الاختلافات الفقهية
أسبابها وآدابها
للشيخ/ محمد حسين
مقدمة :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله ، وبعد فقد دأب أعداء الإسلام في الماضي والحاضر علي هدم كيان الإسلام في نفوس أبنائه ، وكان من وسائلهم الدقيقة وحربهم الخفية أن سلكوا سبيل التشكيك في الفقه والفقهاء ، فسخّروا بعض الجهلة البسطاء ، فأثاروا المسائل الإختلافية علي أتباع المذاهب ليوقعوا فيما بينهم ، فيشغلوهم بها عن الأمور الهامة التي تحيط بهم من جهة ، وليفقدوا المسلمين الثقة بفقهائهم من جهة أخري ، حتى يتنصلون من أحكام الدين ويوقعونهم في شَرَك الأهواء والجدال بالرأي ، وقد حذّر قديما الإمام ابن تيميه رحمه الله من ذلك في فتوى له فقال : ( قد تنازع العلماء في ولد الزنا : هل يعتق بالملك ؟ علي قولين في مذهب أبي حنيفة وأحمد . وهذه المسألة لها بسط لا تسعه هذه الورقة ، ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكمها ، لا علي وجه القدح ذلك ضربا من الطعن في الأئمة ، وبمثل ذلك صار وزير التَّتَر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلي الخروج عن السنة والجماعة ويوقفهم في مذاهب أهل الإلحاد ) انتهي من الفتاوى الكبرى الجزء 32/137 .
والاختلاف في مسائل الفقه معتبر عند الأئمة بإجماع ، وبيان ذلك يأتي إن شاء الله تعالي وأكتفي بفتوى واحدة للإمام ابن تيمية ردًّا علي سؤال : ( رجل مالكي المذهب حصل له نكد بينه وبين والد زوجته فحضر أمام القاضي فقال الزوج لوالد الزوجة : إن أبرأتني ابنتك أوقعت عليها الطلاق . فقال والدها أنا أبرأتك فحضر الزوج والد الزوجة قدَّام بعض الفقهاء ، فأبرأها والدها بغير حضورها وبغير إذنها ، فهل يقع الطلاق أم لا ؟(1/1)
فأجاب : الحمد لله . أصل هذه المسألة فيه نزاع بين العلماء ، فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المنصوص المعروف عنهم : أنه ليس للأب أن يخالع علي شيء من مال ابنته ، سواء كانت محجورا عليها أم لم تكن ، لأن ذلك تبرّع بمالها فلا يملكه ، كما لا يملك إسقاط سائر ديونها . ومذهب مالك يجوز له أن يخالع عن ابنته الصغيرة بكرا كانت أو ثيَّبا ، لكونه يلي مالها . وروي عن مالك أن له أن يخالع عن ابنته البكر مطلقا ، لكونه يجبرها علي الكفاح . وروي عنه : يخالع عن ابنته مطلقا ، كما يجوز له أن يزوجها بدون مهر مثل المثل للمصلحة . وقد صرَّح بعض أصحاب الشافعي وجها في مذهبه أنه يجوز في حق البكر الصغيرة أن يخالعها بالإبراء من نصف مهرها إذا قلنا : إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، وخطَّأه بعضهم لأنه يملك الإبراء بعد الطلاق ، لأنه إذا ملك إسقاط حقها بعد الطلاق لغير فائدة فجواز ذلك لمنفعتها وهو يخلعها من الزوج أوْلي ، ولهذا يجوز عندهم كلهم أن يختلعها الزوج بشيء من ماله ، وكذلك لها أن تخالعه بمالها إذا ضمن ذلك الزوج ، فإذا جاز أن يختلعها ولم يبق عليها ضرر الإسقاط نصف صداقها . ومذهب مالك يخرّج علي أصول أحمد من وجوه : منها أن الأب له أن يطلق ويخلع امرأة ابنه الطفل في إحدى الروايتين لأحمد ، كما ذهب إليه طوائف من السلف . ومالك يجوّز الخلع دون الطلاق لأن في الخلع معاوضة . وأحمد يقول : له الحق في التطليق عليه لأنه قد يكون ذلك مصلحة له لتخليصه من حقوق المرأة وضررها ، وكذلك لا فرق بين إسقاط حقوقه وبين المال وغير المال .(1/2)
وأيضا فإنه يجوز في إحدى الروايتين لأحمد الحكم في الشقاق أن يخلع المرأة بشيء من مالها بدون إذنها ، ويطلق علي الزوج بدون إذنه كمذهب مالك وغيره ، كذلك يجوز للأب أن يزوج المرأة بدون مهر المثل ، وعنده في إحدى الروايتين أن الأب بيده عقدة النكاح وله أن يسقط نصف الصداق ، مذهبه أن للأب أن يمتلك لنفسه من مال ولده ما لا يضر بالولد ، حتى لو زوجها واشترط لنفسه بعض الصداق جاز له ذلك . وإذا كان له من التصرف في المال والتملك هذا التصرف لم يبق إلا طلبه لفرقتها وذلك يملكه بإجماع المسلمين ، ويجوز عنده للأب أن يعتق بعض رقبة المولي عليه للمصلحة . فعلي قول من يصحح الإبراء يقع والطلاق . وعلي قول من لا يجوًّز الإبراء إن ضمنه وقع الطلاق بلا نزاع ، وكان علي الأب للزوج مثل الصداق عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، والشافعي في القديم . وعنده في الجديد : إنما عليه مهر المثل ، وأما إن لم يضمنه إن علّق الطلاق بالإبراء فقال له : إن أبرأتني فهي طالق فالمنصوص عن أحمد أنه يقع الطلاق إذا اعتقد الزوج أنه تبرأ ، ويرجع علي الأب بقدر الصداق لأنه غرّه ، وهو إحدى الروايتين في مذهب أبي حنيفة وفي الأخرى لا يقع شيء ، وهو قول الشافعي ، وهو قول في مذهب أحمد لأنه لم تبرأ في نفس الأمر ، والأولون قالوا : وُجد الإبراء وأمكن أن يجعل الأب ضامنا بهذا الإبراء ، وأما إن طلقها طلاقا لم يعلقه علي الإبراء فإنه يقع ، لكن عند أحمد يضمن للزوج الصداق لأنه غرّه ، وعند الشافعي لا يضمن له شيئا لأنه لم يلزم شيئا والله أعلم . انتهي من الفتاوى الكبرى الجزء 32/358-361 . نقلت هذه الفتوى بحروفها لأن يُعلم أن الأئمة رحمهم الله لا يختلفون بالهوى ولكن تخريجا علي القواعد والأصول والقياس ، وحتى ينتبّه طالبوا العلم أن الخلاف أمر واقع وشرعي ولازم ومقبول وأن الإمام الواحد يكون له في المسألة الواحدة أكثر من حكم للأسباب التي سأبينها إن شاء الله تعالي .(1/3)
ميدان الاختلافات :
يقول الدكتور البيانوني في كتابه القيم الاختلافات العلمية : قد اقتضت حكمة الشارع أن يأتي الدليل الشرعي صريحا قاطعا في أمهات المسائل الشرعية ، والأصول العلمية ، درءً المفسدة الخلاف فيها ، والافتراق حولها ، وأن يأتي الدليل الشرعي غالبا محتملا ظنيا في المسائل الفرعية ، والفروع العملية ، تحقيقا لمصلحة إعمال الرأي والاجتهاد فيها . وفي بيان هذه الحقيقة يقول الإمام ابن حزم : وأكثر افتراق أهل السنّة في الفُتْيا ، ونبذ يسيرة في الاعتقادات . ويقول الإمام المحلاوي في كتابه تسهيل الوصول نقلا عن الإمام الزركشي : اعلم أن الله تعالي لم ينصب علي جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة ، بل جعلها ظنية قصدًا للتوسيع علي المكلفين لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع .
وذلك لأن الله بحكمته جعل معظم أدلة العقيدة صريحة الدلالة علي المراد منها مما يقلل ويضيق ميدان الاجتهاد فيها ، خلافا لأدلة الفقه ، فإنه جعل معظمها ظنيا محتملا للمعاني والأقوال المتعددة ، لما اقتضته طبيعة الحياة العملية من خلاف وسعة في الجزيئات ويقول الإمام ابن تيمية في الفتاوى ، واتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها علي إقرار كل فريق للفريق الآخر ، علي العمل باجتهادهم ، كمسائل في العبادات ، والمناكح ، والمواريث ، والعطاء ، والسياسة ، وغير ذلك . ثم قال : وهذه المسائل منها أحد ما القولين خطأ ، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف ، والآخر مُؤَدَّ لما وجب عليه بحسن قوة إدراكه ، ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ، ومذهب أهل السنة والجماعة : أنه لا إثم علي من اجتهد ، وإن أخطأ . انتهي من الجزء 19/123(1/4)
يتبين أن ميدان الاختلاف العلمي بين العلماء هو الأدلة الظنية ، إذ أخذ كل منهم بما ارتضاه ووصل إليه اجتهاده ، مع احترامهم لأداء الآخرين ولو كانوا مخطئين في اجتهادهم ، وقال سفيان الثوري رحمه الله : ما اختلف فيه الفقهاء ، فلا أنهي أحدا من إخواني أن يأخذ به . ويقول الدكتور البيانوني : ذلك لأن محور الخلاف قائم علي طبيعة دليل المسألة العلمية ، من قطعية أو ظنية ، فما كان دليلها قطعيا ثبوتا ودلالة ، لم يجر فيه الخلاف أبدا ، وما كان دليلها ظنيا ثبوتا دلالة ، أو ظنيا في أحدهما ، جري فيها الخلاف ، وهو مقبول من صاحبه أصاب فيه أو أخطأ ، مادام صادرا عن أهل العلم والاجتهاد في المسألة .
ويقول : اقتضت حكمة الله تعالي في شرعه ، أن يكون كثير من نصوص القرآن والسنة محتملة لأكثر من معني واحد ، إذ أنزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ، واحتمال الألفاظ في اللغة العربية أمر مسلّم به مما تمتاز به لغتنا عن اللغات الأخرى ، كما اقتضت حكمته في خلقه ، أن يجعلهم متفاوتين في عقولهم ومداركهم ليكون ميدان التفاضل والتمايز بالعلم والعقل . ولا يشك عاقل بأن هذين الأصلين إنما يؤديان إلي نتيجة حتمية بَدَهِيَّة وهي الاختلاف في الآراء والأحكام ، فهي طبقا للمعادلة :
نصوص محتملة + عقول وأفهام متفاوتة = آراء مختلفة .(1/5)
خذ مثلا قول الله عز وجل في سورة البقرة ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) وقابله مع قوله تعالي في السورة نفسها ( للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ) وقال في الأخرى ( أربعة أشهر ) فقوله (ثلاثة) في الأولي و (أربعة) في الأخرى نص قطعي لا يحتمل أكثر من معني واحد وهو العدد المعروف . وبمقارنة هذا مع قوله سبحانه في الأولي (قروء) تحتمل أكثر من معني واحد في الوضع اللغوي العربي ، خلافا للقطة الأخرى (أشهر) نجد اللفظة الأولي (قروء) تحتمل أكثر من معني واحد في الوضع اللغوي العربي ، خلافا للفظة الأخرى (أشهر) فإنها قطعية المعني لا تحتمل أكثر من معني واحد . قال أبو عمرو بن العلاء ، من العرب من يسمَّي الحيض قرءًا ، ومنهم من يسمَّي الطهر قرءا ، ومنهم من يجمعها جميعا فيسمَّي الطهر مع الحيض قرءا .
أليس بعد هذا يكون من الطبيعي أن تتعدّد الآراء في فهم هذه الآية الكريمة (ثلاثة قروء ) وتتّحد في فهم قوله سبحانه : ( أربعة أشهر ) !! وفي هذا يقول الإمام القرطبي في تفسيره : ( اختلف العلماء في الأقراء ، فقال أهل الكوفة : هي الحيض . وهو قول عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي موسي ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والسُّدَّي . وقال أهل الحجاز : هي الأطهار ، وهو قول عائشة ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، والزهري ، وأبَّان بن عثمان ، والشافعي .) فلو أراد الله عز وجل أن تتوحد الآراء في هذه المسألة مثلا ، لقال : ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار ، كما قال في الآية الأخرى ( أربعة أشهر ) وقس علي ذلك جميع النصوص الشرعية المحتملة لأكثر من معني واحد . ومما يؤكد حكمة الله عز وجل في هذا الاختيار ، كون أكثر النصوص الشرعية ظنية الدلالة ، فكأن الله سبحانه أراد بذلك التوسعة علي الناس في تعدد الآراء والأفهام من جهة ، وإفساح المجال أمام العقول وتستنبط من كلامه سبحانه وكلام رسوله صلي الله عليه وسلم من جهة أحري .(1/6)
الاجتهاد ليس تشريعا :
يقول الدكتور / محمد علي السايس في نشأة الفقه الاجتهادي ، إن الاجتهاد بوجه عام سواء أكان في العصر النبوي أو في عصر بعده ليس علي الحقيقة تشريعا ، وأن غاية أمره أنه يشبه التشريع من قِبَل أن يظهر به الحكم الذي لم يكن جليا قبله ، فليس إنشاء للحكم وإثباتا له ابتداء ، بل هو كشف عن حكم الله في الحادثة بالنسبة للمجتهد ومَن يقلده . وما صدر بعد عصر النبوة من الاجتهاد فهو لا يعدو أن يكون فهما للكتاب والسنة ، أو إظهارا الحكم غير المنصوص عليه بدليل من الأدلة المعتبرة : كالقياس ، والاستحسان والصالح وغيرها . وهذا ليس إنشاء للحكم بل هو بيان لحكم ورد به الكتاب أو السنة إلا أنه كان خفيا وأظهره الاجتهاد . وهذا لا يعد تشريعا ، ولكنه طريق لمعرفة أحكام لم تكن معروفة ، وعليه فلا يطلق علي المجتهدين أنهم سلطة تشريعية أو مشرَّعون ، بل هم فقهاء وظيفتهم التفسير والاستنباط . انتهي كلام السايس .(1/7)
ويقول الدكتور / البيانوني : ومن هنا كان الفرق شاسعا بين عامة المسلمين الذين يتبعون في دينهم أقوال أئمتهم المستنبطة من كتاب ربهم ، وسنة نبيهم صلي الله عليه وسلم ، كما أمرهم الله بقوله ( فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) وبين أهل الكتاب الذين يتبعون في دينهم أقوال رهبانهم وأحبارهم الصادرة من تلقاء أنفسهم ، والمخالفة لأمر ربهم ، والذين ندّد الله بهم بقوله سبحانه ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ...) كما بين ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم حين دخل عليه عديّ بن حاتم الطائي ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية ، فقال عدي : [ فقلت : إنهم لم يعبدوهم ؟ فقال : بلي ، إنهم حرّموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام فتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ] ولهذا عرّف العلماء الاجتهاد في الشرع بقولهم : بذل المجهود في استخراج الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية . ويكفينا في هذا المقام قول عالم المدينة في زمن التابعين الإمام القاسم بن محمد : لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي منه في سَعة ، ورأي أنه خير منه قد عمله . وقال عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدي بهم ، فلو أخذ رجل يقول أحدهم كان في سعة . انتهي من كتاب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر .
نشأة الاجتهاد :
أذن النبي صلي الله عليه وسلم لأصحابه بالاجتهاد فيما لم يرد به نص في الشرع من ذلك :(1/8)
1 – روي البخاري وغيره أن النبي صلي الله عليه وسلم لما بعث معاذ بن جبل رضي الله عنه إلي اليمن يعلمهم ويقوم بالأمر فيهم قال له : [ كيف تصنع إن عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : فإن لم يكن في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال : اجتهد رأيي لا ألو . قال : فضرب رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده علي صدري وقال : الحمد لله الذي وفّق رسول الله لما يرضي رسول الله ] فهذا إقرار منه صلي الله عليه وسلم علي اعتماد معاذ بن جبل الاجتهاد فيما لا نص فيه .
2 – روي أبو داود والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : [ خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فتيمما صعيدا طيبا فصليا ، ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة ، ولم يعد الآخر ، ثم أتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يُعدْ : أصبت السنة وأجزأتك صلاتك ، وقال للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين ] ففيه إقرار النبي صلي الله عليه وسلم لهما بالاجتهاد ، وفيه أن الأمر الواحد يختلف فيه وكل منهم مصيب ، وأن هناك فوق الإجزاء في أداء العبادة فضل وأجر آخر . وأن الذي لم يصب السنة واجتهد مأجور .(1/9)
3 – اختلف الأصحاب في حكم صلاة العصر في الطريق إلي بني قريظة حيث قال النبي صلي الله عليه وسلم لهم [ لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة ] فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي لم يرد منا ذلك . فذكر ذلك للنبي صلي الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم ] رواه البخاري ومسلم . وفي هذا اجتهاد في فهم النص الذي له أكثر من دلالة ، والإقرار بتصويب الدلالات كلها التي يحتملها النص لاختلاف الفهوم والعقول ، وأن الأمر الواحد يجوز فيه أكثر من حكم . وأن الله تعالي أراد التوسعة علي الناس في تعدد الآراء والأفهام من جهة ، وإفساح المجال أمام العقول لتعمل وتستنبط من كلام الله وكلام رسوله صلي الله عليه وسلم من جهة أخري .
فالدليل واحد والأقوال الصحيحة فيه تتعدّد ، وقد يكون الفهم ضعيفا فيكون العيب في الذهن العليل ، لا في نفس الدليل .
وكم من عائب قولا صحيحا
وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الأذهان منه
علي قدر القرائح والفهوم
الاجتهاد والاختلاف في زمن الصحابة :
يقول الدكتور السايس في نشأة الفقه : أن مصدر التشريع في عصر النبوة كتاب الله وسنة رسوله ، وأن النبي صلي الله عليه وسلم كان المرجع الأعلى للإفتاء والقضاء ، فلما لحق بربه وانقطع الوحي ، انتقلت قيادة الأمة في أمور الدنيا والدين إلي خلفائه الراشدين وكبار الصحابة .(1/10)
ولقد واجهتهم مهمة شاقة ، لأن الفتوحات الإسلامية اتسعت وامتد نفوذهم إلي خارج الجزيرة مصر والشام وفارس والعراق ، مدخل الناس في دين الله أفواجا ، وانضوت شعوب بأكملها في الإسلام ، فوجد المسلمون أنفسهم أمام حوادث ووقائع لا عهد لهم بها من قبل ، فلكل بلد أخلاقه وعاداته ونظمه التي عاشوها دهورا وكانوا يسيرون عليها في معاملاتهم وسائر مرافق حياتهم . فاضروا إلي البحث عن أحكام تلك المسائل الطارئة في كتاب الله وسنة رسوله ، فكان لزاما علي أولئك الأئمة أن يجتهدوا في تطبيق القواعد الكلية المقررة في الكتاب والسنة علي هذه النوازل الجزئية ، وقد مهّد لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم سبيل الاجتهاد ، ودربهم عليه ، ورضيه لهم ، وأثابهم عليه أخطأوا أم أصابوا . فبذلوا قصارى جهدهم علي استنباط أحكام ما جَدّ من المسائل ، وقد كان الاستنباط في هذا العصر مقصورا علي ما ينزل بهم من الحوادث .
