وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا يصح الوقف على الكنائس الّتي للتّعبد , ولو كان الوقف من ذمّيٍّ , وسواء فيه إنشاء الكنائس وترميمها , منعنا التّرميم أو لم نمنعه , لأنّه إعانة على المعصية , وكذلك لا يجوز الوقف على حصرها , أو الوقود بها أو على ذمّيٍّ خادمٍ لكنيسة للتّعبد .
ويجوز الوقف على كنيسةٍ تنزلها المارّة , أو موقوفة على قومٍ يسكنونها .
وقال الحنابلة : لا يصح الوقف على كنائس وبيوت نارٍ , وصوامع , وديورةٍ ومصالحها كقناديلها وفرشها ووقودها وسدنتها , لأنّه معونة على معصيةٍ ولو كان الوقف من ذمّيٍّ . ويصح الوقف على من ينزلها من مارٍّ ومجتازٍ بها فقط , لأنّ الوقف عليهم لا على البقعة , والصّدقة عليهم جائزة .
الوصيّة لبناء المعابد وتعميرها :
33 - اختلف الفقهاء في جواز الوصيّة لبناء الكنيسة أو تعميرها أو نحوهما على أقوالٍ كما يلي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا أوصى الذّمّي أن تبنى داره بيعةً أو كنيسةً فإذا كانت الوصيّة لمعيّنين أي : معلومين يحصى عددهم فهو جائز من الثلث اتّفاقاً بينهم , لأنّ الوصيّة فيها معنى الاستخلاف ومعنى التّمليك , وللذّمّيّ ولاية ذلك فأمكن تصحيحه على اعتبار المعنيين , ولكن لا يلزمهم جعلها كنيسةً ويجعل تمليكاً , ولهم أن يصنعوا به ما شاءوا .
وأمّا إن أوصى لقوم غير مسمّين صحّت الوصيّة عند أبي حنيفة , لأنّهم يتركون وما يدينون , فتصح لأنّ هذا قربة في اعتقادهم , ولا يصح عند الصّاحبين , لأنّه معصية , والوصيّة بالمعاصي لا تصح لما في تنفيذها من تقريرها .
وهذا الخلاف فيما إذا أوصى ببناء بيعةٍ أو كنيسةٍ في القرى , فأمّا في المصر فلا يجوز بالاتّفاق بينهم , لأنّهم لا يمكّنون من إحداث ذلك في الأمصار .
وقال المالكيّة : إن أوصى نصراني بماله لكنيسة ولا وارث له دفع الثلث إلى الأسقف يجعله حيث ذكره , والثلثان للمسلمين .(2/214)
وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تصح الوصيّة لكنيسة ولا لحصرها , ولا لقناديلها ونحوه , ولا لبيت نارٍ ولا لبيعة ولا صومعةٍ ولا لدير ولا لإصلاحها وشغلها وخدمتها , ولا لعمارتها ولو من ذمّيٍّ , لأنّ ذلك إعانة على معصيةٍ , ولأنّ المقصود من شرع الوصيّة تدارك ما فات في حال الحياة من الإحسان , فلا يجوز أن تكون في جهة معصيةٍ .
وقيّد الشّافعيّة عدم جواز الوصيّة بما إذا كانت الكنيسة للتّعبد فيها , بخلاف الكنيسة الّتي تنزلها المارّة أو موقوفةً على قومٍ يسكنونها , أو جعل كراءها للنّصارى أو للمسلمين جازت الوصيّة , لأنّه ليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتّخذ لمصلّى النّصارى الّذين اجتماعهم فيها على الشّرك .
قال النّووي : وعدوا من الوصيّة بالمعصية ما إذا أوصى لدهن سراج الكنيسة , لكن قيّد الشّيخ أبو حامدٍ : المنع بما إذا قصد تعظيم الكنيسة , أمّا إذا قصد تعظيم المقيمين أو المجاورين بضوئها فالوصيّة جائزة , كما لو أوصى بشيء لأهل الذّمّة .
حكم المعابد بعد انتقاض العهد :
34 - قال ابن القيّم : متى انتقض عهد أهل الذّمّة جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلاً عن كنائس العنوة , كما أخذ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم ما كان لقريظة والنّضير لمّا نقضوا العهد , فإنّ ناقض العهد أسوأ حالاً من المحارب الأصليّ , ولذلك لو انقرض أهل مصرٍ من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنّه يصير جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئاً للمسلمين .
=================
المفارقة في النّكاح (1):
تقع المفارقة في النّكاح لأسباب منها :
أوّلاً : الجمع بين أكثر من أربع زوجاتٍ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14267)(2/215)
16 - لا يجوز للمسلم الحرّ أن يجمع بين أكثر من أربع زوجاتٍ في وقتٍ واحدٍ لقول اللّه تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } , فإذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع زوجاتٍ أسلمن معه وجب عليه مفارقة ما زاد على الأربع , وهذا باتّفاق الفقهاء .
واستدلوا على ذلك بما رواه عبد اللّه بن عمر : « أنّ غيلان بن سلمة أسلم وعنده تسع نسوةٍ فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يختار منهنّ أربعاً » .
وتختلف كيفيّة المفارقة بين من كان كافراً وكان في عصمته أكثر من أربع زوجاتٍ ثمّ أسلم وأسلمن معه , وبين المسلم الّذي يجمع في عصمته أكثر من أربع زوجاتٍ في وقتٍ واحدٍ . فمن كان كافراً وأسلم وفي عصمته أكثر من أربع زوجاتٍ وأسلمن معه فقد ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّه لا يشترط فيمن يفارقهنّ أو يختارهنّ ترتب عقودهنّ فسواء تزوّجهنّ في عقدٍ واحدٍ أو عقودٍ متفرّقةٍ وسواء كان من فارقهنّ أو اختارهنّ أوائل في العقد أو أواخر , ووجه ذلك كما قال الإمام الشّافعي والقرافي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم على أكثر من أربعٍ أن يفارق ما زاد على الأربع وأطلق الحكم ولم يستفصل عن كيفيّة نكاحهنّ , وترك الاستفصال في حكاية الأحوال مع قيام الاحتمال منزّل منزلة العموم في المقال ولولا أنّ الحكم يعم الحالين لما أطلق ذلك .
وقد روى الشّافعي عن نوفل بن معاوية قال : « أسلمت وتحتي خمس نسوةٍ فسألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : فارق واحدةً وأمسك أربعاً ، فعمدت إلى أقدمهنّ عندي عاقرٍ منذ ستّين سنةً ففارقتها » .(2/216)
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : لو تزوّج كافر بخمس نسوةٍ ثمّ أسلم , فإن كان تزوّجهنّ في عقدةٍ واحدةٍ فرّق بينه وبينهنّ جميعاً , وإن كان تزوّجهنّ في عقودٍ متفرّقةٍ صحّ نكاح الأربع وبطل نكاح الخامسة ، لأنّ الجمع محرّم على المسلم والكافر جميعاً ، لأنّ حرمته ثبتت لمعنى معقولٍ وهو خوف الجور في إيفاء حقوقهنّ .
وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم والكافر إلا أنّه لا يتعرّض لأهل الذّمّة مع قيام الحرمة ، لأنّ ذلك ديانتهم وهو غير مستثنىً من عهودهم وقد نهينا عن التّعرض لهم عن مثله بعد إعطاء الذّمّة وليس لنا التّعرض لأهل الحرب فإذا أسلم فقد زال المانع , فلا يمكّن من استيفاء الجمع بعد الإسلام بين أكثر من أربعٍ , فإذا كان تزوّج الخمس في عقدةٍ واحدةٍ فقد حصل نكاح كلّ واحدةٍ منهنّ جميعاً إذ ليست إحداهنّ بأولى من الأخرى والجمع محرّم وقد زال المانع من التّعرض فلا بدّ من الاعتراض بالتّفريق , فأمّا إن كان تزوّجهنّ على التّرتيب في عقودٍ متفرّقةٍ فنكاح الأربع منهنّ وقع صحيحاً لأنّ الحرّ يملك التّزوج بأربع نسوةٍ مسلماً كان أو كافراً ولم يصحّ نكاح الخامسة لحصوله جمعاً فيفرّق بينهما بعد الإسلام .
وإذا تزوّج الحربي بأربع نسوةٍ ثمّ سُبي هو وسُبِين معه فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرّق بينه وبين الكلّ سواء تزوّجهنّ في عقدةٍ واحدةٍ أو في عقدٍ متفرّقةٍ , لأنّ نكاح الأربع وقع صحيحاً , لأنّه كان حراً وقت النّكاح , والحر يملك التّزوج بأربع نسوةٍ مسلماً كان أو كافراً إلا أنّه تعذّر الاستيفاء بعد الاسترقاق لحصول الجمع من العبد في حال البقاء بين أكثر من اثنتين , والعبد لا يملك الاستيفاء فيقع جمعاً بين الكلّ ففرّق بينه وبين الكلّ ولا يخيّر فيه كما إذا تزوّج رضيعتين فأرضعتهما امرأة بطل نكاحها ولا يخيّر كذا هذا , وعند محمّدٍ يخيّر فيه فيختار اثنتين منهنّ كما يخيّر الحر في أربع نسوةٍ من نسائه ويفارق الباقي .(2/217)
17 - ويوضّح ابن قدامة صفة المفارقة فيقول : إن قال لمّا زاد على الأربع فسخت نكاحهنّ كان اختياراً للأربع , وإن طلّق إحداهنّ كان اختياراً لها لأنّ الطّلاق لا يكون إلا في زوجةٍ , وإن قال : قد فارقت هؤلاء أو اخترت فراق هؤلاء , فإن لم ينو الطّلاق كان اختياراً لغيرهنّ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لغيلان : « اختر منهنّ أربعاً وفارق سائرهنّ » وهذا يقتضي أن يكون لفظ الفراق صريحاً فيه كما كان لفظ الطّلاق صريحاً فيه , وكذا في حديث فيروز الدّيلميّ قال : « فعمدت إلى أقدمهنّ صحبةً ففارقتها » , وهذا الموضع أخص بهذا اللّفظ فيجب أن يتخصّص فيه بالفسخ , وإن نوى به الطّلاق كان اختياراً لهنّ دون غيرهنّ , وذكر القاضي من الحنابلة فيه عند الإطلاق وجهين :
أحدهما : أنّه يكون اختياراً للمفارقات , لأنّ لفظ الفراق صريح في الطّلاق قال ابن قدامة : والأولى ما ذكرناه .
وقال ابن قدامة : إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع زوجاتٍ قد دخل بهنّ فأسلمن معه وكنّ ثمانياً فاختار أربعاً منهنّ وفارق أربعاً منهنّ لم يطأ واحدةً من المختارات حتّى تنقضي عدّة المفارقات لئلا يكون واطئاً لأكثر من أربعٍ , فإن كنّ خمساً ففارق إحداهنّ فله وطء ثلاثٍ من المختارات ولا يطأ الرّابعة حتّى تنقضي عدّة من فارقها , فإن كنّ ستاً ففارق اثنتين فله وطء اثنتين من المختارات فإن كنّ سبعاً ففارق ثلاثاً فله وطء واحدةٍ من المختارات ولا يطأ الباقيات حتّى تنقضي عدّة المفارقات فكلّما انقضت عدّة واحدةٍ من المفارقات فله وطء واحدةٍ من المختارات , وما سبق إنّما هو بالنّسبة للكافر الّذي أسلم على أكثر من أربع نسوةٍ .
أمّا المسلم الّذي يجمع بين أكثر من أربع نسوةٍ في عصمته في وقتٍ واحدٍ فإنّ الحكم يختلف بين ما إذا كان تزوّجهنّ بعقد واحدٍ وما إذا كان تزوّجهنّ بعقود متفرّقةٍ .(2/218)
فإذا كان تزوّجهنّ بعقد واحدٍ فلا بدّ من مفارقة جميعهنّ وهذا باتّفاق الفقهاء لأنّ النّكاح يبطل في جميعهنّ , إذ ليس إبطال نكاح واحدةٍ بأولى من الأخرى فبطل الجميع .
وكذلك الحكم لو كانت العقود متفرّقةً وجهل ترتيبها ولم يدر أيّ واحدةٍ هي الخامسة , فأمّا إن كانت العقود مترتّبةً فالأخيرة هي الّتي يجب مفارقتها وهذا باتّفاق كذلك .
=================
مُكُوس (1)
1 - المكوس : جمع مكسٍ ، وأصل المكس - في اللغة : النّقص والظلم , ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السّلع في الأسواق في الجاهليّة , أو درهم كان يأخذه المصدّق بعد فراغه من الصّدقة .
ويطلق المكس - كذلك - على الضّريبة يأخذها المكّاس ممّن يدخل البلد من التجّار .
وقال ابن عابدين : المكس ما يأخذه العشّار .
والماكس : هو الّذي يأخذ من أموال النّاس شيئاً مرتّباً في الغالب , ويقال له العشّار لأنّه يأخذ العشور في كثيرٍ من البلاد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - العشور»
2 - العشور : جمع عشرٍ , وهو لغةً الجزء من عشرة أجزاء .
وفي الاصطلاح يطلق على معنيين :
الأوّل : عشر التّجارات والبياعات .
والآخر : عشر الصّدقات أو زكاة الخارج من الأرض .
«ب - الجباية»
3 - الجباية في اللغة : الجمع يقال جبا المال والخراج : جمعه .
والجباية في الاصطلاح : جمع الخراج والمال .
والصّلة بين المكوس والجباية هي أنّ الجباية أعم لأنّ الجباية تشمل جمع المال من زكاةٍ أو صدقاتٍ أو غير ذلك .
«ج - الضّرائب»
4 - الضّرائب جمع ضريبةٍ , وهي الّتي تؤخذ في الأرصاد والجزية ونحوها .
وهي أيضاً : ما يأخذه الماكس .
والصّلة بينهما أنّ الضّريبة أعم .
«5 - الخراج»
5 - الخراج هو : ما يحصل من غلّة الأرض .
أمّا في الاصطلاح فهو كما قال الماورديّ ما وضع على رقاب الأرضين من حقوقٍ تؤدّى عنها .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14405)(2/219)
والصّلة بين الخراج والمكوس أنّ كلاً منهما يوضع في بيت المال للإنفاق على مصالح المسلمين , ويفترقان في أنّ الخراج يوضع على رقاب الأرض , أمّا المكس فيوضع على السّلع المعدّة للتّجارة .
«الحكم التّكليفي»
6 - من المكوس ما هو مذموم ومنهي عنه ومنها ما هو غير ذلك .
فالمكوس المذمومة والمنهي عنها هي غير نصف العشر الّذي فرضه عمر رضي اللّه عنه على تجارة أهل الذّمّة , وكذلك هي غير العشر الّذي ضربه على أموال أهل الحرب بمحضر من الصّحابة رضوان اللّه تعالى عليهم ولم ينكره عليه أحد منهم فكان إجماعاً سكوتياً .
وقد وردت في المكوس المذمومة والمنهيّ عنها - وهي غير ما سبق ذكره - نصوص تحرّمها وتغلّظ أمرها منها ما روي عن عقبة بن عامرٍ رضي اللّه عنه أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « لا يدخل الجنّة صاحب مكسٍ » .
قال البغويّ : يريد بصاحب المكس الّذي يأخذ من التجّار إذا مروا عليه مكساً باسم العشر أي الزّكاة , وقال الحافظ المنذري : أمّا الآن فإنّهم يأخذون مكساً باسم العشر , ومكساً آخر ليس له اسم , بل شيء يأخذونه حراماً وسحتاً , ويأكلونه في بطونهم ناراً , حجّتهم فيه داحضة عند ربّهم , وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
الشّهادة على المكوس :(2/220)
10 - تجوز الشّهادة على المكوس لأجل ردّ الحقوق إلى أربابها ، كما يجوز كتابتها حتّى لا يتكرّر أخذها : يقول أبو يوسف : حدّثني يحيى بن سعيدٍ عن زريق بن حبّان وكان على مكس مصر فذكر أنّ عمر بن عبد العزيز رضي اللّه تعالى عنه كتب إليه : أن انظر من مرّ عليك من المسلمين فخذ ممّا ظهر من أموالهم العين , وممّا ظهر من التّجارات من كلّ أربعين ديناراً ديناراً وما نقص فبحساب ذلك حتّى يبلغ عشرين ديناراً فإن نقصت تلك الدّنانير فدعها ولا تأخذ منها شيئاً , وإذا مرّ عليك أهل الذّمّة فخذ ممّا يديرون من تجاراتهم من كلّ عشرين ديناراً ديناراً فما نقص فبحساب ذلك حتّى تبلغ عشرة دنانير ثمّ دعها فلا تأخذ منها شيئاً , واكتب لهم كتاباً بما تأخذ منهم إلى مثلها من الحول .
================
إظهار أهل الذّمّة المنكر في دار الإسلام (1):
13 - يتضمّن عقد الذّمّة شروطاً يلزم أهل الذّمّة الالتزام بها ومنها عدم إظهار المنكر . وللتّفصيل أنظر مصطلح ( أهل الذّمّة ف / 9 ) .
==================
«إظهار أهل الذّمّة المنكر في دار الإسلام»(2)
13 - يتضمّن عقد الذّمّة شروطاً يلزم أهل الذّمّة الالتزام بها ومنها عدم إظهار المنكر . وللتّفصيل أنظر مصطلح « أهل الذّمّة ف / 9 » .
============
نقض(3)
1- النقض لغة إفساد ما أبرمته من عقد أو بناء أو غيره ، يقال نقضت الحبل نقضا حللت برمه ، ومنه يقال نقضت ما أبرمه إذا أبطلته ، فالنقض ضد الإبرام .
ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللغوي .
والنقض باعتباره من قوادح العلة هو إبداء الوصف المدعى عليته بدون وجود الحكم في صورة يعبر عنه بتخصيص الوصف .
ثانيا نقض العهود
أ- نقض الهدنة
ب- نقض الأمان
ج- نقض عقد الذمة
ثانيا نقض العهود
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14547)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14547)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 77 / ص 1)(2/221)
نقض العهود يشمل نقض الهدنة ، ونقض الأمان ، ونقض عقد الذمة .
أ- نقض الهدنة
8- إذا تعاهد المسلمون مع غير المسلمين على ترك القتال ، فإنه يجب على المسلمين الوفاء به ، قال تعالى { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا }
وتنقض الهدنة بأمور منها
- نقض الإمام إن علق بقاءها بمشيئته أو مشيئة غيره ، وهذا عند الشافعية والحنابلة ، وعند الحنفية إذا رأى في نقضها مصلحة للمسلمين .
- صدور خيانة من الكفار المهادنين كقتل مسلم وقتال مسلمين بلا شبهة وأخذ أموالهم وإيواء جاسوس ينقل أخبار المسلمين ومواضع الضعف فيهم لأهل الحرب .
- نقض من عقد لهم بصريح القول أو دلالته .
والتفصيل في مصطلح ( هدنة ) .
ب- نقض الأمان
9- إذا أمن الإمام أو مسلم بالغ حر من عامة المسلمين حربيا أو عددا محصورين من أهل الحرب فليس للإمام ولا أحد من الناس نقضه لخبر ( ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) إلا أن يخاف الإمام خيانة منهم ، لأن الأمان لازم من جهة المسلمين وجائز من جهة غير المسلمين ، فلهم أن ينقضوه وقت ما شاءوا ، فإن خاف 41 152 خيانتهم بأمارات ظاهرة فله نبذه عند الجمهور . وقال الحنفية إن للإمام نقض الأمان متى شاء وإن لم يصدر منهم ما يخالف عقد الأمان ولم تظهر منهم أماراتها .
ج- نقض عقد الذمة
10- ينتقض عقد الذمة بأمور منها
لحوق الذمي بدار الحرب ، أو التطلع على عورات المسلمين .
والتفصيل في مصطلح ( أهل الذمة ف 42 ) .
=============
و- الجزية(1)
14 - تفرض الجزية على رجال أهل الذمة ، فهي على الغني ثمانية وأربعون درهما في السنة ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما ، وعلى الفقير اثنا عشر درهما ، وهذا عند الحنفية ، وعند غيرهم خلاف وتفصيل ينظر في ( جزية ف 44 ) .
============
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 78 / ص 3)(2/222)
نكاح الكفار (1)
162 - اختلف الفقهاء في حكم نكاح الكفار غير المرتدين .
فذهب جمهور الفقهاء - الحنفية والشافعية على الصحيح والحنابلة وقول عند المالكية - إلى أن نكاح الكفار غير المرتدين بعضهم لبعض صحيح، لقول الله عز وجل { وقالت امرأة فرعون } سماها الله تعالى امرأته ولو كان نكاحهم فاسدا لم تكن امرأته حقيقة.
ولقول الله عز وجل { وامرأته حمالة الحطب } سماها الله تعالى امرأته، ولو كانت أنكحتهم فاسدة لم تكن امرأته حقيقة، ولأن النكاح سنة آدم عليه الصلاة والسلام فهم على شريعته في ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( "خرجت من نكاح غير سفاح " ) ولأن القول بفساد أنكحتهم يؤدي إلى أمر قبيح، وهو الطعن في نسب كثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن كثيرا منهم ولد من أبوين كافرين وما أفضى إلى قبيح ثبت فساده .
قال الحنفية يجوز نكاح أهل الذمة بعضهم لبعض وإن اختلفت شرائعهم، لأن الكفر كله ملة واحدة، إذ هو تكذيب الرب - سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا - فيما أنزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقال الله عز وجل { لكم دينكم ولي دين } واختلافهم في شرائعهم بمنزلة اختلاف كل فريق منهم فيما بينهم في بعض شرائعهم، وذا لا يمنع جواز نكاح 41 320 بعضهم لبعض كذا هذا .
وكل نكاح جاز بين المسلمين - وهو الذي استجمع شرائط الجواز - فهو جائز بين أهل الذمة، وأما ما فسد بين المسلمين من الأنكحة فإنها منقسمة في حقهم منها ما يصح ومنها ما يفسد.
قال الكاساني وهذا قوله أصحابنا الثلاثة، وقال زفر كل نكاح فسد في حق المسلمين فسد في حق أهل الذمة حتى لو أظهروا النكاح بغير شهود يعترض عليهم، ويحملون على أحكامنا، وإن لم يرفعوا إلينا، وكذا إذا أسلموا يفرق بينهما عنده، وعندنا لا يفرق بينهما وإن تحاكما إلينا أو أسلما، بل يقران عليه.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 81 / ص 45)(2/223)
وجه قول الأئمة الثلاثة أننا أمرنا بتركهم وما يدينون إلا ما استثنى من عقودهم كالزنا، وهذا غير مستثنى فيصح في حقهم.
ووجه قوله زفر أنهم لما قبلوا عقد الذمة فقد التزموا أحكامنا، ورضوا بها .
وقال الشافعية لو طلق الكافر زوجته ثلاثا ثم أسلما من غير محلل لم تحل به إلا بمحلل، لأنا إنما نعتبر حكم الإسلام، أما إذا تحللت في الكفر فيكفي في الحل .
وقال الحنابلة حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين فيما يجب به ويترتب عليه، من نحو نفقة، وقسم، ومهر، وصحة إيلاء، ووقوع طلاق وخلع، وإباحة لزوجة أول إذا كان الأول طلقها ثلاثا وكان الثاني وطئها، وإحصان إذا وطئها، لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فيحرم عليهم من المحارم ما يحرم على المسلمين، ولو طلق كافر زوجته ثلاثا ثم تزوجها قبل وطء زوج آخر لها لم يقرا عليه لو أسلما أو ترافعا إلينا، وإن طلقها أقل من ثلاث ثم أسلمها فهي عنده على ما بقى من طلاقها، لكن يقر الكفار على أنكحة محرمة ما اعتقدوا حلها ولم يترافعوا إلينا، لأن ما لا يعتقدون حله ليس من دينهم، فلا يقرون عليه كالزنا والسرقة.
فإن أتانا الكفار قبل عقد النكاح بينهم عقدناه على حكمنا كأنكحة المسلمين، وإن أتونا بعده مسلمين أو غير مسلمين، أو أسلم الزوجان على نكاح لم نتعرض لكيفية العقد، فإن كانت المرأة تباح للزوج عند الإتيان إلينا أقرا على نكاحهما، وإن كانت لا تباح عندئذ ، كذات محرم أو في عدة أو حبلى، أو كان النكاح شُرِط فيه الخيار مطلقا أو مدة لم تمض أو استخدام نكاح مطلقته ثلاثًا ولو معتقدا حلها- فرق بينهما؛ لأنه حال يمنع من ابتداء العقد، فمنع استدامته، كنكاح ذوات المحارم .(2/224)
وذهب المالكية في المشهور عندهم إلى أن أنكحة الكفار فاسدة ولو استوفت شروط الصحة في الصورة لانتفاء كون الزوج مسلمًا، وقيل صحيحة، وفصل بعضهم فقالوا إن استوفت شروط الصحة كانت صحيحة وإلا كانت فاسدة، وعند الجهل تحمل على الفساد لأنه الغالب، واستُظهر هذا القول، وكون إسلام الزوج شرطا في صحة النكاح محله إذا كانت الزوجة مسلمة.
والقول بأن أنكحتهم فاسدة مطلقا، أو ما لم تستوف الشروط- مع أنا لا نتعرض لهم، ويقرون عليها إن أسلم الزوج، أو أسلمت وأسلم في عدتها، أو أسلما معا- فائدته أنه على القول بفساد أنكحتهم مطلقا لا يجوز لنا توليها، وعلى القول بالتفصيل يجوز لنا توليها إن كانت مستوفية لشروط الصحة.
وكل نكاح يكون في الشرك جائزًا بينهم فهو جائز إذا أسلموا عليه وكان الزوج قد دخل بزوجته ولا يفرق بينهما، لأن نكاح أهل الشرك ليس كنكاح أهل الإسلام
وفي قول عند الشافعية أن نكاح الكفار موقوف، إن أسلموا وقرروا عليه تبينا صحته، وإن لمن يقرروا تبينا فساده .
============
نَكْث (1)
ا- النكث لغة مصدر نكث يقال نكث العهد والحبل ينكثه نكثا نقضه، ونكث الرجل العهد نكثا من باب قتل نقضه ونبذه، قال تعالى { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ }
والنكث نقض ما تعقده وتصلحه من بيعة وغيرها. والنكث في الاصطلاح هو نقض العهود والعقود
الألفاظ ذات الصلة
أ- النقض
ب- النبذ
ج- الغدر
د- العهد
الألفاظ ذات الصلة
أ- النقض
2- النقض لغة من نقضتُّ الحبل نقضا حللت برمَه، ومنه يقال نقضت ما أبرمه إذا أبطلته، والنقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء أو غيرهما . ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 84 / ص 1)(2/225)
والعلاقة بين النكث والنقض أن النقض أعم، لأنه يطلق على إبطال المبرم من عقد أو بناء أو غيرهما، أما النكث فإنه يطلق على العقد فقط، ولذا كان كل نكث نقضا وليس كل نقض نكثا .
ب- النبذ
3- النبذ لغة مصدر نبذ، يقال نبذته نبذا من باب ضرب ألقيته فهو منبوذ، وصبي منبوذ مطروح، ومنه سمي النبيذ، لأنه ينبذ أي يترك حتى يشتد، ونبذت العهد نقضته .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
والعلاقة بين النكث والنبذ أن النبذ أعم من النكث، فكل نكث نبذ وليس كل نبذ نكثا .
ج- الغدر
4- الغدر لغة مصدر غدر، يقال غدر به غدرا 42 357 من باب ضرب نقض عهده، فالغدر ضد الوفاء بالعهد . ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي. والعلاقة بين النكث والغدر أن كلا منهما فيه نقض للعهد وعدم الوفاء به.
د- العهد
5- العهد لغة الوصية، والذمة، والأمان، والموثق، واليمين يحلف بها الرجل . ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي. والعلاقة بين النكث والعهد أن النكث لا يتحقق إلا إذا سبق بعهد، لأن محل النكث هو المعهود عليه.
الأحكام المتعلقة بالنكث
أ- الحكم التكليفي للنكث(2/226)
6- النكث محرم شرعا لقوله تعالى { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } ولقوله تعالى { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ولقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } ولقوله صلى الله عليه وسلم " ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ) " ، وقوله صلى الله عليه وسلم " ( من أعطى بيعة ثم نكثها لقي الله وليست معه يمينه ) " ، وقوله صلى الله عليه وسلم " ( أربع 42 358 خلال من كن فيه كان منافقا خالصا، من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها ) " . وتفصيل ذلك في مصطلح ( غدر ف 5 ، 6 ، بيعة ف 13 ، عهد ف 6 ).
ب- الحكم الوضعي للنكث(2/227)
7- نكث العهد جعله الشارع سببا لنبذ العهد وتركه ومن ذلك قوله تعالى { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } فنكث العهد من جانب المشركين والطعن في الدين جعلها الشارع سببا لقتال أئمة الكفر ونبذ عهدهم. هذا وقد جعل الشارع الحكيم مجرد الخوف من نكث العهد من جانب غير المسلمين سببا في نبذ عهدهم في قوله تعالى { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } انظر ( خيانة ف 11، 12 ).
8- وقد اختلف الفقهاء في بدء قتال غير المسلمين قبل إعلامهم بنقض العهد، كما اختلفوا في الحكم إذا نقض المعاهدون من أهل الهدنة العهد، وكذا نقض أهل الذمة عهدهم.
ينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( أهل الذمة ف 44 ، غدر ف 6 ، نقض ف 8 ، هدنة ).
================
ويشترط في وزير التنفيذ شروط خاصة ، تتعلق بعمله ، (1)
وهي أ ـ الثقة يشترط في وزير التنفيذ أن يكون موثوقاً ، بحيث تقبل روايته ؛ لأن ملاك أمره إخبار الجند والرعايا بما ينفذه الإمام ، وهذا يستدعي الورع والأخلاق الفاضلة .
ب ـ الأمانة وذلك حتى لا يخون فيما اؤتمن عليه ، ولا يغش فيما استنصح فيه .
جـ ـ صدق اللهجة حتى يوثق بخبره فيما يؤديه ، ويعمل على قوله فيما ينهيه .
د ـ قلة الطمع حتى لا يرتشي فيما يلي ، ولا ينخدع فيتساهل في عمله .
هـ ـ المسالمة وعدم العداوة والشحناء ، فيسلم فيما بينه وبين الناس من عداوة وشحناء ؛ لأن العداوة تصدُّ عن التناصف ، وتمنع من التعاطف .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 97 / ص 6)(2/228)
و ـ الذكر وعدم النسيان ، ليكون ذَكُوراً لما يؤديه إلى الخليفة ، وما يؤديه عنه ، لأنه شاهد له وعليه ز ـ الذكاء والفطنة والكياسة ؛ لأنه ينقل الأخبار والأعباء والأعمال ، فيحتاج إلى إدراك معانيها لينقلها ، فلا يؤتى عن غفلة وذهول ، ولا تدلس عليه الأمور فتشتبه ، ولا تموّه عليه فتلتبس ، فلا يصح مع اشتباهها عزم ، ولا يصلح مع التباسها حزم ، ومن لم يكن فطناً لم يوثق بفهمه لما يؤديه ، ولا يؤمن خطؤه فيما يبلغه ويؤديه .
ح ـ أن لا يكون من أهل الأهواء ، فيخرجه الهوى عن الحق إلى الباطل ، ويتدلس عليه المحق من المبطل ؛ لأن الهوى خادع الألباب ، وصارف له عن الصواب ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( حبّك الشيء يُعمي ، ويُصم ) " .
ط ـ الحنكة والتجربة والخبرة وهذا الشرط إذا كان وزير التنفيذ مشاوراً في الرأي ، فإنه يحتاج إلى الحنكة والتجربة التي توصل إلى صحة الرأي وصواب التدبير ، فإن في التجارب خبرة بعواقب الأمور ، فإن لم يشارك في الرأي لم يحتج إلى هذا الوصف ، وإن كان يكتسبه مع كثرة الممارسة .
ي ـ الذكورة يشترط في وزير التنفيذ أن يكون رجلاً ، ولا يصح أن تقوم بوزارة التنفيذ امرأة - وإن كان خبرها مقبولاً - لما تضمنته معنى الولايات المصروفة عن النساء ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ( ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة ) " ولأن فيها من طلب الرأي وثبات العزم ما تضعف عنه النساء ، ومن الظهور في مباشرة الأمور ما هو عليهن محظور .(2/229)
ك ـ الإسلام وهذا شرط مختلف فيه ، فأجاز الماوردي وأبو يعلى تعيين الذمي في وزارة التنفيذ دون وزارة التفويض ، فقالا ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة ، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم ؛ لأن وزير التنفيذ يتصرف في حدود ما أمر بتنفيذه من الإمام ، على عكس وزير التفويض 43 134 الذي يفوض له أن يتصرف وفق اجتهاده ومشيئته ، ونقل أبو يعلى عن الخرَقي فقال وذكر الخرقي ما يدل على أنه يجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة ؛ لأنه أجاز إعطاءهم جزءاً من الزكاة إن كانوا من العاملين فيها ، فيعطوا بحق ما عملوا ، مما يدل على جواز ولايتهم وعمالتهم .
وخالفهم الجويني وقال فإن الثقة لا بد من رعايتها ، وليس الذمي موثوقاً في أفعاله وأقواله وتصاريف أحواله ، وروايته مردودة ، وكذلك شهادته على المسلمين ، فكيف يقبل قوله فيما يسنده ويعزوه إلى إمام المسلمين .
واستدل الجويني بقول الله تعالى { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } وقوله تعالى { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } وقوله تعالى { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وقوله صلى الله عليه وسلم " ( أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ، لا تتراءى ناراهما ) " ، وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتد نكيره على أبي موسى الأشعري لما اتخذ كاتباً نصرانياً .
قال أبو يعلى وروي عن أحمد ما يدل على المنع ؛ لأنه قال في رواية أبي طالب وقد سئل نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج ؟ فقال لا يستعان بهم في شيء .
ولا يشترط في وزير التنفيذ أن يكون مجتهداً في الأحكام ؛ لأنه ليس له افتتاح أمر ، وإنما هو بمنزلة السفير في كل قضية بين الإمام والرعية ، وإن كان الإمام يستعين برأيه فيما يقع ، فهو مجرد مستشار مبلغ ، وليس له شيء من الولاية .(2/230)
ولا يشترط في وزير التنفيذ العلم بالأحكام الشرعية ؛ لأنه لا يجوز له أن يحكم بين الناس ، ولا يفصل في الدعاوى التي تحتاج إلى علم ، وإنما يقتصر نظره على الأداء إلى الخليفة ، والأداء عنه .
=============
الوصية لجهة عامة (1)
32- اتفق الفقهاء على صحة الوصية من مسلم لجهة عامة كعمارة مسجد إنشاء وترميمًا لأنها قربة.
وفي معنى المسجد المدرسة والرباط المسبل والخانقاه والقنطرة والسقاية.
ونص المالكية والشافعية والحنابلة على الصحيح من المذهب على أنه لا يشترط في صحة الوصية القربة، فيجوز الوصية لجهة عامة مباحة كالوصية للأغنياء مثلًا .
كما ذهب الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المذهب ) إلى أن وصية المسلم لبناء كنيسة أو بيعة لا تجوز لأنها معصية.
43 243 وفصل الحنفية في وصية الذمي بثلث ماله للكنيسة أو للبيعة وقالوا
لو أوصى الذمي بثلث ماله للبيعة أو للكنيسة أن ينفق عليها في إصلاحها أو أوصى لبيت النار أو أوصى بأن يذبح لعيدهم أو للبيعة أو لبيت النار ذبيحة جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله وعند الصاحبين لا يجوز.
وجملة الكلام في وصايا أهل الذمة أنها لا تخلوا إما أن يكون الموصى به أمرا هو قربة عندنا وعندهم أو يكون أمرًا هو قربة عندنا لا عندهم وإما أن يكون أمرًا هو قربة عندهم لا عندنا.
فإن كان الموصى به شيئًا هو قربة عندنا وعندهم بأن أوصى بثلث ماله أن يتصدق به على فقراء المسلمين أو على فقراء أهل الذمة أو بعتق الرقاب أو بعمارة المسجد الأقصى ونحو ذلك جاز في قولهم جميعًا لأن هذا مما يتقرب به المسلمون وأهل الذمة.
وإن كان شيئًا هو قربة عندنا وليس بقربة عندهم بأن أوصى بأن يحج عنه أو أوصى أن يبني مسجدًا للمسلمين ولم يبين لا يجوز في قولهم جميعًا لأنهم لا يتقربون به فيما بينهم فكان مستهزئًا في وصيته والوصية يبطلها الهزل.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 109 / ص 8)(2/231)
وإن كان شيئًا هو قربة عندهم لا عندنا بأن أوصى بأرض له تبنى بيعة أو كنيسة أو بيت نار أو بعمارة البيعة أو الكنيسة أو بيت النار أو بالذبح لعيدهم أو للبيعة أو لبيت النار ذبيحة فهو على الاختلاف الذي ذكرنا أن عند أبي حنيفة رحمه الله يجوز، وعندهما لا يجوز.
وجه قولهما أن الوصية بهذه الأشياء وصية بما هو معصية والوصية بالمعاصي لا تصح، ووجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن المعتبر في وصيتهم ما هو قربة عندهم لا ما هو قربة حقيقة لأنهم ليسوا من أهل القربة الحقيقية ولهذا لو أوصى بما هو قربة عندنا وليس بقربة عندهم لم تجز وصيته كالحج وبناء المسجد للمسلمين فدل أن المعتبر ما هو قربة عندهم وقد وجد ولكنا أمرنا أن لا نتعرض لهم فيما يدينون كما لا نتعرض لهم في عبادة الصليب وبيع الخمر والخنزير فيما بينهم.
==============
الوصية لغير المسلم
42- لا يشترط إسلام الموصى له لصحة الوصية له في الجملة فتجوز الوصية لغير المسلم في الجملة وغير المسلم يشمل الذمي، والمستأمن والحربي، والمرتد ونفصل أحكام كل فيما يلي
أ- الوصية للذمي
43- اتفق الفقهاء على أنه تصح الوصية للذمي سواء أكان الموصي مسلمًا أم كافرًا لقول الله تعالى {إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} قال محمد بن الحنفية وعطاء وقتادة إن ذلك هو وصية المسلم لليهودي.
وروى أن صفية رضي الله عنها أوصت لابن أخيها بألف دينار وكان يهوديًا.
واشترط الحنابلة لصحة الوصية للذمي أن يكون معينًا أما غير المعين كاليهود والنصارى ونحوهم فلا تصح الوصية لهم.
ولم يشترط الحنفية والشافعية والحنابلة في قول نقله ابن منصور لصحة الوصية هذا الشرط فتصح الوصية لعامة النصارى أو لعامة أهل الذمة أو نحوهم.
وقيد ابن رشد جواز الوصية بكونها ذات سبب من جوار أو قرابة أو يد سبقت لهم فإن لم تكن ذات سبب فالوصية للذمي محظورة.
============(2/232)
تَوَطُّنُ الْحَرْبِيَّةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ(1)
ح- تَوَطُّنُ الْحَرْبِيَّةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ : 19- إِذَا دَخَلَتِ الْحَرْبِيَّةُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَتَزَوَّجَتْ بِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تَصِيرُ ذِمِّيَّةً، فَالْمَرْأَةُ بِالسُّكْنَى تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَجَعَلَتْ نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَصَارَتْ ذِمِّيَّةً [319] . (ر: أَهْلَ الذِّمَّةِ ف13، مُسْتَأْمَن ف38)
=============
الرُّكْنُ الثَّالِثُ : الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ (2):
36- الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي تَنْتَفِعُ بِالْمَوْقُوفِ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِهَةُ مُعَيَّنَةً كَشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ . وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يَأْتِي :
6 الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : كَوْنُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بَرٍّ وَقُِرْبَةٍ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 112 / ص 101)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 112 / ص 246)(2/233)
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: : كَوْنُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَقُرْبَةٍ : 38- يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْجِهَةُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهَا جِهَةَ بِرٍّ وَقُرْبَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَمْ < 140 > ذمِّيًّا لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَوْضِعُ قُرْبَةٍ وَلِهَذَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ [ ، ( ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَتْ عَلَى أَخٍ لَهَا يَهُودِيٍّ .( . وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ جِهَةَ قُرْبَةٍ إِلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي الْأَصَحِّ لَمْ يَشْتَرِطُوا ظُهُورَ الْقُرْبَةِ فِي الْمَوْقُوفِ عَلََّيْهِ ، قَالُوا : لِأَنَّ الْوَقْفَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ قُرْبَةٌ وَلِهَذَا جَازِ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ لَا يُجِيزُونَ الْوَقْفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَحْدَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قُرْبَةً فِي نَظَرِهِمْ ، قَالَ الْحَنَفِيَّةَُ : إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْوَقْفُ بَعْدَ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَجُوزُ ، كَمَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْوَقْفُ عَلَى طَائِفَةِ الْأَغْنِيَاءِ ، وَمُقَابِلَُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ نَظَرًا إِلَى اشْتِرَاطِ ظُهُورِ قَصْدَ الْقُرْبَةِ .( . وَنَظَرًا لِاشْتِرَاطِِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ قُرْبَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ مَعْصِيَةٍ : كَالْوَقْفِ عَلَى الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَبُيُوتِ النَّارِ وَلَوْ مِنْ ذِمِّيٍّ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَإِعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَتَحَقَّقُ(2/234)
بِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِي نَظَرِ الشَّرِيعَةِ وَبِكَوْنِهَا قُرْبَةً فِي نَظَرِ الْوَاقِفِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةَُ ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : شَرْطُ وَقْفِ الذِّمِّيِّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى بَيْعَةٍ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَقَطْ ، أَوْ عَلَى حَجٍّ أَوْ عَُمْرَةٍ فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا فَقَطْ ، وَيُعَلِّلُ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ صِحَّةِ وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنِيسَةِ بِأَنَّ الْمَذْهَبَ خِطَابُهُمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْكَنَائِسِ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ حُصُرِهَا وَقَنَادِيلِهَا ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةَُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَالَ عِيَاضٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : إِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنِيسَةِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ غَيْرَُ لَازِمٍ سَوَاءٌ أَشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَقْفِ أَمْ لَا، ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْوَاقِفِ أَمْ لَا ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ مَتَى شَاءَ ، وَفَصَلَ ابْنُ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ : إِنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ عَلَى عُبَّادِ الْكَنِيسَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ ، وَأَمَّا عَلَى مَرَمَّتِهَا أَوْ عَلَى الْجَرْحَى أَوِ الْمَرْضَى الَّتِي فِيهَا فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ مَعْمُولٌ بِهِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : عِمَارَةُ كَنَائِسِ غَيْرِ الْمُتَعَبِّدِ : كَكَنَائِسِ نُزُولِ الْمَارَّةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ < 141 > الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُمَا ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ بِالْكَنِيسَةِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ(2/235)
لِجَوَازِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُجْتَازِينَ وَصَلَاحِيَتِهِمْ لِلْقُرْبَةِ فَإِنْ خَصَّ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِوَقْفٍ عَلَى الْمَارَّةِ مِنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ .( . وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ أَوْ سِلَاحٍ لِقِتَالٍ غَيْرِ جَائِزٍ أَوْ لِقَُطَّاعِ الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى كِتَابَةِ التَّوْارَةِ وَالْإِنْجِيلِ لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ مُبَدَّلَةٌ ( وَلِذَلِكَ غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَحِيفَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَقَالَ: : ;"أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْن الْخَطَّاب؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، ...... وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَخِي مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي"
=================
الشروط المعتبرة في الداعي(1):
الشروط المعتبرة في الداعي لوجوب الإجابة إلى الوليمة هي:
أولاً ـ كون الداعي مطلق التصرف:
20 ـ نص الشافعية على أنه يشترط لإجابة الدعوة إلى الوليمة أن يكون الداعي مطلق التصرف، فلا تطلب إجابة المحجور عليه لصبا أو جنون أو سفه وإن أذن وليه، لأنه مأمور بحفظ ماله لا بإتلافه، نعم إن اتخذ الولي الوليمة من ماله وهو أب أو جد فالظاهر كما قال الأذرعي وجوب الحضور (57) وهذا يتفق مع مذاهب الفقهاء الآخرين.وانظر (أهلية ف 22، وبلوغ ف 26، وجنون ف 9)
ثانياً ـ كون الداعي مسلماً:
21ـ ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يشترط للزوم إجابة الوليمة أن يكون الداعي إليها مسلماً.
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 113 / ص 77)(2/236)
فإن كان الداعي كافراً فلا تلزم إجابته عند المالكية والشافعية والحنابلة على الصحيح من المذهب، لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة وتأكيد المودة والإخاء، فلا تجب على المسلم للذمي، ولأنه لا يأمن اختلاط طعامهم بالحرام والنجاسة.
ولكن تجوز إجابة الكافر(58) لما روى أنس "أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه" (59).
وقال محمد بن الحسن الشيباني: لا بأس بالذهاب إلى ضيافة أهل الذمة.
وقال الحنفية في قول: المجوسي أو النصراني إذا دعا رجلاً إلى طعامه تكره الإجابة، وإن قال: اشتريت اللحم من السوق فإن كان الداعي نصرانياً فلا بأس به (60).
وذهب الشافعية في وجه ذكره الماوردي أنه تجب إجابة دعوة الذمي(61).
===============
يوم السبت(1)
1ـ يوم السبت مصطلح مركب من كلمتين: يوم، والسبت.
أما اليوم فقد سبق تعريفه لغة واصطلاحاً ( ر: يوم ف1)
وأما السبت فمن معانيه في اللغة: الراحة والقطع، والدهر، ويوم من الأسبوع.
وسَبْتُ اليهود: انقطاعهم عن المعيشة والاكتساب
وفي التنزيل قوله تعالى: { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ } .
ويوم السبت هو يوم من أيام الأسبوع.
وفي الاصطلاح يستعمل الفقهاء يوم السبت بالمعنى اللغوي نفسه .
الأحكام المتعلقة بيوم السبت
تتعلق بيوم السبت أحكام منها:
أ ـ صوم يوم السبت
الصائم إما أن يفرد يوم السبت وإما أن يصوم معه غيره.
إفراد يوم السبت بالصيام:
2 ـ إن أفرد الصائم يوم السبت بالصوم فقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين:
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 113 / ص 98)(2/237)
الأول: ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المذهب إلى كراهة إفراد يوم السبت بالصوم ، لحديث عبدالله بن بسر رضي الله عنه عن أخته الصماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه" .
وزاد الحنفية أنه يكره تحريما إفراد يوم السبت بالصوم إذا قصد الصائم بصومه التشبه باليهود
وصرح الحنفية والحنابلة والشافعية بأن صوم يوم السبت لا يكره إن وافق يوماً كان يصومه قبل ذلك .
الثاني: ذهب الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى أنه لا يكره صيام يوم السبت مفرداً. وقال المرداوي: لم يذكر الآجري كراهة غير صوم يوم الجمعة، فظاهره لا يكره غيره .
صيام يوم آخر مع صوم يوم السبت:
3 ـ ذهب أكثر الفقهاء القائلين بكراهة إفراد صوم السبت إلى أن الصائم لو صام مع يوم السبت يوماً آخر قبله أو بعده فإنه لا يكره صومه.
ونقل ابن عابدين تردد أئمة الحنفية في زوال كراهة صوم يوم السبت إذا صام معه يوم الأحد، حيث قال: إذا صام مع يوم السبت يوم الأحد هل تزول الكراهة؟ محل تردد. لأنه قد يقال: إن كل يوم منهما معظم عند طائفة من أهل الكتاب، ففي صوم كل واحد منهما تشبه بطائفة منهم، وقد يقال: إن صومهما معا ليس فيه تشبه، لأنه لم تتفق طائفة منهم على تعظيمهما معا. قال ابن عابدين: ويظهر لي الثاني، بدليل أنه لو صام الأحد تزول الكراهة لأنه لم يعظم أحد منهم هذين اليومين معا، وإن عظمت النصارى الأحد .
ب ـ إفساد المسلم عبادة زوجته اليهودية(1):
4 ـ نص الحنابلة على أنه لا يكره المسلم امرأته اليهودية على إفساد يوم السبت مع تأكد حقه.
ونص المالكية على أنه لا يجوز للمسلم إكراه زوجته الكتابية على ما لا يحل لها في دينها (11).
جـ ـ ترك اليهودي طلب الشفعة يوم السبت:
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 113 / ص 98)(2/238)
5 ـ ذهب الحنفية إلى أنه إذا علم اليهودي بيع شريكه شقصه في العقار المشترك بينهما في يوم سبته، فلم يطلب الشفعة لذلك سقط حقه في الشفعة ولم يعد سبته عذراً (12).(ر: أهل الذمة ف 23 ـ 25)
د ـ إحضار اليهودي إلى مجلس القضاء يوم السبت:
6 ـ إن طلب خصم يهودي في دعوى من القاضي احضاره أمام المحكمة يوم سبته فإن القاضي يكلفه بالحضور، ولا يكون سبته عذراً.
نص على ذلك الحنفية والشافعية وهو رأي عند المالكية وأحد الوجهين عند الحنابلة.
والرأي الآخر للمالكية: أنه يكره إلزام اليهودي بالحضور إلى مجلس القضاء يوم السبت لأننا أقررناهم بأخذ الجزية منهم على تعظيمهم السبت وعدم انتهاك حرمته.
وذهب الحنابلة في أحد الوجهين إلى أنه لا يجوز إحضار اليهودي إلى مجلس القضاء يوم السبت لبقاء تحريمه عليهم
**********************************
الباب الثاني
بعض الفتاوى المعاصرة حول أحكام أهل الذمة
الإسلام تكفل بحماية غير المسلمين من أهل الذمة
وائل الظواهري
المحراب:
لقد سبق الإسلام بمبادئه السامية تجاه البشرية كل الأديان والقوانين الوضعية، بحيث لا تعرف قوانينه التعصب المذموم، الذي يؤدي بالناس إلى الشحناء والبغضاء والفرقة، التي تمزق المجتمع الإنساني الذي يهتم به الإسلام أيما اهتمام.
ومن ضمن من حفظ الإسلام لهم حقوقهم وأوجب حمايتهم، غير المسلمين من أهل الذمة المقيمين في بلاد المسلمين، فلم يغفلهم أو يغمط حقهم، بل راعى إنسانيتهم ما داموا ملتزمين بمعاهداتهم، ويتضح ذلك في أمور كثيرة ونصوص متعددة يظهر منها عدل الإسلام وسماحته.
الإسلام يوجب العدل حتى مع غير المسلمين:(2/239)
يقول الدكتور صالح بن حسين العايد (أمين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ) إن الإسلام قد أمر بالعدل وحث عليه، حتى ولو كان الحكم لصالح الأعداء على الأهل والأصحاب قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا كنوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"
ومن تمام عناية الإسلام بغير المسلمين أنه عندما خيرهم بالتحاكم إلى شرائعهم، أكد على المساواة بينهم في حالة التحاكم إلى شريعتنا، يقول سبحانه "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين".
الدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم من الأعداء أمر لازم:
كما أوجب الإسلام الدفاع عن أهل الذمة وحمايتهم من الأعداء، إذ أن لهم من الحقوق مثل ما للمسلمين، بل يلزم الدفاع عنهم مما يؤذيهم والقتال دونهم وفك أسراهم من الأعداء مقابل ما دفعوه من جزية، قال ابن حزم رحمه الله "إن من كان من أهل الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، صونا لمن هم في ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمه دون ذلك إهمال لقعد الذمة"
وإذا كانت حماية غير المسلمين من المعتدين الخارجين لازمة فحمايتهم من الاعتداء الداخلي ألزم، قال الماوردي "ويلتزم لهم، يعني أهل الذمة، ببذل الجزية حقان: أحدهما الكف عنهم، والثاني: الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين وبالحماية محروسين".
الصحابة رضوان الله عليهم التزموا بنهج الإسلام وتعاليمه:(2/240)
ولذا نجد الصحابة رضوان الله عليهم راعوا مبدأ حماية الإسلام لأهل الذمة، والحفاظ على حقوقهم من الاعتداء عليها أو النيل منها بغير وجه حق، سواء أكان هذا الاعتداء من المسلمين أو من غيرهم، وتجلى ذلك في صور عديدة ولا أدل على ذلك من القصة المشهورة والتي رواها أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إذ جاء رجل من أهل مصر فقال: يا أمير المؤمنين هذا مقام العائذ بك قال: وما لك؟ قال أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام محمد بن عمرو فقال: فرسي ورب الكعبة. فلما دنا مني عرفته فقلت: فرسي ورب الكعبة، فقام إلي يضربني بالسوط ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين. وبلغ ذلك عمرا أباه، فخشي أن آتيك فحبسني في السجن، فانفلت منه، وهذا حين أتيتك. قال أنس - رضي الله عنه -: فوالله ما زاد عمر على أن قال: اجلس. وكتب إلى عمرو: إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل معك بابنك محمد. وقال للمصري: أقم حتى يأتيك مقدم عمرو. فدعا عمرو ابنه، فقال: أأحدثت حدثا؟ أجنيت جناية؟ قال: لا. قال: فما بال عمر يكتب فيك؟ فقدما على عمر. قال أنس - رضي الله عنه -: فوالله إنا عند عمر، إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه فإذا هو خلف أبيه. فقال عمر: أين المصري؟ قال: ها أنا ذا. قال دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين. فضربه حتى أثخنه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع عنه حتى أحببنا أن ننزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين.
ثم قال عمر: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال المصري: يا أمير المؤمنين، قد استوفيت واشتفيت، يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني.
قال عمر - رضي الله عنه-: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعه.
يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟(2/241)
فجعل عمرو يعتذر ويقول إني لم أشعر بهذا. ثم التفت عمر إلى المصري فقال: انصرف راشدا، فإذا رابك ريب فاكتب لي.
الوعيد الشديد لمن أخفر ذمة معاهد
ويقول الأستاذ الدكتور إبراهيم محمد قاسم (الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف) إن الإسلام قد كفل حقوق غير المسلمين، وتكفل بحمايتهم ليس ذلك بالحث فقط على حسن معاملتهم أو الإشارة إلى ضرورة حمايتهم، بل إنه نص نصا صريحا قاطعا يبين تلك الحقوق ويقرر هذه الأصول في تشريعاته ومصادره، حتى لا يدعي أحد من بعد غير ما قرره الإسلام وأكده، وحتى تظل تلك النصوص شاهدة على سماحة الإسلام وعدالته وأنه الدين الصالح لكل زمان ومكان.
ولم يكتف الإسلام بأن وضع الأسس والقواعد التي تكفل حماية غير المسلمين، بل إنه وضع عقوبات رادعة لمن يتعدى حدود الله عز وجل ويتجاوز حدود العهود بين المسلمين وغيرهم، وبمقتضى التشريع الإسلامي فإن المسلم الذي يقتل غير مسلم دون حق فإنه يقتل به، ومن سرق أحدا من أهل الكتاب فإنه يقام عليه الحد كمن سرق من المسلمين، كما ثبت ذلك من عموم الأدلة.
واستمع إلى هذا الحديث النبوي الشريف لترى مدى عناية الإسلام بالمعاهد وحفاظه عليه يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة (أخرجه البيهقي)
وهو عليه الصلاة والسلام يقول "من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" رواه البخاري
تلك صور من صور حماية الإسلام للمعاهدين من غير المسلمين.
http://www.bab.com المصدر:
================
شهادة أهل الذمة على بعضهم(1)
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 15 / ص 299)(2/242)
وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ نَسْخُ الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْفَحْوَى وَالتَّنْبِيهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُوَافِقِينَ لِلسَّلَفِ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يُوَافِقُهَا مِنْ الْحَدِيثِ أَوْجَهُ وَأَقْوَى فَإِنَّ مَذْهَبَهُ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ فَإِذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ فَعَلَى بَعْضِهِمْ أجوز وأجوز . وَلِهَذَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ لِلضَّرُورَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حَتَّى نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَجَامِعِهِنَّ الْخَاصَّةِ . مِثْلَ الْحَمَّامَاتِ وَالْعُرْسَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ وَاَللَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ(2/243)
بَيْنَهُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الزَّانِيَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا وَلَا شَهَادَةِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِمَا وَلَوْلَا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
==============
مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ .(1)
وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَقَدْ آذَانِي " فَهَذَا كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَذَاهُمْ قَدْ يَكُونُ بِحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } فَكَيْفَ يُحَرِّمُ أَذَى الْكُفَّارِ مُطْلَقًا ؟ وَأَيُّ ذَنْبٍ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ ؟ . وَلَكِنْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِإِذْنِ وَلَا ضَرْبَ أَبِشَارِّهِمْ وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ إذَا أَعْطَوْكُمْ الَّذِي عَلَيْهِمْ } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ . وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَبْنَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آبَائِهِمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 653)(2/244)
أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ حَقَّهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ . فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظبيان عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ وَلَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ قَدْ ذَكَرَهَا أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعَةِ وَغَيْرِهَا فِي كُتُبِهِمْ وَاعْتَمَدُوهَا ؛ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِالتَّمَيُّزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَكُنَاهُمْ وَرُكُوبِهِمْ : بِأَنْ يَلْبِسُوا أَثْوَابًا تُخَالِفُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ : كَالْعَسَلِيِّ وَالْأَزْرَقِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَدْكَنِ وَيَشُدُّوا الْخِرَقَ فِي قَلَانِسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ وَالزَّنَانِيرِ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ . وَقَدْ أَطْلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِاللَّبْسِ وَشَدِّ الزَّنَانِيرِ جَمِيعًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا يَجِبُ إذَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تَقَدَّمَ اشْتِرَاطُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا غَيْرِهَا : مِنْ عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ . إلَى أَنْ قَالَ : وَيُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ حَيْثُ مَا كَانُوا وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مَا زَالَ يُجَدِّدُهَا عَلَيْهِمْ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وُلَاةِ أُمُورِ(2/245)
الْمُسْلِمِينَ كَمَا جَدَّدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي خِلَافَتِهِ وَبَالَغَ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَانَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْقِيَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَيَّزَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَجَدَّدَهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ وَجَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ وَغَيْرُهُمَا وَأَمَرُوا بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ الَّتِي يَنْبَغِي هَدْمُهَا كَالْكَنَائِسِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كُلِّهَا فَفِي وُجُوبِ هَدْمِهَا قَوْلَانِ : وَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ هَدْمِ مَا كَانَ بِأَرْضِ الْعَنْوَةِ إذَا فُتِحَتْ . وَلَوْ أَقَرَّتْ بِأَيْدِيهِمْ لِكَوْنِهِمْ أَهْلَ الْوَطَنِ كَمَا أَقَرَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَنَائِسَ بِالشَّامِ وَمِصْرَ ثُمَّ ظَهَرَتْ شَعَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَعْدُ بِتِلْكَ الْبِقَاعِ بِحَيْثُ بُنِيَتْ فِيهَا الْمَسَاجِدُ : فَلَا يَجْتَمِعُ شَعَائِرُ الْكُفْرِ مَعَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ قِبْلَتَانِ بِأَرْضِ } وَلِهَذَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنْ لَا يُظْهِرُوا شَعَائِرَ دِينِهِمْ . وَأَيْضًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ أَرْضَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُحْبَسَ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَالصَّوَامِعِ وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بَلْ لَوْ وَقَفَهَا ذِمِّيٌّ وَتَحَاكَمَ إلَيْنَا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ . فَكَيْفَ بِحَبْسِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعَابِدِ الْكُفَّارِ الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا بِالرَّحْمَنِ وَيُسَبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهَا أَقْبَحَ سَبٍّ . وَكَانَ(2/246)
مِنْ سَبَبِ إحْدَاثِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ
وَهَذِهِ الْأَحْبَاسِ عَلَيْهَا شَيْئَانِ . " أَحَدُهُمَا " : أَنَّ بَنِي عُبَيْدٍ الْقَدَّاحَ - الَّذِينَ كَانَ ظَاهِرُهُمْ الرَّفْضَ وَبَاطِنُهُمْ النِّفَاقَ - يستوزرون تَارَةً يَهُودِيًّا وَتَارَةً نَصْرَانِيًّا وَاجْتَلَبَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا وَبَنَى كَنَائِسَ كَثِيرَةً . " وَالثَّانِي " : اسْتِيلَاءُ الْكُتَّابِ مِنْ النَّصَارَى عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُدَلِّسُونَ فِيهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا يَشَاءُونَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
===============
قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُلْزِمُوا بِلِبَاسِ غَيْرِ لِبَاسِهِمْ الْمُعْتَادِ(1)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ : فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُلْزِمُوا بِلِبَاسِ غَيْرِ لِبَاسِهِمْ الْمُعْتَادِ وَزِيٍّ غَيْرِ زِيِّهِمْ الْمَأْلُوفِ وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَلْزَمَهُمْ بِتَغْيِيرِ عَمَائِمِهِمْ وَأَنْ تَكُونَ خِلَافَ عَمَائِمِ الْمُسْلِمِينَ فَحَصَلَ بِذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِي الطَّرَقَاتِ وَالْفَلَوَاتِ وَتَجَرَّأَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ السُّفَهَاءُ وَالرَّعَاعُ وَآذَوْهُمْ غَايَةَ الْأَذَى وَطَمِعَ بِذَلِكَ فِي إهَانَتِهِمْ وَالتَّعَدِّي عَلَيْهِمْ . فَهَلْ يَسُوغُ لِلْإِمَامِ رَدُّهُمْ إلَى زِيِّهِمْ الْأَوَّلِ وَإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مَعَ حُصُولِ التَّمْيِيزِ بِعَلَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهَا ؟ وَهَلْ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ أَمْ لَا ؟ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ :
__________
(1) - مجموع الفتاوى - (ج 28 / ص 658)(2/247)
فَأَجَابَهُمْ مِنْ مَنْعِ التَّوْفِيقِ وَصَدٍّ عَنْ الطَّرِيقِ بِجَوَازِ ذَلِكَ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ إعَادَتَهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ . قَالَ شَيْخُنَا : فَجَاءَتْنِي الْفَتْوَى . فَقُلْت : لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ وَيَجِبُ إبْقَاؤُهُمْ عَلَى الزِّيِّ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ . فَذَهَبُوا ثُمَّ غَيَّرُوا الْفُتْيَا ثُمَّ جَاءُوا بِهَا فِي قَالَبٍ آخَرَ فَقُلْت : لَا تَجُوزُ إعَادَتُهُمْ . فَذَهَبُوا ثُمَّ أَتَوْا بِهَا فِي قَالِبٍ آخَرَ فَقُلْت : هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُعَيَّنَةُ وَإِنْ خَرَجَتْ فِي عِدَّةِ قَوَالِبَ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : ثُمَّ ذَهَبَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إلَى السُّلْطَانِ وَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِكَلَامِ عَجِبَ مِنْهُ الْحَاضِرُونَ فَأَطْبَقَ الْقَوْمُ عَلَى إبْقَائِهِمْ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
==============
( مَسْأَلَةٌ ) فِي مَنْعِ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ(1)
لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ مُصَنَّفَاتٌ فِيهَا هَذَا : أَحَدُهَا فَنَذْكُرُهُ بِنَصِّهِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَيْقَظَنَا مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَجَعَلَنَا مِنْ أَشْرَفِ مِلَّةٍ وَهَدَى إلَى أَشْرَفِ قِبْلَةٍ وَأَعْظَمِ نِحْلَةٍ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي نَسَخَ بِشَرِيعَتِهِ كُلَّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهُ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا لَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُونَ فَضْلَهُ .
__________
(1) - فتاوى السبكي - (ج 4 / ص 174)(2/248)
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ أَوْ إعَادَةِ الْكَنِيسَةِ الْمُضْمَحِلَّةِ فَأَرَدْت أَنْ أَنْظُرَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَأُزِيلَ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ الْعِلَّةِ وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَيُرْشِدنِي سُبُلَهُ وَتَوَسَّلْت بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا أَعْدَمَنِي اللَّهُ فَضْلَهُ وَظِلَّهُ وَقَفَوْتُ أَثَرَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَدْلِهِ وَشُرُوطِهِ الَّتِي أَخَذَهَا لَمَّا فَتَحَ الْبِلَادَ وَشَيَّدَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ، وَهَذَا التَّرْمِيمُ يَقَعُ السُّؤَالُ عَنْهُ كَثِيرًا وَلَا سِيَّمَا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَيُفْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِجَوَازِهِ وَتَخْرُجُ بِهِ مَرَاسِيمُ مِنْ الْمُلُوكِ وَالْقُضَاةِ بِلَا إذْنٍ فِيهِ وَذَلِكَ خَطَأٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ بِنَاءَ الْكَنِيسَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا تَرْمِيمُهَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ : لَوْ وَصَّى بِبِنَاءِ كَنِيسَةٍ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةٌ وَكَذَا تَرْمِيمُهَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَصِّي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَ الْوَقْفُ بَاطِلًا مُسْلِمًا كَانَ الْوَاقِفُ أَوْ كَافِرًا فَبِنَاؤُهَا وَإِعَادَتُهَا وَتَرْمِيمُهَا مَعْصِيَةٌ مُسْلِمًا كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ أَوْ كَافِرًا هَذَا شَرْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(2/249)
وَهُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ ، وَأَمَّا أُصُولُهُ فَبِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا فُرُوعُهُ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَكَذَلِكَ وَكُلُّ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ ، وَمَنْ قَالَ لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وَإِنَّمَا مُكَلَّفُونَ بِالْإِسْلَامِ فَقَدْ يَقُولُ إنَّ تَحْرِيمَ هَذَا كَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِمْ وَقَدْ يَقُولُ : إنَّهُ كَسَائِرِ الْفُرُوعِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ فِي حَقِّهِمْ لَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ ، أَمَّا إنَّهُ جَائِزٌ أَوْ حَلَالٌ أَوْ مَأْذُونٌ فِيهِ لَهُمْ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَأْتِي عَلَى مَذْهَبٍ مِنْ الْمَذَاهِبِ .(2/250)
وَجَمِيعُ الشَّرَائِعِ نُسِخَتْ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُشْرَعُ الْيَوْمَ إلَّا شَرْعُهُ ، بَلْ : أَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ شَرْعٌ يُسَوَّغُ فِيهِ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ مَكَانًا يَكْفُرُ فِيهِ بِاَللَّهِ فَالشَّرَائِعُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَيَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ تَحْرِيمُ إنْشَاءِ الْمَكَانِ الْمُتَّخَذِ لَهُ وَالْكَنِيسَةُ الْيَوْمَ لَا تُتَّخَذُ إلَّا لِذَلِكَ وَكَانَتْ مُحَرَّمَةً مَعْدُودَةً مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، وَإِعَادَةُ الْكَنِيسَةِ الْقَدِيمَةِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا إنْشَاءُ بِنَاءٍ لَهَا وَتَرْمِيمُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْحَرَامِ وَلِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْحَرَامِ فَمَنْ أَذِنَ فِي حَرَامٍ وَمَنْ أَحَلَّهُ فَقَدْ أَحَلَّ حَرَامًا ، مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الشَّرْعِ رُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَا أُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ } وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِهِمْ يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ أَوْ لَا يُمْنَعُونَ فَاَلَّذِي يَقُولُ لَا يُمْنَعُونَ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ وَلَا أَنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ جَائِزٌ ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى إطْلَاقِ الْعِبَارَةِ وَالْإِحَالَةِ عَلَى فَهْمِ الْفَقِيهِ لِمَا(2/251)
عَرَفَ قَوَاعِدَ الْفِقْهِ فَلَا يَغْتَرُّ جَاهِلٌ بِذَلِكَ ، وَالْفَقِيهُ الْمُصَنِّفُ قَدْ يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا فِيهِ مَجَازٌ لِمَعْرِفَتِهِ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْرِفُونَ مُرَادُهُ وَمُخَاطَبَتُهُ لِلْفُقَهَاءِ .
وَأَمَّا الْمُفْتِي فَغَالِبُ مُخَاطَبَتِهِ لِلْعَوَامِّ فَلَا يُعْذَرُ فِي ذَلِكَ وَعَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ وَلَا بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُ ظَاهِرِهِ ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَلْ إذَا اُشْتُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقُولُ الْفُقَهَاءُ إنَّهُمْ يُقِرُّونَ عَلَيْهَا وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَرْمِيمِهَا وَإِعَادَتِهَا وَأَمَّا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى إبْقَاءٍ ، وَلَا يُمَكِّنُونَ مِنْ تَرْمِيمٍ أَوْ إعَادَةٍ فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ أَعَمُّ مِنْ الْإِذْنِ ، وَالْإِذْنُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ .(2/252)
وَالثَّانِي أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ إنَّمَا هُوَ إذَا شُرِطَ أَمَّا إذَا لَمْ يُشْرَطْ فَيُمْنَعُ وَلَا يَبْقَى وَهَذَا أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوَاعِدَ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا لَا نَحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ فَكُلُّ مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَشَرْطِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ تَأْكِيدٌ لِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ إسْنَادِهَا وَهْنٌ فَلَا يَضُرُّنَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي قَصَدْنَاهُ ثَابِتٌ بِدُونِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ حَلَالٌ لَهُمْ وَلَا أَنَّا نَأْذَنُ لَهُمْ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ لَفْظُ الْكَنِيسَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ } فَالصَّوَامِعُ لِلرُّهْبَانِ وَالصَّلَوَاتُ قِيلَ إنَّهَا لِلْيَهُودِ وَاسْمُهَا بِلِسَانِهِمْ صِلْوَتَا ، وَالْبِيَعُ جَمْعُ بِيعَةٍ بِكَسْرِ الْبَاءِ قِيلَ لِلْيَهُودِ وَالْكَنَائِسُ لِلنَّصَارَى وَقِيلَ الْبِيَعُ لِلنَّصَارَى .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الْكَنَائِسِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَاسِ الظَّبْيِ الَّذِي تَأْوِي إلَيْهِ فَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ يَأْوُونَ إلَى كَنَائِسِهِمْ فِي خِفْيَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِعِبَادَتِهِمْ الْبَاطِلَةِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي اللُّغَاتِ : الْكَنِيسَةُ الْمَعْبَدُ لِلْكُفَّارِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ هِيَ لِلنَّصَارَى .(2/253)
وَكُلُّ مَا أُحْدِثَ مِنْهَا بَعْدَ الْفَتْحِ فَهُوَ مُنْهَدِمٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْأَمْصَارِ ، وَكَذَا فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَكُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْرِيرِهِ إذَا شُرِطَ يَجُوزُ الشَّرْطُ وَكُلُّ مَا كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ أَرَ لِلْفُقَهَاءِ فِيهِ كَلَامًا ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ يُوَحِّدُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ يُوَحَّدُ فِيهِ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِذَلِكَ حَيْثُ كَانُوا عَلَى إسْلَامٍ ، فَشَرِيعَةُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْإِسْلَامُ كَشَرِيعَتِنَا فَلَا يُمَكَّنُ النَّصَارَى أَوْ الْيَهُودُ مِنْهُ .(2/254)
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْبِلَادَ إلَى مَا فُتِحَ عَنْوَةً وَصُلْحًا وَمَا أَنْشَأَهُ الْمُسْلِمُونَ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ كُلُّهُ لَا شَيْءَ مِنْهُ تَبْقَى فِيهِ كَنِيسَةٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، سَوَاءٌ فُتِحَ عَنْوَةً أَمْ صُلْحًا وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِيمَا فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا لَمْ يَضُرَّ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّبْقِيَةِ الشَّرْطُ فِيهِمَا وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ فِي الشَّرْطِ فَهَذَا مَوْضِعُ عُمْرِهِ فِي الْفِقْهِ هَلْ يُقَالُ : الْأَصْلُ عَدَمُ الشَّرْطِ فَنَهْدِمُهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ شَرْطُ إبْقَائِهَا أَوْ يُقَالُ : إنَّهَا الْآنَ مَوْجُودَةٌ فَلَا نَهْدِمُهَا بِالشَّكِّ ، وَهَذَا إذَا تَحَقَّقْنَا وُجُودَهَا عِنْدَ الْفَتْحِ وَشَكَكْنَا فِي شَرْطِ الْإِبْقَاءِ فَقَطْ فَإِنْ شَكَّكْنَا فِي وُجُودِهَا عِنْدَ الْفَتْحِ انْضَافَ شَكٌّ إلَى شَكٍّ فَكَانَ جَانِبُ التَّبْقِيَةِ أَضْعَفَ وَيَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّهُمْ هَلْ لَهُمْ يَدٌ عَلَيْهَا أَوْ نَقُولُ إنَّ بِلَادَنَا عَلَيْهَا وَعَلَى كَنَائِسِهَا وَهَلْ إذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ وَلَوْ قُلْنَا بِتَبْقِيَتِهَا لَا يَضْمَنُ صُورَةَ التَّأْلِيفِ كَمَا لَا يَضْمَنُ إذَا فُصِلَ الصَّلِيبُ وَالْمِزْمَارُ وَهَلْ يَضْمَنُ الْحِجَارَةَ وَنَحْوَهَا رَابِلُهُ التَّأْلِيفُ هَذَا يَنْبَغِي فِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ أَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ مَوَاتٍ كَنَقْرٍ فِي حَجَرٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ اتَّخَذَهَا لِذَلِكَ لِهَذَا الْقَصْدِ كَالْمَسْجِدِ الَّذِي يُبْنَى فِي الْمَوَاتِ بِغَيْرِ تَشْبِيهٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ بَلْ كَانَتْ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِ مِلْكٌ وَوُقِفَتْ لِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ(2/255)
وَاقِفُهَا هَذِهِ الْكَنَائِسَ الْمَوْجُودَةَ فَالظَّاهِرُ أَيْضًا أَنَّهَا لَا يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ الْهَادِمُ ارْتَكَبَ حَرَامًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآثَارِ الَّتِي سَنَذْكُرُهَا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ وَفِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ مَا يَقْتَضِي هَدْمَ الْكَنَائِسِ وَمَا يَقْتَضِي إبْقَاءَهَا وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهَا وَصِفَتِهَا كَمَا سَتَرَى ذَلِكَ مُبَيَّنًا - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا تَغْتَرُّ سَادَةُ الْفُقَهَاءِ بِمَا تَجِدُهُ مِنْ بَعْضِ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا فِيهِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ وَتُحِيطُ عِلْمًا بِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ .
وَلْنَشْرَعْ فِيمَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَكَلَامِ الْفُقَهَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى طَالِبًا مِنْ اللَّهِ الْعَوْنَ وَالْعِصْمَةَ وَالتَّوْفِيقَ :
( بَابُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ )(2/256)
أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ قَالَ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُقِيرُ أَنْبَأَ الْحَافِظُ ابْنُ نَاصِرٍ قَالَ أَنَا الشَّيْخَانِ أَبُو رَجَاءٍ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَدَّادُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُلَّةَ الْأَصْبَهَانِيُّ قَالَا أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْكَاتِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ شُرُوطِ الذِّمَّةِ ثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَبُو أَيُّوبَ ثنا سَعِيدُ بْنُ الْحُبَابِ ثنا عُبَيْدُ بْنُ بَشَّارٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُحْدِثُوا كَنِيسَةً فِي الْإِسْلَامِ وَلَا تُجَدِّدُوا مَا ذَهَبَ مِنْهَا } هَكَذَا فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ عُبَيْدُ بْنُ بَشَّارٍ وَأَظُنُّهُ تَصْحِيفًا فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ الْجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابِهِ الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا يَمِينَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .(2/257)
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُونَ وَوَثَّقَهُ بَعْضُهُمْ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي أَهْلِ الشَّامِ وَأَفْضَلِهِمْ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ ابْنِ مَاجَهْ كُنْيَتُهُ أَبُو الْمَهْدِيِّ .وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ .
وَقَوْلُهُ لَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا عَامٌّ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ إذَا كَانَ صِلَةً لِمَوْصُولٍ احْتَمَلَ الْمُضِيَّ وَالِاسْتِقْبَالَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا لِلْعُمُومِ وَيَعُمُّ أَيْضًا التَّرْمِيمَ وَالْإِعَادَةَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " مَا " يَعُمُّ خَرَابَ كُلِّهَا وَخَرَابَ بَعْضِهَا ، وَقَوْلُهُ " لَا تُبْنَى " يَعُمُّ الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى ، وَقَوْلُهُ " مَا خَرِبَ يَعُمُّ الْكَنَائِسَ الْقَدِيمَةَ وَالْمُرَادُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْبِنَاءِ فَكُلُّ مَا بَنَوْهُ أَوْ رَمَّمُوهُ أَوْ أَعَادُوهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي بِلَادٍ عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ إذَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَنَا وَهَذَا بِلَا شَكٍّ .
وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنَّ الْبَلَدَ لَهُمْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ وَيُمْنَعُ مِنْهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِيمَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَهُمْ فِي إحْدَاثِ كَنَائِسَ فِيهَا فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مَنَعَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ .(2/258)
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي مِلْكِهِمْ وَالدَّارُ لَهُمْ وَأَمَّا مَا بَنَوْهُ فِي مُدَّةِ الْإِسْلَامِ فِي بِلَادِهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهُمْ مُحَارَبُونَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَوْ صَالَحُونَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ لِأَنَّا لَا نَنْظُرُ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَنَبْتَدِئُ مِنْ حِينِ الصُّلْحِ حُكْمًا جَدِيدًا .
وَبِالْإِسْنَادِ إلَى أَبِي الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي خَالِي ثنا مِقْدَامُ بْنُ دَاوُد بْنِ عِيسَى بِمِصْرَ ثنا النَّضْرُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بُنْيَانَ كَنِيسَةٍ } .
إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَبُنْيَانُ كَنِيسَةٍ يَشْمَلُ الِابْتِدَاءَ وَالْإِعَادَةَ الْمُرَادُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ
وَبِالْإِسْنَادِ إلَى ابْنِ حِبَّانَ ثنا ابْنُ رَسْتَةَ وَثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ قَالَا ثنا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد ثنا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ ثنا أَبَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اهْدِمُوا الصَّوَامِعَ وَاهْدِمُوا الْبِيَعَ } إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِهِ فِيمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ وَفِيمَا قَدِمَ .(2/259)
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ ثنا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ الْخَيَّاطُ ثنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ تَوْبَةَ عَنْ نَمِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَرَوَيْنَا فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ قَالَ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي تَوْبَةُ بْنُ النَّمِرِ الْحَضْرَمِيُّ قَاضِي مِصْرَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى عَدَمِ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ شَامِلٌ لِلْأَحْدَاثِ وَالْإِبْقَاءِ لَمْ يَبْعُدْ ، يَخُصُّ مِنْهُ مَا كَانَ بِالشَّرْطِ بِدَلِيلٍ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ ، وَتَقْدِيرُهُ لَا كَنِيسَةَ مَوْجُودَةً شَرْعًا .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مُطْلَقَةٌ لَمْ يُعَيَّنْ فِيهَا بِلَادُ صُلْحٍ وَلَا عَنْوَةٍ وَلَا غَيْرَهَا فَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِأَجْلِ الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ النَّفْيِ .(2/260)
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْعَتَكِيُّ ثنا جَرِيرٌ ، ح وَقَرَأْتُ عَلَى الصَّنْهَاجِيِّ أَنْبَأَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْقَسْطَلَّانِيِّ أَنَا ابْنُ الْبَنَّاءِ أَنَا الْكَرُوخِيُّ أَنْبَأَ الْأَزْدِيُّ وَالْعَوْرَجِيُّ قَالَا أَنْبَأَ الْجَرَّاحِيُّ أَنَا الْمَحْيَوِيُّ ثنا التِّرْمِذِيُّ ثنا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ ثنا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَكُونُ قِبْلَتَانِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ } هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد فِي بَابِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جِزْيَةٌ } أَخْرَجَهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ .قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ ثنا جَرِيرٌ عَنْ قَابُوسَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ فَرَوَاهُ الْعَتَكِيُّ وَأَبُو كُرَيْبٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ كَمَا رَأَيْت وَرَوَيْنَاهُ مُقْتَصَرًا عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ يَمِينِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } .(2/261)
فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ الَّذِي سَمِعْنَاهُ عَلَى شَيْخِنَا الدِّمْيَاطِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنْ ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ثنا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ قَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا وَجَرِيرٌ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لَكِنَّ سُفْيَانَ أَجَلُّ مِنْهُ فَعَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَدِّثِينَ الْمُرْسَلُ أَصَحُّ ، وَعَلَى طَرِيقَةِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُسْنَدِ زِيَادَةٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْخِلَافَ فِي إسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ وَقَابُوسُ فِيهِ لِينٌ مَعَ تَوْثِيقِ بَعْضِهِمْ لَهُ ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يُحَدِّثُ عَنْهُ وَيَحْيَى لَا يُحَدِّثُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ ، وَفِي الْقَلْبِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَبَيَّنُ لِي قِيَامُ الْحُجَّةِ بِهِ وَحْدَهُ ، وَعُدْت الشَّيْخَ نُورَ الدِّينِ
الْبَكْرِيَّ فِي مَرَضِهِ فَسَأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَالَ مَا بَقِيَ إلَّا تَصْحِيحُهُ وَأَفْتَى بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ وَبِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
وَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ حُكْمَ جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ حُكْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ثُمَّ رَأَيْت أَنَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَأَذْكُرُهُ فِي فَصْلٍ مُفْرَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ .
وَفِي الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي نُعَيْمٌ عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ طَاوُسًا يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ رَحْمَةٍ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَيْتِ عَذَابٍ .(2/262)
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَرَاهُ يَعْنِي الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ وَبُيُوتَ النِّيرَانِ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَعَ الْمَسَاجِدِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد أَيْضًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد بْنِ سُفْيَانَ ثنا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى أَبُو دَاوُد ثنا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أَمَّا بَعْدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ } لَمْ يَرْوِهِ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ إلَّا أَبُو دَاوُد وَبَوَّبَ لَهُ بَابَ الْإِقَامَةِ فِي أَرْضِ الْمُشْرِكِ ، وَلَيْسَ فِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ فَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَبِإِسْنَادِنَا الْمُتَقَدِّمِ إلَى أَبِي الشَّيْخِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ ثنا فَضْلُ بْنُ سَهْلٍ ثنا مُضَرُ بْنُ عَطَاءٍ الْوَاسِطِيُّ ثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ } .هَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَسْمِيَةِ الْكِتَابِيِّ مُشْرِكًا ، فَالْحَدِيثُ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مُسَاكَنَتِهِ ، وَالْمُسَاكَنَةُ إنْ أُخِذَتْ مُطْلَقَةً فِي الْبَلَدِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْبَلَدِ كَنِيسَةٌ لِأَنَّ الْكَنِيسَةَ إنَّمَا تَبْقَى لَهُمْ بِالشَّرْطِ إذَا كَانُوا فِيهَا .(2/263)
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَقَبْلَهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ إلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالنَّسَائِيُّ وَبَعْضُ طُرُقِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَسْنَدَهُ عَنْ قَيْسٍ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .وَقَالَ الْبُخَارِيُّ إنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ .
وَلَفْظُ الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى خَثْعَمَ فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِمَ قَالَ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا } فَسَّرَ أَهْلُ الْغَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُسْلِمَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَاعِدَ مَنْزِلَهُ عَنْ مَنْزِلِ الْمُشْرِكِ وَلَا يَنْزِلَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي إذَا أُوقِدَتْ فِيهِ نَارُهُ تَلُوحُ وَتُظْهِرُ لَنَا الْمُشْرِكَ إذَا أَوْقَدَهَا فِي مَنْزِلِهِ .
وَلَكِنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِهِمْ وَإِنَّمَا كَرِهَ مُجَاوَرَةَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُمْ وَلَا أَمَانَ وَحَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْهِجْرَةِ .(2/264)
وَالتَّرَائِي تَفَاعُلٌ مِنْ الرُّؤْيَةِ يُقَالُ تَرَاءَى الْقَوْمُ إذَا رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَرَاءَى لِي الشَّيْءُ إذَا ظَهَرَ حَتَّى رَأَيْتُهُ ، وَإِسْنَادُ التَّرَائِي إلَى النَّارَيْنِ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَنْظُرُ إلَى دَارِ فُلَانٍ أَيْ تُقَابِلُهَا .
يَقُولُ نَارَاهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ هَذِهِ تَدْعُو إلَى اللَّهِ وَهَذِهِ تَدْعُو إلَى الشَّيْطَانِ فَكَيْفَ يَتَّفِقَانِ .
وَالْأَصْلُ فِي تَرَاءَى تَتَرَاءَى حُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ ظَاهِرٌ مُشْرِكًا أَوْ كِتَابِيًّا ، وَالْكِتَابِيُّ الَّذِي لَا عَهْدَ لَهُ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ إمَّا بِالنَّصِّ إنْ جَعَلْنَا مُشْرِكًا ، وَإِمَّا بِالْمَعْنَى أَمَّا مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ ذِمَّةَ فَالْمَعْنَى لَا يَقْتَضِيهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ .
وَإِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مُسَاكَنَتِهِ فِي بَلَدٍ يُفْرَدُ لَهُ مَكَانٌ لَا يُجَاوِرُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَقْرَبُ مِنْهُمْ تَبْعُدُ نَارُهُ(2/265)
وَفِي الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ إخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ انْطَلِقُوا فَخَرَجْنَا حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمَدَارِسِ فَقَالَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ فَمَنْ يَجِدْ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلَاثَةٍ وَقَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَفِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا } .
وَقَالَ مَالِكٌ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَلَمْ يَحِلَّ مَنْ فِيهَا مِنْ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْوِهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ .(2/266)
{ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا وَكَانَتْ الْأَرْضُ لِلَّهِ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ، وَأَرَادَ إخْرَاجَ الْيَهُودِ مِنْهَا فَسَأَلَتْ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُقِرَّهُمْ بِهَا أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرَةِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاءَ وَأَرْيِحَاءَ } .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا بِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ إلَّا مَا فِي الْأَخِيرِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو الْيَامِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ النِّصْفِ فِي صَفَرٍ وَالنِّصْفِ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَارِيَّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا وَثَلَاثِينَ فَرَسًا وَثَلَاثِينَ بَعِيرًا مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السِّلَاحِ يَغْزُونَ بِهَا وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتَّى يَرُدُّوهَا عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمِينِ عَلَى أَنْ لَا يُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسٌّ وَلَا يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرِّبَا } .قَالَ إسْمَاعِيلُ : فَقَدْ أَكَلُوا الرِّبَا .(2/267)
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَنَقَضُوا بَعْضَ مَا اُشْتُرِطَ عَلَيْهِمْ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صُلْحِ أَهْلِ نَجْرَانَ حَسَنٌ جِدًّا عُمْدَةٌ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الصُّلْحِ وَتَسْوِيغِ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ فِي مِثْلِهِ عَدَمَ هَدْمِ بِيَعِهِمْ وَانْظُرْ كَوْنَهُ لَمْ يَشْتَرِطْ إلَّا عَدَمَ الْهَدْمِ مَا قَالَ التَّبْقِيَةُ فَإِنَّ التَّبْقِيَةَ تَسْتَلْزِمُ فِعْلَ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاءَ كَمَا فِي الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ الَّذِي يَجِبُ إبْقَاؤُهُمَا فَلَمْ يُرِدْ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّا إنَّمَا نَعْتَمِدُ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ .(2/268)
وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَتَعَدَّى ، وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ فَخَرَجَ وَفْدُهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ نَصَارَى مِنْهُمْ الْعَاقِبُ أَمِيرُهُمْ وَأَبُو الْحَارِثِ أُسْقُفُهُمْ وَالسَّيِّدُ صَاحِبُ رَحْلِهِمْ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الْحَبِرَةِ وَأَرْدِيَةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالْحَرِيرِ فَقَامُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُمْ ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ زِيِّكُمْ هَذَا فَانْصَرَفُوا ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهِ بِزِيِّ الرُّهْبَانِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا وَأَكْثَرُوا الْكَلَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ أَنْكَرْتُمْ مَا أَقُولُ فَهَلُمَّ أُبَاهِلْكُمْ فَامْتَنَعُوا مِنْ الْمُبَاهَلَةِ وَطَلَبُوا الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى هَذَا .(2/269)
وَقَالَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَا يُغَيَّرُ أُسْقُفٌ مِنْ سَقِيفَاهُ وَلَا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيِّتِهِ فَرَجَعُوا إلَى بِلَادِهِمْ فَلَمْ يَلْبَثْ السَّيِّدُ وَالْعَاقِبُ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى رَجَعَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا فَأَنْزَلَهُمَا دَارَ أَبِي أَيُّوبَ وَأَقَامَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى مَا كَتَبَ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ ثُمَّ وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَكَتَبَ بِالْوَصَاةِ بِهِمْ عِنْدَ وَفَاتِهِ ثُمَّ أَصَابُوا رِبًا فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَرْضِهِمْ وَكَتَبَ لَهُمْ مَنْ سَارَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَاءً لَهُمْ بِمَا كَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ .
فَمَنْ وَقَعُوا بِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ وَأُمَرَاءِ الْعِرَاقِ فَلْيُوَسِّقْهُمْ مِنْ جَرِيبِ الْأَرْضِ فَمَا اعْتَمَلُوا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لَهُمْ صَدَقَةٌ بِمَكَانِ أَرْضِهِمْ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ لِأَحَدٍ وَلَا مَغْرَمَ فَمَنْ حَضَرَهُمْ فَلْيَنْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ فَإِنَّهُمْ أَقْوَامُ أَهْلُ ذِمَّةٍ وَجِزْيَتُهُمْ عَنْهُمْ مَتْرُوكَةٌ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بَعْدَ أَنْ يَقْدَمُوا فَوَقَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ بِالْعِرَاقِ فَنَزَلُوا النَّجْرَانِيَّةَ الَّتِي بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ } .(2/270)
فَانْظُرْ كَمْ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ فَائِدَةٍ وَتَرْكُهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى الْمَشْرِقِ لَيْسَ إحْدَاثُ فِعْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَأْنِيسٌ لَهُمْ رَجَاءَ إسْلَامِهِمْ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ وَعَدَمُ كَلَامِهِمْ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الزِّيِّ وَالْحَرِيرِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنَّا ، وَعَقْدُهُ الصُّلْحَ مَعَ كِبَارِهِمْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُمْ رَاضُونَ بِهِ ، وَالْمُصَالَحَةُ عَلَى الْحُلَلِ وَغَيْرِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْجِزْيَةِ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ أَوْ قِيمَتُهَا أَوَاقِي .
فَأَمَّا الْحُلَلُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهَا مَعْلُومَةٌ وَأَمَّا التَّرَدُّدُ بَيْنَهَا بَيْنَ قِيمَتِهَا فَإِنْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى اغْتِفَارِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الدُّرُوعِ وَالسِّلَاحِ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُ مَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضِّيَافَةِ ، وَالْأَصْحَابُ اجْتَهَدُوا فِي بَيَانِ إعْلَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُشْتَرَطِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ نَجْرَانَ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِمْ فَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ فِيهَا الْفَتْحَ صُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ رَقَبَةُ الْبَلَدِ لَهُمْ وَيُؤَدُّونَ الْخَرَاجَ عَنْهَا وَإِلَّا مُنِعَ مِنْ بَقَاءِ الْكَنَائِسِ فِيهَا .(2/271)
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ وَمُفَسِّرَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِبْقَاءِ عَدَمُ الْهَدْمِ ثُمَّ هُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ أَعْنِي شَرْطَ كَوْنِ الْبَلَدِ لَهُمْ أَوْ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِأَمِيرٍ فَقَطْ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِمْ ، وَمَعْنَى بَقَاءِ الْأَرْضِ لَهُمْ أَنَّهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَمَنْ لَهُ مِنْهَا فِيهَا مِلْكٌ مُخْتَصٌّ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي نَجْرَانَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ .
وَيَدُورُ فِي خَلَدِي أَنَّ نَجْرَانَ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ دَوْمَةَ وَنَحْوِهَا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا طَرَقُوهُ وَإِنَّمَا جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا وَصَفْنَا وَجَاءَ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ وَكَذَا إلَى جِهَاتٍ أُخْرَى وَكُلُّهُمْ أَطَاعُوا لِلْجِزْيَةِ وَاسْتَقَرُّوا فِي بِلَادِهِمْ ، وَقَدْ يَكُونُ بَلَدًا وَجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَلَمْ يُتَّفَقْ أَخْذُهَا عَنْوَةً وَلَا صُلْحًا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَنَا بَلْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَهُمْ بِخَرَاجٍ فَهَلْ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ خَاصٌّ بِالثَّانِي أَوْ عَامٌّ فِي الْقِسْمَيْنِ ؟ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْفَتْحِ وَيُعَدُّ مِمَّا هُوَ تَحْتَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ .(2/272)
وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الَّذِي دَارَ فِي خَلَدِي إذَا انْجَلَوْا عَنْهُ كَمَا اتَّفَقَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ هَلْ نَقُولُ أَرَاضِيهُمْ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِمْ وَلِذَلِكَ عَوَّضَهُمْ عُمَرُ عَنْهَا وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ارْتِفَاعِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا فِي رُجُوعِ الْأَرَاضِيِ إلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَعْرِضُوا عَنْهَا فَيَكُونَ فَيْئًا أَوْ يُوجَفَ عَلَيْهَا فَيَكُونَ غَنِيمَةً وَاَلَّتِي أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنُوا مِنْهَا ثُمَّ صَالَحُوا عَلَى جِزْيَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَرَاضِيهَا بَاقِيَةً لِأَهْلِهَا تَكُونُ الْأَرْضُ فِي مُقَابَلَةِ الْعَقْدِ فَإِذَا نَقَضُوهُ رَجَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ .
هَذَا شَيْءٌ دَارَ فِي خَلَدِي وَلَمْ أُمْعِنْ الْفِكْرَ فِيهِ وَلَا وَقَفْتُ عَلَى شَيْءٍ فِيهِ لِأَحَدٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْقِسْمَيْنِ تَكُونُ فَيْئًا كَمَا فِي قُرَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَيَكُونُ تَعْوِيضُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَكَرُّمًا عَلَيْهِمْ وَجَبْرًا لَهُمْ لِضَعْفِ حَالِهِمْ وَرِعَايَةً لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْعَقْدِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَمَّا خَيْبَرُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَهَا عَنْوَةً وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَقَّ لِلْيَهُودِ فِي أَرْضِهَا .(2/273)
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَ بِهَا كَنَائِسُ وَإِنْ كَانَ بِهَا كَنَائِسُ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا شَيْءٌ فَهِيَ مِمَّا يَجِبُ هَدْمُهُ وَكَذَا إنْ كَانَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَبِإِجْلَائِهِمْ يَزُولُ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ لَهُمْ بَيْتُ مَدَارِسَ كَمَا تَقَدَّمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْكَنِيسَةُ فَهِيَ مُنْهَدِمَةٌ .
وَبَلَغَنِي أَنَّ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ آثَارَ كَنَائِسَ مُنْهَدِمَةٍ كَأَنَّهَا كَانَتْ لِلْيَهُودِ لَمَّا كَانُوا بِهَا وَحُكْمُهَا وَحُكْمُ أَمَاكِنِهَا أَنَّهَا لِأَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَخَيْبَرُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عُمَّالًا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ لِعِمَارَتِهَا فَلَمَّا اسْتَغْنَى عَنْهُمْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَادَتْ كَسَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ حَمَّادٌ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا أَدَعُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا } قَالَ فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مِنْ فَارِسَ فِي أَرْضِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَقَدْ أَذَلَّهُمْ الْإِسْلَامُ وَغَلَبَهُمْ أَهْلُهُ فَإِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظُنَّ .(2/274)
وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُقِرَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي أَرْضٍ قَدْ قَهَرَ مَنْ فِيهَا الْإِسْلَامُ وَغَلَبَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَ قَهْرِهِ إيَّاهُمْ مُبَدِّلُهُ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَقْدُ صُلْحٍ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا إلَّا عَلَى النَّظَرِ فِيهِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لِضَرُورَةِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا وَذَلِكَ كَإِقْرَارِهِ مَنْ أَقَرَّ مِنْ نَصَارَى نَبْطٍ سَوَادِ الْعِرَاقِ فِي السَّوَادِ بَعْدَ غَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ كَإِقْرَارِهِ مَنْ أَقَرَّ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ فِيهَا بَعْدَ غَلَبِهِمْ عَلَى أَرْضِهَا دُونَ حُصُونِهَا فَإِنَّهُ أَقَرَّهُمْ فِيهَا لِضَرُورَةٍ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ لِلْفِلَاحَةِ وَالْإِكَارَةِ وَعِمَارَةِ الْبِلَادِ إذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا بِالْحَرْبِ مَشَاغِيلَ وَلَوْ كَانُوا أَجْلَوْا عَنْهَا خَرِبَتْ الْأَرَضُونَ وَبَقِيَتْ غَيْرَ عَامِرَةٍ لَا تُوَاكَرُ فَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ نَظِيرَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِ وَزِيرِهِ الصِّدِّيقِ فِي يَهُودِ خَيْبَرَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ يَهُودَ خَيْبَرَ بَعْدَ قَهْرِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ وَغَلَبَةِ أَهْلِهِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى بِلَادِهِمْ فِيهَا عُمَّالًا لِلْمُسْلِمِينَ وَعُمَّارًا لِأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إذْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ إلَيْهِمْ لِعِمَارَةِ أَرْضِهِمْ وَشَغْلِهِمْ بِالْحَرْبِ وَمُنَاوَأَةِ الْأَعْدَاءِ ثُمَّ أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَائِهِمْ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهُمْ وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ عِنْدَ قَهْرِهِ إيَّاهُمْ إقْرَارَهُمْ فِي الْأَرْضِ(2/275)
عُمَّارًا لِأَهْلِهَا فَأَجَابَهُمْ إلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ ، وَأَمَّا إقْرَارُهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ فِي تَرْكِهِمْ وَالْإِقْرَارُ قَبْلَ غَلَبَةِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِهِ فِيهِ عَقْدُ صُلْحٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَا نَعْلَمُهُ صَحَّ بِهِ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى خَبَرٌ وَلَا قَامَتْ بِجَوَازِ ذَلِكَ حُجَّةٌ بَلْ الْحُجَّةُ الثَّابِتَةُ وَالْأَخْبَارُ عَنْ الْأَئِمَّةِ بِمَا قُلْنَاهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَا خَالَفَهُ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كَانَ مُنَادِي عَلِيٍّ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لَا يَبِيتَنَّ بِالْكُوفَةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ وَلَا مَجُوسِيٌّ الْحَقُوا بِالْحِيرَةِ أَوْ بِزُرَارَةَ .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ ثنا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَا يُسَاكِنُكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي أَمْصَارِكُمْ فَمَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا إلَّا عُنُقَهُ .(2/276)
قَالَ أَبُو هِشَامٍ وَسَمِعْت يَحْيَى بْنَ آدَمَ يَقُولُ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى كُلِّ مِصْرٍ اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو هِشَامٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مِصْرٍ اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ كِتَابٍ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ لَا يُسَاكِنُكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي أَمْصَارِكُمْ مِصْرًا سَاكِنُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ دُونَ مِصْرٍ بَلْ عَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ أَمْصَارِهِمْ وَأَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .(2/277)
يُوَضِّحُ عَنْ صِحَّةِ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيَدُلُّ عَلَى حَقِيقَةِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِهِ الْإِسْلَامَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ وَكَانَتْ مِنْ بِلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الَّتِي صَالَحُوا عَلَى إقْرَارِهِمْ فِيهَا إلْحَاقًا لِحُكْمِهِ حُكْمِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَذَلِكَ أَنَّ خَيْبَرَ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ الْأَمْصَارِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ اخْتَطُّوهَا وَلَا كَانَتْ نَجْرَانُ مِنْ الْمَدَائِنِ الَّتِي كَانَ الْمُسْلِمُونَ نَزَلُوهَا بَلْ كَانَتْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قُرًى وَمَدَائِنُ وَهُمْ كَانُوا عُمَّارَهَا وَسُكَّانَهَا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إذْ غَلَبَهَا وَأَهْلَهَا الْإِسْلَامُ وَسُكَّانَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَلَمْ يَكُنْ بِهِمْ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ .(2/278)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ الَّذِي قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ بَعْضُ النَّظَرِ وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ الْخَطَّابِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَرَّانِيُّ ثنا يَعْقُوبُ بْنُ جَعْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَنْزِلُ بِأَرْضٍ دِينٌ مَعَ الْإِسْلَامِ } حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَابْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالُوا ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصْلُحُ قِبْلَتَانِ فِي أَرْضٍ } حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ ثنا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ثنا جَعْفَرٌ الْأَحْمَرُ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .(2/279)
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُونِيُّ ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الزُّبَيْدِيِّ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ قَالَ فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِاَلَّذِي بِهِ اسْتَشْهَدْنَا فَالْوَاجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ إذَا أَقَرَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِحَاجَةٍ بِأَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ إلَيْهِمْ إمَّا لِعِمَارَةِ أَرْضِهِمْ وَفِلَاحَتِهَا وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا غِنَى بِهِمْ عَنْهُمْ أَلَّا يَدَعَهُمْ فِي مِصْرِهِمْ مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثٍ عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنْ يُسْكِنَهُمْ خَارِجًا مِنْ مِصْرِهِمْ مَا دَامَتْ بِهِمْ إلَيْهِمْ ضَرُورَةُ حَاجَةٍ كَاَلَّذِي فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ وَعَلِيٌّ وَأَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ فِي أَمْصَارِهِمْ فَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ مَنْ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ دَارًا أَوْ ابْتَنَى بِهِ مَسْكَنًا فَالْوَاجِبُ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَخْذُهُ يَبِيعُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَوْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا مُسْلِمًا مِنْ مَمَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذَهُ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ إقْرَارُ مُسْلِمٍ فِي مِلْكِ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ إقْرَارُ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِلْكِهِ .
هَذَا كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .(2/280)
فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي خَيْبَرَ فَصَحِيحٌ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ فِي نَجْرَانَ فَعَجَبٌ وَنَجْرَانُ قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ حَالُهَا يُشْبِهُ حَالَ خَيْبَرَ وَلَا أَهْلُهَا عُمَّالًا لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِمْ شَيْءٌ مَعْلُومٌ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَأَمَّا تَعْدِيَتُهُ حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إلَى سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إجْلَاؤُهُمْ فِي أَنَّ غَيْرَ الْحِجَازِ مِنْ الْجَزِيرَةِ هَلْ يَثْبُتُ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ وَهِيَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَكِنَّ كَلَامَ ابْنِ جَرِيرٍ فِيهِ رُوحٌ وَلَا مَدْفَعَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْبَحْثِ وَالنَّصِّ وَالْقِيَاسُ وَالْعَمَلُ قَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَافِعٌ لِكَلَامِهِ لَكِنْ لَهُ أَنْ يَقُولَ : كُلُّ مَوْضِعٍ وَجَدْنَا فِيهِ نَصَارَى غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِمْ وَتَحَقَّقْنَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إقْرَارَهُمْ يُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمْ صُلْحٌ وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي بَلَدٍ نَفْتَحُهَا الْيَوْمَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ دَافِعٌ كَذَلِكَ إذَا وَرَدَ نَصْرَانِيٌّ غَرِيبٌ إلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ لَهُ أَوْ لِأَسْلَافِهِ صُلْحٌ فَعَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُمَكَّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ كَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَلْدَةٌ قَرِيبَةُ الْفَتْحِ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حَالِهَا وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَقْدِ الصُّلْحِ(2/281)
فِيهَا وَأَرَادَ سُكْنَاهَا مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَقْدُ صُلْحٍ وَلَا دُخُولَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَيَمْتَنِعُ حَتَّى يُثْبِتَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي الْبِلَادِ الْقَدِيمَةِ كَدِمَشْقَ وَبَعْلَبَكّ وَحِمْصَ وَمِصْرَ وَمَا أَشْبَهَهَا فِيهَا نَصَارَى لَا حَاجَةَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ .
وَلَا نَعْلَمُ هَلْ تَقَدَّمَ لَهُمْ عَقْدُ صُلْحٍ يَقْتَضِي إقَامَتَهُمْ فِيهَا أَوْ لَا فَهَلْ نَقُولُ الْأَصْلُ عَدَمُهُ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ حَتَّى يَثْبُتَ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ تَمَسُّكًا بِالْأَصْلِ ، أَوْ نَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ إقَامَتَهُمْ بِحَقٍّ فَلَا يُزْعَجُونَ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ ، هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَيَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ شَوَاهِدُ فِي الْفِقْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ وَجْهَانِ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ غَيْرِ الْأَصْلِ بَعِيدٌ مَعَ تَطَابُقِ الْأَعْصَارِ عَلَى وُجُودِهِمْ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ أَوْ بَقَائِهِمْ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَمَادِي الْأَوْقَاتِ وَإِهْمَالِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَاطِ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ بِمَنْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ .
وَكَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ أَوَّلُ مَا يُسْمَعُ يُسْتَنْكَرُ وَإِذَا نُظِرَ فِيهِ لَمْ نَجِدْ عَنْهُ مَدْفَعٌ شَرْعِيٌّ وَيُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فِيمَا يَحْدُثُ وَمَنْعُهُ مِنْ تَمَلُّكِ دَارٍ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ غَرِيبٌ مَعَ اقْتِصَارِ الْبَحْثِ لَهُ .(2/282)
وَهَذَا طَرِيقٌ إلَى نَقْصِ كَثِيرٍ مِنْ أَمْلَاكِهِمْ وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فِي صِحَّةِ شِرَائِهِ خِلَافٌ كَنَظِيرِهِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ .
وَمِمَّا يُوقَفُ عَنْ قَبُولِ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْيَهُودَ الْمُوَادِعِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَيْهِمْ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَوَّلِ مُدَّةً طَوِيلَةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ شُرِعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ قَالَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ أَوْ أَنَّ وُجُوبَهُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ إجْلَائِهِمْ وَإِبْقَائِهِمْ كَانَ جَيِّدًا وَكُنَّا نَحْمِلُ مَا نُشَاهِدُهُ مِنْ إبْقَائِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَا رَأَى الْمَاضُونَ الْمَصْلَحَةَ فِي إجْلَائِهِمْ
وَاَلَّذِي يَشْهَدُ الْخَاطِرُ أَنَّ سَبَبَهُ إهْمَالُ الْمُلُوكِ ذَلِكَ وَعَدَمُ نَظَرِهِمْ وَلَيْسُوا أَهْلَ قُدْوَةٍ وَأَعْمَالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهِمَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالِاسْتِيلَاءُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ مَشْغُولُونَ بِعِلْمِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ عَنْ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَتَضْيِيعِ زَمَانِهِمْ فِيهِ مَعَ صُعُوبَتِهِ كَمَا نَحْنُ نُشَاهِدُ ، وَلَقَدْ كَانَ الْبَكْرِيُّ شَاهَدَ مِنْ عُلُوِّهِمْ وَاسْتِيلَائِهِمْ مَا أَوْجَبَ تَأَثُّرَ قَلْبِهِ وَانْفِعَالِهِ لِقَبُولِ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ .(2/283)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهِمْ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي الْأَمْصَارِ إذَا كَانَ إلَيْهِمْ حَاجَةٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ لَهُ غُلَامٌ نَصْرَانِيٌّ اسْمُهُ أَشَقُّ كَانَ يَقُولُ لَهُ أَسْلِمْ حَتَّى أَسْتَعْمِلَك فَإِنِّي لَا أَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مُسْلِمًا فَيَأْبَى فَأَعْتَقَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَأَبُو لُؤْلُؤَةَ كَانَ مَجُوسِيًّا لَكِنْ مَا جَاءَ مِنْهُ خَيْرٌ .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيِّ مَهْمَا تَنْصَحْ فَلَنْ نَعْزِلَك عَنْ عَمَلِك وَمَنْ أَقَامَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ مَجُوسِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ .(2/284)
وَكَانَ الْمُنْذِرُ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهِ وَتَصْدِيقِهِ وَإِنِّي قَرَأْت كِتَابَك عَلَى أَهْلِ هَجَرَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ الْإِسْلَامَ وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ فَأَحْدِثْ إلَيَّ فِي ذَلِكَ أَمْرَك فَانْظُرْ مَا كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَخْرِجْهُمْ مِنْ بِلَادِك وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَصَالِحِ تَأَلُّفُهُمْ رَجَاءَ إسْلَامِهِمْ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا تَحْتَ الذِّلَّةِ ، وَكَانَتْ كِتَابَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى بَعْدَ إجْلَاءِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى النَّجَاشِيِّ فَأَسْلَمَ عِنْدَهُ الْحَبَشَةُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِخْرَاجِهِمْ وَكَتَبَ إلَى عَبَدَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا الصَّدَقَةَ وَالْجِزْيَةَ فَيَدْفَعُوهَا إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِخْرَاجِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ وَلَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ .(2/285)
وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَهُ فِي الْجِزْيَةِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَهَا أَحْكَامٌ وَلَمْ يُخْرِجُوا أَهْلَ الْيَمَنِ بَعْدَهُ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إخْرَاجَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إنَّمَا هُوَ مِنْ الْحِجَازِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي إجْلَاءِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مِنْ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ إلَى مَكَان آخَرَ يَرَاهُ فَلَهُ ذَلِكَ إلَى حَسَبِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ .(2/286)
وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِلَّا فَيَخْشَى أَنْ يُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَيُبْقِيَ مَنْ شَاءَ بِحَسَبِ هَوَى نَفْسِهِ وَغَرَضِهِ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى } وَهُوَ وَصِيَّةٌ لِأُمَّتِهِ بِمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَهُ مِنْ ذَلِكَ وَجَوَازُهُ مُتَقَرِّرٌ قَبْلَ ذَلِكَ أَلَا تَرَى قَوْله تَعَالَى { وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلَاءَ } وَذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ فَلَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا أَنَّ الدِّينَ كَمُلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذُ مَا تَقَرَّرَ جَوَازُهُ وَتَحَتُّمُهُ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلَ بِهِ عُمَرُ بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ مِنْ الْحِجَازِ .(2/287)
وَأَمَّا غَيْرُ الْحِجَازِ فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِلْإِمَامِ وَلَا نَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَيَضِيقُ الْأَمْرُ وَلَا يَمْتَنِعُ بَلْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ مَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ أَوْ صُلْحٌ وَمَتَى شَكَّ فِي صُلْحٍ مُتَقَدِّمٍ فَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ إنْ اُدُّعِيَ صُلْحٌ قَرِيبٌ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ إمَامٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَإِنْ بَعُدَ الْعَهْدُ وَاحْتَمَلَ الصُّلْحَ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَجَبَ إبْقَاءُ مَنْ احْتَمَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَلَا يُكَلَّفُ بِبَيِّنَةٍ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ كَالْيَدِ ، وَلِهَذَا نَظِيرٌ وَهُوَ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَقُولُ إنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ شَخْصٍ لَمْ يُعَيِّنْهُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيهِ .
وَلَوْ قَالَ إنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ زَيْدٍ وَأَنْكَرَ زَيْدٌ أَوْ وَارِثُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ زَيْدٍ أَوْ وَارِثِهِ كَمَا لَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : كُنْت زَوْجَةً لِزَيْدٍ فَطَلَّقَنِي يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِ زَيْدٍ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَتْ كُنْت زَوْجَةً لِرَجُلٍ وَطَلَّقَنِي قُبِلَ قَوْلُهَا .
وَبِهَذَا يُجَابُ عَمَّا أَجَابَهُ شَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالنَّفَائِسِ فِي أَدِلَّةِ هَدْمِ الْكَنَائِسِ وَحَاوَلَ أَنَّ النَّصَارَى وَالْيَهُودَ يُكَلَّفُونَ الْبَيِّنَةَ عَلَى قِدَمِ الْكَنَائِسِ وَأَنَّهُمْ مُدَّعُونَ وَلَا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا إلَى زَمَانٍ تَحَقَّقْنَا وُجُودَهَا فِيهِ .
وَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ مَعَ الْيَدِ ضَعِيفٌ .(2/288)
وَأَنَا أَقُولُ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا الْيَدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِصْحَابُ حُجَّةٌ لِمَا تَحَقَّقَ وُجُودُهُ فِي الْمَاضِي .
وَادَّعَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ حُجَّةٌ أَيْضًا لِمَا وُجِدَ الْآنَ وَشَكَكْنَا فِيهِ فِي الْمَاضِي ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ خِلَافُهُ لَكِنَّ التَّمَسُّكَ فِيهِ بِصُورَةِ الْيَدِ قَوِيٌّ فَإِذَا اُحْتُمِلَ وَلَمْ يَكُنْ مُدَّعٍ مُعَيَّنٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيَّرَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَمَسْأَلَةِ الزَّوْجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّا لَوْ كَلَّفْنَا أَرْبَابَ الْأَيْدِي إلَى بَيِّنَةٍ مَعَ جَهَالَةِ مَنْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ مِنْهُ إلَيْهِمْ لَكَانَ فِي ذَلِكَ تَسْلِيطٌ لِلظَّلَمَةِ عَلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَلَوْ جَوَّزْنَا الْحُكْمَ بِرَفْعِ الْمَوْجُودِ الْمُحَقَّقِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ لَزِمَ أَيْضًا ذَلِكَ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّكِّ فِي قِدَمِهِ مِنْ الْكَنَائِسِ الْمَوْجُودَةِ الْمُحْتَمِلَةِ الْقِدَمِ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ مِنِّي بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِإِبْقَائِهَا لَكِنَّ تَوَقُّفِي فِيهَا لَا فِي الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ الْأَصْلِ بَلْ بِبَيِّنَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهِ وَالْبِلَادُ بِحَسَبِ غَرَضِنَا هَذَا ثَلَاثَةٌ : ( أَحَدُهَا ) بَلَدٌ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ وَلَا يَشْتَرِطُونَ لِأَهْلِهَا شَيْئًا فَلِلْإِمَامِ إخْرَاجُ الْكُفَّارِ مِنْهَا وَمَنْعُهُمْ مُسَاكَنَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا جَوَازًا قَطْعًا ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِهِ إذَا رَأَى مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَيْهِمْ كَمَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .(2/289)
( الْبَلَدُ الثَّانِي ) بَلَدٌ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ كَسَوَاحِلِ الشَّامِ فَهَلْ نَقُولُ الِاعْتِبَارُ بِهَذَا الْفَتْحِ فَيَكُونُ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ يَسْتَمِرُّ عَلَيْهَا حُكْمُ فُتُوحِ عُمَرَ ؟ فِيهِ نَظَرٌ وَالْأَقْرَبُ الثَّانِي لِأَنَّ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ لَا أَثَرَ لَهُ .
( الْبَلَدُ الثَّالِثُ ) مَا فُتِحَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُغَيَّرَ فِيهِ شَيْءٌ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ عَمَلًا بِالْيَدِ أَوْ شِبْهِ الْيَدِ لِتَعَذُّرِ ثُبُوتِ خِلَافِهِ .
وَإِذَا أَبْقَيْنَا كَنِيسَةً فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنْ لَا نَهْدِمَهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِذْنُ فِيهَا وَلَا الْتِزَامٌ بِذَلِكَ وَلَا التَّمْكِينُ مِنْ تَرْمِيمِهَا إذَا شُعِّثَتْ وَلَا إعَادَتُهَا إذَا خَرِبَتْ ، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مَعَ أَنَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْهَا مِثْلَنَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ عَلَى التَّقْدِيرِ فِيهِ وَالتَّمْكِينِ مِنْهُ أَعْنِي التَّرْمِيمَ وَالْإِعَادَةَ فَكَانَ مَمْنُوعًا فَصَارَ الْإِذْنُ بِالتَّرْمِيمِ أَوْ بِالْإِعَادَةِ مُمْتَنِعًا بِشَيْئَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّهُ حُكْمٌ فِي مَحَلِّ شَكٍّ فَيَكُونُ مُمْتَنِعًا وَكَمَا أَنَّا لَا نَهْدِمُهَا بِالشَّكِّ فَلَا نُرَمِّمُهَا أَوْ نُعِيدُهَا بِالشَّكِّ .(2/290)
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ دَلِيلٌ بِالتَّقْرِيرِ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ لِتَحَقُّقِ تَحْرِيمِهِ فِي الشَّرْعِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ فَكَذَلِكَ أَقُولُ بِالْمَنْعِ مِنْ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ مَعَ عَدَمِ الْهَدْمِ فِي الْأَصْلِ وَلَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا احْتِيَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى تَصْحِيحِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَلَا إلَى شَرْطٍ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى صِحَّةِ شُرُوطِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ أَصْلُهَا عَلَى الْإِذْنِ .
وَقَدْ عَرَّفْتُكَ أَنَّ أَصْلَ الْكَنَائِسِ عَلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَمَنْ ادَّعَى جَوَازَ التَّقْرِيرِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَذْكُرُ مَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَالشُّرُوطِ تَأْكِيدًا ، وَالْأَصْحَابُ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَنْعِ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَجَيِّدٌ هُوَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ وَلَوْ لَمْ يَقُولَاهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُمَا ذَلِكَ كُنَّا قَائِلِينَ بِهِ .(2/291)
وَرَأَيْت فِي كِتَابِ الْجَوَاهِرِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إذَا اتَّجَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالْخَمْرِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ : إذَا جَلَبُوهُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا إلَى أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَا ذِمَّةَ فِيهَا فَاسْتَشْعَرْت مِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمْ يَكُونُوا فِي الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا كَانُوا فِي الْقُرَى وَلَعَلَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ثُمَّ حَدَثَ سُكْنَاهُمْ الْأَمْصَارَ بَعْدَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ ، وَلَعَلَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ بِإِحْدَاثِهَا فِي الْقُرَى الَّتِي يَتَفَرَّدُونَ بِالسُّكْنَى فِيهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِمَنْعِهَا لِأَنَّهَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَقَبْضَتِهِمْ وَإِنْ انْفَرَدُوا فِيهَا فَهُمْ تَحْتَ يَدِهِمْ فَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ لِأَنَّهَا دَارُ الْإِسْلَامِ وَلَا يُرِيدُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ قَرْيَةً فِيهَا مُسْلِمُونَ فَيُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ بِنَاءِ كَنِيسَةٍ فِيهَا .
فَإِنَّ هَذِهِ فِي مَعْنَى الْأَمْصَارِ فَتَكُونُ مَحَلَّ إجْمَاعٍ وَتَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقُرَى الَّتِي جَرَتْ عَادَتُهَا بِسَكَنِهِمْ فِيهَا لِاشْتِغَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْفِلَاحَةِ وَغَيْرِهَا .
أَوْ لِمَا يُرْجَى مِنْ إسْلَامِهِمْ صَاغِرِينَ بَاذِلِينَ لِلْجِزْيَةِ ، فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُبْقِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَسْمَعُوا مَحَاسِنَهُ فَلَمْ يَسْلَمُوا وَلَوْ بَقِينَاهُمْ بِلَا جِزْيَةٍ وَلَا صَغَارٍ غَرُّوا وَأَنِفُوا فَبَقِينَاهُمْ بِالْجِزْيَةِ لَا قَصْدًا فِيهَا بَلْ فِي إسْلَامِهِمْ(2/292)
وَلِهَذَا إذَا نَزَلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَقْبَلُهَا لِأَنَّ مُدَّةَ الدُّنْيَا الَّتِي يُرْجَى إسْلَامُهُمْ فِيهَا فَرَغَتْ .
وَالْحُكْمُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ فَزَالَ حُكْمُ قَبُولِ الْجِزْيَةِ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ وَهُوَ اقْتِصَارُ إسْلَامِهِمْ وَذَلِكَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ حُكْمًا جَدِيدًا فَإِنَّ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا يَنْزِلُ حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَبَعْدَ أَنْ كَتَبْتُ هَذَا وَقَفْتُ عَلَى شَرْحِ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ : وَهَذَا الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى لِأَنَّ الْأَمْصَارَ مَحَلُّ إقَامَةِ الشَّعَائِرِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ : وَالْمَرْوِيُّ فِي دِيَارِنَا يَمْنَعُونَ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَيْضًا لِأَنَّ لَهَا بَعْضَ الشَّعَائِرِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قُرَى الْكُوفَةِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ وَفِي أَرْضِ الْعَرَبِ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِهِمْ وَقُرَاهُمْ .
وَفِي الْكَافِي مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ لِحَافِظِ الدِّينِ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ .
( بَابُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ )
أَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَنُفْرِدُ لِشُرُوطِهِ بَابًا .
وَرَوَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَدْمِ كُلِّ كَنِيسَةٍ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يَظْهَرَ صَلِيبٌ إلَّا كُسِرَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ .(2/293)
وَهَذَا الْأَثَرُ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ لِابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَّافٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ .
وَمَعْنَاهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي سِرَاجِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الْكَنَائِسَ الْحَادِثَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَبْقَى فِي الْأَمْصَارِ إجْمَاعًا وَلَا فِي الْقُرَى عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِإِبْقَائِهَا فِي الْقُرَى بَعِيدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَنَحْكِيهِ فِي الْمِصْرِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّمَا نَعْنِي بِالْمِصْرِ أَيَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَدِينَةً أَوْ قَرْيَةً .
وَفِي كِتَابِ مَا يَلْزَمُ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِعْلُهُ لِأَبِي يَعْلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءِ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ رِسَالَةً إلَى الْوَزِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الشُّرُوطِ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَذَكَرَهَا وَأَطَالَ ثُمَّ قَالَ وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ يَعْنِي هَذِهِ الْمُحَدِّثَةَ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَثَرَ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمَ : وَكَانَ عُرْوَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَهْدِمُهَا بِصَنْعَاءَ هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ .(2/294)
وَاَلَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يَعْنِي فِي الْمُحَدِّثَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ : وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَمَرَ أَنْ لَا يُتْرَكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِيعَةٌ وَلَا كَنِيسَةٌ بِحَالٍ قَدِيمَةً وَلَا حَدِيثَةً وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُهْدَمَ الْكَنَائِسُ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُتْرَكَ الْبِيعَةُ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ .
وَفِيهِ أَيْضًا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ صُولِحُوا عَلَى أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النِّيرَانِ وَالْأَوْثَانِ فِي غَيْرِ الْأَمْصَارِ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ مِنْ بَقَاءِ الْأَوْثَانِ بَعِيدٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلَا يَجُوزُ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَيْهِ ، فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَا تَدَعْ قَبْرًا نَاتِئًا عَنْ الْأَرْضِ إلَّا سَوَّيْتَهُ وَلَا صَنَمًا إلَّا كَسَّرْتَهُ وَلَا صُورَةً إلَّا مَحَوْتَهَا } .
رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إلَيْهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عِصْمَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .(2/295)
وَأَصَحُّ مِنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ { عَنْ أَبِي الْهَيَاجِ حَيَّانَ بْنِ حُصَيْنٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ طَلَبَنِي عَلِيٌّ فَقَالَ : أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ } .وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا عُمُومِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَلِيٍّ كَانَ فِي الْكُوفَةِ وَتِلْكَ الْبِلَادُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُشْرِكُونَ فَقَطْ بَلْ فِيهَا جَمَاعَةٌ يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ، أَمَّا النِّيرَانُ فَقَرِيبٌ وَهِيَ إنَّمَا هِيَ لِلْمَجُوسِ فَتَقْرِيرُهُمْ عَلَيْهَا كَتَقْرِيرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَإِذَا اشْتَرَطُوا ذَلِكَ لَمْ نَمْنَعْ مِنْهُ .
وَهُنَا لَطِيفَةٌ فَارِقَةٌ بَيْنَ النِّيرَانِ وَالْأَوْثَانِ فَإِنَّ الْأَوْثَانَ مِنْ قِسْمِ الْأُصُولِ وَالنِّيرَانِ مِنْ قِسْمِ الْفُرُوعِ وَنَجِدُ أَكْثَرَ مَا أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ قِسْمِ
الْفُرُوعِ وَاحْتِمَالُهَا رَجَاءَ الْإِسْلَامِ سَهْلٌ ، وَأَمَّا الْأَوْثَانُ فَشِرْكٌ ظَاهِرٌ فَلَا يُحْتَمَلُ .(2/296)
وَقَوْلِي " ظَاهِرٌ " احْتِرَازٌ مِمَّا نَحْنُ جَازِمُونَ بِأَنَّهُ يَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ كَنَائِسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ لِأَنَّهُ خَفِيٌّ فَلَوْ أَظْهَرُوهُ لَمْ نَحْتَمِلْهُ وَلِذَلِكَ تُقْسَمُ الشُّرُوطُ الْمَأْخُوذَةُ عَلَيْهِمْ إلَى مَا مُخَالَفَتُهُ نَاقِضَةٌ لِلذِّمَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَهُوَ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَشِرْكٌ ظَاهِرٌ عَلَى تَفْصِيلٍ وَتَحْرِيرٍ مَذْكُورٍ فِي بَابِهِ فَهَذَا لَا يُحْتَمَلُ وَمَا سِوَاهُ قَدْ يُحْتَمَلُ .
وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ ثنا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ثنا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ أَنْ يَمْحُوَ التَّمَاثِيلَ الْمُصَوَّرَةَ .(2/297)
وَأَمَّا كَرَاهِيَةُ الْحَسَنِ لِتَرْكِ الْبِيَعِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَبِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْحَادِثَةَ وَالْقَدِيمَةَ كَمَا نَقَلَهُ الطُّرْطُوشِيُّ عَنْهُ وَأَنَّهُ قَالَ أَنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُوَافِقٌ لَهُ وَزَائِدٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمِصْرَ فِي كَلَامِ الْحَسَنِ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ مَوْضِعٍ وَمُحْتَمِلٌ لِلْمُدُنِ ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَامٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُهْدَمَ مِنْ جَمِيعِهَا الْكَنَائِسُ الْقَدِيمَةُ وَالْحَدِيثَةُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْفَتْحِ فَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُ الصُّلْحِ وَهُوَ إمَامُ هُدًى مُطَاعٌ صَاحِبُ الْأَمْرِ فَأَمْرُهُ بِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي زَمَانِهِ كَنِيسَةٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا هُوَ بِهَا الْيَوْمَ مِنْ الْكَنَائِسِ حَدَثَ بَعْدَهُ أَوْ كَانَ وَلَمْ يَطَّلِعْ هُوَ عَلَى تَرْكِهِ فَلَا يَحْتَجُّ فِي إبْقَاءِ مَا نَجِدُهُ مِنْهَا .
وَإِنَّمَا قُلْت ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ هَدْمِهَا لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمْ يَهْدِمْهَا فَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، هَذَا إنْ صَحَّ السَّنَدُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا ذَكَرَهُ الطُّرْطُوشِيُّ وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا تَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ وَجَعَلُوا ذَلِكَ عُمْدَةً فِي الْإِبْقَاءِ .(2/298)
وَهَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيِّ قَالَ : جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا تَهْدِمْ بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ صُولِحُوا عَلَيْهِ .
فَقَوْلُهُ " صُولِحُوا عَلَيْهِ " قَيْدٌ وَلَا بُدَّ مِنْهُ لِمَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَامٌّ .
وَاَلَّذِي تَقَدَّمَ عَلَيْهِ خَاصٌّ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَيَكُونُ هَذَا فِي بِلَادِ الْمَجُوسِ ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِيهِ بَيْتَ النَّارِ أَوْ فِي بِلَادِهِمْ وَبِلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّتِي صَالَحُوا عَلَيْهَا كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِيهَا تَنَافِي بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نُقِلَتَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إذَا صَحَّتْ الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَنَّهُ يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ لَا صُلْحَ لَهُمْ عَلَى إبْقَائِهَا فِي فَتْحِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ حُكْمِهِ وَأَقْرَبُهَا الشَّامُ لِأَنَّهَا سَكَنُهُ وَمِصْرُ وَالْعِرَاقُ يَكْتَنِفَانِهَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كِتَابٌ إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهَا فِي غَيْرِهِمْ ، وَالْغُرُّ يَسْمَعُ لَا تَهْدِمُوا فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ فِي بِلَادٍ مَخْصُوصَةٍ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى لَفْظٌ عَامٌّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ .(2/299)
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاشْتُهِرَ اشْتِهَارًا كَثِيرًا سَنَذْكُرُهُ وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ ثنا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَنَشٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَلِلْعَجَمِ أَنْ يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً وَبِيعَةً .
فَقَالَ أَمَّا مِصْرٌ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِنَاءً أَوْ قَالَ بِيعَةً وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا وَلَا يَشْرَبُوا فِيهِ خَمْرًا وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا أَوْ يَدْخُلُوا فِيهِ .
وَأَمَّا مِصْرٌ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ فَنَزَلُوا يَعْنِي عَلَيْهِمْ فَلِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ وَلِلْعَجَمِ عَلَى الْعَرَبِ أَنْ يُوفُوا بِعَهْدِهِمْ وَلَا يُكَلِّفُوهُمْ فَوْقَ طَاقَتِهِمْ .
وَقَدْ أَخَذَ الْعُلَمَاءُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا وَجَعَلُوهُ مَعَ قَوْلِ عُمَرَ وَسُكُوتُ بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ إجْمَاعًا .
وَقَدْ رَوَيْنَا أَثَرَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ .(2/300)
وَقَدْ ذَكَرْنَا سَنَدًا إلَيْهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الرَّحَبِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّمْصِيرُ عَلَى وُجُوهٍ : مِنْهَا الْبِلَادُ يُسْلِمُ عَلَيْهَا أَهْلُهَا كَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ وَالْيَمَنِ أَوْ بَعْضُهَا وَكُلُّ أَرْضٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ فَاخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالثُّغُورِ وَكُلُّ قَرْيَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَلَمْ يَرَ الْإِمَامُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى الَّذِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُ قَسَمَهَا بَيْنَ الَّذِينَ فَتَحُوهَا كَفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ .
فَهَذِهِ أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَأَشْبَاهُهَا لَا سَبِيلَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فِيهَا إلَى إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ .(2/301)
وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ فَمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْزَعْ مِنْهُمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَمِنْ بِلَادِ الصُّلْحِ أَرْضُ هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَأَيْلَةَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَذْرُحَ أَدَّتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ وَمِنْ الصُّلْحِ بَعْدَهُ بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَدِمَشْقُ وَمُدُنُ الشَّامِ دُونَ أَرَاضِيهَا وَكَذَلِكَ بِلَادُ الْجَزِيرَةِ وَقِبْطُ مِصْرَ وَبِلَادُ خُرَاسَانَ وَكَذَلِكَ كُلُّ بِلَادٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَرَأَى الْإِمَامُ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَإِقْرَارَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ بِالسَّوَادِ وَكَذَلِكَ بِلَادُ الشَّامِ كُلُّهَا عَنْوَةً خَلَا مُدُنَهَا وَكَذَلِكَ الْجَبَلُ وَالْأَهْوَازُ وَفَارِسُ وَالْمَغْرِبُ وَالثُّغُورُ ، فَهَذِهِ بِلَادُ الْعَنْوَةِ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ بَلَغَ عُمَرُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ أَثْرَى فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ فَكَتَبَ أَنْ اكْسَرُوا كُلَّ شَيْءٍ قَدِيمٍ عَلَيْهِ وَوُجِدَ فِي بَيْتِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ رُوَيْشِدٌ فَقَالَ أَنْتَ فُوَيْسِقٌ وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِبَ وَنَظَرَ إلَى غُرَارَةَ فَقَالَ مَا هَذِهِ قَالُوا قَرْيَةً تُدْعَى غُرَارَةُ يُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ فَأَحْرَقَهَا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ لَمْ تَكُنْ فَمَا شَرَطَ لَهُمْ وَإِنَّمَا شَرَطَ لَهُمْ شُرْبَهَا وَلِهَذَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا يُحْمَلُ الْخَمْرُ مِنْ رُسْتَاقٍ إلَى رُسْتَاقٍ .(2/302)
وَقَالَ لِعَامِلِهِ عَلَى الْكُوفَةِ : مَا وَجَدْت مِنْهَا فِي السُّفُنِ فَصَيِّرْهُ خَلًّا فَكَتَبَ عَامِلُهُ وَهُوَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى عَامِلِهِ بِوَاسِطَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ بِذَلِكَ فَأَتَى السُّفُنَ فَصَبَّ فِي كُلِّ رَاقُودٍ مَاءً وَمِلْحًا فَصَيَّرَهُ خَلًّا .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فَلَمْ يُحِلْ عُمَرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شُرْبِهَا لِأَنَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ صُولِحُوا وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حَمْلِهَا وَالتِّجَارَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا نَرَاهُ أَمَرَ بِتَصْيِيرِهَا خَلًّا وَتَرْكِهَا أَنْ يَصُبَّهَا فِي الْأَرْض لِأَنَّهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَوْ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ مَا جَازَ إلَّا إهْرَاقُهَا .
وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ بِمَالِ رُوَيْشِدٍ حِينَ أَحْرَقَ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَجْعَلَهَا خَلًّا وَكَانَ رُوَيْشِدٍ مُسْلِمًا وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَخْلِيلِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ إلَّا الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ .
