رسالة
السراج الوهاج للمعتمر والحاج
تأليف
سَمَاحَةِ الشَّيْخِ العَلاَّمَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ
ـ حفظهُ اللَّه تعالى ،ورعاهُ ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
" تقديمُ فَضِيْلةِ الشَّيخِ العَلاَّمَةِ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ جِبرينٍ " :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي سهل طريق العبادة، وأحكم كل ما فرضه وأراده، وبيَّن شرائع دينه ونفَّذ مراده، أحمده سبحانه وأشكره ، وقد تأذن للشاكرين بالزيادة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وآمل أن يُختم لي بمثل هذه الشهادة، وأشهد أن محمدا عبده و رسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأولاده وأحفاده ، وسلم تسليما كثيرا، و بعد :
فقد كنت ألقيت محاضرة في بعض المساجد بمناسبة موسم الحج ، تكلمت فيها على المناسك ، ومنافع الإحرام والطواف والسعي ، والوقوف والتلبية ونحوها ، ثم إن بعض الإخوان قام بتفريغها من الأشرطة التي سُجلت بها، وعرضها عليّ، فأصلحت فيها الأخطاء التي نتجت عن الارتجال، وكمَّلت ما نقص منها كأعمال يوم النحر، وطواف الوداع ، وأضفت إليها مقالا كنت قد كتبته فيما يتعلق بزيارة المسجد النبوي وختمتها بخاتمة تتعلق بالتوبة النصوح ، وحال من أدى هذه المناسك بعد رجوعه، وعلامات قبول الحج أو رده، وما ينبغي أن يكون عليه بقية حياته، وذلك للحاجة الماسة إلى ذلك .(1/1)
وأذنت بطبع هذه المحاضرة وما أضيف إليها؛ رجاء أن يعم النفع بها من أراد الله به خيرا، مع علمي بالقصور، وضعف المادة العلمية معي، وأن الكثير من أكابر العلماء قديما وحديثا قد كتبوا في المناسك وتوسعوا، أو اختصروا، وقلَّت الحاجة إلى إضافة شيء جديد، ولكن لكل مجتهد نصيب ، وقد يكون فيما كتبته أو قلته تنبيه أو توضيح لشيء قد يخفى على البعض.
وقد رأينا كثرة الجهل في من يؤدي هذه المناسك، ووقوع المخالفات التي تقع من الجماهير، عن تقليد أو ظن خاطئ ثم بعد الوقوع يستفصل عن الحكم، فيقع في حرج ومشقة، وكان الأولى أن يتأكد من الأعمال قبل مباشرتها، فعلى المسلم أن يكون على بصيرة من دينه، وأن يحرص على براءة ذمته مما أوجب الله عليه، حتى يخرج من العهدة، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه الجبرين
" المُقدِّمة " :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فقد أرسل الله سبحانه محمدا بالحق بشيرا و نذيرا، وأمره بأن يبين للناس ما نزِّل إليهم، وأن يبين لهم شريعتهم، قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ( سورة النحل ، الآية: 44 )
فبين لهم -صلى الله عليه وسلم- هذا الدين الذي بُعث به وأمر بتبليغه، وبين أن لهذا الدين أركان، بقوله -صلى الله عليه وسلم- : " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ".
فبدأ بالشهادتين وبيَّن ما يدخل فيهما، ودعى إلى التوحيد أكثر عمره في مكة أي نحو عشر سنين.
ثم بعد مضي العشر بدأ في بيان الركن الثاني وهو الصلاة، حيث فُرضِت عليه فأقامها بمكة ثلاث سنين وبقية عمره أيضا بالمدينة(1/2)
وفرضت عليه قرينتها - وهي الزكاة - في المدينة وهي الركن الثالث من الأركان، وقد بين أحكامها -صلى الله عليه وسلم- أتم بيان.
وفرض عليه الركن الرابع - وهو الصوم- بالمدينة فبينه بقوله وفعله -صلى الله عليه وسلم- .
وفرض عليه الركن الخامس وهو الحج إلى بيت الله الحرام وقيل: إنه فرض في السنة السادسة من الهجرة ، وقيل: في السنة التاسعة وهو الصحيح تدل عليه الأدلة.
والحج كما هو معلوم كان مأمورا به من قبل، ولكن لم يفرض إلا في السنة التاسعة كما ذكرنا، ولم يتمكن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أدائه وبيانه بالفعل إلا في السنة العاشرة، فعند ذلك بيّنه -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله بأدائه كاملا، وكان -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على أن يحفظوا عنه المناسك، فكان يقول -صلى الله عليه وسلم- :
" خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا " وعاش بعد ذلك نحو إحدى وثمانين أو اثنتين وثمانين ليلة، وختمت بذلك حياته وانتقل إلى الرفيق الأعلى -صلى الله عليه وسلم-.
وقد احتفظ صحابته ببيانه، وبما بلَّغه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الركن العظيم وفي غيره من الأركان.
لقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس بأنه سوف يحج في ذلك العام في سنة عشر، فلما أعلنه وأظهره توافد كثير ممن حول المدينة إلى المدينة وقصدهم صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والسفر معه؛ حتى يؤدوا المناسك مثل ما يؤديها، واجتمع في المدينة خلق كثير، أما الذين لم يتمكنوا من المجيء إلى المدينة فإنهم توجهوا من بلادهم التي هم فيها إلى مكة مباشرة.
وكانت مكة قد طُهِّرَت من الأصنام ومن المشركين ومن العادات الجاهلية؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل أبا بكر وغيره من الصحابة في سنة تسع، وأمرهم بأن ينادوا :(1/3)
" أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان " فنادوا بذلك، فعرف الناس هذا الحكم، فلم يطف بالبيت عريان بعد ذلك العام؛ ولم يحج أحد من المشركين حيث إن الله أظهر حرمة مكة وقداستها، ونهى المشركين أن يدخلوها.
وسوف نتناول هذه الفريضة، فضلها وأحكامها، مستعرضين ما قد يقع فيه البعض من قصور أو أخطاء في أداء تلك المناسك، ونحرص أن نذكر شيئا من الحِكَم التي تعين العبد أن يعلم الحكمة والمصلحة التي شرعت لأجلها هذه العبادة؛ فإن معرفة العبد للحكمة والمصلحة تشرح قلبه، وتجعله يدرك أن الله -تعالى- ما شرع شيئا إلا وفيه مصلحة، وأنه ليس شيء من أحكام الله شُرع عبثا، بل كل نسك من تلك النسائك، وكل عبادة من تلك العبادات؛ فيها مصلحة ظاهرة جليَّة، فيحرص أن يتأثر بها، وأن تبقى آثارها عليه بقية حياته.
نسأل الله أن يرزقنا حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا، وعملا صالحا مقبولا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
" البيت العتيق " :
الحج كما ذكرنا ركنٌ من أركان الإسلام، وقد كان معمولا به في الشرائع السابقة، فقد ذكر المؤرخون أن الله -تعالى- أنزل هذا البيت العتيق لآدم -عليه السلام- لما هبط إلى الأرض، فأحب أن يكون له موضع يقصده، ويتعبّد فيه، ويطوف به كما تطوف الملائكة بالبيت المعمور فعند ذلك جعل الله له هذا البيت العتيق ليتعبد فيه، ثم أخبر -عليه الصلاة والسلام- بأن الأنبياء قد قصدوه، فقصده نوح وهود وصالح وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، وذكر -صلى الله عليه وسلم- أنهم توجهوا إليه، يُلبُّون على رواحلهم قاصدين أداء المناسك في تلك المشاعر المفضلة.(1/4)
وهكذا استمروا، ولكن مع توالي السنين انهدم البيت وبقي مكانه مرتفعا، حتى جدده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قال الله -تعالى- : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } (سورة الحج ،الآية:26) ؛ يعني أخبرناه بموضعه الذي كان موجودا فيه حتى يعيد بناءه، فأعاده هو وإسماعيل عليهما السلام، قال الله -تعالى- : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (سورة البقرة ، الآية:125) .
وأخبر بأنه أقامه هو وابنه إسماعيل -عليهما السلام- في قوله -تعالى- : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا } (سورة البقرة، الآية:127) .
هكذا جدده إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وبقي مقصودا تعترف به العرب، بل وتعدُّه فخرها وعزّها وذخرها، ويأتون إليه من أماكن بعيدة، يؤدون فيه المناسك، فيطوفون؛ ويسعون ويعتمرون، ويحجون ويذهبون إلى المناسك والمشاعر التي حوله، ويرجعون وقد تزودوا بما تزودوا به من الأعمال.
لكن مع توالي الجهل و مرور السنين أحدثوا فيه أحداثا، وجعلوا فيه بدعا ومنكرات ليست من الدين، والذي حملهم على ذلك جهلهم؛ فكان ولا بد أن يكون هناك من يجدد هذه المشاعر، فبعث الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- وحج بالناس في سنة عشر، وأعاد المناسك إلى ما كانت عليه في عهد أبيه إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- وردّ كل المحدثات التي أقامها المشركون، سواء كانت قولية أم فعلية، وعاد الناس إلى معرفة الأحكام، ومعرفة ما عليهم، وهو الذي بقي -والحمد لله- إلى هذا الزمان.(1/5)
وقد أظهر الله -تعالى- حرمة مكة وقداستها، ونهى المشركين أن يدخلوها، ونهى المؤمنين أن يُمكِّنوا المشركين من دخولها، قال الله -تعالى- : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } (سورة التوبة، الآية:28) ، وقد امتثل المسلمون لذلك إلى زماننا هذا، فلا يجوز لأيِّ كافر أو مشرك أن يدخل مكة .
وهكذا بقيت مكة -والحمد لله- مصونة ومحفوظة من المشركين، لا يدخلها إلا الموحدون المسلمون؛ و ذلك لأنها البقعة المباركة المشرفة التي لها فضلها، و بها المسجد الحرام الذي أخبر الله بفضله، وسماه بهذا الاسم، فقال -تعالى- : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ } (سورة الفتح ، الآية :28) .
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدسية ذلك المسجد وبأهميته، فقال -صلى الله عليه وسلم- فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمس مئة صلاة .
فأخبر بفضل هذه المساجد الثلاثة، فالصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، والمسجد النبوي بألف، والمسجد الحرام بمائة ألف.
والصلاة الواحدة تعدل هذا الفضل! وما ذاك إلا لشرف المكان وَقِدَمِ العبادة، ولأنه قبلة المسلمين الذين يهوون إليه في كل زمان ومكان.
فلما كانت هذه مكانته كان مخصوصا لأن يكون محلا لأداء المناسك والعبادات؛ فالحجُّ لا يكون إلا إلى مكة، والعمرة لا تكون إلا إلى مكة، ولا يكون الطواف إلا بالبيت، فلا توجد بقعة أو تربة يجوز أن يُطاف بها إلا البيت العتيق، ومن هنا أهميته ومكانته.
" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " :(1/6)
العبادات التي يُتعبد بها في مكة المكرمة لا شك أنها قربات يُتقرب بها إلى الله تعالى؛ وذلك لأنه هو المعبود وحده، ولأن تلك الأماكن لها فضلها، ولها ميزتها، وتضاعف فيها العبادة، فيقصدها المؤمنون لمضاعفة أجر العبادة فيها، وهم يعرفون أن الله -تعالى- هو المعبود، بخلاف المشركين الأولين، فإنهم كانوا يعتقدون أن المعبود هو أصنامهم التي كانوا يعظمونها في تلك البقاع، فمحا الإسلام ذلك، وجعل التعظيم لله -تعالى- وحده.
وإن تعظيم تلك المشاعر تعظيمٌ للرب الذي شرع تلك المشاعر وتلك الحرمات؛ فقول الله -تعالى- : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا } (سورة الحج ، الآية :26) بدأ بالنهي عن الشرك؛ وذلك حتى لا يتخذ ذلك الموقع معبدا لغير الله، تعبد فيه الأصنام، ثم قال الله -تعالى- : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (سورة الحج ، الآية :26) .
أمر بأن يُطهَّر، وليس التطهير بغسله بالماء، ولكن تطهيره من الأقذار والأرجاس والأنجاس والشركيات والبدع والمحدثات؛ فيطهره من هذه الأشياء مكان مقدس، ولأنه موضع العبادة.
وأمر بأن يُطهر؛ لأن هناك من يقصده لأن يطوف به، والطواف عبادة، وهناك من يقصده لأجل الاعتكاف فيه، والاعتكاف عبادة، وهناك من يقصده للصلاة فيه -أي: الصلاة التي هي قيام وقعود، وركوع وسجود- وهي كلها عبادة، فأمر بأن يكون المكان نظيفا طاهرا من الأرجاس والأنجاس والشركيات والبدعيات ونحوها.(1/7)
وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- تلك البقاع بقاعا آمنة مقدسة، وأبقى فيها الآيات التي هي من آيات الله -تعالى- الكونية، قال -تعالى- : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ *فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (سورة آل عمران ، الآية :96-97) .
ومن هذه الآيات البينات التي لا تزال فيه: مقام إبراهيم -عليه السلام- الذي كان يقوم عليه؛ فإنه لما كان يبني البيت ظهرت آثار قدمه على الحجر مع طول مقامه ووقوفه عليه، فأصبح ذلك الحجر آية من آيات الله الباقية.
يقول أبو طالب:
وموطئُ إبراهيم في الصخر رطبة * * * على قدميه حافيا غير ناعل
هذا المقام جُعل آية من آيات الله، وجُعِلَ في هذا المكان، وأمر المصلون بأن يصلوا خلف المقام، قال الله -تعالى- : { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (سورة البقرة ، الآية :125) ؛ أي: صلُّوا عنده، وصلاتكم تكون لربكم وحده، وإنما يكون ذلك المقام، وذلك البيت قبلة لكم تتوجهون إليه.
وهذا البيت الذي أمر الله بتطهيره في قوله -تعالى- : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } (سورة البقرة، الآية:125) له أهميته، وله مكانته، وله منزلته في النفوس؛ ولأجل ذلك فإن قلوب العباد تتجه إليه، وتتعلق به ، في شرق البلاد وغربها، وفي قريبها وبعيدها، حيث إنه قبلتهم التي يتوجهون إليها في صلاتهم، وفي أدعيتهم، قال الله تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (سورة البقرة، الآية: 144) .(1/8)
فالمسلمون في بقاع الأرض عندما يتوجهون في صلاتهم يستقبلون هذا البيت وهذا الاستقبال بلا شك يبعث هممهم، ويحرك بواعثهم وقلوبهم على الإكثار من زيارته والتردد إليه؛ حيث إنه البيت المعظم والبيت المحرَّم، وقد سمى الله هذا البيت محرما ومباركا، بل وسمى البلد التي وضع بها، قال -تعالى- : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } (سورة إبراهيم، الآية: 37) ، وقال -تعالى- : { وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } (سورة التين ، الآية: 3). وقال -تعالى- : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } (سورة آل عمران ، الآية:96) .
وما دام أن هذه أهميته، وأن هذا قدره في النفوس؛ فإن من حق العباد أن يأتوا إليه ليقدسوا ويعظموا حرمات الله؛ لذلك قال الله -تعالى- : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } (سورة الحج، الآية: 30) ، وقال : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب } (سورة الحج، الآية: 32) . فالمشاعر التي حوله هي من شعائر الله، والمناسك التي عنده هي من حرمات الله، وتعظيمها تعظيم لله، وعبادة لله، وليس ذلك تقديسا لتلك البقعة بنفسها، وإنما هي لمعرفة أهميتها ومكانتها، وعظم العبادة فيها وشرفها.
" النداء بالحج " :
أمر الله نبيه إبراهيم -عليه السلام- أن ينادي بالحج في قوله -تعالى- : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } (سورة الحج، الآية : 27) ثم إنه -كما في بعض الآثار- صعد على جبل أبي قبيس فنادى: يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، فسمعه من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، أي: سماع قبول، وإن لم يسمعوا الصوت كما هو، أي: أُلهموه، وقُذِفَ في قلوبهم، وعرفوا حكمه.(1/9)
فإذا جاء الحج، وقرب موسمه، فإن المؤمنين الذين وقرَ الإيمان في قلوبهم؛ تجدهم في أطراف البلاد وأقاصي الأرض تحن قلوبهم، ويتمنون أن يتيسر لهم الحج، فمن تيسر له أتى إليه، رغم ما يجد من المشقة والصعوبات، ومن لم يتيسر له غَبَط الذين أدوا هذا النسك، وعرف فضلهم، وما حازوه من الحسنات.
وقد جعل الله الأفئدة تحنُّ إلى تلك المشاعر؛ استجابة لدعوة إبراهيم -عليه السلام- في قول الله -تعالى- : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } (سورة إبراهيم، الآية: 37) ولم يقل: أفئدة الناس؛ يعني: أفئدتهم كلهم، بل قال: { أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ } ؛ يعني بعضا منهم، فالذين يحجون كل عام قسم قليل من المؤمنين في أطراف البلاد.
" فضل الحج والعمرة في الكِتَاب والسُّنَّة " :
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " وفي لفظ لمسلم : " من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " وقال -صلى الله عليه وسلم- : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ".
والحج المبرور هو الذي لا رياء فيه و لا سمعة، ولم يخالطه إثم ولا يعقبه معصية، وهو الحج الذي وُفِّيت أحكامه ووقع موقعا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، وهو المقبول، ومن علامات القبول أن يرجع خيرا مما كان ولا يعاود المعاصي، والمبرور مأخوذ من البر وهو الطاعة والله أعلم.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لعمرو بن العاص : " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ ".
وسُئِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- : أي الأعمال أفضل؟ قال : " إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور ".(1/10)
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور ثواب إلا الجنة ".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت : قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: " نعم عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة " وعند النسائي: " ولَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج مبرور ".
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " وفد الله ثلاثة: الغازي، والحاج، والمعتمر ".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم ".
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " جهاد الكبير، والصغير، والضعيف، والمرأة: الحج والعمرة".
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:" ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟. ".
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " خير الدعاء دعاء يوم عرفة ... ".
وقال -صلى الله عليه وسلم- : " فإن عمرة في رمضان تقضي حجة معي ".
وقال عبد الله بن عبيد لابن عمر -رضي الله عنهما- : ما لي أراك لا تستلم إلا هذين الركنين: الحجر الأسود والركن اليماني؟ فقال ابن عمر: إن أفعل فقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن مسحهما يحط الخطايا "، و سمعته يقول: " من طاف (بهذا) البيت سبعا و صلى ركعتين كان كعتق رقبة "، وسمعته يقول: " ما رفع رجل قدما ولا وضعها إلا كتب له عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات ".
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه.(1/11)
ومن طاف بالبيت العتيق واستلم الحجر الأسود شهد له يوم القيامة؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحجر: " والله ليبعثه الله يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، و لسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق ".
وعنه أيضا قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضا من الثلج فسودته خطايا بني آدم ".
" قبل الرحيل " :
يجب على الحاج قبل السفر والرحيل إلى تلك الديار المقدسة أن يأتي بأمور تكون مكملة لحجه وعمرته، وحتى تكون سببا في قبول العمل بإذن الله -تعالى- ومن ذلك:
1. الاستخارة والاستشارة: فلا خاب من استخار، ولا ندم من استشار، فيستخير الله في الوقت والراحلة والرفيق، وجهة الطريق إن كثرت الطرق، ثم يستشير أهل الخبرة والصلاح، وصفة الاستخارة: أن يصلي ركعتين، ثم يدعو بالدعاء الوارد، في كتب الأذكار والأدعية
2. إخلاص النية لله -تعالى- فيجب على الحاج أن يقصد بحجه وعمرته وجه الله والدار الآخرة؛ لتكون أعماله وأقواله ونفقاته مقربة إلى الله تعالى، قال -صلى الله عليه وسلم- :
" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " وعلى الحاج أن يحذر كل الحذر من أن يقصد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة بذلك؛ لأن ذلك مما يحبط العمل والعياذ بالله، قال -تعالى- : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (سورة هود الآية:15-16).(1/12)
3. تعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما: فيجب على الحاج معرفة الأحكام المتعلقة بهذا الركن العظيم، فيتعلم شروطه وواجباته وأركانه وسننه، حتى يعبد الله على بصيرة، وحتى لا يقع في الأخطاء التي قد تفسد عليه حجه، وقد كتب العلماء قديما وحديثا في هذا الموضوع فعلى الحاج أن يقرأها، ويسأل العلماء والمشايخ عما أشكل عليه في حجه أو عمرته.
4. توفير المؤونة لأهله، والوصية لهم بالتقوى:
فينبغي على كل من عزم على السفر لحج أو لعمرة، أو لغيره من الأمور، أن يوفر لأهله، ومن تجب عليه نفقتهم، ما يحتاجون إليه من المال والطعام والشراب وغير ذلك؛ حتى لا يتركهم عالة على الناس، فقد يحدث لأبنائه أو والديه أو زوجه مكروه، وليس عندهم المال؛ فيقعوا في الحرج، ويمدوا أيديهم للناس.
ثم أمر آخر وهو وصيتهم بالتقوى، والتقوى معناها: فعل ما به أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
والتقوى خير زاد للمسلم في حلِّه وترحاله: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ } (سورة البقرة ، الآية :197)
5. التوبة من جميع الذنوب والمعاصي: قال -تعالى- : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (سورة النور ، الآية :31)
وحقيقة التوبة:
- الإقلاع عن جميع الذنوب والمعاصي وتركها.
- والندم على فعل ما مضى.
- والعزيمة على عدم العودة إليها.
- وإذا كان عنده مظالم للناس ردّها وتحللهم منها، سواء كانت عرضا أو مالا أو غير ذلك.(1/13)
6. اختيار النفقة الحلال: التي تكونت من الكسب الطيب، حتى لا يكون في حجه شيءٌ من الإثم، فإن الذي يحج وكسبُه مشتبه فيه قد لا يُقبل حجُّه، وقد يكون مقبولا، ولكنه آثم من جهة، ففي الحديث المشهور الذي يقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك؛ ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الحرام الخبيثة، ووضع رجله في الغَرْز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حرام، وراحلتك حرام، وحجك مأزور غير مبرور .
وهكذا -كما ورد في هذا الحديث- يخاف الإنسان أن يكون حجه مأزورا، فيدعو الله أن يقبل حجّه، فيقول: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وعملا صالحا مقبولا.
