع لا تأثير له، ألستم تقولون: إن مني المرأة طاهر وهو خارج من الموضع؟! فلو كان خروجه من الموضع -أي: دم الحيض- هو المقتضي لنجاسته لكان المني الخارج من الموضع نجساً، ولذلك فخروجه من الموضع لا يقتضي نجاسته بدليل أن الولد يخرج من الموضع وهو ليس بنجس، والولد أصله علقة ودم ومع هذا لم نحكم بنجاسته، فدل على أنه نجس لذات الدم، وانتفى في الولد لاستحالته؛ فإنه بعد العلقة كونه مخلوقاً، فلم يكن نجساً من هذا الوجه. وبناءً على ذلك أمر عليه الصلاة والسلام المرأة الحائض أن تغسل الدم، ويُشعر هذا بأن العلة معلقة على كونه دماً لا كونه دم حيض، وإذا ثبت كونه دماً استوى أن يكون دم حيض أو يكون من غيره؛ ويقوى هذا بحديث المستحاضة فإنهم يقولون: إن المستحاضة تغسل الدم أيضاً، فأمروها بغسل الدم، وقالوا: نحكم بنجاسته لورود الشرع به وهو مستثنى، فنقول: إن دم المستحاضة قيل فيه كما في الحديث الصحيح: (إنما ذلك عرق ) وجاء في الحديث الآخر: (إنه العاذل ) والعاذر، والعاند وكلها أسماء لهذا العرق كما يقول بعض العلماء، فما دام أنه قال: (إنما ذلك عرق ) أي دم خرج من عرق فسائر الدماء التي تخرج من البدن إنما هي من عرق ولذلك فإن الدم نجس، ، وبناءً عليه فإنه يفرق بين كثيره وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف وهو حديث الدرهم البغلي، والصحيح: أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء هذا القدر؛ وإنما استثني بالإجماع. مقدار الدم الذي يعفى عنه(1/6)
إلى قدر الدرهم، ، وبناءً على ذلك يرخص للإنسان إذا كان الدم قدر الدرهم فما دون أن يصلي .
واختلف أصحاب هذا القول في بعض الجزئيات بعد أن اتفقوا على القول بعموم نجاسة الدم فقال ابن رشد (اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس، واختلفوا في دم السمك وكذلك اختلفوا في الدم القليل من دم الحيوان غير البحري، فقال قوم: دم السمك طاهر، وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي وقال قوم: هو نجس على أصل الدماء، وهو قول مالك في المدونة وكذلك قال قوم : إن قليل الدماء معفو عنه.
وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد، والأول عليه الجمهور.
والسبب في اختلافهم: في دم السمك هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم، جعل دمه كذلك، ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسا على الميتة.
وفي ذلك أثر ضعيف، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أحلت لنا ميتتان ودمان: الجراد، والحوت، والكبد والطحال .(1)
وأما اختلافهم في كثير الدم وقليله، فسببه اختلافهم في القضاء بالمقيد على المطلق، أو بالمطلق على المقيد، وذلك أنه ورد تحريم الدم مطلقا في قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * وورد مقيدا في قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي محرما) * إلى قوله: * (أو دما مسفوحا أو لحم خنزير) *.فمن قضى بالمقيد على المطلق، وهم الجمهور قال: المسفوح هو النجس المحرم فقط، ومن قضى بالمطلق على المقيد، لان فيه زيادة قال: المسفوح وهو الكثير وغير المسفوح، وهو القليل كل ذلك حرام، وأيد هذا بأن كل ما هو نجس لعينه، فلا يتبعض
القول الثاني : أن جميع الدماء طاهرة إلا دم الحيض واستدلوا
__________
(1) قال الحافظ في " البلوغ " 1 / 5 : فيه ضعف وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " 3 / 111(1/7)
1 . الإباحة الأصلية وهي البقاء على الأصل وقالوا لم يصح في كون كل الدم نجسا شيء من السنة وأما الاستدلال بما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه [ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ] فأن الآية مسوقة للتحريم كما هو مصرح به فيها والحكم بالرجسية هو باعتبار التحريم والحرام رجس ولا يكون بمعنى النجس إلا بدليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة إنها ركس فإن الركس والرجس معناهما واحد ومن زعم بأن الرجس بمعنى النجس لغة متمسكا بما في الصحاح وغيرها من كتب اللغة أن الرجس القذر فقد استدل بما هو أعم من المتنازع فيه فإن القذر يشمل كل ما يستقذر والحرام مستقذر شرعا والأعيان الطاهرة إذا كانت منتنة أو متغيرة مستقذرة طبعا وعلى كل حال فالآية لم تسق لبيان الطهارة والنجاسة بل لبيان ما يحل ويحرم [ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما ]
وإذا تقرر لك هذا وعلمت به أن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ) فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله وبقرصه وبحته وبحكه وتشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له اثر فأفاد ذلك أنه نجس فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجسا ولا يصح قياس غيره عليه لأنه من قياس المخفف على المغلظ . وهذا فيه جواب عما استدل به الأولون(1/8)
2 . وبما أخرجه أبو دواد عن جابر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل النبي صلى الله عليه وسلم منزلا فقال من رجل يكلؤنا فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال كونا بفم الشعب قال فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصل وأتى الرجل فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم فوضعه فيه فنزعه حتى رماه بثلاثة أسهم ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها . (1)
3 . بما روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها فأيقظ عمر لصلاة الصبح فقال عمر نعم ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فصلى عمر وجرحه يثعب دما . (2)
ومعنى يثعب ينفجر وانثعب انفجر وثعب الماء فجره
4. بما روى عن محمد بن سيرين عن يحيى الجزار قال : صلى ابن مسعود و على بطنه فرث و دم من جزور نحرها ، و لم يتوضأ . أخرجه عبد الرزاق في " الأمالي " ( 2 / 51 / 1 ) و ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 1 / 151 / 1 ) و الطبراني في " المعجم الكبير " ( 3 / 28 / 2 ) و إسناده صحيح أخرجوه من طرق عن ابن سيرين و يحيى ابن الجزار قال ابن أبي حاتم ( 4 / 2 / 133 ) " و قال أبي و أبو زرعة : ثقة " .