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ خَلُّ الْعِنَبِ وَلَا يَقُولُ خَلُّ الْخَمْرِ .(2/303)
وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيّ يَأْمُرُهُمْ بِالثَّغْرِ إذَا أَرَادُوا اتِّخَاذَ الْخَلِّ مِنْ الْعَصِيرِ أَنْ يُلْقُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ خَلٍّ سَاعَةَ يُعْصَرُ فَتَدْخُلُ حُمُوضَةُ الْخَلِّ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فَلَا يَعُودُ خَمْرًا أَبَدًا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ إنَّمَا فَعَلَ الصَّالِحُونَ هَذَا تَنَزُّهًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَلِّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ مَرَّةً خَمْرًا وَإِنْ آلَتْ إلَى الْخَلِّ وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرَى تَحْتَهُ الشَّمْسُ وَالْمِلْحُ وَالْحِيتَانُ فَالْمُرَى شَيْءٌ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَيَبْتَاعُهُ الْمُسْلِمُونَ مُرًّا لَا يَدْرُونَ كَيْفَ كَانَ ، وَهَذَا كَقَوْلِ عُمَرَ وَلَا بَأْسَ عَلَى امْرِئٍ أَصَابَ خَلًّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَبْتَاعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا إفْسَادَهَا أَلَا تَرَاهُ إنَّمَا رَخَّصَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
كَذَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ أَلْقَى فِي خَمْرِ أَهْلِ السَّوَادِ مَاءً أَمَّا فِعْلُهُ بِخَمْرِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يَجُوزُ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ .
انْتَهَى مَا أَرَدْت نَقْلَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ .
وَلَمْ يَزَلْ الْإِشْكَالُ فِي تَخْلِيلِنَا خَمْرِ الذِّمِّيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُرَخِّصُ لَهُ فِي تَخْلِيلِهَا وَكَانَ الْمَقْصُودُ ذِكْرَ أَثَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَلَّذِي اقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ يَبْقَى مِنْ الْكَنَائِسِ إلَّا بِعَهْدٍ حَيْثُ يَجُوزُ الْعَهْدُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ .(2/304)
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي بِلَادٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَرَأَى الْإِمَامُ رَدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَإِقْرَارَهَا فِي أَيْدِيهِمْ عَلَى دِينِهِمْ وَذِمَّتِهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ فِي السَّوَادِ وَهَذَا مَذْهَبٌ لَا هُوَ يَقُولُ بِهِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْجُمْهُورِ ، وَإِنَّمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ
أَنَّهُ فُتِحَ عَنْوَةً ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ : هُوَ الْآنَ مِلْكٌ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بِالشِّرَاءِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ وَقْفٌ حَقِيقِيٌّ يَمْتَنِعُ بَيْعُهُ وَعَلَى هَذَا هَلْ كَانَ بِإِنْشَاءِ وَقْفٍ مِنْ عُمَرَ بَعْدَ اسْتِرْضَائِهِ الْغَانِمِينَ أَوْ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ لِلْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْغَانِمِينَ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالْأَوَّلِ وَيَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَوَّضَهُ مِنْ حَقِّهِ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ دِينَارًا وَعَوَّضَ امْرَأَةً مَعَهُ يُقَالُ لَهَا أُمُّ كُرْزٍ حَتَّى تَرَكَتْ حَقَّهَا .(2/305)
وَقَالَ جَمَاعَةٌ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا عُمَرُ كَانَ نَقَلَ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى الْعِرَاقِ قَالَ لَهُ هَلْ لَك فِي الْكُوفَةِ وَأَنْفِلُكَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ قَالَ : نَعَمْ ، فَبَعَثَهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فَنَرَى أَنَّ عُمَرَ إنَّمَا خَصَّ جَرِيرًا وَقَوْمَهُ بِالنَّفْلِ الْمُتَقَدِّمِ دُونَ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ وَمَلَكُوهُ بِالنَّفْلِ وَإِنَّمَا الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً فِي أَرْضِهَا إنْ شَاءَ قَسَمَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بَعْدَ الْخُمُسِ كَمَا بُيِّنَ فِي بَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا وَقْفًا عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } وَرَأَى عُمَرُ هَذَا وَوَافَقَهُ عَلِيٌّ وَمُعَاذٌ وَرَأَى بِلَالٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ الْأَوَّلَ فَهِيَ بَاقِيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهَا فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ الْكَنَائِسِ تُهْدَمُ قَالَ لَا إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا فِي الْحَرَمِ .
وَهَذَا مِنْ عَطَاءٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا حَصَلَ صُلْحٌ عَلَيْهَا أَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ .(2/306)
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا : ثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ سُرَاقَةَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ لِأَهْلِ دَيْرِ طَابَا أَنِّي أَمَّنْتُكُمْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَكَنَائِسِكُمْ أَنْ تُهْدَمَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ كَانَ أَمِيرًا فَإِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنْ لَا تُهْدَمَ الْكَنَائِسُ جَازَ إنْ كَانَ مَوْضِعُهَا لَمْ يُؤْخَذْ عَنْوَةً وَكَذَا إذَا أُخِذَ عَنْوَةً عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ يَكُونُ رَأَى وَالشَّامُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنَّ قُرَاهُ وَأَرَاضِيَهُ عَنْوَةً وَمُدُنَهُ صُلْحٌ .(2/307)
وَفِي دِمَشْقَ خِلَافٌ كَثِيرٌ هَلْ هِيَ صُلْحٌ أَوْ عَنْوَةٌ بَيْنَ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْفُقَهَاءِ فَالْجُورِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا يَقُولُ إنَّهَا صُلْحٌ ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ إنَّهَا عَنْوَةٌ وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ اخْتِلَافُ الْمُؤَرِّخِينَ حَتَّى قِيلَ إنَّ أَمْرَهَا أُشْكِلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَجَعَلَهَا وَكَذَلِكَ أُشْكِلَ أَمْرُهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ لِفَتْحِهِمَا فَجَعَلُوهَا صُلْحًا تَوَرُّعًا لَيْسَ أَنَّهُمْ جَازِمُونَ فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ وَخَالِدًا عَلَى بَابٍ شَرْقِيٍّ وَهُوَ كَانَ الْأَمِيرُ مِنْ جِهَةِ أَبِي بَكْرٍ وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ فَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ فَأَخْفَى أَبُو عُبَيْدٍ الْكِتَابَ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ فَانْتَهَزَ يَزِيدُ فُرْصَةً فَدَخَلَ عَنْوَةً مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ ذَهَبَ رَاهِبُ دِمَشْقَ إلَى خَالِدٍ خَدَعَهُ وَصَالَحَهُ وَدَخَلَ فَوَجَدَ يَزِيدَ قَدْ دَخَلَ وَخَالِدٌ لَا يَشْعُرُ حَتَّى الْتَقَيَا عِنْدَ سُوقِ الزَّيْتِ .
وَأَنَا عِنْدِي فِي صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ نَظَرٌ وَقِيلَ إنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ دَخَلَ عَنْوَةً وَخَالِدٌ صُلْحًا وَقِيلَ عَكْسُهُ وَمِصْرُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِيهَا أَنَّهَا عَنْوَةٌ وَقِيلَ صُلْحًا .(2/308)
وَمِمَّا أُنَبِّهُ عَلَيْهِ هُنَا أَنَّ الصُّلْحَ تَارَةً يَكُونُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَتَقْرِيرِهَا بِالْجِزْيَةِ فَقَطْ دُونَ التَّعَرُّضِ لِلْعَقَارِ وَالْأَرَاضِي وَتَارَةً يَكُونُ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَالٍ مَمْلُوكٍ لِلْكُفَّارِ عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ وَذَلِكَ فِي كُلِّ عَقَارٍ وَأَرْضٍ خَاصَّةٍ بِقَوْمٍ أَمَّا الْأَرَاضِي الْعَامَّةُ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِمْ بِالْمَمْلَكَةِ الْعَامَّةِ دُونَ أَنْ يَكُونَ فِي مِلْكِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَهَذِهِ فِي فَتْحِ الْعَنْوَةِ لَا شَكَّ أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ فَيْءٌ لَهُمْ وَلَا حَقَّ لِلْكُفَّارِ فِيهَا .
وَأَمَّا فِي فَتْحِ الصُّلْحِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَرَاضِيَ ثَلَاثٌ : ( إحْدَاهَا ) مَا هُوَ مِلْكُ كَافِرٍ خَاصٌّ فَهُوَ غَنِيمَةٌ أَوْ فَيْءٌ .
( الثَّانِيَةُ ) مَوَاتٌ فَقَدْ قَالُوا إنَّهَا لَا تَكُونُ غَنِيمَةً وَلَا فَيْئًا بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى حُكْمِ الْمَوَاتِ .(2/309)
( الثَّالِثَةُ ) مَا لَيْسَ بِمَوَاتٍ وَلَا مِلْكٍ خَاصٍّ مِثْلَ أَرَاضِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الَّتِي هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ مِثْلُهَا فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ هَلْ نَقُولُ هِيَ مِلْكٌ لَهُمْ أَوْ لَا لِأَنَّ جِهَةَ الْإِسْلَامِ تَمْلِكُ كَمَا تَمْلِكُ بِالْإِرْثِ بِخِلَافِ جِهَةِ الْكُفْرِ وَالْأَرْضُ لِلَّهِ فَيَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ ، وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي فِي ذَلِكَ إنْ جَرَى الصُّلْحُ عَلَى أَنَّهَا لَنَا فَلَا إشْكَالَ وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِلْكٌ وَإِنْ جَرَى صُلْحٌ عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ فَلَمْ تَدْخُلْ فِي أَيْدِينَا وَلَا يَحْصُلُ لَنَا فِيهَا مِلْكٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيْدِيهِمْ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا مِلْكُهُمْ وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ أُرَاضِي نَجْرَانَ لَمَّا انْجَلَى أَهْلُهَا فَإِنَّهَا بِجَلَائِهَا دَخَلَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَمَلَكُوهَا بِدُخُولِهَا فِي يَدِهِمْ كَمَا يَمْلِكُونَ سَائِرَ الْمُبَاحَاتِ بِذَلِكَ .
وَالْوَاقِعُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ أَنَّهَا فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَهُمْ إمَّا وَقْفًا وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ ، وَإِمَّا مِلْكًا وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَنْ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِيمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لَمْ نَعْرِفْ مَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْهُ فَيَبْقَى فِي يَدِهِ وَلَا يُكَلَّفُ بَيِّنَةً .(2/310)
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ تَعَيُّنِ الْأَرَاضِي هَلْ هِيَ لَنَا أَوْ لَهُمْ فَإِنْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ بِالْبَلَدِ لَمْ يَدْخُلْ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُمْ فِيهِ دُخُولَ اسْتِيلَاءٍ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ كَنَجْرَانَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ وَسَكَنُوهَا وَصَارُوا غَالِبِينَ عَلَيْهَا فَهَذَا قَهْرٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَنْوَةِ فَيَمْلِكُونَ الْأَرَاضِيَ وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَطْ وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مِصْرَ لَمَّا صَالَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْقِبْطَ عَلَى الْجِزْيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارَيْنِ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ آلَافِ رَأْسٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ الصُّلْحَ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِأَمَانٍ وَعَقْدِ ذِمَّةٍ وَجِزْيَةٍ لَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَى الْأَرَاضِي .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَنْقُولَةَ تَابِعَةٌ لِلرُّءُوسِ لِأَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمْ لَا لِلْأَرَاضِيِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا ، وَمَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ لِجَمَاعَةٍ مِنْ مِلْكٍ خَاصٍّ فِي يَدِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَنْقُولِ يَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ
وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فَهَلْ نَقُولُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَرَاضِي لَا تَبْقَى إلَّا إذَا شُرِطَ إبْقَاؤُهَا وَيَجُوزُ تَبْقِيَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كَالصُّورَةِ الَّتِي نَقُولُ فِيهَا فِي الْعَنْوَةِ إنَّهَا تَبْقَى عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْأُولَى حَتَّى إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ شَرْطٍ لَا تَبْقَى قَطْعًا .(2/311)
وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهَا الثَّانِي فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ وَصَحَّ إلْحَاقُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِهَا كَانَتْ كَنِيسَةً مُبْقَاةً بِغَيْرِ شَرْطٍ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ادَّعَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فَلْيَعْلَمْ ذَلِكَ وَلْيَلْحَقْ بِهِ .
وَكُنَّا نُخَالِفُ مَا قُلْنَا إنْ أُخِذَ بِظَاهِرِ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الصُّورَةُ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إنْكَارِ الْخِلَافِ يَحْتَمِلُ أَنْ تَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَالِفَهُ بَعْضُهُمْ فِي صُورَةِ الْغَنِيمَةِ فَقَطْ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ نُخَالِفَهُ فِي صُورَتَيْ الْغَنِيمَةِ وَالصُّلْحِ .
وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا شَكَكْنَا أَنَّ الْبَلَدَ فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَالْبِلَادُ فِي أَيْدِينَا كَمَا فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمْ يَضُرَّنَا ذَلِكَ فِي اسْتِمْرَارِ يَدِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَيْهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُ الصُّلْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ نَجْرِيَ عَلَيْهَا حُكْمَ الْعَنْوَةِ ثُمَّ نَقُولَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ عَنْهُمْ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ يَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ الْوَقْفِ أَخْذًا بِالْمُحَقِّقِ وَهُوَ وَضْعُ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ الِانْتِقَالِ مِنْ غَيْرِهِمْ إلَيْهِمْ وَعَدَمِ الْقِسْمَةِ .(2/312)
فَهَذِهِ طَرِيقٌ فِقْهِيٌّ مَعَ الْمَنْقُولِ أَنَّهَا كَسَوَادِ الْعِرَاقِ فَقَدْ تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْفِقْهُ مَا يَبْقَى إلَّا أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ عَدَمُ وَقَفِيَّةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهَا فَتَبْقَى مَمْلُوكَةً لِبَيْتِ الْمَالِ وَنُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمِلْكَ لِكُلِّ أُمَّةٍ تَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهَا مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ ذَلِكَ فَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } قَدْ جَعَلَهَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَهُمْ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِبَيْعٍ وَلَا غَيْرِهِ مِمَّا يُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ إذَا أَبْقَاهَا الْإِمَامُ ، وَلَمْ يَقْسِمْهَا وَإِنَّمَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَ الْإِمَامُ قِسْمَتَهَا كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ .
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي وَصِيَّةِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي مِصْرَ أَرْضٌ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِيمَا قُلْنَاهُ فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَرْضُ كَانَتْ مَوَاتًا وَلَا يَشْمَلُهَا حُكْمُ الْوَقْفِ وَمَنْ وَجَدْنَا فِي يَدِهِ أَوْ مِلْكِهِ مَكَانًا مِنْهَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَحْيَا وَوَصَلَ إلَيْهِ وُصُولًا صَحِيحًا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ شَهِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتْرُكُ لِأَهْلِ فَارِسَ صَنَمًا إلَّا كُسِرَ وَلَا نَارًا إلَّا أُطْفِئَتْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ عَوْفٍ قَالَ شَهِدْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ أَتَى بِمَجُوسِيٍّ بَنَى بَيْتَ نَارٍ بِالْبَصْرَةِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ .(2/313)
وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْبَصْرَةَ كَانَتْ مَوَاتًا فَأَحْيَاهَا الْمُسْلِمُونَ وَبَنَوْهَا وَسَكَنُوهَا فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا وَلَا بَيْتِ نَارٍ فَلَمَّا أَحْدَثَ هَذَا الْمَجُوسِيُّ بَيْتَ النَّارِ فِيهَا كَانَ نَقْضًا لِعَهْدِهِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ لِذَلِكَ ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقْسِمْ اخْتِلَافَهُ مَعَ بِلَالٍ وَبِلَالٌ يَطْلُبُ الْقِسْمَةَ وَقَوْلُهُ : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ فَمَا جَاءَ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَظْرُفُ وَانْظُرْ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ عُمَرَ مَعَ عَظَمَةِ بِلَالٍ وَمَحَلِّهِ عِنْدَ اللَّهِ لِصِحَّةِ قَصْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ الْجَمِيعِ وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ يَتَبَايَعُونَ ضَيَاعًا كَثُرَ ذَلِكَ فِي الشَّامِ
( بَابٌ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )(2/314)
أَنْبَأَنَا جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ الْمُقِيرِ عَنْ ابْنِ نَاصِرٍ ثنا أَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عُثْمَانَ قَالَا أَنَا ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَنَا أَبُو الشَّيْخِ أَنْبَأَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ ثنا الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي الْعَيْزَارِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ نُوحٍ وَالسَّرِيِّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مَصْرِفٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ : كَتَبْت لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى أَهْلِ الشَّامِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا وَكَذَا إنَّكُمْ لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَذَرَارِيّنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِيهَا وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا نُحْيِي مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا أَنْ يَنْزِلَهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَنْ نُنْزِلَ مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ نُطْعِمَهُمْ وَلَا نُؤْوِيَ فِي كَنَائِسِنَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا وَلَا نَكْتُمَ غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا وَلَا نَدْعُو إلَيْهِ وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ إذْ أَرَادُوهُ وَأَنْ نُوَقِّرَ(2/315)
الْمُسْلِمِينَ وَنَقُومَ لَهُمْ مِنْ مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ وَلَا نَرْكَبَ السَّرْجَ وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِيمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا نَبِيعَ الْخَمْرَ وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا وَأَنْ نَلْزَمَ دِينَنَا حَيْثُ مَا كُنَّا وَأَنْ نَشُدَّ زَنَانِيرَنَا عَلَى أَوْسَاطِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ الصَّلِيبَ عَلَى كَنَائِسِنَا وَأَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبَنَا وَلَا كُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْوَاقِهِمْ وَلَا نَضْرِبَ نَاقُوسًا فِي كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي كَنَائِسِنَا فِي شَيْءٍ مِنْ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَخْرُجَ سَاعُونَا وَلَا بَاعُونَا وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ حَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ .(2/316)
فَلَمَّا أَتَيْت عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْكِتَابِ زَادَ فِيهِ وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرْطُنَا لَكُمْ ذَلِكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا وَقِبْلَتِنَا عَلَيْهِ الْأَمَانُ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَا لَكُمْ وَضَمِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا ، وَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مِنَّا مَا يَحِلُّ لَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ .
رُوَاةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ كِبَارٌ إلَّا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ أَشَدُّهُ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ كَانَ يَفْتَعِلُ الْحَدِيثَ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِثِقَةٍ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ : لَيْسَ بِثِقَةٍ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : ضَعِيفٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ .
وَذَكَرَ لَهُ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْإِثْبَاتِ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ بِحَالٍ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : عَنْ مَنْصُورٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .(2/317)
وَذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ حَدِيثَهُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ قَيْسٍ مِنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنْ كَانَ إنْكَارُ الْبُخَارِيِّ لِأَجْلِ هَذَا فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ هَذِهِ الشُّرُوطَ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ تَوْثِيقٌ لَهُ وَرَوَاهَا عَنْ الْقَطَّانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى وَرَوَاهَا عَنْ ابْنِ مُصَفَّى حَرْبٌ مِنْ مَسَائِلِهِ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمَتْنُ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَفِيهِ لَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ .
وَكَذَلِكَ رَوَاهَا الْبَيْهَقِيُّ مُوَافِقًا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَكَذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ مُوَافِقًا فِي الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ وَفِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ شَيْءٍ فِيهِ مَعَ سِعَةِ حِفْظِ ابْنِ حَزْمٍ وَذَكَرَهَا خَلَائِقُ كَذَلِكَ ، وَفِي جَمِيعِهَا مَا خَرِبَ وَذَكَرَهَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ وَاقْتَصَرَ عَلَى سُفْيَانَ فَمَنْ فَوْقَهُ هَكَذَا فِي الْوُسْطَى وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْكُبْرَى لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ اعْتِرَاضًا عَلَيْهِ وَذَكَرَ هَذِهِ الشُّرُوطَ هَكَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَتَلَقَّوْهَا بِالْقَبُولِ وَاحْتَجُّوا بِهَا مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ حَتَّى رَأَيْت فِي كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى شُرُوطِ عُمَرَ كَأَنَّهَا صَارَتْ مَعْهُودَةً شَرْعًا .(2/318)
وَفِي كَلَامِ أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ أَنَّ مَا فِيهَا يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ هَذِهِ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً وَاشْتَرَطَ عُمَرُ لَهَا لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ وَكُنْت قَدَّمْت فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى " كَشْفَ الْغُمَّةِ فِي مِيرَاثِ أَهْلِ الذِّمَّةِ " قَبْلَ أَنْ أَرَى الْكَلَامَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ صِفَةَ مَا يُكْتَبُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْجِزْيَةِ لِنَصْرَانِيٍّ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَنَائِسِ لَكِنْ ذَكَرَ شُرُوطًا كَثِيرَةً جِدًّا ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا فَهَذِهِ الشُّرُوطُ لَازِمَةٌ لَهُ وَلَنَا فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ نَبَذْنَا إلَيْهِ .
وَقُلْت إنِّي قَصَدْت بِنَقْلِ هَذَا مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الشُّرُوطَ الَّتِي عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكْتُبُوهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى إذَا جَهِلَ الْحَالَ كَمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الشُّرُوطِ لِأَنَّهَا الْمُتَعَارَفَةُ فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ وَافَقَ كَلَامِي كَلَامَ مَنْ ذَكَرْت مِنْ الْحَنَابِلَةِ .
وَرَوَاهَا جَمَاعَةٌ بِأَسَانِيدَ لَيْسَ فِيهَا يَحْيَى بْنُ عُقْبَةَ لَكِنَّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا ضَعِيفَةٌ أَيْضًا وَبِانْضِمَامِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ تَقْوَى وَجَمَعَ فِيهَا الْحَافِظُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَبْرٍ جُزْءًا وَذَكَرَ مِنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِ دِمَشْقَ مِنْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ حِمْيَرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غُنْيَة عَنْ السَّرِيِّ بْنِ مُصَرِّفٍ الثَّوْرِيِّ وَالْوَلِيدِ وَنَحْوِهِ .(2/319)
وَقَدْ رَأَيْتُهَا فِي كِتَابِ ابْنِ زَبْرٍ قَالَ وَجَدْت هَذَا الْحَدِيثَ بِالشَّامِ .
رَوَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ فَذَكَرَهُ وَهَذِهِ مُتَابَعَةٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدٍ لِيَحْيَى بْنِ عُقْبَةَ فِي شُيُوخِهِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ .
وَهَذَا عُذْرٌ لِعَبْدِ الْحَقِّ فِي اقْتِصَارِهِ فِي الْوُسْطَى عَلَى سُفْيَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ عُقْبَةَ لَكِنْ فِيهِ عِلَّتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) جَهَالَةٌ بَيْنَ ابْنِ زَبْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ ( وَالثَّانِيَةُ ) ابْنُ يَزِيدَ فِيهِ كَلَامٌ وَكَانَ قَاضِي دِمَشْقَ وَتَوَلَّى قَضَاءَ مِصْرَ أَيْضًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ضَعَّفُوهُ وَإِنْ كَانَ حَافِظًا .
فَلَوْلَا هَاتَانِ الْعِلَّتَانِ كَانَ صَحِيحًا ، وَرَوَاهَا ابْنُ زَبْرٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ لِذِمَّةِ حِمْصَ .
وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ أَخْبَرُوهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ كَتَبُوا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ إلَى آخِرِهِ .(2/320)
قَالَ ابْنُ زَبْرٍ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الَّذِي افْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ وَصَالَحَ أَهْلَهَا هُوَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ مَا عَلِمْت فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فَذِكْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ غَلَطٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ الَّذِي فَتَحَ حِمْصَ بِلَا شَكٍّ وَأَوَّلُ مَنْ وَلِيَهَا عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ وَلَّاهُ عُمَرُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشَرَةَ وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ عَلَى النَّصَارَى أَنْ يُشَاطِرَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَسْكُنَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَنْ يَأْخُذَ الْحَيِّزَ الْقِبْلِيَّ مِنْ كَنَائِسِهِمْ لِمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ .
وَفِي تَارِيخِ دِمَشْقَ أَيْضًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَتَبَ كِتَابَ صُلْحٍ وَفِيهِ مِثْلُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ وَفِيهِ وَلَا نُشَارِكُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ وَأَنْ لَا نَشْتُمَ مُسْلِمًا وَمَنْ ضَرَبَ مِنَّا مُسْلِمًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ .
وَفِيهِ عَنْ خَالِدٍ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابَ صُلْحٍ لِأَهْلِ دِمَشْقَ إنِّي أَمَّنْتُهُمْ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ أَنْ لَا تُسْكَنَ وَلَا تُهْدَمَ فَانْظُرْ إنَّمَا قَالَ : لَا تُسْكَنُ وَلَا تُهْدَمُ .لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُمْ شَيْئًا آخَرَ .(2/321)
وَفِي كِتَابِ مَا يَلْزَمُ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَبِي يَعْلَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي شُرَحْبِيلَ الْحِمْصِيِّ عِيسَى بْنِ خَالِدٍ ثنا عَمِّي أَبُو الْيَمَانِ وَأَبُو الْمُغِيرَةِ جَمِيعًا أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ ثنا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا كَتَبَ أَهْلُ الْحِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلَا فِي مَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قِلَّايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا .
وَذَكَرَ مِثْلَ تِلْكَ الشُّرُوطِ وَفِيهَا : وَلَا يُشَارِكُ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إلَّا أَنْ يَلِيَ الْمُسْلِمُ أَمْرَ التِّجَارَةِ
وَفِيهِ فِي رِسَالَةِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ وَحَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَأَبِي الْيَمَانِ الْحَكَمِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : كَتَبَ أَهْلُ الْحِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ إنَّك لَمَّا قَدِمْت بِلَادَنَا فَذَكَرَ مِثْلَهُ .
وَفِيهِ فَكَتَبَ بِذَلِكَ ابْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ وَأَلْحَقَ فِيهِ حَرْفَيْنِ اشْتَرَطَهُمَا عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ .(2/322)
وَأَنْفَذَ ابْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ زَبْرٍ .
قَوْلُهُ لَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فَلَا يَظُنُّ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا خَرِبَ قَبْلَ الْفَتْحِ لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ خَرِبَ فِعْلٌ مَاضٍ فِي صِلَةِ مَوْصُولٍ وَقَوْلُ النُّحَاةِ إنَّهُ إذَا كَانَ صِلَةً يَصْلُحُ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَيَعُمُّهُمَا وَالْمَوْصُولُ هُوَ مَا يَعُمُّ الْبَعْضَ وَالْكُلَّ فَامْتَنَعَ التَّرْمِيمُ وَالْإِعَادَةُ .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خَرِبَ وَفِي بَعْضِهَا ذَهَبَ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْهَا وَالضَّمِيرُ يَحْتَمِلُ عَوْدَهُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَهُوَ الْكَنِيسَةُ فَلَا يَكُونُ نَصًّا فِي مَنْعِ التَّرْمِيمِ وَعَلَى الْجَمْعِ وَهُوَ الْكَنَائِسُ فَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَخَرَابَ الْكَنِيسَةِ بِجُمْلَتِهَا لِأَنَّهَا وَاحِدَةُ الْكَنَائِسِ فَيَكُونُ مَنْعًا لِلْإِعَادَةِ ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْبِيهِ : وَلَا يَمْنَعُونَ مِنْ إعَادَةِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا فَحَمَلَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى الْكَنَائِسِ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّرْمِيمَ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الرَّافِعِيَّ لَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ حَكَى الْخِلَافَ فِي خَرَابِ بَعْضِهَا وَخَرَابِ كُلِّهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَ كَلَامِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْعُمُومِ فِيهِمَا وَكَذَا كَلَامُ الْحَدِيثِ وَمَنْ لَمْ يَرْوِ مِنْهَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ .(2/323)
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ الْكَنِيسَةِ وَالْبَاعُوثُ وَالشَّعَانِينُ أَعْيَادُهُمْ فَلَا يُظْهِرُونَهَا وَاشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ وَلَا تُزَال عَلَيْهِمْ لِئَلَّا تَنْقَطِعَ الْمَبَرَّةُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ يُمْنَعُونَ مِنْ مُبَايَعَتِهِمْ لِعَدَاوَتِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِهِمْ الْقُرْآنَ لِأَنَّ الْكَافِرَ فِي حُكْمِ الْجُنُبِ وَلِأَنَّهُمْ قَدْ يَسْتَخِفُّونَ بِحُرْمَتِهِ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَلِهَذَا مُنِعُوا مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَمَنَعَهُمْ مِنْ مُشَارَكَةِ مُسْلِمٍ إلَّا أَنْ يَلِيَ أَمْرَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُعَامِلُونَ بِالرِّبَا وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَمُنِعُوا مِنْ الِانْفِرَادِ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ يَلِيهَا فَلَا بَأْسَ ، وَإِيوَاءُ الْجَاسُوسِ وَكِتْمَانُ الْعَيْنِ مِنْ أَضَرِّ الْأَشْيَاء وَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ وَإِظْهَارُ الشِّرْكِ وَالدُّعَاءُ إلَيْهِ وَمَنْعُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ الِاسْتِعْلَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الدِّينِ وَتَوْقِيرُ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَالْخَوَلِ لَهُمْ .(2/324)
وَمَنَعَ التَّشَبُّهَ بِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ لِيَنْزِلُوا مَنْزِلَةَ الْإِهَانَةِ وَلَا يَخْرُجُوا مِنْهَا إلَى مَرْتَبَةِ التَّعْظِيمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ } وَلِأَنَّ عُمَرَ صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَا نُخَالِفُ لَهُ وُجُوبَ مُوَالَاةِ الْمُسْلِمِ وَمُعَادَاةِ الْكَافِرِ وَمُبَايَنَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزٍ وَلَيْسَ إلَّا الزِّيُّ وَلِأَنَّهُ إذْلَالٌ فِي مَعْنَى الْجِزْيَةِ لِيَكُونَ ذَرِيعَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ .(2/325)
وَإِنَّمَا لَمْ يَفْعَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَلِيلِينَ مَعْرُوفِينَ فَلَمَّا كَثُرُوا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَخَشُوا مِنْ الْتِبَاسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ احْتَاجُوا إلَى تَمْيِيزٍ وَالنَّاظِرُ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَمْنُوعٌ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي الْوِلَايَاتِ وَكَانَتْ عَادَةُ الْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ قَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْأَصْفَرُ وَفِيهِ نَظَرٌ وَعَادَةُ النَّصَارَى الْأَدْكَنُ ، وَهُوَ الْفَاخِتِيُّ وَالْآنَ صَارَتْ عَادَةُ النَّصَارَى الْأَزْرَقُ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا } وَعَادَةُ الْيَهُودِ الْأَصْفَرُ عُمِلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْقَرْنِ حِينَ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَاضِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَلَوْ جُعِلَ غَيْرُ الْأَصْفَرِ كَانَ أَوْلَى فَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ أَبِي يَعْلَى أَنَّ الْأَصْفَرَ مِنْ الْأَلْوَانِ يُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسِهِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْبَسُهُ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ وَهُوَ زِيُّ الْأَنْصَارِ وَبِهِ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَجَالِسَ وَالْمَحَافِلَ .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى نَصَارَى الشَّامِ أَنْ لَا يَلْبَسُوا عَصَبًا وَلَا خَزًّا فَمَنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ فَسَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ .(2/326)
وَالْعَصَبُ هُوَ الْبُرْدُ الْيَمَانِيُّ يُسَاوِي ثَوْبٌ مِنْهُ دِينَارَيْنِ وَأَكْثَرَ ، وَكَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدٌ يَمَانِيٌّ خَلَعَهُ عَلَى كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ فَبَاعَهُ لِمُعَاوِيَةَ وَتَدَاوَلَتْهُ الْخُلَفَاءُ يَتَوَارَثُونَهُ .
وَالْخَزُّ هُوَ الْفَاخِرُ مِنْ الثِّيَابِ فَلَا يَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ لِأَنَّ فِيهِ عِزًّا بَلْ تَكُونُ عِيَارُهُ مَصْبُوغًا بِالشَّبِّ وَالزَّاجِّ ، وَالْقَلَنْسُوَةِ ذَكَرَهَا أَهْلُ اللُّغَةِ وَتَكَلَّمُوا عَلَى لَفْظِهَا بِمَا لَا حَاجَةَ لَنَا إلَيْهِ وَهِيَ تُلْبَسُ عِنْدَ عِظَمِ الْمَنْزِلَةِ بِالْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَالْقَضَاءِ مِنْ زِيِّ الْقُضَاةِ وَالْخُطَبَاءِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَالْعَمَائِمُ تِيجَانُ الْعَرَبِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَرْقٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ الْعَمَائِمُ عَلَى الْقَلَانِسِ } وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْأَرْدِيَةِ لِأَنَّهَا لِبَاسُ الْعَرَبِ قَدِيمًا عَلَى مَا حَكَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الطَّيْلَسَانِ .(2/327)
وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّ الْأَرْدِيَةَ مُرَبَّعَةٌ وَأَمَّا الطَّيْلَسَانُ قَالَ فَهُوَ الْمُقَرَّرُ الطَّرَفَيْنِ الْمَكْفُوفُ الْجَانِبَيْنِ الْمُلَفَّقُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَهُوَ لِبَاسُ الْيَهُودِ قَدِيمًا وَالْعَجَمِ أَيْضًا وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ تَاجًا وَيُقَالُ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَهُ مِنْ الْعَرَبِ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَكَانَ ابْنُ سِرِّيٍّ يَكْرَهُهُ ، وَالنِّعَالُ مِنْ زِيِّ الْعَرَبِ يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَلَمْ تَكُنْ بِأَرْضِ الْعَجَمِ إنَّمَا كَانَ لَهُمْ الْخِفَافُ وَأَمَّا مَنْعُهُمْ مِنْ اتِّخَاذِ شَيْءٍ مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ يُرْجَى إسْلَامُهُ وَإِذَا بِيعَ مِنْهُمْ مَنَعُوهُ وَلِهَذَا مَنَعْنَا الْكَافِرَ مِنْ حَضَانَةِ اللَّقِيطِ وَأَسْقَطَ حَضَانَةَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ كَافِرًا عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَعِنْدَنَا لَمْ يَتَّضِحْ لِي هَذَانِ التَّعْلِيلَانِ فَلَعَلَّ سَبَبَهُ أَنَّهُ بِاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ عَلَيْهِ صَارَ لَهُمْ حَقٌّ فِي حَضَانَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَإِذَا اخْتَصَّ بِهِ بَعْضُهُمْ لَا يُمَكَّنُ كَافِرٌ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَفُوتَ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ إلَى كَافِرٍ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الشُّرُوطِ طُولٌ فَلْنَرْجِعْ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا خَالَفَ شَيْئًا مِنْ الشُّرُوطِ هَلْ يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ وَأَصْحَابُنَا ذَكَرُوا ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ بَيْنَ مَا يُنْقَضُ اتِّفَاقًا وَبَيْنَ مَا فِيهِ خِلَافٌ وَلَيْسَ فِيهَا(2/328)
مَا لَا يُنْقَضُ اتِّفَاقًا وَتَجْدِيدُ مَا خَرِبَ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِي انْتِقَاضِ الذِّمَّةِ بِهِ .
( فَصْلٌ ) قَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ ثُمَّ آثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثُمَّ الشُّرُوطَ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَنَا مِنْ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ وَالشُّرُوطُ مُؤَكَّدَةٌ وَلَيْسَ مِمَّا الْأَصْلُ فِيهِ الْجَوَازَ وَلِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالشَّرْطِ فَقَطْ حَتَّى إذَا لَمْ يَثْبُتْ الشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ .
( فَصْلٌ ) عُلِمَ مِمَّا حَصَلَ مِنْ شُرُوطِ عُمَرَ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي عَقَدَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ نَجْرَانَ وَغَيْرِهَا جَوَازُ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ لَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِرَغْبَةٍ مِنَّا فِي الْجِزْيَةِ حَتَّى نَحْكِيَ مَنْ يَكْفُرُ بِاَللَّهِ وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ اللَّهِ لِرَجَاءِ إسْلَامِهِمْ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يُهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ } وَعَدَمُ اخْتِلَاطِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ يُبْعِدُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ أَلَا تَرَى مِنْ الْهِجْرَةِ إلَى زَمَنِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا قَلِيلٌ ، وَمِنْ الْحُدَيْبِيَةِ إلَى الْفَتْحِ دَخَلَ فِيهِ نَحْوُ عَشَرَةِ آلَافٍ لِاخْتِلَاطِهِمْ بِهِمْ لِلْهُدْنَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ .(2/329)
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى : قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَاطِلِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِلْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ نُقِرَّ الْوَاحِدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ زِنًا أَوْ غَيْرِهِ .
وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى حِكْمَةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَرَجَاءِ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَتَفَاوُتِ الرَّبَّا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِإِبَاحَتِهِ وَلَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِينَ فِيهِ .
( فَصْلٌ ) الْمَعْرُوفُ أَنَّ الْكَنَائِسَ مِنْ أَخَسِّ الْمَوَاضِعِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَرَأَيْت فِي كِتَابِ أَبِي يَعْلَى الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ لِبِيَعِهِمْ وَصَوَامِعِهِمْ حُرْمَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تُصَانُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَتُنَزَّهُ عَنْ الْقَاذُورَاتِ وَالْفَسَادِ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا فَتَصِيرُ لَهَا حُرْمَةٌ بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ } الْآيَةَ ، وَلَيْسَ حُرْمَتُهَا كَحُرْمَةِ الْمَسَاجِدِ عَنْ مَنْعِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَمَنْعِ الْخُصُومَاتِ وَالتَّشَاجُرِ فِيهَا وَفِي الْوَقْفِ عَلَيْهَا كَمَا يُوقَفُ عَلَى الْمَسَاجِدِ أَمَّا الصَّلَاةُ فَتُكْرَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ بِحُضُورِ وَقْتِهَا لَا تُكْرَهُ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ذَلِكَ " .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ كَرَاهِيَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَعَنْ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى أَنَّهُمَا صَلَّيَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا .(2/330)
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ لَهَا حُرْمَةً بَعِيدٌ وَلَوْ كَانَ لَهَا حُرْمَةٌ لَمَا هُدِمَتْ وَقَدْ { كَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا لِخَثْعَمٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَدْمِهِ } .
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَمَعْنَاهَا لَهُدِمَتْ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ حِينَ كَانَتْ حَقًّا وَأَمَّا الْآنَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا قَدْ قَالَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فِي مِثْلِهِ { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاَللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } .
( بَابُ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ )
وَلْنَتْبَعْ تَرْتِيبَ الرَّافِعِيِّ وَنَذْكُرْ مَتْنَ كَلَامِهِ وَنَرُدَّ فِيهِ بِمَا تَيَسَّرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْبِلَادُ الَّتِي فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قِسْمَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْبِلَادُ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ فَلَا يُمَكَّنُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَصَوْمَعَةِ رَاهِبٍ .
قُلْت ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ قَالَ الرُّويَانِيُّ وَلَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى التَّمْكِينِ مِنْ إحْدَاثِهَا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ .
قُلْت هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَشُرِطَ هَذَا فِيهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ كَمَا قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى بُطْلَانِ الشَّرْطِ ، وَأَمَّا نَتِيجَةُ هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/331)
قَالَ قَالَ فِي بَحْرِ الْمَذْهَبِ وَإِنْ أَشْكَلَ حَالُهَا أَقَرَّتْ اسْتِصْحَابًا لِظَاهِرِ الْحَالِ قُلْت لَوْ قَالَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ كَانَ أَوْلَى وَأَمَّا الِاسْتِصْحَابُ فَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَصْلِ وَلَكِنَّهُ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) وَهُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْ الْأَكْثَرُونَ سِوَاهُ أَنْ يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ فِي الْمَاضِي فَيُسْتَصْحَبَ إلَى الْحَالِ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
( وَالثَّانِي ) أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَدَلِ أَنْ نَتَحَقَّقَ شَيْئًا فِي الْحَالِ فَنَسْتَصْحِبَهُ إلَى الْمَاضِي عَلَى عَكْسِ الْأَوَّلِ وَالِاسْتِصْحَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَحْرِ هُنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، ثُمَّ قَوْلُهُ أَشْكَلَ حَالُهَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ظُهُورِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فَاسْتِصْحَابُ ظَاهِرِ الْحَالِ الَّذِي أَرَادَهُ قِسْمٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَلَوْ صَحَّ لَمْ يُتَّجَهْ الْأَخْذُ بِهِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بَلْ فِي أَحَدِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، قَالَ وَاَلَّذِي يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النَّارِ لَا تُنْقَضُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَرِّيَّةٍ فَاتَّصَلَتْ بِهَا عِمَارَةُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عُرِفَ إحْدَاثُ شَيْءٍ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَعِمَارَتِهِمْ نُقِضَ .
قُلْت مَتَى عُرِفَ إحْدَاثُ شَيْءٍ نُقِضَ بِلَا إشْكَالٍ .(2/332)
وَاَلَّذِي قَالَ فِي الدَّيْرِ يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ عَدَمِ النَّقْضِ لِلِاحْتِمَالِ يَقْتَضِي إطْلَاقَهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ ، وَغَالِبُ مَنْ يُطَالِعُ كَلَامَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذِهِ الْبِلَادِ كُلَّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ كَالْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهَا فَتَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَ الرَّافِعِيِّ الْبِلَادُ الَّتِي سَمَّاهَا كَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ .
وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ذَكَرَ هَذِهِ الْبِلَادَ الثَّلَاثَةَ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَدَارِ السَّلَامِ ؟ قِيلَ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا أُحْدِثَتْ وَلَوْ عَلِمْنَا لَفَعَلْنَاهَا وَاَلَّذِي عِنْدَنَا فِيهَا أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ عُمَرَ الْعِرَاقَ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرَاضِي مَزَارِعَ وَقُرًى لِلْمُشْرِكِينَ فَفَتَحَهَا عُمَرُ وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ اتَّصَلَ الْبِنَاءُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَبَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ كَوْنِهَا كَانَتْ مَزَارِعَ وَقُرًى لِلْمُشْرِكِينَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ حِينِ اخْتَطَّ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْبِلَادَ الثَّلَاثَةَ وَكَلِمَةُ الْإِسْلَامِ فِيهَا غَالِبَةٌ فَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَاهِرَةِ .(2/333)
فَإِنَّ الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ أَنَّهَا كَانَتْ بَرِّيَّةً فَلَمَّا تَمَلَّكَ الْمُعِزُّ الْمُعِزِّيُّ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ بَنَاهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَاحْتِمَالُ وُجُودِ كَنَائِسَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَعِيدٌ جِدًّا ، فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الظَّاهِرِ فَالظَّاهِرُ حُدُوثُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ بَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ .
وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى الْأَصْلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِهَا وَقْتَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْمُحَقَّقِ فِي الْمَاضِي وَالدَّالِّ عَلَى وُجُودِهَا إذْ ذَاكَ اسْتِصْحَابُ وُجُودِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِصْحَابِ الْمَعْكُوسِ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَعْرِفُونَهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَ الْأَوَّلَ لَكِنَّ الْمُحَقَّقَ مِنْهُ أَعْنِي الْأَوَّلَ مَا عُرِفَ وُجُودُهُ فَيُسْتَصْحَبُ وُجُودُهُ مِنْ الْمَاضِي إلَى الْحَالِ ، أَمَّا اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْمَاضِي إلَى الْحَالِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ فِي الْحَالِ وَالشَّكِّ فِي الْمَاضِي فَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ فَإِنْ صَحَّ فَيَتَعَارَضُ الِاسْتِصْحَابَانِ وَيَبْقَى الشَّكُّ فَيُطْلَبُ دَلِيلٌ آخَرُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الِاسْتِصْحَابَيْنِ حَتَّى يَجِدَ مَا يُعَضِّدُ أَحَدَهُمَا .(2/334)
وَشَيْخُنَا ابْنُ الرِّفْعَةِ قَامَ فِي هَذِهِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْقَاهِرَةِ وَرُبَّمَا لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْقَاهِرَةِ وَصَنَّفَ كُرَّاسَةً فِي ذَلِكَ وَاعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى خَمْسَةِ أَدِلَّةٍ ذَكَرَهَا وَسَمِعْتهَا عَلَيْهِ وَجَنَحَ فِيهَا إلَى التَّمَسُّكِ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهَا قَبْلَ بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ ، وَعِنْدِي فِي هَذَا التَّمَسُّكِ نَظَرٌ لِمَا عَرَّفْتُكَ بِهِ وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَأَدَّى إلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ فِي يَدِهِ يَدَّعِي انْتِقَالَهُ إلَيْهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ السَّبَبِ الَّذِي يَدَّعِيهِ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ بَعِيدٌ نَعَمْ إنْ كَانَ لَهُ مُنَازِعٌ ثَبَتَ مِلْكُهُ فَذَلِكَ الْمِلْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ مُسْتَصْحَبٌ وَإِلَّا فَلَا ، هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بِإِبْقَاءِ كَنَائِسِ الْعِرَاقِ قَرِيبٌ وَكَنَائِسِ الْقَاهِرَةِ وَنَحْوِهِ لَا يَظْهَرُ الْحُكْمُ بِهِ وَإِلَّا لَحُكِمَ بِهَدْمِهِ بَلْ الَّذِي يَظْهَرُ التَّوَقُّفُ عَنْ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ ، وَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ هَكَذَا لَا يُقْضَى فِيهَا بِشَيْءٍ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ لَا لِدَلِيلِ الْعَدَمِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مَقْصُودُ مَنْ يَطْلُبُ بَقَاءَ الْأَمْرِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُ مَا قُلْنَاهُ فِي فُرُوعٍ أُخْرَى وَرُبَّمَا نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .(2/335)
وَقَدْ اسْتَقْرَيْت الِاسْتِصْحَابَ الَّذِي نَحْكُمُ بِهِ فَوَجَدْت صُوَرًا كَثِيرَةً إنَّمَا يُسْتَصْحَبُ فِيهَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ وَعَكْسِهِ ، وَغَالِبُ الصُّوَرِ الَّتِي حَضَرَتْنِي الْآنَ وَأَمَّا اسْتِصْحَابُ عَدَمِ تَحَكُّمٍ بِهِ فَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ وَلَا أَجْزِمُ بِنَفْيِهِ فَلْيَنْظُرْ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ لَا نَحْكُمُ بِهَا وَإِنَّمَا نَمْتَنِعُ مِنْ الْحُكْمِ بِخِلَافِهَا حَتَّى يَقُومَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ .
فَمِنْ هُنَا تَوَقَّفْت عَنْ مُوَافَقَةِ ابْنِ الرِّفْعَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/336)
وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ أَيْضًا اخْتِلَافُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ فِي حَدِّ الْمُدَّعِي هَلْ هُوَ مَنْ يُحْكَى سُكُوتُهُ أَوْ مَنْ يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا أَوْ مَنْ يَدَّعِي خِلَافَ الْأَصْلِ ، وَمَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَنَائِسِ فِي الْقَاهِرَةِ قَبْلَ بِنَائِهَا عَلَى مَا قَالَ وَهُوَ الظَّاهِرُ عَلَى مَا قَالَ أَيْضًا لِأَنَّهَا كَانَتْ بَرِّيَّةً وَظَاهِرُ حَالِ تِلْكَ أَنَّهُ لَا يَرْتَادُ لِنَفْسِهِ بِنَاءَ مَدِينَةٍ حَوْلَ كَنَائِسَ وَكَانَ الْقَوْلُ بِقِدَمِهَا مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ وَكَانَ الْقَائِلُ بِهِ مُدَّعِيًا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةِ لَا مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَأَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ وَأَجَابَ بِالْمَنْعِ وَعِنْدِي اسْتِصْحَابٌ وُجُودِيٌّ وَإِلَّا فَنَحْكُمُ بِهَا أَوْ نَتَوَقَّفُ غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ إنَّ الْيَدَ هَاهُنَا عَلَى الْكَنَائِسِ لَا أُسَلِّمُ أَنَّهَا لِلنَّصَارَى بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَا ظَهَرَ لَهُمْ أَنَّهَا تَبْقَى بَقِيَتْ وَمَا شَكَّ فِيهَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا بَاقِيَةٌ عَلَى الشَّكِّ لَا نَقْدَمُ عَلَى الْحُكْمِ فِيهَا بِأَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لَا بِهَدْمٍ وَلَا بِإِبْقَاءٍ إلَّا بِمُسْتَنَدٍ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا مِنْ أَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ فِي شَرِيعَتِهِ عَلَى حُكْمٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ .(2/337)
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ كَلَامٍ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ صِفَةَ التَّأْلِيفِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْكَنِيسَةِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ كَصِفَةِ الصَّلِيبِ وَالْمِزْمَارِ وَكَذَا يَظْهَرُ لِي فِي ذَوَاتِ الْآلَاتِ فِي الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ كَمَا لَا يَضْمَنُ الْخَمْرَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ أَنَّهُ يَضْمَنُهَا لِأَهْلِ الذَّمَّةِ فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ التَّعْذِيرُ ، وَهُنَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فَإِنْ كَانَتْ الْكَنِيسَةُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَنَا أَنْ لَا نَهْدِمَهَا فَيَكُونُ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى مَا عَلِمَ تَحْرِيمَهُ فَيُعَزَّرُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَقْدَمَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي فَرَضْنَا حَيْثُ لَا نَحْكُمُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى فَلَا يُعَزَّرُ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالتَّعْزِيرِ يَسْتَدْعِي تَحَقُّقَ سَبَبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِعَادَةُ الَّتِي هَدَمَهَا هَادِمٌ كَإِعَادَةِ الْمُنْهَدِمَةِ بِنَفْسِهَا وَسَنَتَكَلَّمُ فِيهِ .
وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ قَوْلُ مَالِكٍ لَا نَسْمَعُ دَعْوَى الْخَسِيسِ عَلَى الشَّرِيفِ ، وَقَوْلُهُ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَوْ سَلَّمَ الظُّهُورَ وَلَمْ نُسَلِّمْ الْحُكْمَ ، وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ الظُّهُورَ ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اخْتِلَافُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي تَقَابُلِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ كَعَدِّ الْمَلْفُوفِ وَطِينِ الشَّوَارِعِ وَغَايَةُ هَذَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ أَنْ يَأْتِيَ خِلَافٌ ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَمْرًا تَقَدَّمَ بِهِ عَلَى هَدْمِ مَا اسْتَمَرَّتْ الْأَعْصَارُ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكْتَفِي فِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ .(2/338)
وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْخِلَافُ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِ فَخَرَجَتْ وَادَّعَى أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى اسْتِصْحَابِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ، وَفِي قَوْلِهِ " لَا يَدْخُلُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ زَيْدٌ ، وَفِي قَوْلِهِ لَأَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ خَشَبَةٍ فَضَرَبَهُ بِهَا دَفْعَةً وَشَكَّ فِي وُصُولِهَا وَلَا دَلِيلَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ إذَا وُجِدَتْ جُذُوعٌ فِي حَائِطٍ وَجَهِلَ الْحَالَ فِي وَضْعِهَا قَالَ الْأَصْحَابُ لَا تُزَالُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا وُضِعَتْ بِحَقٍّ ، وَقَالَ هُوَ : إنَّهَا مَفْرُوضَةٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَدَّعِ صَاحِبُهَا أَنَّ صَاحِبَ الْجِدَارِ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِهَا بَلْ ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ الْوَضْعِ وَجَهْلَ الْحَالِ حَتَّى لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْجِدَارِ أَنْتَ أَذِنْت لِي أَوْ صَالَحْتَنِي عَلَيْهَا ، وَقَالَ بَلْ غَصَبْتَنِي ، وَقَالَ الرَّاكِبُ بَلْ أَعَرْتَنِي ، قَالَ وَالْمُعَانِدُونَ يَزْعُمُونَ أَنَّا صَالَحْنَاهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ الْمَذْكُورَةِ .(2/339)
قُلْت مَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجُذُوعِ صَحِيحٌ وَمَسْأَلَةُ الدَّابَّةِ الصَّحِيحُ فِيهَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ وَمَسْأَلَةُ الْكَنَائِسِ هُمْ لَا يَدَّعُونَ مُصَالَحَتَنَا نَحْنُ حَتَّى يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَنَا بَلْ إنْ سُلِّمَ لَهُمْ يَدٌ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى دَعْوَى بَلْ يَكْفِي مَعَهَا الِاحْتِمَالُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُمْ يَدٌ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا ، وَنَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا خَلَاصُ ذِمَّتِنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِمَّا يَقَعُ الْبَحْثُ فِيهِ أَنَّ إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَحْتَمِلُ هَذِهِ الْكَنَائِسَ الْمَوْجُودَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِإِبْقَائِهَا فَيَمْتَنِعُ نَقْضُهُ وَإِذَا شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ الِاسْتِنَادُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحُكْمِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي احْتِمَالِ الصُّلْحِ وَالشَّرْطِ .
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : الصُّلْحِ وَالشَّرْطِ وَالْحُكْمِ مُحْتَمَلَةٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ وَقَعَ حُكْمٌ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ حُكْمٌ أَوْ لَا وَتَبْقِيَةُ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ لِهَذِهِ الْكَنَائِسِ وَهُمْ حُكَّامٌ قَدْ يُقَالُ إنَّهَا فِعْلُ حُكَّامٍ فَهِيَ حُكْمٌ مِنْهُمْ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ فِعْلُ الْحَاكِمِ حُكْمٌ فَيَمْتَنِعُ تَغْيِيرُهُ .(2/340)
وَمِمَّا يَقَعُ الْبَحْثُ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ وُجُودَ الْكَنَائِسِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إبْقَائِهَا لَا عَلَى وُجُوبِهِ فَيَكْفِي فِي الْأَدِلَّةِ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ أَنَّ بَقَاءَهَا لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فَإِذَا رَأَى إمَامٌ ذَلِكَ وَأَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ إزَالَتُهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ وَلَا يَمْتَنِعُ فَهَلْ نَقُولُ بِذَلِكَ أَوْ نَقُولُ بَقَاؤُهَا الْمَوْجُودُ يُثْبِتُ لَهُمْ حَقَّ الْإِبْقَاءِ كَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ نَجْهَلُ يَجِبُ تَبْقِيَتُهُ وَعَدَمُ رَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ .
هَذِهِ مَبَاحِثُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ وَنَحْنُ وَإِنْ تَوَقَّفْنَا لِذَلِكَ عَنْ الْحُكْمِ بِهَدْمِهَا لَا نُنْكِرُ عَلَى مَنْ هَدَمَهَا لِمَا قُلْنَا وَلَا عَلَى مَنْ يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِهَدْمِهَا .(2/341)
وَلَيْسَ عِنْدَنَا إلَّا مُجَرَّدُ الْوَقْفِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَهُ كَانَ سَبَبَ تَوَقُّفِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ مُوَافَقَةِ ابْنِ الرِّفْعَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ مَنْعٌ وَلَا إذْنٌ ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَدِيدَ الْوَرَعِ وَيَحْمِلُهُ وَرَعُهُ عَلَى تَوَقُّفٍ كَثِيرٍ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُحْتَمَلَةِ فِي الْعِلْمِ ، وَمِمَّا نَقُولُهُ أَيْضًا : إنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ الْقَدِيمَةِ وَالْجَدِيدَةِ إذَا صَحَّتْ عَنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي هَذِهِ الْكَنَائِسِ الْمَوْجُودَةِ فِي مِصْرَ وَالشَّامِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا كَانَا تَحْتَ وِلَايَتِهِ وَتَفَرُّدِ أَمْرِهِ وَيَشْمَلُهَا قَوْلُهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ حَالِهَا إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ فَتُهْدَمُ قَطْعًا ، وَاَللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ .(2/342)
وَمِمَّا يَقَعُ الْبَحْثُ فِيهِ أَنَّ مَوَاضِعَ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُسْلِمُونَ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ حَدَثَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَبَغْدَادُ بَنَاهَا أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ وَثَلَاثَتُهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَهِيَ عَنْوَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ فَإِذَا حُمِلَ وُجُودُ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِيهَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ بِنَائِهَا فَذَاكَ لَا يَكْفِي فِي وُجُوبِ إبْقَائِهَا وَلَا فِي جَوَازِهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَمَا سَيَأْتِي فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ إلَى احْتِمَالِ اشْتِرَاطِهَا لَهُمْ بِصُلْحٍ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ جَوَّزْنَاهُ فَلَا يَحْصُلُ لَنَا الْقَطْعُ بِجَوَازِ إبْقَائِهَا فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ وَلَا نَخْلُصُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يَتَحَقَّقْ دُخُولُ مَوَاضِعِ الْكَنَائِسِ فِيمَا اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى مَا حَوَالَيْهَا دُونَهَا وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا .
هَذَا مَا اتَّفَقَ كَلَامُنَا فِيهِ مِنْ قِسْمِ الْبِلَادِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْمُسْلِمُونَ .(2/343)
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالثَّانِي الْبِلَادُ الَّتِي لَمْ يُحْدِثُوهَا وَدَخَلَتْ تَحْتَ يَدِهِمْ فَإِنْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ؟ قُلْت وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ تَصْوِيرَ إسْلَامِ جَمِيعِ أَهْلِهَا عَزِيزٌ وَالْمَدِينَةُ الشَّرِيفَةُ بَقِيَ بَعْضُ أَهْلِهَا حَتَّى أَجْلَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْيَمَنُ كَانَ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ وَلِهَذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا فَالْعَجَبُ أَنَّ أُولَئِكَ الْبَاقِينَ بِالْيَمَنِ وَالْمُوَادَعِينَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ إجْلَائِهِمْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ لَوْ كَانَ لَهُمْ كَنَائِسُ هَلْ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْعَنْوَةِ لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا أَمْ مَاذَا يَكُونُ حُكْمُهَا .
وَأَمَّا عَدَمُ التَّمَسُّكِ بِمَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا يَوْمَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَبْقَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْكُفَّارِ فَلِأَنَّهُ حَصَلَ فِيهَا فَتْحٌ فَهِيَ مِنْ الْقِسْمِ الَّذِي سَيَأْتِي قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِلَّا أَيْ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ أَهْلُهَا فَإِمَّا أَنْ تُفْتَحَ عَنْوَةً وَقَهْرًا أَوْ مُسَالَمَةً وَصُلْحًا فَهُمَا ضَرْبَانِ : الْأَوَّلُ مَا فُتِحَ عَنْوَةً فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا كَنِيسَةٌ أَوْ كَانَتْ وَانْهَدَمَتْ أَوْ هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ وَقْتَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بِنَاؤُهَا .
قُلْت لَا نَعْرِفُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا .(2/344)
وَقَوْلُهُ وَقْتَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ عَائِدٌ إلَى الْأَمْرَيْنِ الِانْهِدَامِ وَالْهَدْمِ قَبْلَ التَّقْرِيرِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ لَهُمْ بِهَا حَقٌّ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ التَّقْرِيرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِالْفَتْحِ عَنْوَةً مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرٍ لَا يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْإِبْقَاءِ إجْمَاعًا وَإِنَّ هَدْمَ الْمُسْلِمِينَ لَهَا جَائِزٌ قَبْلَ التَّقْرِيرِ وَجَوَازُهُ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ فَإِذَا صَدَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ ، وَإِنْ صَدَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَهَلْ نَقُولُ إنَّهُ كَذَلِكَ أَوْ لَا لِأَنَّ حَقَّ غَيْرِهِ تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْخُمُسِ وَبَقِيَّةِ الْغَانِمِينَ فِيهِ نَظَرٌ يَلْتَفِتُ عَلَى أَنَّ الْكَنِيسَةَ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ لِأَنَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْغَنِيمَةِ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُمْ وَالْكَنِيسَةُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ كَالْمَسَاجِدِ عِنْدَنَا فَتَكُونُ كَالْمُبَاحَاتِ ، وَيَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْكَنِيسَةَ إنْ كَانَتْ وُقِفَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ فَهِيَ مَسْجِدٌ كَمَا قَدَّمْنَا وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ فَتَكُونُ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا فَتَكُونُ غَنِيمَةً .(2/345)
وَيُجَابُ بِأَنْ يُقَالَ إذَا كَانَتْ بَعْدَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا عَلَى مِلْكِ مَالِكِهَا لِأَنَّا نَنْظُرُ إلَى اعْتِقَادِهِ كَمَا نَنْظُرُ إلَيْهِ فِي أَنْكِحَتِهِمْ وَهُمْ هَذَا الْفِعْلُ عِنْدَهُمْ مُخْرِجٌ لَهَا عَنْ الْمِلْكِ فَأَخْرَجَنَا عَنْ مِلْكِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ لَهَا حُرْمَةَ الْمَسَاجِدِ وَتَصِيرُ كَالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ إذَا انْهَدَمَتْ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْإِعَادَةِ فَإِذَا هَدَمَهَا هَادِمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَذَلِكَ ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ هَدَمَهَا هَادِمٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ أَيْضًا أَمَّا إذَا قُرِّرَتْ وَانْهَدَمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ هَدَمَهَا هَادِمٌ فَلَا تَدْخُلُ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ هَذَا لِأَنَّهُ سَيَأْتِي حُكْمُهَا فِي كَلَامِهِ بِخِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَلْ يَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى الْكَنِيسَةِ الْقَائِمَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهِ إحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ .
قُلْت قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : إنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَوَافَقَهُ صَاحِبَاهُ سُلَيْمٌ وَالْبَنْدَنِيجِيّ .
وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّهُ رَآهُ فِي الْأُمِّ إذْ قَالَ : وَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَنِيسَةٌ أَمْ بِنَاءٌ طِيلَ بِهِ بِنَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ هَدْمُهَا وَلَا هَدْمُ بِنَائِهِمْ وَتَرَكَ كُلًّا عَلَى مَا وَجَدَهُ ، وَقِيلَ يُمْنَعُ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي يُطَايِلُ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاجِبٌ أَنْ يَجْعَلُوا بِنَاءَهُمْ دُونَ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ .(2/346)
وَهَذَا إذَا كَانَ مِصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ أَحْيَوْهُ أَوْ فَتَحُوهُ عَنْوَةً وَشَرَطُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ هَذَا .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : وَعَلَى هَذَا حَمَلْنَا أَمْر الْبِيَعَ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
قُلْت وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ فِي حُكْمِ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّا كَمَا قَرَّرْنَا جَعَلْنَاهَا كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فَجَعْلُهَا الْآنَ كَنِيسَةً إحْدَاثٌ لَهَا .(2/347)
وَكُنْت أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ غَلَطٌ لِدُخُولِهَا فِي الْغَنَائِمِ ثُمَّ رَجَعْت عَنْ التَّغْلِيطِ لِمَا قَدَّمْته أَنَّهَا لَيْسَتْ بِغَنِيمَةٍ وَاقْتَصَرْت عَلَى التَّضْعِيفِ لِمَا ذَكَرْت وَكَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالرَّافِعِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ أَوْ لَا وَيَكُونُ التَّقْرِيرُ إنْشَاءَ فِعْلٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ تَارَةً يَكُونُ تَرْكًا مُجَرَّدًا فَلَا يَمْنَعُ إقْدَامَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَدْمِهَا ، وَبِهَذَا يَصِحُّ إنْ حَمَلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ الرَّافِعِيِّ أَوْ هَدَمَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ ، وَتَارَةً يَكُونُ الْتِزَامًا لَهُمْ بِشَرْطٍ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْدِ ذِمَّةٍ أَوْ نَحْوِهِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَمَا حَكَيْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِبْقَاءِ لَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَأَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي أَوَّلِ الْفَتْحِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْفَتْحِ صُلْحًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَكُونُ الْعَنْوَةُ فِيمَا سِوَاهُ فَلَا تَكُونُ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ فِيهَا الرَّافِعِيُّ وَيَصِحُّ حَمْلُ الْمَوْجُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا ) إذَا جُهِلَ الْحَالُ فَتَجِبُ التَّبْقِيَةُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ .(2/348)
( وَالثَّانِيَةِ ) إذَا لَمْ يُجْهَلْ وَفُتِحَ عَنْوَةً وَأَرَدْنَا تَقْرِيرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ وَهَلْ يَجُوزُ ؟ وَجْهَانِ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَامِدٍ وَالرَّافِعِيُّ وَهَلْ التَّقْرِيرُ تَرْكٌ مُجَرَّدٌ فَيَجُوزُ هَدْمُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ شَرْطٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ؟ فِيهِ مَا قَدَّمْته مِنْ الْبَحْثِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا إنْ وَقَعَ فِي عَقْدٍ كَمَا إذَا عَقَدَ لَهُمْ ذِمَّةً أَوْ هُدْنَةً .
قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ مَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فَيُمْنَعُ جَعْلُهَا كَنِيسَةً وَحَكَى الْإِمَامُ الْقَطْعَ بِهَذَا الْوَجْهِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ .
قُلْت قَدْ عَرَّفْتُك أَنِّي كُنْت أَقْطَعُ بِهَذَا وَأَعْتَقِدُ غَلَطَ الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ هُنَا مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْمِلْكِ بِالِاسْتِيلَاءِ حَتَّى ظَهَرَ لِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْغَنِيمَةِ .
وَكُنْت قَبْلَ ذَلِكَ أَقُولُ قَدْ يَكُونُ مَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْغَنِيمَةَ هَلْ تُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الِاخْتِيَارِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي بَابِهِ ، وَافْرِضْ الْمَسْأَلَةَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ حَتَّى اسْتَغْنَيْت عَنْ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْته ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصَحُّ عِنْدِي مَا صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَالْمَوَاتِ وَنَحْنُ لَا نُمَكَّنُ مِنْ جَعْلِهِ كَنِيسَةً فِي الْإِسْلَامِ .
وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا وَآخِرًا يَظْهَرُ أَنَّ طَرِيقَةَ الْخِلَافِ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَصَحُّ الْمَنْعَ وَإِنَّ طَرِيقَةَ الْقَطْعِ ضَعِيفَةٌ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ عَلَى خِلَافِهَا .(2/349)
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَالثَّانِي مَا فُتِحَ صُلْحًا وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ مَا فُتِحَ عَلَى أَنْ تَكُونَ رِقَابُ الْأَرَاضِيِ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَسْكُنُونَهَا بِخَرَاجٍ فَإِنْ شَرَطُوا إبْقَاءَ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ جَازَ وَكَأَنَّهُمْ صَالَحُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ لَهُمْ وَمَا سِوَاهَا لَنَا .
قُلْت : وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْحَالَ قَدْ تَدَعُوا إلَيْهِ وَلَا يَتَأَتَّى الْفَتْحُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ فَنَحْتَاجُ إلَى الْمُوَافَقَةِ عَلَيْهِ وَلَا أَعْرِفُ لِهَذَا النَّوْعِ مِثَالًا وَلَا دَلِيلًا مِنْ السُّنَّةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَعْضُ الْبِلَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَيْدِينَا مِمَّا هِيَ صُلْحٌ مِنْ أَمْثِلَتِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى إحْدَاثِهَا أَيْضًا جَازَ .ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ .
قُلْت : هَذَا عِنْدِي فِيهِ تَوَقُّفٌ لِأَنَّهُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِي الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بَاطِلًا .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّهُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْفَتْحُ بِدُونِهِ فَيَجُوزُ وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي الْمَنْعُ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَإِنْ أَطْلَقُوا فَوَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ يُنْقَضُ مَا فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ لِأَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي ضَرُورَةَ جَمِيعٍ لَنَا .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهَا تَكُونُ مُسْتَثْنَاةً بِقَرِينَةِ الْحَالِ فَإِنَّمَا شَرَطْنَا تَقْرِيرَهُمْ وَقَدْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا بِأَنْ يَبْقَى لَهُمْ مُجْتَمَعٌ لِعِبَادَتِهِمْ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
قُلْت نَعَمْ هُوَ الْأَشْبَهُ وَالْأَصَحُّ .
وَالثَّانِي ضَعِيفٌ جِدًّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/350)
وَإِذَا شَكَكْنَا فِي الِاشْتِرَاطِ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَتَأْتِي تِلْكَ الْمَبَاحِثُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَلَمْ يَنْقُلْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي هَذَا الْفَرْعِ شَيْئًا إلَّا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنْ نَنْظُرَ إلَى مَا شَرَطَ لَهُمْ فَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْ غَيْرِهِ شَيْئًا وَلَا تَعَرَّضَ لِحَالَةِ الْإِطْلَاقِ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالثَّانِي مَا فُتِحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ لَهُمْ وَهُمْ يُؤَدُّونَ خَرَاجًا فَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُمْ عَلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فَإِنَّهَا مِلْكُهُمْ .
قُلْت هَذَا صَحِيحٌ ، وَمِثَالُهُ نَجْرَانُ وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَأَمَّا إحْدَاثُ الْكَنَائِسِ فَعَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ مِنْهُ لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُحْدِثُ فِيهِ كَنِيسَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ لِأَنَّهُمْ مُتَصَرِّفُونَ فِي مِلْكِهِمْ وَالدَّارُ لَهُمْ وَلِذَلِكَ يُمَكَّنُونَ مِنْ إظْهَارِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ فِيهَا وَإِظْهَارِ مَا لَهُمْ مِنْ الْأَعْيَادِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ وَالْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إيوَاءِ الْجَوَاسِيسِ وَإِنْهَاءِ الْأَخْبَارِ وَمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فِي دِيَارِهِمْ .
قُلْت لَكِنَّ الْأَصْحَابَ عَدُّوهَا فِي بَابِ اللَّقِيطِ دَارَ الْإِسْلَامِ لِجَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهَا فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَجُزْ إلَّا مُجَرَّدُ تَأْمِينٍ أَوْ أَدَاءِ جِزْيَةٍ كَمَا فِي نَجْرَانَ وَدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فَبَقَاءُ هَذَا النَّوْعِ فِي حُكْمِ دُورِ الْكُفَّارِ مُحْتَمَلٌ .(2/351)
وَأَمَّا إذَا جَرَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ انْفَرَدَ فِيهِ الْكُفَّارُ فَلَا وَجْهَ لِإِحْدَاثِ كَنِيسَةٍ فِيهِ أَصْلًا .
( فَصْلٌ ) قَدْ بَقِيَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ شَيْءٌ نُفْرِدُ لَهُ بَابًا لِأَنَّهُ فِي التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ وَهُمَا الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّصْنِيفِ :
( بَابُ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ )
قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَحَيْثُ قُلْنَا لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ وَجَوَّزْنَا إبْقَاءَ الْكَنِيسَةِ فَلَا مَنْعَ مِنْ عِمَارَتِهَا .
قُلْت جَزَمَ الرَّافِعِيُّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَقَدْ حَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْخِلَافَ فِيهِ ، وَنَصُّ كَلَامِهِ : " وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ انْهَدَمَتْ أَوْ انْهَدَمَ شَيْءٌ مِنْهَا فَهَلْ لَهُمْ أَنْ يُجَدِّدُوا أَوْ يُصْلِحُوا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ : لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَأَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَى التَّبْقِيَةِ وَلَوْ مَنَعْنَا الْعِمَارَةَ لَمَنَعْنَا التَّبْقِيَةَ وَنَقَلْت ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيقَتِهِ الَّتِي بِخَطِّ سُلَيْمٍ صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ الرِّفْعَةِ عَلَى ذَلِكَ وَظَنَّ أَنَّ التَّرْمِيمَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ كَمَا أَوْهَمَهُ كَلَامُ الرَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي قَوْلِ التَّنْبِيهِ : وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَةِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْهَا وَقِيلَ يُمْنَعُونَ فَجَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا لِلْكَنَائِسِ وَأَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْتُهْدِمَتْ كُلَّهَا .(2/352)
وَالصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ التَّنْبِيهِ يَعُمُّ الْمُسْلِمِينَ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالتَّنْبِيهِ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَعْلِيقَةِ أَبِي الطَّيِّبِ يُوَافِقُهُ غَالِبًا ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكِتَابَيْنِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا دَلَّنِي اسْتِقْرَاءُ كَلَامِهِمَا .
وَقَوْلُ الرَّافِعِيِّ وَجَوَّزْنَا إبْقَاءَ الْكَنِيسَةِ فِيهِ تَسَمُّحٌ وَهُوَ مِنْ النَّمَطِ الَّذِي قَدَّمْت فِي أَوَّلِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي التَّصَانِيفِ قَدْ يَتَسَمَّحُونَ فِيهِ فَإِنَّ الْجَوَازَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَالشَّرْعُ لَمْ يَرِدْ بِإِبْقَاءِ الْكَنِيسَةِ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ عَدَمُ الْمَنْعِ ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ فِي الْمُهَذَّبِ قَالَ مَا جَازَ تَرْكُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ هَلْ يَجُوزُ إعَادَتُهُ ؟ وَجْهَانِ وَهُوَ أَيْضًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَحَسْبُهُ مُقَابَلَتُهُ لِلتَّرْكِ بِالْإِعَادَةِ فَدَلَّ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ هَلْ يَجُوزُ لَنَا تَرْكُهُ يَعْبُدُونَهُ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا إعَادَتُهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ يَقْتَضِي أَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَوْ مُسْتَحَقٌّ أَوْ مُبَاحٌ وَلَيْسَتْ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُمْ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ تَرْكُنَا لَهُمْ ، وَسُكُوتُنَا عَنْهُمْ ، وَكَذَا قَوْلُ الْمِنْهَاجِ فِيمَا فُتِحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وَلَهُمْ الْإِحْدَاثُ فِي الْأَصَحِّ وَمُرَادُهُ عَدَمُ الْمَنْعِ ، وَكَذَا عِبَارَةُ ابْنِ الصَّبَّاغِ ، وَأَمَّا عِبَارَةُ الْمُحَرَّرِ فَسَالِمَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَقَوْلُ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَكَذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ(2/353)
الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ .
وَقَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ .
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : وَيُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّ كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ إذَا رُمَّتْ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَهْدِهِمْ فَيُوَفَّى لَهُمْ .
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِمَا قَدَّمْت مِنْ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُمَكِّنَهُمْ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ عُمَرَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِأَعْيَانٍ جَدِيدَةٍ فِي مَعْنَى إنْشَاءِ كَنِيسَةٍ جَدِيدَةٍ وَنَحْنُ لَمْ نَلْتَزِمْ لَهُمْ إلَّا عَدَمَ الْهَدْمِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ التَّرْمِيمِ وَتِلْكَ الْآلَاتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي يُرَمُّ بِهَا كَيْفَ تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ صَاحِبِهَا ، وَجَعْلُهُ إيَّاهَا كَنِيسَةً أَوْ جُزْءَ كَنِيسَةٍ لَا يَصِحُّ ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ أَطْلَقَ التَّرْمِيمَ أَنْ يَرُمَّ بِتِلْكَ الْآلَاتِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي الْتَزَمَ لَهُمْ عَدَمَ هَدْمِهَا فَيُعِيدُونَ تَأْلِيفَهَا عَلَى مَا كَانَ فَهَذَا قَرِيبٌ يُمْكِنُ الْمُوَافَقَةُ عَلَى الْجَوَازِ فِيهِ ، أَمَّا التَّرْمِيمُ الَّذِي فِيهِ إنْشَاءُ آلَاتٍ أُخْرَى فَبَعِيدٌ مِنْ الْجَوَازِ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَلَوْ شُرِطَ فَقَدْ اقْتَضَى كَلَامُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ الْجَوَازَ وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ لِعَدَمِ الْهَدْمِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْنَعَ كَمَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2/354)
قَالَ الرَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَلْ يَجِبُ إخْفَاءُ الْعِمَارَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) نَعَمْ لِأَنَّ إظْهَارَهَا مَرْتَبَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْأَحْدَاثِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِظْهَارِهَا كَمَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِبْقَاءِ الْكَنِيسَةِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ تَطْيِينُهَا مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ وَيَجُوزُ إعَادَةُ الْجِدَارِ السَّاقِطِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يُمْنَعُونَ مِنْ التَّطْيِينِ مِنْ خَارِجٍ .
وَإِذَا أَشْرَفَ الْجِدَارُ فَلَا وَجْهَ إلَّا أَنْ سَوَّى جِدَارًا دَاخِلِ الْكَنِيسَةِ ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى جِدَارٍ ثَالِثٍ وَرَابِعٍ فَيَنْتَهِي الْأَمْرُ إلَى أَنْ لَا يَبْقَى مِنْ الْكَنِيسَةِ شَيْءٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكْتَفِيَ مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْإِخْفَاءِ بِإِسْبَالِ سِتْرٍ تَقَعُ الْعِمَارَةُ مِنْ وَرَائِهِ أَوْ بِإِيقَاعِهَا فِي اللَّيْلِ .
قُلْت هَذَا تَفْرِيعٌ مُسْتَقِيمٌ .
وَرَأَيْت فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ بَعْدَ أَنْ حُكِيَ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ الْمَنْعُ مِنْ التَّجْدِيدِ وَالْإِصْلَاحِ ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إنْ تَشَعَّبَ السُّورُ فَبَنَوْا دَاخِلَ السُّورِ حَائِطًا حَتَّى إذَا أُسْقِطَ الْأَوَّلُ بَقِيَ الثَّانِي لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ وَهَذَا مِنْ الْإِصْطَخْرِيِّ مَعَ مَنْعِهِ الْإِعَادَةَ وَالتَّرْمِيمَ عَجِيبٌ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ وَإِذَا انْهَدَمَتْ الْكَنِيسَةُ الْمُبْقَاةُ فَهَلْ لَهُمْ إعَادَتُهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) لَا وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ وَابْنُ أَبِي هُبَيْرَةَ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ ابْتِدَاءُ كَنِيسَةٍ .(2/355)
قُلْت وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدِي لِأَنَّا لَمْ نَلْتَزِمْ لَهُمْ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَلَا كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا شُرُوطِهِمْ مَا يَقْتَضِيهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِتِلْكَ الْأَعْيَانِ الْمُنْهَدِمَةِ بِعَيْنِهَا فَيُعَادُ تَأْلِيفُهَا فَنَتْرُكُهُمْ وَذَاكَ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَأَصَحُّهُمَا نَعَمْ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الْكَنِيسَةَ مُبْقَاةٌ لَهُمْ فَلَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَكَانِهَا .
قُلْت مِنْ أَيْنَ إذَا كَانَتْ مُبْقَاةً لَهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا انْتِفَاعًا خَاصًّا مُدَّةَ بَقَائِهَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ التَّصَرُّفُ فِي مَكَانِهَا وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ لَهُمْ التَّصَرُّفَ فِي مَكَانِهَا مِنْ أَيْنَ أَنَّهُمْ يَعْمَلُونَهُ ؟ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إحْدَاثِهِمْ كَنِيسَةً ، وَكَأَنَّ الرَّافِعِيَّ يَجْعَلُ الْكَنِيسَةَ هِيَ الْأَرْضُ فَقَطْ ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ الْكُلُّ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَلَيْتَ لَوْ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ فِي الْإِعَادَةِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ تُعَادَ بِآلَتِهَا الْقَدِيمَةِ وَحِينَئِذٍ كَانَ يَسْهُلُ التَّجْوِيزُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ التَّرْمِيمِ بَلْ هُنَا قَرِينَةٌ تَقْتَضِي الْحَمْلَ عَلَى ذَلِكَ وَهِيَ لَفْظُ الْإِعَادَةِ فَالْمُعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُهُ ، أَمَّا إعَادَةُ الْكَنِيسَةِ بِأَعْيَانٍ أُخْرَى فَبَعِيدٌ جِدًّا .(2/356)
فَإِنْ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِمْ فِي الْإِعَادَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ احْتَمَلْنَاهُ ، وَإِلَّا فَلَا وَأَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْهَدْمِ فَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَلَا نَزِيدُ وَنَقُولُ هُوَ الْإِبْقَاءُ ثُمَّ الْإِبْقَاءُ مُسْتَلْزِمُ بَقَاءَ نَوْعِهِ ثُمَّ إعَادَةُ مِثْلِهِ .
هَذَا كُلُّهُ لَا دَلِيلَ مِنْ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فَوَجَبَ بُطْلَانُهُ ، قَالَ الرَّافِعِيُّ وَإِذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ إعَادَتَهَا فَهَلْ لَهُمْ تَوْسِيعُ حِيطَانِهَا ؟ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا نَعَمْ كَمَا لَوْ أَعَادُوهَا عَلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى .
قُلْت هَذَا يُسْتَغَاثُ إلَى اللَّهِ مِنْهُ وَعِنْدِي أَنَّهُ غَلَطٌ مَحْضٌ قَالَ : وَأَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ كَنِيسَةٌ جَدِيدَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْأُولَى .
قُلْت هَذَا حَقٌّ وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الصَّبَّاغِ مَسْأَلَةَ التَّرْمِيمِ ، وَذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْإِعَادَةِ وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَصْحِيحٍ .
وَعَنْ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْأُولَى مِنْ إطْلَاقِ الْوَجْهَيْنِ فِي إصْلَاحِ مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ الْكَنَائِسِ أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ صَارَتْ دِرَاسَةً مُسْتَطْرَقَةً كَالْمَوَاتِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إنْشَاءٍ وَإِنْ كَانَتْ شُعْبَةً بَاقِيَةَ الْآثَارِ وَالْجِدَارِ جَازَ لَهُمْ بِنَاؤُهَا ، وَمَنْعُهُ فِي الْمُنْدَرِسَةِ نَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ وَالتَّمْكِينُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ الْإِعَادَةِ قَبِيحٌ جِدًّا ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الشُّعْبَةِ لَا نُوَافِقُهُ عَلَيْهِ بَلْ نَقُولُ بِالْمَنْعِ أَيْضًا .(2/357)
وَقَوْلُهُ جَازَ يَنْبَغِي تَأْوِيلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ لَمْ يَصْنَعْ كَمَا صَنَعَ فِي الْكِفَايَةِ وَمَالَ إلَى مَا يَقْتَضِي إثْبَاتَ خِلَافٍ فِي التَّرْمِيمِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى النَّقْلِ فِيهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا التَّمْكِينُ مِنْ التَّرْمِيمِ ، وَالْحَقُّ عِنْدِي خِلَافُهُ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ يُمْنَعُونَ مِنْ رَمِّهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْمُدْرَكُ أَنَّهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَالْعَيْنُ الَّتِي تَنَاوَلَهَا الْعَقْدُ قَدْ انْهَدَمَتْ وَالْعَوْدُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَهُوَ مُنْكَرٌ تَجِبُ إزَالَتُهُ .
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ : إذَا انْهَدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ أَوْ تَشَعَّبَ فَأَرَادُوا إعَادَتَهُ وَتَجْدِيدَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ ، وَالثَّانِيَةُ لَهُمْ أَمَّا الْبِنَاءُ عَنْ خَرَابٍ فَلَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ .
وَالثَّالِثَةُ لَهُمْ مُطْلَقًا ، وَرَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ لَيْسَ أَنْ يُحْدِثُوا إلَّا مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ أَنَّ التَّرْمِيمَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ ، فَامْتِنَاعُ الْإِعَادَةِ أَوْلَى ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْكَنَائِسَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إحْدَاثُهَا فِي الْأَمْصَارِ دُونَ الْقُرَى وَهُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْمُبْقَاةَ إذَا انْهَدَمَتْ تُعَادُ .
وَإِذَا جَوَّزُوا الْإِعَادَةَ فَالتَّرْمِيمُ أَوْلَى .(2/358)
وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِلْكَرْخِيِّ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي نَوَادِرِهِ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ بِخُرَاسَانَ وَالشَّامِ قَالَ مَا أَحَاطَ عِلْمِي بِهِ أَنَّهُ مُحْدَثٌ هَدَمْتُهُ وَإِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مُحْدَثٌ تَرَكْته حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لِأَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَجُوزُ هَدْمُهُ وَالْمُحْدَثُ يَجُوزُ هَدْمُهُ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ بِسَبَبِ الْهَدْمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بُنِيَ بِحَقٍّ فَلَا نَعْرِضُ لَهُ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : فَإِنْ بَنَوْا فِي بَعْضِ الرَّسَاتِيقِ وَالْقُرَى ثُمَّ اتَّخَذَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ مِصْرًا مُنِعُوا أَنْ يُحْدِثُوا بَعْدَ مَا صَارَ مِصْرًا وَإِذَا كَانَ هَذَا كَلَامُهُمْ فِي الْإِحْدَاثِ وَالْإِبْقَاءِ فَالتَّرْمِيمُ أَسْهَلُ وَلَكِنَّ الْحَقَّ الْمَنْعُ مِنْ التَّرْمِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .(2/359)
( مَسْأَلَةٌ ) وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِ صَفَدَ عَلَى نَائِبِ الشَّامِ مَضْمُونُهُ أَنَّ مَدِينَةَ عَكَّاءَ مِنْ السَّاحِلِ بِعَمَلِ صَفَدٍ بِهَا مِينَاءٌ يَرِدُ إلَيْهَا التُّجَّارُ الْفِرِنْجُ مِنْ الْبَحْرِ يَبِيعُونَ مَا يَصِلُ مَعَهُمْ وَيَبْتَضِعُونَ غَيْرَهُ وَيَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَادَةٌ بِإِظْهَارِ أَعْيَادِهِمْ بِعَكَّاءَ وَلَا مَا يَفْعَلُونَهُ بِبِلَادِهِمْ وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَيَّامٍ اجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ وَجَهَّزُوا مَنْ قَطَعَ لَهُمْ عُرُوقَ زَيْتُونٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى أَكْتَافِ عَتَّالِينَ نَفَرَيْنِ صِبْيَانَ فِرِنْجَ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ وَأَنَّ الصِّبْيَانَ الْمَذْكُورِينَ أَعْلَنُوا بِالدُّعَاءِ لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ بِالْمِينَاءِ ثُمَّ إنَّهُمْ دَخَلُوا إلَى خَرَابِ عَكَّاءَ جَمِيعُهُمْ وَقُدَّامُهُمْ مُقَدَّمُ الْوِلَايَةِ وَالْمِينَاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسُيُوفٍ مَشْهُورَةٍ وَأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى الْكَنِيسَةِ اسْتَغَاثَ الصِّبْيَانُ الرَّاكِبِينَ بِالْمَسِيحِ بِالدِّينِ الصَّلِيبِ وَبِيَدِ أَحَدِ الصِّبْيَانِ رُمْحٌ بِهِ رَايَةٌ وَحَالَ الْوَقْتِ جَهَّزَ الْمَمْلُوكُ مَنْ أَحْضَرَ الْفِرِنْجَ الْمَذْكُورِينَ وَمُتَوَلِّيَ عَكَّاءَ وَالْقَاضِيَ بِهَا وَمُقَدَّمَ الْمِينَاءِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَتَّالِينَ فَلَمَّا حَضَرُوا سَأَلَ الْمَمْلُوكُ الْعَتَّالِينَ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرُوا أَنَّهُ جَرَى وَأَنَّ مُقَدَّمَ الْوِلَايَةِ أَمَرَهُمْ بِشَيْلِ الزَّيْتُونَةِ مَعَ الْفِرِنْجِ الْمَذْكُورِينَ وَأَنَّ الْفِرِنْجَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ شَاوَرُوا الْوَالِيَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ جَهَّزَهُمْ إلَى عِنْدِ الْقَاضِي وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَمَرَهُمْ(2/360)
بِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي أَمَرَهُمْ بِعَمَلِ ذَلِكَ يَعْمَلُونَهُ وَعُمِلَ مُحْضَرٌ بِصُورَةِ الْحَالِ وَمَا اعْتَمَدَهُ الْمَذْكُورُونَ جَمِيعُهُمْ وَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَذْكُورِينَ الْوَاجِبَ فَخَشِيَ مِنْ شَكْوَاهُمْ وَيَطْلُبهُمْ الْوَالِي وَأَنْ يَقُولُوا إنَّ الْمَمْلُوكَ عَمِلَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَأَنَّ الْمَمْلُوكَ طَلَبَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ فِي عَمَلِهِ وَلَمْ يَجِدْ فِي صَفَدٍ مُفْتٍ يُفْتِيهِ وَأَنَّ الْحَاكِمَ بِصَفَدٍ ذَكَرَ أَنَّ مَذْهَبَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ حَدِيثٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِصَفَدٍ وَقَدْ اخْتَارَ الْمَمْلُوكُ أَنْ يُحَرِّرَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ جَمِيعِهِمْ لِيَعْتَمِدَ فِي أَمْرِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْفِرِنْجِ كَلَامٌ وَلَا تَظَلُّمٌ ، وَقَدْ كَتَبْت فُتْيَا بِصُورَةِ الْحَالِ وَجَهَّزَهَا الْمَمْلُوكُ عَطَفَ مَطَالِعَهُ إلَى بَيْنِ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ لِيَقَعَ نَظَرُهُ عَلَيْهَا .(2/361)
( أَجَابَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا نَصُّهُ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ بِأَمَانٍ لَيْسَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلْ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَقْدُ الْأَمَانِ أَضْعَفُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ بِمَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ ، وَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَنِدَائِهِمْ بِالدِّينِ الصَّلِيبِ وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْهَيْئَةُ يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُمْ وَيَصِيرُونَ كَمَنْ لَا أَمَانَ لَهُمْ .
وَاَلَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ إنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمُفَادَاةِ ، وَلَا يُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ عَنْ الصَّحِيحِ ، وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْمَنِ يُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ مَحْمُولًا عَلَى مَا فُصِّلَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِثْلُهُمْ فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ أَيْضًا كَمَا يَتَخَيَّرُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ، وَلَيْسَ تَخَيُّرُهُ لِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي بَلْ عَلَى سَبِيلِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ .(2/362)
وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ نَفْسِهِ لَا لِنَائِبِهِ فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِلنَّائِبِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ حَتَّى يُشَاوِرَ مَوْلَانَا السُّلْطَانَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَسْتَقِلُّ بِهِ نَائِبُ السُّلْطَانِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِهِمْ بِحَسَبِ رَأْيِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ وَصْمَةٌ فِيهِمْ وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى إنْكَارِهِ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا تَقْدِيرٍ .
وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِيهِ إنْ كَانَ وَالِيًا يُعْزَلُ وَيُؤَدَّبُ بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ أَدْنَى الْحُدُودِ ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا يُعْزَلُ ، وَالْحَمَّالُونَ يُؤَدَّبُونَ تَأْدِيبًا لَطِيفًا وَكَذَا مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ .
كَتَبَهُ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ ، وَالرَّأْيُ عِنْدِي فِي الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ مَعَ التَّعْزِيرِ أَوْ دُونَهُ نُمْسِكُ هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجَ هُنَا عِنْدَنَا حَتَّى يُطْلِقُوا لَنَا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي بِلَادِهِمْ .(2/363)
فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُمْ وَجَاهَةٌ فِي بِلَادِهِمْ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِجَاهٍ أَوْ مَالٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَنْ يُمْسِكَهُمْ حَتَّى يَتَحَيَّلُوا فِي ذَلِكَ وَيَأْتُوا بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَهِيَ الْمُفَادَاةُ وَيَسْتَقِلُّ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِذَلِكَ أَعْنِي بِحَبْسِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَحَيَّلُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ خَيْرٌ مِنْ قَتْلِهِمْ وَمِنْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ وَمِنْ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ فِي الْفُتْيَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِإِفَادَةِ فَقِيهٍ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ فَأَقُولُ : وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُجَرَّدَ دُخُولِهِمْ لِلتِّجَارَةِ لَا يَقْتَضِي الْأَمَانَ حَتَّى يَعْقِدَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ أَمَانًا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ إشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَحُكْمُ الْإِشَارَةِ حُكْمُ الْكِنَايَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ أَمْ عَاجِزٍ مِنْ جِهَتِنَا وَبِلَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْ بِأَنْ يَكُونُوا رُسُلًا أَوْ بِأَنَّ الْقَصْدَ سَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فَلَا أَمَانَ لَهُمْ .
وَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَمَانِ مُجَرَّدُ قَصْدِهِمْ التِّجَارَةَ لِمَنْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ بِلَا إذْنٍ فَلَيْسَ يَأْمَنُ .(2/364)
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ دَخَلْت لِتِجَارَةٍ وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ كَقَصْدِ السِّفَارَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّهُ لَا يُبَالَى بِظَنِّهِ وَيَجُوزُ اغْتِيَالُهُ لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا مُسْتَنَدٌ فَهَؤُلَاءِ التُّجَّارِ إنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أَذِنَ لَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي مَأْمَنَهُمْ فَلَيْسُوا بِمُسْتَأْمَنِينَ بَلْ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ جَارٍ عَلَيْهِمْ نَغْتَالُ أَنْفُسَهُمْ وَنَغْنَمُ أَمْوَالَهُمْ فَشَرْطُ أَمَانِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَالِي : كُلُّ مَنْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ آمِنٌ أَوْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِشَخْصٍ خَاصٍّ فَيَحْصُلُ الْأَمَانُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ .
وَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَعَلَى الْخُصُوصِ يَثْبُتُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا وُجِدَتْ كِتَابَةٌ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ الْأَمَانُ لَكِنْ لَا يُغْتَالُ بَلْ يَلْحَقُ بِالْمَأْمَنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ مَأْمَنَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ الْكَافِرُ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْأَمَانُ ، وَيَجُوزُ اغْتِيَالُهُمْ حَتَّى لِلَّذِي آمَنَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ الْأَمَانُ لِعَدَمِ فَهْمِ الْكَافِرِ ذَلِكَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأْمِينِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْأَمَانِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَلَا إشَارَةٍ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ، وَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجِ .(2/365)
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُمْ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَلَيْسُوا بِمُسْتَأْمَنِينَ وَلَا مُعَاهَدِينَ لَا قَبْلَ فِعْلِهِمْ هَذَا وَلَا بَعْدَهُ فَكَيْفَ نَعْتَمِدُ فِعْلَهُمْ هَذَا الشَّيْءِ .
وَهَذَا إنَّمَا قُلْنَاهُ اسْتِيرَادًا لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُبَالَغَةً وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَكِنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِخَاصَّةٍ ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ لِزِيَارَةِ قُمَامَةٍ وَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْمِينِ حُكْمِهِمْ هَكَذَا أَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ ، وَفَائِدَةُ كَوْنِهِ لَا أَمَانَ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يُضْمَنْ وَأَنْ لَا يَجُوزَ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ بَلْ يَبْلُغُ الْمَأْمَنَ وَإِنَّمَا نُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ لِدُخُولِهِ بِالْإِذْنِ بِخِلَافِ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ السَّيِّئَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَقَضَ أَمَانَهُ بِفِعْلِهِ يَجِبُ عَلَيْنَا تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ التَّأْمِينُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَهَذَا إذَا شَكَّ فِيهِ إذَا صَدَرَ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا أَوْ صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّعِيَّةِ خَاصًّا إمَّا لِشَخْصٍ خَاصٍّ وَإِمَّا لِعَدَدٍ مُبَيِّنِينَ مِنْ التُّجَّارِ وَفِيمَا إذَا قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْ الرَّعِيَّةِ ، وَقَالَ الْكَافِرُ ظَنَنْت صِحَّتَهُ فِي جَوَازِ اغْتِيَالِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُغْتَالُ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ فِي الْأَمَانِ كَانَ الْأَمَانُ بَاطِلًا وَلَا(2/366)
يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ التَّبْلِيغِ إلَى الْمَأْمَنِ بَلْ يَجُوزُ الِاغْتِيَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَإِنْ قَصَدَ التَّأْمِينَ لِأَنَّهُ تَأْمِينٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّأْمِينِ الْفَاسِدِ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ التَّأْمِينِ الصَّحِيحِ كَأَمَانِ الصَّبِيِّ وَالتَّأْمِينُ الْبَاطِلُ مِثْلُ تَأْمِينِ الْجَاسُوسِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِلْمَالِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهُ إذَا أَمَّنَهُ لِلدُّخُولِ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَمَانِ لِذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ .
وَإِذَا اُنْتُقِضَ الْأَمَانُ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ اُنْتُقِضَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَصَارَ مَالُهُ الَّذِي مَعَهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا اُلْتُحِقَ بِبِلَادِهِ وَتَرَكَ مَالَهُ عِنْدَنَا حَيْثُ لَا يَبْطُلُ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ عَلَى الْأَصَحِّ بَلْ يَجِبُ إيصَالُهُ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْأَمَانَ انْتَهَى نِهَايَتَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْنَا فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ .
وَهُنَا الْجِنَايَةُ صَادِرَةٌ مِنْهُ فَسَرَى أَثَرُهَا إلَى الْمَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كَتَبَهُ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ فِي لَيْلَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ .
=============
جيوش الكفار في بلاد المسلمين هل هم أهل الذمة؟(1)
المجيب أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
الجهاد ومعاملة الكفار/مسائل متفرقة في الجهاد ومعاملة الكفار
التاريخ 18/7/1424هـ
السؤال
__________
(1) - فتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (ج 7 / ص 511)(2/367)
هل يجوز للمسلم الذي يعيش في بلاد الإسلام أن يدفع الجزية للكافر؟ وهل جيوش الكفار في بلاد المسلمين تعتبر من أهل الذمة؟
الجواب
الجزية هي ما يدفعه الكافر إلى المسلمين لقاء حمايتهم ودفع الأذى عنهم ماداموا تحت ولاية المسلمين وفي دارهم، ولا يجوز للمسلم أن يدفع جزية للكافر مطلقاً، وجيوش الكفار التي احتلت واستعمرت بلاد المسلمين كما هي الحال في العراق اليوم بعد سقوط نظام صدام ليس جنودها من أهل الذمة، بل هم محاربون معتدون على الأنفس والأموال والنساء والأطفال، يتعين قتالهم، ولا يجوز إعانتهم بأي نوع من الإعانة قليلة كانت أو كثيرة. أعانكم الله ونصركم على أعدائكم الغزاة والكفرة.
=============
الخراج معناه وأنواعه وأحكامه.(1)
تاريخ الفتوى : ... 28 شوال 1421 / 24-01-2001
السؤال
ماهوالخراج؟ وما مقدار زكاة المال؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالخراج في اللغة: من خرج يخرج خروجاً بمعنى: برز. والاسم الخراج. وأصله ما يخرج من الأرض، ويطلق على الأجرة، ومنه قوله تعالى: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير) [المؤمنون: 72].
ويطلق على الإتاوة أو الضريبة التي تؤخذ من أموال الناس على الغلّة الحاصلة من الشيء، كغلة الدار أو الدابة أو العبد. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" رواه أبو داود.
والمعنى أن من اشترى عيناً فاستغلها، ثم وجد بها عيباً، وتبين أن العيب كان موجوداً قبل البيع فله رد العين وأخذ ثمنها، ولا يرد للبائع الغلة التي استغلها من العين، لأنه كان ضامناً لها لو هلكت ، فما أخذه منها من خراج هو في مقابل ما كان يلزمه من ضمانها. والخراج في اصطلاح الفقهاء له معنيان خاص وعام:
أما المعنى العام فهو: الأموال التي تتولى الدولة جبايتها وصرفها في مصارفها، كالجزية وغيرها.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 2583)(2/368)
وأما المعنى الخاص فهو: الوظيفة "الضريبة" التي يفرضها إمام المسلمين على الأرض الخراجية النامية. وتسمى الأرض التي يفرض عليها الخراج أرضا خراجية. والأرض قسمان: صلح وعَنوة، فأما الصلح فهو: كل أرض فتحها المسلمون صلحاً، وصالحوا أهلها عليها لتكون لهم، ويؤدون خراجاً معلوماً كل سنة، فهذه الأرض ملك لأربابها، وهذا الخراج في حكم الجزية، فمتى أسلم أهل الأرض سقط الخراج عنهم، ولهم بيعها ورهنها وهبتها لأنها ملك لهم.
والقسم الثاني: ما فتحه المسلمون عَنوة ـ أي بالسيف ـ ولم تقسم بين الغانمين، فهذه تصير للمسلمين، يضرب الإمام عليها خراجاً معلوماً يؤخذ في كل عام، وتقر في أيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها، سواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة، ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم، بل إذا أسلم أهلها أو انتقلت إلى مسلم يجتمع مع الخراج أيضاً عشر ما تخرج، زكاة عليها، ولا يمنع أحدهما وجوب الآخر، وهو قول أكثر الفقهاء.
وأول من وظف الخراج هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما فتحت العراق، حيث اجتهد مع الصحابة، ولم تقسم بين الفاتحين وضرب عليها الخراج، وكذلك سائر ما فتح في عصره، كأرض الشام ومصر وغيرها، لم يقسم منها شيء، وضرب عليها الخراج.
وأما بالنسبة لمقدار نصاب زكاة المال فهو عشرون ديناراً ذهبياً، أي مايعادل قيمة خمسة وثمانين جراماً. والله أعلم.
=============
حكم الله يجب تطبيقه ولو كان يعيش مع المسلمين أقلية من غيرهم (1)
تاريخ الفتوى : ... 07 ذو القعدة 1421 / 01-02-2001
السؤال
هل صحيح أن الحدود الشرعية لا يمكن تطبيقها في دولة متعددة الأديان حتى وإن كان الحكم بيد المسلمين وحتى إن كانت الأغلبية من المسلمين بنسبة 85 بالمئه. لقد أفتى العلماء هنالك بما ذكرت آنفاً أفيدوني جزاكم الله خيراً
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 434)(2/369)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الواجب على ولي أمر المسلمين - سواء كانوا قلة أم كانوا كثرة - أن يقيم حدود الله تعالى فيهم، ولا يجوز له تعطليها - ولو كانوا قلة - بحجة أن تطبيقها يؤدي إلى مفسدة أعظم، لأن الذي وضع الحدود وخلق العباد هو الله، وهو أعلم بما يصلحهم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك :14]، وهو أرحم بهم من أن يكلفهم بما لا يمكن، وهل هناك مفسدة أعظم من سفك الدماء المتزايدة يوما بعد يوم والاعتداء على الأعراض واختلاط الأنساب وإفساد العقول التي هي ميزة الإنسان وخصوصيته التي فضله الله بها على ما سواه من المخلوقات. ولا شك أن تعطيل حدود الله تعالى يزيد في معدل الجريمة ويهون أمرها كما يحصل اليوم في ظل تعطيل حدود الله، والاستعاضة عنها بقوانين وضعية لا تقوم على أي أساس من الحق ولا من العدل، ومما يجدر التنبه له أن تطبيق هذه الحدود، أو أكثرها مقصور على من يعيشون تحت ظل الدولة من المسلمين، أما من يعيشون تحت ظلها من غير المسلمين فلا تطبق عليهم هذه الحدود إلا فيما إذا ترافعوا فيما يجرى بينهم إلى محاكم المسلمين، فلها أن تحكم بينهم ولها أن تعرض عنهم وإذا حكمت بينهم فلتحكم بالقسط.
ولم تخل دولة الإسلام خلال حكمها لشؤون المسلمين ثلاثة عشر قرناً من طوائف من غير المسلمين يعيشون تحت حكمها محفوظة حقوقهم محقونة دماؤهم، أحرار في عباداتهم وفق ضوابط لا يتسع المجال لذكرها، وهي مبسوطة في كتب الفقه، بل إنها قد صنفت فيها كتب تخصها، منها ما يحمل هذا العنوان ( أحكام أهل الذمة ). والله أعلم.
===============
الشروط العمرية التي تخص أهل الذمة(1)
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
لدي أسئلة عن العهد العمري:
1. ما نصه؟
2. ما مصادره؟
3. هل هناك نص واحد أم نصوص؟
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3463)تاريخ الفتوى : 13 محرم 1422(2/370)
4. حاله عند أهل الرواية و الدراية؟
5. هل يُلفظ ب "العُهدةَ العُمريةَ" أم "العهد العمري"؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ذكر الإمام ابن القيم الشروط العمرية في كتابه أحكام أهل الذمة، وعزاها لعدد من المصادر وأضفنا نحن مصادر أخر:
أولها مسند الإمام أحمد، فقد روى ابنه عبد الله في زوائده على المسند، فقال: حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثني (عمي) أبو اليمان وأبو المغيرة قالا: أخبرنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا غير واحدٍ من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: "إنا حين قدمت بلادنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا: ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاّية (بناء كالدير)، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشا للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم(2/371)
بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق.
فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: أن أمض لهم ما سألوا، وألحق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم: ألا يشتروا من سبايانا شيئاً، ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده.
فأنفذ عبد الرحمن بن غنم ذلك، وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط".
وروى هذه الشروط الخلاّل في كتاب أحكام أهل الملل من طريق عبد الله بن الإمام أحمد.
ثانيها: أخرج البيهقي في سننه (السنن الكبرى 9/202) عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح أهل الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا، ولا فيما حولها ديراً ولا قلاّية ولا كنيسة ولا صومعة راهب.. فذكر نحو رواية عبد الله بن الإمام أحمد.(2/372)
ثالثها: روى سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة، قال: كتب عمر رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام كتاباً وشرط عليهم فيه... فذكر نحو ما ذكر في رواية عبد الله بن الإمام أحمد، مع خلاف يسير في ألفاظه.
وكل رواية من روايات هذا الأثر لا تخلو من مقال في إسنادها، إلا أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها (أحكام أهل الذمة لابن القيم 3/1163-1164).
وقال الإمام ابن تيمية: "في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لما قدم الشام، وشارطهم بمحضر المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، وعليه العمل عند أئمة المسلمين، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر" لأن هذا صار إجماعاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين لا يجتمعون على ضلالةٍ على ما نقلوه وفهموه من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم".
مجموع الفتاوى 28/651.
أما تسمية هذه الشروط بالعهدة العمرية أو العهد العمري فلا حرج في ذلك ، فكل من اللفظين مستقيم لغة ، والنسبة إليه صحيحة .
والله أعلم.
===============
دار الإسلام ودار الحرب (1)
السؤال
ما معنى دار حرب و دار السلم؟ وهل لبنان يعتبر دار حرب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3482) رقم الفتوى 7517 دار الإسلام ودار الحرب =تاريخ الفتوى : 20 محرم 1422(2/373)
فقد عَّرف الفقهاء دار الإسلام ودار الحرب بتعريفات وضوابط متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي، دار الإسلام هي: الدار التي تجري فيها الأحكام الإسلامية، وتحكم بسلطان المسلمين، وتكون المنعة والقوة فيها للمسلمين.
ودار الحرب هي: الدار التي تجري فيها أحكام الكفر، أو تعلوها أحكام الكفر، ولا يكون فيها السلطان والمنعة بيد المسلمين.
قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: تعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جُلُّ أهلها من الكفار.
وتعتبر الدار دار كفر لظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين. المبسوط للسرخي 10/144.
وقال الإمام ابن القيم: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون، وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها. أحكام أهل الذمة 1/266.
ويقول الإمام ابن مفلح: فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفر فدار الكفر، ولا دار لغيرهما. الآداب الشرعية 1/213.
إذا عرفت هذا استطعت التمييز بين دولة وأخرى من حيث كونها دار إسلام، أو دار حرب. والله أعلم.
==============
الأحوال التي يجوز فيها دخول أهل الكتاب إلى جزيرة العرب(1)
السؤال
هل يجوز استقبال الوفود الصليبية في جزيرة العرب؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالأصل إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وعدم تمكينهم من البقاء فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدع فيها إلا مسلماً" رواه مسلم.
وقوله: "لا يترك بجزيرة العرب دينان" رواه أحمد.
وقوله: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" متفق عليه.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3595) -رقم الفتوى 7706 الأحوال التي يجوز فيها دخول أهل الكتاب إلى جزيرة العرب =تاريخ الفتوى : 28 محرم 1422(2/374)
قال في المغني: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن. قاله سعيد بن عبد العزيز.
وقال الأصمعي وأبو عبيد: هي من ريف العراق إلى عدن طولاً، ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضاً.
وقال الخليل: إنما قيل لها "جزيرة العرب" لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها، ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها. ذكره ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/381.
والمقرر عند أهل العلم أنه يجوز دخول اليهودي أو النصراني -إلى غير الحرم- بإذن الإمام لمصلحة، كأداء رسالة، أو حمل تجارة يحتاجها المسلمون.
وعليه فإن كان في دخول هذا الوفد مصلحة أو حاجة ترجع إلى المسلمين، جاز إدخالهم إلى غير الحرم. والله أعلم.
=============
لا تناقض بين الشروط العمرية والعهدة العمرية(1)
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السادة المحترمون
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
لقد سألتكم فيما مضى عن (العهد العُمري) و رقم السؤال كان 9507 . و أجبتم مشكورين على سؤالي بالجواب رقم 7497.
في نهاية الأسبوع طالعت موقعكم المحترم، و فوجئت بذكر ل(الوثيقة العمرية في فتح بيت المقدس) ، http://www.islamweb.net/Article.asp?Article=256 .
سؤالي هذه المرة، هل هناك تباين بين ما أجبتم على سؤالي مشكورين و ما مذكور في موقعكم الكريم أم لا؟ وكيف ينبغي النظر إلى هذه الوثيقة روائياً و فقهياً؟
مع بالغ الإحترام و التقدير و السلام
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 3755) - رقم الفتوى 7982 لا تناقض بين الشروط العمرية والعهدة العمرية -تاريخ الفتوى : 15 صفر 1422(2/375)
فنسأل الله أن يوفقنا وإياك لطاعته، واعلم أن الذي تبادر إلى أذهاننا ونحن نقرأ سؤالك الأول برقم 9507 أن مرادك هو الشروط العمرية، والتي أوسعها الإمام ابن القيم بحثاً في كتابه (أحكام أهل الذمة) فكانت إجابتنا بناءً على ما تبادر إلى أفهامنا من سؤالك، ولعل ذلك يوضح لك سبب ما ظننته تبايناً بين ما أجبناك به ، وبين ما نشر في موقعنا. أما العهدة العمرية، وهي: عهد عمر رضي الله عنه لأهل بيت المقدس، فقد ذكرها الإمام الطبري في تاريخه من غير إسناد، فقال: وعن عدي بن سهل قال ثم ذكرها.
أما فقهياً: فالعمدة في بيان أحكام أهل الذمة على ما ذكرناه من الشروط العمرية، وهي التي بنى عليها ابن القيم كتابه، كما سبق آنفاً، وفيها ذكر -رحمه الله- أن الأئمة تلقوها بالقبول، وذكروها في كتبهم، واحتجوا بها، ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم، وقد أنفذها بعده الخلفاء، وعملوا بموجبها، ونقل الإمام ابن تيمية إجماع الصحابة على العمل بموجبها، أما العهدة العمرية فكانت مجملة في شروطها، مما جعلها محل قبول عند بعض من لم ترق له الشروط العمرية، وأخذ يضعف سندها مغفلاً الإجماع القائم على الأخذ بها، وعمل الخلفاء على وَفْقِها، ولا يخفى أن هذا المسلك مسلك مجانب للصواب، فكيف يسوغ لطالب الحق أن يضرب بإجماع مبرم في أول القرون المزكاة، وسنة ماضية عرض الحائط. هذا ومما ينبغي التنبه له أنه ليس في العهدة العمرية لأهل المقدس ما ينقاض الشروط العمرية، وكل ما في الأمر هو أن الثانية مفصلَّة، والأولى مُجملَة بعض الشيء. والله أعلم.
=============
حرية العقيدة لا تعني حرية الارتداد(1)
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
أرجو من سيادتكم إفادتى فى هذه الفتوى :
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4096) -رقم الفتوى 8520 حرية العقيدة لا تعني حرية الارتداد -تاريخ الفتوى : 15 ربيع الأول 1422(2/376)
من المعروف أن الإسلام أباح حرية العقيدة ، كيف نجمع بين حرية العقيدة فى الإسلام وبين نص الإسلام على قتل المرتد ؟ وإذا قلنا إن الإسلام ينبه على المعتنقين الجدد له أنه يقتل المرتد ، فما هو الحال بالنسبة لمن ولد مسلما ووجد نفسه مسلما ولم يعرف بذلك إلا بعد بلوغه سنا يميز فيها .. ، أفيدونا جزاكم الله خيرا
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقولهم: الإسلام أباح حرية العقيدة، ليس صحيحاً على إطلاقه، فالإسلام وإن سمح لأهل الكتاب بالبقاء على دينهم، إلا أنه يلزمهم بالدخول تحت سلطانه، ودفع الجزية، والامتناع عن إظهار الكفر والدعوة إليه ونشره، وذلك معلوم مشهور فيما أجمع عليه الصحابة في التعامل مع أهل الذمة، وجمهور الفقهاء على أنه لا يقبل من غير الكتابي والمجوسي إلا الإسلام، فإن أبى قوتل على ذلك.
وليس لأحد في دولة الإسلام أن يدعو الناس إلى الكفر، ولا أن يظهره، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا البوذية، ولا الشيوعية، ولا غير ذلك من المذاهب الهدامة.
وإذا كان هذا مع الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، ولم يستضيئوا بنوره، فإن الأمر مع من دخله وارتد عنه أشد وأعظم، فالمرتد لا يجوز إقراره بعهد أو جزية، وإنما يجب قتله لأنه عرف فأنكر، وأبصر فعمى، سواء دخله بالغاً مدركاً، أو نشأ فيه صغيراً، فإن من ولد على الإسلام، فقد اجتمع فيه أسباب الهداية ودواعيها: ولادته على الفطرة، ونشأته بين المسلمين، ومعرفته بعظمة الإسلام، فلا يرتد مثل هذا إلا لخبث نفسه ورداءة عقله، فهو نبتة ضالة منحرفة لا خير في بقائها.
ولسنا الذين حكمنا بقتله، وإنما هو حكم ربه جل وعلا الذي خلقه، وهو أعلم به.
ثم إن المرتد لا يقتل بغتة، وإنما تعرض عليه العودة إلى الإسلام، ويذّكر بالله عز وجل، ويمهل أياماً ليفيء إلى رشده، مع إعلامه بالمصير الذي ينتظره في الدنيا والآخرة إن تمادى على ارتداده عن دينه.(2/377)
فلا يصبر على القتل ويصر على الكفر في هذه الحال رجل فيه ذرة من خير نافع، ومثل هذا لا يؤسف على ذهابه، بل قتله راحة للبلاد والعباد.
وفي قتل المرتد حفظ للدين، وصيانة له من أن يتخذه السفهاء هزواً ولعباً، يؤمنون به وجه النهار ويكفرون آخره، ليدخلوا الشك والشبهة على ضعاف الإيمان.
فالحمد لله على نعمة الإسلام.
والله أعلم.
============
وجوب تمييز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باللباس (1)
السؤال
ما حكم قرار السلطات الأفغانية بفرض زي خاص لغير المسلمين؟ هل يقبل هذا النوع من التصرف في العصر الحديث؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد نقل الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى 28/651) إجماع العلماء على وجوب أن يلبس أهل الذمة لباساً أو علامة تميزهم عن المسلمين، وقد اشترط عمر رضي الله عنه على نصارى الشام أن لا يتشبهوا بالمسلمين، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فلم ينكروه، فكان ذلك إجماعاً، وعلى ذلك مضى عمل الخلفاء من بعده، والحكمة في ذلك ظاهرة بينه - والحمد لله - وهي أن أهل الذمة الذين يعيشون مع المسلمين، ويختلطون بهم في نواديهم وأسواقهم لا يختلفون في أحكامهم وحقوقهم العامة عن المسلمين، لكن المسلمين مخاطبون بأحكام الشريعة، ومؤاخذون بها في القانون الإسلامي، في العبادات والمعاملات، مما هو من خصائص أهل الإسلام دون غيرهم، فوجب تميزهم لأمور منها:
1/ حماية جناب الشريعة، وتحقيق مقاصدها، بظهور خصائص الإسلام وتعاليمه على أشخاص المسلمين وفي واقع حياتهم، ومنع أسباب التمازج المفضي إلى وجود الذريعة للفسقة والمنافقين للتملص من قيود الشرع وتكاليفه.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4151) - رقم الفتوى 8607 وجوب تمييز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باللباس
تاريخ الفتوى : 19 ربيع الأول 1422(2/378)
2/ الحفاظ على خصوصية المجتمع المسلم، ومنها مطالبته بالتزام الزي الموافق لهدي الإسلام، ومنعه من تقليد غير المسلمين، مما يكون سبباً في ذوبان الشخصية، ولهذا لو تنازل المسلمون عن لباس الحشمة، وتشبهوا بلباس غير المسلمين، لم يطالب أولئك بالتميز عنهم.
3/ التفريق في الأحكام أثناء تطبيق قوانين الشريعة، خاصة في الأحكام التي تندرج تحت عمل الحسبة، وفي أعمال البيع والتجارة، فيؤخذ المسلمون بما هو من دين الإسلام، ولا يطالب غيرهم بما تكفلت الشريعة بإسقاطه، أو عدم مؤاخذتهم به، كالجهاد والصلاة والصيام، وكدخول الكنائس والعمل فيها، وكأكل الربا والخنزير، وشرب الخمر، لو عثر عليهم متلبسين بشيء من ذلك.
ثم إننا نرى أن غير المسلمين في بلادهم لا يحترمون مشاعر المسلمين وخصوصياتهم الدينية، ألا ترى العالم قد فضل عطلة اليهود والنصارى السبت والأحد على عطلة المسلمين الجمعة، ولم يرفع رأساً بأعيادهم، ولا تأريخهم الهجري، ولم يمتنع من المجاهرة بشرب الخمر، والزنا، والربا، والتعري.. وكلها محرمة في دين المسلمين، ولم يقل أحد بأن ذلك غير لائق في العصر الحاضر، وهذه الأمور التي يفعلها غير المسلمين لأشد ضرراً على المسلمين من دعوة غير المسلمين إلى الامتياز بزي معين، روعيت فيه مصالح الطرفين، وكان القصد الأول منه الحفاظ على هوية المجتمع المسلم، وليس انتقاص غيرهم، أو الإساءة إليهم.والله أعلم.
==============
المسلمون مطالبون بتحكيم الشريعة ولو كان نصف السكان نصارى (1)
تاريخ الفتوى : ... 27 ربيع الثاني 1422 / 19-07-2001
السؤال
إذا كانت البلد نصفها مسلم ونصفها الآخر مسيحي فهل يطالب المسلمون بتطبيق الشريعة حتى على المسيحيين ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالمسلمون مطالبون بتطبيق شريعة الإسلام في كل مكان لهم فيه سلطان ونفوذ واستطاعة.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية(2/379)
وهم يطبقون شرع الله فيما بينهم في جميع شئون حياتهم، وإذا كانت لهم الدولة طولبوا بتطبيق الشريعة على الجميع من مسلم أو كتابي، وذلك بإلزام الكتابي بدفع الجزية والخضوع لراية الإسلام، ضمن الشروط المقررة في التعامل مع أهل الذمة، من عدم إظهارهم لشعائرهم، وعدم تعرضهم لمسلم بفتنة وغير ذلك.
وإذا جرى بين النصارى خصومة وتنازع ثم تحاكموا إلى المسلمين، فللمسلمين أن يعرضوا عنهم، ولهم أن يحكموا بينهم، وإذا حكموا بينهم وجب عليهم أن يحكموا وفق الشريعة الإسلامية، وللنصارى أن لا يتحاكموا إلى المسلمين، بل يتحاكموا إلى علمائهم هم وأهل ملتهم.
وإن كانت الخصومة مع مسلم لزم التحاكم إلى قضاة المسلمين. وليعلم أن تحكيم الشريعة الربانية يحقق العدل والأمن والاطمئنان لجميع أفراد المجتمع من المسلمين وغيرهم، وقد أقر النصارى المنصفون بذلك.
بل كان حكم المسلمين لهم خيراً من حكم أبناء طائفتهم وملتهم، كما شهد بذلك نصارى مصر والشام إبان فتح المسلمين لبلادهم.
ولا عجب في ذلك، فهي شريعة الله الحكيم العليم الرحمن الرحيم.
والله أعلم.
==============
ما حكم من يقتل كافرا ؟(1)
السؤال
ما حكم من يقتل كافراً متعمداً؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذا سؤال عام، والإجابة تحتاج إلى تفصيل:
فالكافر ينقسم إلى قسمين: محارب، وغير محارب.
والمحارب يجوز قتله، وقد يستحب، وقد يجب قتله بحسب المصلحة التي تترتب على قتله، وقد يترك قتله إذا لم تترتب على قتله مصلحة راجحة، أو كان في قتله مفسدة أعظم. وقد أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دم عدد من المحاربين له وأمر بقتلهم، وعفا عن بعضهم. كما نهى الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان ممن ليس لهم حيلة في القتال.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 2 / ص 4543) - رقم الفتوى 9270 ما حكم من يقتل كافرا ؟ -تاريخ الفتوى : 27 ربيع الثاني 1422(2/380)
أما غير المحارب فلا يجوز قتله، ومثال ذلك: الذمي من اليهود أو النصارى، ممن هو مرتبط مع المسلمين بعقد ذمة.
قال الإمام ابن القيم في أحكام أهل الذمة: ( الكفار إما أهل حرب، وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان…) لكن من نقض عهده منهم بسب الله، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم استحق القتل، لكن هذا يرجع إلى ولي أمر المسلمين. وعلى أية حال فلا يجوز قتل المعاهد إلا إذا أتى بما يستوجب القتل شرعاً، أما قتله بدون سبب فلا، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ألا من قتل نفساً معاهدة، له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً" رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وهذا الموضوع يحتمل البسط، لكن نكتفي بما ذكرنا.
والله أعلم.
============
التصدق على الكافر... رؤية شرعية(1)
السؤال
1-بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد. أنا رجل مسلم (رقيق القلب جدا) أعيش في أمريكا. كلما سمعت شكوى من أحد كأن يكون في ضائقة مالية مثلا أهب بمساعدته، سواء بإعطائه قرضا أو هبة. وضمن من يخدمني في مكان عملي عمال نظافة (غير مسلمين بطبيعة الحال)، فإن شعرت بأن أحدهم في ضيق مالي أساعده على الفور بإعطائه مالا كهبة (ليست من الزكاة بالطبع). سؤالي الآن، هل هذا حرام أو مكروه، وإن كان فهل معنى ذلك ألا أساعد إلا المسلمين فقط؟ أفيدوني أفادكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد اختلف الفقهاء في جواز صدقة التطوع على الكافر، وسبب الخلاف هو أن الصدقة تمليك لأجل الثواب، وهل يثاب الشخص بالإنفاق على الكافر؟
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 1512) - رقم الفتوى 12798 التصدق على الكافر... رؤية شرعية -تاريخ الفتوى : 02 ذو القعدة 1422(2/381)
1-فقال الحنابلة وهو المشهور عند الشافعية، ومحمد بن الحسن من الحنفية: إنه يجوز دفع صدقة التطوع للكفار مطلقاً، سواء كانوا من أهل الذمة، أو من الحربيين: مستأمنين أو غير مستأمنين، لعموم قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) قال ابن قدامة: ولم يكن الأسير يومئذ إلا كافراً، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وفي كل كبد رطبة أجر" رواه البخاري ومسلم، ولحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: "قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم، صلي أمك" رواه البخاري.
2-وفرق الحصكفي الحنفي في الدر المختار بين الذمي وغيره فقال: وجاز دفع غير الزكاة وغير العشر والخراج إلى الذمي -ولو واجباً- كنذر وكفارة وفطرة، خلافاً لأبي يوسف، وأما الحربي ولو مستأمناً فجميع الصدقات لا تجوز له.اهـ
ونحوه ما ذكره الشربيني الشافعي في مغني المحتاج حيث قال: قضية إطلاق حل الصدقة للكافر أنه لا فرق بين الحربي وغيره، وهو ما في البيان للصيمري وغيره، والأوجه ما قاله الأذرعي من أن هذا فيمن له عهد أو ذمة أو قرابة، أو يرجى إسلامه، أو كان بأيدينا بأسر ونحوه، فإن كان حربياً ليس فيه شيء مما ذكر فلا.اهـ
ولعل الراجح هو القول الأول لعموم أدلته، وعليه فلا بأس أن تتصدق على من ذكرت تطوعاً.
وأما الصدقة الواجبة(الزكاة) فلا تدفع لهؤلاء بحال، وراجع الفتوى رقم:8468
والله أعلم.
============
الزواج بالكتابية وما يترتب عليه من ذرية مباح (1)
السؤال
بخصوص زواج المسلم من أهل الكتاب وفي حالة إتمام الزواج ما هي الاحتياطات الواجب إتباعها لإنجاب الأبناء ذكوراً وإناثاً
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 3037)- رقم الفتوى 15508 الزواج بالكتابية وما يترتب عليه من ذرية مباح -تاريخ الفتوى : 03 صفر 1423(2/382)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فالكتابية هي التي تؤمن بدين سماوي -يهودياً كان أو نصرانياً- وأهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل، لقوله تعالى: ( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) [الأنعام: 156] وقد اتفق العلماء على أنه يجوز للمسلم أن ينكح المرأة الكتابية الحرة، وقد ذكر الاتفاق على هذا ابن حجر في الفتح و ابن رشد في بداية المجتهد عن ابن المنذر ، وكذا ذكره ابن قدامة في المغني، وذلك لقوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم) [المائدة:5] والمراد بالمحصنات في الآية: العفائف، وما روي عن عمر بن الخطاب من أنه كان ينهى عن التزوج بهن فهو نهي إرشاد ومصلحة، لئلا يفتتن بهن رجال المسلمين، ويدَعون نساءهم دون زواج، كما ذكره الجصاص في تفسيره، و ابن القيم في أحكام أهل الذمة، وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية؟ فقال: (ما أحب أن يفعل ذلك، فإن فعل، فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) ذكره ابن القيم في أحكام أهل الذمة.
هذا هو حكم الزواج بهن إجمالاً وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 323 3648 10253 8674
وليست هناك احتياطات معينة في الإنجاب يفرضها عليك الشرع، فالأمر متروك لك
==============
أقوال العلماء في شأن الكنائس (1)
السؤال
هل يجوز للمسلم تعمير كنيسة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4225) - رقم الفتوى 17391 أقوال العلماء في شأن الكنائس -تاريخ الفتوى : 29 ربيع الأول 1423(2/383)
فلا يجوز لمسلم بناء كنيسة ولا ترميمها لا بنفس ولا بمال، لأن في بنائها إعانة لأهلها على باطلهم، والله تعالى يقول: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
بل يحرم على الكفار أيضاً بناؤها وترميمها ولتقي الدين السبكي رحمه الله رسالة في هذا يقول فيها: أقول: إنه لم يكن قط شرع يسوغ فيه لأحد أن يبني مكاناً يكفر فيه بالله، فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر، ويلزم من تحريم الكفر تحريم إنشاء المكان المتخذ له، والكنسية اليوم لا تتخذ إلا لذلك، وكانت محرمة معدودة من المحرمات في كل ملة، وإعادة الكنيسة القديمة كذلك، لأنه إنشاء بناء لها وترميمها أيضاً كذلك، لأنه جزء من الحرام ولأنه إعانة على الحرام.
وقال السبكي أيضاً: فإن بناء الكنيسة حرام بالإجماع وكذا ترميمها، وكذلك قال الفقهاء: لو وصَّى ببناء كنيسة فالوصية باطلة، لأن بناء الكنسية معصية وكذلك ترميمها، ولا فرق بين أن يكون الموصي مسلماً أو كافراً، فبناؤها وإعادتها وترميمها معصية -مسلماً كان الفاعل لذلك أو كافراً- هذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولابن القيم -رحمه الله- في كتابه (أحكام أهل الذمة) كلام جيد في هذا الموضوع ننقل منه جزءاً مختصراً يفي بالغرض -إن شاء الله- قال رحمه الله:
البلاد التي تفرق فيها أهل الذمة ثلاثة أقسام:
أحدها: بلاد أنشأها المسلمون في الإسلام.
الثاني: بلاد أنشئت قبل الإسلام، فافتتحها المسلمون عَنوة وملكوا أرضها وساكنيها.
الثالث: بلاد أنشئت قبل الإسلام وفتحها المسلمون صلحاً.(2/384)
فأما القسم الأول: فهو مثل البصرة والكوفة وواسط وبغداد والقاهرة... وغيرها من الأمصار التي مصَّرَها المسلمون، فهذه البلاد صافية للإمام، إن أراد الإمام أن يقرَّ أهل الذمة فيها ببذل الجزية جاز، فلو أقرهم الإمام على أن يحدثوا فيها بيعة أو كنيسة أو يظهروا فيها خمراً أو خنزيراً أو ناقوساً لم يجز، وإن شرط ذلك وعقد عليه الذمة كان العقد والشرط فاسداً. وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع.
فإن قيل: فما حكم هذه الكنائس التي في البلاد التي مصرها المسلمون؟ قيل: هي على نوعين:
أحدهما: أن تحدث الكنائس بعد تمصير المسلمين لمصر، فهذه تزال اتفاقاً.
الثاني: أن تكون موجودة بفلاة من الأرض ثم يمصر المسلمون حولها المصر، فهذه لا تزال.
وأما القسم الثاني: وهو الأرض التي أنشأها المشركون ومصروها، ثم فتحها المسلمون عنوة وقهراً بالسيف، فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس. وأما ما كان فيها من قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه؟ فيه قولان في مذهب أحمد، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره:
أحدهما: يجب إزالته وتحرم تبقيته.(2/385)
والثاني: يجوز بناؤها - أي بناء أهل الكتاب لها لا المسلمون، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: أيما مصر مصرته العجم، ففتحه الله على العرب فنزلوه، فإن للعجم ما في عهدهم، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر عنوة وأقرهم على معابدهم فيها ولم يهدمها، ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيراً من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئاً من الكنائس التي بها، ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة. ومعلوم قطعاً أنها ما أحدثت، بل كانت موجودة قبل الفتح... وفصل الخطاب أن يقال: إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين، فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة، فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة، وإن كان تركها أصلح لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها تركها، وهذا الترك تمكين لهم من الانتفاع بها لا تمليك لهم رقابها، فإنها قد صارت ملكاً للمسلمين فكيف يجوز أن يجعلها ملكاً للكفار، وإنما هو امتناع بحسب المصلحة، فللإمام انتزاعها متى رأى المصلحة في ذلك.
فبهذا التفصيل تجتمع الأدلة، وهو اختيار شيخنا، وعليه يدل فعل الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أئمة الهدى وعمر بن عبد العزيز هدم منها ما رأى المصلحة في هدمه وأقر ما رأى المصلحة في إقراره، وقد أفتى الإمام أحمد المتوكل بهدم كنائس السواد، وهي أرض العنوة.
وأما القسم الثالث وهو: ما فتح صلحاً، وهذا نوعان:
أحدهما: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عليها أو يصالحهم على مال يبذلونه وهي الهدنة، فلا يمنعون من إحداث ما يختارونه فيها، لأن الدار لهم، كما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران، ولم يشترط عليهم ألا يحدثوا كنيسة ولا ديراً.(2/386)
النوع الثاني: أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا، فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من تبقية وإحداث وعمارة، لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم، والواجب عند القدرة أن يصالحوا على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه، ويشترط عليهم الشروط المكتوبة في كتاب عبد الرحمن بن غنم ألا يحدثوا بيعة ولا صومعة راهب ولا قلاية، فلو وقع الصلح مطلقاً من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه، لأنها صارت كالشرع فيحمل مطلق صلح الأئمة بعده عليها. ا.هـ بتصرف يسير.
والله أعلم.
================
حكم جلوس المعتدة مع خادمة نصرانية (1)
السؤال
هل يجوز للمرأة المعتده من وفاة زوجها أن تجلس مع الخادمة النصرانية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا بأس أن تجلس المرأة المعتدة من وفاة زوجها مع الخادمة النصرانية في البيت، لكن ذلك بشرط ألا تبدي لها محاسنها، لأن الله تعالى أباح إبداء الزينة للمرأة المسلمة في آية سورة النور، فقال تعالى: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ) [النور:31].
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: يعني تظهر زينتها للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة.
وأورد عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال: نساؤهن المسلمات، وليس المشركات من نسائهن، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 3 / ص 4997) - رقم الفتوى 18463 حكم جلوس المعتدة مع خادمة نصرانية -تاريخ الفتوى : 20 ربيع الثاني(2/387)
فهذا شيء لا بد من مراعاته، وإن كان الأصل أنه يجوز أن تبقى معها في البيت، وهذا الحكم -أعني وجوب الستر عن المرأة الكافرة- حكم عام لجميع النساء لا فرق فيه بين المعتدة من وفاة أو طلاق وغير المعتدة.والله أعلم.
==============
أقوال الفقهاء في وراثة المسلم من الكافر (1)
السؤال
أنا فتاة جزائريّة و لي سؤال مستعجل يخصّ موانع الميراث، و بالأخصّ ميراث الكافر. في نفس المجال، يأتي سؤالي : أمي فرنسيّة قد دخلت الإسلام منذ سنوات و قد ورثت مؤخّرا مبلغا ماليا من أمّها المتوفاة التي بقيت على دين النصرانيّة.