وإذا كان كذلك فإن عليه أن يأتي بالأسباب التي تجعل حجه مبرورا، وسعيه مشكورا، وذنبه مغفورا، وعمله صالحا مقبولا، ومن هذه الأسباب: الكسب الحلال، والنفقة الطيبة التي هي من الكسب الطيب، ولا يقبل الله إلا الكسب الطيب.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يُقْبلُ حجُّ من تزود بمال حرام، حتى قال بعضهم:
إذا حججت بمال أصله سُحُت * * * فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل صالحة * * * ما كل من حج بيت الله مبرور
7. اختيار الصحبة الصالحة: فإنك إذا اخترت رفقة من الصالحين لا شك أنك تستفيد منهم، وتربح ربحا كبيرا في الدنيا والآخرة، أي: إذا كانت رفقتك وصحبتك الذين ترافقهم -ولو كانت المسافة قصيرة- من الصالحين فإنَّك تستفيد منهم؛ يذكرونك إذا نسيت، ويعلمونك ما جهلت، ويعاونونك على ما عجزت عنه، وينشطونك على نوافل العبادة، ويساعدونك على ما قد تغفل عنه إذا كنت وحدك، فكثيرا ما يغفل الإنسان عن كثير من السنن ونوافل العبادة، وكثيرا ما يتكاسل عنها.(1/14)
وهكذا إذا كان مع أُناس جهلة، فإنَّه كثيرا ما يقع منهم شيء من المخالفات، ولا يعرفون أنه خالف للسنة، فإذا كانت الرفقة من شباب متحمس من أهل المعرفة، ومن طلبة العلم، الذين معهم علم وزهد وورع ومحبة للعبادة ورغبة في الاستكثار منها، فهؤلاء هم الذين يُستفاد من صحبتهم.
8. أدعية وآداب السفر: للسفر آداب وأدعية خاصة يجب على المسافر للحج وغيره أن يتعلمها، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر، كبر ثلاثا، ثم قال: " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا وطْوعنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل " رواه مسلم.
ومن آداب السفر:
التكبير إذا صعد المسافر الثنايا، والتسبيح إذا هبط واديا، ونحوه.
يستحب إذا نزل منزلا أن يقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه.
استحباب السفر في يوم الخميس أول النهار.
والآداب كثيرة ونكتفي بهذا حتى لا يطول بنا المقام.
" تعريف الحجّ والعمرة " :
أولا: تعريف الحج
الحج لغة: قصد الشيء وإتيانه.
وشرعا: قصد البيت الحرام في وقت مخصوص، على وجه مخصوص، وهو الصفة المعلومة من الشرع من الإحرام والتلبية والوقوف بعرفة والطواف بالبيت، وغير ذلك من الأفعال المشروعة فيه.
ثانيا: تعريف العمرة
العمرة لغة: الزيارة.
وشرعا: زيارة بيت الله الحرام لأداء هذا النسك على وجه مخصوص؛ من الإحرام، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والحلق أو التقصير.
" حكم الحجّ والعمرة " :(1/15)
فرض الله -سبحانه وتعالى- الحجَّ والعمرة على الصحيح، وجعلهما من واجبات المسلم في حياته، فقال -تعالى- : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (سورة البقرة ، الآية:196) ، وقال: : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } (سورة آل عمران ، الآية :97) .
وقال -تعالى- : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } (سورة الحج:27) .
تدُل هذه الآيات على فرضية تلك العبادة، وأنها أحدُ أركان الإسلام التي بني وقام عليها، كما ورد في الحديث في تفسيره -صلى الله عليه وسلم- للإسلام، والذي جاء فيه: " أن تشهد أن لا إله إِلاَّ الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيت إِن استطعتَ إِليه سبيلا ".
وقد فرض الحج في آخر حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهذا ذهب بعض العلماء إلى إنه يجب على التراخي!.
ولكن الصحيح أنه يجب على الفور؛ بمعنى أن العبد متى تمكن من أدائه، وزالت المحظورات، وقدر عليه؛ وجب عليه أن يأتي به، ولم يجز له تأخيره.
ومن حكمة الله أنه ما فرضه إلا مرة واحدة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، وابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- : " أن الأقرع بن حابس سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: الحج في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع ".
فإذا أدَّى العبد هذه العبادة مرة واحدة خرج من عهدة الوجوب، وما زاده فإن له أجرا في تلك الزيادات التي هي تنفُّل وعبادات.
والحج فضائله كثيرة، لو لم يكن منها إلاَّ قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " العمرة إلى العمرة كفارةً لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنة ".(1/16)
وكذلك قوله -صلى الله عليه و سلم- : " من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "؛ أي: خرج من ذنوبه، كما في الرواية الأُخرى.
وفي هذا حثُّ للعبد على أَن يكون مهتما بأَداء هذا النسك فرضا أو تطوعا، ويحمله على أن يكون مبادرا إلى ذلك قبل أن يعوقه عائق، وقبل أن يشغله شاغل.
" شروط الحج والعمرة وأركانهما وواجباتهما " :
أولا: شروط الحج والعمرة :
معلوم أن الواجبات لا تلزم أحدا إلا بشروط يلزم وجودها ليصحّ منه العمل، ومن ذلك فريضة الحج؛ فإنه لا يجب على أحد إلا بشروط خمسة ذكرها العلماء :
الشرط الأول: الإسلام؛ فإن الكافر لا يقبل منه حج ولا عمرة، ولا أي عبادة من العبادات في دين الله إلا إذا أسلم ودخل في دين الله.
الشرط الثاني: العقل؛ فالمجنون لا يجب عليه حج ولا عمرة.
الشرط الثالث: البلوغ؛ وهو ظهور أحد علاماته، وهي:
1- إنزال المني.
2- نبات شعر العانة.
3- تمام خمس عشرة سنة.
4- تزيد المرأة بأمر رابع وهو: الحيض.
فائدة: لا يجب الحج على الصغير الذي لم يبلغ، ولكن يصح الحج منه، وله أجر ولوالديه؛ لقوله -تعالى- : { أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } (سورة آل عمران، الآية: 195)
الشرط الرابع: الحرية؛ فلا يجب الحج أو العمرة على المملوك.
الشرط الخامس: الاستطاعة؛ وتكون بالمال والبدن، ومن الاستطاعة وجود المحرم للمرأة، فإن المرأة منهية عن السفر للحج وغيره بدون محرم، ويجب أن يكون هذا المحرم مميزا عاقلا بالغا، فإن الطفل لا يصلح أن يكون محرما.
ثانيا: أركان الحج:
1- الإحرام.
2- الطواف حول البيت.
3- السعي بين الصفا والمروة.
4- الوقوف بعرفة.
وهناك خلاف بين العلماء في بعضها.
ولا يتم الحج إلا بأداء هذه الأركان، فمن ترك ركنا فسد حجّه.
ثالثا: واجبات الحج:
ذكر العلماء أن للحج واجبات سبعة هي:
1- الإحرام من الميقات.
2- الوقوف بعرفة إلى الغروب.(1/17)
3- المبيت بمزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل.
4- رمي الجمار ( جمرة العقبة في اليوم الأول، والثلاث في اليوم الأول والثاني والثالث من أيام التشريق).
5- الحلق أو التقصير.
6- المبيت بمنى ليالي منى.
7- طواف الوداع.
على خلاف بين العلماء في بعضها، ومن ترك واجبا جبره بدم.
رابعا: أركان العمرة:
ذكر العلماء أن للعمرة ثلاثة أركان هي:
1- الإحرام.
2- الطواف حول البيت.
3- السعي بين الصفا والمروة.
خامسا: واجبات العمرة:
ذكر العلماء أن للعمرة واجبين هما:
1- الإحرام من الميقات.
2- الحلق أو التقصير.
" مواقيت الحج " :
إذا أقبل الحجاج والمعتمرون إلى مكة قاصدين الحج أو العمرة فإن بينهم وبين مكة أماكن تسمى (المواقيت).
ويجب على الحجاج معرفة هذه المواقيت وأحكامها، والمواقيت تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مواقيت زمانية :
قال الله -تعالى- : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } (سورة البقرة، الآية: 197) .
ذكر العلماء هذه الأشهر، وقالوا إنها: شهر شوال، وذو القعدة، والعشر الأُوَل من شهر ذي الحجة.
وهذه مواقيت الحج، وهي التي تسمى بالمواقيت الزمانية؛ أي: التي يصح الإحرام بالحج فيها، وإن كان لا يتم الحج إلا بالوقوف في اليوم التاسع من ذي الحجة بعرفة، فلو أن إنسانا أحرم وعقد إحرامه بالحج في شهر شوال وبقي محرما بالحج إلى يوم عرفة صح إحرامه، وأصبح محرما بالحج في زمانه، لكن لو أحرم بالحج في آخر يوم من رمضان لما صح إحرامه؛ لكونه وضعه في غير وقته وزمانه، هذا هو ميقات الحج الزماني.
أما العمرة فإنها تصح في كل السنة، فيصح أن يُحرم بها في أي يوم من أيام السنة.
" المواقيت المكانية " :
القسم الثاني: مواقيت مكانية:(1/18)
أما المواقيت المكانية فإنها التي حددها وقدرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في سنته، فثبت في الصحيح عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم- : " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا، ولأهل اليمن يلملم قال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمُهله من حيث أنشأ، حتى أهل مكة يهلون من مكة "
هذه هي المواقيت المفروضة، والتي تسمى بالمواقيت المكانية.
وسبب شرعيتها وشرعية الإحرام منها، أن هذا المكان المقدس الذي هو البيت العتيق له مكانته وشرفه وفضيلته وحرمته، فإذا أقبل الناس إليه ودفعهم الشوق إلى تلك المشاعر، وقربوا منه، شرع لهم أن يظهروا بصفة يتميزون بها عن غيرهم، فيعرفهم غيرهم بأنهم من الوافدين إلى هذا البيت فشرع لهم لباس خاص يتميزون به قبل أن يصلوا مكة بمسافة، وشرع لهم شعارٌ خاصٌ وهو التلبية، وكان ذلك دليل إجابتهم.
لقد شرع الحج على لسان إبراهيم بقوله: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } (سورة الحج، الآية: 27)، كما روى ذلك ابن جرير وابن عباس ومجاهد في تفسير هذه الآية من سورة الحج، فقد أمره الله أن ينادي فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. فأسمع الله من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فجاءوا من كل فج عميق، رافعين أصواتهم يُهِلُّون بالتلبية، لبيك اللهم لبيك، أي: نحن مجيبون لك أيها الداعي، فكان من حكمة الله أن جعل لهذا البيت أماكن نائية بعض الشيء إذا وصل إليها المسلم قاصدا مكة فإنه يعمل عملا يتسم ويتميز به عن غيره، تدل على إجابته للنداء، وتعظيمه لشعائر الله: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } (سورة الحج، الآية: 32) .(1/19)
ولا شك أن تعظيم تلك المشاعر تعظيم لله الذي أمر عباده بالتعبد فيها، لا لأنها أماكن ولا لأنها بنايات أو مقامات، ولكن يعظمونها بأمر الله، وهم يذكرون الله فيها، ويقرؤون كلامه، ويركعون ويسجدون، ويخضعون له ويذلون ويتواضعون، وهم منيبون إليه.
" الميقات الأول ذو الحليفة (أبيار علي) " :
وهو ميقات أهل المدينة ومن أتى على طريقهم، ويسمي الآن (أبيار علي)، وينبغي الانتباه بأن تسميته (أبيار علي) جاءت به الرافضة بزعمهم أن عليا -رضي الله عنه- قاتل الجن في بئر هناك كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 26-29؛ فينبغي هجر هذه التسمية، وتسميته بالاسم الشرعي وهو: (ذو الحليفة) .
وهذا الميقات هو الذي كان يحرم منه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحرم منه الصحابة، ويحرم منه أهل المدينة إلى يومنا هذا، وقد امتد البناء إليه أو قرب منه، ثم تجاوزه في داخل البنيان.
وهو أبعد المواقيت من مكة؛ فبينه وبين مكة عشر مراحل.
والمرحلة هي: مسيرة الراكب على الرواحل القديمة من أول النهار إلى آخره، كانوا يسيرون بين ذي الحليفة ومكة عشرة أيام، أي يسيرون النهار، ويبيتون الليل، هذا معنى قولهم: عشر مراحل.
" الميقات الثاني الجحفة " :
وهو ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، الذين يقدمون عن طريق البحر وينزلون على السواحل، ثم يركبوا على الرواحل ويسيرون عليها، فأول ما يمرون في طريقهم بالجحفة؛ فيحرمون منها.(1/20)
والجحفة بلدة قديمة بينها وبين مكة ثلاث مراحل، وتسمى قديما (مهيعة)؛ وسميت بالجحفة لأن السيل اجتحفها، وهي الآن خربة؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لما قدم المدينة: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمّاها إلى الجحفة " كما رواه البخاري في فضل المدينة برقم 1889، ومسلم في الحج برقم 1376 عن عائشة مطولا، فأصابها الوباء فخربت فصار الناس يحرمون قبلها بقليل من بلدة قديمة اسمها (رابغ)، وهي مشهورة.
وقد ذكرها ابن حجر في فتح الباري فدل على أنها مشهورة بهذا الاسم، ولكنها لم تكن مشهورة في زمن النبوة ولم يرد لها اسم.
فإحرام أهل الشام ومن كان على تلك الطريق من رابغ هو إحرام من الميقات؛ وذلك أنه قبل الجحفة بقليل، ومن أحرم قبل الميقات بقليل أجزأه إحرامه، بخلاف من أخّر الإحرام حتى تجاوز الميقات كما سيأتي، ثم إن الحكومة -أيدها الله تعالى- عمَّرت مسجدا كبيرا في الجحفة القديمة، وأصلحت له طريقا معبَّدا يتصل بالمسجد الذي عمر في الجحفة؛ ليحرم منه الناس وإن كان مائلا عن الطريق قليلا.(1/21)
أما أهل الشام إذا مروا بالمدينة فإنهم يحرمون من ميقات أهل المدينة، وكذلك من مر بالمدينة من غير أهلها، فلو مر بالمدينة بعض أهل نجد أو أهل العراق لزمهم أن يحرموا من ميقات أهل المدينة؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في المواقيت: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن " ؛ فإذا جاء أهل الشام وأهل مصر في البواخر، وتوجهوا إلى جدة؛ فإنه يلزمهم الإحرام إذا حاذوا قرية رابغ أو حاذوا الجحفة، وهم في نفس السفن أو البواخر قبل نزولهم بجدة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى أن يصلوا جدة كما يفعله كثير من الجهلة؛ وذلك لأن ميقاتهم هو (الجحفة) أو قبلها من البلد المسمى برابغ فإذا حاذوها وهم في نفس السفن أو البواخر تجردوا ولبسوا إحرامهم، ولبوا وعقدوا النية، دون أن يؤخروا إحرامهم إلى جدة ولو قدِّر أنهم وصلوا إلى جدة وهم بثيابهم غير محرمين، ثم أحرموا من جدة لزمتهم الفدية، وهي فدية تجاوز الميقات بغير إحرام، إلا إذا رجعوا إلى رابغ وأحرموا منه؛ أي إذا رجعوا قبل أن يحرموا فإنه يسقط عنهم الدم، الذي هو دم الجبران.
أما إذا أحرموا من جدة وعقدوا الإحرام فيها فإنه يلزمهم الدم، ولا ينفعهم الرجوع بعد الإحرام.
" الميقات الثالث قرن المنازل (السيل الكبير) " :
وهو ميقات أهل نجد ومن كان على طريقهم من أهل المشرق ونحوهم، ويسمى أيضا قرن الثعالب، وهو عبارة عن جبل صغير ممتد شمالا وجنوبا من جانبي الوادي الذي يجري معه ماء يُقال له: السيل الكبير، وهذا من أقرب المواقيت إلى مكة، بينه وبين مكة مرحلتان؛ أي مسيرة يومين.
ولمّا فُتح الطريق الذي ينفذ من الطائف إلى مكة الذي يُسمى (بالهدا) (أو بالكرا)، و لا يمر بوادي السيل؛ اجتهد العلماء وحددوا فيه ميقاتا يحرم منه من أراد الحج أو العمرة، وكان يريد القدوم من ذلك الطريق.(1/22)
وهذا الطريق -وهو طريق الهدا- يمر بوادٍ يُقال له (وادي محرم)، ووادي محرم يحاذي أعلى مكان من وادي السيل؛ ولذلك جعلوا وادي محرم ميقاتا لمن قدم من ذلك الطريق وأراد الحج أو العمرة.
والعلماء نصّوا على أن من دخل مكة من غير هذه المواقيت، لزمه أن يحرم إذا حاذى أقربها، فإذا لم يحاذِ بعضا، ولم يدرِ بالمحاذاة، لزمه أن يحرم إذا بقي بينه وبين مكة مرحلتان.
وهذا الميقات يحرم منه أهل الطائف وأهل البلاد الجنوبية الذين ينزلون من ذلك الطريق.
" الميقات الرابع يلملم (السعدية) " :
وهو ميقات أهل اليمن ومن على جهتهم، أو من يأتي من البلاد الجنوبية الغربية: كبلاد الساحل الجنوبي، ويسمى الآن (بالسعدية)،
وهذا الميقات من أوسط المواقيت، بينه وبين مكة مرحلتان، أو أكثر من مرحلتين قليلا.
" الميقات الخامس ذات عرق " :
اختلف في هذا الميقات، وهو ميقات أهل العراق؛ فقيل إن الذي وقَّته النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روي ذلك في أحاديث.
والصحيح أن الذي وقَّته عمر -رضي الله عنه- لما مُصِّرت الأمصار التي في العراق، الكوفة والبصرة في زمن عمر، فشكوا إلى عمر بأن السيل -الذي هو (قرن المنازل)- جور؛ أي: مائل عن طريقهم، فأمرهم أن ينظروا حذوها من طريقهم، وحدد لهم ذات عِرقٍ، وبينها وبين مكة قريب من مرحلتين، وإن كانت لا يمر بها طريق في هذه الأزمنة.
ولزيادة الفائدة أذكر هنا تنبيهات :
التنبيه الأول
من ركب الباخرة أو الطائرة كيف يحرم ؟
فإنه يلاحظ على الذين يأتون عن طريق البحر بالبواخر أنهم يؤخرون الإحرام إلى جدة ويحرمون منها، وكذلك الذين يأتون بالطائرات فإنهم يؤخرون الإحرام ويحرمون من جدة، وهذا كله خطأ؛ فإن الذي يأتي من طريق يلزمه أن يحرم من الميقات الذي يمر فيه، أو إذا حاذى أقرب المواقيت إليه، فالذي يأتي عن طريق الجو يحرم وهو في الجو، إذا بلغ أقرب المواقيت التي يمر بها.(1/23)
فلو سافر شخص من الرياض بالطائرة إلى جدة ويريد الحج أو العمرة فعليه أن يحرم ويلبي ويعقد النية إذا حاذى الميقات الذي يمر به وهو ( قرن المنازل أي ما يسمى بالسيل الكبير ) أو قرب وادي السيل ومن لبّى قبل الميقات بقليل للاحتياط فهو الأولى، مخافة أن يتمادى به التساهل إلى أن يتجاوز حدود الميقات.
وبالجملة فليس لراكب السيارة ، أو الطائرة، أو الباخرة ونحوهم تأخير الإحرام إلى جدة لما فيه من مجاوزة الميقات، وإذا قُدِّر أنه فعل ونزل بالطائرة في جدة ولم يحرم، فسبيل التخلص من الفدية أن يركب سيارة ويرجع إلى ميقاته الذي قدم منه، ويحرم من هناك، ويدخل مكة محرما، ولا يحرم من جدة وإن أحرم من جدة لم ينفعه الرجوع، ولا يسقط عنه دم الفدية، هذا هو الطريق لإسقاط الفدية عمن تجاوز الميقات بدون إحرام.
التنبيه الثاني
من كان دون المواقيت كيف يحرم ؟
أما من كان دون المواقيت بأن كان بينها وبين مكة فإنه لا يُكلف بأن يذهب إلى أحد المواقيت التي ذكرناها ، فأهل جدة مثلا لا يكلفون أن يذهبوا إلى رابغ ليحرموا منه، بل ميقاتهم من بلادهم، فيُحرم أحدهم من بيته ، كذلك القرى التي بين مكة وجدة كبحرة ونحوها، فإن أهلها يحرمون من أماكنهم وبيوتهم.
وكذلك القرى التي بين السيل الكبير ومكة كالشرائع ونحوها فإن أهلها أيضا يحرمون من أماكنهم، وهكذا أهل مكة يحرمون من مكة على ظاهر هذا الحديث، وهو: حتى أهل مكة يحرمون من مكة(1/24)
وذهب بعض العلماء إلى أن أهل مكة يحرمون من مكة بالحج، وأما العمرة فإنهم يذهبون إلى أدنى الحل ، فيحرمون منه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر عائشة أن تعتمر من التنعيم ولم يرخص لها أن تعتمر من مكة مع أنها في مكة وهذا دليل على أن المعتمر يذهب من مكة إلى أدنى الحل، ويدخل فيها، حتى يجمع في العمرة بين وقوفه في الحل والحرم، كالحجاج من أهل مكة فإنهم يجمعون في وقوفهم بين الحل والحرم فإنهم يقفون بعرفة وهي من الحل، ويقفون في المشاعر الأخرى وهي من الحرم
التنبيه الثالث
من أتى مكة لا يريد الحج أو العمرة هل يلزمه الإحرام من المواقيت أم لا ؟
أما من مر بالمواقيت السابقة قاصدا مكة ولم يكن في نيته أداء حج أو عمرة ، فإنه لا يلزمه الإحرام، لكن إذا كان بعيد العهد بمكة فإنه يتأكد في حقه الإحرام، من غير أن يُلْزَمَ به، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة ".
فَشَرَط النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها مواقيت لمن أراد الحج أو العمرة، وهذا دليل على أن من مر بها قاصدا مكة لتجارة أو لزيارة قريب أو صديق أو عابر سبيل فإنه يجوز له أن يتجاوزها، ولا يلزمه الإحرام ، والله أعلم.
" أنواع الأنساك وأفضلها والنسك الذي أهل به النبي -صلى الله عليه وسلم- " :
إذا وصل الحاج إلى أحد المواقيت التي ذكرناها في أشهر الحج وهي : شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة، وكان مريدا للحج من عامه فإنه مخير بين ثلاثة أنساك :
الأول : التمتع وهو أن يحرم بالعمرة وحدها من الميقات في أشهر الحج.
وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن تقول: (لبيك عمرة).