__________
(1) قال في نصب الراية وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " وَصَحَّحَهُ
(2) صححه الألباني الأرواء رقم 209(1/9)
5 . و أجابوا عن حديث أسماء إنما دل على نجاسة دم الحيض ، و ما سوى ذلك فهو على الأصل المتفق عليه بين المتنازعين و هو الطهارة فلا يخرج منه إلا بنص تقوم به الحجة . و أن القائلين بنجاسة الدماء ليس عندهم حجة إلا أنه محرم بنص القرآن فاستلزموا من التحريم التنجيس كما فعلوا تماما في الخمر و لا يخفى أنه لا يلزم من التحريم التنجيس بخلاف العكس كما بينه الصنعاني في " سبل السلام "
ثم الشوكاني و غيرهما ، و لذلك قال المحقق صديق حسن خان في " الروضة الندية " ( 1 / 18 ) بعد أن ذكر حديث أسماء المتقدم و حديث أم قيس الثالث : " فالأمر بغسل دم الحيض و حكه بضلع يفيد ثبوت نجاسته ، و إن اختلف وجه تطهيره ، فذلك لا يخرجه عن كونه نجسا و أما سائر الدماء فالأدلة مختلفة ، مضطربة و البراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية ، و لو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى ( فإنه رجس ) إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة و الدم المسفوح و لحم الخنزير ، لكان ذلك مفيدا لنجاسة الدم المسفوح و الميتة ، و لكن لم يرد ما يفيد ذلك ، بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب ، و الظاهر الرجوع إلى الأقرب و هو لحم الخنزير ، لإفراد الضمير و لهذا جزمنا هنا بنجاسة لحم الخنزير دون الدم الذي ليس بدم حيض . و من رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة " .
القول الثالث : التفصيل والتفريق بين الدماء
فقالوا : فالدماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نجس لا يُعْفَى عن شيء منه، وهو الدم الخارج من السَّبيلَين، ودم محرَّم الأكل إذا كان مما له نَفْسٌ سائلة كدم الفأرة والحمار، ودم الميْتة من حيوان لا يحلُّ إلا بالذَّكاة .(1/10)
الثاني: نجس يُعْفَى عن يسيره، وهو دم الآدمي وكلُّ ما ميتته نجسة، ويُستثنى منه دَمُ الشَّهيد عليه، والمسك ووعاؤه، وما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذَّكاة الشَّرعيَّة؛ لأنَّه طاهر.
الثالث: طاهر، وهو أنواع:
1ـ دم السمك، لأن ميْتته طاهرة، وأصل تحريم الميتة من أجل احتقان الدَّمِ فيها، ولهذا إذا أُنهِرَ الدَّمُ بالذَّبْح صارت حلالاً.
2ـ دم ما لا يسيل دمه؛ كدم البعوضة، والبقِّ، والذُّباب، ونحوها، فلو تلوَّث الثَّوب بشيء من ذلك فهو طاهر، لا يجب غَسْلُه .
وربما يُستدَلُّ على ذلك ـ بأنَّ ميْتة هذا النوع من الحشَرات طاهرة ـ بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إذا وَقَع الذُّبابُ في شرابِ أحدكم، فلْيَغْمِسْهُ ثم لينزِعْهُ، فإن في أحد جناحَيه داء، وفي الآخر شفاء" .