عند ذلك، سألنا إذا كان لها الحقّ في ذلك الميراث. فالإجابة كانت أنّ هذا من موانع الميراث فيما يخصّ المسلم. فالمبلغ الذّي ورثته أوّل وثاني وهلة قد وزّع على المحتاجين المسلمين. والآن، قد بعث لها مبلغ آخر، يخصّ دائما هذا الميراث.
لهذا سأعرض عليكم حالتنا وأرجو منك يا شيخنا الفاضل, أن تبيّن لنا الطريق الصواب :
أمي فرنسية بدون عمل وأبي جزائري متقاعد. نحن 4 أبناء. أخي الأكبر في فرنسا وهو يعمل، والآخر لا زال معنا، يعمل، ولكنه سيغادر البلاد حسب قوله. أنا - وأعوذ بالله من كلمة أنا - بدأت أعمل في مجال ليس مستقرا بعد 7 سنوات من البطالة. أختي الكبيرة مطلقة، لا تعمل ولها ابن وبنت....و زوجها لا يدفع لهما النفقة الشرعية حتى ملابس العيد ومصارف الدكتور لا يتكفل بهما ويفعل ذ لك عمدا. فأبي هو الّذي يصرف عليها وعلى أبنائها. فأسئلتنا كالآتي :
- هل لأختي حقّ أن تتصرّف في مبلغ حتّى تنجز مشروعا لها ولأبنائها ؟
- هل لبقيّة أفراد العائلة حقّ بالاستفادة من مبلغ محدّد.
- هل نأخذ ثمنا، ربع، ثلث، نصف المبلغ أم ماذا ؟
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 279) - رقم الفتوى 20265 أقوال الفقهاء في وراثة المسلم من الكافر -تاريخ الفتوى : 24 جمادي الأولى 1423(2/388)
ننتظر، إن تفضلتم، فتواكم في هذا الموضوع لأننا في حيرة من أمرنا و لا نريد القيام بشيء يغضب الله تعالى.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن منع توريث المسلم من الكافر هو مذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة وأتباعهم، وهو ظاهر الحديث المتفق عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم."
وقد ذهبت طائفة أخرى من أهل العلم إلى أن المسلم يرث من مورثه الكافر غير الحربي، وهذا هو قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فقال هؤلاء: نرث من الكفار ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا، وحمل هؤلاء قوله صلى الله عليه وسلم: " ولا الكافر المسلم على الحربي دون الذمي والمنافق والمرتد."
واستدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يجري المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويورثون، وقد مات عبد الله بن أبي وغيره ممن شهد القرآن بنفاقهم ونُهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم والاستغفار لهم وورثه ورثته المسلمون.
وقد حمل طائفة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقتل مسلم بكافر" على الحربي دون الذمي. ولا ريب أن من حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر " على الحربي. أولى وأقرب محملاً، إذ في توريث المسلمين منهم ترغيب في الإسلام لمن أراد الدخول فيه من أهل الذمة، وهذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع بالاعتبار في كثير من تصرفاته. إلى آخر كلام طويل ساقه ابن القيم في أحكام أهل الذمة في شأن توريث المسلم من الكافر.
والحاصل:أن الخلاف في المسألة خلاف قديم وقوي، والذي نراه في مثل حالتكم هو أن ما وصل إليكم من أموال هذه الجدة لكم التصرف فيه بما ترونه مناسباً.والله أعلم.
==============(2/389)
الكذب والسرقة من الكفار...رؤية شرعية (1)
السؤال
هل يجوز سرقة مال الكفار؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فاعلم أن الشرع قسم الكفار إلى صنفين: محاربين ومسالمين أو معاهدين، والمسالمون أو المعاهدون قسمان: قسم له عهد دائم وهم الذين يعرفون في الإسلام بأهل الذمة.. أي لهم ذمة الله ورسوله والمسلمين.
وقسم له عهد مؤقت وهم المستأمنون.
وأما المحاربون فهم الذين بينهم وبين المسلمين حرب قائمة أو متوقعة، وليس بينهم وبين المسلمين عهد ولا صلح ولكل قسم أحكام تخصه.
فأما المسالمون أهل الذمة فالقاعدة التي تحكم تعاملنا معهم من حيث الجملة هي أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، إلا أشياء مستثناة تنظر في مواضعها.
وبخصوص السؤال هل يجوز سرقة مال الكفار؟ فهذا القسم من الكفار لا خلاف بين علماء المسلمين أن سرقة أموالهم حرام، وأن المسلم إذا سرق من الذمي فإن يده تقطع متى تحققت شروط القطع المعروفة، نقل هذا الاتفاق ابن قدامة في المغني فقال: ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي، ويقطع الذمي بسرقة مالهما. وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً. 8/368 المغني
وكذلك يحرم الكذب عليهم أو خديعتهم أو غشهم.
وأما المعاهدون المستأمنون الذين بينهم وبين المسلمين عهد أو صلح أو هدنة، فمتى تحققت شروط الصلح فيجب علينا الوفاء بكل الالتزامات والعهود، وهذا إجماع لا خلاف فيه، انظر موسوعة الإجماع 1/418
لقول الله تعالى:فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة:7].
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 675) - رقم الفتوى 20632 الكذب والسرقة من الكفار...رؤية شرعية -تاريخ الفتوى : 02 جمادي الثانية 1423(2/390)
وبالنسبة لحكم سرقة أموال المستأمنين، فمن حيث إنها حرام لا إشكال في ذلك، لكن هل تقطع يد المسلم إذا سرق من مستأمن؟ تقطع عند الحنابلة لأنه سرق مالاً معصوماً، وعند الشافعية لا يقطع لأن المستأمن إذا سرق من المسلم أو الذمي لا يقطع، قالوا: لأن المستأمن عندما التزم بالأمان لم يلتزم بما يرجع إلى حقوق الله تعالى من الأحكام، وحد السرقة حق الله تعالى غالب فيه ولم يلتزمه المستأمن فلا يقام عليه الحد، أحكام الذميين والمستأمنيين صـ269.
وبقي الصنف الثاني وهم المحاربون: وهؤلاء الأصل فيهم أن دماءهم وأموالهم مباحة للمسلمين، إلا أنه مع ذلك توجد أخلاق تحكم التعامل معهم، فمما يذكره العلماء في هذا الصدد:
ما قاله الإمام الماوردي : وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان أو بموادعة حرم تعرضه لشيء من دم ومال وفرج منهم؛ إذ المسلمون على شروطهم.
: ومن المعروف اليوم أن الدول لا تمنح أي راغب في دخول أراضيها تأشيرة دخول إلا بشرط أن يلتزم بدساتيرها وقوانينها العامة التي تقضي بتحريم السرقة والغش وأكل أموال الآخرين بالباطل والاعتداء وما شابه ذلك. وهذا العرف مقارن لحصول الشخص على التأشيرة بل هو سابق عليه، وحكم الإسلام فيه أنه يجب الوفاء به ولو لمشرك؛ ما لم يتضمن شرطاً فاسداً فيه معصية الله. الأم للشافعي 4/185 نقلاً عن كتاب من فقه الأقليات المسلمة صـ64.
وكذلك إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان حرم التعرض لماله، وقالت المالكية: يقطع يد المسلم إذا سرق مال الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان، فيقول في حاشية الصاوي على الشرح الصغير: السرقة أخذ مكلف نصاباً فأكثر من مال محترم لغيره ... ويدخل في المحترم: مال الحربي الذي دخل بأمان فيقطع سارقه. انتهى الجزء الرابع "السرقة"(2/391)
وأما سؤالك عن الكذب على الكفار؟ فاعلم أن الكذب حرام سواء على المسلم أو غيره، ولا رخصة فيه إلا ما استثناه الشرع كما جاء في الحديث: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس كذبا إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. رواه مسلم.
قال القاضي عياض : لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة هو على إطلاقه وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة.... وقال آخرون منهم الطبري : لا يجوز في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب....... وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه مات إمامكم الأعظم وينوى إمامهم في الأزمان الماضية، أو غداً يأتينا مدد أي طعام ونحو هذا من المعاريض المباحة. 16/158
وقال ابن حزم في كتاب الإجماع: اتفقوا على تحريم الكذب إلا في الحرب ومداراة الرجل امرأته وإصلاح ذات البين ودفع مظلمة مرادة بين اثنين مسلمين أو مسلم وكافر.والله أعلم.
===============
المكس...تعريفه...وحكمه (1)
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم لقد ورد ذكر المكاس في غير ما حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وفي بلدنا يطلق اسم المكاس على الرجل الذي يقوم على باب السوق أو يطوف بالتجار الموجودين بالسوق ويلزمهم بدفع مبلغ معين من المال مقابل عرض سلعتهم بهذا السوق
مع العلم أن هذا السوق يكون قد اكتراه من البلدية أو الدولة فهل هذا الفعل هو المكس الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أم لا؟
وما الحكم الشرعي في هذا العمل ( أي اكتراء سوق من جهة ما ثم إلزام الناس بدفع مال مقابل عرض وبيع السلع بهذا السوق؟) وما تعريف المكاس شرعا؟
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 2735) -رقم الفتوى 22726 المكس...تعريفه...وحكمه -تاريخ الفتوى : 17 رجب 1423(2/392)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن المكس لغة -كما قال صاحب عون المعبود: هو النقص والظلم. واصطلاحاً: هو الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار -ثم قال- وفي شرح السنة: صاحب المكس هو الذي يأخذ من التجار إذا مروا به مكسا باسم العشر.
وأما الساعي الذي يأخذ الصدقة، ومن يأخذ من أهل الذمة العشر الذي صولحوا عليه فهو محتسب ما لم يتعد، فيأثم بالتعدي والظلم.
فإذا كان التجار هم الذين استأجروا محلات السوق من البلدية أو من مالكها الشرعي فلا يجوز لهذا الرجل بعد ذلك أن يأخذ منهم زيادة ظلماً دون مقابل، فهذا هو المكس المحرم شرعاً، بل هو من كبائر الذنوب ففي صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في المرأة الغامدية التي زنت ثم تابت قال: والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له.
قال النووي: فيه أن المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات.
وسواء كان يأخذ ذلك على شكل ضرائب باسمه أو باسم جهة أخرى رسمية أو غيرها، إلا إذا فرضت الدولة رسوماً على التجار والأغنياء في حالة عجزها عن توفير الخدمات العامة ومصالح المسلمين كبناء المدارس والمستشفيات والطرق، ففي هذه الحالة -إذا علمنا أنها تصرف فيما أخذت له- فيجب على المسلم أن يؤدي ما فرض عليه إلا إذا كان فيه إجحاف به لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، وراجع الفتوى رقم:592.
كما لا حرج في جمع ذلك وأما إذا كان الشخص الذي يأخذ المال من التجار هو الذي استأجر السوق من البلدية أو من مالكه الأصلي فمن حقه أن يطلب عوضاً ممن عرض بضاعته في هذا السوق، ولعل هذا من الوضوح بحيث لا يقصده السائل.(2/393)
والحاصل: أن المكس من كبائر الذنوب ولا يجوز للمسلم أن يرتكبه باسمه الشخصي أو باسم الدولة، وأن الماكس هو الذي يأخذ أموال الناس ظلماً، وأن ما تأخذه الدولة لمصلحة المسلمين العامة لا يعتبر مكساً إذا عجزت الخزانة العامة عن القيام بهذه المصالح، ولم يكن هنالك تسيب أو سوء استخدام في المال العام.والله أعلم.
=============
إطلاق الأسماء الإسلامية على غير المسلمين (1)
السؤال
تنتشر في بعض البلدان الإسلامية ظاهرة مناداة الغير بمن فيهم غير المسلمين والمجوس والملحدين باسم محمد ما حكم ذلك ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز تسمي غير المسلمين بما هو مختص بالمسلمين من الأسماء، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه أحكام أهل الذمة كلاماً حسناً في هذا الموضوع أنقله هنا لأهميته، حيث قال -بعد أن ذكر عدم جواز المشابهة بين المسلمين والكفار في الكنية، قال: فإن قيل: فما تقولون في جواز تسميهم بأسماء المسلمين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله وعبد الرحمن وما أشبهها؟ قيل: هذا موضع فيه تفصيل، فنقول: الأسماء ثلاثة أقسام: قسم يختص المسلمين، وقسم يختص الكفار، وقسم مشترك.
فالأول: كمحمد وأحمد وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فهذا النوع لا يمَكَّنون من التسمي به، والمنع منه أولى من المنع من التكني بكناية المسلمين، فصيانة هذه الأسماء عن أخابث خلق الله أمر جسيم.
والثاني: كجرجس وبطرس ويوحنا ومتى ونحوها، فلا يمنعون منه، ولا يجوز للمسلمين أن يتسموا بذلك، لما فيه من المشابهة فيما يختصون به.
والنوع الثالث: كيحيى وعيسى وأيوب وداوود وسليمان وزيد وعبد الله وعطية وموهوب وسلام ونحوها، فهذا لا يمنع منه أهل الذمة ولا المسلمون. انتهى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 3032) - رقم الفتوى 23024 إطلاق الأسماء الإسلامية على غير المسلمين -تاريخ الفتوى : 25 رجب 1423(2/394)
والله أعلم.
============
الكافرة إذا أسلمت وهي تحت زوج كافر...رؤية شرعية (1)
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما حكم زواج امرأة أسلمت حديثا من رجل مسلم، هذه المرأة كانت نصرانية ومتزوجة من رجل نصراني ثم اعتنقت الإسلام منذ 6 أشهر و لم تخبر زوجها عن إسلامها خوفا من أن يؤذيها لتعصبه للنصرانية. هي عاشت منفصلة عن زوجها النصراني خلال العام الماضي وأثناء اعتناقها الإسلام. الآن و بعد مرور 6 أشهر على إسلامها دون إخبار زوجها النصراني هل يحل لها الزواج من رجل مسلم. وجزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فمن أسلمت وهي تحت زوج كافر فإنه يحرم عليها معاشرته، وتمكينه من نفسها باتفاق العلماء، واختلفوا فيما يتعلق بالفرقة بينهما متى تكون على تسعة أقوال ذكرها العلامة ابن القيم في كتابه القيم "أحكام أهل الذمة" ورجح قول من قال: إن لها الخيار بين الانتظار حتى يسلم زوجها ولو طالت المدة، وبين الزواج بغيره. وهذا ما قضى به عمر بن الخطاب، ورجحه أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. وحجتهم ما رواه أحمد في المسند وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، بالنكاح الأول لم يحدث شيئاً. وفي لفظ "بنكاحها الأول لم يحدث صداقاً" وفي لفظ "شهادة ولا صداقاً" قال ابن القيم رحمه الله: فهذا كله صريح في أنه أبقاهما على نفس النكاح الأول، لا يحتمل الحديث غير ذلك. وأطال رحمه الله في تأييد هذا القول ورد الأقوال الأخرى في المرجع المشار إليه آنفاً.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 5558 )- رقم الفتوى 25469 الكافرة إذا أسلمت وهي تحت زوج كافر...رؤية شرعية -تاريخ الفتوى : 18 رمضان 1423(2/395)
ولذا فلا حرج على هذه المرأة أن تتزوج بمسلم بعد انقضاء عدتها بوضع الحمل إن كانت حاملاً أو بثلاث حيض إن كانت حائلاً -غير حامل- وعلى هذا جمهور أهل العلم، وذهب بعضهم إلى أنها تستبرئ بحيضة، واستدلوا بما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه....
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قوله "حتى تحيض وتطهر" تمسك بظاهره الحنفية، وأجاب الجمهور بأن المراد تحيض ثلاث حيض لأنها صارت بإسلامها وهجرتها من الحرائر بخلاف ما لو سبيت.
والله أعلم.
============
الفرق بين الذمي والمعاهد (1)
السؤال
ما الفرق بين الذمي والمعاهد ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فعقد الذمة هو: إقرار الكفار على كفرهم بشرط بذل الجزية. وانظر مطالب أولي النهى.
وأهل العهود: هم الذين صالحهم إمام المسلمين على إنهاء الحرب مدة معلومة لمصلحة يراها.
والعهد هو الصلح المؤقت، ويسمى الهدنة والمهادنة والمسالمة والموادعة. وانظر الموسوعة الفقهية.
وقد يطلق لفظ أهل العهد على أهل الذمة، قال ابن الأثير: المعاهد أكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة ما. انتهى
وقد يطلق أيضًا على المستأمن، قال الشوكاني: المعاهد: هو الرجل من أهل الحرب يدخل دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله. انتهى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 5830) - رقم الفتوى 25713 الفرق بين الذمي والمعاهد -تاريخ الفتوى : 03 شوال 1423(2/396)
وفي شرح الخرشي على خليل: المعاهد: بفتح الهاء وهو الشائع على الألسن، أي الذي عاهده المسلمون، أي أعطوه عهدًا وموثقًا ألا يتعرضوا له، وبكسرها، أي الذين عاهد المسلمين، أي أخذ منهم عهدًا وموثقًا بالأمان. انتهى
ومما سبق يتبين الفرق بين الذمي والمعاهد.والله أعلم.
=============
حكم الاحتفال بعيد أول السنة الميلادية الكريسمس.(1)
السؤال
ما حكم الاحتفال بعيد الكريسمس ( أول السنة الميلادية ) ؟ بالتفصيل . وجزاكم الله خيراً......
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا يجوز لأحد من المسلمين مشاركة أهل الكتاب في الاحتفال بعيد الكريسمس "أول السنة الميلادية" ولا تهنئتهم بهذه المناسبة لأن العيد من جنس أعمالهم التي هي دينهم الخاص بهم، أو شعار دينهم الباطل، وقد نهينا عن موافقتهم في أعيادهم، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار:
1- أما الكتاب: فقول الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان:72].
قال مجاهد في تفسيرها: إنها أعياد المشركين، وكذلك قال مثله الربيع بن أنس، والقاضي أبو يعلى والضحاك.
وقال ابن سيرين: الزور هو الشعانين ، والشعانين: عيد للنصارى يقيمونه يوم الأحد السابق لعيد الفصح ويحتفلون فيه بحمل السعف، ويزعمون أن ذلك ذكرى لدخول المسيح بيت المقدس كما في اقتضاء الصراط المستقيم 1/537، والمعجم الوسيط1/488،
ووجه الدلالة هو أ نه إذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع، فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور، لا مجرد شهوده.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 7109) - رقم الفتوى 26883 حكم الاحتفال بعيد أول السنة الميلادية الكريسمس. -تاريخ الفتوى : 10 ذو القعدة 1425(2/397)
2- وأما السنة: فمنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: ما هذا اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر. رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي على شرط مسلم.
ووجه الدلالة أن العيدين الجاهليين لم يقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما...... والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، وقوله صلى الله عليه وسلم: خيراً منهما. يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية.
3- وأما الإجماع: فمما هو معلوم من السير أن اليهود والنصارى ما زالوا في أمصار المسلمين يفعلون أعيادهم التي لهم، ومع ذلك لم يكن في عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك، وكذلك ما فعله عمر في شروطه مع أهل الذمة التي اتفق عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم: أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام، وإنما كان هذا اتفاقهم على منعهم من إظهارهم، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها! أو ليس فعل المسلم لها أشد من إظهار الكافر لها؟
وقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم ورطانة الأعاجم، وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم فإن السخطة تتنزل عليهم. رواه أبو الشيخ الأصبهاني والبيهقي بإسناد صحيح.
وروى البيهقي أيضاً عن عمر أيضاً قوله: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم.(2/398)
قال الإمام ابن تيمية: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم؟! أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم؟ أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟! أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم؟! وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم، فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك؟ ثم قوله: واجتنبوا أعداء الله في عيدهم. أليس نهياً عن لقائهم والاجتماع بهم فيه؟ فكيف عن عمل عيدهم......... اقتضاء الصراط المستقيم 1/515
4- وأما الاعتبار فيقال: الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً [المائدة:48].
قال ابن تيمية: فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل إن الأعياد من أخص ما تتميز به الشرائع، ومن أظهر ما لها من الشعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره، ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة بشروطه. اقتضاء الصراط المستثقيم 1/528
وقال أيضاً: ثم إن عيدهم من الدين الملعون هو وأهله، فمواقتهم فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه....
ومن أوجه الاعتبار أيضاً: أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير، ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيداً لهم، حتى يضاهى بعيد الله، بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يقضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر....
هذا ما تيسر ذكره من الأدلة. ومن أراد الاستزادة فليراجع اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لابن تيمية، وأحكام أهل الذمة لابن القيم، والولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني.(2/399)
وبناءً على ما تقدم نقول: لا يجوز للمسلم مشاركة أهل الكتاب في أعيادهم، لما تقدم من أدلة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار، كما لا يجوز تهنئتهم بأعيادهم لأنها من خصائص دينهم أو مناهجهم الباطلة، قال الإمام ابن القيم: وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه..... إلخ. انظر أحكام أهل الذمة 1/161 فصل في تهنئة أهل الذمة... لابن القيم رحمه الله.
فإن قال قائل: إن أهل الكتاب يهنئوننا بأعيادنا فكيف لا نهنئوهم بأعيادهم معاملة بالمثل ورداً للتحية وإظهاراً لسماحة الإسلام..... إلخ.؟
فالجواب: أن يقال: إن هنئونا بأعيادنا فلا يجوز أن نهنئهم بأعيادهم لوجود الفارق، فأعيادنا حق من ديننا الحق، بخلاف أعيادهم الباطلة التي هي من دينهم الباطل، فإن هنئونا على الحق فلن نهنئهم على الباطل.
ثم إن أعيادهم لا تنفك عن المعصية والمنكر وأعظم ذلك تعظيمهم للصليب وإشراكهم بالله تعالى وهل هناك شرك أعظم من دعوتهم لعيسى عليه السلام بأنه إله أو ابن إله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، إضافة إلى ما يقع في احتفالاتهم بأعيادهم من هتك للأعراض واقتراف للفواحش وشرب للمسكرات ولهو ومجون، مما هو موجب لسخط الله ومقته، فهل يليق بالمسلم الموحد بالله رب العالمين أن يشارك أو يهنئ هؤلاء الضالين بهذه المناسبة!!!
ألا فليتق الله أولئك الذين يتساهلون في مثل هذه الأمور، وليرجعوا إلى دينهم، نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأحوال جميع المسلمين.(2/400)
والله أعلم.
=============
سبب أفضلية اللغة العربية عن غيرها (1)
السؤال
السلام عليكم
نحن جماعة من المغتربين من المغرب العربي وكما تعلمون أن منا الأمازيغ ونحن ندخل في مناقشات حادة بحيث يرون تسبيق الأمازغية على اللغة العربية في التعلم ونرى نحن أن هذا امتهان للغة القرآن الكريم فهل يجوز لهم ذلك؟
والسلام عليكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا ريب أن اللغة العربية هي لغة أفضل كتاب أنزل، ولسان أفضل نبي أرسل، وقد قال الله تعالى في كتابه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103].
قال ابن القيم في كتاب أحكام أهل الذمة: وقد أنزل الله بها أشرف كتبه ومدحه بلسان عربي، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لسان أهل الجنة عربي. انتهى
وهذا الحديث الذي أشار إليه ضعفه بعض أهل العلم، قال الألباني في السلسلة الضعيفة: موضوع، فإذا ثبت فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات، كان تقديم غيرها عليها إزراء بالقرآن، فلا يجوز للمسلم أن يقدم على ذلك.
ولا شك أن تعلمها مقدم على تعلم غيرها من اللغات لحاجة المسلم إليها في أداء الصلاة والأذان وخطبة الجمعة ونحو ذلك.
ثم إننا ننبه إلى أنه يجب الحذر من أي دعوة إلى العصبية المذمومة، سواء كانت دعوة إلى قومية أو قبلية أو غيرها من دعاوى الجاهلية، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين كادت الفتنة أن تقع بين المهاجرين والأنصار، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوها فإنها منتنة. رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنهما، ولتكن العصمة بالإسلام وليكن شعار المسلم
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 4 / ص 8728) - رقم الفتوى 28432 سبب أفضلية اللغة العربية عن غيرها -تاريخ الفتوى : 03 ذو الحجة 1423(2/401)
أبي الإسلام لا أب لي سواه ===== إذا افتخروا بقيس أو تميم
والله أعلم.
=============
نفقة الأولاد على أبيهم واجبة وإن كان كافرا (1)
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وجزاكم الله خيرا على هذا الموقع وبعد: فهل يجوز طلب المال من الأب إذا كان كافرا لاستعماله في التعليم والدعوة وأمور شخصية؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فقد أوجب الإسلام نفقة الأولاد على أبيهم وإن كان كافرًا، قال في بدائع الصنائع: ^فلا تجري النفقة بين المسلم والكافر في هذه القرابة. فأما في قرابة الولادة فاتحاد الدين فيهما ليس بشرط، فيجب على المسلم نفقة آبائه وأمهاته من أهل الذمة، ويجب على الذمي نفقة أولاده الصغار الذين أعطي لهم حكم الإسلام بإسلام أمهم، ونفقة أولاده الكبار من المسلمين الذين هم من أهل استحقاق النفقة.^^اهـ وإذا صح هذا في النفقة الواجبة، فلا شك أن جوازه في التبرعات من باب أولى كما أنه لا يوجد حرج في الشرع في قبول الهدية من الكافر أيًّا كان. وانظر الفتوى رقم: 18995. وبهذا تبين للسائل جواز طلب المال من أبيه وأخذه منه. والله أعلم.
=============
مراتب حقوق الجار المسلم وغيره (2)
السؤال
دعاني شخص نصراني لحضور حفل زفافه بالكنيسة، فهل يجوز الذهاب أم لا؟ أريد أن أعرف هل هو له حق الجار مثل المسلم؟ وأريد أن أعرف موجزا بسيطا عن معاملات أهل الذمة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 4493) - رقم الفتوى 34552 نفقة الأولاد على أبيهم واجبة وإن كان كافرا -تاريخ الفتوى : 08 جمادي الأولى 1424
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 5827) - رقم الفتوى 36092 مراتب حقوق الجار المسلم وغيره - تاريخ الفتوى : 12 جمادي الثانية 1424(2/402)
فقد تقدم الكلام عن حكم إجابة دعوة غير المسلم للوليمة، وذلك في الفتوى رقم: 35009 وما ذكرناه فيها من الضوابط يشمل الكنيسة وغيرها.
أما عن قول السائل: هل له حق الجار مثل المسلم؟ فجوابه أنه ليس كالمسلم قطعًا، ولكن له حقًّا دون حقِّ المسلم، والناس في باب الجوار أقسام:
الأول: الجار المسلم القريب، وهذا له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.
والثاني: الجار المسلم غير القريب، وهذا له حقان: حق الإسلام، وحق الجوار.
والثالث: الجار الكافر القريب، وهذا له حقان: حق الجوار، وحق القرابة.
والرابع: الجار الكافر غير القريب، وهذا له حق واحد وهو: حق الجوار فحسب.
وأما عن قول السائل: أريد أن أعرف موجزًا بسيطًا عن معاملات أهل الذمة؟ فجوابه: أن الكلام عن أحكام أهل الذمة طويل، لا يتسع المقام لذكره، فليرجع السائل إلى كتب الفقه في أبواب الجزية، أو يرجع إلى كتاب ابن القيم "أحكام أهل الذمة".
والله أعلم.
=============
حكم تقبيل الكافر ومصافحته (1)
السؤال
السلام علكم ورحمه الله وبركاته هل يجوز تقبيل المرأة المسلمة للمرأة النصرانية أو لأي امرأة على ديانة أخرى أو مصافحتها؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد تقدم الكلام عن تقبيل المرأة المسلمة للمرأة غير المسلمة، وذلك في الفتوى رقم: 32114.
أما عن مصافحة المرأة المسلمة للمرأة الكافرة فإنها مكروهة. قال ابن قدامة في المغني: وسئل- أي الإمام أحمد- عن مصافحة أهل الذمة فكرهه. اهـ
وفي شرح الحصكفي على تنوير الأبصار: كُره للمسلم مصافحة الذمي. اهـ
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 5996) - رقم الفتوى 36289 حكم تقبيل الكافر ومصافحته - تاريخ الفتوى : 19 جمادي الثانية 1424(2/403)
وفي حاشية العدوي على الكفاية: ولا يصافح المسلم الكافر؛ لأن الشارع طلب هجره ومجانبته، وفي المصافحة وصل منافٍ لما هو مطلوب. اهـ - والله أعلم.
=============
كفار أهل الكتاب يختلفون في بعض الأحكام عن بقية الكفار (1)
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ما هو الفرق بين الكفار وأهل الكتاب؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فكل من بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن بها فهو كافر، سواء كان من أهل الكتاب أم من غيرهم، وقد بينا ذلك وافياً في الفتويين التاليتين: 2924، 13395.
لكن كفار أهل الكتاب يختلفون في بعض الأحكام عن بقية الكفار من غير أهل الكتاب، وقد بينها علماؤنا الأجلاء في ثنايا كتب الفقه الفروعية، وخصص بعضهم لها مؤلفات مستقلة، ومن هؤلاء ابن القيم في كتابه القيم (أحكام أهل الذمة)، ولمعرفة بعض هذه الأحكام راجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 9894، 2437، 21224.وللتعرف على مختلف عقائد النصارى راجع الفتوى رقم: 27986.والله أعلم.
==============
دخول الكنائس يجوز من وجه دون وجه (2)
السؤال
بعد الحمد الله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله.... وبعد: أرسلت سؤالا في 25/ 8/ 2003 تحت رقم 588190 وجاء الرد في 7/ 9/ 2003 يتضمن أمثلة لا تمت للسؤال بأي صلة الرجاء الاهتمام، فهل بعد أسبوعين تصل الإجابة بهذه الصورة؟ وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 6522)- رقم الفتوى 36880 كفار أهل الكتاب يختلفون في بعض الأحكام عن بقية الكفار -تاريخ الفتوى : 06 رجب 1424
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 6959)- رقم الفتوى 37512 دخول الكنائس يجوز من وجه دون وجه - تاريخ الفتوى : 23 رجب 1424(2/404)
فأما دخول الكنائس فلا مانع منه، قال ابن قدامة في المغني: وروى ابن عائذ في فتوح الشام أن النصارى صنعوا لعمر رضي الله عنه حين قدم الشام طعاماً فدعوه فقال أين؟ قالوا في الكنيسة، فأبى أن يذهب، وقال لعلي: امِض بالناس فليتغدوا، فذهب علي رضي الله عنه بالناس فدخل الكنيسة وتغدى هو والمسلمون، وجعل علي ينظر إلى الصور، وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل فأكل، وهذا اتفاق منهم على إباحة دخولها وفيها الصور، ولأن دخول الكنائس والِبَيعِ غير محرم. انتهى.
وأما دخولها لحضور أعيادهم الدينية فمحرم، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفتوى رقم: 26883.
بخلاف حضور أفراحهم التي لا تتعلق بدينهم كعرس ونحوه فلا يحرم.
وأما الإكليل فهو في اللغة شبه عصابة مزينة بالجواهر، ذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وأما عند النصارى فهو إكليل بالمعنى السابق يوضع على رأس يشوع.
وأما أنكحة الكفار فيقرون عليها، وهي صحيحة عند الجمهور فاسدة عند مالك، والصحيح هو مذهب الجمهور لأدلة كثيرة ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة فتراجع، ومعنى فسادها عند المالكية أنه لا يقع طلاق ولا إيلاء كافر على كافرة قبل دخولهما في الإسلام.والله أعلم.
============
كيفية مناداة الكافر (1)
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا للمنافق سيدنا فان يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم. السؤال هو: كيف ينادى الكافر و خاصة إذا كان صاحب العمل، فقد أعتاد الناس أن يقولوا(مستر) بالإنجليزية أو(موسيو) بالفرنسية، فإذا كان لا يجوز مدحه و مخاطبته بهذه الألقاب فكيف ينادي، وخاصة إذا كان المسلم في بلاد الكفار، أفتونا مشكورين؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 5 / ص 7180)- رقم الفتوى 37871 كيفية مناداة الكافر - تاريخ الفتوى : 28 رجب 1424(2/405)
فإن لفظ "السيد" يطلق ويراد به المالك، ويطلق أيضاً ويراد به زعيم القوم ورئيسهم، وإطلاق لفظ "السيد" على الشخص فيه خلاف بين أهل العلم، منهم من منع إطلاق هذا اللفظ على الشخص واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض الناس أنت سيدنا قال: السيد الله، والحديث رواه أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد.
ومنهم من أجازه واستدل بعدة أدلة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم. يعني سعد بن معاذ، والحديث رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري.
أما إطلاق لفظ السيد على الكافر فقد جاء الحديث صريحاً في النهي عنه، وذلك في ما رواه البخاري مرفوعاً في الأدب المفرد وأبو داود واللفظ له: لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن يك سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل.
قال في عون المعبود قوله: فقد أسخطتم ربكم عز وجل، أي أغضبتموه، لأنه يكون تعظيماً له وهو ممن لا يستحق التعظيم، فكيف إن لم يكن سيداً بأحد من المعاني فإنه يكون مع ذلك كذباً ونفاقاً. انتهى.
بل إن بعض العلماء منع من إطلاق هذا اللفظ على الفسقة والمبتدعة، وقد بوب الإمام النووي في كتابه رياض الصالحين، فقال "باب النهي عن مخاطبة الفاسق والمبتدع ونحوهما بسيد ونحوه"، وساق فيه حديث بريدة المتقدم: لا تقولوا للمنافق سيد. الحديث.
قال ابن علان رحمه الله: قوله "ونحوهما" من الظلمة وأعوانهم، وقوله "بسيد ونحوه" مما يدل على التعظيم. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة 3/1322 "فصلُُ: خطاب الكتابي بسيدي ومولاي": وأما أن يخاطب بسيدنا ومولانا ونحو ذلك فحرام قطعاً. انتهى.
فبناءً على ما تقدم فإنه لا يجوز أن يقال للكافر يا سيد، ولكن إذا ترتب على ترك مخاطبته بذلك مفسدة أكبر، فلا حرج في تسميته بذلك إن شاء الله، ولهذا قال ابن علان رحمه الله: ومحل النهي ما لم يحس من تركه ضرراً على نفسه أو أهله أو ماله. انتهى.(2/406)
وأما قول السائل كيف ينادى الكافر؟ فالجواب: ينادى باسمه فيقال يا جون مثالاً أو يا بيتر ونحو ذلك، ولا بأس من مناداته بكنيته فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسقف نجران أسلم يا أبا الحارث.
وقال صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن عبادة ما ترى ما يقول أبو الحباب ؟ وأبو الحباب هو عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وقال عمر لنصراني أسلم يا أبا حسان، وقد ذهب إلى جواز تكنيتهم الإمام أحمد، وقال لطبيب نصراني يا أبا إسحاق .والله أعلم.
===============
أهل الكتاب والذمة وموقف المسلم منهم (1)
السؤال
من هم أهل الكتاب والذمة؟ وما موقف الإسلام والمسلمين منهم؟ وما تم ذكره في القرآن الكريم عنهم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فلمعرفة من هم أهل الكتاب، راجع الفتوى رقم: 21533. ولمعرفة من هم أهل الذمة، راجع الفتوى رقم: 25713 ولمعرفة بعض الآيات الواردة في أهل الكتاب، راجع الفتوى رقم: 2924. وأما موقف الإسلام منهم وحكم التعامل معهم، فمبحث طويل تجد بعض تفاصيله في الفتاوى التالية أرقامها: 23135، 3308، 3681، 16109، 6067، 36114. والله أعلم.
==============
حكم قول القائل "مفهوم الجهاد ينبني على الطائفية"(2)
السؤال
ذكر المدعو سيد قمني في حديث صحفي أن القرآن يقنن ويشرع الرق وأن القرآن فيه
23 آية في هذا الموضوع.ثم قال إن مفهوم الجهاد ينبني على الطاْْْئفية لأنه خاص بالمسلمين. نريد إجابات شافية وجزاكم الله خيرا عن المسلمين.
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 1910)- رقم الفتوى 42761 أهل الكتاب والذمة وموقف المسلم منهم - تاريخ الفتوى : 08 ذو القعدة 1424
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 3742) - رقم الفتوى 44962 حكم قول القائل "مفهوم الجهاد ينبني على الطائفية" -تاريخ الفتوى : 10 محرم 1425(2/407)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما موقف الإسلام من الرق فتراجع بشأنه الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4492 ، 12210 ، 5730 ، 8720 ، 4341
وأما قول القائل إن مفهوم الجهاد ينبني على الطائفية، لأنه خاص بالمسلمين دون غيرهم، فكلام من لا يعي ما يقول، ذلك أن حقيقة الجهاد في الإسلام وغايته نشر عقيدة الإسلام وإزاحة كل ما يعترض طريقه حتى يصل إلى الناس كلهم ثم هم بعد ذلك بالخيار، إما أن يعتنقوه أو أن يبقوا على ما هم عليه من الأديان المختلفة ولا يكرهون على تركها، كما قال الله تعالى: لا إكراه في الدين، فإذا تقرر هذا فإنه من غير المعقول أن يقاتل من يكفر بهذه العقيدة في سبيل نشرها وأن يقدم روحه فداء لدين لا يرضاه، ولا يستقيم في العقل أن نطالب غير المسلمين أن يقاتلوا فيقتلوا وترمل نساؤهم وييتم أبناؤهم في سبيل دين غير دينهم، يقول الباجي في المنتقى: الجهاد أن يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله والمشرك لا يقاتل لذلك.
على أن الاستعانة بأهل الذمة في القتال ليست ممنوعة بإطلاق فتجوز في حال دون حال كما هو مبسوط في كتب أهل العلم، ومن صور ذلك ما لو اعتدى على دولة الإسلام عدو خارجي فإن لمن في هذه الدولة من غير المسلمين أن يدافعوا عنها، ويقاتلوا دون استباحتها، وصورة أخرى أيضاً تتلاشى فيها مقولة الطائفية هذه وهي ما لو اعتدى معتد (مسلم أو كافر) على أهل الذمة في الدولة الإسلامية لوجب على جيش المسلمين الدفاع عنهم والقتال دونهم، يقول المرداوي: من حقوق أهل الذمة على خليفة المسلمين، وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم واستنقاذ من أسر منهم.اهـ
والله أعلم.
=============
حكم كشف المرأة رأسها للمرأة الكتابية (1)
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4005)- رقم الفتوى 45279 حكم كشف المرأة رأسها للمرأة الكتابية -تاريخ الفتوى : 17 محرم 1425(2/408)
ماهوحكم كشف رأس المرأة المسلمة على امرأة كتابية
وهل يجوز قص شعر المرأة عند إمرأة مسيحية ولكم جزيل الشكر
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالراجح من كلام أهل العلم أن المرأة الكافرة لا يجوز لها أن تنظر من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين فقط، وعلة التحريم في هذا هو مخافة أن تصفها الكافرة لزوجها الكافر.
وهذا مذهب المالكية والحنفية والشافعية ورواية للحنابلة، بل إن الإمام القرطبي يرى وجوب ستر جميع جسد المرأة بحضور المرأة الكافرة، حيث قال عند قوله تعالى في سورة النور: أو نسائهن: يعني المسلمات، وتدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة كافرة إلا أن تكون أمة لها. انتهى.
وعليه؛ فلا يجوز لامرأة مسلمة كشف رأسها أمام امرأة كافرة، سواء كان ذلك بقصد قص الشعر أم لا، وتفصيل الحكم في هذه المسألة يرجع فيه إلى الفتوى رقم: 7254.
وبالنسبة لحكم قص المرأة شعرها يمكن الرجوع إلى الفتوى رقم: 2482.والله أعلم.
=============
فرق بين العهدة العمرية والشروط العمرية (1)
السؤال
ورد في تاريخ الطبري هذا النص للعهدة العمرية:
"بسم الله الرحمن الرحيم
"هذا ما أعطى عبدُ الله عمرُ أميرُ المؤمنين، أهلَ إيليا (القدس) من الأمان :
أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم ، وسقيمها وبريئها وسائر ملته؛ أنه لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها ولا من حيِّزها ، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يُكرهون على دينهم ، ولا يضارّ أحد منهم ، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيليا أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن .
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 6 / ص 4538) - رقم الفتوى 45881 فرق بين العهدة العمرية والشروط العمرية -تاريخ الفتوى : 26 محرم 1425(2/409)
وعليهم أن يُخرِجوا منها الرومَ واللصوصَ .
فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم .
ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثلُ ما على أهل إيليا من الجزية .
ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعَهم (أي كنائسهم) وصُلُبَهم(أي صلبانهم)، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعِهم وصُلُبهم حتى يبلغوا مأمنهم.
ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان ، فمن شاء منهم قعد وعليه مثلُ ما على أهل إيليا من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رحل إلى أهله ، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم .
وعلى ما في هذا الكتاب عهدُ الله ، وذمّةُ رسوله ، وذمّةُ الخلفاء ، وذمّةُ المؤمنين ، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية .
شهد على ذلك : خالد بن الوليد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة للهجرة"
كثيرا ما يستشهد المسلمون بهذا النص لبيان سماحة الإسلام لكن وجدت في احد فتاويكم اعتمادا على نص آخر
فأي النصين أصح
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهناك فرق بين الشروط العمرية وبين العهدة العمرية،فالذي ذكرناه في بعض فتاوينا هو الشروط العمرية، فهي ثابتة في مسند أحمد وكتب التاريخ، وقد أطال البحث فيها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "أحكام أهل الذمة".
وأما ما ذكرته نقلا عن تاريخ الطبري، فهي العهدة العمرية لأهل الشام، وقد ذكرنا الفرق بينهما بأوضح من هذا في الفتوى رقم: 7982.والله أعلم.
==============
النظر إلى زينة نساء أهل الذمة.. رؤية شرعية (1)
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 77)- رقم الفتوى 47076 النظر إلى زينة نساء أهل الذمة.. رؤية شرعية -تاريخ الفتوى : 22 صفر 1425(2/410)
جاء في تفسير ابن كثير للآية رقم 59 سورة الأحزاب نقلا عن سفيان الثوري أنه "لَا بَأْس بِالنَّظَرِ إِلَى زِينَة نِسَاء أَهْل الذِّمَّة وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ لِخَوْفِ الْفِتْنَة لَا لِحُرْمَتِهِنَّ "
فما معنى ذلك في إطار ما يحتويه القرآن والسنة من حض المؤمن على غض البصر خاصة أن هذا الرأي لم يحدد مدى ضرورة النظر لزينتهن أو هل معنى ذلك أن غض البصر يكون للمسلمة فقط أو طبيعة النظر هل هو بشهوة أم لا (وهذا مستحيل بالطبع)
هذا الموضوع طرح علي من قبل زميل نصراني فأرجو أن تعطوه حكم الإسلام في هذا الموضوع وجزاكم الله كل خير
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة مطلقة في النهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية، سواء كانت مسلمة أو ذمية أو غيرها، ولم تقيد النصوص حرمة النظر بالمسلمة دون الكافرة، أو بما كان بشهوة دون ما لم يكن بشهوة.
قال تعالى: [قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ] (النور:30).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة. كما في السنن عن علي رضي الله عنه، والمقصود هنا بالنظرة الأولى نظرة الفجاءة، كما هو مبين في حديث جرير رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة، فقال: اصرف بصرك. كما في سنن الترمذي وأبي داود.
ولأن المعنى الذي من أجله حرم النظر إلى أجنبية مسلمة متحقق في المرأة غير المسلمة أيضا.(2/411)
وقول سفيان الثوري رحمه الله: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة، وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن. يفهم منه أنه يرى جواز النظر إلى نساء أهل الذمة حيث أمنت الفتنة، وحيث لم تؤمن لم يجز، وهو اجتهاد ورأي، وقد استدل بقوله تعالى: [وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ] (الأحزاب: 59). ولكن هذا لا يعارض به الأدلة الصريحة الثابتة ولا يقيد به الأدلة المطلقة، هذا لو ثبت هذا عن سفيان رحمه الله، وثبوته يحتاج إلى نظر وبحث، وابن كثير رحمه الله قد ذكره بصيغة التمريض، إذ قال: وروي عن سفيان..والله أعلم.
============
مسائل في الوقف (1)
السؤال
الوقف
- تعريف الوقف- أنواعه- مشروعيته- انعقاد الوقف- لزوم الوقف- ما يصح وقفه وما لا يصح-الوقف على الولد- أهل الذمة- الوقف المشاع- الوقف عن النفس- الوقف المطلق في مرض الموت على بعض الورثة- الوقف على الأغنياء- جواز أكل العامل من مال الوقف- فضل ربح الوقف يصرف في مثله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فراجع في تعريف الوقف ومشروعيته الفتوى رقم: 38781، وفي انعقاده ولزومه الفتوى رقم: 41577، وفي الوقف على الأولاد الفتوى رقم: 16284.
وأنواع الوقف ثلاثة: المعقب، والعمرى، والرقبى، فأما الأول: فأن يقول الواقف مثلاً: هو حبس عليك وعلى عقبك، والثاني: أن يحبسه عليه مدة حياته أو يحدد للحبس أجلاً، وأما الرقبى: وهي ممنوعة، فهي أن يتفق اثنان على أن آخرهما موتا يكون له شيء معين عند كل منهما أو مشترك بينهما كدار -مثلاً- أو حيوان ونحوه، قال خليل: وجازت العمرى... لا الرقبى؛ كذوي دارين قالا: إن مت قبلي فهما لي وإلا فلك.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 770) - رقم الفتوى 48050 مسائل في الوقف - تاريخ الفتوى : 08 ربيع الأول 1425(2/412)
ثم إنه يصح وقف كل شيء إلا ما لا يمكن الانتفاع بغلته، فالجمهور على عدم صحة تحبيسه، وللمالكية فيه وجهان: قال في المغني: وما لا ينتفع به إلا بإتلاف مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب، فوقفه غير جائز... لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم إلا شيئاً يحكى عن مالك والأوزاعي في وقف الطعام أنه يجوز... 5/374.
ويجوز الوقف على أهل الذمة وعلى الأغنياء، ففي الدردير ممزوجا بنص خليل:..... وعلى ذمي وإن لم تظهر قربة كعلى أغنيائهم. 4/77، مع أن أصل القربة لا بد أن يكون موجوداً، فلا يصح الوقف بمعصية.
ويصح وقف الجزء المشاع، قال الدردير: وصح مشاع أي رهنه من عقار وعرض وحيوان، كما يصح بيعه وهبته ووقفه.... 3/236.
وأما الوقف عن النفس فإن كنت تعني به ما إذا كان للإنسان أن يوقف شيئاً على نفسه فلا يصح لأن للوقف أربعة أركان هي: الواقف، والموقوف له، والشيء الموقوف، والصيغة.
ثم إن الوقف في مرض الموت على بعض الورثة لا يصح إلا أن يجيزه الورثة، لأنه في حكم الوصية، والوصية للوارث لا تصح، روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلا وصية لوارث.
وأكل العامل من مال الوقف إن كان على سبيل الأجرة، كأن يكون له منه راتب أو يأخذ بقدر حقه في رعاية الوقف فلا بأس بذلك، وكنا قد أجبنا عن حكم دفع رواتب الموظفين في الأوقاف من أموال الوقف، وراجع فيه الفتوى رقم: 47716، وإن كان غير ذلك فلا يجوز إلا أن يكون متصفاً بصفة المحبَّس عليهم.
ثم إن فضل ربح الوقف يصرف في مثله تحصيلاً لغرض الواقف، ومثله في ذلك مثل ما كبر من الدواب المحبسة أو زاد على الحاجة من ذكورها، قال خليل: وفضل الذكور وما كبر من الإناث في إناث...والله أعلم.
============(2/413)
حكم الرد على الكافر بقول وعليكم السلام(1)
السؤال
كيف نرد التحية على غير المسلمين إذا قالوا السلام عليكم؟ (سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم)
وهل كان رد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على اليهودي ب"وعليكم" يعني تعميم ذلك دائماً أو أن ذلك فقط في حالة سوء دعائهم أو تغييرهم التحية كما فعل ذلك اليهودي؟
وجزاكم الله خيراً
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة أنه إذا تحقق أن الكافر قال: السام عليكم أو شك فيما قال، فإنه يرد عليه بعليكم فقط.
وأما إذا تحقق أنه قال: السلام عليكم فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال: [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا] النساء: 86. فندب إلى الفضل وأوجب العدل.
وذهب بعض أهل العلم ومنهم النووي إلى أنهم لا يزداون على "وعليكم" وحجته عموم الأحاديث الآمرة بالرد عليهم بذلك، مثل حديث الصحيحين: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم.
وقد نقل ابن حجر في الفتح عن بعض الشافعية أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم: "عليكم السلام" كما يرد على المسلم، ولكن لا يذكر فيه الرحمة، واحتج بقوله تعالى: [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ] (الزخرف: 89).
ونقل عن ابن عباس وعلقمة أنه يجوز ذلك عند الضرورة، ويدل لرجحان التفصيل الذي ذكره ابن القيم أن بعض روايات الصحيحين قرنت الاقتصار على "عليك" بتحريف اليهود للفظ السلام، وذلك في رواية ابن عمر:إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك، فقل وعليك.
وراجع الفتوى رقم: 6067.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 1723)- رقم الفتوى 49281 حكم الرد على الكافر بقول وعليكم السلام - تاريخ الفتوى : 10 ربيع الثاني 1425(2/414)
والله أعلم.
=============
حكم استعمال ثياب الكفار وآنيتهم (1)
السؤال
ما حكم الأكل في أواني الكفار والمشركين مع ذكر الأدلة الشرعية وأقوال جمهور العلماء وهل ملابس الكفار المستعملة في معناها؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد فصل
ابن قدامة في المغني القول فيما يتعلق باستعمال أواني المشركين وثيابهم حيث قال: والمشركون على ضربين أهل الكتاب وغيرهم، فأهل الكتاب يباح أكل طعامهم وشرابهم والأكل في آنيتهم ما لم يتحقق نجاستها. قال ابن عقيل: لا تختلف الرواية في أنه لا يحرم استعمال أوانيهم، وذلك لقوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ [المائدة: 5].
وروي عن عبد الله بن المغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر قال فالتزمته فقلت: والله لا أعطي أحداً من هذا شيئاً قال فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسماً. ورواه مسلم وأخرجه البخاري بمعناه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة. رواه الإمام أحمد في المسند وكتاب الزهد وتوضأ عمر من جرة نصرانية، وهل يكره له استعمال أوانيهم على روايتين إحداهما: لا يكره لما ذكرنا.
والثانية: يكره لما روى أبو ثعلبة الخشبي قال: قلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في أوانيهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها. متفق عليه.
وأقل أحوال النهي الكراهة ولأنهم لا يتورعون عن النجاسة ولا تسلم آنيتهم من أطعمتهم وأدنى ما يؤثر ذلك الكراهة.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 7 / ص 2138)- رقم الفتوى 49790 حكم استعمال ثياب الكفار وآنيتهم - تاريخ الفتوى : 21 ربيع الثاني 1425(2/415)
وأما ثيابهم فما لم يستعملوه منها أو علا منها كالعمامة والطيلسان والثوب الفوقاني فهو طاهر لا بأس بلبسه وما لاقى عوراتهم كالسراويل والثوب السفلاني فقال أحمد: أحب إلى أن يعيد. يعني من صلى فيه فيحتمل وجهين أحدهما وجوب الإعادة وهو قول القاضي وكره أبو حنيفة والشافعي الأزر والسراويلات لأنهم لا يتعبدون بترك النجاسة ولا يتحرزون منها، فالظاهر نجاسة ما ولي مخرجها.
والثاني: لا يجب، وهو قول أبي الخطاب لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك.
الضرب الثاني غير أهل الكتاب وهم المجوس وعبدة الأوثان ونحوهم، فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة، وأما أوانيهم فقال القاضي: لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم لأن أوانيهم لا تخلوا من أطعمتهم وذبائحهم فلا تخلوا أوانيهم من وضعها فيها، وقال أبو الخطاب: حكمهم حكم أهل الكتاب وثيابهم وأوانيهم طاهرة مباحة الاستعمال ما لم يتيقن نجاستها، وهو مذهب الشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضؤوا من مزادة مشركة. متفق عليه.
ولأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك، فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى مثل قول القاضي، فإنه قال في المجوس: لا يؤكل من طعامهم إلا الفاكهة، لأن الظاهر نجاسة آنيتهم المستعملة في أطعمتهم فأشبهت السراويلات من ثيابهم. انتهى
وعند المالكية لا تجوز الصلاة في ثوب الكافر كتابياً أو غيره إلا إذا حصل يقين بطهارتها أو غلب ذلك على الظن، قال خليل في مختصره: ولا يصلى بلباس كافر.
قال الدسوقي في حاشيته: لا يجوز حتى لذلك الكافر إذا أسلم أن يصلي في ذلك اللباس حتى يغسله، كما رواه أشهب عن مالك ثم إن محل الحرمة إذا جزم بعدم الطهارة أو ظن عدمها أو شك في الطهارة أما لو تحققت طهارته أو ظنت فإنها تجوز الصلاة فيها. انتهى(2/416)
وعلى القول بنجاسة ثياب الكفار، سواء كانوا كتابيين أو غيرهم يجوز الانتفاع بها بلبسها والنوم فيها في غير وقت مظنة حصول العرق فيها. قال الخرشي في شرحه لمتخصر خليل: والمعنى أن الشيء المتنجس وهو ما كان ظاهراً في الأصل وأصابته نجاسة كالثوب المتنجس والزيت ونحوه تقع فيه فأرة أو نجاسة يجوز الانتفاع به في غير مسجد وغير أكل آدمي كبير أو صغير عاقل أو مجنون مسلم أو كافر، وإنما قدرنا أكل آدمي إذ لا يصح نفي كل منافع الآدمي لجواز استصباحه بالزيت وعمله صابونا وعلفه الطعام المتنجس للدواب والعسل المتنجس للنحل، وهو من منافعه ولبسه الثوب المتنجس ونومه فيه ما لم يكن وقتاً يعرق فيه قاله في المدونة. انتهى
وحاصل الأمر أن ما يتعلق بالآنية فيفرق فيها بين أهل الكتاب وغيره، فآنية أهل الكتاب طاهرة ما لم تتحقق نجاستها وقيل بكراهتها لعدم تورعهم عن النجاسة.
أما المجوس وعبدة الأوثان فظاهر كلام الإمام أحمد أنها نجسة لا تستعمل لأن ذبائحهم ميتة وقال الشافعي بطهارتها.
وبالنسبة للثياب فيستوي فيها الكتابي وغيره فما كان منها غير مستعمل أو كان بعيداً عن العورة فهو طاهر تباح فيه الصلاة عند غير المالكية إذا لم تتحقق طهارته أو يغلب ذلك على الظن، وما كان ملامساً للعورة فعند أحمد يعيد من صلى فيه وحمل ذلك على وجوب الإعادة وعدمه وبالكراهية قال الشافعي وأبو حنيفة.والله أعلم.
===========
حكم دفع كفارة اليمين للكافرين (1)
السؤال
هل يجوز دفع كفارة اليمين إلى غير المسلم. وهل يجوز دفعها إلى الجمعيات الخيرية إنسانية كانت أم دينية؟ علما بأني لا أجد في بلدي مساكين من المسلمين.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 274)- رقم الفتوى 50362 حكم دفع كفارة اليمين للكافرين -تاريخ الفتوى : 06 جمادي الأولى 1425(2/417)
فجمهور أهل العلم على أن كفارة اليمين كغيرها من الصدقات الواجبة لا تعطى للكفار، واختلف قول الأحناف فيها.
قال الكاساني في بدائع الصنائع: ويجوز إعطاء فقراء أهل الذمة من الكفارات والنذور وغير ذلك إلا الزكاة في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز إلا النذور والتطوع ودم المتعة. وجه قوله أن هذه صدقة وجبت بإيجاب الله عز شأنه، فلا يجوز صرفها إلى كافر كالزكاة بخلاف النذر، لأنه وجب بإيجاب العبد. وعليه، فلا يجوز دفع كفارة اليمين إلى غير المسلم على القول الصحيح.
ولا يجوز كذلك أن تدفع إلى جمعيات غير مسلمة، لأنها قد لا تدفعها في مصارفها الشرعية، وأما دفعها لجمعيات خيرية إسلامية فلا بأس به إذا علم أنها ستدفعها إلى المساكين المسلمين، وراجع فيه الفتوى رقم: 204
وكونك في بلد لا يوجد فيه مساكين مسلمون لا يسوغ دفعها لغيرهم، فما أكثر المساكين في بلاد المسلمين، وما أيسر دفعها إليهم عبر الجمعيات الخيرية الموثوق بها، بل وعبر الأفراد الموثوق بهم.
والله أعلم.
-=============
حكم استضافة الكافر وما يفعله إذا أضافه (1)
السؤال
ما هو واجب المسلم في حال أنه استضاف في بيته أحداً من أهل الكتاب وآخر كافرا، وهل عليه أن يستضيف الكافر ثلاثة أيام، وبعد الثلاثة أيام هل يجبره على المكوث عشرة أيام ليقوم بترغيبه في الإسلام وبعد انقضاء العشرة أيام ماذا على المسلم أن يفعل مع الشخص الذي من أهل الكتاب أو الكافر، أفيدونا؟ جزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 407)- رقم الفتوى 50538 حكم استضافة الكافر وما يفعله إذا أضافه -تاريخ الفتوى : 10 جمادي الأولى 1425(2/418)
فقد اختلف أهل العلم في حكم الضيافة، فالجمهور على أنها مستحبة ليست واجبة، وذهب الحنابلة إلى أنها واجبة في حق المسلم دون الكافر، وفي رواية عن الإمام أحمد أنها واجبة في حق المسلم والكافر لعموم الأدلة.
قال ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة: وتجب الضيافة على المسلم للمسلمين والكفار لعموم الخبر وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل وقد سأل إن أضاف الرجل ضيفٌ من أهل الكفر يضيفه؟
فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم. فدل على أن المسلم والمشرك يضافان، والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على المسلم والكافر.
وهذا الوجوب مقيد بكونه في القرى، أما الأمصار فلا تجب فيها الضيافة على الصحيح من مذهبهم، كما قال المرداوي: والقدر الواجب يوم وليلة ويستحب ثلاثة أيام وما زاد فهو صدقة.
وعليه، فإذا استضفت ضيفا في بيتك، سواء كان مسلماً أو كافراً، ويدخل في الكافر أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنهم كفار فيستحب إكرامهم والإحسان إليهم لمدة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة، لقوله عليه الصلاة والسلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، والضيافة ثلاثة أيام، فما زاد بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوى عنده حتى يحرجه. الحديث رواه البخاري.
والذي ينبغي أن تفعله اتجاه الكافر، سواء كان من أهل الكتاب أو من غيرهم من الكفار دعوته إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تعرفه بالإسلام وأنه دين السماحة واليسر والمحبة وهو الدين الذي لا يرضى الله سواه قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85].(2/419)
وعليك أن تعاملهم بالتي هي أحسن، وأن تعطي لهم صورة حسنة عن الإسلام، فلعل الله أن يهديهم على يديك وتفوز بالأجر العظيم عند الله عز وجل، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري في الصحيح: لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
ولا يجوز لك أن تبدأهم بالسلام - وإذا سلموا عليك فقل وعليكم.
ويجوز لك عيادتهم إذا مرضوا، وأن تعرض عليهم الإسلام اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما زار غلاماً يهودياً كان يخدمه لما مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقعد عند رأسه فقال له عليه الصلاة والسلام: أسلم، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار. رواه البخاري.
ويجوز لك تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو سلامة من مكروه، ولكن لتحذر الوقوع فيما وقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاهم بدينهم، كما يقول أحدهم متعك الله بدينك، أو يقول: أعزك الله أو أكرمك. لا أن يقول: أكرمك الله بالإسلام، وأعزك به ونحو ذلك.
وأما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق مثل تهنئتهم بأعيادهم وصيامهم أو بسجودهم للصليب.
وعليك أخي الكريم أن تستحضر النية في دعوتك لهم إلى الإسلام عندما تجالسهم وتخالطهم حتى تفوز بالأجر العظيم عند الله، وننصح الأخ السائل بقراءة كتاب أحكام أهل الذمة لابن القيم الجوزيه.والله أعلم.
=============
حكم مصافحة المرأة المسلمة للمرأة الكافرة (1)
السؤال
لدي سؤال آخر هل صحيح أن سلام المرأة المسلمة مع امرأة أجنبية باليد حرام أم لا؟ أرجو الجواب بأسرع وقت. وشكرأ.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 468) - رقم الفتوى 50616 حكم مصافحة المرأة المسلمة للمرأة الكافرة - تاريخ الفتوى : 12 جمادي الأولى 1425(2/420)
فإن مصافحة المرأة المسلمة للمرأة الكافرة مكروهة كما هو الحال بالنسبة للرجل المسلم مع الرجل الكافر.
قال ابن قدامة في المغني: وسئل ـ أي الإمام أحمد ـ عن مصافحة أهل الذمة فكرهه. وفي شرح الحصكفي على تنوير الأبصار: كره للمسلم مصافحة الذمي. وفي حاشية العدوي على الكفاية: ولا يصافح المسلم الكافر، لأن الشارع طلب هجره ومجانبته، وفي المصافحة وصل مناف لما هو مطلوب.ا.هـ.والله أعلم.
==============
يشترط كون المتبرَع له بالأعضاء معصوم الدم(1)
السؤال
معروف أنه "من أحيا نفسا كأنما أحيا الناس جميعاً" سؤالي هو: هل أستطيع أن أوقع على وثيقة تبرع بالأعضاء في حالة الموت، علماً بأن هذه الأعضاء قد تصل إلى مرضى يهود يحتاجونها؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد سبق في الفتوى رقم: 11667 بيان حكم التبرع بالأعضاء وشروط ذلك.
وذكرنا هناك أنه يشترط أن يكون المتبرَع له معصوم الدم أي أن يكون مسلماً أو ذمياً، أما الكافر المحارب فلا يجوز التبرع له بالأعضاء، ولا يخفى أن الصهاينة المحتلين لفلسطين محاربون لأهل الإسلام ومغتصبون لأرضهم، فكيف يعقل أن يتبرع لهم المسلم بعضو من أعضائه؟!.
وعليه؛ فإذا كان المسلم متأكداً من أن المستفيد من أعضائه مسلمون أو من أهل الذمة فلا مانع من توقيعه على مثل هذه الوثيقة، وأما إذا أمكن أن يستفيد منها محارب فلا يجوز له فعل ذلك.
والله أعلم.
============
حكم تزين المرأة عند كوافيرة مسيحية (2)
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 1838)- رقم الفتوى 52260 يشترط كون المتبرَع له بالأعضاء معصوم الدم - تاريخ الفتوى : 05 رجب 1425
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 4009)- رقم الفتوى 54884 حكم تزين المرأة عند كوافيرة مسيحية -تاريخ الفتوى : 10 رمضان 1425(2/421)
أنا ملتزمة والحمد لله ومتزوجة وتوجد كوافيرة بجوارنا ولكنها مسيحية فهل أذهب إليها حيث إنها قريبة وزوجي يحب أن يراني متزينة دائما أم ذهابي لها حرام وما هي حدود العورة بين المرأة المسلمة والمرأة المسيحية؟ ولكم جزيل الشكر.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالراجح من أقوال أهل العلم أن عورة المرأة المسلمة مع المرأة الكافرة هي جميع البدن سوى الوجه والكفين، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية في قول والحنابلة في رواية، وقد استدلوا على هذا بقول الله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ {النور: 31}. والشاهد منه قوله تعالى: أَوْ نِسَائِهِنَّ، أي المسلمات فدل ذلك على عدم جواز إبداء المؤمنة زينتها بين يدي الكافرة. ولو جاز نظر الكافرة إلى جسد المسلمة لم يبق للتخصيص فائدة، قال القرطبي:
أو نسائهن، يعني المسلمات، وتدخل في هذا الإماء المؤمنات ويخرج من نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ. اهـ. وعليه فلا يجوز لك أن تذهبي إلى هذه المرأة المسيحية للتزين، وإنما لك أن تتزينى عند النساء المسلمات.والله أعلم.
============
الجزية من محاسن الإسلام (1)
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 8 / ص 8281)- رقم الفتوى 59982 الجزية من محاسن الإسلام -تاريخ الفتوى : 05 صفر 1426(2/422)
ما هي الجزية، وهل تعني أن الغني الذي يستطيع أن يدفع يكون قد برئ من العقاب ويستمر فيما هو عليه، والفقير الذي لم يستطع مجبر على العقاب أو القبول ما هو مطروح، ألم يخالف ذلك الآية الكريمة (لكم دينكم ولي دين)، و إن الدين لم يكن بالسيف، أو القبول بالدين بالإكراه وليس بالقناعة، لذا يرجى تفسير الجزية بالدليل القرآني أو الحديث الشريف؟ وجزاكم الله ألف خير، وشكراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الجزية هي ما يؤخذ من أهل الذمة، قال القرطبي إنها مشتقة من جزى يجزى إذا كافأ عَمَّا أسدى إليه فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي إنما تؤخذ من الحر البالغ العاقل المقاتل عند القدرة على دفعها، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والعبيد والمجانين والشيوخ الهرمين ولا من العاجز عن دفعها فقد أعفى عمر منها يهوديا فقيراً وجده يسأل، وهي من محاسن الإسلام فقد كان ملوك الروم يأخذون من العاملين نصف إنتاجهم، وأحياناً يغتصبون منهم مالهم بغير حد، فجاء الإسلام وأخذ منهم ديناراً واحداً كما في حديث الترمذي عن معاذ بن جبل قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن أخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم ديناراً. والحديث صححه الألباني.
ثم إن فرض الجزية عليهم لا يعني إكراههم على الإسلام، فإنه لا إكراه في الدين، كما في الآية، وكما في المصنف لعبد الرزاق: كان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن ومن كره الإسلام من يهودي ونصراني فإنه لا يحول عن دينه وعليه الجزية.
ولكنها فرضت عليهم مقابلة لحماية أرواحهم وأموالهم وتأمينهم على ذلك، وقد كان الصحابة عندما يخافون الخطر على أهل الذمة يردون إليهم ذمتهم، وراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 1672، 8520، 6052، 14614، 39284.والله أعلم.
==============(2/423)
هل يأذن للخادمة النصرانية للذهاب إلى الكنيسة (1)
السؤال
لدينا خادمة نصرانية استأذنتنا للذهاب إلى الكنيسة فما حكم الشرع في الموافقة أو عدم الموافقة؟ وإذا تمت الموافقة فماذا علينا أن نفعل؟
ملاحظة: هناك تصحيف في الآية رقم 109من سورة البقرة في الفتوى 4586 بأمره وليس بأمر جزاكم الله خيرا.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنا نشكرك على اتصالك بنا وعلى الملاحظة التي ذكرت في شأن آية البقرة، وقد قمنا بتصحيح الخطأ المذكور جزاك الله خيرا.
وأما قضية الخادمة فإن لم تكن اتفقت معكم على شرط الإذن لها بالذهاب للكنيسة فإنا لا نرى أن تأذنوا لها إلا إذ كان وقت استئذانها وقت عطلة متعارف عليه أو المساء بالنسبة لمن عمله صباحي، وذلك لأن الإذن لها فيه إعانتها على الارتباط بالكنيسة وذلك مما يقوي تمسكها بالمسيحية، والأصل أنكم تسعون لهدايتها وصرفها عن الضلال وتبتعدوا عن إعانتها على الإثم والعدوان والرضى ببقائها على الكفر.
قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة: فصل منع الزوج زوجته الكتابية من دور العبادة.
وأما الخروج إلى الكنيسة والبيعة فله منعها منه نص عليه أحمد في رواية يعقوب بن بختان في الرجل تكون له المرأة النصرانية لا يأذن لها في الخروج إلى عيد النصارى أو البيعة.
وقال في رواية محمد بن يحيى الكحال وأبي الحارث في الرجل تكون له الجارية النصرانية تسأله الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم لا يأذن لها في ذلك.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5687)- رقم الفتوى 66787 هل يأذن للخادمة النصرانية للذهاب إلى الكنيسة -تاريخ الفتوى : 03 شعبان 1426(2/424)
وقد علل القاضي المنع بأنه يفوت حقه من الاستمتاع وهو عليها له في كل وقت وهذا غير مراد أحمد ولا يدل لفظه عليه فإنه منعه من الإذن لها ولو كان ذلك لحقه لقال لا تخرج إلا بإذنه وإنما وجه ذلك أنه لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه.
وأما ما حصل منكم من الإذن لها سابقا فعليكم أن تتوبوا إلى الله وتحرصوا ما استطعتم على بذل ما أمكن من الوسائل في هدايتها.وراجعي الفتاوى التالية أرقامها: 21363، 28894، 47815، 30150.والله أعلم.
=============
كشف الذميات عن سوقهن هل كان من الشروط عليهن (1)
السؤال
هل صحيح أنه كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات؟؟؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا نعلم أن أحدا من أمراء المسلمين أو علمائهم اشترط ما ذكر في السؤال، بل إن ذلك مخالف لما تقرر شرعا من أنه لا يجوز للمرأة أن تكشف عن بدنها بحضرة من لا يحل له ذلك، ولا يجوز لمسلم أن يأمر بكشف شيء من بدنها في مكان قد يراها فيه الأجانب كما لا يجوز له النظر إليها إذا كشفت عن شيء من بدنها إذا كانت أجنبية، لقول الله تعالى:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ {النور: 30}.
وأما تميز أهل الذمة عن المسلمين بزي خاص بهم أو لباس يميزهم فإن المسلمين كانوا يأمرونهم بذلك.
والله أعلم.
============
حكم قتل الكافر الذمي (2)
السؤال
هل يجوز قتل المسيحي أو الكافر؟
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5914)- رقم الفتوى 67049 كشف الذميات عن سوقهن هل كان من الشروط عليهن -تاريخ الفتوى : 09 شعبان 1426
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 5972) - رقم الفتوى 67113 حكم قتل الكافر الذمي -تاريخ الفتوى : 11 شعبان 1426(2/425)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن كان من أهل الكفر بينه وبين المسلمين عهد أو أمان أو ذمة فإنه لا يجوز قتله، بل ولا يجوز الاعتداء على ماله ولا على عرضه، ولا فرق في ذلك بين المسيحي واليهودي وغيرهما، جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً. رواه البخاري، وفي النسائي وغيره من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة.
قال في شرح سنن أبي داود: والمعاهد من كان بينك وبينه عهد وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة ما. انتهى.
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا من ظلم معاهداً أو انتقضه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة.والله أعلم.
============
المعاهد.. معناه.. وشروط سكنه في البلاد الإسلامية (1)
السؤال
ما معنى المعاهد وما شروط تواجده في البلد المسلم ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمعاهَد اسم مفعول من عاهد . قال في النهاية : المعاهد : من كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة ، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدة ما .
وقد يطلق أيضاً على المستأمن ، قال الشوكاني : المعاهد : هو الرجل من أهل الحرب يدخل دار الإسلام بأمان فيحرم على المسلمين قتله . انتهى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 9 / ص 8058)- رقم الفتوى 69606 المعاهد.. معناه.. وشروط سكنه في البلاد الإسلامية - تاريخ الفتوى : 04 ذو القعدة 1426(2/426)
وفي شرح الخرشي على خليل : المعاهَد : بفتح الهاء وهو الشائع على الألسن ، أي الذي عاهده المسلمون ، أي أعطوه عهداً وموثقاً أن لا يتعرضوا له ، وبكسرها ، أي الذي عاهد المسلمين ، أي أخذ منهم عهداً وموثقاً بالأمان . انتهى
ويشترط لسكنى المعاهد في البلاد الإسلامية شرطان :
الأول: أن لا يكون سكناه في شيء من جزيرة العرب ، وقد بينا ذلك مفصلاًِ في الفتوى رقم : 7706 ، فليرجع إليها .
والشرط الثاني : أن لا ينقض العهد الذي تم معه ، ومتى نقض العهد كان للإمام الخيار في قتله، أو استرقاقه، أو أخذ الفداء منه، أو المن عليه، أو رده لذمته .والله أعلم .
===========
مؤلفات تناولت كيفية معاملة المسلم للكفار (1)
السؤال
أرجو من حضراتكم الكريمة أن ترشدوني إلى الكتب التي تبين كيفية التعامل مع الكفار (النصارى واليهود...) وفق منهجه عليه الصلاة والسلام، حيث أعيش في وسطهم بالسويد، خاصة بعد مشكلة الرسوم.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن الكتب التي تناولت موضوع معاملة المسلم للكفار كتب الولاء والبراء، ككتاب الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني، وكتاب الموالاة والمعادة للجلعود، وكتاب الولاء والبراء لصالح الفوزان وغيرها، ومن بين الفصول التي اشتمل عليها كتاب القحطاني الفصول التالية: الإقامة في دار الكفر، النهي عن التشبه بالكفار، النكاح والتوارث بين المسلم والكافر، تعامل المسلمين مع غير المسلمين، وهو ما يسأل عنه السائل، وقد توسع المؤلف في هذا الفصل في بيان ما يجوز وما لا يجوز للمسلم تجاه الكفار من المعاملات، فراجعه لأهميته.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 1546)- رقم الفتوى 71753 مؤلفات تناولت كيفية معاملة المسلم للكفار -تاريخ الفتوى : 17 محرم 1427(2/427)
ومن بين الكتب التي تناولت هذا الموضوع، كتب الساسة الشرعية ككتاب السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب الطرق الحكمية وأحكام أهل الذمة، كلاهما لابن القيم الجوزية، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي وغيرها.
وأما بخصوص موقف المسلم الذي يعيش بين الكفار بعد نشر الرسوم المسيئة لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فلا بد أولاً أن يعلم أن الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والانتصار له واجب على كل مسلم، وكيفية الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم تختلف باختلاف الأحوال، ويمكن أن نذكر بعض النقاط المهمة التي يمكن أن يقوم بها المسلمون في الغرب، فمنها:
1- إظهار عدم الرضا بما فعله هؤلاء المبطلون، ويراعى في ذلك أن يكون تعبير المسلمين عن سخطهم بأسلوب حكيم يحقق المصلحة ولا تترتب عليه مفاسد.
2- كشف زيف وبطلان التهم التي روجوها حول النبي صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك بعقد الندوات والمحاضرات وترجمة ما كتبه علماء المسلمين في رد هذه الشبهات إلى لغة القوم، ومحاولة نشرها في جرائدهم ومجلاتهم ومواقعهم الإلكترونية.
3- تعريفهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم من مصادرها الصحيحة، وذلك بترجمتها إلى لغتهم أو نشر ما ترجم منها ككتاب الرحيق المختوم للمباركفوري.
4- التزام المسلم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته في نفسه وأسرته ومجتمعه.
5- مقاطعة منتجات من سبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد فصلنا ذلك في الفتوى رقم: 71469، والفتوى رقم: 71536.(2/428)
وليعلم المسلمون أن طعن الكفار في النبي صلى الله عليه وسلم وما أثار ذلك من ردود، فرصة لهم ليعرفوا غير المسلمين بدين الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام، وإذا أحسنوا استغلال هذا الظرف، فعسى أن تنقلب المحنة منحة، كما قال الله تعالى لما طعن المنافقون في عرض النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ {النور:11}.
=================
حكم الإذن للكافر بالصلاة في المسجد (1)
السؤال
هل يجوز للكفار الصلاة مع المسلمين في المسجد؟ وجزاكم الله خيراً.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد بينا في الفتوى رقم: 4041 خلاف العلماء في دخول الكافر إلى المسجد، وأما الإذن له بالصلاة فيه فجائز إذا رجيت من ذلك مصلحة كترغيبهم في الدخول في الإسلام وتعريفهم بالعبادة، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى في أحكام أهل الذمة: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد نصارى نجران في مسجده، وحانت صلاتهم فصلوا فيه، وذلك عام الوفود بعد نزول قوله تعالى: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. فلم تتناول الآية حرم المدينة ولا مسجدها.والله أعلم.
============
السرقة من أهل الذمة.. رؤية شرعية (2)
السؤال
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 2571)- رقم الفتوى 72906 حكم الإذن للكافر بالصلاة في المسجد -تاريخ الفتوى : 28 صفر 1427
(2) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3298)- رقم الفتوى 73748 السرقة من أهل الذمة.. رؤية شرعية -تاريخ الفتوى : 25 ربيع الأول 1427(2/429)
في مدينتي التي أسكن فيها صاحب محل لبيع الجملة وهو مسيحي، ولكن يعمل معه بعض المسلمين ومنهم واحد يسرق بعض السلع من هذا المسيحي بدون علمه، وعلمت أنا بهذا، فماذا علي أن أفعل؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالكفار إذا كانوا ذميين أو معاهدين فلا خلاف بين علماء المسلمين أن سرقة أموالهم حرام، قال الإمام الماوردي: وقد أجمع الفقهاء على أنه إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان أو بموادعة حرم تعرضه لشيء من دم ومال وفرج منهم؛ إذ المسلمون على شروطهم.
وقال ابن قدامة في المغني: ويُقطَع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي، ويقطع الذمي بسرقة مالهما. وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافاً. المغني 8/368.
وعليه.. فمن علم أن أحداً يسرق من أموال أحد الكفار ممن له عهد أو ذمة، فواجب عليه نهيه عن ذلك، من باب النهي عن المنكر، وإن استطاع تخليص المسروق منه دون فضحه فذلك أولى لما عليه الشرع من الستر على المسلمين، وإن لم يمكن تخليصه منه إلا بفضحه بين الناس وجب عليه ذلك، لوجوب تخليص كل مستهلك قدر المرء على تخليصه، ولك أن تراجع في هذا الفتوى رقم: 48259.والله أعلم.
============
أقوال العلماء في رد السلام على الكافر (1)
تاريخ الفتوى : ... 15 ربيع الثاني 1427 / 14-05-2006
السؤال
إذا قام أحد من أهل الكتاب أو آخر ملحد بإلقاء السلام وبهذه الكيفية " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " فسيكون الرد عليه بعليكم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني قد سمعت أن أحد الدعاة يقول يمكن أن ترد عليه في هذه الحالة فقط بـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فأرجو التفصيل في ذلك ومدي ببحث مفصل عن هذه الحالة وبارك الله في عملكم وكان الله في عونكم.
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3757)- رقم الفتوى 74314 أقوال العلماء في رد السلام على الكافر -تاريخ الفتوى : 15 ربيع الثاني 1427(2/430)
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالذي عليه جمهور أهل العلم أن الكافر إذا سلم على المسلم فإنه يرد عليه قائلا: " وعليكم" بدليل ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم . متفق عليه وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : ودل على التفرقة في الرد على المسلم والكافر, قال ابن بطال: قال قوم: رد السلام على أهل الذمة فرض لعموم الآية, وثبت عن ابن عباس أنه قال: من سلم عليك فرد عليه وإن كان مجوسيا, وبه قال الشعبي وقتادة, ومنع من ذلك مالك والجمهور, وقال عطاء: الآية مخصوصة بالمسلمين فلا يرد السلام على الكافر مطلقا, فإن أراد منع الرد بالسلام وإلا فأحاديث الباب ترد عليه . انتهى
ومن أهل العلم من قال: إذا تحقق المسلم أن الكافر قال: السلام عليكم فيرد عليه بقوله وعليك السلام لأن هذا من باب العدل والإحسان، وقد قال تعالى : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا { النساء :86 } وراجع الفتوى رقم : 49281 والفتوى رقم : 60304 .والله أعلم .
============
خطورة السماح بالتنصير في البلاد الإسلامية (1)
السؤال
ما حكم الشرع في السماح الرسمي لجماعات التبشير بالمسيحية بالعمل في بعض الدول الإسلامية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 3816)- رقم الفتوى 74386 خطورة السماح بالتنصير في البلاد الإسلامية -تاريخ الفتوى : 23 ربيع الثاني 1427(2/431)
فإنه لا يشرع السماح بهذا الأمر لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك، فقال: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {المائدة:2}، وقد منع الشرع الرجوع عن الإسلام, ورتب عليه حبوط الأعمال وقتل المرتد وخلوده في النار، فقال الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {البقرة:217}، وفي حديث البخاري: من بدل دينه فاقتلوه.
ومن المعلوم أن الشرع إذا حرم شيئاً حرم كل ما يوصل إليه، كما أن من المعلوم أن الرضا بكفر الكفار كفر، فدل على خطورة السماح بالتكفير والسماح لمن يشتغلون به في البلاد الإسلامية، وقد شرط عمر على أهل الذمة أن لا يحدثوا كنيسة ولا ديراً حولها ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب من كنائسهم, وألا يظهروا عليها صليباً ولا يظهروا شركاً، وإذا منعوا من هذا فمن باب أحرى أن يمنعوا من الدعوة للشرك، وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 7497، 17391، 34046.والله أعلم.
===========
تفسير قوله تعالى (..أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن..)(1)
السؤال
في آية عدم إبداء الزينة في سورة النور .. ما معنى (أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن) فهل تشمل (نسائهن) النساء المؤمنات فقط دون المشركات ؟؟ والحرائر مع الإماء - سواء مسلمات أو مشركات- ؟ وهل تشمل ( ما ملكت أيمانهن) الإماء والعبيد الذكور بحيث لهم نفس الحكم في إبداء الزينة ؟
الفتوى
__________
(1) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (ج 10 / ص 4742)- رقم الفتوى 75488 تفسير قوله تعالى (..أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن..) -تاريخ الفتوى : 24 جمادي الأولى 1427(2/432)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن أكثر أهل العلم من الفقهاء والمفسرين يفسرون الآية الكريمة (( أو نسائهن )) بأن المراد بها نساء المسلمين دون غيرهن من نساء اليهود والنصارى وغيرهم، قال الطبري في تفسيره: قيل: عني بذلك نساء المسلمين. وقال القرطبي: أو نسائهن يعني المسلمات ويدخل في هذا الإماء المؤمنات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم. وقال ابن كثير: أو نسائهن يعني تظهر بزينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع، وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه. وقال بعضهم هن النساء جميعا، قال ابن العربي في أحكام القرآن: أو نسائهن فيه قولان: أحدهما أنه جميع النساء، والثاني: أنه نساء المؤمنين، ثم قال: والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء، وإنما جاء بالضمير للإتباع فإنها آية الضمائر إذ فيها خمسة وعشرون ضميرا لم يروا في القرآن لها نظيرا، فجاء الضمير فيها للاتباع. وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والإضافة في قوله (( أو نسائهن )) إلى ضمير المؤمنات إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص، فقيل المراد نساء أمتهن أي المؤمنات، مثل الإضافة في قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أي من رجال دينكم، ويجوز أن يكون المراد أو النساء وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعا لبقية المعدود، فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضية الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، أي ألهمهما الفجور والتقوى، فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول سورة ( والشمس وضحاها ) ثم قال: ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء(2/433)
المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبية من جسدها .
وجمهورهم على منع إظهار الزينة لغير المسلمة ، وقد بينا ذلك في الفتاوى ذات الأرقام التالية : 58234 ، 50794 ، 7254 ، وبإمكانك أن تطلع عليها للمزيد من الفائدة .
وعلى ذلك فالضمير في قوله تعالى: أو نسائهن . عائد على نساء المؤمنين المختصات بصحبتهن ومخالطتهن وخدمتهن، والآية شاملة للنساء المؤمنات سواء كن حرائر أو إماء .
وأما الإماء المشركات فقد جاء فيهن: أو ما ملكت أيمانهن . ولو كن كوافر، قال القرطبي: لا يحل لامرأة مسلمة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها فذلك قوله تعالى: أو ما ملكت أيمانهن .
وأما العبيد الذكور فهم كالأجانب على ما ذهب إليه أكثر أهل العلم، ورخص بعضهم في نظر الغلام ( العبد ) الوغد إلى شعر سيدته وكره ذلك بعضهم .
وخلاصة ما ذكرنا من مذهب الجمهور أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تبدي زينتها لغير المسلمة إلا أن تكون أمة لها، كما لا يجوز لها أن تبدي زينتها لعبدها غير المحرم لها ولو كان مسلما .
كما ننبه أن الآية الكريمة المذكورة من أمهات آيات الأحكام التي تحتوي على أبحاث طويلة وآراء متشعبة لأهل العلم لا يتسع المقام لذكرها، ويمكنك أن تعود إليها في كتب التفسير وخاصة أحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للجصاص، وتفسير القرطبي، وتفسير ابن عاشور . والله أعلم .
============
هل يعطى فقراء أهل الكتاب من الزكاة(1)
تاريخ الفتوى : ... 14 صفر 1428 / 04-03-2007
السؤال
هل يعطى مساكين أهل الذمة من الزكاة، وهل ثبت عن ابن عباس أنه قال: "إن الفقراء، فقراء المسلمين، والمساكين: فقراء أهل الكتاب" وأن عمر فسر المساكين بزمنى أهل الكتاب، أفيدوني؟ رحمكم الله.
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - الشبكة الإسلامية(2/434)
فقد روى ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء {التوبة:60}، قال: هم زمنى أهل الكتاب. انتهى.
وقال عكرمة: الفقراء فقراء المسلمين، والمساكين فقراء أهل الكتاب. ولم نقف على من صحح هذه المنقولات عنهم، ومن ثم نقل غير واحد الإجماع على عدم صحة إعطاء الكافر من الزكاة، سواء كان كافراً أصلياً أو مرتداً، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني: لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر ولا لمملوك. قال ابن المنذر أجمع كلُّ من نحفظُ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئاً. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم. فخصهم بصرفها إلى فقرائهم، كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم. انتهى.
وأما زكاة الفطر فيجوز الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد صرفها إلى فقراء أهل الذمة، وقالا: إن الله سبحانه وتعالى قال: إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ. من غير فصل بين فقير وفقير، وعموم هذا النص يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم، إلا أنه خص منه زكاة المال، لحديث معاذ المتقدم، ولأن صرف الصدقة إلى أهل الذمة من باب إيصال البر إليهم، وما نهينا عن ذلك، قال الله تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وظاهر هذا النص جواز صرف الزكاة إليهم، لأنه بر بهم، إلا أن البر بطريق زكاة المال غير مراد، لحديث معاذ، فيبقى غيرها من طرق البر بهم جائزا.
والله أعلم.
===========
سقوط الجزية عن الذمي بإسلامه(1)
تاريخ الفتوى : ... 24 ربيع الثاني 1428 / 12-05-2007
السؤال
__________
(1) - الشبكة الإسلامية(2/435)
إذا إسلم الذمي تسقط عنه الجزية؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإذاكنت تسأل عما إذا كان الذمي تسقط عنه الجزية إذا أسلم، فالجواب أن نعم، بل ويسقط عنه ما تجمع في ذمته منها عند كثير من أهل العلم، قال الشيخ خليل بن إسحاق رحمه الله تعالى: وسقطتا بالإسلام. جاء في التاج والإكليل: ابن رشد: اختلف فيمن أسلم بعد وجوب الجزية عليه، ومذهب مالك وجميع أصحابه أنها تسقط عنه بإسلامه. وفيها لابن القاسم: وإذا لم يؤخذ من الذمي الجزية سنة حتى أسلم فلا يؤخذ منه شيء، لأن مالكا قال في أهل حصن هودنوا ثلاث سنين على أن يعطوا المسلمين شيئاً معلوماً فأعطوهم سنة واحدة ثم أسلموا إنه يوضع عنهم ما بقي عليهم ولا يؤخذ منهم شيء.
وجاء في الموسوعة الفقهية ما يلي: ... فقد اتفق الفقهاء على أن الجزية تسقط عمن دخل في الإسلام من أهل الذمة، فلا يطالب بها فيما يستقبل من الزمان، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس على المسلم جزية.والله أعلم.
=============
المسلم لا يرضى بالدنية في دينه (1)
تاريخ الفتوى : ... 27 ربيع الثاني 1428 / 15-05-2007
السؤال
هل يقبل المسلمون أن يتم تطبيق نفس أحكام أهل الذمة عليهم في الغرب، بمعنى هل يرضون مثلا أن يتم تحريم الولاية عليهم في الدول الغربية وهل يرضون أن تكون شهادة المسلم ضد اللاديني أو المسيحي غير مقبولة؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - الشبكة الإسلامية(2/436)
فإن المسلم المتمسك بدينه لا يرضى بالسكن في مكان لا يقيم فيه دينه، ولا يرضى بأن يذل نفسه وهو خاضع ومستسلم بقلبه لشرع الله تعالى، فلا يرضى بترك شرعه، بل يرضى بالله رباً وبالإسلام ديناً، ولا يقبل الدنية في دينه، والله تعالى لم يشرع له أن يعيش في مكان يدفع فيه الجزية، كما أنه لم يشرع ولاية الكافر على المسلم، فقال الله تعالى: وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً {النساء:141}، ولم يشرع سبحانه وتعالى أيضاً قبول شهادة الكافر على المسلم في كثير من الأمور، بل شرط في الشاهد العدالة، والعدل هو المسلم البالغ العاقل المجتنب الكبائر... والكافر ليس عدلاً، وهذه الأمور لو أراد الكفار تطبيقها على المسلم ليس عليه أن يقبلها، بل يهاجر إلى مكان آخر يعطيه الله فيه سعة وخيراً كثيراً، قال الله تعالى: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً {النساء:100}، قال ابن كثير: هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه... انتهى.
والله أعلم.
===========
أمر الإسلام بالإحسان في معاملة أهل الذمة (1)
تاريخ الفتوى : ... 11 جمادي الأولى 1428 / 28-05-2007
السؤال
كثيراً ما نسمع عن الأحداث الطائفية بين المسلمين والمسيحين في أرض العرب، وما يحدث عادةً من غلبة المسلمين في أي حدث من تلك الأحداث، لأنهم الأغلبية والذي أعرفه أن الإسلام قد كرّه إلينا الظلم، فما حكم ظلم أهل الكتاب، وما هي حقوقهم التي لا بد أن يكفلها المسلمون لهم إذا عاشوا سوياً في بلد واحد مثل مصر أو لبنان أو المغرب أو غيرهم و في نفس الوقت هل هذا من الموالاة إذا منع الظلم عنهم؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) - الشبكة الإسلامية(2/437)
فإن الإسلام هو دين العدل، فقد أمر بالقيام به مع كل أحد، مسلما أو كافراً، قريباً أو غريباً، عدوا أم صديقاً، وقد جاءت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 35122، والفتوى رقم: 72836.
وأمر الإسلام بالإحسان في معاملة أهل الذمة أبين من الشمس في رابعة النهار، وتاريخ المسلمين مليء بالنماذج الحية في تطبيق هذا النهج، فلا يجوز في الإسلام ظلم أحد من أهل الذمة، أو الاعتداء عليه في نفسه أو ماله أو عرضه بغير وجه حق.
وقد ترجم البخاري في صحيحه باب إثم من قتل معاهداً بغير جرم، وأورد تحته حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين يوماً. وفي سنن أبي داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة.
والعدل مع أهل الذمة والإحسان إليهم لا يعتبر بمجرده موالاة لهم ما دام لم يصحبه ميل قلبي إليهم أو مودة لهم، ولك أن تراجع في ذلك الفتوى رقم: 25510.
وحقوق أهل الذمة وواجباتهم في ظل الدولة الإسلامية لا يتسع المقام لذكرها هنا، وقد ذكرنا شيئاً منها في الفتوى رقم: 44962، والفتوى رقم: 7497 وإذا أردت المزيد فيمكنك مراجعة كتب الفقه في أبواب الجزية، أو كتاب ابن القيم (أحكام أهل الذمة).والله أعلم.
=============
شهادة الكافر على المسلم (1)
نص السؤال
سئل : من السيد/ .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 287) -شهادة الكافر على المسلم
المفتي - أحمد هريدى . ربيع الآخر 1388 هجرية - 20 يولية 1968 م(2/438)
قال أن سيدة رفعت دعوى تطليق للضرر على زوجها وهما مسلمان أمام قضاء الأحوال الشخصية فى الجمهورية العربية المتحدة، وأن وقائع القضية وحوادثها وأسباب طلب التطليق حدثت بين الزوجين أثناء إقامتهما بالخارج فى بلد غير إسلامى، وفى مكان لم يوجد فيه أحد من المسلمين أثناء جريان الحوادث ووقوع الأسباب، وأهل المكان جميعا والجيران من غير المسلمين وقد شهدوا الحوادث وعلموا الأسباب، ولم يقبل القضاء شهادة أحد من هؤلاء المحيطين العالمين بحقيقة أمور الزوجين وأحوالهما، وما جرى بينهما بحجة أنه لا ولاية لكافر على مسلم .
ويقول السائل هل يضيع الحق نتيجة لهذه الظروف .
وهل تقف الشريعة الإسلامية جامدة أمام هذا الوضع، ولا تجد حلا لمثل هذه المشكلة يخرج الناس من الضيق والحرج ويطمئنهم على حقوقهم ويحفظ عليهم مصالحهم .
نص الفتوى
الحمد لله(2/439)
المسالة على هذا الوضع لها جانبان جانب القضية المعروضة على القضاء، والتى يطلب فيهل حل يكفل تحقيق العدالة وصيانة حقوق الزوجية ومصالحها وجانب المشكلة الناشئة من عدم قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين - أما الجانب الأول فإن قضاء الأحوال الشخصية فى الجمهورية العربية المتحدة مقيد بالنسبة لمسائل الأحوال الشخصية للمسلمين بما تقرره المادة 280 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والإجراءات المتعلقة بها، وهى تنص على مايأتى تصدر الأحكام طبقا للمدون فى هذه اللائحة ولأرجح الأقوال من مذهب أبى حنيفة، ماعدا الأحوال التى ينص فيها قانون المحاكم الشرعية على قواعد خاصة، فيجب فيها أن تصدر الأحكام طبقا لتلك القواعد وقد استبقى المشرع هذه المادة بنصها المذكور فى التنظيم القضائى الذى أعقب إلغاء المحاكم الشرعية، وإحالة المسائل التى كانت تفصل فيها إلى دوائر للأحوال الشخصية أنشئت بالمحاكم الوطنية، وبقى القضاء مقيدا بحكمها لا يملك أن يطبق غير الأحكام التى نصت عليها، وليس فى لائحة المحاكم الشرعية ولا فى القوانين التى صدرت لتلك المحاكم، ولا فى مذهب أبى حنيفة ما يجيز شهادة غير المسلمين على المسلمين، فلا يستطيع القضاء فى ظل هذا النظام أن يقبل هذه الشهادة فى موضوع القضية المعروضة وأما الجانب الثانى فإنا نطمئن السائل على أن الشريعة الإسلامية وهى التى عاشت قرونا متطاولة لم يتح لشريعة من الشرائع فى العالم كله أن تعيش مثلها، وفى هذا المدى الطويل طوفت فى الآفاق شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وتقبلت فى جميع البيئات والمجتمعات، ولاقت مختلف العادات والتقاليد وعاصرت الرخاء والشدة، والسيادة والاستبعاد، والحضارة والتخلف وحكمت فى أزهى العصور وأرقى المجتمعات، وواجهت فى ذلك كله الأحداث والمشاكل والحاجات، فلم تقصر عن حاجة، ولم تضق بمشكلة ولا قعدت عن الوفاء بأى مطلب، ولا تخلفت بأهلها فى أى وقت،(2/440)
ولكن تخلف أهلها حين فرطوا فيها وتهاونوا فى الاستمساك بعروتها الوثقى - هذه الشريعة تفيض بالرحمة واليسر - وإليكم بيان آراء الفقهاء والعلماء المسلمين فى حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين - قال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين .
فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين .
ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافون أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين } المائدة 106 ، 107 ، 108 ، قال أبو عبد الله أحمد بن محمد الأنصارى القرطبى المالكى فى تفسيره الجامع لأحكام القرآن فى سبب نزول هذه الآيات لا أعلم خلافا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الدارى وعدى بن براء - روى البخارى والدارقطنى وغيرهما عن ابن عباس قال كان تميم الدارى وعدى يختلفان إلى مكة للتجارة فخرج معهما فتى من بنى سهم فى بعض الروايات مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبى مريم بتجارة فتوفى بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما بأن يبلغا ما ترك أهله - فى بعض الروايات وكانا نصرانيين، وأن الموصى كتب وصيته ثم جعلها فى المتاع فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب فاستحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كتمتا ولا اطلعتما، ثم وجد الجام بمكة .
فقالوا اشتريناه من عدى وتميم، فجاء رجلان من ورثة السهمى فحلفا أن هذا الجام للسهمى ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال فخذوا الجام، وفيهم نزلت هذه الآيات - وقال فى تفسير الآيات .(2/441)
وقد اختلف العلماء فى فهم قوله تعالى { ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } على ثلاثة أقوال : الأول - أن الكاف والميم فى قوله سبحانه { منكم } ضمير للمسلمين وقوله أو آخران من غيركم للكافرين .
فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة فى السفر إذا كانت بوصية، وهو الأشبه بسياق الآية مع ما تقرر من الأحاديث التى وردت فى أسباب نزول الآيات وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل .
أبى موسى الأشعرى وعبدالله بن قيس وعبدالله بن عباس - فمعنى الآية على هذا القول - أن الله تعالى أخبر أن حكمه فى الشهادة على الموصى إذا حضره الموت أن يكون شهادة عدلين، فإن كان فى سفر وهو الضرب فى الأرض ولم يكن معه أحد من المؤمنين فليشهد شاهدان ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الشهادة أنهما ما كذبا وما بدلا وأن ما شهدا به حق، وما كتما فيه شهادة، وحكم بشهادتهما .
فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ونحو هذا مما هو إثم - حلف رجلان من أولياء الموصى، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما - هذا معنى الآية على مذهب أبى موسى الأشعرى وسعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبى مجلز وشريح وعبيدة السلمانى وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدى وابن عباس وغيرهم وقال به من الفقهاء سفيان الثورى ومال إليه أبو عبيد القاسم ابن سلام لكثرة من قال به واختاره أحمد بن حنبل وقال شهادة أهل الذمة جائز على المسلمين فى السفر عند عدم المسلمين وكلهم يقولون منكم من المؤمنين ومعنى من غيركم يعنى الكفار والآية محكمة على مذهب أبى موسى وشريح وغيرهما .
القول الثانى - أن قوله تعالى { أو آخران من غيركم } منسوخ وهذا قول زيد بن أسلم والنخعى ومالك والشافعى وأبى حنيفة وغيرهم من الفقهاء، إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض، ولا تجوز على المسلمين .(2/442)
واحتج أصحاب هذا القول بقوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } وقوله { وأشهدوا ذوى عدل منكم } فهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزل، وأن فيها ممن ترضون من الشهداء فهو ناسخ لذلك .
ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة، فجازت شهادة أهل الكتاب .
والإسلام اليوم قد طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار، وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفساق لا تجوز والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم .
قال القرطبى قلت ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبة وأن ذلك جائز فى شهادة أهل الذمة على المسلمين فى الوصية فى السفر خاصة للضرورة، بحيث لا يوجد مسلم، وأما مع وجود مسلم فلا
ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهدوا التنزيل .
وقد قال بالأول ثلاثة من الصحابة، وليس ذلك فى غيره، ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم ويقوى هذا أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها وما ادعوه من النسخ لا يصح، فإن النسخ لابد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخى الناسخ، ولا يمتنع اختلاف الحكم عن الضرورات ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة فليس فيما قالوه ناسخ .
القول الثالث - أن الآية لا نسخ فيها .
قاله الزهرى والحسن وعكرمة ويكون معنى قوله تعالى { منكم } أى من عشيرتكم وقرابتكم، لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان - ومعنى قوله { أو آخران من غيركم } أى من غير العشيرة والقرابة، وقد نقل القرطبى عن أبى جعفر التماس مناقشة هذا التفسير .
ثم قال على أنه قد عورض هذا القول بأن فى أول الآية { يا أيها الذين آمنوا } فالخطاب لجماعة المؤمنين فيكون قوله منكم من المؤمنين المخاطبين فى الآية وقوله من غيركم من غير المؤمنين ولم يجر للعشيرة ولا للقرابة ذكر مطلقا .
وقد روى الإمام البخارى فى صحيحه فى كتاب الوصايا .(2/443)
الحديث الذى ذكرناه عن القرطبى فى أسباب نزول هذه الآيات من طريق محمد بن أبى القاسم عن عبدالملك ابن سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس معبرا عن سماعه بقوله، وقال لى على بن عبدالله حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن أبى زائدة عن محمد ابن أبى القاسم عن عبدالملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس إلخ وجاء فى فتح البارى بشرح صحيح البخار للإمام الحافظ بن حجر العسقلانى الشافعى فى شرح هذا الحديث ما يأتى واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير فى قول الله تعالى { أو آخران من غيركم } الكفار - والمعنى منكم أى من أهل دينكم أو آخران من غيركم من غير أهل دينكم وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ .
منهم ابن عباس وأبو موسى الأشعرى وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين والأوزاعى والثورى وأبو عبيد وأحمد وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية، وقوى ذلك حديث الباب فإن سياقه مطابق لظاهر الآية .
وقيل المراد بالغير العشيرة. والمعنى منكم أى من عشيرتكم أو آخران من غيركم أى من غير عشيرتكم وهو قول الحسن .
وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة وأن ناسخها قوله تعالى { ممن ترضون من الشهداء } واحتجوا بالإجماع على رد شهادة الفاسق، والكفر شر من الفاسق .
وأجاب الأولون بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما وبأن سورة المائدة محكمة .(2/444)
وعن ابن عباس أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين فإن اتهما استحلفا أخرجه الطبرى بإسناد رجال ثقات وأنكر أحمد على من قال إن هذه الآية منسوخة وصح عن أبى موسى الأشعرى أنه عمل بذلك بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - فقد روى أبو دواد بإسناد رجال ثقات عن الشعبى قال حضرت رجل من المسلمين الوفاة بدقوقا (ويقال دقوقاء بالمد وهى مدينة بالعراق بين أربل وبغداد) ولم يجد أحدا من المسلمين فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة بتركته ووصيته فأخبر الأشعرى فقال هذا لم يكن بعد الذى كان فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا كتما ولا بدلا وأمضى شهادتهما .
ورجحه الفخر الرازى وسبقه الطبرى لذلك لأن قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } خطاب للمؤمنين فلما قال { أو آخران من غيركم } وصح أنه أراد غير المخاطبين تعين أنهما من غير المؤمنين وأيضا فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطا بالسفر وأن أبا موسى حكم بذلك ولم ينكره أحد من الصحابة فكان حجة إلى أن قال وقد قبلت شهادة الكافر فى بعض المواضع كما فى الطب
وجاء - فى كتاب أحكام القرآن فلإمام حجة الإسلام أبى بكر الجصاص الحنفى فى تفسير هذه الآيات - قد اختلفوا فى معنى الشهادة ههنا قال قائلون هى الشهادة على الوصية فى السفر واجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر وروى الشعبى عن أبى موسى الأشعرى أن رجلا مسلما توفى بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فأحلفهما أبو موسى بع العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا .
وأنها لوصية الرجل وتركته، وأمضى أبو موسى شهادتهما وقال هذا أمر لم يكن بعد الذى كان فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التى تثبت بها عند الحكام وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ .(2/445)
وروى مثله عن شريح وهو قول الثورى وابن أبى ليلى والأوزاعى وروى عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبى .
وقال آخرون إن الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد مرغوب عنه، وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة فى نحو قوله تعالى { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } النور 6 ، لأن الشهادة إذا أطلقت فهى الشهادة المتعارفة التى تقام عند الحكام كقوله تعالى { وأقيموا الشهادة لله } الطلاق 2 ، { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } البقرة 282 ، { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } البقرة 282 ، { وأشهدوا ذوى عدل منكم } الطلاق 2 ، وكذلك ما هنا قوله تعالى { شهادة بينكم } وقوله تعالى { أو آخران من غيركم } الخطاب فيه للمؤمنين الموجه إليهم النداء فى صدر الآية { يا أيها الذين آمنوا } أى إن لم يوجد شاهدان من المؤمنين فآخران من غير المؤمنين، والتأويل بأن المراد من غير قبيلتكم لا معنى له، إذا لم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع إليه الكناية، فالكناية إنما ترجع إلى ظاهر مذكور فى الكلام أو معلوم بدلالة الحالة، فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر وقد اختلف فى بقاء هذا الحكم ونسخه .
فذهب أبو موسى الأشعرى ومن ذكرنا من الفقهاء إلى أنه باق وثابت لم ينسخ، وروى عن إبراهيم النخعى أن الآية منسوخة نسختها وأشهدوا ذوى عدل منكم وروى ضمرة ابن جندب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم (المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) والآية تدل على جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر سواء أكان فى الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشئ أو هبة أو صدقة، إذ يشمل اسم الوصية ذلك كله إذا عقد فى المرض .(2/446)
ثم قد روى أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن فهى ناسخة لحكم هذه الآية وهو جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم فى السفر، لأن الخطاب فيها للمؤمنين .
وقد قيل فيها { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } البقرة 282 ، والكفار غير مرضيين فى الشهادة على المسلمين، وهى عامة فى السفر وغير السفر وفى الوصية وغيرها، فتكون ناسخة لحكم آية المائدة التى معنا - انتهى بتصرف .
وجاء فى كتاب الطرق الحكمية فلإمام المجتهد أبى عبدالله محمد بن أبى بكر الحنبلى المعروف بابن القيم - (أما المسألة الثانية وهى قبول شهادة الكفار على المسلمين فى السفر فقد دل عليها صريح القرآن وعمل بها الصحابة، وذهب إليها فقهاء الحديث - قال صالح بن أحمد قال أبى لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا فى موضع فى السفر الذى قال الله تعالى فيه { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض } فأجازها أبو موسى الأشعرى، وقد روى عن ابن عباس أو آخران من غيركم من أهل الكتاب وهذا موضع ضرورة، لأنه فى سفر ولا تجد من يشهد من المسلمين، وإنما جاءت فى هذا المعنى .
وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجى سألت أحمد فذكر هذا المعنى .
قلت فإن كان ذلك على وصية المسلمين هل تجوز شهادتهم قال نعم إذا كان على الضرورة - قلت أليس يقال هذه الآية منسوخة قال من يقول وأنكر ذلك .(2/447)
قال وهل يقول ذلك إلا إبراهيم وقال فى رواية ابن عبدالله تجوز شهادة النصرانى واليهودى فى الميراث على ما أجاز أبو موسى فى السفر وأحلفه وقال فى رواية أبى الحارث لا تجوز شهادة اليهودى والنصرانى فى شئ إلا فى الوصية فى السفر إذا لم يوجد غيرهم - قال الله تعالى { أو آخران من غيركم } فلا تجوز شهادتهم إلا فى هذا الموضع، وهذا مذهب قاضى العم والعدل شريح وقول سعيد بن المسيب وحكاه عن ابن عباس وأبى موسى الأشعرى) ثم ساق ابن القيم حديث قبول أبى موسى الأشعرى شهادة النصرانيين من أهل دقوقا على وصية المسلم فى السفر وحكمه بها، وحديث ابن عباس عن تميم الدارى فى سبب نزول الآية موضوع البحث والقول بهذه الآية هو قول جمهور السلف وقالت عائشة رضى الله عنها سورة المائدة آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها حراما فحرموه، وصح عن ابن عباس أنه قال فى هذه الآية .
هذا لمن مات وعنده المسلمون فأمر الله أن يشهد فى وصيته عدلان من المسلمين ثم قال تعالى { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض } فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين فأمر الله عز و جل أن يشهد على وصيته رجلان من غير المسلمين وقد تقدم أن أبا موسى حكم بذلك، وقال سفيان الثورى عن أبى اسحق البيعى عن عمرو بن شرحبيل - ولم ينسخ من سورة المائدة شئ - وعن سعيد بن المسيب { أو آخران من غيركم } من أهل الكتاب وفى رواية ابن جبير ومجاهد ويحيى وابن سيرين فهؤلاء أئمة المسلمين أبو موسى الأشعرى وابن عباس وروى نحو ذلك عن على رضى الله عنه - ذكر ذلك أبو محمد بن حزم وذكره أبو يعلى عن ابن مسعود ولا مخالف لهم من الصحابة .
ومن التابعين عمرو بن شرحبيل وشريح وعبيدة والنخعى والشعبى والسعيدان وأبو مجلز وابن سيرين ويحيى بن يعمر، ومن تابعى التابعين كسفيان الثورى ويحيى بن حمزة والأوزاعى، وبعد هؤلاء كأبى عبيد وأحمد بن حنبل وجمهور فقهاء أهل الحديث، وهو قول جميع أهل الظاهر .(2/448)
وخالفهم آخرون. ثم اختلفوا فى تخريج الآية على ثلاثة طرق أحدها أن المراد بقوله من غيركم من غير قبيلتكم .
روى ذلك عن الحسن والزهرى - والثانى أن الآية منسوخة وهذا مروى عن زيد بن أسلم وغيره .
والثالث - أن المراد بالشهادة فيها أيمان الوصى بالله تعالى للورثة لا الشهادة المعروفة، وساق ابن القيم المناقشة بين الآخذين بالآية والمؤولين لها احتجاجا وردا .
ثم قال فظهر أن القول بموجب هذه الآية هو الحق الذى لا نعدل عنه نصا وقياسا ومصلحة .
وبالله التوفيق - قال شيخنا رحمه الله (يعنى الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية وقول الإمام أحمد فى قبول شهادتهم فى هذا الموضع هو ضرورة يقتضى هذا التعليل قبولها فى كل ضرورة حضرا وسفرا وعلى هذا لو قيل يحلفون فى شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون فى شهادتهم على المسلمين فى وصية السفر لكان منسوخها - ولو قيل تقبل شهادتهم مع ايمانهم فى كل شئ عدم فيه المسلمون لكان له وجه ويكون بدلا مطلقا - قال الشيخ ويؤيد هذا ما ذكره القاضى وغيره - محتجا به - وهو فى الناسخ والمنسوخ لأبى عبيد أن رجلا من المسلمين خرج فمر بقرية فمرض ومعه رجلان من المسلمين فدفع إليهما ماله ثم قال ادعوا لى من أشهده على ما قبضتماه فلم يجدا أحدا من المسلمين فى تلك القرية، فدعوا أناسا من اليهود والنصارى فأشهدهم على ما دفع إليهما وذكر الوصية، فانطلقوا إلى ابن مسعود فأمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا وكذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين، ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة اليهود والنصارى حق فحلفوا .(2/449)
فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودى والنصرانى وذلك فى خلافة عثمان رضى الله عنه فهذه شهادة للميت على وصيته، وقد قضى بها ابن مسعود مع يمين الورثة لأنهم المدعون وقد ذكر القاضى هذا فى مسألة دعوى الأسير إسلاما فقال وقد قال الإمام أحمد فى السبى إذا ادعوا نسبا وأقاموا بينة من الكفار قبلت شهادتهم .
نص عليه فى رواية حنبل وصالح وإسحاق بن إبراهيم لأنه قد تتعذر البينة العادلة، ولم يجز ذلك فى رواية عبدالله وأبى طالب قال شيخنا رحمه الله تعالى فعلى هذا كل موضع ضرورة غير المنصوص فيه وفيه روايتان .
لكن التحليف ههنا لم يتعرضوا له، فيمكن أن يقال لأنه إنما يحلف حيث تكون شهادتهم بدلا كما فى مسألة الوصية بخلاف ما إذا كانوا أصولا .
والله أعلم - ويقول الإمام أبو محمد بن حزم الظاهرى إمام أهل الظاهر بالأندلس فى كتابه المحلى (لا يجوز أن يقبل كافر أصلا لا على كافر ولا على مسلم حاشا الوصية فى السفر فقط، فإنه يقبل فى ذلك مسلمان أو كافران من أى دين كانا، أو كافر وكافرتان، أو أربع كوافر، ويحلف الكفار ههنا مع شهادتهم بعد الصلاة لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين - برهان ذلك قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } الحجرات 6 ، والكافر فاسق فوجب أن لا تقبل .
وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم فى الأرض } فوجب أخذ حكم الله كله .(2/450)
وأن يستثنى الأخص من الأعم ليتوصل بذلك إلى طاعة الجميع) هذا جانب يسير من النصوص التى تزخر بها كتب الفقه والتفسير والحديث تبين آراء العلماء والفقهاء فى شهادة غير المسلمين على المسلمين، وتدل دلالة صريحة وقاطعة على أن كثيرا من الصحابة والتابعين وتابعيهم وفقهاء الأمصار والأئمة المجتهدين يرون جواز هذه الشهادة ويقبلونها فى القضاء ويحكمون بها، وإن كانوا يختلفون بعد ذلك فى النطاق والمسائل التى تقبل فيها هذه الشهادة .
وقد رأينا فيما ذكره الإمام القرطبى أنه لا مانع من اختلاف الحكم عند الضرورة وأنه يجوز أن يكون الكافر ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، وهذا يشير إلى أن جواز شهادة غير المسلم على المسلم إنما هو للضرورة وفى حالة قيامها .
وفيما تقل عن ابن عباس ما يشير إلى ذلك أيضا وفيما نقل عن الإمام أحمد التصريح بأن جواز شهادة غير المسلمين على المسلمين هو ضرورة وقد نقل ابن القيم عن شيخه الإمام المجتهد ابن تيمية أنه قال إن ما نقل عن الإمام أحمد من تقليل جواز هذه الشهادة وقبولها للضرورة يدل على جوازها وقبولها فى كل ضرورة حضرا وسفرا وأنه لو قيل تقبل شهادتهم مع أيمانهم فى كل شئ عدم فيه المسلمون لكان له وجه وتكون بدلا مطلقا .
ومن ثم جرى فيها الحلف . وقد رأينا مما ذكرنا أن القائلين بعدم جواز قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين فى أى مجال أو نطاق لم يبنوا جميعهم آراءهم على أساس أن الشهادة من باب الولاية، وأنه لا ولاية لكافر على مسلم وإنما بنى أكثرهم الرأي على معان أخرى تتصل بالشروط والمعانى التى اعتبروا توافرها أساسا لقبول الشهادة ولا نريد بما ذكرنا أن نستبيح حكما أو نقرر رأيا فى الموضوع(2/451)
وإنما نريد أن نبين أن فى آراء الفقهاء المسلمين ما فيه العلاج الحاسم لهذه المشكلة التى برزت فى حياة الناس، واستعصى على القضاء حلها فى ظل النظام القائم، وقد تتوالى الحوادث وتبدوا المشكلة فى صورة أو أخرى أشد تعقيدا وأكثر إلحاحا فى طلب الحل، وسيبقى القضاء عاجزا عن الحل وغير قادر على مواجهة طلبه مادام هذا الوضع قائما - وقد تضيع حقوق وتهدر مصالح - الأمر الذى لا يمكن قبوله والسكوت عليه .
ولقد كشف التطور الاجتماعى الذى أحدثته الثورة عن ضرورة إحداث تغيير جذرى وشامل فى الأوضاع والنظم والأحكام التى تسود حياة المجتمع، وقامت نهضة تشريعية شاملة تناولت بالتغيير والتبديل النظم والقوانين والأحكام القائمة فى جميع النواحى والجوانب والفروع .
وكان من نتيجة ذلك أن ألفت لجنة لوضع تشريع شامل مستمد من الشريعة الإسلامية، والفقه الإسلامى لتنظيم مسائل الأحوال الشخصية بفروعها المختلفة، وقامت اللجنة فعلا بوضع تشريع شامل اختارت أحكامه من أقوال الفقهاء المسلمين غير متقيدة برأى فقيه ولا بأرجح الأقوال فى مذهب فقيه، بل استهدفت علاج المشاكل التى لازمت التطور الاجتماعى العميق الشامل وكشف عنها التطبيق والعمل فى ظل النظام القائم .
وقدمت اللجنة المشروع إلى وزارة العدل، ولا يزال لدى الوزارة إلى الآن .
وحبذا لو أمكن أن يعاد المشروع إلى اللجنة لتعيد النظر فيه، وتعالج هذه المشكلة موضوع البحث، وما عسى أن يظهره البحث أو تتمخض عنه الحوادث من مشاكل أخرى تمس حياة الناس ومصالحهم
وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب .
=============
وقف الذمى بين الصحة والبطلان ...(1)
نص السؤال
من أحمد أفندى قال بتاريخ 12 مايو سنة 1910 لدى محكمة نجع حمادى الشرعية .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 72) -وقف الذمى بين الصحة والبطلان
المفتي - عبد المجيد سليم .ربيع الأول 1361 هجرية - 2 أبريل 1942 م(2/452)
صدر وقف من داود بك تكلا وزوجته - الست سيدة بنت فلسطين لمقدار 1009 أفدنة وكسور بالجهات المبينة بتلك الحجة بما يتبع تلك الأطيان من البناء والغراص وغيرهما .
وأنشآ الوقف المذكور على نفسهما مدة حياتهما ينتفع كل منهما بما هو فى حيازته بكل وجوه الانتفاعات الشرعية الوقفية - ثم من بعد وفاة أحدهما يصرف ريع وقفهما بتمامه على من يبقى منهما مدة حياته ولا حق فيه لذريته إلا بعد وفاتهما معا ثم من بعدهما يكون وقفا على الأوجه التى ستشرح فيه - ما هوالربع شائعا فى جميع الأطيان وما بها من نخيل وأشجار وعيون سواق وقفا على الجهات الستة الآتى بيانها وهى 1 - الكنيسة الإنجيلية الشيخية ببهجورة مادامت تابعة لكنيسة الشيخية المتحدة العمومية .
2 - سنورس النيل للكنيسة السيخية المصرية .
3 - المتقاعدون عن العمل من خدام الكلمة بالكنيسة الشيخية المصرية قسوسا ومبشرين بشرط أن يكون تقاعدهم بسبب عاهة أو مرض لا يمكنهم من العمل التبشيرى .
4 - التبشير بالإنجيل فى الديار المصرية والأقطار السودانية بشرط ان يكون التبشير بواسطة سنورس النيل بالكنيسة الشيخية المصرية .
5 - جمعية توزيع الكتب المقدسة التابعة للكنيسة الإنجيلية الشيخية .(2/453)
6 - العجزة وذوى العاهات والأرامل والأيتام والقصر من الأقباط المسيحيين ببهجورة، بروتستانت وأرثوذكس، ويشترط فى كل من هؤلاء أن يكون عديم الكسب ويصرف ريع هذه الحصة على الجهات الستة المذكورة بالمساواة بينها على الوجه المشروح بها، وباقى الموقوف يكون وقفا على حسب ما هو مبين بالحجة، وشرطا شروطا منها أنهما اشترطا لأنفسهما الشروط العشرة وهى الإدخال والإخراج والإعطاء والحرمان والزيادة والنقصان والتغيير والتبديل والإبدال والاستبدال لمن يشاءان متى شاءا وأن يشترطا الشروط المذكورة أو ما يشاءان متى شاءا وأن يجعلا النظر لمن يشاءان متى شاءا، يفعلان ذلك ويكرر انه مرارا عديدة كلما بدا لهما فعله شرعا، وليس لأحد من بعدهما فعل شىء من ذلك بدون أن يشترطا له ذلك، وتحررت بذلك حجة شرعية فى 26 سبتمبر سنة 1910 من المحكمة المذكورة .
وبتاريخ 8 أكتوبر سنة 1931 لدى محكمة اسكندرية الشرعية أشهدت على نفسها الست سيدة فلسطين الواقفة الثانية المذكورة بأنها بتاريخ 26 سبتمبر 1910 أوقفت هى وزوجها داود بك تكلا أطيانا قدرها 1009 أفدنة وكسور بمحكمة نجع حمادى الشرعية .
من ذلك 15 سهما، 23 قيراطا، 633 فدانا شيوعا فى الأطيان المذكورة وقفا من داود بك تكلا والباقى وقدره 10 أسهم، 375 فدانا وقفا للست سيدة فلسطين المذكورة، وجعلاه وقفا على أنفسهما مدة حياتهما ثم من بعد أحدهما يكون جميع الموقوف وقفا على الآخر منهما ومن بعد وفاتهما يكون الربع شائعا فى الأطيان المذكورة جميعها الموقوفة منهما وقدره 252 فدانا وربع فدان تقريبا، من ذلك 93 فدانا وثلاثة أرباع الفدان تقريبا قيمة الربع من أيطان الست المذكورة وباقى الربع من يان زوجها داود بك تكلا المذكور يكون وقفا على الجهات الستة المبينة بكتاب الوقف المذكور ( وهى الجهات التى أشرنا إليها قبل ) .(2/454)
وقد أشهدت على نفسها الست سيدة فلسطين المذكورة ( بما لها من الشروط العشرة وتكرارها فى الوقف المذكور ) بأنها أخرجت من الآن الجهات الستة المذكورة أعلاها مما هو موقوف عليها فى وقفها وقدره 93 فدانا وثلاثة أرباع الفدان تقريبا وجعلته وقفا على مدرسة البنين والبنات التى أنشأها الواقفان المذكوران بناحية بهجورة على الصفة الواضحة بهذه الحجة .
فما هو الحكم الشرعى فى الوقف على الجهات الستة المذكورة بكتاب الوقف الأول، وهل الوقف عليها يعتبر وقفا صحيحا شرعيا أو أن الوقف عليها وقع غير صحيح .
خصوصا وليس فى كتاب الوقف ما يدل على جعل مآله لجهة بر لا تنقطع .
وإذا لم يصح الوقف على هذه الجهات كلها أو بعضها فما حكم الموقوف على من لم يصح الوقف عليه من بينها أرجو التفضل بالجواب ولكم حسن الثواب .
نص الفتوى
الحمد لله
اطلعنا على هذا السؤال وعلى كتاب الوقف الصادر من محكمة نجع حمادى الشرعية فى 12 مايو سنة 1910 والمحرر بتاريخ 26 سبتمبر سنة 1910 وعلى كتاب وقف المدرسة الصادر أيضا من محكمة نجع حمادى الشرعية بتاريخ 19 مايو سنة 1910 وعلى كتاب التغيير الصادر من الزوجة بمحكمة الاسكندرية الشرعية فى 8 أكتوبر سنة 1931 وقد جاء بكتاب الوقف الأول ما نصه ( أشهد الشاهدان المذكوران على أنفسهما حضرة الأمثل داود بك تكلا والست قرينته سيدة الشهادة الشرعية بأنهما وقفا وحبسا وسبلا وخلدا وتصدقا لله سبحانه وتعالى بجميع الأطيان ) إلخ وجاء به فى الشروط ( ومنها أن مآل هذا الوقف عند انقطاع سبله إلى الفقراء والمساكين من الأقباط المسيحيين أعضاء الكنيسة الإنجيلية الشيخية المصرية والفقرءا والمساكين من الأقباط المسيحيين ) الخ - ونفيد أنه قد جاء فى فتوى لنا سابقة صادرة بتاريخ أول فبراير سنة 1936 فى حادثة أخرى ما نصه ( أن وقف الذمى على ما هو قربة شرط فيه أن تكون هذه القربة قربة عندنا وعندهم، كوقفه على فقراء ملته أو على فقراء ملة أخرى .(2/455)
فإن التصدق على الفقراء مطلقا قربة عندنا وعندهم .
أما إذا وقف على ما هو قربة عندنا فقط كالوقف على الحرمين الشريفين أو على ما هو قربة عندهم فقط كالوقف على الرهبان والقسيسين أو المبشرين فهذا الوقف غير صحيح، بمعنى عدم صحة جعل هذه الجهة مصرفا لهذا الوقف، وعلى هذا لا يصح جعل القسيسين والمبشرين المذكورين مصرفا فلا يصح الصرف إليهم شرعا بل يصرف إلى من عداهم من الفقراء والمساكين والأيتام .
فقد جاء فى كتاب الخصاف بصفحة 337 ما نصه ( قلت وكذلك إن قال على الرهبان والقسيسين قال هذا باطل قلت فإن خص فقال الرهبان والقسيسين الذين فى بيعه كذا وكذا قال هذا باطل قلت وكذلك إن قال على القوام الذين فى بيعة كذا وكذا قال هذا باطل كله باطل .
قلت فما تقول إن قال جعلت أرضى هذه صدقة موقوفة تجرى غلتها على فقراء بيعة كذا وكذا .
قال هذا جائز من قبل أنه إنما قصد فى هذا إلى الصدقة .
ألا ترى انه لو وقف وقفا على فقراء النصارى أنى أجيز ذلك .
وكذلك لو عم ولم يخص فقال تجرى غلة صدقتى هذه على الفقراء قال هذا جائز، قلت فما تقول إن جعل الذمى أرضا صدقة موقوفة فقال تنفق غلتها على بيعة كذا وكذا فإن خربت هذه البيعة كانت غلة هذه الصدقة بعد النفقة عليها فى الفقراء والمساكين قال يجوز وتكون فى الفقراء والمساكين ولا ينفق على البيعة من ذلك شىء، قلت فما الذى يجوز لأهل البيعة من ذلك قال ما كان عند المسلمين قربة إلى الله تعالى وما كان عند أهل الذمة قربة فاجتمع فيه الأمران من المسلمين ومنهم أنفذته وأمضيته .
وما كان عند أهل الذمة قربة وليس هو بقربة عند المسلمين لم يجز، وكذا ما كان عند المسلمين قربة ولم يكن عند أهل الذمة قربة لم يجز ذلك إلا ما ذكرنا مما خص به قوما بأعيانهم ) .
وعلى هذا أفتى صاحب تنقيح الحامدية كما يعلم من الرجوع إليها فى أول كتاب الوقف .(2/456)
هذا ولا يفوتنا أن نقول إنه قد ظهر لنا أن اشتراط كون القربة قربة عندنا وعندهم فى صحة الوقف عليها يتفق مع ما قاله الصاحبان فى وصية الذمى على ما هو قربة من اشتراط كون هذه القربة قربة عندنا وعندهم، أما على مذهب الإمام من الاكتفاء كبونها قربة عندهم سواء كانت قربة عندنا أيضا أم لا .
فلا يتفق هذا الاشتراط معه، والسبب فى الأخذ بمذهب الصاحبين فى الوقف أن الصاحبين هما اللذان يقولان بلزوم الوقف فكان الاشتراط مبنيا على مذهبهما ) انتهى ما قلناه .
وعلى هذا يكون الوقف على الجهات الأولى والثانية والرابعة والخامسة غير صحيح بمعنى عدم صحة جعل هذه الجهات مصرفا للوقف ، ويصرف حينئذ ما لكل منها بالنسبة لوقف الزوج للفقراء والمساكين أخذا من قوله فى أول كتاب الوقف .
وقف وحبس وسبل وخلد وتصدق لله سبحانه وتعالى، وإنما لم نخص فقراء ومساكين الأقباط بالصرف لأن الظاهر أن تخصيص ذلك إنما يكون عند انقطاع سبل الوقف جميعها وهى لم تنقطع إلى الآن - على أنه وإن كان يصح الصرف إلى الفقراء والمساكين عامة فإنه يجوز تخصيص فقراء ومساكين الأقباط بالصرف عليها، أما الوقف على الجهتين الثالثة والسادسة فصحيح، لأن المتبادر من المتقاعدين المذكورين فى الوجه الثالث الفقراء منهم، كما أن المتبادر من اليتامى والعجزة فى الوجه السادس الفقراء منهم أيضا، فيصرف لكل منهما ما جعل لها لأنها قربة عندنا وعندهم هذا كله بالنسبة لوقف الزوج، وأما بالنسبة لوقف الزوجة التى حصل منها التغيير المذكور فيصرف ما كانت قد جعلته من وقفها للجهات الست المذكورة لمصالح المدرسة طبقا لما جاء بإشهاد التغيير، لأن الظاهر أن المدرسة تصلح أن تكون مصرفا نظرا لإعدادها لدراسة مختلف العلوم والأشغال اليدوية والمنزلية التى تدرس فى مدارس وزارة المعارف العمومية .
وبهذا علم الجواب عن السؤال . والله سبحانه وتعالى أعلم .
=============(2/457)
تبرع غير المسلم ومساهمته فى بناء المسجد جائز شرعا ...(1)
نص السؤال
بالطلب المتضمن أن السائل وعددا من المسلمين يقيمون فى منطقة من مناطق نيوجرسى الأمريكية وهم يريدون إقامة مسجد يؤدون فيه شعائر دينهم .
فهل يجوز لهم شرعا أن يطلبوا من الكونجرس الأمريكى أن يعطى لهم مالا يقيمون به هذا المسجد، وهل إذا وافق الكونجرس على إعطائهم المال اللازم لإقامة المسجد، يجوز لهم إقامته بهذا المال وأداء الصلاة فيه .
نص الفتوى
الحمد لله
إن البر والإحسان إلى الناس فى الإسلام والتعاون بينهم فى الطاعات وإقامة المصالح العامة كل ذلك جائز بين أهل الأديان المختلفة، لأنها جميعا قد أمرت بالتراحم والتواصل والتعاون على البر، وقد ضرب الإسلام المثل الأعلى بالبر بغير المسلمين، فقد روى ابن أبى شيبه ( مصنف ابن أبى شيبة ج - 4 ص 4 ) عن جابر بن زيد أنه سئل عن الصدقة فيمن توضع .
فقال فى أهل ملتكم من المسلمين وأهل ذمتهم، وقال (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فى أهل الذمة من الصدقة والخمس) .
ولقد أباح الله سبحانه فى القرآن الكريم تناول طعام أهل الكتاب وتزوج نسائهم فى قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان } المائدة 5 ، توجهنا الآية الكريمة إلى حل التعامل مع أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وتبادل المنافع معهم وإباحة طعامهم ضيافة وشراء والتزوج من نسائهم .
هذا وليست مساهمة غير المسلمين فى إقامة المساجد بالمال بأعلى شأنا من هذه المباحات فى التعامل بنص القرآن الكريم مع غير المسلمين .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 165)- تبرع غير المسلم ومساهمته فى بناء المسجد جائز شرعا -المفتي - جاد الحق على جاد الحق .ذو الحجة 1400 هجرية - 12 أكتوبر 1980 م(2/458)
ثم إن ( كتاب الأموال لأبى عبيد ص 46 ) عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وهو من خلفاء المسلمين العلماء العاملين كتب إلى عامله على البصرة كتابا ومما جاء فيه (وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وخلت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه) - ومعناه اجعل لمن هذا حاله راتبا دوريا ولا تدعه حتى يطلب بنفسه .
وبهذا الأساس قال فقهاء مذاهب الأئمة مالك والشافعى وأحمد بن حنبل رحمهم الله بجواز الهبة والوصية من غير المسلم للمسلم .
باعتبارها من عقود التبرعات والصلات التى تجوز بين أهل الأديان مادامت لغير معصية .
ولقد نص الفقه الشافعى ( حواشى تحفة المحتاج شرح المنهاج ص 5، وحاشية البحيرمى أيضا على منهج الطلاب ج - 3 ص 268، وحاشية البحيرمى أيضا على شرح الخطيب ج - 3 ص 293 ) صراحة على جواز وصية غير المسلم ببناء مسجد للمسلمين، ولما كانت الوصية من عقود التبرعات، وكانت جائزة من غير المسلم ببناء مسجد للمسلمين، كان التبرع من غير المسلم فورا ببناء المسجد أو المساهمة فى بنائه جائزا .
لما كان ذلك كان جائزا شرعا للمسلمين المتواجدين فى ولاية نيوجرسى الأمريكية أو أية جهة من العالم أن يتلقوا أى تبرعات لبناء المسجد سواء من الحكومة أو من الأفراد دون نظر إلى ديانتهم لأن المساجد لله خالق الناس جميعا .والله سبحانه وتعالى أعلم .
==============
أملاك غير المسلمين فى بلاد المسلمين ليست فيئا أو غنيمة (1)
نص السؤال
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 186)-أملاك غير المسلمين فى بلاد المسلمين ليست فيئا أو غنيمة -المفتي - حسن مأمون .10 ذوالقعدة 1376 هجرية - 9 يونية 1957 م(2/459)
بكتاب السيد - أ ح أ القائم بأعمال سفارة الباكستان بالقاهرة المؤرخ 16/5/1957 المقيد برقم 1308 سنة 1957 والذى يطلب فيه بيان الحكم الشرعى فيما يأتى : أولا على أثر تقسيم شبه القارة الهندية هاجر ملايين من الناس من باكستان غلى الهند تاركين أملاكا لهم فى باكستان، وقد أبرمت معاهدات بين الحكومتين اعترفتا فيها بملكية المهاجرين لأملاكهم التى تركوها وعين أوصياء للمحافظة عليها .
فهل يصح اعتبار الأملاك المتروكة فى الباكستان من غير المسلمين غنيمة أو فيئا، أم تعتبر أمانة .
ثانيا وإذا احتل زيد قطعة من هذه الأملاك التى تركها غير المسلمين فى باكستان دون أن يدفع لها ثمنا أو يحصل على إذن من أى إنسان وشيد عليها مبنى مؤقتا للصلاة لم يوقفه، فهل يعتبر هذا المصلى مسجدا له ما للمساجد الأخرى من الحقوق والمزايا فى نظر الشريعة الإسلامية .
ثالثا متى يعتبر المبنى مسجدا، وما هى الشروط التى يجب توافرها لاعتباره مسجدا، أو إذا احتل رجل اسمه بكر جزءا من أرض ليست ملكه وشيد عليها مبنى للصلاة دون أن يدفع ثمنا لهذه الأرض، أو يحصل على إذن شرعى لامتلاكها، أو لبناء مصلى عليها .
فهل يصح هذا المبنى مسجدا .
وهل يصح وقفه .
نص الفتوى
الحمد لله(2/460)
عن السؤال الأول غير المسلمين الذين كانوا مقيمين فى الباكستان قبل تقسيم شبه القارة الهندية، ثم هاجروا إلى الهند بعد قسمتها إلى دولتى الهند والباكستان - تاركين فى الباكستان أملاكا لهم اعترفت حكومتا الهند وباكستان بمقتضى المعاهدات التى أبرمت بينهما بملكيتهم لهذه الأملاك، وبتعيين أوصياء للمحافظة عليها - هذه الأملاك لا يجوز اعتبارها شرعا غنيمة أو فيئا، وذلك لأن الغنيمة هى المال المأخوذ من غير المسلمين بالقهر والغلبة والحرب قائمة بين المسلمين وغير المسلمين - والفىء المال الذى يؤخذ من غير المسلمين مقابل الكف عن قتالهم وبناء على طلبهم كالخراج والجزية - وواضح أن الأملاك المسئول عنها لا ينطبق عليها شرعا تعريف الغنيمة أو الفىء، فلا يجوز اعتبارها من أحدهما، وتبقى هذه الأملاك على ملك أصحابها، وتستغل أيضا لمصلحتهم، وذلك طبقا للأحكام الفقهية التى تطبق على أهل الذمة وعلى المستأمنين فى دار الإسلام ومنها : 1- احترام ملكيتهم لما فى أيديهم من مال ما لم ينقضوا العهد أو يحاربوا جماعة المسلمين .