ويستمر في التلبية حتى يصل مكة فإذا شرع في الطواف قطع التلبية، وبدأ بأعمال العمرة، فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر تمت عمرته، وحلَّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام.(1/25)
فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة (وهو يوم التروية) أحرم بالحج وحده، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن يقول: (لبيك حجا).
الثاني: الجمع بين العمرة والحج: (ويسمى القران): وهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعا في أشهر الحج، أي: يقرن بينهما، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن يقول: (لبيك عمرة وحجا).
أو يحرم بالعمرة أولا: من الميقات فيقول: (لبيك عمرة) وقبل أن يشرع في الطواف يدخل الحج عليها ويلبي. فإذا وصل إلى مكة طاف طواف القدوم، ثم سعى سعي الحج، وله تأخير هذا السعي بعد طواف الإفاضة، ولا يحلق أو يقصر، بل يبقى على إحرامه حتى يحلّ منه بعد التحلل يوم العيد.
الثالث : الحج وحده : ( و يسمى الإفراد): و هو أن يحرم بالحج وحده من الميقات في أشهر الحج، وصفة التلفظ في هذا النسك عند الإحرام وعقد النية أن يقول: (لبيك حجا) ، وله تأخير السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة.
فائدة: عمل المفرد كعمل القارن سواء بسواء إلا أن المفرد بالحج وحده ليس عليه هدي، أما القارن وهو المحرم بالعمرة والحج معا فإن عليه الهدي.
الحاج مخير بين هذه الأنساك الثلاثة، والدليل حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: " خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع فمنّا من أهلَّ بعمرة، ومنَّا من أهلَّ بحجٍّ وعمرة، ومنَّا من أهلَّ بالحج ... " الحديث وغيره من الأَدلة.
ولكن الأفضل من هذه الأَنساك هو (التمتع) لمن لم يكن معه الهدي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن سعى بين الصفا والمروة : " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه الهدي فليحل وليجعلها عمرة ... " الحديث.(1/26)
أما من ساق الهدي معه من بلده فإن القران أفضل في حقه؛ لأنه النسك الذي أحرم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا شك أن سوق الهدي في هذا الزمان فيه حرج ومشقة، فلذا كان الأفضل هو التمتع لما فيه من اليسر والسهولة.
أما من كان قارنا وكذا المفرد فالأفضل له إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا و المروة ولم يسُق الهدي من بلده، أن يجعلها عمرة فيقصر أو يحلق ويكون بهذا متمتعا، كما فعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمره في حجة الوداع ولكن الأفضل لمن اعتمر في رمضان أو قبله ثم جاء متأخرا الإفراد ففيه الإتيان بالعمرة في سفر والحجة في سفر وهو الذي يختاره الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم -.
النسك الذي أهل به النبي -صلى الله عليه وسلم-
ذكرنا أن النسك الذي أهل به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو (القران) وهو الجمع بين العمرة والحج بتلبية وإحرام واحد دون فصل بينهما، وهو النسك الذي اختاره الله سبحانه وتعالى لنبيه، ولا يختار الله لنبيه إلا الأفضل ، فإنه -صلى الله عليه وسلم- ساق الهدي معه، وهذا هو الذي منعه من التحلل بالعمرة ، وأن يفعل مثل الذي أمر به أصحابه.
" الإحرام صفته وما يتعلق به " :
يتجرد المسلم من لباسه المعتاد إذا كان رجلا ، ويرتدي لباسا خاصا ؛ حيث يقتصر على إزار يشدّ به عورته، ورداء يلفه على ظهره ، يتذكر بذلك تجرده من الدنيا ، ومن زينتها، ويتذكر بذلك أيضا لباس الموتى، وهو أنهم يكفنون بأكفان كهذه الأكسية، فهو بهذه الأكسية قد دخل في النسك، ودخل في هذه العبادة العملية.
أما المرأة فإنها تلبس ما تشاء من الثياب، وليس لها لباس خاص عند الإحرام كالرجال، كما يفعله بعض الجهلة من لبس النساء لثوب أبيض أو أخضر، فإن هذا لم يشرع وأن لبسها الأبيض فيه تشبه بالرجال، ولا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجل لا في اللباس ولا في غيره، بل عليها التستر والحشمة حتى لا تكون محل فتنة.(1/27)
والإحرام هو أول أعمال الحج، وهو أول ما يتلبس به الحاج أو المعتمر، وهذا الإحرام هو النية، وليس هو اللبس ، بل مجردُ نية الناسك ، وعزمه على الدخول في النسك هو الإحرام، ولو لم يتجرد من لباسه، فكثيرا ما يتجرد المحرم من لباسه المعتاد ويلبس ملابس الإحرام ولم ينو النسك ، والعكس كذلك، أن ينوي الدخول في النسك ويصبح محرما وهو باق على لباسه المعتاد لم يخلعه . إذا فالنية هي الأصل ، وهي العزم على الدخول في النسك.
فإذا رأينا إنسانا لبس إزارا على عورته ورداءا على ظهره، فليس بشرط أنه محرم وأنه دخل في النسك ، ولهذا يجوز أن تلبس إزارا ورداءً وأنت في بلدك ولا تحرم ، وذلك لأنه لباس معتاد قبل الإسلام، وجائزٌ لبسه لغير المحرم.
وكذلك قد لا يجد المحرم الرداء الذي يجعله على ظهره، فيتخذ ثوبا أو بطانية أو عمامة ويلقيها على ظهره، أو يبقى ظهره مكشوفا، وقد لا يجد إزارا؛ فيأتزر بثوب أو قميص يغطي به عورته أو ما أشبه ذلك، وهكذا بهذه النية يكون الإنسان محرما ولو لم يلبس هذا اللباس الخاص.
وقد لا يتيسر للبعض التكشف ولبس الإحرام الخاص، كالذين يعملون الأعمال الرسمية، ويريدون أداء المناسك، فيجوز لهم أن يحرموا بأكسيتهم وألبستهم المعتادة، فيجوز للجندي مثلا أن يحرم ويلبي وهو لابس قميصه، وعليه برنيطة على رأسه، ويتجنب المحظورات، ولكن يكون عليه فدية عن هذا اللباس، وإحرامه صحيح، فإن الإحرام هو النية والتلبية وما أشبهها.
وقد اشتهر عند الإحرام أن يقلم المحرم أظفاره، ويقص من شاربه، ويحلق شعر عانته ونحو ذلك.
فهل هذه من السنن؟!
نقول : ليست هذه من السنن ، ولكن شُرِعَت للمحرم مخافة أن يتأذَّى بهذا الشعر، وهذه الأَظفار عند إطالتها ، فبعد الإحرام عادة ما يبقى الحجاج في إحرامهم نصف الشهر ، أو عشرين يوما وهم محرمون، ولا شك أن المحرم منهي أن يقلم أظفاره، وأن يقص من شعر شاربه أو شعر عانته أو إبطه أو نحو ذلك.(1/28)
فلسان حاله يقول : بما أني منهي عن ذلك وأنا محرم، فسوف أقلمها وأقصها ما دام ذلك حلالا، قبل أن تطول وتؤذي وأكون ممنوعا منها بعد عقد النية بالنسك.
أما في هذه الأزمنة فالحاجة إلى أخذ هذه الأشياء قليلة، وذلك لقصر مدة الإحرام لتقارب المسافة، وذلك لوجود الناقلات التي تقرب البعيد.
وقد قيل : إن الصحابة رضي الله عنهم بقوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسة عشر يوما وهم محرمون، وبعضهم أحرم في خمس وعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يتحلل إلا يوم العيد، فبقوا خمسة عشر يوما وهم محرمون، وبعضهم تحلل في اليوم الخامس من ذي الحجة، حيث جعلوها عمرة، ثم أحرموا في اليوم الثامن من ذي الحجة، وبقوا على إحرامهم إلى اليوم العاشر، وبكل حال فقد خشوا في هذه المدة الطويلة أن تطول أظافرهم فتعاهدوها قبل الإحرام، وتعاهدوا شعورهم مخافة أن تؤذيهم.
أما إن أحرم مثلا في اليوم الثامن وتحلل في اليوم العاشر، فإن هذه المدة لا يطول فيها الشعر والظفر، فلا أهمية ولا إلزام في أخذ هذا الشعر ولا هذه الأظافر ونحوها ؛ سيما إذا كانت قصيرة.
" تنبيه مهم " :
من أراد أن يضحي، فإنه منهي أن يأخذ من شعره وأظفاره في أيام عشر ذي الحجة حتى يضحي، فإذا دخل عليه العشر، توقَّف عن أخذ شيء من شعره وظفره، وتعاهدَ ذلك في اليوم التاسع والعشرين أو اليوم الثلاثين من شهر ذي القعدة، فيأخذ ما يريد أخذه، حتى لا يحتاج إلى ذلك بعد دخول العشر، لورود النهي عن ذلك.
كذلك إذا أراد المسلم الحج وهو ينوي أن يضحي وقد تعاهد هذا الشعر وهذه الأظفار قبل دخول العشر، ثم أحرم بالحج في اليوم السابع من ذي الحجة، أو في اليوم الثامن فلا يجوز أخذ شيء من شعره وظفره لأنه عازم على الأضحية.
والخلاصة أن الأخذ من الشعر والظفر عند الإحرام ليس مشروعا إلا إذا كانت الأشعار طويلة مثلا أو الأظافر، وخاف أن يتأذى منها بعد الإحرام.(1/29)
أما الاغتسال عند الإحرام فليس أيضا بشرط لِلَّهِ ولكن من باب النظافة، فيستحب أن يحرم وهو حديث عهد بنظافة، فلو اغتسل وتنظَّف في اليوم السابع وأحرم في اليوم الثامن أجزأه ذلك، لوجود النظافة المطلوبة عند الإحرام.
وهل يشرع عند الإحرام صلاة ركعتين قبل الإحرام أو بعده ؟
استحب ذلك جمع من العلماء، ولكن ليس ذلك بمستحب إلا إذا كان هناك سبب آخر، كأن توضأ أو اغتسل، وصلى ركعتين كسنة وضوء، كفاه ذلك، وإن كان في وقت مكتوبة: كصلاة ظهر، أو صلاة عصر، أو صلاة فجر، كفته الصلاة، فأحرم بعدها، وإن كان في وقت نافلة كصلاة الضحى أو نحوها، كفاه ذلك أيضا.
وليس للإحرام سنة خاصة وليس من ذوات الأسباب ، فلا يصليها في وقت النهي : كبعد العصر، وبعد الفجر.
وبكل حال هذه من السنن المطلقة التي تصلى لمناسبة والله أعلم.
" الاشتراط في الإحرام " :
إذا كان المحرم خائفا من عائق في الطريق كمرض أو عدو أو مطر ، أو خاف المنع من قبل السلطات بسبب الإجراءات النظامية، أو نحوه، فإنه يستحب له أن يشترط عند إحرامه فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني . أو يقول: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني .
أما من لا يخاف وغلب على ظنه أنه لا يعوقه عائق فإنه لا ينبغي له الاشتراط.
" صفة التلبية ومواضعها " :
بعد أن يلبس المسلم لباس الإحرام، ينوي بقلبه فيقول: (لبيك عمرة)، أو (لبيك حجا)، أو (لبيك حجا وعمرة)، وينوي بهذه التلبية الدخول في النسك الذي اختاره، كما ينوي أيضا التقرُّب إلى الله بهذه التلبية التي معناها التزام الطاعة.
وبعد أن ينوي الدخول في النسك فإنه يبدأ بالتلبية فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك .
وقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال ".(1/30)
والإهلال هو: التلبية، والتلبية هي إجابة دعوة الخليل عليه السلام كما قال الله تعالى: { وأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } (سورة الحج ، الآية:27) فقد روي أن إبراهيم عليه السلام صعد على جبل أبي قبيس فنادى: أيها الناس: إن الله كتب عليكم الحج فحجوا .
ومعنى قوله: (لبيك) أي: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، فالتلبية هي: الملازمة والتمسك بالشيء ، فالملبي كأنه يعاهد ربه أنه لا يخرج عن طاعته ، وأن يستقيم عليها، وأنه مقيم عليها إقامة مستمرة لا يفارقها قيد شعرة وليس بعدها تحول ؛ سواءٌ كان في تلك الحالة التي هي الإحرام، أو فيما بعده.
كذلك تشتمل التلبية على العقيدة ، والتوحيد، فإن قوله: لبيك لا شريك لك لبيك تكرار لهذه التلبية، وشهادة منه بأن ربه تعالى متفرد بالوحدانية ، ليس له شريك في استحقاق هذه العبادة، واعتراف منه بأنه المستحق لذلك، والمستحق للحمد والثناء.
وفي قوله: إن الحمد والنعمة لك والملك الحمد هو: ذكر محاسن المحمود، والنعمة هي: إنعامه على الخلق.
وهكذا قوله: (لا شريك لك) أي: منك وحدك يا رب، ونحن معترفون بذلك، إنه لا شريك لك.
وصفة التلبية النبوية أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكرر قوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- سمع من صحابته تلبيات أخرى ولم ينكر عليهم، فكان بعضهم يقول: لبيك حقا حقا تعبدا ورقا ، وبعضهم يقول: لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والشر ليس إليك نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك . وبعضهم يقول: لبيك والرغباء إليك والعمل . وبعضهم يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة . والكل جائز، وذلك لأن هذه التلبية إجابة لنداء الله سبحانه وتعالى، والتزام بطاعته، فهي شعار خاص بالمتلبس بنسك حج أو نسك عمرة.
ويجوز أن يلبي غير المحرم، ولكن الأصل أنها أصبحت شعارا للمحرم.(1/31)
ويسن للرجال أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، أما النساء فإنهن يخفضن أصواتهن فلا يسمعها أحد إلا من كان بجانبها من رفيقاتها.
وقد ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتلبية من حين أحرم، ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة في يوم العيد، فعند ذلك قطع التلبية لأنه شرع في أسباب التحلل، وهكذا الذي يحرم بعمرة يلبي إلى أن يبدأ بالطواف ، فإنه يقطع التلبية لأنه بدأ بأسباب التحلل.
ويندب أن يكثر الحاج من التلبية لأنها ذكر وهي شعار الحجاج ،
وهي تتأكد في عشرة مواضع:
الموضع الأول: إذا عقد الإحرام ودخل في النسك رفع صوته بالتلبية.
الموضع الثاني: إذا ركب دابته أو سيارته أو نحو ذلك، فإنه يكون قد انتقل من حال إلى حال.
الموضع الثالث: إذا نزل من دابته أو من سيارته على الأرض لسبب أو لغرض، فإنه يجدد هذه التلبية.
الموضع الرابع: إذا صعد نشزا أي مكانا مرتفعا، كأن ترتفع به دابته أو سيارته فإنه يجدد هذه التلبية.
الموضع الخامس: إذا هبط منخفضا أو واديا، أو نحو ذلك، فإنه يلبي.
الموضع السادس: إذا أقبل الليل ؛ سواء كان في مكة أو منى أو ليلة عرفة أو في غيرها، فإن إقبال الليل يكون تجدد حال فلهذا يجدد هذه التلبية.
الموضع السابع: عند إقبال النهار تجدد هذه التلبية أيضا.
الموضع الثامن: إذا سمع من يلبي، فإنه يتذكر بذلك هذه التلبية فيلبي.
الموضع التاسع: إذا فعل محظورا من محظورات الإحرام ناسيا، أو لحاجة، أو نحو ذلك، فإنه يجدد التلبية.
الموضع العاشر: إذا تلاقت الرفاق تذكروا إحرامهم فلبى كل منهم. وهكذا .. يجدد التلبية أيضا بعد الصلاة المكتوبة في عرفة وفي مزدلفة وفي منى وغير ذلك، فكلما صلى صلاة مكتوبة جدد هذه التلبية.
وقد عرفنا أن هذه التلبية هي معاهدة من العبد لربه، فإذا لبى فليستحضر هذه المعاهدة، وليعقد قلبه عليها، حتى يكون صادقا ، ويكون حجه مقبولا مبرورا.
" محظورات الإحرام " :(1/32)
يجتنب المسلم في إحرامه ما نُهي عنه في قول الله تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (سورة البقرة ، الآية:197) فهذه أمور نهى الله تعالى عنها، فمن أحرم سواء بحج أو عمرة فإنه يتجنب الرفث، الذي هو الكلام السيئ، وخصوصا ما يتعلق بالعورات أو ما يتعلق بالنساء ، بصون لسانه، فإذا لم يشغله بذكر الله سبحانه وتعالى، وبتلبيته، فلا يشغله بهذا الكلام الدنيء، وبالرفث في القول ووسخ الكلام لِلَّهِ بل عليه أن يستبدل ذلك بما ينفعه ، ويتجنب ما يضره.
هذا هو الأصل في سبب شرعية هذا الإحرام، وذلك لأن المحرم يتذكر في ليله ونهاره أنه في هذه العبادة، فتذكُّرُه يحمله على أن يحمي لسانه، فلا يتكلم إلا بخير، فيتجنب السبَّ والقذف، والشتم، واللعن، والغيبة، والنميمة، ويتجنب الجدال الذي نهى الله عنه، والمخاصمة بغير حق، وشدة الاحتكاك بغير موجب.
وعليه أيضا أن يتجنب الفسوق التي هي المعاصي ، صغيرها وكبيرها، فكل معصية ؛ سواء كانت بالعين كنظرة إلى عورة، أو سماع لكلام سيئ ، أو لغناء أو نحوه، أو كانت معصية بيد، أو برجل، أو بقلب، كمن يهم بمعصية بقلبه، كل ذلك من الفسوق الذي نهى الله عنه بقوله: { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } (سورة البقرة ، الآية:197) .
فإذا تجنب الحاجُّ مثل هذه الأمور في إحرامه، رُجي أن تبقى عليه آثاره بعد تحلله، وذلك لأن للعبادات آثارا تبقى بقية الحياة، ومن لم تبق عليه تلك الآثار فإنه حري بأن لا ينتفع بأعماله ويرجع إلى عمل السيئات.(1/33)
كذلك إذا عرف العبد أنه في حال إحرامه في هذه العبادة منهيٌّ عن المعاصي ونحوها، عرف أنه مأمور بالطاعات، ومن الطاعات: الإكثار من الدعاء، والإكثار من ذكر الله تعالى، ولهذا يأمر الله بذكره في أيام المواسم كما في قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } (سورة البقرة ، الآية:203) يعني أيام التشريق ، وكذلك قوله : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } (سورة البقرة ، الآية:200) .
بمعنى كما أنكم منهيون عن الغفلة في وقت أداء النسك، فلا تغفلوا بعد الانتهاء من النسك أيضا؛ بل أكثروا من ذكر الله بعد قضاء المناسك ، وأعمال المشاعر، ونحوها.
وهكذا أمر سبحانه وتعالى بذكره في مزدلفة فقال: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } (سورة البقرة ، الآية:198)
فهذا ونحوه دليل على أن المحرم يكثر من ذكر الله تعالى في جميع حالاته ، وأن يبقى أثر الذكر معه.
" محظورات الإحرام المشتركة بين الرجال والنساء " :
1- قص الشعر: إذا قصَّ المحرم شيئا من شعره من أيِّ شعر، من شاربه، أو من رأسه، أو من عانته، أو إبطه، فعليه فدية.
2- قص الأظفار: كذلك إذا قلّم ثلاثة أظفار أو أكثر فعليه الفدية.
3- لبس القفازين (الكفوف) وهما شراب اليدين وما يشبهه مما هو مصنوع لليدين.
4- استعمال الطيب: كذلك عليه عدم استعمال الطيب الذي له رائحة زكية، فإذا تطيب في ثوبه أو في بدنه أو في إحرامه فعليه فدية مثل ما ذكرنا.
5- قتل الصيد البري : وعليه عدم قتل الصيد البري أيا كان نوعه، فمن صاده وقتله فإن عليه الفدية التي ذكرها الله تعالى بقوله: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } (سورة المائدة ، الآية:95) ومثله أيضا صيد الحرم .(1/34)
6- عقد النكاح: فلا يصح أن يعقد المحرم نكاحا لابنته أو ابنه، ولا يكون شاهدا، ولا يخطب، ولا يكون زوجا ولا وليا، فإن فعل بطل العقد ولا فدية فيه.
7- الجماع: فإنه يبطل النسك بالجماع، وإذا فعله قبل التحلل الأول، فسد نسكه، وعليه إكماله، وعليه فدية، وعليه أن يقضيه من السنة القادمة.
8- المباشرة والتقبيل واللمس بشهوة وما أشبهه: فإذا فعل ذلك، فعليه فدية، ولكنه لا يفسد حجه.
" محظورات الإحرام الخاصة بالرجال " :
1- لبس المخيط : فإذا احتاج الرجل ولبس ثوبا مخيطا، أو أحرم به: كالجنود الذين يحرمون بثيابهم، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام، أو الصدقة على ستة مساكين، بثلاثة آصع، لكل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، أي له الخيار.
2- تغطية الرأس : يجب عدم تغطية الرأس فلا يغطي المحرم رأسه بملاصق : كعمامة أو قلنسوة أو (برنيطة) أو نحوها، فإذا احتاج إلى ذلك لبرد أو لحاجة: كالجندي الذي يحرم بلباسه ، فإن عليه فدية أخرى، أي: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين ... إلخ.
" محظورات الإحرام الخاصة بالنساء " :
1- لبس البرقع والنقاب والقفازين ونحوهما مما هو مفصل على الوجه أو اليدين، ويباح لها من المخيط ما سوى ذلك.
2- ولها أن تغطي وجهها عند حضور الرجال الأجانب ولا يضرها مماسة الغطاء لوجهها، وكذلك تغطية يديها بثوبها، ولكن لا تلبس القفازين.
" من ارتكب محظورا من محظورات الإحرام " :
إذا فعل المحرم محظورا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا أو مكرها فلا إثم عليه، ولا فدية للنصوص الكثيرة في رفع الحرج عن الناسي والجاهل والمكره.
أما من اضطر لفعل محظور من المحظورات، فيجوز له فعل ذلك المحظور وعليه فدية ، ولا يلحقه الإثم للعذر.
أما من تعمد فعل محظور من المحظورات، فإنه آثم وعليه الفدية، والفدية على التفصيل:(1/35)
1- الفدية في إزالة الشعر : والظفر، وتغطية الرأس في حق الرجال، ولبس المخيط ، ولبس القفازين في حق النساء ، وانتقاب المرأة، واستعمال الطيب ، فإن الفدية في كل واحد من هذه المحظورات على التخيير:
إما ذبح شاة وتفريق جميع لحمها على فقراء الحرم
أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع مما يطعم.