أخرج الإمام البغوي عن ميمون بن مهران صورة واضحة للطريقة التي اتخذها الصحابة في الاستنباط قال :
[ كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله ، فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضي به ، فإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك سنة قضي بها ، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين : أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قضي في ذلك بقضاء ؟ فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فإن أعياه أن يجد فيه سنة جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم ، فإن أجمع رأيهم علي شيء قضي به .](1/11)
[ وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك ، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء ؟ فإن وجد أبا بكر قضي فيه بقضاء قضي به ، وإلا دعا رؤوس الناس ، فإذا اجتمعوا علي أمر قضي به .] ومن هذا الأثر يتبيّن لنا أنهم كانوا يعتمدون في اجتهاداتهم علي أربعة أشياء هي مصادر الفقه الاجتهادي في عصرهم : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والرأي بمعناه الواسع وهو ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات . انتهي كلام السايس .
ولما اتسع الفتح الإسلامي للبلاد وكثرت الأعمال في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فكان يرسل الأمراء والقواد ، كما يرسل القضاة ، ولما وليّ شريحا أمر القضاء علي الكوفة قال له : اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من قضاء أئمته المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به الأئمة المجتهدون فاجتهد رأيك ، واستشر أهل العلم والصلاح .
وقد أثر عنهم رضوان الله عليهم مع استعمالهم للرأي ، أنهم لم يجزموا بأن ما وصلوا إليه هو حكم الله ، وأنه الحق والصواب وما عداه خطأ ، بل كانوا يجهرون بقولهم : إن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمن أنفسهم ومن الشيطان :
1 – فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان إذا اجتهد رأيه يقول : هذا رأي فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنيّ وأستغفر الله .
2 – ولما سئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن المرأة التي تزوّجت ولم يفرض لها زوجها صداقا ومات قبل أن يدخل بها قال : أقول فيها برأيي ، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنيّ ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان .
3 – كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن كتب له يستفتيه في فتيا : هذا ما رأي عمر فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمن عمر ، ثم قال : السنة ما سنه الله ورسوله .
لا تجعلوا خطأ الرأي سنة(1/12)
كانوا يحترمون الرأي الآخر
صاحب استعمال الصحابة في اجتهادهم احترامهم الرأي المتبادل بينهم ، فما كان الواحد منهم يتعصب لرأيه وإن كان صاحب سلطان ، فقد روي الطبري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة ، لقي رجلا له قضية فسأله : ماذا صنعت ؟ فقال : قضي عليّ كذا – أي قاض عمر – قال عمر : لو كنت أنا لقضيت بكذا ، قال الرجل : فما يمنعك والأمر إليك ؟ فأجابه عمر : لو كنت أردّك إلي كتاب الله ، أو سنة رسوله لفعلت ، ولكني أردك إلي رأي ، والرأي مشترك ، ولست أدري أي الرأيين أحق عند الله تعالي .
أمثلة لاختلاف الصحابة واجتهاداتهم :
لم يكن مفر من الاختلاف في استنباط الأحكام بين المجتهدين من الصحابة لأن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ألفاظ عربية تحتمل الدلالات ، لأن منها المشترك الذي يحتمل معنيين أو أكثر ، ومنها الحقيقة والمجاز ، والعام الذي يحتمل التخصيص ، والمطلق الذي يحتمل التقييد ، ومنها ما ورد عليه النسخ إلي غير ذلك مما هو في نطاق علم الأصول ، لذا وقع اختلافهم في فهم القرآن والسنة . علاوة علي الأقضيات التي وقعت ولم يجدوا في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم فيها قضاء ، فاجتهدوا تطبيقا للطريقة السابق بيانها من اعتمادهم علي الكتاب والسنة والإجماع والنظر بالرأي . من ذلك :
1 – أفتي ابن مسعود رضي الله عنه فيمن مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها ولم يكن قد سمّي لها مهرا بأن لها مهر المثل .
2 – أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفعت إليه قضية وهو أمير المؤمنين أن رجلا قتلته امرأة أبيه وخليلها ، فتردّد عمر في قتل الجماعة بالواحد لأن كتاب الله يقول : ( النفس بالنفس ) فقال له علي بن أبي طالب : أرأيت يا أمير المؤمنين لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هنا عضوا وذاك عضوا أكنتَ قاطعهم ؟ قال : نعم ، قال علي : فكذلك . فأخذ عمر برأيه ، وكتب إلي عامله أن اقتلهما ، فلو اشترك فيه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به .(1/13)
ففي هذا المثال نجد أنه قد خلي الكتاب والسنة من النص علي مثل هذا الأمر ، فاجتهد الصحابة واستعملوا القياس
3 – قضي الصحابة رضوان الله عليهم بتضمين الضياع قيمة ما ادعوا هلاكه أو ضياعه من متاع سلّم إليهم ولم يقيموا بيّنة علي دعواهم . حيث كان الخياط أو الصباغ يدفع إليه شخص ثوبا ليخيطه أو يصبغه ، فيّدعي ضياعه ، فقضوا أن علي الصانع ضمان الثوب حتى لا تضيع أموال الناس ، برغم أن الأمانة غير مضمونة فقد قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : [ لا يصلح الناس إلا ذاك] يعني تضمين الصناع .
4 – موقف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من حروب الرَّدَّة ، فكان عمر يري عدم قتالهم لأن العرب خارج مكة والمدينة والطائف قد أعلنوا العصيان وفيهم من ادّعي النبوّة فمواجهة العرب جميعا بالحرب مما لا تتأكّد مغبتها فالانتظار أحزم ، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] فقال أبو بكر : ألم يقل إلا بحقها ؟ ومن الحق إيتاء الزكاة وقد منعوها فوجبَ القتال لأن الزكاة حق المال ، ووالله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلي الله عليه وسلم لقتالهم عليه . فاجتمع الصحابة علي حربهم .(1/14)
5 – كان النبي صلي الله عليه وسلم يعطي عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس مِن سهم المؤلفة قلوبهم . فرأي عمر بن الخطاب أن إعطاءهم كان معلَّلا بظروف زمنية مؤقتة وهي تألفهم واتقاء شرهم عندما كان الإسلام ضعيفا ، فلما قويت شوكة الإسلام وتغيرت الظروف الداعية للعطاء كان من موجبات نص الآية القرآنية ، ومن العمل بعلّته أن يمنعوا العطاء . وهذا النظر الذي وافقه عليه الصحابة رضي الله عنهم هو إعمال لنص الآية وليس تعطيلا لها ، لأن الوصف الذي أعطوا من أجله قد زال فلم يصبحوا من المؤلفة حيث زالت الحاجة إلي التأليف لأن الإسلام قد عزّ واستغني ، كما لو كان فقيرا يعطي من سهم الفقراء فاغتني ولم يعد فقيرا فلا يعطي من سهم الفقراء .
6 – في عهد عمر بن الخطاب وفي عام الرَّمادة حيث اشتدت المجاعة بالناس فأوْقف عمر رضي الله عنه حدّ السرقة ، إذ بلغ القحط والمجاعة إلي حدّ الاضطرار ، فكان للمضطر أن يأخذ ما يقيت به نفسه ويدفع ضرورته ، وأن الجائع يباح له أن يأخذ ما يمنعه من الهلاك كما أبيح للجائع أن يأكل الميتة وهي محرّمة وأن قول الله تعالي : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فإن السارق الذي يأخذ ما لا حق فيه حين استتبّ الرخاء ورسخت قواعد الأمن ، فهو يأخذ حينئذ ما لا حق فيه ، أما إذا اشتدت المحنة فله أن يبحث عما ينحيه من الهلاك والمحنة حالة الضرورة ، وهي تقدّر بقدرها وظروفها مراعاة للمفهوم العام للتكافل الاجتماعي الذي شرعه الإسلام ، يقول الإمام ابن حزم : من سرق من جهد أصابه فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه فإنما أخذ حقه ، أما إذا أخذ أكثر من حاجته فقد وجب عليه القطع .(1/15)
7 – شرب رجل الخمر في عهد أبي بكر رضي الله عنه واعترف بما شرب ، وأراد الخليفة أن يقيم عليه الحدّ ، فقال : يا خليفة رسول الله ، قد أسلمت من قريب ولم أكن أدري أن الخمر محرّمة في الإسلام ، وأنا أسكن بين قوم من النصارى يشربون الخمر ويستحلونها فلو قيل لي إنها محرّمة في الإسلام ما ذقتها . فقال أبو بكر لعمر ماذا تري ؟ فقال : عليك بأبي الحسن ، فأرسل يستدعيه فجاء ليسمع ما كان ، فقال : ابعث به إلي مَن يدور معه علي مجالس الأنصار والمهاجرين فمن شهد بأنه تلا عليه آية التحريم أقيم عليه الحدّ ، ومن لم يشهد كان للرجل عذره ، فأرسل أبو بكر مع الرجل من يمرّ به علي القوم ، فلم يشهد أحد بأنه تلا عليه آية التحريم ، فعفا عنه أبو بكر ، وقال له : لا تَعُد فقد علمت .
8 – جاء رجل إلي عمر رضي الله عنه وأخبره أنه ترك امرأته وسافر منذ ستة أشهر ، فوضعت امرأته بعد عودته ولدا دون أن تتم تسعة أشهر ، فأمر عمر برجمها ، فقال علي رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه : ألا تعلم أن الله عز وجل قد قال : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) وقال : ( والوالدات يرضعن أولادهن حوْلين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) فالحمل والرضاع معًا ثلاثون شهرا ، وإذا أتمت المرأة الرضاع كان الحمل ستة أشهر فحسْب ، فاتفق الصحابة علي عدم رجمها وأصبح هذا حكما مقرّرا في ديار الإسلام .
9 – جاء رجل إلي عمر رضي الله عنه فقال : إني طلقت امرأتي قبل الإسلام تطليقة واحدة ، ثم طلقتها في الإسلام تطليقتين فماذا تري ؟ فقال علي رضي الله عنه : الإسلام يَجُبُّ ما قبلهُ ، فلا تحسب طلقة الجاهلية ، فوافق الصحابة ، وقال للرجل عندك علي طلقة واحدة .(1/16)
10- كان عمر رضي الله عنه يري أن المرأة التي طلقها زوجها في مرض موته ترثه إذا مات وهي عدّة الطلاق فقط ، ورأي عثمان رضي الله عنه أنها ترثه مطلقا في العدّة أو بعدها لأنه بطلاقه هذا يعتبر فارَّا من ميراثها ، فأخذ الصحابة برأي عثمان واتفقوا عليه .
11- اختلف الصحابة في أن الجدَّ يحجب الأخوة من الميراث كالأب ، فذهب أبو بكر إلي ذلك ، لأن القرآن سمّاه أباً : ( واتبعتُ ملة أبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ) وخالفه عمر وقال : لا يحجبهم لأن تسمية الجدّ أبًا من باب المجاز وليس الحقيقة ، فكان الاختلاف في هذه المسألة بسبب تردّد اللفظ بين الحقيقة والمجاز .
12- اختلفوا في عدّة الحامل المتوفَّى عنها زوجها فقال علي ! تعتد بأبعد الأجلين جمعا بين الآيتين ، أي آية البقرة المقتضية أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، وآية الطلاق المقتضية أن عدّة الحامل وضع الحمل . وقال عمر ومعه ابن مسعود : تعتد بوضع الحمل عملا بالآية الأخيرة لتأخرها في النزول . فكان الاختلاف هنا بسبب تعارض ظواهر النصوص ، فلجأ بعضهم إلي طريقة الجمع بين النصين ، ولجأ الآخر إلي طريقة النسخ أو التخصيص .(1/17)
13- اختلفوا في ميزات البنتيْن ، لأن الله تعالي جعل للبنت الواحدة النصف ، وللأكثر من البنتين الثلثان في قوله تعالي : ( فإن كن فوق اثنين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ) ولم ينص علي البنتين فما ميراثهما ؟ فرأي ابن عباس استحقاقهما النص فقط ، ورأي غيره أنهما يستحقان الثلثين بمقتضي صدر الآية : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) لأن البنت لمّا وجب لها مع أخيها الثلث كانت أحري أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ، ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب أيضا مع أخيها لو انفردت معه ، فوجب لهما الثلثان ، فيكون تصيب البنتين مفهوما من قوله تعالي : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ثم إن البنتين بحكم القياس الأوْلي أحق بالثلثين من الأختين إذ يقول الله تعالي ( فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان ) فاجتمعوا علي توريث البنتين الثلثين .
14- أفتي عمر رضي الله عنه بأن المطلقة بائنًا لها النفقة والسكنى ، عملا بقوله تعالي : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) وردّ حديث فاطمة بنت قيس إذ قالت : [ بَتَّ زوجي طلاقي فلم يجعل لي رسول الله صلي الله عليه وسلم نفقة ولا سكني ] قال عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت حفظت أو نسيت ، وأفتي غيره بأنه لا نفقة لها ولا سكني أخذا بحديث فاطمة ، وحملوا الآية علي المطلقة رجعيًا بإشارة قوله تعالي : ( لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) والمطلقة ثلاثا لا رجاء فيها . وأفتي صحابة آخرون بأن لها السكنى ولا نفقة لها لقوله تعالي ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) فقالوا : غير الحامل لا نفقة لها .(1/18)
15- اختلف الصحابة في أرض العراق وفارس لما فتحها المسلمون فقال عمر الغنائم تقسم علي الفاتحين وقال عبد الرحمن بن عوف : الأرض والغنائم كلها مما أفاء الله علي الفاتحين . فأرسل عمر إلي عشرة من الأنصار : خمسة من الأوس ، وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم ، وكذلك استشار المهاجرين الأولين ، فلما اجتمعوا قال : إني لم أزعجكم إلا لأشرككم في أمانتي ، وفيها حملت من أموركم ، فإني واحد كأحدكم ، وأنتم اليوم تقرون بالحق خالفني من خالفني ، ووافقني من وافقني ، ولست أريد أن تتبعوا رأيي ، معكم من الله كتاب ينطق بالحق ، فوالله لئن كنت نطقت أمر أريده ما أريد به إلا الحق . قالوا : قل نسمع يا أمير المؤمنين . قال : قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا أني أظلمهم حقوقهم وإني أعوذ بالله أن أركب ظلما ، لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت ، ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسري ، وقد غنّمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم ، فقسّمتُ ما غنموا من أموال بين أهله ، وأخرجت الخُمس فوجهته علي وجهه ، وأنا في توجيهه ، وقد رأيت أن أحبس الأرض بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج ، وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاتلة والذرية ولم يأتي بعدهم ، أرأيتم هذه الثغور لابد لها من رجل يلزمها ؟ أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لابد لها من الشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم ؟ فمن أين يُعطي هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج ؟ فقالوا جميعا : الرأي رأيك فنعم ما قلت وما رأيت ، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال ويجري عليهم ما يتقوّون به ، رجع أهل الكفر إلي مدنهم ، فأصبح هذا الرأي حكما متبعًا في كل أرض يظهر عليها المسلمون ويقرون أهلها عليها .(1/19)
وعمر والصحابة لم يتركوا العمل بآية الغنيمة في سورة الأنفال ، بل فهموا أن الأمر في الغنائم للإمام يضعها حسبما تقضي به الحاجة والمصلحة .
وبهذه الأمثلة ونظائرها يتضح لنا ما كان بين الصحابة من تفاوت في فهم بعض آية القرآن .
وقد يكون اختلافهم رضي الله عنهم راجعا إلي اختلاف مسالكهم في الأخذ بالمرويّات للحديث ، فمنهم من كان لا يقبل الحديث حتى يأتي الراوي بشاهد رغم أنه ثقة مقبول :
1 – روي الذهبي في تذكرة الحفاظ عن قبيصة بن ذئيب [ أن الجدّة جاءت إلي أبي بكر تلتمس أن ترث ، فقال لها : ما أجد لك في كتاب الله شيئا ، وما علمت أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ذكر لك شيئا ، ثم سأل الناس ، فقام المغيرة فقال : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يعطيها السدس ، فقال : هل معك أحد ؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه .
2 – روي أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : [ كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسي الأشعري فزِعاً فقلنا له : ما أفزعك ؟ قال : أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يأذن لي فرجعت ، فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم : [ إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ] قال عمر : لتأتيني علي هذا بالبينة ، قال : فقال أبو سعيد : لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، قال : فقام أبو سعيد معه فشهد له ، فقال عمر لأبي موسي إني لم أتهمك ، ولكن الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم شديد ] .(1/20)
3 – أفتي عبد الله بن مسعود فيمن مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها ، ولم يكن لها صداق مفروض بأنها تستحق في تركة المتوفى مهر المثل ، وقد وافق اجتهاده ما أخبر به معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلي الله عليه وسلم قضي بأن لها مهر المثل في قضية بروع بنت واشق الأسلمية ، وخالفه علي بن أبي طالب ولم يجعل لها صداقا لأن هذه الزوجة لو كانت طلقت ما كان لها من الصداق شيء لقوله تعالي : ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تقرضوا لهن فريضة ) فعلي رضي الله عنه يري الموت كالطلاق .
4 – أفتي عثمان بن عفان رضي الله عنه بأن المختلعة لا عدّة لها وإنما تستبرئ بحيضه واحدة ، ثم تلحق بأهلها ، ذاهبا إلي أن الخلع فسخ لعقد الزواج وليس طلاقا ، واحتج بأن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت أمرها رسول الله صلي الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة ، ثم تلحق بأهلها . ورأي غيره من الصحابة أن علي المختلعة أن تعتدّ كالمطلقات لدخولها في عموم قوله تعالي : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) .