2- بقاء عصمة أموالهم الموجودة فى دار الإسلام بعد مغادرتهم لها وحفظها لهم حتى يعودوا .
3- عدم جواز الاعتداء عليها أو انتهاك حرمتها أو تملكها ويحفظها لهم ولى أمر المسلمين حتى يعودوا ويستغلها لمصلحتهم، ويحفظ ريعها لهم وهذا كله واضح فى حالة ما إذا لم تكن حكومة الباكستان قد أبرمت معاهدة مع حكومة الهند تضمن بها بقاء ملكية المهاجرين لأموالهم وبالطبع هذه المعاهدة قد أكدت الأحكام الشرعية التى أشرنا إليها ،ولذلك يجب اعتبار هذه الأملاك أى أملاك المهاجرين غير المسلمين الموجودة فى الباكستان على ذمة أصحابها، واستغلالها لمصلحتهم وبقائها أمانة هى وريعها - هذا عن السؤال الأول .(2/461)
أما عن السؤال الثانى فإن الظاهر أن زيدا احتل قطعة أرض مملوكة لمهاجر غير مسلم ولم يدفع لها ثمنا، ولم يحصل على إذن من ولى أمر الدولة الإسلامية، أو أى شخص له شأن فى إعطاء هذا الإذن، وحكم هذا التصرف منه شرعا أنه اغتصاب لأرض مملوكة للغير ملكا صحيحا للأوجه التى بيناها فى الإجابة عن السؤال الأول .
وعليه يكون كل تصرف منه فى هذه الأرض بدون إذن صاحبها تصرفا باطلا، فلا يصح له أن ينشىء عليها مبنى مؤقتا للصلاة فيه سواء وقفه أو لم يوقفه .
ونظرا لأنه يفهم من السؤال أنه شيد المبنى على الأرض المغصوبة مؤقتا للصلاة فيه بصفة مؤقتة فإن هذا المبنى أيضا لا يعتبر مسجدا لإقامته فى أرض مغصوبة ولعدم وقفه شرعا، ولصاحب الأرض أن ينقض المصلى، وكذلك لولى الأمر الذى يرعى هذه الأملاك أن ينقضها .
أما عن السؤال الثالث فإن المبنى يعتبر مسجدا شرعا إذا أقامه البانى فى أرض مملوكة له، وأذن بالصلاة فيه وصلى الناس فيه فعلا .
أو أقامه فى أرض للغير بإذنه وصلى الناس فيه - وتطبيقا لهذه الشروط لا يكون المبنى الذى شيده بكر فى أرض غيره من غير أن يدفع ثمنها أو يحصل على إذن صاحبها، أو من يتولى إدارتها نيابة عنه فى امتلاكها ولم يحصل أيضا على إذن شرعى ببناء المصلى عليها مسجدا، أى لا يكون هذا المصلى مسجدا شرعا ، لعدم توفر الشروط التى اشترطها الفقهاء فى اعتبار المبنى مسجدا وبيتا من بيوت الله، وإذا أراد وقفه بعد بنائه يمنع منه حتى تتوفر فيه هذه الشروط .والله أعلم .
============
تأجير مكان لعمل محرم (1)
نص السؤال
أجرت منزلى لبعض الأجانب ، ثم علمت أنهم يشربون فيه الخمر ويرتكبون الفواحش فماذا افعل ؟ .
نص الفتوى
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 370)-تأجير مكان لعمل محرم -المفتي - عطية صقر .مايو 1997(2/462)
جاء فى كتاب المغنى لابن قدامة ( ج 6 ص 136 ):ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة أو يتخذها لبيع الخمر أو القمار، وبه قال الجماعة ، وقال أبو حنيفة إن كان بيتك فى السواد فلا بأس أن تؤجره لذلك . وخالفه صاحباه واختلف أصحابه فى تأويل قوله .
ولنا - أى دليلنا على رأى الجماعة- أنه فعل محرم ، فلم تجز الإجارة عليه ، كإجارة عبده للفجور. ولو اكترى ذمى من مسلم داره ، فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه ، وبذلك قال الثورى . وقال أصحاب الرأى : إن كان بيته فى السواد والجبل فله أن يفعل ما يشاء .
ولنا-أى دليلنا على المنع - أنه فعل محرم جاز المنع منه فى المصر، فجاز فى السواد كقتل النفس المحرمة 10 هـ .
هذا الكلام ظاهر فيمن أجر داره لمن يعلم أنه يتخذها لفعل محرم، أو كان العقد على ذلك فإن الرأى الصحيح أنه لا يجوز، لأن صاحب الدار مساعد على ارتكاب المعصية ، فيكون شريكا لمن ارتكبها ، كما قالوا فى شرح الحديث الذى فيه لَعْن شارب الخمر وحاملها وعاصرها ، وكل من شارك فيها . والدليل { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة : 2 ، وأبو حنيفة يجيز ذلك .
أما لو كانت إجارة البيت للسكنى ، والساكن ارتكب فيه منكرات ، فليس على صاحب البيت حرمة فى ذلك ، وله الحق فى منعه من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وعند أبى حنيفة : أن الذمى لو استأجر من المسلم بيتا ولم يقل ليصلى فيه فإنه يجوز وإن كان له أن يصلى فيه ويتخذه بيعة وكنيسة، وإذا استأجر الذمى من المسلم دارا ليسكنها فلا بأس بذلك ، والإجارة وقعت على فعل مباح ، وإن شرب فيه الخمر وعبد فيه الصليب أو أدخل فيه الخنازير لم يلحق المسلم فى ذلك شىء ، لأن المسلم لم يؤاجر لها ، إنما يؤاجر للسكنى . ولو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة يُمكَّن من ذلك إن كان فى السواد - خارج المصر- لأن عامة سكانها أهل الذمة والروافض(2/463)
ذكر ذلك الكاسانى فى بدائع الصنائع "ج 4 ص 189 " وذكره ابن القيم فى زاد المعاد "ج 4 ص 2 5 2 ، 53 2 " .
=============
عورة المسلمة مع غير المسلمة (1)
نص السؤال
سئل : هل يجوز للمرأة المسلمة أن تظهر من جسمها شعرها وصدرها وذراعيها أمام غير المسلمة؟
نص الفتوى
أجاب : إذا كان الإسلام قد أباح التعامل مع غير المسلمين بمثل قوله تعالى{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللّه يحب المقسطين } الممتحنة : 8 فإن لهذا التعامل حدودا لا يجوز الخروج عليها ، ومن ذلك تحديد العورة التى لا يجوز كشفها من المرأة المسلمة أمام امرأة غير مسلمة مهما كانت العلاقة بينهما فهى معها كالرجل الأجنبى
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 44)-عورة المسلمة مع غير المسلمة -المفتي - عطية صقر .مايو 1997(2/464)
يقول القرطبى فى تفسيره "ج 12 ص 233" : لا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها أمام امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها ، فذلك قوله تعالى {أو ما ملكت أيمانهن } النور: 31 وكان ابن جريج وعبادة بن نُسى وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ، ويتأولون {أو نسائهن } يعنى المسلمات ، وقال عبادة بن نُسَىٍّ : وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى عبيدة بن الجراح : أنه بلغنى أن نساء أهل الذمة دخلن الحمامات مع نساء المسلمين ، فامنع من ذلك وحل دونه ، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة -ما يعرى منها وينكشف- قال : فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال : أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه : وقال ابن عباس رضى اللّه عنهما : لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها ، وفى هذه المسألة خلاف ، فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها ، وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الكتاب وأهل الكفر لما ذكرنا .
============
العلاقة بين المسلم و غيره (1)
نص السؤال
ما هى حدود المعاملة بين المسلم وغيره أو كيف نظم الإسلام العلاقة عند اختلاف الأديان ؟ .
نص الفتوى
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 111)-العلاقة بين المسلم و غيره -المفتي - عطية صقر .مايو 1997(2/465)
من المعلوم أن الناس مختلفون فى الرأى والعقيدة والسلوك بحكم طبيعتهم البشرية التى تخطىء وتصيب ، قال تعالى { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } هود : 118 ، 119 ، وقد أمدهم اللَّه بهدى من عنده عرَّفهم فيه الخير ودعاهم إليه وعرفهم فيه الشر وحذرهم منه ، وقال لآدم ومن معه حين أهبطهم إلى الأرض { فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} طه : 123 ، وأرسل إليهم الرسل تترى لينبهوهم إلى هذه الحقيقة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، حتى جاء خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فأكد ما دعوا إليه من العقائد الأساسية ، وبيَّن أنه ليس غريبا عنهم فى هذه الدعوة ، وقرر وجوب الإيمان بهم جميعا { لا نفرق بين أحد من رسله } البقرة : 136 ، . وكانت دعوة الإسلام عامة غير خاصة بزمان أو مكان ، فهى لكل الناس ، سواء منهم من كان على دين سابق ومن ليس على دين ، قال تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاَخرة من الخاسرين } آل عمران : 85، وكان عرض الدعوة على ضوء قوله تعالى { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} آل عمران : 20 ، فليس هناك إكراه ، لأن العقائد لا تغرس إلا بالاقتناع ، وما على الرسول إلا البلاغ { وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، الكهف : 28، { لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى} البقرة : 256، وحينما أرسل الرسول الكتب لدعوة الملوك والرؤساء عرض عليهم الإيمان ولم يلزمهم به ، فإن أسلموا فبها ، وإن أبوا طلب منهم الاعتراف بالوضع الجديد للإسلام وعدم التعدى عليه ، ففى بعض الكتب { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } آل عمران(2/466)
: 64، وعندما خرجت قوافل الدعوة ومرت على جماعة عرضت عليهم الإسلام ، فإن أسلموا فبها ، وإلا طلبوا منهم عدم التعرض لمسيرتهم وتركوهم وما يدينون ، وتعهدوا بحمايتهم وضمان حريتهم لقاء مقابل رمزى يطلق عليه اسم الجزية، وهؤلاء معاهَدون ، فإن تعرضوا للمسلمين كانوا حربيين ، يقاتلون ليفسحوا لهم الطريق ، فإذا انتشر الإسلام فى إقليم أو دار أو جماعة وبقى بعضهم على دينه كانوا ذميين ، لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات الاجتماعية مثل من يعيشون معهم من المسلمين .
يتبين من هذا أن غير المسلمين ثلاثة أصناف ، صنف محارب ، وضنف معاهد، وصنف ذمى، والمحارب لا نبدؤه بحرب ولكن نرد عليه إن حاربنا ، وحربه ضرورة تقدر بقدرها قال تعالى { وقاتلوا فى سبيل اللَّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، إن اللَّه لا يحب المعتدين } البقرة : 190 ، وقال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين للَّه ، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } البقرة : 193، . وهؤلاء تحرم مودتهم وموالاتهم ضد المسلمين كما قال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق } الممتحنة : 1 ، وقال أيضا { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللَّه فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم اللَّه نفسه وإلى اللّه المصير } آل عمران : 28، .
والمعاهد من لم يقبل الإسلام وتعهد بعدم حرب المسلمين ، وهؤلاء يحترم عهدهم ، لا يحاربون إلا إذا نكثوا العهد ، قال تعالى { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } . التوبة : 7 ، وقال تعالى { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } التوبة : 12 .(2/467)
وحذر النبى صلى الله عليه وسلم من الغدر بهذا العهد وأمر المسلمين باحترامه ، وهو الذى ردَّ أبا جندل وقد فر هاربا من أهل مكة وأسلم ، لأن العهد فى الحديبية كان يقضى برده ، وقال فى ذلك : " نفى لهم بعهدهم ونستعين اللَّه عليهم " وقال مثل ذلك فى أبى بصير، وقال فى احترام العهد " من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة لما رواه أبو داود، وعهد عمر لأهل إيلياء معروف ، وفيه الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وعدم إكراههم على الدين وعدم الإضرار بهم .
والذمى هو من عاش بين المسلمين . فهو مواطن معهم ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، ولا يأس بالتعاون مع الذميين على الخير ومن برهم ومجاملتهم فى الحدود المشروعة ، كما كان اليهود فى المدينة أيام النبى صلى الله عليه وسلم ، والمعاهدة معهم معروفة .
وفى هولاء وغيرهم من المعاهدين جاء الحديث الذى رواه البغوى " إن اللّه لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذى فرض عليهم " وفيهم أيضا يقول اللَّه سبحانه { لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن اللّه يحب المقسطين * إنما ينهاكم اللّه عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } الممتحنة : 8 ، 9 .(2/468)
والنبى صلى الله عليه وسلم تعامل مع اليهود واقترض منهم الطعام ، ولم يرض للمسلم أن يتعدى على اليهودى الذى فضَّل موسى عليه ، ونهى عن تفضيله على الأنبياء ، مع أنه أفضلهم ، وذلك منعا للفتنة . وقال فى حديث رواه مسلم " الأنبياء إخوة من عَلاَّت ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه ليس بينى وبينه نبى " ورأى عمر يهوديا ضريرا يسأل ، فجعل له من بيت المال ما يكفيه ، وكتب للولاة بمعونة الذميين الفقراء ، وكانت هذه المعاملة لغير المسلمين من منطلق أن الإسلام دين السلام ، لا يبدأ أحدا بحرب ما دام مسالما ، قال { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللَّه } الأنفال : 61 .
وبخصوص أهل الكتاب من اليهود والنصارى أباح التزوج من نسائهم وأكل ذبائحهم ولا يقال : إن أخذ الجزية من أهل الذمة ظلم لهم أو جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية ، فإنها تقابل الزكاة التى فرضت على المسلمين ، وكلتاهما لمصلحة المواطنين جميعا ، وهى مفروضة بنسب بسيطة على الذكور القادرين فقط . وهناك حوادث كثيرة فى أيام الرسول وخلفائه ، ونصوص وتشريعات كثيرة فى القرآن والسنة تدل على العدل والإنصاف والرحمة والسلام فى تعامل المسلمين مع غيرهم ، وضعت فيها تآليف خاصة . جاء فى كتب الأحكام السلطانية للماوردى "ص 145 " أن عقد الجزية مع الذميين يشترط فيه شرطان ، أحدهما مستحق والاَخر مستحب ، وذكر أن المستحق فيه ستة شروط :
أحدها : ألا يذكروا كتاب اللَّه تعالى بطعن فيه ولا تحريف له .
والثانى : ألا يذكروا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتكذيب له ولا ازدراء .
والثالث : ألا يذكروا دين الإسلام بذم له ولا قدح فيه . والرابع : ألا يصيبوا مسلمة بزنا ولا باسم نكاح . والخامس : ألا يفتنوا مسلما عن دينه ولا يتعرضوا لماله ولا لدينه .(2/469)
والسادس : ألا يعينوا أهل الحرب ولا يودوا أغنياءهم ، فهذه حقوق ملتزمة فتلزمهم بغير شرط ، وإنما تشترط إشعاراً لهم وتأكيداً لتغليظ العهد عليهم ، ويكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم . وتحدث الماوردى عن الأمور المستحبة التى تتعلق بالملابس والأبنية والنواقيس والمجاهرة بالمعاصى ، وما يتعلق بالموتى ووسائل ، الانتقال ، وقال إنها لا تلزم حتى تشترط ، ولا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم ، لكن يؤدبون عليها زجرا ، ولا يؤدبون إن لم تشترط ، ثم تحدث عن كنائسهم إنشاءً أو تعميرا ، ولو نقضوا العهد لم يستبح بذلك قتلهم ولا غنم أموالهم ولا سبى ذراريهم ما لم يقاتلوا ، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشرك ، فإن لم يخرجوا طوعا أخرجوا كرها . وجاء فى كتاب " غذاء الألباب للسفارينى "ج 1 ص 12 كلام طويل عن التعامل معهم وموقف أحمد بن حنبل منهم لا داعى لذكره فيرجع إليه من شاء . إن عقد الذمة يجوز مع من يعيشون معنا فى بلاد الإسلام ، كما يجوز مع من لا يقيمون فيها، فقد عقد الرسول عقدا مع نصارى نجران مع بقائهم فى أماكنهم وديارهم دون أن يكون معهم أحد من المسلمين .
================
بيوت العبادة لغير المسلمين فى بلاد الإسلام (1)
نص السؤال
سئل : ما حكم الدين فى بناء بيوت العبادة لغير المسلمين فى بلاد الإسلام ؟
نص الفتوى
أجاب : روى أحمد وأبو داود عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" لا تصلح قبلتان فى أرض ، وليس على مسلم جزية" قال الشوكانى " نيل الأوطارج 8 ص 64 " : سكت عنه أبو داود ، ورجال إسناده موثقون . وقال المنذرى : أخرجه الترمذى ، وذكر أنه مرسل ، لكن له شواهد كثيرة . قال صاحب المنتقى بعد إيراد هذا الحديث : وقد احتج به على سقوط الجزية بالإسلام ، وعلى المنع من إحداث بيعة أو كنيسة .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 374) -المفتي - عطية صقر .-مايو 1997(2/470)
1- وروى ابن عدى عن عمر بن الخطاب عن النبى صلى الله عليه وسلم" لا تبنى كنيسة فى الإسلام و لا يجدد ما خرب منها " .
2- وروى البيهقى عن ابن عباس قال : كل مصر مصَّره المسلمون لاتبنى فيه بيعة و لا كنيسة و لا يضرب فيه ناقوس و لا يباع فيه لحم خنزير. وهو ضعيف .
3- أخرج البيهقى : كتب إلينا عمر: أدبوا الخيل ، ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب ولاتجاوركم الخنازير. وسنده ضعيف .
4- جاء فى كتاب " الإقناع "للخطيب وحاشية عوض عليه (ج 2 ص 265، 66 2) فى فقه الشافعية : أنه يمنع أهل الذمة من إحداث كنيسة وبيعة وصومعة للرهبان فى بلد أحدثنا5 كبغداد والقاهرة [المسماة بمصر الاَن ] أو أسلم أهله عليه كالمدينة الشريفة واليمن ، لما روى أنه صلى الله عليه و سلم قال " لا تبنى كنيسة فى الإسلام " ولأن إحداث ذلك معصية، فلا يجوز فى دار الإسلام . فإن بنوا ذلك هدم ، سواء شرط عليهم أم لا .
ولا يحدثون ذلك فى بلدة فتحت عنوة كمصر [ وهى مصر القديمة ] وأصبهان ، لأن المسلمين ملكوها بالاستيلاء، فيمتنع جعلها كنيسة، وكما لا يجوز إحداثها لا تجوز إعادتها إذا انهدمت ، ولا يقرُّون على كنيسة كانت فيه [ أى فيما فتح عنوة ] لما مر .
ولو فتحنا البلد صلحا كبيت المقدس بشرط كون الأرض لنا وشرط إسكانهم فيها بخراج أو إبقاء الكنائس أو إحداثها جاز، لأنه إذا جاز الصلح على أن كل البلد لهم فعلى بعضه أولى، فلو أطلق الصلح ولم يذكر فيه إبقاء الكنائس ولا عدمه فالأصح المنع من إبقائها ، فيهدم ما فيها من الكنائس ، لأن إطلاق اللفظ يقتض صيرورة جميع البلد لنا .
أو بشرط الأرض لهم ويؤدون خراجها قررت كنائسهم ، لأنها ملكهم ولهم الإحداث فى الأصح .(2/471)
2- وجاء فى تفسير القرطبى(ج 12 ص 70)وهو مالكى المذهب ، فى المسألة الخامسة ، قال ابن خويزمنداد : تضمنت هذه الآية - وهى آية { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع . . } [ الحج : 40 ] المنع من هدم كنائس أهل الذمة وبيعهم وبيوت نيرانهم ، ولا يتركون أن يحدثوا ما لم يكن ، ولا يزيدون فى البنيان لا سعة ولا ارتفاعا ، ولا ينبغى للمسلمين أن يدخلوها ولا يصلوا فيها، ومتى أحدثوا زيادة وجب نقضها، وينقض ما وجد فى بلاد الحرب من البيع والكنائس ، وإنما لم بنقض ما فى بلاد الإسلام لأهل الذمة ، لأنها جرت مجرى بيوتهم وأموالهم التى عاهدوا عليها فى الصيانة ، ولا يجوز أن يمكنوا من الزيادة لأن فى ذلك إظهار أسباب الكفر .
3- وجاء فى كتاب المغنى (ج . 1 ص 609) لابن قدامة الحنبلى :
فى أقسام أمصار المسلمين الثلاثة :
أحدها : ما مصَّره المسلمون ، كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط ، فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعة ولا مجتمع لصلاتهم ، ولا يجوز صلحهم على ذلك ، بدليل ما رواه أحمد عن ابن عباس : أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا، و لا يشربوا فيه خمرا، ولا يتخذوا فيه خنزيرا . . . وما وجد فى هذه البلاد من البيع والكنائس مثل كنيسة الروم فى بغداد فهذه كانت فى قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه .
والقسم الثانى : ما فتحه المسلمون عنوة ، فلا يجوز إحداث شىء من ذلك فيه ، لأنها صارت ملكا للمسلمين ، وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان : أحدهما يجب هدمه وتحرم تبقيته ، والثانى يجوز، لأن حديث ابن عباس يقول : أيما مصر مصَّرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما فى عهدهم ، ولأن الصحابة فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا من الكنائس ، ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع فى البلاد التى فتحت عنوة . ومعلوم أنها ما أحدثت ، فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت .(2/472)
وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ألا يهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار، ولأن الإجماع قد حصل على ذلك ، فإنها موجودة فى بلد المسلمين من غير نكير .
الثالث : ما فتح صلحا وهو نوعان ، أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها، فلهم إحداث ما يحتاجون فيها، لأن الدار لهم ، الثانى أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية إلينا ، فالحكم فى البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم ، من إحداث ذلك وعمارته ، لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم ، ويكون موضع الكنائس والبيع معنا ، والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضى الله عنه ، ويشترط عليهم الشروط المذكورة فى كتاب عبد الرحمن بن غنم : ألا يحدثوا بيعة ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاَّية .
وإن وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذمة فهم على ما فى كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها . وما وجد فى بلاد المسلمين من الكنائس والبيع فهى على ما كانت عليه فى زمن فاتحيها ومن بعدهم وكل موضع قلنا يجوز إقرارها لم يجز هدمها، ولهم رمُّ ما تشعث منها وإصلاحها، لأن المنع من ذلك يفضى إلى خرابها وذهابها ، فجرى مجرى هدمها ، وإن وقعت كلها لم يجز بناؤها ، وهو قول بعض أصحاب الشافعى ، وعن أحمد أنه يجوز، وهو قول أبى حنيفة والشافعى ، لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ، ولأن استدامتها جائزة، وبناؤها كاستدامتها . وحمل الخلال قول أحمد : لهم أن يبنوا ما انهدم منها ، أى إذا انهدم بعضها ، ومنعه من بناء ما أنهدم ، على ما إذا انهدمت كلها ، فجمع بين الروايتين .(2/473)
4- وجاء فى كتاب " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعى ج 3ص 279" : ولا تحدث بيعة ولا كنيسة فى دارنا ، لقوله عليه الصلاة والسلام " لا خصاء فى الإسلام ولا كنيسة " والمراد بالنهى عن الكنيسة إحداثها ، أى لا تحدث فى دار الإسلام كنيسة فى موضع لم تكن فيه ، ويعاد المنهدم من الكنائس والبيع القديمة ، لأنه جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بترك الكنائس فى أمصار المسلمين ولا يقوم البناء دائما ، فكان دليلا على جواز الإعادة ، ولأن الإمام لما أقرهم عهد إليهم الإعادة لأن الأبنية لا تبقى دائما ، ولا يمكنون من فعلها فى موضع آخر، لأنه إحداث فى ذلك الموضع حقيقة . . . وهذا فى الأمصار دون القرى، لأن الأمصار هى التى تقام فيها شعائر الإسلام . فلا يعارض بإظهار ما يخالفها . ولهذا يمنعون من بيع الخمر والخنازير وضرب الناقوس خارج الكنيسة فى الأمصار لما قلنا . ولا يمنعون من ذلك فى قرية لا تقام فيها الجمع والحدود وإن كان فيها عدد كثير، لأن شعائر الإسلام فيها غير ظاهرة ، وقيل يمنعون فى كل موضع لم تشع فيه شعائرهم ، لأن فى القرى بعض الشعائر، فلا تعارض بإظهار ما يخالفها من شعائر الكفر. والمروى عن أبى حنيفة كان فى قرى الكوفة ، لأن أكثر أهلها أهل الذمة . وفى أرض العرب يمنعون من ذلك كله ولا يدخلون فيها الخمر والخنازير .
وفى الهامش لشهاب الدين أحمد الشلبى " ص 280" قال فى الفتاوى الصغرى : إذا أرادوا إحداث البيع والكنائس فى الأمصار يمنعون بالإجماع ، وأما فى السواد ذكر فى العشر والخراج أنهم يمنعون ، وفى الإجارات أنهم لا يمنعون .(2/474)
واختلف المشايخ فيه ، قال مشايخ بلخ : يمنع . وقال الفضلى ومشايخ بخارى : لا يمنع . وذكر السرخسى فى باب إجارة اسور والبيوت من شرح الإجارات : الأصح عندى أنهم يمنعون عن ذلك فى السواد . وذكر هو فى السير الكبير فقال : إن كانت قرية غالب أهلها أهل الذمة لا يمنعون ، وأما القرية التى سكنها المسلمون اختلف المشايخ فيها على نحو ما ذكرنا .
وهل تهدم البيع القديمة فى السواد؟ على الروايات كلها لا، أما فى الأمصار ذكر فى الإجارات أنها لا تهدم البيع القديمة بل تترك ، وذكر فى العشر والخراج أنها تهدم . اهـ .
==============
التفرقة العنصرية (1)
نص السؤال
سئل : ما معنى التفرقة العنصرية وما موقف الإسلام منها ؟
نص الفتوى
أجاب : الإجابة على السؤال تتناول عدة نقاط منها :
1 ـ مفهوم التفرقة العنصرية :
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 382)-التفرقة العنصرية -المفتي عطية صقر . مايو 1997(2/475)
يقصد بالتفرقة العنصرية فى العرف الحديث التمييز بين الأجناس فى القوانين والمعاملات ، على أساس الدم وا المتعلقة بتكوين الجسم البشرى . وما يتبع ذلك من الحياة الفكرية ومظاهر السلوك والاجتماع . لقد صنَّف ال العلوم الإنسانية الأجناس البشرية إلى جماعات تجمع بين كل منها خصائص ومميزات طبيعية متوارثة فى مجموعها مجال للاختلاف البسيط بين أفرادها ، ومن أبرز هذه الخصائص لون البشرة وشكل الجمجمة ، وملامح الوجه وطول القامة ، وقالوا : إن هذه الطبيعية يتبعها اختلاف فى المواهب العقلية والقوى النفسية وما إليها ورأى بعض هؤلاء أن تقسيم البشر إلى أجناس يرجع إلى الدم نفسه على خلاف فيما بينهم على مقدار نسبة ما يوجد من دم الآباء والأجداد فى الإنسان حتى ينسب إلى هذا الجنس ، وعلى أساس هذا التقسيم العنصري قرر الباحثون أن هناك امتيازا لبعض الأ بعضهم الآخر ، يحق للأجناس العالية أن تكون لها قوانين وأن تعامل معاملة خاصة ، بخلاف الأجناس الأخرى التى لا ينبغى أن تدخل معها فى هذه القوانين وتلك المعاملات .
هذا هو مفهوم التفرقة العنصرية فى العرف الحديث ، والهدف منه ، و سيأتى بيان بطلان الأساس الذى قسموا عل وزيف ما يهدفون إليه من أغراض .
2 ـ التفرقة فى النظم القديمة :
إن فكرة التمييز بوجه عام بين بنى الإنسان فكرة قديمة ، ضرورة اختلاف الناس بعضهم عن بعض فى القوة الجسم العقلية والمظاهر المادية ، والتى كان من أثرها استعلاء بعضهم على بعض ، واستغلال القوى منهم للضعيف وتح الفقير ، وسيطرة العالم على الجاهل ، والتى كان من أكبر مظاهرها الرق(2/476)
( أ ) ففى الهند مثلا كانت كتبهم المقدسة تقرر التفاضل بين الناس بحسب عناصرهم التى خلقوا منها فى زعمهم " خلق فصيلة البرهميين من فمه ، وهم أشرف المخلوقات ولهم أرقى المناصب الدينية ، وخلق فصيلة الكشتريين أ ذراعه ، وهم الذين يتولون الوظائف الحربية ، وخلق فصيلة الفيشائيين أو الفاشا من فخذه ، وهم الذين يقومو ، وخلق فصيلة السود رائيين والمنبوذين من قدمه ، وهؤلاء لهم وظيفة واحدة هى خدمة الطبقات السابقة .
( ب ) وكان اليونان يعتقدون أنهم شعب مختار ، خلقوا من عناصر تختلف عن العناصر التى خلقت منها الشعوب الأخرى ، التى كانوا يطلقون عليها اسم " البربر "وقد قرر أرسطو فى كتابه "السياسة " أن الآلهة خلقت فصيلتين من الأناسى ، فصيلة زودتها بالعقل والإرادة ، وهى اليونان ، وقد فطرتها على هذا التكوين الكامل لتكون خليفتها فى الأرض ، وسيدة على سائر الخلق ، وفصيلة لم تزودها إلا بقوة الجسم وما يتصل اتصالا مباشرا به ، وهم البرابرة أى ما عدا اليونان من بنى آدم ، وقد فطروا على هذا التقويم الناقص ليكونوا عبيدا مسخرين للفصيلة المختارة المصطفاة وكانوا يقرون الرق الذى يقول فيه أرسطو: إن الرقيق آلة ذو روح ، أو متاع تقوم به الحياة ، فهم لا يدخلونه فى عداد المخلوقات الإنسانية .
( ج ) وكان الرومان يعتقدون كما يعتقد اليونان أنهم سادة العالم ، وان غيرهم بر ابره خدم لهم ، وكانت قوانينهم تقر الرق ، وتعامل الرقيق على أنه متاع ، مدعين أن استعباده رحمة به من القتل الذى تتعرض له الحيوانات ، وإلى جانب الاسترقاق بالحروب كانوا يسترقون الفقير إذا عجز عن أداء الدين ، ولم تكن للرقيق حقوق قانونية ولا مدنية ، و لا يستطيع أن يقاضى سيده أو معاملته ، بل كان لسيده الحق فى قتله دون مجازاة ، ولم يخفف من حدة هذه المعاملة الدين المسيحى الذى اعت(2/477)
( د ) والعرب فى الجاهلية كانوا يعيشون على التفاخر بالأحساب والأنساب ، ويعتقدون أنهم أفضل من غيرهم ا يطلقون عليهم اسم العجم ، ولعل ذلك كان أساسه اعتزاز العربى بلغته الفصيحة التى لا يوجد لها مثيل فى العالم .
وكانوا بناء على ذلك يكرهون أن يتلوث دمهم العربى النقى بدم غيرهم عن طريق الزواج ، ويأنفون أن يزوجوا ب قبائلهم ، كباهلة ، وسلول ـ إلى أعجمى حتى لو كان كسرى نفسه ، وقد خطب كسرى أبرويز بنت النعمان بن المنذ النعمان مصاهرته ، مع أنه كان أحد ولاته ، وكانت حرب طاحنة بين الفرس والعرب ، تكتلت فيها قبائلهم ، من حرقة بنت النعمان أن يأخذها كسرى ، وانتهت المعركة بانتصار العرب فى موقعة ( ذى قار ) . وكان العرب يستخ فى الأعمال المنزلية وفى التجارة ، بل كان يمارس معهم الحرب أحيانا ، وإذا أعجبوا به أعتقوه وجعلوه أحد 3 ـ التفرقة عند اليهود و المسيحيين :
( أ ) لقد ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار ، وأن الإله الذى يعبدونه لا ينبغى أن يكون معبودا لغيرهم كانوا يطلقون عليهم أمبين ، قال تعالى : {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه } ، فكان رد ال من خلقه لا يفضل أحد على أحد إلا بالعمل فقال تعالى :{قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر ويعذب من يشاء } [المائدة : 18 ] وكانوا يعتقدون أن غيرهم من الأميبن ليست لهم حقوق كحقوقهم ، كما حكى ا بقوله : {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك بلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى ال الكذب وهم يعلمون }[آل عمران : 75] .
وكانوا يبيحون استرقاق من عداهم عند العجز عن الوفاء بالدين ، وما يزال شعور التعالى والتعصب العنصرى موجودًا لديهم حتى الآن ، و كانت قمته هى الصهيونية بمظاهرها و أساليبها المعروفة التى تتنافى مع الكرامة الإنسانية .(2/478)
( ب ) والمسيحية أقرت الرق كما أقرته اليهودية ، وقد جاء فى المعجم الكبير للقرن التاسع عشر (( لاروس ) الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم ، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ، ويسلمو فيه : الخلاصة أن الدين المسيحى ارتضى الاسترقاق تماما إلى يومنا هذا ، ويتعذر عك الإنسان أن يثبت ـ أنه كما أثبت ذلك أيضا ( قاموس الكتاب المقدس ) للدكتور جورج يوسف .
وظل الرق معترفا به بين المسيحيين ، وكثر كثرة فاحشة بعد اكتشاف أمريكا وجلب الرقيق من أفريقيا للعمل ب الاتجار على أشده بين الدول الاستعمارية ، يمارسه ملوكها وكبار رجالها ، مع قسوة بالغة العنف ، برروها ب المقدسة ، وصدرت قوانين تنص على احتقار الجنس الأسود وإهدار كرامته ، وكان مفكر وهم ينادون بذلك ، كما ج ( روح القوالين ) حيث قال مؤلفه ( مونتيسكيو ) الفرنسى فى الفصل الخامس منه : إن شعوب أوروبا بعد ما أبا أمريكا الأصليين ، وهم الهنود الحمر ،لم تر بُدًّا من استعمار شعوب أفريقيا ، لكى تستخدمها فى استغلال فإن هذه الشعوب سود البشرة من أقدامهم إلى رءوسهم ولا يمكن أن يتصور أحد أن الله ـ وهو ذو الحكمة البا خلق روحا ـ وعلى الأخص روحا طيبة ـ فى أجسام حالكة السواد .
و على الرغم من إبطاله قانونا فإن الدول المسيحية ما زالت تمارسه بلون آخر هو الاستعمار والتفرقة العنصرية على ما سيأتى بيانه .
4 ـ العلم و التفرقة العنصرية :(2/479)
إن تقسيم البشر إلى أجناس على أساس الدم أو التكوين الطبيعى للجسم قد قرر العلماء المنصفون أخيرا أنه تقسيم باطل ، فإن مظاهر التقدم والرقى الموجودة عند بعض الجماعات لا يرجع سببها إلى ذلك ، وإنما يرجع إلى عوامل من البيئة الطبيعية والظروف السياسية والأوضاع الاقتصادية والأجواء الثقافية ، وقرروا أنه لو وضع شخصان من جنسين مختلفين فى بيئة حضارية وثقافية واجتماعية ، واحدة ما كان هناك فرق يذكر بينهما فى الفكر والسلوك ، وكم تقدم أفراد من أناس ملونة على أفراد من البيض فى الجامعات وفى النشاط الاجتماعي العام ، وذلك عندما تهيأت لهم الظروف ا من الناس ، ومن هنا لا تكون وراثة الخصائص البيولوجية مانعة من التقدم والحضارة عندما تتوافر الظروف للت كان هناك تخلف حضاري عند سلالة من السلالات فمرده إلى العوامل الطبيعية والاقتصادية والثقافية والسياسي وقد بحث العلماء بنوع خاص فى عنصرية اليهود ، فأكدوا أن الموجودين منهم الآن ، وهم حوالى خمسة عشر مليون كله، ليسوا من عنصر واحد بحكم اختلاطهم بالأجناس الأخرى طوعا أو كرها ، وقد تحدث البحاثة " بيتار " عن ذ أن الإسرائيليين يكونون جماعات دينية واجتماعية قوية النفوذ وثيقة التضامن ، غير أنها متباينة العناصر إ الإسرائيليين الخلص الذين هم من أصل آشورى برأسه المستطيل عددهم محدود جدا ، كما قرر ذلك أيضا " هاتزجو كتابه " أصول الأجناس فى التاريخ الأوروبى " وأكده أيضا " كوماس " أستاذ التاريخ الطبيعى للأجناس البشري الوطنية بمكسيكو "انظر رسالة الدكتور العمرى فى التفرقة العنصرية ، ومجلة العربى أكتوبر1970 " .
5 ـ الاهتمام بالأبحاث العنصرية :(2/480)
إن الاهتمام بالبحث فى الأجناس وخصائصها ومميزاتها لم يأخذ شكلا واضحا إلا فى العصور المتأخرة ، حين غلب الأمم القوية نزعة الاستعمار والاستغلال للأمم الضعيفة المتخلفة ، أرادت به الدعاية لجنس معيَّن ، أو لف طريقها التحكم فى الأجناس الأخرى ، وكثيرا ما لجأت هذه الأفكار إلى الدين تستمد منه تأييدا لها ، كالصهي شعب الله المختار . ولقد ظهرت هذه النغمة بالذات فى أوروبا فى العصر الحديث فبعد أن كانت دولها لا تفرق وغير مسيحى ، وبعد أن كان يفاخر بعضها البعض الآخر بالأخلاق والآثار أصبحت تتحدث عن الأجناس وخصائصها ، بين جنس وآخر تبعا لهذه الخصائص ، كما يقول المؤرخ " توينبى " ويرجع ظهور هذه النغمة فى أوروبا إلى أسباب منها :
( أ ) النزعة الاستعمارية التى تبرر نقاء الجنس الأبيض الأوروبى وزعامته لبقية الأجناس ، ووصايته عليها ، كما مرت موجة الاستعمار الأوربى للشعوب الأخرى .
( ب ) النزعة القومة المعتدة بجنسها ، والداعية إلى وحدة شعوبها التى تنتمى إلى جنس واحد . وفى ظل هذه النزعة أيضا سمعنا تمسك الشعب الألمانى بفكرة نقاء أصله وسلالته الآرية ، وبخاصة بعد قيام الاتحاد الألمانى فى أعقاب الحرب السبعينية بين بروسيا وفرنسا ، وجاءت نداءات : ألمانيا فوق الجميع ، وقول غليون الثانى :
إنه منتدب من الله لنصرة الألمان على سائر شعوب أوروبا ، وكذلك رأينا فى الشرق الجنس الأصفر اليابانى يعتز بنفسه أيضا وينادى :
آسيا للآسيويين ، ورأينا الإنجليز أيضا ينادون بفكرة سيادة الإنجلوسكسون وتعاليهم على سكان أوروبا ما عد ( ج ) الانقلاب الصناعى والحاجة إلى الأيدى العاملة فى المصانع و سوق الآلاف من العمال لخدمة الرأسماليي الأجناس الأخرى والأمم المختلفة ، وإعيائهم أجورا قليلة دون اعتراف لهم بحقوق تحفظ كرامتهم .
( د ) اكتشاف أمريكا والحاجة إلى استغلال خيراتها ، الأمر الذى خلق تجارة الرقيق وجلبهم من أفريقيا للعم مصانعها .(2/481)
6 ـ اثار النزعة العنصرية :
لقد سخر المستعمرون والمستغلون علماء هم لتبرير نقاء الجنس الأبيض وإثبات خصائص للألوان و الأجناس ، فزع : هى : البيض والسود والصفر والحمر ، وأعلاها جميعا الجنس الأبيض ، وقد علمت أن العلماء المنصفين أثبتو الأجناس لم يعد لها وجود متميز الآن ، فقد تداخلت وتلاقت بعوامل مختلفة ، وانتقلت خصائص بعضها إلى البعض ولم يبق من الأجناس الصافية إلا قلة ضئيلة من الهنود الحمر ، وفى وسط أفريقيا وحوض الأمازون وبعض جزر ال أرض النار فى جنوبى قارتى العالم الجديد .
لقد قال المستعمرون : إن السود والهنود الحمر ليسوا من نسل آدم ، فروحهم مشتقة من أصل أقل من الإنسان ، وفى معمعة التطور الصناعى ومعاملة الطبقات العاملة نشأت نظرية " داروين " فى تطور النوع وبقاء الأصلح ، وسادت نظرية "مندل " فى الوراثة وظهرت مؤلفات كثيرة تبحث عن فكرة عدم المساواة بين الأجناس البشرية وعن سيادة الجنس الآرى ، وتكونت مدرسة لها نظرياتها تزعمها الكونت "جوبينو" الفرنسى وكذلك "فاجنر" الموسيقى الألمانى ، ومثله ( ستيوارت شامبرلين ) الإنجليزي ، وأيضا ( لوتروب ستودارد) الأمريكي ، وهؤلاء قالوا : إن الجنس الأبيض هو وحده منشى الحضارة ، وهو الجنس الآرى المنحدر من شمالي ال كما ظهرت نغمات : الشرق شرق ، والغرب غربب ، ولن يلتقيا .
مع هذا التزييف للحقائق العلمية والتحيز الظاهر فى الأحكام على الأجناس البشرية الذى كان أثرا من آثار ا ـ كانت هناك اثار واضحة تطبيقية لهذه النزعة ، من أهمها :
( أ ) استعمار البيض للملونين ، وكسبهم مزايا سياسية واقتصادية انتعشت بها أوروبا ، وفكت بها أزمتها ، وكثرت تبعا لذلك رءوس الأموال الأجنبية فى البلاد المستعمرة ، واستنزفت ثرواتها ، كما كان من لوازم الاستعمار تخصيص محاكم ومصحات ونواد وغير ذلك للسادة المستعمرين لا يتمتع بها الملونون .(2/482)
( ب ) احتقار البيض لغيرهم ، واستخدامهم المزرى لهم ، كما كان يحدث فى الهند ، فقد كان الإنجليزي يركب على ظهر الهندي ليستطيع أن يمتطى جواده ، وفى الصين عندما كان ي على جر العربة بالسائحين كالدابة سواء بسواء ، وقد كتبت لافتات على بعض الحدائق العامة فى شنغهاى مدينة الأجنبية عبارة ( محظور على الوطنيين والكلاب دخول هذا المكان ) .
( ج ) العزل الاجتماعي والسياسي لأهل البلاد ، وعدم تمكينهم من ممارسة نشاطهم فى هذه المجالات ، كما يظه جنوبى أفريقيا وروديسيا .
( د ) إبقاء الوطنيين على التأخر والجهل والانحطاط ، وذلك ليمكن للأجنبي التسلط عليهم ، فإن من المقرر ع تقدم الأهالى يخلق فرصة للمطالبة بالحرية والاستقلال ولا شك أن ذلك كله يهدد الأمن الداخلى للبلاد التى العنصرية ، ويزعرغ أركان السلام العالمى ويثير الفتن والحروب بين الدول .
7 ـ أمثلة من مظاهر العنصرية الحديثة :
على الرغم من إصدار القرارات ضد التفرقة العنصرية فى المؤتمرات الدولية المتعاقبة منذ مطلع القرن التاسع اتفاق عصبة الأمم سنة 1926 م ، الذى وقعه ثمان وثلاثون دولة ، وعلى الرغم من الإعلان العالمى لحقوق الإن الأمم المتحدة فى العاشر من ديسمبر سنة 1948 م فإن التفرقة العنصرية ما زالت تمارس فى بعض الدول الحديثة مظاهرها ما يوجد فى أمريكا و جنوبى أفريقيا .
( أ ) ففى أمريكا الآن حوالى عشرين مليونا من الملونين ، يقطن أكثرهم فى الولايات الجنوبية ، وقد قامت ح الشمال والجنوب من سنة 1860 إلى سنة1865 م بزعامة ( لنكولن ) صاحب فكرة تحرير العبيد ، وقد قتل بيد عنص اسمه ( بوث )فى14من أبريل سنة 1865 م كان الجنوب مصرا على الإبقاء على التفرقة العنصرية لضمان استخدام ا مزارعه ، وكان الشمال يصر على تحريره ليتمكن من الهجرة إلى الشمال ويعمل فى مصانعه ، ومن هنا يعرف أن ال هذه الحرب كان اقتصاديا استغلاليا وليس ثورة على الكرامة الإنسانية .(2/483)
وإذا كانت الحرب قد انتهت بتقرير المساواة فإن التفرقة ما زالت تمارس عمليا ومنصوصا عليها فى قوانين بع دستور ولاية (مسيسبى ) فى الفصل الثامن فى التربية والتعليم ( مادة 207 ) :
يراعى فى هذا الحقل أن يفصل بين أطفال الزنوج ، فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة .
وفى الفصل الرابع عشر ( أحكام عامة ) مادة 263 : أن زواج شخص أبيض من شخص زنجى يعد غير شرعي وباطلا ، بل جاء فى قانون هذه الولاية : أن الذى يطالب بالمساواة الاجتماعية والتزاوج بين البيض والسود ، بالطبع أو النشر أو أية وسيلة ، يعتبر عمله جرما يعاقب عليه القانون
وهذه التشريعات تطبق فى عدة ولايات أمريكية ، كما جاء فى تقرير قدم إلى الأمم المتحدة سنة 1947 ، تحت عن إلى العالم ) .
على أن الكنيسة نفسها شاركت فى إقرار هذا الظلم ، فإن للزنوج كنائس خاصة ، ولا يصح لهم أن يعبدوا ربهم فى كنائس البيض مع أن الذى خلقهم جميعا واحد وهو الله سبحانه .
وقد جاء فى كتاب ( مصرع الديموقراطية فى العالم الجديد) الذى نشرته دار العلم للملايين فى بيروت كثير من تدل على تمكن النزعة العنصرية من نفوس الأمريكيين .
وقد تأسست فى الجنوب جمعية ( كلوكلوكس كلان ) لإرهاب الملونين ، وانتشرت فى جميع أنحاء الولايات المتحدة قائمة على أنقاض جميعة لإرهاب الكاثوليك ومنع هجرتهم .
وما زالت حوادث التفرقة فى أمريكا دليلا على أن هذا العالم الذى يدعى حماية الحريات يعيش على النفاق والخداع ، بعيدا عن مقررات الأمم المتحدة وعن قواعد الأخلاق والإنسانية .(2/484)
( ب ) وفى جنوبى أفريقيا تفرقة عنصرية صارخة ، فقد احتل الهولنديون المسمون ( البوير ) أى الفلاحين ، هذ وأسسوا مدينة رأس الرجاء الصالح سنة 1752 م ، ثم احتلها الإنجليز سنة 1806 م ، وطاردت البوير إلى ناتال والترنسفال ، وكان البوير قد جلبوا عمالا من الملايو والهند للزراعة ، ولا يعترفون لهم بحقوق كحقوقهم ، على هذه البلاد مكن رجالهم لاستعمارها حتى تكون اتحاد جنوبى أفريقيا سنة 1910 م بعد حروب طويلة كان من أ ( سيسل رودس ) الذى حاول خلق حياة أفضل للبيض على حساب الأفريقيين . فكانت التفرقة العنصرية التى لم تحا تعمل شيئا للحد منها .
لقد كان فى جنوبى أفريقيا حسب إحصاء سنة 1952 نحو 5 , 14 مليونا ، منهم 0 1 أفريقيون ، 3 أوربيون ، وملي الملونين ، ونصف مليون من الآسيويين . ومع ذلك يتحكم الأوربيون فى بقية السكان ، مطبقين للتفرقة العنصرية بأشد مظاهرها ، تلك المظاهر التى تبدو فى : تقييد حرية التعاقد على العمل للملونين ، وعدم زيارتهم للمدن إلا لمدة اثنتين وسبعين ساعة ، ووجوب الحصول على إذن فيما زاد على ذلك ، وتحديد عدد المقيمين منهم فى المدن ، ومنع دخول كنائس البيض ، وعدم علاجهم فى المصحات إلا عند الضرورة القصوى ، ومنع عقد اجتماع ع ، وتحريم امتلاكهم لعقارات البيض ، ومنع التزاوج بين الأوربيين وبينهم ، وتحديد عدد تلاميذ المدارس من ا من الحقوق السياسية .
وقد أثيرت مشكلة هذه التفرقة فى هيئة الأمم سنة 1947 م غير أن إنجلترا وأمريكا ضغطتا على الأعضاء فلم يفز القرار بالأغلبية المطلوبة ، وقامت عدة ثورات تطالب بمنع هذه ،ولكنها لم تجد أذنا مصغية .(2/485)
وفى أول أبريل سنة 1960 اصدر مجلس الأمن قرارا بدعوة جنوبى أفريقيا لنبذ سياسة التفرقة العنصرية كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحده فى 11 من أكتوبر سنة 961 1 قرارا بلومها ومع ذلك لم تستجب الحكومة لهذا كله وقد دعا إلى إصدار هذه القرارات توالى حوادث العنف وكان من أهمها حادث ( شارب فيل ) فى 21 من مارس 1960 عندما احتج الأفريقيون على نظام تصريحات المرور فأطلق البوليس النار عليهم وقتل منهم عددا كبيرا .
8 ـ الإسلام والتفرقة العنصرية :
لقد تحدثت لك طويلا عن هذه المشكلة بمفهومها ومظاهرها آثارها وتاريخها، لتكون على بينة من الأمر حين تحك نصوص دينك ، ولتعرف بوضوح أن الإسلام دين حق جاء بأرقي التشريعات لأرقى الأمم ولأرقى العصور ، ومن المعر صدق النتائج مرهون بصدق المقدمات ، وأن الحكم الصحيح يلزمه التصور الواضح للمحكوم عليه ، ولعلمى بأن الع يملك رصيدا ضخما من النصوص الدينية بخصوص هذه المشكلة . أحببت أن أعطيه بعض الرصيد من المعرفة العامة نح فلخصت له كثيرا من الأبحاث والكتب حول هذه القضية ، ولعل ما قدمته يكون فيه غناء له يوفر عليه جهدا كبير ولهذا سيكون حديثى عن موقف الإسلام من هذه القضية يميل إلى الاختصار والتركيز ، معتمدا على أن مراجع الب كثيرة ، والاطلاع عليها ميسر لكثير من المهتمين بهذا الموضوع ، وحديثي سيكون فى نقطتين هامتين ، إحداهما قام عليها موقف الإسلام من رفضه للتفرقة العنصرية ، وثانيتهما إيراد بعض المظاهر التطبيقية لهذه النظرة الإسلام إلى البشر على اختلاف مستوياتهم .
فلسفة الإسلام فى رفضه للتفرقة العنصرية :(2/486)
( أ ) قرر الإسلام أن الناس جميعا مخلوقون من أصل واحد هو التراب ، قال تعالى : {والله أنبتكم من الأرض نباتا . ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا }[نوح : 17 ، 18 ] وقال { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى }[طه : 55]وجعل حياتنا كلها ، ونشاطنا فى جميع المجالات مرتبطا بالأصل الذى خلقنا منه ، وهو الأرض ووثق صلتنا بكل ما يعيش عليها من حيوان ونبات ، فهى أمنا جميعا ، ونحن لها أبناء ، لم يخلق واحد منا من غير تربتها، ولم يعش واحد منا على غير خيرها ، ولم يدفن واحد منا فى غير بطنها .
( ب ) قرر الإسلام أيضا أننا مولودون من أب واحد هو آدم ، فنسبنا جميعا واحد ، ونحن إخوة فى هذه الأسرة الإنسانية الواسعة ، وإذا كان لبعض أفرادها نوع امتياز بلون أو شكل أو نشاط فذلك لا يغض من قيمته فى أنه يشكل ركنا أساسيا فى تالف هذه المجموعة وتضامنها فى عمارة الكون وتحقيق الخلافة فى الأرض ، كما يعبر بعض الكاتبين عن ذلك بقوله : الإنسانية كلها حديقة كبيرة تختلف ألوان أزهارها وما يفوح منها من عطر دون أن يكون للون أو رائحة انفصال عن الآخر فى إبراز بهجة هذه الحديقة ، قال تعالى { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام }[النساء : 1] وقال النبى صلى الله عليه و سلم " إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقى ، وف بنو آدم ، وآدم خلق من تراب " رواه أبو داود و الترمذى وحسنه .(2/487)
( ج ) قرر الإسلام أن الناس جميعا مخلوقون لخالق واحد هو الله سبحانه ، فمبدؤهم منه خلقا ، ونهايتهم إليه بعثا وحسابا { فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون }[يس : 83]{ الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء}[الروم : 40] ، فهو وحده المحيى والرازق والمميت والمعيد للنشور ، وكانا مدينون له بهذا كله وليس له شريك فيه ، سواء أقر بذلك المؤمنون أم جحد الملحدون ، ومن هنا لا يكون لأحد منا فضل على الآخر فى هذه النواحى الجامعة لمسيرة الحيلة من مبدئها إلى منتهاها وما يجرى بينهما .
( د ) جعل الإسلام الناس موزعين إلى مجموعات نسبية على الرغم من اتفاقهم فى هذه الأصول ، وذلك ليتميز بعضهم عن بعض ، ولتعرف الحقوق وتحدد الواجبات ، ويسهل تنظيم أمر الجماعة ، فهذا الإجراء تنظيمى بحت لا يمس جوهر المساواة الحقيقية فى الأصول المذكورة ، وهذا التوزيع نعمة من نعم النظام ، والنظام تستريح له النفس ويطمئن إليه القلب ، قال تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأن وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}[الحجرات : 13 ] كما أن تقسيم الشعوب إلى ألسنة وألوان دليل وتمام إرادته واختياره فى خلقه { ومن آياته خلق السموات و الأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآي }[الروم : 23] .(2/488)
( هـ ) جعل الإسلام هناك تفاوتا فى المعاملة بين البشر لا على الجنس أو اللون أو اللسان ، بل على أساس الكمالات النفسية والأخلاق الطيبة والعمل الصالح القائم على الإيمان بالله ، فالطبيعة البشرية واحدة ، وإن كان هناك اختلاف فهو لأمور عارضة كتأثير البيئة ، وعدم إتاحة الفرصة للبعض أن يكمل نفسه ، وحارب الإسلام أن يكون هناك تفاوت فى المعاملة على غير هذا الأساس كما تدل عليه آية الحجرات السابقة ، وحديث " من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه "رواه مسلم ، وحديث " ليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية " رواه أبو داود وحديث " الناس معادن خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا " رواه البخارى ومسلم .
والنصوص فى ذلك كثيرة تطبيقات عملية للقضاء على التفرقة العنصرية :
من التطبيقات العملية لجعل التفضيل بين الناس على أساس المزايا الدينية والخلقية بعيدا عن اعتبار الجنس التوجه إليهم بالخطاب للقيام بالتكاليف الدينية ووقوفهم متساويين فى الصلاة أمام الله دون تمييز طبقى أ وأداؤهم لشعائر الحج مجردين عن كل مظهر من مظاهر التفرقة ، التى كان الناس على أساسها يفرقون بين قبيلة وقبيلة ، ومن ذلك وقوفهم جميعا بعرفة بعد أن كان بعضهم فى الجاهلية يقف فى المشعر الحرام . {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }[البقرة :199] ومنها أن أعظم المناصب الدينية فى المسجد النبوى كانت بين محمد القرشى وبلال الحبشى ، فالنبى للامامة وب ومنها قول النبى صلى الله عليه و سلم عن سلمان " سلمان منا أهل البيت " مع أنه فارسى ، لكن شرفه عمله و ، وذلك لما رأى المسلمون قوته فى حفر الخندق وقال المهاجرون : سلمان منا ، وقال الأنصار : سلمان منا ( ا المواهب ) .(2/489)
ولما ضرب مسلم مشركا يوم أحد وقال : خذها وأنا الغلام الفارسى ، نهاه النبى عن هذا القول الذى يشعر بالع وأرشده إلى قول مستمد من وحى الدين فقال له " هلا قلت : وأنا الغلام الأنصارى " رواه مسلم .
ومنها توليته زيد بن حارثة قيادة الجيش ، وكذلك تولية ابنه أسامة أيضا ، وفى جندهما كان خيار المسلمين من العرب ، وزيد كان رقيقا ثم أعتقه النبى وزوجه من زينب القرشية التى صارت بعد ذلك من امهات المؤمنين .
ومنها قوله " اسمعوا وأطيعوا وإن ولى عليكم عبد حبشى كأن رأسه زبيبة" رواه البخارى ، وتطبيقا لذلك قال عمر: والله لو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا ما جعلتها شورى ، أى لأسندت الخلافة إليه ، وسالم هذا كان مولى لأبى حذيفة ، وأمر أن يتولى الصلاة بالناس صهيب الرومى ، وكان صهيب عبدا أسر فى بلاد الروم ثم بيع فى بلاد العرب .
وتزوج بلال من أخت عبد الرحمن بن عوف وهى قرشية، وأعتق الحسين بن على جارية ثم تزوجها وعندما علم معاوية بذلك عاب عليه ، فرد عليه الحسين بقوله : قد رفع الله بالإسلام الخسيسة ووضع عنا به النقيصة، فلا لوم على امرىء مسلم إلا فى أمر مأثم وإنما اللوم لوم الجاهلية .
وقد كان أكثر العلماء الأفذاذ الذين خدموا الإنسانية من غير العرب ، ومن العناصر المختلفة والألوان المت فى بوتقته وأخرج منها نماذج موحدة للمسلم الكامل الذى يردد هذا ا لشعا ر :
أبى الإسلام لا أب لى سواه * إذا افتخروا بقيس أو تميم ( ذكر ابن الأثير فى كتابه الباعث الحثيث ) : روى مسلم أن عمر رضى الله عنه لما تلقاه نائب مكة أثناء الطريق فى حج أو عمرة قال له :
من استحلفت على أهل الوادى ؟ فقال : ابن أبزى ، قال ومن ابن أبزى قال رجل من الموالى ، قال عمر: أما إنى سمعت نبيكم صلى الله عليه و سلم يقول : "إن الله يرفع بهذا العل آخرين " .(2/490)
وذكر الزهرى أن هشام بن عبد الملك قال له : من يسود مكة ؟ فقلت : عطاء ، قال فأهل اليمن ؟ قلت : طاوس ، قال : فأهل الجزيرة؟ قلت : ميمون بن مهران . قال : فأهل خراسان قلمت : الضحاك بن مزاحم ، قال : فأهل البصره ؟ قلت . الحسن بن أبى الحسن . قال :
فأهل الكوفة؟ قلت : إبراهيم النخعى وذكر أنه كان يقوله له عند كل واحد : أمن العرب أم من الموالى؟ فيقول : من الموالى . فلما انتهى قال : يا زهرى ، والله لتسودن الموالى على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب من تحتها .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو أمر الله ودينه ، فمن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط .
وأخبار المساواة فى الحقوق والواجبات والمعاملة وأمام القضاء كثيرة مشهورة ، من أبرزها حادث المخزومية التى أراد أسامة أن يتشفع فى إسقاط حد الشرقة عنها فغضب النبى صلى الله عليه و سلم وقال " إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت يدها " رواه البخارى ومسلم .
ومن الأحاديث الواردة فى الأخوة الإسلامية الجامعة "المسلم أخو المسلم " رواه مسلم ، وحديث " المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه .(2/491)
حتى إن اختلاف الدين لم يكن مانعا من تحقيق المساواة ونبذ التفرقة ، فهناك رابطة إنسانية عامة تعلو على {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله }[الممتحنة : 8 ] وقد تولى هؤلاء مناصب عدة فى الدولة الإسلامية وأفاد المسلمون من علمهم وخبرتهم على ما كتب التاريخ ، وقد ورد أن النبى صلى الله عليه و سلم قام لجنازة ولما قيل له : إنها جنازة يهودى قال :" رواه البخارى ومسلم ، ولأجل أن يحمل الناس على نبذ العصبية المقيتة، وعلى التزام العدل فى المعاملة حتى العقيدة قرر أن الأنبياء إخوة من علات ، ومنع تفضيله على أحد من الأنبياء ، على الرغم من أنه سيد ولد آد القرآن وجوب الإيمان بجميع الأنبياء والرسل دون تفريق بين أحد منهم .
ـ نظرة الإسلام إلى الرق يظهر موقف الإسلام جليا فى محاربته للتفرقة العنصرية فى تشريعه الحكيم لإبطال الرق يتمثل فى ثلاث إجراءات رئيسية وهى :
( أ ) تضييق باب الرق الذى كان متسعا جدا قبل الإسلام ، من حرب وخطف وشراء وغير ذلك ، وحصره فى مورد واحد هو الأسر فى الحروب المشروعة إذا رأى الإمام أن يضرب الرق على الأسرى ، والأسر مبدأ معمول به قديما وحديثا ، وله أثر وتبادل الأسرى ولم يكن الشراء طريقا لامتلاك الرقيق إلا فى عهد معاوية كما قال المحققون .
( ب ) فتح الأبواب الواسعة لتحرير الرقيق ، وإيجاد منافذ كثيرة للانطلاق من الرق إلى الحرية ، فحثت النصوص على العتق فى كثير من الأحاديث ، وجعلنه كفارة لكثير من الأخطاء ، كالقتل الخطأ والإفطار فى رمضان والحنث فى اليمين والظهار وشجع على مكاتبة الرقيق وتيسير دفع ما يلزمه ، وأباح التسرى بالإماء دون تحديد بعدد، وليس هذا إطلاقا للمتعة الجنسية بل للحصول على حرية الإماء إذا حملن مسا السادة وولدن ، فإنهن يعتقن بعد موتهم ، وكذلك ليسرى الدم العربى إلى غيره من الأجناس الأخرى التى كان منها الأسرى .(2/492)
( ج ) الأمر بالإحسان إلى الرقيق حتى تحين الفرصة لعتقه ، والوصايا فى ذلك كثيرة يكفى منها مراعاة شعوره ، فلا يقال له : عبدى أو أمتى، بل يقال فتاى وفتاتى ، أو غلامى وج كما رواه مسلم ، وإكرامه فى مطعمه وملبسه كما فى الحديث " هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فم أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، ويلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ،فإن كلفتموهم فأعينوهم " روا ، وذلك عندما سمع النبى أبا ذر يعير رجلا بأمه السوداء فقال له : " إنك امرؤ فيك جاهلية " كذلك نهى النبى صلى الله عليه و سلم عن ظلمه فقد سمع أبا م غلامه فقال له : " الله أقدر منك عليه " فكفَّر أبو مسعود عن ذنبه بعتقه ، وقال النبى صلى الله عليه و س تفعل للفحتك النار" رواه مسلم .
هذا ، وإذا كان الإسلام يضرب أروع الأمثلة فى احترامه لآدمية الإنسان عن طريق الإحسان إلى الرقيق ، فإنه من غير شك يراعى هذا التكريم مع من لا يملك الإنسان رقبته ، بل يملك رعايته وتوجيهه لا غير، وذلك كحال الرعايا فى البلاد الإسلامية من الأديان المختلفة ، لقد قال عمر بن الخطاب فى توجيه عماله ، أى حكام البلاد المفتوحة : إنى لم أرسل إليكم عمالا ليضربوا أبش ليأخذوا اموالكم ، ولكن أرسلهم ليعلموكم دينكم وسنتكم ، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلى، فو الذى نفسى بيده لأقصنه منه ، وقد اقتص للقبطى من ابن عمرو بن العاص على ملأ من الناس ، وقال كلمته الخالدة :
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ " سيرة عمر لأبن الجوزى ص 67 ، 70" .
وكل ذلك من وحى وصية الإسلام بأهل الذمة ففى الحديث " من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " رواه أبو داود وقال أيضًا : " إن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذى فرض عليهم البغوى .(2/493)
10 ـ رد بعض الشبهات ( أ ) قد يقول قائل : إذا كان الإسلام ينبذ التفرقة العنصرية فلماذا توجد تفرقة فى معاملة بعض الناس ؛ كجعل نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين فى الميراث وجعل شهادته بشهادة امرأتين .
والجواب أن هذه التفرقة فى المعاملة ليست على أساس عنصرى مما يتعامل على أساسه المستعمرون اليوم ؛ وإنما هى لاعتبارات قائمة على المواهب والاستعدادات ، و الحياة البشرية لابد أن يكون فيها تفاوت فى ذلك لتترتب عليها اثار مناسبة لها وهذا هو مقتضى العدل ؛ قال تعالى : {أفنجعل المسلمين كالمجرمين .
ما لكم كيف تحكمون }[ القلم :35، 36 ] وقال { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض أم نجعل المتقين كالفجار }[ص : 28 ] وقال : {ولكل درجات مما عملوا } [الأحقاف : 19 ] وقال : {ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } [ النساء : 32 ] .
وبخصوص المثال السابق فى الميراث والشهادة بالنسبة للرجل والمرأة قال العلماء : إن الرجل هو الذى يتولى الإنفاق عليها من نصيبه وهو لا يمس نصيبها مطلقا فى هذا الشأن ؛ فهو محفوظ لها تتصرف به فى أمورها الخاصة كيف تشاء ة على أن إثبات حقها فى الميراث بوجه عام هو دليل مساواتها له فى مطلق الحق ؛ أما التفاوت فيه فهو أمر يقتضيه نظام الحياة ؛ وكون شهادتها على النصف من شهادة الرجل بين حكمته قول الله تعالى : {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}[البقرة : 282] ومراعاة طبيعتها البشرية أمر لا ب عليه ؛ كما لا يعاب به أحد ، على أن شهادتها فى بعض الأحيان هى المعتمدة دون الرجل كمسائل الرضاع والبكارة والعيوب الداخلية للمرأة .(2/494)
( ب ) وقد يقال أيضا ، إذا كان الإسلام لا يقر التفرقة العنصرية فلماذا رأينا بعض الولاة يخالفون ذلك ، كما حدث فى الدولة الأموية التى قلدت الوظائف الهامة للعرب دون العجم ، والجواب أن عمل هؤلاء لا يُعد تشريعا يناقض التشريع المعتبر فى مصادره المعروفة ، وقد تكون هناك ظروف جعلت هؤلاء الولاة يتخذون هذا الإجراء ، وذلك كعدم اطمئنان العرب إذ ذاك إلى العجم الداخلين فى الإسلام حديثًا ، والذين لم يزل الكثير منهم متأثرًا بمواريثه الدينية والسلوكية ، الأمر الذى جعل بعض الأفراد ينادى بما سمى باسم الشعوبية، وجاءت على أثر هذه الصيحات الدولة العباسية بجهود الفارسيين المتشيعين للبيت الهاشمى والناقمين على البيت الأموى .
ومهما يكن من شىء فإن هذه التصرفات السياسية موكولة إلى رأى القائمين بالأمر، وهى على كل حال لا تعرض النصوص الأصلية فى مقاومة التفرقة العنصرية ومن أراد التوسعة فليرجع إلى كتابنا " دراسات إسلامية لأهم القضايا المعاصره "
==============
القصاص من المسلم للكافر (1)
نص السؤال
سئل : لو قتل مسلم كافرا هل يقتص من المسلم ويقتل ؟
نص الفتوى
أجاب : يقول الله سبحانه فى شأن اليهود والتوراة {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} المائدة : 45 ويقول فى المسلمين {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} البقرة : 178 .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 286) -القصاص من المسلم للكافر المفتي عطية صقر . مايو 1997(2/495)
فالقصاص فى القتل مشروع فى الإسلام وقبل الإسلام ، مشروع بين أهل كل دين فيما بينهم ، النفس اليهودية بالنفس اليهودية ، والنفس المسلمة بالنفس المسلمة، أما إذا قتل مسلم شخصا غير مسلم فهل يقتص منه بالقتل ؟ يقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى وغيره عن على رضى الله عنه فى محتويات الصحيفة "لا يقتل مسلم بكافر" وفى رواية لأحمد والنسائى وأبى داود "ولا ذو عهد فى عهده" وروى أحمد وابن ماجه والترمذى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى ألا يقتل مسلم بكافر، وفى رواية ولا ذو عهد فى عهده . وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان رضى الله عنه فلم يقتله ، وغلَّظ عليه الدية، قال ابن حزم : هذا فى غاية الصحة، فلا صح عن أحد من الصحابة شىء غير هذا ، إلا ما رويناه عن عمر أنه كتب فى مثل ذلك أن يقاد به ، ثم ألحقه كتابا فقال : لا تقتلوه ولكن اعتقلوه "نيل الأوطار للشوكاني ج 7 ص 10 " قال الشوكاني "ص 11 " فيه دليل على أن المسلم لا يقتل بالكافر . أما الكافر الحربى فذلك إجماع كما حكاه صاحب البحر. أما الذمى فذهب الجمهور إليه ، لصدق اسم الكافر عليه . وذهب الشعبى والنخعى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقتل المسلم بالذمى . وفى هذا الاستدلال مناقشة .
فرأى الجمهور أقوى بدليل ما ذكره الشافعى فى "الأم" أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ذلك فى خطبة يوم الفتح بسبب القتيل الذى قتلته خزاعة وكان له عهد، فقال النبى صلى الله عليه وسلم "لو قتلت مسلما بكافر لقتلته به " وقال "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد فى عهده " فأشار بقوله "لا يقتل مسلم بكافر إلى تركه الاقتصاص من الخزاعى بالمعاهد الذى قتله ، وبقوله "ولا ذو عهد بعهده" إلى النهى عن الإقدام على ما فعله القاتل المذكور ، فيكون قوله "ولا فو عهد فى عهده" كلاما تاما لا يحتاج إلى تقدير .(2/496)
ومما استدل به الحنفية قوله تعالى {أن النفس بالنفس} فهو حكم عام بين كل نفسين ، ويرد عليه بأن هذا العموم الذى فى الآية مخصص بأحاديث الباب "عنوان الباب فى الكتاب" .
ومن أدلتهم أيضا حديث أن النبى صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد ، وقال "أنا أكرم من وفى بذمته" ويرد عليه بأنه حديث مرسل ، وفى سنده من هو ضعيف .
ومن أدلة الجمهور من القرآن قوله تعالى{ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} النساء : 141 وقوله {لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة} الحشر: 20 وكذلك من أدلتهم من السنة عدم القصاص من المسلم الذى لطم اليهودى القائل : لا والذى اصطفى موسى على البشر رواه مسلم وحديث "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه "وهو حديث فيه مقال ، لكنه علقه البخارى فى صحيحة
=============
نقل الخمر وأكل الطعام المصنوع بالنبيذ والزواج بالكنيسة (1)
نص السؤال
مسلم يريد بيان حكم الشرع فى الأمور الآتية : 1 - الدين الإسلامى حرم نقل الخمر، وجعل حامل الخمر مثل الشارب ، ولكن فى إيطاليا يختلف الوضع، فالشعب كله مسيحى فهم يحتسون الخمر - فهل يجوز للمسلم شرعا أن ينقل أو يحمل أو يوصل الخمر إليهم ليشربوها أم أنه يحرم على المسلم شرعا القيام بهذا العمل .
2 - بعض المأكولات فى إيطاليا تصنع بالنبيذ الأبيض ، وبعد وضعها على النار تزول صفة الكحول من النبيذ ، أى بعد الغليان على النار يصبح النبيذ غير ذى موضوع .
فهل يحرم على المسلم شرعا أن يأكل الطعام المصنوع بالنبيذ، والذى تزول منه صفة النبيذ بالغليان على النار أم أنه يجوز له شرعا تناول هذا الطعام وهل يحل شرعا أكل الخل الناتج عن صناعة النبيذ .
3 - فى إيطاليا يتم الزواج بالطريق المدنى، وهو جائز شرعا بعد شهادة اثنين من المسلمين على الزواج .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 1 / ص 413)-نقل الخمر وأكل الطعام المصنوع بالنبيذ والزواج بالكنيسة -المفتي محمد خاطر .5 فبراير 1978 م(2/497)
ولكن هناك بعض العائلات تصر على الزواج بالكنيسة، وذلك لإحلال البركة فى الزواج حسب اعتقادهم فهل دخول المسلم الكنيسة حرام شرعا، ويعتبر بذلك مرتدا عن الإسلام أم أن هذا جائز شرعا طالما أنه لم ينطق بأى كلمة صادرة من القسيس وطلب السائل بيان الحكم الشرعى فى هذه الأمور .
نص الفتوى
1 - عن السؤال الأول إذا كان حمل الخمر ونقلها وتوصيلها لأهل الذمة ( المسيحيين ) ليشربوها تعين طريقا لإعاشة المسلم ، ولم يكن له طريق سواها ولولاها لتضور جوعا وهلك - جاز له شرعا فى هذه الحالة فقط أن يحملها وينقلها ويوصلها للمسيحين ليشربوها - وذلك لأن الخمر مال متقوم فى حق غير المسلمين من المسيحيين واليهود، يجوز لهم بيعها وشراؤها فيما بينهم، لكن لا يحل للمسلم شرعا حملها ونقلها وتوصيلها لهم إلا للضرورة الملحة التى أسلفنا الإشارة إليها، تطبيقا لقاعدة الإسلام العامة ( الضرورات تبيح المحظورات ) .
2 - عن السؤال الثانى لا يجوز للمسلم شرعا أن يأكل الطعام المصنوع من النبيذ، وسواء أذهب منه الكحول بالغليان على النار أو لم يذهب، لأن النبيذ مثل الخمر النجسة المحرمة شرعا ، وبدخول النبيذ فى الطعام صار نجسا، ولا يحل للمسلم شرعا أن يتناول طعاما نجسا إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارا، بأن لم يكن هناك طعام سواه ولو لم يتناوله لمات جوعا، وفى غير حالة الاضطرار هذه لا يجوز شرعا أن يتناوله - أما الخل الناتج عن صناعة النبيذ فهو حلال شرعا، ويجوز للمسلم شربه وإدخاله فى الطعام لأن الفقهاء قالوا إن الخمر إذا تخللت طهرت بالتخليل وصارت حلالا شرعا - لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال ( خير خلكم خل خمركم ) .(2/498)
3 - عن السؤال الثالث إذا تم زواج المسلم بالمسيحية على الطريقة المدنية - بإيجاب وقبول وحضرة شاهدين مسلمين انعقد الزواج صحيحا شرعا أما إجراء العقد فى الكنيسة - فالمعروف أن الكنيسة لا تعقد إلا لمسيحيين من أهل طائفتها - فلا يصح للمسلم حينئذ أن يعقد زواجه هناك .
ومن هذا يعلم الجواب إذا كان الحال كما ذكر بالسؤال .
والله سبحانه وتعالى أعلم .
============
مطلقة الذمى وعدتها (1)
نص السؤال
من المواطن ج م ك بطلبه المقيد برقم 388 سنة 1965 م قال إنه مسيحى ومذهبه الروم الأرثوذكس وتزوج بامرأة مذهبها قبطية أرثوذكس بتاريخ 15/1/1939 .
ثم طلقها فى أبريل سنة 1964 وحكم لصالحه بالطلاق استئنافيا بتاريخ 21/4/1965 وطلب السائل ما إذا كان على المطلقة المذكورة عدة أم لا .
نص الفتوى
اختلف فقهاء الحنفية فى وجوب العدة على الذمية (مسيحية أو يهودية) إذا طلقها زوجها الذمى ولم تكن حاملا فقال الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه إذا كان فى ديانتهم أن لا عدة عليها فلا تجب عليها العدة .
لأن العدة فيها معنى العبادة والقربة ولا يمكن إيجابها حقا للزوج لأنه لا يعتقد بذلك، ولاحقا لله تعالى لأنهم غير مخاطبين بما هو عبادة أو قربة، وقد أمرنا بتركهم وما يدينون، وقال الصاحبان - أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى تجب عليها العدة، أن أهل الذمة قد التزموا أحكامنا بعقد الذمة، فيجب أن تسرى عليهم أحكامنا .
ويترتب على الخلاف فى وجوب العدة وعدم وجوبها فيما ذكر خلاف فى وجوب النفقة وعدم وجوبها - فمن قال بوجوب العدة يقول بوجوب النفقة فى مدتها - ومن قال بعدم وجبها لا يوجب النفقة .
والراجح قول الإمام وعليه متون الفقه .
وقد نقل صاحب تنقيح الفتاوى الحامدية عن جمال الإسلام أنه الصحيح والمعتمد عند فقهاء المذهب .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 2 / ص 100) -مطلقة الذمى وعدتها- المفتي أحمد هريدى .4 يولية 1965م(2/499)
فقد جاء فى تنقيح الحامدية (سئل) فى ذمية مات زوجها عنها وهى غير حامل، ومضى على موته أربعون يوما .
وهم لا يعتقدون العدة، فهل لا تعتد إذا اعتقدوا ذلك الجواب نعم لا تعتد إذا اعتقدوا ذلك، كما قيد به فى الواوالجية، لأمرنا بتركهم وما يعتقدون - وهذا عند أبى حنيفة رحمه الله تعالى قال جمال الإسلام فى شرحه وقال أبو يوسف ومحمد والشافعى عليها العدة والصحيح قوله .
واعتمده المحبوبى والنسفى وغيرهما ) وبقول الإمام نفتى - وإذن لا تجب العدة المطلقة فى حادثة السؤال، وبالتالى لاتجب لها نفقة عدة .
ومما ذكر يعلم الجواب عما جاء بالسؤال، والله أعلم .
=============
كيفية معاملة الكفار
عنوان الفتوى
... سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ...
اسم المفتى
رقم الفتوى... 3989 ...
تاريخ الفتوى على الموقع... 24/06/2004 ...
نص السؤال
أنا موظف في إحدى الشركات الأجنبية التي تعمل في مصر؛ فكل رؤسائي من الأجانب و لكن المشكلة أن كلهم من الكفار لا يؤمنون بوجود الله و يقولون نحن لسنا في حاجة إلى الله؛ و نحن نعمل في الصحراء وأقضي معهم تسعة ساعات يوميًا ؛ فأرجوكم دلوني كيف أتعامل معهم؟
نص الفتوى(2/500)
لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم ، لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال تعالى : {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع .وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق}
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعا في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به ، لأنه من باب التأليف على الإسلام ولكن إذا يأس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملون به . وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولا سيما كتاب ( أحكام أهل الذمة ) لابن القيم رحمه الله .
============
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم (1)
نص السؤال
عند بداية السنة الميلادية، إذا قلنا كل عام وأنتم بخير وهنئنا الأخرين ..هل هذا حلال أو حرام؟ علمًا أنه يوم ميلاد النبي عيسى بن مريم عليه السلام؟
نص الفتوى
الحمد لله
__________
(1) -( مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين 3/369 )(3/1)
تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق ، كما نقل ذلك ابن القيم - يرحمه الله - في كتاب ( أحكام أهل الذمة ) حيث قال : " وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم ، فيقول: عيد مبارك عليك ، أو تهْنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله ، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه ، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ، ولا يدري قبح ما فعل ، فمن هنّأ عبداً بمعصية أو بدعة ، أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه ." انتهى كلامه - يرحمه الله - .
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضى به لهم ، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه ، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنّئ بها غيره ، لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال الله تعالى : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } وقال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا .
وإذا هنؤنا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك لأنها ليست بأعياد لنا ، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى ، لأنها إما مبتدعة في دينهم وإما مشروعة لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى جميع الخلق ، وقال فيه : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } . وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام ، لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها .(3/2)
وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة ، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى ، أو أطباق الطعام ،أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من تشبّه بقوم فهو منهم } . قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه : ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) : " مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل ، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء " . انتهي كلامه يرحمه الله .
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو توددا أو حياء أو لغير ذلك من الأسباب لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم .
والله المسئول أن يعز المسلمين بدينهم ، ويرزقهم الثبات عليه ، وينصرهم على أعدائهم ، إنه قوي عزيز ..
=============
حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق (1)
نص السؤال
وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم؟
نص الفتوى
__________
(1) - مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 3 / ص 16)-(389) وسئل فضيلة الشيخ: عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم؟(3/3)
فأجاب قائلاً: لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم قال الله تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} . وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به، لأنه من باب التأليف على الإسلام ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به. وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولا سيما كتاب "أحكام أهل الذمة" لابن القيم - رحمه الله -.
==============
حكم رد السلام على الكافر (1)
نص السؤال
سئل فضيلة الشيخ: إذا سلم الكافر على المسلم فهل يرد عليه؟ وإذا مد يده للمصافحة فما الحكم؟ وكذلك خدمته بإعطائه الشاي وهو على الكرسي؟.
نص الفتوى
فأجاب فضيلته بقوله: إذا سلم الكافر على المسلم سلاماً بيناً واضحاً فقال: السلام عليكم، فإنك تقول: عليك السلام، لقوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} : أما إذا لم يكن بيناً واضحاً فإنك تقول: وعليك. وكذلك لو كان سلامه واضحاً يقول فيه : السام عليكم يعني الموت فإنه يقال: وعليك.
__________
(1) - مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين - (ج 3 / ص 21)-(395) سئل فضيلة الشيخ: إذا سلم الكافر على المسلم فهل يرد عليه؟ وإذا مد يده للمصافحة فما الحكم؟ وكذلك خدمته بإعطائه الشاي وهو على الكرسي؟.(3/4)
فالأقسام ثلاثة:
الأول: أن يقول بلفظ صريح : "السام عليكم". فيجاب: "وعليكم".
الثاني: أن نشك هل قال: "السام" أو قال: "السلام"، فيجاب: "وعليكم".
الثالث: أن يقول بلفظ صريح: "السلام عليكم". فيجاب: "عليكم السلام"؛ لقوله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}.
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالىـ: "فلو تحقق السامع أن الذي قال له: سلام عليكم لا شك فيه، فهل له أن يقول: وعليك السلام أو يقتصر على قوله: وعليك؟ فالذي تقتضيه الأدلة وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام، فإن هذا من باب العدل، والله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وقد قال تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها}. فندب إلى الفضل، وأوجب العدل، ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه، صلى الله عليه وسلم، إنما أمر بالاقتصار على قول الراد: وعليكم على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، ثم قال ابن القيم : والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه. قال الله تعالى: {وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} . فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: سلام عليكم ورحمة الله فالعدل في التحية أن يرد عليه نظير سلامه. أ.هـ. 200/1 أحكام أهل الذمة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم، فقولوا: وعليك". والسام هو الموت.
وإذا مد يده إليك للمصافحة فمد يدك إليه وإلا فلا تبدأه.
وأما خدمته بإعطائه الشاي وهو على الكرسي فمكروه، لكن ضع الفنجال على الماصه ولا حرج.
===========
لماذا لا يعيش المسلمون واليهود معا بسلام (1)
نص السؤال
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 393)-سؤال رقم 1098- هل يمكن أن يعيش المسلمون بسلام في فلسطين(3/5)
أتكلم راجياً التصحيح ، طبقاً للكتاب المقدس ( الإنجيل ) ليس هناك بلد يسمى إسرائيل ، فقط فلسطين ، وكلا الشعبين العربي واليهودي من نسل سيدنا إبراهيم ، وفي الحقيقة هم أخوة ، فلماذا لا يعيشون في انسجام في بلد يدعى فلسطين
نص الفتوى
الحمد لله يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلال الفقرات التالية : - لا شك أن نبي الله إبراهيم كان موحدا حنيفا و لم يك من المشركين الكافرين , واليهود و إن كانوا من نسل إبراهيم عليه السلام إلا أنهم خالفوا ملة إبراهيم فأشركوا بالله وزعموا أن عزيرا ابن الله وقالوا إن الله بخيل ويده مغلولة وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقالوا إن الله لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام تعب فاستراح يوم السبت - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - وشبّهوا في صفات الله وقتلوا الأنبياء .. إلخ انحرافاتهم . - فإذا تقررت هذه المفارقة و المخالفة فلا أخوة بين مؤمن موحد و بين كافر مشرك كما قال تعالى على لسان إبراهيم الخليل : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(4) .. لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(6) ، سورة الممتحنة ، وإذا تقررت هذه المفاصلة والعداوة فإن العداء والبراء وما يلزمه من جهاد لأعداء الله أمر لا انفكاك عنه ، فما دام أن سنة الله تعالى و حكمته(3/6)
قضت أن ثمة مؤمن و كافر . فلا بد من وجود هذه العداوة و ظهورها و لن تجد لسنة الله تبديلا . - ثم إنه لا يمكن أيضا الانسجام مع يهود غاصبين معتدين - آذوا وظلموا وعُرفوا بالغدر والخيانة والإفساد في الأرض قديما وحديثا - وبين أصحاب الأرض المسلمين الموحدين الذين قتل اليهود رجالهم وسجنوا أبناءهم وهدموا بيوتهم وغصبوا أرضهم وحاربوهم في أرزاقهم ، وأجروا التجارب الكيميائية والإشعاعية على سجنائهم واستأصلوا منهم أعضاء بشرية لمصلحة بعض المرضى اليهود .. إلى آخر أنواع الظلم والاضطهاد . - وبالإضافة إلى ذلك فاليهود أهل غدر وخيانة ، ولا يمكن الوثوق بهم إطلاقا ، وسلوكهم الحالي من الشواهد والأدلة على ذلك ، فهل هناك اتفاقية أو معاهدة عقدوها فوفّوا بها ، وهذا ليس باكتشاف أو مفاجأة للمسلم الذي يعرف ماذا قال الله في كتابه عن اليهود ، قال ربنا عزّ وجلّ : ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(100) سورة البقرة . - ثم لو رضي المسلمون أن يعيشوا مع اليهود سلميا فلمن سيكون الحكم ؟ إن من القواعد الإسلامية أنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى ، ومن شرط إقامة أهل الكتاب مع المسلمين في بلد المسلمين أن يلتزم اليهود أو النصارى بشروط أهل الذمّة مقابل الأمان والحماية التي يمنحها لهم المسلمون ، ومن أهم شروط أهل الذمة أن لا يُفشي الكتابيون شركهم وكفرهم في بلد المسلمين لا بالقول ولا بالفعل . - وحيث أن المسلمين واليهود كيانان متنافران ومتعاديان دينيا وعقديا فإنه لا يُمكن اجتماعهما معا إلا أن يرضخ أحدهما للآخر بالقوة بل إن اليهود الآن لا يسمحون للمسلمين بالبقاء ولو لم يقم المسلمون بأي عمل استفزازي ولذلك ينزعون ملكية أراضي المسلمين بالقوة ويبنون مستوطناتهم عليها ويريدون طرد المسلمين بأي طريقة وقد شرّدوا الملايين منهم إلى الدول المجاورة التي أقيم بها ما يُعرف بمخيمات اللاجئين(3/7)
الفلسطينيين . - وأخيرا فإن كون المسلمين الآن في مرحلة استضعاف وذلّ - بسبب تخلفهم عن دينهم - وكونهم لا يستطيعون قتال اليهود واسترجاع الأراضي المغتصبة وفرض أحكام الشريعة الإسلامية على أرض فلسطين فإن ذلك لا يعني أن الأمر سيستمر هكذا إلى نهاية الدنيا بل لا بدّ أن يتغيّر الحال ومن أدلة ذلك الخبر المستقبلي الذي أخبرنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد بالوحي من ربّه فلا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، قال عليه الصلاة والسلام : " تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ . " رواه مسلم 2921 والحديث في البخاري 2926 وفي رواية لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ . " رواه مسلم 2922 ونحن إذ نشكرك أيها السائل على رغبتك في معرفة الحقيقة وأدبك في السؤال فإننا ندعوك للإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فإنها - واللهِ - تنجيك وتنفعك وتحفظك في الدنيا ، وفي القبر بعد الموت ، وفي الآخرة يوم يقوم الحساب ، والله يوفقنا وإياك لكل خير
==============
حكم الزواج من غير المسلمة
عنوان الفتوى
... يوسف القرضاوي ...
اسم المفتى
رقم الفتوى... 20892 ...
تاريخ الفتوى على الموقع... 05/10/2004 ...
نص السؤال
هل يجوز للمسلم الزواج من مشركة أفيدونا مأجورين من القرآن والسنة؟
نص الفتوى(3/8)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
سئل الشيخ د/ يوسف عبد الله القرضاوي عن زواج المسلم بغير المسلمة فقال:
قد قدر لي أن أزور عددًا من أقطار أوروبا وأمريكا الشمالية، وأن ألتقي بعدد من أبناء المسلمين الذين يدرسون أو يُعلمون هناك، ويقيمون بتلك الديار إقامة مؤقتة أو مستقرة.
وكان مما سأل عنه الكثيرون: حكم الشرع في زواج الرجل المسلم من غير المسلمة وبخاصة المسيحية أو اليهودية، التي يعترف الإسلام بأصل دينها، ويسمي المؤمنين به " أهل الكتاب " ويجعل لهم من الحقوق والحرمات ما ليس لغيرهم.
ولبيان الحكم الشرعي في هذه القضية، يلزمنا أن نبين أصناف غير المسلمات وموقف الشريعة من كل منها . فهناك المشركة، وهناك الملحدة، وهناك المرتدة، وهناك الكتابية.
تحريم الزواج من المشركة:
فأما المشركة - والمراد بها: الوثنية - فالزواج منها حرام بنص القرآن الكريم . قال تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم) وقال تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) وسياق الآية والسورة كلها - سورة الممتحنة - وسبب نزولها يدل على أن المراد بالكوافر: المشركات: أعني الوثنيات.
والحكمة في هذا التحريم ظاهرة، وهي عدم إمكان التلاقي بين الإسلام والوثنية، فعقيدة التوحيد الخالص، تناقض عقيدة الشرك المحض، ثم إن الوثنية ليس لها كتاب سماوي معتبر، ولا نبي معترف به، فهي والإسلام على طرفي نقيض . ولهذا علل القرآن النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين بقوله: (أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) ولا تلاقي بين من يدعو إلى النار ومن يدعو إلى الجنة.
أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيان ؟ !
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان(3/9)
وهذا الحكم - منع الزواج من المشركات الوثنيات - ثابت بالنص، وبالإجماع أيضًا، فقد اتفق علماء الأمة على هذا التحريم، كما ذكر ابن رشد في بداية المجتهد وغيره.
بطلان الزواج من الملحدة:
وأعني بالملحدة: التي لا تؤمن بدين، ولا تقر بألوهية ولا نبوة ولا كتاب ولا آخرة، فهي أولى من المشركة بالتحريم، لأن المشركة تؤمن بوجود الله، وإن أشركت معه أندادًا أو آلهة أخرى أتخذتهم شفعاء يقربونها إلى الله زلفى فيما زعموا.
وقد حكى القرآن عن المشركين هذا في آيات كثيرة مثل: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن: الله)، (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى).
فإذا كانت هذه الوثنية المعترفة بالله في الجملة قد حرم نكاحها تحريما باتًا، فكيف بإنسانة مادية جاحدة، تنكر كل ما وراء المادة المتحيزة، وما بعد الطبيعة المحسوسة، ولا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالملائكة ولا الكتاب ولا النبيين ؟.
إن الزواج من هذه حرام بل باطل يقينًا.
وأبرز مثل لها: الشيوعية التي تؤمن بالفلسفة المادية، وتزعم أن الدين أفيون الشعوب، وتفسر ظهور الأديان تفسيرًا ماديًا، على أنها إفراز المجتمع، ومن آثار ما يسوده من أحوال الاقتصاد وعلاقات الإنتاج.
وإنما قلت: الشيوعية المصرة على شيوعيتها، لأن بعض المسلمين والمسلمات قد يعتنق هذا المذهب المادي، دون أن يسبر غوره، ويعرفه على حقيقته، وقد يخدع به حين يعرضه بعض دعاته على أنه إصلاح اقتصادي لا علاقة له بالعقائد والأديان . . . إلخ . فمثل هؤلاء يجب أن يزال عنهم اللبس، وتزاح الشبه، وتقام الحجج، ويوضح الطريق حتى يتبين الفرق بين الإيمان والكفر، والظلمات والنور، فمن أصر بعد ذلك على شيوعيته فهذا كافر مارق ولا كرامة، ويجب أن تجري عليه أحكام الكفار في الحياة وبعد الممات.
المرتدة:(3/10)
ومثل الملحدة: المرتدة عن الإسلام والعياذ بالله ونعني بالمرتدة والمرتد كل من كفر بعد إيمانه كفرًا مُخرجًا من الملة، سواء دخل في دين آخر أم لم يدخل في دين قط.
وسواء كان الدين الذي انتقل إليه كتابيًا أم غير كتابي . فيدخل في معنى المرتدين ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات، أو خرج من الإسلام ولم يدخل في شيء، بل ظل سائبًا بلا دين ولا مذهب.
والإسلام لا يُكره أحدًا على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المُكْرَه ولا يقبله، ولكن من دخل فيه بإرادته الحرة لم يجز له الخروج عنه.
وللردة أحكام بعضها يتعلق بالآخرة وبعضها بالدنيا.
فمما يتعلق بالآخرة: أن من مات على الردة فقد حبط كل ما قدمه من عمل صالح واستحق الخلود في النار، قال تعالى: (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
ومن أحكام الدنيا: أن المرتد لا يستحق معونة المجتمع الإسلامي ونصرته بوجه من الوجوه، ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة، لا ابتداء ولا بقاء، فمن تزوج مرتدة فنكاحه باطل، وإذا ارتدت بعد الزواج فرق بينهما حتما، وهذا حكم متفق عليه بين الفقهاء، سواء من قال منهم بقتل المرتد رجلاً كان أو امرأة وهم الجمهور، أم من جعل عقوبة المرأة المرتدة الحبس لا القتل، وهم الحنفية.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الحكم بالردة والكفر على مسلم هو غاية العقوبة . لهذا وجب التحري والاحتياط فيه، ما وجد إليه سبيل، حملاً لحال المسلم على الصلاح . وتحسينًا للظن به، والأصل هو الإسلام، فلا يخرج منه إلا بأمر قطعي، واليقين لا يزال بالشك.
بطلان الزواج من البهائية:(3/11)
والزواج من امرأة بهائية باطل، وذلك لأن البهائية إما مسلمة في الأصل، تركت دين الله الحنيف إلى هذا الدين المصطنع، فهي في هذه الحال مرتدة بيقين، وقد عرفنا حكم الزواج من المرتدة.
وسواء ارتدت بنفسها أم ارتدت تبعًا لأسرتها، أو ورثت هذه الردة عن أبيها أو جدها، فإن حكم الردة لا تفارقها.
وإما أن تكون غير مسلمة الأصل، بأن كانت مسيحية أو يهودية أو وثنية أو غيرها، فحكمها حكم المشركة، إذ لا يعترف الإسلام بأصل دينها، وسماوية كتابها، إذ من المعلوم بالضرورة أن كل نبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم مرفوضة، وكل كتاب بعد القرآن باطل، وكل من زعم أنه صاحب دين جديد بعد الإسلام فهو دجال مفتر على الله تعالى . فقد ختم الله النبوة، وأكمل الدين، وأتم النعمة: (ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين).
وإذا كان زواج المسلم من بهائية باطلاً بلا شك، فإن زواج المسلمة من رجل بهائي باطل من باب أولى، إذ لم تجز الشريعة للمسلمة أن تتزوج الكتابي، فكيف بمن لا كتاب له ؟.
ولهذا لا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم وبهائية أو بين مسلمة وبهائي، لا ابتداء ولا بقاء . وهو زواج باطل، ويجب التفريق بينهما حتمًا.
وهذا ما جرت عليه المحاكم الشرعية في مصر في أكثر من واقعة.
وللأستاذ المستشار علي علي منصور حكم في قضية من هذا النوع قضى فيه بالتفريق، بناء على حيثيات شرعية فقهية موثقة، وقد نشر في رسالة مستقلة، فجزاه الله خيرًا.
رأي جمهور المسلمين إباحة الزواج من الكتابية:
الأصل في الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور المسلمين هو الإباحة.(3/12)
فقد أحل الله لأهل الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ومصاهرتهم في آية واحدة من سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم . قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان).
رأى ابن عمر وبعض المجتهدين:
وخالف في ذلك من الصحابة عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما-، فلم ير الزواج من الكتابية مباحًا، فقد روى عنه البخاري: أنه كان إذا سُئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: إن الله حرم المشركات على المؤمنين، (يعني قوله تعالى: :. لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن") ولا أعلم من الإشراك شيئًا أكبر من أن تقول: " ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله ! ".
ومن العلماء من يحمل قول ابن عمر على كراهية الزواج من الكتابية لا التحريم ولكن العبارات المروية عنه تدل على ما هو أكثر من الكراهية.
وقد أخذ جماعة من الشيعة الإمامية بما ذهب إليه ابن عمر استدلالاً بعموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ولا تنكحوا المشركات) وبقوله في سورة الممتحنة: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر).
ترجيح رأي الجمهور:
والحق أن رأي الجمهور هو الصحيح، لوضوح آية المائدة في الدلالة على الزواج من الكتابيات . وهي من آخر ما نزل كما جاء في الحديث.
وأما قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات) وقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) فإما أن يقال: هذا عام خصصته سورة المائدة، أو يقال: إن كلمة " المشركات " لا تتناول أهل الكتاب أصلاً في لغة القرآن، ولهذا يعطف أحدهما على الآخر كما في سورة البقرة: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين . .)، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . . . .).(3/13)
وفي سورة الحج يقول تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا، إن الله يفصل بينهم يوم القيامة...) فجعل الذين أشركوا صنفًا متميزًا عن باقي الأصناف، ويعني بهم الوثنيين . والمراد بـ " الكوافر " في آية الممتحنة: المشركات، كما يدل على ذلك سياق السورة.
قيود يجب مراعاتها عند الزواج من الكتابية:
وإذن يكون الراجح ما بيناه من أن الأصل هو إباحة زواج المسلم من الكتابية، ترغيبًا لها في الإسلام، وتقريبًا بين المسلمين وأهل الكتاب، وتوسيعًا لدائرة التسامح والألفة وحسن العشرة بين الفريقين.
ولكن هذا الأصل معتبر بعدة قيود، يجب ألا نغفلها:
القيد الأول:
الاستيثاق من كونها " كتابية " بمعنى أنها تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية، فهي مؤمنة - في الجملة - بالله ورسالاته والدار الآخرة . وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء.
ومن المعلوم في الغرب الآن أنه ليست كل فتاة تولد من أبوين مسيحيين مثلاً مسيحية . ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة . فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساسًا في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها.
القيد الثاني:
أن تكون عفيفة محصنة فإن الله لم يبح كل كتابية، بل قيد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان، حيث قال: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) قال ابن كثير: والظاهر أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنى، كما في الآية الأخرى: (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) . وهذا ما أختاره . فلا يجوز للمسلم بحال أن يتزوج من فتاة تسلم زمامها لأي رجل، بل يجب أن تكون مستقيمة نظيفة بعيدة عن الشبهات.(3/14)
وهذا ما اختاره ابن كثير، وذكر أنه رأى الجمهور، وقال " وهو الأشبه، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية، وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: حشفًا وسوء كيله ! ". (تفسير ابن كثير، جـ 2، والله أعلم . 20 ط. الحلبي).
وقد جاء عن الإمام الحسن البصري أن رجلاً سأله: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب ؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب ؛ وقد أكثر الله المسلمات ؟ ! فإن كان ولابد فاعلاً . فليعمد إليها حصانًا (أي محصنة) غير مسافحة . قال الرجل: وما المسافحة ! ؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته.
ولا ريب أن هذا الصنف من النساء في المجتمعات الغربية في عصرنا يعتبر شيئًا نادرًا بل شاذًا، كما تدل عليه كتابات الغربيين وتقاريرهم وإحصاءاتهم أنفسهم، وما نسميه نحن البكارة والعفة والإحصان والشرف ونحو ذلك، ليس له أية قيمة اجتماعية عندهم، والفتاة التي لا صديق لها تُعيَّر من أترابها، بل من أهلها وأقرب الناس إليها.
القيد الثالث:
ألا تكون من قوم يعادون المسلمين ويحاربونهم . ولهذا فرق جماعة من الفقهاء بين الذمية والحربية . فأباحوا الزواج من الأولى، ومنعوا الثانية . وقد جاء هذا عن ابن عباس فقال: من نساء أهل الكتاب من يحل لنا، ومنهم من لا يحل لنا . ثم قرأ: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية . . . .) فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
وقد ذكر هذا القول لإبراهيم النخعي - أحد فقهاء الكوفة وأئمتها - فأعجبه (تفسير الطبري، جـ9، ص. 788 بتحقيق شاكر). وفي مصنف عبد الرزاق عن قتادة قال: لا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد . وعن علي رضي الله عنه بنحوه.
وعن ابن جريج قال: بلغني ألا تنكح امرأة من أهل الكتاب إلا في عهد.(3/15)
وفي مجموع الإمام زيد عن علي: أنه كره نكاح أهل الحرب . قال الشارح في " الروض النضير ": والمراد بالكراهة: التحريم ؛ لأنهم ليسوا من أهل ذمة المسلمين . قال: وقال قوم بكراهته ولم يحرموه، لعموم قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) فغلبوا الكتاب على الدار (الروض النضير، جـ 4، ص. 270 - 274). يعني: دار الإسلام . والذي من أهل دار الإسلام بخلاف غيره من أهل الكتاب.
ولا ريب أن لرأي ابن عباس وجاهته ورجحانه لمن يتأمل، فقد جعل الله المصاهرة من أقوى الروابط بين البشر، وهي تلي رابطة النسب والدم، ولهذا قال سبحانه: (وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا) (سورة الفرقان). فكيف تتحقق هذه الرابطة بين المسلمين وبين قوم يحادونهم ويحاربونهم وكيف يسوغ للمسلم أن يصهر إليهم، فيصبح منهم أجداد أولاده وجداتهم وأخوالهم وخالاتهم ؟ فضلاً عن أن تكون زوجه وربة داره وأم أولاد منهم ؟ وكيف يؤمن أن تطلع على عورات المسلمين وتخبر بها قومها ؟.
ولا غرو أن رأينا العلامة أبا بكر الرازي الحنفي يميل إلى تأييد رأي ابن عباس، محتجًا له بقوله تعالى: (لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) والزواج يوجب المودة، يقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة) (سورة الروم).
قال: فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورًا ؛ لأن قوله تعالى: (يوادون من حاد الله ورسوله) إنما يقع على أهل الحرب، لأنهم في حد غير حدنا. (أحكام القرآن، جـ 2، ص. 397، 398).
يؤيد ذلك قوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون). (سورة الممتحنة: 9).
وهل هناك تول لهؤلاء أكثر من أن يزوج إليهم، وتصبح الواحدة من نسائهم جزءا من أسرته بل العمود الفقري في الأسرة ؟(3/16)
وبناء على هذا لا يجوز لمسلم في عصرنا أن يتزوج يهودية، ما دامت الحرب قائمة بيننا وبين إسرائيل، ولا قيمة لما يقال من التفرقة بين اليهودية والصهيونية، فالواقع أن كل يهودي صهيوني، لأن المكونات العقلية والنفسية للصهيونية إنما مصدرها التوراة وملحقاتها وشروحها والتلمود . . . وكل امرأة يهودية إنما هي جندية - بروحها - في جيش إسرائيل.
القيد الرابع:
ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح، فإن استعمال المباحات كلها مقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضررًا عامًا، منعت منعًا عامًا، أو ضررًا خاصًا منعت منعًا خاصًا، وكلما عظم الضرر تأكد المنع والتحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار ".
وهذا الحديث يمثل قاعدة شرعية قطعية من قواعد الشرع، لأنه - وإن كان بلفظه حديث آحاد - مأخوذ من حيث المعنى من نصوص وأحكام جزئية جمة من القرآن والسنة، تفيد اليقين والقطع.
ومن هنا كانت سلطة ولي الأمر الشرعي في تقييد بعض المباحات إذا خشي من إطلاق استخدامها أو تناولها ضررًا معينًا.
والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة منها:
1 - أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج، وذلك أن عدد النساء غالبًا ما يكون مثل عدد الرجال أو أكثر، وعدد الصالحات للزواج منهن أكبر قطعًا من عدد القادرين على أعباء الزواج من الرجال.
فإذا أصبح التزوج بغير المسلمات ظاهرة اجتماعية مألوفة، فإن مثل عددهن من بنات المسلمين سيحرمن من الزواج، ولا سيما أن تعدد الزوجات في عصرنا أصبح أمرًا نادرًا، بل شاذًا، ومن المقرر المعلوم بالضرورة أن المسلمة لا يحل لها أن تتزوج إلا مسلمًا، فلا حل لهذه المعادلة إلا سد باب الزواج من غير المسلمات إذا خيف على المسلمات.(3/17)
وإذا كان المسلمون في بلد ما، يمثلون أقلية محدودة، مثل بعض الجاليات في أوروبا وأمريكا، وبعض الأقليات في آسيا وأفريقية، فمنطق الشريعة وروحها يقتضي تحريم زواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، وإلا كانت النتيجة ألا يجد بنات المسلمين - أو عدد كبير منهن - رجلاً مسلما يتقدم للزواج منهن، وحينئذ تتعرض المرأة المسلمة لأحد أمور ثلاث:
( أ ) إما الزواج من غير مسلم، وهذا باطل في الإسلام.
( ب ) وإما الانحراف، والسير في طريق الرذيلة . وهذا من كبائر الإثم.
(جـ) وإما عيشة الحرمان الدائم من حياة الزوجية والأمومة.
وكل هذا مما لا يرضاه الإسلام . وهو نتيجة حتمية لزواج الرجال المسلمين من غير المسلمات، مع منع المسلمة من التزوج بغير المسلم.
هذا الضرر الذي نبهنا عليه هو الذي خافه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - فيما رواه الإمام محمد بن الحسن - في كتابه " الآثار، حين بلغه أن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان تزوج - وهو بالمدائن - امرأة يهودية، فكتب إليه عمر مرة أخرى: أعزم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها، فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون، فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن، وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين ". (انظر كتابنا: شريعة الإسلام: خلودها وصلاحها للتطبيق في كل زمان ومكان، ص39، ط. أولى).(3/18)
2 - وقد ذكر الإمام سعيد بن منصور في سننه قصة زواج حذيفة هذه، ولكنه ذكر تعليلاً آخر لمنع عمر لحذيفة . فبعد أن نفى حرمة هذا الزواج قال: " ولكني خشيت أن تعاطوا المومسات منهن ". (المصدر السابق ص40، وكذلك ذكره الطبري، جـ 4، ص366، 367، ط. المعارف: وتكلم عنه ابن كثير، جـ 1، ص257 وصحح إسناده . وهناك علة ثالثة ذكرها عبد الرزاق في " المصنف " عن سعيد بن المسيب عن عمر: أنه عزم عليه أن يفارقها، خشية أن يقيس الناس المجوسية على الكتابية ويتزوجوا المجوس اقتداء بحذيفة، جاهلين الرخصة التي كانت من الله في الكتابيات خاصة . وانظر المصنف، جـ 7، ص178).
ولا مانع أن يكون كل من العلتين مقصودًا لعمر رضي الله عنه.
فهو يخشى - من ناحية - كساد سوق الفتيات المسلمات، أو كثير منهن . وفي ذلك فتنة أي فتنة.
ومن ناحية أخرى يخشى أن يتساهل بعض الناس في شرط الإحصان - العفاف - الذي قيد به القرآن حل الزواج منهن، حتى يتعاطوا زواج الفاجرات والمومسات، وكلتاهما مفسدة ينبغي أن تمنع قبل وقوعها، عملاً بسد الذرائع . ولعل هذا نفسه ما جعل عمر يعزم على طلحة بن عبيد الله إلا طلق امرأة كتابية تزوجها، وكانت بنت عظيم يهود، كما في مصنف عبد الرزاق. (المصنف، جـ 7 ص177 - 178).(3/19)
3 - إن الزواج من غير المسلمة إذا كانت أجنبية غريبة عن الوطن واللغة والثقافة والتقاليد - مثل زواج العربي والشرقي من الأوروبيات والأمريكيات النصرانيات - يمثل خطرًا آخر يحس به كل من يدرس هذه الظاهرة بعمق وإنصاف، بل يراه مجسدًا ماثلاً للعيان . فكثيرًا ما يذهب بعض أبناء العرب المسلمين إلى أوروبا وأمريكا للدراسة في جامعاتها، أو للتدريب في مصانعها، أو للعمل في مؤسساتها، وقد يمتد به الزمن هناك إلى سنوات ثم يعود أحدهم يصحب زوجة أجنبية، دينها غير دينه، ولغتها غير لغته، وجنسها غير جنسه، وتقاليدها غير تقاليده، ومفاهيمها غير مفاهيمه، أو على الأقل غير تقاليد قومه ومفاهيمهم، فإذا رضيت أن تعيش في وطنه - وكثيرًا ما لا ترضى - وقدر لأحد من أبويه أو إخوانه أو أقاربه، أن يزوره في بيته، وجد نفسه غريبًا . فالبيت بمادياته ومعنوياته أمريكي الطابع أو أوربيه في كل شيء، وهو بيت " المدام " وليس بيت صاحبنا العربي المسلم، هي القوامة عليه، وليس هو القوام عليها . ويعود أهل الرجل إلى قريتهم أو مدينتهم بالأسى والمرارة، وقد أحسوا بأنهم فقدوا ابنهم وهو على قيد الحياة !!
وتشتد المصيبة حين يولد لهما أطفال، فهم يشبون - غالبًا - على ما تريد الأم، لا على ما يريد الأب إن كانت له إرادة، فهم أدنى إليها، ألصق بها، وأعمق تأثرًا بها، وخصوصًا إذا ولدوا في أرضها وبين قومها هي، وهنا ينشأ هؤلاء الأولاد على دين الأم وعلى احترام قيمها ومفاهيمها وتقاليدها . وحتى لو بقوا على دين الأب، فإنما يبقون عليه اسمًا وصورة، لا حقيقة وفعلاً . ومعنى هذا أننا نخسر هؤلاء الناشئة دينيًا وقوميًا إن لم نخسر آباءهم أيضًا.(3/20)
وهذا الصنف أهون شرًا من صنف آخر يتزوج الأجنبية، ثم يستقر ويبقى معها في وطنها وبين قومها، بحيث يندمج فيهم شيئًا، ولا يكاد يذكر دينه وأهله ووطنه وأمته . أما أولاده فهم ينشأون أوروبيين أو أمريكيين، إن لم يكن في الوجوه والأسماء، ففي الفكر والخلق والسلوك، وربما في الاعتقاد أيضًا، وربما فقدوا الوجه والاسم كذلك، فلم يبق لهم شيء يذكرهم بأنهم انحدروا من أصول عربية أو إسلامية.
ومن أجل هذه المفسدة، نرى كثيرًا من الدول تحرم على سفرائها، وكذلك ضباط جيشها، أن يتزوجوا أجنبيات، بناء على مصالح واعتبارات وطنية وقومية.
تنبيه مهم:
وفي ختام هذا البحث، أرى لزامًا علي - في ضوء الظروف والملابسات التي تتغير الفتوى بتغيرها - أن أنبه على أمر لا يغيب عن ذوي البصائر، وهو في نظري على غاية من الأهمية، وهو:
إن الإسلام حين رخص في الزواج من الكتابيات راعى أمرين:
1 - أن الكتابية ذات دين سماوي في الأصل، فهي تشترك مع المسلم في الإيمان وبرسالاته، وبالدار الآخرة وبالقيم الأخلاقية، والمثل الروحية التي توارثتها الإنسانية عن النبوات، وذلك في الجملة لا في التفصيل طبعًا . وهذا يجعل المسافة بينها وبين الإسلام قريبة، لأنه يعترف بأصل دينه، ويقر بأصوله في الجملة، ويزيد عليها ويتممها بكل نافع وجديد.
2 - إن المرأة الكتابية - وهذا شأنها - إذا عاشت في ظل زوج مسلم ملتزم بالإسلام، وتحت سلطان مجتمع مسلم مستمسك بشرائع الإسلام - تصبح في دور المتأثر لا المؤثر والقابل لا الفاعل - فالمتوقع منها والمرجو لها أن تدخل في الإسلام اعتقادًا وعملاً . فإذا لم تدخل في عقيدة الإسلام - وهذا حقها إذ لا إكراه في الدين - اعتقادًا وعملاً . فإنها تدخل في الإسلام من حيث هو تقاليد وآداب اجتماعية . ومعنى هذا أنها تذوب داخل المجتمع الإسلامي سلوكيًا، إن لم تذب فيه عقائديًا.(3/21)
وبهذا لا يخشى منها أن تؤثر على الزوج أو على الأولاد، لأن سلطان المجتمع الإسلامي من حولها أقوى وأعظم من أي محاولة منها لو حدثت.
كما أن قوة الزوج عادة في تلك الأعصار، وغيرته على دينه، واعتزازه به اعتزازًا لا حد له، وحرصه على حسن تنشئة أولاده، وسلامة عقيدتهم، يفقد الزوجة القدرة على أن تؤثر في الأولاد تأثيرًا يتنافى مع خط الإسلام.
أما في عصرنا، فيجب أن نعترف بشجاعة وصراحة: إن سلطان الرجل على المرأة المثقفة قد ضعف، وإن شخصية المرأة قد قويت، وبخاصة المرأة الغربية، وهذا ما وضحناه فيما سبق.
أما سلطان المجتمع المسلم فأين هو ؟ إن المجتمع الإسلامي الحقيقي الذي يتبنى الإسلام عقيدة وشريعة ومفاهيم وتقاليد وأخلاقًا وحضارة شاملة، غير موجود اليوم.
وإذا كان المجتمع المسلم غير موجود بالصورة المنشودة، فيجب أن تبقى الأسرة المسلمة موجودة، عسى أن تعوض بعض النقص الناتج عن غياب المجتمع الإسلامي الكامل.
فإذا فرطنا في الأسرة هي الأخرى، فأصبحت تتكون من أم غير مسلمة، وأب لا يبالي ما يصنع أبناؤه وبناته، ولا ما تصنع زوجته، فقل على الإسلام وأهله السلام !
ومن هنا نعلم أن الزواج من غير المسلمات في عصرنا ينبغي أن يمنع سدًا للذريعة إلى ألوان شتى من الضرر والفساد . ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة . ولا يسوغ القول بجوازه إلا لضرورة قاهرة أو حاجة ملحة، وهو يقدر بقدرها.
ولا ننسى هنا أن نذكر أنه مهما ترخص المترخصون في الزواج من غير المسلمة، فإن مما لا خلاف عليه، أن الزواج من المسلمة أولى وأفضل من جهات عديدة، فلا شك أن توافق الزوجين من الناحية الدينية أعون على الحياة السعيدة . بل كلما توافقا فكريًا ومذهبيًا كان أفضل.(3/22)
وأكثر من ذلك أن الإسلام لا يكتفي بمجرد الزواج من أية مسلمة، بل يرغب كل الترغيب في الزواج من المسلمة المتدينة، فهي أحرص على مرضاة الله، وأرعى لحق الزوج، وأقدر على حفظ نفسها وماله وولده . ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
=============
216 - 216 - بَابٌ : مَا يُبَاعُ مِنْ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ(1)
4550 - وَإِذَا سَبَى الْمُسْلِمُونَ السَّبْيَ فَاقْتَسَمُوهُ وَأَخْرَجُوهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الرَّقِيقِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ ، وَإِنْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِالْإِحْرَازِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
إلَّا فِي فَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ إنْ سُبِيَ صَغِيرًا لَيْسَ مَعَهُ وَاحِدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
لِأَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِحْرَازَ فِيهِ يَتِمُّ بِالْقِسْمَةِ ، كَمَا يَتِمُّ بِالْإِخْرَاجِ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ .
4551 - وَلَوْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً فَاشْتَرَاهَا مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا مَحْكُومَةٌ بِإِسْلَامِهَا ، قُلْنَا : لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ بَاعَهَا نَفَذَ الْبَيْعُ فَإِنْ كَانَ سُبِيَ مَعَهَا أَحَدُ أَبَوَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهَا هَا هُنَا .
__________
(1) - شرح السير الكبير - (ج 6 / ص 157)(3/23)
وَيَسْتَوِي إنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ وَقَعَا فِي سَهْمِ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا حُصِّلَتْ فِي دَارِنَا إلَّا وَمَعَهَا أَبٌ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِإِسْلَامِهَا .
===========
( الْبَابُ الرَّابِعُ : فِي الْحِسْبَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )(1)
اعْلَمْ أَنَّ التَّسَاهُلَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَطَرٌ عَظِيمٌ ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ رَبِّكُمْ إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ ، وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ بِهَا إلَّا مُسْلِمًا ، وَقَالَ لَا تُسَاكِنُوا الْيَهُودَ ، وَالنَّصَارَى فِي أَمْصَارِكُمْ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا ، وَمَنْ يَرْتَدَّ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ } .
__________
(1) - معالم القربة في طلب الحسبة - (ج 1 / ص 43)(3/24)
وَلَمَّا { خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَدْرٍ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَ مَعَك فَقَالَ : أَتُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ ، ثُمَّ لَحِقَهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَكَانَ شُجَاعًا فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ ، ثُمَّ لَحِقَهُ الثَّالِثَةَ فَأَسْلَمَ هَذَا ، وَقَدْ خَرَجَ لِيُقَاتِلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرَاقَ دَمُهُ } .
وَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الْبَصْرَةَ ، وَقَدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ ، وَاسْتَأْذَنَ لِكَاتِبِهِ ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ ، وَرَآهُ فَقَالَ قَاتَلَكَ اللَّهُ يَا أَبَا مُوسَى ، وَلَّيْت نَصْرَانِيًّا عَلَى الْمَالِ
أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِي كِتَابَتُهُ ، وَلَهُ دِينُهُ فَقَالَ عُمَرُ لَا أُكْرِمُهُمْ بَعْدَ أَنْ أَهَانَهُمْ اللَّهُ ، وَلَا أُعِزُّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَذَلَّهُمْ اللَّهُ ، وَلَا أُدْنِيهِمْ بَعْدَ أَنْ أَقْصَاهُمْ اللَّهُ .(3/25)
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ كَاتِبًا يُقَالُ لَهُ : حَسَّانُ بَلَغَنِي أَنَّك اسْتَعْمَلَتْ حَسَّانَ ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ، وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } .
وَقَالَ تَعَالَى { : لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا ، وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، وَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانَ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا ، وَنَحْنُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَبَى فَلَا تَسْتَعِنْ بِهِ ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِتَابُ قَرَأَهُ عَلَى حَسَّانَ فَأَسْلَمَ ، وَعَلَّمَهُ الطَّهَارَةَ ، وَالصَّلَاةَ ، وَهَذَا أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ بِالْكَافِرِ فَكَيْفَ اسْتِعْمَالُهُمْ عَلَى رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ .(3/26)
فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ النَّظَرُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَنْ يُلْزِمَهُمْ بِمَا هُوَ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمْ ، وَبِمَا الْتَزَمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ ، وَلَا يُرَخِّصَ لَهُمْ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُ قَوْلًا ، وَلَا فِعْلًا ، وَيُلْزِمَهُمْ بِمَا كَتَبُوهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ : هَذَا كِتَابٌ لِعَبْدِ اللَّه عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى مَدِينَةِ كَذَا ، وَمَدِينَةِ كَذَا لَمَّا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا ، وَقَدْ سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا ، وَذَرَارِيّنَا ، وَأَمْوَالِنَا عَلَى أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدَائِنِنَا ، وَلَا حَوْلَهَا كَنِيسَةً ، وَلَا دَيْرًا ، وَلَا قِلَّايَةً ، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ ، وَلَا نُحْدِثَ مِنْهَا مَا خَرِبَ ، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ ، وَأَنْ نُوَسِّعَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الضِّيَافَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ، وَلَا نُنْزِلَ فِي كَنَائِسِنَا ، وَلَا مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا ، وَلَا نَكْتُمَ عَيْنًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ ، وَلَا نُظْهِرَ شَرْعَنَا ، وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا ، وَلَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي قَرَابَتِنَا مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ إنْ رَأَوْا ذَلِكَ ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ ، وَنَقُومَ لَهُمْ فِي مَجَالِسِنَا إذَا أَرَادُوا الْجُلُوسَ ، وَلَا نَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ فِي قَلَنْسُوَةٍ ، وَلَا عِمَامَةٍ ، وَلَا نَعْلٍ ، وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ ، وَلَا نَتَسَمَّى بِأَسْمَائِهِمْ ، وَلَا نَتَكَنَّى بِكُنْيَتِهِمْ ، وَلَا(3/27)
نَرْكَبَ بِالسُّرُوجِ ، وَلَا نَتَقَلَّدَ بِالسُّيُوفِ ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ ، وَلَا نَعْمَلَهُ ، وَلَا نَحْمِلَهُ مَعَنَا ، وَلَا نَنْقُشَ عَلَى خَوَاتِمِنَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ ، وَلَا نَسْقِيَهَا أَحَدًا ، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِيمَ رُءُوسِنَا ، وَنَجْعَلَ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا ، وَلَا نُظْهِرَ صُلْبَانَنَا ، وَكُتُبَنَا فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا أَسْوَاقِهِمْ ، وَلَا نَضْرِبَ النَّوَاقِيسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَنَائِسِنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيفًا .(3/28)
وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا بِالْقِرَاءَةِ فِي شَيْءٍ بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ مَوْتَانَا ، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا أَسْوَاقِهِمْ ، وَلَا نُظْهِرَ بَاعُوثًا ، وَلَا شَعَانِينَ ، وَلَا نُجَاوِرَهُمْ بِمَوْتَانَا ، وَلَا نَتَّخِذَ مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَى عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ ، فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَادَ فِيهِ ، وَلَا نَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَرَطْنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا ، وَأَهْلِ مِلَّتِنَا ، وَقَبِلْنَا عَلَيْهِ الْأَمَانَ فَإِنْ نَحْنُ خَالَفْنَا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا شَرَطْنَاهُ لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا فَلَا ذِمَّةَ لَنَا ، وَقَدْ حَلَّ مِنَّا مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ ، وَالشِّقَاقِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ أَمْضِ ذَلِكَ ، وَأَلْحِقْ فِيهِ هَذَا ، وَلَا يَشْتَرُوا شَيْئًا مِنْ سَبَايَا الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ مَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا أَوْ شَتَمَهُ فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ ، وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اقْطَعْ رُكَبَهُمْ ، وَإِنْ تَرَكْنَا يَرْكَبُوا عَلَى الْأَكُفِّ ، وَأَنْ يَرْكَبُوا مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ ، وَأَنْ يَلْبَسُوا خِلَافَ لِبَاسِ الْمُسْلِمِينَ لِيُعْرَفُوا بِهِ ، وَاللَّوْنُ الْأَصْفَرُ أَوْلَى بِالْيَهُودِ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَيَشُدُّونَ النَّصَارَى الزَّنَانِيرَ أَيْ خُيُوطًا غِلَاظًا فِي أَوْسَاطِهِمْ فَوْقَ الثِّيَابِ ، وَالتَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، تَعُمُّ لَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ الْغِيَارُ ، وَالزُّنَّارُ جَمِيعًا أَخَذُوا بِهِمَا ، وَيَكُونُ فِي رِقَابِهِمْ خَاتَمٌ مِنْ الرَّصَاصِ أَوْ نُحَاسٍ يَدْخُلُ مَعَهُمْ الْحَمَّامَ(3/29)
لِيَتَمَيَّزُوا بِهِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ ، وَالطَّيْلَسَانَ ؛ لِأَنَّ التَّمَيُّزَ يَحْصُلْ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الدِّيبَاجِ وَجْهَانِ وَتَشُدُّ الْمَرْأَةُ الزُّنَّارَ تَحْتَ الْإِزَارِ ، وَفَوْقَ الثِّيَابِ حَتَّى لَا تَصِفَ أَبْدَانَهُنَّ ، وَتَكْشِفَ رُءُوسَهُنَّ ، وَقِيلَ بَلْ فَوْقَ الْإِزَارِ كَالرَّجُلِ ، وَيَكُونُ فِي عُنُقِهَا خَاتَمٌ يَدْخُلُ مَعَهَا الْحَمَّامَ ، وَيَكُونُ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسْوَدَ ، وَالْآخَرُ أَبْيَضَ لِيَتَمَيَّزْنَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِنَّ ، وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ لِشَرَفِهَا ، وَقِيلَ لَا يُمْنَعُونَ ، وَيَرْكَبُونَ الْبِغَالَ ، وَالْحَمِيرَ بِالْأَكُفِّ عَرْضًا أَيْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ .(3/30)
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ : يَرْكَبُونَ مُسْتَوِيًا ، وَلَكِنْ يَكُونُ الرِّكَابُ مِنْ خَشَبٍ ، وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي الْمَجَالِسِ ، وَلَا يُبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ ، وَيُلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ ، وَيُمْنَعُونَ أَنْ يَعْلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْبِنَاءِ ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ ، وَقِيلَ يُمْنَعُونَ ، وَهَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْعُلُوِّ فِي مَحَلَّة وَاحِدَةٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا مِنْ الْبَلْدَةِ فِيهِ وَجْهَانِ ، وَإِنْ زَادُوا أَبْنِيَتَهُمْ بِإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ وَالرَّوَاشِينَ إلَى السَّابِلَةِ وَجْهَانِ ، وَالْمَقْصُودُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ تَشْرِيفٌ ، وَإِنْ تَمَلَّكُوا دَارًا عَالِيَةً أُقِرُّوا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ نَعَمْ لَوْ انْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُعِيدُوهَا كَمَا كَانَتْ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَوْ شَاهَدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْيَهُودَ ، وَالنَّصَارَى فِي زَمَانِنَا هَذَا ، وَآدُرُهُمْ تَعْلُو عَلَى يُثَيْعٍ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَسَاجِدِهِمْ ، وَهُمْ يُدْعَوْنَ بِالنُّعُوتِ الَّتِي كَانَتْ لِلْخُلَفَاءِ ، وَيُكَنَّوْنَ بِكُنَاهُمْ فَمِنْ نُعُوتِهِمْ الرَّشِيدُ ، وَهُوَ أَبُو الْخُلَفَاءِ ، وَيُكَنُّونَ بِأَبِي الْحَسَنِ ، وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِأَبِي الْفَضْلِ ، وَهُوَ الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ، وَقَدْ جَاوَزُوا حَدَّ أَقْدَارِهِمْ ، وَتَظَاهَرُوا بِأَقْوَالِهِمْ ، وَأَفْعَالِهِمْ وَأَظْهَرَتْ مِنْهُمْ الْأَيَّامُ طَبَائِعَ شَيْطَانِيَّةً مَكَّنَتْهَا ، وَعَضَّدَتْهَا يَدٌ سُلْطَانِيَّةٌ فَرَكِبُوا مَرْكُوبَ الْمُسْلِمِينَ ،(3/31)
وَلَبِسُوا أَحْسَنَ لِبَاسِهِمْ ، وَاسْتَخْدَمُوهُمْ فَرَأَيْت الْيَهُودِيَّ ، وَالنَّصْرَانِيَّ رَاكِبًا يَسُوقُ بِمَرْكَبِهِ ، وَالْمُسْلِمَ يَجْرِي فِي رِكَابِهِ ، وَرُبَّمَا تَضَرَّعُوا ، وَتَذَلَّلُوا لَهُ ؛ لِيَرْفَعَ عَنْهُمْ مَا أَحْدَثَهُ عَلَيْهِمْ .
وَأَمَّا نِسَاؤُهُمْ إذَا خَرَجْنَ مِنْ دُورِهِنَّ ، وَمَشَيْنَ فِي الطُّرُقَاتِ فَلَا يَكَدْنَ يُعْرَفْنَ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَمَّامَاتِ ، وَرُبَّمَا جَلَسَتْ النَّصْرَانِيَّةُ فِي أَعْلَى مَكَان مِنْ الْحَمَّامِ ، وَالْمُسْلِمَاتُ يَجْلِسْنَ دُونَهَا ، وَيَخْرُجْنَ الْأَسْوَاقَ ، وَيَجْلِسْنَ عِنْدَ التُّجَّارِ فَيُكْرِمُونَهُنَّ بِمَا يُشَاهِدُونَ مِنْ حُسْنِ زِيِّهِنَّ فَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُنَّ أَهْلُ ذِمَّةٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ الِاهْتِمَامُ بِهَذَا الْأَمْرِ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ ، وَيُعَزِّرُ مَنْ يَظْهَرُ بِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ بِيَعٍ ، وَكَنَائِسَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَدْمِ كُلِّ كَنِيسَةٍ اسْتَجَدَّتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَلَمْ يُبْقِ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، وَأَرْسَلَ عُرْوَةُ مِنْ نَجْدٍ فَهَدَمَ الْكَنَائِسَ بِصَنْعَاءَ ، وَصَانَعَ الْقِبْطَ عَلَى كَنَائِسِهِمْ بِمِصْرَ ، وَهَدَمَ بَعْضَهَا ، وَلَمْ يُبْقِ مِنْ الْكَنَائِسِ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .(3/32)
أَمَّا إذَا اسْتَهْدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إعَادَتِهِ ، وَقِيلَ يُمْنَعُونَ ؛ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لِلِاسْتِحْدَاثِ قَالَ فِي الْحَاوِي : وَعِنْدِي أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي خَرَابِهَا فَإِنْ صَارَتْ دَارِسَةً مُسْتَطْرَقَةً مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ دَارِسَةٍ لَهُمْ بِنَاؤُهَا ، وَعَلَى الْإِمَامِ حِفْظُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَدَفْعُ مَنْ قَصَدَهُمْ بِالْأَذِيَّةِ أَيْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَاكِمُ الْكُفَّارِ فَإِنْ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا ، بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ شَرِيعَتَنَا بِحَسَبِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ ، وَهُمْ كَالْمُعَاهِدِينَ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فَعَلَى هَذَا إنْ تَرَاضَوْا حَكَمَ بَيْنَهُمْ ، وَيُشْتَرَطُ الْتِزَامُهُمْ بَعْدَ الْحُكْمِ ، هَذَا إذَا اتَّحَدَ الدِّينَانِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا ، وَالْآخَرُ يَهُودِيًّا فَفِيهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُمَا كَافِرَانِ فَصَارَا كَمَا لَوْ كَانَا عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ .(3/33)
وَالثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَرْضَى بِحُكْمِ مِلَّةِ الْآخَرِ ، وَقِيلَ يَطَّرِدُ الْقَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ الْحَاكِمُ لِلْحُكْمِ ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَأَمَّا مَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ تَبَايَعُوا بُيُوعًا فَاسِدَةً ، وَتَقَابَضُوا ثُمَّ تَحَاكَمُوا إلَيْنَا لَمْ نَنْقُضْ مَا فَعَلُوا ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَاضَوْا بِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضُوا نُقِضَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } ، وَإِنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ كَالْمَجْنُونِ فَعَلَى هَذَا يُحَالُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَهُمْ فَإِنْ بَلَغَ ، وَوَصَفَ الْكُفْرَ هُدِّدَ ، وَضُرِبَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ رُدَّ إلَى أَهْلِهِ ، وَقِيلَ يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ فَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَ وَوَصَفَ الْإِسْلَامَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ مِنْ حِينِ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ ، وَإِنْ ، وَصَفَ الْكُفْرَ ، وَلَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوثَقُ مِنْهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الصِّغَرِ إلَّا بِمَا يَنْضَافُ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ .(3/34)
( فَصَلِّ ) : وَيَأْخُذ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ عَلَى قَدْرَ طَاقَتِهِمْ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعِيلِ دِينَارٌ ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَانِ ، وَعَلَى الْغَنِيِّ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فَإِذَا جَاءَهُ الْمُحْتَسِبُ أَوْ الْعَامِلُ لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ أَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَلْطِمُهُ عَلَى صَفْحَةِ عُنُقِهِ ، وَيَقُولُ : أَدِّ الْجِزْيَةَ يَا كَافِرُ ، وَيُخْرِجُ الذِّمِّيُّ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ مَطْبُوقَةً عَلَى الْجِزْيَةِ فَيُعْطِيهَا لَهُ بِذِلَّةٍ ، وَانْكِسَارٍ ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ الْجِزْيَةِ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْأَحْكَامِ أَوْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ أَوْ أَصَابَهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ آوَى الْمُشْرِكِينَ أَوْ دَلَّهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ رَسُولَهُ أَوْ دِينَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ فَقَدْ انْتَقَضَتْ ذِمَّتُهُ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ فَقُتِلَ فِي الْحَالِ ، وَغُنِمَ مَالُهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ : مَنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ حَدًّا ، وَإِنْ فَعَلَ مَا مُنِعَ مِنْهُ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ كَتَرْكِ الْغِيَارِ ، وَإِظْهَارِ الْخَمْرِ ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا عُزِّرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَإِلْزَامُهُمْ بِجَمِيعِهَا .
============
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ(1)
محمد شاكر الشريف
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 81 / ص 22)(3/35)
لقد أصبحت اليوم قضايا الإسلام وأحكامه الشرعية مرعى خصباً وكلأ مباحاً، ترعاه السوائم من كل لون وجنس، ويشعر المرء بكثير من الضيق والضجر، والغضب، وذلك عندما يطالع في كثير مما يكتب أو يستمع إلى كثير مما يقال، فيجد الجهل و الجور والحيف في تناول الأمور الشرعية، لكن هذه الحالة التي يكاد يعيشها المرء يوميا وذلك بفعل الدخلاء والمتطفلين على الكلام في أمور الإسلام تزداد أكثر وأكثر، ويزداد حرها ولهيبها اللافح، عندما يقع ذلك الخلط والتخليط، والحيف، والجور، والتحريف من رجل مشهور يشار إليه من بين الناس، أومن جماعة مشهورة لها رصيدها عند الناس.
وقد يكون الدافع أحياناً لهذه الرغبة في تحصيل منفعة شخصية، أو حفاظاً على منصب زائل، أو دفعاً لمضرة متوهمة، وقد يكون الدافع أحياناً لذلك هو الرغبة في عمل ما يسمونه «مصالحه» مع بعض الأنظمة الحاكمة بغير ما أنزل الله، أو إنهاء أزمة معه، أو الحصول على ما يسمونه «بعض المكاسب» من مثل السماح بدخول الانتخابات، أو إصدار مجلة، أو غير ذلك.