أو صيام ثلاثة أيام.
2- من جامع في الفرج قبل التحلل الأول فَسَدَ حجه، ولزمه بدنة يفرق لحمها على فقراء الحرم ويجب عليه إكماله ، وأن يقضيه بعد ذلك.
أما من جامع بعد التحلل الأول فعليه ذبح شاة يفرق لحمها على فقراء الحرم وحجه صحيح.
والمرأة كالرجل في الفدية إذا كانت راضية.
3- جزاء الصيد: من قتل صيد الحرم أو قتل الصيد وهو محرم فإنه يخير بين ثلاثة أشياء:
إما ذبح مثل الصيد المقتول من بهيمة الأنعام إن وجد، وتفريق لحمه على فقراء الحرم
أو أن يخرج ما يساوي جزاء الصيد المقتول طعاما يفرَّق على المساكين لكل مسكين نصف صاع.
أو أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما.
4- المباشرة بشهوة دون الفرج ، كالقبلة واللمس بشهوة، سواء أنزل أو لم ينزل، من وقع في مثل هذا فحجه صحيح، ولكن عليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، وعليه أن يجبر فعله هذا بذبح شاة للاحتياط، وإن أطعم ستة مساكين أو صام ثلاثة أيام أجزأه.
5- من منع من إتمام النسك بسبب عدو أو حصل عليه حادث أو مرض و نحوه، فعليه أن يبقى على إحرامه حتى يزول العائق ، وإذا لم يتمكن ولم يستطع، فإنه يذبح ثم يحلق أو يقصر.
هذا بالنسبة لمن لم يشترط عند إحرامه، أما من اشترط وحصل له مانع من أداء الحج فإنه يحلّ من إحرامه وليس عليه شيء.
" ما يباح للمحرم فعله " :
يجوز للمحرم وغير المحرم أن يقتل الفواسق المؤذية في الحل والحرم كالعقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور، والحية، وما شابهها.(1/36)
ويجوز للمحرم لبس السراويل إذا لم يجد إزارا، ويجوز له لبس الخفين، إذا لم يجد نعلين. كما أنه يجوز للمحرم لبس الخفاف التي ساقها أسفل من الكعبين إن لم يجد النعلين.
ويجوز للمحرم أن يغتسل للتبرد ويغسل رأسه ويحكه برفق وسهولة ولا حرج عليه إذا سقط من شعره شعرة أو شعرتان دون تعمد.
ويجوز لبس النظارة الشمسية أو الطبية وربط الساعة على المعصم.
ولا بأس بالحجامة إذا احتاج إليها المحرم.
ولا بأس بالاستظلال بالمظلة أو سقف السيارة أو الخيمة أو الشمسية ونحوها، مما لا يكون ملاصقا للرأس.
ولا بأس بعقد الإزار أو ربطه بخيط حتى لا يقع.
ويباح للمرأة من المخيط ما شاءت من الثياب من كل ما أباحه الله، ولكن لا تلبس النقاب والبرقع ولا القفازين، ولا حرج عليها في لبس الخفين والشراب والسراويل، ولها أن تستر وجهها بإسدال الخمار عليه أمام الرجال الأجانب.
ولا بأس للمحرم أن يلبس حزاما على وسطه ليحفظ ماله ويشد به إزاره.
ولا حرج في أن يخيط المحرم الشقوق في إزاره أو ردائه ، أو يرقعها والممنوع هو لبس ما فصّل على هيئة البدن أو العضو.
" الطواف حول البيت " :
أول ما يصل المحرم مكة يستحب له أن يغتسل قبل دخولها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك.
ثم يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة فهو الأفضل ويجوز أن يدخل من جميع الجهات.
فإذا أراد الدخول إلى المسجد الحرام استحب له أن يقدم رجله اليمنى، ويقول: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك . وهذا الذكر يقال عند دخول المسجد الحرام وسائر المساجد ولم يثبت لدخول المسجد الحرام ذكر خاص.(1/37)
أول ما يبتدئ به المحرم هو الطواف وهو تحية مكة فإن كان معتمرا أو متمتعا بالعمرة إلى الحج كان طوافه (طواف عمرة) ، وإن كان قارنا أو مفردا فهو (طواف قدوم) ، إذا وصل المحرم بالعمرة الكعبة قطع التلبية قبل أن يشرع في الطواف لأنه شرع في أسباب التحلل.
أما القارن والمفرد فإنهما يستمران في التلبية حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد عندها تقطع التلبية.
وقد كان المشركون قبل الإسلام يأتون إلى هذا البيت، وكان من تعظيمهم له أنهم لا يطوفون بالثياب التي عصوا الله فيها ، فإما أن يستعيروا ثيابا من أهل مكة الذين هم أهل الحرم وإما أن يطوف أحدهم في ثيابه القديمة ثم يلقيها ولا ينتفع بها، وإما أن يطوفوا وهم عراة حتى لا يطوفوا بثياب فيها معصية، هكذا زعموا لِلَّهِ وهذا من الجهل الذي نهى عنه الإسلام، وأنكره، وأمر بأن يُطاف بالثياب التي تستر الإنسان في صلاته وعند طوافه، قال الله تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (سورة الأعراف ، الآية:31) ومن الزينة اللباس.
وقد أمر الله تعالى بالطواف في قوله تعالى : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج ، الآية:29) .
وفي قوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (سورة الحج ، الآية:26) .
والطواف عبادة خاصة بمكة وهي من أشرف وأفضل القربات التي يتقرب بها المسلم لله وحده، ولا يصح الطواف في غير مكة بل وليس في الأرض موضع يُطاف به سوى البيت العتيق فلا يجوز أن يُطاف بأي بقعة في الأرض، فلا يُطاف حول قبر أو مسجد أو صخرة أو غير ذلك.
والطائف بالبيت لا يدعو الكعبة ولكنه يدعو ربها امتثالا لقول الله تعالى: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ } (سورة قريش ، الآية :3) فلم يقل : فليعبدوا البيت ؛ بل جعل العبادة لرب البيت .(1/38)
والطواف بالبيت يجوز في كل حال وفي كل وقت، وهو عبادة مستقلة، كما أن الاعتكاف والصلاة فيه عبادة فاضلة.
فلذلك يجوز لك أن تقصد البيت وأن تقصد الكعبة بدون إحرام، قصدك أن تطوف ولو لم تكن محرما، فحيث إن الطواف بالبيت عبادة من العبادات، فإنه يصح أن يُقْصَدَ لكي يصلى فيه، بل ويجوز أن تُشدّ إليه الرحال ولو مسيرة ألف أو ألفي كيلو أو عشرة آلاف كيلو مترا، ليس قصدك إلا أن تصلي أو تطوف بهذا البيت كما أنه يقصد لأداء مناسك الحج أو العمرة.
والطواف بالبيت كما قلنا عبادة من أشرف وأفضل القربات، يتقرب بها المحرم وغير المحرم، ولكن للمحرم ركن، فالطواف بالبيت ركن من أركان العمرة، وركن من أركان الحج، فالقادم إلى مكة بنية الحج يطوف بالبيت طواف القدوم إذا كان قارنا أو مفردا، و كذلك يطوف طواف الإفاضة الذي هو من أعمال يوم النحر، والمذكور في قوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج ، الآية:29) وكذلك يطوفون طواف الوداع عند مبارحتهم مكة بعد انتهاء أعمال الحج ، فيكون طواف الوداع آخر عهدهم بالبيت .
وفي الطواف يستحضر العبد أنه تعظيم لله، ليس بتعظيم للكعبة ولا لتلك البناية المخلوقة! إنما هو تعظيم لله تعالى، فالكعبة بيتٌ أمر الله ببنائه، فأمر إبراهيم عليه السلام أن يبنيه، وكذلك جدده من بعده، وأضافه الله إلى نفسه في قوله تعالى: { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } جعله بيتا له، ولحرمة هذا البيت أمر المسلم بأن يطوف به، تعظيما لربه الذي أمر بذلك.
وهذا الطواف يشتمل على ذكر ودعاء وقراءة، ولا يصحُّ فيه غير ذلك، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فلا يتكلم حال الطواف إلا بخير، فقد ورد في الحديث: " الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير ".(1/39)
لذلك يشترط في الطواف الطهارة كما تشترط للصلاة ، ويشترط له ستر العورة، كاشتراطها للصلاة أو نحو ذلك.
ويبدأ الطواف بمحاذاة الحجر الأسود، فإذا قدر المسلم على استلامه فإنه يقبِّله، فيضع شفتيه عليه من غير تصويت ، فإن لم يستطع، لمسه بيده اليمنى وقبّلها ، وإن لم يستطع لمسه بمحجن أو عصا، وقبّل رأس المحجن أو العصا ، وإن لم يستطع ذلك كله اكتفى بالإشارة إليه - و لو من بعيد - وكبّر ومضى .
ويُشرع للحاج ألا يزاحم الحجاج من أجل تقبيل الحجر الأسود؛ بل إنْ وجد فرجة واسعة، استلم، وإلا مضى، لأنه قد يُشِقُّ على غيره في هذه المزاحمة ، ويكلف نفسه ، وقد يزاحم من لا تحل مزاحمته : كالنساء، وما أشبه ذلك.
وإذا ابتدأ الطواف فإنه يجعل البيت عن يساره، مبتدءا من الحجر الأسود -كما قلنا- ويبدأ بالاستدارة حول الكعبة وراء الحِجْر.
والحِجْر هو: البناية كنصف الدائرة التي يمر بها في جهة الشمال ويطوف من ورائها، ويحذر أن يطوف من دونها، كما يفعله بعض الجهلة، وذلك لأن هذا الحِجْر فيه جزء من البيت لأن قريشا حين جددوه، قصرت بهم النفقة، فأخرجوا جزءا من البيت نحو ستة أو سبعة أذرع من جهة الشمال، فلهذا جعل هذا الحِجْر مكملا له ليحصل الطواف بالبيت كله، لا ببعضه، فمن طاف في داخل الحِجْر لم يطف بالبيت كله، إنما طاف ببعضه.
فإذا وصل إلى الركن اليماني الذي هو الزاوية الغربية الجنوبية، فإن استطاع أن يستلمه بأن يضع يده عليه مجرد وضع ، ثم يرفعها فعل ذلك، ولا يقبله ولا يمسح بيده زاويته ولا يقبلها ولا يمسح بها وجهه ولا غير ذلك مما يقصد به التبرك ، فإن كل ذلك من البدع، وإنما جاءت السنة بوضع اليد على الركن اليماني وبتقبيل الحجر الأسود فقط ، فإن لم يستطع وضع يده كما ذكرنا ، فإنه يمضي ولا يشير إليه ، وهكذا بقية زاويا الكعبة لا يُسْتَلَمْ شيء منها.(1/40)
ذكرنا أن الطواف عبادة لله وحده وليست تعظيما للكعبة ولا أستارها، ولا أركانها، فَيُنْكَرُ على من يفعل في هذا الطواف ما لا يجوز فعله، ومن ذلك أن بعضهم يتمسح بجدار الحِجْر ، فكلما مرّ عليه مسحه، ومسح بذلك وجهه وصدره ، وهذا بلا شك خطأ، ويجب أن يُنْصَحَ الذين يفعلون مثل هذه الأخطاء.
وهكذا الذين يلصقون صدورهم على جدران الكعبة يتبركون بذلك ، أو يمسحون بأيديهم الكسوة ويمسحون بها وجوههم ، فهذا كله لا أصل له، فلم يُشرع التبرك بكسوتها، ولا بحجارتها، ولا بالحِجْرِ ولا بغير ذلك.
وهكذا أجزاء بقية الكعبة كمقام إبراهيم والصفا والمروة وزمزم وجدرانها، وبقية جدران المسجد الحرام فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، ولم يُشرع إلا تقبيل الحجر الأسود ووضع اليد اليمنى على الركن اليماني .
وهكذا الحجرة النبوية بالمدينة المنورة والمنبر النبوي ، وجدران المسجد النبوي وغير ذلك، فلا يجوز التمسح بشيء من ذلك، فإن التمسح بشيء من ذلك يعتبر تعظيما له لِلَّهِ وهذا التعظيم قد يؤدِّي إلى نقص التوحيد، فإنه نوع من الإشراك.
" أدعية الطواف " :
ليس للطواف دعاء مخصوص، خلافا لما اعتاده الجهلة ، وهم الذين يتقيدون بتلك الأدعية المذكورة في بعض المناسك، فإن التقيد بها ليس بشرط.
فإذا شغلت الطواف بذكر الله بالتهليل ، والتحميد، والتكبير، والتسبيح، والحوقلة، والاستغفار، ونحوه ، كفى ذلك .
وإذا شغلته بالقراءة أو بما تيسر من الأدعية ، سواء الأدعية القرآنية، أو الأدعية النبوية المأثورة، أو ما تستحسنه من الأدعية الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، كفاك.
وليس لكل شوط دعاء مخصوص ؛ بل يصح أن تدعو بهذه الأدعية في شوط أو في الأشواط كلها بدعاء واحد أو ما أشبه ذلك ، هذا كله دليل على أن ما يعتقده بعض الجهلة من أنها لا تصح إلا بتلك الأدعية المخصصة خطأ لا أصل له .
" تنبيه " :(1/41)
وهنا ننبه على هذه المناسك ، أي : الكتب الصغيرة التي تُباع عند الحرم وغيره والتي يذكر فيها: دعاء الشوط الأول والشوط الثاني والثالث ... وهكذا، ليست ملزمة، وليست شرطا، وإنما جمعها بعض العلماء ليسهل على العامة الدعاء بها، وإلا فليست شرطا؛ بل يجوز أن تدعو بدعاء الشوط الأول في الثاني ، أو في الثالث ، ويجوز أن تدعو بغيرها ، ويجوز ألا تدعو بها كلها ، وأن تقتصر على الثناء على الله ، والتكبير والتهليل والتحميد، وما أشبه ذلك؛ بل يصح الطواف ولو لم تدع بشيء منها، ويصح الطواف ولو لم تردد إلا فاتحة الكتاب، أو تردد لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو ما أشبه ذلك ، فإن القصد هو وجود الطواف، أما الذكر فإنه من مكملاته.
ذلك لأن الدعاء إنما هو ذكر لله، وقد ثبت قول عائشة رضي الله عنها: إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار ذكر الله تعالى .
فالطواف شرع لإقامة ذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا أقامه العبد، صحَّ وأتى بما طُلِبَ منه؛ سواء بذلك الدعاء أو بغيره.
وبعد إتمام الطواف حول البيت سبعة أشواط ، فإنه يشرع صلاة ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام إن تيسَّر ذلك، وإلا في أي مكان من المسجد.
وبعد أداء الركعتين وقبل الذهاب إلى الصفا والمروة يشرع الرجوع إلى الحجر الأسود وتقبيله إن تيسر أو الإشارة إليه، فإن هذا من السنة.
" السعي بين الصفا والمروة " :
وبعد أداء ركعتي الطواف يخرج إلى المسعى ، فإن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة.
وقد ذكر الله تعالى أن الصفا والمروة من شعائر الله، فقال تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } (سورة البقرة ، الآية:158)
وهكذا بقية الأماكن فإنها تسمى شعائر، كما في قوله تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } (سورة الحج ، الآية:32) .(1/42)
والسعي بين الصفا والمروة يسمى طوافا وهو إحياء لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ".
ويشرع الخروج إلى المسعى من جهة الصفا، فإذا دنا من الصفا قرأ: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } (سورة البقرة ، الآية:158) ثم قال أبدأ بما بدأ الله به.
ثم يرقى الصفا حتى يرى البيت فيستقبله وإن وقف عند الصفا أجزأه.
ويرفع يديه فيوحد الله ويكبره ويحمده ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم يدعو بعد ذلك بما تيسر من الدعاء فيدعو بما شاء من خيري الدنيا والآخرة ويكرر هذا الذكر وهذا الدعاء ثلاث مرات ، فإن هذا من مواضع الدعاء الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في المناسك.
ولا بأس أن يدعو بغير هذا الدعاء ، ولكن الأفضل اتباع السنة وما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- .
بعد ذلك ينزل من الصفا متوجها إلى المروة حتى يصل إلى العلم الأخضر، ويشرع للرجل أن يسعى سعيا شديدا يعني: يركض ركضا، حتى يصل إلى العلم الثاني، ويحرص المسلم على عدم إيذاء إخوانه المسلمين ، أما المرأة فلم يشرع في حقها إلا المشي فقط فإنها عورة.
فإذا وصل إلى المروة رقى عليها ويستقبل القبلة فإنه من السنة، ويقول ويفعل كما قال وفعل عند الصفا ثم ينزل من المروة إلى الصفا وهكذا يمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه.
والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط مبتدئا بالصفا ومنتهيا بالمروة فمن الصفا إلى المروة يعد شوطا ، ومن المروة إلى الصفا يعد شوطا آخر.. وهكذا حتى يتم سبعة أشواط.(1/43)
ويشرع أن يشغل سعيه بالذكر والدعاء والقراءة بما تيسر، وليس للسعي بين الصفا والمروة دعاء خاص ، وإن دعا في السعي فقال: رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم فلا بأس لثبوته عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم.
ولا تجب الطهارة للسعي ، والطهارة أفضل، وهكذا المرأة لو حاضت أو نفست بعد الطواف أجزأها السعي على غير طهارة.
وليحذر من مزاحمة النساء الأجنبيات ونحوهن ، أو تعمد النظر إلى العورات ، أو إلى الزينة المنهي عنها ، أو ما أشبه ذلك .
وهكذا النساء فعليهن أن يتقين الله عز وجل ، وألا يزاحمن الرجال، لا في المطاف، ولا في السعي، ولا عند الجمرات، ولا في غيره من المشاعر.
الحلق أو التقصير : وبعد أداء السعي بين الصفا والمروة يشرع لمن أحرم بالعمرة أو كان متمتعا أن يحلق أو يقصر والحلق أفضل، فإنه -صلى الله عليه وسلم- دعا للمحلقين بالرحمة - وفي لفظ: بالمغفرة - ثلاث مرات، وللمقصرين مرة .
أما إذا كان وقت الحج قريبا بحيث لا يطول فيها الشعر، فإن الأفضل في حقه التقصير، فإن قصر فلا بد من تعميم التقصير ، ولا يكفي تقصير بعضه، كما يفعله بعض الجهلة.
وبالحق أو التقصير من المعتمر أو المتمتع يكون قد تحلل من عمرته وحلَّ له كل شيء حرّم عليه بالإحرام.
أما المفرد أو القارن الذي ساق الهدي فإنهما يبقيان على إحرامهما ولا يقصران أو يحلقان حتى رمي جمرة العقبة يوم العيد.
" أعمال الحج " :
إذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، استحب للحجاج الذين حلّوا من إحرامهم بعد العمرة وهم المتمتعون أن يحرموا بالحج من مساكنهم وأماكن إقامتهم.
كذلك يُستحب لأهل مكة ومجاوريها، ممن أراد الحج أن يحرموا من بيوتهم.
فيعقد الحاج النية بالحج في قلبه ويلبي بالحج فيقول: (لبيك حجا)، وإن كان خائفا اشترط في إحرامه كما ذكرنا سابقا فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني .(1/44)
أما القارنون والمفردون فهم باقون على إحرامهم الأول ، حتى يؤدوا باقي مناسكهم.
يتوجه جميع الحجاج بعد الإحرام إلى منى قبل الزوال أو بعده، فيصلُّوا فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، يقصرون الرباعية.
ويبيت الحجاج في منى تلك الليلة وهي ليلة التاسع من ذي الحجة، وهذا المبيت يعتبر سُنة مؤكدة، وإن ذهب بعض العلماء إلى وجوبه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاءه حافظوا عليه، فكانوا يبيتون ليلة تسع في منى ويتوجهون صباح التاسع بعد طلوع الشمس إلى عرفة فيكون هذا المبيت مؤكدا ، والذين يتركونه يتركون فضلا كبيرا ، ثم إن غالب الذين يتركونه هم الذين يتعلقون بغيرهم، وغالبهم من الوافدين الذين يحملهم المطوفون، وذلك أن المطوف يشق عليه أن يسكنهم أولا بمكة ثم بمنى ثم بعرفة ثم بمزدلفة ثم بمنى ثم بمكة فهو ينقلهم رأسا من مكة إلى عرفة ويترك هذه الشعيرة وهذه السُّنة، وهي المبيت بمنى ليلة عرفة وهذا فيه تقصير وخطأ ونقص في حجهم، ولكن لجهل أولئك الوافدين ولإحسانهم الظن بهذا المطوف واعتقادهم نصحه، لا ينتبهون لما يفوتهم ، ولا يسألون غيرهم، ويكتفي المطوف بإطعامهم ونقلهم وإسكانهم، أما التعليم والإرشاد فقلَّ من يهتم به، وكان الأولى بهم أن يتركوا ذلك المطوف ، وأن يبيتوا بأنفسهم بمنى ويذهبوا على أرجلهم في صباح اليوم التاسع إلى مخيماتهم في عرفة ولكن لا يأتيهم من يُوَجِّهُهُم، وأما من هو منفرد فإنَّه يُتأكد في حقه أن لا يترك هذا المبيت في هذا اليوم.
وعلى الحجاج المحرمين في ذلك اليوم سواء المتمتع ، أو القارن، أو المفرد، أن يشتغلوا في حال إحرامهم بالتلبية ، وذلك لأن التلبية شعار للحجاج ، وعلامة واضحة على أنه متلبس بهذا النسك ، فيرفعون أصواتهم بالتلبية ويكررونها.
" يوم عرفة (اليوم التاسع من ذي الحجة) " :(1/45)
فإذا أصبح الحجيج في اليوم التاسع ، وطلعت الشمس ، توجهوا إلى عرفة فالوقوف بها هو الركن الأعظم للحج ، الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- : " الحج عرفة ".
وعرفة مكان فسيح واسع ليس فيه بنا، وهو متسع من جهة الشمال، ومن جهة الجنوب، أما من جهة الشرق فتحده تلك الجبال التي تعرف (بجبل الرحمة) وما يتصل به من الجبال، وأما من جهة الغرب فيحده وادي عُرنة وما وراءه.
وذهب بعض العلماء إلى أن عُرنة داخلة في عرفة وعلى هذا فتكون نهايته ما وراء الوادي إلى منتهى عُرنة ويدخل فيه على الصحيح نمرة كما في حديث جابر الطويل وغيره كما اختاره الزركشي في شرح مختصر الخرقي (2373) وذكرنا في التعليق عليه بعض الأدلة من السنة.