5 – عُرض علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر امرأة حامل فأُسقطت فسأل عمر عن قتل الجنين ؟ فقال له عثمان وعبد الرحمن رضي الله عنهما : أنت مؤدب ولا شيء عليك – أي علي قاتل الجنين – فقال علي رضي الله عنه لعمر عند ما علم بهذا الحكم : إن كانا اجتهدا فقد أخطأ ، وإن لم يكونا اجتهدا فقد غشَّاك . ثم أخبر أن النبي صلي الله عليه وسلم قضي فيه بغُرُّة – أي ضمان – عبْد أو أَمَة ، فقضي عمر برأي عليّ رضي الله عنهم .(1/21)
6 – في زمن عمر رضي الله عنه اختلفوا في الغسل من الإكسال – أي جماع الزوجة فلا ينزل المني فيكسل عن الجماع – قال رافع بن خديج رضي الله عنه لا غسل عليه وقال إنه كان يجامع أهله ، فناده رسول الله صلي الله عليه وسلم فأعجل واغتسل ولبيّ نداء رسول الله صلي الله عليه وسلم واعتذر عن تأخره باغتساله ، فقال له رسول صلي الله عليه وسلم : لا عليك ، إنما الماء من الماء ، وقال عثمان رضي الله عنه بمثل ما قال رافع ، وجاء علي رضي الله عنه وهم مختلفون فقال : علام تختلفون وزوجات رسول الله صلي الله عليه وسلم بجواركم ؟ وقال لعمر رضي الله عنه : أرسل إلي إحداهن وسلْها تخبرك : فأرسل عمر إلي ابنته حفصة رضي الله عنهما فاعتذرت وقالت : سلوا عائشة رضي الله عنها فإنها أعلم بذلك . فأرسل إليها فقالت : فيه الغسل . ثم جاء أُبيّ بن كعب رضي الله عنه فسأله عمر رضي الله عنه فقال : أنا أخبرك يا أمير المؤمنين ، إن الفُتْيا التي كانوا يقولون [ الماء من الماء ] رخصة كان رسول الله صلي الله عليه وسلم رخّص بها في أول الإسلام ، ثم أمرنا بالاغتسال بعدها . فلما سمع عمر رضي الله عنه ذلك قال : لأن أسمع بأحد قال لا غسل إلا من الماء لأوجعنّه ، يقول الدكتور : عبد الوهاب طويلة : تلك مسألة كانت شائعة وبقي معمولا بها بعض الناس بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم إلي ذلك المجلس ، فكم من صلاة صلاها أولئك ومع ذلك لم يأمر أحد أحدا بإعادة ما صلاه .
7 – ظهرت أقوال الصحابة رضي الله عنهم مختلفة في كثير من المسائل الأخرى مثل تكبيرات أيام التشريق ، والعيدين ، ونكاح المحْرم ، والإخفاء أو الجهر بالبسملة ، وبأمين في الصلاة ، والإشعاع أو الإيتاد في الإقامة ، وفي الترجيع في الأذان ، وغير ذلك .
بل إن بعضهم كان يخالف نفسه ويرجع عن اجتهاده إذا استبان له خطأ اجتهاده مثل :(1/22)
1 – حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية ميراث ، اجتمع فيها زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء ، فأعطي الزوج النصف ، والأم السدس ، والإخوة لأم الثلث ، حسب الفروض المقدّرة فلم يبق شيء للأشقاء لأنهم عصبات يأخذن ما بقي بعد الفروض . ثم عرضت عليه في العام التالي وهو علي المنبر قضية مشابهة ، فقال له الإخوة الأشقاء : يا أمير المؤمنين ، هَبْ أن أبانا حجرًا ، أليست أمنا واحدة ؟! فجعلهم شركاء مع الإخوة لأم في الثلث . ولما سئل عمر رضي الله عنه ذلك قال : تلك علي ما قضينا ، وهذه علي ما نقض اليوم .
2 – وكان أبو هريرة رضي الله عنه يفتي أن من أصبح جنبا فلا صوم له ، ثم رجع فقال عندما علم من عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من غير احتلام وهو صائم ، فقال أبو هريرة : كنت حدثتكم أن من أصبح جنبا فقد أفطر فإنما ذلك من كيس أبي هريرة فمن أصبح جنبا فلا يفطر .
3 – وكان ابن عمر رضي الله عنه يأتيه الرجل يسأله أيقسم زكاته ؟ فيقول : أدّوها إلي الأئمة . فلما أُخبر أن الأمراء لا يضعونها مواضعها رجع عن رأيه في الدفع إليهم وأمر الناس أن يتولوا بأنفسهم صرفها وقال : ضعوها مواضعها .
4 – وقال نافع أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم عما يلفظ البحر ، فنهاه عنه وعن أكله . قال نافع : ثم انقلب عبد الله بن عمر فدعي بالمصحف وقرأ : ( أحل لكم صيد البحر وطعامه ) قال نافع : فأرسلني عبد الله بن عمر إلي عبد الرحمن بن أبي هريرة أنه لا بأس بأكله .(1/23)
5 – تزوج رجل من بني شمخ امرأة ثم أبصر بأمها فأعجبته ، فذهب إلي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال : إني تزوجت امرأة فلم أدخل بها ثم أعجبتني أمها أفأطلق المرأة ؟ قال : نعم ، فطلقها وتزوج أمها . فأتي عبد الله بن مسعود المدينة فسأل أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا : لا يصلح . ثم قدم الكوفة فأتي بني شمخ فقال : أين الرجل الذي تزوج أم المرأة التي كانت عنده ؟ قالوا : هاهنا . قال : فليفارقها فإنها حرام من الله عز وجل ، ففارقها . قال العلماء : كان ابن مسعود رضي الله عنه قد تأول قول الله عز وجل : ( فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) وأن الاستثناء راجع غلي أمهات النساء وإلي الربائب جميعا .
كذلك فقد اختلفوا في حقيقة فعل النبي صلي الله عليه وسلم وحكمه ، كأن يروا النبي صلي الله عليه وسلم فعل فعلا ، فيحمله بعضهم علي القربة والتعبّد ، ويحمله آخرون علي الإباحة أو الجبلة البشرية أو الإنفاق .(1/24)
1 – عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال من الغد يوم النحر – وهو بمني – [ نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا علي الكفر ] يعني بذلك المحصَّب . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم [ صلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد رقدة بالمحصّب ، ثم ركب إلي البيت فطاف به ] والحديثان في الصحيح وروي مسلم [ أن أبا بكر وعمرُ وابن عمر رضي الله عنهم ، كانوا ينزلون الأبطح ] أي المحصب . وهنا يعني أن النزول في الأبطح سنة مستحبة ، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يري أن التحصيب سنة . لكن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقولون : هو منزل اتفق أن نزل فيه النبي صلي الله عليه وسلم غير مقصود . فقد أخرج الشيخان أن ابن عباس قال : [ ليس التحصيب بشيء ، إنما هو منزل نزله رسول الله صلي الله عليه وسلم ] وكذلك أخرجا عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ نزول الأبطح ليس بسنة ، إنما هو منزل نزله رسول الله صلي الله عليه لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج ] أي سهل عليه في الخروج من مكة ، فكانت عائشة رضي الله عنها لا تفعله ، ويفعله ابن عمر رضي الله عنهم . وقال أبو رافع : [ لم يأمرني رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح حين خرج من مني ولكني جئت فضربت فيه قبته ، فجاء فنزل ] أخرجه مسلم وأبو داود ، وقد استحب مالك والشافعي نزول الأبطح للحاج اقتداء برسول الله صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين .(1/25)
2 – عن جابر رضي الله عنه قال : [ نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها ] أخرجه أبو داود ، والنسائي وغيرهما . فذهب بعضهم إلي أن النهي منسوخ ، وذهب بعضهم النهي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ إذا جلس أحدكم علي حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ] أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما . وجمع بعضهم بين الأمرين كابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرج أبو داود أن مروان الأصفر قال : [ رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ، ثم جلس يبول إليها ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن ، أليس قد نُهِيَ عن هذا ؟ قال : بلي ، إنما نهي عن ذلك في الفضاء ، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس ] .
3 – قد حج النبي صلي الله عليه وسلم حجة الوداع وقال : [ خذوا عني مناسككم ] فاختلف الصحابة الذين حجوا معه ورووا عنه حجته ، فمن قائل أنه حج مفردا ، ومن قائل : حج متمتعا ، ومن قائل : حج قارنا ، وقد ذهب كل منهم إلي القول بأفضلية الحج فحسب ما ارتأى من فعل النبي صلي الله عليه وسلم .
4 – وفي حجة الوداع ، وفي يوم النحر رمي النبي صلي الله عليه وسلم ثم ذبح ، ثم حلق ، ثم طاف وسعي . وخالف أصحابه رضي الله عنه فمنهم من قال : [ يا رسول الله ذبحت قبل أن أرمي ، ومن قال حلفت قبل أن أذهب ، فما سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن شيء قُدَّم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج ] .(1/26)
ومن اختلاف الصحابة فيما لم يرد فيه نص أو الاجتهاد عند نزول حادثة لا حكم فيها ولا قياس لعلة ، ما رواه مالك في الموطأ أو البيهقي في السنن الكبرى عن محمود بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه [ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قدم الشام شكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها وقالوا : لا يصلحنا إلا هذا الشراب – أي الخمر – فقال عمر رضي الله عنه : اشربوا العسل . فقالوا : لا يصلحنا العسل . فقال رجل من أهل الأرض : هل لك أن نجعل من هذا الشراب شيئا لا يسكر ؟ يقصد من عصير العنب قبل أن يتخمّر – قال : نعم ، فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث ، فأتوا عمر رضي الله عنه به ، فأدخل فيه أصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط ، فقال : هذا الطلاء ، هذا مثل طلاء الإبل . فأمرهم عمر رضي الله عنه أن يشربوه . فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : أحللْتها والله . قال : كلا والله ، اللهم إني لا أُحل لهم شيئا حرَّمتَه عليهم ، ولا أحرّم عليهم شيئا أحللته لهم ] يقول الدكتور عبد الوهاب طويلة في كتابه أثر اللغة في اختلاف المجتهدين : ما طبخ من العصير أو النبيذ = الخشاف = قبل غليانه واشتداده حتى صار ثخينا ، ليس فيه نص خاص ، لأن الخمر لم تكن تطبخ علي النار ، فقد أمِن عمر رضي الله عنه إذا وصل إلي هذه الدرجة ولم يثبت مكروه أنه مباح ، واختلف معه عباده رضي الله عنه فيه .
ومن اجتهاداتهم التي راعوا فيها جلب المصلحة أو دفع المضرة منها :(1/27)
1 – ما أخرجه الطبري في تاريخه عن سعيد بن جبير قال : [ بعث عمر بن الخطاب إلي حذيفة رضي الله عنه بعد ولاّه المدائن ، وكثر المسلمات ، أنه بلغني أنك تزوّجت امرأة من أهل المدائن فطلقَّهْا . فكتب إليه حذيفة : لا أفعل حتى تخبرني أحلال هو أم حرام ؟ وما أردت بذلك ؟ فكتب إليه : لا ، بل حلال ، ولكن نساء الأعاجم خلاَبَة ، فإذا أقبلتم عليهن غلبنكم علي نسائكم ، فقال : الآن ، فَطلقَها ] يقول الدكتور عبد الرحمن السنوسي في كتابه اعتبار المآلات تعليقا علي هذه الحادثة : كان من نتائج توالي الفتوحات أن استشهد عدد كبير من الجنود ، وكان من نتائجها أن بقيت كثير من المسلمات عوانس ، كما أصبحت نساء الشهداء بغير أزواج ، وقد رأي عمر أن كثيرا من الجنود قد أقبل علي تزوج الكتابيات ، فخشي من سريان ظاهرة العنوسة بين المسلمات وترك نكاحهن ميلا إلي جمال نساء أهل الكتاب وحسنهن ، حيث رأي أن تجويز الشارع للزواج من المحصنات الكتابيات لم يشرع ليؤدي إلي هذه النتائج الممنوعة والمآلات المحظورة ، فمنع الزواج المباح منهن للأضرار العامة التي يجرها استمرار العمل بأصل الإباحة . فالشريعة التي أنزلها الله تعالي ثابتة لا تتغير ، وأحكامها أبدية لا يعتريها التبدّل والتحوّل ، إنما الذي يطرأ عليه التغيّر هو ما كان من الأحكام مبنيا علي مناطات متبدّله ، ومتعلقات توجهها صيرورة الظروف والأحوال . انتهي بتصرف .(1/28)
2 – ولعل أول اختلافهم بعد وفاة النبي صلي الله عليه وسلم ، اختلافهم في الأحق بالإمامة الكبرى ، ومن يكون خليفة للرسول صلي الله عليه وسلم في أمته ، فقد اجتمعوا علي تقديم أبي بكر رضي الله عنه ، ثم تبدلت المسألة حيث اختار الخليفة أبو بكر رضي الله عنه عمرا بعده وأقره أهل الحل والعقد ، ثم تبدلت المسألة عندما اختار الخليفة أمير المؤمنين عمر بأن تكون الإمامة في واحد من ستة رجال عينهم فاختاروا عثمان رضي الله عنهم ، فحيث أنه لم ينص علي الإمامة في كتاب ولا سنة ، فلم يكن مفرّ من إعمال الرأي والاجتهاد .
3 – ومن ذلك ما فعله عثمان بن عفان بضالة الإبل ، إذ أمر بمعرفتها وتعريفها ، فإن أدْركها صاحبها أخذها ، وإن لم يدركها بيعت وحفظ ثمنها ، مخالفا بذلك ما كان عليه العمل من قبل فيها من تركها مرسلة لا يمسّها أحد حتى يعثر عليها صاحبها ، حيث نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن التقاطها حيث قال : [ مالك وما لها ، دعها إنّ معها سقاءها وحذاءها ، ترِدُ الماء وترعي الشجر حتى يلقاها ربها ] فقد رأي عثمان رضي الله عنه أن الحال قد تبدّل وأن الحديث وُرد في عهد ما كان يُخشي فيه علي ضالة الإبل أن تضيع وتمتد إليها الأيدي ، فلما رأي أن الزمان قد فسد وأن الجشع والطمع قد استبدّ بالناس وامتدت الأيدي إليها أمر بجمعها وبيعها ليحفظ ثمنها لأصحابها ، أو ينتفع به في المصالح العامة إن لم يظهر لها صاحب أخذا بالمصالح المرسلة .(1/29)
4 – ومن ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه كان يري التسوية في العطاء من بيت مال المسلمين ، وأن يأخذ الناس منه علي السواء ، لا يفضل أحدا علي أحد ، فلم يجعل العطاء ثمنا لأعمالهم التي عملوها لله ، وكان يقول : إنما أسلموا لله وأجورهم علي الله ، وإنما الدنيا بلاغ وهذا معاش ، فالأسوة فيه خير من الأثرة ، أما عمر رضي الله عنه فكان من رأيه لتفضيل وكان يقول : لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلي الله ورسوله كمن دخل في الإسلام كرها ، ولا أجعل من قائل رسول الله كمن قاتل معه ، وإنما الناس بسوابقهم وحسن بلائهم وعظم غنائهم في الإسلام يتفاوتون في عطائهم وأرزاقهم علي حسب تفاوتهم في تلك المزايا .
5 – ومن ذلك ما أحدثه عمر رضي الله عنه من اتخاذ الدواوين والجيوش المتفرغة للجهاد ، وما اقتبسه من النظم الإدارية والتنفيذية في إدارة أمور الخلافة مما لا يتعارض مع الأصول الشرعية ، ومن ذلك ما سُمَّيَ بضريبة العشور = الجمارك = وهي الرسوم التي تفرض علي الواردات إلي البلاد الإسلامية من البلاد غير الإسلامية إذ قال لأبي موسي الأشعري [ خذ أنت منهم مثل ما يأخذون منا ] وذلك أنهم كانوا يأخذن من المسلمين حين دخولهم بالتجارة إلي بلادهم العشور من القيمة فعاملهم بالمثل .
أسباب اختلاف الفقهاء :
يقول الدكتور طويلة في كتابه أثر اللغة في اختلاف المجتهدين : الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ، ومحمد صلي الله عليه وسلم رسول الله ورحمته المهداه إلي الناس كافة ، ولذلك انطلق الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم بإحسان يفتحون البلاد المجاورة برحمة وعدل ، داعين إلي الله ، هادفين إعلاء كلمته لإخراج الناس من جوْر الأديان إلي عدل الإسلام ، ومن ضيق ماديات الدنيا إلي رحابة الإيمان ، ومن قلق النفس وحيرتها إلي طمأنينة القلب بذكر الله .(1/30)
ولكي يتحقق العدل بين الناس لابد أن تكون الشريعة الإسلامية شاملة جميع جوانب الحياة علي مرّ الزمان ، قال تعالي : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) أي يهدي من اتبعه إلي الطريق المثلي في الدين والدنيا . وقال سبحانه : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم للناس ما نزل إليهم ، وتركهم علي المحجّة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك ، وترك في أمته ما إن تمسكوا به لن يضلوا أبدا ، كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم .
وهذا لا يعني أن في الكتاب والسنة حلولاً نصيَّة لجميع الحوادث والوقائع إلي قيام الساعة . فالنصوص لم تستوْعب أحكام جميع الجزيئات ، غير أن تعريف القرآن بالأحكام أكثره كُليَّ لا جزئي ، وحيث جاء جزئيا فإنه يؤخذ علي الكلية إلا ما خصَّه الدليل . قال الشاطبي في الموافقات [ إن الشريعة لم تنص علي حكم كل جزئية علي حدتها ، وإنما أتتْ بأمور وعبادات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر ] وبذلك يمكن أن تنزل الوقائع الجديدة علي أحكام الكليات التي وردت بها النصوص الشرعية . وهذا ما جري ، ففي القرن الأول اتسعت الفتوحات في سبيل الدعوة ، وكان من نتائج ذلك وثمراته أن دخلت أعداد كبيرة من الأعاجم في دين الله أفواجا ، وأخذت تختلط بالعرب اختلاطا كبيرا عن طريق الجوار تارة ، والمعاملات تارة ثانية ، والمصاهرة تارة ثالثة ، وكانت البلاد المفتوحة في درجة بالغة من الغني ومستوفي رفيع من التقدّم ، فحدثت حوادث ووقائع جديدة تقتضي حلولا جديدة ، كمضرب التعامل وشئون المال ونظام الرَّي وغير ذلك . وكان المسلمون يصطحبون معهم أهل العلم للفتوى في مثل هذه الحوادث وتنظيم البلاد وفق شرع الله ، فكان الفتح الإسلامي دعوة ورعاية وتبليغ رسالة وإقراراً للنظام في الأرض .(1/31)
فالاجتهاد والنظر ضرورة من ضرورات هذه الأمة ، بل من لوازم هذه الشريعة ، ولا يجوز خلُوّ الزمان من مجتهدين قائمين لله بحجته ، يبينون للناس أحكام ما يجدّ من حوادث عن طريق الاجتهاد واستنباط الأحكام من مصادر الشريعة الأصلية والتبعية . ومجال الاجتهاد منحصر في موضعين :
1 – ما فيه نص غير قطعي ، ويقوم الاجتهاد هنا علي تفهم معني النص والكشف عن مرامي ألفاظه ومدلولاته ، فهو اجتهاد ضمن دائرة النص الموجود في حدود الأصول اللغوية والشرعية .
