الخُلاصةُ
في أحكام هجْر المسلِم
جمع وإعدد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
الطبعة الأولى
1430 هـ - 2009 م
ماليزيا
((بهانج - دار المعمور ))
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين،القائل في محكم كتابه العزيز: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (118) سورة التوبة.
والصلاة والسلام على سيد النبياء والمرسلين،القائل:"لاَ تَبَاغَضُوا،وَلاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ تَدَابَرُوا،وَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ إِخْوَانًا ،وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ". (1)
وعلى آله وصحبه أجمعين،ومن سار على دربهم إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرا المسلمين بالتآخي والتحابب والتعاون على البر والتقوى،ونهيا عن كل ما يعكِّرُ صفو هذه الأخوة، ومن ذلك نهي المسلم عن هجران أخيه المسلم،لاسيما إن كان سببُ هذا الهجر هو الدنيا ومتاعها الزائل .
والذي نراه اليوم هو كثرة الهجران بين الأخ وأخيه والقريب وقريبه والجار وجاره,الصاحب وصاحبه،وبين الزوج وزوجته،ليس بسبب الدين،وإنما ذلك بسبب ضعف الإيمان،والتنافس على الحطام .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6065) وصحيح مسلم- المكنز - (6690 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 476) (5660) صحيح(1/1)
وفي هذه الرسالة حاولت معالجة هذا الموضوع الخطير على الشكل التالي :
الباب الأول=الأحاديث الواردة في الهجر،فقد جمعت جل هذه الأحاديث النبوية وقمت بتخريجها وشرح غريبها باختصار ... ...
الباب الثاني=أحكام الهجر الشرعية وفيه مباحث عديدة ومن أهمها :
? أَوَّلاً:هَجْرُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ
? ثَانِيًا:هَجْرُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ
? ثَالِثًا:هَجْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ
? رَابِعًا:تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ لِنُشُوزِهَا بِالْهَجْرِ
? خَامِسًا:هَجْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي زَجْرًا وَتَأْدِيبًا
راجيا من الله تعالى أن تسهم هذه الرسالة المختصرة في زيادة لحمة المسلم بأخيه المسلم،والزوج بزوجته،والجار بجاره،والصديق بصديقه .
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
19 شعبان 1430 هـ الموافق 11/8/2009 م
- - - - - - - - - - -(1/2)
الباب الأول
الأحاديث الواردة في الهجر
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا،وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ. (1)
الهِجْرة في الأصْل:الاسْم من الهَجْرِ،ضِدّ الوَصْلِ. ثُم غَلَب على الخُرُوج من أرض إلى أرض.والهَجْر:الترك والإعراض والغفلة. والهُجْر:الفحش من الكلام.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمِ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا،إِلاَّ رَجُلاً كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ،فَيُقَالُ:أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. (3)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6237 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6697 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 484)(5669)
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 481)(5665) صحيح لغيره
(3) - صحيح ابن حبان - (12 / 482)(5666) صحيح(1/3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ:يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ،فَيُغْفَرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِلاَّ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ،فَيُقَالُ:اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا عَثْرَتَهُ،أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2)
وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،أَنَّهَا قَالَتْ:" مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا،فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبَعْدَ النَّاسِ مِنْهُ،وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ اللهُ بِهَا " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ،وَلاَ عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا،وَلاَ تَوَاضَعَ عَبْدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ. (4)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:حَدَّثَنِي قَاصُّ أَهْلِ فِلَسْطِينَ،قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ،يَقُولُ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:ثَلاثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ لاَ يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا،وَلاَ يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 483) (5667) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 405) (5030) صحيح -العثرة : الزلة والسقطة
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3560) وصحيح مسلم- المكنز - (6190 ) وشعب الإيمان - (10 / 409) (7711 )
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 23)(7206) 7205- صحيح(1/4)
رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ:إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَلاَ يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. (1)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا،أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ:وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا،قَالَتْ عَائِشَةُ حِينَ بَلَغَهَا ذَلِكَ:إِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرًا أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا،فَاسْتَشْفَعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ طَالَتْ هِجْرَتُهَا لَهُ إِلَيْهَا،فَقَالَتْ عَائِشَةُ:وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَحَدًا وَلاَ أَحْنَثُ فِي نَذْرِي الَّذِي نَذَرْتُ أَبَدًا،فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ،وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ،فَقَالَ لَهُمَا:نَشَدْتُكُمَا بِاللَّهِ إِلاَّ أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ،فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ فِي قَطِيعَتِي،فَأَقْبَلَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدِ اشْتَمَلاَ عَلَيْهِ بِبُرْدَيْهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ ،فَقَالاَ:السَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،إِيهٍ نَدْخُلُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ:ادْخُلاَ،فَقَالاَ:كُلُّنَا ؟ قَالَتْ:نَعَمِ ادْخُلُوا كُلُّكُمْ،وَلاَ تَعْلَمُ عَائِشَةُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ،فَلَمَّا دَخَلُوا اقْتَحَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ وَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَاعْتَنَقَهَا وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي،وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِ عَائِشَةَ،وَيَقُولاَنِ لَهَا:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَمَّا عَمِلْتِيهِ،وَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ،فَلَمَّا أَكْثَرَا عَلَى عَائِشَةَ التَّذْكِرَةَ،طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمْ وَتَبْكِي،وَتَقُولُ:إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 515)(1674) حسن لغيره(1/5)
شَدِيدٌ،فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ،ثُمَّ أَعْتَقَتْ عَنْ نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً،ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَمَا أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً تَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا." (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،وَكَانَ،قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ،حِينَ عَمِيَ،قَالَ:سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ،يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ،تَبُوكَ،قَالَ كَعْبٌ:لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ،غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ،وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا،إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ،حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ،وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ العَقَبَةِ،حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ،وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ،وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ،أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا،كَانَ مِنْ خَبَرِي:أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ،فِي تِلْكَ الغَزَاةِ،وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ،حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الغَزْوَةِ،وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا،حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الغَزْوَةُ،غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَرٍّ شَدِيدٍ،وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا،وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا،فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ،فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ،وَالمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرٌ،وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ،يُرِيدُ الدِّيوَانَ،قَالَ كَعْبٌ:فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6073 و 6074 و 6075 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 478)(5662)(1/6)
سَيَخْفَى لَهُ،مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ،وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ،وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ،فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ،فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا،فَأَقُولُ فِي نَفْسِي:أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ،فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ،فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُسْلِمُونَ مَعَهُ،وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا،فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ،ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ،فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ،فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا،ثُمَّ غَدَوْتُ،ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا،فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزْوُ،وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ،وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ،فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ،فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطُفْتُ فِيهِمْ،أَحْزَنَنِي أَنِّي لاَ أَرَى إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ،أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ،وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ،فَقَالَ:وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَوْمِ بِتَبُوكَ:" مَا فَعَلَ كَعْبٌ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،حَبَسَهُ بُرْدَاهُ،وَنَظَرُهُ فِي عِطْفِهِ،فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ:بِئْسَ مَا قُلْتَ،وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا،فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّهُ تَوَجَّهَ قَافِلًا حَضَرَنِي هَمِّي،وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ،وَأَقُولُ:بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا،وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي،فَلَمَّا قِيلَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ،وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ،فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ،وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَادِمًا،وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ،بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ،فَيَرْكَعُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ،ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ،فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ(1/7)
المُخَلَّفُونَ،فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ،وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا،فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلاَنِيَتَهُمْ،وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ،وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ،فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ،ثُمَّ قَالَ:" تَعَالَ " فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ،فَقَالَ لِي:" مَا خَلَّفَكَ،أَلَمْ تَكُنْ قَدْ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ ".فَقُلْتُ:بَلَى،إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا،لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ،وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا،وَلَكِنِّي وَاللَّهِ،لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ اليَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي،لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ،وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ،تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ،إِنِّي لَأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ،لاَ وَاللَّهِ،مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ،وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى،وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ،فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ ".فَقُمْتُ،وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي،فَقَالُوا لِي:وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا،وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ المُتَخَلِّفُونَ،قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَكَ،فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي،ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ:هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ ؟ قَالُوا:نَعَمْ،رَجُلاَنِ،قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ،فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ،فَقُلْتُ:مَنْ هُمَا ؟ قَالُوا:مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ العَمْرِيُّ،وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ،فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ،قَدْ شَهِدَا بَدْرًا،فِيهِمَا أُسْوَةٌ،فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي،وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - المُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ،فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ،وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي(1/8)
الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ،فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً،فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ،وَأَمَّا أَنَا،فَكُنْتُ أَشَبَّ القَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ المُسْلِمِينَ،وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ،وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ،فَأَقُولُ فِي نَفْسِي:هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَيَّ أَمْ لاَ ؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ،فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ،فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ،وَإِذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي،حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ،مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ،وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ،فَقُلْتُ:يَا أَبَا قَتَادَةَ،أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ،فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ،فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ،فَقَالَ:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،فَفَاضَتْ عَيْنَايَ،وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الجِدَارَ،قَالَ:فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ المَدِينَةِ،إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ،مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ،يَقُولُ:مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ،حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ،فَإِذَا فِيهِ:أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ،وَلاَ مَضْيَعَةٍ،فَالحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ،فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا:وَهَذَا أَيْضًا مِنَ البَلاَءِ،فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا،حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ،إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِينِي،فَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ،فَقُلْتُ:أُطَلِّقُهَا ؟ أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ ؟ قَالَ:لاَ،بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا،وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ مِثْلَ ذَلِكَ،فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي:الحَقِي بِأَهْلِكِ،فَتَكُونِي(1/9)
عِنْدَهُمْ،حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ،قَالَ كَعْبٌ:فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللَّهِ:إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ،لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ،فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ:" لاَ،وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبْكِ ".قَالَتْ:إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ،وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ،مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا،فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي:لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ ؟ فَقُلْتُ:وَاللَّهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا،وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ ؟ فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ،حَتَّى كَمَلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ كَلاَمِنَا،فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً،وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا،فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ،قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي،وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ،سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ،أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ،قَالَ:فَخَرَرْتُ سَاجِدًا،وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ،وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الفَجْرِ،فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا،وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ،وَرَكَضَ إِلَيَّ رَجُلٌ فَرَسًا،وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ،فَأَوْفَى عَلَى الجَبَلِ،وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الفَرَسِ،فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي،نَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيَّ،فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُمَا،بِبُشْرَاهُ وَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ،وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا،وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا،يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ،يَقُولُونَ:لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ،قَالَ كَعْبٌ:حَتَّى دَخَلْتُ المَسْجِدَ،فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ حَوْلَهُ(1/10)
النَّاسُ،فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي،وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ غَيْرَهُ،وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ،قَالَ كَعْبٌ:فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ:" أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ "،قَالَ:قُلْتُ:أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ:" لاَ،بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ".وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ،حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ،وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ،فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ،قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ".قُلْتُ:فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ،وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا،مَا بَقِيتُ.فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ المُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي،مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا،وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتُ،وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) } [التوبة : 117-119]، فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ(1/11)
نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلاَمِ،أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ،فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا،فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا - حِينَ أَنْزَلَ الوَحْيَ - شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ،فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) [التوبة : 95 ، 96]،قَالَ كَعْبٌ:وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ حَلَفُوا لَهُ،فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ،وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ،فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ:وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا عَنِ الغَزْوِ،إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا،وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا،عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ " (1) ...