ويلزم من غَمْسِه الموت إذا كان الشَّراب حارًّا، أو دُهنًا، ولو كانت ميْتته نجسة لتنجَّس بذلك الشَّراب، ولاسيَّما إذا كان الإناء صغيراً . 3ـ الدَّمُ الذي يبقى في المذكَّاة بعد تذكِيَتِها، كالدَّمِ الذي يكون في العُروق والقلب، والطِّحال، والكَبِد، فهذا طاهر سواء كان قليلاً، أم كثيراً.
4ـ دَمُ الشَّهيد عليه طاهر، ولهذا لم يأمُر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بغَسْل الشُّهداء من دمائهم، إذ لو كان نجساً لأمر النبيُّ بغسله
وهل هو طاهر لأنَّه دم شهيد، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، أم أنَّه طاهر لأنه دم آدمي ؟ فعلى رأي الجمهور: لو انفصل عن الشَّهيد لكان نجساً. وعلى الرأي الثَّاني: هو طاهر؛ لأنَّه دم آدمي.
والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السَّبيلَين قول قويٌّ، والدَّليل على ذلك ما يلي :(1/11)
1ـ أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا نعلم أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَر بغسل الدَّمِ إلا دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح، ورعاف، وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجساً لبيَّنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.
2ـ أنَّ المسلمين مازالوا يُصلُّون في جراحاتهم في القتال، وقد يسيل منهم الدَّمُ الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الأمرُ بغسله، ولم يَرِدْ أنهم كانوا يتحرَّزون عنه تحرُّزاً شديداً؛ بحيث يحاولون التخلِّي عن ثيابهم التي أصابها الدَّم متى وجدوا غيرها.
ولا يُقال: إن الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان أكثرهم فقيراً، وقد لا يكون له من الثياب إلا ما كان عليه، ولاسيَّما أنهم في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثِّياب عليهم للضَّرورة.
فيُقال: لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إلى غسله متى وجدوا إلى ذلك سبيلاً بالوصول إلى الماء، أو البلد، وما أشبه ذلك.
3ـ أنَّ أجزاء الآدميِّ طاهرة، فلو قُطِعَت يده لكانت طاهرة مع أنَّها تحمل دماً؛ ورُبَّما يكون كثيراً، فإذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر رُكناً في بُنْيَة البَدَن طاهراً، فالدَّم الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.
4ـ أنَّ الآدمي ميْتته طاهرة، والسَّمك ميْتته طاهرة، وعُلّل ذلك بأن دم السَّمك طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إن دم الآدمي طاهر، لأن ميتته طاهرة. فإن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أنَّ الخارجَ من الإنسان من بولٍ وغائطٍ نجسٌ، فليكن الدَّم نجساً.
فيُجاب: بأن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدَّمِ؛ لأنَّ البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطِّباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدَّم عليه، إذ الدَّم يُعْفَى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعْفَى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدُهما بالآخر.(1/12)
فإن قيل: ألا يُقاس على دَمِ الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَمَرَ المرأة أن تَحُتَّه، ثم تَقرُصَه بالماء، ثم تَنْضِحَه ثم تُصلِّي فيه ؟
فالجواب: أن بينهما فرقاً :
أ ـ أن دم الحيض دم طبيعة وجِبِلَّة للنساء، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "إنَّ هذا شيءٌ كتبه اللهُ على بنات آدم" فَبَيَّنَ أنه مكتوب كتابة قَدريَّة كونيَّة، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الاستحاضة: "إنَّه دَمُ عِرْقٍ" ففرَّق بينهما.
ب ـ أنَّ الحيضَ دم غليظ منتنٌ له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصحُّ قياس الدَّم الخارج من غير السَبيلَين على الدَّم الخارج من السَّبيلَين، وهو دم الحيض والنِّفاس والاستحاضة.
فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قويٌّ جدا لأنَّ النَّص والقياس يدُلاّن عليه
والذين قالوا بالنَّجاسة مع العفو عن يسيره حكموا بحكمين:
أ ـ النَّجاسة.
ب ـ العفو عن اليسير.
وكُلٌّ من هذين الحُكْمَين يحتاج إلى دليل، فنقول أثبتوا أولاً نجاسة الدَّمِ، ثم أثبتوا أنَّ اليسير معفوٌّ عنه، لأنَّ الأصل أنَّ النَّجس لا يُعْفَى عن شيء منه، لكن من قال بالطَّهارة، لا يحتاج إلا إلى دليل واحد فقط، وهو طهارة الدَّم فإن قيل: إنَّ فاطمة ـ رضي الله عنها ـ كانت تغسل الدَّمَ عن النبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في غزوة أُحُد وهذا يدلُّ على النَّجاسة.
أُجيب من وجهين:
أحدهما: أنَّه مجرَّد فِعْل، والفعل المجرَّد لا يدلُّ على الوجوب.
الثاني: أنه يُحتَمَل أنَّه من أجل النَّظافة؛ لإزالة الدَّم عن الوجه، لأنَّ الإنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يبطل الاستدلال .
هذا ما تيسر جمعه وصلى الله على محمد و آله وصحبه(1/13)