2 – ما لا نص أصلا ، ومجال الاجتهاد هنا واسع لاستنباط الأحكام للوقائع الجديدة علي ضوء ما نصبه الشارع من أمارات للدلالة علي الأحكام .(1/32)
وقد نصب الحق سبحانه في كتابه وسنة رسوله دليلا يعرف به كل مسألة ، وعلي المجتهد أن يبذل جهده ليستدل علي الحكم ، سواء وصل إلي الصواب أوْلا ، لأنه غير مكلف بإصابة الحق ، بل بالاجتهاد في طلبه ، وقد فعل . وجميع المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا الدليل ، لكن قد يكون عند بعضهم في مسألة ما علم ليس عند الآخر ، وكثيرا ما يكون النزاع في المعني نزاع تنوّع ، وليس نزاع تضادّ وتناقض . قال الإمام ابن تيميه في الفتاوى : [ كل اجتهاد تام إذا صدر من أهله ووقع في محله فثمرته حق وصواب ، والإثم منفي عنه ] ويقول رضي الله عنه [ إذا كان الاختلاف في الفروع قد وقع بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون علي باطل ، ودلّ الكتاب والسنة علي وجوب متابعتهم ، فكيف يطمع بعض الناس في أن يمحو الخلاف من بين غيرهم ] مجموع الفتاوى 19/123 . وذكر ابن عبد البر في جامع البيان للعلم بسنده إلي يحيي بن سعيد أنه قال : [ ما برح أولو الفتوى يفتون ، فيحل هذا ، ويحرم هذا ، فلا يري المحرّم أن المحلْ هلك لتحليله ، ولا يري المحل أن المحرم هلك لتحريمه ] وقال الإمام الشاطبي في الاعتصام : إن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملَّة قابلة للأنظار ومجالا للظنون . وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها ، لكن في الفروع دون الأصول ، وفي الجزئيات دون الكليات .
وقال الزركشي : اعلم أن الله تعالي لم ينصب علي جميع الأحكام الشرعية أدلّة قاطعة ، بل جعلها ظنيّة قصدًا ، للتوسع علي المكلفين ، ولئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع . وقال عمر بن عبد العزيز : ما يسرّني أن أصحاب محمد صلي الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولا واحدًا لكان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يقتدي بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان في سعة .(1/33)
وعلي ذلك فقد سن الصحابة سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية ، وظلوا إخوة متحابين ، ولهذا كان بعض العلماء يقول : إجماعهم حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة . ولذلك أيضا قال : القاسم بن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة المشهورين من التابعين : لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة ، ورأي أن خيرا منه قد عمل به ، وسئل رحمه الله عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر فيه فقال : إن قرأت فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة ، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة أيضا . وذكر ابن تيميه في مجموع الفتاوى 14/159 أن رجلا صنف كتابا سمّاه الاختلاف ، فقال له أحمد بن حنبل : سَمَّه السَّعَة .
أسباب اختلاف مجملة :
1 – الاختلاف في ثبوت النص وعدم ثبوته ، فقد يثبت صحة النص عند إمام وقد لا يثبت عند الآخر تبعا للاختلاف في توثيق الرجال والرواة وتضعيفهم ، أو تبعا لشذوذ في المتْن أو في السَّند إلي غير ذلك من موضوعات علم الحديث .
2 – الاختلاف في فهم النص ، فعلي فرض ثبوت الحديث والاتفاق علي ذلك ، فهناك اختلاف في فهم النص الثابت لكون اللفظ يحمل معانٍ مختلفة ، أوْ يكون مُجْملا لم يبين معناه ، أو جاء علي سبيل الحقيقة أو المجاز ، إلي غير ذلك مما يعرف في علوم اللغة والبيان . هذا وقدرات وإمكانيات الفهم عند المجتهدين تختلف من مجتهد إلي آخر
3 – الاختلاف في طرق الجمع بين الأدلة والترجيح بين النصوص عند تعارضها ، فليست كل النصوص سالمة من معارض راجح أو مرجوح . وليس فهم أحدهم حجة علي الآخر في ذلك .(1/34)
4 – الاختلاف في اعتماد بعض القواعد الأصولية ، وبعض مصادر الاستنباط . وبيان ذلك كله يطول ويرجع فيه إلي مظانه كعلوم أصول الحديث ، وأصول الفقه ، وأصول اللغة وغيرها من العلوم .
1 – الاختلاف في ثبوت النص الشرعي :
النص الشرعي هو المرجع الأول لجميع المجتهدين ، وعليه مدار استنباط الأحكام الشرعية ، فإذا صح ثبوت النص ، وكان صريحا في دلالته ، وسَلمَ من المعارض ، كان الاتفاق علي كونه معتمدا في الحكم بلا خلاف ، وهذا معني القول عند الأئمة : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ، مع مراعاة أن لكل إمام من الأئمة قواعده وضوابطه وأصوله التي يعتمد عليها في الاستنباط ، سواء في ثبوت الحديث لديه أم عدم ثبوته ، أو في دلالته ومعناه عنده ، أو في سلامته من المعارض الراجح من وجهة نظره . ومن رجع إلي طرق الأئمة في ذلك عرف أنه ما من إمام إلا وقد ثبت عنه القول في مسائل خالف فيها أحاديث صحت عند غيره ولم تصح عنده ، أو عمل بأحاديث صحت عنده ولم تصح عند غيره . قال أبو يوسف عند مخالفته إمامه أبي حنيفة في حكم بيع الوقف : لو بلغ أبا حنيفة هنا الحديث لقال به ورجع عن بيع الوقف . أي مثل ما أخذ به الجمهور من الأئمة . بل قد يكون الحديث عند الإمام ثابتا ولا يعمل به لوجود دليل أقوي منه عنده . فالإمام مالك لم يعمل بالحديث الصحيح الذي أخرجه في موطئه وهو قول النبي صلي الله عليه وسلم : [ إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا ] وهو حديث متفق علي صحته ، لأنه رحمه الله يري أن له معارضا أقوي منه عنده وهو عمل أهل المدينة الذي يعتبره الإمام مالك أصلا من الأصول ومصدرا من مصادر التشريع ، وقد تعقَّب الإمام أحمد بن حنبل مالكا بقوله : مالك لم يردّ الحديث ، ولكن تأوّله .
ومن الأمثلة التي توضح جانبا من أسباب هذا الاختلاف :(1/35)
1 – اختلافهم في خبر الراوي المستور ، وهو الذي روي عنه اثنان فصاعدًا ، ولم يصدر في حقه جرح ولا تعديل ، فمن العلماء من يعتبر المستور عدْلا إذا كان في القرون الثلاثة الأولي فيقبل روايته بحسب الأصل في المسلم أنه عدل ، ومنهم من لا يحتج بروايته احتياطا في ثبوت الأخبار في الدين . قال الإمام السَّرخْسي في أصوله ، وهو حنفي المذهب : أما المستور فقد نص محمد بن الحسن في كتاب الاستحسان : علي أن خبره كخبر الفاسق ، وروي الحسن عن أبي حنيفة أنه بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت العدالة ظاهرا بالحديث المروي عن النبي صلي الله عليه وسلم من رواية عمر رضي الله عنه : [ المسلمون عدول بعضهم علي بعض ] ولهذا جوَّز أبو حنيفة القضاء بشهادة المستور . ثم قال السرخسي : وما ذكره في الاستحسان أصح في زماننا ، فإن الفسوق غالب في أهل هذا الزمان ، فلا تعتمد رعاية المستور ما لم تتبيّن عدالته ، كما لا تعتمد شهادته في القضاء قبل أن تظهر عدالته .
2 – اختلافهم في الوثوق بحفظ وضبط الناقل ، مثل ما روي مسلم في صحيحه وغيره عن أبي إسحاق قال : [ كنت مع الأسود بني يزيد جالسًا في المسجد الأعظم ، ومعنا الشعبي ، فحدّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يجعل لها سُكني ولا نفقة ، فأخذ الأسود كفًّا من حصى فحصبه به وقال : ويحك تحدث بمثل هذا ؟ قال عمر رضي الله عنه : لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أم نسيَت . لها السكني والنفقة . قال الله تعالي : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة ) ] .(1/36)
3 – اختلافهم في ججيّة الحديث المرسل ، وهو الذي رفعه إلي النبي صلي الله عليه وسلم تابعي مباشرة من غير الرواية عن صحابي . يقول الإمام السرخسي في أصوله : أما مراسيل القرن الثاني والثالث فهي حُجّة في قول علمائنا = أي الحنفية = وقال الشافعي : لا يكون حجّة إلا إذا تأيّد بآية أو سنة مشهورة ، أو اشتهر العمل به في السلف ، أو اتصل من وجه آخر ، وقال الشافعي أيضا : جعلت مراسيل سعيد بن المسيَّب حجة لأني اتبعتها فوجدتها مسانيد .
4 – اختلافهم بالعمل بالحديث الذي ينكره مَن رواه نسيانا . فإذا روي الراوي العدل الضابط حديثا ثم أنكره ولم يذكره بعد ذلك . فقال أبو حنيفة : لا يعمل به ، وقال الشافعي ومحمد بن الحسن ، يعمل به ، ومثال ذلك ما رواه ربيعة عن سهل بن أبي صالح من حديث [ القضاء بالشاهد واليمين ] ثم قيل لسهل : إن ربيعة يروي عنك هذا الحديث ، فلم يذكره ، وجعل سهل يرويه ويقول : حدثني ربيعة عني وهو ثقة ... انتهي . يقول السرخسي في أصوله : قد عمل الشافعي بالحديث مع إنكار الراوي ، ولم يعمل به علماؤنا .(1/37)
5 – اختلافهم في وصول النص الشرعي إليهم أو عدم وصوله ، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما : [ أن عمر بن الخطاب خرج إلي الشام ، حتى إذا كان بسَرْع لقيَه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه ، فأخبره أن الوباء قد وقع بالشام ، قال ابن عباس : فقال لي عمر : ادْع لي المهاجرين الأولين ، فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا ، فقال بعضهم : خرجتَ لأمرٍ ولا نري أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ولا نري أن تقْدمهم علي هذا الوباء ، فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال لي : ادْع لي الأنصار ، فدعوتهم ، فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال : ارتفعوا عني ، ثم قال : ادْع لي من كان ههنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان ، فقالوا : نري أن ترجع بالناس ولا تقْدمهم علي هذا الوباء . فنادي عمر رصي الله عنه في الناس ، إني مصبح علي ظهر فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة بن الجراح : أفرارًا من قدر الله ؟! فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة !! وكان عمر يكره خلافه ، نعم ، نفّرّ من قدر الله إلي قدر الله ، أرأيتَ لو كان لك إبل فهبطت واديًا له عدْوَتان ، إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة لرعيتها بقدر الله ؟! قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان متغيَّبا في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما ، سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : [ إذا سمعتم به بأرض ، فلا تقْدموا عليه ، وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا فرارا منه .] فحمد الله تعالي عمر رضي الله عنه وانصرف ] .(1/38)
6 – اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حكم ربا الفضل ، فروي عن ابن عمر ، وابن عباس وغيرهم رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون بجواز ربا الفضل ، وأنه لا ربا إلا في النسيئة ، فلما سمعوا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتفق عليه ، والذي يقول فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ... الحديث ] رجعوا إلي قول الجمهور بتحريم ربا الفضل ، قال الشوكاني روي الحازمي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال [ كان ذلك برأيي ، وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فتركت رأيي إلي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم.] رواه في ميل الأمطار .
بذلك يتضح لنا أن اختلاف العلماء في هذا السبب ، وهو ثبوت النص الشرعي أو عدم ثبوته ، أن أحدهم لم يخالف النصوص الشرعية ، وقد بذلوا وسعهم في تحقيق ومعرفة الدليل ، وأنه لم يفت أحدهم الأجر ، وقد قال الإمام ابن عبد البر : ليس لأحد من علماء الأمة أن يثبت حديثا عن النبي صلي الله عليه وسلم ثم يردّه دون ادعاء نسخ عليه بأثر مثله ، أو بإجماع ، أو يعمل يجب علي أصله الانقياد إليه ، أو طعن في سنده ، ولو فعل ذلك أحد ، سقطت عدالته ، فضلا عن أن يُتَّخذ إماما ولزمه الفسق . انتهي من كتابه جامع علوم العلم وفضله .
2 – اختلاف العلماء في فهم النصوص الشرعية :(1/39)
طبيعة اللغة العربية التي جاءت بها الشريعة ، بها ألفاظ وضعت في اللغة المعنيين ، أو لمعانٍ مختلفة الحقائق ، وهو ما يطلق عليه المشترك بأقسامه ، كما أن تراكيب الكلام وأساليب اللغة ، من حيث الحقيقة والمجاز ، والصريح والكتابة ، ووضع ومعاني حروف الجر وغيرها في السياق ، وأدوات الشروط ومعانيها ، وقطعية الألفاظ وظنيّتها ، ووضوحها وإبهامها ، من حيث الظاهر من المعني ، والنص ودلالته ، والمفسَّر ، والحكم ، والمشكل ، والمجمل وغير ذلك من علوم اللغة والبيان ، ومسالك العلماء في ذلك واتفاقهم واختلافهم في العمل بالمنطوق والمفهوم ، والألفاظ من حيث مقدار شمولها ، كالعام والخاص ، وحمل المطلق علي القيد ، كما توجد في اللغة صيغ للتكاليف للأمر ، والنهي ، والإباحة ، والنسخ وغير ذلك وهو كثير .
فمعالجة العلماء لتلك النصوص من أجل فهمها ، وفهم مراد الشارع من الخطاب ، ثم استنباط الأحكام منها ، مع اختلاف قدراتهم وإمكانياتهم الذاتية لابد من أن يثمر اختلافا في الأحكام المستنبطة من آحادهم .
وننقل هنا بعض اختلافاتهم بسبب بعض ألفاظ المشترك في وضع اللغة ، حيث إذا اشتمل النص الشرعي علي لفظ مشترك فغالبا ما يقع الاختلاف بين الفقهاء في تعيين المراد منه ، ويتضح ذلك في الأمثلة التالية :
المثال الأول : قال تعالي : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ) أوجب الله سبحانه علي كل امرأة طلقها زوجها بعد الدخول ، وهي غير حامل أن تعتدّ مدة ثلاثة قروء إذا كانت ممن يحضن ، فما معني القروء ؟(1/40)
القروء لغة عند العرب يطلق علي الحيض وعلي الطهر ، وهو جمع قرء . قال الماوردي في التفسير : اختلفوا في اشتقاق القرء علي قولين : أحدهما : أن القرء الاجتماع ، ومنه قرأ الماء في الحوض إذا جمعه . وهذا قول الأصمعي والأخفش والكسائي والشافعي ، والمعني الثاني أن القرء : هو الوقت . فمن جعل القرء اسما للحيض سماه بذلك لاجتماع الدم في الرحم ، ومن جعله اسما للطهر ، فلأنه وقت احتباس الدم المعتاد .
أ – ذهب فقهاء الحجاز وغيرهم ، ومنهم مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والزهري وقتادة وأبان بن عثمان والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وداود الظاهري إلي أن المراد بالقرء في الآية الطهر الذي بين الحيضتين ، واحتجوا بما يلي :
1 – من النصوص قوله تعالي : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) واللام هنا بمعني في ، أي في وقت عدتهن ، كما قال سبحانه ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) أي في يوم القيامة . والطلاق المأمور به هو ما يكون في الطهر كما سيأتي . فدلّ علي أن الطهر هو وقت العدّة ، وأنها تكون بالأطهار .
2 – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ذلك فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ مُرْهُ فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسكها بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمسّ ، فتلك العدّة التي أمر الله تعالي أن تطلق لها النساء ] والحديث مروي في الصحاح .
3 – وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول : [ إذا طلق الرجل امرأته ، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه ، وبرئ منها ] أخرجه مالك في الموطأ ، أي مرّ عليها ثلاثة أطهار .(1/41)
4 – وعن سليمان بن يسار أن الأحْوَص هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة ، وكان طلقها ، فكتب معاوية رضي الله عنه إلي زيد بن ثابت رضي الله عنه يسأله عن ذلك ؟ فكتب إليه زيد أنها إذا دخلت في الدم في الحيضة الثالثة ، فقد برئت منه ، وبرئ منها ، لا ترثه ولا يرثها ] رواه مالك في الموطأ والشافعي والأثرم .
5 – عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما [ أن عائشة رضي الله عنها قالت : أتدرون ما الأقراء ؟ وهي الأطهار ] رواه مالك وأحمد والنسائي . وقال مالك : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ما قالته عائشة رضي الله عنها . وقال الشافعي : النساء بهذا أعلم ، لأن هذا إنما يبتلي به النساء .
7 – من حيث حكمة التشريع ، فإن الله سبحانه إنما أمر أن يكون الطلاق في الطهر لا الحيض ، حتى لا يؤدي إلي الإضرار بالمرأة في تطويل العدّة ، فلو لم تحتسب بقية الطهر الذي طلقت فيه قرءا ، كان الطلاق في الطهر أضربها من الطلاق في الحيض ، لأنه أطول للعدّة .
8 – من حيث القياس ، فإن الحكم يتعلق بعدّة عن طلاق مجرّد مباح ، فوجب أن تكون عدته عقيب الطلاق مباشرة ، قياسا علي سائر العِدَد .
9 – توالي الأطهار هو الذي يدل علي براءة الرحم من الحمل ، لأن المعّول عليه في ذلك هو النقلة من الطهر إلي الحيض ، وليس انقضاء الدم ، فالطهر علامة علي المقصد من العدة .
10- من حيث المعني اجتماع الدم ، أما وقت الحيض فهو وقت لفظه وإلقائه ، فكان المناسب أن يفسر بالطهر لا بالحيض ، لأنه أقرب إلي الاشتقاق .
11- واحتج بعض الحجازيين من ناحية اللفظ بإثبات الهاء في قوله تعالي : ( ثلاثة قروء ) حيث أنّث العدد ، فدل علي أن المعدود مذكر ، وهو الأطهار ، لأن الهاء لا تثبت في جمع المؤنث فيما دون العشرة ، ولو أراد الحيضات لقال : ثلاث قروء ، لأن الحيضة لفظ مؤنث .(1/42)
ب – ذهب فقهاء أهل العراق وغيرهم ، ومنهم أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد في أظهر الروايتين عنه ، وابن أبي ليلي والحسن البصري وسعيد بن المسيَّب وقتادة ومجاهد والضحاك وعكرمة والسُّدَّى وإسحاق إلي أن المراد بالقرء في الآية الحيض . وقالوا : إن المعهود في لسان العرب والشرع استعمال القرء بمعني الحيض ، ولم يعهد في لسان الشرع استعماله بمعني الطهر ، فوجب أن يحمل كلامه علي المعهود من لسانه واحتجوا بما يلي :
1 – من حيث النصوص الشرعية قوله تعالي : ( واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدّتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن ) فنقل المعتدات عند عدم الحيض إلي الشهور ، فدل علي أن الحيض هو الأصل في العدّة . كقوله تعالي : ( فلم تجدوا ماءً فتيمّموا ) .