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى،قَالَتْ:وَبِمَ تَعْرِفُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً،فَحَلَفْتِ،قُلْتِ:لاَ وَرَبُّ مُحَمَّدٍ،وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى،قُلْتِ:لاَ وَرَبُّ إِبْرَاهِيمَ،قُلْتُ:أَجَلْ مَا أَهْجُرُ إِلاَّ اسْمَكَ. (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4418)
التنور : الفرن -سجر : أحرق -المغموص : المتهم بالنفاق -المفاز : الصحراء البعيدة عن العمار والماء تفاؤلا من الفوز بالنجاة منها
(2) -صحيح البخارى- المكنز - (5228 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6438 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 49)(7112)(1/12)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:" لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا أَسْأَلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَيْنِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا فَحَجَّ عُمَرُ،وَحَجَجْتُ مَعَهُ،فَلَمَّا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عَدَلَ عُمَرُ،وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ،فَتَبَرَّزَ،ثُمَّ أَتَانِي فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ لَهُمَا إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا قَالَ عُمَرُ:وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ،عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ،ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ قَالَ:" كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ،فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ،فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ "،وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي،فَغَضِبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي،فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي،فَقَالَتْ:" مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ،فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ،فَانْطَلَقْتُ،فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ " فَقُلْتُ:أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ:" نَعَمْ " قُلْتُ:وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ قَالَتْ:" نَعَمْ " قُلْتُ:لَقَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ،أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ ؟ لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَا تَسْأَلِيهِ،وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ،وَلَا يَغْرُرْكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْكِ يُرِيدُ عَائِشَةَ،فَكَانَ لِي جَارٌ مِنِ الْأَنْصَارِ،وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَنْزِلُ يَوْمًا،وَيَنْزِلُ يَوْمًا،فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ،وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا،فَنَزَلَ صَاحِبِي(1/13)
يَوْمًا،ثُمَّ أَتَانِي عِشَاءً،فَضَرَبَ بَابِي،ثُمَّ نَادَى فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ:" حَدَثَ أَمْرٌ " قُلْتُ:مَا حَدَثَ ؟ جَاءَتْ غَسَّانُ ؟ قَالَ:" لَا،بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ،طَلَّقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - نِسَاءَهُ " فَقُلْتُ:لَقَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ إِذًا وَخَسِرَتْ،قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا كَائِنًا حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ شَدَدْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي،ثُمَّ نَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ،وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ:ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ:" لَا أَدْرِي،هَذَا هُوَ مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ،فَنَادَيْتُ غُلَامًا لَهُ أَسْوَدَ " فَقُلْتُ:اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ،فَدَخَلَ الْغُلَامُ،ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ:" قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمِنْبَرَ،فَجَلَسْتُ،فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ،فَجَلَسْتُ قَلِيلًا فَغَلَبَنِي مَا أَجِدُ،فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ " فَقُلْتُ:اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ،فَدَخَلَ الْغُلَامُ،ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ قَالَ:قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ،فَصَمَتَ،فَجَلَسْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ،ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ،فَرَجَعْتُ إِلَى الْغُلَامِ،فَقُلْتُ:اسْتَأَذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ،ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ:قَدَ ذَكَرْتُكَ لَهُ،فَصَمَتَ فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا،فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ:ادْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَكَ،فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ،فَقُلْتُ:أَطَلَّقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأْسَهُ قَالَ:" لَا " قُلْتُ:اللَّهُ أَكْبَرُ،لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَكُنَّا - مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ،فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ،فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ،فَغَضِبْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي،فَطَفِقَتْ تُرَاجِعُنِي،فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي،فَقَالَتْ:مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ،فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُرَاجِعْنَهُ،وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ يَوْمًا إِلَى اللَّيْلِ،فَقُلْتُ:لَقَدْ(1/14)
خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ،أَتَأْمَنُ إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ،فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ،فَقُلْتُ:لَا يَغْرُرْكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْسَمَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْكِ،فَتَبَسَّمَ أُخْرَى،فَقُلْتُ:أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:" نَعَمْ " فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ،فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،ادْعُ اللَّهَ يُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ،فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاسْتَوَى جَالِسًا،وَقَالَ:" أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ قَدْ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا " فَقُلْتُ:" اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ،قَالَ:وَكَانَ أَقْسَمَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ " (1)
الغرف والسطوح وغيرها مباحة ما لم يطلع منها على حرمة أحد أو عورة له،قال المهلب:وفى حديث ابن عباس الحرص على العلم وخدمة الرجل الشريف للسلطان والعالم،وأنه لا ضعة عليه فى خدمته،وفيه الكلام فى العلم على كل حال،فى المشى والطرق والخلوات،فأما قوله:« واعجبًا لك » عجب من حرصه على سؤاله عما لا ينتبه إليه إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا محكم فيه من القرآن.
__________
(1) - عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة - (1 / 177)( 261-7915 ) وصحيح البخارى- المكنز - (2468)(1/15)
وقوله:« استقبل عمر الحديث » فيه أن المحدث قد يأتى بالحديث على وجهه ولا يختصره؛لأنه قد كان يكتفى حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما أخبره به من قوله:« عائشة وحفصة » .
وقوله:« كنا نغلب النساء » يريد أن شدة المواطأة على النساء مذموم؛لأن النبى سار بسيرة الأنصار فيهن وترك سيرة قومه قريش،وفيه موعظة الرجل ابنته وإصلاح خلقها لزوجها،وفيه الحزن والبكاء لأمور رسول الله وما يكرهه،والاهتمام بما يهمه،وفيه الاستئذان والحجابة للناس كلهم كان مع المستأذن عليه عيال أو لم يكن،وفيه الانصراف بغير صرف من المستأذن عليه.
ومن هذا الحديث قال بعض العلماء:إن السكوت يحكم به كما حكم عمر بسكوت النبى عن صرفه له،وفيه التكرير بالاستئذان،وفيه أن للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف،وفيه تقلل النبى من الدنيا،وصبره على مضض ذلك،وكانت له عنه مندوحة،وفيه أنه يسئل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته،وفى قول النبى لعمر:« لا » رد لما أخبر به الأنصارى من طلاق نسائه،ولم يخبر عمر بما أخبر به الأنصارى ولا شكاه،لعلمه أنه لم يقصد للأخبار بخلاف القصة،وإنما هو وهم جرى عليه.
وفى قوله:« أستأنس » استنزال السلطان والاستئناس بين يديه بالحديث،وأخذ إذنه فى الكلام،وفى تبسم النبى لعمر حين ذكر غلبة قريش لنسائها وتحكم نساء الأنصار عليهم:دليل أن المعنيين ليسا بمحرمين،وفيه(1/16)
الجلوس بين يدى السلطان وإن لم يأمر بذلك إذا استؤنس منه إلى انبساط خلق.