ويسن للحجاج النزول بنمرة في بطن الوادي إلى الزوال إن تيسَّر ذلك، لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا زالت الشمس سن للإمام أو نائبه أن يخطب الناس خطبة تناسب الحال، يبين فيها ما شرع للحاج في هذا اليوم وبعده، ويأمرهم فيها بتقوى الله وتوحيده والإخلاص له في كل الأعمال، ويحذرهم من محارمه.. و غير ذلك.
بعد ذلك يصلي الحجاج الظهر والعصر قصرا وجمعا في وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين لفعله -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث جابر .
ثم يقف الحجاج بعرفة وعرفة كلها موقف، يقفون خاشعين خاضعين، متضرعين، مستكينين لربهم، مظهرين الفقر والفاقة وشدة الحاجة إليه، مقيمين لحرماته، يعلمون أنهم في موقف عظيم يجمعهم كلهم، فالذين يتوافدون إلى البيت يجتمعون كلهم في ذلك المكان في اليوم التاسع في تلك الصحراء خاضعين لربهم، رافعين إليه أكف الضراعة، داعين له بكرة وعشية، طالبين منه حاجتهم الحاضرة والمستقبلية، راجين رحمته، فيباهي بهم ملائكته كما ورد ذلك في بعض الأحاديث: " إن الله يباهي بأهل عرفة ملائكته ، فيقول: انظروا إلى هؤلاء، أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق ".(1/46)
يقف الحجاج في ذلك اليوم ، وهم على هذه الهيئة، بعد أن أدوا صلاة الظهر والعصر، جمعا وقصرا، في وقت الظهر، وذلك ليطول زمن الوقوف ، ثم يقف الحجاج إن تيسَّر لهم الوقوف عند جبل الرحمة فذلك أفضل ، فإن لم يتيسر لهم، وقفوا في أي مكان من عرفة في داخل خيامهم أو غيرها، ولكن الأفضل أن يبرزوا ضاحين، لأنه روي عن ابن عباس أنه رأى رجلا قد استظل بقبة ونحوها فقال: أضح لمن أحرمت له ، يعني: أبرز فلا تستظل ولا تستكن في خيمة ، فالأفضل أن يكونوا بارزين ظاهرين من بعد الظهر، إلى غروب الشمس، منشغلين كل ذلك الوقت بالدعاء، والذكر، والتلبية، والقراءة، والأدعية الجامعة، كل ذلك مع حضور القلب وتواطئه مع اللسان، والبكاء، وحزن القلب ، فإن ذلك من أسباب قبول العمل ، ومن أسباب المغفرة.
بخلاف من كان في هذا الموقف قاسيا قلبه ، لا يخشع ولا يخضع ولا يدعو، ولا يتضرع ، إنما يترقب وينتظر انتهاء الوقت حتى يسارع ويسابق إلى الانصراف لِلَّهِ فإن هذا قد فاته خير كثير، وهو مباهاة الله للملائكة بالحجاج، في حالة كونهم خاشعين شعثا غبرا، يرجون الرحمة، ويخشون من العذاب.
ويسن أن يكثر من قول: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : " خيرُ الدعاء دُعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي عشية عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " أحب الكلام إلى الله أربع : سُبحان الله، والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر".
فينبغي الإكثار من هذا الذكر وتكراره بخشوع وحضور قلب ، وينبغي الإكثار أيضا من الأذكار والأدعية الواردة في الشرع في كل وقت ؛ ولا سيما في هذا الموضع ، وفي هذا اليوم العظيم، ويختار جوامع الذكر والدعاء.(1/47)
ويستحب أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا كرر الدعاء ثلاثا، فينبغي التأسي به عليه الصلاة والسلام في ذلك.
ويكون المسلم في هذا الموقف مخبتا لربه سبحانه متواضعا له خاضعا لجنابه منكسرا بين يديه يرجو رحمته ومغفرته ، ويخاف عذابه ومقته، ويحاسب نفسه ، ويجدد توبة نصوحا، هذا يوم عظيم، ومجمع كبير ، يجود الله فيه على عباده ، ويباهي بهم ملائكته، ويكثر فيه العتق من النار، وما رُؤيَ الشيطان في يوم هو فيه أدحر ولا أصغر ولا أحقر منه في يوم عرفة إلا ما رؤي يوم بدر وذلك لما يرى من جُود الله على عباده وإحسانه إليهم وكثرة إعتاقه ومغفرته.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنَّه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ".
فينبغي للمسلمين أن يروا الله من أنفسهم خيرا ، وأن يهينوا عدوهم الشيطان ، ويحزنوه بكثرة الذكر والدعاء ، وملازمة التوبة والاستغفار من جميع الذنوب والخطايا، ولا يزال الحجاج في هذا الموقف مشتغلين بالذكر والدعاء والتضرع إلى أن تغرب الشمس .
" ليلة مزدلفة (ليلة العاشر من ذي الحجة ليلة العيد) " :
وبعد غروب الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة ، وهو يوم عرفة والتحقق من ذلك، على الحجاج الانصراف قبل صلاة المغرب ، متوجهين إلى مزدلفة ويسن أن يسيروا بتؤدة، ويتجنبوا العجلة والمضايقات، والمزاحمات التي قد تؤدي إلى الضرر بالغير، فربما أن من تسد عليه الطريق ظلما يدعو عليك، فتردّ أعمالك.(1/48)
فيسن أن يكون السائر إلى مزدلفة سائرا بتؤدة ؛ سواء على الأرجل ، أو على الدواب، أو على السيارات، وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في سيره: يا أيها الناس، السكينة السكينة وكان يسير العَتَقْ، يعني: أنه قد جر خطام ناقته حتى التوى عنقها، فإذا وجد فجوة ومتسعا نصَّ فأسرعت، وإذا أتت كثيبا من الرمال نصَّ حتى تصعده ... وهكذا.
أما الآن فإنه لا شك أن الطرق قد سُهلت ، والكل يسير على هذه السيارات ، لكن يحدث مزاحمات من كثير من قائدي السيارات فيضرون غيرهم، ويصطدمون بالآخرين، ويسببون حوادث وأضرارا بالغير.
فالأولى أن يسير كل على جهته ، دون أن يحصل منهم زحام أو مضايقات.
فإذا وصلوا إلى مزدلفة فإن المبيت بها واجب من الواجبات، وقد فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله أصحابه، فإنهم لما وصلوا إلى مزدلفة وكانوا قد وصلوها بعد ساعتين من الليل، أي: قطعوا الطريق في نحو ساعتين، أو ساعتين ونصف، فلما وصلوها بدؤوا بصلاة المغرب والعشاء جمع تأخير فالذي يصل إلى مزدلفة يقيم الصلاة؛ سواء وصلها مبكرا، أو متأخرا، بدأ بصلاة المغرب والعشاء فور وصوله قبل أن يحط رحاله.
هكذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك لاهتمامه بهذه الصلاة، وإنما أخرها حتى يواصل سيره، وحتى يريح الدواب التي قد طال وقوفهم عليها، فمن وصلها بعد غروب الشمس بعدة دقائق فله أن يصلي ساعة وصوله، والذي يصلها بعد غروب الشمس بأربع ساعات، أو خمس، كما يحدث لبعض الذين يتأخرون من شدة الزحام، يصلي أيضا ساعة وصوله، أما الذي يخشى فواتها بأن ينحبس إلى ثلثي أو ثلاثة أرباع الليل فله أن يصلي في الطريق؛ سيما إذا لم يتيسر له مواصلة السير، فإن الكثير قد يقفون ساعة، أو ساعتين في مكان واحد لا يتحركون من شدة الزحام، فلهم أن يُصلّوها في الطريق مخافة فواتها.(1/49)
فإذا صلّوا فإنهم يبيتون فيها إلى الصباح، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لمّا وصلها، وكان متعبا، صلى المغرب والعشاء، ثم نام فيها حتى قام في آخر الليل وصلى الفجر في ذلك اليوم مبكرا، واشتغل بالدعاء والذكر، حتى أسفر الصباح، قال تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } (سورة البقرة ، الآية:198) والمشعر الحرام هو: مزدلفة وتسمى جمعا لأنهم يجتمعون فيها تلك الليلة وهي داخل الحرم .
وقبل أن تطلع الشمس توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منى وذلك لرمي جمرة العقبة .
ورخص للضعفة أن يتوجهوا آخر الليل، ولم يرخص لغيرهم، وأمر الذين ساروا قبل أن تطلع الشمس ألا يرموا الجمرة إلا بعد طلوع الشمس إلا للمعذورين من الضعفة والظعن وغيرهم، فقد أذن لهم أن يرموا آخر الليل، والوقت الذي رخص لهم فيه هو إذا غاب القمر ليلة العاشر، و ذلك حين يبقى من الليل ربعه، أو أقل من ثلثه.
" تنبيه مهم " :
هناك شيء يحتاج إلى التنبيه عليه، نذكره على وجه الاختصار، ألا وهو أن أولئك الذين يسمون أنفسهم مطوّفين يأخذون الحجاج الوافدين فيأخذ أحدهم ألفا أو ألفي حاج، ثم يتولى الحج بهم ولكنه يترك كثيرا من المستحبات أو من المؤكدات، حرصا على التخفيف على نفسه لمعرفته بجهلهم فمن ذلك:
أنه يحملهم في اليوم الثامن من منازلهم في مكة ويذهب بهم إلى عرفة فيترك فضيلة من الفضائل وهي الإقامة بمنى في اليوم الثامن وفي الليلة التاسعة وهي سنة مؤكدة فعلها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وصحابته رضي الله عنهم، فكانوا في اليوم الثامن كلهم في منى .(1/50)
ومن ذلك : أن كثيرا من المطوّفين لا ينزلون بحجاجهم إلا نزولا خفيفا في مزدلفة وقد ذهب البعض إلى أن المبيت بمزدلفة ركن، والصحيح أنه واجب من الواجبات إلى ما بعد منتصف الليل، لذلك ينبغي أن يؤخذ على أيديهم، و أن ينبهوا الحجاج إذا انصرفوا من عرفة أن يمروا على مزدلفة وينزلوا فيها، قال الله تعالى: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } (سورة البقرة ، الآية:198) .
والمشعر الحرام هو مزدلفة أمر الله بالذكر في تلك البقعة، فينزل الحجاج بها ويبيتون، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بات فيها، ولم ينصرف إلا بعد ما أسفر الفجر، وقبل أن تطلع الشمس ، وإن كان قد رخص للظُّعُن والضعفة أن ينصرفوا آخر الليل بعد ما يغيب القمر، فهذا هو الأصل والسنة، وكثير من الناس تساهلوا في مثل هذا المبيت، فصاروا يأتون في الساعة الحادية عشرة، وربما التاسعة، ثم يواصلون سيرهم إلى منى ولا ينزلون.
ومن ذلك أيضا أنهم اتخذوا عادة يعتقدونها من السنة، وهو اعتقاد أن أخذ الحصيات لا تكون إلا من مزدلفة لِلَّهِ فتجدهم ساعة ما ينزلون يلتقطون تلك الحصيات، ثم بعد ذلك يركبون، وهذا خلاف السنة، والسنة أنهم إذا نزلوا بدأوا بالصلاة، صلاة المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير، أو ساعة ما يصلون إليها؛ سواء وصلوا مبكرين أو متأخرين.
ثم بعد ذلك يبيتون بها حتى الصباح، ثم يشتغلون بذكر الله، ويصلّون بها الصبح مبكرين، ويشتغلون بالذكر وبالدعاء، ثم بعد صلاة الصبح يتوجهون إلى منى ليأتوا إلى بقية مناسك حجهم، وذلك بعد أن يسفروا جدا وقبل طلوع الشمس، ويأخذون من مزدلفة سبع حصيات فقط لرمي جمرة العقبة ولا حاجة إلى أخذ بقية الجمار من هناك خلافا لما ذكره بعضهم، ولما اعتاده كثير من الناس، من البداءة بأخذ الحصى قبل الصلاة، فإن الحصى يؤخذ من كل مكان.
" أعمال يوم النحر " :(1/51)
يوم النحر هو يوم الحج الأكبر على القول الصحيح، فإن أكثر أعمال الحج تفعل فيه، وهو عيد للمسلمين في جميع بلاد الإسلام، فيستقر فيه الحجاج كلهم في منى وكذا فيما بعده إلى نهاية أعمال الحج.
فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما توجه من مزدلفة إلى منى لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة فذكر الرواة أنه بدأ برمي جمرة العقبة ثم ذهب إلى بُدُنِهِ فنحرها، ثم دعى الحلاق فحلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة لطواف الإفاضة، هكذا رتب هذه الأعمال، ومع ذلك فقد رخَّص في تقديم بعضها على بعض، حيث سأله رجل فقال: " لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: ارم ولا حرج ، وقال آخر: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: انحر ولا حرج ، فما سُئلَ عن شيء قُدمَ ولا أُخِّر إلا قال: افعل ولا حرج ".
ولذلك يستحب ترتيب أعمال يوم النحر، كما رتبها النبي صلى الله عليه وسلم.
فيبدأ برمي الجمرة لأنها تحية منى .
ثم ينحر هديه إن كان قد ساق الهدي.
ثم يحلق رأسه أو يقصره.
ثم يتوجه إلى مكة لطواف الإفاضة.
" رمي جمرة العقبة " :
فأما الرمي فيقتصر على رمي جمرة العقبة هذا اليوم، وأول وقته في حق القادرين من طلوع الشمس يوم النحر إلى غروبها، ويُرخَّصُ للضعفة والظعن في الرمي آخر الليل، فينفرون من مزدلفة بعد غروب القمر، ويرمون قبل حطمة الناس، وتختص الرخصة بالنساء العجائز، والمرضى والمسنين من الرجال والصغار ونحوهم.
وقد توسع الناس في هذه الرخصة فصار الجمهور ينفرون من أول الليل أو من وسطه، وغالبهم أقوياء أشداء لا عذر لهم، ويتعللون بأن معهم شخص أو شخصان من أهل العذر، وذلك لا يبرر فعلهم، فإن عليهم أن يبقوا إلى الصباح، ويؤخر النساء الرمي إلى آخر النهار، حيث يخف المكان، ويتسع لرميهم، وإن أخروه إلى الليل جاز ، فهو أفضل من رميهم ليلة النحر، وتفويت الجميع للمبيت بمزدلفة الذي هو أحد الواجبات، وعند بعض العلماء أنه أحد أركان الحج.(1/52)
ثم إذا رخص للضعفاء والعجائز فإن بإمكان غيرهم البقاء في مزدلفة وبعد الصباح يمشون على الأقدام إلى منى فلا مشقة في ذلك لقرب المكان، وكثيرا ما يصل المشاة قبل أهل السيارات، لشدة الزحام في ذلك اليوم.
وبالجملة فإن الرمي يوم النحر يختص بجمرة العقبة ويكون بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ولا يجوز الزيادة على السبع ولا النقص منها، وإن اقتصر أحيانا على ست أجزأه إن لم يتعمد للعذر، ويحرص على أن تصيب الحصيات الحوض أو الشخص، ولو تدحرجت إلى الأرض أجزأت، وإن وجهها إلى المرمى، وغلب على ظنه إصابتها أجزأت، ولا يشترط رؤيته للإصابة، فقد يشتد الزحام، ولا يتحقق من إصابة كل حصاة، فيجزئه توجيهها إلى الشاخص ولو كان بعيدا، إذا كان الغالب من معرفته وعادته الإصابة بمثل ذلك.
ويكون حصى الجمار مثل حصى الحذف، وهو الذي يرمى به بين الأصابع.
وفي حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له لما ركب من مزدلفة : " ناولني سبع حصيات ، قال : فالتقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف ؛ فقال: بمثل هذا فارموا يا عباد الله، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " رواه أحمد وأهل السنن .
والذي التقط الحصيات هو الفضل بن عباس لأن عبد الله كان ممن ظعن مع الضعفة آخر الليل ، وقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- : " أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".(1/53)
ومناسبة النهي عن الغلو، مخافة أن يرموا بأكبر منها من باب التشدد، وقد وقع الغلو من كثير من الناس، حيث يرمون بحصى كبار مثل بعر الإبل، وربما أكبر من ذلك، وقد يرمي بعضهم بالأحذية، والحجارة الكبيرة ملء اليد أو نحوها، ويعتقد الكثير من العامة أنهم يرمون الشيطان، وأن الشيطان يتأثر ويتضرر بهذا الرمي، ويسميه الكثيرون بالشيطان، أي: يطلقون اسم الشيطان على الجمرات، بقولهم: الشيطان الكبير، والشيطان الصغير ... إلخ، مع أن الحكمة في رمي هذه الجمرات هي إقامة ذكر الله تعالى، مع تذكر عداوة الشيطان الذي عرض لأبينا إبراهيم عليه السلام في هذه الأماكن لما أراد ذبح ولده، كما ورد ذلك في حديث رواه أحمد وغيره عن ابن عباس بسند صحيح، فعند رمي هذه الجمرات يكبر الله تعالى، ويدعوه ويستعيذ من الشيطان بالقول والفعل، ويتقيد بما ورد في السنة من صفة الرمي وزمانه، وتذكر الحكمة فيه حتى يعمل بالسنة ويسلم من البدعة.
ثم إن رمى يوم النحر كما ذكرنا يختص بجمرة العقبة وهي التي في طرف منى مما يلي مكة والأفضل أن يجعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، كما فعل ابن مسعود رضي الله عنه؛ وقال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة، يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- .
وقد كانت هذه الجمرة في أصل عقبة -أي جبل صغير- ثم إنَّه أزيل في عام 1375هـ لتوسعة الطريق، وحيث إن حوض هذه الجمرة كنصف دائرة، فإن على الحاج الحرص في أن لا يرمي في غير جهة الحوض، حيث إن الجهة الشمالية وهي موضع العقبة ليس بها حوض، وإن كان طرفاه باديان لمن أتى من جهة الشمال، وإن رمى من السطح حرصا على وقوع الجمرات في فرع الحوض الذي يشبه القعب ؛ حيث إنَّها تنحدر منه وتقع في الحوض.
" ذبح الهدي " :(1/54)
وأما ذبح الهدي فيُشرع بعد الرمي مباشرة، والمراد بالهدي: ما يُساق من خارج الحرم ويُهدى إلى مكة تقربا وتطوعا، وتعظيما لحرمات الله تعالى ، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ساق معه هديا بلغ مائة بدنة، جاء علي رضي الله عنه ببعضها من اليمن وكذا كثير من الصحابة، ساقوا معهم هديا من المدينة ومن غيرها، ولا يدخل في مسماه فدية التمتع والقران، وإنما تسمى هديا أو فدية لأنها من جنس ما يهدى من الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم.
ووقت الذبح من صبح يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق الثلاثة، وكره بعض العلماء الذبح ليلا، لأن البعض يخفون هديهم وفديتهم في الليل، ليحرموا المساكين، وحيث أن الذبح يكثر في هذه الأيام، فأرى أن لا كراهة في الليل كالنهار، وإذا خاف أن لا يجد من يأكل فديته أو هديه يوم النحر فله التأخير، وهو أفضل، حيث إن الكثير الذين يذبحون في يوم العيد يلقون ما يذبحونه في الأرض، فتحرق تلك اللحوم أو تدفن، وتذهب ضياعا، بخلاف ما إذا أخَّر الذبح إلى اليوم الحادي عشر أو بعده، فسوف يجد من يتقبله من المساكين وغيرهم.
وعلى الحاج الحرص على أن يجد من ينتفع بفديته، ولو دفع أجرة لمن يسلخها ويحملها، ثم يوزعها على الحجاج في الخيام أو في ظل الجسور، أو داخل مكة ونحوها ، فسوف يجد من يفرح بذلك ويتقبله، فإن دفع فديته للشركات التي تقوم بالذبح والسلخ وإرسال اللحوم إلى الدول المسلمة الفقيرة فهو أفضل من إضاعتها، ويجزئ ذلك عنه، ولو لم يحضر الذبح معهم.
وأما دم الجبران وجزاء الصيد، فيجوز تأخيره بعد أيام التشريق، ويلزم تفريقه على مساكين الحرم ولا يأكل منه صاحبه، بخلاف دم الهدي والفدية فله منه، وإطعام رفقته، لقوله تعالى:
{ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } (سورة الحج ، الآية:28) .
" الحلق أو التقصير " :(1/55)
وأما الحلق فهو أحد مناسك الحج، ودليله قوله تعالى: { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } (سورة الفتح ، الآية:27) وقوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } (سورة الحج ، الآية:29) وفسر بالحلق أو التقصير، وإذا كان نسكا فإن في تركه دم كسائر المناسك، لقول ابن عباس رضي الله عنه: من ترك نسكا فعليه دم وهو من أسباب التحلل.
والحلق أفضل من التقصير، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين واحدة، وذلك أن الحلق أدل على الامتثال، وهو من جملة العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن الحالق يخضع لله تعالى ويتواضع له حالة الحلق، ويقصد بذلك امتثال أمر الله تعالى.
ووقته بعد الذبح ، ويجوز قبله، وقبل الرمي ، ويجوز تأخيره عن الطواف وغيره، ومن اقتصر على التقصير أجزأه، ولكن لا بد من تعميم الرأس، والأخذ من جميع جوانبه، وإن لم يكن من كل شعرة، بخلاف ما يفعله الكثير من الاقتصار على الأخذ من بعض الجوانب أو أخذ شعرات قليلة والاكتفاء بها ، فإن مسمى الرأس في الآية يعم جميع الشعر وإن كان قصيرا.
" طواف الإفاضة " :
وأما الإفاضة إلى مكة فإن طواف الإفاضة أحد أركان الحج، وهو المذكور في قوله تعالى :
{ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج ، الآية:29) وأول زمنه في النصف الأخير من ليلة النحر، والأفضل الطواف في يوم النحر إن سهل ذلك، ويغلب في الأزمنة المتأخرة صعوبته، لشدة الزحام في ذلك اليوم، فالطائف فيه لا يطمئن ولا يحضر قلبه، ولا يدعو إلا وهو منشغل البال، يهمه الخروج من المضائق، فالأفضل في هذه الحال تأخيره حتى يطوف في سعة وراحة، يعقل ما يقول، ويستفيد من عمله.(1/56)
ومن المعلوم يقينا أن الحجاج زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطوفوا كلهم في يوم النحر، لكثرة العدد الذي يزيد عن مائة ألف، ولضيق المطاف في ذلك الزمان، ولكثرة أعمالهم التي تشغل الكثير منهم عن الإفاضة في ذلك اليوم، فدل على أن أكثرهم طافوا في أيام التشريق أو بعدها، وأجزأهم ذلك بلا كراهة.