2 – وقوله تعالي : ( ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ) قالوا : وما خلق الله في أرحامهن هو الحيض ، وليس الطهر .
3 – عن فاطمة بنت أبي حُبَيْش رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لها : [ دعي الصلاة أيام أقرأئك ] رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وأبو داود ، والنسائي وعنده [ فإذا مرَّ قرؤك فلتطهري ] فعبّر عن الحيض بالقرء ، لأنها إنما تترك الصلاة أيام حيضها .
4 – وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : [ طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان ] رواه مالك وأبو داود والترمذي وابن ماجة .
5 – وأخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها نحو الحديث السابق وفيه [ وقرؤها حيضتان ] .
6 – وعن عائشة رضي الله عنها قالت : [ أُمِرت بريرة رضي الله عنها أن تعتدّ بثلاث حيض ] رواه ابن ماجة
7 – عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس : [ لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ] رواه أحمد وأبو داود(1/43)
8 – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : [ نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض ] والحائل غير الحامل من النساء .
هذا المثال وحده كافٍ لبيان أن جميع الأئمة المجتهدين إنما قالوا بعلم ، واتبعوا العلم والدليل ، ونزاعهم ليس نزاع وتناقض ، بل اختلاف تنوّع وتوسُّع ، فهذه المسألة ، أي الاختلاف في فهم لفظ القروء ثابت بنص القرآن ، وهؤلاء هم الأئمة منذ عصر الصحابة قد اختلفوا في المراد منه واستنباط حكم الشرع فيه ، وكل ألقي بحجته فيه دون أن تختلف قلوبهم عند اختلاف آرائهم ، ولم ينكر أحدهم علي الآخر اجتهاده وما توصل إليه ، ولم يطلب أحد أن لا يعمل الناس إلا باجتهاده هو ، أو طلب أن لا يعمل أحد باجتهاد غيره ، فكل من عمل باجتهاد إمام ثقة فهو متبع للدين ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) .
المثل الثاني : مال نقله الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين الجزء الثالث .
من قال لزوجته : أنتِ عليّ حرام . اختلف الصحابة والفقهاء في حكم من قال هذه الألفاظ علي مذاهب :
1 – أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين علي كل حال ، صح ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ولبن عباس وعائشة وزيد بن ثابت ولن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير والأوزاعي وأبي ثور . وحجّة هذا القول ظاهر القرآن ، فإن الله تعالي ذكر فرض تحلَّة الإيمان عقب تحريم الحلال فقال : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) فلا يجوز جعل تحلة لغير المذكور قبلها .
2 – أنه لغْو وباطل لا يترتب عليه شيء ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وقال به مسروق وأبو سلمه بن عبد الرحمن وعطاء والشعبي وداود وجميع أهل الظاهر وأكثر الحديث ، وهو أحد قوليْ المالكية .(1/44)
3 – أنها ثلاث تطليقات ، وهو قول علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري وابن أبي ليلي ، وقضي فيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بالثلاث في عدي بن قيس وقال له : والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك . وحجة من قال بهذا الحكم أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث ، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه .
4 – إن نوى به الطلاق فهو الطلاق ، وإلا فهو يمين ، وهذا قوْل طاوس والزهري والشافعي ورواية عن الحسن ، وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق ، فإن نواه به كان طلاقا ، وإن لم ينوِه كان يمينا ، كقوله تعالي : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) إلي قوله ( تحلة أيمانكم ) .
5 – أنه إن نوى بها الثلاث فثلاث ، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة ، وإن نوى يمينا فهو يمين ، وإن لم ينوِ شيئا فهي كَذْبة لا شيء فيها ، قاله سفيان الثوري والنخعي وأصحابه ، وحجة هذا القول أن اللفظ يحتمل لما نواه من ذلك فيتبع نيّته .
6 – أن فيه كفارة الظهار ، وصح ذلك عن ابن عباس أيضا وأبي قلابة وسعيد بن جبير ووهب بن مُنَبَّه وعثمان التيمي ، وهو إحدى الروايات عن أحمد ، وحجة هذا القول أن الله تعالي جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا ، وجعله منكرا من القول وزرا ، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا فإذا صرّح بتحريمها كان أوْلي بالظهار .
7 – أنه ينوى أيضا في أصل الطلاق وعدده ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، وإن لم ينوِ طلاقا فهو مُولٍ ، وإن نوى الكذب فليس بشيء ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وحجة هذا القول احتمال اللفظ لما ذكره ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة لاقتضاء التحريم للبيْنونة ، ولا يكون مظاهرا عنده نواه أو لم ينوه .(1/45)
8 – أنه يمين مغلظة يتعيّن فيها عتق رقبة ، صح ذلك أيضا عن ابن عباس وأبي بكر وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين ، وحجة هذا القول أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ، وحجة تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله .
9 – أنه طلاق ، وهو إحدى الروايتين عن مالك ، وحجة هذا القول أن اللفظ لما اقتضي التحريم وجب أن يترتب عليه حكمه ، وفي مذهب مالك خمسة أقوال .
10- إن أوْقع التحريم كان ظهارا ولو نوى به الطلاق ، وإن حلف به كان يمينا مكفرة ، وهذا اختيار ابن تيمية . انتهي كلام ابن القيم .
أوْردتُ هذا المثال حتى يتبين أن أمر الحكم والفتوى ليس بالأمر الهيّن حتى أنه اختلف فيه الأئمة كل هذا الاختلاف ، بل اختلف الإمام الواحد فيه علي أقوال .
المثال الثالث :
قال الله تعالي : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ) ولفظ – نكح – مشترك بين العقد والوطء ، فقد ورد في لسان العرب وفي القرآن الكريم بمعني العقد مرّة ، وبمعني الوطء أخرى ، فكان لابد من البحث عن القرائن التي ترجح أحد المعنين . ومن ثم نشأ الاختلاف بين الفقهاء في حكم زواج الابن بمن زني بها أبوه .
أ – حمل أبو حنيفة لفظ نكح في الآية علي الوطء ، فحكم يحرمه زواج الابن بمن زني بها أبوه .
ب- وحمله الشافعي وآخرون علي معني العقد ، فترتب علي ذلك عدم تحريم مَن زني بها الأب علي الابن ، والقاعدة عندهم أن الحرام لا يحرم الحلال .
المثال الرابع :
قال أبو حنيفة : إذا قال لزوجته : أنت عليّ مثل أمي : لا يكون مظاهرا ، لأن لفظ – مثل – بمنزلة المشترك لاختلاف جهة المماثلة بين الكرامة والحرمة ، فالألفاظ محتملة للشيئين ، أي أنها في الكرامة عليه مثل أمه ، أو أنها في الحرمة عليه مثل أمه ، فينصرف الكلام إلي أحد المعنيين بدليل يفيد غلبة الظن ، فهو لفظ مشترك حكما في استحالة إرادة جهتي المماثلة ، ولا تترجح جهة الحرمة إلا بالنية .
المثال الخامس :(1/46)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ذكاة الجنين ذكاة أمَّه ] رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنَّه ورواه ابن ماجة والدراقطني والبيهقي . وفي رواية لأحمد وأبي داود بلفظ : [ قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، وتذبح البقرة والشاة ، وفي بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه ] وكلمة ذكاة الثانية تُروي بالرفع في أكثر الطرق ، ورويت بالنصب ، والعرب تفرَّق بين المعنيين المتضادين بالحركات واللفظ واحد ، لذلك اختلف العلماء في حكم جنين الحيوان المذبوح إذا وجدناه ميتا .
أ – ذهب الجمهور من الفقهاء إلي أن الحيوان المأكول إذا ذكّيَ فخرج من جوْفه جنين ميت يجوز أكله ، واحتجوا بما يلي :
1 – حديث أبي سعيد وآخر لجابر رضي الله عنهما : [ ذكاة الجنين ذكاةُ أمّه ] قالوا : والروايات التي أخرجها المحدَّثون هي بالرفع ، وهي المحفوظة عن أئمة الشأن دون النصب . وتعرب كلمة – ذكاة – الثانية خبر المبتدأ – ذكاة الجنين – ويكون المعني : ذكاة أم الجنين ذكاة له . فيكون الحديث قد خص عموم الآية ، وأخرج الجنين الذي ذكيت أمه من حكم الميتة .
وتأوّلوا رواية النصب علي أنها منصوبة علي الظرفية ، يعني أن ذكاته حاصلة وقت ذكاة أمه ، وعند البيهقي ما يؤيد ذلك حيث أن روايته [ ذكاة الجنين في ذكاة أمه ] فالحديث ظاهر الدلالة في حل أكل الجنين الميت ، لأن ذكاة أمه عدّت عليه فأصبحت ذكاة له ، ولأن الجنين الحي لا إشكال فيه ، والحديث جواب علي السؤال عن الجنين الميت .
2 – أن الجنين تابع لأمه ، ولا يمكن ذبحه منفردا قبل أن يخرج ، فكانت ذكاة الأم مغنية عن ذكاته إن خرج ميتا
3 – أن القياس يقتضي أن تكون ذكاة الجنين في ذكاة أمه ، لأنه جزء منها ، وذكاتها ذكاة لجميع أجزائها ، فلا معني لاشتراط الحياة فيه .(1/47)
ب- وقال أبو حنيفة وزفر : لا يحل أكله ما لم يخرج حياً فيذكي ، لأن ذكاة حيوان لا تكون ذكاة الجنين كذكاة أمه ، أي ذكوه كما تذكون أمه .
المثال السادس :
للفظ المشترك بين معانٍ مختلفة غير متضادة :
قال الله تعالي : ( وإن كنتم مرض أو علي سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) وقال تعالي ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) . أمرنا الله أن نتيمم بالصعيد الطيب عند عدم الماء ، فما المراد بالصعيد الطيب ؟
الصعيد الطيب في كلام العرب ، يعرف العرب الصعيد بأنه التراب الخالص الذي علي وجه الأرض ، وكذلك وجه الأرض يسمّي صعيدا ، أي جميع أجزائها من أي جنس كانت ، كما أن الطريق يسمي صعيدا ، وأما لفظ الطيب من ذلك فيطلق علي تراب الحرث ، وعلي الطاهر ، كما يطلق علي الحلال . وبناء علي اشتراك هاذين اللفظين اختلف العلماء فيما يجوز التيمم به :
أ – ذهب الحنفية والمالكية والأوزاعي وعطاء والثوري ، وغيرهم إلي أن الصعيد وجه الأرض ، سواء كان عليها تراب أم لا ، فيجوز عندهم التيمم بكل ما صعد علي وجه الأرض من أجزائها كالحصا والرمل ونحوهما ، حتى بصخرة ملساء مغسولة لا تراب عليها ، وزاد أبو حنيفة فقال : وبكل ما يتولد من الأرض كالنورة والزرنيخ والجص والطين والرخام ونحو ذلك مما كان من أجزاء الأرض أو من جنسها . واحتجوا بما يلي :(1/48)
1 – عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ أُعطيتُ خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نُصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأُحلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأُعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة ، وبعثت إلي الناس عامة ] أخرجه البخاري ومسلم . فقد جعل الأرض نفسها طهورا ، ومسمي الأرض يشمل جميع أجزائها ، وكل ما ظهر علي وجهها من جنسها ، وقوله صلي الله عليه وسلم [ فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ] يشمل عموم الأشخاص وعموم الأماكن ويؤكد ذلك الحديث التالي :
2 – وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ جعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا ، فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة ، فعنده مسجده وطهوره ] رواه البخاري وأحمد البيهقي .
3 – وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال له : [ إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ] رواه البخاري ومسلم .
4 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه [ أن أناسًا من أهل البادية أتوا رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا : إنا نكون بالرمال الأشهر الثلاثة والأربعة ، ويكون فينا الجنب والحائض والنفساء ، ولسنا نجد الماء ؟ فقال صلي الله عليه وسلم : عليكم بالأرض ] رواه أحمد والطبراني والبيهقي .
فهذه الأحاديث تدل علي أن التيمم لا يختص بتراب ذي غبار . وقالوا ذكر التراب في بعض الأحاديث لا تدل علي اشتراطه ونفي ما عداه ، لما عُرف في الأصول من أن ذكر بعض أفراد العام لا يختص به ، فلم يحملوا المطلق علي المقيّد .(1/49)
ب – وذهب أكثر العلماء ، ومنهم الشافعية والحنابلة وأبو يوسف إلي أن الصعيد في الآية هو التراب الخالص ، سواء وجد علي وجه الأرض أو أُخرج من باطنها ، وقال أحمد : يتيمم بغبار الثوب . واحتجوا بما يلي :
1 – عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ فضَّلنا علي الناس بثلاث : جُعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء ، وأُعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم يعطها نبي قبلي .] رواه مسلم وأحمد . فجعل الصلاة علي عموم الأرض ، ثم خص التراب في التيمم ، ولو جاز بجميع الأرض لما نزل عن الأرض إلي التراب ، ومما يدل علي الاقتراف بينهما في الحكم التأكيد في جعلها مسجدا حيث قال : [ كلها ] دون الآخر .
2 – عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ التراب طهور المسلم ولو إلي عشر حجج ما لم يجد الماء ] رواه كل أصحاب السنن . قالوا : فقد دلت الأحاديث الكثيرة علي أن المراد بقوله تعالي (منه) هو التراب ، وحملوا اسم الصعيد الوارد في غير هذه الأحاديث علي التراب .
3 – روي البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الصعيد : الحرث ، حرث الأرض . أي مكان إلقاء البذر في الأرض المحروثة . فيكون التراب هو الطهور دون غيره .
4 – إن قوله تعالي (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) يقتضي أن يمسح بما له غبار يعلق بالعضو ، لأن مِنْ للتبعيض ، والتبعيض لا يتحقق إلا في المسح من التراب ، وإلا فلا يحصل المسح بشيء . قالوا : والطيب هو الطاهر والحلال ، ولذلك لا يجوز التيمم في اجتهادهم إلا بتراب يابس غير محترق ، له غبار ، يعلق بالعضو .
ومما اختلفوا فيه بسبب اللغة فيما هو حقيقة أو مجاز : حيث يقسم العلماء من حيث الاستعمال في المعني للفظ إلي أربعة أقسام : الحقيقة ، والمجاز ، والصريح ، والكتابة . وأكتفي بمثال واحد علي اختلافهم في ترجيح المجاز أو الحقيقة فيما يلي :(1/50)
المثال السابع :
قال الله تعالي : (وإن كنتم مرض أو علي سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيبا) اختلف العلماء في المراد من قوله تعالي : (أو لامستم النساء) بسبب اشتراك اسم اللمس ، فإن العرب تطلقه مرّة علي اللمس باليد ومرّة تكني به عن الجماع . قال أهل اللغة : اللمس يكون باليد وبغيرها ، وقد يكون بالجماع .
فذهب قوم منهم ابن مسعود ، وابن عمر ، وعبيدة ، والنخعي ، والشعبي ، وعطاء ، وابن سيرين ، والشافعي إلي أن المراد من اللمس بالآية حقيقة الملامسة ، وهي الجسّ باليد أو التقاء البشرتين مطلقا من جماع وغيره . وذهب آخرون منهم عليّ ، وابن عباس والحسن ، وقتادة ، ومجاهد وأبو حنيفة ورواية ثالثة لأحمد بن حنبل إلي أن اللمس هنا مجاز ، وهو كناية عن الجماع .
ولما كانت الآية تحتمل كلا المعنيين اختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء من مجرّد لمس الرجل المرأة أو العكس .
أ – ذهب الجمهور ومنهم المالكية والشافعية والحنبلية إلي أن المراد باللمس في الآية حقيقة الملامسة بين الرجل والمرأة ، فينتقض الوضوء بمجرد اللمس . واحتجوا بما يلي :
1 – عموم الآية ، فقد صرحت بأن اللمس من جملة الأحداث الناقضة للوضوء . واللمس يطلق حقيقة علي اللمس باليد ، ومجازا علي الجماع ، وإذا تردّد الدليل علي المجاز . فالمعني اللغوي المتبادر من اللفظ هو التقاء بشرتي الرجل والمرأة . ومما يؤيد بقاء اللمس علي معناه الحقيقي ما يلي :
: قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وقرأ بها حمزة والكسائي : (أو لامستم النساء) فإنه يدل علي أن اللمس يطلق علي الحبسّ باليد .
:(1/51)
ومن السنة : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [ نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن المنابذة وعن الملامسة ] وفي فضة ماعز رضي الله عنه [ أن النبي صلي الله عليه وسلم قال له : لعلك قبّلت أو لمست ] وفي حديث عائشة رضي الله عنها :[ قَلَّ يوم إلا ورسول الله صلي الله عليه وسلم يطوف علينا ، فيقبل أو يلمس ] .
2 – عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : [ قبلة الرجل امرأته وجسَّها بيده من الملامسة ، فمن قبّل امرأته ، أو جسها بيده فعليه الوضوء .] رواه مالك والشافعي وصحّحه النووي .
3 – وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : [ القبلة من اللمس ، وفيها الوضوء ، واللمس ما دون الجماع ] رواه البيهقي .
ب – وذهب قوم منهم الحنفية ورواية عن أحمد إلي عدم انتقاض الوضوء بمجرد اللمس ولو كان بشهوة ، لأن المراد باللمس في الآية الجماع . واحتجوا بما يلي :
1 – الآية الكريمة ، فإن اللمس يكون تارة باليد بغيرها ، لكن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلي أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء إنما هو الجماع ، ومن ذلك ما يلي :
: إن ذكر النساء قرينة تصرف اللمس إلي الجماع ، كما أن الوطء أصله الدوْس بالقدم ، وإذا قيل : فلان وطئ زوجته ، لم يفهم منه إلا الجماع . قال ابن السكيت : اللمس إذا قرن بالمرأة يراد به الجماع . تقول العرب : لمست المرأة : أي جامعتها . ومن كتابات العرب : فلان لا تردّ يد لامس .
والمجاز إذا كثر استعماله كان أدل علي المجاز منه علي الحقيقة ، كالحال في اسم – الغائط – فإنه أدل علي الحدث الذي هو فيه مجاز منه علي المكان المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة .
: أن الملامسة مفاعلة من اللمس ، وذلك إنما يكون بين اثنين . وتحمل قراءة (لمستم) علي قراءة (لامستم) المفسرة بالجماع ، لأن الأصل اتفاق معني القراءتين .