وفيه:أنه لا يجب أن يتسخط أحد حاله ولا ما قسم الله له،ولا يستحقر نعمة الله عنده،ولا سابق فضله؛لأنه يخاف عليه ضعف يقينه،وفيه أن المتقلل من الدنيا ليرفع طيباته إلى دار البقاء خير حالا ممن تعجلها فى الدنيا الفانية،والمتعجل لها أقرب إلى السفه،وفيه الاستغفار من السخط وقله الرضا،وفيه سؤال النبى - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار،وكذلك يجبب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء و الاستغفار.
وفيه:أن المرأة تعاقب على إفشاء سر زوجها،وعلى التحيل عليه بالأذى،والمنع من موافقته وشهواته بالتوبيخ لها بالقول،كما وبخ الله أزواج النبى على تظاهرهما عليه وإفشاء سره،وعاقبهن النبى بالإيلاء والاعتزال والهجران كما قال تعالى:{واهجروهن فى المضاجع} وفيه أن الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا،فإنما يجرى فيه على الأهلة التى جعلها الله مواقيت للناس فى آجالهم.
وفيه:الرجل إذا قدم من سفر أو طرأ على أزواجه أن يبدأ بمن شاء منهن،وأنه ليس عليه أن يبدأ من حيث بلغ قبل الخروج وفى نقض رتبة الدوران وابتدائه من حيث بدأ دليل أن القسمة بين النساء فيها توسعة،ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (129) سورة النساء ،ومن أبيح له بعض(1/17)
الميل فقد رخص له فى التقصير عن العدل فى القسمة،وفيه أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها وذا الرأى من أهلها فى أمر نفسها ومالها؛لأن أمر نفسها أخف من أمر مالها،وإذا كان النبى أمرها بالمشاورة فى أمر نفسها التى هى أحق بها من وليها فهى فى المال أولى بالمشاورة لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة كما كانت عائشة،وليس على من يتبين له رشد رأيه أن يشاور،ويسقط عنه الندب فيه. والمشربة:الغرفة،والأطم:حصن مبنى بالحجارة،وقال أبو عبيدة:رملت الحصير رملاً وأرملته إذا نسجته. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ تَهْجُرُ امْرَأَةٌ فِرَاشَ زَوْجِهَا إِلاَّ لَعَنَتْهَا مَلاَئِكَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَهَجَّرُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ». (3)
وعن مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ،قَالَتْ:سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عَامِرٍ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،فَإِنْ كَانَ تَصَارَمَا فَوْقَ ثَلاَثٍ فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا عَلَى صُرَامِهِمَا،وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا فَسَبْقُهُ بِالْفَيْءِ،كَفَّارَتُهُ فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ،وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلاَمَهُ رَدَّتْ
__________
(1) - شرح ابن بطال - (ج 12 / ص 116)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 316)(8579) 8562- صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6702 ) -تهجر : تتكلم بالهجر وهو الكلام القبيح(1/18)
عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ،وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ،فَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَجْتَمِعَا فِي الْجَنَّةِ أَبَدًا."
وفي رواية عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ،أَنَّهُ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،فَإِنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ،مَا دَامَا عَلَى صُرَامِهِمَا،وَأَوَّلُهُمَا فَيْئًا يَكُونُ سَبْقُهُ بِالْفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ،وَإِنْ سَلَّمَ فَلَمْ يَقْبَلْ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلاَمَهُ،رَدَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ،وَرَدَّ عَلَى الآخَرِ الشَّيْطَانُ،وَإِنْ مَاتَا عَلَى صُرَامِهِمَا لَمْ يَدْخُلاَ الْجَنَّةَ جَمِيعًا أَبَدًا. (1)
وعَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَكُونُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلاَثَةٍ فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ كُلُّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ ». (2)
وعَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ،أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً،فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ. (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ رَجُلاً هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،مِنَ الْيَمَنِ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي هَاجَرْتُ ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :قَدْ هَجَّرْتَ الشِّرْكَ،وَلَكِنَّهُ الْجِهَادُ ؟ هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ ؟ قَالَ:أَبَوَايَ،قَالَ:أَذِنَا لَكَ ؟ قَالَ:لاَ،قَالَ:ارْجِعْ فَاسْتَأْذِنْهُمَا،فَإِنْ أَذِنَا لَكَ،فَجَاهِدْ،وَإِلاَّ فَبِرَّهُمَا. (4)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 573)(16257) 16365و16366) صحيح
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (4915 ) حسن
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 154)(17935) 18100- صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 165) (422) حسن(1/19)
وعَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ " مَا حَقُّ أَزْوَاجِنَا عَلَيْنَا ؟ " قَالَ:" أَطْعِمْ إِذَا طَعِمْتَ،وَاكْسُ إِذَا اكْتَسَيْتَ،وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ،وَلَا تُقَبِّحْ،وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ " (1)
وعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ،وَالنَّاسُ مَعَهُ،إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ،فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَذَهَبَ وَاحِدٌ،فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَلَّمَا،فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا،وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ،وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا،فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ:أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ،فَآوَاهُ اللَّهُ،وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللَّهُ مِنْهُ،وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ. (2)
__________
(1) - عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة - (1 / 198)(284-7937) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (66) وصحيح مسلم- المكنز - (5810 ) و صحيح ابن حبان - (1 / 286) (869
فرجة: الفرجة بضم الفاء، وفتحها، لغتان. وهي الخلل بين الشيئين. ويقال لها أيضا: فرج. ومنه قوله تعالى وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (ق/ 6) جمع فرج. وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم، فذكر الأزهري فيها بفتح الفاء وضمها وكسرها. وقد فرج له، في الحلقة والصف ونحوهما، بتخفيف الراء، يفرج، بضمها.- الحلقة: باسكان اللام، على المشهور.
فأوى الى اللّه فآواه اللّه: لفظة أوى بالقصر. وآواه بالمد. هكذا الرواية، وهذه هي اللغة الفصيحة بها جاء القرآن. أي إنه اذا كان لازما كان مقصورا، وإن كان متعديا كان ممدودا. قال اللّه تعالى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ. وقال تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ. وقال تعالى، في المتعدي: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ. وقال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى . قال العلماء: معنى أوى إلى اللّه أي لجأ إليه.
وأما الآخر فاستحيا: هذا دليل اللغة الفصيحة الصحيحة أنه يجوز في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم: الآخر. فيقال: حضرني ثلاثة: أما أحدهم فقرشي وأما الآخر فأنصاري وأما الآخر فتيمي. وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الآخر إلا في الآخر خاصة. وهذا الحديث صريح في الرد عليه.(1/20)
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،فَمِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ،وَمِنْ تَائِبٍ فَيُتَابُ عَلَيْهِ،وَيَتْرُكُ أَهْلَ الضَّغَائِنِ بِضَغَائِنِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا " . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (1)
وعَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ:عَبَسَ وَتَوَلَّى جَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُكَلِّمُ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ:عَبَسَ وَتَوَلَّى،قَالَ:فَكَانَ النَّبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ،قَالَ قَتَادَةُ:وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ،قَالَ:رَأَيْتُهُ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ يَعْنِي ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ . (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ يَهُودِيًّا قَدِمَ زَمَنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاَثِينَ حِمْلِ شَعِيرٍ،وَتَمْرٍ،فَسَعَّرَ مُدًّا،بِمُدِّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَيْسَ فِي النَّاسِ يَوْمَئِذٍ طَعَامٌ غَيْرُهُ،وَكَانَ قَدْ أَصَابَ النَّاسَ قَبْلَ ذَلِكَ جُوعٌ،لاَ يَجِدُونَ فِيهِ طَعَامًا،فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،النَّاسُ يَشْكُونَ إِلَيْهِ،غَلاَءَ السِّعْرِ،فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ،فَحَمِدَ اللَّهَ،وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:لاَ أَلْقَيَنَّ اللَّهَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُعْطِيَ أَحَدًا مِنْ مَالِ أَحَدٍ،مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ،إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ،وَلَكِنَّ فِي بُيُوعِكُمْ خِصَالاً،أَذْكُرُهَا لَكُمْ،لاَ
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني - (7632 ) حسن - الضغائن: بالضاد والغين المعجمتين: هي الأحقاد.