وبغض النظر عن مناقشتنا لتلك الرغبات، وما إذا كانت مقبولة أو مرفوضة، فإن الذي ينبغي أن يكون واضحاً للجميع أنه لا يمكن أن تكون تلك «المساومات» على حساب الإسلام، وعلى حساب أحكامه، وشرائعه ومناهجه وثوابته، وإلا فإن الحركة الإسلامية الناضجة لن تغفر هذه «المساومات» لأصحابها، وسوف تعزلهم، وفي النهاية سوف تلفظهم، ولن يحصد المرء غير ما زرع أقول الذي دعاني إلى كتابة ذلك، هو ما قرأته في جريدة الحياة يوم الأحد بتاريخ 30/2/1415 ص5 العدد 11494 من بيان أصدرته جماعة إسلامية كبيرة، لها رصيدها، ولها ريادتها في مجال العمل الإسلامي.
ولا يعنيني الآن رغم كثرة ما تعرض له بيان الجماعة غير موضعين:(3/36)
الموضع الأول: قول بيان الجماعة:(إنهم ينتمون إلى أهل السنة والجماعة، ويعتبرون أنفسهم جماعة من المسلمين، وإن عقيدتهم، وفكرتهم من حيث النقاء والأصالة لا تشوبها شائبة، كما إن مناهجهم واضحة، ومتميزة من حيث اعتمادها على الكتاب والسنة، والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات»).
ونحن هنا لا يعنينا أن ننقب وراء هذا الكلام في تراث الجماعة لنرى مدى صوابه من خطئه، ويكفينا هذا الإعلان الذي يمثل أصلاً قويماً، ينبغي أن يقوم عليه أي عمل إسلامي، وهو يمثل في الوقت نفسه مقياساً لمدى قرب العمل الإسلامي أو بعده عن حقيقة الإسلام.
إن إعلان مثل هذا الأصل من أي جماعة تعمل للإسلام، لابد أن يلقى الترحيب والإشادة، ويستقبل بالسرور والسعادة من أولئك الذين يهمهم أمر الإسلام ويعيشون له، وينبغي تشجيع أصحابه على التمسك به وإعانتهم عليه وانطلاقاً من تشجيعنا لتلك الجماعة على الالتزام بهذا الأصل، الذي أعلنوه ومساعدتنا لهم للمضي فيه قدماً، ننتقل إلى الموضع الثاني لنناقشه انطلاقاً من الأصل المذكور.
الموضع الثاني: فقد جاء في بيان الجماعة أن «الشريعة الإسلامية أباحت لغير المسلمين حرية العقيدة، والعبادة، وإقامة الشعائر، وحرية الأحوال الشخصية، وعملت على حماية ذلك إلى أبعد مدى»..(3/37)
ويمضي البيان إلى أن يقول عن جماعته أنها «ترى أن المواطنة، أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة، والمساواة التامة في الحقوق والواجبات، مع بقاء مسألة الأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث طبقاً لعقيدة كل مواطن وبمقتضى هذه المواطنة، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى «الجماعة» أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين، ومديرين، ووزراء، ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه، وتماسكت عناصره»، وقد يتعجب المرء ويتساءل هل من الممكن أن يكون الذي كتب تلك الفقرة، هو نفسه الذي كتب الفقرة السابقة التي نقلناها؟! شيء عجيب حقاً لكن على أي الأحوال ننتقل الآن إلى مناقشة تلك الفقرة الأخيرة على ضوء الأصل الذي ذكرت الجماعة أنها متمسكة به.
أولاً: هل أباحت الشريعة الإسلامية فعلاً لغير المسلمين حرية الاعتقاد.. إلى آخر ما قال البيان، مع العلم أن «غير المسلمين» وهو التعبير الذي آثر بيان الجماعة استخدامه يشمل اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والشيوعيين، وعبدة الأوثان، وعبدة الأبقار، وكل كافر أو مشرك.(3/38)
فأين نجد تلك الإباحة في «الكتاب والسنة، والفهم الصحيح، الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات»؟ إن الشريعة لم تبح قط الكفر بالله أو الشرك به ولم تبح قط التعبد بالعبادات الباطلة المبتدعة، ولم تبح قط فعل المنكرات والمعاصي، وإنما الخلاف قد وقع بين أهل العلم في شأن أهل الكتاب: اليهود والنصارى وما سواهما من الكفار، هل يعاملون معاملة أهل الكتاب، أم ليس إمامهم إلا الإسلام أو السيف؟ لأدلة عندهم في ذلك لامجال للحديث عنها هنا ولم تكرههم الشريعةعلى الدخول في الإسلام ((لا إكراه في الدين))، أما «الإباحة» فلا، وفرق كبير بين «الإباحة» وبين عدم الإكراه، فإن «المباح» هو الذي يستوي فيه الأمران: الفعل أو الترك، والكفر والشرك أكبر الكبائر فكيف يقال: إن الشريعة أباحت ذلك؟!
لكن لنقل: إن بيان الجماعة لم يقصد «الإباحة» بالمعنى الوارد في أصول الفقه، وإنما أراد فعلاً عدم إكراه «غير المسلم» على ترك دينه والدخول في الإسلام، بل تركت له الخيار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على دينه.
ثانياً: لنفترض أن أصحاب البيان يأخذون بقول أهل العلم الذين يرون أن ذلك الحكم غير مختص بأهل الكتاب، وأن جميع الكفار يشملهم الخيار في الدخول في الإسلام أو البقاء على دينهم، لكن على أي نحوٍ جاء هذا الخيار سواءً أكان لأهل الكتاب فقط، أو لجميع الكفار؟
إن مقتضى «الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أن ذلك لا يكون إلا بأن يصبح هؤلاء من «أهل الذمة» فيلتزموا بأحكام «أهل الذمة»، و)يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» أما كتاب ربنا الكبير المتعال ففيه قوله: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون))[التوبة: 29].(3/39)
وأما سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-المؤيد من ربه، والذي لا ينطق عن الهوى ففيها الكثير نذكر منها حديث بريدة الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وفيه: «اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله..... ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم... فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..» (1)
فالكتاب والسنة» يبينان أن السيف لا يرفع عمن يرفع عنه من الكفار إلا ببذل الجزية عن يد وهم صاغرون، وذلك التزام بأحكام «أهل الذمة».
وأما «الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات»، فارجع إليه وانظر في جميع كتب أهل العلم الفقهية بدون استثناء لتجد الآيات والأحاديث وأحكام «أهل الذمة» المبنية عليها ولتعلم أن دار الإسلام، لا يقيم فيها كافر إقامة دائمة إلا إذا خضع لأحكام «أهل الذمة»، وبمقتضى هذا الخضوع يأمن أهل الذمة على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
وعلى هذا فقول بيان الجماعة: «إن المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها حلت محل مفهوم أهل الذمة»، لم يعتمد على الكتاب ولا على السنة ولا على الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات، بل جاء مناقضاً لكل ذلك.
إن ما يقوله البيان هنا يعنى أن مصطلح «أهل الذمة» والأحكام المرتبطة به قد انتهى، وأن بيان الجماعة قد استخرج له شهادة الوفاة، وكفنه ودفنه في ثياب «المواطنة والجنسية» لكنها شهادة مزورة وثياب دنسة، وستبقى الأحكام الشرعية ثابتة شامخة رغم كل البيانات.
فيا أصحاب البيان: خبرونا ماذا تفعلون بنصوص كتاب ربنا وسنة نبينا وبعمل الخلفاء الراشدين وأقوال الأئمة وتصانيف العلماء التي تحدثت عن أهل الذمة وأحكامهم، ماذا تفعلون بهذا؟ أتقولون: إن بيانكم نسخ تلك الأحكام؟! وهل يملك أحد من المسلمين أن ينسخ أحكام الشرع، أو أن يبدلها ويغيرها حسب هواه؟!(3/40)
وربما قد يعجب بعض القراء، وقد يستغرقون في الضحك الشديد ويقولون: (ياعم: أين أنت الآن، وفيم تتكلم، وعن أية جزية أو صغار، وأين هذا الجهاد الذي تتحدث عنه، وهل نستطيع أن نفرض ذلك على الكفار، ونحن الذين في الحقيقة نكاد ندفع لهم الجزية عن يد ونحن صاغرون).
وأنا أقول لصاحب مثل هذا الكلام:
أولاً: أن ذلك ليس كلامي جئت به من عند نفسي، وإنما هو نصوص الشرع وأقوال أهل العلم، ونحن جميعاً مطالبون بالالتزام بذلك وعدم الخروج عنه.
ثانياً: أن المرء منا قد تمر به فترات ضعف أو عجز وسواء أكان هذا الضعف أو العجز خارجاً عن إرادته فيكون معذوراً، أو كان ضعفاً وعجزاً ناتجاً عن تقصير وجبن وخور فلا يكون معذوراً لا يتمكن معها من الصدع بكلمة الحق أو الجهر بها أو العمل لها وإلزام الآخرين بها، لكن ليس البديل عن ذلك هو التحريف والتبديل، فإذا لم يتمكن المرء من قول الحق أو فعله فلا أقل من الصمت، أما النطق بالباطل والدعوة إليه وتزيينه للناس فمن من المسلمين يقبله؟!
وإذا لم يستطع جيلنا القيام بذلك على الوجه المطلوب، فلا أقل يا أخي من أن نترك للأجيال القادمة المفاهيم صحيحة غير مبدلة والثوابت غير محرفة فلعل الله سبحانه يحقق على أيديهم ما عجز جيلنا عن تحقيقه (وإن كان لنا أمل في الله تعالى أن يحقق نصر الإسلام على يد هذا الجيل).
ثالثاً: ونمضي مع البيان حيث يذكر: «وإن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات» وهذه هي النتيجة المنطقية طالما تم إلغاء أحكام أهل الذمة وهي في نفس الوقت تمثل الطلب الذي طالما ألح الكفار في الحصول عليه، وهو المساواة التامة في دار الإسلام بين المسلمين والكفار، فياسبحان الله ما أشد ظلم هذه المساواة التامة وما أكثر مرارتها!(3/41)
لكننا نمضي مع البيان ليفسر لنا هذه المشاركة الكاملة والمساواة التامة حتى يكون كلامه هو الشاهد عليه، يقول بيان الجماعة: «وبمقتضى هذه المواطنة وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده، ترى (الجماعة) أن للنصارى الحق في أن يتولوا باستثناء منصب رئيس الدولة كل المناصب الأخرى من مستشارين ومديرين ووزراء.
لقد أصبحت «المواطنة» في فقه تلك الجماعة أصلاً شرعياً، وقاعدة تُفَرّع عليها الأحكام وتؤخذ منها التفاصيل، فها هو ذا يقول: «وبمقتضى هذه المواطنة» ولم ينس البيان أن يضيف إلى هذا الأصل أصلاً آخر ليناقض به الأحكام الشرعية ألا وهو قوله: «وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده» فهل تلك الحجج الباردة التي قدمها البيان: «(المواطنة»)وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده» هل تصلح تلك الحجج، لمعارضة الأحكام الشرعية الثابتة!!(3/42)
وقد نظرت في هذه الفقرة فوجدت أن كاتبها يتعامل مع العواطف وليس مع أصول ثابتة يرجع إليها، وذلك أنه قصر تولى المناصب علىالنصارى» دون أن يذكر «اليهود» وهم الذين يشملهم مع النصارى لفظ «أهل الكتاب»باتفاق أهل العلم، فما هي القاعدة يا أصحاب البيان» التي استندتم إليها لإخراج اليهود من تولي المناصب؟! وما النصوص الشرعية من «الكتاب والسنة والفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات» التي تستندون إليها في التفرقة بين اليهود والنصارى؟! الذي يبدو لي أن الكاتب أهمل ذكر اليهود رغم عدم وجود أدلة يستند إليها في ذلك لأنه مازال يعيش في أجواء الحرب التي كانت بين المسلمين واليهود، وربما كان يخشى من ردة الفعل الشعبي عند ذكر اليهود، لكن أقول لك يا أخي: لا تخشَ شيئاً، فالآن قد انتهت الحرب وحل السلام، ولم يعد بين المسلمين واليهود حروب، وبالتالي فلا تخشَ من ضياع التأييد الشعبي وكن منطقياً مع نفسك، وأعلنها قل حتى يستقيم لك منطقك: «وبمقتضى هذه المواطنة، وحتى لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده ترى (الجماعة) أن للنصارى واليهود الحق أن يتولوا....» إلى آخر ما جاء في الفقرة، بل وأضف البقية الباقية من غير المسلمين وأنا أقول لأصحاب البيان: طالما أنكم أقررتم أن المواطنة أو الجنسية حلت محل مفهوم أهل الذمة، فلماذا لا تقرون للمواطن اليهودي الذي يتمتع بجنسية إحدى الدول العربية والإسلامية بالحق في تولى المناصب الوزارية والاستشارية؟!(3/43)
إنه لشيء ممتع حقاً من وجهة نظر بيان الجماعة أن نرى دولة مسلمة: رئيسها مسلم، ورئيس وزرائها يهودي، والوزراء خليط من المسلمين واليهود والنصارى، ولا بأس أن يكون رئيس مجلس الشورى نصرانياً، حتى تكون هناك عدالة ومساواة في توزيع المناصب العليا لا سيما وأن لهم المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات كما ذكر البيان فتكون رئاسة الدولة للمسلمين، ورئاسة الوزراء لليهود ورئاسة مجلس الشورى للنصارى!!
وعلى كلٍ فنحن نطالبكم بالكتاب والسنة أو الفهم الصحيح الذي أجمع عليه أهل العلم الثقات أو اختلفوا فيه، والذي يبيح للنصارى جميع المناصب باستثناء رئاسة الدولة.
أما نحن فنبرأ إلى الله تعالى من ذلك، ولا نقول بظُلم أهل الذمة ولا بالاعتداء عليهم، ولكن لا ننزلهم إلا حيث أنزلتهم الشريعة، ولا نعطي لهم شيئاً حرمهم الله ورسوله منه.
ومساعدة منا لكم على الالتزام بالحق، نذكر لكم من النصوص الشرعية والفهم الصحيح لأهل العلم ما يبين بطلان ما ذكرتموه في الفقرة السابقة، وإن كان المرء ليس في حاجة إلى ذكر تلك الأدلة، لأن ما ذكرتموه في الفقرة السابقة هو من الكلام الذي يقال عنه: مجرد حكايته كاف في بيان بطلانه، بل إن الرجل المسلم العامي صاحب الفطرة السليمة التي لم تدنس بمثل ما جاء في البيان إذا سمع ذلك الكلام الذي ذكرتموه، فلابد أن يمجه ويرفضه ويستغربه، وإذا لم تصدقوني فانزلوا إلى الشارع المسلم، وسلوا الناس وسوف تعرفون النتيجة.(3/44)
يقول الله تبارك وتعالى: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم..))[المائدة: 51] يقول ابن كثير رحمه الله: «ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله... ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال: ((ومن يتولهم منكم فإنه منهم))» أليس من الموالاة لأهل الكتاب اليهود والنصارى، جعلهم وزراء أو أعضاء في مجلس الشورى (مستشارين)، إذا كنتم لا توافقون على ذلك فلننظر إلى ذلك الأثر الوارد عن عمر بن الخطاب الخليفة الراشد الذي جعل الله الحق على قلبه ولسانه في فقه تلك الآية: «عن عياض الأشعري أن عمر رضي الله عنه أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له (أي لأبي موسى) كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر، وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارئ لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر أجنب هو؟ قال: لا، بل نصراني، قال: فانتهرني وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه ثم قرأ ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء...))، قال أبو موسى: والله ما توليته وإنما كان يكتب، فقال عمر رضي الله عنه: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب؟!، لا تدنهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنهم إذ خونهم الله، ولا تعزهم بعد أن أذلهم الله»(2) فانظروا كيف رفض الخليفة الملهم اتخاذ كاتب نصراني يطلع على أمور المسلمين واحتج على ذلك بالآية المذكورة، وأنتم لا تجعلونه كاتباً فقط، بل تجعلونه رئيساً للوزراء ووزيراً ومستشاراً ومديراً وهلم جرا.(3/45)
يقول بيان الجماعة في فقرته الأخيرة «ويمثل النصارى مع المسلمين في مصر نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً واحداً تداخلت خيوطه وتآلفت ألوانه وتماسكت عناصره»، وإني لأتعجب: هل هذا كلام شرعي يعبر عن رؤية جماعة إسلامية أم أنه موضوع إنشاء من النوع الذي يقال في المجاملات، وهل من الممكن أن تكون هناك مجاملات على حساب الدين؟، الشيء الغريب والعجيب في آن: أن النصارى أنفسهم لا يقبلون هذا الكلام ولا يرتضونه؛ لأن هذا الكلام يعنى أن ذاتية النصارى وذاتية المسلمين قد ذابتا وتداخلتا معاً، وكونتا نسيجاً واحداً مما يعني ضياع الشخصية المستقلة أو التنازل عنها، وإذا كنت لا تصدقني فسل وأظنك تعلم قبل كثيرين غيرك ماذا يفعل كبير النصارى في بلدك ضد الإسلام والمسلمين، وعلى كلٍ أنا لا أمنعك الحق في أن تعبر عن أحاسيسك وأشواقك أنت وجماعتك تجاه النصارى، وابذل لهم كل ما تستطيع من تنازل أو لين في القول، لكن عليك ألا تتعدى بهذه الأحاسيس والأشواق إطار جماعتك إلى المسلمين كلهم، فما أظن أن أحداً خولك الحديث باسم المسلمين في بلدك.
ثم أقول: وهب أن الذي ذكرته أنت صحيح وهو غير صحيح لكن نفترض ذلك أنه كان هو الواقع فعلاً، فهل وجود الاختلاط وعدم التمايز بين المسلمين والنصارى يذكر على سبيل المدح أم يذكر على سبيل الذم وعلى سبيل تنبيه المسلمين على التمايز عن الكفار والابتعاد عن مشابهتهم أو التشبه بهم؟! ألم تسمعوا عن «الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة، والتي فيها منع تشبه أهل الذمة بالمسلمين والتي تحول دون حدوث ذلك النسيج المزعوم.
ألم تسمعوا عن كتاب صنفه العالم الجليل شيخ الإسلام ابن تيمية» وهو يحذر فيه أشد التحذير من ذلك النسيج الواحد الذي تدعونه، إنه كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» فارجعوا إليه فلعله يردكم عن إدعاء ذلك النسيج.(3/46)
على كل حال إن لم تكونوا قد سمعتم بهذا ولا بذاك، فلا علينا أن نسمعكم بعض أحاديث الرسول المصطفى التي تحرص على تمييز المسلمين عن غيرهم من الكافرين سواء أكانوا من أهل الكتاب، أومن غيرهم، و تحول بين المسلم و حدوث ذلك النسيج (الحضاري والاجتماعي والثقافي) الموحد.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: منكراً على المسلمين ما يقع منهم من مشابهة ومتابعة وموافقة لليهود والنصارى، ومنفراً لهم من ذلك وحاضاً على تركه، يقول: «لتتبعُن سَنَن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جُحْر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟»(3)، قال ابن حجر رحمه الله: «قوله: قال فمن: هو استفهام إنكار، والتقدير: فمن هم غير أولئك» (4)
ويقول -صلى الله عليه وسلم- «من تشبه بقوم فهو منهم» (5) قال ابن تيمية: «إسناده جيد وأقل أحواله: أنه يقتضي تحريم التشبه بهم» وقال ص: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» (6) ولا يُكَمّل رد السلام، بخلاف المسلم الذي يقال له: وعليكم السلام ورحمة الله، أليس في هذه الأحاديث منعٌ للنسيج الثقافي والحضاري والاجتماعي الواحد، ألا يشعر المسلم من مثل هذه التوجيهات حرص الإسلام على إقامة حاجز نفسي بين المسلم وغيره، يمنعه من الانجذاب نحوه، وإذابة الفوارق بينه وبين غيره.
وفي النهاية أقول لأصحاب البيان: ما الغرض، ومن المستفيد، ومن يرتضي ذلك البيان؟
فإن كان الغرض أن يرضى عنكم «الأسياد» المحليون أو غيرهم، فأنا أقول لكم تصديقاً لقول ربي مادمتم ترفعون شعار الإسلام، ولو تنازلتم عن أمور كثيرة، فلن يرضوا عنكم، كما قال تعالى: ((ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم))[البقرة: 120 ] أما إن كان الغرض هو الدفاع عن الإسلام، فإن ذلك لا يمكن أن يتم عبر العبث بأحكامه أو التنازل عنها.(3/47)
وأما المستفيد، فلا يستفيد من هذا البيان إلا أعداء الله ورسوله والمؤمنين لأن أي محاولة لتغيير أو تحوير في ثوابت الإسلام ومفاهيمه لن تصب إلا في مصلحتهم، ولن تؤدي إلا إلى تزييف وعي الشعوب المسلمة، وبالتالي رواج الأباطيل بينها، وسهولة انقيادها للطواغيت.
وأما الرضا، فإن هذا البيان لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين؛ لأنه لايمكن الرضا بما فيه خروج على أحكام الشريعة.
وأخيراً فلي رجاء: هل أطمع في بيان آخر يتم فيه الرجوع إلى الحق والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولأن يكون المرء ذيلاً في الحق خير له من أن يكون رأساً في الباطل، آمل ذلك، لا سيما أنكم إناس مسلمون تحبون الله ورسوله وتودون خدمة دينكم، وإن شاء الله لن يخيب ظني فيكم ولعل هذا البيان كان فرصة لنا لنقدم هذه الأمور التي ربما تكون قد غابت عن بعضهم، لا سيما وأن بعض المناوئين لأحكام الشريعة، يبثون مثل هذه الأقوال في مقالاتهم وأحاديثهم.
والله الموفق والهادي إلى صراط مستقيم.
هوامش:
(1)صحيح مسلم. كتاب «الجهاد والسير» ح/1731.
(2)تفسير ابن كثير 2/108، فتح الباري 13/196.
(3)البخاري كتاب الاعتصام بالسنة. باب/14، ح/7320.
(4)فتح الباري 13/201.
(5)أبو داود 4/314، مسند أحمد 3/142 وصحح إسناده أحمد شاكر والألباني.
(6)البخاري كتاب الاستئذان. باب 22، ح/6258.
==============
أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي(1)
عبد العزيز بن محمد الحويطان
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 93 / ص 28)(3/48)
(أهل الذمة والولايات العامة في الفقه الإسلامي)(1) هو عنوان للرسالة التي رأيت مناسبة عرضها، والتي فرضت جودتها وحسن تبويبها: الوقوف عندها هذه الوقفات العاجلة، ولعل أهمية هذه الرسالة تتضح من عنوانها؛ فأهل الذمة في بلاد المسلمين موجودون قديماً وحديثاً، وربما ازداد عددهم في هذه الأزمنة نتيجة تقدم وسائل النقل، واختلاط الشعوب، وانتقال الأيدي العاملة للبحث عن مصادر الرزق، مما يجعل دراسة الموضوع أكثر إلحاحاً وأهمية، وأكثر مساساً بواقع بعض المسلمين ـ الذي امتزج به الجهل والفقر والتخلف، إلا من رحم الله ـ، والذي يفرض طَرق مثل هذه الأبحاث والتأكيد عليها، وزاد الرسالة قوة: ذلك العرض والتقسيم البديع الذي صاحب فصولها، وسأتطرق بحول الله (تعالى) إلى مميزات الرسالة، وما عليها، بعد العرض السريع لها.
قسّم الباحث الرسالة بابين: الباب الأول ـ جعله مدخلاً للرسالة ـ في الولاية وما يتعلق بها، وقسمه ثلاثة فصول: تعريف الولاية، وأقسامها، وشروطها. والباب الثاني: (في الذمة والولايات العامة).
ففي تعريف الولاية في الاصطلاح: وبعد أن أورد أقوال الفقهاء: خلص إلى أنها: (سلطة شرعية لشخص في إدارة شأن من الشؤون، وتنفيذ إرادته فيه على الغير من فرد أو جماعة) (ص27).
وقد ثبتت مشروعيتها من الكتاب والسنة والإجماع.
وفي مبحث أقسام الولاية: ذكر أنها تنقسم إلى ولاية عامة وخاصة (وهذا تقسيم الفقهاء)، فالولاية الخاصة يمكن حصرها في: ولاية الحضانة، والولاية على النفس، والولاية على المال.
أما الولاية العامة فإنها تتمثل فيما يقوم به الإمام أو نائبه من التصرفات، وتنبثق عنها ولايات عامة متعددة، وعلى هذا تكون أنواع الولاية العامة هي:
1- الإمامة العظمى.
2- الوزارة (سواء أكانت وزارة تفويض أو تنفيذ).
3- الإمارة على البلدان (بنوعيها: العام، والخاص).
4- الإمارة على الجهاد (إمارة على سياسة الجيش والجند، أو إمارة على جميع أحكام الجهاد).(3/49)
5- الولاية على حروب المصالح (قتال أهل الردة والبغي والمحاربين).
6- ولاية القضاء.
7- ولاية المظالم.
8- ولاية النقابة على ذوي الأنساب.
9- الولاية على إمامة الصلوات.
10- الولاية على الحج.
11- ولاية الصدقات.
12- ولاية الفيء.
13- ولاية الجزية والخراج.
14- ولاية الحسبة.(ص53-57).
وهذه الأنواع لم يذكر الباحث من أين استقاها، ولعله استقرأها من كتب الفقه، والسؤال هنا: ألا توجد مناصب جديدة في هذا الوقت تختلف عن السابق؟ ثم: ألا يمكن وضع ضوابط عامة لهذه الولاية العامة بدلاً من تفصيلها؟.
ثم أورد الباحث في الفصل الثالث شروط الولاية العامة والخاصة كلّ على حدة باختصار.
أما الباب الثاني فهو: (في الذمي والولاية العامة): فقد قسمه أربعة فصول: الذمي وعقده، وواجبات أهل الذمة في الفقه الإسلامي وحقوقهم، وحكم تولي الذمي المناصب العامة، وأخيراً: أهل الذمة والشورى.
أما الذمي فقد عرفه الباحث في الاصطلاح قائلاً: (كل من يُقَر من الكفار في دار الإسلام على التأبيد آمناً، بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة فيما يتعلق بهم) (ص74).
قلت: وتبقى المسألة، فيمن تقبل منه الجزية ويقر ببذلها؟ وقد أجاب الباحث عن هذا التساؤل قائلاً: وهذا فيه خلاف بين الفقهاء بعد اتفاقهم على دخول اليهود والنصارى فيهم، وبعد أن أورد الباحث أقوال أئمة المذاهب خلص إلى أن (الجزية تقبل من كل كافر، فيدعى للإسلام أولا، فإن أبى فالجزية، فإن بذلها قبلت منه).
ثم ساق الأدلة فيما يلي:
1- آية الجزية: ((قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة: 29].(3/50)
2- حديث بريدة (رضي الله عنه) الطويل المشهور: (كان رسول الله إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه... فإن هم أَبَوْ فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم..) أخرجه مسلم والترمذي، وهو على عمومه في أهل الكتاب وغيرهم.
3- كما استدلوا بقبول الجزية من المجوس وهم ليسوا أهل كتاب بقوله: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) رواه مالك في الموطأ(2).
أما عقد الذمة، فقال الباحث: (هو التزام الإمام أو نائبه بإقرار بعض الكفار بالإقامة الدائمة في دار الإسلام، على أن يبذلوا الجزية ويلتزموا أحكام الملة فيما يتعلق بهم) (ص97) والمقصود بأحكام الملة أي: الأحكام الظاهرة، كمنعهم من إظهار الخمر والخنزير.
ثم تطرق الباحث إلى شروط العقد وآثاره، وذكر من آثاره:
1- عصمة النفس.
2- عصمة الأموال والأعراض لأنها تبع للنفوس.
3- إنهاء الحرب بين المسلمين وأهل الذمة.
4- هذا العقد ملزم للمسلمين، فلا يستطيعون نقضه.
5- التزام كل طرف بحقوق وواجبات الطرف الآخر.
وذكر الحقوق الواجبة عليهم ما أورده الماوردي (رحمه الله) حيث قال:
1- ألا يذكروا كتاب الله بطعن ولا تحريف.
2- ألا يذكروا رسول الله بتكذيب له ولا ازدراء.
3- ألا يذكروا دين الإسلام بذم أو قدح.
4- ألا يصيبوا مسلمة بزنى ولا باسم نكاح.
5- ألا يفتنوا مسلماً عن دينه.
6- ألا يعينوا أهل الحرب، ولا يودوا أغنياءهم. (ص103).
ثم تسائل الباحث قائلاً: متى ينتقض العقد؟ فأجاب بقوله: ينتقض العقد بمخالفة النظام الشرعي في ناحية جوهرية، كقتال الذمي للمسلمين والتحاقه بدار الحرب، وامتناعه عن الجزية لغير عذر كفقر، وامتناعه التزام أحكام المسلمين، كذلك ينتقض بالشروط الستة التي ذكرها الماوردي، (ص107).
أما الفصل الثاني (واجبات أهل الذمة في الفقه الإسلامي): فقسمه الباحث قسمين: واجبات أهل الذمة، وحقوقهم.
تطرق في المبحث الأول إلى الواجبات المترتبة عليهم، وهي ثلاثة:(3/51)
أولاً: الجزية، وهي واجبة عليهم بالاتفاق، ومقدارها زهيد، يجب مرة واحدة في السنة، ويرجع تقديرها للإمام، كما اجتهد عمر (رضي الله عنه) في تقديرها)؛لأن القيمة الشرائية للدرهم تتغير بتغير الأحوال والأزمان.
ثانياً: الخراج وهو ما وضع على رقاب الأرض المفتوحة عنوة أو صلحاً من حقوق تؤدى عنها، ودليل مشروعيته: فعل عمر وموافقة الصحابة له؛ فيكون إجماعاً، وأما تقديره فهو راجع أيضاً للإمام، فيراعي مصلحة الطرفين وحال الأرض والزرع.
ثالثاً: العشور، وقد ثبتت بعمل الصحابة (رضوان الله عليهم)، حيث ثبت عن عمر (رضي الله عنه) أنه أخذ من أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر، وقد عمل بها الصحابة من غير نكير؛ فيكون إجماعاً، ويشترط أن يكون في التجارة مما ينتقل بها صاحبها في دار الإسلام، وألا يؤخذ إلا مرة واحدة في العام، وأن يبلغ نصاباً (اشترطه الأحناف والحنابلة).
هذا عن الواجبات اللازمة عليهم، أما المستحبة التي لا تجب عليهم إلا إذا ذكرت في العقد، كما أنها لا تنقض العقد لكن يؤاخذون بها إجباراً ويؤدبون عليها زجراً: فقد سردها الماوردي (رحمه الله) قائلاً: (أما المستحبة فستة أشياء:
1- تغيير هيئاتهم بلباس الغيار وشد الزنار.
2- ألا يعلوا المسلمين في الأبنية.
3- ألا يسمعوهم أصوات نواقيسهم أو تلاوة كتبهم.
4- ألا يجاهروهم بشرب خمورهم، ولا بإظهار صلبانهم وخنازيرهم.
5- أن يخفوا دفن موتاهم، ولا يجاهروا بندب عليهم ولا نياحة.
6- أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقاً وهجاناً. (ص124).
قلت: وما ورد من الشروط العمرية شبيه بهذا، إلا أن أهل الذمة شرطوها على أنفسهم في خلافته فيجب أن ينفذوها، لكن السؤال: هل ثبتت الشروط العمرية تفصيلاً؟ وهل هي لازمة لأهل الذمة على الدوام؟ هذا ما لم يتطرق إليه الباحث.(3/52)
أما ثبوت الشروط العمرية فقد ثبتت جملة بالإجماع، قال ابن القيم: (إن شهرتها تغني عن إسنادها)، ونقل ابن تيمية الإجماع على ثبوتها جملة، أما تفصيلاً: فهذا راجع لأسانيدها، وقد أجاد الباحث في رده على من أنكرها من أمثال الشيخ محمد الغزالي وغيره(3).
أما المبحث الثاني في الفصل الثاني: فعن (حقوق أهل الذمة)، وهذا من المباحث المهمة في الرسالة التي كان من المفترض أن يتوسع فيها الباحث بدل اختصارها واكتفائه منها بالعموميات، فقد تطرق لحقوقهم بعد أن فند القاعدة التي يذكرها بعض الفقهاء (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وبيّن أنها خاطئة بإطلاق، وقد أجاد.
وذكر من حقوقهم حرية المعتقد دون إظهار للشعائر، أما بخصوص معابدهم فرجح أن ما أسلم عليه أهل مصر أو مصّره المسلمون فلا يجوز لهم فيه إحداث بيعة أو كنيسة؛ قال ابن القيم: (وهو اتفاق من الأمة لا يعلم بينهم فيه نزاع)، وأما ما فتح عنوة ففيه خلاف، والراجح: إن شرطوا الإحداث في عقد الجزية يوف لهم بالشرط، وكذا: إن شرطوه فيما فتح صلحاً. (ص133).
ومن حقوقهم: حرمة الدماء والأبدان، وحق الحماية داخليّاً وخارجيّاً، وحق الأمن ـ ويقصد به حرمة المسكن ـ فله أن يسكن فيما شاء إلا في جزيرة العرب، وقيل: الحجاز خاصة ـ على خلاف ـ والأول هو الصواب، قلت: ويلزم أن يقيّد بألا يكون فيه إضرار للمسلمين، أما بخصوص حرية التنقل وحرية الفكر والكتابة والاجتماع في المناسبات: فقد أجازها الباحث بإطلاق، وفيه نظر، إذ إن بعضها يلزم منه إظهار لدينهم ورأيهم. (ص141).
وذكر من حقهم: حق التمتع بمرافق الدولة وخدماتها، قلت: وهذا يقيد بعدم الإضرار أو التضييق بالمسلمين، ولهم حق الحرية في شؤونهم الخاصة كالحقوق الشخصية، ونظام الأسرة، والطلاق، والزواج، والإرث.. وغيرها. (ص144).(3/53)
وتطرق الباحث أخيراً إلى حق تولي وظائف الدولة، وأوضح أن الوظائف الرئيسة في الدولة والوظائف ذات الصبغة الدينية لا يجوز للذمي شغلها، ثم فصّل القول بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1- استعمالهم في الحرب، وذكر الخلاف في ذلك.
2- استعمالهم في غير الحرب، ورجح جوازه بشروط، هي:
أن يحصل الوثوق به، ألا يكون في عمله ولاية على مسلم، ألا تكون الوظيفة ذات صبغة دينية، قلت: ويلزم أن يزاد شرط: ألا يوجد من هو أولى لها من المسلمين، تمشياً مع قول عمر لأبي موسى الأشعري.
3- استعمالهم في الوظائف العامة، وهذا ما سيذكره في الفصل الثالث.
أما الفصل الثالث (حكم تولي الذمي المناصب العامة): فهو لب الرسالة وموضوعها، قسمه الباحث ثمانية مباحث، كل منها يمثل منصباً من المناصب العامة، وطريقته هنا: أن يورد المنصب، ثم يعرفه، ويذكر مشروعيته، وضوابطه، وشروطه، بشكل بديع قلما يوجد في غير هذه الرسالة، ثم يعرج على حكم تولي الذمي لهذا المنصب.(3/54)
بدأ بمبحث رئاسة الدولة أو الخلافة، ذكر فيه: تعريف الخلافة، وأدلة مشروعيتها، وشروط الخليفة، وواجباته، وحقوقه، ثم عرج على تولي الذمي للخلافة، وذكر أن لا مدخل له في هذا المنصب بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول؛ فأما الكتاب: فهناك آيات كثيرة، منها قوله (تعالى): ((وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء: 141] وأما السنة: فمنها قوله: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) أخرجه البخاري، ووجهه: أن طاعة الأمير واجبة، وهو الأمير الذي أمّره رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمر كافراً على مسلم، وأما الإجماع: فقد نقله غير واحد كالقاضي عياض وابن حجر والجويني، قال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل) (ص180). ثم ذكر موانع ذلك من المعقول، منها: أن حفظ الدين لا يقوم به الكافر، وأن غير المسلم لا يضحي من أجل المسلمين، وأن أسرار المسلمين وثغراتهم يجب ألا تكون عند الكافر. (ص184).
أما في مبحث الذمي والوزارة: فبعد تعريف الوزارة لغة واصطلاحاً، ذكر مشروعيتها من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والمعقول، ثم ذكر أنواع الوزارة، وهي نوعان: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ، ففي وزارة التفويض: عرفها الماوردي بقوله: (وهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده) وأعمال وزير التفويض تكاد تكون هي أعمال الخليفة، وشروطه شروطه مع اختلاف يسير، أما تقليد الذمي لوزارة التفويض فلا مدخل له فيها، لأن وزير التفويض كالخليفة فيما يقوم به من تدبير للأمور وتعيين للولاة وعزلهم.(3/55)
أما وزارة التنفيذ: فقال الماوردي عنها: (وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين الرعايا والولاة، يؤدي عنه ما أمره، وينفذ عنه ما ذكره، فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوالٍ عليها). (ص197)، وبخصوص حكم تولي الذمي لهذا المنصب: فقد أجازه الماوردي (رحمه الله) دون ذكر دليل على ذلك من كتاب أو سنة، وهذا خلاف ما عليه عامة الفقهاء، فقد نقل أحمد والجويني وابن جماعة وغيرهم عدم جواز ذلك، بل قال الجويني في مقولة الماوردي هذه: (وهذه عثرة ليس لها مقيل، فهي مشعرة بخلو صاحب الكتاب عن التحصيل) والصواب الذي رجحه المؤلف: عدم جواز ذلك لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وفعل الصحابة، كأدلة النهي عن اتخاذ بطانة من دون المسلمين وغيرها. (ص207).
وقد أجاد الباحث في تقصيه لأصل هذا التقسيم للوزارة (وزارة تفويض ووزارة تنفيذ) وذكر بطلانه، لأن الإمام هو الذي يباشر الأمور بنفسه، وإذا فوضت جميع الأعمال إلى الوزير: فما دور الإمام إذن؟ وهذا التقسيم لم يكن معروفاً قبل عصرالماوردي والفراء، فهما أول من ذكره، وما خرج هذا التقسيم إلا في عهد بني بويه، وكان الخليفة العباسي آنذاك منزوع السلطة، وقد وصل من تعدي بني بويه على الخليفة أن اعتقلوا المستكفي وسملوا عينيه وحبس في دار الخلافة إلى أن توفي. (ص197).
ثم عقد المؤلف مقارنة بين الوزارة في السابق وبينها في العصر الحاضر؛ليثبت أن الوزير سابقاً ولاحقاً له ولاية وسلطة على المسلمين، فلا يجوز للذمي تولية هذا المنصب (وليت هذه المقارنة استمرت في جميع مباحث الرسالة).(3/56)
وفي المبحث الثالث (الذمي والإمارة): قسم الإمارة قسمين: عامة وخاصة، فالإمارة العامة: (هي أن يفوض إليه الخليفة إمارة بلد أو إقليم ولاية على جميع أهله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عمل ومعهوداً من نظر) أما الإمارة الخاصة، فهي: (أن يكون الأمير مقصور الإمارة على تدبير الجيش وسياسة الرعية وحماية البيضة والذب عن الحريم، لكن لا يتولى القضاء والأحكام وجباية الصدقات والخراج).
أما تولي الذمي للإمارة العامة: فلا مدخل له فيها؛ لأن الكافر لا تكون له ولاية على المسلمين، ولم يعرف أنه بعث أميراً ذميّاً أو كافراً، والأمير نائب عن الخليفة، والنائب كالأصيل في حالة غيابه، فلا يستحق هذه النيابة كافر، أما الإمارة الخاصة: فإن الأمير له سبيل على المسلمين ولا سبيل لكافر على مسلم، ولا يجوز أن يسند هذا المنصب لغير المسلم. (ص228).
وفي المبحث الرابع (الذمي والقضاء): بعد تعريفه للقضاء أورد شروط القاضي، وهي: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والحرية، والذكورة، والعدالة (وقد أجاز الأحناف تولية الفاسق)، وسلامة السمع والبصر والنطق (والمالكية يعدون ذلك شرط دوام وليس شرط انعقاد)، وأخيراً: العلم بالأحكام الشرعية، حيث اشترط الحنابلة والشافعية وابن حزم الاجتهاد، على خلاف المالكية والأحناف، والراجح أن يحصل القاضي من الوسائل ما يوصله إلى الحكم الشرعي في حدود ما ولي له. (ص239).
أما ولاية الذمي للقضاء: فلا مدخل له فيها؛ لأن من شروطها الإسلام بالاتفاق، كما أن القاضي من أولي الأمر ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)) [النساء: 59] فلا يجوز طاعة الكافر.(3/57)
وأهل الذمة يطبق عليهم في دار الإسلام الشرع الإسلامي، ورجح الباحث استثناء شربهم للخمر وأكلهم الخنزير وشعائرهم التعبدية ـ ما لم يظهروها في أمصار المسلمين ـ وقوانين الأسرة كالنكاح، وإذا ترافعوا إلينا يجب على القاضي أن يحكم فيهم بحكم الإسلام، ولا يشترط ترافع الاثنين بل يكفي واحد، وإذا اختلف المسلم والذمي فيجب الحكم بينهما حماية للمسلم وحفاظاً على الذمي، وأما إذا اختلفت ملة المتحاكمين كيهودي ونصراني فيجب الحكم بينهم عند الشافعية وهو الصواب. (ص252).
أما المبحث الخامس (الذمي وولاية الحسبة): فذكر أنه لا مدخل له فيها لاتفاق الفقهاء على اشتراط الإسلام في المحتسب، كما أن المحتسب وما بيده يدل على العز والسلطان وهذا لا يتمتع به الذمي لأنه ينافي النص الذي ورد بصغارهم ((حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة: 29].
وما يقال عن الذمي وولاية الحسبة يقال عن الذمي وولاية المظالم. (ص284).
أما المبحث السابع (الذمي وإمارة الجيش): فلا مدخل له فيها؛ لأن ولاية الجيش شبيهة بالإمارة العامة والخاصة والتي شروطها هي شروط الإمامة (في الغالب)، كما أنه لم يعرف عنه أنه أمّر كافراً على سرية من المؤمنين، إضافة إلى القدوة في هذا المنصب والاطلاع على الأسرار التي لا يجوز أن يطلع عليها كافر. (ص290).(3/58)
أما في المبحث الثامن (أهل الذمة والولايات الأخرى): فقسمه إلى عدة مطالب، هي: الفيء والغنيمة، والصدقة، والخراج، والجزية، أما الفيء (كل مال وصل إلى المسلمين من غير مباشرة القتال): فليس للذمي مدخل في ولايته، وأجاز الماوردي والفراء للذمي أن يُستعمل في عمل لا يستدعي الاستنابة وكان ما يجبيه متعلقاً بأهل الذمة، كالجزية وعشور أهل الذمة، والراجح خلافه، أما ولاية الغنيمة: فلا مدخل للذمي فيها، وكذلك الصدقة، إلا أن الماوردي والفراء أجازا تولي قبض نوع من أنواع الزكاة، والراجح عدم الجواز؛ لأنه شاهد على رب المال ولا تجوز شهادة غير المسلم على المسلم، أما ولاية الخراج: فلا يجوز توليتها للذمي إلا إذا كان جباية ـ دون تقسيم ـ على مال محدد يؤخذ من أهل الذمة، ويشترط أن يتصف الذمي بالصدق والأمانة، أما ولاية الجزية: فلا مدخل له فيها. (3).
أما الفصل الرابع (آخر فصول الرسالة) فعن أهل الذمة والشورى: عرف الباحث الشورى اصطلاحاً بقوله: (هي استعراض الآراء المطروحة من أهل الرأي في المسألة، واختبارها، ثم اختيار أصوبها، أما تولية الذمي للشورى: فقد اتفق العلماء على اشتراط الإسلام في أهل الحل والعقد، وليس للمتقدمين قول بجواز تولية ذلك للذمي، نقله الماوردي والفراء والجويني وابن جماعة وابن خلدون، قال الإمام الجويني: (ولا مدخل لأهل الذمة في نصب الأئمة، فخروج هؤلاء عن منصب الحل والعقد ليس به خفاء)، وذكر الباحث قولاً لبعض المحدثين بجوازه بشرط ألا ينظر في الأمور التشريعية، وألا يشارك في انتخاب الخليفة، وأن تكون استشارته مقصورة على قضايا أهل الذمة والأمور الفنية البحتة، ومال الباحث إلى استحسان هذا، قلت: وهذا خلاف ما عليه الكتاب والسنة والإجماع. (ص340).(3/59)
ثم ختم الباحث رسالته بذكر مبحث وضّح فيه عدل المسلمين مع أهل الذمة مقارنة بما فعله ويفعله اليهود والنصارى قديماً وحديثاً مع الأقليات المسلمة بينهم، فهذا (جوستاف لوبون) يصف فظاعة الصليبيين: (وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرباً إرباً، وكانوا لا يستبقون إنساناً، وكانوا يشنقون أُناساً كثيرين بحبل واحد بغية السرعة) ويقول أيضاً: (كان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى ليخرجوا منها قطعاً ذهبية، فيا للشره وحب الذهب، وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طريق المدينة (القدس) المغطاة بالجثث)، ومدينة (معرة النعمان) شاهدة على ما فعله الصليبيون عندما قتلوا مئة ألف لاجئ مسلم صبراً في الجوامع والطرقات والسراديب.
بل ما نشهده هذه الأيام من وقوع مجازر في البوسنة والهرسك ـ بالرغم من أنهم أغلبية في بلادهم، فليتأمل ـ لأكبر دليل على هضم حقوق المسلمين في البلدان الغربية (المتحضرة)!، أما موقف المسلمين من أهل الذمة: فهذه كتب الفقهاء ومقولات عمر (رضي الله عنه) تنطق بذلك (.. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم...).
هذا عرض سريع لأبواب وفصول هذه الرسالة، أردت منه إعطاء فكرة ـ ولو ميسرة ـ عنها.
ومما تميزت به هذه الرسالة ما يلي:
1- إجادة الباحث لجمع مادته العلمية بخصوص الموضوع، واستقصائه لأقوال الأئمة ومناقشتها في مباحث الرسالة، فجاءت أحكامه الفقهية ـ في الغالب ـ متزنة وموافقة للدليل الصحيح، وإن كان يؤخذ عليه إغفاله لأقوال بعض المتأخرين الذين أشبعوا الموضوع مناقشة ودراسة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
2- الدراسة التي قام بها المؤلف في أوائل مباحث الرسالة عن بعض المناصب الإسلامية (الخلافة القضاء الشورى الحسبة الإمارة) تعتبر دراسة فريدة؛ نظراً لتقصيه في تعريف هذه الولايات وشروطها وأحكامها، وحقّها أن تخرج في كتاب منفصل.(3/60)
وكل عمل لا يسلم من الملاحظات (أبى الله أن يتم إلا كتابه) وقد قيل (من ألّف فقد استهدف)... وألخص ملاحظاتي على الرسالة في النقاط التالية:
1- كان من المفترض إفراد فصل عن معاملة الإسلام للذمي، تورد فيه أحاديث المصطفى-صلى الله عليه وسلم-، وفعله معهم، وفعل الخلفاء الراشدين، والدول الإسلامية بعدهم (وقد أورد لمحة عن ذلك في الخاتمة لكنها ـ في نظري ـ لا تكفي).
2- أشرت في عرض الرسالة إلى أهمية وضع ضوابط للولاية العامة، بدلاً من إيرادها هكذا مفصلة، فلو أن الباحث قام بوضع ضوابط لها، وقام بدراسة هذه الضوابط، وجعلها أصل الرسالة لكان أفضل، وإن أشار إلى جزء من هذه الضوابط في مبحث الذمي ووظائف الدولة.
3- كان من المفترض أن تربط المناصب المذكورة عند الفقهاء بالمناصب الموجودة الآن في عصرنا الحاضر، وتعقد مقارنة بينها في الماضي والحاضر لتتم الفائدة من الموضوع.
4- يلاحظ القارئ عدم تمحيص بعض الأحاديث صحة وضعفاً، فما يسكت عنه أبو داود لا يحتج به إطلاقاً،كما أن تصحيح الحاكم لا يؤخذ به بإطلاق، إضافة إلى كثرة الاستدلال بفعل عمر (رضي الله عنه) (خاصة فيما ينقله عن كتاب الخراج لأبي يوسف)، وهذا النقل يحتمل الصحة والضعف، فلا يحتج به هكذا بدون تحقيق صحته.
5- يُلحظ في مواضع قليلة: الاحتجاج بأقوال بعض الطوائف المخالفة لنا في أصولها وأصلها.
6- تعتبر الشروط العمرية مع أهل الذمة أصلاً في التعامل معهم، ومنهجاً لمن بعده في تحري الحقوق التي لهم والواجبات التي عليهم، لكن الباحث لم يتطرق لهذه الشروط ولا لأسانيدها، وكان بودي لو عرج على هذه الأسانيد ونقحها واعتمد عليها في كتابه هذا لمعرفة مالهم وما عليهم، ورسالة في هذا الموضوع خليق بها ألا تغفلها، وأن تقف عندها وقفات طويلة، وقد تطرق إليها ابن القيم في كتابه (أحكام أهل الذمة) وكذلك ابن تيمية في كتابه الرائع (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم).(3/61)
وفي العموم: فإن هذا لا يقدح في هذه الرسالة المتميزة عرضاً ومحتوًى وعنواناً، وقد أجاد في طبعها، نسأل الله (سبحانه وتعالى) أن ينفع بها المسلمين جميعاً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) تعريف بالرسالة:
-إعداد: نمر محمد الخليل النمر.
-إشراف: الدكتور محمد أبو فارس.
-قدمت إلى كلية الشريعة في الجامعة الأردنية استكمالاً لمتطلبات الماجستير في قسم الفقه والتشريع.
-عدد الصفحات: 415 صفحة، بما فيها الفهارس.
-الطبعة الأولى: 1409هـ المكتبة الإسلامية.
(2) إسناده ضعيف، انظر: إرواء الغليل، رقم (1248).
(3) وبخصوص لزومها لمن بعده فقد ذكر الدكتور ناصر العقل أنها غير لازمة بحذافيرها (بدليل تغيير عمر بن عبد العزيز لبعض منها) إلا ما تلقته الأمة بالقبول وأجمعوا عليه؛ كثبوت مبدأ المغايرة والتميز في عامة الهدي، وعدم إظهار شيء مما يختصون به، وترك إكرامهم، وإلزامهم الصغار، فهذا لازم لهم بالإجماع، قلت: وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (جـ1، ص320 ومابعدها) فليراجعه من أراد مزيد تفصيل.
=============
أهْلُ الذِّمَّة (1)
د.عثمان جمعة ضميرية
لقي مصطلح (أهل الذمة) شيئاً من الهجوم أو التحريف على أيدي بعض المسلمين المعاصرين، بحجة الدفاع عن الإسلام، أو تقريب أحكامه لغير المسلمين؛ فكان من الواجب أن نتناول هذا المصطلح بشيء من البيان الإجمالي، بما يتفق مع طبيعة المجلة واتساع صفحاتها، والله الموفق.
أولاً: الذمة في اللغة:
تطلق الذمّة والذّمام في اللغة على العهد والأمان، والضمان والكفالة، والحقّ، وكلّها معانٍ متقاربة. وتضييعها مذمومٌ؛ ولذلك تطلق كلمة (الذمة) و (المذمة) على كلّ حرمةٍ يلزم من تضييعها الذمّ، ويسمى العهد ذمّةً؛ لأن نقضه وتضييعه يوجب الذمّ.
ورجلٌ ذميّ معناه: له عهد، سُمّي بذلك؛ لأنه أُعطي الأمان على ذمة الجزية التي تؤخذ منه.
__________
(1) - مجلة البيان - (ج 138 / ص 116)(3/62)
ويراد بالذمة: العهد ـ مؤقتاً كان أو مؤبّداً ـ وذلك عقد الأمان وعقد الذمة، وقد يحذف المضاف فيقال: (الذمة) بمعنى أهل الذمة.
ثانياً: الذمة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية:
لما نزل القرآن الكريم وحياً على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاءت فيه كلمة (الذمة) بمعنى العهد، والميثاق، والحِلْف، والقرابة. كما في قوله ـ تعالى ـ: ((كَيْفَ وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إلاًّ وَلا ذِمَّةً)) [التوبة: 8]، أي: عهداً؛ فهو عبارة عن اللزم، ومنه سُمّي محل الالتزام من الآدمي: ذمة؛ فإن الذمة للآدمي هي محل الالتزام بالعهد.
كما جاء ذكر الذمة في الحديث الشريف بأكثر المعاني اللغوية السابقة، كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (يسعى بذمتهم أدناهم)(1). أي: إذا أعطى أحد من جيش المسلمين العدوّ أماناً جاز ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يخفروه، ولا أن ينقصوا عهده وأمانه.
ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (ذمة المسلمين واحدة..)(2).
وجاءت الذمة بمعنى (الحقّ) في حديث عليّ ـ رضي الله عنه ـ: (ما يُذْهِب عني مذمّة الرّضاع؟ قال: غُرّةٌ؛ عبدٌ أو أمة)(3). ـ والمذمة هنا بالكسر والفتح ـ: الحقّ والذمة التي يُذَمّ مضيّعها.
ثالثاً: الذمة في الاصطلاح الشرعي العام:
تطلق الذمة في الشرع إطلاقاً عاماً بمعنيين:
(أحدهما) ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الذمة وصف اعتباري قدّره الشارع في الإنسان، يصير به أهلاً للإلزام والالتزام؛ لأن الله ـ تعالى ـ لما خلق الإنسان لحمل أمانة التكليف أكرمه بالعقل والذمة؛ ليكون بهما أهلاً لوجوب الحقوق له وعليه؛ فثبت له حقّ العصمة والحرية والمالكية. وثبتت عليه حقوق الله ـ تعالى ـ... والحاصل: أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان أهلاً للوجوب له وعليه.(3/63)
(والمعنى الثاني للذمة) ما ذهب إليه بعضهم من أن الذمة والعهد يراد بهما شرعاً: شخص أو نَفْسٌ ورقبة لها ذمة وعهد. فإذا قلنا: وجب في ذمته كذا، أو ثبت في ذمته كذا... فالمراد به: وجب في نفسه وذاته، أي في محل ثبت فيه العهد الماضي، وهو النفس أو الرقبة باعتبار كونهما محلاً لذلك العهد؛ فالرقبة تفسير للنفس، والعهد تفسير للذمة، وهذا عند التحقيق من تسمية المحلّ باسم الحالّ، ثم شاع هذا الاستعمال فأصبح حقيقة عرفية(4).
رابعاً: الذمة في الاصطلاح الفقهي:
يطلق العلماء الذمة في الاصطلاح الفقهي ـ في باب السّير والجهاد ـ على العهد مطلقاً، مؤقتاً كان أو مؤبداً، وهما عقد الذمة وعقد الأمان ـ كما نجده عند الإمام محمد بن الحسن الشيباني وعند العلامة ابن قيم الجوزية ـ ولكن صار اصطلاح أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية. وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وقد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله؛ إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله(5).
خامساً: تعريف عقد الذمة:
عرّف العلماء عقد الذمة بتعريفات متعددة وألفاظ متقاربة؛ فهو عند الإمام الشيباني: عقد ينتهي به القتال ويلتزم به الذميّ أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات، والرضا بالمقام في دار الإسلام.
وهو عند الشافعية: التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا وحمايتُهم والذبّ عنهم، ببذل الجزية، والاستسلام من جهتهم. وبهذا التعريف أيضاً قال المالكية.
وهو عند الحنابلة: إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملّة(6).
وبعبارة أخرى: هو عقد يكتسب به غير المسلم حقّ الإقامة الدائمة في دار الإسلام، مع حماية الشريعة الإسلامية، وذلك بمقابل دفع ضريبة تسمى الجزية، ولقاء القيام بالواجبات العَقْديّة والعرفية(7).
سادساً: تعريف أهل الذمة:(3/64)
ومن تلك التعريفات للذمة، وعقد الذمة، جاء تعريف الذميين أو أهل الذمة أنفسهم. فقال الأزهري: هم الذين يؤدون الجزية، من الكفار كلّهم، فيأمنون بها على دمائهم وأموالهم.
وقال الغزاليّ الشافعي في تعريف الذميّ: هو كل كتابيّ ـ ونحوه ـ عاقلٍ بالغٍ حُرّ ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية.
وقال ابن عبد الهادي الحنبلي: أهل الذمة هم الكفار المقيمون تحت ذمة المسلمين بالجزية(8).
وعلى هذا؛ فأهل الذمة هم: الأجانب غير المسلمين الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة على أساس عقد الذمة الذي يحدّد مركزهم وحقوقهم وواجباتهم.
وأهل الذمة يُسمّون كذلك: (أهل ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأن عقد الذمة كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفي ذلك تأكيد لصيانة حقوقهم كاملة. وسُمّوا (أهل الذمة) لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم؛ فهم أهل العقد والعهد.
سابعاً: مشروعية عقد الذمة وتاريخه:
الأصل في مشروعية عقد الذمة: قوله ـ تعالى ـ في سورة التوبة: ((قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة: 29].
وسورة التوبة نزلت بعد فتح مكة المكرمة، في السنة التاسعة للهجرة، وكان نزول هذه الآية الكريمة منها حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بغزوة تبوك ومواجهة الروم وعمّالهم من الغساسنة المسيحيين العرب، فمشروعية عقد الذمة وأخذ الجزية إنما كانت بعد نزول سورة التوبة ((بَرَاءةٌ))، وأما ما كان قبل ذلك، بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، وغيرهم كاليهود في المدينة أول العهد والهجرة إليها ـ فهذه عهود ومعاهدات إلى مُدَدٍ معينة، لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه(9).(3/65)
ثم تواردت الأحاديث القولية والسنة العملية تبيّن مشروعية الجزية وعقد الذمة، وجرى على ذلك العمل في عهد الخلفاء الراشدين، ومَنْ بعدهم في صدر الدولة الإسلامية، إلى وقت قريب؛ حيث اختفى أو توارى هذا النظام في العمل الدولي الإسلامي المعاصر نتيجة لملابسات وتطورات لا يجوز أن تؤثر على أصل الحكم الشرعي(10).
ثامناً: حكمة مشروعية عقد الذمة:
يوجب الإسلام تأليف قلوب غير المسلمين المقيمين في دار الإسلام وحسن معاملتهم. وإقامة غير المسلمين في دار الإسلام إقامة دائمة سبيلٌ للدعوة إلى الإسلام بأحسن الطرق من خلال المخالطة والمعاملة المتبادلة، وبذلك يتعرف غير المسلمين على أحكام الإسلام ومحاسنه ودلائله؛ مما قد يحملهم ذلك على الدخول فيه عن طواعية واختيار، وعن قناعة ورضى، وهذا يعني أن المسلمين ينبغي أن يكونوا ـ في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم ـ ترجمة صادقة لأحكام الإسلام.
تاسعاً: مَنْ تُعْقد لهم الذمة؟ :
انعقد إجماع العلماء على عقد الذمة وقبول الجزية من أهل الكتابيْن ـ اليهود والنصارى ـ والمجوس، وأهل الأوثان من العجم، وعلى عدم قبولها من المرتدّين.
ووقع الخلاف فيما وراء ذلك؛ فذهب أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن إلى أنها تُقْبل من مشركي العرب. وهو رواية عن الإمام أحمد. وقال أبو يوسف القاضي: لا تؤخذ من العربي؛ كتابياً كان أو مشركاً. وذهب الشافعي إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ولا تؤخذ من المشركين بحالٍ. وذهب الأوزاعي ومالك إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتدّ.
وقد رجح القاضي أبو بكر العربي، وابن تيمية، وابن القيم والشوكاني ـ رجحوا هذا المذهب الأخير في عقد الذمة لجميع الكفار عدا المرتدين؛ لأن أخذ الجزية من المجوس ـ وهم أهل شرك ـ دليل على جواز أخذها من جميع المشركين؛ وليس في القرآن الكريم ولا الحديث الشريف تخصيص العرب بحكمٍ من أحكام الشريعة.(3/66)
وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من أهل الأوثان العرب؛ لأنهم كانوا قد أسلموا قبل نزول آية الجزية، كما لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه؛ لأن آية الجزية لم تكن نزلت بعد، ولا فرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض(11).
عاشراً: مركز الذميين:
القاعدة العامة في مركز أهل الذمة في الدولة الإسلامية ـ دار الإسلام ـ أنهم رعية من رعاياها، يسري عليهم القانون الإسلامي فيما يتعلق بشؤونهم الدنيوية، ويلتزمون بأحكام الإسلام فيما يعود إلى العقوبات والمعاملات، فيما يُحْكم به عليهم من أداء الحقوق أو ترك المحرّمات؛ لأنهم من أهل دار الإسلام، وفيما عدا ما يختصون به من أحكام دينهم في الاعتقادات والعبادات، وفي الزواج والطلاق (الأحوال الشخصية) ونحو ذلك مما يرونه عندهم فهم فيه أحرار، لا يتعرض لهم المسلمون بشيء.
والحكم العام الذي يطبّق على أهل الذمة في الدولة الإسلامية هو ما عبّر عنه عليّ ] بقوله: (من كانت له ذمتنا فَدَمُه كدَمِنا ودِيتُه كديتنا)(12).
وعلى هذا؛ فإن ما يطلقه بعض الكتّاب من المساواة التامة بين المسلمين والذميين، ليس صحيحاً على إطلاقه، وإنما ينبغي تقييده، فهي مساواة أمام القانون وليست مساواة في القانون ـ كما عبّر بعضهم عن ذلك؛ وذلك لأن بعض الحقوق والحريات لها مواصفات لا تنطبق على الذميين(13).
وذلك كله منبثق من أن الذميين رعية من رعايا دار الإسلام، وإن لم يكونوا جزءاً من الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة الإسلامية لها معنىً ديني؛ ولهذا؛ فلا يتمتع الذميون بالجنسية الإسلامية، وإن كان بعض المعاصرين يميل إلى أنهم يتمتعون بها باعتبارهم من أهل دار الإسلام، مع أن رابطة الجنسية بالمفهوم الحديث رابطة حدثية.
ولا نجد ضيراً في اعتبار الذميين أجانب عن دار الإسلام، لا يتمتعون بجنسيتها، طالما أنهم رعية من رعاياها يتمتعون بحقوقهم كاملة غير منقوصة.(3/67)
ومن الجدير بالذكر ـ في هذا المقام ـ أن هذا كله لا يتنافى مع الحكم الديني على الذميين بأنهم كفار؛ حيث ثبت ذلك بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، كقوله ـ تعالى ـ: ((لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ))، وقوله: ((لَقَدْ كَفَرَ الَذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)) [المائدة:72-73] إلخ.
ولذلك لا يجوز أن يحملنا التسامح على الالتفاف على النصوص وتحريفها لتوافق أغراضاً وأهواءً منحرفة.
الهوامش :
(1) حديث صحيح روي من طرق عن عدد من الصحابة. انظر: (سنن أبي داود): 4/58، (مسند الطيالسي)، ص (299)، (مصنف عبد الرزاق): 5/226، (سنن النسائي): 8/24، وصححه الحاكم: 2/141، وعلّقه الترمذي: 5/203، وأصله في الصحيحين ـ كما في التعليق الآتي ـ.
(2) أخرجه البخاري: 4/81، ومسلم: 2/994.
(3) أخرجه المعافى بن زكريا، ووكيع، وابن عساكر. انظر: (كنز العمال): 16/199.
(4) انظر تلك المعاني السابقة في: (معجم مقاييس اللغة) لابن فارس: 2/345 ـ 346، (القاموس المحيط): 2/267، (الكلّيات) للكفوي: 2/346 ـ 347، (مفردات القرآن) للراغب، ص (262)، (أصول السرخسي): 2/332، (كشف الأسرار عن أصول البزدوي) للبخاري: 4/237 ـ 238، (كشاف اصطلاحات الفنون) للتهانوي: 2/324، (الفروق) للقرافي: 3/33، 226 ـ 236.
(5) انظر: (السّير الكبير) مع شرح السرخسي: 1/252، (بدائع الصنائع) للكاساني: 9/4318، 4327، (أحكام أهل الذمة) لابن القيم: 2/475 ـ 476.
(6) انظر: (الوجيز) للغزالي: 2/197، (عقد الجواهر الثمينة) لابن شاس: 1/485، (المبدع شرح المقنع) لابن مفلح: 3/404.
(7) انظر: (أحكام القانون الدولي في الشريعة) د. حامد سلطان، ص (224)، (أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني) لكاتب هذا المقال، ص (436 ـ 437).
(8) (الوجيز): 2/198، (الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي) لابن عبد الهادي: 1/290.(3/68)
(9) انظر: (أحكام القرآن) للإمام أبي بكر الجصّاص: 1/142.
(10) انظر الأدلة وتخريجها بالتفصيل في (أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام الشيباني) ص (438 ـ 444).
(11) انظر: (أحكام القرآن) لابن العربي: 2/922، (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية): 19/18 ـ 30، 28/356، (زاد المعاد) لابن القيم: 5/91 ـ 92، (أحكام أهل الذمة) له أيضاً: 1/6 ـ 12، (السيل الجرار) للشوكاني: 4/571.
(12، 13) انظر: (قانون السلام في الإسلام) د. محمد طلعت الغنيمي، ص (423 ـ 428).
============
واجبات أهل الذمة
التزام أحكام القانون الإسلامي
والواجب على أهل الذمة: أن يلتزموا أحكام الإسلام، التي تُطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى الذمة أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية.
فليس عليهم أي تكليف من التكاليف التعبدية للمسلمين، أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية، مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه، ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً من الجهاد والزكاة -كما عرفنا- رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام.
وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم، وإن كان قد حرمة الإسلام، كما في الزواج والطلاق وأكل الخنزير وشرب الخمر . فالإسلام يقرهم على ما يعتقدون حله، ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب.
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه، واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه، والنصراني الذي يأكل الخنزير ويشرب الخمر، لا يتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها، فقد أُمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون.
فإذا رضوا بالاحتكام إلى شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (سورة المائدة: 49).(3/69)
ويرى بعض الفقهاء أننا مخيرون إذا احتكموا إلينا: إما أن نحكم بشرعنا أو نترك فلا نحكم بشيء؛ لقوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين) (سورة المائدة: 42 . ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة، يحتكمون إليها إن شاءوا، وإلا لجأوا إلى القضاء الإسلامي . يقول المؤرخ الغربي (آدم متز) في كتابه عن "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري": ولما كان الشرع الإسلامي خاصًا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم . والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقوموا فيها مقام كبار القضاة أيضًا، وقد كتبوا كثيرًا من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به . (وعلى أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ إلى المحاكم الإسلامية . ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا . ولذلك ألف الجاثليق تيمونيوس حوالي عام 200 ه ـ (800م) كتابًا في الأحكام القضائية المسيحية "لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجأون إلى المحاكم غير النظرية بدعوى فقدان القوانين المسيحية". إلى أن يقول: (وفي عام 120ه ـ (738م) وَلِىَ قضاء مصر خير بن نعيم، فكان يقضى في المسجد بين المسلمين ثم يجلس على باب المسجد بعد العصر على المعارج فيقضى بين النصارى . ثم خصص القضاة للنصارى يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاء ليحكموا بينهم . حتى جاء القاضي محمد بن مسروق الذي وَلِىَ قضاء مصر عام 177ه ـ فكان أول من أدخل النصارى في المسجد ليحكم بينهم) ثم قال متز: (أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجأون(3/70)
للقاضي إلا في مسائل القتل).
وفيما عدا ذلك يلزمهم أن يتقيدوا بأحكام الشريعة الإسلامية في الدماء والأموال والأعراض -أي في النواحي المدنية والجنائية ونحوها- شأنهم في ذلك شأن المسلمين، وفي هذا يقول الفقهاء: لهم ما لنا وعليهم ما علينا -أي في الجملة لا في التفصيلات.
فمن سرق من أهل الذمة أُقيم عليه حد السرقة، كما يُقام على المسلم، ومن قتل نفسًا أو قطع طريقًا، أو تعدى على مال، أو زنى بامرأة، أو رمى محصنة، أو غير ذلك من الجرائم أُخذ بها، وعوقب بما يعاقب به المسلم، لأن هذه الأمور مُحرَّمة في ديننا، وقد التزموا حكم الإسلام في ما لا يخالف دينهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة: أن عقوبة الذمي والذمية في جريمة الزنا هي: الجلد أبدًا، لا الرجم، لأنه يُشترط في توافر الإحصان -الموجب التغليظ في العقوبة- الإسلام.
ومثل ذلك المعاملات المالية والمدنية، من البيوع، والإجارات والشركات، والرهن والشفعة، والمزارعة، وإحياء الموات، والحوالة، والكفالة وغيرها من العقود والتصرفات، التي يتبادل الناس بواسطتها الأموال والمنافع، وتنتظم بها شئون المعاش.
فكل ما جاز من بيوع المسلمين وعقودهم، جاز من بيوع أهل الذمة وعقودهم، وما يفسد منها عند المسلمين يفسد عند الذميين، إلا الخمر والخنزير عند النصارى، فقد استثناهما كثير من الفقهاء، لاعتقادهم حلهما في دينهم . على ألا يجاهروا بهما.
أما الربا فهو حرام عليهم فلا يُقرون عليه.
*من كتاب "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي للدكتور يوسف القرضاوي "
============
الاستعانة بغير المسلمين وغير الصالحين على مافيه الخير جائزة (1)
المفتي
محمد عبده .
محرم 1322 هجرية
المبادئ
1 - قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 6 / ص 60)(3/71)
2 - استعان الخلفاء من بنى أمية وبنى العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم على أعين الأئمة والأعيان والفقهاء والمحدثين بدون نكير .
3 - الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أبنائهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبى صلى الله عليه وسلم - وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين أحد الأمرين إما كافر أو فاسق
السؤال
الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين أما بعد فقد ألقى إلى أستاذ من أساتذة الجامع الأزهر وهو موظف كبير فى المحاكم الشرعية سؤالا ورد من الهند إلى بعض أبنائه يطلب الجواب عليه والسؤال موجه إلى العلماء لا إلى عالم واحد كما هو مذكور فى نصه، فرأيت أن يكون الجواب عليه محتويا على مقال كثير من أفاضل العلماء، وقد انتدب حضرة حامل السؤال إلى كتابة ما يجده كثير من أفاضل العلماء، وقد علماء الحنفية فى موضوعه، وأرسلت بنسخة من السؤال إلى حضرة الأستاذ شيخ الحنابلة فى الجامع الأزهر، فورد منه ما رآى أن يجيب به وكلفت جماعة من أساتذة الشافعية والمالكية أن يكتبوا ما يعتقدون أنه الحق فى جواب السؤال، فكتبوا وأشبعوا، جزاهم الله خيرا، وإنى أبتدىء بما أجاب به أفاضل الشافعية والمالكية بعد ذكر السؤال، ثم أثنى بجواب شيخ الحنابلة وأختم بمقال الأستاذ الحنفى ثم بما يعن لى أن أضمه إلى أقوال جميعهم والله الموفق للصواب .
وهو الهادى إلى الصراط المستقيم (السؤال)
الجواب(3/72)
ما يقول السادة العلماء فى جماعة من المسلمين يقرون أنهم على عقيدة أهل السنة والجماعة ،ومن تعابعى فقهاء الأئمة الأربعة ، ويسعون فى تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام ويدعون أهل الردة واليسار إلى تربية أيتام المسلمين، وإلى إشاعة الإسلام فى مقابلة حملات الكتابيين وصولات الوثنيين، إلا أنهم مع ذلك يستعينون بالكفار وأهل البدع والأهواء لنصرة الملة الإسلامية وحفظ حوزة الأمة المحمدية وجمع شملها واتحاد كلمتها فهل مثل هذه الاستعانة تجوز شرعا وهل لها نظير فى القرون الثلاثة الفاضلة المشهود لها بالخير وهل يجوز شرعا وهل يجوز لأحد من المسلمين أن يعارضهم فى هذه الأعمال الجليلة والمقاصد الحسنة ويسعى فى تثبيط الهمم عن معاونتهم والتنفير من صحبتهم نظرا إلى أنهم يستعينون فيها بالكفار وأهل البدع والأهواء ويدخلون مجالسهم ويخالطونهم لمثل هذه المصالح العامة وما حكم من يرميهم بمجرد هذه الأعمال بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد والخروج عن أهل السنة والجماعة أفيدوا الجواب ولكم الثواب .
(ما كتبه جماعة من أفاضل المالكية والشافعية) .(3/73)
أما السعى فى تحصيل الألفة والاتفاق بين أهل الإسلام، فلا نزاع فى أنه من أفضل الأعمال الدينية وأعظمها عند الله تعالى، فإن التآلف والتودد بين المسلمين هو مدار الإيمان وأساس الإسلام ، والسبب الوحيد لنظام المدنية وقوام المجتمع الإنسانى ومدار سعادته فى الأولى والآخرة، وقد حث النبى صلى الله عليه وسلم على الأخذ به وبيان فوائده فى كثير من الأحاديث، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ) وقوله (لا يؤمن عبد حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير) وقوله ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) وقوله (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل ومن يارسول الله قال الذى لا يأمن جاره بوائقه ( شروره ) أى لا يأمن جاره شره وقوله ( نظر المؤمن إلى أخيه المؤمن حبا له وشوقا إليه خير من اعتكاف سنة فى مسجدى هذا ) وقوله (أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضى عنه دينا) وقوله (أفضل الفضائل أن تصل من قطعك وتعطى من حرمك ) وقوله (من أصلح فيما بيته وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس، ومن أصلح جوانيه أصلح الله برانيه) ومن تأمل فى قوله تعالى { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } الحجرات 10 ، وقوله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } الأنفال 46 ، مع قوله صلى الله عليه وسلم لا تباغضوا ولا تدابر ولا تنافسوا وكونوا عباد الله إخوانا) وقوله (دب فيكم داء الأمم قبلكم ألا وهى البغضاء والحسد والبغضاء هى الحالقة ولا أقول حالقة الشعر وإنما هى حالقة الدين) من نظر فى ذلك كله عرف ما للسعى فى تحصيل الألفة والمحبة بين الناس من المكانة فى الدين وأنه من أعظم الأعمال وأفضل الخصال، وعرف وجه حث الشارع عليه والتنويه بشأنه وتعظيم قدره .(3/74)
وأما تربية أيتام المسلمين ودعوة المثرين إليها فمن الأمر بالمعروف فى الدين ومن أفضل أعمال البر وأحبها عند الله تعالى، والسنة مملوءة بطلب الرفق بالأيتام والضعفاء والمساكين .
ففى الحديث (من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو فى الجنة كهاتين) وفيه خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه أنا وكافل اليتيم فى الجنة كهذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى ) وفيه أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك) وكان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بكى وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس وكان لليتيم كالوالد، وكان للمرأة كالزوج الكريم، وكان أشجع الناس قلبا وأوضحهم وجها وأطيبهم ريحا وأكرمهم حسبا، فلم يكن له مثل فى الأولين والآخرين .
إلى غير ذلك من الأحاديث - أما القرآن فكثيرا ما قرب بين اليتامى وذوى القربى والمساكين وابن السبيل فى مقام الأمر بالإحسان والعبادة .
قال تعالى { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين } النساء 36 ، وقال { وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين } البقرة 177 ، إلى غير ذلك من الآيات - وأما إشاعة الإسلام فى مقابلة حملات الأجانب والدعوة إليها فهى أول مسألة من مسائل الدين وأساس وجوده وعليها حفظ كيانه وبقائه بل هى النوع الميسور الآن من أنواع الجهاد فى سبيل الله تعالى كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .(3/75)
قال { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } المائدة 67 ، وقال تعالى { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } الحجر 94 ، وقال تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } التوبة 122 ، وقال تعالى { وأنذر عشيرتك الأقربين .
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } الشعراء 214 ، 215 ، وقوله { وقل إنى أنا النذير المبين } الحجر 89 ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفى الحديث عن طارق قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذى المجاز فمر وعليه جبة حمرا وهو ينادى بأعلى صوته يا أيها الناس لا تطيعوه .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين النصيحة قيل لمن يارسول الله قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم وقال عليه الصلاة والسلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم والآيات والأحاديث فى هذا الباب أكثر من أن تحصر .(3/76)
وليست هذه المسائل الثلاثة من محل الخلاف بين العلماء، بل هى مما أجمع الكل عليه وأما الاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء على مصالح المسلمين، فإن كانت بأموالهم وكانت لمصلحة دينية أو منفعة دنيوية ولم تشتمل على معنى الإذلال والولاية المنهى عنها، فلا نزاع فى جوازها، خصوصا إذا نظرنا للكفار وأهل الذمة من جهة أنهم نقضوا العهود وتمردوا على الأحكام فإنه لا بأس بتناول أموالهم والانتفاع بها متى أمنت الفتنة والرذيلة وقد قبل النبى صلى الله عليه وسلم الهدية من المشركين، ففى صحيح البخارى قال أبو حميد أهدى ملك أيله للنبى صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بردا وكتب له ببحرهم ( أهل بحرهم والمقصود - بلدهم - والمعنى أنه أقره عليهم بما التزمه من الجزية ) وعن قتادة عن أنس أن أكيد ردومة أهدى إلى النبى صلى الله عليه وسلم .
وعن أنس بن مالك أن يهودية أتت النبى صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجىء بها فقال ألا نقتلها قال لا .
فما زلت أعرفها فى لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عبد الرحمن بن أبى بكر قال كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة فقال النبى صلى الله عليه وسلم هل مع أحد منكم طعام فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها فقال النبى صلى الله عليه وسلم بيعا أم عطية أو قال أم هبة .
قال بل بيع فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبى صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ما فى الثلاثين والمائة إلا وقد حز النبى صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهدا أعطاها إياه وإن كان غائبا خبأ له .
وطلب صلى الله عليه وسلم من يهودى له دين على صحابى مات وترك أيتاما أن يبرئهم من الدين فما قبل .(3/77)
وقصته فى البخارى . وفى الألوسى عند قوله تعالى { وما كنت متخذ المضلين عضدا } الكهف 51 ، مانصه وأما الاستعانة بهم فى أمور الدنيا فالذى يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت فى أمر ممتهن كنزع الكنائف أو فى غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها انتهى - وكتب على قوله تعالى { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله فى شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة } آل عمران 28 ، ما نصه قال ابن عباس .
نزلت فى طائفة من اليهود كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقيل لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم .
وحكى فى سبب نزول الآية غير ذلك . ثم أفاد أن المنهى عنه من الموالاة ما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما، لما قالوا إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار .
وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم فى الغزو مما ذهب إليه البعض .
ومذهب الحنفية وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ له .
وما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم حينما رأوه، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ارجع فلن أستعين بمشرك فمنسوخ - لأن النبى صلى الله عليه وسلم استعان بيهود بنى قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية فى هوازن .
وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق .
أما بدونها فلا تجوز . وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس فى سبب نزول الآية .(3/78)
وبه يحصل الجمع وأدلة الجواز . ومما أشار إليه من أدلة المنع والجواز مارواه أحمد وسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذى تبعه ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم تبعه فقال له تؤمن بالله ورسوله ن قال نعم .
فقال له فانطلق وعن الزهرى أن النبى صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود فى خيبر وأسهم لهم .
وأن قرمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بنى عبد الراد حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وسلم إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر .
كما ثبت ذلك عند أهل السير . وخرجت خزاعة مع النبى صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح .
وقد تصدى أئمة الحديث والفقهاء إلى الجمع بين هذه الآثار بأوجه منها ما تقدم .
ومنها ما ذكره البيهقى عن نص الشافعى رضى الله عنه إن النبى صلى الله عليه وسلم تفرس الرغبة فى الذين ردهم فردهم رجاء أن يسلموا .
ومنها أن الأمر فى ذلك إلى رأى الإمام . ومنها أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها .
قال الحافظ فى التلخيص وهذا أقربها عليه نص الشافعى .
وحكى فى البحر عن العترة وأبى حنيفة وأصحابه أنه تجوز الاستعانة بالكفار والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه واستدلوا باستعانته صلى الله عليه وسلم بناس من اليهود وبصفوان بن أمية يوم حنين قال فى البحر وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وسلم بابن أبى وأصحابه - انظر نيل الأوطار .(3/79)
وفى الألوسى عند قوله تعالى { إلا أن تتقوا منهم تقاة } مامفاده وفى الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء سواء كانت عداوتهم مبنية على اختلاف الدين كالكفر والإسلام أو على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة إلى أن قال وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم فى وجوههم والانبساط منهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهى عنها بل هى سنة وأمر مشروع، وقد روى الديلمى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إن الله تعالى أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى بإقامة الفرائض) وفى رواية بعثت بالمداراة، وفى الجامع سيأيتكم ركب مبغضون .
فإذا جاءوكم فرحبوا بهم، وروى ابن أبى الدنيا رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس، وفى رواية البيهقى رأس العقل المداراة، وأخرج الطبرانى مداراة الناس صدقة .
وأخرج ابن عدى وابن عساكر .
من عاش مداريا مات شهيدا، قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه وعن عائشة رضى الله عنها قالت (استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ابن العشيرة وأخو العشيرة .
ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال يا عائشة (إن من شر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه .
وفى البخارى عن النبى عن ابن أبى الدرداء إنا لنكشر ( نشكر بفتح النون وسكون الكاف وكسر الشين أى نضحك ونبتسم ) فى وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم .(3/80)
وأخرج ابن أبى شيبة عن شعيب قال كنت مع على بن عبد الله فمر علينا يهودى أو نصرانى فسلم عليه قال شعيب فقلت إنه يهودى أو نصرانى فقرأ على آخر سورة فسلم عليه قال شعيب فقلت إنه يهودى أو نصرانى فقرأ على آخر سورة الزخرف { وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .
فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون } الزخرف 88 ، 89 ، وقيل لعمر بن عبد العزيز كيف تبتدئ أهل الذمة بالسلام .
فقال ما أرى بأسا أن نبتدئهم . قلت لم قال لقوله تعالى { فاصفح عنهم وقل سلام } الزخرف 89 ، وروى البيهقى ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا بد له من معاشرته حتى يجعل الله له فى ذلك مخرجا، إلى غير ذلك من الأحاديث، غاية الأمر لا تنبغى المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسىء الظنون إذا علمت ذلك فالاستعانة بالكفار وأهل البدع والأهواء المشار إليها فى السؤال متى خلت عما أومأنا إليه فلا بأس بها بل هى من الأمر المشروع كما تقدم .
وقد علمت نظيرها فى القرون الفاضلة المشهود لها بالخير متى كانت الاستعانة من هؤلاء لنصرة الملك وحفظ حوز الملة وحينئذ لا يجوز لأحد من الناس أن يعارضهم فى هذه الأعمال الجليلة ويسعى فى تثبيط الهمم عن معاونتهم بل الواجب على كل واحد من أفراد الأمة أن يشاركهم فى هذا العمل لأنه من البر والخير وقد قال تعالى { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } الحج 77 ، { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا والله فى عوف العبد ما دام العبد فى عون أخيه .(3/81)
وأما حكم من يرميهم بالكفر والتضليل وسوء الاعتقاد فإن كان يعتقد أنهم كفار حقيقة بمثل هذا العمل وأنهم خرجوا عن دين الإسلام بمجرد ذلك، فحديث إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ظاهر فى تكفير هؤلاء المضللين وقد نص شراح الحديث وعلماء الأمة على الأخذ بظاهر هذا الحديث بالقيد المذكور، وإن قصدوا أن هؤلاء بولايتهم للكفار واستعانتهم بهم يفعلون فعل الكفار وليسوا بكفار حقيقة، فمع افترائهم وجهلهم بالدين قد أثموا وارتكبوا جريمة تقرب من الكفر بهذه الكلمة الشنيعة التى لا تصدر من مسلم، فضلا عن عالم .
وفى الحديث ( أبغض عباد الله إلى الله طعان لعان) وإن من أخلاق المؤمن ألا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، ولا يضيع ما استودع ولا يحسد ولا يطغى ولا يلغى، ويعترف بالحق وإن لم يشهد عليه، ولا يتنابز بالألقاب - فى الصلاة متخشعا إلى الزكاة مسرعا فى الزلازل وقورا .
فى الرخاء شكورا قانعا بالذى له، لا يدعى ما ليس له، ولا يجمع فى الغيظ، ولا يغلبه الشح عن معروف عليه صبر حتى يكون الرحمن هو الذى ينتصر له هذه هى أخلاق المؤمنين حتى إذا خرجوا منها فسدت أخلاقهم وانطفأ نور إيمانهم ونقضوا عرى الإسلام عروة عروة حتى لا يبقى منهم شىء نسأله السلامة وفى الفروق القرافية اعلم أن النهى يعتمد كما أن الأوامر تعتمد المصالح فأعلى رتب المفاسد الكفر، وأدناها الصغائر، والكبائر متوسطة بينهما، وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر، فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر، وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر .
وأصل الكفر إنما هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية، إما بالجهل بوجود الصانع، أو صفاته العلية، أو جحد ما علم من الدين بالضرورة، قال ابن رشد لا يحكم على أحد بالكفر إلا من ثلاثة أوجه وجهان متفق عليهما .(3/82)
والثالث مختلف فيه . فأما المتفق عليهما فأحدهما أن يقر على نفسه بالكفر بالله تعالى، والثانى أن يقول قولا قد ورد السماع وانعقد الاجماع أن ذلك لا يقع إلا من كافر، وإن لم يكن ذلك نفسه كفرا على الحقيقة وذلك نحو استحلال شرب الخمر وغصب الأموال وترك فرائض الدين والقتل والزنا وعبادة الأوثان والاستخفاف بالرسل وجحد سورة من القرآن وأشباه ذلك مما يكون علامة على الكفر وإن لم يكن كفرا على الحقيقة، والثالث المختلف فيه أن يقول قولا يعلم أن قائله لا يكنه مع اعتقاده والتمسك به معرفة الله تعالى والتصديق به، وإن كان يزعم أنه يعرف الله تعالى ويصدق به .
وبهذا الوجه حكم بالكفر على أهل البدع من كفرهم، وعليه يدل قول مالك فى العتبية ما آية أشد على أهل الأهواء من هذه الآية { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } آل عمران 106 ، انظر فتاوى أبى عبد الله .(3/83)
والحاصل أن هؤلاء المضللين المكفرين قد ارتكبوا بهذه الكلمة كبيرة من الكبائر التى تفضى إلى الكفر إن لم يكونوا معتقدين كفر هؤلاء الجماعة المتمسكين بعقائد أهل السنة وأعمال الإسلام والمسلمين، ولعلهم إن شاء الله تعالى يكونون كذلك غير معتقدين كفر هؤلاء، وإنما نطقوا بهذه الكلمة تعصبا وعنادا ظاهريا، فإن باب التكفير باب خطير ينبغى الاحتراز عنه ما وجد إليه سبيل، ولا يعدل بالسلامة شىء وإن كن قولهم بالكفر من الجهل العظيم والإقدام على شريعة الله تعالى وأحكامه بالجهالة وعلى عباده بالفساد والظلم والعدوان، وأما إن كانوا يكفرون أولئك الساعين فى الخير وهم يعتقدون أنهم كفار حقيقة فيكونون هم الكافرين كما سبق فى أول الكلام للحديث ومع ذلك نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالهم وينقذهم من هذه الضلالة ويهديهم إلى الصراط المستقيم - ما كتبه الأستاذ شيخ الحنابلة الحكم عندنا معاشر الحنابلة أن الشرع الشريف ألزمنا ألا نكفر أحدا أهل القبلة إلا إذا عرض نفسه للكفر وكفر بمخالفته ما شرعه لهذه الأمة سيد البشر صلى الله عليه وسلم وكان المخالف فيه مجمعا عليه، وعلماء أهل السنة والجماعة المتصفون بهذه الصفات الممدوحة شرعا من تحصيل الاتفاق والائتلاف بين فرق أهل الإسلام من غير اختلاف وشقاق وغير ذلك من بقية الصفات التى حث عليها الشارع ليسوا كذلك، وإن استعانوا بالكفار فى تحصيل مصالح المسلمين العامة كالصنائع والجهاد وغيرهما، فإن الصنائع مأمور بها شرعا .
وقد اتصف بها آدم ومن بعده الأنبياء والمرسلين كما نص عليه ابن عباس .
وقد نقل المروذى عن الإمام أحمد أنه قال فى قوم لا يعملون ويقولون نحن متوكلون ويقولون نحن متوكلون - هؤلاء مبتدعة - واستعانة المسلمين بالكفار جائزة فى الجهاد للضرورة كضعف المسلمين ولو كان العدو من بغاة المسلمين .
لما روى الزهرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود فى حربه فأسهم لهم .(3/84)
رواه سعيد . وإذا جازت الاستعانة بالكفار فى الجهاد فتجوز الاستعانة من المسلمين بهم فى غيره مما فيه مصلحة لعموم المسلمين بجامع أن كلا من المصالح العامة، وتكفير علماء أهل السنة والجماعة بالاستعانة بأهل البدع والأهواء ودخولهم فى مجالسهم واختلاطهم معهم فى هذه المصالح العامة لا يجوز شرعا .
وإن قال ابن مفلح فى الفروع إن الاستعانة بهم مختلف فيما، قيل بالجواز، وقيل بالمنع، بل مكفروا هؤلاء العلماء هم الكفار .
قال فى منتهى الإرادات وشرحه للبهوتى وعن الإمام أحمد أن الذين كفروا أهل الحق والصحابة - كفار قال المنقح وهو أظهر من القول بأنهم فسقة خوارج بغاة .
وقال فى الإنصاف والقول بتكفيرهم هو الصواب وهو الذى ندين الله به .
وقال ابن مفلح فى الفروع وعن الإمام أحمد أنهم كفار، وقال فى الترغيب والرعاية إنه الأشهر .
وذكر ابن حامد أنه لا خلاف فيه وفى الحديث الشريف الصحيح (إن من كفر أحدا بلا تأويل فقد كفر) وقال الشيخ برهان الدين الحلبى ومن كفر أخاه المسلم بغير تأويل فهو كافر يجب عليه تجديد الإسلام والتوبة من ذلك وتجديد نكاحه إن لم يدخل بزوجته، وكذا إن دخل بها عند أبى حنيفة .
وأما عندنا فالعصمة باقية إن عاد إلى الإسلام بالتوبة قبل انقضاء العدة .
فيجب على المسلم أن يصون من التكفير بغير موجب قطعي كل فرد من أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومرتكب ذلك لغرض نفسه لاريب هو من الضالين الممقوتين والله ولى المتقين وقد روى أبو داود بإسناده عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من أصل الإيمان الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه عن الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثنى الله إلى أن يقاتل آخر أمتى الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار .(3/85)
والله أعلم. ما كتبه الأستاذ الفاضل الحنفى قال الله تعالى فى كتابه العزيز { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، وقال عز من قائل { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } آل عمران 103 ، وقال مخاطبا لصفوته من خلقه { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } النحل 125 ، وقال فى محكم آياته { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } الممتحنة 8 ، وهى آية محكمة لم تنسخ على ما عليه أكثر أهل التأويل .
وقال صلى الله عليه وسلم (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) وقال عليه السلام ( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهو فى الصحيحين .
إذا تمهد هذا . فنقول أما تكفير المؤمن، فإن مذهب أهل الحق عدم جوازه بارتكاب ذنب ليس من الكفر إن صغيرا كان الذنب أو كبيرا عالما كان مرتكبه أو جاهلا، وسواء كان من أهل البدع والأهواء أولا، نص عليه عبد السلام شارح الجوهرة عند قول المصنف فلا نكفر مؤمنا بالوزر وقال فى الدر من باب المرتد لا يفتى بالكفر بشىء من ألفاظه إلا فيما اتفق المشايخ عليه .
وقال فى جامع الفصولين لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك فى أنه ردة لا يحكم به إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أن الإسلام يعلو وينبغى للعالم إذا رفع إليه هذا ألا يبادر بتكفير أهل الإسلام .
وقال فى الفتاوى الصغرى الكفر شىء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر .
وقال فى الخلاصة وغيرها إذا كان فى المسألة وجوه وتوجب التكفير ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتى أن يميل إلى الوجه الذى يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم .(3/86)
وقال فى التتار خانية لا يكفر بالمحتمل لأن الكفر نهاية العقوبة ، فيستدعى نهاية الجناية، ومع الاحتمال لانهاية وفى رد المحتار من باب البغاة ما يفيد إجماع الفقهاء المجتهدين على عدم تكفير أهل البدع .
قال وإن ما يقع من تكفير أهل مذهب لمن خالفهم ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء، وفى الدر وحواشيه من باب الإمامة من كان من قبلتنا لا يكفر بالبدعة، حتى الخوارج الذين يستحلون دماءنا وأموالنا وسب أصحاب الرسول صلى الله عليه سلم غير الشيخين وينكرون صفاته تعالى وجواز رؤيته لكونه عن تأويل وشبهه والمراد بالخوارج من خرج عن معتقد أهل الحق، لا خصوص الفرقة التى خرجت على على، فيشمل المعتزلة والشيعة وأما الاستعانة بالكفار وبأهل البدع والأهواء على نصرة الملة الإسلامية فهذا مما لا شك فى جوازه وعدم خطره، يرشد إلى ذلك الحديث الصحيح المار ذكره (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الله ليؤيد الإسلام برجال ماهم من أهله) وقال فى الدر المختار من كتاب الغنائم عند قول المصنف أو دل الذمى على الطريق ومفاده جواز الاستعانة بالكافر عند الحاجة .
وقد استعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود ورضخ لهم، وفى شرح العين على البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام استعان بصفوان ابن أمية فى هوازن واستعار منه مائة درع وهو مشرك وفى المحيط من كتاب الكسب ذكر محمد فى السير الكبير لا بأس للمسلم أن يعطى كافرا حربيا أو ذميا وأن يقبل الهدية منه لما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث خمسمائة دينار إلى مكة حين قحطوا وأمر بدفعها إلى أبى سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ليفرقاها على فقراء مكة .(3/87)
ولأن صلة الرحم محمودة فى كل دين . والأهداء إلى الغير من مكارم الأخلاق وفى شرح السير الكبير للسرخسى لا بأس أن يصل الرجل المسلم المشرك قريبا كان أو بعيدا محاربا كان أو ذميا، وفى الدر المختار من كتاب الوصايا أوصى حربى أو مستأمن لا وراث له هنا بكل ما له لمسلم صح .
وكذا لو أوصى له مسلم أو ذمى جاز .
ثم قال وصاحب الهوى إذا كان لا يكفر فهو بمنزلة السلم فى الوصية .
وقال الفخر الرازى فى تفسير قوله تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم } الممتحنة 9 ، إلى قوله تعالى { أن تولوهم } قال أهل التأويل هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين وإن كانت الموالاة منقطعة .
وفى البخارى ما يدل على وصية عمر رضى الله عنه بالقتال عن أهل الذمة وأن لا يكلفوا إلا طاقتهم
هذه هى نصوص الفقهاء وأصحاب الحديث وأهل التفسير فى وجهى السؤال .
وبها تندفع كل شبهة فى عمل هؤلاء الموفقين لخير أهل الملة الحنيفية السمحاء العاملين فى تحصيل الائتلاف والاتفاق بين فرق أهل الإسلام الداخلين بتربية أيتام المسلمين فى قوله صلى الله عليه وسلم كما فى صحيح البخارى (أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا وقال بإصبعيه السبابة والوسطى) المجاهدين بعملهم هذا لإعلاء كلمة الله ونصرة الموحدين ولا يمنع من صحة عملهم دخولهم فى مجالس أهل البدع واختلاطهم معهم فى هذه المصالح العامة متى كانت نيتهم تحصيل ذلك الخير العام .
فإن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى .
والله أعلم . هذا ما ذكره هؤلاء الأفاضل ثم نقول .
المطلع على ما نقله حضرات الأساتذة من علماء الأزهر من نصوص الكتاب والسنة وأقوال الأئمة والعلماء من أهل المذاهب الأربعة يعلم حق العلم أن ما يفعله أولئك الأفاضل دعاة الخير هو الإسلام ومن أجل مظاهر الإيمان وأن الذين يكفرونهم أو يضللونهم هم الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عن أحكام دينه القويم .(3/88)
أولئك الدعاة إلى الخير قاموا بأمر الله فى قوله { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } آل عمران 104 ، أما خصومهم فقد خالفوا نهى الله سبحانه وتعالى فى قوله { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } آل عمران 105 ، وإن كانوا يعتقدون كفر أولئك المؤمنين حقيقة فالمفتى به عند الحنفية أنهم يكفرون بذلك لاعتدادهم الإيمان وأعماله كفرا وهو جحود لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .(3/89)
وإن كانوا يقولون ذلك نبذا بألسنتهم فأخف حالهم أن يدخلوا فى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا وقد قال الله فيهم { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة } النور 19 ، لأنهم يضللون من يؤمن بالله واليوم الآخر وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويرمونهم بالفسق فى أعمالهم وهو إشاعة الفاحشة فى الذين آمنوا وما أعظم الوعيد عليه فى قوله تعالى { لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة } النور 19 ، فهو من فظائع الكبائر بقى أن بعض الجهلة المتشدقين ربما تعرض لهم الشبهة فى فهم قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم } آل عمران 118 ، إلى آخر الآية ، وقوله تعالى { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } المجادلة 14 ، وقوله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } المجادلة 22 ، وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا فى سبيلى وابتغاء مرضاتى تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } الممتحنة 1 ، وما لم أتذكره مما قد يكون فاتنى من الآيات التى تصرح أو تشير إلى المنع من موادة المؤمنين لغير المؤمنين على أنه لا شبهة لهؤلاء الجهلة فى مثل هذه الآيات تسوغ لهم تفسيق إخوانهم أو تكفيرهم بعدما جاء فى الآية المحكمة من قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .(3/90)
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } الممتحنة 8 ، 9 ، وبعدما جاء فى القصص الذى قصه الله علينا لتكون لنا فيه أسوة إذ قال تعالى { وإن جاهداك على أن تشرك بى ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفا } لقمان 15 ، وبعدما أباح الله لنا فى آخر ما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم نكاح الكتابيات ولا يكون نكاح فى قوم حتى تكون فيهم قرابة المصاهرة ولا تكون تلك القرابة حتى تكون المودة .
وحقيقة ما جاء فى الآيات الدالة على النهى عن موالاة غير المؤمنين أو مودة الفاسقين والمحادين لله تعالى أنه نهى عن الموالاة فى الدين ونصرة غير المؤمن على المؤمن فيما هو من دينه وإمداد الفاسق بالمعونة على فسقه، وعن اتخاذ بطانة من غير المؤمنين يكون من صفتها أنها تبذل وسعها فى خذلانهم وإيصال الضرر إليهم فيكون إدلاء المؤمنين إليها بأسرارهم وغلب الظن بالمنفعة ولم يكن فى الموادة معونة على تعدى حدود الله ومخالفة شرعه فلا حظر فى الاستعانة بمن لم يكن من المسلمين أو لم يكن من الموفقين الصالحين ممن يسمونهم أهل الأهواء، فإن طالب الخير يباح له بل ينبغي له أن يتوسل إليه بأية وسيلة توصل إليه ما لم يخالطها ضرر للدين أو للدنيا .(3/91)
وقد بينت السنة وعمل النبى صلى الله عليه وسلم ما صرح به الكتاب فى قوله تعالى { لا ينهاكم الله } الخ ولقد كانت لنا أسوة حسنة فى استعانة رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفوان بن أمية فى حرب هوازن وفى غيرها من الوقائع كما هو معروف فى السنة ثم كان فى سيرة الخلفاء الراشدين من لدن عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى على كرم الله وجهه ما فيه الكفاية لمسترشد إذا استرشد فقد أنشأ عمر رضى الله عنه الديوان ونصب العمال واحتاج المسلمون إلى من يقوم فى العمل فى حساب الخراج وما ينفق من بيت المال واحتاجوا إلى كتاب المراسلات والقوم أميون لا يستطيعون القيام بما كان يطلبه العمل من العمال فوضعوا ذلك كله فى أيدى أهل الكتاب من الروم وفى أيدى الفرس ولم يزل العمل على ذلك فى خلافة بنى أمية بعد الراشدين إلى زمن عبد الملك بن مروان، ولا شك فى أن هذا استعانة بغير المسلمين على أعمال هى من أهم أعمالهم، فكيف ينكر هؤلاء الجهال جواز تلك الاستعانة، بل قد استعان كثير من ملوك المسلمين بغير المسلمين فى حروبهم، وإنا نذكر ما قاله ابن خلدون فى ذلك كله .
قال فى باب ديوان الأعمال والجبايات وأما ديوان الخراج والجبايات فبقى بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسية، وديوان الشام بالرومية، وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين، ولما جاء عبد الملك .(3/92)
ابن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر فى العرب ومواليهم مهرة فى الكتابة والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد وإلى الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم اطلبوا العيش فى غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم، وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب بالعربية والفارسية ولقن ذلك عن زادن فروخ كاتب الحجاج قبله .
ولما قتل زادان فى حرب ابن الأشعث استخلف الحجاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل ورغم لذلك كتاب الفرس .
وقال فى الكلام على الوزارة وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عنده برتبة، لأن القوم كانوا عربا أميين لا يحسنون الكتابة والحساب فكانوا يستعملون فى الحساب أهل الكتاب أو أفرادا من موالى العجم ممن يجيده وكان قليلا فيهم، وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه، لأن الأمية كانت صفتهم التى امتازوا بها، وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم يكن عندهم رتبة خاصة للأمية التى كانت فيهم، والأمانة العامة فى كتمان القول وتأديته، ولم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هى دين ليست من السياسة الكلية فى شىء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب فى كتابته من عماله من يحسنه .(3/93)
وقال فى الحروب ومذاهب الأمم فى ترتيبها فصل ولما ذكرناه من حرب المصاف وراء العساكر وتأكده فى قتال الكر والفر صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الإفرنج فى جندهم واختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر، والسلطان يتأكد فى حقه ضرب المصارف ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلابد وأن يكون أهل ذلك الصف من قوم متعودين للثبات فى الزحف وهم الإفرنج ويرتبون مصافهم المحدق بهم فها هنا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر .(3/94)
وإنما استخفوا ذلك للضرورة التى أريناكها من تخوف الإجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات فى ذلك لأن عادتهم فى القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم، ثم جاء فى الأحكام السلطانية لقاضى القضاة ابن الحسن على بن محمد بن حبيب البصرى البغدادى فى الكلام على وزارة التنفيذ وهذا الوزير وسط بين الإمام وبين الرعايا والولاة يؤدى عنه ما أمر وينفذ عنه ما ذكر ويمضى ما حكم ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد فى حدث ملم ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين فى تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلدا لها، فإن شورك فى الرأى كان باسم الوزارة أخص، ثم قال ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم واستعانة الخلفاء من بنى أمية وبنى العباس بأرباب العلوم والفنون من الملل المختلفة فيما هو من فنونهم مما لا يمكن لصبى يعرف شيئا من تاريخ الأمة إنكاره وقد كانوا يستعينون بهم على أعين الأئمة والعلماء والفقهاء والمحدثين بدون نكير، فقد قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف على جواز الاستعانة بغير المؤمنين وغير الصالحين على ما فيه خير ومنفعة للمسلمين وأن الذين يعمدون إلى هذه الاستعانة لجمع كلمة المسلمين وتربية أيتامهم وما فيه خير لهم لم يفعلوا إلا ما اقتضته الأسوة الحسنة بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن من كفرهم أو فسقهم فهو بين أحد الأمرين إما كافر أو فاسق .
فعلى دعاة الخير أن يجدوا فى دعوتهم وأن يمضوا على طريقتهم، ولا يحزنهم شتم الشاتمين، ولا يغيظهم لوم اللائمين .
فالله كفيل لهم بالنصر إذا اعتصموا بالحق والصبر .
والله أعلم .
===========
حقيقة الخمر وحكمها (1)
المفتي
عبد المجيد سليم .
صفر سنة 1358 هجرية - 12 أبريل سنة 1939 م
المبادئ
1- كل ما خامر العقل وستره فهو خمر ومحرم شرعا .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 7 / ص 368)(3/95)
2- حد شارب الخمر الجلد مع اختلاف فى مقداره، والزيادة عليه تعزيز مفوض للامام، وهو الذى يقيم الحد أو نائبه .
3- لا يجوز لغير المسلمين بيع الخمر علنا .
4- النهى عن المنكر يكون إذا لم يترتب على هذا النهى منكر أعظم من هذا المنكر ومفسدة أشد من مفسدة فعل المنكر
السؤال
من الأستاذ مصطفى أفندى قال ما حكم الإسلام فى الخمر، وما هو حد شارب الخمر، وإلى أى حد يجوز لغير المسلمين الاتجار فيها وبيعها للمسلمين على رؤوس الأشهاد، وما هو حد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وما قول فضيلتكم فى مسلم أساءه الاستهتار بالدين إذ رأى الحانات تفتح أمام المساجد فدعا المسلمين إلى العمل على إغلاقها وقصر بيعها على أهل الذمة فى أحيائهم ولفضيلتكم أكرم الثواب
الجواب
اطلعنا على هذا السؤال ونفيد بما يأتى عن المسألة الأولى أن حكم الخمر فى الشريعة الإسلامية هو الحرمة .
وذلك ثابت بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } المائدة 90 ، 91 ، وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام وروى عبد الله بن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه رواه أبو داود .
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواردة فى تحريم الخمر .
قال ابن قدامة فى المغنى (وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر بأخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر) .(3/96)
هذا والخمر - كل مسكر خامر العقل وستره - فاسم الخمر يتناول كل شراب مسكر - سواء أكان من العنب أو من غيره، وهذا ماعليه جمهور الفقهاء وأهل الحديث جميعا، ويدل على ذلك ما جاء فى البخارى عن ابن عمر رضى الله عنهما قال (خطب عمر رضى الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه قد نزل تحريم الخمر وهى من خمسة أشياء العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل .
والخمر ما خامر العقل ) وما رواه البخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال (كنت أسقى أبا عبيدة وأبا طلحة وأبى ابن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها) والفضيخ بوزن عظيم اسم للبسر إذا شدخ ونبذ .
والزهو بفتح الزاى وسكون الهاء بعدهما واو هو البسر الذى يحمر أو يصفر قبل أن يترطب .
وفى البخارى عن أنس أيضا قال (كنت قائما على الحى أسقيهم - عمومتى وأنا أصغرهم سنا - الفضيخ فقيل حرمت الخمر فقالوا أكفئها فكفأتها) وعن بكر بن عبد الله أن أنس بن مالك حدثهم (أن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر) غلى آخر ما جاء فى البخارى .
وما أحسن ما نقله الحافظ بن حجر عن القرطبى من قوله (الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناول اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب وللسنة الصحيحة وللصحابة .(3/97)
لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الأمر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وما يتخذ من غيره بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم بتوقفوا ولا استفصلوا ولم يشكل عليهم شىء من ذلك بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما كان تقرر عندهم من النهى عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا وبادروا إلى الإتلاف علمنا أنهم فهموا التحريم نصا فصار القائل بالتفريق سالكا غير سبيلهم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك (وهو ممن جعل الله الحق على لسانه وقلبه ) وسمعه الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن أحد منهم إنكار ذلك .
وإذا ثبت أن كل ذلك يسمى خمرا لزم تحريم قليله وكثيره، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة فى ذلك ثم ذكرها .
قال وأما الأحاديث عن الصحابة التى تمسك بها المخالف فلا يصح منها شىء على ما قال عبد الله بن المبارك وأحمد وغيرهم وعلى تقدير ثبوت شىء منها فهو محمول على نقيع الزبيب أو التمر من قبل أن يدخل حد الإسكار جمعا بين الأحاديث .
وقد قال أبو بكر بن العربى فى كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } إن الخمر كل شراب ملذ مطرب قاله أهل المدينة وأهل مكة وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة ذكرناها فى شرح الأحاديث ومسائل الخلاف فلا يلتفت إليها والصحيح ما روى الأئمة أن أنسا قال حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا قليل وعامة خمرها البسر والنمر خرجه البخارى .
واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب، وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم وبادروا بالامتثال لاعتقادهم بأن ذلك كل خمر إلى آخر ما قال .(3/98)
وجملة القول أن اسم الخمر المحرمة فى الشريعة الإسلامية يتناول كل مسكر، إما على سبيل الحقيقة اللغوية أو على سبيل الحقيقة الشرعية، بأن يكون الشارع نقلها من نوع خاص من الشراب المسكر إلى مفهوم يتناول جميع أنواع الشراب المسكر .
وعلى فرض أن اسم الخمر لا يطلق حقيقة على كل شراب مسكر .
فالنصوص المستفيضة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الصحاح والسنن والمسانيد قاطعة بأنه صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر ولولا خشية الإطالة لذكرنا هذه النصوص .
ومن شاء الاطلاع عليها فليرجع إلى كتب الأحاديث أو باب الأشربة وحد الشراب الجزء الرابع من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية فقد ذكر رحمه الله كثيرا من هذه الأحاديث، ثم قال (فمن اعتقد من العلماء أن النبيذ الذى رخص فيه يكون مسكرا يعنى من نبيذ العسل والقمح ونحو ذلك فقال يباح أن يتناول منه ما لم يسكر فقد أخطأ .
وأما جماهير العلماء فعرفوا أن الذى أباحه هو الذى لا يسكر، وهذا القول هو الصحيح فى النص والقياس أما النص فالأحاديث كثيرة فيه .
وأما القياس فلأن جميع الأشربة المسكرة متساوية فى كونها تسكر ، والمفسدة الموجودة فى هذا موجودة فى هذا، والله تعالى لا يفرق بين المتماثلين، والتسوية بين هذا وهذا من العدل والقياس الجلى، فتبين أن كل مسكر خمر حرام .
والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل المسكر منها فقد كفر) .
وجاء فى تفسير الألوسى عند قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } .
الآية بعد كلام ما نصه (وعندى أن الحق الذى لا ينبغى العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأى اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حرام، وقليله ككثيرة، ويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة .(3/99)
وفى الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع وهو نبيذ العسل فقال - كل شراب أسكر فهو حرام - وروى أبو داود - نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر - وصح - ما أسكر كثيره فقليله حرام - وفى حديث آخر - ما أسكر الفرق ( مكيال يسع ستة عشر رطلا ) منه فملء الكف منه حرام - والأحاديث متضافرة على ذلك) إلى آخر ما قال الألوسى (والفرق مكيال مخصوص بالمدينة) ومما ذكرنا كله يتبين جليا أن الحق أن كل مسكر حرام قليله وكثيره فى ذلك سواء .
ومن هذا كانت الفتوى فى مذهب أبى حنيفة على رأى محمد القائل بذلك عن المسألة الثانية أن حد شارب الخمر، هو الجلد، ولكن الفقهاء اختلفوا فى مقداره فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه ثمانون جلدة .
وذهب الإمام الشافعى إلى أنه أربعون جلدة . وعن الإمام أحمد روايتان قال ابن قدامة فى المغنى وبهذا قال مالك والثورى وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة فإنه روى أن عمر استشار الناس فى حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف اجعله كأخف الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين ،وكتب به إلى خالد وأبى عبيدة بالشام .
وروى أن عليا قال فى المشورة إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترى - روى ذلك الجرجانى والدار قطنى وغيرهما .
والرواية الثانية أن الحد أربعون وهو اختيار أبى بكر - من الحنابلة ومذهب الشافعى لأن عليا جلد الوليد بن عطية أربعين ثم قال جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلى - رواه مسلم .
وعن أنس قال - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين، ثم أتى به أبو بكر فصنع مثل ذلك، ثم أتى به عمر فاستشار الناس فى الحدود .(3/100)
فقال ابن عوف أقل الحدود ثمانون فضربه عمر - متفق عليه - وفعل النبى صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعلى رضى الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام) انتهت عبارة المغنى - والظاهر لنا وجاهة القول بأن الحد أربعون وللإمام أن يعزر مع إقامة الحد بما يراه أصلح هذا ومن يقيم الحد إنما هو الإمام أو من ولاه الإمام ذلك .
عن المسألة الثالثة لايجوز تمكين غير المسلمين من بيع الخمور ظاهرا فى أمصار المسلمين، لان إظهار بيع الخمر إظهار للفسق فيمنعون من ذلك .
نعم لهم أن يبيعوا الخمر بعضهم لبعض سرا .
وعلى الجملة لا يجوز الاتجار بالخمر فى أمصار المسلمين على رؤوس الأشهاد .
كما يؤخذ هذا من البدائع صفحة 113 من الجزء السابع ومن فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية فى باب الأشربة من الجزء الرابع .
عن المسألة الرابعة إن من أوجب الواجبات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذلك ثابت بالكتاب الكريم والسنة، قال الله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } آل عمران 104 ، وقال تعالى { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } المائدة 2 ، ومعنى التعاون على البر والتقوى الحث عليهما وتسهيل طرق الخير وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان .
وقد روى مسلم عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .
من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وروى الترمذى عن حذيفة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال (والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر .(3/101)
أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث المتضافرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقد فصل العلماء شروط الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبينوا حدود ذلك .
وأحسن من كتب فى هذا الموضوع على ما رأينا هو حجة الإسلام الغزالى فى الجزء الثانى من كتاب إحياء علوم الدين، فقد أطال رحمه الله تعالى القول فى ذلك وشرح هذا الموضوع شرحا وافيا والذى يهمنا فى الإجابة عن هذا السؤال هو ما ذكره من أنه إذا كانت المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن مالم يؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها وذلك يثبت للآحاد والرعية) فهذا صريح فى أن النهى عن المنكر إنما يكون إذا لم يترتب على هذا النهى منكر أعظم من هذا المنكر ومفسدة أشد من مفسدة فعل المنكر .
وهذا هو الذى ينبغى ألا يكون فيه خلاف .
وقد قال المحقق ابن القيم فى أعلام الموقعين من الجزء الثالث فى مبحث تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد - بعد كلام مانصه (فإنكار المنكر أربع درجات الأولى أن يزول ويخلفه ضده .
الثانية أن يقل وإن لم يزل بجملته .
الثالث أن يخلفه ماهو مثله .
الرابعة أن يخلفه ماهو شر منه . وحينئذ لا يجوز الأمر بالمعروف ولا النهى عن المنكر إذا ترتب على ذلك مفسدة أشد وشر أعظم من ترك المعروف وفعل المنكر .(3/102)
ومن هذا يعلم أنه إذا كان المسلم الذى ساءه الاستهتار بالدين إذ رأى الحانات تفتح أمام المساجد إلى آخره دعا المسلمين إلى العمل على إغلاق هذه الحانات بطريقة لا يترتب عليها شر أعظم ولا فتنة أكبر بأن دعاهم إلى مطالبة أولى الأمر بمنع فتح هذه الحانات والانجار بالخمر ومنع سائر المنكرات التى فشت فى الأمة فأماتت القلوب وأفسدت على العقول إدراكها فأصبح كثير من الناس يستحسنون القبيح ويستقبحون الحسن، وفقدت منهم قوة التمييز بين الخير والشر والنافع والضار والحسن والقبيح كان هذا المسلم ومن يقوم معه قد أدوا ماهو واجب على حسب استطاعتهم .
أما إذا قاموا بأنفسهم بإزالة هذا المنكر وتغييره بأيديهم وكان هذا مما يترتب عليه فتنة وشر للأمة أعظم من الاتجار بالخمر فذلك مما لا يجوز فعله، بل هو محظور لما يترتب عليه من المفاسد والمضار كما قدمنا .
هذا وقد ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن تغيير المنكر باليد إنما هو على الأمراء والحكام، والتغيير باللسان على العلماء، والتغيير بالقلب على العوام ذهابا منه إلى أن التغيير باليد يعتمد القدرة وأنه لا قدرة لغير الأمراء والحكام .
ولكن حديث (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده .
إلى آخره) نص كما قال العلامة البركوى فى كون الوجوب على هذا الترتيب على كل شخص، وهو قول أكثر العلماء وهو المختار للفتوى .
غير أن الأمر مقيد كما قلنا سابقا بما إذا لم يترتب على ذلك شر أعظم ومفسدة أكبر وخلاصة القول أن الشريعة الإسلامية كما قال المحقق ابن القيم - مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد، وهى عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها .
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة .
فإذا أمرت بشىء فإنما تأمر به لما فيه من المصلحة الراجحة، وإذا نهت عنه فإنما تنهى عنه لما به من المفسدة الراجحة .(3/103)
فعلى المسلم حينئذ أن يتبع قواعد دينه، فيكون حكيما فى دعوته إلى الله، وفى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر .
هذا ما ظهر لنا والله سبحانه وتعالى أعلم
=============
حديث : لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان (1)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل صحيح انه لا يجوز لغير المسلم أن يدخل أرض الحجاز؟
الجواب
أرض الحجاز هى الفاصلة بين نجد وتهامة، وأشهر مدنها مكة والمدينة ، وفيها الحرم والمسجد الحرام .
ودخول المسجد الحرام تقدم حكمه ، أما الحرم المكى بحدوده التى ذكرها الماوردى فى كتابه "الأحكام السلطانية ص 164 " بأنها ثلاثة أميال من طريق المدينة دون التنعيم ، وسبعة أميال من طريق العراق ، وتسعة أميال من طريق الجعرانة ، وسبعة أميال من طريق الطائف على عرفة ، وعشرة أميال من طريق جدة - هذا الحرم المكى بحدوده ، قال جمهور الفقهاء : لا يجوز دخوله لجميع من خالف دين الإسلام ، من ذمى أو معاهد، لا مقيما فيه ولا مارا به ، وجوز أبو حنيفة دخولهم إذا لم يستوطنوه . ولو دخله المشرك بدون إذن عزر وأخرج ، وإن كان بإذن لم يعزر وأنكر على الإذن وأخرج ، ولو أراد دخول الحرم ليسلم فيه منع منه حتى يسلم قبل دخوله ، وإذا مات فيه مشرك حرم دفنه ، فإن دفن فيه نقل إلى الحل ، إلا أن يكون قد بلى ، كما تركت أموات الجاهلية .
وأما دخول غير الحرم بحدوده المعروفة . فالجمهور على عدم استيطان الذمى والمعاهد ، وجوزه أبو حنيفة ، ودليل الجمهور حديث عائشة : كان آخر ما عهد به رسول اللّه أن قال " لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان " رواه البيهقى .
وتطبيقا لذلك أجلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أهل الذمة عن ا لحجاز .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 25)(3/104)
وضرب لمن قدم منهم تاجرا أو صانعا مقام ثلاثة أيام يخرجون بعد انقضائها ، واستقر الحكم على منعهم من الاستيطان ، وجواز دخولهم بصفة مؤقتة لمدة ثلاثة أيام فى موضع ويمكن أن ينتقل منه إلى غيره لمدة ثلاثة أيام أيضا فإن زاد عليها عزر إن لم يكن معذورا "الأحكام السلطانية من 167 "
==============
القيام للجنازة(1)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
مرت علينا جنازة ونحن جالسون ، فقام بعضنا ولم يقم البعض الآخر وكل يقول : إن ما فعله هو السنة، فهل هذا صحيح ؟
الجواب
روى مسلم عن على رضى الله عنه أنه قال : رأينا النبى صلى الله عليه وسلم قام فقمنا فقعد فقعدنا ، يعنى فى الجنازة قال الترمذى : حديث علىٍّ حسن صحيح ، وفيه أربعة من التابعين بعضهم عن بعض ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ، وقال الشافعى : هذا أصح شىء فى هذا الباب .
يؤخذ من هذا أن القيام للجنازة عندما تمر بالإنسان مشروع ، بل هو مندوب لفعل النبى صلى الله عليه وسلم بل لأمره بذلك أيضا كما فى رواية أحمد عن على : كان النبى صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام فى الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس ، وقال الإمام أحمد : إن شاء قام وإن شاء لم يقم ، ووافقه ابن الماجشون من المالكية قال النووى :
والمختار أنه مستحب . قال ابن حزم : ويستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء وإن كانت جنازة كافر حتى توضع أو تخلِّفه ، فإن لم يقم فلا حرج . وذلك لحديث رواه الجماعة . وروى البخارى ومسلم عن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية ، فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما : إنها من أهل الأرض -أى من أهل الذمة- فقالا : إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام ، فقيل له :
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 363)(3/105)
إنها جنازة يهودى ، فقال "أو ليست نفسا"؟ والحكمة فى القيام لها ما جاء فى رواية أحمد وابن حبان والحاكم مرفوعا ، "إنما تقومون إعظاما للذى يقبض النفوس" ولفظ ابن حبان "إعظاما لله تعالى الذى يقبض الأرواح" .
فالخلاصة أن القيام للجنازة فيه أقوال ، قيل بالكراهة ، وقيل بالاستحباب ، وقيل بالتخيير بين الفعل والترك ، ولكل واحد أن يختار القول الذى يطمئن إليه
===============
الحمامات العامة(1)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
ما حكم الإسلام فى دخول الحمامات العامة ؟
الجواب
الحمامات أماكن خاصة للاستحمام ، وكانت للبيوت الموسرة حمامات خاصة بها ، ثم اقيمت حمامات عامة للناس ، وهى قديمة موجودة قبل الإسلام ، يقول المقريزى ، فى خططه " ج 3 ص 129 " : قال محمد بن إسحاق فى كتاب " المبتدى" : إن أول من اتخذ الحمامات والطلاء بالنورة سليمان وإنه لما دخله ووجد حميمه قال : أوَّاه من عذاب الله أواه ! ! وذكر المستحى فى تاريخه أن أول من بنى الحمامات فى القاهرة " العزيز باللَّه نزار بن المعز " وكان بها ثمانون حماما فى سنة 685 ط . وأقل حمامات كانت ببغداد زمن الناصر أحمد بن المستنصر ألفا حمام . انتهىـ . .
ولهذه الحمامات آثار باقية إلى الآن بالشام . وهى آخذة فى الانقراض . وقد ألف الحافظ ابن كثير كتابا فى الحمام . ووردت فيه أحاديث كثيرة لم يتفق على صحة شىء منها ، قال المنذرى :
وأحاديث الحمام كلها معلولة ، وإن ما يصح منها فهو عن الصحابة "نيل الأوطار ج 1 ص 277 " .
ومن هذه الأحاديث ما يأتى :
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 8 / ص 409)(3/106)
1 - روى أبو داود وابن ماجه عن ابن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنها ستفتح لكم أرض العجم ، ،ستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات . فلا يدخلها الرجال إلا بالإزار، وامنعوا النساء ، إلا مريضة أو نفساء " نيل الأوطار ج ا ص 178 والترغيب والترهيب ج ا ص 65 . وقد تكلم فى هذا الحديث بما يضعف حجيته .
2 -وأخرج المنذرى فى كتابه " الترغيب والترهيب "ج ا ص 66 أن نساء من أهل حمص ، أو من أهل الشام دخلن على عائشة فقالت : أنتن اللاتى تدخلن نساءكن الحمامات ؟ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول " ما من امرأة تضع ثيابها فى غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها " رواه الترمذى وقال : حديث حسن وأبو داودو وابن ماجه والحاكم وقال : صحيح على شرطهما . وروى معنى هذا الحديث عن أم سلمة حين دخل عليها نساء حمص . رواه أحمد وأبو يعلى والطبرانى والحاكم .
3- وعن طاووس عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال " احذروا بيتا يقال له الحمام " . قالوا : يا رسول اللَّه ينقى الوسخ . قال " فاستتروا " رواه البزار وقال : رواه الناس عن طاووس مرسلا . قال الحافظ المنذرى : رواته كلهم محتج بهم فى الصحيح . ورواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم . ورواه الطبرانى فى الكبير بنحو ما رواه الحاكم " الترغيب ج ا ص 65 " وصححه الألبانى .
4 -عن عائشة قالت : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول " الحمام حرام على نساء أمتى " رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد " الترغيب ج 1 ص 65" .
د -وعن جابر قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئرر. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام " . رواه النسائى والحاكم وصححه ، وحسنه الترمذى "المرجع السابق " وفي ص 66 روى مثله عن طريق أبى سعيد الخدرى .(3/107)
قال القرطبي فى تفسيره "ج 12 ص 224 ": حرم العلماء دخول الحمام بغير مئزر، وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجُحْفَة ، فدخوله للرجال بالمآزر جائز، وكذلك النساء للضرورة، والأولى بهن البيوت إن أمكن . وذكر حديثا لم يصح : أن النبى صلى الله عليه وسلم لقى أم الدرداء عندما خرجت من الحمام فقال لها " والذي نفسى بيده ما من امرأة تضع ثيابها فى غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهى هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل " وذكر حديثا هو أصح إسنادا عن طاووس عن ابن عباس " تقدم تحت رقم 3 " .
ثم يقول القرطبي : دخول الحمام فى زماننا حرام على أهل الفضل والدين ، لعدم مراعاة الأدب فى ستر العورة ، لا سيما بالديار المصرية ، ثم ذكر أن العلماء اشترطوا لدخوله عشرة شروط :
أ - أن يدخل بنية التداوى أو التطهر من العرق إثر الحمى .
2 -أن يتعمد أوقات الخلوة أو قلة الناس .
3-أن يستر عورته بإزار صفيق .
4 -أن يكون نظره إلى الأرض أو الحائط ، لئلا يقع على محظور .
د -أن يغير ما يرى من منكر برفق ، نحو، استتر سترك الله .
6 -إن دلكه أحد فلا يمكنه من عورته ، من سرته إلى ركبته .
7 - أن يدخل بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس .
8 -عدم الإسراف فى الماء .
9 -إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع أمناء على الدين على كرائه .
10 -أن يتذكر به جهنم .
وذكر حديثا فيه مدح دخوله الحمام ، لانه يذكر الإنسان بالنار، فيستعيذ منها ويسأل الجنة ، وفيه ذم دخول بيت العروس ، لأنه يرغبه فى الدنيا وينسيه الآخرة، ولكن الحديث ليس صحيحا .
وجاء فى القرطبي أيضا أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة :(3/108)
إنه بلغنى أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين ، فامنع من ذلك ، وحُلْ دونه ، فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة . فقام أبو عبيدة وابتهل وقال : أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسوَّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه . انتهىـ . "ج 12 ص 224 ". وفى الشوكانى "ج 1 ص 145 " أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الحمام ويتنور ، أى يستعمل النورة لإزالة الشعر، ولم يبين درجة هذا الحديث ، مع أن الحمام لم يكن معروفا ببلاد العرب ، أو لم يكن شائعا على الأقل ، ويبدو-إن صح هذا الحديث - أن المراد به مكان منعزل يستحم فيه الشخص ، وليس حماما عاما بالمعنى المعروف .
وإذا كانت الحمامات المبنية لا يرغب فى دخولها ، فما بالك بالحمامات المكشوفة فى النوادى والساحات ، وعلى الشواطىء التى لا يلتزم فيها حجاب يستر العورة ولا يعزل الجنسين بعضهما عن بعض ؟ إنها أشد نكرا
===============
اختلاط المال الحلال بالحرام(1)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
رجل كسبه مختلط فيه الحلال والحرام هل يجوز أكل شىء منه ؟
الجواب
قال الإمام الغزالى فى كتابه "إحياء علوم الدين"ج 2 ص 93 : لو اختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال فى زماننا هذا لا يحرم تناول شىء منه ما دام محتملا الحلال والحرام ، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام ، والدليل :
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 9 / ص 391)(3/109)
1 - أن أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدى أهل الذمة مختلطة بالأموال ، وكذلك غلول الأموال وغلول الغنيمة ، ومن يوم أن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الربا فى حجة الوداع ما ترك الناس الربا بأجمعهم ، كما لم يتركوا شرب الخمور ولا تركوا المعاصى ، وأدرك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع فى السوق بسبب نهب المدينة ، وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام ، والأكثرون لم يمتنعوا عن تلك الأموال مع الاختلاط وكثرة الأموال المنهوبة فى أيام الظلمة .
2 - لو فتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات وخرب العالم ، إذ الفسق يغلب على الناس ، ويتساهلون بسببه فى شروط البيع فى العقود، ويؤدى ذلك إلى الاختلاط ، ولو قيل : إن الحرام كثر عن أيام السلف فيجب ترك المختلط بالحلال الآن أقول : ليس حراما وإنما الورع تركه .
وفى "ص 96" : لو طبق الحرام الدنيا حتى علم يقينا أنه لم يبق فى الدنيا حلال كنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا ونعفو عما سلف ونقول : ما جاوز حده انعكس إلى ضده ، فمهما حرم الكل حل الكل ، وذلك لأن الناس لو تركوا الأكل منه ماتوا عن أخرهم ، ولو اقتصروا على قدر الضرورة فسيئول أمرهم إلى الموت ، فالذى نراه أن كل ذى يد على ما فى يده ، وهو أولى به ، لا يجوز أن يؤخذ منه سرقة وغصبا ، بل يؤخذ برضاه ، والتراضى هو طريق الشرع .
وقال فى صفحة 108 : شخص معين خالط ماله الحرام مال حلال ، فإن كان الأكثر حراما لا يجوز الأكل من ضيافته ولا قبول هديته وصدقته إلا بعد التفتيش ، فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال فذاك ، وإلا ترك ، وإن كان الحرام أقل والمأخوذ مشتبه فهذا فى محل النظر .(3/110)
وفى ص 109 قال : فإن قيل : روى عن علىَّ الترخيص فى أخذ ما يعطيه السلطان له ، وابن مسعود بجواز الأخذ من الجار صاحب المال الخبيث وقال : عليه المأثم ولك المهنأ، وقال بجواز الأكل من الجار الذى يتعامل بالربا ، ورويت عنه روايات كثيرة مختلفة ، وأخذ الشافعى ومالك جوائز الخلفاء والسلاطين ، مع العلم بأنه خالطه حرام .
ويرد الغزالى بقوله : علىّ كان شديد الورع فليس معقولا أن يرخص فى ذلك ، وإن كان يمكن الترخيص فى مال السلطان لكثرة ما فيه من حلال ، وكذلك ما نقل عن الشافعى ومالك ، لأن الحلال أكثر فى مال السلطان .
وأما قول ابن مسعود فنقله عنه خَوَّات التيمى، وهو ضعيف الحفظ ، وابن مسعود اشتهر بتوقى الشبهات .
وفى ص 110 قال : ليس له أن يسأل صاحب الطعام والمال إذا لم يأمن غضبه إذا كان الحلال أكثر، أما إذا كان الحرام أكثر فعليه أن يسأل ولا يبالى بغضبه ، لأنه ظالم .
وفى ص 117 قال : إن كان فى يده حلال وحرام أو شبهة وليس يفضل الكل عن حاجته فإذا كان له عيال فليختص نفسه بالحلال ويطعم أولاده الحرام بقدر الحاجة ويقدم الأهم على المهم .
هذه الصورة مفروضة فى أن الرجل محتاج ، أما غير المحتاج فلا يطعم أولاده الحرام .
وفى ص 118 قال : إذا كان الحرام أو الشبهة فى يد أبويه فليمتنع من مؤاكلتهما ، فإن كانا يسخطان فلا يوافقهما على الحرام المحض بل ينهاهما، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق ، فإن كان شبهة وكان امتناعه للورع فقد عارضه أن الورع طلب رضاهما ، بل هو واجب ، فليتلطف فى الامتناع ، فإن لم يقدر فليوافق وليقلل الأكل ولا يتوسع ، ولو ألبسته أمه ثوبا من شبهة وكانت تسخط برده فليقبل وليلبسه بين يديها، ولينزعه فى غيبتها .
هذا، وقد جاء فى تفسير القرطبى"ج 2 ص 09 ا"ما نصه :
قال ابن خُوَيْزِ منداد : وأما أخذ الأرزاق "المرتبات " من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال .(3/111)
إن كان جميع ما فى أيديهم مأخوذا على موجب الشريعة فجائز أخذه ، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره .
وإن كان مختلطا حلالا وظلما كما فى أيدى الأمراء اليوم فالورع تركه ، ويجوز للمحتاج أخذه ، وهو كلصٍّ فى يده مال مسروق ومال جيد حلال قد وكَّلَه فيه رجل ، فجاء اللص يتصدق به على إنسان ، فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة ، وإن كان من الجائز أن يتصدق اللص ببعض ما سرق إذا لم يكن شىء معروف بنهب ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العقد صحيحا لازما ، وإن كان الورع التنزه عنه ، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها .
وإن كان ما فى أيديهم ظلما صراحا فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم ، ولو كان ما فى أيديهم من المال مغصوبا غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب فهو كما لو وجد فى أيدى اللصوص وقطاع الطرق ، ويجعل فى بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد ، فإذا لم يعرف صرفه الإمام فى مصالح المسلمين
=============
التحية بالانحناء (1)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
هل يجوز انحناء الممثل على المسرح أمام الجمهور عندما يحيونه ؟
الجواب
روى الترمذى بإسناد حسن عن أنس رضى الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه وصديقه ، أينحنى له ؟ قال " لا " قال : أفيلزمه ويقبله ؟ قال "لا" قال أفيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال "نعم " .
جاء فى الآداب الكبرى عن أبى المعالى أن التحية بانحناء الظهر جائزة، وقيل : هو سجود الملائكة لآدم ، قال : ولما قدم ابن عمر الشام حياه أهل الذمة كذلك فلم ينههم . وقال : هذا تعظيم للمسلمين . ولعل مراده بالجواز عدم الحرمة ، فلا ينافى الكراهة . قاله السفارينى فى كتابه "غذاء الألباب ج 1 ص 286" .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 168)(3/112)
يؤخذ من الحديث وما قاله العلماء أن التحية بالانحناء غير مرغوب فيها ، وأقل درجة ذلك هو الكراهة ، لعدم لياقته بالمسلم الكريم العزيز بإيمانه بالله تعالى . وقد تدخل النية فى تكييف الحكم ، فإن كان يقصد المحتفل به بانحنائه الشكر وإظهار التواضع فلا بأس ، مع التوصية بعدم المبالغة فيه .