:(1/52)
أن الله سبحانه ذكر المسَّ وأراد به الجماع في آيات متفق علي معناها ، فقال تعالي : ( ولم يمسسني بشر ) حكاية عن مريم . وقال أيضا : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) وكذلك اللمس .
: الآية متعارضة التأويل ، وقد فسرها علي وابن عباس رضي الله عنهم بالجماع . فقد أخرج الطستي وابن حميْد عنه رضي الله عنه أنهم لما أكثروا عليه من السؤال عن اللمس في الآية – أي ابن عباس – وضع أصبعيه في أذنيه وقال : هو الجماع .
2 – عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنهما قالت : [ كنت أنام بين يدي النبي صلي الله عليه وسلم ورجلاي في قِبْلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتها ، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ] رواه البخاري ومسلم . والظاهر أن ذلك كان بدون حائل ، لأن النبي صلي الله عليه وسلم كان يغمزها في الظلام ، فلا يعلم أيمسها من فوق الحائل أو لا . فدل علي أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء .
3 – وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ فقدت رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلة في الفراش فالتمسته فوقعت يدي علي بطن قدميه ، وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ، وهو يقول : اللهم أعوذ برضاك من سخطك ... الحديث ] رواه مسلم والنسائي والترمذي .
4 – وعن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها : [ أن النبي صلي الله عليه وسلم قِبَّل بعض نسائه ، ثم خرج إلي الصلاة ولم يتوضأ . فقلت : ومَن هي إلا أنت ؟ فضحكت ] رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم
فهذه الأحاديث تدل علي أن لمس النساء ليس مناقض للوضوء ، وتؤيد بقاء الأصل ، وهو عدم الانتقاض ، وحمل الآية علي الجماع .
*** وقد يكون اختلاف الفقهاء بسبب ما يحتاج الفقيه إلي معرفته من معاني الألفاظ المفردة ، ومنها الحروف التي تدل علي معني في غيرها ، مثل الواو ، وأو ، وثم ، وغيرها من الحروف ، ونقتصر علي مثال واحد من اختلافهم في فهم معني – الواو – في آية واحدة وهي :(1/53)
قول الله عز وجل : ( ولا تأكلوا مما لا يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) والاختلاف في قوله تعالي : (وإنه لفسق) وذلك أن الواو – في كلام العرب من أهم معانيها : مطلق الجمع ، وتأتي بمعني مع ، وتأتي بمعني أو ، وتأتي للحال ، وتأتي للاستئناف ، وتأتي بمعني رُبَّ ، وتأتي حرف جر ، والواو في آيتنا هذه فيها ثلاثة وجوه للفقهاء الميتة والذبائح التي يتقرب بها المشركون للأوثان وذبائح رصيد الكفار الذين ليسوا من أهل التذكية ، فيحرم علي المسلمين أكل ما ذُكر ، فالواو هنا هل هي للعطف ، أو للاستئناف ، أو الحال ، فاختلف الفقهاء في حكم ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية عمدا أو سهوًا :
أ – ذهب قوم منهم الشافعية وأحمد في رواية عنه وبعض المالكية وقتادة والحسن والنخعي إلي أن التسمية ليست شرطا في الصيد والذبح ، بل تستحب استحبابا متأكداً ، فلو تركها عمدًا أو سهوا حلَّت الذبيحة والصيد ، فقد رأوا أن الواو في الآية للحال ، ومنعوا أن تكون للعطف بسبب تخالف الجملة التي قبلها مع ما بعدها طلباً وخبراً . فتعين أن تكون الجملة بعدها حالية ، أي لا تأكلوا حال كونه فسقا . والفسق هنا مجمل ، لكن فسَّرته أية أخري في السورة نفسها حيث قال الله تعالي : (أو فسقا أُهل لغير الله به) فيكون المقصود في الآية النهي عما ذكر عليه اسم غير الله ، فكأنه قال : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ، بل ذكر عليه اسم الله ، فإنه والحالة هذه فسق ، وهكذا حصروا المحرّم في الميتة وفيما ذكر اسم غير الله . واحتجوا بما يلي :
1 – قوله تعالي : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمختنقة والموقودة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ) فذكر التذكية ، ولم يذكر التسمية ، والذكاة لغة : الشق والفتح ، وقد وُجِدا .
2 – قوله سبحانه : ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ) فأباح ذبائح أهل الكتاب ، ولم يشترط التسمية .(1/54)
3 – عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ إن قوما قالوا : يا رسول الله إن قوما يأتونا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سمُّوا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد الكفر ] رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة .
4 – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم [ إذا ذبح المسلم ، ولم يذكر اسم الله فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله ] رواه الدارقطني وله شاهد عند أبي داود بلفظ : [ ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله عليه أم لام يذكره ] .
5 – قد أجمعت الأمة علي أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق . فوجب عمل الآية علي ما ذكر . وهذا قوا ابن عباس وأبي هريرة من الصحابة رضي الله عنهم .
ب – وذهب قوما منهم الظاهرية والشعبي وابن سيرين إلي أن التسمية فرض فلا يحل أكل متروك التسمية مطلقا ، سواء كان الترك عمدًا أو سهوا ، واحتجوا بما يلي :
1 – الآية الكريمة : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ورأوا أن الواو للعطف أو الاستئناف إذا امتنع عطف الخبر علي الطلب ، دون الحال ، وفي كلتا الحالتين يكون النهي واردا علي ما لم يذكر اسم الله عليه مطلقا ، سواء ذكر عليه حين الذبح اسم غير الله أو لم يذكر .
2 – قول الله تعالي : ( فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه ) .
3 – عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : [ قلت : يا رسول الله ، إنْ أحدنا أصاب صيْدا ، وليس معه سكين ، أيذبح بالمروة وشِقَّة العصا ؟ قال : امْرر الدم بما شئت ، واذكر اسم الله عز وجل ] رواه أبو داود والنسائي .
4 – وعنه رضي الله عنه قال : [ سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت : إنا قوم تتصيّد بهذه الكلاب ؟ فقال : إذا أرسلت كلابك المعلَّمة ، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك ] رواه البخاري ومسلم .(1/55)
5 – وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال له : [ وما صدتَ بقوْسك ، فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلَّم فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ] رواه البخاري ومسلم .
ج – وذهب الجمهور ومنهم الحنفية ومالك في المشهور من مذهبه وأحمد في رواية ثانية عنه والثوري وإسحاق وربيعة وابن جبير إلي أن التسمية شرط للإباحة مع الذكر جون النسيان ، فإن تركها سهوا لم يضر ، وإن تركها عمدًا لم تحل ، واحتجوا علي اشتراطها عند الذكر بما احتجت به الطائفة الثانية ، أما عند النسيان فيما يلي :
1 – عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ إن الله وَضَع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما .
2 – وعن رائد بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ذبيحة المسلم حلال ، وإن لم يسم ، ما لم يتعمد ] رواه سعيد بن منصور .
3 – وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : [ المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمَّي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله ] رواه البيهقي والدارقطني وعبد الرزاق .
4 – أن الناسي باتفاق ليس بفاسق ، والأكل مما نسيت عليه التسمية ليس بفسق .
*** للعلماء مسالك في معالجة النصوص الواردة في الشرع من حيث تفسيرها واستنباط الأحكام منها ، وهذا أمر واسع ، يحتاج إلي بيان وليس ذلك من غرضنا في هذا الكتاب ومحله علوم أصول الفقه ، وأكتفي بإيراد عناوين هذه المسائل دون ذكر معانيها وأحكامها واختلاف الفقهاء فيها وأمثلتها الكثيرة .(1/56)
فمن حيث وضوح الدلالة وعدمه تنقسم الألفاظ إلي ظاهر وخطي ، ونص ومُشكل ، ومفسَّر ومجمل ، ومحكم ومتشابه . كما قسم العلماء الألفاظ من حيث الوضوح والإبهام إلي دلالة النص ، ودلالة الظاهر ، ودلالة العبارة ، ودلالة المفهوم من حيث الموافقة ، والمخالفة ، ومفهوم الصفة ، ومفهوم الشرط ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم العدد ، ومفهوم اللقب .
ثم الألفاظ من حيث مقدار شمولها ينقسم إلي عام وإلي خاص ، وإلي عام يراد به الخصوص ، وعام مطلق مخصوص ، وعطف الخاص علي العام ، والاستثناء وشروطه ، والشرط والصفة والغاية وبدل البعض من الكل ، والتخصيص بالنص والإجماع وبالقياس وبالعقل والعرف . ثم الألفاظ من حيث أوصاف شمولها ، المطلق والمقيّد ، وحمل المطلق علي المقيّد . ثم هناك صيَغ التكليف ، الأمر وصيغه ، والنهي وصيغه ، وورود صيغ الأمر في غير الوجوب ، ودلالة الأمر المطلق علي التكرار ، وهل يقتضي الفورية ، أو هل يقتضي الاستيعاب ؟ وكذلك صيغ النهي
3 – الاختلاف في الجمع والترجيح بين النصوص :
قد تتعارض ظواهر النصوص الشرعية ، فيختلف العلماء في الجمع بين ظواهرها والتوفيق بين معانيها ، أو في ترجيح بعضها علي بعض ، مما ينتج عنه اختلاف في الأحكام الشرعية . وباب الجمع والترجيح بين النصوص ، باب دقيق يتجلّي فيه تفاوت الأفهام وعمق النظر ، إذ يحاول العلماء أوّلا الجمع بين النصوص ما أمكن الجمع عملاً بالأدلة جميعا ، فإذا لم يكن الجمع فيصيرون إلي ترجيح بعضها علي بعض . والشرعية في الأصل لا يتعارض بعضها مع بعض ، ولكن التعارض في ظاهر النصوص يكون بالنسبة إلي المجتهد حسب مداركه العلمية ، فقد يهتدي المجتهد إلي مأخذ لم يلحظه غيره ، أو يقتنع بوجهة لا يوافقه عليها الآخرون .(1/57)
ولهذا كان ميدان الجمع والترجيح سببا هامًّا من أسباب اختلاف الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية . وأسباب الترجيح بين النصوص كثيرة فصلها علماء الأصول ، وملخصها في الأسباب الآتية :
أ – ترجيح يعود إلي سند النصوص المتعارضة : كأن يرجح النص المتواتر علي المشهور ، أو ترجيح رواية الأعلم والأضبط من الرواة علي غيره وغير ذلك من الأسباب التي تعود إلي السند .
ب – ترجيح يعود إلي المتْن ، كأن يكون أحد النَّصَّين أمرا والآخر باهيا ، فيرجح النهي علي الأمر ، أو يكون التعارض بين نص مجازي وآخر حقيقي فترجح الحقيقة علي المجاز ، وغير ذلك مما يتعلق بالمتن .
ج – وقد يكون التعارض عائدا إلي مدلول النصوص ، كمدلول يفيد التحريم وآخر يفيد الإباحة ، فيقدم التحريم علي الإباحة ، وغير ذلك مما يعود إلي المدلول من النصوص .
د – ويكون التعارض أيضا بين أمر خارج عن النصوص الشرعية ، كأن يرجح نص شرعي لموافقته للقياس ـ أو لدليل آخر منصوص عليه ، أو لكتاب أو السنة أو الإجماع ، فيرجح ما له مؤيد آخر غير النص علي ما ليس له ما يؤيده .
وهناك أسباب أخري للترجيح مفصلة في كتب الأصول يمكن الرجوع إليها للوقوف علي أسباب الاختلاف بين الفقهاء بسببها . ومن أمثلة التعارض التي استتبعت الاختلاف بين العلماء في الأحكام الفقهية ما يلي :(1/58)
1 – اختلاف العلماء في كيفية صلاة الكسوف : فقد ذهب مالك والشافعي وأحمد إلي أن صلاة الكسوف ركعتان ، في كل ركعة ركوعان . وذهب أبو حنيفة وأهل العراق إلي أن صلاة الكسوف ركعتان علي هيئة صلاة العيد وصلاة الجمعة . وسبب هذا الاختلاف أنه قد وردت أحاديث صلاة الكسوف بكيفيات مختلفة ، فمنها ما يدل علي أن النبي صلي الله عليه وسلم صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان ، وأحاديث أخري صحيحة تفيد أن رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاها كغيرها من الصلوات ، فمن هذه الأحاديث ما وردت عائشة رضي الله عنها قالت : [ خسفت الشمس علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فصلي بالناس فقام وأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول ، ثم ركع فأطال الركوع ، وهو دون الركوع الأول .... الحديث ] ومثله ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما .(1/59)
واحتج الحنفية بحديث أبي بكرة رضي الله عنه : [ أن النبي صلي الله عليه وسلم صلي ركعتين مثل صلاتكم هذه] وبحديث سمرة رضي الله عنه وفيه : [ قرأ بسورتين وصلي ركعتين ] . قال الشوكاني في نيل الأوطار : قد اختلف العلماء في صفتها بعد الاتفاق علي أنها سنة غير واجبة كما حكاه النووي ، فذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور إلي أنها ركعتان في كل ركعة ركوع واحد . وقال حذيفة رضي الله عنه : في كل ركعة ركوعان . قال الإمام النووي : قد قال بكل نوع جماعة من الصحابة . وقال ابن عبد البر : أصح ما في الباب ركوعان وما خالف فمعلّل أو ضعيف . وقال ابن حجر في الفتح : جمع بعضهم بين هذه الأحاديث بتعدّد الواقعة وأن الكسوف وقع مرارا فيكون كل من هذه الأوجه جائزا . وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابي : يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك وهو من الاختلاف الجائز المباح ، وقد قوّي هذا الرأي النووي في شرح مسلم ، وقال ابن جريد الطبري : الأمر علي التخيير ، فللمرء أن يصليها هكذا وهكذا ، فالجميع جائز مشروع ، وقال في ذلك القاضي عياض : والجمع أوْلي من الترجيح .
وهناك اختلاف آخر في صلاة الكسوف ، وهو اختلافهم في كيفية القراءة ، فذهب مالك والشافعي إلي أن القراءة فيها سرَُّ ، وقال أبو يوسف وأحمد وإسحاق : يجهر بالقراءة فيها ، وقال الطبري كذلك : فالجميع جائز مشروع .
2 – اختلاف العلماء في قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام : فقد اختلفوا في ذلك علي ثلاثة مذاهب أساسية :
أ – أن المأموم يقرأ مع الإمام فاتحة الكتاب سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية ، وهذا مذهب الشافعي .
ب- أنه لا يقرأ المأموم مع الإمام مطلقا ، سواء كانت الصلاة سرية أو جهرية ، وهو مذهب أبي حنيفة .
ج – أن يقرأ المأموم في السرية ولا يقرأ في الجهرية ، وهو مذهب مالك وأحمد .(1/60)
وسبب اختلافهم هو اختلاف النصوص الواردة في هذا الأمر وتعارضها ، فمنهم من رجّح نصًّا علي نص ، فقال بالقراءة ، مطلقا ، ومنهم من رجّح النص الآخر فقال بعدم القراءة ، ومنهم من حاول الجمع بين النصوص ، فحمل أحاديث النهي عن القراءة علي الصلاة الجهرية ، وحمل الأحاديث الأخرى علي الصلاة السرية كما فعل الإمام مالك وغيره . قال الإمام الترمذي في سننه : قد اختلف العلماء في القراءة خلف الإمام فرأي أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم ، والتابعين ومن بعدهم القراءة خلف الإمام ، وبه يقول مالك وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق . وقال الإمام البخاري في جزء القراءة خلف الإمام له بعد أن ناقش الخلاف : وهذه المسألة من المضايق . أي أنها من المسائل التي لا يقطع فيها برأي راجح . وقال الإمام ابن مبارك : أنا أقرأ خلف الإمام ، والناس يقرأون إلا قوما من الكوفيين ، ورأي أن مَن لم يقرأ صلاته جائزة .
3 – اختلاف العلماء في جريان ربا النسيئة في بيع الحيوان بالحيوان :
أ – ذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما من الأئمة إلي جريان ربا النسيئة في بيع الحيوان ، فلا يصح عندهم بيع شاة بشاتين مؤجلا ، واستدلوا بحديث سمرة رضي الله عنه : [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ] رواه الخمسة .
ب – وذهب الشافعي وغيره إلي عدم جريان الربا في الحيوان ، فيصح عندهم بيع الحيوان بجنسه متفاضلاً ومؤجلاً . واستدلوا بحديث أبي رافع رضي الله عنه : [ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم استسلف بعيرا بكرًا وقضي رباعيًّا ] رواه مسلم .(1/61)
قال الحنفية : إن حديث سمرة ناسخ لحديث أبي رافع فيقدَّم عليه . وقال الشافعية : يمكن الجمع بين الأحاديث التي أفادت بيع الحيوان بالحيوان مؤجلا ، وبين حديث سمرة الذي ينهي عن ذلك ، بأن نحمل لفظة – نسيئة – في حديث سمرة نحمله علي النسيئة من الطرفين ، فيكون من بيع الديْن المتفق علي تحريمه ، ويبقي الدْين من طرف واحد جائزا كما تفيده الأحاديث الأخرى . وقد رجح هذا القول بالجمع بين هذه الأحاديث المتعارضة الصنعاني في سبل السلام لإمكان الجمع علي قول الشافعي ، ولعدم وجود دليل صريح علي النسخ ، ولأن حديث رافع أقوي سندا من حديث سمرة . وقال الشوكاني في نيل الأوطار : فلم يبق هنا إلا طريق الجمع إن أمكن ذلك ، أو المصير إلي التعارض ، وقد أمكن الجمع بما سلف عن الشافعي ، ولكنه متوقف علي صحة إطلاق النسيئة علي بيع المعدوم بالمعدوم ، فإن ثبت في كلام العرب لغةً أو في اصطلاح الشرع فذاك ، وإلا فلا شك أن أحاديث النهي ، وإن كان كل واحد منها يخلو عن مقال ، ولكنها تثبت عن طريق ثلاثة من الصحابة ، وبعضها يقوَّي بعضا ، وأيضا فقد تقرر في الأصول أن دليل التحريم أرجح من دليل الإباحة .
بهذه الأمثلة المتنوّعة وغيرها يتضح سعة باب الجمع والترجيح بين النصوص ، وأنه سبب كبير من أسباب اختلاف العلماء في استنباط الأحكام الذي لا يمكن رفعه .