(2) - مسند أبي يعلى الموصلي (3123) صحيح(1/21)
تُضَاغِنُوا،وَلاَ تَنَاجَشُوا،وَلاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ يَسُومُ الرَّجُلُ،عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ،وَلاَ يَبِيعَنَّ حَاضِرٌ لِبَادٍ،وَالْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ،وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 340) (4967) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )(1/22)
الباب الثاني
أحكام الهجر الشرعية (1)
تعريف الهجر :
الْهَجْرُ فِي اللُّغَةِ:مَصْدَرُ هَجَرَ،وَهُوَ ضِدُّ الْوَصْل،يُقَال:هَجَرْتُهُ هَجْرًا:قَطَعْتُهُ،وَهَجَرَ فُلاَنٌ هَجْرًا:تَبَاعَدَ،وَهَجَرَ الْفَحْل:تَرَكَ الضِّرَابَ،وَهَجَرَ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ:تَرَكَهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ،وَهَجَرَ زَوْجَتَهُ:اعْتَزَل عَنْهَا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا...وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيزِ:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء. (2)
وَاصْطِلاَحًا:قَال الْبَرَكَتِيُّ وَالرَّاغِبُ:الْهَجْرُ:تَرْكُ مَا يَلْزَمُ تَعَهُّدُهُ،وَمُفَارَقَةُ الإِْنْسَانِ غَيْرَهُ،إِمَّا بِالْبَدَنِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوْ بِالْقَلْبِ،قَال اللَّهُ تَعَالَى:{ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ قُرْبِهِنَّ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (42 / 162) فما بعدها
(2) -الْمِصْبَاح الْمُنِير ، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط ، وَتَهْذِيب الأَْسْمَاء وَاللُّغَات ( 4 / 179 ط دَار الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ ) ، وَالْمُفْرَدَاتِ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ ، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي ، وَالْجَامِعِ لأَِحْكَامِ الْقُرْآنِ ( 5 / 171 - 172 ، ط دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ ، لُبْنَان ) وَمُغْنِي الْمُحْتَاج ( 3 / 259 ط دَار الْفِكْرِ ) ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209 .(1/23)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (30) سورة الفرقان،فَهَذَا هَجْرٌ بِالْقَلْبِ أَوْ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ،وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَل:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (10) سورة المزمل
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - التَّرْكُ :
التَّرْكُ فِي اللُّغَةِ:مَصْدَرُ تَرَكَ،يُقَال:تَرَكَ الشَّيْءَ تَرْكًا:طَرَحَهُ وَخَلاَّهُ،وَتَرَكْتُ الْمَنْزِل:رَحَلْتُ عَنْهُ،وَتَرَكْتُ الرَّجُل:فَارَقْتُهُ،ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلإِْسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي فَقِيل:تَرَكَ حَقَّهُ:إِذَا أَسْقَطَهُ،وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ:لَمْ يَأْتِ بِهَا،فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِمَا ثَبَتَ شَرْعًا،وَتَرَكْتُ الْبَحْرَ سَاكِنًا:لَمْ أُغَيِّرْهُ عَنْ حَالِهِ،وَتَرَكَ الْمَيِّتُ مَالاً:خَلَّفَهُ،وَالاِسْمُ التَّرِكَةُ (1) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ:قَال الْبَرَكَتِيُّ:التَّرْكُ عَدَمُ فِعْل الْمَقْدُورِ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ،أَوْ مُفَارَقَةُ مَا يَكُونُ الإِْنْسَانُ فِيهِ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَجْرِ وَالتَّرْكِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ،وَالتَّرْكُ أَعَمُّ .
ب - النُّشُوزُ:
مِنْ مَعَانِي النُّشُوزِ فِي اللُّغَةِ:الْعِصْيَانُ وَالاِمْتِنَاعُ،يُقَال:نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوزًا:عَصَتْهُ وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ،وَنَشَزَ الرَّجُل مِنِ امْرَأَتِهِ نُشُوزًا:تَرَكَهَا وَجَفَاهَا .
__________
(1) - الْمِصْبَاح الْمُنِير ، وَالْمُعْجَم الْوَسِيط .
(2) - قَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي .(1/24)
قَال أَبُو إِسْحَاقَ:النُّشُوزُ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ،وَهُوَ كَرَاهَةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ (1) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (2) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْهَجْرِ وَالنُّشُوزِ:أَنَّ نُشُوزَ الزَّوْجَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِهَجْرِ الزَّوْجِ لَهَا فِي الْمَضْجَعِ تَأْدِيبًا لَهَا عَلَى نُشُوزِهَا .
ج - الْبُغْضُ:
الْبُغْضُ لُغَةً:الْكُرْهُ وَالْمَقْتُ،يُقَال:بَغَضَ الشَّيْءَ بُغْضًا:كَرِهَهُ وَمَقَتَهُ،وَالْبَغْضَاءُ:شِدَّةُ الْبُغْضِ،وَهِيَ - كَمَا قَال الْبَرَكَتِيُّ - فِي الْقَلْبِ.وَاصْطِلاَحًا:قَال الرَّاغِبُ:الْبُغْضُ:نِفَارُ النَّفْسِ عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ عَنْهُ،وَهُوَ ضِدُّ الْحُبِّ الَّذِي هُوَ انْجِذَابُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي تَرْغَبُ فِيهِ (3) .
وَالصِّلَةُ:أَنَّ الْبُغْضَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْهَجْرِ .
الفرق بين التّهاجر والتّدابر والتّشاحن:
قال ابن حجر الهيتمي:
التّهاجر:أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيّام لغير غرض شرعيّ.
__________
(1) - الْمِصْبَاح الْمُنِير ، وَلِسَان الْعَرَبِ .
(2) - الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ ( 2 / 446 دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ ) ، وَالشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ ( 2 / 344 دَار الْفِكْرِ ) ، وَحَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ 3 / 299 ، وَالْمُغْنِي ( 7 / 46 دَار الْمَنَار - الْقَاهِرَة ) ، وَالْمُفْرَدَات فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ .
(3) - الْمُعْجَم الْوَسِيط ، وَقَوَاعِد الْفِقْهِ لِلْبَرَكَتِي ، وَالْمُفْرَدَاتِ فِي غَرِيبِ الْقُرْآنِ .(1/25)
والتّدابر:هو الإعراض عن المسلم بأن يلقى أخاه فيعرض عنه بوجهه.
والتّشاحن:هو تغيّر القلوب المؤدّي إلى التّهاجر والتّدابر . (1)
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَجْرِ :
تَتَعَلَّقُ بِالْهَجْرِ أَحْكَامٌ مِنْهَا :
أَوَّلاً:هَجْرُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ :
وَرَدَ الأَْمْرُ بِهَجْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا وَتَرْكِهِ وَاجْتِنَابِهِ،فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال:الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ " (2)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو،وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ يَعْنِي الْكَعْبَةَ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ،وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. (3)
وعَنْ أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ،قال:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ الْأَضْحَى:" أَلَيْسَ هَذَا الْيَوْمُ حَرَامًا ؟ " قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:" فَإِنَّ حُرْمَةَ بَيْنِكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ " ثُمَّ قَالَ:" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُؤْمِنُ ؟ مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَدِمَائِهِمْ،وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُهَاجِرِ ؟ مَنْ هَجَرَ
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5682) والزواجر (418).
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (10) وصحيح مسلم- المكنز - (170) وصحيح ابن حبان - (1 / 467)(230)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 425)(196) صحيح(1/26)
السَّيِّئَاتِ،وَهَجَرَ مَا حَرَّمَ اللهُ،الْمُؤْمِنُ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ لَحْمُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ،وَيَغْتَابَهُ بِالْغَيْبِ،وَعِرْضُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرِقَهُ وَوَجْهُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَلْطُمَهُ،وَحَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهُ دَفْعَةً تُعْنِتُهُ " (1)
وعَنْ كَعْبِ بن عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،يَقُولُ:"هَذَا الْيَوْمُ حَرَامٌ؟"،قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ،قَالَ:"فَإِنَّ حُرْمَتَكُمْ بَيْنَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،أُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُسْلِمُ؟،الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،أُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُؤْمِنُ؟،مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،وَأُنَبِّئُكُمْ مَنِ الْمُهَاجِرُ؟،الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ،وَالْمُؤْمِنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ،كَحُرْمَةِ هَذَا الْيَوْمِ،لَحْمُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَأْكُلَهُ بِالْغَيْبِ وَيَغْتَابَهُ،وَعِرْضُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَخْرَقَهُ،وَوَجْهُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَلْطِمَهُ،وَأَذَاهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يُؤْذِيَهُ،وَعَلَيْهِ حَرَامٌ أَنْ يَدْفَعَهُ دَفَعًا يُتَعْتِعُهُ". (2)
قَال الحافظ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ:الْمُهَاجِرُ بِمَعْنَى الْهَاجِرِ،وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُفَاعِل يَقْتَضِي وُقُوعَ فِعْلٍ مِنِ اثْنَيْنِ،لَكِنَّهُ هُنَا لِلْوَاحِدِ كَالْمُسَافِرِ،وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ؛لأَِنَّ مَنْ لاَزَمَ كَوْنَهُ هَاجِرًا وَطَنَهُ مَثَلاً أَنَّهُ مَهْجُورٌ مِنْ وَطَنِهِ،وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ ضَرْبَانِ:ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ،فَالْبَاطِنَةُ:تَرْكُ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ النَّفْسُ الأَْمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالشَّيْطَانُ،وَالظَّاهِرَةُ:الْفِرَارُ بِالدِّينِ مِنَ الْفِتَنِ،وَكَأَنَّ
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (6 / 3007) (6979 ) ومسند الشاميين 360 - (2 / 444)(1667) حسن لغيره
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 51) (15732) حسن لغيره(1/27)
الْمُهَاجِرِينَ خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِئَلاَّ يَتَّكِلُوا عَلَى مُجَرَّدِ التَّحَوُّل مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَمْتَثِلُوا أَوَامِرَ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيَهُ،وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قِيل بَعْدَ انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ،بَل حَقِيقَةُ الْهِجْرَةِ تَحْصُل لِمَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (1) .