وقد سبق ذكر بعض الحِكَم والمصالح في مشروعية الطواف بالبيت وما يُقال فيه.
وبالطواف المذكور وما قبله من أعمال يوم النحر يحصل التحلل الثاني من الإحرام ، بحيث يحل للمحرم ما كان محظورا عليه حال الإحرام، من الطيب واللباس والنكاح وغيره.
أما التحلل الأول: فيحصل إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه أو قصره.
وكذا لو رمى الجمرة وأفاض إلى مكة للطواف والسعي، وكذا لو طاف وسعى وحلق أو قصر، أي بفعل اثنين من ثلاثة، وهي الرمي والحلق والطواف مع السعي، يحل له كل شيء إلا النساء، وبفعل هذه الثلاثة يحل له كل شيء حتى النساء، وهذا هو التحلل الأول ثم الثاني.
" أيام التشريق وما يفعل فيها (الحادي والثاني والثالث عشر من ذي الحجة) " :
ويبقى على الحاج المبيت بمنى أيام التشريق، ورمي الجمار في تلك الأيام.
فأما المبيت فهو من واجبات الحج، والأصل أن الحاج يقيم في منى برَحْلِهِ ومتاعه، ولا يذهب منها ليلا ولا نهارا إلا لغرض خاص، كالطواف والسعي، ثم يعود، ولهذا تسمى هذه الأيام بأيام منى كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : " أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل " وإن كان نص الفقهاء رحمهم الله على المبيت الذي هو الإقامة بها ليلا، لكن المعروف أن الحجاج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل مكة وغيرهم كانوا جميعا مقيمين بمنى تلك الأيام، يعدون ذلك نسكا يتم به حجهم، لم يذهبوا إلى دورهم مع قربها، وحاجتهم غالبا إلى أهليهم ، فلم يرجعوا إلى بيوتهم حتى أكملوا حجهم، حتى كانوا يقصرون الصلاة لطول المدة التي غابوها عن أهليهم.(1/57)
" رمي الجمار أيام التشريق " :
وأما الرمي : فهو أحد الواجبات، وأول وقته بعد زوال الشمس، وآخره غروبها على المختار، ورخص بعض المشايخ في الرمي ليلا، امتدادا للنهار قبله.
والبدء بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات متعاقبات، ثم يبتعد عن الزحام ويستقبل القبلة، ويرفع يديه فيدعو طويلا بما تيسر، ويصح رميها من كل الجهات.
ثم بعدها الجمرة الوسطى يرميها بسبع كذلك، ويدعو بعدها.
ثم جمرة العقبة ولا يدعو بعدها.
يفعل ذلك في كل يوم من أيام التشريق الثلاثة ، إن لم يتعجل، وله أن يتعجَّل في يومين ولا إثم عليه، فإن غربت عليه الشمس في اليوم الثاني وهو في منى ؛ لم يرحل لزمه المبيت والرمي في اليوم الثالث بعد الزوال، وقد روي عن الإمام أحمد جواز الرمي قبل الزوال يوم النفر، كما ذكره في المغني والإنصاف وغيرهما، ولعل ذلك يجوز في هذه الأزمنة لأجل الزحام الشديد الذي قد أودى بحياة بشر كثير.
ثم إن أيام منى هي أيام أكل وشرب، ولهذا لا يجوز صيامها إلا لمن لم يجد الهدي، ولم يتمكن من الصيام قبل يوم النحر، وكذا يسن فيها التكبير بعد الصلوات المكتوبة، والإكثار من ذكر الله تعالى ليلا ونهارا، لقوله تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } (سورة البقرة ، الآية:203) وذلك عند الذبح والأكل والرمي، وفي كل الحالات والله أعلم.
" طواف الوداع " :
هذا الطواف يفعل عند العزم على السفر من مكة والرجوع إلى الأهل ، وسمي طواف الوداع لأن الحاج يودع البيت والمشاعر، ويختم به أعمال الحج ، وهو أحد واجبات الحج، من تركه فعليه دم، كسائر المناسك التي تجبر بدم، ولا يسقط هذا الطواف إلا عن الحائض والنفساء، الرخصة في حق صفية أم المؤمنين لأجل الحيض، وفي الحديث : " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض " والمراد بالناس هم الحجاج كلهم.(1/58)
ومن ذهب وشق عليه الرجوع جبره بدم، فإن تمكن من الرجوع فرجع، وطاف للوداع سقط عنه الدم، ولو كان الرجوع بعد قطع مسافة طويلة، أو مدة طويلة ، وذلك لسهولة الرجوع في هذه الأزمنة، بخلاف الزمن القديم، فإن من سار يومين صعب عليه الرجوع، وخاف الانقطاع عن الركب، فيفضل دم الجبران على الرجوع ، لمشقته ولطول المسافة، وصعوبة السفر منفردا خوف قطاع الطريق .
أما وقد وجدت المراكب المريحة التي تقطع المسافة في وقت قريب، مع تعبيد الطرق ، وأمن البلاد، فلا خوف ولا ضرر في الرجوع لإكمال هذا النسك.
أما إن لم يرجع وواصل سيره إلى بلاده فإن عليه الدم كما ذكرنا ، لكن إن كانت بلاده قريبة كجدة والطائف وذهب هناك بعد أيام منى خوفا من شدة الزحام في الطواف ، ثم رجع بعد يومين أو نحوها فالأصح أنه يجوز؛ حيث إنه أتى بالواجب كما أمر به.
ثم إن هذا الطواف هو آخر أعمال الحج، فلا يقيم بعده طويلا، فإن أقام بعده كنصف يوم، أو تعاطى تجارة، ونحوها لزمه إعادته، ليكون آخر عهده بالبيت ثم بعد فراغه من هذا الطواف، وصلاته ركعتين، يدعو بما ورد، و يسن أن يقف بالملتزم وهو بين الركن والباب، ويقول: اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك، حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فمن الآن، قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي ، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني ، وأجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة ،إنك على كل شيء قدير .
ويدعو أن لا يكون هذا آخر العهد، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يخرج على حالته، ولا يجوز الخروج القهقري فإنه لا أصل له، والله أعلم.(1/59)
" الزيارة قبل الحج أو بعده وآثارها في الأمة " :
تمكن في قلوب الكثير اعتقاد أن زيارة القبر النبوي مع الحج حتم وفرض من الفروض الواجبة ، وأن من لم يزره فقد أخل بما يلزمه ، فتراهم لذلك يتجشمون المشاق ، ويحثون السير إلى المدينة المنورة وما يقوم بقلوبهم إلا استحضار القبر وتقديسه ، واعتقاد أن المسجد ما اكتسب الفضيلة، ولا حاز أجر المضاعفة إلا حيث ضمّ ذلك القبر الشريف.
وأنا أقول: إن هذا الاعتقاد خطأ محض، رغم كثرة من وقع فيه من الأوائل والأواخر، منخدعين بشبه أحاديث مشتهرة على الألسن، قد رواها بالسند بعض من لم يلتزم التثبت : كالطيالسي والدارقطني محيلين القرَّاء على السند، فعندما نظرها النقاد بعين البصيرة بينوا ضعفها أو وضعها عقلا ونقلا.
وأشهرها عند العامة ما ورد بلفظ : " من حج ولم يزرني فقد جفاني .
وقد أجمعت الأمة على عدم وجوب الزيارة مع كل حج، ولو صح هذا اللفظ لكان تركها كفرا، لما فيه من جفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد اتفقوا على ترك العمل بظاهر هذا الحديث، مما يبين أنه موضوع.
ومنها حديث: " من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي " ومعلوم أن زائره في الحياة يحظى بفضيلة الصحبة، ويتلقى عنه العلم والأحكام مباشرة، مما لا يحصل لزائر قبره -صلى الله عليه وسلم- فبطل ظاهر الحديث أيضا.
ومنها ما روي بلفظ :" من زار قبري وجبت له شفاعتي ".
مع أن شفاعته -صلى الله عليه وسلم- إنَّما ينالها أهل التوحيد الخالص، كما ثبت ذلك بالسنة الصحيحة.(1/60)
وليس منه تعظيم القبر بشد الرحل إليه، وجعله مقصدا ومطلبا؛ بل يكون شركا خفيا أو جليا، لما يصحبه من التعظيم الذي يظهر أثره في التذلل والخضوع، وهذا خالص حق الله تعالى، وهذا ما يحصل بكثرة من جُل أولئك الزوار، الذين يقفون أمام القبور بالمسجد وبالشهداء وبالبقيع فتراهم هناك مهطعين مقنعي رؤوسهم، تغاشهم الذلة والهيبة، وقد وضعوا الأيدي على الصدور أو رفعوها داعين مبتهلين بخشوع وهيبة، واستكانة لا يحصل بعضها في صلاتهم بين يدي ربهم تعالى.
وقد يطيل أحدهم القيام، وربما غاب عن نفسه فلا يحس بضرب ولا تأنيب، وأكثرهم يتوجهون إلى ناحية القبر حالة الجلوس أو الدعاء أو قراءة الأوراد، مفضلين له على القبلة وهم في تلك الحال، متصفون بالسكينة والخشوع والإخبات، والكثير منهم أو من الملقنين لهم يتسترون خوفا من إنكار البعض عليهم، فعند انفرادهم تظهر مخبآت الصدور، وقد يغلب الكثير منهم بعض ما يجدون، فيبوح بما في ضميره ولو رآه، أو سمعه الجمهور، وكثيرا ما تبدر منهم كلمات تنافي أصل التوحيد أو كماله : كوصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بعض أهل بيته بما لا يستحقه إلا الله من سعة الملك، والتصرف في الكون، والإعطاء والمنع، والضر والنفع.. إلخ ، وأقل ذلك ملك الشفاعة بدون إذن الله ورضاه.
وبموجب هذا الاعتقاد يدعونه -صلى الله عليه وسلم- ويسألونه ما لا يملكه إلا الله، ويعتمدون عليه، وتصدر منهم أفعال كهذه الأقوال، تدل على التعظيم واعتقاد التأثير، فتراهم يهتبلون غفلة الحراس ، أو يدفعون لهم نقودا ليتمسحوا بالباب والأستار والحيطان والمنبر ونحوها، وكثيرا ما يطوفون بالحجرة كالطواف بالبيت العتيق وأضعاف هذه الأفعال والأقوال التي لا تصدر إلا عن اعتقاد في تلك الستور والحيطان.(1/61)
وقد دفعهم إلى هذه الزيارات وما ينتج عنها ما يتناقل بينهم كثيرا من حكايات واهية، وأخبار ضعيفة، أو مكذوبة، ومنامات أشبه بأضغاث الأحلام، ولكن راجت تلك الأمور على السذج وضعفاء البصائر، فتناقلوها وضمنوها مؤلفاتهم، وتداولتها الأيدي، وانتشرت واشتهرت على الألسن، حتى وقعت منهم موقعا، وتمكنت في النفوس، توارثها الأجيال من غير نكير، واعتقدوها الحق وسواها باطل وضلال.
ومن أشهر وأقدم تلك المؤلفات كتاب: شفاء السقام في زيارة خير الأنام للتقي السبكي الذي اشتهر وأقبل عليه الجم الغفير قراءة وعملا وتطبيقا، ولم يعلموا أن أحاديثه وأدلته كلها واهية موضوعة، لا تصلح مستندا، كما بيَّن ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في رده الذي سماه: الصارم المنكي في الرد على السبكي .
ومن المؤلفات الباطلة أيضا في هذا الباب كتاب: الدر المنظم في زيارة القبر المعظم لابن حجر المكي حيث ذكر فيه من الحكايات ، والمنامات والأباطيل ما تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، ومع ذلك تجد لها آذانا صاغية، تتقبلها وتروجها وتحبذ العمل بها، فيعظم الشر والضرر.
ولقد تصدى للدفاع عن هذه الأباطيل بعض المتأخرين الزائفين، أمثال النبهاني والحداد والزهاوي ودحلان وابن جرجيس وأضرابهم الذين كتبوا وتكلموا بكل جراءة، داعين إلى هذه الزيارة والأفعال الشركية معها، ومتهمين كل من نهى عنها ببغض الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنقصه.. وما إلى ذلك.
وكأن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما تتجلَّى بدعائه والتوسل بذاته، والخضوع والذل أمام قبره الشريف ، وشبه ذلك مما هو خالص حق الله تعالى، ومما قد نهى عنه نبينا عليه الصلاة والسلام ، وعما هو دونه، ككونه خير البرية، أو تسميته سيدا، وقول: ما شاء الله وشئت.
ولم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أشد الناس له محبة وتعظيما هم صحابته رضي الله عنهم، ولم يكونوا يعاملونه بشيء من ذلك، حتى كانوا لا يقومون له إذا أقبل، لعلمهم بكراهته لذلك.(1/62)
ولقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- : " أنه لا يؤمن أحد حتى يكون نبيه أحب إليه من ولده ووالده، ونفسه، وماله، والناس أجمعين " ولكن هذه المحبة تتمثل في طاعته واتباعه، وتقليده في أفعاله، والتقيد بسنته، والتمسك بها، والعض عليها بالنواجذ في كل وقت وحال، لا في الغلو فيه وإطرائه الذي قد نهى عنه، وقال: " إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " وقال لقوم دعوه بالسيادة والفضل: " قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله " رواه النسائي .
بقي أن يُقال: لعل الكثير من هؤلاء الزوار قصدوا المسجد النبوي الذي ورد الإذن في شد الرحل إليه، لمزيته ومضاعفة الصلاة فيه.
والجواب: أن هذا القصد مباح، ولعله مراد من ذكر الزيارة من العلماء الأجلاء في مؤلفاتهم، حيث ذكروا أنه يبدأ بالمسجد فيصلي فيه، ثم يزور القبور والبقيع والشهداء، الزيارة الشرعية المدونة في دواوين أهل السنة، ولكن مع ذلك فإن المقام بمكة أفضل وأولى لمن هذا قصده، فإنها خير بقاع الأرض، والصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة بمسجد المدينة وكما في قصة الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : " صَلِّ هاهنا" وذلك حرصا منه على مضاعفة العمل.
ثم إنَّا لا نمنع السفر إلى المدينة النبوية أو غيرها من البلاد، لا لقصد بقعة معينة لاعتقاد مزية فيها، وإنما لقصد السير في الأرض للاعتبار، والتذكر لأحوال الأمم والأجيال الماضية، فإن ذلك مما يدخل في أمر الله تعالى في قوله: { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (سورة النحل ، الآية:69) [ وفي قوله ] : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (سورة محمد ، الآية:10) .(1/63)
وهكذا السفر إلى المدينة أو غيرها أيضا للتعلم أو التعليم، فذلك مما يجب عينا، أو كفاية على الأمة، ولا يدخل تحت النهي عن شد الرحال الذي يقصد منه السفر لتعظيم بقعة بعينها، والاعتقاد فيها الذي يؤول إلى تعظيمها بما لا يحل شرعا.
وأخيرا:
ننصح إخوتنا المسلمين عن تلك الأفعال، والاعتقادات الخاطئة التي يقعون فيها عن تقليد أو عن حسن ظن، مع أنها تقدح في العقيدة، وتنافي أصل التوحيد أو كماله ، ونهيب بهم أن يتعلموا ما يجب عليهم من حق الله، وعبادته وحده، وسيجدون أعذب مورد ينهلون منه عن قناعة ورضى، ألا وهو كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحريص على نجاة أمته، حشرنا الله في زمرته، وجعلنا من أتباع ملته، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
" أدعية مأثورة يستحب للحاج تكرارها في أيام الحج " :
هذه مجموعة من الأدعية المأثورة التي يستحب للحاج تكرارها يوم عرفة وعند رمي الجمار وفي الطواف والسعي، وعند المشعر الحرام وغير ذلك من المشاعر والمناسك. (نقلا من كتاب: مرشد المعتمر والحاج والزائر في ضوء الكتاب والسنة، تأليف سعيد بن علي القحطاني ).
أدعية من القرآن الكريم:
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (سورة الأعراف ، الآية:23) .
{ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (سورة هود ، الآية:47) .
{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } (سورة نوح ، الآية:28) .
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (سورة البقرة ، الآية:127) .
{ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (سورة البقرة ، الآية:128) .(1/64)
{ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } (سورة إبراهيم ، الآية:40) .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } (سورة إبراهيم ، الآية:41) .
{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } (سورة الشعراء ، الآيات:83-85) .
{ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } (سورة الشعراء:87) .
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } (سورة الصافات ، الآية:100) .
{ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (سورة الممتحنة ، الآية:4) .
{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة الممتحنة ، الآية :5) .
{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } (سورة النمل ، الآية:19) .
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } ( سورة آل عمران ، الآية:38).
{ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } (سورة الأنبياء ، الاية:89) .
{ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } (سورة الأنبياء ، الآية:87) .
{ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي } (سورة طه، الآيات:25-28) .
{ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } (سورة القصص ، الآية:16) .(1/65)
{ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (سورة آل عمران ، الآية:53) .
{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (سورة يونس ، الآيتان:85-86) .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (سورة آل عمران ، الآية:147) .
{ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } (سورة الكهف ، الآية:10) .
{ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } (سورة طه:114) .
{ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ *وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } (سورة المؤمنون ،الآيتان:97-98) .
رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } (سورة المؤمنون ، الآية:118) .
{ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (سورة البقرة ، الآية:201) .
{ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } (سورة البقرة ، الآية:285) .
{ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (سورة البقرة ، الآية:286) .
{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (سورة آل عمران ، الآية:8) .(1/66)
{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ *رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ { وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } (سورة آل عمران ، الآيات:191-194) .
{ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } (سورة المؤمنون ،الآية:109) .
{ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا* إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } (سورة الفرقان ، الآيتان:65-66). .
{ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } (سورة الفرقان ، الآية:74) .
{ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (سورة الأحقاف ، الآية:15) .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم } (سورة الحشر ، الآية:10) .
{ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (سورة التحريم ، الآية:8) .
{ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (سورة آل عمران ، الآية:16) .(1/67)
{ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين } (سورة المائدة ، الآية:83) .
{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } (سورة إبراهيم ، الآية:35).
{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } (سورة القصص ، الآية:24) .
{ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِين } (سورة العنكبوت ، الآية:30) .
{ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (سورة الأعراف ، الآية:47) .
{ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } (سورة التوبة ، الآية:129) .
{ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ } (سورة القصص ، الآية:22) .
{ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } (سورة القصص ، الآية:21) .
" أدعية من السُّنَّة " :
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار .
اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل قلبي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والمأثم والمغرم .
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجُبْن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات .
اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء .
اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دُنْيَايَ التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر .(1/68)
اللهم إني أسألك الهُدى، والتُقى، والعَفَاف، والغِنَى ، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها و مولاها ، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستَجَابُ لها .
اللهم اهدني وسددني ، اللهم إني أسألك الهدى والسداد .
اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك .
اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل .
اللهم أكثر مالي ، وولدي، وبارك لي فيما أعطيتني وأطل حياتي على طاعتك وأحسن عملي واغفر لي .
لا إله إلا أنت العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض، ورب العرش الكريم .
اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت .
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي .
اللهم مُصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك .
يا مُقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك .
اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة .
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
رب أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي ولا تمكر عليَّ، واهدني ويسر الهدي إليَّ، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شكَّارا، لك ذكَّارا، لك رهَّابا، لك مطواعا، إليك مخبتا أوّاها مُنيبا، رب تقبَّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسْللْ سخيمة قلبي .(1/69)
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي .
اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام، ومن سيئ الأسقام .
اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق ، والأعمال، والأهواء .
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عني .
اللهم إني أسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي ، وترحمني، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حُبَّك، وحُبَّ من يُحبُّك، وحُبَّ عمل يُقرِّبني إلى حُبِّكَ .
اللهم إني أسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم ، اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك ، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرا .
اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تشمت بي عدوا ولا حاسدا، اللهم إني أسألك من كل خير خزائنه بيدك، وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك .
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا .(1/70)
اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر .
اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي .
اللهم اغفر لي ، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني .
اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم .
اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت ، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني ، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون .
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة والنجاة من النار .
اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني ، وانقطاع عمري .
اللهم اغفر لي ذنبي ، ووسع لي في داري ، وبارك لي في رزقي .
اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت .
اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم، والغرق، والحرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا، وأعوذ بك أن أموت لديغا .
اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة .
اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهرم، والقسوة، والغفلة، والعيلة، والذلة، والمسكنة، وأعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق ، والشقاق، والنفاق، والسُمعة، والرياء، وأعوذ بك من الصمم، والبكم، والجنون، والجذام، والبرص، وسيئ الأسقام .
اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أَظْلِمَ أو أُظْلَم .
اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة؛ فإن جار البادية يتحول .
اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ودعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع .(1/71)
اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة .
اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار .
اللهم فقهني في الدين .
اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم .
اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما .
اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا .
اللهم إني أسألك يا الله بأنك الواحد الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم .
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك المنان يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار .
اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد .
رب اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور .
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسالك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين .
اللهم ارزقني حُبَّك، وحُبَّ من ينفعني حُبُّهُ عندك ، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب ، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب .
اللهم طهرني من الذنوب والخطايا ، اللهم نقني منها كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد .(1/72)
اللهم إني أعوذ بك من البخل، والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر، وعذاب القبر .
اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل أعوذ بك من حر النار ومن عذاب القبر .
اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي .
اللهم إني أسألك علما نافعا، وأعوذ بك من علم لا ينفع .
اللهم رب السماوات [السبع] ورب الأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوارة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين، واغننا من الفقر .
اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، و جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك، مثنين بها عليك، قابلين لها وأتممها علينا .
اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير العمل، وخير الثواب، وخير الحياة، وخير الممات، وثبتني وثقل موازيني، وحقق إيماني ، وارفع درجاتي، وتقبل صلاتي، خطيئتي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة ، اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وظاهره، وباطنه، والدرجات العلى من الجنة آمين ، اللهم إني أسألك خير ما آتي، وخير ما أفعل، وخير ما أعمل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر، والدرجات العلى من الجنة آمين ، اللهم إني أسألك أن ترفع ذكري، وتضع وزري، وتصلح أمري، وتطهر قلبي، وتحصن فرجي، وتنور قلبي، وتغفر لي ذنبي، وأسألك الدرجات العلى من الجنة آمين ، اللهم إني أسألك أن تبارك في نفسي، وفي سمعي، وفي بصري، وفي روحي، وفي خَلْقي ، وفي خُلُقي، وفي أهلي، وفي محياي، وفي مماتي، وفي عملي، فتقبل حسناي، وأَسألك الدرجات العلى من الجنة آمين .(1/73)
اللهم جنبني منكرات الأخلاق ، والأهواء، والأعمال، والأدواء .
اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير .
اللهم حاسبني حسابا يسيرا .
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك .
اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد، ومرافقة محمد -صلى الله عليه وسلم- في أعلى جنة الخلد .
اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري ، اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت، وما أخطأت، وما عمدت، وما علمت، وما جهلتُ .
اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين، وغلبة العدو، وشماتة الأعداء .
اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني، وأعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة .
اللهم متَّعني بسمعي ، وبصري، واجعلهُما الوارث منِّي، وانصرني على من يظلمُني، وخُذ منه بثأري .
اللهم إني أسألك عيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومردّا غير مخزٍولا فاضح .
اللهم أحسنتَ خَلْقِي فأَحسن خُلُقي .
اللهم ثبتني واجعلني هاديا مهديا .
اللهم آتني الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيرا كثيرا .
اللهم صلَّ على محمد وعلى آله وأصحابه .
" خاتمة في التوبة والإقلاع عن المعاصي " :
لا شك أن كل عامل يحب الأجر والثواب على عمله، ويهتم بقبوله وعدم ردِّه، ولكن القبول له علامات تظهر على العامل، وأهمها أن يرجع إلى بلده متأثرا بما عمله من أعمال المناسك.
فقد أحرم لربه، وترك مشتهياته، وشاهد المشاعر المقدسة، وساهم مع الطائفين بالبيت وبالصفا والمروة ودعا بالأدعية المأثورة، وأكثر من الذكر والتلبية والتكبير ونحوه، ورأى كثرة الطائفين والقائمين والركَّع السجود، وسمع ابتهالهم وتضرعهم، وشاركهم في البكاء والخشوع والإِخبات، والتذلل لله تعالى، وكل هذه الأعمال إذا كانت خالصة لله تعالى فإِن أثرها يبقى معه مدى حياته، بحيث يشعر بمحبة الطاعة، والتلذذ بالعبادة.(1/74)
فيرجع إلى أهله وقد تغير عما كان عليه من الإِهمال، والغفلة عن ذكر الله، والتكاسل عن الصلاة، والتخلف عن الجمع والجماعات، وتعاطي المسكرات والدخان والمخدرات، وقد أبغض المعاصي كلها وأهلها ودان لله تعالى بهجر العصاة والمنحرفين، ودعاة الضلال والعلمانيين، ومقت أهل الفحش والخنا، ودعاة العهر والتبرج والاختلاط، وأهل البدع والخرافيين، وأحب أهل الخير والطاعة، والعلم بالله وآياته وشرائعه، وحرص على القرب منهم، والاقتداء بهم، وتقبل نصائحهم وإرشاداتهم، ومجالسة الصالحين، والتخلق بأخلاقهم، وعمارة المجالس بالذكر والفكر والعبادات.
وهذا ونحوه أثر هذه الأعمال التي تقرب بها إلى ربه في حجه وعمرته، وأعماله الصالحة، وذلك لأنها تجره إلى الطاعة، وتبعده عن المعصية، وتحبب إليه أن يتوب إلى ربه توبة نصوحا ، فيأتي بشروطها التي هي: الإقلاع عن الذنوب ، والندم على ما مضى منها ، والعزم على أن لا يعود إلى معصية ، فالذي يعمل هذه المناسك والعبادات وهو مقيم على التهاون بالصلاة أو فعل شيء من المنكرات ، أو تعاطي المسكرات، أو أكل الربا أو غيره من المعاملات المحرمة ، فهذا لم يتأثَّر بما تقرب به من هذه المناسك ، في هذه المشاعر المقدسة.
وكذا من يفتخر بالذنوب والجرائم التي ارتكبها قبل الحج ، ويذكرها في مجالسه، وكأنها من أفضل الطاعات، ويتمدح بما اقترفه من قتل ونهب وسرقة، وزنا وقذف ونحوها، ولا يبالي بذلك ، فمثل هذا ما نفعته هذه الطاعات والأنساك التي فعلها في حجه وعمرته، حيث إِنَّه لا يزال على ما كان عليه من الاعتزاز والفخر بما حرَّمه الله عليه.(1/75)
وهكذا من يرجع إلى أهله فيباشر ما كان يفعله قبل سفره، فيدعو الأموات، ويتقرب إلى الضرائح ، ويهتف بأسماء الأولياء، ويناديهم في الكربات، ويحلف بغير الله ، أو يترك الصلاة، ويتخلَّف عن جماعاتها، ويمنع حق الله في ماله ونحو ذلك، فإِن هذه الأفعال وما أشبهها قد تركها في المواسم المقدسة، فإذا عاد على ما كان عليه، وباشر الشرك والبدع والمعاصي، فما تأثر بأعماله وقرباته، ويوشك أن ترد عليه حجته وعمرته، وأن يعاقب أشد عقوبة مما كان عليه قبل ذلك، حيث جمع بين الطاعة والمعصية.
وأغلب من يعود إلى المحرمات من هؤلاء الحجاج والزوار من لا يكون حجهم خالصا لله، وإنما فعلوه عادة وتقليدا لأهل بلادهم، أو افتخارا وتمدحا باسم أنه قد أدى الفريضة، وأتم الأركان، وهو لم يفعل ذلك تدينا ومحبة لله، ولا اعترافا بفرضيته، وإنما مجاراة ومحاكاة لأهل الوطن ، وهؤلاء لا تفيدهم أعمالهم إلاَّ التعب والخسران المبين.
فننصح كل حاج ومعتمر وزائر أن يتم في توبته، وأن يستمر في أعماله الصالحة، وأن يكون قدوة حسنة لأهله وإخوانه ، وأصحابه وجيرانه ، فيدعوهم إلى الله تعالى ، ويحسن لهم الإقبال على الطاعة ، والاستكثار منها ، والتقرب إلى الله بأنواع العبادات فرضها ونفلها ، والبعد عن المحرمات والجرائم، وأن يكون من الدعاة المخلصين لربهم وللأمة الإسلامية، يدعون إلى الله بأقوالهم وأفعالهم، رجاء أن ينفعهم الله تعالى وينفع بهم ، ويهدي على يديهم من أراد الله به خيرا من الأمة الإسلامية، وينقذهم بواسطة دعوتهم من براثن الشياطين، وضلال المضلين، والله يهدي إلى سواء السبيل ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
ملاحق الحج
" بعض الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الحجاج " :
1- تجاوز الميقات قبل الإحرام فمن لم يحرم إلا من جدة وهو من أهل الآفاق أو أحرم من حدود الحرم فعليه دم.
2- دخول مكة بدون إحرام لمن أتى مريدًا الحج والعمرة.(1/76)
3- الصلاة في المواقيت بعد العصر أو بعد الفجر؛ لأنه وقت نهي وليست سنة الإحرام من ذوات الأسباب.
4- قص شعر اللحية عند الإحرام مع أن القص والحلق ممنوعان بكل حال والعارضان من اللحية.
5- التساهل بالصلاة جماعة أو تأخيرها عن وقتها مع أن الحاج يتقرب بعبادة فلا يتهاون بالعبادة المؤكدة في كل حين.
6- صلاة الفرض بالإزار دون الرداء فيصلي الكثيرون وقد كشفوا ظهورهم وعواتقهم.
7- في الطواف الابتداء قبل محاذاة الحجر الأسود فلا يجزئ ذلك الشوط الذي بدأه قبل محاذاة الحجر بكل بدنه.
8- الطواف من داخل حجر إسماعيل مع أنه أو بعضه من البيت فلا بد من الطواف من ورائه كله.
9- شدة المزاحمة عند الحجر الأسود وإلحاق الضرر بالغير فإن تيسر التقبيل وإلا اكتفى بلمسه باليد ثم تقبيلها فإن شق أشار إليه بيده.
10- تقبيل الركن اليماني أو التمسح به أو مسحه باليدين جميعا أو الإشارة إليه عند الزحام وكل ذلك خطأ سوى استلامه باليمين.
11- التمسح بأركان البيت أو كسوة الكعبة أو حيطانها أو مقام إبراهيم أو حجر إسماعيل أو أجزاء المسجد وكل ذلك لا أصل له.
12- اعتقاد التقيد بالأدعية المطبوعة في المناسك لكل شوط وطلب من يلقنه إياها مع أنه يُكتفَى بالذكر والدعاء والقراءة المفهومة ونحوها.
13- التساهل في تقصير شعر الرأس عند التحلل من العمرة أو من الحج فلا بد من تقصير الرأس كله أو حلقه كله.
14- ترك المبيت بمنى ليلة عرفة وهو وإن كان غير واجب فإنه سنة مؤكدة وأوجبه بعض العلماء.
15- الوقوف خارج حدود عرفة مع أنها محددة بأعلام واضحة والوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به.
16- الانشغال يوم عرفة بالضحك والمِزاح والكلام الباطل وترك الذكر والدعاء في ذلك الموقف العظيم.
17- التكلف لصعود جبل الرحمة والتمسح به واعتقاد أن له مزية وفضيلة توجب ذلك.
18- مضايقة الغير وقت الانصراف وما ينتج عنه من سباب وقتال.(1/77)
19- الاشتغال في مزدلفة بلقط الحصى قبل الصلاة مع أن الحصى يصح أخذه من منى أو من غيرها.
20- انصراف الكثير من مزدلفة قبل نصف الليل وتركهم المبيت بها مع أنه من واجبات الحج.
21- ترخص الأقوياء في الخروج إلى منى قبل الصبح مع أن الرخصة إنما هي للضعفاء أما غيرهم فقُبَيل طلوع الشمس.
22- طواف بعضهم للإفاضة في النصف الأول من الليل مع أن الرخصة للضعفاء في النصف الثاني بعد الرمي.
23- توكيل بعض الأقوياء في الرمي مع أن التوكيل إنما ورد عن الأطفال ونحوهم.
24- ذبح الهدايا يوم النحر وتعريضها للإتلاف والإضاعة مع أنه يمكن نقلها إلى الضعفاء أو تأخير ذبحها إلى أيام التشريق.
25- رمي الجمار أيام التشريق ضحى مع أن وقته إنما يبدأ بزوال الشمس في الأيام الثلاثة التي بعد العيد.
26- اعتقاد أن الجمرات هي الشياطين ورميها بالأحذية أو بالحجارة الكبيرة وسبها وشتمها مع أن رميها تعبد وتذكرة لعداوة الشيطان.
27- توكيل بعضهم بالرمي وسفره مساء الحادي عشر أو صباح الثاني عشر فيترك بعض المبيت وبعض الرمي.
28- طواف بعضهم للوداع قبل رمي الجمرات يوم النفر الأول مع أن الوداع آخر أعمال الحاج.
29- التكلف في زيارة بعض البقاع والأماكن كجبل الرحمة وغار حراء وغار ثور ومولد الرسول أو مولد عليٍّ أو بعض المساجد التي لا حقيقة لما يقال فيها ولا مزية توجب زيارتها.
30- اعتقاد أن الحج لا يتم إلا بزيارة المدينة والتكلف في الحصول على ذلك.
31- اعتقاد أن السفر إلى المدينة لأجل زيارة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مع أن شد الرحال إنما جاز لأجل المسجد النبوي لفضل الصلاة فيه.
32- ما يفعل عند القبر النبوي من الهتاف باسم الرسول ودعائه والطواف بقبره والتمسح به.
33- التكلف في زيارة مساجد بالمدينة لا مزية لها كمسجد أبي بكر والمساجد السبعة ومسجد القِبْلتين ونحوها.(1/78)
فعلى الحاج أن يكون حذرًا من الوقوع في شيء من هذه الأخطاء ونحوها ليتم حجه.. والله الموفق والمعين.
" فضل أيام عشر ذي الحجة والأعمال الواردة فيها " :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فضل عشر ذي الحجة :
روى البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء ".
وروى الإمام أحمد -رحمه الله- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : " ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ".
وروى ابن حبان -رحمه الله- في صحيحه عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " أفضل الأيام يوم عرفة ".
أنواع العمل في هذه العشر:
الأول: أداء الحج والعمرة وهو أفضل ما يعمل ويدل على فضله عدة أحاديث منها قوله -صلى الله عليه وسلم- : " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " وغيره من الأحاديث الصحيحة.
الثاني: صيام هذه الأيام أو ما تيسر منها -وبالأخص يوم عرفة- ولا شك أن جنس الصيام من أفضل الأعمال وهو ما اصطفاه الله لنفسه كما في الحديث القدسي : " الصوم لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ".
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : " ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا " متفق عليه ( أي مسيرة سبعين عاما ).(1/79)
وروى مسلم -رحمه الله- عن أبي قتادة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده ".
الثالث: التكبير والذكر في هذه الأيام، لقوله -تعالى- : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ } [ سورة الحج، الآية : 28 ] وقد فسرت بأنها أيام العشر، واستحب العلماء لذلك كثرة الذكر فيها لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- عند أحمد -رحمه الله- وفيه :
" فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ".
وذكر البخاري -رحمه الله- عن ابن عمر وعن أبي هريرة -رضي الله عنهم- أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وروى إسحاق -رحمه الله- عن فقهاء التابعين -رحمة الله عليهم- أنهم كانوا يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق والمساجد وغيرها لقوله -تعالى-: { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ سورة البقرة، الآية : 185 ].
ولا يجوز التكبير الجماعي وهو الذي يجتمع فيه جماعة على التلفظ بصوت واحد، حيث لم ينقل ذلك عن السلف وإنما السنة أن يكبر كل واحد بمفرده، وهذا في جميع الأذكار والأدعية إلا أن يكون جاهلا فله أن يلقن من غيره حتى يتعلم، ويجوز الذكر بما تيسر من أنواع التكبير والتحميد والتسبيح، وسائر الأدعية المشروعة.
الرابع: التوبة والإقلاع عن المعاصي وجميع الذنوب، حتى يترتب على الأعمال المغفرة والرحمة، فالمعاصي سبب البعد والطرد، والطاعات أسباب القرب والود، وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المرء ما حرم الله عليه " متفق عليه.(1/80)
الخامس: كثرة الأعمال الصالحة من نوافل العبادات كالصلاة والصدقة والجهاد والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك؛ فإنها من الأعمال التي تضاعف في هذه الأيام، فالعمل فيها وإن كان مفضولا فإنه أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيرها وإن كان فاضلا حتى الجهاد الذي هو من أفضل الأعمال إلا من عقر جواده واهريق دمه.
السادس: يشرع في هذه الأيام التكبر المطلق في جميع الوقت من ليل أو نهار إلى صلاة العيد ويشرع التكبر المقيد وهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبة التي تصلى في جماعة، ويبدأ لغير الحجاج من فجر يوم عرفة وللحجاج من ظهر يوم النحر، ويستمر إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق.
السابع: تشرع الأضحية في يوم النحر وأيام التشريق وهو سنة أبينا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين فدى الله ولده بذبح عظيم، وقد ثبت " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " متفق عليه.
الثامن: روى مسلم -رحمه الله- وغيره عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره " وفي رواية : " فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي " ولعل ذلك تشبها بمن يسوق الهدي، فقد قال الله -تعالى-: { وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } [ سورة البقرة، الآية : 196 ] وهذا النهي ظاهره أنه يخص صاحب الأضحية ولا يعم الزوجة ولا الأولاد إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه، ولا بأس بغسل الرأس ودلكه ولو سقط منه شيء من الشعر.(1/81)
التاسع: على المسلم الحرص على أداء صلاة العيد حيث تُصلَّى، وحضور الخطبة والاستفادة، وعليه معرفة الحكمة من شرعية هذا العيد، وأنه يوم شكر وعمل بر، فلا يجعله يوم أشر وبطر ولا يجعله موسم معصية وتوسع في المحرمات كالأغاني والملاهي والمسكرات ونحوها مما قد يكون سببا لحبوط الأعمال الصالحة التي عملها في أيام العشر.
بعد ما مر بنا ينبغي لكل مسلم ومسلمة أن يستغل هذه الأيام بطاعة الله وذكره وشكره والقيام بالواجبات والابتعاد عن المنهيات واستغلال هذه المواسم والتعرض لنفحات الله ليحوز على رضا مولاه والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فتاوى الحج
" حكم الحج والوعيد الشديد على من تركه مستطيعا " :
سُئِلَ [ سَمَاحَةُ شَيْخِنا العَلاَّمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ جِبْرِيْنٍ ] وفقه الله تعالى للحق:
ما حكم الحج إلى بيت الله الحرام وما الوعيد الشديد المترتب على من تركه وهو قادر عليه ومستطيع له ؟ .
فأجاب: الحج كما هو معلوم ركن من أركان الإسلام ، وقد ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام " وفي حديث جبريل المشهور لما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام فقال: " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ".
يتبين لنا من هذه الأحاديث أن الحج من جملة الإسلام وهو أحد أركانه العظام.(1/82)
وأركان الإسلام هي دعائمه وأُسسه التي يقوم عليها ويتكون منها، فمن أخلَّ بركن من هذه الأركان فقد اختل إسلامه ؛ فالبناء إذا انهدم أحد أركانه يعني أحد جوانبه فإنه لا يُنْتَفَعُ به، بخلاف إذا ما تمت حيطانه وجوانبه وزواياه، فكذلك الإسلام إذا اختل منه ركن من هذه الأركان فإنه يكون غير كامل ويكون دين المسلم فيه نقص ، هذا معنى كونه ركنا من أركان الإسلام.
ولكن الحج يجب بشروط ، ذكرها العلماء في كتبهم، فمن أراد معرفتها فإنه يُرْجَعُ إليها في مواضعها.
أما من ترك الحج وهو قادر عليه ومستطيع لأدائه واكتملت فيه الشروط، فإنه على خطر عظيم ، لما ورد من الوعيد الشديد على تركه ، وقبل الحديث عن الوعيد في تركه ، نذكر ما ورد في الحث على المبادرة إلى الحج .
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحث على المبادرة إلى الحج، فمن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- : " بادروا بالحج والعمرة فإن الراحلة قد تضل والنفقة قد تذهب والرجل قد يمرض " أو كما قال عليه الصلاة والسلام، انظر شرح الزركشي على مختصر الخرقي (3-42) والتعليق عليه.
ففي هذا الحديث حث منه عليه الصلاة والسلام على المبادرة إلى أداء هذا الركن العظيم، والمبادرة معناها : الإسراع ، وهذا من أدلة وجوب الحج على الفور.
كما أن أوامر الله تعالى يجب الإسراع بها، لما علل به في الحديث السابق من خوف العوائق والعوراض التي تعرض للإنسان، فإنه لا يدري متى تعرض له.
فعلى المسلم أن يبادر بأداء الأوامر والطاعات وهو في حال صحته واستطاعته قبل أن يندم، ولات حين مندم.
ثم إن الله تعالى إنما أوجبه مرة في العمر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، الحج مرة، فما زاد فهو تطوع ".(1/83)
فمن حكمة الله ومن رحمته بعباده أنه ما أوجب الحج إلا مرة واحدة في العمر على الفور، لمن استطاعه، ولا يتم الدين إلا به وما زاد فهو تطوع.
ونعود للحديث عن الوعيد المترتب على من تركه، فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث إلى بعض البلاد، فمن وجدوه قادرا على الحج فلم يحج أن أضع عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين أو كما في الأثر.
ورُوي أن عليا قال: " من قدر على الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ".
ولعل هذا صدر على سبيل التهديد والوعيد، أو لعلَّه فيمن تركه مع القدرة عليه زُهدا فيه ورغبةً عنه، أو عدم اهتمام بهذا الركن، أو تساهلا وتهاونا به، أو انكارا لشرعيته، أو للحِكَم التي تترتب عليه، أو نحو ذلك، ولا شك أن هذا انتقاص للإسلام.
وقد كان الحج إلى بيت الله العتيق قديما قبل الإسلام، فقد رُوي أن الأنبياء قد حجوا هذا البيت وقد روي في ذلك آثار وأحاديث، وكذلك رُوي أن الملائكة طافت به قبل أن يُخلق آدم والله تعالى قد أمر إبراهيم ببناء هذا البيت وأمره بالنداء إليه بقوله تعالى: { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } (سورة الحج ، الآية:27) وظاهر ندائه أنه كما روي في بعض الآثار: " يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا " فدلّ هذا على أن الحج واجب، فقوله: كُتِبَ عليكم أي: فرض عليكم، كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } (سورة البقرة ، الآية:183) أي:فُرِض عليكم الصيام.(1/84)
فإذا عرفنا أن الحج أحد أركان الإسلام، وأن الله تعالى أتم به الدين، وعرفنا أنه لازم وواجب، فعلى كل مسلم إذا تمت فيه الشروط المعروفة أن يأتي لهذا البيت المعظم ملبيا نداء الله إليه، فإن من تركه تهاونا فإنه متعرض للوعيد الشديد؛ سيما وقد فرضه النبي عليه الصلاة والسلام وبيَّنه وأتمه، وقال للناس لما وقف بهم في المشاعر: " خذوا عني مناسككم " ولما وقف بعرفة أنزل الله عليه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (سورة المائدة ، الآية:3) أي: في ذلك اليوم الذي تمت فيه المناسك والمشاعر وتمت فيه أركان الإسلام، وكان به تمام الدين وكماله، وفيه إتمام لسنة الله عز وجل ورضاه بأن يكون الإسلام دينهم، فهذا كله دليل على أن الحج فرض وواجب.
ومن الأدلة على فرضيته عموم أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله في التأكيد عليه وبيان فضائله وأنه خاتمة الشرائع، وأن من أتى به كان ذلك من تمام إسلامه ، ومن لم يأت به كان إسلامه ناقصا.
نسأل الله أن يجعل لنا منه حظا ونصيبا، وأن يجعلنا من المقبولين والمغفور لهم، إنه على كل شيء قدير.