4 – الاختلاف في بعض مصادر الاستنباط في الأخذ ببعض القواعد الأصولية :
من المسلمات عند أهل العلم ، أن الفقهاء المجتهدين اختلفوا فيما بينهم في حُجيَّة بعض المصادر والأصول الاجتهادية ، مثل اعتماد الإمام مالك علي حجية عمل أهل المدينة دون غيره من الأئمة ، ومثل عدم اعتماد الحنفية العمل بمفهوم المخالفة ، أو عدم اعتمادهم إمكان حمل العام علي الخاص ، وحمل المطلق علي المقيد . ومن هذه الأمثلة ما يلي :
1 – اختلافهم في حجية عمل أهل المدينة :(1/62)
يري الإمام أن إجماع عمل أهل المدينة علي أمرٍ ما حُجة قوية يستدل به علي الأحكام الشرعية . وقد خالفه في احتجاجه هذا ، ولم يعتبروا إجماع أهل المدينة دون غيرهم حجة شرعية . وقد نشأ عن ذلك الاختلاف في بعض الأحكام الشرعية مثل :
أ – يذهب مالك إلي عدم توريثهم . وخالف في ذلك الجمهور فقالوا بتوريثهم علي تفصيل بينهم في طريقة ذلك التوريث عملا بعموم الآية في قوله تعالي : ( وأولوا الأرحام بعضهم أوْلي ببعض في كتاب الله ) وعملا بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم عند أحمد في مسنده وعند غيره عن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال : كتب عمر إلي أبي عبيدة رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ الله ورسوله مولي من لا مولي له ، والخال وارث من لا وارث له ] وهو حديث حسنه الترمذي ، وصححّه ابن حبان . وقال مالك في موطنه مستدلاً لذلك : [ الأمر المجتمع عليه عندنا الذي لا اختلاف فيه ، والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا أن ابن الأخ لأم ، وابنة الأخ للأب والأم ، والعمة والخالة ، لا يرثون بأرحامهم شيئا ] .
ب – ذهب مالك إلي القول بأن المحرّم في الرضاع قليله وكثيره دون تحديد ، وخالف الجمهور الذي أخذ بحديث عائشة رضي الله عنها في الرضاع وهو قولها : [ كان فيما أُنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرَّمن ، ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن ] قال مالك : وليس علي هذا العمل – أي بالمدينة – والحديث رواه مسلم وغيره .
2 – اختلافهم في حجية مفهوم المخالفة :(1/63)
ومفهوم المخالفة ، ويسمّي دليل الخطاب ، هو دلالة اللفظ علي ثبوت حكم للمسكون عنه مخالفٍ لما دَلّ عليه المنطوق ، لانتقاء قيد من القيود المعوّل عليها في الحكم . ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر علي نفي الحكم عما عداه ، فيكون المسكوت عنه مخالفاً في الحكم للمنطوق نفْيًا وإثباتا . مثل قوله تعالي : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئا مريئا ) ومفهوم المخالفة أنه إذا لم تطب نفس الزوجة ، فهل يجوز للزوج أن يأخذ شيئا من المهر ؟ . وعن الشريد بن سود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ليَّ الواجد ظلم ، يحل عرضه وعقوبته ] رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة ، وقد أخذ العلماء بمفهوم المخالفة في هذا الحديث ، وهو أن ليّ غير الواجد لا يحل عقوبته ولا عرضه .
وقد اختلف الأئمة في العمل بالمفهوم المخالف ، فذهب الحنفية وآخرون إلي أن مفهوم المخالفة لا يصلح للاحتجاج في كلام الشارع ، ولا يعوّل عليه في فهم الأحكام الشرعية ، أما في المصنفات الفقهية وكلام الناس في العقود والشروط فيؤخذ به ، نزولا علي حكم العرف والعادة ، وذهب أكثر المتأخرين من الحنفية إلي عدم الأخذ بمفهوم المخالفة في كلام الشارع فقط ، وذهب غيرهم من الحنفية إلي عدم الأخذ بمفهوم المخالفة مطلقا .
وذهب الجمهور ومنهم مالك والشافعي وأحمد إلي الأخذ بمفهوم المخالفة والاحتياج إليه والاحتجاج به وإثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه واحتجوا بأدلة كثيرة ، لغوية ، وعقلية وشرعية ، ولكن بشروط بينوها تردّ علي أصحاب المذهب الآخر . ومن الأمثلة علي الاحتجاج بمفهوم المخالفة ما يلي :
أ – قال تعالي : ( إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ) فلما نزلت قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ سأزيد علي السبعين ] رواه البخاري ومسلم ، وهذا يدل علي أن حكم ما عدا السبعين بخلافه .(1/64)
ب- قال سبحانه : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) قال يَعْلي بن أمية لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما : [ ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا فقال : تعجبتُ مما تعجبتَ منه ، فسألت النبي صلي الله عليه وسلم فقال : هي صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ] رواه مسلم وأحمد وغيرهما . وتعجبهما إنما كان من بطلان مفهوم التخصيص في الآية .
ج – أحاديث زكاة الأنعام ورد فيها قيد – السائمة – أي التي ترعي ولا تعلق فيها الزكاة . فأثبت الزكاة في السائمة ونفاها في غير السائمة وقد أخذ بذلك جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية .
د – قال تعالي : ( ومن لم يستطع منكم طَوْلا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) ففي الآية وصف قيد المحصنات والفتيات بكونهن مؤمنات ، فهل يتوقف حِلّ الزواج بالإماء علي الإيمان فلا تحل الأمة غير المسلمة ؟ ذهب الجمهور إلي تحريم الزواج من الأمة الكافرة ولو كانت كتابية ، عملا بمفهوم الصفة في هذه الآية ، وذهب الحنفية إلي حل الزواج من الأمة مطلقا سواء كانت كتابية أو مسلمة ، وسواء كان عنده طوْل الحرّة أوْ لا ، عملا بالعمومات الواردة في النكاح ، مثل قوله تعالي : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) وقوله تعالي : ( وأحل لكم ما وراء ذالكم ) وقوله تعالي : ( و|أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) .
هـ - قال تعالي : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) دلّت الآية بمنطوقها علي وجوب الإنفاق علي المطلقة إن كانت حاملا وهذا أمر مجمع عليه ، أما إذا كانت غير حامل فهل لها النفقة ؟ ذهب الجمهور إلي أنه لا نفقة لها عند عدم الحمل أخذا بمفهوم الشرط .
وذهب الحنفية إلي وجوب النفقة لكل معتدة من طلاق ، سواء كانت حاملا أو غير حامل ، لأنهم يرون أن النص ساكت عن حكم نفقة غير الحامل .(1/65)
وجدير بالذكر هنا : أن كثيرا من الأحكام قد ينفق عليها العلماء مع أن دليل بعضهم فيها مفهوم المخالفة ، ويوافقهم غيرهم لدليل آخر يعتمدون عليه في هذه الحكم كالبراءة الأصلية وغيرها .
3 – اختلافهم في حمل النص العام علي النص الخاص عند التعارض :
يطلق اللفظ في لسان العرب ، فإن دل علي الاستغراق والشمول دون حصر بعدد فهو العام ، وإن دل علي معني واحد علي سبيل الانفراد أو علي كثير محصور فهو الخاص . مثل : رجل ، أو محمد ، أو إنسان ، أو قوم ، أو فريق ، أو مائة ، أو نحو ذلك مما يدل علي عدد من الأفراد ، ولا تدل علي استغراق جميع الأفراد .
والعام هو اللفظ الموضوع وضعا واحدا للدلالة علي جميع ما يصلح له من الأفراد لفظا . مثل : رجال ، أو إناث ، ونحو مَن ، وذلك علي سبيل الشمول والاستغراق من غير حصر في كمية أو عدد معين . ومثال الخاص قوله تعالي : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) فهذا نص خاص بالنسبة للإطعام في كفارة اليمين ، فلا يجوز لأحد صرف هذا النص عن مدلوله بزيادة أو نقصان .
ومثال العام في قوله تعالي : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فلفظ – السارق والسارقة – عام موضوع وضعا واحدا ليدل علي شموله واستغراقه لكل سارق وسارقة ، من غير حصر في كمية معينة أو عدد معين ، فكل من صدق عليه أنه سارق قطعت يده . اختلف العلماء في جواز حمل النص العام علي النص الخاص عند التعارض ، بناء علي اختلافهم في دلالة العام ، حيث قال الجمهور : إن دلالة العام ظنيَّة ، وقال الحنفية : إن دلالته قطعية ، ولهذا يحمل الجمهور العام علي الخاص ، فيعملون بالخاص فيما دلّ عليه ، ويعملون بالعام فيما وراء ذلك ، وأما الأحناف فلا يحملون العام علي الخاص ، وإنما يعمدون إلي الترجيح بينهما كدليلين متعارضين بأي طريق من طرق الترجيح إذا تعذر الجمع بينهما .
ومن أمثلة الاختلاف في ذلك ما يلي :(1/66)
1 – قال تعالي : ( فإن طلقها فلا تحل له بعد حتى تنكح زوجا غيره ) فهذا نص خاص في وجود النكاح من المرأة ، حيث أسند الفعل إليها . فهل يجوز لها أن تزوَّج نفسها بدون إذن وليها ؟ وهل يكون العقد صحيحا ؟ ذهب الجمهور إلي أن عقد النكاح لا ينعقد بعبارة النساء للأحاديث المانعة من ذلك ومنها : عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ أيما امرأة نُكحت بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ...] الحديث رواه أحمد وأبو داود . والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن حبان وصحّحه .
وذهب أبو حنيفة إلي جواز إنكاحها نفسها بالغة بغير وليّ . وأنه ينعقد في الكفء دون غيره ، وقال محمد بن الحسن : ينعقد موقوفا علي إجازة الولي ، وحجتهم في ذلك أن الآية نص خاص قطعي الثبوت والدلالة في وجود النكاح من المرأة ، وقد تعارضت مع الحديث ، وهو ظنيّ الثبوت ، لأنه خبر آحاد ، فلا يترك العمل بالخاص القطعي من أجل الخبر الظنيّ .(1/67)
ب – قال تعالي : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) وردت هذه الآية في الصلاة ، بدليل السياق ، وهي نص عان في جميع ما تيسر من القرآن الكريم . وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال :[ لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ] رواه البخاري ومسلم ، فهل يخص عموم الآية وتتوقف صحة الصلاة علي قراءة الفاتحة ؟ ذهب الشافعية إلي أنها تتوقف ، وهم يثبتون ركنية الفاتحة ، لأنهم يحملون العام علي الخاص ويخصصونه به ، لأن العام عندهم ظنيّ الدلالة ، وإن كانت الآية قطعية الثبوت ، والحديث هنا ظني الثبوت قطعي الدلالة . فتبطل الصلاة عندهم بتركها ولا يقوم غيرها مقامها . وذهب الحنفية إلي أنها ليست فرضا فلا تتوقف صحة الصلاة عليها ، بل الفرض عندهم قراءة ما تيسر من الفران ، لأنهم يرون أن الآية عامة ، وهي قطعية الثبوت والدلالة ، والحديث خبر آحاد ، أي ظني الثبوت فلا يعارض عموم الآية ، وحملوا الحديث علي نفي الكمال ، أي لا صلاة كاملة .
ج – عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ فيما سقت السماء والعيون أوْ كان عَثَرِيًّا العُشر ، وفيما سُقِيَ بالنصح نصف العُشر ] رواه البخاري وأبو داود وغيرهما . فهذا نص عام في وجوب الزكاة مطلق لم يقيّد بحدًّ معيّن . لكن ثمة نص آخر خاص يبيّن نصاب الزكاة في الثمار والزروع ، فلا يوجبها دون خمسة أوْسق وهو ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حَبًّ صدقة ] رواه البخاري ومسلم . وحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ ليس فيما دون خمسة أوَاقِ من الورِق ، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ] رواه مسلم فهل يُحمل العام علي الخاص ؟(1/68)
ذهب الجمهور إلي أن حديثي أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما مبيَّنان لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ، لأنه عام ، وقد بيَّن أصل الوجوب ومقداره في الخارج من الأرض . أما الحديثان الآخران فقد بينَّا مقدار النصاب ، فهما مخصصان لعموم الأول . ويري الجمهور أن العام ظني الدلالة ، والخاص قصعيها ، ولذلك يقدمون الخاص علي العام ويخصصونه به ، فلا يوجبون الزكاة فيما دون خمسة أوسق . وذهب أبو حنفية إلي أن الزكاة واجبة فيما يخرج من الأرض قليله وكثيره لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، ولم يخصصه بحديثي أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما ، لأنه لما كان العام عنده قطعي الدلالة حَكَم بالتعارض بين الحدثين ، فرجح العمل بالحديث العام .
د – وردت آيات كثيرة تحكم بقتل القاتل عمدًا ، منها قوله تعالي : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) وقوله تعالي : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ..) وهي نصوص قطعية الثبوت وقطعية الدلالة تفيد أن النفس بالنفس . لكن وردت آثار خاصة تفيد أن المسلم لا يُقْتل بالكافر . منها ما يلي :(1/69)
عن أبي جحيْفة رضي الله عنه قال : [ قلت لعلي رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن ؟ قال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهمًا يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل – أي الدَّية – وفكاك الأسير ، وألا يُقتل مسلم كافر ] رواه البخاري وأحمد وأصحاب السُّنن ، وروي أحمد وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ المؤمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يدٌ علي مَن سواهم ، ويسعي بذمتهم أدناهم ، أَلاَ لا يُقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ] فهل يُقتلُ المسلم بالذميّ ؟ ذهب الجمهور إلي أن المسلم لا يُقتل بالكافر مطلقا ، لا بالذمي ولا بغيره ، لأن هذه الأحاديث خصصت تلك العموميات الواردة في القرآن ، وليس هناك تعارض بينهما ، لأن العام عندهم ظني الدلالة ، والأحاديث ظنية الثبوت ، والظني يخصص الظني . وذهب أبو حنيفة إلي أن المسلم يقتل بالذمي ، واحتج بعموم تلك الآيات ولم يخصها بالأحاديث ، لأن الآيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة ، والأحاديث ظنية الثبوت لأنها أخبار آحاد وليست مشهورة ، ولذلك حمل لفظ – الكافر – الوارد فيها علي أم المراد به الحْربيّ بدليل قوله صلي الله عليه وسلم : [ لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ] .
4 – اختلافهم في حمل المطلق علي المقيّد :(1/70)
اختلف الفقهاء في حمل النص المطلق علي المقيد اختلافا يشبه اختلافهم في حمل النص العام علي الخاص . ذهب الجمهور إلي حمل المطلق علي المقيد بشروط تعرف في علم أصول الفقه ، وخالف في ذلك الحنفية فقالوا : لا يحمل المطلق علي المقيد . واللفظ المطلق : هو الشائع في جنسه من غير شمول ولا تعيين ، مثل رجل ، طائر ، جريمة ، ونحو ذلك . والمقيد : هو اللفظ الخارج عن الشيوع بوجه عام . مثل : رجل مسلم ، وطائر أبيض ، وجريمة تزوير ، ونحو ذلك . وحكمه : وجوب العمل به علي أساس التقييد ، ولا يصح إهماله والعدول عنه إلي الإطلاق ما لم يقم الدليل فإذا ورد في موضوع واحد نصان أفادا حكما واحدًا ، لكن ثمة إطلاق وتقييد في سبب الحكم ، فهل يحمل المطلق علي المقيد ؟ ذهب الحنفية إلي أنه لا يحمل ، بل يعمل بكل في دائرته . واحتجوا بأدلة من آيات الكتاب الكريم ، ومن سنة النبي صلي الله عليه وسلم وذهب الجمهور إلي حمل المطلق علي المقيد . واحتجوا كذلك بأدلة كثيرة ومن الأمثلة علي اختلافهم لهذا السبب ما يلي :
أ – عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : [ الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها وإن كان غائبا ، إذا كان طريقهما واحد .] رواه أحمد وأصحاب السنن . وعن أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ الجار أحق بصقبه ] رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، ومعني صقبه : أي بقربه وشفعته . فهنا الحكم واحد ، وهو أخذ المبيع بالشفعة ، لكن سبب الأخذ وهو الجوار ورد في حديث جابر رضي الله عنه مقيّد بالاشتراك في الطريق ، وورد في حديث أبي رافع رضي الله عنه مطلقا . فهل يحمل المطلق علي المقيد ؟ ذهب الحنفية إلي عدم الحمل ، فتجب الشفعة للجار إذا كان مشتركا في الطريق .(1/71)
ب- قال الله تعالي في كفارة الظهار : ( فتحرير رقبة من قبل أن يتماسَّا ) وقال سبحانه في كفارة اليمين : ( أو تحرير رقبة ) وقال جل شأنه في كفارة القتل خطأ : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) فلفظ الرقبة ورد في الآيتين الأولي والثانية مطلقا ، وورد في الثالثة مقيدا بصفة الإيمان ، والحكم متحد ، وهو وجوب تحرير رقبة كفارة لكن السبب مختلف ، فهو في الآية الأولي إرادة المظاهر العود إلي الاستمتاع بزوجته ، وفي الآية الثانية الحنث في اليمين ، وفي الآية الثالثة القتل الخطأ ، فهل يحمل المطلق علي المقيد ؟
ذهب الحنفية إلي عدم الحمل ، وأوْجبوا العمل بكل نص حيث ورد ، فيجزئ في كفارة الظهارة وكفارة اليمين في اجتهادهم تحرير رقبة كافرة ، واحتجوا بأدلة . وذهب الجمهور إلي حمل المطلق علي المقيد ، فلا يجزئ عندهم إلا تحرير رقبة مؤمنة في الظهار وغيره ، واحتجوا بأدلة .
ج – قال تعالي بصدد المداينة : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضوْن من الشهداء ) وقال سبحانه بصدد المراجعة في الطلاق : ( وأشهدوا ذَوَيْ عدل منكم ) فأطلق الشهود في الآية الأولي ، وقيّدهم بالعدالة في الثانية . والحكم واحد ، وهو الاستشهاد بشهيدين ، والسبب مختلف وهو الآية الأولي المداينة ، وفي الثانية المراجعة . فلا يحمل المطلق علي المقيد عند الحنفية . ويحمل المطلق علي المقيد عند الجمهور ، فتكون العدالة شرطا في الشهود علي الأموال والحدود والزواج وغير ذلك مما يشترط له الإشهاد .
أهلية الاجتهاد :(1/72)
المجتهد وارث الأنبياء وقائم بفرض الكفاية ، ولكنه معرّض للخطر والخطأ . قال الإمام محمد بن المنكرر : العلم بين الله وخلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم . وقال أبن الصلاح في كتابه أدب الفتوى : روينا عن أبي حصين الأسدي أنه قال : إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت علي عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل برر ، وقال روينا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من أفتي الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون . وقال : روينا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول : سمعت أبي يقول : سمعت الشافعي يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : سمعت محمد بن عجلان يقول : إذا أَغْفَل العالم – لا أدري – أُصيبت مقاتله . قال وهذا إسناد جليل عزيز جدا ، لاجتماع أئمة المذاهب الثلاثة فيه بعضهم عن بعض . وروينا عن سُحْنون إمام المالكية أنه قيل له : إنك لتسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها فتترجح فيها وتتوقّف ؟ فقال : إن فتنة الجواب أشد من فتنة المال . وروي ابن عبد البر عن مالك قال : دخل رجل علي ربيعة – شيخ مالك – فوجده يبكي فقال له : ما يبكيك ؟ أمصيبة دخلت عليك ؟ فقال : لا . ولكن يُسْتغني مَن لا علم له وظهر في الإسلام أمر عظيم ، وبعض مَن يفتي هنا أحق بالسجن من السُّرَّاق .