وَقَال ابْنُ عَلاَّنٍ:الْمُهَاجِرُ الْكَامِل مَنْ هَجَرَ - امْتِثَالاً لأَِمْرِ اللَّهِ وَإِجْلاَلِهِ وَخَوْفًا مِنْهُ - مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ،شَمِل صَغَائِرَ الذُّنُوبِ وَكَبَائِرَهَا،وَكَامِل الْهِجْرَةِ مَنْ هَجَرَ الْمَعَاصِيَ رَأْسًا وَتَحَلَّى بِالطَّاعَةِ (2) وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تَأْمُرُ بِاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ (3)
ثَانِيًا:هَجْرُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ:
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ هَجْرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا،حَيْثُ وَرَدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .. فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ فِي مَنْعِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (4) ،وَقَدْ عَدَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَجْرَ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ مِنَ الْكَبَائِرِ،لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالإِْيذَاءِ وَالْفَسَادِ،وَثُبُوتِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي
__________
(1) - فَتْح الْبَارِي 1 / 54 .
(2) - دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 417 .
(3) - انظر ( ر : مُصْطَلَحُ تُرْك ف 8 - 11 ) من الموسوعة الفقهية الكويتية .
(4) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح لِلْمَلاَ عَلِي الْقَارِّيّ 4 / 716 ، وَالْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ( ص 267 ط دَارَ الْفَرْقَانِ ) ، وَالنَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَعُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 179 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 495 ، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 ، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ 2 / 394 .(1/28)
الآْخِرَةِ (1) ،لِحَدِيثِ فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ فَهُوَ فِي النَّارِ،إِلا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِكَرَمِته" (2)
أَمَّا هِجْرَةُ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ مُدَّةَ ثَلاَثٍ،فَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى إِبَاحَتِهَا اعْتِبَارًا لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ،دَلِيل الْخِطَابِ فِي الْحَدِيثِ.قَالُوا:وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلاَثِ؛لأَِنَّ الآْدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ وَنَحْوِهِ،فَعُفِيَ عَنِ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلاَثَةِ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ . (3)
قَال الْخَطَّابِيُّ:فَرَخَّصَ لَهُ فِي مُدَّةِ ثَلاَثٍ لِقِلَّتِهَا،وَجُعِل مَا وَرَاءَهَا تَحْتَ الْحَظْرِ . (4)
وَقَدْ بَيَّنَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَجْهَ تَحْدِيدِ التَّرْخِيصِ بِثَلاَثٍ فَقَال (5) :الثَّلاَثُ آخِرُ حَدِّ الْيَسِيرِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ،فَاسْتَخَفَّ فِي الْمُهَاجَرَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ فِي الطِّبَاعِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِ مَا يُثِيرُهَا.وَالأَْصْل فِي تَحْدِيدِهَا فِي الْهَجْرِ وَغَيْرِهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:{...فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (65) سورة هود
__________
(1) - الزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 42 ، 44 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح 1 / 242 .
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 252) (15210 ) صحيح
(3) - النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَانْظُرْ عُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 184 ، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 ، وَالأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 395 .
(4) - مَعَالِم السُّنَنِ ( 7 / 231 - بِهَامِشٍ مُخْتَصِرٍ سُنَن أَبِي دَاوُد لِلْمُنْذِرِي .
(5) - الْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ص 268 .(1/29)
وَأَمَّا مَنْ لاَ يَعْتَدُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَال:إِنَّ الْحَدِيثَ لاَ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلاَثِ. (1)
جَاءَ فِي مِرْقَاةِ الْمَفَاتِيحِ:قَال أَكْمَل الدِّينِ مِنْ أَئِمَّتِنَا - أَيِ الْحَنَفِيَّةِ -:فِي الْحَدِيثِ دَلاَلَةٌ عَلَى حُرْمَةِ هِجْرَانِ الأَْخِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،وَأَمَّا جَوَازُ هِجْرَانِهِ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَمَفْهُومٌ مِنْهُ لاَ مَنْطُوقٌ،فَمَنْ قَال بِحُجِّيَّةِ الْمَفْهُومِ كَالشَّافِعِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُول بِإِبَاحَتِهِ،وَمَنْ لاَ فَلاَ (2) .
وَقَدْ حَمَل الْفُقَهَاءُ الْهَجْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ عَلَى مَا كَانَ لِحَظِّ الإِْنْسَانِ،بِأَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فِي عَتَبٍ وَمَوْجِدَةٍ أَوْ لِنَبْوَةٍ تَكُونُ مِنْهُ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ،دُونَ مَا كَانَ فِي جَانِبِ الدِّينِ،فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ دَائِمَةٌ عَلَى مَرِّ الأَْوْقَاتِ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ،فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَافَ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ النِّفَاقَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ بِهِجْرَانِهِمْ،وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ فِي بُيُوتِهِمْ نَحْوَ خَمْسِينَ يَوْمًا، (3) إِلَى أَنْ أَنْزَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوْبَتَهُ وَتَوْبَةَ أَصْحَابِهِ،فَعَرَفَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرَاءَتَهُمْ مِنَ النِّفَاقِ. (4)
__________
(1) - النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح 1 / 242 .
(2) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 ، وَانْظُرِ الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 .
(3) - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ ( فَتْح الْبَارِي 8 / 114 - 115 ط السَّلَفِيَّة ) ، وَمُسْلِم ( 4 / 2124 ط الْحَلَبِيّ ) .
(4) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 252 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 256 ، وَمِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 ، وَمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 207 ، وَمَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَابِيِّ 7 / 231 ، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 2 / 395 .(1/30)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ - قَالَ - فَنَهَاهُ وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ « إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ». قَالَ فَعَادَ. فَقَالَ أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَدًا.. (1)
قَال النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ:فِيهِ هِجْرَانُ أَهْل الْبِدَعِ وَالْفُسُوقِ وَمُنَابِذِي السُّنَّةِ مَعَ الْعِلْمِ،وَأَنَّهُ يَجُوزُ هِجْرَانُهُ دَائِمًا،وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَمَعَايِشِ الدُّنْيَا،وَأَمَّا أَهْل الْبِدَعِ فَهِجْرَانُهُمْ دَائِمًا . (2)
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْهِجْرَانُ فَوْقَ ثَلاَثٍ،إِلاَّ لِمَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يَدْخُل مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ مَضَرَّةٌ،فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ،وَرُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ . (3)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَالزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ وَالأُْسْتَاذِ لِتِلْمِيذِهِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ لاَ يَضِيقُ بِالْمَنْعِ فَوْقَ ثَلاَثٍ حَمْلاً لِلْحَدِيثِ عَلَى الْمُتَآخِيَيْنِ أَوِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ،أَوْ حَمْلاً لِلْهِجْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الَّتِي تَكُونُ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5165 )
الْخَذْف هُوَ رَمْيُك حَصَاة أَوْ نَوَاة تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْك وَتَرْمِي بِهَا ، أَوْ تَتَّخِذُ مِخْذَفَة مِنْ خَشَبٍ ثُمَّ تَرْمِي بِهَا الْحَصَاةَ ( النِّهَايَة لاِبْنِ الأَْثِيرِ 2 / 16 ) . تنكأ : تقتل
(2) - صَحِيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ ( ط الْمَطْبَعَة الْمِصْرِيَّة ) 13 / 106 .
(3) - فَتْح الْبَارِي 10 / 496 .(1/31)
مَعَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ،وَأَنَّ غَيْرَهَا مُبَاحٌ أَوْ خِلاَفُ الأَْوْلَى،وَهَذَا فِي غَيْرِ الأَْبَوَيْنِ،أَمَّا الأَْبَوَانِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ هَجْرُهُمَا وَلَوْ لِطَرْفَةِ عَيْنٍ (1) .
هجر الأقارب :
وإذا كان المهجور من ذوي الرّحم فإنّه كبيرة حتّى وإن لم تبلغ المدّة ثلاثة أيّام؛لأنّ الهجر هنا أضيف إليه قطيعة الرّحم،وقد عدّ الإمام الذّهبيّ هجر الأقارب مطلقا من الكبائر " (2)
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء
وقال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23)} سورة محمد
وقال تعالى :{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) } [الرعد:20 - 21]
وقال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا
__________
(1) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 ، وَمَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَابِيِّ 7 / 231 ،وَانْظُرْ فَتْح الْبَارِي 10 / 496 ،وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ الْمَالِكِيّ عَلَى كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 2 / 395 وَحَاشِيَة الْجُمَل 4 / 290
(2) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5682) والكبائر (47).(1/32)
أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة:26 - 27]
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ». (1)
فَمَنْ قَطَعَ أَقَارِبَهُ الضُّعَفَاءَ وَهَجَرَهُمْ وَتَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَصِلْهُمْ بِبِرِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَكَانَ غَنِيًّا وَهُمْ فُقَرَاءُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مَحْرُومٌ دُخُولَ الْجَنَّةِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيُحْسِنَ إلَيْهِمْ . (2)
وقال ابن حجر معقبا على قول الذهبي :
" قُلْت:مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ الْهَجْرِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ وَاضِحٌ،وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَمْ يَصِلْهُمْ إلَخْ فَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ مَمْنُوعٌ أَيْضًا وَكَفَى فِي مَنْعِهِ وَرَدِّهِ تَصْرِيحُ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ إنَّمَا يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَإِنْ عَلَوْا وَالْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا دُونَ بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ،وَبِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَرْحَامِ سُنَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ فَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالْمَالِ كَبِيرَةً لَمْ يَسَعْ إطْلَاقَ الْأَئِمَّةِ نَدْبُ ذَلِكَ،وَأَيْضًا فَتَعْبِيرُهُمْ بِالْقَطْعِ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ فَقُطِعَ،وَبِهِ يَتَأَيَّدُ مَا قَدَّمْته وَقَرَّرْته فِي مَعْنَى قَطْعِ الرَّحِمِ مُخَالِفًا فِيهِ كُلًّا مِنْ تَفْسِيرِ أَبِي زُرْعَةَ وَمُقَابِلِهِ .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6685 )
(2) - الكبائر - (1 / 16) و الزواجر عن اقتراف الكبائر - (2 / 423)(1/33)
وقال:نَعَمْ يَنْبَغِي لِلْمُوَفِّقِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذَا الْقَوْلَ وَأَنْ يُبَالِغَ فِيمَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى أَقَارِبِهِ لِمَا يَأْتِي قَرِيبًا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْمُؤَكَّدَةِ فِي ذَلِكَ وَالدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِهِ وَرِفْعَةِ مَحَلِّهِ ." (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ » (2) .