" من حج ولم يصل " :
وسُئِل فضيلته:
من حج ولم يصلِّ، هل يحسب له حج أم لا ؟
فأجاب:
إذا كان قصد السائل أن يحج وهو تارك لصلاة الفريضة، التي فرضها الله في اليوم والليلة خمس صلوات، وهذا يقع كثيرا من بعض المنتمين إلى الإسلام في البلاد الإسلامية، وكثير من الناس يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن ما معهم إلا مجرد التسمي، فتجد أحدهم لا يصلي طوال عمره مثلا، وبعضهم يصلي فقط الجمع والأعياد، وأما بقية أوقاتهم فلا يعرفون الصلوات، لا فروضها ولا نوافلها، وهؤلاء بلا شك متهاونون بهذا الركن العظيم، الذي هو عمود الدين، وهو أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين.(1/85)
وقد ورد في الأحاديث إطلاق الكفر على تارك الصلاة، وقال العلماء: إن المراد به الكفر العملي، لا الاعتقادي، وعلى كل حال فإن الذي يحج وهو مُصرٌّ على ترك الصلاة قبل حجه أو بعده، يعتبر قد أتى بعمل، ولكن أخلَّ بعمل آخر عظيم.
وقد اختلف العلماء في تكفير تارك الصلاة وفصلوا ذلك:
فإن من تركها جاحدا لوجوبها، فهو كافرٌ ولا ينفعه حجّه، ولا يصح، ولا يسقط فرضه، و كذلك لا تصح بقية أعماله.
وأما من تركها متكاسلا ومتثاقلا عنها فإنه باقٍ على دين الإسلام وينسب إلى المسلمين، ولكنه على خطر كبير، حيث إنه أخلَّ بهذا الركن العظيم، ويعتبر قد أذنب ذنبا كبيرا، ولكن حجه صحيح، وتسقط عنه حجة الإسلام.
وذهب كثير من العلماء والمحققين إلى القول بكفره، وبطلان حجه، وسائر أعماله؛ لإطلاق الأحاديث في كفر من ترك الصلاة.
ومعلوم أن الحاج يجب عليه قبل الحج أن يتطهر من الذنوب، وأن يُقبل على ربه بقلب منكسر خاشع ذليل، وأن يصحح نيته فينوي نية صادقةً وأنه تائبٌ إلى الله توبة نصوحا، فيرد المظالم إن كانت هناك مظالم بينه وبين أحد من الناس ، ويقلع عن المعاصي صغيرها وكبيرها، فيحافظ على الصلاة جماعة في مساجد المسلمين، ويعاهد ربه أن لا يعود إلى ما كان عليه من التثاقل والتكاسل، ويتوب عن المعاصي الأُخرى من أكل الربا، أو الزنا، أو شرب الخمر ، أو أكل الحرام، أو الاعتداء على المسلمين في الدم أو المال أو ما أشبه ذلك من المحرمات، حتى يُقبل حجه ويكون حجه مبرورا وسعيه مشكورا.(1/86)
وقد ورد في الأحاديث بأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ولا يكون الحج مبرورا إلا إذا تمت شروطه، وأركانه، وسننه، وقام صاحبه بما لله عليه فيه، وتجنب محظوراته، وتجنب المعاصي المحرمة عليه في كل الأوقات، وتاب لله توبة نصوحا، وسأل عن كل عمل يعمله هل هو طاعة أم معصية، أم محظور أم محرم، أم مكروه أو ما أشبه ذلك ، فإذا عرف الحكم وفعل ما هو طاعة وتجنب ما هو معصية ، فإن عمله مقبول إن شاء الله.
هذا إذا كان السائل يقصد ترك الصلاة قبل الحج أو بعده أي: تاركا للفرائض ، وهي الصلوات الخمس المفروضة في اليوم والليلة.
فأما إن كان يريد ترك الصلاة عند الإحرام، فإذا قصد الحج ولبس الإحرام ولم يصل ركعتي الإحرام، فإنه ليس للإحرام صلاة مخصوصة، وقد ذكر بعض العلماء أن الصلاة عند الإحرام سنة، وبعضهم يقول: إذا وافق ذلك وقت صلاة، وقالوا: إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحرم عقب فريضة، فإن وافق إحرامك ، فهذا هو الأفضل لأنه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- .
ولكن لا يُسن الإتيان بصلاة مخصوصة تسمى سنة الإحرام، كما يفعله كثير من الجهلة، وخاصة في أوقات النهي ، فإن أحرمت في وقت نهي، فأحرم بدون صلاة، بل بمجرد النية ، وهو لبس الثياب والتأهب للإحرام، والتلبية، ولا حاجة إلى الصلاة لكونه وقت نهي والله أعلم.
" الاستنابة في الحج " :
وسُئِلَ حفظه الله ورعاه:
طَلَب مني أحد أقاربي أن أحج عن والدته المتوفاة، وأعطاني ثلاثة آلاف ريال كنفقة، وأنا أستطيع أن أُكمل الحج بأقل من تلك النفقة، فماذا أفعل بالباقي ؟
فأجاب:
هذه مسألة الاستنابة في الحج، أو الحج عن الغير بأُجرة، وقد كثر البحث فيها، وكثر التساهل من الذين يحجون بأُجرة.(1/87)
والعلماء لم يرخصوا للإنسان أن يحج بأجرة ، إلا إذا كان عاجزا عن الحج من مال نفسه، وذلك لأن هذا عمل صالح والأعمال الصالحة لا تباع، ولا تؤخذ عليها مصالح دنيوية ، فالحج: طواف، وسعي، وإحرام، وصلاة، ورمي، ووقوف، وهذه كلها أعمال صالحة لا يؤخذ عليها أُجرة، كما أن الإنسان لا يأخذ أجرا على الصلاة ، ولا الصيام ولا على الصدقة، ونحو ذلك، فلا يبيعها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأذان: " اتخذوا مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " فدلَّ على أن الأعمال الصالحة لا يجوز بيعها.
ولكن هناك حالة خاصة، فمثلا أن إنسانا عاجز عن الحج بماله وهو قد أدى حجة الفريضة، فيجوز له أن يستعين بمال يتمكن به من أداء الحج، فيأخذ هذا المال حتى يمكنه الحج فينفق منه بقدر حاجته ويرد باقيه على من أنابه إذا أنفق منه سواء أنفق على أهله كأن يترك لأهله نفقته ، وأنفق أجرة ركوبه وأجرة أكله وشربه، وقيمة فديته وغير ذلك ، فالباقي يرده على أهله إلا إذا سمحوا وعفوا عن ذلك وقالوا: قد وهبنا لك ما بقي.
أما كونه يتخذ الحج حرفة ويجعله كسبا، ويزايد فيه، ويقول: هذا قليل أعطني خمسة أو ستة آلاف ريال، فينفق منها ألفا أو ألفين، والباقي يتاجر به فهذا بيع للعمل الصالح، ويعتبر قد عمل لأجل الدنيا، والعمل لأجل الدنيا شرك ، كما في قول الله تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } (سورة هود ، الآية:15) .
" حكم الحج للجنود وهم في لباسهم الرسمي " :
وسُئِل جعله الله في الفردوس الأعلى:
نحن من الجند ونشارك في مهمة الحج كل سنة، ومَنْ لم يشارك بقي مرابطا في منطقته، ومن يطلب إذنا للحج لم يؤذن له، ولكن بعض الزملاء حجوا بدون إذن، وأحرموا في لباسهم الرسمي، فهل حجهم صحيح؟
فأجاب:(1/88)
حجهم صحيح إن شاء الله ، وأنا أقول: في إمكان الجنود الحج ما دام أنهم قد حضروا المشاعر، ووقفوا في المواقف، حيث إن المسؤولين يلزمون الجندي أن يلبس اللباس الرسمي ويمنعونه من لباس الإحرام، ولكن لا يمنعونه أن يقول لبيك اللهم لبيك، ولا يمنعونه أن ينوي بقلبه الإحرام، ولا يلزمونه أن يقص من شعره أو من أظفاره، ولا يلزمونه أن يتطيب، وإنما يلزمونه بلباس على الرأس ولباس على البدن، وهذا لا يمنع الإحرام.
فأحْرِم وأنت في ثيابك ولباسك المعتاد، ويكون عليك صيام ستة أيام، ثلاثة عن الرأس وثلاثة عن الثوب، أو إطعام اثني عشر مسكينا، ستة عن الرأس وستة عن اللباس ، وحجك كامل ما دمت وقفت مع الحجاج في عرفة وبت معهم في مزدلفة وبت معهم في منى وما دمت رميت وإذا لم يتيسر لك الرمي وكّلت مَنْ يرمي عنك فتم حجك، فما المانع أن تحج ولو لم يرخّصوا لك، فهم لا يريدون منك إلا أن تعمل وتقف على الخطوط مثلا لتنظم سير الحجاج، وفي يوم عرفة عليك أن تتحرى أنك واقف بعرفة وبذلك يتم حجك ولو ما شعروا بك، ولو ما علم أحد من زملائك أنك محرم، فالإحرام نية في القلب تقول: لبيك ، ولو كنت محرما بثيابك.
وعلى كل حال ما دام أنه لا يختل العمل فحجهم كامل إن شاء الله فيحرمون بلباسهم الجندي، ويلبون ويقفون بعرفة إلى الليل، وبمزدلفة إلى نصف الليل وبمنى ليالي منى ويرمون ويحلقون أو يقصرون في وقت راحتهم، ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة ولو بعد أيام الحج ويسعون، وعليهم فدية إن اعتمروا قبل الحج، وعليهم فدية محظور عن اللباس وتغطية الرأس، وعليهم دم جبران إن تركوا أحد الواجبات. والله أعلم.
" هل جدة ميقات " :
وسُئِلَ وفقه الله تعالى:(1/89)
بعض الناس يأتي مكة قاصدا الحج أو العمرة، ويتجاوز الميقات متجها إلى جدة لأداء بعض الأعمال هناك، ويمكث في جدة ثلاثة أيام أو أكثر، فإذا انتهى من أعماله وأراد العمرة فإنه يحرم من جدة ولا يرجع للميقات ليحرم منه، ويفتيه بعض الناس بأن من مكث في جدة ثلاثة أيام أو أكثر فإنه يحرم من جدة ولا يحتاج أن يرجع إلى الميقات، فهل من دليل على هذا؟
فأجاب:
جدة ميقات أهلها، وأما غير أهلها فليست ميقاتا لهم، إلا إذا كانوا من أهل السودان الذين يأتون في الباخرة أو في الطائرة، فيقول بعض العلماء: أن جدة ميقات لهم.
أما أهل مصر وأهل الشام فميقاتهم الجحفة إذا لم يمروا بذي الحليفة التي هي ميقات أهل المدينة فمن جاء إلى جدة وقد نوى الحج أو العمرة وتجاوز الميقات ولم يحرم وكان من أهل الشام أو مصر أو السواحل فإنه إذا أقام في جدة مدة وأراد أن يحرم، فعليه أن يرجع إلى الجحفة وهي قريبة من رابغ ليحرم من هناك، ولا يحرم من جدة ومن جاء إلى جدة مثلا من نجد أو من المشرق أو من العراق ووصل إلى جدة وأقام فيها مدة وهو يريد أن يحج، فإذا أراد الإحرام رجع إلى ميقات أهل نجد وهو قرن المنازل وهكذا من جاء إلى جدة من أهل اليمن أو من أهل الحدود الجنوبية وتجاوز الميقات الذي هو يلملم ثم أراد أن يحرم بعد ما أقام في جدة مدة وعزم على الإحرام أو النسك، فإنه يرجع إلى ميقاته الذي هو ( يلملم ويسمى بالسعدية ).
أما من جاء إلى جدة ولم يكن من نيته إحرام، ولا حج ولا عمرة، ولكن طرأ عليه وخطر بباله الإحرام، بعد ما وصل إلى جدة فله في هذه الحال أن يحرم من جدة .
ولا صحة لثلاثة أيام ولا عشرة ولا لعشرين؛ ما دام أنه عازم على العمرة قبل أن يأتي، فإنه يرجع إلى الميقات.
فأما إذا لم يكن عازما على الحج أو العمرة ولم تخطر على باله، فلو لم يجلس في جدة إلا ساعة فله أن يحرم منها، لأن الأمر حصل طارئا فيما بعد ولم تكن فيه نية مسبقة.(1/90)
وإذا أحرم من جدة وهو ليس من أهلها ، وقد عزم على العمرة أو الحج من قبل، ولم يحرم من الميقات فإن عليه دم جبران ، ولا ينفعه الرجوع بعد الإحرام ، والله أعلم.
" أدى بعض أعمال العمرة وتركها ولم يكملها بحجة الزحام " :
وسُئِل أطال الله في عمره بالطاعة:
جئت بعمرة في يوم سبع وعشرين من رمضان، وكان الزحام شديدا فلم أستطع إكمال العمرة، فطفت ثلاثة أشواط ثم عدت إلى جدة وخلعت إحرامي أنا وزوجتي فماذا عليَّ ؟
فأجاب:
هذا خطأ كبير، ذلك لأنك أدخلت نفسك في هذا النسك فلا بد من الإتمام، لأن من دخل في نسك لزمه الإتمام، لقوله تعالى: { وأتموا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } (سورة البقرة ، الآية:196) فما دمت قد أدخلت نفسك في هذا النسك فإنه يجب عليك أن تبقى فيه، والواجب أنك لمَّا رأيت الزحام رجعت أنت وأهلك بإحرامك وبقيتم محرمين حتى تخف الزحمة ثم ترجعون لإكمال عمرتكم قبل أن تتحللوا من الإحرام.
ولا يجوز لك عمل أي محظور من محظورات الإحرام ، فلا تلبس الثياب ولا تغط رأسك ولا تجامع زوجك وغير ذلك من المحظورات، ما دمت لم تكمل عمرتك وكذلك زوجك عليها نفس الشيء.
أما كونك تحللت قبل أن تكمل العمرة ولم تشترط، وليس هناك عذر إلا الزحام، والزحام يمكن أن يخف بعد يوم أو يومين، فعليك أولا دم حيث أفسدت عمرتك بالجماع إذا كنت قد جامعت ، وعليك فدية عن اللباس صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة على التخيير، وفدية أُخرى عن الحلق أو التقصير إن حصل منك التقصير، وفدية أخرى عن تغطية الرأس ، وفدية أخرى عن التقليم، وفدية أخرى عن الطيب ، وعلى زوجتك نفس ما سبق ذكره ، إلا اللباس وتغطية الرأس، ثم على كل واحد منكما دم عن إفساد الإحرام بالجماع ، وعلى كل منكما الرجوع إلى مكة وإكمال النسك مع التوبة والاستغفار، والله أعلم.
" الإنابة في رمي الجمار " :
وسُئِل أمد الله في عمره بالطاعة:(1/91)
هل يجوز للمرأة أن تنيب في رمي الجمرات خشية زحام الرجال ولو كانت صحيحة؟
فأجاب:
ينظر في الحالات المقترنة بهذا، فإذا كان هناك وقت يشتد فيه الزحام، ولم تتفرغ في غيره، فلها أن تنيب، والحقيقة أنه في يوم العيد يغلب عدم الزحام، وذلك لسعة الوقت، فإن أكثر الناس يرمون آخر الليل وأول النهار ويخف بذلك الزحام في آخر النهار، فلها أن تؤخره ولا تنيب كأن تؤخر الرمي إلى آخر النهار، وترمي بنفسها، حتى تباشر العمل وتذكر الله عند الرمي ونحو ذلك.
أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر فإن الوقت فيه قصير؛ حيث يبدأ من الظهر إلى الغروب، وإن أجاز بعض العلماء ذلك إلى نصف الليل أو آخره، لكن الاحتياط أنه ينتهي بغروب الشمس، وهذا الوقت قصير فقد تكون المرأة منشغلة، وقد يشتد الزحام، ففي هذه الحال لها أن تنيب؛ لكن الأفضل أن تتأخَّر إلى اليوم الثالث عشر إذا لم يتعجَّل أهلها.
فإذا تأخرت ففي هذا اليوم يخف الناس ولا يبقى إلا القليل، فترمي عن الأيام الثلاثة مرتبة فترمي ثلاث الجمرات عن اليوم الحادي عشر، ثم ترجع وترميها عن اليوم الثاني عشر، ثم ترجع وترميها عن اليوم الثالث عشر، وهذا أفضل كما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- الرعاة الذين يذهبون لرعي الدواب، كانوا يرمون أول اليوم ثم يؤخرون رمي يومين يرمونهما في اليوم الثاني عشر.
" رمي الجمار قبل الزوال في اليوم الثاني عشر " :
وسُئِلَ حفظه الله:
نسب إليكم فتوى في جواز رمي الجمار (قبل الزوال) لمن أراد التعجل في اليوم الثاني عشر أي: ثاني أيام التشريق ؟ وقد نشرت في جريدة المسلمون؟ فهل هذا صحيح وما هو دليلكم في ذلك؟
فأجاب:
اتصل بنا صاحب الجريدة المذكورة هاتفيا، وذكر ما حصل في الحج الماضي (عام 1414هـ) من الوفيات، وسأل هل من رخصة في تقديم الرمي ؟.(1/92)
فذكرت له أن هناك قولا لأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد بجواز الرمي قبل الزوال للمتعجِّل، حيث ذكر ذلك صاحب المغني، والزركشي في شرح مختصر الخِرْقي وصاحب الإنصاف، ولكن صاحب الجريدة تجرأ ونسب الفتوى إليَّ بخط بارز، ومعروف أن أصحاب الصحف يبالغون في نشر مثل هذا، فجعلوا العنوان كبيرا كما قرأتموه، أو قرأه بعضكم، وهم بذلك يريدون لفت الأنظار، مع أني إنما حكيت الرواية التي ذكرها في المغني وغيره، ولم أفصح أنني أختاره، إنَّما أقول أنه جائز للضرورة، عندما يخاف الإنسان على نفسه، وهذا القول لمن أراد التعجل، أما الذي لا يريد التعجل فليس له أن يرمي إلاّ بعد الزوال.
وبكل حال فالأصل أن وقت الرمي في أيام التشريق بعد زوال الشمس، كما ثبت في الحديث عن ابن عمر وجابر وعائشة وغيرهم، وهو قول الأئمة كلهم، ذكره ابن قدامة كما في المغني مع الشرح (3-476)، لكنه ذكر أن إسحاق بن راهويه وأصحاب الرأي، وهم الحنفية، رخصوا في الرمي يوم النفر قبل الزوال، ولا ينفر إلاَّ بعد الزوال، وعن أحمد مثله، ورخص عكرمة في ذلك أيضا، وقال طاووس يرمي قبل الزوال ، وينفر قبله ... إلخ.
وهكذا ذكر في الشرح الكبير في نفس الصفحة: وقال الزركشي في شرحه على مختصر الخِرَقي (3-279): والرواية الثانية إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه، ولا ينفر إلاَّ بعد الزوال (والثالثة) كالثانية إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه، قال في رواية ابن منصور إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم كأنه لم ير عليه دما اهـ.
وذكر القرطبي في تفسيره لقوله تعالى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } (سورة البقرة ، الآية:203) (3-9) ، عن عطاء أنه سمعه يذكر أنه رخص للرعاء أن يرموا بالليل في الزمن الأول، وذكر أنه روي مرفوعا عند الدارقطني وغيره، وعلله بأنه أرفق بهم وأحوط فيما يحاولونه من رعي الإبل.(1/93)
وقال مالك إذا تركه نهارا رماه ليلا، وعليه دم في رواية ابن القاسم ولم يذكر في الموطأ أن عليه دما.
وقال الشافعي وأبو ثور ويعقوب ومحمد إذا نسي الرمي حتى أمسى يرمي ولا دم عليه، وكان الحسن البصري يرخص في رمي الجمار ليلا، وقال أبو حنيفة يرمي ولا شيء عليه.
ويمكن أن يستدل على تقديم الرمي يوم النفر الأول بظاهر قوله تعالى: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } حيث إن اليوم يعم أول النهار وآخره.
وبعد هذا التفصيل وذكر الأقوال أقول:
أنه في هذا الزمان وخاصة ما حدث في الحج الماضي كما تعرفون من الزحام الشديد، مما أدَّى إلى الوفيات، وقد ذكر بعضهم أن من أسباب هذا الزحام هو: أن كثيرا من المطوفين يؤكدون على الحجاج التابعين لهم بأن يأتوا إليهم في المكان الفلاني في الساعة الثانية بعد الظهر مثلا، ومن لم يأت فإننا سوف نسير ونتركه، ومن المعلوم أن هؤلاء المطوفين معهم أعداد كبيرة من الحجاج تصل إلى مئات الألوف فيضطر هؤلاء كلهم إلى التجمع عند الجمرة قبل الزوال ، حتى إذا كان الزوال رموا جميعا ليتمكنوا من الوصول إلى مطوفيهم في الموعد المحدد، وهنا يحدث الزحام الشديد عند الرمي وفي طريقهم ذهابا وإيابا، وبعدها يذهبون لطواف الوداع، ثم يرجعون إلى المكان الذي وعدوا فيه، وقد لا يقدرون على ذلك في ساعتين، فلأجل ذلك يحتشدون بهذه الأعداد الكبيرة في وقت واحد ثم لا تسأل عما يحدث بعدها من الوفيات الكثيرة.
وكان الأولى لهؤلاء المطوفين ألا يشددوا هذا التشديد على حجاجهم، وعليهم أن يرفقوا بهم، وينتظروهم ولو تأخروا إلى الساعة الثالثة أو الرابعة ، أو الخامسة مثلا حتى يتكاملوا وحتى لا يتكلفوا ويضطروا بأن يرموا جميعهم في الساعة الثانية عشر والنصف في لحظة واحدة، ويحدث من المشاكل والوفيات مثل ما حدث ويحدث كل عام.
ولو ذهبت إلى الجمرات عند الساعة الثانية ونحوها لوجدت المكان خاليا أو خفيفا من الزحام لأن الكل أو الأغلب قد رموا وخرجوا.(1/94)
ولن يكون لهذه المسألة حل إلاَّ بأحد أمرين:
الأول: إما التوسعة والرخصة في الرمي للمضطر قبل الزوال بساعة أو ساعتين ولو لم يخرج إلا بعد الزوال.
الثانية: أو يلاحظ على المطوفين أن لا يشددوا على حجاجهم هذا التشديد، ويجب على وزارة الحج أن تأخذ على أيديهم وتعمل لهم برنامجا ينظمهم حتى يتفادوا الأخطار، والوقوع في الأخطاء، والله أعلم.(1/95)