والانحناء لون من ألوان التحية عند اللقاء فى بعض الجماعات ، يقصد به تعظيم من قابله كما يفعل للملوك والسلاطين ، أما ما يرد به الممثل على المعجبين به فليس كذلك تماما ، وهذا يخفف من الحكم عليه
=============
الزراعة بين الدين والدنيا (1)
المفتي
عطية صقر .
مايو 1997
المبادئ
القرآن والسنة
السؤال
قرأت فى بعض الأحاديث النهى عن الزراعة وفى بعضها التشجيع عليها، فكيف نوفق بين هذه الأحاديث ؟
الجواب
تقدم القول فى صفحة " 546 " من المجلد الأول من هذه الفتاوى عن حديث النهى عن اتخاذ الضيعة ، وهى كما قال ابن الأثير: ما يؤخذ منها معاش الرجل كالصناعة والتجارة والزراعة وغير ذلك . وبينَّا أن النهى عن ذلك محله إذا ألهى عن الدين وعن الآخرة .
وهذا ما تعرض له الحافظ ابن حجر فى فتح البارى "ج 5ص 6 ، 7" عند شرح حديث "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة" قال : وفى الحديث فضل الغرس والزرع والحض على عمارة الأرض ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها ، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة ، وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين . فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا "لا تتخذوا الضيعة فترغبوا فى الدنيا" الحديث . قال القرطبى : يجمع بينه وبين حديث الباب -فضل الغرس -بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين . وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها .
__________
(1) - فتاوى الأزهر - (ج 10 / ص 404)(3/113)
ثم أورد ابن حجر حديث أبى أمامة الباهلى [واسمه صُدَى بن عَجْلان ] فى التحذير من احتراف الزراعة حين رأى آلة تحرث بها الأرض فقال :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل " وفى رواية أبى نعيم "إلا أدخلوا على أنفسهم ذلاًّ لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة " وحمل ذلك على ما يلزمهم من حقوق الأرض التى تطالبهم بها الولاة ، وكان العمل فى الأراضى أول ما افتتحت على أهل الذمة ، فكان الصحابة يكرهون تعاطى ذلك - قال ابن التين : هذا من إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات ، لأن المشاهد الآن أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث . وجمع بين ما ورد فى فضل الزراعة وفى ذمها بأن الذم إذا أدى إلى الذل ، أو تضييع الواجب ، أو فى وقت الجهاد حتى لا تشغل الزراعة عنه فيقوى العدو، بل يستعد بالتدرب على الفروسية، وعلى غيره إمداده بما يحتاج إليه .
والخلاصة أن الإنسان فى نشاطه لابد أن يعمل فى دنياه ما يساعده على أعمال البر، ولا ينسيه آخرته ، والتنسيق واجب حتى لا يفرط فيما يحفظ عليه حياته ويقويه على عمل الخير ويدخره للآخرة، ولا يجوز فصل بعض النصوص عن بعضها الآخر، فقد يكون لكل نص سبب وظروف تختلف عن النص الآخر، وقد يكون الجمع بينها بتخصيص العام أو تقييد المطلق أو بغير ذلك مما بينه العلماء . وعدم مراعاة هذا المنهج يؤدى إلى نتائج خطيرة فى سوء الفهم وسوء التطبيق ، وهو الانحراف الذى يسبب المتاعب للفرد والمجتمع ، ويشوه صورة الدين عند من يكيدون للإسلام وأهله ، وما أكثرهم فى هذه الأيام . فمن يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين . وسؤال أهل الذكر عند الجهل واجب . كما نص عليه القراَن الكريم وجاء به حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
راجع رسالة " الاكتساب فى الرزق المستطاب " لمحمد بن الحسن الشيبانى
==============
معاملة الذمي (1)
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 3 / ص 148)(3/114)
السؤال التاسع من الفتوى رقم (2677):
س9: ما هي الطريقة المثلى لمعاملة الذمي، وهل نعامله معاملة عادية؟
ج9: الطريقة المثلى في معاملة المسلمين للذمي: الوفاء له بذمته؛ للآيات والأحاديث التي أمرت بالوفاء بالعهد، وبره ومعاملته بالعدل، بقوله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1) ، ولين القول معه، والإحسان إليه عمومًا إلا فيما منع منه الشرع، كبدئه بالسلام، وتزويجه المسلمة، وتوريثه من المسلم، ونحو ذلك مما ورد النص بمنعه، وارجع في تفصيل الموضوع إلى كتاب [أحكام أهل الذمة ] للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله، وكلام غيره من أهل العلم في ذلك.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد ، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو // عضو // نائب رئيس اللجنة // الرئيس //
عبد الله بن قعود // عبد الله بن غديان // عبد الرزاق عفيفي // عبد العزيز بن عبد الله بن باز //
_________
(1) سورة الممتحنة، الآية 8 .
================
هل يعطى الكافر من لحم الأضحية أم ما فيه صدقة؟(1)
ج2: يعطى الكافر من لحم الأضحية إذا لم يكن حربيًا، ولم تكن واجبة كالمنذورة؛ لقول الله سبحانه: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر أن تصل أمها، وكانت مشركة، رواه البخاري (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) - فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - (ج 13 / ص 498)(3/115)
عضو // نائب رئيس اللجنة // الرئيس //
عبد الله بن غديان // عبد الرزاق عفيفي // عبد العزيز بن عبد الله بن باز //
_________
(1) رواه أحمد 6 / 344 و355، والبخاري 4 / 126 برقم (3183) كتاب الجزية والموادعة، ومسلم 2 / 696 برقم (1003) كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة على الأقربين ولو كانوا مشركين، وأبو داود 2 / 127 برقم (1668) كتاب الزكاة، باب الصدقة على أهل الذمة، والبيهقي 4 / 191، وابن حبان 2 / 197 (452)، والطيالسي ص 228 (1643).
==============
الفرق بين أهل الذمة والمستأمنين (1)
__________
(1) - فتاوى السبكي - (ج 4 / ص 253)(3/116)
( مَسْأَلَةٌ ) وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِ صَفَدَ عَلَى نَائِبِ الشَّامِ مَضْمُونُهُ أَنَّ مَدِينَةَ عَكَّاءَ مِنْ السَّاحِلِ بِعَمَلِ صَفَدٍ بِهَا مِينَاءٌ يَرِدُ إلَيْهَا التُّجَّارُ الْفِرِنْجُ مِنْ الْبَحْرِ يَبِيعُونَ مَا يَصِلُ مَعَهُمْ وَيَبْتَضِعُونَ غَيْرَهُ وَيَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَادَةٌ بِإِظْهَارِ أَعْيَادِهِمْ بِعَكَّاءَ وَلَا مَا يَفْعَلُونَهُ بِبِلَادِهِمْ وَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَيَّامٍ اجْتَمَعَ الْفِرِنْجُ وَجَهَّزُوا مَنْ قَطَعَ لَهُمْ عُرُوقَ زَيْتُونٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى أَكْتَافِ عَتَّالِينَ نَفَرَيْنِ صِبْيَانَ فِرِنْجَ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ وَأَنَّ الصِّبْيَانَ الْمَذْكُورِينَ أَعْلَنُوا بِالدُّعَاءِ لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ بِالْمِينَاءِ ثُمَّ إنَّهُمْ دَخَلُوا إلَى خَرَابِ عَكَّاءَ جَمِيعُهُمْ وَقُدَّامُهُمْ مُقَدَّمُ الْوِلَايَةِ وَالْمِينَاءُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسُيُوفٍ مَشْهُورَةٍ وَأَنَّهُمْ لَمَّا وَصَلُوا إلَى الْكَنِيسَةِ اسْتَغَاثَ الصِّبْيَانُ الرَّاكِبِينَ بِالْمَسِيحِ بِالدِّينِ الصَّلِيبِ وَبِيَدِ أَحَدِ الصِّبْيَانِ رُمْحٌ بِهِ رَايَةٌ وَحَالَ الْوَقْتِ جَهَّزَ الْمَمْلُوكُ مَنْ أَحْضَرَ الْفِرِنْجَ الْمَذْكُورِينَ وَمُتَوَلِّيَ عَكَّاءَ وَالْقَاضِيَ بِهَا وَمُقَدَّمَ الْمِينَاءِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَتَّالِينَ فَلَمَّا حَضَرُوا سَأَلَ الْمَمْلُوكُ الْعَتَّالِينَ عَنْ ذَلِكَ فَذَكَرُوا أَنَّهُ جَرَى وَأَنَّ مُقَدَّمَ الْوِلَايَةِ أَمَرَهُمْ بِشَيْلِ الزَّيْتُونَةِ مَعَ الْفِرِنْجِ الْمَذْكُورِينَ وَأَنَّ الْفِرِنْجَ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ شَاوَرُوا الْوَالِيَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ جَهَّزَهُمْ إلَى عِنْدِ الْقَاضِي وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَمَرَهُمْ(3/117)
بِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي أَمَرَهُمْ بِعَمَلِ ذَلِكَ يَعْمَلُونَهُ وَعُمِلَ مُحْضَرٌ بِصُورَةِ الْحَالِ وَمَا اعْتَمَدَهُ الْمَذْكُورُونَ جَمِيعُهُمْ وَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَذْكُورِينَ الْوَاجِبَ فَخَشِيَ مِنْ شَكْوَاهُمْ وَيَطْلُبهُمْ الْوَالِي وَأَنْ يَقُولُوا إنَّ الْمَمْلُوكَ عَمِلَ مِنْهُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَأَنَّ الْمَمْلُوكَ طَلَبَ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ فِي عَمَلِهِ وَلَمْ يَجِدْ فِي صَفَدٍ مُفْتٍ يُفْتِيهِ وَأَنَّ الْحَاكِمَ بِصَفَدٍ ذَكَرَ أَنَّ مَذْهَبَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ حَدِيثٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِصَفَدٍ وَقَدْ اخْتَارَ الْمَمْلُوكُ أَنْ يُحَرِّرَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَذْكُورِينَ جَمِيعِهِمْ لِيَعْتَمِدَ فِي أَمْرِهِمْ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلْفِرِنْجِ كَلَامٌ وَلَا تَظَلُّمٌ ، وَقَدْ كَتَبْت فُتْيَا بِصُورَةِ الْحَالِ وَجَهَّزَهَا الْمَمْلُوكُ عَطَفَ مَطَالِعَهُ إلَى بَيْنِ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ لِيَقَعَ نَظَرُهُ عَلَيْهَا .(3/118)
( أَجَابَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا نَصُّهُ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ بِأَمَانٍ لَيْسَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلْ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَالْمُعَاهَدِينَ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعَقْدُ الْأَمَانِ أَضْعَفُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ بِمَا لَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ ، وَهَذِهِ الْحَالُ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَنِدَائِهِمْ بِالدِّينِ الصَّلِيبِ وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْهَيْئَةُ يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُهُمْ وَيَصِيرُونَ كَمَنْ لَا أَمَانَ لَهُمْ .
وَاَلَّذِي قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ إنَّ الْإِمَامَ يَتَخَيَّرُ فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْمَنِّ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمُفَادَاةِ ، وَلَا يُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ عَنْ الصَّحِيحِ ، وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْمَنِ يُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ مَحْمُولًا عَلَى مَا فُصِّلَ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِثْلُهُمْ فَيَتَخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِمْ أَيْضًا كَمَا يَتَخَيَّرُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ ، وَلَيْسَ تَخَيُّرُهُ لِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّشَهِّي بَلْ عَلَى سَبِيلِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ .(3/119)
وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ لِلسُّلْطَانِ نَفْسِهِ لَا لِنَائِبِهِ فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِلنَّائِبِ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِهِ حَتَّى يُشَاوِرَ مَوْلَانَا السُّلْطَانَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ التَّقْدِيرَ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَسْتَقِلُّ بِهِ نَائِبُ السُّلْطَانِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ وَالتَّقْدِيرُ فِي مِثْلِهِمْ بِحَسَبِ رَأْيِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ .
وَأَمَّا بَعْدَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ اجْتَرَأَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ وَصْمَةٌ فِيهِمْ وَيُثَابُ وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى إنْكَارِهِ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِلَا تَقْدِيرٍ .
وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ ، وَأَذِنَ لَهُمْ فِيهِ إنْ كَانَ وَالِيًا يُعْزَلُ وَيُؤَدَّبُ بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ أَدْنَى الْحُدُودِ ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا يُعْزَلُ ، وَالْحَمَّالُونَ يُؤَدَّبُونَ تَأْدِيبًا لَطِيفًا وَكَذَا مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ .
كَتَبَهُ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ ، وَالرَّأْيُ عِنْدِي فِي الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ مَعَ التَّعْزِيرِ أَوْ دُونَهُ نُمْسِكُ هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجَ هُنَا عِنْدَنَا حَتَّى يُطْلِقُوا لَنَا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فِي بِلَادِهِمْ .(3/120)
فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَهُمْ وَجَاهَةٌ فِي بِلَادِهِمْ وَالتَّوَصُّلُ إلَيْهِ بِجَاهٍ أَوْ مَالٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَنْ يُمْسِكَهُمْ حَتَّى يَتَحَيَّلُوا فِي ذَلِكَ وَيَأْتُوا بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَهِيَ الْمُفَادَاةُ وَيَسْتَقِلُّ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِذَلِكَ أَعْنِي بِحَبْسِ هَؤُلَاءِ حَتَّى يَتَحَيَّلُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ خَيْرٌ مِنْ قَتْلِهِمْ وَمِنْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ وَمِنْ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا الَّذِي كَتَبَهُ فِي الْفُتْيَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ
وَأَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ لِإِفَادَةِ فَقِيهٍ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةٍ فَأَقُولُ : وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُجَرَّدَ دُخُولِهِمْ لِلتِّجَارَةِ لَا يَقْتَضِي الْأَمَانَ حَتَّى يَعْقِدَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ أَمَانًا بِلَفْظٍ صَرِيحٍ أَوْ كِنَايَةٍ أَوْ إشَارَةٍ مُفْهِمَةٍ وَحُكْمُ الْإِشَارَةِ حُكْمُ الْكِنَايَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ قَادِرٍ عَلَى النُّطْقِ أَمْ عَاجِزٍ مِنْ جِهَتِنَا وَبِلَفْظٍ أَوْ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْ بِأَنْ يَكُونُوا رُسُلًا أَوْ بِأَنَّ الْقَصْدَ سَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثِ فَلَا أَمَانَ لَهُمْ .
وَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَمَانِ مُجَرَّدُ قَصْدِهِمْ التِّجَارَةَ لِمَنْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ بِلَا إذْنٍ فَلَيْسَ يَأْمَنُ .(3/121)
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ دَخَلْت لِتِجَارَةٍ وَكُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ قَصْدَ التِّجَارَةِ كَقَصْدِ السِّفَارَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّهُ لَا يُبَالَى بِظَنِّهِ وَيَجُوزُ اغْتِيَالُهُ لِأَنَّهُ ظَنٌّ لَا مُسْتَنَدٌ فَهَؤُلَاءِ التُّجَّارِ إنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أَذِنَ لَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي مَأْمَنَهُمْ فَلَيْسُوا بِمُسْتَأْمَنِينَ بَلْ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ جَارٍ عَلَيْهِمْ نَغْتَالُ أَنْفُسَهُمْ وَنَغْنَمُ أَمْوَالَهُمْ فَشَرْطُ أَمَانِهِمْ أَنْ يَقُولَ الْوَالِي : كُلُّ مَنْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ آمِنٌ أَوْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِشَخْصٍ خَاصٍّ فَيَحْصُلُ الْأَمَانُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ .
وَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَعَلَى الْخُصُوصِ يَثْبُتُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا وُجِدَتْ كِتَابَةٌ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ الْأَمَانُ لَكِنْ لَا يُغْتَالُ بَلْ يَلْحَقُ بِالْمَأْمَنِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ مَأْمَنَيْنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْهَمْ الْكَافِرُ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْأَمَانُ ، وَيَجُوزُ اغْتِيَالُهُمْ حَتَّى لِلَّذِي آمَنَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ الْأَمَانُ لِعَدَمِ فَهْمِ الْكَافِرِ ذَلِكَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى التَّأْمِينِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْأَمَانِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَلَا إشَارَةٍ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ، وَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ هَؤُلَاءِ الْفِرِنْجِ .(3/122)
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُمْ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ فَلَيْسُوا بِمُسْتَأْمَنِينَ وَلَا مُعَاهَدِينَ لَا قَبْلَ فِعْلِهِمْ هَذَا وَلَا بَعْدَهُ فَكَيْفَ نَعْتَمِدُ فِعْلَهُمْ هَذَا الشَّيْءِ .
وَهَذَا إنَّمَا قُلْنَاهُ اسْتِيرَادًا لِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمُبَالَغَةً وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّهُمْ بَعْدَ هَذَا الْفِعْلِ لَا أَمَانَ لَهُمْ وَلَكِنَّا أَحْبَبْنَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِخَاصَّةٍ ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ لِزِيَارَةِ قُمَامَةٍ وَإِنْ أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَأْمِينِ حُكْمِهِمْ هَكَذَا أَنَّهُمْ لَا أَمَانَ لَهُمْ لَكِنْ لَا يُغْتَالُونَ ، وَفَائِدَةُ كَوْنِهِ لَا أَمَانَ أَنَّهُ إذَا قُتِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يُضْمَنْ وَأَنْ لَا يَجُوزَ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ بَلْ يَبْلُغُ الْمَأْمَنَ وَإِنَّمَا نُبَلِّغُهُ الْمَأْمَنَ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْهُ لِدُخُولِهِ بِالْإِذْنِ بِخِلَافِ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ السَّيِّئَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي نَقَضَ أَمَانَهُ بِفِعْلِهِ يَجِبُ عَلَيْنَا تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ ، وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ التَّأْمِينُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَهَذَا إذَا شَكَّ فِيهِ إذَا صَدَرَ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا أَوْ صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرَّعِيَّةِ خَاصًّا إمَّا لِشَخْصٍ خَاصٍّ وَإِمَّا لِعَدَدٍ مُبَيِّنِينَ مِنْ التُّجَّارِ وَفِيمَا إذَا قَالَهُ وَاحِدٌ مِنْ الرَّعِيَّةِ ، وَقَالَ الْكَافِرُ ظَنَنْت صِحَّتَهُ فِي جَوَازِ اغْتِيَالِهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يُغْتَالُ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ضَرَرٌ فِي الْأَمَانِ كَانَ الْأَمَانُ بَاطِلًا وَلَا(3/123)
يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ التَّبْلِيغِ إلَى الْمَأْمَنِ بَلْ يَجُوزُ الِاغْتِيَالُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَإِنْ قَصَدَ التَّأْمِينَ لِأَنَّهُ تَأْمِينٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّأْمِينِ الْفَاسِدِ حَيْثُ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ التَّأْمِينِ الصَّحِيحِ كَأَمَانِ الصَّبِيِّ وَالتَّأْمِينُ الْبَاطِلُ مِثْلُ تَأْمِينِ الْجَاسُوسِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَثْبُتُ الْأَمَانُ لِلْمَالِ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ أَنَّهُ إذَا أَمَّنَهُ لِلدُّخُولِ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَمَانِ لِذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ .
وَإِذَا اُنْتُقِضَ الْأَمَانُ بِجِنَايَةٍ مِنْهُ اُنْتُقِضَ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَصَارَ مَالُهُ الَّذِي مَعَهُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا اُلْتُحِقَ بِبِلَادِهِ وَتَرَكَ مَالَهُ عِنْدَنَا حَيْثُ لَا يَبْطُلُ الْأَمَانُ فِي مَالِهِ عَلَى الْأَصَحِّ بَلْ يَجِبُ إيصَالُهُ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْأَمَانَ انْتَهَى نِهَايَتَهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْنَا فَاقْتَصَرَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ مَالِهِ .
وَهُنَا الْجِنَايَةُ صَادِرَةٌ مِنْهُ فَسَرَى أَثَرُهَا إلَى الْمَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كَتَبَهُ عَلِيٌّ السُّبْكِيُّ فِي لَيْلَةِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ .
=============
حكم إحداث أهل الذمة مكانالعبادتهم (1)
__________
(1) - فتاوى الرملي - (ج 5 / ص 193)(3/124)
( سُئِلَ ) عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَحْدَثُوا مَكَانًا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِصَلَاتِهِمْ هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ بِمَنْعِهِمْ مِنْهُ فَإِذَا صَلَّى سُكَّانُ الْبُيُوتِ فِيهَا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ أَوْ بِيَعِهِمْ الَّتِي كَانُوا يُقَرُّونَ عَلَيْهَا ؟
( فَأَجَابَ ) بِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِهِمْ مَكَانًا لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ لِصَلَاتِهِمْ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ لَا يَبْنُوا فِي بِلَادِهِمْ وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا كَنِيسَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ بِيعَةً وَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفُوا لَهُمْ بِهِ ا هـ .(3/125)
وَلِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُهُ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ كَانُوا يَهُودًا فَهُوَ فِي مَعْنَى الْكَنِيسَةِ أَوْ نَصَارَى فَهُوَ فِي مَعْنَى الْبَيْعَةِ وَهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ إحْدَاثِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأُمِّ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا يُظْهِرُ فِيهِ جَمَاعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا نَاقُوسًا إنَّمَا يُصَالِحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي بَلَدِهِمْ الَّتِي وُجِدُوا فِيهَا فَفَتَحَهَا عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدَعَهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا لَا يُظْهِرُونَ هَذَا فِيهِ فَيُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِلَا جَمَاعَاتٍ تَرْفَعُ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا نَوَاقِيسَ ، وَلَا يَكُفُّهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرٌ ا هـ .
وَذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ ، وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَكَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ بَيْتِ نَارِ الْمَجُوسِ وَالصَّوَامِعِ وَمُجْتَمَعِ صَلَوَاتِهِمْ فَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ هُدِمَ ا هـ .
وَقَالَ الْقَمُولِيُّ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَبَيْتِ نَارِ الْمَجُوسِ وَالصَّوَامِعِ وَمُجْتَمَعِ صَلَوَاتِهِمْ فَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ مِنَّا نُقِضَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي قُوتِهِ وغنيته وَنَمْنَعُهُمْ أَيْ وُجُوبًا مِنْ إحْدَاثِ كَنِيسَةٍ أَيْ أَوْ نَحْوِهَا كَبِيعَةٍ وَدَيْرٍ وَصَوْمَعَةٍ وَبَيْتِ نَارِ مَجُوسٍ وَمُجْتَمَعِ صَلَاتِهِمْ ا هـ .
ثُمَّ قَالَ وَيَجِبُ أَنْ لَا يُظْهِرُوا تِلَاوَةَ مَا نُسِخَ مِنْ كُتُبِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا مَا نُسِخَ مِنْ صَلَاتِهِمْ ، وَأَصْوَاتِ نَوَاقِيسِهِمْ ا هـ .(3/126)
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَبَيْتِ نَارِ الْمَجُوسِ وَالصَّوَامِعِ وَمُجْتَمَعِ صَلَاتِهِمْ ا هـ .
وَقَالَ الْغَزِّيُّ : وَمَنْعُهُمْ وُجُوبًا إحْدَاثَ كَنِيسَةٍ أَيْ لِلتَّعَبُّدِ وَبِيعَةٍ وَدَيْرٍ وَصَوْمَعَةٍ وَبَيْتِ نَارِ مَجُوسٍ وَمُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ .
ا هـ .
وَلَا يَمْنَعُونَ سُكَّانَ الْبُيُوتِ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِيهَا غَيْرَ مُظْهِرِينَ لَهَا وَلَا لِقِرَاءَتِهِمْ فِيهَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِي كَنَائِسِهِمْ أَوْ بِيَعِهِمْ الَّتِي يُقَرُّونَ عَلَيْهَا لِمَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيُصَلُّونَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِلَا جَمَاعَاتٍ تَرْفَعُ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يَكُفُّهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا .ا هـ .(3/127)
فَشَمَلَ صَلَاتَهُمْ فُرَادَى وَجَمَاعَةً إذَا لَمْ تُرْفَعْ أَصْوَاتُهُمْ أَيْ بِأَنْ لَمْ تَظْهَرْ لَنَا وَلِقَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يُنْزِلَهُ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا يُظْهِرُ فِيهِ جَمَاعَةً إذْ مَدْلُولُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ الْجَمَاعَةِ لَا مِنْ فِعْلِهَا بِلَا إظْهَارٍ وَلِقَوْلِهِ : وَلَا يَكُفُّهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَهُ الْكَفُّ عَنْهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا لِاجْتِمَاعِهِمْ لِصَلَاتِهِمْ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِمْ وَيَجِبُ أَنْ لَا يُظْهِرُوا تِلَاوَةَ مَا نُسِخَ مِنْ كُتُبِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا مَا نُسِخَ مِنْ صَلَوَاتِهِمْ ، وَأَصْوَاتِ نَوَاقِيسِهِمْ وَمِنْ قَوْلِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ وَنَاقُوسٍ وَعِيدٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فَإِنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِالْإِظْهَارِ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ الْبَدْرُ الزَّرْكَشِيُّ .
==============
بَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ (1)
__________
(1) - الفتاوى الفقهية الكبرى - (ج 8 / ص 215)(3/128)
( وَسُئِلَ ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ الْغَنَائِمِ الَّتِي لَا تُقَسَّمُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ كَغَنَائِمِ هَذَا الزَّمَانِ هَلْ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا لِلْغَانِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ أَمْ لَا وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَمَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمَأْيُوس مِنْ الْإِمَامِ الْعَادِلِ أَوْ مِنْ الْإِنْصَافِ وَمَا الْمَصْلَحَةُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا وَهَلْ فِي الْأَئِمَّةِ مَنْ جَوَّزَهُ بِغَيْرِ تَخْمِيسٍ وَلَا قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَا الْحُكْمُ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ وَالرَّعَايَا الْمُسْلِمِينَ فِي مَرَاكِبَ يَصْرِفُونَ لَهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِاسْتِئْجَارِ الْعَسَاكِرِ وَتَهْيِئَةِ الْعَدَدِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْآنَ فِي أَرْضِ مَلِيبَارَ هَلْ يَكُونُ غَنِيمَةً كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ لِصَارِفِ الْمَالِ فِيهِ حَقٌّ أَوْ لَا وَإِنْ قُلْتُمْ لَا فَمَا الْحُكْمُ فِيهِ فَهَلْ يَمْلِكُهُ الْآخِذُ أَوْ الصَّارِفُ لِلْمَالِ أَوْ غَيْرُهُمَا وَإِنْ وُجِدَ فِيهِ امْرَأَةٌ فَمَنْ الَّذِي يُزَوِّجُهَا الْقَاضِي أَوْ أَحَدُ الْآخِذِينَ أَوْ لَا وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا الْإِمَام أَوْ نَائِبُهُ أَوْ الْقَاضِي أَوْ يَكْفِي الْغَانِمُونَ وَحْدَهُمْ أَوْ عَدْلٌ آخَرُ فَصِّلُوا لَنَا تَفْصِيلًا تَامًّا وَاشْرَحُوا مُزِيلًا لِلْإِشْكَالِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي قُطْرِ مَلِيبَارَ فِي هَذَا الزَّمَنِ جَزَاكُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَيْرًا ؟(3/129)
( فَأَجَابَ ) بِقَوْلِهِ الْغَنِيمَةُ مَالٌ أَوْ اخْتِصَاصٌ أُخِذَ مِنْ حَرْبِيِّينَ بِقِتَالٍ أَوْ إيجَافِ خَيْلٍ أَوْ رِكَابٍ أَوْ نَحْوهمَا كَالسُّفُنِ سَوَاءٌ أُخِذَ حَالَ الْقِتَالِ أَوْ بَعْدَ انْهِزَامِهِمْ عَنْهُ وَلَوْ قَبْلَ شَهْرِ السِّلَاحِ حِينَ الْتَقَى الصَّفَّانِ وَمِنْهَا مَا صَالَحُونَا عَلَيْهِ عِنْدَ الْقِتَالِ وَمَا أُخِذَ بِنَحْوِ سَرِقَةٍ فَقَدْ قَالَ الشَّيْخَانِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ دَارَ الْحَرْبِ فَسَرَقَ أَوْ اخْتَلَسَ أَوْ الْتَقَطَ مِنْ مَالِهِمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ تَنْزِيلًا لِدُخُولِهِ دَارِهِمْ وَتَغْرِيرِهِ بِنَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْقِتَالِ وَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ ثُمَّ جَحَدَ أَوْ هَرَبَ اُخْتُصَّ بِهِ وَلَمْ يُخَمَّسْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وَقَوْلُهُمْ دَخَلَ دَارَهُمْ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ وَإِلَّا فَلَوْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِمْ فِي دَارِنَا وَلَا أَمَانَ لَهُمْ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخَانِ وَمَنْ قَهَرَ مِنَّا حَرْبِيًّا وَأَخَذَ مَالَهُ كَانَ غَنِيمَةً مُخَمَّسَةً فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ وَلَوْ قَدَّمَ كَافِرٌ هَدِيَّةً إلَى الْإِمَام أَوْ غَيْرِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ كَانَ غَنِيمَةً مُخَمَّسَةً لِأَنَّهُ فَعَلَهُ خَوْفًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَدَّمَهَا إلَيْهِ وَالْحَرْبُ غَيْرُ قَائِمَةٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ لَهُ ا هـ .(3/130)
وَفِي الْمَأْخُوذِ عَلَى صُورَةِ السَّرِقَةِ وَالِاخْتِلَاسِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ قَالَ الشَّيْخَانِ وَلْيَكُنْ هَذَا الْوَجْهُ مَخْصُوصًا بِمَا إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ نَفَرٌ يَسِيرٌ دَارَ الْحَرْبِ وَأَخَذُوا فَأَمَّا إذَا أَخَذَ بَعْضُ الْجَيْشِ بِسَرِقَةٍ وَاخْتِلَاسٍ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ غُلُولًا ثُمَّ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ أَنَّهَا تُخَمَّسُ فَخُمُسُهَا لِخَمْسَةٍ أَحَدُهَا الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ كَسَدِّ الثُّغُورِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كُلِّ ذِي نَفْعٍ عَامٍّ يَعُودُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ وَالْأَهَمُّ مُطْلَقًا هُوَ سَدُّ الثُّغُورِ وَالثَّانِي بَنُو هَاشِمٍ وَالْمُطَّلَبِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ كَالْإِرْثِ وَيَعُمُّهُمْ وُجُوبًا إلَّا إنْ قَلَّ بِحَيْثُ لَا يَسُدُّ مَسَدًّا بِالتَّوْزِيعِ فَيُقَدِّمَ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجِ وَيَخُصُّ أَهْلَ كُلِّ نَاحِيَةٍ بِمَا فِيهَا .(3/131)
نَعَمْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْقُلَ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَنْقُولِ إلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ الثَّالِثُ الْيَتَامَى وَهُمْ كُلُّ صَغِيرٍ لَا أَبَ لَهُ وَيَجِبُ تَعْمِيمُهُمْ لَا التَّسْوِيَةُ بَيْنهمْ وَيُشْتَرَطُ فَقْرُهُمْ وَالرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ يَسْتَحِقُّونَ الْخُمُسَ أَخْمَاسًا وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَهِيَ لِلْغَانِمِينَ لِلْآيَةِ وَلِفِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ فِي أَرْضِ خَيْبَرٍ وَلِمَا صَحَّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ لِلَّهِ خُمُسُهَا وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ .(3/132)
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْغَانِمِينَ التَّصَرُّفُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْن أَهْلِ الْخُمُسِ الْمَذْكُورِينَ وَالشَّرِيكُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ وَإِذْنُ هَؤُلَاءِ مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي تَوَقُّفِ تَصَرُّفِ الْغَانِمِينَ عَلَى الْقِسْمَةِ بَيْن أَنْ يَكُونَ الْإِمَام عَادِلًا أَوْ جَائِرًا فَيَجِبُ رَفْعُ الْأَمْرِ فِي الْغَنَائِمِ إلَيْهِ أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ نُوَّابِهِ الَّذِينَ لَهُمْ وِلَايَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ أَوْ الْخُصُوصِ لِيَتَوَلَّى قِسْمَتَهَا بَيْن الْغَانِمِينَ وَأَهْلِ الْخُمُسِ إذْ لَا يَجُوزُ لِلْغَانِمِينَ الِاسْتِبْدَادُ بِالْغَنِيمَةِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَسْتَبِدُّ بِقِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُقَاسِمَهُ شَرِيكُهُ إنْ تَأَهَّلَ وَإِلَّا قَامَ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي الْقِسْمَةِ وَالشُّرَكَاءُ هُنَا لَا يُمْكِنُ مُقَاسَمَتُهُمْ لِمَا مَرَّ فَيَنُوبُ الْإِمَام عَنْهُمْ لِأَنَّ وِلَايَةَ التَّفْرِقَةِ عَلَيْهِمْ لَهُ أَوْ لِنَائِبِهِ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ ذَلِكَ نَعَمْ لِمَنْ ظَفِرَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْخُمُسِ الَّذِي لِلْخَمْسَةِ السَّابِقِينَ وَخَشِيَ اسْتِيلَاءَ الْإِمَام أَوْ أَحَدٍ مِنْ الظَّلَمَةِ عَلَيْهِ وَأَنْ لَا يُوصِلَهُ لِمُسْتَحِقِّيهِ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ إنْ كَانَ يُحْسِنُ قِسْمَتَهُ عَلَى مُسْتَحَقِّيهِ شَرْعًا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَهُ إذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُهُ وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ قِسْمَتَهُ دَفَعَهُ إلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ لِيَتَوَلَّى(3/133)
قِسْمَتَهُ عَلَى مُسْتَحَقِّيهِ وَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَيْضًا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَهْلِ الْخُمُسِ لَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَسَعُ أَحَدًا مُخَالَفَةُ ذَلِكَ .
وَأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ فِي الْمَرَاكِبِ الْمَذْكُورَةِ غَنِيمَةٌ مُخَمَّسَةٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُونَ بَلْ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُمْ وَخُمُسُهُ لِلْخَمْسَةِ السَّابِقِينَ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَوْجُودَةَ فِيهِ تَكُونُ رَقِيقَةً فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ وَخُمُسُهَا لِلْخَمْسَةِ الْمَذْكُورِينَ وَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا مَا دَامَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ مُلَّاكِهَا مَنْ لَا يُمْكِنُ إذْنُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ أَحَدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ فَإِنَّهُ هُوَ أَوْ وَلِيُّهُ يُزَوِّجُهَا أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُزَوِّجُهَا وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ السَّابِقِ وَمِنْهُ الْقَاضِي إنْ شَمِلَتْ تَوْلِيَتُهُ ذَلِكَ نَصًّا أَوْ عُرْفًا كَأَنْ يُقَالُ لَهُ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَتَكُونُ عَادَةُ مَنْ تَقَدَّمَهُ النَّظَرَ فِي أَمْرِ الْغَنَائِمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْإِيجَافِ فِيمَا مَرَّ إنَّمَا سَلَكُوهُ تَبَرُّكًا بِلَفْظِ الْآيَةِ وَإِلَّا فَمَفْهُومُهُ وَمَنْطُوقُهُ غَيْرُ مُرَادٍ إذْ لَوْ جَلَوْا عَنْ مَالٍ خَوْفًا بِسَبَبِ حُصُولِ خَيْلِنَا وَرِكَابِنَا وَضَرْبِ مُعَسْكَرِنَا بِدَارِهِمْ كَانَ فَيْئًا لَا غَنِيمَةً مَعَ وُجُودِ الْإِيجَافِ وَلَا فَرْقَ فِيمَا مَرَّ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ جِهَادٌ وَغَيْرُهُ(3/134)
فَلَوْ غَزَا نَحْوُ صِبْيَانٍ أَوْ عَبِيدٍ كَانَ لَهُمْ مِمَّا غَنِمُوهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بِحَسَبِ نَفْعِهِمْ وَيَتْبَعُهُمْ صِغَارُ السَّبْيِ فِي الْإِسْلَامِ هَذَا إنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَهُمْ كَامِلٌ وَإِلَّا كَانَتْ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لَهُ وَرُضِخَ لَهُمْ وَمَا حَصَّلَهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِقِتَالٍ أَوْ نَحْوِ سَرِقَةٍ اخْتَصُّوا بِهِ فَلَا يُخَمَّسُ عَلَيْهِمْ بَلْ يَفُوزُونَ بِجَمِيعِهِ وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَا اعْتَمَدَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حِلِّ وَطْء السَّرَارِي اللَّاتِي يُجْلَبْنَ الْيَوْمَ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ جَالِبَهُنَّ مِنْ بَلَدِ الْحَرْبِ مُسْلِمٌ حَتَّى يَكُونَ خُمُسُهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ فَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا بَلْ يُحْتَمَلُ ذَلِكَ .(3/135)
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ جَالِبَهَا ذِمِّيٌّ فَلَا تُخَمَّسُ عَلَيْهِ بَلْ يَمْلِكُهَا جَمِيعًا وَيَحِلُّ لَهُ وَلِمَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ وَطْؤُهَا وَإِذَا اُحْتُمِلَ وَاحْتُمِلَ فَالْأَصْلُ الْحِلُّ وَأَيْضًا فَجَلْبُ الْمُسْلِمِ مَانِعٌ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَانِعِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ثُبُوتُهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ جَالِبِهَا مُسْلِمًا حُرْمَتُهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِسَوْمٍ وَهَرَبَ وَمَنْ كَانَتْ كَذَلِكَ يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِمَا مَرَّ أَنَّ الْأَخْذَ كَذَلِكَ لَا تَخْمِيسَ عَلَى فَاعِلِهِ هَذَا مَا تَلَخَّصَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ الِاشْتِغَالِ وَشُغْلِ الْبَالِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ تَحْتَمِلُ مِنْ الْبَسْطِ أَزْيَدَ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ لَكِنْ لَعَلَّ فِيهِ وَفَاءً بِمَقْصُودِ السَّائِلِ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَإِلَّا فَبَابُ تَجْدِيدِ السُّؤَالِ مَفْتُوحٌ وَإِنْ شَطَّ الْمَزَارُ وَبَعُدَتْ الدِّيَارُ فَإِنَّ مَنْ اعْتَنَى بِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ نَفْعٌ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي تَحْصِيلِهِ حَتَّى يُسَهِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ حُصُولَهُ أَوْ حُصُولَ شَيْءٍ مِنْهُ بِحَسَبِ بَذْلِ هِمَّتِهِ وَصَفَاءِ طَوِيَّتِهِ وَكَمَالِ قَابِلِيَّتِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
===========
وقف الذمي (1)
( سُئِلَ ) فِيمَا إذَا كَانَ لِنَصْرَانِيٍّ دَارٌ مَعْلُومَةٌ فَوَقَفَهَا فِي صِحَّةٍ مُنْجِزًا عَلَى قَسَاقِسِ النَّصَارَى الْمَوْجُودِينَ يَوْمئِذٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْقَسَاقِسِ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى فُقَرَاءِ النَّصَارَى وَكُتِبَ بِذَلِكَ صَكٌّ فَهَلْ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَيَكُونُ لِفُقَرَاءِ النَّصَارَى ؟
__________
(1) - تنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 2 / ص 235)(3/136)
( الْجَوَابُ ) : يَجُوزُ الْوَقْفُ الْمَذْكُورُ قَالَ الْإِمَامُ الْخَصَّافُ فِي وَقْفِ أَهْلِ الذِّمَّةِ قُلْت فَمَا تَقُولُ إنْ قَالَ جَعَلْت دَارِي هَذِهِ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً تَجْرِي غَلَّتُهَا عَلَى فُقَرَاءِ بَيْعَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ هَذَا جَائِزٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنَّمَا يُصْرَفُ فِي هَذَا إلَى الصَّدَقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى فُقَرَاءِ النَّصَارَى أَنِّي أُجِيزَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ عَمَّمَ وَلَمْ يَخُصَّ فَقَالَ تَجْرِي غَلَّةُ صَدَقَتِي هَذِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ قَالَ هَذَا جَائِزٌ قُلْت فَمَا تَقُولُ لَوْ جَعَلَ الذِّمِّيُّ أَرْضًا لَهُ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً فَقَالَ تُنْفَقُ غَلَّتُهَا عَلَى بَيْعَةِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ خَرِبَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ كَانَتْ غَلَّةُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ بَعْدَ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ قَالَ لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ وَيَكُونُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا يُنْفَقُ عَلَى الْبَيْعَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ قُلْت وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ تَجْرِي غَلَّةُ هَذِهِ الصِّيغَةِ عَلَى الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ قَالَ هَذَا بَاطِلٌ قُلْت فَإِنْ خَصَّ الرُّهْبَانَ وَالْقِسِّيسِينَ الَّذِينَ فِي بَيْعَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ ا هـ .
وَفِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ إذَا وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى الْكَنِيسَةِ أَوْ الْبَيْعَةِ فَهَلْ يَجُوزُ أَجَابَ الْوَقْفُ بَاطِلٌ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَكَذَا إذَا وَقَفَ عَلَى الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ النَّصَارَى جَازَ .ا هـ .
========
وقف الذمي داره على بنيه ثم على كنيسة(1)
__________
(1) - تنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 2 / ص 236)(3/137)
( سُئِلَ ) فِي ذِمِّيٍّ مَرِيضٍ مَرَضَ الْمَوْتِ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى بِنْتَيْهِ الذِّمِّيَّتَيْنِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى كَنِيسَةِ كَذَا ثُمَّ هَلَكَ مِنْ مَرَضِهِ الْمَزْبُورِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَنْهُمَا وَعَنْ زَوْجَةٍ وَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ لَمْ يُجِيزُوا ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ الْوَقْفُ غَيْرَ جَائِزٍ ؟
( الْجَوَابُ ) : نَعَمْ قُلْت وَكُلُّ وَقْفٍ وَقَفَهُ الذِّمِّيُّ فَجَعَلَ غَلَّةَ ذَلِكَ فِيمَا لَا يَجُوزُ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي عِمَارَةِ الْبَيْعِ وَالْكَنَائِسِ وَبُيُوتِ النِّيرَانِ وَالْإِسْرَاجُ فِيهَا وَمَرَمَّتُهَا أَلَيْسَ ذَلِكَ بَاطِلًا قَالَ بَلَى .
ا هـ .
خَصَّافٌ مِنْ بَابِ وَقْفِ الذِّمِّيِّ وَمِثْلُهُ فِي الْإِسْعَافِ وَالْبَحْرِ وَغَيْرِهِمَا وَالْوَقْفُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَلِلْوَارِثِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَلَمْ يُجِيزُوا ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا .
=============
ذِمِّيٍّ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ (1)
( سُئِلَ ) فِي ذِمِّيٍّ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَشَرَطَ أَنْ لَا يُؤَجِّرَ إلَّا عَقْدًا بِعَقْدٍ وَلَا لِمُتَجَاهِي وَلَا يُعَجِّلُ بِمَالِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ثُمَّ إنَّ الْوَاقِفَ آجَرَ مِنْ آخَرَ وَتَعَجَّلَ لِسِتِّ سِنِينَ كُلَّ سَنَتَيْنِ عَقْدٌ وَحَكَمَ بِهِ حَنْبَلِيٌّ ثُمَّ فَرَغَ عَنْ الْوَقْفِ فَهَلْ بِالْفَرَاغِ لِأَوْلَادِهِ يَفْسَخُ الْإِيجَارَ وَيُضِيعُ مَالَ الْمُسْتَأْجِرِ وَهَلْ لَهُ حَبْسُ الْوَقْفِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالَهُ ؟
__________
(1) - تنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 2 / ص 237)(3/138)
( أَجَابَ ) وَقْفُ الذِّمِّيِّ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَأَمَّا عَلَى أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ فَمَدْلُولُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وَقْفَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ هُمْ حَتَّى لَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا جَازَ وَقْفُهُمْ عَلَى مَسْجِدِ الْقُدْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ عِنْدَ هُمْ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَصِحُّ عَلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَيُلْغَى قَوْلُهُ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَيَكُونُ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَبَّدًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ التَّأْبِيدَ وَأَمَّا الْإِجَارَةُ الْمَذْكُورَةُ فَإِنْ حَكَمَ فِيهَا حَاكِمٌ يَرَاهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ دَعْوَى ارْتَفَعَ الْخِلَافُ وَهَذَا الْجَوَابُ لَمْ أَنْقُلْهُ مِنْ تَحْتِ يَدَيَّ عَلَى وَرَقَةِ السَّائِلِ لِعَدَمِ جَزْمِي بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فَتَاوَى الْكَازَرُونِيُّ مِنْ الْوَقْفِ عَنْ الْحَانُوتِيِّ وَلَوْ وَقَفَهَا عَلَى مَصَالِحِ بَيْعَةِ كَذَا مِنْ عِمَارَةٍ وَمَرَمَّةٍ وَسِرَاجٍ وَإِذَا خَرِبَتْ وَاسْتَغْنَى عَنْهَا تَكُونُ الْغَلَّةُ لِإِسْرَاجِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ قَالَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ يَجُوزُ الْوَقْفُ وَتَكُونُ الْغَلَّةُ لِلْإِسْرَاجِ أَوْ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلَا يُنْفَقُ عَلَى الْبَيْعَةِ مِنْهَا شَيْءٌ ا هـ إسْعَافٌ مِنْ بَابِ أَوْقَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَتَأَمَّلْ فَلَعَلَّهُ يُفِيدُ مَا قَالَهُ الْحَانُوتِيُّ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ إلَخْ وَفِي الْخَصَّافِ مِنْ الْبَابِ الْمَزْبُورِ أَفْصَحُ مِنْ هَذَا وَأَصْرَحُ فَرَاجِعْهُ .
============(3/139)
وقف الذمية على فقراء اهل الذمة (1)
( سُئِلَ ) فِي امْرَأَةٍ ذِمِّيَّةٍ لَهَا حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ فِي دَارٍ وَقَفَتْ الْحِصَّةَ الْمَزْبُورَةَ فِي صِحَّتِهَا مُنَجَّزًا عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَفُقَرَاءِ بَيْعَةِ كَذَا وَحَكَمَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَلُزُومِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَهَلْ يَكُونُ الْوَقْفُ الْمَزْبُورُ صَحِيحًا ؟
( الْجَوَابُ ) : نَعَمْ صَحَّ وَقْفُ الذِّمِّيِّ بِشَرْطِ كَوْنِهِ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ هُمْ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ عَمَّمَ جَازَ الصَّرْفُ إلَى كُلِّ فَقِيرٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ وَإِنْ خَصَّصَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ اُعْتُبِرَ شَرْطُهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ بَحْرٌ مِنْ الْوَقْفِ وَقَفَهَا عَلَى فُقَرَاءِ بَيْعَةِ كَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكَوْنِهِ قَصَدَ الصَّدَقَةَ إسْعَافٌ مِنْ بَابِ أَوْقَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
==============
( سُئِلَ ) عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا بَنَى دَارًا عَالِيَةً بَيْنَ دُورِ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لَهَا طَاقَاتٍ وَشَبَابِيكَ تُشْرِفُ عَلَى جِيرَانِهِ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ ؟ (2)
__________
(1) - تنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 2 / ص 239)
(2) - تنقيح الفتاوى الحامدية - (ج 7 / ص 117)(3/140)
( الْجَوَابُ ) : أَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ مَا جَازَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي مِلْكِهِ جَازَ لَهُمْ وَمَا لَمْ يَجُزْ لِلْمُسْلِمِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ تَعْلِيَتِهِ بِنَاءَهُ إذَا حَصَلَ ضَرَرٌ لِجَارِهِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَنْ يَسْكُنُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَسْكُنُونَ مُنْعَزِلِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الَّذِي أُفْتِي بِهِ أَنَا كَذَا فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَأَفْتَى فِي سُؤَالٍ آخَرَ بِمَنْعِهِمْ مِنْ السُّكْنَى فِي مَحَلَّاتِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَنْعِهِمْ مِنْ إحْدَاثِ بَيْتٍ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كَالْكَنِيسَةِ .ا هـ .
=============
حكم محاكاة النصارى في أعيادهم(1)
السؤال: فضيلة الشيخ: يوجد عندنا سنوياً في مثل هذه الأيام في كينيا من يقيم اجتماعاً في كل سنة، فمثلاً: النصارى يحتفلون بعيد ميلاد عيسى في كل سنة، والمسلمون -الآن- جعلوا هناك عادة، يجتمعون لمدة ثلاثة أيام يذبحون ويلقون المحاضرات فيما بينهم، وقالوا: بدلاً من أولادنا وجماعتنا يذهبون وراء النصارى نجمعهم في مكان ونأكلهم، فما حكم هذه الذبيحة؟ هل تعتبر مشابهة للكفار وهناك يتبادلون فيما بينهم مثل الهدايا بين النصارى، هل فيها شيء؟
الجواب:
__________
(1) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 82 / ص 10)(3/141)
فيها شيئان وليس شيء واحد: الشيء الأول: مداهنة هؤلاء النصارى في إقامة عيد في الإسلام كعيدهم، وهذا يعني: أنهم قد رضوا بهذا العيد من النصارى، والرضا بعيد النصارى يقول عنه ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة: إن لم يكن كفراً فهو محرمٌ قطعاً. والرضا بشعائر الكفر ليس بالأمر الهين فهو حرام ولا يجوز. أما الشيء الثاني: فلأننا إذا أقمنا مثل هذه الأعياد فإن النشء الصغار سيعتقدون أن عيدنا كعيد هؤلاء، ولا يعرفون أن مراد أهليهم أن ينشغلوا بهذا عن أعياد الكفار، وستذهب الغيرة من قلوبهم بناءً على هذا الظن الذي ظنوه، ولهذا نرى أنه لا يجوز أبداً إحداث عيدٍ مضاهاة لهؤلاء النصارى، ولكن من الممكن أن يدرسوا أولادهم أن هذا ليس عيداً لنا هذا عيدٌ للكفار، وليس لنا فيه دخل. وأما تبادل الهدايا فهذا موضع نظر وخلاف بين العلماء: منهم من قال: لا بأس أن نقبل هديتهم في هذا اليوم. ومنهم من يقول: لا؛ لأن قبول هديتهم يشعرهم بأننا راضون بفعلهم وأعيادهم. ولا شك أن السلامة أسلم، أي: ألا يقبل هديتهم في هذه المناسبة؛ فإنه أسلم لدينه وعرضه. والذبيحة لم يذبحوها لغير الله هم وإنما ذبحوها لله، لكنها ذبيحة بدعية.
===========
حكم التهنئة برأس العام الجديد (1)
السؤال: ما حكم التهنئة لبداية السنة, بما يفعله الناس كأن يقول أحدهم للآخر: كل عام وأنتم بخير ونحو ذلك؟
الجواب:
__________
(1) - لقاءات الباب المفتوح - (ج 112 / ص 6)(3/142)
التهنئة برأس العام الجديد ليست معروفة عند السلف, ولهذا تركها أولى, لكن لو أن الإنسان هنأ الإنسان بناءً على أنه في العام الذي مضى أفناه في طاعة الله عز وجل فيهنئه لطول عمره في طاعة الله فهذا لا بأس به, لأن خير الناس من طال عمره وحسن عمله, لكن هذه التهنئة إنما تكون على رأس العام الهجري, أما رأس العام الميلادي فإنه لا يجوز التهنئة به؛ لأنه ليس عاماً شرعياً بل إن هنئ به الكفار على أعيادهم، فهذا يكون الإنسان فيه على خطر عظيم أن يهنئهم بأعياد الكفر, لأن التهنئة بأعياد الكفر رضا بها وزيادة, والرضا بالأعياد الكفرية ربما يخرج الإنسان من دائرة الإسلام, كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه أحكام أهل الذمة. وخلاصة القول: أن التهنئة برأس العام الهجري تركها أولى بلا شك؛ لأنها ليست من عهد السلف, وإن فعلها الإنسان فلا يؤثم, وأما التهنئة برأس العام الميلادي فلا.
=============
خضور جنازة الكافر في الكنيسة(1)
السؤال
مات زميل لنا في العمل، وكان متقناً عمله، وأخلاقه جيدة، ولكنه نصراني فحضر بعض الزملاء الجنازة في الكنيسة، منهم من كان يقف كلما وقف الموجودون في الكنيسة، ومنهم من لم يشارك في أي شيء سوى أنه جلس معهم فقط، ما حكم الإسلام في حضور هذه الجنازة في الكنيسة، ودخول مقابرهم للمجاملة؟ وهل حضر الرسول جنائز لأهل الذمة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
__________
(1) - فتاوى من موقع الإسلام اليوم - (ج 1 / ص 79)-التاريخ 7/2/1424هـ(3/143)
فالأصل في التعامل مع النصارى وغيرهم من الكفار قوله تعالى في سورة الممتحنة:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين*إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" [الممتحنة: 8-9].
وعليه فإذا كان أهل الزميل المذكور من القسم الأول فلا بأس من زيارتهم ودخول منازلهم وتعزيتهم في مصابهم والإحسان إليهم وحسن التعامل معهم، لكن يجب أن يكون ذلك كله مصحوباً بدعوتهم إلى الإسلام واستمالة قلوبهم إليه، مع بغض ما هم عليه من كفر وضلال.
والميت النصراني -مهما كانت أخلاقه في العمل وحسن تعامله- لا تجوز الصلاة عليه ولا الدعاء له بالمغفرة، لا الصلاة الشرعية ولا صلاتهم هم البدعية على موتاهم، بل هذه من باب أولى سواء في كنائسهم أو في غيرها.
وعليه فلا تجوز المشاركة في مواسم عباداتهم واحتفالاتهم في تشييع جنائزهم ولا في غيرها.
كما لا يجوز الوقوف صمتاً دقيقة واحدة أو أكثر أو أقل حداداً وتشريفاً لأرواح الموتى، لأن هذا من شعائر الكفار التي أمرنا بمخالفتهم، سواء كان ذلك مجاملة أو عادة أو تقليداً.
فلا تجوز المجاملة في دين الله تعالى ولا الالتزام بالأعراف والتقاليد المخالفة لدين الله، ومع ذلك فإنه يجوز حمل جنازة الكافر والذهاب بها إلى المستشفى أو إلى مكان الدفن إذا لم يوجد من يقوم بذلك.
أما دخول الكنائس فالأصل فيه المنع إلا لمصلحة شرعية، لما روى البيهقي بإسناد صحيح إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال:"...ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم ومعابدهم فإن السخطة تنزل عليهم".
ولا نعرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه شيع جنازة أحد من أهل الذمة.(3/144)
بل قد ورد النهي الصريح للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الله تعالى أن يقوم على قبر عبد الله بن أبي سلول فقال تعالى:"ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون" [التوبة: 84]، كذلك لم يشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- جنازة عمه أبي طالب مع قرابته ومناصرته له، وإنما قال لعلي -رضي الله عنه-:"اذهب فواره".
وما ورد عند النسائي (1921) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرت به جنازة فقام -عليه الصلاة والسلام- فقيل: إنها من أهل الأرض -يعني الذميين- وفي رواية إنها يهودية، فقال:"أليست نفساً" فقد اختلفت العلة في قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الجنازة فقد ورد في رواية جابر عند النسائي (1922) قال: قلت يا رسول الله، إنما هي جنازة يهودية، فقال:"إن للموت نزعاً" وفي رواية لأنس (1929) قال -صلى الله عليه وسلم-:"إنما قمنا للملائكة" وعلل الحسن البصري -رحمه الله- قيام النبي -صلى الله عليه وسلم- لجنازة اليهودي بقوله: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طريقها جالساً، فكره أن تعلو رأسه جنازة يهودي فقام. (سنن النسائي 1927).
علماً بأنه ذهب بعض أهل العلم كابن عباس - رضي الله عنهما- وغيره إلى نسخ القيام للجنازة مطلقاً، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يعد يقوم بعد ذلك كما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
=============
كيفية توزيع الأضحية (1)
يقول السائل : كيف توزع الأضحية ؟
الجواب : قال أهل العلم يكون التصرف بالأضحية بالأكل والصدقة والهدية وتفصيل ذلك كما يلي : ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأكل من الأضحية مندوب .
وقد استدلوا بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :( . فكلوا وادخروا وتصدقوا ) متفق عليه .
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 4 / ص 100)(3/145)
وما ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال :( . كلوا وتزودوا ) رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية أخرى عند مسلم :( . كلوا وتزودوا وادخروا ).
وقد حمل الجمهور الأوامر في هذه الأحاديث على الندب ، لأن الأمر فيها جاء بعد الحظر فيحمل على الندب أو الإباحة .
قال الحافظ ابن عبد البر :[ وأما قوله :( فكلوا وتصدقوا وادخروا ) فكلام خرج بلفظ الأمر ، ومعناه الإباحة لأنه أمر ورد بعد نهي ، وهكذا شأن كل أمر يرد بعد حظر أنه إباحة لا إيجاب ] الاستذكار 15/173 .
وأما مقدار الأكل فقال الحنفية والحنابلة : يأكل ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها .
ولو أكل أكثر من الثلث جاز . بدائع الصنائع 4/223 ، المغني 9/448.
وجاء عن الشافعي أنه يستحب قسمتها أثلاثاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - :( كلوا وتصدقوا وأطعموا ) فتح الباري 12/123 .
واحتج ابن قدامة المقدسي بما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : [ ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤَّال بالثلث ] رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال : حديث حسن . المغني 9/448-449 .
وقالوا لأنه قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ولم نعرف لهما مخالفاً من الصحابة فكان إجماعاً كما قال ابن قدامة في المغني 9/449 .
ومن أهل العلم من استحب أن يأكل نصفاً ويطعم نصفاً لقول الله تعالى في الهدايا : ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) سورة الحج الآية 36 .
وأما الإمام مالك فلم يحدد في ذلك شيئاً ويقول : يأكل ويتصدق .
والدليل على أنه لا تحديد في المسألة بل الأمر على الاستحباب حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال :( ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية . قال : فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ) رواه مسلم .(3/146)
ويستحب لمن أراد أن يضحي في يوم الأضحى أن يخرج إلى صلاة العيد ولا يأكل شيئاً حتى يصلي ثم يذبح أضحيته فيأكل منها وهذا قول أكثر العلماء .
قال الشيخ ابن قدامة :[ . ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي وهذا قول أكثر أهل العلم منهم علي وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم لا نعلم فيه خلافاً ] .
المغني 2/275 .
ومما يدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال : ( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي ) رواه الترمذي ، ثم قال :[ وقد استحب قوم من أهل العلم أن لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم شيئاً ويستحب له أن يفطر على تمر ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع ]. والحديث رواه أيضاً ابن ماجة وابن حبان وقال الشيخ الألباني : صحيح . سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/80 ، صحيح سنن الترمذي 1/168
والحكمة في امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأكل قبل الصلاة يوم الأضحى هي :[ ليكون أول ما يطعم من لحم أضحيته فيكون مبنياً على امتثال الأمر ] المرقاة 3/544-545 .
وقال الإمام أحمد :[ والأضحى لا يأكل فيها حتى يرجع إذا كان له ذبح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبيحته وإذا لم يكن له ذبح لم يبالِ أن يأكل ] المغني 2/275 .
وقال الشعبي :[ إن من السنة أن تطعم يوم الفطر قبل أن تغدو ، وأن تؤخر الطعام يوم النحر حتى ترجع ] .
وقال سعيد بن المسيب :[ كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل المصلى ولا يفعلون ذلك يوم النحر ] الاستذكار 7/40 .
وأما التصدق منها فقال الحنفية والمالكية إن التصدق من الأضحية مندوب وليس بواجب .
وحجتهم ما سبق في الأكل من الأضحية وهو أرجح أقوال العلماء في المسألة .
ويتصدق منها على المسلمين من الفقراء والمحتاجين ويهدي إلى الأقارب والأصدقاء والجيران وإن كانوا أغنياء .(3/147)
ونقل النووي عن ابن المنذر قوله :[ أجمعت الأمة على جواز إطعام فقراء المسلمين من الأضحية واختلفوا في إطعام فقراء أهل الذمة فرخص فيه الحسن البصري
وأبو حنيفة وأبو ثور . وقال مالك : غيرهم أحب إلينا .
وكره مالك أيضاً إعطاء النصراني جلد الأضحية أو شيئاً من لحمها .
وكرهه الليث قال : فإن طبخ لحماً فلا بأس بأكل الذمي مع المسلمين منه ].
ثم قال النووي :[ ومقتضى المذهب أنه يجوز إطعامهم من ضحية التطوع دون الواجبة ] المجموع 8/425 .
وقال الشيخ ابن قدامة :[ ويجوز أن يطعم منها كافراً وبهذا قال الحسن وأبو ثور وأصحاب الرأي . لأنه طعام له أكله فجاز إطعامه للذمي كسائر الأطعمة ولأنه صدقة تطوع فجاز إطعامها للذمي والأسير كسائر صدقة التطوع ] المغني 9/450 .
والراجح من أقوال العلماء أنه يجوز إطعام أهل الذمة منها ، وخاصةً إن كانوا فقراء أو جيراناً للمضحي أو قرابته أو تأليفاً لقلوبهم .
وأما الهدية من الأضحية فقد اتفق أهل العلم على أن الهدية من الأضحية مندوبة . وكثير من العلماء يرون أن يهدي ثلثاً منها كما مرَّ في حديث ابن عباس فإنه يجعل الأضحية أثلاثاً ثلث لأهل البيت وثلث صدقة وثلث هدية .
ونقل هذا عن ابن مسعود وابن عمر وعطاء وإسحاق وأحمد وهو أحد قولي الشافعي .
ويسن أن يجمع بين الأكل والتصدق والإهداء وأن يجعل ذلك أثلاثاً وإذا أكل البعض وتصدق بالبعض فله ثواب الأضحية بالكل والتصدق بالبعض .
===========
تعزية غير المسلم (1)
يقول السائل : كيف نعزي غير المسلمين بموتاهم ؟
الجواب : يجوز للمسلم أن يعزي غير المسلم في ميته وهذا قول جمهور أهل العلم وذكر العلماء عدة عبارات تقال في هذه التعزية منها :
- أخلف الله عليك ولا نقص عددك .
- أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل دينك . المغني 2/46 .
- ألهمك الله الصبر وأصلح بالك ، ومنها : أكثر الله مالك وأطال حياتك أو عمرك .
__________
(1) - فتاوى يسألونك - (ج 5 / ص 233)(3/148)
- ومنها لا يصيبك إلا خير . أحكام أهل الذمة 1/161 .
==============
هل يجوز حضور الاحتفال بأعياد النصارى وتهنئتهم بها ؟.(1)
الحمد لله
قال ابن القيم رحمه الله : ولا يجوز للمسلمين حضور أعياد المشركين باتفاق أهل العلم الذين هم أهله . وقد صرح به الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة في كتبهم . . . وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : (لا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم) . وقال عمر أيضاً : (اجتنبوا أعداء الله في أعيادهم) . وروى البيهقي بإسناد جيد عن عبد الله بن عمرو أنه قال : (من مَرَّ ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم
وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة) اهـ أ حكام أهل الذمة 1 /723-724
وأما تهنئتهم بأعيادهم فقد تقدم جواب عن ذلك برقم ( 947 ) فننصح السائل بمراجعته .
الشيخ محمد صالح المنجد
===============
مقاطعة بضائع الكفار المحاربين (2)
السؤال:
هل من العادة إباحة التعامل مع اليهود ، أو شركات يملكها اليهود أو مساهمين يهود ، أو شركات لها فروع في إسرائيل ، إلخ. ؟
مؤخرا ً كثير من المسلمين يقولون إنه حرام التعامل مع اليهود على الإطلاق . لحسب معلوماتي المحدودة، حتى عندما قاتل المسلمون اليهود في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم ، لم يمنع التعامل معهم ، وعندما توفي كان درعه مرهوناً عند يهودي على دَيْن . الرجاء إعلامنا بالموقف الصحيح لهذه القضية .
الجواب:
الحمد لله
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 518)-سؤال رقم 11427- حضور أعياد المشركين وتهنئتهم بها
(2) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 1779)-سؤال رقم 20732- مقاطعة بضائع الكفار المحاربين(3/149)
أولاً : الأصل هو جواز التعامل بالبيع والشراء مع اليهود وغيرهم ، لما ثبت من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع يهود المدينة بالبيع والشراء والقرض والرهن وغير ذلك من المعاملات المباحة في ديننا.
وهؤلاء اليهود الذين تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أهل العهد ، ومن نقض العهد منهم فقد قُتِلَ أو أُخرِجَ ، أو تُرِكَ لمصلحة .
على أنه قد ثبت ما يدل على جواز البيع والشراء مع الكفار المحاربين .
قال الإمام البخاري رحمه الله :
بَاب الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ .
ثم روى (2216) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً أَوْ قَالَ أَمْ هِبَةً ؟ قَالَ : لا ، بَلْ بَيْعٌ ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً .
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (11/41) :
وقد أجمع المسلمون على جواز معاملة أهل الذِّمَّة ، وغيرهم من الكفَّار إذا لم يتحقَّق تحريم ما معه، لكن لا يجوز للمسلم أن يبيع أهل الحرب سلاحاً وآلة حرب ، ولا ما يستعينون به في إقامة دينهم. اهـ
وقَالَ اِبْنُ بَطَّالٍ : مُعَامَلَةُ الْكُفَّارِ جَائِزَةٌ , إِلا بَيْعَ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اهـ .
ونقل في " المجموع" (9/432) الإجماع على تحريم بيع السلاح لأهل الحرب .
والحكمة من ذلك واضحة ، وهي أن هذا السلاح يقاتلون به المسلمين .
ثانياً : لا شك في مشروعية جهاد أعداء الله المحاربين من اليهود وغيرهم ، بالنفس والمال ، ويدخل في ذلك كل وسيلة تضعف اقتصادهم وتلحق الضرر بهم ، فإن المال هو عصب الحروب في القديم والحديث .(3/150)
وينبغي على المسلمين عموما التعاون على البر والتقوى ومساعدة المسلمين في كل مكان بما يكفل لهم ظهورهم وتمكينهم في البلاد وإظهارهم شعائر الدين ، وعملهم بتعاليم الإسلام وتطبيقهم للأحكام الشرعية وإقامة الحدود ، وبما يكون سببا في نصرهم على القوم الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم ، فيبذل جهده في جهاد أعداء الله بكل ما يستطيعه، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ ) . رواه أبو داود (2504) صححه الألباني في صحيح أبي داود .
فعلى المسلمين أن يساعدوا المجاهدين بكل ما يستطيعونه ، وبذل كل الإمكانيات التي يكون فيها تقوية للإسلام والمسلمين ، وعليهم أيضاً جهاد الكفار بما يستطيعونه من القدرة ، وعمل كل ما فيه إضعاف للكفار أعداء الدين ، فلا يستعملونهم كعمال بالأجرة كُتَّاباً أو محاسبين أو مهندسين أو خُداما بأي نوع من الخدمة التي فيها إقرار لهم وتمكين لهم بحيث يجمعون أموال المسلمين ويحاربونهم بها
والحاصل :
أن من قاطع بضائع الكفار المحاربين وقصد بذلك إظهار عدم موالاتهم ، وإضعاف اقتصادهم ، فهو مثاب مأجور إن شاء الله تعالى على هذا القصد الحسن .
ومن تعامل معهم متمسكاً بالأصل وهو جواز التعامل مع الكفار - لاسيما بشراء ما يحتاج إليه - فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى ، ولا يكون ذلك قدحاً في أصل الولاء والبراء في الإسلام .
وقد سئلت اللجنة الدائمة : ما حكم ترك المسلمين التعاون بينهم بأن لا يرضى ولا يحب أن يشتري من المسلمين ، ويرغب في الشراء من الكفار ، هل هذا حلال أم حرام ؟
فأجابت :(3/151)
الأصل جواز شراء المسلم ما يحتاجه مما أحل الله له من المسلم أو من الكافر ، وقد اشترى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود ، لكن إذا كان عدول المسلم عن الشراء من أخيه المسلم من غير سبب من غش ورفع أسعار ورداءة سلعة إلى محبة الشراء من كافر والرغبة في ذلك وإيثاره على المسلم دون مبرر فهذا حرام لما فيه من موالاة الكفار ورضاء عنهم ومحبة لهم ، ولما فيه من النقص على تجار المسلمين وكساد سلعهم ، وعدم رواجها إذا اتخذ المسلم ذلك عادة له ، وأما إن كانت هناك دواع للعدول من نحو ما تقدم فعليه أن ينصح لأخيه المسلم بترك ما يصرفه عنه من العيوب ، فإن انتصح فالحمد لله ، وإلا عدل إلى غيره ، ولو إلى كافر يحسن تبادل المنافع ويصدق في معاملته " اهـ . "فتاوى اللجنة الدائمة" (13/18) .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
==============
ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار (1)
السؤال:
ورد في القرآن أنه لا يجوز لنا اتخاذ الكفار أولياء ، لكن ماذا يعني ذلك ؟ أقصد إلى أي حدٍّ ؟ هل يجوز لنا التعامل معهم ؟ أنا أدرس ، فهل يجوز لنا لعب كرة السلة معهم ؟ هل يجوز أن نتحدث معهم فيما يتعلق بالسلة وما إلى ذلك ؟ هل يجوز أن نصاحبهم طالما أنهم أبقوا أمور اعتقاداتهم لأنفسهم ؟
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5229)-سؤال رقم 59879- ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار(3/152)
أسأل عن ذلك لأني أعرف شخصاً يصاحبهم بمثل هذه الطريقة وتواجده معهم لا يؤثر على اعتقاده ، لكني مع ذلك أقول له : " لماذا لا تبقى مع المسلمين بدلا من هؤلاء ؟ " وهو يرد قائلا : إن أغلب - أو العديد - من المسلمين يشربون الخمر ويتناولون المخدرات في أماكن تجمعهم ، كما أن لهم صديقات ، وهو يخاف من أن معاصي هؤلاء المسلمين قد تغويه ، لكنه متأكد تماما أن كفر الكفار لن يغريه لأنه شيء لا يُعتبر مغريا بالنسبة له ، فهل تواجده ولعبه وحديثه حول أمور الرياضة مع الكفار يعتبر " من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين " ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولاً : حرم الله تعالى على المؤمنين اتخاذ الكافرين أولياء ، وتوعد على ذلك وعيداً شديداً .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) المائدة/51 .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" ذكر في هذه الآية الكريمة أن من تولى اليهود والنصارى مِن المسلمين فإنه يكون منهم بتوليه إياهم ، وبيَّن في موضع آخر أن توَلِّيهم موجب لسخط الله ، والخلود في عذابه ، وأن متوليهم لو كان مؤمناً ما تولاهم ، وهو قوله تعالى : ( تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) المائدة/80 ، 81 .(3/153)
ونهى في موضِع آخر عن تَوليهم مبيناً سبب التنفير منه ، وهو قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ) الممتحنة/13 .
وبيَّن في موضع آخر أن محل ذلك فيما إذا لم تكن الموالاة بسبب خوف ، وتقية ، وإن كانت بسبب ذلك فصاحبها معذور ، وهو قوله تعالى : ( لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) آل عمران/28 . فهذه الآية الكريمة فيها بيانٌ لكل الآيات القاضية بمنع موالاة الكفار مطلقاً وإيضاحٌ ؛ أن محل ذلك في حالة الاختيار ، وأما عند الخوف والتقية فيرخص في موالاتهم ، بقدر المداراة التي يكتفي بها شرهم ، ويشترط في ذلك سلامة الباطن من تلك الموالاة ، ومن يأتي الأمور على اضطرار فليس كمثل آتيها اختياراً .
ويفهم من ظواهر هذه الآيات أن من تولى الكفار عمداً اختياراً رغبة فيهم أنه كافر مثلهم " انتهى .
"أضواء البيان" ( 2 / 98 ، 99 ) .
ومن صور مولاة الكفار المحرمة : اتخاذهم أصدقاء وأصحاباً ، ومخالطتهم في الطعام واللعب معهم
وفي جواب السؤال رقم ( 10342 ) نقلنا عن الشيخ ابن باز قوله :
" ليس الأكل مع الكافر حراماً إذا دعت الحاجة إلى ذلك أو المصلحة الشرعية ، لكن لا تتخذوهم أصحاباً فتأكل معهم من غير سبب شرعي أو مصلحة شرعية ولا تؤانسهم ، وتضحك معهم ، ولكن إذا دعت إلى ذلك حاجة كالأكل مع الضيف أو ليدعوهم إلى الله ويرشدهم إلى الحق أو لأسباب أخرى شرعية فلا بأس .
وإباحة طعام أهل الكتاب لنا لا يقتضي اتخاذهم أصحاباً وجلساء ولا تقتضي مشاركتهم في الأكل والشرب من دون حاجة ولا مصلحة شرعية " . انتهى .
وسئل الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله :(3/154)
عن حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟
فأجاب :لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم ؛ لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) الممتحنة/4 . وقال تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة/22 .
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) الممتحنة/1 .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم : فهذا لا بأس به ؛ لأنه من باب التأليف على الإسلام ، ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به ، وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم رحمه الله " . انتهى .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 3 / السؤال رقم 389 ) .
ثانياً :وأما قول هذا القائل : إنه لا يخالط العصاة من المسلمين خوفا من أن تغويه معاصيهم ، وأما الكفار فإن كفرهم لن يغريه .(3/155)
فجوابه أن يقال :أما عدم مخالطته لأهل المعاصي من المسلمين فَلَنِعْمَ ما فَعَلَ ، إذا لم يكن قادراً على نصيحتهم ، ونهيهم عن المنكر ، وخاف على نفسه من الوقوع في معاصيهم واستحسانها .
وأما مخالطته للكفار ، فليست العلة في منع مخالطة الكفار هي الخوف من الوقوع في الكفر فقط ، بل مِنْ أظهرِ عِلَلِ هذا الحكم : عداوتُهم لله ورسوله والمؤمنين ، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) الممتحنة/1 .
فكيف يليق بمسلم أن يصاحب عدو الله وعدوه ويصادقه ؟!
ثم مِنْ أين يأمَنُ هذا مِنِ استحسانِ طريقتهم ومذهبهم ؟ وقد وقع كثير من المسلمين في الكفر والإلحاد وارتدوا عن الإسلام بسبب مصاحبتهم للكفار ، وإقامتهم في بلدانهم . فبعضهم تَهَوَّدَ ، وبعضهم تَنَصَّر ، وبعضهم اعتنق مذاهب فلسفية ملحدة .نسأل الله أن يثبتنا على دينه .
وانظر جواب السؤال رقم ( 2179 ) ففيه إيضاح القاعدة العظيمة : " تحريم موالاة الكفّار " وفيه ذِكر صور كثيرة من تلك الموالاة المحرَّمة .
وفي جواب السؤال رقم ( 43270 ) تجد حكم القول بأن أخلاق الكفّار أفضل من أخلاق المسلمين ، وفيه النقل عن الشيخ ابن باز بتحريم هذا القول .
وفي جواب السؤال رقم ( 26118 ) ، ( 23325 ) بيان تحريم مصاحبة الكافر ومصادقته .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
=============
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم (1) .
الجواب:
الحمد لله
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6631) -سؤال رقم 947- حكم تهنئة الكفار بأعيادهم(3/156)
تهنئة الكفار بعيد الكريسمس أو غيره من أعيادهم الدينية حرام بالاتفاق ، كما نقل ذلك ابن القيم - يرحمه الله - في كتاب ( أحكام أهل الذمة ) حيث قال : " وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم ، فيقول: عيد مبارك عليك ، أو تهْنأ بهذا العيد ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله ، وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه ، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ، ولا يدري قبح ما فعل ، فمن هنّأ عبداً بمعصية أو بدعة ، أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه ." انتهى كلامه - يرحمه الله - .
وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراماً وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم لأن فيها إقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر، ورضى به لهم ، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه ، لكن يحرم على المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنّئ بها غيره ، لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال الله تعالى : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } وقال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا .
وإذا هنؤنا بأعيادهم فإننا لا نجيبهم على ذلك لأنها ليست بأعياد لنا ، ولأنها أعياد لا يرضاها الله تعالى ، لأنها إما مبتدعة في دينهم وإما مشروعة لكن نسخت بدين الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى جميع الخلق ، وقال فيه : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } . وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام ، لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها .(3/157)
وكذلك يحرم على المسلمين التشبه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة ، أو تبادل الهدايا أو توزيع الحلوى ، أو أطباق الطعام ،أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من تشبّه بقوم فهو منهم } . قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه : ( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ) : " مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل ، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء " . انتهي كلامه يرحمه الله .
ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم سواء فعله مجاملة أو توددا أو حياء أو لغير ذلك من الأسباب لأنه من المداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم .
والله المسئول أن يعز المسلمين بدينهم ، ويرزقهم الثبات عليه ، وينصرهم على أعدائهم ، إنه قوي عزيز . ( مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين 3/369 ) .
الشيخ محمد صالح المنجد (www.islam-qa.com)
=============
يُدعى للذهاب مع الكفّار إلى أماكن (1)
السؤال :
أعيش في مجتمع كافر وأظن أن المسلمين من عمري لا يطبقون الإسلام كما يجب ، بعض الأحيان أُدعى للذهاب لأماكن وفعل أشياء مع غير المسلمين ولست أدري هل هذا تصرف صحيح أم لا ؟.
الجواب:
الجواب :
ذهابك مع غير المسلمين وصنعك معهم أشياء لا تدري ما حكمها نقول لك فيه ما يلي :
لا يجوز لك أن تفعل شيئاً يختص بالكفار ، وأن تشاركهم به ، وإذا كنت تقول الآن إنك لا تدري ما الحكم : فنقول لك إنك قد تشارك في بعض الأشياء عندهم وهي في شرعنا من الكفر ، وذلك مثل المشاركة في أعيادهم وصومهم ، وإن سلمْتَ من الكفر فلا تسلم من الوقوع في كبائر الإثم ، كذا قرر الأئمة أمثال ابن القيم في كتابه " أحكام أهل الذمة " ، وشيخه ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 6086)-سؤال رقم 7855- يُدعى للذهاب مع الكفّار إلى أماكن(3/158)
= بل وحتى لو كنت تعلم ثم فعلت مثل هذه الأفعال مجاملة أو تودداً : فإنك لا تسلم من الإثم .
قال الشيخ محمد الصالح ابن عثيمين : ومن فعل شيئاً من ذلك - أي : المشاركة في احتفالاتهم - فهو آثم ، سواء فعله مجاملة أو تودُّداً أو حياءً ، أو لغير ذلك مِن الأسباب ؛ لأنه من المداهنة في دين الله ، ومِن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم . أ.هـ " مجموع فتاوى ابن عثيمين " ( 3/110) .
وإذا كان ذهابك معهم في غير مناسبات أعيادهم لحضور حفلات واجتماعات فيها رقص وغناء وموسيقى واختلاط وتبرّج فهذا حرام ولا يجوز .
وإن كان ذهابك مع الكفار لحضور اجتماع عاديّ كمحاضرة علميّة ليس فيه محّرم فلا بأس بذلك مع الانتباه لما قد تنجرّ إليه من وراء كثرة المخالطة للكفّار ، واحرص على الالتزام بالاجتماع إلى المسلمين الطيّبين ، وفقك الله لكل خير .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد (www.islam-qa.com)
=============
بماذا نردّ إذا سلم علينا أهل الكتاب (1)
السؤال :
ما هي الطريقة الصحيحة لتحية غير المسلمين عندما يحيونك بتحية السلام الصحيحة؟.
الجواب:
الجواب :
1. إذا تحقق لدى المسلم أن الكافر قال له " السام عليكم " - أي : الموت - فإن يرد عليه بمثل قوله فيقول : وعليكم .
2. أما إذا تحقق لديه أنه ألقى عليه تحية الإسلام من غير لبس ، فقد قال ابن القيم رحمه الله :
فلو تحقق السامع أن الذمي قال له سلام عليكم لا شك فيه ، فهل له أن يقول : وعليك السلام ، أو يقتصر على قوله " وعليك " ؟
فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة : أن يقال له وعليك السلام ؛ فإن هذا من باب العدل والله يأمر بالعدل والإحسان . " أحكام أهل الذمة " ( 1 / 425 ، 426 ) .
3. قال الشيخ محمد الصالح بن عثيمين حفظه الله :
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5790) -سؤال رقم 7092- بماذا نردّ إذا سلم علينا أهل الكتاب(3/159)
إن هؤلاء الذين يأتوننا من الشرق ومن الغرب ممن ليسوا مسلمين ؛ لا يحل لنا أن نبدأهم بالسلام ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام " رواه مسلم في صحيحه .
وإذا سلموا علينا فإننا نرد عليهم بمثل ما سلموا علينا به ، لقوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } [ النساء / 86 ] .
وسلامهم علينا بالتحية الإسلامية " السلام عليكم " لا يخلو من حالين :
الحال الأولى : أن يفصحوا بـ " اللام " فيقولوا " السلام عليكم " ، فلنا أن نقول : " عليكم السلام " أو " وعليكم " .
الحال الثانية : إذا لم يفصحوا بـ " اللام " مثل أن يقولوا " السام عليكم " : فإننا نقول : " وعليكم " فقط ؛ وذلك لأن اليهود كانوا يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلمون عليه بقولهم " السام عليكم " غير مفصحين بـ " اللام " ، والسام هو : الموت ، يريدون الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم بالموت ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول لهم " وعليكم " .
فإذا كانوا قالوا " السام عليكم " فإننا نقول : " وعليكم " ، يعني : أنتم أيضاً عليكم السام .
هذا ما دلت عليه السنة .
وأما أن نبدأهم نحن بالسلام فإن هذا قد نهانا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم .
" مجموع فتاوى ابن عثيمين " ( 2 / 97 ، 98 ) .والله أعلم
وللمزيد يراجع السؤال رقم 6583 .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد (www.islam-qa.com)
===============
منع المسلم زوجته غير المسلمة من الاحتفال بأعيادها الدينية(1)
السؤال:
لماذا لا يسمح للفتاة الكاثوليكية المتزوجة من مسلم الاحتفال بأعيادها الدينية ؟ مع أنها متزوجة من مسلم وهي باقية على عقيدتها . هل يمكنها أن تتعبد حسب اعتقادها ؟.
الجواب:
الحمد لله
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5740)-سؤال رقم 70177- منع المسلم زوجته غير المسلمة من الاحتفال بأعيادها الدينية(3/160)
إذا رضيت الفتاة النصرانية بالزواج من مسلم ، فإنه ينبغي أن تعلم أمورا :
1- أن الزوجة مأمورة بطاعة زوجها ، في غير المعصية ، لا فرق في ذلك بين الزوجة المسلمة وغيرها ، فإذا أمرها زوجها بغير معصية لزمها طاعته . وقد جعل الله هذا الحق للرجل ، لأنه قوّام على الأسرة ومسئول عنها ، ولا تستقيم الحياة الأسرية إلا بأن تكون هناك كلمة مسموعة مطاعة من فرد من أفرادها ، لكن هذا لا يعني أن يتسلط الرجل أو يستغل هذا الحق للإساءة إلى زوجته وأولاده ، بل يجتهد في الصلاح والإصلاح ، والنصح والتشاور ، لكن لا تخلو الحياة من مواقف تحتاج إلى حسم ، وكلمة فاصلة ، لابد منها ، ومن الاستجابة لها . فينبغي للفتاة النصرانية أن تتفهم هذا المبدأ قبل إقدامها على الزواج من مسلم .
2- أن إباحة الإسلام الزواج من نصرانية أو يهودية ، يعني الزواج بها مع بقائها على دينها ، فليس للزوج أن يكرهها على الإسلام ، ولا أن يمنعها من عبادتها الخاصة بها ، لكن له الحق في منعها من الخروج من المنزل ، ولو كان خروجها للكنيسة ، لأنها مأمورة بطاعته ، وله الحق في منعها من إعلان المنكر في المنزل ، كنصب التماثيل ، وضرب الناقوس .
ومن ذلك : الاحتفال بالأعياد المبتدعة ، كعيد قيامة المسيح ، لأن ذلك منكر في الإسلام ، من جهتين : من جهة كونه بدعة لا أصل لها - ومثله الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعيد الأم - ، ومن جهة ما يتضمنه من الاعتقاد الفاسد ، من أن المسيح قتل وصلب وأدخل القبر ثم قام منه .والحق أن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب وإنما رفع إلى السماء حياًّ.
انظري السؤال (10277) ، (43148) .(3/161)
والزوج ليس له أن يجبر زوجته النصرانية على ترك اعتقادها هذا ، ولكنه ينكر إشاعتها للمنكر وإظهارها له ، فيجب التفريق بين حقها في الاستمرار على دينها ، وبين إظهارها للمنكرات في بيته . ومثل هذا : ما لو كانت الزوجة مسلمة ، وتعتقد إباحة شيء ، وزوجها يعتقد تحريمه ، فإن له منعها منه ، لأنه قوّام الأسرة ، وعليه أن ينكر ما يعتقد أنه منكر .
3- الذي عليه جمهور أهل العلم أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، إضافة إلى مخاطبتهم بالإيمان ، وهذا يعني أنه يحرم عليهم ما يحرم على المسلمين من شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، وإحداث البدع ، أو الاحتفال بها . وعلى الزوج أن يمنع زوجته من ارتكاب شيء من ذلك ، لعموم قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) التحريم/6 ، ولا يستثنى من ذلك إلا اعتقادها وعبادتها المشروعة في دينها ، كصلاتها وصومها الواجب ، فإن الزوج لا يتعرض لها في ذلك ، وليس من دينها شرب الخمر ولا أكل الخنزير ولا الاحتفال بالأعياد المحدثة ، التي اخترعها الأحبار والرهبان .
قال ابن القيم رحمه الله : " وأما الخروج إلى الكنيسة والبيعة فله منعها منه ، نص عليه الإمام أحمد في الرجل تكون له المرأة النصرانية ، قال : لا يأذن لها في الخروج إلى عيد النصارى أو البيعة .
وقال في الرجل تكون له الجارية النصرانية تسأله الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم : لا يأذن لها في ذلك ".
قال ابن القيم : " وإنما وجه ذلك أنه لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه ".
وقال : " وليس له منعها من صيامها الذي تعتقد وجوبه وإن فوت عليه الاستمتاع في وقته ولا من صلاتها في بيته إلى الشرق وقد مكن النبي وفد نصارى نجران من صلاتهم في مسجده إلى قبلتهم " انتهى من "أحكام أهل الذمة" (2/819- 823) .(3/162)
وصلاة وفد نصارى نجران في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها ابن القيم رحمه الله أيضاً في "زاد المعاد" (3/629) قال المحقق : "رجاله ثقات ، لكنه منقطع " انتهى . يعني : أن سنده ضعيف .وينظر السؤال (3320)والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
==============
حكم فتح المحلات التجارية في يوم عيدٍ للكفار (1)
السؤال:
هل هناك أي محظور إذا فتح الفرد متجره أيام العيد ؟.
الجواب:
الحمد لله
أولا :لا حرج على المسلم في فتح متجره أيام أعياد المسلمين ( عيدي الفطر والأضحى ) ، بشرط أن لا يبيع ما يستعين به بعض الناس على معصية الله تعالى .
ثانيا :أما فتح المتجر في الأيام التي يتخذها غير المسلمين أعيادا ، كيوم الكريسمس ، ونحوه من أعياد اليهود أو البوذيين أو الهندوس ، فلا حرج في ذلك أيضا ، بشرط ألا يبيع لهم ما يستعينون به على معاصيهم ، كالأعلام والرايات ، والصور ، وبطاقات التهنئة ، والفوانيس ، والزهور ، والبيض الملوّن ، وكل ما يستعملونه لإقامة العيد .
وكذلك لا يبيع للمسلمين ما يستعينون به على التشبه بالكفار في أعيادهم .
والأصل في ذلك أن المسلم منهي عن فعل المعصية ، وعن الإعانة عليها ؛ لقوله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) المائدة/2 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد ، من الطعام واللباس ونحو ذلك ؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر " انتهى من "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/520) .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 5646)-سؤال رقم 69558: حكم فتح المحلات التجارية في يوم عيدٍ للكفار(3/163)
وقال : " فأما بيع المسلمين لهم [أي للكفار] في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك ، أو إهداء ذلك لهم ، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم " .
ونقل عن ابن حبيب المالكي قوله : " ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم ، لا لحما ، ولا إداما ، ولا ثوبا ، ولا يُعارون دابة ، ولا يعاونون على شيء من عيدهم ؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم ، ومن عونهم على كفرهم ، وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك . وهو قول مالك وغيره ، لم أعلمه اختلف فيه " . "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/526) ، "الفتاوى الكبرى" (2/489) ، "أحكام أهل الذمة" (3/1250) .
وقال شيخ الإسلام أيضاً : " فإن كان ما يبتاعونه [يشترونه] يفعلون به نفس المحرم ، مثل صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صورة ونحو ذلك ، فهذا لا ريب في تحريمه ، كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا ، وبناء الكنيسة لهم .
وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس ، فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته ، لكن : كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة تنزيه ؟ والأشبه أنه كراهة تحريم ، كسائر النظائر عنده ، فإنه لا يُجوّز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر ، ولأن هذه الإعانة تفضي إلى إظهار الدين [الباطل] وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره ، وهذا أعظم من إعانة شخص معين " . "الاقتضاء" (2/2/552) .
وسئل ابن حجر المكي رحمه الله عن بيع المِسك لكافر يعلم منه أنه يشتريه ليطيّب به صنمه ، وبيع حيوان لكافر يعلم منه أنه يقتله بلا ذبحٍ ليأكله ؟(3/164)
فأجاب بقوله : " يحرم البيع في الصورتين ، كما شمله قولهم ( يعني العلماء ) : كل ما يَعلم البائع أن المشتري يعصي به يحرم عليه بيعه له . وتطييب الصنم وقتل الحيوان المأكول بغير ذبح معصيتان عظيمتان ولو بالنسبة إليهم ، لأن الأصح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة كالمسلمين ، فلا تجوز الإعانة عليهما ببيع ما يكون سببا لفعلهما . وكالعلم هنا غلبة الظن , والله أعلم " انتهى من "الفتاوى الفقهية الكبرى" (2/270) .
والحاصل أنه يجوز للمسلم فتح متجره في أيام أعياد الكفار ، بشرطين :
الأول : ألا يبيع لهم ما يستعملونه في المعصية أو يستعينون به على إقامة عيدهم .
والثاني : ألا يبيع للمسلمين ما يستعينون به على التشبه بالكفار في هذه الأعياد .
ولا شك أن هناك سلعا معلومة ، تتخذ لهذه الأعياد ، كالبطاقات والصور والتماثيل والصلبان وبعض الأشجار ، فهذه لا يجوز بيعها ، ولا إدخالها في المحل أصلا .
وما عدا ذلك مما قد يُستعمل في العيد وغيره ، فيجتهد صاحب المتجر ، فلا يبيعه لمن علم من حاله أو غلب على ظنه أنه يستعمله في الحرام أو يستعين به على إقامة العيد ، كالملابس ، والطيب ، والأطعمة .والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
============
تسريح الشعر(1)
السؤال:
كيف كان شكل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وما هي تسريحات الشعر المحرمة ؟.
الجواب:
الحمد لله
جاء وصف شَعر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة ، وفيها من الأوصاف :
1- لم يكن ملتوياً مقبوضاً ( ليس بجَعد ) ولا مسترسلاً ( ولا سَبْط ) .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 3249)- سؤال رقم 3364- تسريح الشعر(3/165)
عن أنس بن مالك - يصف النبي صلى الله عليه وسلم - قال : كان رَبعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير أزهر اللون ليس بأبيض أمْهَق ولا آدم ليس بجَعْدٍ قَطَط ولا سَبْط رَجِل أنزل عليه وهو ابن أربعين ( يعني القرآن ) ... رواه البخاري ( 3354 ) ومسلم ( 2338 ) .
أمهق : شديد البياض .
آدم : السمرة الشديدة .
2- وكان شعره يبلغ شحمة أذنه .
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعاً بعيد ما بين المنكبين ، له شعر يبلغ شحمة أذنه رأيته في حلة حمراء لم أر شيئا قط أحسن منه . رواه البخاري ( 3358 ) ومسلم ( 2337 ) .
3- وكان يصل أحياناً إلى منكبه أو عاتقه .
عن قتادة قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجِلا ليس بالسبط ولا الجعد بين أذنيه وعاتقه . رواه البخاري ( 5565 ) ومسلم ( 2337 ) .
وفي رواية : " كان يضرب شعرُه منكبيه " . رواه البخاري ( 5563 ) ومسلم ( 2338 ) .
وأحيانا يصل إلى أقل من ذلك ، وكل ذلك محمول على تعدد الأحوال ، وكل واحد من الصحابة حدَّث بما رأى .
4- وكان صلى الله عليه وسلم أحياناً يخضب شعره .
عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال : دخلتُ على أم سلمة فأخرجت إلينا شَعْراً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً . رواه البخاري ( 5558 ) .
زاد أحمد ( 25328 ) : ( مخضوباً بالحناء والكتم )
الكتم : نبات يضبغ به الشعر إذا خُلط بالحناء جعل لون الشعر بين الأسود والأحمر . انظر : عون المعبود شرح حديث ( 4205 )
5- وكان يَفرق شعره .(3/166)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَسدل شعره وكان المشركون يَفرقون رؤوسَهم ، فكان أهل الكتاب يَسدلون رءوسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه . رواه البخاري ( 3365 ) ومسلم ( 2336 ) .
السدل : الإرسال على الجبين .
الفرْق : فصل الشعر بعضه عن بعض ، يميناً وشمالاً من الوسط .
وقد بحث العلماء في فقه هذا الحديث ، وخلاصة القول ما قاله الإمام النووي :
والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق ، وأن الفرق أفضل . " شرح مسلم " ( 15 / 90 ) .
6- وحج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهو ملبد شعره
والتلبيد أن : يُلصق الشعر بعضه ببعض بصمغ أو نحوه حتى يجتمع الشعر ويكون أبعد عن الوسخ ولا يحتاج على غسل فيكون أرفق بالمحرم لاسيما فيما سبق من الزمن مع كثرة تعرض المحرم للوسخ وقلة المياه .
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبِّداً . رواه البخاري ( 5570 ) ومسلم ( 1184 ) .
والإهلال : رفع الصوت بالتلبية .
7- وكان صلى الله عليه وسلم ربما جعل شعره ضفائر لاسيما في السفر ليكون أبعد عن الغبار .
عن أم هانئ قالت : قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وله أربع غدائر - تعني : عقائص - . رواه الترمذي ( 1781 ) وأبو داود ( 4191 ) وابن ماجه ( 3631 ) وعند ابن ماجه : تعني : ضفائر . والحديث : حسنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 10 / 360 ) .
وأما التسريحات المحرمة : فيجمعها أمور ، منها :
1- القزع ، وهو حلق بعض الشعر وترك بعضه
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القَزَع . رواه البخاري ( 5466 ) ومسلم ( 3959 ) .
وقد فسَّر أحد رواة الحديث القزع بأنه حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه .
قال ابن القيم رحمه الله :
وأما كحلق بعضه وترك بعضه فهو مراتب :(3/167)
أشدها : أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعل شمامسة النصارى .
ويليه : أن يحلق جوانبه ويدع وسطه كما يفعل كثير من السفلة وأسقاط الناس .
ويليه : أن يحلق مقدم رأسه ويترك مؤخره .
وهذه الصور الثلاث داخلة في القزع الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها أقبح من بعض . " أحكام أهل الذمة " ( 3 / 1294 )
2- التشبه بالكفار أو الفساق
وهي تسريحات كثيرة ، يدخل بعضها في " القزع " - كتسريحة " المارينز " فتمنع لسببين القزع ، والتشبه بالكفار - ، وبعضها لا قزع فيه غير أنه يختص بالكفار كنصب بعض الشعر وسبل الآخر أو ما شابه ذلك .
ويجمعها كل تسريحة تختص بالكفار أو الفساق فإنه لا يجوز للمسلم التشبه بهم فيها ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( من تشبه بقوم فهو منهم )
رواه أبو داود ( 4031 ) .
والحديث : حسَّنه الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " ( 10 / 271 ) وجوَّد إسناده شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط المستقيم " ( ص 82 ) .
قال شيخ الإسلام :
وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } . " اقتضاء الصراط المستقيم " ( ص 83 ) .
التشبه بسفلة الناس
وهي تسريحات يخترعها بعض السفلة ، وقد تدخل فيما سبق ذكره .يراجع سؤال رقم ( 14051 )والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
===========
مسلم يقوم بجمع التبرعات للكنيسة فهل يقبل صومه؟(1)
السؤال:
لي صديق مسلم مشارك في النادي الدولي في المدرسة . وقد استفسر المعلم من جميع المشتركين في النادي إن كانوا يريدون جمع التبرعات للكنيسة . وتطوع المذكور لذلك . وسيقوم بجمع التبرعات في رمضان . فهل يقبل صيامه ؟.
الجواب:
الحمد لله
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4965)-سؤال رقم 50173- مسلم يقوم بجمع التبرعات للكنيسة فهل يقبل صومه؟(3/168)
الكنيسة : هي البناء الذي يمارس فيه النصارى شعائرهم وطقوسهم ، بما تشتمل عليه من الكفر والتثليث وعبادة غير الله .
وعليه فبناء الكنائس ، أو جمع التبرعات لإنشائها أو إصلاحها أو دعمها ، منكر عظيم ، لما فيه من الإعانة على نشر الكفر وتقريره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
" من اعتقد أن الكنائس بيوت الله , أو أنه يعبد فيها ، أو أن ما يفعل اليهود والنصارى عبادة لله وطاعة له ولرسوله , أو أنه يحب ذلك , أو يرضاه فهو كافر ; لأنه يتضمن اعتقاده صحة دينهم , وذلك كفر ، أو أعانهم على فتحها ; أي : الكنائس ، وإقامة دينهم ; واعتقد أن ذلك قربة أو طاعة فهو كافر ، لتضمنه اعتقاد صحة دينهم " .
وقال : الشيخ في موضع آخر:
" من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله ; فهو مرتد , وإن جهل أن ذلك محرم عُرِّف ذلك , فإن أصر صار مرتدا ; لتضمنه تكذيب قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) آل عمران/91 " انتهى من " مطالب أولي النهى" (6/281) بتصرف .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (14/482) :
" لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبني كنيسة أو محلا للعبادة ليس مؤسسا على الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من أعظم الإعانة على الكفر وإظهار شعائره ، والله عز وجل يقول : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) المائدة/2 .
فعليك تذكيره بالله ونصحه أن يتوب إلى الله تعالى ، ويقلع عن العمل المذكور حذراً من وقوعه هو في الكفر والردة ، فيحبط عمله وهو لا يشعر .
وعلى هذا ، فإنه يُخشى على صاحبك ما هو أعظم من عدم قبول صيامه ، ألا وهو الكفر .
نسأل الله أن يهديه ، ويوفقه لكل خير .والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
============(3/169)
نظرة واقعية للزواج من الكتابيات (1)
السؤال:
هل يحق للرجل المسلم الزواج من امرأة نصرانية أو يهودية كما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية ؟.
الجواب:
الحمد لله
لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية ، بل كانت أمَة له ، وكان قد أهداها له المقوقس صاحب مصر ، وذلك بعد صلح الحديبية .
والأمة يجوز الاستمتاع بها ومعاشرتها حتى لو لم تكن مسلمة لأنها من ملك اليمين والله تعالى أباح ملك اليمين من غير شرط الإسلام قال تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) سورة المؤمنون/5-6
أما الزواج من نصرانية أو يهودية فهو جائز بنص القرآن بقوله تعالى : ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) المائدة / 5 .
قال ابن القيم :
ويجوز نكاح الكتابية بنص القرآن ، قال تعالى : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، والمحصنات هنا هن العفائف ، وأما المحصنات المحرمات في سورة النساء فهن المزوجات ، وقيل : المحصنات اللاتي أُبحن هن الحرائر ، ولهذا لم تحل إماء أهل الكتاب ، والصحيح : الأول لوجوه - وذكرها - .
والمقصود : أن الله سبحانه أباح لنا المحصنات من أهل الكتاب ، وفعله أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ، فتزوج عثمان نصرانية ، وتزوج طلحة بن عبيد الله نصرانية ، وتزوج حذيفة يهودية .
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4499)-سؤال رقم 45645- نظرة واقعية للزواج من الكتابيات(3/170)
قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن المسلم يتزوج النصرانية أو اليهودية ، فقال : ما أحب أن يفعل ذلك ، فإن فعل فقد فعل ذلك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
" أحكام أهل الذمة " ( 2 / 794 ، 795 ) .
ونحن وإن قلنا بالجواز ، ولا نشك بذلك للنص الواضح فيه ، إلا أننا لا نرى أن يتزوج المسلم كتابية ، وذلك لأمور :
الأول : أن من شروط التزوج من الكتابية أن تكون عفيفة ، وقلَّ أن يوجد في تلك البيئات من هن عفيفات .
والثاني : أن من شروط التزوج من الكتابية أن تكون الولاية للمسلم ، والحاصل في هذا الزمان أن من يتزوج من بلد كافر فإنه يتزوجهن وفق قوانينها ، فيطبقون عليه نصوص قوانينهم وفيها من الظلم والجور الشيء الكثير ، ولا يعترفون بولاية المسلم على زوجته وأولاده ، وإذا ما غضبت المرأة من زوجها هدمت بيته وأخذت أولادها بقوة قانون بلدها ، وبإعانة سفاراتها في كافة البلاد ، ولا يخفى الضعف والعجز في مواجهة تلك البلاد وسفاراتها في بلدان المسلمين .
والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم رغَّبنا بذات الدين من المسلمات ، فلو كانت مسلمة توحد الله لكنها ليست ذات دين وخلق فإنه لا يرغب بزواجها ، لأن الزواج ليس هو الاستمتاع بالجماع فقط ، بل هو رعاية لحق الله وحق الزوج ، وحفظ لبيته وعرضه وماله ، وتربية لأولاده ، فكيف يأمن من يتزوج كتابية على تربية أبنائه وبناته على الدين والطاعة ، وهو تارك لهم بين يدي تلك الأم التي تكفر بالله تعالى وتشرك معه آلهة ؟ .
لذا وإن قلنا بجواز التزوج من كتابية إلا أنه غير محبَّذٍ ولا يُنصح به ، لما يترتب عليه من عواقب ، فعلى الإنسان المسلم العاقل أن يتخيّر لنطفته أين يضعها . وأن ينظر نظراً مستقبلياً لحال أولاده ودينهم ، وألا يعميه عن النظر الواعي شهوة جارفة ، أو مصلحة دنيوية عاجلة أو جمال ظاهري خادع ، فإنما الجمال جمال الدين والأخلاق .(3/171)
وليعلم أنه إن ترك مثل هذه الزيجات ابتغاء الأفضل لدينه ودين أبنائه فإن الله تعالى يعوِّضه خيراً ، إذ أن " من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه " كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل . انظر جواب السؤال رقم : ( 2527 ) .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
==========
اللين مع الكفار بقصد الدعوة (1)
السؤال:
ما حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم ؟.
الجواب:
الحمد لله
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
" لا شك أن المسلم يجب عليه أن يبغض أعداء الله ويتبرأ منهم لأن هذه هي طريقة الرسل وأتباعهم قال الله تعالى : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) الممتحنة / 4 ، وقال تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) المجادلة / 22 .
وعلى هذا لا يحل لمسلم أن يقع في قلبه محبة ومودة لأعداء الله الذين هم أعداء له في الواقع . قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) الممتحنة / 1 .
أما كون المسلم يعاملهم بالرفق واللين طمعاً في إسلامهم وإيمانهم فهذا لا بأس به ، لأنه من باب التأليف على الإسلام ولكن إذا يئس منهم عاملهم بما يستحقون أن يعاملهم به . وهذا مفصل في كتب أهل العلم ولاسيما كتاب " أحكام أهل الذمة " لابن القيم - رحمه الله -."
__________
(1) - فتاوى الإسلام سؤال وجواب - (ج 1 / ص 4189)-سؤال رقم 41631- اللين مع الكفار بقصد الدعوة(3/172)
انتهى من مجموع فتاوى ابن عثيمين رحمه الله 3/31 . (www.islam-qa.com)
==============
معاملة المسلم لغير المسلم (1)
س : ما هو الواجب على المسلم تجاه غير المسلم ، سواء كان ذميا في بلاد المسلمين أو كان في بلاده ، أو المسلم يسكن في بلاد ذلك الشخص غير المسلم . والواجب الذي أريد توضيحه هو المعاملات بكل أنواعها ، ابتداء من إلقاء السلام وانتهاء بالاحتفال مع غير المسلم في أعياده ، وهل يجوز اتخاذ صديق عمل فقط أفيدونا أثابكم الله ؟ من برنامج نور على الدرب شريط 110، ونشر في المجموع ج6 ص364 .
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن باز - (ج 23 / ص 138)(3/173)
ج : إن من المشروع للمسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمورا متعددة ، منها الدعوة إلى الله عز وجل بأن يدعوه إلى الله ويبين له حقيقة الإسلام ، حيث أمكنه ذلك وحيث كانت لديه البصيرة ؛ لأن هذا هو أعظم الإحسان ، وأهم الإحسان ، الذي يهديه المسلم إلى مواطنه وإلى من اجتمع به من اليهود أ والنصارى أو غيرهم من المشركين لقول النبي صلى الله عليه وسلم : صحيح مسلم الإمارة (1893),سنن الترمذي العلم (2671),سنن أبو داود الأدب (5129),مسند أحمد بن حنبل (4/120). من دل على خير فله مثل أجر فاعله رواه الإمام مسلم في صحيحه ، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر وأمره أن يدعو إلى الإسلام قال أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير ، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الناس برقم 2942 ، ومسلم في كتاب فضل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه برقم 2406 . فوالله لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم متفق على صحته . وقال عليه الصلاة والسلام : أخرجه مسلم في كتاب العلم ، باب من سن سنة حسنة أو سيئة برقم 2674 . من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثال آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا رواه مسلم في صحيحه ، فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات ومن أفضل القربات .
ثانيا : لا يجوز أن يظلمه في نفس ولا في مال ولا في عرض إذا كان ذميا أو مستأمنا أو معاهدا فإنه يؤدي إليه الحق فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش ، ولا يظلمه في بدنه لا بضرب ولا بغيره ؛ لأن كونه معاهدا أو ذميا في البلد أو مستأمنا يعصمه .(3/174)
ثالثا : لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك ، فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه اشترى من الكفار عباد الأوثان ، واشترى من اليهود وهذه معاملة وقد توفي عليه الصلاة والسلام ، ودرعه مرهونة عند يهودي فى طعام اشتراه لأهله .
رابعا : في السلام ، لا يبدأه بالسلام ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أخرجه البخاري في كتاب السلام ، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالذم برقم 2167 . لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام خرجه مسلم في صحيحه وقال : أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان ، باب كيف يرد على أهل الذمة السلام برقم 6258 ، ومسلم في كتاب السلام ، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام برقم 2163 . إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام ، ولكن يرد عليه بقوله : ( وعليكم ) لقول النبي عليه الصلاة والسلام : صحيح البخاري الاستئذان (5903),صحيح مسلم السلام (2163),سنن الترمذي تفسير القرآن (3301),سنن أبو داود الأدب (5207),سنن ابن ماجه الأدب (3697),مسند أحمد بن حنبل (3/218). إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم متفق على صحته ، هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر ، ومن ذلك أيضا حسن الجوار إذا كان جارا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره ،وتتصدق عليه إذا كان فقيرا تهدي إليه وتنصح له فيما ينفعه ؛ لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه ؛ ولأن الجار له حق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : أخرجه الإمام أحمد في المسند باقي مسند المكثرين ، باب باقي المسند السابق برقم 9453 . ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى طننت أنه سيورثه متفق على صحته وإذا كان الجار كافرا كان له حق الجوار ، وإذا كان قريبا وهو كافر صار له حقان : حق الجوار وحق القرابة ، ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة . لقول الله تعالى : سورة(3/175)
الممتحنة الآية 8 لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وللحديث الصحيح صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2477),صحيح مسلم الزكاة (1003),سنن أبو داود الزكاة (1668),مسند أحمد بن حنبل (6/355). عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صلح الحديبية وهي مشركة تريد المساعدة ، فاستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هل تصلها ؟ فقال : صليها اهـ .
أما الزكاة فلا مانع من دفعها للمؤلفة قلوبهم من الكفار لقوله عز وجل : سورة التوبة الآية 60 إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ الآية ، أما مشاركة الكفار في احتفالاتهم بأعيادهم فليس للمسلم أن يشاركهم في ذلك .
=============
أهداف الجهاد (1)
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
18/4/1407
قباء
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
الجهاد في الإسلام له أربعة أهداف:
الهدف الأول: أن يكون الدين كله لله.
أي: أن يكون السلطان كله لدين الله وتكون كلمة الله هي العليا إذ لا يصح الدين لله والخلق خلق الله ثم تكون الطاعة ويكون الخضوع لغيره سبحانه وتعالى فالحكم والسلطان والطاعة والخضوع حق من حقوق الخالق سبحانه فإذا صرف الناس هذا الحق لغيره وجب الجهاد حتى يصرف هذا الحق له وحده.
الهدف الثاني: حتى لا تكون فتنة.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 199)(3/176)
أي: لا يكون في الأرض شرك فطواغيت الكفر والشرك عاملون وساعون بكل ما أوتوا من قوة ومن وسيلة ومن حيلة لتكون السيادة في الأرض لكفرهم وشركهم ولتكون العبادة ويكون التعظيم له من دون الله تعالى وفي هذا فساد كبير وفتنة عظمى ففرض الله الجهاد لمنع هذه الفتنة ومنع هذا الفساد، فرض الله الجهاد لمحاربة أولئك الطواغيت لمحاربة طواغيت الكفر والشرك حتى يتم تحطيمهم وإزالتهم وإزالة فتنتهم وفسادهم وإزالة كفرهم وشركهم من الأرض قال تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [البقرة :193].
الهدف الثالث: فرض الله الجهاد لحماية المسلمين في سائر أنحاء الأرض من بطش أهل الكفر والشرك.
ولإنجاد المستضعفين من المسلمين الذين وقعوا تحت قهر وبطش أهل الكفر والطغيان وما أوضح هذا الهدف هذا اليوم ما أوضح هذا الهدف في عصر اشتدت فيه الحاجة إلى الجهاد بسببه فكم من مسلمة اليوم تنادي في سائر أنحاء الأرض كم من مسلمة تنادي في الفلبين وكم من مسلمة تنادي من بلاد المجوس وكم من مسلمة تنادي في لبنان وكم من مسلمة تنادي في البلقان وكم من مسلمة تنادي في فلسطين وكم من مسلمة تنادي في بلغاريا وكم من مسلمة تنادي في إفريقيا وفي آسيا وكم من مسلمة تنادي بأعلى صوتها: وإسلاماه وما من مجيب في إخوانها من المسلمين.(3/177)
لقد أعظم أهل الكفر والطغيان النكاية في المسلمين أهل الكفر من مجوس ومن يهود ومن صليبيين ومن شيوعيين ومن باطنيين كل هؤلاء أعظموا النكاية في من يليهم من المسلمين ومن تحت أيديهم من المؤمنين قتلوا الشيوخ والنساء والأطفال وهتكوا أعراض المسلمات وضاعت صيحات ونداءات هؤلاء أدراج الرياح لأنها لم تلامس نجدة هارون ولا نخوة المعتصم إنما لامست أسماعنا وأسماعنا قد أصابها الصمم أنا مشغولون عن الجهاد مشغولون بمتاع الدنيا ومتاع الدنيا قليل لقد أصاب قلوبنا الشلل فكل يوم نسمع أنباء المسلمين في أنحاء الأرض فإذا هي القتل والتشريد ولا تتحرك القلوب . الذل يعمي ويصم الذل أصاب قلوبنا وضرب أطنابه في حياتنا فأصابنا بالشلل فالكوارث والنكبات وأخبار الكوارث والنكبات التي تحل بالمسلمين ما عادت تحرك فينا عرقا هذا الوهن الذي سيطر على القلوب وضرب اطنابه في حياتنا إن لم نتخلص منه فإن عقابنا عند الله شديد.(3/178)
ما كان المسلمون في عصور الجهاد يتحملون أي إهانة أو أي أذى لأنهم رفعوا راية العزة والكرامة رفعوا راية الجهاد لما تهدد نقفور إمبراطور الروم وطاغية الروم تهدد المسلمين مجرد تهديدهم بالكلام لا يرى طريقه للتنفيذ بعد أرسل إليه هارون الرشيد ذلك الخليفة الصالح العابد والملك المجاهد الذي كان يغزو سنة ويحج سنة طيلة مدة خلافته أرسل إلى نقفور رسالة يقول فيها: من هارون خليفة المسلمين إلى نقفور كلب الروم الجواب ما ترى لا ما تسمع وحمل الجواب حالا على الأسنة حملته جيوش المسلمين المجاهدين إلى أن وطأت بسنابك خيولها قعر دار نقفور فاضطر أن يدفع الجزية لهارون وللمسلمين المجاهدين ولما صاحت امرأة أسيرة في أيدي الروم في بلدة عمورية من بلاد الروم صاحت تستنجد بالمسلمين وبلغ ذلك المعتصم الخليفة العباسي هبَّ في مكانه واقفا، لما كان الجهاد هو حياتهم بلغوا هذه الدرجة العجيبة من العزة والمنعة التي استظل بظلها ليس المسلمون فحسب ولا المستضعفين من المسلمين فحسب بل المستضعفون من البشرية جميعا قال تعالى: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا [النساء:75].
الهدف الرابع: فرض الله الجهاد لإزالة العقبات والعراقيل التي توضع في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.(3/179)
فالذين فروا لن يتقبلوا دعوة الله وطواغيت الذين كفروا لن يستجيبوا إلى دعوة الله بل سيقفون ضدها بكل ما أوتوه من قوة ومن حيلة ومن وسيلة سيقاتلون دون باطلهم سيقاتلون في سبيل طواغيتهم ولو كان الدعاة إلى الله مسالمين ولو كانوا لا يملكون قوة ولا يرفعون سلاحا فإن طواغيت الكفر والشرك لن تكف عن قتال دعوة الله والذين يحملون رسالة الله قال تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [آل عمران:156]. وقال تعالى في أول آية أنزلت في الجهاد: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [الحج:39] وقال سبحانه: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم [البقرة:190]. فالمسلمون حتى لو تركوا الجهاد في سبيل الله فأهل الكفر ما هم بتاركي قتالهم أبدا.
هذه هي أهداف الجهاد في الإسلام ولم يكن من أهدافه أبدا في أي يوم من الأيام إجبار الناس على اعتناق الإسلام بقوة السيف والسنان كيف والقرآن الكريم يقول ويقرر بأن أمر الديانة والاعتقاد والإيمان لا يمكن أن يتم بالإكراه قال تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي [البقرة:255].أي لا إكراه في الاعتقاد ولا يمكن أن تكره بشرا على الاعتقاد فالرشد قد تبين والحجج واضحة، الحجج هي التي تدخل الناس في الإسلام وقال سبحانه لنبيه: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [يونس:99] أي أنت لا تكرههم حتى يكونوا مؤمنين.(3/180)
ولو كان الأمر كذلك لو كان الجهاد في سبيل الله والقتال في سبيل الله لإكراه الناس على الدخول في الإسلام فما بال اليهود والنصارى والمجوس وهؤلاء هم معظم أهل الكفر وهم طوائف الكفر الرئيسة في الأرض ما بالهم أقرهم الإسلام على دياناتهم واعتقاداتهم الباطلة إذا هم اختاروا البقاء عليها والتمسك بها بشرط أن يخضعوا لسلطان دولة الإسلام ويدفعوا الجزية للمسلمين يقرهم على أديانهم ومعتقداتهم في نفس الوقت الذي تقرر فيه الحجج والبراهين بطلانها وزيفها لكن هذا من باب الترفق بالناس ومجاراة الجبلة التي جبل عليها البشر فهؤلاء وإن أمهلوا وأعطوا الفسحة والمجال ليبقوا على معتقداتهم الباطلة فإنهم وفي ظل سلطان دولة الإسلام سيجدون أنفسهم مجاورين معايشين لواقع هذا الدين مطبقا ملموسا فتكون الحجج حينئذ والبراهين الإسلامية أشد وضوحا وأقوى تأثيرا في النفوس وأقرب إلى القلوب فإقبال أهل الذمة على الحق وقبولهم للحق حينئذ هو المأمول قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة:29].
لاحظ: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي حتى يخضعوا لسلطان الإسلام وإن لم يعتنقوا الإسلام وعقيدة الإسلام: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [التوبة:29].
الدعوة إلى الله لا تكون بالقتال أبدا لا تكون الدعوة إلى الله إلا بالحكمة أي الحجة والبرهان من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وبالموعظة الحسنة وبالمجادلة بالتي هي أحسن كما قرر ذلك الكتاب المبين القرآن الكريم أما القتال في سبيل الله فمهمته حماية هذه الدعوة حماية دعوة الله وحماية دين الله وحماية سلطان الإسلام ورد بأس الأعداء الذين يقاتلون هذا الدين ويقفون في وجهه مناوئين بكل ما أوتوا من قوة ووسيلة وسلاح.(3/181)
من هذا الساذج الغافل الذي يظن أن دعوة الله تعالى يمكن أن تسير وتشق طريقها وتنجح ويفتح لها المجال دون قوة تحميها وراية مجاهدة تستظل بظلها في عالم تصطرع فيه القوى بقسوة ووحشية ويسود فيه القوي فيأكل الضعيف.
من هذا الغافل الذي يتوهم أنه إن سالم طواغيت الكفر والشرك يسالمونه ويكفون عن قتاله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة:217].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصِ لله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [النساء:1].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [الأحزاب:70-71].(3/182)
وصلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الاحزاب:65]. اللهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي وعن آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين وعن أزواجه أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
===============
حقوق الإنسان الزائفة (1)
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
المسجد الحرام
الخطبة الأولى
أما بعد:
فمهما يكن من شيء بعدُ، فوصيتي لكم ونفسي بتقوى الله ـ سبحانه ـ؛ فهي عماد المؤمن في الدنيا، وأنيسه في قبره، وسلوانه في وحشته، ودليله في الأخرى يوم يلقى الله ـ سبحانه ـ إلى جنات النعيم.
عباد الله، إننا لنعلم بالضرورة أنه لا يجوز للناس أن يتخذوا غير الله ربا أو حكما، وأن من فعل ذلك أو هم به فهو جاحد للحق خائن للنعمة، وكذا من اتبع غير ما شرعه الله، أو حكم بغير ما أنزل الله، إنما هو مهمل للتشريع الإلهي، ومعتنق للقوانين البشرية، في عبث شائن وجاهلية منكرة أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].
إنها لم تترك أحكام الله إلا ببواعث الهوى، غير أنه منظم ومزوّق(1)[1]، كأنه منطق العقل الشديد، وهدي المصلحة الزائفة، التي لا تتصل بحنايا القلوب الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس:94]. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ [يوسف:40]. وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 706)(3/183)
إن الشريعة الإسلامية ضمان للصالح العام، وهي مبنية على الرحمة والعدل، والخير الذي يأمر الله عباده به ـ وما يأمر إلا بخير ـ تعود غايته لإسعاد الناس في عاجلهم وآجلهم، والشر الذي نهاهم عنه ـ وما ينهى إلا عن شر ـ ليس إلا وقاية لهم، من أذى قريب أو بعيد، أو من سوء مغبة جلية أو خفية؛ ولذا سما الإسلام بالإنسان روحا وجسدا، وعقلا وقلبا، لم يضع في عنقه غلا، ولا في رجله قيدا، ولم يحرم عليه طيبا، كما أنه لم يدعه كالكرة تتخطفها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه، بل خاطبه ربه خطابا صريحا ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6].
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "اعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ اختص نوع الإنسان من بين خلقه، بأن كرمه وفضله وشرفه، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات|".
ومن ثم ـ عباد الله ـ، فإن الناس في هذه القضية طرفان، فالماديون التحرريون قالوا: إن الإنسان يعيش لنفسه ومتاع الدنيا، فإذا كان الأحمق منهم يعيش ليأكل، فإن العاقل منهم يأكل ليعيش.
وأما المؤمنون الموحدون فقالوا: إنما يعيش الإنسان لربه الأعلى، ولحياته الباقية الأخرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].(3/184)
بيد أن أهل الكفر ـ عباد الله ـ قد بذلوا غاية وسعهم في الدعوة إلى قضية كبيرة، وراءها ما وراءها من الخطورة على الفكر، والدعوة في المسلك، ألا وهي ما أسموها: "مبادئ حقوق الإنسان"، وجعل الحريات حسب مفهومهم العلماني، الرافض للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها سببا يبيحون به تدمير الأخلاق، ويشيعون به فوضى الغرائز في ديارهم، والبلاد التي تشبهها أو تقتدي بها، حتى تلتبس بلباس العلمانية، المخيط من جراء التحرر وتنحيته عن واقع من بابته ؛ حيث إن حلوها مر، وسهلها صعب، ودماثتها دميمة من الدين.
ولقد صدقوا ظنهم، فاتبعهم أغرار ولهازم، من مفكرين وكُتَّاب، في العلوم بأنه مخالف الحياة.
وهم يزعمون أنها مبادئ الحضارة والتقدم والرقي، من خالفها وكابر فيها رموه بمبادئ حقوق الإنسان، وليست من الحق في ورد ولا صدر، ولا هي من السياسية والاقتصادية والقانونية، وعلم الاجتماع، وأخذوا في الدعوة إلى حقوق الإنسان على ما يريده الغرب، ومن عامة الناس أشياع لهذه الدعوات ولِدَاتٌ، ويتنكرون لأصول دينهم، إبان سنة من ذوي الإصلاح والتوجيه، ويظنون في مبادئ حقوق الإنسان، النضج والخروج من المأزق، وأن ما يأتي من ديار الإسلام قديم بال، حتى وقعت مواقع بين الطرفين، وكان سلاحها من أولئك قذائف الزندقة والكفر، ومن أولاء دروع الاستكانة والتخاذل عن القيام بالواجب.
هذه المبادئ التي أرادوها بشعار الحرية والمساواة والإخاء، ويالله! إلى أي مدى بلغت هذه المبادئ من تضليل الشعوب، بيد أن الجميع غير قادرين على أن يصلوا إلى نقطة ارتكاز ينبثق منها هذا المبدأ المزعوم، فماذا تعني عندهم كلمة الحرية والمساواة والإخاء، أهي في الفكر؟ أم الاقتصاد؟ أم الصحافة؟ أم الاجتماع؟!.
وإذا سلمنا جدلا أنها تعني هذه المعايير كلها، فمن الذي يحدد نسب هذه الحريات وحدودها؟ أهو السلطان؟ أم الشعوب؟ أم الشعار نفسه؟!.(3/185)
الواقع المشاهد ـ عباد الله ـ، أن منشئ معاني هذه المبادئ لم يصلوا إلى تحديد الوجهة، ولا زالوا يعانون من مشكلات هذه الأطروحة، والحق أن من كان خصب الحدس واسعه، علم أن هذا كله كان ألفاظا ورسوما لمقررات اليهود وحكمائهم، التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تَرَوٍّ، بل إنها جلبت لنا أعوانا من جميع أنحاء الدنيا، والحق ـ عباد الله ـ أنه مخطئ من ظن يومًا أن للثعلب دينا.
أيها المسلمون، إن الكثيرين يسمعون ويشاهدون في صحف العالم تارة، وفي المنتديات المقنعة تارات، لغطا جهولا، مصحوبا بقلم متعثر، وفكر في كل واد منه شعبة، حول قسوة القيود، التي جاء بها الشارع الحكيم، ورميها بأحد العبارات المسفهة، ودهماء الناس مشغولون بالجدل والحوار حول ما يثيرونه، ويتوهمون أنها مشكلات حقيقية، لابد لها من حلول، فيقدمون في التشريع، ويهوشون في الحدود، ويفتحون ملف المرأة على أنها مهضومة الحق، أسيرة الكبت، ولا قدم لها في المنتدبات أو الدوائر المكشوفة، وأنها متى رغبت في أخذ حقها المزعوم، أو التعبير عن رأيها الفاضح، فليس لها إلا أن تتسلل لواذاً على تخوف لا يزيله إلا تقادم الأيام ومر الليالي.
ونظن أن خطورة مثل هذه القضية قد تبدت خطوطها، ولا يظن بالطبع أن ما بقي من ألوانها ورسومها بمعجزنا أن نتخيله، فمواقعوها صنف من الناس يتمددون بالحرية، وينكمشون بالإسلام ـ وكفاكم من شر سماعه ـ وتلكم ـ شماله نعيذكم بالله ـ من غائلتها، يشوشون حق المرأة، ويطلبون إنصافها، فطلبوا بذلك زكاما، في حين أنهم ما أحدثوا إلا جذاما، وحللوا بزعم منهم عقدا، وبالذي وضعوه زادت العقد.
ولا غرو أن يحصل هذا ـ عباد الله ـ، إذا نطقت الرويبضة، ولا جرم أن لا يصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا، ومن يثني الأصاغر عن مرادهم إذا جلس أكابرهم في الزوايا؟!.(3/186)
إني أسائلكم ـ عباد الله ـ ما هذه الحرية التي يطبلون لها ويزمرون، ويجعلون الاعتداء عليها أو التطرق لنقدها كفرا بها وبالديمقراطية، ما هذا كله ؟ أهي حرية المرأة في أن تخلع جلباب حيائها، وتكشف من جسدها ما تريد ؟ أو هي حرية الفسوق والعصيان اللذين كرّههما الله إلى السلف الصالح وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8].
إنهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما انهم يهرفون بما لا يفقهون، وإما انهم يتسترون بالألقاب والمسميات الخلابة، من حرية وإخاء، وفكاك من إصر وأغلال، والله أعلم بما يوعدون، والمثل السائد: "تحت الرغوة اللبن الصريح"، وإلا فأي أمة تصنع هذا الصنيع، وهي تريد أن تكون ممن يرد حوض نبينا ؟ أتريد أن تكون بدعا من الأمم، تأخذ من كل أمة شر ما عندها، وتدعو إلى أن تبدأ حياتها الاستقلالية بهذه الأخلاط من الشرور، المركبة تركيبا مزجيا يمنعها من الصرف والعدل، إنه والله طريق الموت الحاضر لا طريق الحياة.
قال رسول الله : ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى)) قالوا: من يأبى يا رسول الله؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [رواه البخاري](2)[2].
ولكن من مبلغ عنا الرعاع من بني قومنا، أن دعاة حقوق الإنسان وأبواقهم قد رأوا الناس يدخلون في دين الله أفواجا، وخافوا بذلك أن تفوتهم حظوظ من الدنيا، بانقطاع لذائذهم، وانتشال علائقهم، فتقدموا حاقدين، ضامرين الغدر ناسين أن الله سميع بصير، وأنه خير حافظا وهو أرحم الراحمين، كما أنه كتب على نفسه أنه سيبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يدع بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، ولمثل هذا فليبك الباكي.(3/187)
قال رسول الله : ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)) [رواه مسلم](3)[3].
ومن هنا برزت لنا حقوق الإنسان على ما أراده الشارع الحكيم، في مثل خطاب النبي في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا))(4)[4]، وقد ترجم البخاري في صحيحيه بابا يقول: ظهر المؤمن حمى إلا من حدٍّ أو حق(5)[5]، وتفسير هذه القاعدة يتمثل في أن حقوقه محمية إلا إذا ارتكب ما يوجب العقوبة عليه، كما أنها تعني كذلك: وجوب تطبيق الحدود، والغيرة على حرمات الله، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (والله ما انتقم رسول الله لنفسه في شيء يؤتى إليه قط حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله) [رواه البخاري](6)[6].
ومن معاني القاعدة أيضا: المساواة أمام العقوبات بين الشريف والوضيع ؛ لأن الغاية هي المحافظة على حقوق الجميع، عملا بقوله : ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركونه على الشريف، والذي نفسي بيده لوأن فاطمة فعلت ذلك لقطعت يدها)) [رواه البخاري](7)[7].(3/188)
كما أن من معاني تلكم القاعدة العظمى: المحافظة على حقوق أهل الذمة، وهم الكفار الذين يدخلون في ذمة المسلمين، فإن دخلوا تحت أحكامهم حفظوا لهم حقوقهم ما داموا في ذمة الله ورسوله ، وأقاموا عليهم الحدود، فيما يعتقدون تحريمه؛ كالزنا ونحوه، فعن البراء بن عازب قال: مرّ على يهودي محمما مجلودا، فدعاهم النبي فقال: ((هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم)) قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟)) قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فقلنا: إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلناه التحميم والجلد مكان الرجم، وقال رسول الله : ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه))، فأمر به فرجم، فأنزل الله: ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]. [رواه مسلم](8)[8].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد البشر الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله السادة الغرر.(3/189)
أما بعد:
فإننا ـ عباد الله ـ من هذا المقام، لنذكر المصلحين من أمتنا، بوجوب الدفاع عن الشريعة الإسلامية، من منطلق عقدي صحيح، وبيان مقاصد الشريعة في حدودها، وما تنطوي عليه من حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، كل حسب طاقته وسعته، مع كشف الجوانب المظلمة، التي تضمنتها مبادئ حقوق الإنسان، والرد على من أسموا أنفسهم بالمفكرين أو المتنورين، الذين انخدعوا بتلك الشعارات، وخدعوا الأمة الإسلامية بها، وما طرحنا لهذه القضية، إلا كنفثة مصدور، ولابد للمصدور أن ينفث.
والمشاهد ـ عباد الله ـ أن الكأس تفيض عند امتلائها، كما أنه ينبغي التنبه إلى أمر مهم، قد يخفى على البعض منا، وهو أن من مستلزمات الأخذ بمبادئ حقوق الإنسان هو الجلوس على موائد أهل الكفر المستديرة في ندواتهم ومقرراتهم، التي مفادها هدم ركن ركين، وأصل للمؤمنين، والبراء من الكافرين، الذي هو من لوازم كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وذلك اللازم المؤكد في مثل قوله ـ تعالى ـ: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [آل عمران:28]. وفي مثل قول المصطفى لجرير بن عبد الله البجلي لما بايعه على الإسلام حين قال له: ((أن تنصح لكل مسلم، وتبرأ من الكافر)) [رواه أحمد](9)[1].
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، العالم المجدد لما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر: "فأما صفة الكفر بالطاغوت: فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها، وتكفر أهلها، وتعاديهم".
وذكر ـ رحمه الله ـ من نواقض الإسلام: "من لم يكفر المشركين، أو يشك في كفرهم، أو يصحح مذهبهم كفر". قال ـ رحمه الله ـ: "ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين كفر، والدليل قوله تعالى: وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]".
__________
(1) مُزيّن.
(2) صحيح البخاري ح (6851).(3/190)
(3) صحيح مسلم ح (153).
(4) أخرجه البخاري ح (67)، ومسلم ح (1679).
(5) كتاب الحدود ـ الباب رقم (9) [فتح الباري 12/85].
(6) صحيح البخاري ح (3560). وأخرجه أيضًا مسلم ح (2327).
(7) صحيح البخاري ح (6788)، وأخرجه أيضًا مسلم ح (1688).
(8) صحيح مسلم ح (1700).
(9) مسند أحمد (4/358) وأصله عند البخاري ح (57)، ومسلم ح (56).