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَجُلاً قَالَ:يَا نَبِيَّ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،فَقَالَ الْقَوْمُ:مَالَهُ مَالَهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَرَبٌ مَالَهُ،قَالَ رَسُولُ اللهِ:تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَصِلُ الرَّحِمَ ذَرْهَا،قَالَ:كَأَنَّهُ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ. (3)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - ،بِخِصَالٍ مِنَ الْخَيْرِ:أَوْصَانِي:بِأَنْ لاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي،وَأَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي،وَأَوْصَانِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ،وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإِنْ أَدْبَرَتْ،وَأَوْصَانِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ،وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ
__________
(1) - الزواجر عن اقتراف الكبائر - (2 / 424)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6138 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1396 ) وصحيح مسلم- المكنز - (113) وصحيح ابن حبان - (8 / 38)(3246)(1/34)
مُرًّا،وَأَوْصَانِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ،فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:أَتَى رَجُلٌ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي،وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ،وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ،وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ،فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ،فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ،وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظُهَيْرٌ،مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ. (2)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي،قَالَ:أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا رَأْسُ أَمْرِكَ ،...قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي،قَالَ:انْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَكَ وَلا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكَ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لا تَزْدَرِي نِعْمَةَ اللَّهِ عِنْدَكَ،قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي،قَالَ:صِلْ قَرَابَتَكَ وَإِنْ قَطَعُوكَ،قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي،قَالَ:لا تَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ،قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي،قَالَ:تُحِبُّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ .." (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،مَا فَوَاضِلُ الْأَعْمَالِ ؟ قَالَ:" أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ،وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ،وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ " (4)
جَزَاءُ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ :
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 194) (449) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6689 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 195) (450) وانظر نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5332)
الظهير : المعين الدافع لأذاهم -المل : الرماد الحار الذى يحمى ليدفن فيه الطعام لينضج
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 214) (1628) حسن لغيره
(4) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (4 / 2151) (5387 ) حسن لغيره(1/35)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ » (1) .
قَال ابْنُ عَلاَّنٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ:فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ دَخَل النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مَعَ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ،أَوْ دَخَل النَّارَ خَالِدًا مُؤَبَّدًا إِنِ اسْتَحَل ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهِ وَالإِْجْمَاعِ عَلَيْهَا (2) .
وعَنْ أَبِى خِرَاشٍ السُّلَمِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ». (3)
قَال ابْنُ عَلاَّنٍ:فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الإِْثْمُ كَسَفْكِ دَمِهِ إِي إِرَاقَتِهِ عُدْوَانًا (4) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:إِنَّهُ إِذَا اعْتَزَل كَلاَمَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ،وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ.قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ (5) ،وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَال:إِذَا اعْتَزَل كَلاَمَهُ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ،وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْذٍ لَهُ (6)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ يُتَوَقَّى فِيهَا وَيُحْتَاطُ،وَتَرْكُ الْمُكَالَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي بَاطِنِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا،فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ (7) .
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4916 ) صحيح
(2) - دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 445 - 446 .
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4917 ) صحيح
(4) - دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 445 - 446 .
(5) - فَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَالأُْبِّيّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 7 / 16 .
(6) - الْمُنْتَقَى 7 / 215 .
(7) - انْظُرْ فَتْح الْبَارِي 15 / 496 .(1/36)
الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ :
قَال الْعُلَمَاءُ:لاَ يَجُوزُ الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :أَنَّهُ كَانَ لاَ يَأْخُذُ بِالْقَرَفِ وَلاَ يَقْبَل قَوْل أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ (1) ،قَال الْمُنَاوِيُّ:وُقُوفًا مَعَ الْعَدْل لأَِنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِهِ الْمُعْتَبَرِ،وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:قَال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" إِذَا كَانَ لَكَ أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ تُمَارِهِ وَلاَ تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ،فَرُبَّمَا قَال لَكَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَال بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ " (2) .
هل يزولُ الْهَجْرُ بِالسَّلاَمِ ؟ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْهَجْرِ يَزُول بِالسَّلاَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا:لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ،وَهُوَ أَنَّ السَّلاَمَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ وَيَرْفَعُ إِثْمَهَا وَيُزِيلُهُ (3) .
وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ:وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ،وَقَالُوا:فَلَوْلاَ أَنَّ السَّلاَمَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ لَمَا كَانَ أَفْضَلُهَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ (4) .
__________
(1) - أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةِ ( 6 / 310 ط السَّعَادَة ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك ، وَقَال : " غَرِيب " ، وَضَعَّفَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( 5 / 18 - بِشَرْحِهِ الْفَيْض - ط الْمَكْتَبَة التِّجَارِيَّة ) ، وَالْقِرْف - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُون الرَّاءِ - التُّهْمَة .
(2) - فَيْض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير 5 / 181 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 240 وَمَا بَعْدَهَا .
(3) - عُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 179 ، وَمِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 ، وَالنَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَالْمُنْتَقَى 7 / 215 ، وَالأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 274 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 244
(4) - النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَالْمُنْتَقَى 7 / 215 .(1/37)
وَالثَّانِي:لأَِحْمَدَ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ،وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْكَلاَمِ إِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ تَنْقَطِعِ الْهِجْرَةُ بِالسَّلاَمِ (1) .
قَال أَبُو يَعْلَى:ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلاَمِ،بَل حَتَّى يَعُودَ إِلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْل الْهِجْرَةِ،ثُمَّ قَال:وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلاَمِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الاِجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ؛لأَِنَّ الْهِجْرَةَ لاَ تَزُول إِلاَّ بِعَوْدَتِهِ إِلَى عَادَتِهِ مَعَهُ (2)
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّةِ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ وَلاَ يُكَلِّمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ،بَل يَجْتَنِبُ كَلاَمَهُ:إِذَا كَانَ - أَيِ اجْتِنَابُ مُكَالَمَتِهِ - غَيْرَ مُؤْذٍ لَهُ،فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الشَّحْنَاءِ،وَإِنْ كَانَ مُؤْذِيًا لَهُ،فَلاَ يَبْرَأُ مِنْهَا (3) .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل:أَنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يُؤْذِيهِ تَرْكُ مُكَالَمَتِهِ،فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنَ الْهِجْرَةِ؛لأَِنَّهُ أَتَى مِنَ الْمُوَاصَلَةِ بِمَا لاَ أَذًى فِيهِ،وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ،فَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ؛لأَِنَّ الأَْذَى أَشَدُّ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ (4) .
فَضْل الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ بَعْدَ الْهَجْرِ:
تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ أَحَدُ الْمُتَهَاجِرَيْنِ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ فَلَمْ يَرُدَّ الآْخَرُ،فَإِنَّ إِثْمَ الْهَجْرِ يَسْقُطُ عَنْ مُلْقِي السَّلاَمِ،وَيَبُوءُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ رَدِّهِ
__________
(1) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَالنَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَعُمْدَة الْقَارِئ 18 / 179 .
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 254 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 274 .
(3) - الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 .
(4) - الْمُنْتَقَى 7 / 215 .(1/38)
بِالإِْثْمِ،وَيَصِيرُ بِذَلِكَ فَاسِقًا،وَيَحِل هِجْرَانُهُ (1) ،يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَحِل لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاَثٍ،فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ،فَلْيَلْقَهُ،فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ،فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الأَْجْرِ،وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالإِْثْمِ" . (2)
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ:يَجِبُ هَجْرُهُ لِعَدَمِ رَدِّ السَّلاَمِ؛لأَِنَّهُ فَاسِقٌ،وَلاَ خَيْرَ فِيهِ أَصْلاً وَذَلِكَ تَأْدِيبًا (3)
هَذَا،وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ الآْنِفِ الذِّكْرِ إِلَى أَنَّ خَيْرَ الْمُتَهَاجِرَيْنِ مَنْ يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ،أَيْ أَفْضَلَهُمَا وَأَكْثَرَهُمَا ثَوَابًا.قَال الْبَاجِيُّ:لأَِنَّهُ الَّذِي بَدَأَ بِالْمُوَاصَلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا،وَتَرَكَ الْمُهَاجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا،مَعَ أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِهَا أَشَدُّ مِنَ الْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهَا (4)
وَقِيل:لِدَلاَلَةِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّوَاضُعِ وَأَنْسَبُ إِلَى الصَّفَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ،وَلإِِشْعَارِهِ بِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ،وَلإِِيمَائِهِ إِلَى حِفْظِ الْعَهْدِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمَوَدَّةِ الْقَدِيمَةِ (5) .