فرحم الله ربيعة ، كيف لو أدرك زماننا ؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله . وحسبنا الله ونعم الوكيل . ويشترط لتحقيق الأهلية في الاجتهاد ما يلي :
1 - صحة الاعتقاد وسلامة النيَّة :
فالنية المخلصة تجعل القلب يستنير بنور الله ، فينفذ إلي لب الدين ، وإن الله تعالي ليلقي في قلب المخلص ما يهديه إلي اختلف فيه بإذنه ، ويجنَّبه الزلل ، وأن يكون عدْلاً ، ثقة ، مؤمونا ، متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة ، مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة ، ظاهر الورع ، مقبلا علي الآخرة ، محبًا لخمول الذكر .
2 – صحة الفهم وحسن التقدير :(1/73)
وذلك بأن يكون فقيه النفس ، سليم الذهن ، رصين الفكر ، صحيح التصرف متيقظا ، يفهم مقاصد الكلام ، ليتسنّى له الاستنباط الصحيح الذي هو المقصود من الاجتهاد ، واسع الخيال ، شديد الذكاء والذاكرة ، ويتذوَّق العلم .
3 – العلم باللغة العربية :
انفق الأصوليون علي ضرورة كون المجتهد ضليعا باللغة العربية وعلومها كالنحو والصرف والبلاغة ، مطلعا علي كلام العرب وآداب اللغة ومقطوعات بلغائها من شعر ونثر ، له ذوق سليم في فهم أساليبها ودلالات عباراتها ومفرداتها بحيث يبلغ فيها مبلغ العربي في الجاهلية أو في صدر الإسلام أو أئمة اللغة العربية المتقدمين قال الغزالي في المستصفي يشترط العلم الدقيق والتبحّر في اللغة حتى يصل إلي درجة الاجتهاد فيها ومضاهاة العربي في فهمها ، غير أنه لا يشترط أن يبلغ مبلغ الخليل والمبرد . لأن القرآن الذي نزل بهذه الشريعة عربي ، والسنّة التي هي بيانه جاءت بلسان عربي ، وهما وعاء الأحكام التي يتصدّي المجتهد لاستنباطها منها ، وعلي قدر فهم الباحث في الشريعة لأسرار البيان العربي ودقائقه تكون قدرته علي استنباطه الأحكام من النصوص . ولذلك يقول الإمام حسن البنا في رسالة التعاليم : والقرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرّف أحكام الإسلام ، ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلي رجال الحديث الثقات .
4 – العلم بالقرآن الكريم :
يجب أن يكون المجتهد عالما علما إجماليا بما اشتمل عليه القرآن ، أي فما هما لمعانيه ، لأن القرآن لا ينفصل بعضه عن بعض ، وعالما علما متمكنا بدقائق آيات الأحكام ، محصلا معاني المفردات ومركباتها ، مُلمًا بأقوال الصحابة في تفسير آيات الأحكام ، مطلعا علي أسباب النزول ليعرف منها المقاصد والغايات .
5 – العلم بالسنة المطهرة :(1/74)
فيعلم السنة القولية والفعلية والتقريرية في كل الموضوعات بشكل عام ، وفي أحاديث الأحكام بشكل خاص ، مدركا مراميها ومناسباتها والأحوال التي قبلت فيها . وأن يعرف طرق الرواية وأسانيد الحديث وقوة الرواة وغير ذلك من العلوم الحديثية .
6 – معرفة الناسخ والمنسوخ :
النسخ هو بيان انتهاء مدة حكم عملي كانت مقررة في علم الله تعالي للحكم المنسوخ ، وقد وقع في الكتاب والسنة ، وعلي المجتهد أن يعرف الناسخ والمنسوخ منهما ، بحيث يعلم أن الواقعة التي يفتي فيها بآية أو حديث ليست من جملة المنسوخ .
7 – معرفة مواضع الإجماع :
الإجماع إذا انعقد بين علماء المسلمين في زمن صار حجة لا تخالف ، ولذلك يجب أن تتميز عند المجتهد مواضع الإجماع التي أجمع عليها السلف ، بحيث يعلم أن المسألة التي يتصدّي لها ليست مخالفة للإجماع حتى لا يجتهد بخلافه . كما يجب أن يكون علي علم باختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ، والموازنة بينهما من حيث الدليل والمنزوع ، فيكون ذا دُرْبة وارتياض في الترجيح والاجتهاد .
8 – معرفة مقاصد الأحكام :
علي المتصدّي للاجتهاد أن يعلم أن للشريعة مقاصد في أحكامها ، كالرحمة ، والعدالة ، والشفقة ، والتيسير ، وأنها قائمة علي استجلاب المصالح للعباد ، ودفع المفاسد والضرر عنهم ، وأن هناك مصالح ضرورية ، وأخري واختيار اليسر وغير ذلك من مقاصد الشريعة .
9 – أن يكون عالما ذا خط وافر من علم الأصول :(1/75)
فيكون عالما بأدلة الأحكام الأصلية ، وما التحق بها ، وما يشترط فيها ، وبوجوه دلالتها ، وكيفية اقتباس الأحكام منها ، وأن يعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل الأحكام والمعاني المؤثرة فيها ، ومراعاة الحكمة التي شرع من أجلها الحكم . وكان الشافعي رحمه الله يقول : الاجتهاد هو العلم بأوجه القياس وطرائقه . وأن يكون خبيرا بأحوال الناس وعرفهم ومصالحهم حتى يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الواقع التي لا نص فيها .
آداب الاختلاف والاجتهاد :
حكم الله بالنسبة للمجتهد هو ما أدَّاه إليه اجتهاده وظهر له رجحانه ، وهو مأمور به من جهة أنه هو المقدور عليه . وأن هذا الاجتهاد مظنة الخطأ من حيث إنها اجتهادات بشرية في فهم النصوص وتطبيقها ، ولا عصمة لأصحابها عن الخطأ ، والأجر والثواب مرجوّ لكل مجتهد مصيب كان أو مخطئا .
وليس للمجتهد أن يلزم غيره باجتهاده وفتواه ، لأنها مبنية علي غلبة الظن ، لا علي دليل قاطع أو مجمع عليه ، فليس ما يمنع أن تكون محل اجتهاد لغيره . وفي حقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنما يتولاه مَن كان عالما بما يأمر به وينهي عنه ، لأنه يختلف في النظر . فإن كان من الواجبات المشهورة والمحرمات الظاهرة : كالصلاة والصيام ، والزنا والمسكرات والمخدرات ، فكل المسلمين عالم بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد ، فليس للعوام دخل فيه ، لأن إنكاره علي العلماء ، والعلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه ، أما المختلف فيه كالمسائل الفقهية والاجتهادية فلا إنكار فيه ، وليس لأحد أن يلزم الناس بإتباعه فيها ، لكن له أن يتكلم فيها بالحجج العلمية علي جهة النصيحة للخروج من الخلاف .(1/76)
يقول الإمام حسن البنا في أصول فهم الإسلام : والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين ، ولا يؤدي إلي خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره . ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون علي الوصول إلي الحقيقة ، من غير أن يجرّ ذلك إلي المراء المذموم والتعصب .
ويقول أيضا لغير المجتهدين : ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر – الاجتهاد – في أدلة الأحكام الفرعية – الفقهية – أن يتبع إماما من أئمة الدين ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرّف أدلته ، وأن يتقبّل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صلاح مَن أرشده وكفايته . وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر .
وإذا كان الاختلاف قد وقع بين الصحابة رضي الله عنهم في الفروع ، وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون علي باطل ، ودلّ الكتاب والسنة علي وجوب متابعتهم ، فكيف يطمع بعض الناس في أن يمحو الخلاف في الفقه من بين غيرهم ؟! غير أن اختلاف السلف ومن تبعهم بإحسان كان رائده الإخلاص ، ولهذا لم يكن بينهم تنازع في الفقه ولا تعصب ، بل طلب للحقيقة وبحث عن الصواب من وجه استبان .
يروي الإمام ابن عبد البر في فضل العلم والعلماء بسنده إلي يحيي بن سعيد أنه قال : ما برح أولوا الفتوى يفتون ، فيحل هذا ، ويحرم هذا ، فلا يري المحرم أن المحلل هلك لتحليله ، ولا يري المحل أن المحرم هلك لتحريمه . والاختلاف في الفروع طبيعة بشرية أقرّته الشرائع السماوية الأخرى ، قال تعالي : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما ) فهذان نبيان كريمان اختلفا في حكومة واحدة ، فخص الله عز وجل أحدهما بفهمها مع ثنائه علي كل منهما بأن آتاه حكما وعلما .(1/77)
إن حمل الناس علي رأي واحد ضيقا وحرجا ، وديننا يسر ، وشريعتنا سمحة ، ولذلك كانت أكثر النصوص مصوغة بعبارة مجملة كلية مَرِنَة ، تحتمل أكثر من معني ، وتستوعب أكثر من ظرف ، حتى تتسع لتعدّد الأفهام وتنوّع الآراء والاجتهادات ، ولتكون الشريعة مسايرة للمصالح في كل زمان ومكان . قال الإمام الزركشي : اعلم أن الله سبحانه لم ينصب علي جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة ، بل جعلها ظنيّة قصدًا ، للتوسيع علي المكلفين ، ولئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع . وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وهو أحد الفقهاء السبعة المشهورين في عهد التابعين قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأي أنه في سعة ، ورأي أن خيرا منه قد عمل به . وكان العلماء يقولون : اجتماعهم حُجّة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة فالاجتهاد مشروع ، والاختلاف في الرأي لازم ، لكن الجميع محمودون مأجورون . والاختلاف المذموم ما كان ناشئا عن تعصب وهوي وعناد وجهل ، ولاسيما بعد وضوح الحق ، فإنه يوَلد التباغض والتكاذب والمعاداة وهذا نُهينا عنه وحُذَّرنا منه .(1/78)
وإذا كان التعاون واجبا في المتفق عليه ، فأوْجب منه التسامح في المختلف فيه ، وقد قيل من قديم : نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه . وقد قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه : أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : [ اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فإذا اختلفتم فقوموا عنه ] رواه البخاري ومسلم ، فإذا ندب هذا في القرآن فما بال في مسائل الفروع ؟! إن التسامح في الفروع الجزئية والبعد عن الجدال فيها ، ولا سيما إذا داخله حظ النفس ، أمر واجب شرعا . عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا ...] الحديث أخرجه أبو داود . وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : [ ما ضل قوم بعد هدًي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم تلا : ( ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خَصِمون ] والخَصِمُ : أي المجادل . والحديث رواه الترمذي وقال حسن صحيح ، رواه أحمد وابن ماجه والحاكم .
*** أقوال العلماء في الإنكار في المسائل الاختلافية :
1 – روي أبو نعيم بسنده عن الإمام سفيان الثوري قوله : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت تري غيره فلا تنهه . وروي الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه عنه أيضا قوله : ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهي أحدا من إخواني أن يأخذ به .
2 – نقل ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية عن الإمام أحمد بن حنبل تحت عنوان – لا إنكار علي مَن اجتهد فيما يسوغ فيه خلاف في الفروع – ما نصه : وقد قال أحمد في رواية المروذي : لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس علي مذهب ولا يشدَّد عليهم .(1/79)
3 – نقل ابن مفلح في الآداب الشرعية ، والسفاريني في غذاء الألباب وهما من كتب الحنابلة عن الإمام ابن تيمية قوله : .. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع ، وللاجتهاد فيها مساغ ، فلا ينكر علي من عمل بها مجتهداً أو مقلّدًا . قال السفاريني تعليقا عليه : فأفهمنا أنه إنما يتمشي عدم الإنكار في مسائل الاختلاف .
4 – وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم : والمنكر الذي يجب إنكاره ما كان مُجْمعًا عليه ، فأما المختلف فيه ، فمِن أصحابنا من قال : ولا يجب إنكاره علي مَن فعله مجتهدا أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا ، واستثني القاضي في الأحكام السلطانية وما ضعف فيه الخلاف .
5 – قال ابن قدامة الحنبلي : لا ينبغي لأحد أن ينكر علي غيره العمل بمذهبه فإنه لا إنكار علي المجتهدات .
6 – وقال الغزالي في الإحياء عن شروط منع المنكر : أن يكون المنكر منكرا معلوما بغير اجتهاد ، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فيه ، فليس للحنفي أن ينكر علي الشافعي أكله الضب والضبع ، ومتروك التسمية ، ولا الشافعي أن ينكر علي الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر ، وتناوله ميراث ذوي الأرحام ، وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار ، إلي غير ذلك من مجاري الاجتهاد .
7 – قال النووي في شرحه حديث مسلم : [ من رأي منكم منكرا ..] ثم إنه يأمر وينهي من كان عالما بما يأمر به وينهي عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة أو المحرمات المشهورة ، كالصلاة والصيام والزكاة والزنا والخمر ونحوها ، فكل المسلمين عالم بها .(1/80)
وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ، وما يتعلق بالاجتهاد ، لم يكن للعوام دخل فيه ، لأن إنكاره علي ذلك للعلماء . ثم إن العلماء لا ينكرون إلا ما أجمع عليه الأئمة ، وأما المختلف فيه ، فلا إنكار فيه ، لأن علي أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب ، وهنا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم ، وعلي المذهب الآخر : المصيب واحد ، والمخطئ غير متعين لنا ، والإثم مرفوع عنه . انتهي
8 – وذكر الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية : هل للمحتسب أن يحمل الناس علي مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء ، أم لا يغير ما كان علي مذهب غيره ؟ قال : الأصح أنه لا يغير ، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم ، ولا ينكر محتسب ولا غيره علي غيره .
9 – نقل ابن حجر العسقلاني في المرقاة علي المشكاة عن القرطبي قوله : ما صار إليه إمام حُجَّة ووجه ما في الشرع ، لا يجوز لمن رأي خلافه أن ينكره ، وهنا مما لا يُخْتلف فيه .(1/81)
*** هذا كله في موقف العالم العارف بالخلاف الوارد في المسألة ، أما العامي الذي لا يفرَّق بين الأقوال فلا يصح له أن ينكر في شيء من المختلف فيه ، إلا إذا عرف من عالم موثوق حكم المسألة فيقول بها وينسبها إلي العالم . ولا يكفيه مبررا للإنكار أن يري غيره عاملا بخلاف ما يعمله ، أو ما أفتاه به أحد العلماء ، فما أكثر المسائل الاختلافية والاجتهادية التي يحسبها كثير من العامة مسائل قطعية لا مجال للاختلاف فيها . قال السيوطي في كتابه الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف : كان الإمام أحمد يقول : لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا أن يعرف أقاويل العلماء في الفتاوى الشرعية ، ويعرف مذاهبهم ، فإن سئل عن مسألة يعلم أن العلماء الذين يتخذ مذهبهم قد اتفقوا عليها ، فلا بأس بأن يقول : هذا جائز وهذا لا يجوز ، ويكون قوله علي سبيل الحكاية ، وإن كانت مسألة قد اختلفوا فيها ، فلا بأس بأن يقول : هذا جائز في قول فلان ، وفي قول فلان لا يجوز ، وليس له أن يختار فيجيب بقول بعضهم ما لم يعلم حجته . قال الآمدى في أصوله : العاميّ ، ومن ليس له أهلية الاجتهاد ، وإن كان مُحصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد ، يلزمه أتباع قول المجتهدين ، والأخذ بفتواهم عند المحققين من الأصوليين .
وقال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه : أما من يسوغ له التقليد ، فهو العامي الذي لا يعرف طرق الأحكام الشرعية . فيجوز له أن يقلد عالما ويعمل بقوله ، قال الله تعالي : ( فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) . ولم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين يستفتون المجتهدين ، ويتبعونهم في الأحكام الشرعية ، والعلماء منهم يبادرون إلي إجابة سؤالهم من غير إشارة إلي ذكر الدليل ، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير ، فكان إجماعا علي جواز أتباع العامي للمجتهد مطلقا .(1/82)
*** هناك مواقف لبعض المتفقَّة يعتبرون الخلاف الفقهي من الخرف في الدين والتفرّق إلي شيع الذي ذمّه الله ورسوله ، وتوعّد عليه بالعقاب . ويستشهدون علي ذلك بالآيات الذامة للخلاف ، وقد جهلوا أن هذا تحريف للكلم عن مواضعه ، وفيه طعن لسلف الأمة وخلفها من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان ، إذا اختلفوا جميعا في كثير من الأحكام كما مرّ سابقا . ومن هؤلاء من يسمح لنفسه أن يفهم النص الشرعي ، وهو ليس من أهل النظر ، فيعيب علي من يخالفه المتبع إماما من الأئمة المعتبرين ، ويقول كيف تتعبّد بأقوال الرجال وتترك الكتاب والسنة ، ولا يدري أنه هو المعرض عن فهم الكتاب والسنة ، حيث فهم الأئمة واتبع هواه وجهله .
ومنهم مَن يسئ فهم العلماء ، فيعرض آراءهم عرضا شائنا ، أو يختزل أدلتهم ويشوّهها ، من أجل أن يبْرز آراءه وأنها هي الصواب الذي لا يحتمل الخطأ . وليحذر أمثال هؤلاء من أن يلبَّس عليهم الشيطان الأمر ، فتتداخل الأمور الشخصية ، والحظوظ النفسية ، والأمانات العلمية ، فتتحول النصيحة إلي فصيحة ، وينقلب النقاش العلمي إلي جدل ومراء ، ويجر ذلك إلي الوقوع في الشر والسوء ، من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا .
وكثيرا ما يدعونا الإعجاب بالرأي إلي ترك الحق إذا لم يكن الدليل معنا ، تدفع الرأي الصحيح للأئمة من حيث نشعر أوْلا نشعر ، فيكون أكبر همَّنا إذا سمعنا رأيا مخالفا لرأينا ، كيف نردّ عليه ونبطله . فداء الإعجاب بالرأي أحد المهلكات . ومن علامات ذلك أن يكون لسان حاله يقول : رأيي صواب ولا يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ ولا يحتمل الصواب .
أسأل الله العليم بما في الصدور أن يعيذنا من شر نفوسنا ، وأن يقينا شر المهلكات جميعا ، وأن يعيننا علي مجاهدة أنفسنا ، وأن يهدينا إلي ما اختلف فيه بإذنه ، فهو سبحانه القائل : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(1/83)