===============
في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1)
محمد بن صالح العثيمين
عنيزة
الجامع الكبير
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله تعالى واعرفوا حكمته البالغة في شرعه وخلقه وتقديره فإنه سبحانه اختار نبيه محمدا للرسالة إلى الخلق بهذا الدين الكامل لينشره بين العالمين واختار له من الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقومها عملا وأقلها تكلفا جاهدوا في الله حق جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته فنصر الله بهم الدين ونصرهم به وأظهرهم على كل الأديان وأهلها.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 890)(3/191)
كان منهم الخلفاء الراشدون الأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون فكانت خلافتهم أفضل خلافة في مستقبل الزمان وماضيه تشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان وأبو حفص الفاروق عمر بن الخطاب وأبو عبد الله ذو النورين عثمان عفان وأبو الحسن ابن عم النبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. وكان أفضلهم خليفة رسول الله ورفيقه في الغار الذي نطق به رسول الله عام الحديبية حين اشتد الأمر على كثير من المهاجرين والأنصار وثبت الله به المسلمين يوم وفاة النبي ونصر الله به الإسلام حين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي . وكان من بركته على هذه الأمة ونصحه لها ووفور عقله وصدق فراسته أن استخلف على الأمة بعده وزيره وقرينه عمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي : ((لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر)). وقال يخاطب عمر: ((والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك)) وسأل عمرو بن العاص رسول الله عن أحب الرجال إليه فقال: ((أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر بن الخطاب وعد رجالا)). وأخبر النبي أنه كان ينزع من بئر فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين - يعني دلوا أو دلوين - ثم قال: أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده غربا فلم أرى عبقريا من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن ولقد صدق الله ورسوله الرؤيا فتولى الخلافة عمر بن الخطاب بعد أبي بكر رضي الله عنهما وقوي سلطان الإسلام وانتشر في مشارق الأرض ومغاربها ففتحت بلاد الشام والعراق ومصر وأرمينية وفارس حتى إنه قيل إن الفتوحات في عهده بلغت ألفا وستا وثلاثين مدينة مع سوادها بنى فيها أربعة آلاف مسجد وكان مع سعة خلافته مهتما برعيته قائما فيهم خير قيام. قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إن الله أعز به الإسلام وأذل به الشرك وأهله أقام شعائر(3/192)
الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك الله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله محتذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره السابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم ممن له علم أو رأي أو نصيحة للإسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الذمة على شروطه، فقد شرط على أهل الذمة من النصارى وغيرهم ما ألزموا به أنفسهم من إكرام المسلمين والتميز عليهم في اللباس والأسامي وغيرها وأن لا يظهروا الصليب على كنائسهم ولا في شيء من طرق المسلمين وأن لا ينشروا كتبهم أو يظهروها في أسواق المسلمين ولقد كان يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله قال أبو موسى الأشعري قلت لعمر : إن لي كاتبا نصرانيا فقال مالك: قاتلك الله أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود ولا النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفا - يعني مسلما - قال: قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أقصاهم الله. وكتب إليه خالد بن الوليد يقول: إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به فكتب إليه عمر: لا تستعمله فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غنى بنا عنه فرد عليه لا تستعمله فكتب إليه خالد: إذا لم نستعمله ضاع المال فكتب إليه عمر: مات النصراني والسلام. ولقد كانت هذه السياسة الحكيمة لعمر من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين وإن كانت شيئا بسيطا كانت هذه السياسة مستوحاة من سياسة النبي حيث لحقه مشرك ليقاتل معه فقال النبي : ((إني لا أستعين بمشرك)).(3/193)
ولقد كان أمير المؤمنين عمر مع هذا الحزم والحيطة لأمور المسلمين في مجانبة أعدائهم والغلظة عليهم سببا قويا لنصر الإسلام وعزة المسلمين وكان يكتب إلى عماله يحذرهم من الترفع والإسراف كتب إلى عتبة بن فرقد وهو في أذربيجان فقال: يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولباس الحرير. وكان لا يحابي في دين الله قريبا ولا صديقا. الناس عنده سواء. يروى عنه أنه كان إذا نهى عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنه لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والله لا أجد أحدا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة. وكان يقوم في الناس في مواسم الحج فيقول: إني لا أبعث عليكم عمالي ليضربوا جلودكم ولا ليأخذوا أموالكم ولكن أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم ويحكموا فيكم بسنة نبيكم فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي. وكان مهتما بأمور الرعية صغيرها وكبيرها. خرج ذات ليلة إلى الحرة ومعه مولاه أسلم فإذا نار تسعر فقال: يا أسلم ما أظن هؤلاء إلا ركبا قصر بهم الليل والبرد فلما وصل مكانها إذا هي امرأة معها صبيان يتضاغون من الجوع قد نصبت لهم قدر ماء على النار تسكتهم به ليناموا فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أهل النار ما بالكم وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت المرأة: يتضاغون من الجوع قال: فأي شيء في هذا القدر قالت: ماء أسكتهم به أوهمه أني أصنع طعاما حتى يناموا والله بيننا وبين عمر فقال: يرحمك الله وما يدري عمر بكم قالت: أيتولى أمرنا ويغفل عنا. فبكى عمر ورجع مهرولا فأتى بعدل من دقيق وجراب من شحم وقال لأسلم أحمله على ظهري قال أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين فقال أنت تحمل وزري يوم القيامة فحمله حتى أتى المرأة فجعل يصلح الطعام لها وجعل ينفخ تحت القدر والدخان يتخلل من لحيته حتى نضج الطعام فأنزل القدر وأفرغ منه في صحفة(3/194)
لها فأكل الصبية حتى شبعوا وجعلوا يضحكون ويتصارعون فقالت: المرأة جزاك الله خيرا أنت أولى بهذا الأمر من عمر فقال لها عمر: قولي خيرا.
أيها المسلمون هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذا الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله خائفة من عقابه راجية لثوابه فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها تبدلت أحوال الرعاة و: ((كما تكونون يولى عليكم)).
أيها المسلمون مع هذه السيرة العظيمة فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قتل شهيدا في آخر شهر ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة فقد خرج لصلاة الصبح وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر فطعنه غلام مجوسي فتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه في الصلاة. فرضي الله عن عمر وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا لقد كان خيرة الصحابة الذين قال الله فيهم: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم .
=============
حيّ على الجهاد (1)
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/1/1421
النور
الخطبة الأولى
أما بعد:
الجهاد في سبيل الله ،ذروة سنام هذا الدين ،ناشر لوائه ،وحامي حماه ،بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1208)(3/195)
أولئك الذين يريدون أن ينشروا دين الله عن طريق البرلمانات ،أو الانتخابات ،أو المؤتمرات ،كلهم يخطئون ،فإن هذا الدين لا يقوم ،إلا كما قام أول مرة ،تحت ظلال السيوف ،به نال المسلمون العز والتمكين في الأرض ،وبسبب تعطيله ،حصل للمسلمين الذل والهوان والصغار ،واستولى علينا الكفار ،بل تداعت علينا أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ،وأصبحنا مع كثرتنا غثاءً كغثاء السيل ،نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا ووضعها في قلوبنا.
أيها المسلمون: لقد حرص الأعداء على تشويه صورة الجهاد والمجاهدين ،وتخذيل المسلمين عنه ،ووضع العراقيل دونه ،وعلى قصر معناه على الدفاع فقط. بل حتى الاسم ،لا بد أن يكون دفاعاً لا حرباً ولا هجوماً ولا جهاداً ،وأصبحت وسائل الإعلام تطلق على المجاهدين: متطرفين ومجرمي حرب. بينما في المقابل تجد أن إسرائيل تُسمي وزارتها ،وزارة الحرب ،كل ذلك وغيره خوفاً من أن يؤوب المسلمون إليه ،فيهزموهم ،ويذلوهم ،ويلزموهم الذل والصغار ،لأنهم يعلمون أنه متى أعيد الجهاد بصورته التي كان عليها الرعيل الأول ،فإنه لن تقوم لهم قائمة ،ولن يقدروا على الصمود ،أمام زحف جحافل الحق ،التي وعدت بالنصر والتمكين ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . الجهاد لم يشرع عبثاً ،ولا لتحقيق أهداف شخصية ،أو مطامع مادية ،أو مكاسب سياسية ،أو لبسط النفوذ وتوسيع الرقعة ولا لإزهاق النفوس وسفك الدماء ،والتسلط على الناس واستعبادهم ،ولكن شرع الجهاد لتعبيد الناس لله وحده. وإعلاء كلمة الله في الأرض ،وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون. قال الله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين . وقال سبحانه: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير .(3/196)
لقد شرع الجهاد ،لرد اعتداء المعتدين على المسلمين ،يقول الله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين . وقال تعالى: ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين .
لقد شرع الجهاد لمنع الكفار من تعذيب المستضعفين من المؤمنين والتضييق عليهم ومحاولة فتنتهم في دينهم وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها . لقد شرع الجهاد لتغيير الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة. فإن هذه من شأنها أن تفتن المسلم عن دينه ،ولذلك فإن أهل الجزية من أهل الذمة ونحوهم ،يمنعون من المجاهدة بدينهم والتعامل بالربا وبإظهار الزنا ،لأن هذه الأوضاع تفتن المسلم عن دينه. لقد شرع الجهاد لمنع صد الكفار الذين تحت ولايتهم عن استماع الحق ،وإقامتهم سياجاً منيعة أمام دين الله لئلا يدخله الناس ،فيجب أن يقام على هؤلاء الجهاد حتى يتسع المجال لدين الله أن يراه الناس ويعرفونه وتقوم عليهم الحجة به. لقد شرع الجهاد لحماية الدولة الإسلامية من شر الكفار ودفع الظلم والدفاع عن الأنفس والحرمات والأوطان والأموال قال الله تعالى: أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله . لقد شرع الجهاد ،لتأديب المتمردين والناكثين للعهود المنتهزين سماحة الإسلام وأهله قال الله تعالى: وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطنعوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون .(3/197)
لقد شرع الجهاد لإرهاب الكفار وإخراجهم وإذلالهم وإغاظتهم وأعدوا لهم ماستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ، ويقول تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين لهذا ولغيره شرع الجهاد.
أيها المسلمون: قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين . إن مواجهة الكفار وقتال الكفار ،حتم لابد منه ،مادام أن هناك إسلام في الأرض وكفر ،فإن حتمية المواجهة لابد منها. ولهذا ينبغي أن نعلم ،بأن قتال الكفار أصل في دين الإسلام ،لا يمكن أن يتغير بتغير الزمان ،وعليه ،فإن مصطلح "التعايش السلمي" مصطلح كاذب ،مخالف لشريعة رب العالمين.
الكفار في الإسلام لنا معهم ثلاث حالات معروفة مضبوطة في ديننا. إما أن يسلموا فلهم مالنا وعليهم ما علينا ،أو يبقو على دينهم ويعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهذا قال بعض أهل العلم بأنه خاص بأهل الكتاب ،أما الكفار فإما الإسلام أو الثالثة وهو السيف. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لقول الله جلا وعلا: يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم عن علي بن أبي طالبٍ قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين وسيف لكفار أهل الكتاب قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ،ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وسيف للمنافقين جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم . وسيف للبغاة فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله .(3/198)
أيها المسلمون: إن الآية التي قرأتها قبل قليل يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار علق عليها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعليقاً نفيساً جداً أقرأه بطوله ،لأنه يبين ،بأن الجهاد والقتال أصل في شريعة الإسلام، وأنه يجب على المسلمين أن يقاتلوا الكفار الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الأقرب فالأقرب ،وأن هذا كان نهج ولاة المسلمين. قال رحمه الله: أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولاً فأول ،الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ،فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهَجْر وخيبر وحضرموت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ،شرع في قتال أهل الكتاب. فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب ،فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال وكان ذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام ،ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حجة الوداع ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد الحجة بأحد وثمانين يوماً فاختاره الله لما عنده ،وقام بالأمر وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر رضي الله عنه ،وقد مال الدين ميلة كان أن ينجفل فثبته الله تعالى به ،فوطد القواعد ،وثبت الدعائم ورد شارد الدين وهو راغم ،ورد أهل الردة إلى الإسلام ،وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام ،وبين الحق لمن جهله ،وأدى عن الرسول ما حمله ،ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان ،وإلى الفرس عبدة النيران ،ففتح الله ببركة سفارته البلاد ،وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد ،وأنفق كنوزهما في سبيل الله ،كما أخبر بذلك رسول الله ،وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده وولي عهده ،الفاروق الأواب ،شهيد المحراب ،أبي حفص عمر بن(3/199)
الخطاب ،فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ،وقمع الطغاة والمنافقين ،واستولى على الممالك شرقاً وغرباً ،وحُملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم ،بعداً أو قرباً ،ففرقها على الوجه الشرعي ،والسبيل المرضي ،ثم لما مات شهيداً وقد عاش حميداً ،أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان شهيد الدار ،فكسا الإسلام رياسة حُلةٍ سابغة. وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة ،وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ،وعلت كلمة الله وظهر دينه وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ،فكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ،امتثالاً لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار . انتهى.
اللهم إن حانت وفاتي فلا تكن……على شرجعٍ يُعلى بخضر المطارف
ولكن قبري بطرُ نسرٍ مقيله……بجو السماء في نسور عواكف
وأمسي شهيداً ثاوياً في عصابةٍ……يصابون في فج من الأرض خائف
فوارس من عدنان ألّف بينهم……تقى الله نزّالون عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهمو فارقوا الأذى……وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
بارك الله لي ولكم . . .
الخطبة الثانية
أما بعد:(3/200)
أيها المسلمون: إن هذه الأمة ،ما خلقت لكي تتمتع بحطام الدنيا ،وإن هذه الأمة لم توجد لكي تكون تابعة لغيرها ،لكنها وجدت لنشر دين الله ووجدت لكي تقود الأمم ،لا أن تقاد ،وهذا لن يكون إلا بفتح باب الجهاد على مصراعيه ،وقد وردت نصوص كثيرة ،تحذر من ترك الجهاد وتبين عواقب تركه ،وتصف الناكلين عنه بأقبح الأوصاف ،ولو تأملنا في بعضها ،بل فيها جميعاً ،لرأيناها منطبقة على حالنا الآن: ترك الجهاد سبب للهلاك في الدنيا والآخرة ،أما هلاك الدنيا فبالذلة والاستعباد ،وتسلط الكفار علينا ،واستعمارنا ،الاستعمار المباشر وغير المباشر ،وأما هلاك الآخرة فقول الله تبارك وتعالى: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين . ترك الجهاد سبب لعذاب الله وبطشه قال الله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير . ترك الجهاد والفرح بالقعود من صفات المنافقين قال الله تعالى: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون .(3/201)
ترك الجهاد سبب لإفساد أهل الأرض بالقضاء على دينهم ،قال الله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين . ترك الجهاد قد يعرض لعقوبة عاجلة تنزل بالقاعدين عن الجهاد ،كما قص الله تعالى من خبر بني إسرائيل لما طلب إليهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يدخلوا الأرض المقدسة فقالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ، وقد وعى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدرس جيداً ،ففي يوم بدر لما استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال قال له المقداد: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن امضي ونحن معك. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاءً فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه الإمام أحمد. ترك الجهاد سبب للذل والهوان قال الله تعالى: إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير . ومن الذي ينكر أن الأمة الآن لا تعيش في أقصى درجات الذل والهوان. والمشكلة ليس في إعلان الجهاد الآن، المشكلة أن الأمة إلى الآن لم تتحرك ولا حتى في مرحلة الإعداد ،والتهيؤ النفسي والشعوري ،وبث هذه القضية في روح أبناء الأمة. تجد أن التوجه وتربية الناشئة على الدفاع ،وزرع فكرة الأمن العام ،والتعايش السلمي ،وغيرها من العبارات العائمة حتى أن الناس تربوا على الخوف والجبن والرغبة في الحياة ،وعدم التفكير في البذل والعطاء والتضحية ،واقتنع الناس شيئاً فشيئاً بمبدأ عدم اعتداء دولة على أخرى ،والأعداء لم يقصدوا من ترسيخ هذه المفاهيم إلا منع حركة الجهاد(3/202)
،بينما إعتداءاتهم هم في وضح النهار ،ويبرر لها بألف تبرير. ولا يمكن إيقاف هذه الألاعيب ،ولن يرجع العدل إلى نصابه إلا بعودة الأمة إلى الجهاد. وإقامة الجهاد ،ليست قضية سهلة ،بل يجب أن يسبقها مراحل وخطوات وجهود ،في مقدمتها تحكيم الشريعة أولاً ،وتربية الناس على الإسلام ثانياً، والتهيؤ والإعداد ثالثاً ،وهكذا.
أيها المسلمون: كل هذا من جانب ،فكيف لو أشير إلى الجانب الآخر وهو فضل الجهاد في هذا الدين، وما الذي أعدّه الله للمجاهدين، وما هي منزلة الشهادة في سبيل الله، إسمع يا عبدالله لما قاله ابن النحاس رحمه الله تعالى في كتابه مشارع الأشواق إلى مصارع الأشواق: فإن مما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنيّة لكل أحد مصيب وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الريّ الأعظم في شُرب كؤوس الحتوف، وأن من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ،وأن الشهداء عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرةٍ وغصّة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها، وأنه يُأمّن من فتنة القبر وعذابه، وأن الله يكرمه يوم القيامه بحسن مآبه، فواعجباً كيف أن ذروة السنام قد درست آثاره فلا ترى، وطمست أنواره بين الورى، وأعتم ليله بعد أن كان مُقمَرا، وأظلم نهاره بعد أن كان نيّرا، وذوى غصنه بعد أن كان مورقا، وانطفأ حسنه بعد أن كان(3/203)
مشرقا، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفنت خيوله فلا تركض، ورُبطت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تُقبض، وأغمدت السيوف من أعداء المسلمون إخلاداً إلى حياة الدعة والأمان، وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان، ونامت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعاً من الموت وهلعا، أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل، ورضي بالحياة الدنيا من الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، وقد أخبرنا الله عن حياة الشهداء عنده فقال تعالى وهو أصدق القائلين: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحق بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات، وسكنوا في أجل المحالّ في أعلى الغرفات، وكرعوا من النعيم أكوابا، وادرعوا من التنعيم أثوابا، ومتعوا بجنان الفردوس مستقراً ومآبا، وتمتعوا بحورٍ عينٍ كواعب أترابا ،أرواحهم في جوف طير خضر تجول في الجنان تأكل وتشرب، وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن، يتمنون الرجوع إلى هذه الدار ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات، لما بهرهم من ثواب الله الجزيل، فما أقبح العجز عن انتهاز مثل هذه الفرص، وما أنجح الاحتراز بالجهاد عن مقاساة تلك الغصص، وليت شعري بأي وجه يلقى الله غداً من فر اليوم من أعدائه، وماطله بتسليم نفسه بعد عقد شرائه، ودعاه إلى جنته ففر وزهده في لقائه، وبأي عذر يعتذر بين يديه من هو عن سبيله ناكب، وعمّا رغّبه فيه من الفوز العظيم راغب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال، أن يغفر له في أول دفعة في(3/204)
دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)). انتهى.
هل من يموت بميدان الجهاد كما …موت البهائم في الأعطان تنتحر
كلا وربي فلا تشبيه بينهمو……قد قالها خالد إذ كان يحتضر
أهل الشهادة في الآثار قد أمنوا……من فتنةٍ وابتلاءاتٍ إذا قبروا
ويوم ينفخ صور ليس يزعجهم……والناس قائمةٌ من هوله ذعروا
وما سوى الدّين من ذنب وسيئةٍ……على الشهيد فعند الله مغتفر
أرواحهم في عُلى الجنات سارحةٌ…تأوي القناديل تحت العرش تزدهر
وحيث شاءت من الجنات تحملها……طير مغرّدةٌ ألوانها خضر
إن الشهيد شفيع في قرابته……سبعين منهم كما في مسندٍ حصر
والترمذي أتى باللفظ في سنن……وفي كتاب أبي داود معتبر
مع ابن ماجة والمقدام ناقله……في ضمن ست خصال ساقها الخبر
ما كل من طلب العلياء نائلها……إن الشهادة مجد دونه حفر
وقد تردد في الأمثال من زمن……لا يبلغ المجد حتى يلعق الصبر
ربي اشترى أنفساً ممن يجود بها……نعم المبيع ورب العرش ما خسروا
فنسأل الله عز وجل أن يعجل فرج هذه الأمة اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الزيغ والفساد وانشر رحمتك على العباد. يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم رحمة إهد بها . . .
===============
حكومة طالبان وكسر الأوثان (1)
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
الخطبة الأولى
أما بعد:
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1483)(3/205)
لقد أرسل الله جل وتعالى الرسل للدعوة إلى توحيده سبحانه، والتحذير من الشرك وعبادة الطواغيت، فقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت[النحل:36]، وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون[الأنبياء:25]، وعلى هذا جاءت رسالة خاتم الرسل ، فنشر الله به التوحيد وأعلى مناره، ودك به حصون الشرك وقلع آثاره، فصلوات الله وسلامه عليه. ثم إن الناس مع كرّ السنين وتعاقب القرون ابتعدوا عن دينهم وجهلوا كثيراً من أمر التوحيد، فصارت قطعيات الدين والتوحيد محل نقاش وسؤال عند الكثيرين، ولا غرابة في هذا فقد قال النبي : ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)).
وإن من أعجب ما حصل في هذا الزمان هو عدم قبول بعض المسلمين شريعة كسر الأصنام وهدم الأوثان، مع كونها شريعة ربانية وملة إبراهيمية وسنة نبوية، وهذا أمر يثلج صدور أهل التوحيد ويُقِر أعينهم، في حين أنه يقض مضاجع أهل الشرك والتنديد على اختلاف أصنافهم من عباد الأوثان، وعباد ما يسمى بالتراث. ووالله ما يشك صبيان أهل التوحيد وأطفالهم بأن مثل هذا العمل من أعظم القربات وأجل الطاعات، وهو ما بعثت له الأنبياء وأرسلت الرسل، وإن الدفاع عن التوحيد وأبوابه لمن أفضل ما يتقرب به العبد إلى مولاه جل وعلا، ومن أجل ما تقضى به الأوقات وتفنى به الأعمار. وما كنا نظن أن يأتي زمن نحتاج إلى أن نثبت بالأدلة أن هدم الأوثان والأصنام وأوكار الشرك من أعظم واجبات الدين ولكننا والله المستعان كما يقال في زمن العجائب.(3/206)
إن حدث كسر الأصنام لهو حديث الصحافة العالمية وغير العالمية هذه الأيام، وقد تنادت مؤسسات ولجان، ودول ورموز، وهيئات ثقافية عديدة في العالم لهذا الأمر، على رأسها منظمة اليونسكو العالمية وهيئة الأمم، بحجة المحافظة على إبداع الحضارة الإنسانية، والمحافظة على التراث البشري - زعموا - وهؤلاء لا عبرة بكلامهم لأن القضايا الشرعية لا تؤخذ من غير الكتاب والسنة لكن المؤسف هو قول من يحسب على أهل العلم عندما يقول: (أما التماثيل التي صنعها الأقدمون قبل الإسلام فهي تمثل تراثاً تاريخياً ومادة حية من مواد التاريخ لكل أمة، فلا يجب تدميرها وتحطيمها باعتبار أنها محرمات أو منكرات يجب تغييرها باليد، بل هي دلالة على نعمة الله تعالى على الأمة التي هداها للإسلام وحررها من عبادة الأصنام).(3/207)
أيها المسلمون: إن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لكسر الأوثان والأصنام وتحطيمها، وأمره بالكفر بالطاغوت والبراءة من الشرك وأهله وألا يعبد إلا هو سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، بل هذا هو أصل دعوة كل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت[النحل:36] وإن من الكفر بالطاغوت خلع الأنداد والأصنام وبغضها ومعاداتها ومحوها وتحطيمها، فهل يُتَصور أن يُحقِق التوحيد من نهى أو خَذّل عن ذلك؟ وإن من الكفر بما يعبد من دون الله القيام على هذه الطواغيت والتي فتح أهل الكفر باب الدعوة لها باسم العودة إلى التراث والحضارة، وباسم الآثار الثمينة. يقول الامام ابن القيم رحمه الله تعالى: "لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعار الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة ألبتة، وهذا حكم المَشَاهِد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى أو أعظم شركاً والله المستعان".
روى مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه عن عمرو بن عبَسة قال: قلت يا رسول الله: بأي شيء أرسلك الله؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئًا.
وفي الصحيح عن أبي الهياج رضي الله عنه قال: قال لي علي رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) وعند الإمام أحمد: ((وأن أطمس كل صنم)) وفي رواية: ((وأن تلطخ كل صنم)).(3/208)
وقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الشريعة بنفسه وبيده الكريمة كما جاء في صحيح البخاري ومسلم لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل يطعُنها بالقوس ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا[الإسراء:81]، قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد[سبأ:49] والأصنام تتساقط على وجهها. وجاء عند البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام جذب نمطاً فيه تصاوير حتى هتكه.
بل لقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم السرايا لنواحي الجزيرة لكسر الأصنام فقد أرسل سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه لتحطيم العزى وكان صنماً تعظمه قريش فكسرها وحطمها. وأرسل سرية أخرى لكسر مناة. وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى سواع صنم لهذيل فكسره عمرو بن العاص بيده. وأرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى صنم طيء يدعى الفُلس، وكان صنماً منحوتاً على جبل من جبالهم. وأرسل سرية لتحطيم اللات. وهذه الأصنام الثلاث: العزى واللات ومناة الثالثة الأخرى هي أعظم أصنام العرب في ذلك الزمان، قال الله تعالى: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى[النجم:19-20].
ومع ذلك لم يكترث بأن تجتمع عليه العرب بأجمعها فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جذاذًا كلها ولم يدع منها شيئًا وأرسل سرية بقيادة جرير بن عبدالله رضي الله عنه كما رواها البخاري في مغازيه، قال جرير: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تريحني من ذي الخلَصة؟)) قال: فنفرت في مائة وخمسين راكباً فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده.(3/209)
وقصة ثقيف معروفة لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية صنمهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين فأبى، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى أن يدعها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما يهدمانها فهدماها في مشهد عظيم.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في فقه قصة وفد ثقيف، قال: (ومنها: هدم مواضع الشرك التي تتخذ بيوتاً للطواغيت، وهدمها أحب إلى الله ورسوله وأنفع للإسلام والمسلمين من هدم الحانات والمواخير، وهذا حال المَشَاهد المبنية على القبور التي تعبد من دون الله ويُشرَك بأربابها مع الله، لا يحل إبقاؤها في الإسلام ويجب هدمها..). وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى صنم دوس يقال له ذو الكفين فحرقه. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه من غزوة تبوك لهدم ودّ وقاتلهم حتى هدمه وكسره.
أيها المسلمون: هذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الموحدين ومحطم أصنام المشركين والملحدين. فجاء بعده السلف الصالح من الصحابة والتابعين والملوك الصالحين والمجاهدين المخلصين فاقتفوا آثار هذه السنة النبوية فقد جاء في معجم البلدان أن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب غلب على ناحية سجستان في أيام عثمان رضي الله عنه فسار إلى الدَوَار فحصرهم في جبل الزون، وعلى الزون صنم من ذهب فقطع يديه وقطعه المسلمون وكسروه.
ثم القائد المجاهد محمود الغزنوي في نهاية القرن الرابع قال عنه الحافظ ابن كثير رحمه الله: الملك الكبير المجاهد الغازي، وكان يحب العلماء والمحدثين ويحب أهل الخير والدين، حينما غزا الهند كسر صنمهم الأكبر، واسمه سومنات سنة 416 هـ.
وذكر ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس أن أهل بلْخ كان لهم صنم بناه بنو شهر فلما ظهر الإسلام خرّبه أهل بلْخ.(3/210)
وكذا ما فعله إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من كسر الأصنام وتحطيم الأوثان في عصره في هذه الجزيرة، وهو أمر معروف مشهور.
أفيجيء بعد هذا من يشكك في هذه الشريعة الربانية والسنة النبوية بحجج واهية أملتها عليهم ضرورة مجاراة العصر والحضارات الكافرة؟ ونسوا أو تناسوا أنهم وافقوا الكفار في مرادهم، وما هذه الشبه التي تلقى على المسلمين هذه الأيام عبر وسائل الإعلام والأقاويل التي يتناولها هؤلاء إلاّ تخذيل لإتمام رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، علم هؤلاء أو جهلوا، والله سبحانه وتعالى يقول: فلا تكونن ظهيراً للكافرين ويقول سبحانه وتعالى: ولا تكن للخائنين خصيمًا [النساء:105] ويقول تبارك وتعالى: ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم[النساء:107] .
أيها المسلمون: لقد تباكى العالم أجمع مستنكرين ومنددين بل ومحاولين إيقاف كسر أصنام الشرك ورموز الكفر والإلحاد بحجة حماية الممتلكات الثقافية. فيقال: أين كان العالم عندما دمر الصرب الحاقدون المساجد الإسلامية في كوسوفا تدميراً كاملاً، وهي مساجد أثرية وتاريخية يعود بعضها للقرون الإسلامية المبكرة؟ وأين منظمة اليونسكو العالمية وهيئة الأمم عن اليهود الإسرائيليين وهم يدنسون المساجد الإسلامية كل يوم في القدس وهي مساجد أثرية تحت لائحة وحماية المنظمة العالمية ومسجلة ضمن التراث العالمي والتي تحافظ عليها اليونسكو وتعود إلى القرن الإسلامي الأول؟ وأين هم عن اليهود حينما سرقوا جميع الآثار في القدس وأريحا وجنوب لبنان في فترة الاحتلال؟ وتعمد اليهود وتحت أعين حراس الأمم المتحدة بقصف الآثار اللبنانية الرومانية والإسلامية في بعلبك والقرى الجنوبية.(3/211)
إن العالم الأوروبي الذي أسس وسن أنظمة حماية التراث الإنساني هو الذي سرق آثار الشرق عندما كان مستعمِراً لها، وما زالت دول عديدة مثل: مصر وسوريا والسودان ولبنان والأردن تطالب تلك الدول بعودة الآثار المنهوبة إبان فترة الاستعمار. إن الغرب والعالم المتحضر في فترات الاستعمار الطويلة لم يسرق الممتلكات الثقافية فقط لكنه أباد أصحاب الأرض وسرق منهم كرامتهم وثقافتهم، وأزهق أرواحهم وحولهم إلى شعوب تباع بالمزاد كما تباع آثارهم.
لماذا لم تنتفض اليونسكو على المقدسات الإسلامية في القدس والمساجد في كوسوفا والمساجد في الهند التي أزيلت، ومساجد كشمير والشيشان وألبانيا وهي مساجد سجلتها لائحة اليونسكو على قائمة التراث العالمي؟ بل إن مسجد البابري ما يزال حياً في قلوبنا وقد أحرقه الهندوس وهدموه، وهو مسجد أثري عمره ثلاثة قرون، ثلاثمائة سنة وهو بيت من بيوت الله يرفع فيه الأذان وتقام فيه الصلوات ويعبد فيه رب الأرض والسموات، فما سمعنا شيئاً من التباكي من دعاة المحافظين والحريصين على التراث الإنساني الذي نسمعه هذه الأيام على كسر أصنام الشرك بحجة أنها تراث إنساني وحضارة بشرية. بل ولم نسمع شيئاً من التباكي من اليونسكو وهيئة الأمم على إزهاق آلاف الأرواح البشرية في شتى بلدان المسلمين من الفلبين مروراً بالبوسنة والهرسك والشيشان وحالياً أندنوسيا، ناهيك عن الشعب الفلسطيني الذي مازال يسحق ليل نهار، ولا يكاد يغيب شمس أي يوم إلا وعشرات الأسر تفقد بعض أفرادها
فيا عجباً لهؤلاء الكفار، أعداء الله وأعداء الإنسانية، ينددون تدمير الأحجار والأصنام ولا ينددون تدمير الآلاف من النفوس البشرية المسلمة في كل بلداننا!
آلآن استيقظت ضمائركم؟ أم هو الضحك على الذقون؟ بل أين كانت منظمة اليونسكو حين قُتل محمد الدرة؟ لم نسمع لها بياناً تلك الأيام؟ أم أن الأصنام أغلى عندها من محمد الدرة؟(3/212)
نسأل الله عز وجل أن يعجل بفرج أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأن ينصر أهل التوحيد، وأن يجمع كلمتهم، وأن يوحد صفوفهم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
الخطبة الثانية
أما بعد:
إن من الشبه التي أثيرت هذه الأيام والتي قد يتشربها بعض العوام ومن لا علم لديه هو أن الصحابة رضي الله عنهم قد دخلوا تلك البلاد والأصنام موجودة وتركوها ولم يكسروها، بل لقد فتحوا مصر وغيرها من البلاد وكان فيها الأصنام والأوثان وتركوها كصنم (أبو الهول) وغيره.
والجواب على هذه الشبهة: هو أن التماثيل والتصاوير التي كانت في الجاهلية وأدركها المسلمون أثناء الفتوحات الإسلامية قد هدموها وأتلفوها قطعاً، ولا يشك في ذلك مسلم يعرف الصحابة وقدرهم وما هم عليه من التوحيد ومنابذة الشرك وأهله، ودليلنا في ذلك أنهم على خطى المصطفى في كل شيء، وقد بعثهم في حياته صلى الله عليه وسلم كما سمعتم لهدم الأوثان ومحقها، فلا بد أن يفعلوا ذلك كما نشروا التوحيد، فنقطع أنهم أتلفوا آلاف الأصنام والمعبودات والآلهة في البلدان التي افتتحوها، بل كانوا يتلفون الكتب المخالفة للإسلام كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته قال رحمه الله: (ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها ونقلها للمسلمين، فكتب إليه عمر: أن اطرحوها في الماء، فإن يكن فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا).
فإذا كان هذا عملهم في كتب أولئك فما بالك بأصنامهم ومعبوداتهم؟!
وأما ما تركه المسلمون من الأصنام والتماثيل والمعبودات في البلدان التي فتحوها فإنها على ثلاثة أقسام:(3/213)
القسم الأول: ما كان من هذه التماثيل داخلاً في كنائسهم ومعابدهم التي صولحوا عليها، فتركت بشرط عدم إظهارها، وقد نُص على هذا في الشروط التي فرضها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة والتي عرفت بالشروط العمرية المعروفة.
القسم الثاني: أن تكون هذه التماثيل من القوة والإحكام بحيث يعجزون عن هدمها وإزالتها، مثل تلك التماثيل الهائلة المنحوتة في الجبال والصخور بحيث لا يستطيعون إزالتها أو تغييرها، وقد ذكر ابن خلدون في المقدمة أن الهياكل العظيمة جداً لا تستقل ببنائها الدولة الواحدة، بل تتم في أزمنة متعاقبة، حتى تكتمل وتكون ماثلة للعيان، قال رحمه الله: "لذلك نجد آثاراً كثيرة من المباني العظيمة تعجز الدول عن هدمها وتخريبها، مع أن الهدم أيسر من البناء" ثم مثل على ذلك بمثالين:
الأول: أن الرشيد عزم على هدم إيوان كسرى فشرع في ذلك وجمع الأيدي واتخذ الفؤوس وحمّاه بالنار وصب عليه الخل حتى أدركه العجز .
المثال الثاني: أن المأمون أراد أن يهدم الأهرام في مصر فجمع الفَعلة ولم يقدر.
وأما القسم الثالث: من المعبودات والأصنام التي تركها المسلمون فهي التماثيل التي كانت مطمورة تحت الأرض أو مغمورة بالرمال ولم تظهر إلا بعد انتهاء زمن الفتوحات، وهذا مثل كثير من آثار الفراعنة في مصر فمعبد أبو سمبل مثلاً في مصر وهو من أكبر معابد الفراعنة كان مغموراً بالرمال مع تماثيله وأصنامه إلى ما قبل قرن ونصف تقريباً، وأكثر الأصنام الموجودة في المتاحف المصرية في هذا الوقت لم تكتشف إلا قريباً، وقد ذكر المقريزي رحمه الله في تاريخ مصر أن أبا الهول كان مغموراً تحت الرمال في وقته ولم يظهر منه إلا الرأس والعنق فقط دون الباقي بخلافه اليوم. هذا وقد عاش المقريزي في القرن التاسع الهجري .
وسئل الزركلي عن الأهرام وأبي الهول ونحوها: هل رآها الصحابة الذين دخلوا مصر ؟! فقال: كان أكثرها مغموراً بالرمال ولا سيما أبا الهول .(3/214)
لهذا فلا يصح مطلقاً نسبة ترك هذه التماثيل إلى خير القرون رضي الله عنهم وأرضاهم، فإنهم من أحرص الناس على إقامة التوحيد وشعائره، وإزالة الشرك ومظاهره .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا إنك أنت الوهاب.
==============
موقف المسلم من الأديان الأخرى(1)
مرزوق بن سالم الغامدي
مكة المكرمة
الرحمة
الخطبة الأولى
أيها الإخوة: لقد جابه الدعوة الإسلامية أعداء مختلفون، مستخدمين كافة الوسائل الظاهرة والباطنة للصد عن سبيل الله منذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وحتى هذه اللحظة، وستبقى العداوة بين الحق والباطل وسيبقى الصراع إلى أن يشاء الله، والأيام دول فيوم لنا ويوم علينا، ورغم ذلك فهناك بقية من أهل الحق تقل وتكثر، وتضعف وتقوى، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم بإذن الله.
أيها الإخوة: إننا نعاني هذه الأيام من اجتماع قوى الشر وتعاونهم على الباطل ضد الإسلام، وإن مما يحز في النفس أننا نرى أبناء جلدتنا وأناساً يتكلمون بلغتنا، بل ومنهم من يعتبر من الدعاة أو الكتاب الإسلاميين، من يدور في فلك هؤلاء الأعداء من الماسونية العالمية أو الصهيونية، سواء كان بعلم أو بغير علم، فإن كان لا يعلم فتلك مصيبة وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم.
إننا نسمع منذ فترة من الزمن، الدعوة إلى التقارب بين الأديان، والدعوة إلى وحدة الأديان. دعاوى يراد بها الجمع بين الحق والباطل، بين الطيب والخبيث بين الصلاح والفساد قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون....
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1581)(3/215)
أيها الإخوة: إن اليهود والنصارى كفار أعداء لله ولرسوله وللمؤمنين، فهم يكذبون بالله وبرسوله، ويسبون الله ورسوله. جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: كذبني عبدي، ولم يكن ذلك له، وشتمني عبدي ولم يكن ذلك له .. أما تكذيبه إياي أن يقول :لن يعيدنا كما بدأنا، وأما شتمه إياي أن يقول: إن لله ولداً، وأنا الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد)).
وكما قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون، وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثةٌ وما من إله إلا إلهٌ واحد.
فكيف يتم التقارب مع هؤلاء الكفار؟ إن الواجب علينا دعوتهم إلى الحق. إلى الإيمان بالرسل، لأنهم أيها الإخوة لا يؤمنون بأحدٍ من الرسل حتى رسلهم فإنهم يكذبونهم، لأنهم أيها الإخوة: لا يؤمنون بموسى ولا عيسى، لأنهم لو آمنوا وصدقوا لدخلوا في الإسلام، لأن كل نبي يبشر أمته وقومه بقدوم محمد صلى الله عليه وسلم ويخبرهم بوجوب الإيمان به، ولكن القوم يتبعون أسيادهم الذين خالفوا الأنبياء وكذبوا على الله بأن ألفوا كتباً وقالوا: هذه من عند الله وما هي من عند الله كما أخبرنا سبحانه وتعالى عن ذلك في كتابه العزيز حيث قال: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون، لذلك الصحيح هو بيان الحق لهؤلاء المضَللون من عامة اليهود والنصارى، ومقارعة زعمائهم ورهبانهم بالحجةِ والبيان وفضح مخططاتهم وأساليبهم في تلبيس الحق بالباطل لغواية بني جنسهم ووضع غشاوة على عيونهم حتى لا يؤمنون، ونبدأ معهم بالآيات المبينة لذلك وتفسيرها لهم.(3/216)
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون، ونبين لهم أن الدين عند الله الإسلام فهو دين الرسل من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. أما أن نتنازل عن ديننا ونخاطبهم باسم الإيمان أو باسم أنهم أتباع الأنبياء السابقين ونسبتهم إليهم كما يقال مسيحي، فهذه النسبة خطأ لأن كلمة مسيحي أي أنني أنسب الشخص إلى المسيح عليه السلام، فاليهودي لا يمكن أن أقول له موسوي، والمسلم لا يمكن أن أصفه محمدي، بل يقال يهودي ونصراني ومسلم. وقد حذرنا الله من اليهود والنصارى ومن موالاتهم.(3/217)
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. وللأسف إن هناك شبهاً تلقى على الناس حيدة عن الحق وتضليلاً للعقول وذلة وتبعية للكفار، لأن الذي يلقي هذه الشبه هم من الأذناب لليهود والنصارى، حتى وإن عُرفوا بأنهم من الدعاة أو الكتاب الإسلاميين فقائل يقول: كيف يدخل مخترع الكهرباء النار وهو قد أضاء لنا الدنيا؟ وآخر يقول: كيف نعادي اليهود والنصارى ونحن حتى الأدوات التي في المساجد من اختراعهم وصناعتهم؟ وثالث يقول: هذا رسول الله رهن درعه عند اليهودي وزار جاره المريض وهو يهودي فلماذا تدعوننا لغير ذلك؟ والصحيح أن هذا من قلب الحقائق ومن التضليل. فاليهودي الذي عامله النبي صلى الله عليه وسلم بصفته مواطناً مقيماً تحت رعاية دولة الإسلام قد أخذ عليه العهد وعلى قومه في معاهدة مشهورة معروفة، فحينما خان قومه العهد وظاهروا المشركين على المسلمين كان جزاؤهم القتل والسبي ومصادرة الأموال، أما إذا عاش الكفار بين المسلمين على الشروط التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فلا بأس بذلك مع دفعهم الجزية للخزينة الإسلامية. ونذكر من هذه الشروط ما ذكره أهل العلم ونقلوه في كتب التفسير والفقه وغيرها حيث شرط أهل الكتاب على أنفسهم أن لا يحدثوا ديراً ولا كنيسة ولا صومعة ولا يجددوا ما خرب منها وأن يقوموا بإطعام المسلمين الذين يمرون بديارهم ثلاثة أيام وأن لا يؤوا جاسوساً ولا يكتمون غشاً للمسلمين وأن لا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهرون بدعهم وشركهم وأعيادهم ولا يصدون أحداً من أهلهم أو يمنعونه من دخول الإسلام. وأن يوقروا المسلمين ويقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس وأن لا يتشبهوا بالمسلمين في لباس أو كلام أو الكنى ولا يركبون السرج ولا يتقلدون السيوف ولا يتسلحون بأي نوع من السلاح ولا يحملونه وأن لا يبيعوا(3/218)
الخمور ولا يظهرون الصليب ولا يدقوا الأجراس أو النواقيس ولا يرفعوا أصواتهم بترانيم صلاتهم وأن يجزوا مقدم رؤوسهم حتى يُعرفوا وأن لا يظاهروا أحداً ضد المسلمين، ولا يضربوا أحداً من المسلمين أيضاً ولا يطلعوا على بيوتهم فإن هم خالفوا ذلك فلا ذمة لهم.
هذه بعض الشروط التي عقدها أهل الكتاب على أنفسهم وقد أذلهم الله وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا نبدأهم بالسلام، وإذا لقينا أحدهم في طريق اضطررناه إلى أضيقه، ومع هذا يعيشون بين المسلمين فيبيعون ويشترون ويأكلون طعامهم مع الاستمرار في دعوتهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن جاره اليهودي الذي مرض فزاره النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه للإسلام فأسلم ثم مات.
أيها الإخوة: إن اليهود والنصارى لا يريدون لنا الخير ويكذبون بالرسل ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا نغتر بما يقولون من دعاوى يروج لها البعض من غير علم ولا فقه. فهذا القرآن بين أيدينا وهذه سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه سيرة الخلفاء الراشدين نبراس لنا .. قال الله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم وقال تعالى: ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وقال تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير.
اللهم نور بصائرنا واحفظنا من الزيغ والضلال يا رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(3/219)
أيها الإخوة: إن الأصل في قبول الأعمال أن تكون بعد الإيمان بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر، أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى. فهذه المخترعات التي صنعها الكفار حتى وإن تكون فيها مصلحة وفائدة للبشر فإن الله يجازيهم بها في الدنيا وذلك أيضاً حسب نياتهم .. حيث أنهم كفار لا يؤمنون بالآخرة ولا بالجنة ولا بالنار. فإنهم يريدون بذلك العمل الحياة الدنيا فقط فالله عز وجل لا يظلم أحدا،ً فيعطيهم من الدنيا ما يريدون.
قال تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون وقال تعالى: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وهذا ما نشاهده أيها الإخوة في حياتنا، فالكفار يتمتعون في هذه الحياة الدنيا الزائلة، وقد هيأ الله لهم كل أسباب التطور المادي .. مع ما يصيبهم من نكبات وكوارث تذكرة لهم حتى يؤمنوا ويعودوا إلى الله ويتفكروا في أنفسهم، ولكنهم مع الأسف أخذتهم الرفاهية والتقلب فى زينة الحياة وبهرجها ولم يستجيبوا إلا قليلاً منهم قال تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد حذرنا الله من الاغترار بالحياة الدنيا وزخرفتها وما يتمتع به الكفار من زينتها والاستمتاع بها حيث قال سبحانه وتعالى: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها.(3/220)
أيها الإخوة: إن الله عدل ويأمر بالعدل والقسط، فالنصارى الذين يعيشون بين المسلمين عليهم أن يلتزموا بما وضعوا أنفسهم فيه، ولهم من المسلمين المعاملة الحسنة والعدل، ومن العدل دعوتهم للإيمان بالله ورسوله وتكرار ذلك، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن جاره اليهودي، ومثل ما فعل مع نصارى العرب، ومثل ما فعل مع رئيس أكبر دولة في ذلك العصر وهو ملك الروم. حيث قال له: ((أسلم تسلم)) بالرغم من أن الدولة الإسلامية كان عدد سكانها لا يتعدى مائة ألف بينما جيش الروم لوحده أكثر من هذا العدد وربما أضعافاً مضاعفةً.
لماذا هذا الانسياق والمذلة خلف اليهود والنصارى لدرجة أن أخبار الكفار في وسائل إعلام المسلمين تتابع كل صغيرة وكبيرة لدى اليهود والنصارى حتى إذا مرض شخص منهم يتابع كل ساعة وكل يوم بل تتابع كل أخبارهم وأخبار مواشيهم وكلابهم وقططهم وغيرها. وغيرها مع الأسف الشديد.
هناك دعوات واجتماعات في دول الكفر باسم التقارب بين الأديان، ويحضر هذه الاجتماعات مسؤولون من بلاد المسلمين، ويلقون كلمات مائعة ليست فيها دعوة إلى الله ولا دعوة إلى توحيده وإنما هي دعوة باسم الإنسانية ومحبة البشر بلا تمييز، مما يميت عقيدة الولاء والبراء وقد يكون فيها كفر صريح لما تتضمنه من تكذيب للنصوص الصحيحة الصريحة من القرآن والسنة.
قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين إنها دعوة ماسونية صهيونية كافرة. لقد قال أحد رجال الماسون الملقب بالقطب الأعظم رئيس محفل الشرك الأكبر العالمي في كتاب ألفه باسم ((النور الأعظم)) قال الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمدية يجتمعون في ميم واحد هو ميم الماسونية، لأن الماسونية عقيدة العقائد وفلسفة الفلسفات، إنها تجمع وتوحد المتفرقات، وإن ما ورثه الآباء الصالحون للأبناء هو مبادئ الحرية والمساواة والإخاء. ا. هـ.(3/221)
لقد كتب كثير من الباحثين حول هذا الأمر الذي يسمى التقارب بين الأديان وكشفوا أن أصله مؤتمر صهيوني ماسوني، وأن اليهود لهم دور خطير في تحريك أطراف الحوار بما يمهد باستقرارهم وهيمنتهم في فلسطين، وإن من العجيب أن أحد النصارى حينما أكتشف ذلك كتب مقالاً في إحدى الصحف الكبيرة في بلاده مطالباً فيه بني جنسه وبني قومه باستجماع شجاعتهم للوقوف أمام التحركات الصهيونية مطالباً بإيقاف الحوار حفاظاً على مجتمعه النصراني.
قال تعالى: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.
أيها الإخوة: لنرجع إلى منهج السلف الصالح بالقول والعمل والسير على طريقهم في فهم القرآن والسنة وتطبيقها في حياتنا ومعاملاتنا مع اليهود والنصارى والمشركين والمجوس والشيعة والصوفية حتى يحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة ولنحذر من الإنزلاق وراء الأهواء فننحرف إلى الهاوية ولات ساعة ندم.
قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.
وقال تعالى: ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون.
أيها الإخوة: إن من نواقض الإسلام عدم تكفير الكافر، وبهذا فإن الدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بينها ما هي إلا ناقضة من نواقض الإسلام وردة وكفر، والعياذ بالله.(3/222)
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، لا يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)). هذا من بقي على دينه الحقيقي فكيف بمن ادعى أن عزيراً ابن الله وأن الآلهة ثلاثة. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكيف بمن يقول أنه لا دين ولا جنة ولا نار، إنما إلهه الدرهم والدولار.
كيف يُتفق معهم ويستجاب لهم على ما يسمى وحدة الأديان أو التقارب بينها نسأل الله العافية والرشاد.
===============
من الحروب الصليبية إلى التنصير (1)
مصطفى بن سعيد إيتيم
مكة المكرمة
الخطبة الأولى
أما بعد:
لقد بعث الله سبحانه وتعالى نبيه محمدًا إلى الناس كافة: عربهم وعجمهم، باديهم وحاضرهم، إنسهم وجنهم، قال تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون [سبأ: 28]، وأمره سبحانه أن يقول: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا [الأعراف: 158].
بعثه الله سبحانه وأهل الأرض صنفان: أهل كتاب، وزنادقة لا كتاب لهم، وكان أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أشرف الصنفين لما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم حظًا منه، وتحريفهم لما حرّفوا.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 1651)(3/223)
أشرقت شمس الرسالة على أهل الأرض فكانت لهم سراجًا منيرًا، فأنعم الله بها عليهم نعمة لا يستطيعون لها شكورًا، وأهل الكتاب وقتئذ مترقبون ينتظرون، فلما أشرقت من مكة ببعثة محمد بن عبد الله الهاشمي كفروا بها وجحدوها إلا قليلاً منهم، وكانوا هم أولى باتباع النبي لما يجدونه مكتوبًا عندهم في كتبهم، ولأنهم كانوا أعرف به منهم بأبنائهم، قال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل [الأعراف: 157]، وقال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [البقرة: 146].
أرسل الله نبيه بالهدى ودين الحق، وأنزل معه الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولم يقبل سبحانه بعد الإسلام دينًا سواه، قال تعالى: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يرجعون [آل عمران: 83].
وخص الله سبحانه أهل الكتاب بدعوة خاصة فقال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [المائدة: 15، 16].
فناداهم بـ(يا أهل الكتاب) تشريفًا وتكريمًا، وليكون ذلك أدعى لقبول ما جاء به محمد لأنه من جنس ما جاءت به الرسل قبله، فالإيمان بالكتب إيمان بالوحي، وهو جنس واحد لا يتجزأ ولا يفترق.
فكان منهم من أسلم فسلم، وآمن فأمن، وكتب له الأجر مرتين، قال : ((من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين، وله ما لنا، وعليه ما علينا))(1)[1] .
وكان منهم من أخذه الكبر والحسد، فكفر وجحد، ومع ذلك أقرهم الإسلام على دينهم، وأذن للمسلمين في الإحسان إليهم، وعصم دماءهم وأموالهم، وحفظ لهم حقوقهم، وأبقاهم بين المسلمين رجاء الخير لهم بإسلامهم وإيمانهم.(3/224)
فكان الإسلام عليهم نعمة، والمسلمون لهم رحمة، ما ظنكم ـ أيها المسلمون ـ بدين يفتي علماؤه ويقررون بأن من كان معه ماء لوضوئه ووجد مضطرًا من أهل الكتاب أو من دوابهم المعصومة وجب عليه أن يعدل إلى التيمم وأن يسقي ذلك المضطر أو تلك الدابة(2)[2] إنه مصداق قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107].
أيها المسلمون، إن أهل الكتاب ما نعموا بعدل ولا سعدوا بأمن إلا تحت حكم المسلمين، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة:
لما انسحب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه من حمص ـ بعد أن فرض عليها الجزية ـ بكى النصارى في حمص وقالوا: "يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم ـ أي الروم ـ غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا"(3)[3].
ولما قتل صالح بن علي بن عبد الله بن العباس مقاتِلةَ لبنان وأجلى بعضهم، كتب إليه الإمام الأوزاعي رحمه الله: "وقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئًا لمن خرج على خروجه ممن قتلتَ بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت، فكيف تؤخذ عامةٌ بذنوب خاصةٍ حتى يُخرَجوا من ديارهم وأموالهم، وحُكمُ الله تعالى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وهو أحق ما وقف عنده واقتدي به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله فإنه قال: ((من ظلم معاهدًا وكلفه فوق طاقته فأنا حجيجه))" (4)[4].(3/225)
وإليكم أيها المسلمون شاهدًا آخر لكنه هذه المرة من أهلهم، يقول جوستاف لوبون: "ما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول أمرهم، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين على أمرهم، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يريدون بثه في أقطار العالم، ولو عملوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتقَوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون الذين دخلوا الشام في القرون اللاحقة، بل رأيناهم ـ أي المسلمين ـ حيث دخلوا في الشام ومصر وإسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق، تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين عليهم في مقابل السلام الذي ضمنوه لهم إلا جزية ضئيلة، كانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل. وما عرفت الشعوب فاتحًا بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا دينًا حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف"(5)[5] .
هكذا كان الإسلام لهم، وهكذا أمر الله ورسوله المسلمين أن يكونوا لهم.
وفي مقابل هذا البر والإحسان والرحمة والإنعام، كيف كان أهل الكتاب للمسلمين؟
إنهم كانوا يكيدون لهم كيدًا، ليردوهم عن دين الله فردًا فردًا، سلكوا في ذلك جميع السبل والوسائل، ونفذوا من أجله مخططات الأواخر والأوائل، فمَّرة مكر وخديعة في ثوب الناصح الأمين، ومرّة غصب واستعمار تحت ستار الإعانة والتأمين، وها هو التبشير والتنصير قد أنشب أظفاره وكشر أنيابه، وهو نتيجة من نتائج التعصب الصليبي المسلح، ومولود من مواليد القوة الطاغية التي تسمي كل ما ترضى عنه من الأعمال المنكرة حرية دين، أو حرية فكر، أو حرية رأي، وتسمي كل ما لا ترضى عنه من المطالبة بالحقوق المغصوبة وغير ذلك تسميه إرهابًا وعنفًا وأصولية وتشددًا.(3/226)
فالتبشير والتنصير في حقيقة أمره مسار الاستعمار ودرب الغصب، أمدته القوة الطاغية بالمعونة والتأييد، فمد سلطانه حتى أصبحت جميع الأوطان أوطانه، فمن رام فضح أمره قالت له القوة الطاغية: اسكت، التبشير حر وأنا حامية الحرية، وهو عمل إنساني وأنا منقذة الإنسانية(6)[6] .
أيها المسلمون:
إنه لا عجب في أن يكذِّب اليهود والنصارى بالقرآن الكريم، ولكن العجب كل العجب فيمن يقول من الغافلين والخائنين من المسلمين: إن اليهود والنصارى إخوان لنا، راضون عنا!! وهو يسمع قول الله عز وجل: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم [البقرة: 120].
العجب كل العجب فيمن يزعم أنه يؤمن بالقرآن الكريم ثم هو يقول: إن اليهود والنصارى يحبوننا ولا يكنّون لنا العداوة والبغضاء!! والله تعالى يقول: ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [البقرة: 217].
العجب كل العجب فيمن يقول من المتخاذلين والمخذولين من المسلمين: إن اليهود والنصارى يحترمون ديننا ويعظمونه ويقرّوننا عليه!! والله تعالى يقول: ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [البقرة: 109].
عداوة أهل الكتاب للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بينها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن ولم يكفه شاهد العيان فلا حيلة إليه.
أيها المسلمون:
اذكروا الجرائم الشنيعة والعظائم الفظيعة التي ارتكبها النصارى في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى، فعمّدوهم بالقوة، ومحوا شعائرهم وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق التي أخذت منهم أن لا يتعرضوا للمسلمين، فقتلوا وعذبوا، ونكَّلوا وشرَّدوا.(3/227)
واذكروا الحروب الصليبية الكبرى التي شنها النصارى على الشرق الإسلامي طيلة قرنين من الزمان، ويسمونها (الحرب من أجل تحرير القبر المقدس)، كم ارتكبوا فيها من مذابح بقيت شامة عار في جباههم، ففي الحملة الأولى فقط أبادوا أهل أنطاكية وذبحوا في القدس أكثر من سبعين ألفًا من المسلمين، وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقِنّسرين وطبرية وغيرها من البلاد، وهجَّروا أهلها منها، وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.
واذكروا ما فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين في القرن المنصرم من قتل وتشريد، وفساد وإفساد، وتخريب ودمار، ونهب للأموال والممتلكات، وحرم المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم، وليست مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا منكم ببعيد.
وها هم اليوم يتغنون كذبًا وزورًا بالأمن والسلام، والوحدة والوئام؛ فهذا مجلس الأمن، وذاك مبعوث السلام، وهذه خطة أمن، وتلك صلاة سلام، فبالله عليكم متى علمتم الوحوش الضارية استأنست ، ثم هل تلد الوحوش غير الوحوش ؟!
بالأمس القريب كانت صلاتهم اليومية التي يقولها الصغير والكبير والذكر والأنثى منهم : (يا قلب يسوع الإلهي، أتقدم إليك بقلب مريم الدامي، بصلواتي وأعمالي وآلامي في هذا النهار، وأقدم إليك صلواتي من أجل الغاية التي أنت ساع في سبيلها كل يوم على المذبح، وأقدم إليك صلواتي بصفة أخص، من أجل اتحاد كل الكاثوليك، ومن أجل محاربة الإسلام)(7)[7] ، هذه صلاتهم وهذه عقيدتهم التي كانوا عليها بالأمس ولا يزالون عليها اليوم، يقول الفيلسوف الكبير الدكتور جوستاف لوبون ـ متأسفًا ـ: "إن العقيدة الكاثوليكية المتوارثة فينا تجعلنا من ألد الأعداء للمسلمين"(8)[8] .(3/228)
ومثال آخر مشهور وهو الأنشودة الإيطالية التي تسمى بـ(الوطنية)، يحفظها الصغير والكبير، ويتغنى بها الوجيه والحقير، يغذون بها أرواحهم بالحقد والشحناء، والعداوة والبغضاء، وهي مؤلفة من أربعة أدوار، واسمعوا إلى الدور الثاني منها لتعلموا ما يكنه النصارى لكم: (ليمت الشعب الإسلامي التعس. وليحارَب هذا الدين الإسلامي. الذي يضع المخدَّرات من النساء تحت تصرف السلطان. إني سأحارب بكل شجاعة لمحو القرآن. وبذلك أموت طليانيًا شريفًا)(9)[9].
فاعرفوا أيها المسلمون أعداءكم، وإياكم ثم إياكم من زخارف القول.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والله المستعان على ما نسمع ونرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، عظم المطلوب وقل المساعد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، خير هذه الحياة ناقص وشرها زائد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد ولا ند ولا ولد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وسيد كل عابد وزاهد، وأكرم كل معلم وأصبر كل مجاهد.
اللهم فصل وسلم على نبينا محمد الراكع الساجد، ومنقذ كل معاند وجاحد، من درن الذنوب وخبث العقائد، وعلى آله وصحبه الأماجد، وعلى التابعين لهم بإحسان في الوسائل والمقاصد.
أما بعد:
أيها المسلمون:
لقد علمتم وسمعتم بما حدث في هذا الأسبوع من زيارة كبير النصارى الكاثوليكيين البابا يوحنا بولص الثاني لبلاد سوريا مدينة دمشق، والسماح له بدخول المسجد الأموي، وبإقامة قداس كبير، وإلقاء المواعظ والخطب، وأداء صلاة السلام، وغير ذلك من الأمور الخطيرة التي تتم من وراء حجاب أو مستورة بجلباب.(3/229)
ولقد لقي هذا الضيف الثقيل ترحابًا كبيرًا، وحفاوة عظيمة، حيث فرشت له السبل، وزينت له الطرق، وخرجت إليه الجماهير تصفق وتزمر، وأكرم غاية الإكرام، وعظم منتهى التعظيم، وإن في هذا الحدث الخطير لتنبيهًا لنا معاشر المسلمين وإيقاظًا لنا من غفلتنا:
• فهذا الحدث الخطير دليل على ضعف المسلمين وخضوعهم لطلبات أعدائهم من اليهود والنصارى وغيرهم.
• وهو دليل على قوة نفوذ النصارى في بعض بلاد المسلمين، وتغلغلهم في مراكزها الحساسة بما يمكنهم من اتخاذ القرارات وإصدار الأوامر والتوجيهات، فكم من بلد إسلامي منع فيه بيان بطلان دين النصارى سواء بالقلم أو اللسان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
• هذا الحدث الخطير أيها المسلمون علامة صحيحة على سير مخططات التنصير السير الحثيث، ودليل واضح فاضح على نجاح تلك الخطط، أفيقوا أيها المسلمون فإن التنصير يغزو العالم الإسلامي، التنصير يداهم بيوتكم، ليخرج المسلمين من الإسلام ويشككهم في دينهم وفي نبيهم محمد ، وليحول دون انتشار الإسلام، وتمهيدًا لإخضاع العالم الإسلامي سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا وعسكريا تحت سيطرة النفوذ الغربي.
• هذه الزيارة المشؤومة ليست هي الأولى، ولن تكون هي الأخيرة ما دام المسلمون في غفلتهم، بل هي زيارة من بين الزيارات الكثيرة المقررة في الخطة التنصيرية، فلقد قام البابا يوحنا بولص الثاني في الفترة ما بين 5/2/1980م و20/9/1995م بست وأربعين زيارة لأربعين دولة إفريقية كما زار لبنان سنة 1997م، وهذه الزيارات مجال واسع رحب للتنصير، وتفتح أبوابا للمنصرين لترويج دعاياتهم المضللة والمزيفة، كما تضفي على العملية التنصيرية الصبغة الرسمية بسبب ما يصحبها من مشاركة بل رعاية حكومية.(3/230)
• وأخيرًا أيها المسلمون إن هذا الحدث الخطير ليقطع القلوب ويفطر الأكباد، أين تعظيم العلماء العاملين، وأين تكريم الدعاة الصادقين، وأين احترام الصالحين المصلحين في تلك البلاد التي عُظم فيها هذا الضيف الثقيل وغيرها من بلاد المسلمين، يُعظَّم من دينه عبادة الصلبان، ودعاء الصور المنقوشة في الحيطان، يُعظَّم من أصل عقيدته أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن الصاحبة وجرى به ما جرى إلى أن قتل ومات ودفن، يقولون في دعائهم: "يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا"، يُعظَّم من دينه شرب الخمور وأكل الخنزير وترك الختان، والتعبد بالنجاسات واستباحة كل خبيث، والحلال ما حلله القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب وينجيهم من عذاب السعير، وفي مقابل هذا التعظيم وتلك الحفاوة يشرَّد الدعاة المصلحون وينكَّلُ بهم، وتسلب حقوقهم الإنسانية، فضلاً عن حقوقهم كمسلمين، ولا يسمح لهم بالدعوة إلى دين الحق، وتكسر أقلامهم، وتعقد ألسنتهم، ويتهمون بالتهم العقيمة لتبرير هذه الشناعات العظيمة، فهذا أصولي متطرف ورجعي متشدد، وذاك يخيط له ثوبه، وهذا إرهابي خطير ومشاغب كبير، وذاك يخصف له نعله، فكم أخرج من بلاد الشام من عالم مصلح، أخرج من داره وماله، واكتوى بلأواء الاغتراب، والويل له ثم الويل لو رجع إلى أهله ووطنه، ولا زال حاضرًا في أذهاننا معاشر المسلمين ما عاناه أحد كبار الدعاة المصلحين، وأحد المجددين في هذا القرن، ألا وهو الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ وغيره من أمثاله كثير.
فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أسأل الله عز وجل أن يعيد للمسلمين عزهم وكرامتهم، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يحفظ دينه ويعلي كلمته وينصر عباده المؤمنين.
__________(3/231)
(1) أخرجه أحمد (5/259)، والطبراني في الكبير (8/190-191) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة [304].
(2) انظر: مجموع الفتاوى (21/80).
(3) فتوح البلدان للبلاذري (137) والخراج لأبي يوسف.
(4) فتوح البلدان للبلاذري.
(5) الإسلام والحضارة العربية (1/144).
(6) انظر مقدمة سجل مؤتمر جمعية العلماء الجزائريين لمحمد البشير الإبراهيمي (ص 65).
(7) انظر: آثار عبد الحميد بن باديس (5/464).
(8) انظر المصدر السابق (5/49).
(9) انظر المصدر السابق (5/50).
==============
أتدرون ما الإرهاب؟! (1)
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
18/7/1422
المنشاوي
الخطبة الأولى
ثم أما بعد:
فقد سأل النبي أصحابه ذات يوم فقال: ((أتدرون ما المفلس؟)) فأجابوا إجابة لعلنا جميعًا كنا نجيب بها لو سئلنا هذا السؤال، قالوا: (المفلس منا من لا درهم له ولا متاع) وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن، جزءٌ من معنى الإفلاس تبادر إلى أذهان أصحاب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، فصحح لهم هذا المفهوم وبين لهم المعنى الحقيقي للإفلاس فقال : ((المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد قذف هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا لم يبق عنده ما يقضى به أخذ من سيئاتهم حتى يطرح بها في النار))(1)[1]. فبين لأصحابه المعنى الحقيقي والشرعي للإفلاس والذي يجب أن يكون نصب أعينهم.
وسألهم ذات يوم ((ما تعدون الشديد فيكم؟)) ما تعدون الشديد؟ أي من الرجل القوي الشديد عندكم؟ فأجابوا إجابة بدهية فقالوا: (إنما الشديد ذو الصرعة) أي الذي يصرع الآخرين، فصحح لهم هذا وبين المعنى الحقيقي للشدة والقوة عند الرجال فقال: ((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب))(2)[2].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2036)(3/232)
وهكذا معاشر المؤمنين نجد أن تصحيح الألفاظ وتصحيح استخدامها وتوجيه معانيها لما يوافق الشرع من هدي سيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه، ولو ذهبت أستعرض معكم نماذج أخرى من الألفاظ التي صححها وصحح استخدامها صلوات ربي وسلامه عليه لطال بنا المقام.
وإحياءً لهذه السنة المباركة أردت لنفسي ولإخواني أن نصحح استخدام لفظ طالما انتشر بين الناس، لا سيما في الآونة الأخيرة التي تتابعت فيها المستجدات والأحداث، يستخدم في غير محله، ويراد به الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، ويردده ـ مع ذلك ـ من ينتسب إلى الإسلام، بل من ينتسب إلى الدعوة إلى الله والعلم الشرعي، يردد هذا اللفظ دون بيان معناه، ودون بيان حدود استخدامه، ذلكم هو لفظة "الإرهاب".
فما معنى هذه الكلمة التي أصبحنا نسمعها ليل نهار؟ وتردد على مسامعنا في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، بل والإلكترونية الإرهاب الإرهاب.
فأصل هذه الكلمة في لغة العرب تدل على الخوف؛ تقول: أرهبته إرهابًا واسترهبته استرهابًا، أي: أفزعته وأخفته، ومنها سمي الرجل الراهب راهبًا؛ لأنه يخشى الله أي يخافه، وتقول العرب: "ترهَّب الرجل" إذا خاف الله وانعكف على العبادة، فيصبح راهبًا.
فأصل الإرهاب إذن ـ معاشر المؤمنين ـ الخوف، أنها تدل على الخوف، وهذا المعنى اللغوي للكلمة العربية الإرهاب، وأما اللفظة الإنجليزية التي يستخدمها الغرب(3)[3]للتعبير عن الإرهاب فمعناها في اللغة العربية: الرعب وليس الإرهاب.
وهذا من اللطائف والموافقات العجيبة إذ إن كلا المعنيين قد أمر الله بهما في كتابه، أما الخوف فقال قال سبحانه وتعالى ـ آمرًا المؤمنين ـ:وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 56].(3/233)
وأما الرعب فقد وعد الله عباده بالنصر به فقال:سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ [الأنفال: 12]، وقال : ((نصرت بالرعب مسيرة شهر))(4)[4].
فالإعداد ـ معاشر المؤمنين ـ الحربي والجسدي من أنواع الإرهاب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به؛ لذلك خطب النبي ذات يوم على المنبر فقرأ قول الله عز وجل ـ كما في صحيح مسلم ـ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فقال : ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي))(5)[5] فبين أن الرمي بالسهام والرماح من أنواع القوة التي أمر الله المؤمنين بإعدادها.
ولما أراد النبي أن يطوف بالبيت مع أصحابه قال أهل مكة من المشركين وغيرهم: لقد أهلكت الحمى ـ حمى يثرب ـ أهلكت محمدًا وأصحابه فأمر الصحابة أن يضطبعوا أي يظهروا ساعدهم الأيمن، وأن يرملوا في أشواط الطواف الثلاثة الأولى؛ حتى يقذفوا الرعب والرهبة في قلوب المشركين، فلما رأوا النبي وأصحابه ـ وقد قدموا من سفر شاق وطويل ـ يرملون ويظهرون أكتافهم، وقد منَّ الله عليهم بقوة جسدية، أرهبهم ذلك وأفزعهم(6)[6]؛ لذلك يقول النبي : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير))(7)[7].
والإرهاب الشرعي ـ معاشر المؤمنين ـ يشمل إرهاب المرجفين والمنافقين والعلمانيين والعصاة وذلك بإقامة الحدود، وإقامة شرع الله، لذلك أمر الله عز وجل أن تقام الحدود وأن يشهدها الناس، وأن تنفذ علانية حتى تقع الرهبة وينزل الرعب في قلوب العصاة والمنافقين، ومن تسول له نفسه تعدي حدود الله عز وجل، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق: 1].
وهذا الإرهاب ـ معاشر المؤمنين ـ ليس فيه ظلم وعدوان على أحد، إنما هو لإعلاء كلمة الله عز وجل ونشر هذا الدين؛ ليبلغ ما بلغ الليل والنهار.(3/234)
وأما الإرهاب الذي يستخدم ـ معاشر المؤمنين ـ الذي يستخدم في وسائل الإعلام ويردده الناس، فإنهم يقذفون به أصولاً ثابتة، ويهاجمون به ثوابت تدور على محاور خمسة، فهذه الكلمة إذا استخدمت فإنها تدور ـ إشارة وتلميحًا بل وتصريحًا ـ حول محاور خمسة:
أولها: الجهاد في سبيل الله، فالجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ ذروة سنام الإسلام، بل عده بعض أهل العلم ـ ولا مشاحة في الاصطلاح ـ الركن السادس من أركان الإسلام، الجهاد ـ معاشر المؤمنين ـ سواء كان جهاد دفع ومدافعة عن أراضي الإسلام والمسلمين كما هو الحال في الشيشان والفلبين وبلاد الأفغان، أو جهاد تبليغ ونشر لدين الله عز وجل، هو قمة الإرهاب عند أعداء الله عز وجل، والمجاهد الذي لم يركن لمال ولا لدنيا يصيبها، وإنما خرج يريد الشهادة أو النصر المؤزر ويرجع بالغنيمة هو إرهابي عند أعداء الله عز وجل، فينبغي أن يتفطن لهذا ـ معاشر المؤمنين ـ، وألا يردد المؤمن كلمة قد يكتب الله له بها السخط إلى يوم القيامة، وهو لا يشعر.
وإذا كان المجاهد إرهابيًا فماذا تقولون فيمن يقول عن نفسه: ((جعل رزقي تحت ظل رمحي))(8)[8] فهذا رزق المصطفى ، رزقه تحت ظل رمحه، فرزقه ورزق أهل بيته من الغنائم التي يغنمها المجاهدون من أعداء الله عز وجل؛ لذلك يقول ابن القيم في معرض بيان أفضل الكسب وأطيبه: "أحلّ الكسب الذي جعل منه رزق رسول الله ، وهو كسب الغانمين، وما أبيح لهم على لسان الشرع، وهذا لم يثن على غيرهم، ولهذا اختاره الله لخير خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله... وهو الرزق المأخوذ بعزة وشرف وقهر لأعداء الله، وجُعل أحب شيء إلى الله فلا يقاومه كسب غيره"(9)[9].
فالجهاد معاشر المؤمنين جزء من ديننا لا يتجزأ، والإرهاب يستخدم للغمز واللمز بل والطعن صراحة في هذا الركن العظيم، وهذه الشعيرة المباركة.(3/235)
وتستخدم هذه الكلمة أيضًا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ في التقليل من شأن المحور الثاني وهو المطالبة بتحكيم شرع الله، فكما لا يخفى عليكم فإن شرع الله عز وجل معطل في كثير من بقاع الدنيا، فإذا قامت عصابة مؤمنة، لا تخشى إلا الله عز وجل، تطالب بتطبيق شرع الله وإحلاله مكان القوانين الوضعية امتثالاً لأمر الله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف: 4] سموا إرهابيين، وقذفوا بألفاظ بذيئة تدل على أنهم يريدون إحلال الفساد في الأرض، وهذا من أبرز معاني الإرهاب عند من يستخدمه من أعداء الله عز وجل.
ومن معاني الإرهاب عندهم معنىً يغمز في المحور الثالث، وهو التمسك بشعائر هذا الدين، فمن أظهر شعائر الدين وتمسك بها، فهو إرهابي عندهم، والإرهاب يعني عندهم أن نطبق هذه الأمور وأن ندعو إليها، كالحجاب، الحجاب مثلاً ـ معاشر المؤمنين ـ دعوة إرهابية، وكلكم سمع وقرأ في أكثر من مناسبة كم من جامعة تقوم ولا تقعد، وحكومات تثور على فتاة تلبس الحجاب، أو تذهب إلى جامعة أو مدرسة وهي محجبة، يثورون عليها ويجعلون هذا من الإرهاب.
وكذلك التمسك بسنة النبي صلوات ربي وسلامه عليه الظاهرة كإعفاء اللحى ولباس الثياب، والتأسي به في سننه الظاهرة، تعد ضربًا من الإرهاب عند أعداء الله عز وجل.
إذن هم يشيرون بهذه الكلمة إلى التمسك بشعائر الدين الظاهرة، والدين عندهم علاقة بينك وبين ربك لا تظهرها ولا تطلع الناس عليها؛ لذا، يعتبرون أداء صلاة الفجر جماعة في المسجد، كما في بعض أقطار الدنيا، جريمة وعلامة على التطرف والإرهاب؟!(3/236)
ومن معاني الإرهاب عندهم ـ معاشر المؤمنين ـ ما يغمز في أصل رابع هامٍ، وهو من أصول ديننا وعقيدتنا، وهو الولاء والبراء، فالذي يطالب بموالاة المؤمنين أيا كانوا عربًا أو عجمًا؛ فالمؤمن العربي والمؤمن الأعجمي لا فرق بينهما عندنا، بل إن الأعجمي المؤمن خير من العربي الفاسق فضلاً عن العربي الكافر المرتد عن دين الله، فالمناداة بهذا الأصل العظيم، وأن يعلم الناس أن ولاءهم للمؤمنين، وعداءهم يكون للكافرين أعداء الله عز وجل، وأننا نحب من أحب الله، ونبغض من أبغض الله، وأن المسلم دمه معصوم، ودمه أشرف من دم الكافر، وأنه لا يقتل مسلم بكافر، وغير ذلك من أصول الولاء والبراء، تعد عندهم إرهابًا.
ورحم الله علماء الإسلام، ورحم الله فقهاء هذه الملة، ومنهم ابن القيم رحمه الله حينما كانوا يبحثون في مسائل أهل الذمة، فبحثوا مسألة ركوب الذمي للخيل، فقالوا: "تمنع أهل الذمة من ركوب الفرس؛ إذ في ركوبها الفضيلة العظيمة والعز، ومن مراكب المجاهدين في سبيل الله الذين يحمون حوزة الإسلام، ويذبون عن دين الله، قال تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فجعل رباط الخيل لأجل إرهاب الكفار، فلا يجوز أن يمكنوا من ركوبها؛ إذ فيه إرهاب المسلمين"(10)[10].
نعم معاشر المؤمنين، لا بد من إحياء عقيدة الولاء والبراء، وأن المسلم المؤمن أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه، وأن الكافر عدو لله عز وجل لذلك قال ربنا: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فنحن لا نعاديهم لأمور شخصية، وإنما نعاديهم لأنهم كفروا بالله ورسله، وكفروا برسل الله جميعًا، كذبوهم وآذوهم بل وقتلوهم؛ فلذلك نعاديهم، وهذا وجه معاداتنا لهم.(3/237)
وأما المحور الخامس ـ معاشر المؤمنين ـ الذي يغمز به أصحاب هذا المصطلح المحدث دين الله وشرعه هو إزالة كل آثار الجاهلية ومحوها؛ فإن دعوة الرسل إنما قامت على التوحيد وإفراد الله عز وجل بالعبادة، والكفر بالطاغوت، وإزالة وسائل الشرك وأسبابه، فكل آثار الجاهلية من أصنام وأضرحة ومعبودات أُمرنا بإزالتها وتحطيمها، وهذا عندهم إرهاب، فلو قام أناس بتحطيم الأصنام أو هدم القبور والأضرحة المشيدة التي يعبد عندها غير الله عز وجل كان هذا في عرفهم ومصطلحهم إرهابًا وقضاء على السياحة وتدميرًا للاقتصاد وإنكارًا للحضارات!!، فانظر كيف جعلوا أصول الدين، وأصول التوحيد إرهابًا وتخلفًا؟! ورحم الله الفاروق ـ معاشر المؤمنين ـ لما بلغه أن الحجاج حينما يأتون مكة يقفون عند الشجرة، وما أدراكم ما الشجرة؟ تمت تحتها أشرف بيعة، وأفضل وأشرف ميثاق عرفته البشرية، عاهدوا الله عز وجل وبايعوه وبايعوا نبيه على الجهاد في سبيل الله، فرضي الله عنهم وأصبحت تلك الفئة التي بايعت رسول الله في ذلك الموضع أفضل خلق الله بعد أهل بدر، ومع ذلك لما علم عمر أنَّ الناس يمرون عند الشجرة ويتخذونها للتبرك وتذكر تلك البيعة أمر بقطعها من جذورها؛ حتى لا يعلم أحد بموضعها بعد ذلك(11)[11]، فإذا كان هذا حال شجرة استظل بها النبي وأصحابه وخشي عمر أن تتخذ مزارًا ثم تعبد من دون الله، فكيف بالأصنام والآلهة التي تعبد ويسجد لها وينذر لها ويذبح لها؟! لا شك أن إزالتها وتحطيمها أولى وآكد.
فهذه الأصول معاشر المؤمنين، وهذه المحاور هي المرادة بالإرهاب عند من يستخدم هذه الكلمة دون أن يعرف معناها.(3/238)
فاتق الله أيها العبد المؤمن، واتق الله أيها الإعلامي المسلم، واتق الله أيها السياسي المسلم، وإياك أن تكرر هذه الكلمة دون أن تفهم معناها؛ فقد ثبت عنه : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يتبين فيها ـ وفي رواية:لا يتفكر فيها ـ فيلقى بها في النار سبعين خريفًا))(12)[12].
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه، وأزواجه أمهات المؤمنين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، ثم أما بعد:
فإن من صفات الله الفعلية ـ معاشر المؤمنين ـ التي تدل على كماله جل وعلا، وعزته وقوته وجبروته تباركت أسماؤه، وتقدست صفاته، أنه يمكر بمن يمكر بدينه وأوليائه ورسله وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30].
وكما يقول أهل العلم: "لا يجوز وصف الله بالمكر على وجه الإطلاق؛ فإنه لا يمكر سبحانه ابتداء، لأن المكر مطلقًا صفة ذم، وإنما يمكر جزاءً لمن يمكر، فالمكر منه يكون عقابًا للماكرين وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46].
فمكر الله عز وجل يكون بمن يمكر من عباده بأوليائه، أو بدينه، أو برسله، يمكر الله بهم، وقد مكر رجل بعيسى ابن مريم، أراد أن يقتله، فدبر له مكيدة واستمعوا لها جيدًا حتى تفهموا كيف يمكر الله بعباده الكافرين الذين لم يؤمنوا به ولا برسله:(3/239)
هذا الرجل مكر بعيسى ابن مريم، مكر بعبد الله ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه، مكر ورتب مع أبناء القردة والخنازير أن يقتلوه، فرتب لهم الدخول على عيسى ابن مريم، فمكر الله به، رفع عيسى إليه، وألقى على الرجل الماكر شبه عيسى؛ فلا ينظر إليه أحد إلا ظنه عيسى، فدخلوا عليه ـ وكان من مكره أنه أراد أن يمثل أنه مع عيسى، فدخلوا الغرفة فلم يجدوا عيسى ابن مريم؛ رفعه الله إليه، فوجدوا الرجل فهموا بقتله، فقال: "أنا صاحبكم" قالوا: لا، بل أنت عيسى ابن مريم، ولم يعلم أن الله ألقى عليه شبه عيسى، فقتلوه، فذلك من معنى قوله تعالى : وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30].
ومن مكر أعداء الإسلام اليوم أنهم يريدون تشويه صورة الإسلام، وربط الإرهاب به كما يزعمون(13)[1]، هذا من مكرهم وكيدهم فإذا به ينقلب عليهم، واعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ واستبشروا بأن هذا الكيد والمكر انقلب عليهم، وأصبح من مكر الله بهم، أنَّ جماهير الغربيين الآن يقبلون على شراء كل كتاب يتحدث عن الإسلام، يريدون أن يعرفوا ما هذا الإسلام الذي يبيح القتل والنهب والتدمير، فيقرأون من باب الثقافة فيشرح الله قلوبهم للإسلام.
وكنت أتحدث البارحة(14)[2] مع داعية من أمريكا، فأقسم لي بالله بأن جدوله لمدة أسبوعين ليس فيه متسع، محاضرات ومقابلات مع قنوات ومحطات إذاعية وتلفازية، كلهم يريد أن يعرف عن الإسلام.
وهناك موقع على الإنترنت مشهور ببيع الكتب، فمن يزوره منكم ويطلب أي كتاب عن الإسلام، يجد أن الكتب محجوزة وهناك قائمة انتظار لتوفيرها.
وقال لي هذا الداعية: لو أرسلت إليَّ عشرة آلاف نسخة من المصحف باللغة الإنجليزية لنفدت فورًا.(3/240)
الجميع مقبل على القراءَة والإطلاع، يريدون معرفة دين الإرهاب، فعسى الله أن يشرح صدور المخلصين منهم والمتدينين والذين ضلوا عن الصراط المستقيم، وصدق الله إذ يقول: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [النور: 11].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة [2581] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة [2608] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) Terrorism وتعني الرعب وليس الخوف قطعًا. والرعب في لغتهم أعلى من الخوف Fear.
(4) أخرجه البخاري في التيمم [335]، ومسلم في المساجد [521] من حديث جابر رضي الله عنهما.
(5) أخرجه مسلم في الإمارة [1917] من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(6) أخرج قصة سبب الرمل البخاري في المغازي [4256]، ومسلم في الحج [1266] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
أما سبب الاضطباع فقد أخرج أحمد (1/405) [317]، وعنه أبو داود في المناسك [1887] عن عمر بن الخطاب قال: (فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟! ومع ذلك لا ندع شيء كنا نفعله على عهد رسول الله ) صححه ابن خزيمة (4/212)، والحاكم (1/624)، وهو في صحيح البخاري في كتاب الحج [1605] بلفظ: (ما لنا وللرمل؟ إنا كنا راءينا به المشركين، وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي فلا نحب أن نتركه) وليس فيه ذكر الاضطباع.
(7) أخرجه مسلم في كتاب القدر [2664] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) أخرجه أحمد (9/123) [5114] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وعلقه البخاري في الجهاد بصيغة التمريض، وصححه الألباني في الإرواء [1269].
(9) زاد المعاد (5/793).
(10) 10] انظر: أحكام أهل الذمة (3/1303).
(11) 11] أخرجه ابن سعد في الطبقات (2/100)، والفاكهي في أخبار مكة (5/78)، وصحح سنده الحافظ في الفتح (7/569).(3/241)
(12) 12] أخرجه البخاري في الرقاق [6478]، ومسلم في الزهد [2988] من حديث أبي هريرة بنحوه.
(13) إذ أعلنوا أن الجهاد الإسلامي وراء تفجير مباني التجارة بالعاصمة الأمريكية.
(14) مساء الخميس 17/7 ليلة الجمعة لعام 1422هـ.
==============
الرحمة في الإسلام (1)
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
17/8/1422
المسجد النبوي
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حق التقوى، فتقوى الله ترفع بها الدرجات، وتفرّج بها الكربات، وتدفع بها الشرور والمكروهات.
واعلموا - عباد الله - أن للحياة ركائز تعتمد عليها، وأسساً تنبني عليها، ومعاني سامية تناط بها المنافع والمصالح، ومن هذه المعاني العظيمة، والصفات الكريمة التي تسعد بها الحياة ويتعاون بها الخلق الرحمة.
فالرحمة خلق عظيم، ووصف كريم، أُوتيه السعداء، وحُرمه الأشقياء، الرحمة ضاربة في جذور المخلوقات، ومختلطة بكيان الموجودات الحية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة في الأرض، فبها يتراحم الخلق، حتى إن الفرس لترفع حافرها، والناقة لترفع خفها مخافة أن تصيب ولدها، وأمسك تسعة وتسعين رحمة عنده ليوم القيامة)) [رواه البخاري وغيره](1)[1]، فالرب جل وعلا متصف بالرحمة كما يليق بجلاله.
والرحمة صفة كمال في المخلوق يتعاطف بها الخلق، ويشفق القوي على الضعيف، فيحنو عليه بما ينفعه، ويمنع عنه شره، ويتوادُّ بها بنو آدم، فالرحمة في الفطرة التي خلقها الله، ولكن قد تطمس الفطرة بالمعاصي، فتكون الرحمة قسوة جبّارة ضارة.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2051)(3/242)
ومع أن الرحمة فطرة مستقيمة، وصفة عظيمة فطر الله عليها، فقد أكّدها الإسلام، وأوجب على المسلمين التحلي بالرحمة والاتصاف بها؛ لأن الإسلام دين الرحمة، فتعاليمه لتحقيق الخير والعدل والرخاء والحق والسلام، والعبودية لله رب العالمين، ولدحض الباطل، واجتثاث جذور الشر، قال الله تعالى لنبيه : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) [رواه أبو داود والترمذي] (2)[2]، وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [رواه البخاري ومسلم] (3)[3]، ورواه أحمد من حديث أبي سعيد وزاد: ((ومن لا يغفر لا يُغفر له)) (4)[4]، وفي الحديث: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (5)[5].
والإسلام حثّ على رحمة الصغير والكبير والضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر)) [رواه أحمد والترمذي] (6)[6].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله فقال: إنكم تقبّلون الصبيان وما نقبّلهم، فقال رسول الله : ((أوَأملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!)) [رواه البخاري ومسلم](7)[7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي)) [رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن"](8)[8]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)) [رواه مسلم] (9)[9].(3/243)
بل إن الإسلام شمل برحمته حتى الحيوان البهيم وغيره؛ لأنه دين الرحمة والعدل والسلام، وأمر المسلمين بالتمسك بالرحمة في أرفع معانيها، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: دخل رسول الله حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي حنَّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله فمسح ذفراه، فسكت، فقال: ((من رب هذا الجمل؟)) فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: ((أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه)) [رواه أحمد وأبو داود] (10)[10].
فعلمه الله منطق الجمل، كما علّم سليمان منطق الطير عليهما الصلاة والسلام.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرة - وهي نوع من الطير - معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرة، فجعلت تعرِش - أي ترفّ بجناحيها - فجاء النبي فقال: ((من فجع هذه بولديها؟ رُدوا ولديها إليها)) ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرّق هذه؟)) قلنا: نحن يا رسول الله، قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذّب بالنار إلا رب النار)) [رواه أبو داود](11)[11]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله من اتخذ شيئاً فيه الروح غرَضاً) [رواه البخاري ومسلم](12)[12]، وعن الشريد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قتل عصفوراً عبثاً، عجّ إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب إن فلاناً قتلني عبثاً، ولم يقتلني منفعة)) [رواه النسائي وابن حبان] (13)[13].
ومن رحمة الإسلام أنه يأمر أتباعه بأن لا يظلموا غير المسلمين أيضاً، فعن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه مرّ بالشام على أناس من الأنباط أهل الذمة حُبسوا في الجزية فقال هشام: أشهد لسمعت رسول الله يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) فدخل على الأمير فحدثه، بأمر بهم فخلوا. [رواه مسلم وأبو داود والنسائي] (14)[14].(3/244)
أيها المسلمون، ألا ما أحوج البشرية إلى هذه المعاني الإسلامية السامية، وما أشد افتقار الناس إلى التخلق بالرحمة التي تضمّد جراح المنكوبين، والتي تواسي المستضعفين المغلوبين، ولا سيما في هذا العصر، الذي غاضت فيه الرحمة من أكثر الخلق، فلا يسمع في هذا العصر لصرخات الأطفال، ولا لأنين الثكلى، ولا لحنين الشيوخ، ولا لكلمة الضعفاء، لا يسمع فيه إلا للغة القوة، ومنطق القدرة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أعزّ من أطاعه واتقاه، وأذلّ من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فلا إله سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبده ورسوله، اصطفاه ربه واجتباه. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فاتقوا الله - أيها المسلمون - وأطيعوه، وراقبوه في أعمالكم مراقبة من يعلم أنه يعلم السر وأخفى.(3/245)
عباد الله، إن من رحمة الله وعدله في تشريعه أن كل إنسان مسؤول عن عمله وفعله وإثمه، فلا يؤخذ أحد بجريرة غيره، ولا يسأل أحد عن فعل غيره، ولا تجني كل نفس إلا عليها، فلا يؤخذ القريب بجناية قريبه، ولا تعاقب القبيلة بجريرة واحد منها، لا في الدنيا ولا في الآخرة، قال الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر:18]، وقال تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى [النجم:36-41]، وقال تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:111].(3/246)
أيها الناس، انطلقت بعض وسائل الإعلام الغربية المغرضة في هذه الأيام تهاجم المملكة العربية السعودية هجوماً شرساً، وتفتري افتراءً مقيتاً، وتقلب الحقائق بصورة مكشوفة، وتلصق بها تُهماً كاذبة، والغرض من تلك الهجمة استهداف الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فأساءت هذه الوسائل الإعلامية إلى الإسلام والمسلمين، واستفزّت مشاعرهم، فخرجت هذه الوسائل الإعلامية عن مهمة الإعلام، حيث غيرت الحقائق المشاهدة، فحولت حسنات دولة الحرمين الشريفين - أعزها الله - إلى سيئات، حيث جعلت الأعمال الخيرية، والمعونات الإنسانية، والإعانات السخية السلمية للمحاويج المسلمين، والمناداة بالعدل الذي يستحقه المنتقصة حقوقهم، جعلت هذه الوسائل الإعلامية كل هذه الأعمال الخيرية التي هي حسنات، جعلتها سيئات، فنفثت سمومها، وافترت ما شاءت من التُهم التي يعلم العالم أن المملكة منها براء، ولكن إذا تبيّن أن القصد من ذلك تشويه الإسلام والاستخفاف بالمسلمين واستفزازهم والنيل منهم زالت الغرابة، لأن الحقد الأسود يحمل على أكثر من ذلك، قال الله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
فعلى هذه الوسائل الإعلامية الغربية أن تحترم عقولها، وأن تكف عن الطعن في الإسلام والاستفزاز للمسلمين، وتتعامل مع الحقائق بنزاهة تامة، بعيدة عن الهوى.(3/247)
ألا وإن بعض الأحداث لها تداعيات كثيرة، فيكثر بسببها القول والخلط بالكلام. وقد أمرتنا الشريعة الإسلامية أن نحفظ ألسنتنا وأيدينا عند الفتن، فإياكم - معشر المسلمين - وغيبة بعضكم بعضاً، وإياكم والقدح في الولاة والعلماء، ولكن يدعى لهم، فبصلاح الولاة والعلماء يصلح الناس، ويعانون على مهمتهم، يعان ولاة الأمر على تنفيذ الشريعة، ويعان العلماء على تبليغ الشريعة وبيانها، فإنه إذا قدح الناس في ولاة الأمر، تنامى التمرّد والعصيان، واستُخِفَّ بالسلطان. وإذا قدح الناس بالعلماء زالت الثقة بما يبلغون من الشريعة، وفي كل ذلك مفاسد دينية ودنيوية لا يحصيها إلا الله، وقد أناط الله بهذين النوعين من الناس مصالح دينية ودنيويةً كثيرة جداً، وحقوق المواطن في هذه البلاد، وحقوق الإنسان مكفولة في ظل الشريعة الإسلامية، أحسن منها في أي دولة معاصرة.
فاستديموا نعم الله عليكم - أيها الناس - بدوام طاعته، والبعد عن معصيته، وكونوا على الحق أعواناً، وفي جميع الأحوال إخواناً، وإياكم والذنوب فإنها سبب كل شر وعقوبة في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى:وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين...
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب [6000] ، ومسلم في التوبة [2752] بنحوه.
(2) أخرجه أحمد [6494] ، وأبو داود في الأدب [4941] ، والترمذي في كتاب البر [1924] وقال : "حديث حسن صحيح" ، وصححه الحاكم (4/159) ، ووافقه الذهبي. وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة [925].(3/248)
(3) أخرجه البخاري في التوحيد [7376] ، ومسلم في الفضائل [2319] ، واللفظ له.
(4) هذه الزيادة عند أحمد [19244] من حديث جرير بن عبد الله أيضاً ، وليست من حديث أبي سعيد ، وصححها الألباني في صحيح الترغيب [2251].
(5) أخرجه البخاري في الأدب [6011] ، ومسلم في البر [2586] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(6) أخرجه أحمد [2329] ، والترمذي في البر [1921] وقال : "حديث حسن غريب"، وفي سنده ليث بن أبي سليم ، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [1367] ، لكن قوله : ((ليس منا من لم يوقّر الكبير ، ويرحم الصغير)) له شواهد صحيحة.
(7) أخرجه البخاري في الأدب [5998] ، ومسلم في الفضائل [2317].
(8) أخرجه أحمد [8001] ، وأبو داود في الأدب [4922] ، والترمذي في البر [1923] ، وقال : "حديث حسن" ، وصححه ابن حبان [462، 466] ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب [2261].
(9) أخرجه مسلم في البر [2593].
(10) 10] أخرجه أحمد [1745] ، وأبو داود في الجهاد [2549] ، وصححه الحاكم (2/109) ووافقه الذهبي، وصححه الضياء في المختارة (9/158) ، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة [20]. وقوله : ((تُدئِبه)) أي تتعبه بكثرة العمل ، قاله المنذري.
(11) 11] أخرجه البخاري في الأدب المفرد [382] ، وأبو داود في الجهاد [2675] من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه. وصححه الحاكم (4/239) ، ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [2268] ، وأخرجه أحمد [3835، 3836] من طريق عبد الرحمن بن عبد الله مرسلاً.
(12) 12] أخرجه البخاري في الذبائح [5515] ، ومسلم في الصيد [1958]، واللفظ له.
(13) 13] أخرجه أحمد [19470] ، والنسائي في الضحايا [4446] ، وصححه ابن حبان [5894] ، لكن في سنده صالح بن دينار الجعفي، لم يوثقه غير ابن حبان ، ولا روى عنه إلا واحد. ولذا ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب [680].
(14) 14] أخرجه مسلم في كتاب البر [2613].(3/249)
=============
ضوابط العلاقة بأهل الكتاب (1)
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
الخطبة الأولى
وبعد:
عباد الله، فما بين تفجيرات أمريكا على رؤوس ساكنيها، وبين تفجيراتها على رؤوس المستضعفين في أفغانستان بل وفي غيرها من البلاد، تفجرت قرائح ثلل من حاملي الرايات الإسلامية رسمية كانت أو رسمية حول حقيقة الصراع بين الإسلام وغيره من الأديان والملل.
فمن قائل بعد أن خلع قلبه القصف الأمريكي: لا بد لنا من التعايش السلمي مع الغرب، ولا سبيل إلى حربه، فليس لنا به طاقة، ثم فرّع على ذلك أن العداء بيننا وبين الغرب، إنما هو عداء تاريخي ولدته النزاعات على المصالح، فنحى العقيدة عن ساحة الصراع.
ومن قائل بعد أن دب في قلبه رعب التهديد الأمريكي لكل ما هو إسلامي صادق: لا حمل لنا بهذا التهديد، ولا بد لنا من حماية أنفسنا ومكتسباتنا من هذا الوحش المرعب، وعليه فلم لا نبحث عن أوجه الإلتقاء بيننا وبينه، وإظهار التقارب العقدي معه، لعله يمن علينا بكف عدوانه علينا، فليس من المصلحة الحديث عن الاختلاف العقائدي بيننا وبينه, بل ولا مانع من مشاركته في بعض الشعائر الدينية التي تمثل السلام والوئام والإخاء. وأدياننا كلها سماوية، ونحن جميعاً نؤمن برب واحد.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2625)(3/250)
وهكذا بدأت تتجدد تلك الشبهة المتعفنة المبنية على الاعتقاد بأن الملة النصرانية أو اليهودية، هي أديان سماوية، تشترك مع المسلمين في أن لها كتاباً سماوياً، فهي بالتالي أديان مقبولة، وأن كان أهلها كفاراً، فهم إخوان لنا، ويفرِّع على هذا التأسيس فروع عقدية وفقهية كثيرة بدءا من الدعوة إلى وحدة الأديان، أو الدعوة إلى الحوار بين الأديان، وكذا الدعوة إلى التسامح بين الأديان، وما يسمى بالإخاء العالمي، والتعايش السلمي، ومروراً بإلغاء جهاد الهجوم، وإلغاء قيومية هذا الدين على غيره من الأديان والملل، ثم انتهاء إلى مودتهم وعدم بغضهم أو البراءة منهم.
الله أكبر إن دين محمد……وكتابه أقوى وأقوم قيلا
هو صخرة ما زوحمت صدمت فلا……تبغوا لها إلا النجوم وعولا
طلعت به شمس الهداية للورى……وأبى لها وصف الكمال أفولا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده……طلع النهار فأطفئوا القنديلا
ويزيح ملك الله منكم عنوة……ليبيحه أهل التقى وينيلا
أمة التوحيد، وحتى تتبين أطراف هذا الموضوع، وحقيقة هذه الأمور، ونظرة الشريعة الإسلامية لها، لا بد من التأصيل الشرعي، لأصل نظرة الإسلام إلى هذه الملل الأخرى، فنقول:
لقد خلق الله الخلق وأمرهم بطاعته، وعبادته وحده لا شريك له، ونبذ كل ما سواه، وقد أرسل للبشر في كل فترة يعيشونها رسولاً يبين لهم كيفية الطريقة لعبادة الله وحده لا شريك له، ولهذا كانت دعوة الأنبياء كلهم تدور حول محور واحد، يقول الله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا اله إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].(3/251)
ولما كانت جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم تدعو إلى عبادة الله وحدة لا شريك له، كانت دعوتهم واحدة، هي الإسلام، ولهذا فإن الله لن يقبل من أحد ديناً، سوى هذا الدين الذي جاءت به الأنبياء والرسل، وهو دين الإسلام وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
فدين الأنبياء جميعاً من لدن آدم عليه السلام، إلى نبينا محمد هو الإسلام بمعناه العام إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19].
فكل نبي دعا قومه إلى الإسلام والذي يعني الاستلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك.وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ [النحل:36].
ولما بعث نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم دعا قومه، مقتدياً بإخوانه الأنبياء، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه العبادة والطاعة توجب على صاحبها طاعة الله جل وعلا بتصديق الرسول الذي أرسله، ومن ثمَّ اتباع هذا الرسول.
وبهذا توجب على كل من بلغته دعوة الرسول وقد آمن بالله، الإيمان بأن هذا رسول مرسل من عند الله، ومن ثم اتباعه، ـ كما هو الحال في الأديان السابقة ـ وهذا أيضاً هو الإسلام.
ولما كان الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعل الله دعوته هي خاتمة الدعوات وناسختها، وأوجب على جميع المكلفين من إنس وجن، عرب وعجم، اتباعه وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة سبأ:28](3/252)
ومن ثَم أصبح اسم الإسلام حينما يطلق يقصد به آخر الأديان والشرائع نزولاً، وهو دين نبينا محمد وشريعته، وهو المعنى الخاص، وأصبح الإسلام بعد بعثة اسماً خاصاً بمن اتبع محمداً .
عباد الله، إذا تقرر ذلك، لا بد لنا من بيان نظرة الإسلام إلى أهل الكتاب، اليهود والنصارى.
أمة التوحيد، إن أساس نظرة الإسلام إلى غيره من الأديان، يعتمد على أن هذه الأديان تمردت على أمر الله جل وعلا في عدم الدخول في الإسلام والإنصياع لأحكامه، ناهيك عن اعتقادتهم الكفرية الباطلة، والمستلزمة لسب الله عز وجل، وإهانة جنابه، ولولا ضيق الوقت لذكرنا ذلك بأدلته، ولذا حكم الإسلام بكفرهم ومروقهم من الدين.
ضل النصارى في المسيح وأقسموا ……لا يهتدون إلى الرشاد سبيلا
والمدعو التثليث قوم سوغوا ……ما خالف المنقول والمعقولا
والعابدون العجل قد فتنوا به ……ودوا اتخاذ المرسلين عجولا
وهذا أعني كفر اليهود والنصارى أمر مجمع عليه من المسلمين كلهم سلفاً وخلفاً، ومن خالف ذلك فإنه جاهل، ومعاند، بل يخشى عليه هو من الكفر.
والأدلة الدالة على كفرهم أكثر من أن تحصى، فمنها قول الله جل وعلا: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]، وقال تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة:73].
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيّنَةُ [البينة:1].
والآيات في هذا كثيرة متضافرة متكاثرة.
أما النصارى واليهود فخصهم ……بالمقت في الإعلان والإسرار
أفيضمرون لمسلم حبا وقد ……شرقوا ببغض محمد المختار
والقول بكفر من عدا أتباع النبي بعد بعثته أصل عظيم من أصول الإسلام، وعليه تعتمد أصول أخرى كثيرة، فلا بد من وضوحه وتقريره، وتثبيته لدى عموم المسلمين.
أمة الإسلام، من هذه الأصول التي تعتمد على هذا الأصل ما يلي:(3/253)
أولاً: الحكم على أهل الكتاب بالخلود في نار جنهم، وبئس المصير، وهذا على وجه الإجمال لا على وجه التعيين، والأدلة على ذلك كثيرة ومتضافرة أيضاً، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].
عن أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمةِ يَهُودِيٌّ ولا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)) رواه مسلم.
عباد الله، وإذا تقرر هذا الأصل بهذا الوضوح وهذه السهولة تبين أن ما يثيره البعض بين فترة وأخرى حول علاقة المسلمين بعموم أهل الكتاب وأنهم غير كفار وغير مخلدين في النار لأن الإسلام الصحيح لم يبلغهم، فهذا حق مختلط بباطل، أما في الدنيا فهم عندنا كفار، نعاملهم معاملة الكفار، وأما أنهم غير مخلدبن في النار فنحن لا نحكم على أعيانهم أنهم مخلدون أو غير مخلدين في النار، فهذا مرده إلى الله، كما هو متقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة.
لكننا مع ذلك نجزم بأن غير المسلمين على وجه الإجمال متوعدون بالخلود في نار جهنم، فلا داعي للخوض في كون الدعوة بلغت هؤلاء أم لم تبلغهم.
لعن الذين رأوا سبيل محمد ……والمؤمنين به أضل سبيلا
أبناء حيات ألم تر أنهم ……يجدون درياق السموم قتولا
أمة الجهاد، والثاني من الأصول التي تعتمد على القول بكفرهم، أنه يجب على المسلمين أن يمنعوهم من حكم أي بلد من البلاد بغير شريعة الله جل وعلا، ويجب على المسلمين أن يحكموا الأرض كلها بشريعة الله جل وعلا، وإن أدى ذلك إلى قتال أهل الكتاب، قال الله جل وعلا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [البقرة:193].(3/254)
فالهدف من الجهاد بالدرجة الأولى أن تحكم شريعة الله الأرض كلها، وأن لا يحكم بغيرها في أي بقعة من البقاع، ولا يستلزم ذلك إكراههم على دين الإسلام وإجبارهم على اعتناقه، فقد قال الله جل وعلا: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي [البقرة:256]، فلا تنافي بين الأمرين.
وعلى هذا كان النبي يبعث البعوث، وعليه جرى عمل الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم.
عباد الله، حينما نقرر هذا الأصل، نقرره ونحن نعلم أن المسلمين في حالة من الضعف المادي ما يجعلهم في ذيل الأمم، ونعلم كذلك أن هذا التقرير لا يروق لكثير من المسلمين الذين أصابتهم الهزيمة النفسية فأصبحوا يتملقون إلى الغرب بكل أنواع التملق رغبة في استرضائهم، وزعماً منهم في تحسين صورة المسلمين لديهم.
لا درَّ درهم فإن كلامهم ……يذر الثرى من أدمعي مبلولا
فكأنني ألفيت مقلة فاقد ……ثكلى وموجعة تصيب عويلا
وكذا لا يروق لبعض المخلصين الذين يرون أن تقرير هذه الحقائق وإن كانت حقائق لا مماراة فيها، غير ملائم في أيام ضعف المسلمين وذلهم هذه.
أمة الإسلام، إن عجز الإنسان عن تطبيق بعض أحكام شريعته لا يبيح له بحال من الأحوال التخلي عنها، أو إغضاء الطرف عنها، أو تنحيتها، بل على العكس من ذلك، يجب عليه أن يذكر نفسه بها، وأن يتعلمها ويحرص عليها، لأن ذلك قد يكون محفزاً له على تطبيقها والوصول إليها يوما ما.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن تقريرها وفق الكتاب والسنة، وإن صاحب ذلك عجز عن تطبيقها فإنه سيضمن سلامتها من الانحراف وعبث العابثين.
عباد الله، وهنا تنبيه آخر أهم من سابقه، ألا وهو: القول بكفر اليهود والنصارى، ووجوب بغضهم، وجوب البراءة منهم.(3/255)
هذا كله واجب شرعي من جهة، وواجب مثله القيام بدعوتهم إلى الله جل وعلا، والذي أرى ـ والعلم عند الله تعالى لا سيما في هذه البلاد ـ أنه يجب على المسلمين في أحاديثهم المتعلقة بالأحكام الشرعية المتعلقة باليهود والنصارى، التركيز على دعوة هؤلاء للإسلام، قبل الحديث عن جهادهم.
عباد الله، نحن أمة دعوة في الدرجة الأولى، وحينما كان النبي يبعث البعوث والرسل إلى بلدان المسلمين كان يأمرهم أن يبدؤوا بالدعوة إلى الله جل وعلا، بل إنه كان يأمر الجيوش التي تذهب أصلا للحرب والقتال، كان يأمرها بأن يدعوهم للإسلام أولاً قبل أن يدعوهم للجزية أو القتال.
إخوة الإسلام، لنكن صرحاء مع أنفسنا، نحن مطالبون بالدعوة في الدرجة الأولى، فكم يستغرق الحديث عن دعوة القوم وطرقه وأساليبه ووسائله من مجالسنا، بل كم يشغل من حيز اهتماماتنا، بل إني أقول ـ والعلم عند الله تعالى ـ: إن بعض الإخوة حينما يتحدثون عن الجهاد ويشغل جُل اهتمامهم في هذه البلاد أخشى أن هذا الحديث يكون من باب التنفيس عن النفس، وبث الأشجان، وتبادل الأحلام، وإلا فليس صاحبه في كثير من الأحيان واقعياً.
ونحن وإن كنا مطالبين به، فلا شك أنه في أقل الأحوال الخلاف جار في فرضيته على الأعيان على مسلمي هذه البلاد، لكن الدعوة إلى الله جل وعلا فرض على الأعيان في هذه البلاد، لا سيما مع هذه الظروف، والله جل وعلا يقول: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل:125].(3/256)
أمر آخر يجب التنبيه له أيها الإخوة: وهو أن بغض الكافرين، والبراءة منهم، لا يعني هذا بأي حال من الأحوال إساءة معاملتهم، وقد قال الله جل وعلا: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
فإحسان معاملتهم أمر مأمور به في حد ذاته، فكيف إذا انضم إليه أنه من أول وأحسن وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، لا سيما مع هؤلاء القوم، ولولا ضيق الوقت لسقت من الشواهد التي تدل على أن إحسان المعاملة كانت سبباً في إسلام كثير من الناس في هذه البلاد، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم جار يهودي فمرض فزاره، وأكل النبي من طعام أهداه له يهودي، وأجاز العلماء الصدقة عليهم، وكم فتحت بلاد في مشارق الأرض ومغاربها بالأخلاق وحسن المعاملة.
ولعل الله ييسر لنا خطبة قادمة عن أثر الأخلاق الحسنة في الدعوة إلى الله جل وعلا.
الخطبة الثانية
الحمد لله على آلائه وصلواته على محمد خاتم أنبيائه وعلى آله وأصحابه وأصفيائه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد:
أمة الإسلام: وبقي من الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب شيء كثير، منه تحريم التشبه بهم، ووجوب ضرب الجزية عليهم في بلاد المسلمين، وتحريم سكناهم في الجزيرة العربية، وكذا الأحكام المتعقلة بمعاملتهم ومعاشرتهم، لكن هنا أختم بحكم واحد، نظرا لحاجتنا إليه في هذه الأيام، لا سيما في هذه البلاد، ومع هذه المحن، ألا وهو مشاركة النصارى في أعيادهم، أو تهنئتهم بها.
وخصوصية هذا الموضوع تجعلنا نفرده بالذكر هنا.(3/257)
عباد الله، إذا تقرر كفر عقيدة أو ملة من الملل، فهذا يعني أن شعائرهم الدينية، هي من مظاهر الكفر وشعائر محاربة الله ورسوله، ولا شك أن عيد كل طائفة وملة من الملل مرتبط بدينهم وعقيدتهم، وإلا لما تميزوا به عن غيرهم واختصوا به، بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به الشرائع، كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وعليه فهل ترون أن يرضى المسلم الموحد العابد لله وحده بمظهر من مظاهر الكفر، فضلاً عن أن يهنئ صاحبه بالقيام به، ناهيك أن يشاركه فيه، وهذا هو السر الذي جعل تهنئة الكفار بشعائرهم أمراً محرماً تحريماً قطعياً، ويزداد هذا الإثم إذا شاركهم الإنسان في مظاهر الكفر هذه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه)(1)[1]، انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
قال الله جل وعلا: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء:140].
عباد الله، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وفي مشابهتهم من المفاسد أيضاً أن أولاد المسلمين تنشأ على حب هذه الأعياد الكفرية، لما يصنع لهم فيها من الراحات والكسوة، والأطعمة وخبز الأقراص وغير ذلك).(3/258)
فبئس المربي أنت أيها المسلم إذا لم تنهَ أهلك وأولادك عن ذلك وتعرفهم: أن ذلك عند النصارى، لا يحل لنا أن نشاركهم ونشابههم فيها.
قال الذهبي: (فإن قال قائل: إنما نفعل ذلك لأجل الأولاد الصغار والنساء؟ فيقال له أسوأ الناس حالاً، من أرضى أهله وأولاده بما يسخط الله عليه.
فينبغي على المسلم أن يسد هذا الباب أصلاً ورأساً، وينفر أهله وأولاده من فعل الشيء من ذلك، فإن الخير عادة، وتجنب البدع عبادة، ولا يقول جاهل: أفرح أطفالي.
أفما وجدت يا مسلم ما تفرحهم به إلا بما يسخط الرحمن، ويرضى الشيطان وهو شعار الكفر والطغيان؟ فبئس المربي أنت ……ولكن هكذا تربيت) ا.هـ.
وكفى اليهود بأنهم قد مثلوا ……معبودهم بعباده تمثيلا
وبأن إسرائيل صارع ربه ……ورمى به شكرا لإسرائيلا
أفيأنف الكفار أن يستدركوا ……قولا على خير الورى منحولا
عباد الله، لست أدري كيف يطيب لمؤمن موحد عابد قانت لله جل وعلا أن يهنئ عباد الصليب، أكالي الخنازير، شرابي الخمور، يهنئهم بيوم يمارسون فيه جميع أنواع الفسق والخنا والزنا، نساء عاريات يتراقصن مع رجال، كؤوس خمر تدور، أغان صاخبة، مجون وفجور، ثم نقول لهم بعد ذلك: اقضوا وقتاً سعيداً، وعيد سعيد.
ومن الغبينة أن يجازي إفكهم صدقي ولسانا في الكلام شكولا
إن أنكروا فضل النبي فإنما أرخوا على ضوء النهار سدولا
أمة الإسلام، وليت شعري كيف يروق لمؤمن يشعر بواجب الإخوة الإيمانية لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أن يهنأ الصليبيين الجدد بيوم من أيامهم الصليبية التي تثير فيهم نعرة الصليبية الحاقدة، بينما هم يذبحون أطفالنا، ويغتصبون نساءنا، ويقتلون رجالنا، ويشمتون بنا، ويدوسون فوق رقابنا، إمعاناً في الذل والمهانة.
__________
(1) أحكام أهل الذمة (1/441).
===============
صور من الحروب الصليبية (1)
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/1/1424
النور
الخطبة الأولى
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 2743)(3/259)
أما بعد: يعود تاريخ الصراع بين الإسلام والنصرانية إلى بداية الجهاد ضد الروم في غزوة مؤتة، واستمر هذا الصراع مع حَمَلَةِ الصليب عبر الأندلس وصقلية وفلسطين وسواحل بلاد الشام، ناهيك عن الاستعمار الحديث في القرن التاسع عشر، فالحرب بين الإسلام والنصرانيةلم تتوقف أبداً منذ مطلع الدعوة الإسلامية وحتى عصرنا الحاضر. وما تزال هجماتهم بادية للعيان هنا وهناك، لتكون شوكة دامية في قلب العالم الإسلامي. إليكم نماذج تاريخية من هذا الصراع المرير مع الصليبيين:
فغزوة مؤتة كانت مثالاً للصراع المبكر بين المسلمين والبيزنطيين، عندما زحفت جيوش الروم مع حلفائهم من عرب غسان في السنة الثامنة للهجرة نحو الجزيرة العربية وكان الصليب شعار الروم آنذاك. واصطدم بهم المسلمون، وسقط عدد من الشهداء على أرض المعركة في مؤتة. واستمر الصراع بعدها لإعلاء كلمة الإسلام فكانت المعارك قوية متعددة، ومن أشهرها معركة اليرموك بقيادة كبار الصحابة رضي الله عنهم ورفعت رايات الإسلام على بلاد الشام خفاقة مشرقة كما أن الإسلام دخل مصر أرض الكنانة، وانتهى الأمر باسترجاع تلك البلاد من أيدي الروم الغزاة.
ثم جاءت معركة ملاذكرد والتي تعتبر من المعارك الفاصلة في تاريخ الصراع الصليبي مع المسلمين السلاجقة. انهزم فيها الروم ـ والحمد لله ـ هزيمة ساحقة حتى امتلأت الأرض في آسيا الصغرى بجثث القتلى، وأُسر الإمبراطور نفسه على يد القائد المسلم "ألب أرسلان" وكان الإمبراطور قد رفض مهادنة المسلمين، وسار بجيوش جرارة يعاونه كثير من النصارى الأوربيين، الذين وفدوا على بيزنطة ليساعدها في غزوها للمسلمين.
وتذكر المراجع التاريخية أنهم كانوا يحملون الصليب رمزاً لحربهم المقدس.(3/260)
ومنذ أن وقعت الكارثة على النصارى في معركة ملاذكرد صاروا لا ينقطعون عن طلب النجدة العاجلة من البابوية ضد السلاجقة المسلمين، وكانت هذه الصيحات من جملة أسباب توجه النصارى الصليبيين إلى بلدان المسلمين، والتي عرفت فيما بعد بالحروب الصليبية الشهيرة. هذه الحروب التي استمرت مائتي سنة وكانت الحملات فيها تتوالى من الغرب الصليبي كالأمواج المتلاطمة واشترك فيها ملوك وأمراء أوربا وكان الصليب فيها شعارهم، واشتركت أقطار أوربا كلها القريب منها والبعيد، فكانت تمد الغزاة بالمقاتلين والسلاح والإمدادات طوال قرنين كاملين. فكانت عدواناً صارخاً حاقداً ليس له نظير في تاريخ الحروب العالمية إذ خلفت الخراب والدمار وكانت سِمتها المجازر الوحشية، مما يعتبر وصمة عار في تاريخ العالم النصراني.
جاءت بعدها حرب الإبادة في الأندلس ضمن سلسلة الصراع بين المسلمين والنصارى، هذه الأندلس درة الحضارة الإسلامية في أوربا خلال 800 سنة تعبث فيها أيدي الحاقدين من النصارى وتقضي على معالمها الزاهرة وأبنائها المسلمين، فتصبح أثراً بعد عين.
الأندلس التي كانت تتعالى فيها تراتيل المؤذنين أمست نواقيس الكنائس فيها تصم الآذان، حتى لا تسمع للتوحيد صوتاً في تلك الأرض التي أشرقت بنور الإسلام ثمانية قرون، وفي سنوات معدودة لم يبق للإسلام فيها أثر، وأصبحت خبراً يذكر، وليس الخبر كالمعاينة.(3/261)
سقطت الأندلس بعد قرون من البناء والتقدم والازدهار وإشاعة العدل والتسامح مع جميع السكان من ذوي الأديان المختلفة كانت إبادة المسلمين في الأندلس وصمة عار أخرى على النصارى الصليبيين رغم السماحة التي عومل فيها النصارى من أهل أسبانيا طوال قرون خلت، إذ سمح المسلمون لهم أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيّن لهم حكام للأقاليم من أنفسهم، فتأمل في هذه المعاملة وبين ما فعله النصارى بمسلمي الأندلس حيث وصف الحال الشاعر أبو البقاء الرندي هذه المأساة في قصيدته المشهورة حيث يقول فيها:
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف……كما بكى لفراق الإلف هيمان
حيث المساجد قد صارت كنائس ما……فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة……حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد……إن كان في القلب إسلام وإيمان
أيها المسلمون، أوقع العثمانيون أيضاً هزائم عديدة لنصارى أوربا، كان من أهمها هزيمتهم في كوسوفو عام 1389م، حيث أحرز العثمانيون نصراً مؤزراً على جيوش النصارى التي بلغت أكثر من مائة ألف، فقتل منهم الكثير، وأسروا وغرق آلاف منهم في نهر الدانوب، وكان البابا هو الذي أمر بهذه الحملة ضد المسلمين. بعدها سقطت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، ومنذ ذلك التاريخ وحتى القرن العشرين وقادة أوربا يضعون الخطط للإجهاز على الدولة العثمانية واقتسام تركتها.
تبين للسلطان عبد الحميد حقيقة هذا التآمر الخبيث وقال بمرارة: "للصليب أن يتحد في كل وقت، لكن الهلال يبقى دائماً بمفرده".
وكانت عصبة الأمم وهيئة الأمم كالعروض بحراً بلا ماء، وما وجدت إلا لتُلبس الأعداء حلة قانونية ولتُسوغ الغزو العسكري الاستعماري بتغيير الأسماء، ولا يطيعها إلا عاجز ضعيف. وهذا هو واقع المنظمة الدولية حالياً، فهي ما وجدت أصلاً إلا لتبارك عدوان المعتدين.(3/262)
واستمر القوم يتآمرون ويتعاونون ضمن خطة صليبية مع جمعيات الماسون السرية التي كانت تضم المجرمين من اليهود والصرب واليونان، وهم عماد الثورة التي عزلت السلطان عبد الحميد، وأسقطت الخلافة ليتحكم فيها جماعة الاتحاد والترقي، ومعظم قادتها وأعضائها من يهود الدونمة. ثم تمكن الاستعمار الخبيث من القضاء نهائياً على الخلافة واصطناع الحدود بين أقطارها عن طريق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة عام 1915م، وكان من أبرز شروطها انسحاب الحلفاء من تركيا لصالح صنيعتهم أتاتورك.
جاء بعدها الغزو الصليبي الجديد على بلدان المسلمين في صورة الاستعمار الأوربي. هاجم المستعمرون بلدان المسلمين وهم يحملون أحقاداً صليبية، وإن تسترت بشعارات الانتداب والوصاية وما شابه ذلك. فاستغلوا خيرات بلاد المسلمين من المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام، فلم تسلم دولة إسلامية حتى الباكستان وأندنوسيا من شرورهم، بينما لم تمتد يد المستعمر لأية دولة نصرانية.
فعلى سبيل المثال: استعمرت فرنسا الجزائر وحصل من اضطهاد أهلها ما تقشعر له الأبدان. يقول مؤرخ فرنسي وهو يتحدث عن غنائم الجيش الفرنسي من الجزائر: "وبيعت الغنائم وكان من بينها أساور نساء وهي لا تزال في أيديهن المقطوعة، وأقراط نساء لا تزال تلتصق بها قطع من آذانهن". بمثل هذه الروح الحاقدة استعمر الصليبيون الجدد بلاد المسلمين، وما خرجوا منها حتى تركوا فيها بصماتهم وخلّفوا عملاءهم الذين أكملوا المسيرة الشريرة. فتركوا البلاد مقطعة الأوصال، وقد اصطنعوا بينها الحدود التي ما تزال مشكلاتها قائمة حتى اليوم. وأطلقوا يد المنصّرين وسخروا المستشرقين لبث البلبلة الفكرية والعقدية في ديار المسلمين. ورسموا المناهج لتعليم أبناء المسلمين على الطريقة العلمانية، لإبعادهم عن معطيات دينهم وتراثهم الناصع.(3/263)
أيها المسلمون، وضمن سلسلة الحروب الصليبية، تعاون النصارى مع المغول القدامى ضد المسلمين: فلم يكتف الصليبيون بمهاجمة ديار المسلمين، وإنما تآمروا مع قوى الشر العالمية لاستئصالهم، فتحالفوا مع المغول الوثنيين. ففي القرن الثالث عشر للميلاد ظهرت قوة التتار طاغية مدمرة، فتحالف معهم النصارى ضد المسلمين، وقد هدم المغول مساجد المسلمين وقتلوهم، وحرَصوا على حماية أرواح النصارى وممتلكاتهم وحافظوا على كنائسهم. وأحدثوا مذبحة في بغداد فقتلوا الفقهاء والعلماء كما أعدموا الخليفة، ولم ينج من تلك المجزرة سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى.
أيها المسلمون، ومن صور الحروب الصليبية تعاون أوربا النصرانية مع الصهيونية، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فقد التقت مصلحة الصليبيين مع مصلحة الصهاينة من أجل تمزيق وحدة العالم الإسلامي بغرس النبتة الغريبة المسمى بإسرائيل في فلسطين، لتفصل مصر وشمالي أفريقيا عن بلاد العرب في آسيا، وحتى لا يفكر المسلمون بالعودة إلى مجاهدة الغزاة المستعمرين وطردهم من بلادهم.
لقد احتضنت بريطانيا الحركة الصهيونية منذ بداية القرن العشرين، ووافقت على تسليم فلسطين صافية إلى اليهود، لقد التقت المصالح القومية لبريطانيا مع الخلفية التوراتية لكثير من سكانها النصارى ذوي المنطلقات الأصولية التوراتية في تبني الكيان الصهيوني في فلسطين .
وفعلاً سلمتها بريطانيا لليهود عام 48م بعد أن اطمأنت إلى قوتهم، ومن ثم أسرعت كل من أمريكا وروسيا واعترفتا بدولة إسرائيل، وأخرجوا المسلمين من ديارهم وألقوا بهم لاجئين خارج وطنهم ليعيشوا في الخيام. إنها حرب صليبية.
ومما يدعم الحرب الصليبية دور الولايات المتحدة في حماية إسرائيل: فها هي تستلم حماية إسرائيل وتمدها بالمال والسلاح، وتسخر هيئة الأمم لمصلحة الصهاينة المعتدين.(3/264)
والاتجاه القومي في الولايات المتحدة في العصر الحديث يتلخص في اعتقاد النصارى الإنجيليين التوراتيين بأن أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وسوف تكون عليها المعركة الكبرى الفاصلة، وأنها ستكون معركة نووية تكون نهايتها دمار العالم وانهيار حضارته، ويعتقد هؤلاء أن نهاية المعركة ستكون انتصاراً للنصارى وتدميراً كاملاً للمسلمين.
يؤمن بهذا الوعد المحرّف سبعة من رؤساء الولايات المتحدة الذين جاءوا قبل بوش الأب. ويعتقدون أن أرض فلسطين هي الأرض الموعودة لليهود، وأن الواجب الديني يقتضي تحقيق هذا الوعد، وهو وعد محرف عندنا، ولا شك لأنهم سيكونون من جنود المسيح الدجال، وسوف يقتلهم المسلمون بقيادة عيسى عليه السلام تحقيقاً لا تعليقاً.
أيها المسلمون، ولا تزال الحرب الصليبية مستمرة بلهجة شرسة ليس لها نظير، إلا في مسلسل القوم الإجرامي منذ تخريب بيت المقدس وإراقة الدماء فيه بوحشية. فما أشبه الليلة بالبارحة.
ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية.
أما مذبحة المسجد الإبراهيمي فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ، كل ذلك يتم تحت مظلة النظام العالمي الجديد الذي يغض الطرف عن هذه المجازر وعن مثيلاتها في كشمير والفلبين والصومال وأرتيريا وأفغانستان والشيشان وغيرها.(3/265)
وأما ما حصل من حرب صليبية في البوسنة فأمر كشف أشياء وأشياء، عن أحقاد القوم، وبانت سوءة الغرب في تلك الحرب التي فاقت وحشية المغول والتتار، فقد عذبوا أئمة المساجد وطالبوهم بالكفر بالإسلام، والإيمان بالنصرانية، وأجبروا كثيراً من المسلمين في مخيمات الأَسْر على أكل لحم الخنزير، وكان الإعدام الجماعي من سمات وحشيتهم، شمل ذلك الرجال والأطفال والنساء، بل كانوا يستنزفون دماء المسلمين لإمداد الصرب الجرحى بالدم المسلم. وكانت جائزة كل صربي يقتل مسلماً ما يعادل 300 جنيه إسترليني. وأما اغتصاب المسلمات العفيفات فأمر يندى له الجبين. وبلغ عدد اللاجئين الهاربين من هذه الوحشية أكثر من مليونين ونصف تلقفتهم الأيدي بين قابل ورافض. ولم يعرف العالم الأوربي لذلك مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية.
إن مسلسل الإجرام الصليبي واحد لا يتغير مع توالي القرون، ومنذ عهد مجازر الحملات الصليبية الأولى، مروراً بمحاكم التفتيش ومجازر البوسنة وانتهاءً بآخر الحروب الصليبية هذه الأيام التي ما زالت في علم الغيب، نسأل الله تعالى أن يكفي بلاد المسلمين شرها.
في بداية حرب البوسنة صرح وزير الإعلام الصربي قائلاً: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة"، وهذه المقولة شبيهة بمقولة سمعها العالم قبل عدة أشهر نطق بها كبيرهم الذي علمهم السحر، فما أشبه الليلة بالبارحة.
قال الرئيس الفرنسي والذي يؤمل منه شيئاً في الحرب الصليبية الحالية عند زيارته لمطار سرايفو: "لن أسمح بقيام دولة أصولية إسلامية في أوربا".
وأما موقف بريطانيا فكما هو واضح الآن فقد كان واضحاً أيضاً في الحرب الصليبية البوسنية فقد قال رئيس وزرائهم: "إن الهدف النهائي لنا هو تقسيم البوسنة ومنع قيام الدولة الإسلامية في أوربا، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نسمح به أبداً".(3/266)
أيها المسلمون، ومع كل هذا الكيد، إلا أن الأمل بالله جل وتعالى كبير في أن تنهار هذه الحملة الصليبية الجديدة كما انهارت الحملات الصليبية السابقة، وما ذلك على الله بعزيز، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
بارك الله ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه..
أما بعد: إن الشبه كبير بين واقع المسلمين المعاصر وما كان يسود بلاد المسلمين خلال فترة الحروب الصليبية، من حيث الغزو الجماعي الصليبي الشرس والاستيطان الظالم المدمر، وتفرق المسلمين وضعفهم وغياب الأسس العقدية الأساسية. ولن تتخطى الأمة محنتها تجاه الصليبيون الجدد إلا بما يلي:
أولاً: رجوع الأمة إلى هويتها الأصيلة وثقافتها المنبثقة عن عقيدتها، وأول هذه الشروط أن يشمل التغيير بنيتنا الفكرية على أن نلتزم بالتربية العقدية، فالمجتمع المفكك الفاقد لثقافته وهويته لا يمكن أن ينتج قوة عسكرية قادرة متماسكة.
ثانياً: نشر الثوابت العقدية بين الأمة، والتي لا مساومة عليها، من بغض الكفار وكفر اليهود والنصارى وتأصيل عداوتهم ومحاربتهم لنا، والحب في الله والبغض في الله، ينشر هذا عن طريق الشريط والكتيب والمطوية وكلمات المساجد وخطب الجمعة.
ثالثاً: نشر العلم الشرعي: عن طريق المدارس والمساجد والبيوت لأن هذا العلم هو الذي يحفظ للأمة أجيالها، فلا بد من وضع المناهج الكفيلة بتحقيق هذه الغاية والبعد عن كل ما يشوش على الناشئة تصورهم، وإحباط المناهج العلمانية التي سادت معظم ديار المسلمين والتي ورثناها عن المستعمرين ومخططاتهم الخبيثة.(3/267)
رابعاً: إقامة الوحدة الإسلامية: وهذا مطلب شرعي وهدف عظيم حققه الإسلام منذ فجر الدعوة وصرنا أمة واحدة قوية متآلفة، هذا المكسب يجب المحافظة عليه وتجديده بكل وسيلة. وفي العصر الحديث قامت عدة محاولات للوحدة بين بعض الأقطار على غير رابطة الدين والعقيدة، فباءت بالخسران والفشل لأنها قامت على روابط قومية علمانية أو يسارية شيوعية، وكل تلك الروابط لا تجسد إرادة الأمة المسلمة ولا تمثل عقيدتها.
خامساً: التربية الجهادية: الجهاد ذروة سنام الإسلام وعموده، به يعز الله المسلمين ويذل الكافرين، فما تَرك الجهاد قوم إلا أذلهم الله وعمهم البلاء. بالجهاد انتشرت الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بعد إزالة الطواغيت وتصفيتهم. بالجهاد دب الرعب في قلوب المشركين منذ فجر الإسلام، وزُلزل اليهود والنصارى، فهَرعوا لمحاربة الروح الجهادية في نفوس أبناء هذه الأمة بالمكر والكيد عن طريق المبشرين والمستشرقين وأذنابهم من العلمانيين. قال أحد المستشرقين: "إن أوربا لا تستطيع أن تنسى ذلك الفزع الذي ظلت تحس به عدة قرون والإسلام يجتاح الإمبراطورية الرومانية من الشرق والغرب والجنوب". وقال آخر محذراً قومه من عودة الجهاد إلى نفوس المسلمين: "إن الشعلة التي أوقدها محمد ـ ونحن نقول: صلى الله عليه وسلم ـ في قلوب أتباعه لهي شعلة غير قابلة للانطفاء". من أجل ذلك جنّد العدو أشياعه من العلمانيين ودعاة التغريب لطمس روح الجهاد الذي لا يمكن لهم طمسه مهما أوتوا من حيلة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
=============
لا مكان للإحباط حتى بعد سقوط بغداد ثانية (1)
هيثم جواد الحداد
لندن
المنتدى الإسلامي
الخطبة الأولى
__________
(1) - مو موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4111)(3/268)
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:196-198].
الله أكبر، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ما أعظم هذه الخطوب التي نعيشها، الله أكبر ما أفدحَ هذه المصائب التي نكابدها، أحزان وغموم، قهر وذل، ألم يقطع نياط القلوب تقطيعًا، وهّم يفتت كبد الحُرِّ تفتيتًا.
حال مهين ووضع مزرٍ، رحماك ربناك رحماك.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها.
هل شهد التاريخ مثل هذا؟ هل سطر تاريخنا صفحات من بؤس كتلك التي نعيشها؟
نعم سطر وسطر، بل سطر ما هو أشد من هذا، كتب التاريخ يومًا فظائع حلت بهذه الأمة، لم تحل قبلها، ولن تحل بعدها، ومن الغريب أن هذه الفظائع حلت بنفس البلد الذي ننعى فيه اليوم مصابنا، ونحتسب فيه مصيبتنا.
يا مسلمون قوافي الشعر لو جمعت …في ألف ملحمةٍ لن ينطفي لهفي
لن تُعذروا من قرى بغداد إذ نكبت …لن تعذروا من ربا كركوك والنجفِ
لن تعذروا من سهول الفاو إذ سقطت …وقد شغلتم بجمع المال والتحفِ
في أم قصرٍ دماء العز قد سفكت …وأنتم في نعيمٍ وارفِ الترفِ
يا مسلمون ألا فاحموا عقيدتكم …وسطروا نخوة الإسلام في صحفي
سيهزم الجمع يا بغداد فاصطبري …إن يصرف الله عنك السوء ينصرفِ(3/269)
يصف ابن الأثير تلك الفترة العصيبة التي مرت بها الأمة في ذلك الوقت، والتي تشبه حال أمتنا في هذه الأيام فيقول: "ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب، لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، ومنها: خروج الفرنج لعنهم الله من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، حتى أشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها، لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم.
ومنها: أن الذي سلم من هاتين الطائفتين ـ أي التتر والفرنج ـ فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، فإنا لله وإنا إليه راجعون. نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصرًا من عنده، فإن الناصر والمعين والذاب عن الإسلام معدوم، وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال" انتهى كلام ابن الأثير.
في تلك الحقبة من التاريخ، والتي ابتدأت مع ولوج القرن السابع الهجري، كان حال المسلمين من التشرذم والضياع شبيهًا إلى درجة كبيرة بحال الأمة الإسلامية في هذه الأيام، ولهذا حل بها من الفظائع ما يحل بنا في هذه الأيام.(3/270)
أيها المؤمنون، ثم يصف المؤرخ ابن الأثير في كتابه: الكامل، خروج التتر سنة سبع عشرة وستمائة على بلاد المسلمين، بوصف مؤثر يصور حجم المأساة، ويصف عمق المصيبة، وفداحة الخطب، وتأمل ـ أيها السامع ـ وانظر إلى هذا الكلام، وكأن ابن الأثير يصف حال بلاد المسلمين في هذه الأيام، وتسلط هذه الدولة الظالمة على رقابهم، قال رحمه الله: "لقد بقيت عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فياليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا، فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى، التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمت الخلائق وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم إلى الآن، لم يبتلوا بمثلها لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بختنصر ببني إسرائيل، من القتل وتخريب لبيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعينُ من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة، إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح".(3/271)
ثم يصفهم قائلاً: "وأما ديانتهم فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئًا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب حتى الكلاب والخنازير وغيرها، ولا يعرفون نكاحًا، بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه..." انتهى كلام ابن الأثير.