ثَالِثًا:هَجْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ :
__________
(1) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 .
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (4914) حسن لغيره ، وَصَحَّحَ إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي ( 10 / 495ط السَّلَفِيَّة ) .
(3) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 .
(4) - الْمُنْتَقَى شَرْح الْمُوَطَّأ 7 / 215 .
(5) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 .(1/39)
أَمَّا هَجْرُ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ،فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ ثَلاَثٍ؛لأَِنَّ الْمُرَادَ بِالأُْخُوَّةِ فِي الْحَدِيثِ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ،فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (1) .
قَال الطِّيبِيُّ:وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِشْعَارٌ بِالْعِلِّيَّةِ،وَالْمُرَادُ بِهِ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ،وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ وَقَطَعَ هَذِهِ الرَّابِطَةَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (2) .
رَابِعًا:تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ لِنُشُوزِهَا بِالْهَجْرِ :
لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ إِذَا نَشَزَتْ بِأُمُورٍ مِنْهَا هَجْرُهَا فِي الْمَضْجَعِ،لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء. (3)
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ هَجْرَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ النَّاشِزَةِ يَنْقَضِي جَوَازُهُ بِانْقِضَاءِ نُشُوزِهَا وَرُجُوعِهَا عَنْهُ وَعَوْدَتِهَا إِلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى
__________
(1) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496 .
(2) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 .
(3) - انظر َالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ ( نُشُوز ف 15 ) من الموسوعة الفقهية .(1/40)
عَلَيْهَا طَاعَتَهُ فِيهِ؛لأَِنَّهَا بِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ أَقْلَعَتْ عَمَّا اسْتَحَقَّتْ بِهِ الْهَجْرَ وَاعْتُبِرَتْ بِهِ نَاشِزًا (1)
مَا يَنْقَضِي بِهِ جَوَازُ هَجْرِ الزَّوْجَةِ:وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ النُّشُوزِ:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء.
خَامِسًا:هَجْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي زَجْرًا وَتَأْدِيبًا :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَجْرِ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ أَوِ الْبِدَعِ وَالأَْهْوَاءِ،لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،عَلَى سَبِيل الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ (2)
قَال الْبَغَوِيُّ:فَأَمَّا هِجْرَانُ أَهْل الْعِصْيَانِ وَالرَّيْبِ فِي الدِّينِ،فَشُرِعَ إِلَى أَنْ تَزُول الرِّيبَةُ عَنْ حَالِهِمْ وَتَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ (3)
__________
(1) - بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334 ، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 174 ، وَالأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ ( 5 / 112 و 194 دَار الْمَعْرِفَة - بَيْرُوت ) ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209 ، وَمَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل ( دَار الْحِكْمَةِ ) 2 / 227 .
(2) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَعُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 186 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 244 ، الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط الرَّيَّان بِمِصْرَ ) 3 / 435 .
(3) - شَرْح السُّنَّة لِلْبَغْوَيْ 13 / 101 .(1/41)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ:إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ،وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ،لَمْ يَأْثَمْ إِنْ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ،وَإِلاَّ كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُل مَا هُوَ عَلَيْهِ،إِذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا،وَلاَ جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ (1) .
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ:لأَِنَّ الْحُبَّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضَ فِي اللَّهِ وَاجِبٌ،وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ مُؤَاخَاةِ الْبِدْعِيِّ حِفْظًا لِدِينِهِ،إِذْ قَدْ يَسْمَعُ مِنْ شُبَهِهِ مَا يَعْلَقُ بِنَفْسِهِ،وَفِي تَرْكِ مُؤَاخَاةِ الْفَاسِقِ رَدْعٌ لَهُ عَنْ فُسُوقِهِ (2) .
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ:الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ آثَرُوا فِرَاقَ نُفُوسِهِمْ لأَِجْل مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،فَهَذَا يَقُول:زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي.وَنَحْنُ لاَ نَسْخُوا أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ ! (3)
وَهِجْرَانُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ:الْهِجْرَانِ بِالْقَلْبِ،وَالْهِجْرَانِ بِاللِّسَانِ.فَهِجْرَانُ الْكَافِرِ بِالْقَلْبِ،وَبِتَرْكِ التَّوَدُّدِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ،لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا .
وَإِنَّمَا لَمْ يَشْرَعْ هِجْرَانُهُ بِالْكَلاَمِ لِعَدَمِ ارْتِدَاعِهِ بِذَلِكَ عَنْ كُفْرِهِ،بِخِلاَفِ الْعَاصِي الْمُسْلِمِ،فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِذَلِكَ غَالِبًا.وَيَشْتَرِكُ كُلٌّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُكَالَمَتِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (4) .
__________
(1) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 256 .
(2) - الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات لاِبْن رُشْد ( ط دَار الْغَرْبِ الإِْسْلاَمِيّ ) 3 / 446 .
(3) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 235
(4) - فَتْح الْبَارِي 10 / 497 .(1/42)
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِذَلِكَ وَمَا يُشْتَرَطُ لَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا:يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ أَوِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الاِعْتِقَادِيَّةِ.قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَالثَّانِي:يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا،فَلاَ يُكَلَّمُ وَلاَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ،وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ،وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُعْتَقَدِهِ،وَقَال:لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلاَحًا .
وَالثَّالِثُ:يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلاَمِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ .
وَالرَّابِعُ:يَجِبُ هَجْرُهُ إِنِ ارْتَدَعَ بِذَلِكَ،وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا (2) .
وَالْخَامِسُ:يَجِبُ هَجْرُ مَنْ كَفَرَ أَوْ فَسَقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إِلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَوْ خَافَ الاِغْتِرَارَ بِهِ وَالتَّأَذِّيَ دُونَ غَيْرِهِ.أَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى الرَّدِّ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَجْرُ؛لأَِنَّ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَيُنَاظِرُهُمْ يَحْتَاجُ إِلَى مُشَافَهَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ لأَِجْل ذَلِكَ.وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ.وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (3) .
وَالسَّادِسُ:أَنَّ هِجْرَانَ ذِي الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوِ الْمُتَجَاهِرِ بِالْكَبَائِرِ وَاجِبٌ بِشَرْطَيْنِ :
__________
(1) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229 ، 237 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 259 ، 268 .
(3) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 237 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 269 .(1/43)
أَحَدُهُمَا:أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى عُقُوبَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْحَدِّ وَبَقِيَّةِ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ فِي كُل شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ - إِذَا كَانَ لاَ يَتْرُكُهَا إِلاَّ بِالْعُقُوبَةِ،بِحَيْثُ إِذَا قَدَرَ عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَزِمَهُ.وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِمَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الأَْرْضِ،هَذَا إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ،أَمَّا إِذَا خَافَ مِنْهُ إِذَا تَرَكَ مُخَالَطَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ.وَالْمُدَارَاةُ هِيَ أَنْ يُظْهِرَ خِلاَفَ مَا يُضْمِرُ لاِكْتِفَاءِ الشَّرِّ وَحِفْظِ الْوَقْتِ،بِخِلاَفِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي مَعَهَا إِظْهَارُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنَ الدُّنْيَا .
وَالثَّانِي:أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى مَوْعِظَتِهِ،لِشِدَّةِ تَجَبُّرِهِ،أَوْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا لَكِنَّهُ لاَ يَقْبَلُهَا؛لِعَدَمِ عَقْلٍ وَنَحْوِهِ .
أَمَّا لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ زَجْرِهِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ بِعُقُوبَتِهِ بِيَدِهِ - إِنْ كَانَ حَاكِمًا أَوْ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ بِرَفْعِهِ لِلْحَاكِمِ - أَوْ بِمُجَرَّدِ وَعْظِهِ ،لَوَجَبَ عَلَيْهِ زَجْرُهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ فِعْل الْكَبَائِرِ،وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِهَجْرِهِ.وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالسَّابِعُ:أَنَّ هِجْرَانَ أَهْل الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ وَالْمُتَظَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي وَتَرْكِ السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ،وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ.وَهُوَ قَوْل ابْنِ تَمِيمٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالثَّامِنُ:أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ عَلاَنِيَةً،وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غِيبَةٌ،وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلاَنِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ،فَلاَ
__________
(1) - كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 395 ، 396 .
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229 ، 237 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 259 ، 269 .(1/44)
يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذَا كَانَ الْفَاعِل لِذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ،فَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أَظْهَرَ لَهُ الْخَيْرَ.وَهُوَ قَوْل تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (1)
وَقَال:الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا:بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ.وَالثَّانِي:بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا.وَهُوَ الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ،وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ،يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا،كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَنْزَل اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ،حِينَ ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ،وَلَمْ يَهْجُرْ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا،فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ (2) .
وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ،فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْل حَالِهِ،فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إِلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخُفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا،وَإِنْ كَانَ لاَ الْمَهْجُورُ وَلاَ غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ،بَل يَزِيدُ الشَّرُّ،وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ تَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشْرَعِ الْهَجْرُ،بَل يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنَ الْهَجْرِ،وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنَ التَّأْلِيفِ .
__________
(1) - الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط دَار الرَّيَّان بِالْقَاهِرَةِ ) 3 / 435 ، وَمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 217 ، 218 .
(2) - مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 203 .(1/45)
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ،كَمَا أَنَّ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ،فَكَانَ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ.وَهَؤُلاَءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ،وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ،فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ،وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدْوِ الْقِتَال تَارَةً،وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً،وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً.كُل ذَلِكَ بِحَسَبِ الأَْحْوَال وَالْمَصَالِحِ (1) .
هَجْرُ الْمُسْتَتِرِ بِالْمَعْصِيَةِ :
أَمَّا الْمُسْتَتِرُونَ مِنْ أَهْل الْفِسْقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ،فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَجْرِهِمْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا:يَجِبُ هَجْرُهُمْ؛لِيَكُفُّوا عَنْهَا.قَال ابْنُ حَجَرٍ مُعَلِّقًا عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ - بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى - فَتَبَيَّنَ هُنَا السَّبَبُ الْمُسَوِّغُ لِلْهَجْرِ،هُوَ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ،فَيَسُوغُ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْهُ هَجْرُهُ عَلَيْهَا لِيَكُفَّ عَنْهَا (2) .
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءُ الْحَنْبَلِيُّ:لاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ - أَيْ عَنْ أَحْمَدَ - فِي وُجُوبِ هَجْرِ أَهْل الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ،وَظَاهِرُ إِطْلاَقِهِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ وَغَيْرِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ الْفَاسِقِ.قَال:وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ وَالأَْجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى.فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَقُّ لآِدَمِيٍّ كَالْقَذْفِ
__________
(1) - مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 204 - 206 ، وانظرها 28 / 216 أَيْضًا .
(2) - فَتْح الْبَارِي 10 / 497(1/46)
وَالسَّبِّ وَالْغِيبَةِ أَخَذَ مَالَهُ غَصْبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ نَظَرَ:فَإِنْ كَانَ الْهَاجِرُ وَالْفَاعِل لِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَرْحَامِهِ لَمْ تَجُزْ هِجْرَتُهُ .وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهَل تَجُوزُ هِجْرَتُهُ أَمْ لاَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي:لاَ يَهْجُرُونَ.حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ ظَاهِرِ كَلاَمٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) .
وَالثَّالِثُ:أَنَّ فَاعِل الْمُنْكَرِ إِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَلِكَ وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسَتَرَ عَلَيْهِ لحديث سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ،قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (3)
إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ،وَالْمُتَعَدِّي لاَ بُدَّ مِنْ كَفِّ عُدْوَانِهِ.وَإِذَا نَهَاهُ الْمَرْءُ سِرًّا فَلَمْ يَنْتَهِ،فَعَل مَا يُنْكَفُ بِهِ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ.وَهُوَ قَوْل تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (4) .
هَجْرُ مَكَانِ الْمَعْصِيَةِ :
__________
(1) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 238 ، وغذاء الأَْلْبَاب 9 / 259 )
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 233 ، وغذاء الأَْلْبَاب 1 / 260
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2442) وصحيح مسلم- المكنز - (6743 ) و صحيح ابن حبان - (2 / 291)(533)
(4) - الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط الرَّيَّان ) 3 / 434 ، ومجموع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 217(1/47)
قَال الْعُلَمَاءُ:مُجَالَسَةُ أَهْل الْمُنْكَرِ لاَ تَحِل،وَقَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ:مَنْ خَاضَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تُرِكَتْ مُجَالَسَتُهُ وَهُجِرَ،مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا،وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء .
قَال الْقُرْطُبِيُّ:فَدَل بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ ؛لأَِنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ،وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ .
وَقَال الْجَصَّاصُ:وَفِي هَذِهِ الآْيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى وُجُوبِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى فَاعِلِهِ،وَأَنَّ مِنْ إِنْكَارِهِ إِظْهَارُ الْكَرَاهِيَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ وَتَرْكُ مُجَالَسَةِ فَاعِلِهِ وَالْقِيَامُ عَنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَيَصِيرَ إِلَى حَالٍ غَيْرِهَا (1)
من مضار (الهجر)
(1) الهجر صفة قبيحة تسخط اللّه- عزّ وجلّ- على المتهاجرين.
(2) وهو سبب في تأخير المغفرة من اللّه- عزّ وجلّ-.
(3) الهجر بين الإخوان فوق ثلاث حرام،ويسبّب تفكّكا اجتماعيّا.
__________
(1) - تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 417 - 418 ، 7 / 13 ، وأحكام الْقُرْآن لِلْجَصَّاصِ 2 / 353 ، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 2 / 260 ، ودليل الْفَالِحِينَ 1 / 98 ط الْحَلَبِيّ ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (7 / 101)(1/48)
(4) هجر المرأة فراش زوجها سبب في لعنة اللّه والملائكة لها.
(5) الهجر من حبائل الشّيطان. يغوي بها أتباعه حتّى يسوقهم إلى الجحيم. (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5690)(1/49)
أهم المصادر
1. صحيح البخارى- المكنز -
2. صحيح مسلم- المكنز -
3. صحيح ابن حبان
4. شعب الإيمان
5. مسند أحمد (عالم الكتب)
6. الموسوعة الفقهية الكويتية
7. تَهْذِيب الأَْسْمَاء وَاللُّغَات
8. الْجَامِعِ لأَِحْكَامِ الْقُرْآنِ ط دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ،لُبْنَان )
9. مُغْنِي الْمُحْتَاج ( ط دَار الْفِكْرِ )
10. كَشَّاف الْقِنَاع
11. الدَّرّ الْمُخْتَار وَرَدّ الْمُحْتَارِ ( دَار إِحْيَاء التُّرَاثِ الْعَرَبِيِّ )
12. الشَّرْح الْكَبِير مَعَ حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيّ ( دَار الْفِكْرِ )
13. حَاشِيَة الْقَلْيُوبِيّ
14. الْمُغْنِي ( دَار الْمَنَار - الْقَاهِرَة )
15. نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم
16. الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي
17. معرفة الصحابة لأبي نعيم
18. مسند الشاميين
19. المعجم الكبير للطبراني
20. فَتْح الْبَارِي
21.(1/50)
دَلِيل الْفَالِحِين
22. مِرْقَاة الْمَفَاتِيح لِلْمَلاَ عَلِي الْقَارِّيّ
23. الْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ( ط دَارَ الْفَرْقَانِ ) ،
24. عُمْدَة الْقَارِّيّ
25. الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي
26. كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ
27. الآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح
28. الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم
29. مَعَالِم السُّنَنِ ( بِهَامِشٍ مُخْتَصِرٍ سُنَن أَبِي دَاوُد لِلْمُنْذِرِي .
30. غِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني
31. صَحِيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ ( ط الْمَطْبَعَة الْمِصْرِيَّة )
32. حَاشِيَة الْجُمَل
33. الكبائر للذهبي
34. سنن أبي داود - المكنز -
35. دَلِيل الْفَالِحِينَ
36. حلية الأولياء لأبي نعيم
37. فَيْض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير 5
38. الْمُنْتَقَى شَرْح الْمُوَطَّأ
39. بَدَائِع الصَّنَائِع
40. الأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ ( دَار الْمَعْرِفَة - بَيْرُوت )
41. مَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل ( دَار الْحِكْمَةِ )
42. الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط الرَّيَّان بِمِصْرَ )
43. شَرْح السُّنَّة لِلْبَغْوَيْ
44.(1/51)
َمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ
45. أحكام الْقُرْآن لِلْجَصَّاصِ
46. أَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ
47. المكتبة الشاملة 3
48. برنامج قالون(1/52)
الفهرس العام
الباب الأول ... 3
الباب الأول ... 3
الأحاديث الواردة في الهجر ... 3
الباب الثاني ... 23
أحكام الهجر الشرعية ... 23
تعريف الهجر : ... 23
أ - التَّرْكُ : ... 24
ب - النُّشُوزُ: ... 24
ج - الْبُغْضُ: ... 25
الفرق بين التّهاجر والتّدابر والتّشاحن: ... 25
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَجْرِ : ... 26
أَوَّلاً:هَجْرُ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ : ... 26
ثَانِيًا:هَجْرُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ: ... 28
هجر الأقارب : ... 32
جَزَاءُ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ : ... 35
الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ : ... 37
هل يزولُ الْهَجْرُ بِالسَّلاَمِ ؟ : ... 37
فَضْل الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ بَعْدَ الْهَجْرِ: ... 38
ثَالِثًا:هَجْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ : ... 39
رَابِعًا:تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ لِنُشُوزِهَا بِالْهَجْرِ : ... 40(1/53)
خَامِسًا:هَجْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي زَجْرًا وَتَأْدِيبًا : ... 41
هَجْرُ الْمُسْتَتِرِ بِالْمَعْصِيَةِ : ... 46
هَجْرُ مَكَانِ الْمَعْصِيَةِ : ... 47
من مضار (الهجر) ... 48(1/54)