أيها المؤمنون، هذا وصف ابن الأثير لهؤلاء التتر، ولم يكن قد رأى ما فعلوه عندما اجتاحوا بغداد وأسقطوا الخلافة العباسية، وقتلوا الخليفة، لكن ابن كثير الذي عاش بعد تلك الفترة وصف اجتياح تلك القوى الهمجية بلاد المسلمين، واحتلالهم لعاصمة الخلافة بغداد فيقول: "وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة. فإنا لله وإنا إليه راجعون".
ثم يقول: "وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينج منهم أحد سوى أهلِ الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الشيعي الرافضي"، ثم يقول ابن كثير: "وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس. فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
ثم يقول رحمه الله: "وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين، وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن، وأسر ولده الأصغر مبارك، وأسرت أخواته الثلاث، وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل. والله أعلم. فإنا لله وإنا إليه راجعون".(3/272)
ثم قال ويا لهول ما قال: "وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس، فيخرج بأولاده ونسائه فيُذهب به إلى المقبرة، فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجُمُعات مدة شهور ببغداد.
وأراد الوزير ابن العلقمي ـ قبحه الله ولعنه، وكان شيعيًا جلدًا رافضيًا خبيثًا ـ أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد، ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض، وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم بها، فلم يقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعمته عنه، وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة، وأتبعه بولده فاجتمعا ـ والله أعلم ـ بالدرك الأسفل من النار. نسأل الله أن تكون هذه عاقبته، وعاقبة أحفاده من الشيعة الرافضة الذين خانوا المسلمين، ووالوا أعداء الدين، وسلموا البلاد طواعية للمعتدين".
ثم يقول ابن كثير: "ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يومًا، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات، كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جِيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء، والوباء، والفناء، والطعن والطاعون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودى ببغداد بالأمان، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقُنِيّ والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضًا، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى".
لسائل الدمع عن بغداد أخبار …فما وقوفك والأحباب قد ساروا
علا الصليب على أعلى منابرها ……وقام بالأمر من يحويه زنار(3/273)
هذا الذي جرى ـ أيها المؤمنون ـ في ذلك الحدث الجلل، وما أشبه الليلة بالبارحة!
في البارحة جاءت هذه الجحافل للاستيلاء على بلاد المسلمين، بعدما آنست منهم ضعفًا وخورًا، وجبنًا عن الجهاد، وبذل النفوس والمهج من أجل إعلاء كلمة الله، فاحتلت ذلك البلد المسلم، وأعملت فيه السفك والنهب والخراب.
واليوم أقبلت هذه الجيوش الجرارة، بقضها وقضيضها لاحتلال بلد من بلاد المسلمين، بعد أن علمت علم اليقين أن المسلمين أولوا زمامهم لمن خان الله ورسوله، فنكس رايات الجهاد، وعطل الأمر بالمعروف، ونشر الرذيلة، وأباح الفسوق.
بغداد يا صرح الحضارة في الورى ……فلتسلمي والخائنون لك الفدا
بغداد يا دار الرشيد تجلدي …لا هنت بل هان العميل ومن غدا
نعلاً لأمريكا وشرطيًا لها …متذللين وبعضهم صاروا يدا
يتسابقون لنصرها حتى غدا …رمز الجهاد مطاردًا ومشردًا
فلقد ذكرت أبا رغال بفعلهم …والعلقميّ أراه عاد مجددا
في البارحة سجل التاريخ مواقف الخزي، التي سودت صفحات تلك الحقبة، يوم أن حفظ أن رجالات من المسلمين ذبحوا كما تذبح النعاج، دون أن يصدر منهم أي مقاومة للمعتدي المحتل، وأن نساءهم أخذن سبايا يلعب بهن علوج التتر، ويهتكون أعراضهن.
واليوم يسجل التاريخ وقد امتلأ كرهًا لما سجل في صحائفه، أن أشباه الرجال من المسلمين قاموا إلى علوج أهل الصليب، يباركون لهم هذه الفعلة، ويقبلون وجوههم ويبادؤونهم بالورود.
في البارحة سقطت بغداد، ونحر المسلمون في أزقتها، ليتلذذ بتلك المشاهد الوزير ابن العلقمي الرافضي الخبيث، في خيانة وقحة، سجلها التاريخ بمداد من دم، وأحرف من ظلام، وكلمات من بؤس.
واليوم سقطت بغداد وذبح المسلمون على أبوابها، ليرشف الرافضة كؤوسًا من دماء أهل السنة هناك، فيشعروا بنشوة السُّكر، التي أعمت بصائرهم عن عقاب رب شديد العقاب.(3/274)
يا عباد الله، يا أمة الإسلام، كفانا بكاءا على موتانا، كفانا نحيبًا على ما جرى، هل انتهى كل شيء؟ هل أسقط في أيدينا؟ هل دارت الدائرة علينا؟ هل أشرفت هذه الأمة على الهلاك؟ أيتركنا التاريخ ويمضي؟ هل نستسلم حتى تذبح الأمة من الوريد إلى الوريد؟ هل نحني رقابنا؟ هل ننكس رؤوسنا؟ هل نجر خيبة ذلنا؟ هل نستمرئ عارنا؟ لا، لا، وألف لا.
أسمعتم يا مسلمون؟! أسمعتم يا مسلمون؟! أسمعت أيها العالم؟! أسمعتم أيها العلوج؟! أسمعتم يا عباد الصليب؟! أسمعتم أيها المجرمون؟! أقولها لا، لا، وألف لا. لن أركع أبدًا لن أركع، إن سلبوا أرضي لن أركع، إن هدموا بيتي لن أركع، إن قتلوا طفلي لن أركع، إن سفكوا دمي لن أركع، لن أركع أبدًا لن أركع.
سأحمل روحي على راحتي …وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق …وإما ممات يغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان …ورود المنايا ونيل المنى
وما العيشُ ـ لا عِشْتُ ـ إن لم أكن …مخوف الجناب حرام الحِمَى
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
استغفروا ربكم يا عباد الله...
الخطبة الثانية
الحمد لله بيده الخير والشر، وعنده النفع والضر، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون، فلو إن إنسانًا عاش تلك الفترة، لظن أن تاريخ المسلمين قد انتهى، وأن نجمهم أفل، وأن شمس المشرق غربت بلا رجعة، محنة عظيمة مرت بهم، سقطت خلافتهم التي هي رمز وجودهم، وعنوان عزتهم، قتل آلاف مؤلفة من أبنائهم، ودمرتهم مدائنهم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(3/275)
ثم ماذا؟ ما هي إلا سنتين اثنتين فقط ويفيق المسلمون من غفلتهم، وتنهض عزائمهم، وتثور حميتهم، فتدور رحى معركة طاحنة بين المسلمين وبين من؟ بين هؤلاء الوحوش الضارية التي أكلت الأخضر واليابس في بغداد، ليهزمهم المسلمون هزيمة ساحقة، ويكسروا شكوتهم إلى أبد الآباد، فلم تقم لهم بعد ذلك قائمة البتة، إلا ما كان من مناوشات صغيرة، هزموا كذلك على إثرها، هزمهم المسلمون في معركة عين جالوت سنة ثمان وخمسين بعد المائة السادسة، بقيادة القائد المظفر قطز رحمه الله، ورحم من مات معه من المسلمين، ولعل الله ييسر لنا خطبة عن هذه المعركة التي أنارت وجه التاريخ، ولمعت في ثنايا المجد.
ملكنا هذه الدنيا القرونا …وأتبعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضياء …فما نسي الزمان وما نسينا
عباد الله، إن مما يؤسف له أن كثيرًا من المسلمين الآن يرون ما يحيق بالمسلمين، ها هي ثلاث دول مسلمة محتلة احتلالاً عسكريًا، فلدينا فلسطين المحتلة، ثم أفغانستان المحتلة، وفي قلبنا وبين جوانحنا العراق المحتل، ناهيك عن الاحتلال المعنوي والثقافي الذي تعاني منه كل بلاد المسلمين.
كثير من المسلمين ـ أيها الإخوة ـ أصيب بالإحباط وأسقط في يده، حتى كأنه يرى أنها نهاية العالم، لقد اختزلوا تاريخ العالم الإسلامي كله، ومجده كله، وعزه كله، في سنوات عجاف تمر بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام نتيجة لما كسبت أيدينا.
ارجعوا إلى التاريخ أيها المسلمون، واستقرؤوا التاريخ، كم من السنين حكمنا العالم؟ وكم من السنين حكم أعداؤنا العالم؟ خلافة راشدة، ثم دولة أموية، يتلوها دولة عباسية حتى منتصف القرن السابع الهجري ثم مرت بنا مراحل ضعف، لكن سرعان ما قام المارد، وأنشأ دولة حكمت المشرق والمغرب على يد العثمانيين، حتى سقطت الخلافة العثمانية سنة 1917 هـ، أي قبل أقل من مائة سنة فقط.(3/276)
اعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن هذه الدول التي أمسكت بزمام العالم الآن، إنما هي أورام سرطانية خبيثة، لن يكتب لها البقاء، فلا تملك من مقومات البقاء إلا ضعف هذه الأمة، فإذا ما قويت هذه الأمة فلن يكون لأمة غيرها غلبة ولا منعة.
أيها المؤمنون، لنعلم جميعًا وليعلم العالم كله أن النصر لنا مهما طالت الهزيمة، وأن الفجر آت مهما امتد الظلام.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:139-142].
==============
أعياد الكفار (1)
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/6/1413
النور
الخطبة الأولى
أما بعد: سيشهد العالم بعد أيام معدودات نهاية عام ميلادي ودخول عام جديد، وكما لا يخفى على الجميع أنه سيصحب ذلك مناسبتان أو عيدان من أعياد النصارى كما هو مقرر في دينهم المحرف الفاسد.
وخلال هذه الأيام تجد هناك التجهيزات والاستعدادات من قبل النصارى لاستقبال هذه المناسبة، سواء كانت في دولهم وبلادهم أو كانت في المجتمعات والأوساط التي يعيشون ويتجمعون فيها خارج بلادهم.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 3310)(3/277)
ولما كان هناك أمران: الأول: جهل كثير من المسلمين بحقيقة هذه الأعياد وجهلهم بعقيدة النصارى كذلك، والثاني: دخول بعض المسلمين إما جهلاً وإما قصدًا معهم في أعيادهم، إما مشاركة أو رضًا أو دنيًا من خلال البيع والشراء والاستئجار أو تهنئةً أو غيرها من صور المشاركات كان لا بد من كلمة بهذا الصدد توضيحًا للحق.
لقد احتار النصارى أنفسهم في أمر عيسى عليه السلام؛ فمنهم من قال: إنه هو الله، ومنه من قال: إنه ابن الله، وقائل: إنه ثالث ثلاثة، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وإذا كان نصارى اليوم قد نسبوا إلى عيسى عليه السلام القول بألوهيته أو بنوته لله تبارك وتعالى، فإن عيسى عليه السلام سوف يكذبهم ويفضحهم على ملأ من الأشهاد يوم القيامة، حيث يقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:116، 117].(3/278)
إن الذين يؤلهون عيسى عليهم السلام أو الذين يدّعون له نبوة لله تبارك وتعالى حاشاه عز وجل أو يقولون: إن الله ثالث ثلاثة أولئك هم الكفار الفجار الضلال الذين يجب علينا نحن هذه الأمة أمة التوحيد أن نبرأ منهم ومن قولهم، قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:73-75].
أيها المسلمون، وبعد بيان كفر هؤلاء القوم المنتسبين إلى نبي الله عيسى عليه السلام زورًا وبهتانا، وبعد وضوح ضلالهم وكفرهم وشركهم بنص كتاب الله عز وجل، ماذا يكون شأن عيدهم؟ لا شك أنه عيد شرك وكفر وضلال، والذي يدلكم على كفر هذا العيد وفساده ما يحصل فيه من منكرات كفرية بدعية واضحة، فمن ذلك أن كل واحدٍ منهم يحضر طبقًا من الطعام ويضعونه بعد ذلك على مائدة طويلة، ثم تزاح جميع الأغطية عن تلك الأطعمة لمدة من الزمن تستغرق ساعة أو أقل أو أكثر، فلماذا يزيحون تلك الأغطية عن تلك الأطعمة التي يُحضرونها؟ يقولون: حتى يباركها الرب، ومن هو الرب عندهم؟ هو المسيح عليه السلام، يأتي ليبارك لهم طعامهم ذلك في تلك المناسبة الكفرية، ثم بعد ذلك يأكلون من تلك اللقمة المقدسة بزعمهم.(3/279)
ومن المنكرات التي تحصل في هذه الأعياد الكفرية ـ وهذا يحصل في عيد رأس السنة الميلادية ـ أنهم يملؤون كؤوس الخمر ليلة رأس السنة، ويبلغ الانحلال أقصاه ـ كما يقولون ـ في ساعة الصفر، وهي الساعة الثانية عشرة ليلاً، حيث تطفأ الأنوار في تلك الساعة، ليتمكن شياطين الإنس من ممارسة ومقارفة معصية الله تبارك وتعالى، ففي تلك اللحظة يستباح المحظور جهرًا، وتدب رعشات الرذيلة والوقاحة، حقًا إنها ساعة الصفر من العرض والشرف، إنها لحظة الصفر من البناء الخلقي والدين، إنها لحظة الصفر من الرجولة والحياء، فهل هذا عيد يمكن أن ينسب إلى نبي من أنبياء الله؟!
أيها المسلمون، ليس غريبا من النصارى أن يفعلوا مثل هذه الأفعال، فإنه ليس بعد الكفر ذنب، لكن الغريب نورده في هذا السؤال الذي يطرح نفسه.
كلنا يعلم ـ ولله الحمد ـ بأن أنظمة البلاد لا تسمح لهم بإقامة أعيادهم الكفرية، وقد صدرت أنظمة وتعميمات صارمة بهذا الشأن، فكيف يخالف هؤلاء الكفرة تعليمات البلد ونظام الدولة، ويقيمون مثل هذه الأعياد الكفرية في بلد التوحيد؟! وكيف تقام هذه الأعياد الكفرية في بلاد الوحي، ويعلن فيها الشرك علانية، وتدار كؤوس الخمر؟! وكيف تسمح بعض الشركات لنفسها بأن تخالف توجيهات بلاد الحرمين، وتحتفل بعيد ميلاد المسيح كل عام؟!(3/280)
إنها ـ والله العظيم ـ لإهانة بالغة لنبي الله عيسى عليه السلام، إضافة إلى الاستخفاف والاستهانة بمشاعر المسلمين، بأن يمارس هؤلاء المحتفلون من الكفرة ألوانًا من المجون وأشكالاً من العربدة في بلادنا. هؤلاء الكفرة في السابق لم يكن أحد منهم يجرؤ على أن يرفع رأسه في بلاد الحرمين فضلاً عن دخوله؛ لأن دخولهم وبقاءهم في الجزيرة أصلاً لا يجوز، ولا بد من إخراجهم من جزيرة العرب بنص حديث رسول الله ، حتى وصل حالهم الآن إلى أن يرفعوا ليس رؤوسهم بل صليبهم، بل تعطي بعض الشركات إجازات رسمية لموظفيها لكي يتفرغوا لإقامة الكفر والسكر والمجون والعربدة. إنا لله وإنا إليه راجعون. تصل الدنية في الدين إلى هذا الحد، ويصل الاستخفاف بالإسلام في بلاد الإسلام وفي بلاد تعتبر هي الحامية للإسلام والمقيمة لشرع الله في نظر الناس إلى هذه الدرجة.
أيها المسلمون، عباد الله، وهنا سؤال آخر أيضًا يفرض نفسه: هل الدول النصرانية تسمح للمسلمين بأن يقيموا أعيادهم ومناسباتهم أو حتى على الأقل تأبه لهم؟! وهل سمعنا عن دولة ما أنها أعطت المسلمين العاملين في بلادهم عطلة رسمية لكي يحتفلوا بأعيادهم ويعبدوا الله عز وجل كما يريدون؟! هناك بعض الدول الكافرة يبلغ فيها نسبة المسلمين أكثر من 20 في المائة، ومع ذلك لا يعطون أية فرصة لرفع شعار دينهم، ونحن هنا في بلد التوحيد نقرهم على الكفر والبدعة، فلماذا نكرمهم وهم يهينوننا؟! ولماذا نقدرهم وهم يسخرون بنا؟! لماذا نمكن لهم في بلادنا وهم يحاربوننا؟!(3/281)
إن مثل هذه المعادلة لا يشعر المسلم معها بالعزة والكرامة، بل يشعر بالذلة والمهانة، ومع كل أسف فإننا نسمع من أبناء هذه البلاد من ينفق بدعوى التسامح، وأن هذا من باب التسامح معهم، والإسلام دين السماحة. إن التسامح ـ أيها الإخوة ـ لا يكون من الأضعف المقلّد إلى القويّ المبتدع، كما أن الأعياد الدينية النصرانية الكافرة ليست من أبواب التسامح مع الكفار في شيء. فنسأل الله عز وجل أن يبصرنا في ديننا، وأن يوفق المسؤولين لمنعهم في هذا العام، وأن تعاقب كل من يخالف نظامًا أو قانونًا صادرًا من هذا البلد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
أما بعد: إن حرص النصارى على إقامة هذه الأعياد الكفرية يعتبر جزءًا من عقيدتهم، لذا فلا تستغرب حرصهم على إقامتها، بل بذل كل ما في وسعهم لإزالة العقبات التي قد تحول بينهم وبين إقامتها، فهم لا يستغرب منهم أي عمل، فكما قلت بأنه ليس بعد الكفر ذنب، لكن مصيبتنا نحن المسلمين في بعض المسلمين، المصيبة هي مشاركة بعض المسلمين لهؤلاء النصارى في هذه الأعياد الكفرية، وهذه المشاركة أخذت صورًا عدة في زماننا هذا، فمن المسلمين من يشاركهم في حضورها ويحتفل معهم وكأنه ـ والعياذ بالله ـ واحد منهم، تجده يلهو ويلعب ويضحك بملء فمه معهم، فكيف يرضى مسلم لنفسه أن يقع في مثل هذه الأمور؟! كيف يرضى مسلم لنفسه أن يلوث عقيدته الصافية النقية ـ عقيدة لا إله إلا الله ـ بعقيدة النصارى الذين يدّعون بأن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرا؟!(3/282)
إن مشاركة المسلم الكفار النصارى بهذا الشكل ـ أيها الإخوة ـ ليست مسألة إثم ومعصية، وليست مسألة خطأ وزلة، لكنها قد تكون مسألة إيمان وكفر، وقد قال رسول الله : ((من تشبه بقوم فهو منهم))، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أقل أحوال هذا الحديث أن يكون منهم، أي: كافرًا مثلهم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]"، فأيّ منكر أعظم ـ أخي المسلم ـ أن تشارك النصارى في أعيادهم الكفرية؟! وبأي وجه تريد أن تلقى رسول الله غدًا يوم القيامة وقد خالفت سنته وفعلت فعل القوم الكافرين الضالين أعداء الدين؟!
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه وتعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر".
صورة أخرى من صور المشاركة: التهنئة؛ وذلك بأن يهنئ المسلم بعض الكفار على أعيادهم، وهذا يقع فيه الكثير من موظفي الشركات التي يعمل فيها عدد كبير من النصارى، فإنك لتسمع تبادل التهاني، بل ربما يصل الأمر إلى إرسال بعض المسلمين بطاقات التهنئة لبعض الكفار بمناسبة أعيادهم.(3/283)
وهذا ـ يا عباد الله ـ منكر عظيم وحرام كبير، قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابه الفذ: أحكام أهل الذمة، قال رحمه الله: "أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنئهم بأعيادهم، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه" انتهى كلامه رحمه الله.
ومن صور المشاركة أن نبيع عليهم كل ما يستعينون به على إقامة شعائر دينهم وأعيادهم، وهذا لا يجوز، وبيعهم هذه الأشياء حرام، فلا يجوز أن يباع لهم أي شيء يستعينون به على إقامة كفرهم وضلالهم وشعائرهم الدينية، فالذي يستورد لهم شجرة الميلاد والذي يبيع لهم أنوار الزينة والذي يبيع لهم بطاقات المعايدة والتهنئة والذي يؤجر لهم الفنادق أو المسارح أو الأحياء المغلقة أو المجمعات السكنية ليقيموا فيها حفلات الميلاد فعمله هذا حرام، وماله الذي يجنيه من ذلك سحت، وأي لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولا يجوز بيع كل ما يستعينون به على إقامة شعائر دينهم".
فاتقوا الله عباد الله، كيف نرفعهم وقد أذلهم الله؟! كيف نكرمهم وقد أهانهم الله؟! كيف نتعاون معهم ونهنئهم وقد توعدهم الله؟!(3/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين...
=============
نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم (1)
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
4/7/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
الخطبة الأولى
لقد كان العرب قبل الإسلام في جاهلية جَهْلاء وظلام مُطْبِق، قبائلَ متفرّقة تعيش على رعي الأغنام، وتتبع مَواقِع القَطْر، يعبدون الأصنام، ويأكلون المَيْتات، ويشربون الخمور، ويقترفون الفواحش، ويَئدُون البنات، ويُسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويأكل القوي الضعيف، حياتهم قتال وتناحر وفرقة واختلاف، تستعر نار الحرب لأتفه الأسباب، وتبقى جَذْوتُها مشتعلة سنين عدَدًا.
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4456)(3/285)
ثم أَذِن الله لليل أن ينجلي وللصبح أن يَنْبَلِج وللظلمة أن تَنْقَشِع وللنور أن يُشَعْشِع، حيث أرسل الله رحمةً للعالمين أفضل البرية وأشرف البشرية الرسول الكريم والصادق الأمين والرؤوف الرحيم بالمؤمنين محمدًا، صلى الله عليه وسلم ما هطلت الأمطار وأورقت الأشجار وأظلم الليل وأسفر النهار، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، كان ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه رحمة من الله للأنام ورسول الهدى والسلام والحامل الأول لراية الإسلام، أخرج الله به العباد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:2، 3].(3/286)
سيد ولد آدم، وأفضل الخليقة على الإطلاق، أحبّه الله واصطفاه، واختاره واجتباه، جمع له بين الخلّة والتكليم، وجعله أكثر الأنبياء أتباعًا، وأعلاهم قدرًا ومقامًا، وأخذ على النبيين الميثاق لئن بُعِث ليؤمِنُنّ به: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، وبشّرَ به في الكتب المنزّلة: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].(3/287)
شرح الله له صدره، ووسّعه وهيّأه لتقبل شرع الله وقدره، فكان أخشى الخلق لله، وأتقاهم له، وأكرمه بالصبر والحلم؛ فكان يعفو عمن ظلمه، ويقابل السيئة بالحسنة، ووضع عنه وزره، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ورفع له ذكره، فلا يدخل أحد الدين إلا بشهادتَي التوحيد والرسالة مقرونتين لا تنفكّان: توحيد الله بالعبودية والرسالة لمحمد ، ولا تولج الجنة إلا من طريقه، وقرن اسمه باسمه يُرفعان للنداء بالصلاة، فتردّد جَنَبات الأرض ذَيْنك الاسمين وتَيْنك الشهادتين، ولا يؤمن أحد حتى يكون محمد أحبّ إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين.
بلغ في الدنيا يوم المعراج مبلغًا ما بلغه إنس ولا جن ولا ملك، وخصّه الله بالمقام المحمود يوم القيامة الذي تحمده عليه كل الخلائق، وأعطاه الوسيلة في الجنة، وهي منزلة لا تنبغي إلا له.
أكرم الله به هذه الأمة فخصها بأفضل الكتب وخير الشرائع، وجعلها خير الأمم. جاء إلى رعاة الغنم فجعلهم بفضل الله سادة الأمم، فتح قلوبهم قبل بلادهم، فما رآه أحد إلا أحبّه وغضّ الطرف عنه إجلالاً ومهابة وإكبارًا.
أرسله الله شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
شَهْمٌ تُشِيد به الدنيا برُمّتها…على الْمنائر من عُرْب ومن عَجَمِ
أحيا بك الله أرواحًا قد اندثرت…فِي تربة الوهم بين الكأس والصنمِ
نفضت عنها غبار الذلّ فاتّقدت…وأبدعت وروت ما قلتَ للأممِ
ربّيت جيلاً أبيًّا مؤمنًا يَقِظًا…حسوا شريعتك الغَرّاء فِي نَهَمِ
فمَن أبو بكر قبل الوحي مَن عمر…ومَن علي ومَن عثمان ذو الرحمِ
مَن خالد مَن صلاح الدين قبلك مَن…مالك ومَن النعمان فِي القممِ
مَن البخاري ومَن أهل الصِّحاح ومَن…سفيان والشافعي الشَّهْم ذو الحِكَمِ
مَن ابن حنبل فينا وابن تيمية…بل الملايين أهل الفضل والشَّمَمِ
مِن نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا…أنت الإمام لأهل الفضل كلهم(3/288)
أيها المسلمون، تلك بعض شمائل هذا النبي الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ما ترك باب خير إلا دلّ الأمّة عليه، ولا باب شرّ إلا حذّرها منه.
بل لقد شهد له حتى أعداء دينه وملته، يقول العالم الفرنسي ساديو لويس: "لم يكن محمد نبي العرب بالرجل البشير للعرب فحسب، بل للعالم لو أنصفه الناس؛ لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب، وأنّ تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم في دينه، عظيم في أخلاقه، عظيم في صفاته، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين".
ويقول الإنجليزي إدوارد لين: "إن محمدًا كان يتّصف بكثير من الخصال الحميدة، كاللُّطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثّر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، كيف لا وقد احتمل محمد عِدَاء أهله وعشيرته بصبر وجَلَد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نُبْله أنه لم يكن يسحب يده من يد من يصافحه، حتى ولو كان يصافح طفلاً، وأنه لم يمرّ يوم من الأيام بجماعة رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يُقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة".
ويقول العالم الفرنسي لوزان: "رسول كهذا الرسول يُجْدر باتّباع رسالته، والمبادرة إلى اعتناق دعوته، إذ إنها دعوة شريفة، قوامها معرفة الخالق، والحث على الخير، والردْع عن المنكر، بل كل ما جاء به يرمي إلى الصلاح والإصلاح، والصلاح أنشودة المؤمن، هذا هو الدين الذي أدعو إليه جميع النصارى".
ويقول الإيطالي إماري: "لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكون دينًا لكل الأمم؛ لأنه دين كمال ورقي، دين دَعَة وثقافة، دين رعاية وعناية".
ويقول الألماني كارل بيكر: "لقد أخطأ من قال: إن نبي العرب دَجّال أو ساحر؛ لأنه لم يفهم مبدأه السامي، إن محمدًا جدير بالتقدير، ومبدؤه حريّ بالاتباع، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم، وإن محمدًا خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال".(3/289)
ومع كل تلك الشهادات التي أغنى الله بها نبيه بمدحه في ذلكم الوصف العظيم الذي تضمنه القرآن تلك المعجزة الخالدة إلى يوم الدين: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، مع كل هذا فإن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم يسلم من الأذى والشتم والتنقص منذ أن بعثه الله بالهدى ودين الحق.
ألم يوصف بالجنون والسحر والكهانة والشعر؟! ألم يوضع على ظهره سَلى الجَزُور؟! ألم يكونوا يغمزونه ويهمزونه ويلمزونه؟! ألم يوصف بأنه أبتر لا يبقى له ولد ولا ذِكْر؟! ألم يلاحقه السفهاء من أهل الطائف فأدموا عَقِبَه الشريف؟! ألم يُشجّ وجهه يوم أحد وتُكسَر رَبَاعيته؟!
لكن سنة الله هي حفظه لنبيه وخذلان من تعرّض له، يقول الله جل شأنه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر [الكوثر:3]، وقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، وقال جلّ شأنه: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137]، وقال عزّ من قائل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وقال سبحانه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله عند هذه الآية: "وهذا وعد من الله لرسوله أن لا يضرّه المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل تعالى، فإنه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة" اهـ.(3/290)
ولا يزال مسلسل الفِرَى والأكاذيب والدعاوى والأباطيل وتلفيق التهم بجناب النبي ، والذي بدأه كفّار قريش ومشركو العرب لإطفاء نور الله والصدّ عن سبيل الله متصلاً بصنيع أحفادهم وسُلالاتهم الكافرة، حيث يطلقون كل يوم تهمة يلصقونها في حق نبينا وإمامنا محمد ؛ مستغلّين بذلك حرب الأحزاب الكافرة على الإسلام المتخفية بلباس الحرب على الإرهاب، فيحاولون الهجوم على شخص نبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، ويصفونه بأنه متوحّش وسفّاح يحب قطع الرؤوس وإراقة الدماء، وما إلى ذلك مما نبرأ منه إلى الله، ونُنَزّه عنه جَنَاب نبينا ، ونقول بملء أفواهنا لنسمع الكون كله: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
هل يُعقل أن يكون النبي متوحّشًا سفّاحًا وهو الذي يقبل بصلح الحديبية على ما كان يظهر من بنوده من الضعف والهزيمة؟! وهل يُعقل أنه مَصّاص للدماء وهو الذي دخل مكة فاتحًا، وهي التي طرده منها أهلها، ثم لا يأمر بقتالهم إلا من قاتل منهم؟! وهل يُعقل أنه يُغذّي الإرهاب بفكره ودعوته وهو الذي كان يوصي بعوثه وسراياه بالدعوة أولاً، ثم الجزية، ثم بقتال المقاتلة وأن لا يتعرّضوا للنساء ولا للصبيان ولا للشيوخ؟!(3/291)
ويسعى أعداء الله النصارى في الصدّ عن سبيل الله فيطلقون مؤخّرًا حملتهم الخاسرة: "مليون ضد محمد"، التي يُطبّلون لها، ويُجَيّشون جهودهم وجنودهم لأجلها؛ فقد نشرت صحيفة ألمانية خبر هذه الحملة التي أطلقتها رابطة الرهبان لنشر الإنجيل بدعم مباشر ورعاية من الفاتيكان تحت مرأى ومسمع العالم الإسلامي وغير الإسلامي. والمنظمة المذكورة يعمل بها نحو مليون شخص ليل نهار وفي كل مكان من أجل وقف انتشار الإسلام في العالم بكل قوة، وتشويه صورة النبي محمد ، ونعته بأبشع الصفات. وهي منظمة ذات نفوذ قوي واسع؛ فهي تصرف لمشاريع التنصير سنويًا نصف مليار دولار، وتمتلك المنظمة سلسلة من المرافق المخصصة للخدمة العامة حول العالم، منها ثنتان وأربعون ألف مدرسة، وألف وستمائة مستشفى، وستة آلاف مركز خدمات طبية أولية، وثمانمائة مركز لمساعدة مرضى الالتهاب الكبدي الوَبَائي، واثنا عشر ألف مركز لمساعدة الفقراء والمُعْوِزِين، تُقدّم جميعها خدمات مجانية.
إن هذا المشروع التنصيري الذي ينضَحُ بُغْضًا لسيد الخلق نبينا لَيوضّح كذب المتعصّبين من أهل الملل الأخرى في دعوى التسامح وما يُسمّى حوار الأديان؛ ذلك أن ما يظهرونه خلاف ما يبطنونه، وهو مصداق قول ربّنا جلّ وعلا: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8]، وقال سبحانه: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].(3/292)
ثم إن هذه التوجّهات البغيضة لَتوضّح مدى ضلال النصارى وبعدهم عن هدي المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ذلك أن الأنبياء والرسل كلهم قد جاؤوا بملّة واحدة هي توحيد رب العالمين وإنِ اختلفت شرائعهم، فقد قال الله سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وقد قال إمامهم محمد : ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعَلاّت، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد)) رواه الشيخان واللفظ للبخاري. والواجب على جميع المكلّفين من الجن والإنس أن يعرفوا للأنبياء والرسل قدرهم؛ امتثالاً لأمر مُرسِلهم سبحانه وتعالى، وأن يحذروا من تنقّص أحد منهم أو تكذيبه؛ لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لبقيتهم.
وإنك لتعجب بعد كل هذا من بعض أبناء المسلمين الذين لا يزالون يخطبون ودّ النصارى وحبّهم، وينادون بالتسامح والحوار مع الأديان. نحن نقرّ بأن دينهم سماوي محرّف، ونقر بأن رسولهم رسول كريم من عند الله، بل هو من أولي العزم من الرسل، وأن الإنجيل نزل من عند الله، لكنهم حرّفوه. أما هم فلا يُقرّون بديننا ولا نبينا ولا كتابنا، فكيف نتحاور معهم؟! كيف نجلس سويًا على طاولة واحدة وهم لا يعترفون بنا ولا يروننا شيئًا؟! وصدق الله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَروا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية(3/293)
إن لهذا النبي العظيم علينا حقوقًا، أعظمها الإيمان به واتباعه ومحبته وتوقيره وتَعْزِيره والتمسّك بسنته ولزوم منهجه وطريقته والدفاع عنه وعن دينه وشرعته. قال شيخ الإسلام: "إن تَعْزِيره عليه الصلاة والسلام نصره ومنعه، وتوقيره إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق، بل ذلك أولى درجات التَعْزِير والتوقير، فلا يجوز أن نصالح أهل الذمّة على أن يُسمعونا شتم نبينا ويُظهروا ذلك، فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعْزِير والتوقير، بل الواجب أن نكفّهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق" اهـ.
ولئن كان هناك "مليون ضد محمد" فإننا مليار مع محمد ، وإن الواجب علينا أن نجابه أولئك، ونتولّى الدفاع عنه وبيان صورته الصحيحة بذكر مواقف من سيرته العطرة، وأن نربّي أنفسنا وأبناءنا على ضوء سنته وسيرته ونسير على منهاجها.
وعلى كل واحد منا أن يقدّم ما يستطيع في سبيل الدفاع عن إمامه وقدوته وسيده ونبيه محمد ، ولسان حاله يقول:
فإن أبي ووالده وعِرْضِي…لعِرْض محمدٍ منكم فِدَاءُ
اللهم اجعل حُبّك وحبّ رسولك محمد أحبّ إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا اتباعه، وأكرمنا بشفاعته، وأَوْرِدْنا حوضه، وارزقنا مُرافَقته في الجنة...
=============
أنت أيها الآخر (1)
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
جامع الرائد
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (ج 1 / ص 4928)(3/294)
أيها الأحبة في الله، التواصي بتقوى الله تعني بالضرورة التواصي بلزوم شرعه في القول والعمل، وفي الاعتقاد والسلوك، وفي أعمال القلوب والجوارح؛ فتقوى الله مطهّرٌ يغسل النفوس من درن العصبية ونوازع الهوى، فإذا طَلَبَتِ الحقَّ طَلَبَتهُ بحقِّه الذي هو التجرّد والإنصاف والشعور برقابة علام الغيوب، وستظل النفس كما هي في طبيعتها نزاعةً للهوى ما لم يكن لها دثارٌ من التقوى، ولن ينصف الإنسان نفسَه من غيره حتى ينصف نفسه من نفسه.
ولذا فما أحوجنا إلى التواصي بالتقوى كلما تباحثنا قضية من قضايا الإصلاح أو عرضنا لمشكلة من مشكلاتنا، وكلما تنازعنا مسألة من مسائلنا الخلافية، فإذا كان الحقّ هو طِلبةَ الجميع فلتكن التقوى زاد الجميع.
ولَكَمْ ترى من مُبطلٍ يعاند الحق وهو يراه، ويغالط الحقيقة وهي بيّنة، يُبدي في المسألة رأيه بانتقائية عجيبة، فلا تتهمه في عقله أكثر من اتهامك له في تجرده للحق ولزومه لكلمة التقوى، فلم يؤتَ فيها من قبل عقله، وإنما أُتِيَ من قلة تقواه وورعِه.
ولم يكن عجيبًا من ذي النفس المتخمة بأخلاط الهوى وذي العقلِ الملتاث بلوثة التغريب أن يُناقض دعوتَه بسوء فعالِه، وأن يدعو إلى خلقٍ هو أحوج الناس إليه، وأن يجعل من بعضِنا شاهدًا من شواهد تخلّفنا، وهو لا يشعر أنه هو "الآخَر" شاهد آخر من شواهد تخلفنا، تجلّى تخلفه في أسلوبه في نقد مجتمعه وفي طريقتِه في الإصلاح.
ومما نقمه هذا المبطل على مجتمعاتنا أحاديةُ الرأي ورفضُ "الآخَر" وإقصاؤه، وما نتج عن ذلك من الضِيقِ بالخلاف وسوء الأدب مع المخالف. ورفع عقيرته يدعو إلى ضرورة قبول "الآخَر" والتعايشِ السلميِ معه، وإلى فتح باب الحوار لتتسع الصدور للخلاف، ولتُقبل التعددية في المجتمع.(3/295)
ويتقاضانا التجرد عن الهوى أن نعترف بأن هذا المأخذ صحيحٌ في بعض صورِه؛ ولكن على نحوٍ أقل من درجة التصوير المبالغِ فيها. نعترف بها إنصافًا للحقيقة ونصرةً للحق ولو وافق شيئًا مما يتهمنا به "الآخَر" وينقمه علينا، وكما تكون نصرة الحق بتكذيب الدعاوى الباطلة فإنها تكون كذلك بالاعتراف بالخطأ ولو بالغ في تصويره المغرضون، فلدنيا أحاديةُ رأيٍ في بعض المسائل الاجتهادية، والتي ليس فيها نصٌ صريحٌ ولا إجماعٌ صحيح، ومع ذلك لم تتّسع فيها صدورُنا للمخالف، وصار قولنا في هذه المسألة الاجتهادية صوابًا لا يحتمل الخطأ، وقولُ غيرِنا خطأً لا يحتمل الصواب.
على أنه ليس كل "آخر" يقبل، ولا كل رأي يُعتبر ويحترم؛ فإن "الآخَر" الذي يجب قبوله واحترام رأيه وأن تتسع الصدور لخلافه هو هذا الذي تأتي مخالفته في مسألة اجتهادية لا نصّ فيها صريح ويتفق معنا في الأصول، فهو "الآخَر" الذي لا يجوز إقصاؤه ولا اتهامه في دينه، بل له أخوة الإسلام وحقوقُ المسلمين، ولا يجوز أن نقطع عنه علائق الود والولاء.
أما "الآخَر" الذي يخالف في مسألة أصولية فأنّى لقوله قبول؟! وأنى لرأيه احترام؟! بل الواجب الحتم منعُه من نشر ضلالاته وشبهاته؛ لأن البلد بلد الإسلام الذي لا يجوز بحالٍ أن تُرفع فيها أصول غير أصوله، وحق هذا علينا أن يُدعَى إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة كما يدعى لذلك كل ضال وجاهل.
وأما التعايش السلمي فحقٌ ممنوح لكل مَن يُساكِنُنا في مجتمعنا ولو كان من ديانةٍ أو طائفة أخرى، كافرًا أو مبتدعًا؛ كما عايش النبي اليهودَ في المدينة وسالمهم؛ فخالطوا المسلمين وعاملوهم، فلما نقضوا عهدَه وحاولوا قتله وآذوا المسلمين وظاهروا عليهم الكافرين قتل منهم من قتل، وأجلى منهم من أجلى.(3/296)
فمن احترمَ ديننا ولم ينازعنا في أصولنا وكف عنا شره وأذاه وأمسك عن الدعوة إلى ضلالته فله حق السِلم ما سالمنا، وله مطلق الحرية أن يفعل في بيته ما يشاء؛ كما قرر العلماء قديمًا هذا الحق لأشباهه من أهل الذمة، على أن لا يستعلن بذلك خارج بيته؛ فيجرح المشاعر، ويُلوّث الفكر والأخلاق، ويُلبِس على الناس دينهم.
"الآخَر" مصطلحٌ لم يكن وليد هذه الظروف، فقد كانت المطالبةُ بقبوله واحترامِه وعدمِ إقصائه تُلقى بصوت خافت وبتوجّسٍ وخيِفَة لا يكاد يسمعها إلا النخبة المثقفة، حتى إذا خرج المارد من قُمقُمه وجاء بلادَ الإسلام بقضه وقضيضه مستعمرًا بثوب جديد وبأس شديد خرجت من جحورها الأحراش، واستبشر بمقدمه الأوباشُ، وتدرعوا ببأسه، واستقووا بقوته، وانضووا تحت رايته طابورًا خامسًا ينهش لُحمة المجتمع من الداخل، يزعم الإصلاح ولكن على الطريقة الأمريكية المعروفة.
وأشهر هذا "الآخَر" الذي يطالب بقبوله واحترامه ويندد بإقصائه هو التيار الليبرالي، الذي يعني في أول ما يعنيه بـ"الآخَر" توجهَه هو؛ حتى لو قال كفرًا أو نازعَ في أصل من الأصول، فكل نصٍ ولو كان صريحًا فهو عنده محتمِل التأويل، ولو بالتفسير الباطني الخرافي الذي لا يتوافق مع عقلانيته.
ولْننظر فيما ينقم منا هذا "الآخَر" وفيما يطالبنا به، ثم لنقارن ذلك بسلوكه في هذه المطالبة وبتعامله مع مخالفيه.
لقد نقم منا هذا "الآخَر" أحادية الرأي وإقصاءَ "الآخَر" وعدم قبوله واحترامِ رأيه وسوءَ الأدب في الحوار وعدم التثبت في نقل الأخبار ومجاوزة نقد الأفعال إلى محاكمة النوايا واتهامها وتغليب إساءة الظن. وكما قلتُ: هذا في بعضه صحيح ولا شك، غير أن من الصحيح أيضًا أن كل ما نقمه علينا هو موجود فيه، فكأنه يتحسس أدواءه ليذكِّرنا بأدوائنا!(3/297)
فهذا "الآخَر" أحادي الرأي في قضاياه الكبرى التي يطرحها في كل موطن يبسط فيه نفوذه من وسائل إعلام وغيرها، وقد يوسِّع للرأي الآخر لكن في القضايا الأخرى الصغيرة التي لا تصادم أهدافه ولا تعارض مخططاته، فإذا كنا لا نقبل بالرأي الآخر أن يعارض بعلانية أصلاً من أصولنا فقد رأينا هذا "الآخَر" لا يقبل منا كذلك أن نعارض قضية من قضاياه الكبرى في أيّ موطن من مواطن سيطرته، بل هو يعارض ما هو أدنى من ذلك كرهًا ومقتًا، فأينا أحق بالمقت والنقد في هذا؟!
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بالفظاظة وسوء الأدب في الحوار رأيناه في ذلك لا يعدو ما اتهم به غيره، فأنت مستبدٌ متخلف حينما تقرر قوامة الرجل على المرأة كما قررها الله سبحانه، وأنت إرهابي متطرف حينما تطالب بإقامة الحدود في بلاد المسلمين، وأنت إرهابي كذلك حينما تؤيد المقاومة في العراق ولو أنكرت قتل المدنيين منهم، وأنت متخلف رجعي حين توجب على المرأة الحجاب كما أوجبه الله.، وأنت ظلاميٌّ من أرباب الكهوف المظلمة في "تورا" حين تنكر بعض المنكرات في المهرجانات السياحية.
وربما انتقل هذا "الآخَر" من مناقشة قولك إلى السخرية بشخصك، هؤلاء هم الذين يريدون أن يعلّمونا ويعلموا أولادنا حسن الأدب في الحوار وتقبلَ الرأي الآخَر، فهل يعطيك الشيء فاقدُه؟!
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بعدم التثبت في حكاية الأخبار وما أكثر ما رأيناه يذكّر بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية [الحجرات:6]، ثم نجده أولَ من ينساها أو يتناساها حين يكون التثبت لا يخدم مصلحته؛ فيلقي بالتهم على الأبرياء جزافًا من غير تثبت، ويفري الكذب في الأخبار، فيزيد فيها، أو يُنشئها من عالم الخيال إنشاءً.(3/298)
هذا "الآخَر" يفتري الكذبَ، ويتخذ من الكذب مادةً للإثارة وترويج البضاعة، ولو على المؤسسات الحكومية الرسمية، وبخاصة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسارع في نشر بعض الأخبار التي تُشوِّه سمعتها، ثم يأتي التكذيب من إمارة أو وزارة.
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بمجاوزة الظاهر إلى محاكمة الباطن واتهام النوايا وسوء الظن هو نفسه يفعل الشيء نفسه، وإذا فعل هذا مثقفٌ يحسب نفسَه على النخبة فهو أقبح من أن يفعله شاب حدَثُ السن لم يجاوِز مرحلة المراهقة.
فهذا "الآخر" هو الذي ابتدع تهمة (المنهج الخفي) ليوسع عريضة الاتهام بالتطرف والغلو في بلاد الإسلام لبرآء نبذوا التطرف بطرَفَيْه: الغالي والجافي، ولم ينقم منهم إلا أنه لم ينل سعيهم، ولم يكتب له قبول كما كُتب لهم، ولأنهم حالوا بينه وبين ما يشتهي أن يراه في وطنه، وأصبح دليله في تهمته هو الدعوى نفسَها، ومع أنهم أنكروا الإرهاب والتفجير وكشفوا الشُبه فلم يكن ذلك في نظره سوى اقتسام للأدوار، ما بين جناح سياسي وعسكري.
هذا "الآخر" الذي يتهم غيره بأنه يحمل كلامه ما لا يحتمل ويحرِّفه عن مواضعه كأنما يعني بهذا الاتهام نفسه، فإذا قلت: "هذا الفعل كفرٌ" قال عنك: "إنك تكفِّر الناس"، ويتجاهل أن الحكم على الفعل بالكفر لا يعني بالضرورة كفرَ فاعله. وإذا قلت: "البراءة من الكفار أصل من أصول الإسلام" جعل لقولك لوازمَ باطلةً، فنسب إليك أنك تبيح ظلمَ الكافر والاعتداءَ عليه وتسوِّغ قتله بكل حال.(3/299)
هذا "الآخَر" هو أكثر "الآخَر" انتهازًا للظروف واستغلالاً للحوادث، ومن المفارقات العجيبة في فتنة هذه الأيام أن يتفق هذا الذي يدعو إلى العقلانية ويتباهى بعقلانيته مع أشد الناس تعطيلاً للعقل وإعمالاً للخرافات من الرافضة وغيرهم فاتحدت هذه الأطراف المتباينة في حربها على أهل السنة من الوهابية وغيرها، ولم يكن بينها جامع يجمعها على هذا الاتفاق العجيب إلا بغضها لنا نحن "الآخَر" المفترى عليه.
هذا هو "الآخر" الذي يريد أن نعامله بغير ما يعاملنا هو به، فنحن بين "آخَر" يتحيّفُنا وعدو تملّك أمرنا، ولا طاقة لنا بهذه الهجمة الضروس ما لم نجعل من أصولنا التي نتفق عليها موئلاً ينزع عنا التفرق والاحتراب، وليس من السائغ أن نجعل من المسائل الاجتهادية منزعًا للتشاحن والتباغض في ساعة الرخاء، فكيف وربِكم نجعلها معقدًا للولاء والبراء في ساعة الشدة التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى الاعتصام والوحدة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
أما بعد: فمن نحن حين نتكلم عن "الآخر"؟ نحن كل مؤمن جعل القرآن والسنة ضياءَ طريقه إلى الله، وجعل شريعة الله حاكمةً لحياته، لسنا حزبًا سياسيًا ولا طريقةً ولا حركة؛ فيكونَ دفاعنا دفاعًا شخصيًا عن ذواتٍ خاصة، ولكننا من حزب الله الذين آمنوا بالله واتبعوا الرسول ، فدفاعنا دفاعٌ عن قيمٍ غيَّبها "الآخَر" في تعامله، فأصبحنا ضحايا تغييبها.
أما لماذا نتعرّض لذلك "الآخَر"؟ فذلك لكشف ألاعيبه، ولكي نكون أكثر فطنة من أن تخدعَنا الشعارات؛ فتلبِّس علينا حقيقتها الشائهة. يجب أن لا يدفعنا فضحُ "الآخَر" إلى الدفاع عن أخطائنا والسكوتِ عن ضرورة إصلاحها.(3/300)
يجب أن نفطن إلى أننا لا يشملنا مصطلح "الآخَر" الذي يدافعون عنه ويطالبون بحقوقه، فنحن "آخر" من نوع آخر لا يستحق الكرامة ولا الحرية، ولا يستحق حتى تقنيات الحضارة؛ لأننا كما يدعون نفكر بعقول رجعية، لا تريد أن تعيش عصرَها الحاضر بظروفه ومعطياته.
يقولون: إن سبب عدم قبولكم لـ"الآخَر" ورفض التعايش السلمي معه هو الانغلاق والانكفاء على الذات، ونقول: ليس هذا هو السبب، ولكنه سبب من الأسباب، فقد رأينا من بني جلدتنا من هو أشد انفتاحًا وأكثر مخالطة للآخرين، ولكنه لا يزال في دائه، فلْيُداو نفسَه قبل أن يرمي غيره بدائِه.
هذا "الآخَر" يتجاوز في مفهوم قبول "الآخَر" مسألة قبول التعايش معه إلى فرض ثقافته وبسط هيمنته واستبداده بكل سُلطة، فيترقى من مجرد حرية الرأي إلى فرض الرأي، ويبقى لغيره حرية الكلام يلجلج به في فضاء يضيع فيه الكلام.
إن أزمة الحوار في بلادنا ليست أزمة فئة متديِّنة، ولكنها أزمة مجتمع نشأ في بيئة موبوءة بداءِ الاستبداد من البيت إلى المدرسة إلى المؤسسة؛ ولذا نجدها أزمة مشتركة بين أطياف المجتمع كلها، ما بين مقلّ ومستكثر.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
==============
أصول التعامل مع غير المسلمين (1)
أولاً: أصناف غير المسلمين:
1- المحاربون.
2- أهل الذمة.
3- أهل العهد.
4- أهل الأمان.
ثانيًا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة.
2- دخول الكافر المسجد.
3- استئجار المسلم الكافر.
4- استئجار الكافر المسلم.
5- التبايع.
ثالثًا:أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل.
2- الدعوة إلى الحقّ.
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم.
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم.
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة.
رابعًا:أصول في التعامل خاصّة بكل صنِّف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم.
__________
(1) - موسوعة الخطب والدروس - (ج 104 / ص 1)(3/301)
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم، إذا وقع الصلح والهدنة معهم.
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة، والصبيان، والشيخ الفانِي، والأجير، والعابد في صومعته.
د- حِلُّ الدم و المال.
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية.
ب- وجوب حمايتهم.
ج- حرمة دمائهم وأموالهم.
د- النكاح بأهل الكتاب منهم.
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد.
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم. (انظر: حرمة أموالهم ودمائهم في حقوق أهل الذمة).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم.
أولاً: أصناف غير المسلمين:
الكفار غير المسلمين من حيث موقفهم من الإسلام وأهله أصناف، قال ابن القيّم: "الكفار: إمّا أهل حربٍ، وإمّا أهل عهدٍ. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمّة، وأهل هُدنة، وأهل أمانٍ"، وذلك لأنّ لفظ الذمّة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل.
قال: "ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء (أهل الذمّة) عبارة عمّن يؤدي الجزيّة".
1- أهل الحرب:
هو الكافر الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حربٍ، ولا ذمّة له ولا عهد.
قال الشوكانِيُّ: "الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد".
2- أهل الذمة:
الكفَّار المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة.
قال ابن القيّم: "أجمع الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس".
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.(3/302)
وحكم أهل الذمّة المعاهدين الذين يساكنون المسلمين في ديارهم ويدفعون الجزية أنّهم يخضعون للأحكام الإسلاميّة في غير ما أُقروا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات. ولهم على المسلمين الكفّ عنهم وحمايتُهم.
قال الماورديّ: "ويلتزم - أي الإمام - لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
والغرض من عقد الذمّة مع الكتابِي والمجوسي: أن يترك القتال، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين، ووقوفه على محاسن الدين، فكان عقد الذمّة للدعوة إلى الإسلام، لا للرغبة في المال.
3- أهل العهد:
المعاهَد: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة.
قال ابن بطال: "والمعاهَد: الذي بينه وبين الإمام عهد وهدنة".
وإذا دخل ديار المسلمين سُمِّي مستأمنًا.
4- أهل الأمان:
المستأمن: هو الحربِي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام.
والفرق بين أمان الذمِّي وبين المستأمن هو أنّ أمان الذمِّي مؤبد، وأمان المعاهد والمستأمن مؤقت بمدة إقامته التي يصير بتجاوزها من أهل الذمّة، وتضرب عليه الجزية.
قال ابن نجيم الحنفي: "وإذا دخل الحربِي إلينا مستأمنًا لم يُمكَّن أن يقيم في دارنا سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعتُ عليك الجزية".
وينقلب الذمِّي أو المعاهد أو المستأمِن حربيًا بأن يلحق باختياره بدار الحرب مقيمًا فيها، أو إذا نقض عهد ذمّته؛ فيحل دمه وماله، قال تعالى: ?وإن نكثوا أيمانَهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون? (التوبة: 12).(3/303)
قال ابن عباس: نزلت في أبِي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وسائر رؤساء قريش، الذين نقضوا العهد؛ حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم، فينصر خزاعة.
قال القرطبيُّ: "إذا حارب الذمي نقضَ عهدَه، وكان ماله وولده فيئا معه".
وقد حارب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل؛ أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: ((فإلى أين؟)). قال: ها هنا. وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
وعن ابن عمر أنّ يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقرَّ قريظة، ومَنَّ عليهم؛ حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلاَّ أنَّ بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم، وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم؛ بني قينقاع - وهم قوم عبد الله بن سلام - ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة.
قال النوويُّ: "في هذا: أنّ المعاهد والذميَّ إذا نقض العهد صار حربيًا، وجرت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المَنُّ على من أراد. وفيه: أنّه إذا مَنَّ عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنّما ينفع المَنُّ فيما مضى، لا فيما يستقبل، وكانت قريظة في أمان، ثم حاربوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد، وظاهروا قريشًا على قتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
أحكام أهل الذمة (2/475).
أحكام أهل الذمّة (2/475).
السيل الجرار (4/441).
الدرّ النقي (289).
أحكام أهل الذمة (1/1).(3/304)
البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3157).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
جامع الأصول لابن الأثير (7/466).
نظم المستعذب (1/157،156).
الهداية شرح البداية للمرغيناني (1/221)، والبحر الرائق لابن نجيم (7/95)، والمدونة الكبرى لسحنون (3/24)، والأم للشافعي (4/283)، والفروع لابن مفلح (2/367).
انظر: بدائع الصنائع (7/106).
البحر الرائق (5/109).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/404).
الجامع لأحكام القرآن (8/83).
البخاري في المغازي، باب مرجع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4117)، ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد (1769).
البخاري في المغازي، باب حديث بني النضير (2048)، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز
(1766)، واللفظ له.
شرح مسلم (12/91).
ثانيا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة:
تدل عبارات الفقهاء على جواز الاتجار مع الحربيين، فللمسلم دخول دار الحرب بأمان التجارة، وللحربي دخول دار الإسلام للتجارة.
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم".
وقال السرخسي: "وإذا دخل المسلم أو الذميّ دار الحرب تاجرًا بأمان؛ فأصاب هناك مالاً ودورًا ثم ظهر المسلمون على ذلك كله فهو له كله".
وقال الشافعيّ: "لو أنَّ حربيًا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغيره من أهل الحرب لم نعرض له في ماله".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة؛ لأنّ عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام".
وقال ابن تيميّة: "وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلّ عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير ذلك من الأحاديث".(3/305)
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يكون شريكًا للنصراني في تربية الأغنام أو تجارتِها أو أيِّ تجارة أخرى, أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بِهداه.
أمَّا بعد: فإنّ اشتراك مسلم مع نصراني أو غيره من الكفرة في المواشي أو في الزراعة أو في أي شيء آخر، الأصل في ذلك جوازه إذا لم يكن هناك موالاة، وإنّما تعاون في شيء من المال كالزراعة أو الماشية أو نحو ذلك، وقال جماعة من أهل العلم: بشرط أن يتولى ذلك المسلم، أي: أن يتولى العمل في الزراعة، أو في الماشية المسلم، ولا يتولى ذلك الكافر لأنه لا يُؤْمَن.
وهذا فيه تفصيل: فإن كانت هذه الشركة تجر إلى موالاة، أو لفعل ما حرم الله، أو ترك ما أوجب الله حرمت هذه الشركة لما تفضي إليه من الفساد، أما إن كانت لا تفضي لشيء من ذلك، والمسلم هو الذي يباشرها وهو الذي يعتني بِها حتى لا يخدع فلا حرج في ذلك.
ولكن بكل حال فالأولى به السلامة من هذه الشركة، وأن يشترك مع إخوانه المسلمين دون غيرهم، حتى يأمن على دينه ويأمن على ماله، فالاشتراك مع عدو له في الدين فيه خطر على خلقه ودينه وماله، فالأولى بالمؤمن في كل حال أن يبتعد عن هذا الأمر؛ حفظًا لدينه؛ وحفظًا لعرضه؛ وحفظًا لماله؛ وحذرًا من خيانة عدوه في الدين، إلاَّ عند الضرورة والحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، فإنَّه لا حرج عليه بشرط مراعاة ما تقدم، أي: بشرط ألا يكون في ذلك مضرة على دينه أو عرضه أو ماله، وبشرط أن يتولى ذلك بنفسه فإنَّه أحوط له، فلا يتولاه الكافر بل يتولى الشركة والأعمال فيها المسلم، أو مسلم ينوب عنهما جميعًا".
2- دخول الكافر المسجد:(3/306)
يجوز للمشرك أن يدخل المسجد، فعن أبِي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك. فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
قال ابن حجر: "وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد".(3/307)
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول الكافر المساجد فأجاب: "أمّا المسجد الحرام؛ فلا يجوز دخوله لجميع الكفرة؛ اليهود، والنصارى وعباد الأوثان، والشيوعيين، فجميع الكفرة لا يجوز لهم دخول المسجد الحرام؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة: 28]، فمنع سبحانه من دخولهم المسجد الحرام، والمشركون يدخل فيهم اليهود والنصارى عند الإطلاق، فلا يجوز دخول أي مشرك المسجد الحرام، لا يهودي، ولا نصراني، ولا غيرهما، بل هذا خاص بالمسلمين. وأمَّا بقية المساجد فلا بأس من دخولهم للحاجة والمصلحة، ومن ذلك المدينة، وإن كانت المدينة لها خصوصية، لكنها في هذه المسألة كغيرها من المساجد، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ربط فيها الكافر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ وفد ثقيف حين دخلوا المسجد قبل أن يسلموا، وهكذا وفد النصارى دخلوا مسجده عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه يجوز دخول المسجد النبوي للمشرك, وهكذا بقية المساجد من باب أولى إذا كان لحاجة، إما لسؤال، أو لحاجة أخرى، أو لسماع درس ليستفيد، أو ليسلم ويعلن إسلامه، أو ما أشبه ذلك.
والحاصل: أنَّه يجوز دخوله إذا كان هناك مصلحة، أمَّا إذا لم يكن هناك مصلحة؛ فلا حاجة إلى دخوله المسجد، أو أن يخشى من دخوله العبث في أثاث المسجد، أو النجاسة فيمنع".
3- استئجار المسلم الكافر:(3/308)
عن عائشة رضي الله عنها: استأجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، هاديًا خريتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بِهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل.
قال ابن حجر: "وفي الحديث: استئجارُ المسلمِ الكافرَ على هداية الطريق إذا أمن إليه".
قال ابن بطال: "عامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنّما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك، لما فيه من إذلال المسلم".
4- استئجار الكافر المسلم:
قال المهلب: "كره أهل العلم ذلك إلاّ لضرروة بشرطين: أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين".
وقال ابن المنيّر: "استقرت المذاهب على أنّ الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمَّة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منْزله، وبطريق التبعية له، والله أعلم".
وقال الشربيني: "يصح من الكافر استئجار المسلم إجارة ذمة".
5- التبايع:
يجوز البيع والشراء مع غير المسلمين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ.(3/309)
وعن عبد الرحمن بن أبِي بكر رضي الله عنهما، قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام؟)). فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشركٌ مشعانٌ طويلٌ بغنم يسوقها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بيعًا أم عطيةً؟))، أو قال: ((أم هبة؟)) قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاة، فصنعت، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلاَّ قد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير، أو كما قال.
قال ابن بطال: "معاملة الكفَّار جائزة، إلاّ بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: هناك أصحاب مهن كالحلاقة والخياطة وعمال في المطاعم أو غير ذلك وهم غير مسلمين؛ إما مسيحيون أو لا دينيون، فما حكم تعامل المسلم معهم؟
فأجاب رحمه الله: "ما داموا في البلاد يتعاطون هذه الأمور فلا مانع من الشراء منهم، وقضاء الحاجة، والبيع عليهم، فقد اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، واشترى من بعض المشركين، فلا بأس، ولكن لا يحبهم، ولا يواليهم، بل يبغضهم في الله، ولا يتخذهم أصدقاء ولا أحبابا، والأفضل أن يستخدم المسلمون والمسلمات دون الكفار في كل الأعمال.(3/310)
لكن إذا كان العمل في الجزيرة العربية حرم استقدام الكفار إليها واستخدامهم فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراجهم من هذه الجزيرة العربية وقال: ((لا يجتمع فيها دينان))، لكن إذا قدموا لتجارة ثم يعودون أو بيع حاجات على المسلمين أو قدموا إلى ولي الأمر برسالة من رؤسائهم فلا حرج في ذلك؛ لأن رسل الكفار كانوا يقدمون على النبي في المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان بعض الكفار من أهل الشام يقدمون على المدينة لبيع بعض ما لديهم من طعام وغيره".
ولكن لا يجوز بيعهم السلاح الذي يتقوون به على المسلمين، قال السرخسي: "ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع والسلاح والحديد؛ لأنّهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين؛ ألا ترى أنّهم بعد مضي المدة يعودون حربًا للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات، ما خلا الكراع والسلاح؛ فإنّهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين، فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد؛ فإنه أصل السلاح، قال الله تعالى: ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ? (الحديد: 25)".
بل وأيُّ شيءٍ يتحقق منه أنّه يقويهم على المسلمين، وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به".
بداية المنتهي (ص: 118).
المبسوط (10/67).
الأم (4/247).
المهذب (2/258).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/15).
عن الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله، رقم السؤال (173).
فتح الباري (8/88).
عن الموقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (175).
البخاري في الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263).
فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/452).
انظر: فتح الباري (4/452).
الإقناع (2/349).(3/311)
البخاري في الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2916).
البخاري في الهبة، باب قبول هدية المشركين (2618).
انظر: فتح الباري (4/410).
مالك في الموطأ (2/892)، والبيهقيّ في الكبرى (6/115)، بلفظ: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان))، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4617).
عن موقع الرسمي للشيخ، سؤال رقم (172).
المبسوط (10/88-89).
الدرر السنية (8/340).
ثالثًا: أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل:
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبيرٌ بما تعملون? (المائدة: 8).
قال البيضاويُّ: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم. ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين".
وقال ابن كثير: "ومن هذا - أي ومن العمل بِهذه الآية - قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض".
عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنيَةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).(3/312)
ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد. قم؛ فاردد عليه ضيعته يا عبّاس.
2- الدعوة إلى الحقّ:
قال الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? (سبأ:28).
قال البيضاويُّ: "إلا إرسالة عامة لهم من الكف، أنَّها إذا عمتهم قد كفَّتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلاَّ جامعًا لهم في الإبلاغ".
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلاَّ كان من أصحاب النار)).
قال النوويُّ: "فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم".
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم:
البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، وهي ضد الولاء.
قال ابن تيمية: "الولاية: ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبّة والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد".
قال تعالى: ? وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ? (التوبة: 3).
قال ابن كثير: "وإعلام من الله ورسوله وتقدم إنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر - وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا - أنّ الله بريء من المشركين ورسوله: أي بريء منهم أيضًا".(3/313)
فيجب على المسلمين أن يتبرؤوا ممّن برئ منه الله ورسوله، وعن ابن أبي ملكية، قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني ممّا أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأقرأه رجلٌ براءة، فقال: ?إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه? بالجر. فقال الأعرابي: أَوَقد برئ الله من رسوله؟! فإن يكن اللهُ برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأنِي هذا سورة براءة، فقال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولِه?، فقلتُ: أَوَقد بريء الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله؛ فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولُه?. فقال الأعرابِي: وأنا والله أبرأ ممَّا برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقرئ الناس إلاَّ عالم باللغة.
فأهل الإيمان يتبرؤون من الكفرة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ?لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).(3/314)
وقد مدح الله نبيَّه إبراهيم عليه السلام في براءته لأهل الكفر والشرك، وأمر بالاقتداء به، فقال: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? (الممتحنة: 4).
قال الطبريُّ: "قد كانت لكم ـ يا أمّة محمّد ـ أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار، ومعاداتِهم، وترك موالاتِهم إلاّ في قول إبراهيم: ?لأستغفرنّ لك?، فإنّه لا أسوة لكم فيه في ذلك؛ لأنّ ذلك كان من إبراهيم ?عن موعدةٍٍ وعدها إيّاه? قبل أن يتبيَّن ?أنّه عدوٌ لله فلمّا تبيّن أنّه عدو لله تبرأ منه?، فتبرؤوا من أعداء الله، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظهروا العداوة والبغضاء".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: "الكافر ليس أخًا للمسلم، والله يقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? (الحجرات: 10)، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم))، فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.(3/315)
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً؛ فلا يجوز؛ لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ? (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ? يعني يحبون ?وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس".
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم:
نَهى الشرع الحنيف عن مشابَهة الكفار؛ لأنّه يخلق في النفوس ميلاً إليهم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال ابن تيمية: "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي".(3/316)
المشابَهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن؛ تورث المشابَهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ حتى إنّ الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابَهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم؛ حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة".
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة:
قال الله تعالى: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدتِهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صليها)).
قال ابن عيينة: "فأنزل الله تعالى فيها: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين?".(3/317)
وعن ابن عمر أنّ عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما يلبس هذه مَن لا خلاق له في الآخرة))، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حللٌ، فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها، وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّي لم أكسكها لتلبسها)) فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة.
قال النوويّ: "وفيه: صلة الأقارب والمعارف، وإن كانوا كفارًا"، والمشركون بمكة كانوا أهل حربٍ.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير:
قال تعالى: ?ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا? (الإنسان: 8-9).
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك".
وقال الحسن: "ما كان أسراهم إلاَّ المشركين".
وقال الطبريّ: "هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحقّ".
أنوار التنْزيل (2/303).
تفسير القرآن العظيم (1/566).
أبو داود في الخراج والإمارة، باب في تعشير أهل الذمّة (3052)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(2626).
انظر: صفة الصفوة (2/115).
أنوار التنْزيل (1/344).
مسلم في الإيان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (153).
شرح مسلم (2/188).
انظر: الولاء والبراء، د. محمد سعيد القحطاني (ص: 90).
مجموع الفتاوى (5/510).
تفسير القرآن العظيم (2/333).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/24).
جامع البيان (28/62).
عن موقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (166).
أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة (4031)، وصححه الألباني في الإرواء (1269).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).(3/318)
البخاري في الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر (3182)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة على الأقربين والزوج (1003).
البخاري في الأدب، باب صلة الوالد المشرك (5979).
مسلم في اللباس والزينة، باب تحريم استعمال الذهب والفضة على الرجال (2068).
شرح مسلم (14/38).
رواه الطبري في جامع البيان (29/209).
رواه الطبري في جامع البيان (29/210).
جامع البيان (29/209).
رابعًا: أصول في التعامل خاصّة بكل صنف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم:
قال تعالى: ?فإمّا تثقفنَّهم في الحرب فشرد بِهم من خلفهم لعلهم يذَّكرون? (الأنفال: 57).
قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة".
وقال تعالى: ?يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتقين? (التوبة: 123).
قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة".
وقال ابن كثير: "أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر".
وقال الله تعالى: ?يا أيها النبيّ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير? (التحريم: 9).
قال القرطبيُّ: "أمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين".
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم إذا وقع الصلح والهدنة معهم:
الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والباطن من أحكام الإسلام القطعيّة النافذة على الأفراد والجماعات، وليس مجرد مبدأ خلقي يستعمل حينًا، ويهمل حينًا آخر.(3/319)
قال تعالى: ?وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ? (الأنفال:72).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان)).
وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.
وإذا خشي المسلمون من المشركين نقضًا للعهد فعليهم أن يردوا إليهم عهدهم: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين? (الأنفال: 58).
قال الطبريّ: "يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ ـ يا محمد ـ من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر، ?فانبذ إليهم على سواء? يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم؛ حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ?إنّ الله لا يحب الخائنين? الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إيّاه أنّه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد".
وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم؛ حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلنَّ عهدًا، ولا يشدنَّه؛ حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء)). قال: فرجع معاوية بالناس.(3/320)
قال البغويُّ: "ويشبه أن يكون إنّما كره عمرو بن عبسة ذلك؛ لأنّه إذا هادنَهم إلى مدة، وهو مقيم في وطنه، فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها، فإذا صار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه، فعدَّ ذلك عمرو غدرًا، والله أعلم. وإن نقض أهل الهدنة عهدهم له أن يسير إليهم على غفلة منهم، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة. وإن ظهرت منهم خيانة بأهل الإسلام نبذ إليهم العهد، قال تعالى: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواء? (الأنفال: 58). ومن دخل إلينا رسولاً؛ فله الأمان حتى يؤدي الرسالة، ويرجع إلى مأمنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن النواحة: ((لولا أنّك رسولٌ لضربتُ عنقك))".
قال ابن القيّم: "ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))".
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وعن رباح بن ربيع، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء)). فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)). قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)).(3/321)
والمراد بالعسيف هو من يكون عمله بعيد الصلة بالأعمال القتالية، قال الشوكانِيّ: "وأمّا العبد؛ فلم يَرد ما يدلّ على عدم جواز قتله... ولا يصحّ قياسه على العسيف؛ لأنّ العسيف لا يقاتل، وإنّما هو لحفظ المتاع والدواب، وإن قاتل جاز قتله".
د- حِلُّ دمائهم وأموالهم:
قال تعالى: ?وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قديرًا? (الأحزاب: 27).
قال الطبري: "وملككم بعد مهلكهم ?أرضهم? يعني: مزارعهم ومغارسهم، ?وديارهم? يقول: ومساكنهم، ?وأموالهم? يعني: سائر الأموال غير الأرض والدور".
قال ابن كثير: "أي: جعلها لكم مِن قتلكم لهم".
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية:
الجزية: المال الذي يلتزم أهل الذمّة بأدائه إلى الدولة الإسلاميّة كل عامٍ.
قال ابن قدامة: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".
قال الشربيني: "تطلق على العقد، وعلى المال الملتزم به".
وصورتُها أن يقول الإمام أو من ينوب عنه: "أقرُّكم بدار الإسلام أو أذنتُ في إقامتكم بِها على أن تبذلوا جزية، وتنقادوا إلى حكم الإسلام".
ب- وجوب حمايتهم:
قال الماورديّ: "ويلتزم لهم - أي الإمام - ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
ج- حرمة دمائهم وأموالهم:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".(3/322)
قال القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه".
د- النكاح بأهل الكتاب منهم:
يحل نكاح الكتابية صراحةً، ويدخل في ذلك الذمِّيات منهن، كما تدخل الحربيات الكتابيات لا فرق بين الصنفين، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ? (المائدة: 5).
قال البيضاويُّ: "وإن كنَّ حربيات".
قال الجصاص: "لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة، وقوله تعالى: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر? لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي؛ لقوله تعالى: ?فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله?. فبان بما وصفنا أنّه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وإنما كرهه أصحابنا لقوله تعالى: ?لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم?، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: ?وجعل بينكم مودة ورحمة?، فلما أخبر أنّ النكاح سبب المودة والرحمة، ونَهانا عن موادّة أهل الحرب؛ كرهوا ذلك".(3/323)
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم نكاح نساء أهل الكتاب، فأجاب: "حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (المائدة: 5)، والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (وقوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ? أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).(3/324)
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى كما قال تعالى في الآية الأخرى: ?مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ? ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ? الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى: ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ?، وكقوله:(3/325)
?وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ? الآية) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة صلى الله عليه وسلم وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، ?وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ?، ولنا قول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ?، إلى قوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ?، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ?، وقوله عز وجل: ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا?، وقوله تعالى: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ?، وسائر آي القرآن يفصل بينهما،(3/326)
فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وأيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلِّقوهن، فطلَّقوهنّ إلاّ حذيفة، فقال له عمر: طلِّقها، قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة طلِّقها. قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة ولكنها لي حلال، فلما كان بعد طلقها فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.(3/327)
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? الآية، لوجهين: أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق. لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ? الآية، وقوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا? الآية، وقوله عز وجل: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ? الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يصنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: "?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا(3/328)
إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ? فوصفهم جميعًا بالشرك. لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا كله من أقبح الشرك والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها كما يخشى على أولاده منها من ذلك والله المستعان.(3/329)
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين.
وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك".
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة:
المعاهدون مستأمنون بمقتضى معاهدة السلام مع دولهم، وما داموا قد دخلوا دار الإسلام بموجب تلك المعاهدة القاضية بذلك فهم تحت ولاية الإمام، وعليه حمايتهم والدفاع عنهم.(3/330)
جاء في السير وشرحه: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته. ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة"().
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد:
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم؛ لأنّه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرًا، والغدر حرام، إلاَّ إذا غدر بِه ملكهم، فأخذ أمواله أو حبسه، أو فعل ذلك غيرُه بعلم الملك ولم يمنعه؛ لأنّهم هم الذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير؛ لأنّه غير مستأمن، فيباح له التعرض للمال والدم، وإن أطلقوه طوعًا".
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة:
يعامل المستأمِنون ما داموا في أرض الإسلام معاملة أهل الذمّة في وجوب الدفاع عنهم، لأنّهم وهم في دار الإسلام يكونون تحت ولاية الإمام، فعليه الدفاع عن جميع من كان تحت ولايته.
جاء في السير الكبير وشرحه: "الأصل أنّه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا؛ لأنّهم تحت ولايته، ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمّة".
ولو أنّ قومًا من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دارنا بأمانٍ فشرطوا علينا أن نمنعهم ممّا نمنع منه المسلمين وأهل الذمّة؛ فعلينا الوفاء بشرطهم.
ولو كان المستأمنون في دارنا قومًا لا منعة لهم... فعلى الإمام أن يدفع عنهم من الظلم ما يدفعه عن أهل الذمّة.(3/331)
ولو كان الذين ظهروا عليهم من أهل الحرب... مرّوا بِهم على منعةٍ للمسلمين في دار الحرب كان عليهم القيام بنصرتِهم، وتخليصهم من أيديهم، كما في حقّ أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم:
انظر: حرمة أموال ودماء أهل الذمة.
تفسير القرآن العظيم (2/321).
الجامع لأحكام القرآن (9/352).
تفسير القرآن العظيم (2/403).
الجامع لأحكام القرآن (18/201).
البخاري في الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر (3187)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1736)، واللفظ له.
انظر: البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة في الحرب (2734).
جامع البيان (10/26-27).
أبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه (2759)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر (1580) واللفظ له، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1285).
أحمد (1/384)، وأبو داود في الجهاد، باب في الرسل (2762)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2400).
شرح السنة (11/166-167).
مسلم في الجهاد، باب الوفاء بالعهد (1787).
زاد المعاد (3/88).
البخاري في الجهاد والسير، باب قتل النساء والصبيان (3015)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان (1744).
أبو داود في الجهاد، باب في قتل النساء (2669)، وصححه الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (2324). قال الزمخشريّ: "العسيف: الأجير" (الفائق 2/7).
السيل الجرار (4/532).
جامع البيان (12/155).
تفسير القرآن العظيم (3/479).
المغني (10/567).
مغني المحتاج (4/242).
انظر: مغني المحتاج (4/242).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
البخاري في الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا (3166).
فتح الباري (12/259).
الجامع لأحكام القرآن (2/246).
أنوار التنْزيل (2/297).
أحكام القرآن (2/18).(3/332)
عن موقع الشيخ الرسمي http://www.binbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=1229.
السير الكبير وشرحه (5/1892،1891).
بداية المنتهي (ص: 118)، وانظر حرمة دمائهم وأموالهم في معاملة أهل الذمة.
السير الكبير وشرحه (5/1853).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1857).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1858).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1859).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما))، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].(3/333)
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته في دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه.
فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة.
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم:
يترتب في الوقت الراهن من الزواج بالكتابية في ديارها وإن لم تكن دار حربٍ مفاسد شتى، من أعظمها أنّ الولد يتبع أمّه في دينها، ولا سلطة للأب المسلم على ذلك.(3/334)
ولأجل ذلك كره من كره من أهل العلم الزواج بالحربيّة؛ لخشية ضياع الولد، قال القرطبيُّ: "وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير".
وقال ابن مفلح: "وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد لئلا يستعبد الرجعة على دينهم".
وقد أشار الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى المتقدمة في حكم نكاح الكتابية إلى هذه العلّة في كراهية التزوج بالكتابيّة في بلدها في الوقت الحالي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
مغني المحتاج (4/239) وانظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
الجامع لأحكام القرآن (3/69).
المبدع (7/71).
انظر: النكاح بأهل الكتاب منهم.
================
فتنة مسايرة الواقع
عبد العزيز الجليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من علامة توفيق الله ـ عز وجل ـ لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه، أو تزل قدمه بعد ثبوتها، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن، ويجأر إلى ربه ـ عز وجل ـ في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير.
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً، وما إخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن، ولم ينج منها إلا من ثبته الله ـ عز وجل ـ وعصمه. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا منهم.(3/335)
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات، ومراعاة رضا الناس وسخطهم، وهي فتنة لا يستهان بها؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها، والموفق من ثبته الله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ)) [إبراهيم: 27].
يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عن هذه الآية: "تحت هذه الآية كنز عظيم، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم، ومن حرمه فقد حرم"(1).
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه ـ تبارك وتعالى ـ: (( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) [الإسراء: 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه ـ تعالى ـ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى:
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار ـ عياذاً بالله تعالى ـ؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاءوا من بعدهم من مشركي العرب، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم ـ عليهم السلام ـ عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك ـ بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم. وسجل الله ـ عز وجل ـ عن قوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ قولهم: ((مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ)) [المؤمنون: 24].(3/336)
وقال ـ تعالى ـ عن قوم هود: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [الأعراف: 70]، وقال ـ تبارك وتعالى ـ عن قوم صالح: ((قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...)) [ هود: 62].
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ عن قوم فرعون: ((قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)) [يونس: 78]، وقال عن مشركي قريش:
((وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا...)) [البقرة: 170] والآيات في ذلك كثيرة، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك، وقد بين الحق للناس؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم؟
نعوذ بالله ـ تعالى ـ من الخذلان.
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه،(3/337)
وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله ـ تعالى ـ شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(2).
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فكذلك صاحب الهوى ـ إذا ضل قلبه وأُشرب حبه ـ لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه"(3).
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمة عن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساءوا. ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه؛ حيث قال: "لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا"(4). قال الشارح في تحفة الأحوذي: "الإمعة هو الذي
يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان".(3/338)
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله ـ عز وجل ـ وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر"(5).
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن من ورائكم أيام الصبر. الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال:يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم"(6).
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة:
إن أهل العلم والدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور.. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره، وذلك بخلاف العالم أو الداعية؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية.(3/339)
إن الدعاة إلى الله ـ عز وجل ـ وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله ـ تعالى ـ فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله ـ بادئ ذي بدء ـ حتى يكون لدعوته بعد ذلك
أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله.(3/340)
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها، فهذه ـ والله ـ هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس. إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله ـ تعالى ـ في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله ـ عز وجل ـ. وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله ـ عز وجل ـ وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول: "وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه: تقيمه وتقعده، ويحلم بها في منامه، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا ـ بكل أسف ـ من هذا النوع القوي والعبقري؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة.
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها.(3/341)
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله ـ مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ـ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"(7).
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن.
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم.
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه(8).(3/342)
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله ـ عز وجل ـ نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر ـ وما أبرئ نفسي ـ.
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي:
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ـ ومن سنوات عديدة ـ كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة، ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع، ومن أبرز هذه العادات والممارسات:(3/343)
- ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة، وأكثر الخادمات هن بلا محارم، وخضع الناس للأمر الواقع، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين، وكل هذا ـ ويا للأسف ـ بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال: نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم!! .
- ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة.
- ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل... إلخ. ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه، حتى أصبح
كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم.(3/344)
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله ـ عز وجل ـ من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله ـ عز وجل ـ فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة، وكأن الأمر تحول ـ والعياذ بالله تعالى ـ إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء، يصعب الانفكاك عنها.
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال ـ رحمه الله تعالى ـ: "هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها: أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء، الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ: من الذي يصنعه؟ ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!"(9).(3/345)
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً.
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص... إلخ، ولا يخفى ما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع، والتحلل من أحكام الشريعة شيئاً فشيئاً، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه. يقول الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: "المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً"(10) ويقول أيضاً: "إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها"(11).(3/346)
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: "يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن
له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك"(12).
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها:(3/347)
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله ـ عز وجل ـ ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها ـ بزعمهم ـ مصالح كبيرة!! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع؛ فلا مصلحة ظاهرة حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله ـ عز وجل ـ نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير؛ وذلك في قوله ـ تعالى ـ: ((وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)) [الإسراء: 73 - 75].
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها:
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه، ليفتري عليه غيره، وهو الصادق الأمين.
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها: مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم، ومنها:
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله، ومنها: طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء.(3/348)
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق، وعصمته من الفتنة. ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله.
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هيناً؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق. وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء!(13).
4 - مسايرة ركب الغرب في بعض الميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين:(3/349)
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول(14)ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ـ ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله ـ عز وجل ـ باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد!! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله: "هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري"(15).
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول: "لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا: إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية، ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق!! إن هذه التجاوزات ـ لو أخذ بها ـ لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه. ومن شذوذاتهم:(3/350)
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك.
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب.
3 - موقفهم من المرأة، والدعوة إلى تحريرها ـ بزعمهم ـ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات، يقول محمد عمارة: "إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية" والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها.
5 - أحكام أهل الذمة:
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا!!"(16).
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً: "إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى".
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني: هدم العلوم المعيارية: أي علوم التفسير المأثور وأصوله، وعلم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث.
ـ ويعني: رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر.
ـ ويعني: رفض السنة غير التشريعية أي: فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً.
ـ التجديد عندهم يعني: الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية، التي تحقق الحرية والتقدم، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة.
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني: تحقيق المصلحة وروح العصر(17).(3/351)
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة.
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها:
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي:
1 - الآثار الدنيوية: وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله ـ عز وجل ـ الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر: ماذا يرضي ربه فيفعله، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم.(3/352)
2 - الآثار الدينية: وهذه أخطر من سابقتها؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله ـ عز وجل ـ يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله ـ عز وجل ـ لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ(18):"وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى، قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً)) [النساء: 66 - 68] وقال ـ تعالى ـ: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)) [العنكبوت: 69] وقال ـ تعالى ـ: ((والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)) [محمد: 4 - 6]، وقال ـ تعالى ـ: ((ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء)) [الروم: 10]، وقال ـ تعالى ـ: ((كِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ)) [المائدة: 15، 16]، وقال ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ)) [الحديد: 28]، وقال(3/353)
ـ تعالى ـ: ((وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)) [الأعراف: 154].
وما أجمل ما قاله سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ في النقل السابق حيث قال: "ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ـ ولو يسيراً ـ لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء".
3- الآثار الدعوية:
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره؟! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة:
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله ـ عز وجل ـ وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: ((ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) [الإسراء: 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله ـ عز وجل ـ وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها:(3/354)
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال ـ عز وجل ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) [النساء: 66] فذكر ـ سبحانه ـ في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي، ويشير الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول: "فالخلق كلهم قسمان: موفق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد، فبهما يثبِّت الله عبده؛ فكل ما كان أثبت قولاً، وأحسن فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال ـ تعالى ـ: ((ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً)) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً، والقول الثابت هو القول الحق والصدق"(19).
2 - مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة.
3 - التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله ـ عز وجل ـ لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف.
والمقصود: أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله ـ تعالى ـ. وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم.(3/355)
4 - إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير؛ لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها.
الهوامش:
(1) بدائع التفسير، 3/17.
(2) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(3) الموافقات للشاطبي، 2/ 268.
(4) تحفة الأحوذي، 6/145، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب.
(5) رواه الترمذي، ح/ 2186.
(6) أخرجه أبي داود، ح/ 3778، والترمذي في تفسير القرآن 2984، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004.
(7) رواه الترمذي، ح/ 2338.
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية، للعلامة محمد أمين المصري، ص 39 ـ 43 (باختصار).
(9) في ظلال القرآن، 2/ 1219.
(10) الموافقات، 2/ 128.
(11) المصدر السابق، ص / 247.
(12) إعلام الموقعين، 4/ 229.
(13) في ظلال القرآن، 3/ 245.
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب)، للأستاذ محمد حامد الناصر.
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية، ص 22.
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار).
(17) المصدر السابق، ص 353، 354.
(18)الفتاوى، 14/245.
(19) بدائع التفسير، 1/17.
مجلة البيان
================
أهداف الجهاد في سبيل الله(1)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________
(1) - موسوعة الدين النصيحة 1-5 - (ج 5 / ص 272)(3/356)
إن الهدف الرئيسي هو تعبد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً وإخلاء العالم من الفساد ، ذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم ، هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا ، وهو إنحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله عليه من التوحيد . كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته :" ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقتُ عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمتْ عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطاناً… "رواه مسلم [1].
والدليل على هذا قوله تعالى { وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين }[2]. قال ابن كثير " أمر الله تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة ، أي شرك ………… ويكون الدين لله ، أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان "[3]ا.هـ وقال الشوكاني " فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله " [4]ا.هـ
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا في دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " رواه البخاري [5].(3/357)
وعن جبير بن حيّة قال :فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مُقرِّن حتى إذا كنا بأرض العدو وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم فقال المغيرة : سلْ عما شئت قال : ما أنتم قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد نمصّ الجلد والثرى من الجوع ونلبس الوبر والشعر ونعبد الشجر والحجر فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السموات ورب الأرضين _ تعالى ذكره وجلت عظمته _ إلينا نبياً من أنفسنا نعرف أباه وأمه فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أن من قُتِل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط ومن بقي منا ملك رقابكم " رواه البخاري[6](3/358)
وفي حوادث غزوة القادسية " قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه لما بعثه سعد ابن أبي وقاص إلى رستم فدخل ربعي عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعي بثياب صفيقة _ سخيفة رثة _ وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له : ضع سلاحك فقال : إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها فقالوا له : ما جاء بكم فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نقفي إلى موعود الله قالوا : وما موعود الله قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقي ……… " ذكرها ابن كثير [7].
وهذا الهدف السامي الرئيسي موضع اتفاق بين علماء الإسلام .(3/359)
قال الشافعي " فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران : أحدهما أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه والآخر : أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية " [8]ا.هـ وقال محمد بن الحسن " فرضية القتال المقصود منها : إعزاز الدين وقهر المشركين "[9] ا.هـ وقال ابن القيم " والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله … فإن من كون الدين لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم فهذا من دين الله ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة "[10] ا.هـ
وقال ابن عبد البر" يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والغزارية والصقالبة والبربر والمجوس وسائر الكفار من العرب والعجم يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون "[11] ا.هـ
وإن هذا الهدف السامي المتضمن لإعلاء كلمة الله وهي الإسلام وإقامة سلطان الله في الأرض وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتج عنه وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام ويُعبِّدونهم لغير الله هو ما يجب أن يسعى إليه المجاهدون في كل مكان وزمان لا تأخذهم في الله لومة لائم .
ومن الأهداف التي تتبع لهذا الهدف الرئيسي :
1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }[12].(3/360)
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم … وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك … وأبعث جيشاً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك … "رواه مسلم [13].
قال النووي " إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده … " ا.هـ
2- إزالة الفتنة عن الناس وسواء ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم أو الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة أو فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله .
3- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار وحقيقتها حماية للعقيدة والمنهج وكلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة الإسلامية .
4- قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم كما {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق … }[14] و {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان }[15].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُسارى بدر "والله ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم " [16]ا.هـ
و {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * وذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء …}[17](3/361)
وقد قتل أبو جهل على يدي شاب من الأنصار ثم بعد ذلك وقف عليه عبد الله بن مسعود ومسك بلحيته وصعد على صدره حتى قال " لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم " ثم حز رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشفى الله به قلوب المؤمنين قال الحافظ ابن كثير " كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة أو أن يسقط عليه سقف منزله أو يموت حتفه والله أعلم "[18]ا.هـ
5- إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وإيهان كيدهم وإغاظتهم كما { وأعدوا لهم ما استطعتم ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم … }[19]
وفي حديث أم مالك البهزية قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقر بها قلت : يا رسول الله من خير الناس فيها قال :" رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه ورجل آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويُخوفونه "رواه الترمذي[20]
ورواه الحاكم ولقطه "يخيفهم ويخيفونه"وصممه ووافقه الذهبي[21] وصححه الألباني[22].
قال ابن القيم " ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له .
وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله تعالى : {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة … }[23]
سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً يراغم به عدو الله وعدوه والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين }[24]
فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة فموافقته فيها من كمال العبودية … وعلى قدر محبة العبد لربه ومالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة ولأجل هذه المراغمة حمد التبختر بين الصفين …"[25] ا.هـ
هذه بعض الأهداف
وللجهاد أهداف سامية ومصالح كريمة وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين في ذرات أنفسهم متى مارسوا الجهاد ومنها /(3/362)
1- كشف المنافقين / فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم غيرهم ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية وهم لا يريدون رفع كلمة الله على كلمة الكفر وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين وأكبر كاشف لهم هو الجهاد .
فهو يبذل فيه أغلى ما يملك غير عقيدته وهو روحه والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه والله تعالى يقول { … فإذا أنزلت محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم }[26]
والمنافقون هم العدو الداخلي وكثيراً خطرهم يفوق العدو الخارجي فإذا عرفوا منعوا من الغزو مع المسلمين ولا يستمع المسلمون لما يعرضونه عليهم من أراجيف وتثبيط ومن أقاويل يلبسونها ثياب النصح والإصلاح .
وواجب المؤمنين حينئذ كما {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير }[27]
2- تمحيص المؤمنين من ذنوبهم / كما { وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين }[28]
قال ابن كثير " وليمحص الله الذين آمنوا أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كان لهم ذنوب وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به وقوله " ويمحق الكافرين
أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم "[29]ا.هـ
2- تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس إذ الركون إلى الراحة والدعة وعدم ممارسة الشدائد والصعاب كورث العبد ذلاً وخمولاً وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا وهكذا خوض المعارك ومقاومة الأعداء والتعرض لنيل رضا الله في ساحات الوغى يصقل النفوس ويهذبها ويذكرها بمصيرها ويوجب لها استعداداً للرحيل حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة لها تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود والراحة .
والحمد لله رب العالمين
[ وقفة مع آية الجهاد ](3/363)
قال تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )الآية (البقرة 190)
2- قال تعالى :(واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين ،فإن انتهوا فإن الله غفوررحيم)الآية ( البقرة 192-191).
3- قال تعالى:}وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلاعدوان إلا على الظالمين {الآية (البقرة 193).
الآية الأولى : وفيها مبحثان : 1- الأول: سبب النزول الآية . 2- الثاني : مسائل الآية. -
سبب نزول الآية هو: ما روي عن سيدنا ابن عباس -رضي الله عنها - قال" نزلت هذه الآية في صلح الحديبية ،وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لما منع عن البيت هو وأصحابه ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل ، فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء ، وخافوا أن لاتفي قريش بذلك ،وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام ، فأنزل الله الآية " أ.هـ. (1). -
مسائل في الآية :وحاصلها أربع مسائل :(3/364)
1- قوله تعالى:( وقاتلوا ) هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ولا خلاف في أن القتال كان محظورا قبل الهجرة ثم لما هاجر إلى المدينة أمربالقتال . - وكذلك في النهي عن الاعتداء على من حرم الله الاعتداء عليهم وهم أصناف ستة: 1- النساء ، ولهن قيد هو: أنهن إذا قاتلن أو أعانوا على القتال قتلن . 2- الصبيان ، لأنهم لاتكليف عليم وللنهي الثابت في ذلك ، وثمت قيد هو:أن الصبي لوقاتل قتل. 3- الرهبان . 4- الزمنى - الزمن أي: المبتلى(2)- قال القرطبي " والصحيح أن تعتبر أحوالهم فإن كانت فيهم إذاية قتلوا وإلا تركوا "أ.هـ.(3). 5- الشيوخ ، قال القرطبي " والذي عليه جمهور الفقهاء إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل وبه قال مالك وأبو حنيفة وللشافعي قولان أحدهما مثل قول الجماعة والثاني يقتل هو والراهب والصحيح ألأول لقول أبي بكر ليزيد ولا مخالف له فثبت أنه إجماع" أ.هـ.(4). 6- العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون ،وخالف الشافعي ،قال القرطبي " والأول أصح"أ.هـ.(5).
2- (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) الخطاب في الآية عام لجميع المسلمين ممن أعتدي عليه. إلا أن الإمام الطوفي الصرصري الحنبلي قال في (تفسيره) (6) : " هو عام يخص بما إذا اقتضت المصلحة ترك قتال المقاتل مداراة عند الضعف عنه كما في الهدنة والصلح ، أو خديعة له إذ الحرب خدعة أو نحو ذلك " أ.هـ.
3- أن الآية على ماسبق من تأويل ، أما المرتد فليس إلا القتل أو التوبة ، قال القرطبي " وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة ومن أسر الإعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق" أ.هـ.(7).
4- الحث على الإخلاص في الجهاد ونهي عن الاقتتال في الفتن المسلمين.(8).(3/365)
الآية الثانية : وفيها مباحثان : 1- الأول : معنى الفتنة في اللغة و الاصطلاح الشرعي . 2- الثاني : مسائل في الآية.
معنى :الفتنة لغة : قال الإمام الراغب الأصفهاني:" أصل الفتن : إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته"أ.هـ(9). وقال الرازي " الإبتلاء والاختبار" أ.هـ.( 10). فالفتنة بمعنى : التمحيص . - قال الراغب " الفتن التي تكون من الأفعال التي تكون من الله كالبلايا والمصائب والقتل والعذاب هي حكمة ربانية ،ومتى كانت من الإنسان على غير وجه حق وبغير أمر الله تكون بضد ذلك - أي : مذمومة ، ولهذا ذم الله الإنسان بأنواع الفتنة في كل مكان نحو ( والفتنة أشد من القتل ).أ.هـ. وتكون الفتنة بمعنى الكفر كماسيأتي.
والفتنة ثلاثة أنواع :
1- ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم .
2- الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة.
3- فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن استماع الحق وقبوله .(12). -
مسائل في الآية وحاصلها أربع مسائل :
1- قوله تعالى ( ثقفتموهم ) قال القرطبي: " يقال ثقف يثقف ثقفا وثقفا ورجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور"(13).
2- قوله تعالى :( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) الآية ،قال القرطبي" للعلماء في هذه الآية قولان أحدهما أنها منسوخة والثاني أنها محكمة قال مجاهد الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل وبه قال طاوس وهو الذي يقتضيه نص الآية وهو الصحيح من القولين وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه" أ.هـ. (14). - قال السعدي في :(تفسيره 1/89)" يستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ( ترتكب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما )"أ.هـ.(3/366)
3- قال القرطبي : " قال بعض العلماء في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر فالكافر يقتل إذا قاتل بكل حال والباغي إذا قاتل يقاتل بنية الدفع ولا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح " أ.هـ.
4- قوله تعالى:( فإن انتهوا) قال القرطبي : " أي عن قتالكم بالإيمان فإن الله يغفر لهم جميع ما تقدم ويرحم كلا منهم بالعفو عما اجترم نظيره قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" أ.هـ .
الآية الثالثة :وفيها مبحثان : 1- الأول :مسائل الآية. 2- الثاني: أهداف الجهاد . -
مسائل الآية وحاصلها مسألتان :
1- الأولى : قوله تعالى:( وقاتلوهم ) قال القرطبي:" أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع على من رآها ناسخة ومن رآها غير ناسخة قال المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم فإن قاتلوكم والأول أظهر وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار دليل ذلك قوله تعالى ( ويكون الدين لله) وقال عليه السلام:( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر لأنه قال :(حتى لا تكون فتنة) أي: كفر فجعل الغاية عدم الكفر وهذا ظاهر قال بن عباس وقتادة والربيع والسدي وغيرهم الفتنة هناك الشرك " أ.هـ .
2- الثانية : قوله تعالى:( فإن انتهوا ) قال القرطبي:" أي : عن الكفر إما بالإسلام كما تقدم في الآية قبل أو بأداء الجزية في حق أهل الكتاب وإلا قوتلوا وهم الظالمون لا عدوان إلا عليهم وسمي ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان فسمي جزآء العدوان عدوانا كقوله :)وجزاء سيئة سيئة مثلها) والظالمون هم على أحد التأويلين من بدأ بقتال وعلى التأويل الآخر من بقى على كفر وفتنة" أ.هـ (15).
أهداف الجهاد . بهذا العرض المبسط نستطيع أن نلمح بعض حكم تشريعية من شعيرة عظيمة هي ذروة سنام الإسلام كما جاء في الخبر- الجهاد في سبيل:(3/367)
1- أن المقصود بالجهاد هو أن ( يكون الدين كله لله ) الآية ، وليس سفك الدماء . قاله السعدي في :(تفسيره 1/89)".
2- رد إعتداء المعتدين على المسلمين وهو ظاهر.
3- إزالة الفتنة بأشكالها - وسبقت - عن الناس حتى يستمعوا لدلائل التوحيد والشرع وما مقولة ربعي بن عامر - رضي الله عنه - المشهورة عنا ببعيد.
4- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار.أخرج الإمام أحمد بسنده في :(مسنده)- عن ابن عبدالله بن أنيس عن أبيه -رضي الله عنه - قال :(دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال :" إنه قد بلغني أن خال بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فأته فاقتله )(16)" ا.هـ. والله أعلم
كتبه : أحمد الحمدي الخميسي
( 23/12/1426هـ- 25/ ديسمبر/2005م). •
إحالات :
1- لباب النقول في أسباب النزول - للإمام السيوطي (ص:36-37)ت / عبد المجيد طعمه ،دار المعرفة ،لبنان بيروت ، ط،الثانية ،1419هـ.
2- مختار الصحاح - للرازي( 1/116).
3- تفسيرالإمام القرطبي ( ج2/ص:347).
4- المصدرالسابق( ج2/ص:347-348).
5- المصدرالسابق(ج2/ص: 348).
6- الإشارات الإلاهية في المباحث الأصولية (1/ 323)ت/حسن قطب ،الفاروق ،مصر، ط الثانية،2002م. 7- تفسير القرطبي ( ج2/ص:349).
8- تفسير السعدي( 1/89).
9- المفردات للإمام الراغب الأصفهاني (623-624).ت/صفوان داوودي .
10- مختار الصحاح - للرازي ( 1/205).
11- المفردات - للراغب ( 624).
12- أهداف الجهاد وغايته - د/علي بن نفيع العلياني (ص: 51-69).
13- تفسيرالقرطبي( ج2/ص351).
14- تفسير القرطبي( ج2/ص351).
15- تفسيرالقرطبي (ج2/ص:351-354).
16- أهداف الجهاد وغايته - د/علي بن نفيع العلياني (ص:58).
----------
حديث القرآن عن الجهاد في سبيل الله ( 2 )
محمد الأحمد
ثالثاً فضائل الجهاد:
قد وردت في الكتاب والسنة فضائل كثيرة للجهاد نجتزئ بذكر طرف مما ورد في كتاب الله منها:(3/368)
1 - أن حركات المجاهد كلها مكتوبة له من حين يخرج من بيته، قال - تعالى -: ]ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون[[التوبة: 120 121].
2 - أنه أفضل من نوافل العبادات، قال - تعالى -: [أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين، الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم][التوبة: 19 21]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فأخبر - سبحانه وتعالى- أنه لا يستوي عنده عمار المسجد الحرام وهم عُمّاره بالاعتكاف والطواف والصلاة هذه هي عمارة المساجد المذكورة في القرآن وأهل سقاية الحاج، لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله، وأخبر أن المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده، وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات، فنفى التسوية بين المجاهدين وعمار المسجد الحرام مع أنواع العبادة، مع ثنائه على عماره بقوله - تعالى -: [إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين]فهؤلاء هم عمار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم" [طريق الهجرتين: 623].
3 - أنه سبب للحصول على رحمة الله للآية السابقة.
4 - أنه سبب للحصول على رضوان الله للآية السابقة.(3/369)
5 - أنه سبب للفوز بمرتبة الشهادة والتي جعل الله أصحابها في مصاف النبيين فقال - تعالى -: [ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا][النساء: 69]، وأخبر الله عن منزلتهم عنده فقال: [ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين][آل عمران: 169 171].
6 - حصول المجاهد على الأجر العظيم، قال - تعالى -: [فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً][النساء: 74، 76]، وقال: [وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، درجات منه ومغفرة ورحمة].
7 - أنه سبب لدخول الجنة، قال - تعالى -: [إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم][التوبة: 111]، وقال - تعالى -: [الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبداً، إن الله عنده أجر عظيم][التوبة: 20 22]، وقال: [يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين][الصف: 10 13].(3/370)
8 - أنه سبب لمغفرة الله، لآية الصف السابقة.
9 - أنه سبب للنجاة من العذاب الأليم ودليل ذلك آية الصف السابقة.
10 - أنه سبب للفلاح، قال - تعالى -: [يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون][المائدة: 35].
11- أنه سبب لتحقق الإيمان، قال - تعالى -: [والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم][الأنفال: 72 74].
12 - أنه سبب لحفظ الحق وتمكينه ورفع الباطل، قال - تعالى -: [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد وصلوات يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز][الحج: 40]، [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين][البقرة: 251].
هذه جملة من فضائله وما تركناه أكثر من ذلك.
مراحل تشريع الجهاد:
مر الجهاد الإسلامي بمراحل قبل أن يصدر إلى حكمه النهائي الآنف الذكر، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة الكف عن المشركين والإعراض عنهم والصبر على أذاهم مع الاستمرار في دعوتهم إلى دين الحق، وقد دلت على ذلك كثير من الآيات المكية، منها قوله - تعالى -: [قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله.. ][الجاثية: 14]. وقال - تعالى -: [فمهل الكافرين أمهلهم رويدا][الطارق: 17]، وقال - تعالى -: [لست عليهم بمسيطر][الغاشية: 22]، وقال - تعالى -: [وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون، فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون][الزخرف: 88 89]. وغير ذلك من الآيات المكية.(3/371)
وبينت ذلك بعض الآيات المدنية، قال - تعالى -: [ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب][النساء: 77]، وقال رسول الله r لأصحابه في مكة: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا.. " [رواه النسائي والحاكم، وقالا على شرط البخاري]، ولما استأذنه أهل يثرب ليلة العقبة أن يميلوا على أهل منى فيقتلوهم قال: "إني لم أومر بهذا" [أخرجه أحمد والطيالسي].
ولعل من حكم الكف والله أعلم ما يأتي:
1- تربية الصحابة على الصبر على الظلم الذي يواجهونه من قومهم، فيتعودون على ضبط أعصابهم عند استثارتها، لأنهم تربوا في بيئة لا ترضى بذلك ولا تصبر عليه، وذلك ليتم الاعتدال في طبائعهم، وليكون في ذلك تربية على الانقياد والطاعة للقيادة التي لا يعرفها العرب.
2- وقد يكون لأن الدعوة السلمية أكثر أثراً في قبيلة ذات عنجهية وثارات إذ قد يدفعها قتالها إلى زيادة العناد، فتتولد من ذلك ثارات لا تنطفئ أبداً، وتكون مرتبطة بالدعوة إلى الإسلام فتتحول فكرة الإسلام من دعوة إلى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.
3- ولو أمروا بذلك وهم ليسوا سلطة منتظمة لوقعت مقتلة في كل بيت فيه مؤمن ثم يقال: هذا هو الإسلام يأمر بقتل الأهل والذرية، فتكون سلاحاً إعلامياً ضد المسلمين.
4- ولعلم الله السابق بأن كثيراً من هؤلاء المعاندين سيكونون من جند الله بل من خلصهم وقادتهم، وعمر بن الخطاب خير شاهد على ذلك.
5- ولقلة عدد المسلمين وانحصارهم في مكة فلو أمروا بالقتال لكان سبباً إلى فناء المؤمنين ولابد قبل الخوض في معركة مع الباطل من تأسيس القاعدة العريضة التي لا تتأثر بفناء ثلة منها في معركة حاسمة مع الطغاة.(3/372)
6- وربما كان ذلك أيضاً لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم، وقد وقع ما يدل لهذا، فابن الدغنة ثار لأبي بكر لما رآه خارج مكة يريد مفارقتها، وكذلك خبر نقض الصحيفة الجائرة، والصبر في مثل هذه المواطن يكسب الدعوة والدعاة تعاطفاً شعبياً، ولو أنهم لجأوا إلى القوة لخسروا هذا التعاطف بل قد يزداد الأمر شدة من كل الناس.
7- ولأن الصبر في مثل هذه المواطن يدعو إلى تفكر المجتمع في حال هؤلاء المؤمنين وإلى تساؤل مفاده: ما الذي يدعوهم إلى كل هذا التحمل؟ إن الذي يدعوهم إليه حق يحملونه في قلوبهم ويقين بصدق ما هم عليه لا يمكنهم التراجع عنه، فيكون ذلك سبباً في إيمانهم.
8- ولم تكن هناك ضرورة ملحة للقتال لأن النبي بعث في أمة تعيش على النظام القبلي، فالقبيلة لا ترضى أن يخلص إلى رجل منها وإن كان على غير دينها من قبيل النخوة، وقد كان رسول الله r محمياً من بني هاشم وكان يقوم بدعوته ولم تقدر قريش على قتله خوفاً من بني هاشم.
هذه هي بعض الحكم المستفادة من تلك المرحلة أطنب في ذكر بعضها سيد قطب في كتابه الظلال (2/713 715].
المرحلة الثانية: إباحة القتال من غير فرض في المدينة، قال - تعالى -: [إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذي أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع.. الآية][الحج: 38 40].(3/373)
المرحلة الثالثة: فرض القتال على المسلمين لمن يقاتلهم فقط، قال - تعالى -: [فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً. ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها، فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً]النساء: 90 91]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم، بل قال: [فإن تولوا فخذوهم.. الآية[وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله وإن كانت الهدنة عقداً جائزاً غير لازم][الجواب الصحيح: 1/73] وقال أيضاً: "فمن المعلوم من سيرة النبي الظاهر علمه عند كل من له علم بالسيرة أنه r لما قدم المدينة لم يحارب أحداً من أهل المدينة بل وادعهم حتى اليهود خصوصاً بطون الأوس والخزرج فإنه كان يسالمهم ويتألفهم بكل وجه، وكان الناس إذا قدمها على طبقات: منهم المؤمن وهم الأكثرون. ومنهم الباقي على دينه وهم متروك لا يحارب ولا يحارب. وهو والمؤمنون من قبيلته وحلفائهم أهل سلم لا أهل حرب، حتى حلفاء الأنصار أقرهم النبي على حلفهم" [الصارم المسلول: 99].(3/374)
المرحلة الرابعة: قتال جميع الكفار من كل الأديان ابتداء وإن لم يبدأوا بقتال حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية على الخلاف المعروف فيمن تؤخذ منه، وهذه المرحلة بدأت من انقضاء أربعة أشهر من بعد حج العام التاسع من الهجرة ومن بعد انقضاء العهود المؤقتة، وتوفي رسول الله والعمل على هذه المرحلة وعليها استقر حكم الجهاد، قال - تعالى -: [فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم][التوبة: 5]، وقال: [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون][التوبة: 29]. قال ابن القيم - رحمه الله -: "فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آل حال أهل العهد والصلاح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة" [زاد المعاد 3/160].(3/375)
وهل هذه المرحلة ناسخة لما قبلها من المراحل؟ نقول: إنها ناسخة بالنسبة لأقوام غير ناسخة بالنسبة لآخرين، فمن كان ذا قوة ومنعة ودولة وحاله كالحال التي آلت إليه دولة رسول الله r فإن المراحل السابقة منسوخة في حقه لا يجوز له العمل بها ألبتة، ومن كان في ضعف وذل بل ولا دولة له فإن المراحل السابقة غير منسوخة في حقه بل يعمل بالذي يناسب ظرفه الذي يعيش فيه، كما كان عليه المسملون أول الأمر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "... فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: [الصارم المسلول/221].
خامساً: أهداف الجهاد وغايته:
لم يشرع الجهاد عبثاً، ولا لتحقيق أهداف شخصية، أو مطامع مادية، أو مكاسب سياسية، أو لبسط النفوذ وتوسيع الرقعة، ولا لإزهاق النفوس وسفك الدماء، والتسلط على الناس واستعبادهم، وإنما شرع لأهداف جليلة، وغايات نبيلة، نذكر بأهمها بعد ذكر هدفه الأساسي:
أما هدفه الأساسي: فهو تعبيد الناس لله وحده، وإعلاء كلمة الله في الأرض، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
قال - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين][البقرة: 193]، وقال - سبحانه -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير][الأنفال: 39]، وقال - سبحانه -: [هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون][التوبة/33، الصف/9]. وقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" رواه مسلم.
ومن أهداف الجهاد:(3/376)
1- رد اعتداء المعتدين على المسلمين: قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين][البقرة/190]، وقال - تعالى -: [ألا تقاتلوا قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين][التوبة/ 13].
2- إزالة الفتنة عن الناس حتى يستمعوا إلى دلائل التوحيد من غير عائق وحتى يروا نظام الإسلام مطبقاً ليعرفوا ما فيه من عدل وإصلاح للبشر، قال - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة]، والفتنة أنواع:
أ - ما يمارسه الكفار من تعذيب المستضعفين من المؤمنين والتضييق عليهم ليرتدوا عن دينهم، قال - تعالى -: [وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والناس والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها.. ][النساء/ 75]، ومن ذلك أيضاً فك أسرى المسلمين كيلا يفتنهم الكفار.
ب - الأوضاع والأنظمة الشركية وما ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة فإن هذه من شأنها أن تفتن المسلم عن دينه، وبهذا فسر بعض السلف قوله - تعالى -: [وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة]، قالوا: إن الفتنة الشرك ونحوه، ولذلك فإن أهل الجزية من أهل الذمة ونحوهم يمنعون من المجاهرة بدينهم والتعامل بالربا وإظهار الزنا والخنا، لأن هذه الأوضاع تفتن المسلم عن دينه.
ج - فتنة الكفار أنفسهم وصدهم الناس ومن تحت ولايتهم عن استماع الحق وإقامتهم سياجاً منيعة أمام دين الله لئلا يدخله الناس، فيجب أن يقام على هؤلاء الجهاد حتى يفسح المجال لدين الله يراه الناس ويعرفونه وتقوم عليهم الحجة به، وبهذا يدخل الناس في الإسلام إذ غلب ما يصد الشعوب عن دين الله إقامة دول الكفر والحواجز والسدود أمام دين الله كيلا يدخل إلى الشعوب.(3/377)
3- حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار: قال - تعالى -: [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم... ]ومن أجل ذلك شرع الله الرباط على الثغور لحماية دولة الإسلام من المتربصين بها[يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون][آل عمران/ 200].
4- تأديب المتمردين والناكثين للعهود المنتهزين سماحة الإسلام وأهله، قال - تعالى - في حق من نقضوا العهود والمواثيق: [وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول][التوبة/ 12، 13]، وكذلك من كان بينه وبين المسلمين عهد وتوجس المسلمون منه شراً وحرباً، فإنه ينبذ إليه عهده ويكشف له حقيقة الأمر ثم يقاتل، قال - تعالى -: [وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين][الأنفال/ 58]، وكذلك البغاة من المسلمين وهم الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، فيقاتلون حتى تذهب ريحهم[فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله][الحجرات/ 9]، ومثل البغاة، من أجمعوا على ترك واجب أو فعل محرم وتواطأوا عليه فيقاتلون حتى يستقيموا، وأشد منهم المرتدون، فيقاتلون حتى يسلموا أو يبادوا كما فعل ذلك أبو بكر الصديق مع المرتدين.
5 - دفع الظلم والدفاع عن الأنفس والحرمات والأوطان والأموال قال - تعالى -: [أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله][الحج/ 39، 40].(3/378)
6- إرهاب الكفار وإخراجهم وإذلالهم وإغاظتهم[وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم][الأنفال/ 60]، وقال - سبحانه -: [قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين][التوبة/ 14]. وقال: [ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين][الأنفال/ 18]، وقال رسول الله: "خير الناس في الفتنة رجل معتزل في ماله يعبد ربه ويؤدي حقه، ورجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله يخيفهم ويخيفونه" [رواه أحمد]، قال ابن القيم: "... ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، وقد أشار - سبحانه - إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه أحدها قوله: [ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة][النساء/100]، سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً، يراغم به عدو الله وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوه وإغاظته كما قال - تعالى -: [ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار.. ]وقال - تعالى - في مثل رسول الله وأتباعه: [ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار][الفتح/ 29] اهـ [مدارج السالكين 1/266].(3/379)
تلك بعض أهداف الجهاد التي شرع من أجل تحقيقها، وأما غايته التي يتوقف عندها الجهاد: هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم عقيدة الإسلام من غير أهل الكتاب والمجوس. أما هؤلاء إذا دفعوا الجزية ملتزمين أحكام الإسلام حال كونهم في ذلك وصغار فإن المسلمين يكفون عن قتالهم وبهذا تكون كلمة الله هي العليا ودين الحق والباطل وأهلهما قائم ما وجد في الأرض اثنان، قال: "لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة" [متفق عليه]، وقال الإمام البخاري في صحيحه: باب الجهاد ماض مع البر والفاجر لقول النبي r: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنم، قال الحافظ: "سبقه إلى الاستدلال بهذا الإمام أحمد لأنه ذكر بقاء الخير في نواصي الخيل إلى يوم القيامة، وفسره بالأجر والمغنم.والمغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يقيد ذلك بما إذا كان الإمام عادلاً" [فتح الباري 6/42].
===============
الهدف من الجهاد (1)
لعلي العلياني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
إن للجهاد حكمًا بالغة وأهدافًا جليلة لأن الذي شرعه هو العليم الخبير ، فما دام الآمر به هو الحكيم فالحكمة والمصلحة ثابتة فيه قطعًا ، وتلمس حكمة الجهاد لا يتوقف القيام به على معرفتها عند المسلم الصادق ، فإن مقتضى العبودية أن ينفذ العبد أمر سيده ، عرف حكمته أو لم يعرف ، ولكن معرفة الحكمة تقوي العزائم وتشحذ الهمم وتيسر أمر التكاليف على المكلفين ونحو ذلك من الفوائد والمصالح ، ولنرجع إلى ما أمرنا الله به بالرجوع إليه "الكتاب والسنة" نأخذ منهما أهداف الجهاد وغايته .
__________
(1) - موسوعة الدين النصيحة 1-5 - (ج 5 / ص 281)(3/380)
الهدف الرئيسي : هو تعبيد الناس لله وحده وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعًا ، وإخلاء العالم من الفساد وذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا وهو انحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله عليه من التوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل قال ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا ..)) رواه مسلم .
فهدف الجهاد الإسلامي الأكبر هو إرجاع البشر إلى الأصل وهو الملة الحنيفية التي تخضعهم لرب العالمين وتجعلهم يستمدون منه سبحانه وتعالى منهج حياتهم الدنيا ويعبدونه كما أمر الله ولا يعبدون أحدًا غيره ، وهذا الخضوع لله هو الذي يحقق لهم السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة .
يقول سيد قطب رحمه الله تحت عنوان منهج متفرد :
((والآن يقول قائل إذا كان الإسلام وهو منهج الله للحياة البشرية لا يتحقق في الأرض وفي دنيا الناس إلا بالجهد البشري وفي حدود الطاقة البشرية ، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في البيئات المختلفة ، فما ميزته إذن على المناهج البشرية التي يضعها البشر لأنفسهم ويبلغون منها ما يبلغه جهدهم في حدود طاقتهم وواقعهم ولماذا يجب أن نحاول تحقيق ذلك المنهج وهو يحتاج إلى الجهد البشري ككل منهج ، فلا يتحقق منه شيء بمعجزة خارقة ، ولا بقهر إلهي ملزم ، وهو يتحقق في حياة الناس في حدود فطرتهم البشرية وطاقتهم العادية وأحوالهم الواقعية .(3/381)
ونحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج ابتداء لنحقق لأنفسنا صفة الإسلام ، فركن الإسلام الأول أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وشهادة أن لا إله إلا الله معناها القريب : إفراد الله سبحانه بالألوهية وعدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائصها ، وأولى خصائص الألوهية حق الحاكمية المطلقة الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد ، وحق وضع المناهج لحياتهم وحق وضع القيم التي تقوم عليها هذه الحياة .
فشهادة أن لا إله إلا الله لا تقوم ولا تتحقق إلا بالاعتراف بأن الله وحده حق وضع المنهج التي تجري عليه الحياة البشرية وإلا بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لأسباب تتعلق بالمنهج ذاته فهو وحده المنهج الذي يحقق كرامة الإنسان ويمنحه الحرية الحقيقية ويطلقه من العبودية .. هو وحده الذي يحقق له التحرر الكامل الشامل المطلق في حدود إنسانيته وعبوديته لله ... التحرر من العبودية للناس بالعبودية لله رب الناس ، وما من منهج آخر في الأرض يحقق هذه الخاصية إلا الإسلام .
ونحن ملزمون بمحاولة تحقيق ذلك المنهج لأنه وحده المنهج المبرأ من نتائج الجهل الإنساني والقصور الإنساني براءته من نتائج الضعف البشري ، فواضعه هو خالق هذا الكائن الإنساني العليم بما يصلحه ويصلح له ، وهو المطلع على خفايا تكوينه وتركيبه ، وخفايا الملابسات الأرضية والكونية كلها في مدى الحياة البشرية كذلك) هذا الدين 15-20.
والأدلة على أن هدف الجهاد الأكبر "تعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد وإزالة الطواغيت كلها من الأرض وإخلاء العالم من الفساد" كثيرة جدًا .
يقول الله عز وجل ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير)) 193 البقرة .
ويقول تعالى ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير))39الأنفال .(3/382)
قال ابن كثير رحمه الله : (ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة .. أي شرك .. قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم ، ويكون الدين لله : أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان)ابن كثير 1/329
وقال ابن الجوزي ويكون الدين لله:قال ابن عباس:أي يخلص له التوحيد) زاد المسير 1/200
وقال ابن جرير الطبري : (فقاتلوهم حتى لا يكون شرك ، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض ، وهو الفتنة ، ويكون الدين كله لله ، وحتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره ) تفسير الطبري 13/537.
وقال الشوكاني : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة : فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله وهو الدخل في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله)فتح القدير1/191.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) رواه مسلم
ويقول صلى الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله )) رواه البخاري
ويقول صلى الله عليه وسلم (( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري )) رواه أحمد وصححه الألباني .
وقد كان هذا الهدف العظيم للجهاد حاضرًا في حس الصحابة رضي الله عنهم أثناء معاركهم مع أعداء الله ، ففي صحيح البخاري عن جبير بن حية قال :((..فندبنا عمر واستعمل علينا النعمان بن مقرن ، حتى إذا كنا بأرض العدو ، خرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفًا ، فقام ترجمان فقال : ليكلمني رجل منكم .(3/383)
فقال المغيرة : سل عما شئت
قال : ما أنتم ؟
قال : نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد وبلاء شديد ، نمص الجلد والنوى من الجوع ، ونلبس الوبر والشعر ، ونعبد الشجر والحجر ، فبينا نحن كذلك إذ بعث رب السماوات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبيًا من أنفسنا ، نعرف أباه وأمه ، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط ، ومن بقي منا ملك رقابكم) رواه البخاري .
وذكر ابن كثير قصة ربعي ابن عامر رضي الله عنه لما بعثه سعد بن أبي وقاص إلى رستم وفيها ..( فدخل عليه و قد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة و الزرابي الحرير، و أظهر اليواقيت و اللآلئ الثمينة، و الزينة العظيمة، و عليه تاجه و غير ذلك من الأمتعة الثمينة. و قد جلس على سرير من ذهب. و دخل ربعي بثياب صفيقة و سيف و ترس و فرس قصيرة، و لم يزل راكبها حتى داس بها طرف البساط، ثم نزل و ربطها ببعض تلك الوسائد و أقبل و عليه سلاحه و درعه و بيضته على رأسه. فقالوا له : ضع سلاحك. فقال : إني لم آتكم، و إنما جئتكم حين دعوتموني فان تركتموني هكذا و إلا رجعت. فقال رستم : ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال اللَّه ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، و من ضيق الدنيا إلى سعتهما، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه و رجعنا عنه، و من أبي قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود اللَّه. قالوا : و ما موعود اللَّه : قال : الجنة لمن مات على قتال من أبي، و الظفر لمن بقي .. ) البداية والنهاية 7/39.(3/384)
وهذا الهدف السامي المتضمن إعلاء كلمة الله وهي الإسلام ، وإقامة سلطان الله في الأرض ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وإخلاء العالم من الفساد الأكبر الذي هو الشرك وما ينتج عنه ، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين الناس وبين الإسلام ويعبدونهم لغير الله ، موضع اتفاق بين علماء الإسلام ، وها هي ثلة من أقوالهم :
يقول الإمام الشافعي رحمه الله : (فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به حتى يجتمع أمران :
أحدهما : أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين من يمنعه.
والآخر : أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية حتى يُسلم أهل الأوثان أو يعطي أهل الكتاب الجزية ) الأم 4/167.
ويقول محمد بن الحسن رحمه الله : (فرضية القتال المقصود منها إعزاز الدين وقهر المشركين) السير الكبير للشيباني 1/188
ويقول ابن القيم رحمه الله : (والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله ، فإن من كون الدين كله لله إذلال الكفر وأهله وصغاره وضرب الجزية على رؤوس أهله والرق على رقابهم ، فهذا من دين الله ، ولا يناقض هذا إلا ترك الكفار على عزهم ، وإقامة دينهم كما يحبون ، بحيث تكون لهم الشوكة والكلمة) أحكام أهل الذمة 1/18.
ويقول ابن عبد البر المالكي رحمه الله : (يقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم من القبط والترك والحبشة والفزارية والصقالبة والبربر والمجوس ، وسائر الكفار من العرب و العجم ، يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)الكافي في فقه أهل المدينة ص466.
ويقول سيد قطب رحمه الله : (إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة الإسلام ذاته ، ودوره في هذه الأرض وأهدافه العليا التي قررها الله ، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات .(3/385)
إن هذا الدين .. إعلان عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ، ومن العبودية لهواه أيضًا وهي من العبودية للعباد ، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين ، إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ، أو بتعبير آخر مرادف الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور .
ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله .
إن هذا الإعلان معناه أن يكون السلطان لله تعالى ، وأن تكون الحاكمية له وحده تعالى ، وطرد المخالفين لذلك الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد .
إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض أو بالتعبير القرآني الكريم ((وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله )) ، (( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم )) ، (( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )).
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم ، هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يعرف باسم "الثيوقراطية" أو الحكم الإلهي المقدس ، ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله ، وفق ما قرره من شريعة مبينة .
وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي العباد ورده إلى الله وحده وسيادة الشريعة الإلهية وحدها ، وإلغاء القوانين البشرية .(3/386)
كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال
إن هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلانًا نظريًا فلسفيًا سلبيًا ، إنما كان إعلانًا حركيًا واقعيًا إيجابيًا يراد له التحقق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ، ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، والواقع الإنساني أمس واليوم وغدًا يواجه هذا الدين بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الناس في لأرض من كل سلطان غير سلطان الله بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية ، عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد .
وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات .. فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى ، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة ، وهما معًا _ البيان والحركة _ يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته ، وهما معًا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض .. الإنسان كله في الأرض كلها .. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى(3/387)
إن هذا الدين ليس إعلانًا لتحرير الإنسان العربي وليس رسالة خاصة بالعرب .. إن موضوعه هو الإنسان .. نوع الإنسان .. ومجاله هو الأرض كل الأرض .. إن الله سبحانه وتعالى ليس ربًا للعرب وحدهم ، ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم ، إن الله هو رب العالمين ، وهذا الدين يريد أن يرد العالمين إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره .
والعبودية الكبرى في نظر الإسلام هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر وهذه هي العبادة التي يقرر أنها لا تكون إلا لله ، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين .
ولقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي صار بها اليهود والنصارى مشركين مخالفين لما أمروا به من عبادة الله وحده .
أخرج الترمذي بإسناده عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منَّ رسول الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي عنقه (أي عدي) صليب من فضة ، وهو (أي النبي صلى الله عليه وسلم) يقرأ هذه الآية ((اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله )) فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم .. فذلك عبادتهم إياهم .
وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لقول الله سبحانه وتعالى نص قاطع على أن الاتباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أربابًا لبعض ، الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير الإنسان في الأرض من العبودية لغير الله .(3/388)
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان بالبيان وبالحركة مجتمعين ، وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعيد الناس لغير الله ، أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه ، والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق العقيدة بحرية لا يتعرض لها السلطان ، ثم لكي يقيم نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي ، بعد إزالة القوة المسيطرة سواء كانت سياسية بحتة أو متلبسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد)في ظلال القرآن (3/1433-1435)
ويقول أبو الأعلى المودودي رحمه الله : ( إن دعوة الإسلام إلى التوحيد وعبادة الله الواحد لم تكن قضية كلامية أو عقيدة لاهوتية فحسب ، شأن غيره من الملل والنحل .. بل الأمر أنها كانت دعوة إلى انقلاب اجتماعي أرادت في أول ما أرادت أن تقطع دابر الذين تسنموا ذروة الألوهية واستعبدوا الناس بحيلهم ومكايدهم المختلفة ، فمنهم من تبوأ مناصب السدنة والكهان ، ومنهم من أستأثر بالملك والإمرة وتحكم في رقاب الناس ومنهم من استبد بمنابع الثروة وخيرات الأرض وجعل الناس عالة يتكففون ولا يجدون ما يتبلغون به .
فأرادت دعوة الإسلام أن تقطع دابرهم جميعًا ، وتستأصل شأفتهم استئصالاً وهؤلاء تارة تسنموا قمة الألوهية جهرًا وعلانية وأرادوا أن يقهروا من حولهم من الناس على أن يذعنوا لأمرهم وينقادوا لجبروتهم ، مستندين إلى حقوقهم التي ورثوها عن آباءهم أو استأثرت بها الطبقة التي ينتمون إليها فقالوا ((ما علمت لكم من إله غيري )) و(( أنا ربكم الأعلى )) ، و (( من أشد منا قوة )) إلى غيرها من كلمات الاستكبار ، ودعاوى الألوهية ، التي تفوهوا بها ، وتجاسروا عليها بغيًا وعدوانًا .(3/389)
وطورًا استغلوا جهل الدهماء وسفههم فاتخذوا من الأصنام والتماثيل والهياكل آلهة يدعون الناس ويريدونهم على أداء مظاهر العبودية أمام هذه التماثيل والهياكل ، متوارين بأنفسهم من وراءها يلعبون بعقول الناس ويستعبدونهم لأغراضهم وشهواتهم وهم لا يشعرون ، فيتبين من ذلك أن دعوة الإسلام إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله الواحد الأحد وتنديده بالكفر والشرك بالله واجتناب الأوثان والطواغيت ، كل ذلك يتنافى ويتعارض مع الحكومة التي تستعبد البشر من دون الله ، والعاملين عليها المتصرفين في أمورها والذين يجدون فيها سندًا لهم وعونًا على قضاء حاجاتهم ، وأغراضهم ومن ثم ترى أنه كلما قام نبي من الأنبياء يجاهر الناس بالدعوة وخاطبهم قائلاً (( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) قامت في وجهه الحكومات المتمكنة في عصره وثار عليه جميع من كانوا يستغلون خيرات البلاد ويستثمرونها ظلمًا وعدوانًا ، خرجت تقاومه ونضع في سبيل الدعوة العقبات ، وذلك أن هذه الدعوة لم تكن مجرد بيان لعقيدة كلامية أو شرح لمسألة من مسائل الإلهيات ، وإنما كانت نداء لانقلاب اجتماعي عالمي ، ما كانت بوادره لتخفى على المستأثرين بمناصب العز والجاه المستبدين بمنابع الثراء ، ممن يشمون رائحة الاضطراب السياسي قبل حدوثه بأعوام .
إن الإسلام ليس بمجرد مجموعة من العقيدة الكلامية وجملة من المناسك والشعائر كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام .. بل الحق أن نظام شامل يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة الجارية في العالم ، ويقطع دابرها ويستبدل بها نظامًا صالحًا ومنهاجًا معتدلاً يرى أنه الخير للإنسانية من النظم الأخرى وأن فيه نجاة للجنس البشري من أدواء الشر والطغيان ، وسعادة له وفلاحًا في العاجلة والآجلة معًا .(3/390)
ودعوته في هذا السبيل سبيل الإصلاح والتجديد والهدم والبناء عامة للجنس البشري كافة لا تختص بأمة دون أمة أو طائفة دون طائفة ، فهو يدعو بني آدم جميعًا إلى كلمته حتى أنه يهيب بالطبقات الجائرة نفسها ممن اعتدوا حدود الله في أرضه واستأثروا بخيرات الأرض دون سائر الناس ، يهيب بالملوك والأمراء أنفسهم ويناديهم قائلاً : لا تطغوا في الأرض وادخلوا في كنف حدود الله التي حدها لكم ، وكفوا أيديكم عما نهاكم الله عنه وحذركم إياه ، فإن أسلمتم لأمر الله ودنتم لنظام الحق والعدل الذي أقامه للناس خيرًا وبركة فلكم الأمن والدعة والسلام ، فإن الحق لا يعادي أحدًا ، وإنما يعادي الحق الجور والفساد والفحشاء ، وأن يتعدى الإنسان حدوده الفطرية ويبتغي ما وراء ذلك ما لا حط له فيه حسب سنن الكون وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، فكل من آمن بهذه الدعوة وتقبلها بقبول حسن يصير عضوًا في الجماعة الإسلامية أو الحزب الإسلامي لا فرق في ذلك بين الأحمر منهم والأسود ، أو بين الغني والفقير ، كلهم سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لأمة على أمة ، أو لطبقة على أخرى ، وبذلك يتكون ذلك الحزب العالمي أو الأممي الذي سُمي حزب الله كما قال الوحي ، وما أن يتكون هذا الحزب حتى يبدأ بالجهاد في سبيل الغاية التي أنشئ لأجلها ، فمن طبيعته وما يستدعيه وجوده أن لا يألوا جهدًا في القضاء على نظم الحكم التي أسس بنيانها على غير قواعد الإسلام واستئصال شأفتها وأن يستنفذ مجهوده في أن يستبدل بها نظامًا للعمران والاجتماع معتدلاً مؤسسًا على قواعد ذلك القانون الوسط العدل الذي يسميه القرآن الكريم ((كلمة الله )) فإن لم يبذل هذا الحزب الجهد المستطاع ، ولم يسع وراء تغيير نظم الحكم ، وإقامة الحق ؛ نظام الحكم المؤسس على قواعد الإسلام ، ولم يجاهد حق جهاده في هذه السبيل فأتته غايته وقصر عن تحقيق البغية التي أنشئ من أجلها ، فإنه ما أنشئ إلا لإدراك هذه الغاية وتحقيق(3/391)
هذه البغية ، بغية إقامة نظام الحق والعدل ولا غاية له ولا عمل إلا الجهاد ((كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) .
ولا يظن أحد أن هذا الحزب ((حزب الله)) مجرد جماعة من الوعاظ المبشرين يعظون الناس في المساجد ويدعونهم إلى مذاهبهم ومسالكهم بالخطب والمقالات ليس إلا ..ليس الأمر كذلك وإنما هو حزب أنشأه الله ليحمل لواء الحق والعدل بيده ويكون شهيدًا على الناس ، ومن مهمته التي ألقيت على كاهله من أول يوم ، أن يقضي على منابع الشر والعدوان ، ويقطع دابر الجور والفساد في الأرض والاستغلال الممقوت وأن يكبح جماح الآلهة الكاذبة الذين تكبروا في أرض بغير الحق ، وجعلوا أنفسهم أربابًا من دون الله ، ويستأصل شأفة ألوهيتهم ، ويقيم نظامًا للحكم والعمران صالحًا يتفيأ ظلاله القاصي والداني والغني والفقير ، وإلى هذا المعنى أشار الله تعالى في غير واحدة من آي الذكر الحكيم .
((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله))
((إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))
((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون))(3/392)
فتبين من ذلك كله أن هذا الحزب لا بد له من امتلاك ناصية الأمر ، ولا مندوحة له من القبض على زمام الحكم ، لأن نظام العمران الفاسد لا يقوم إلا على أساس حكومة مؤسسة على قواعد العدوان والفساد في الأرض ، وكذلك ليس من الممكن أن يقوم نظام للحكم صالح ويؤتى أكله إلا بعد ما ينتزع زمام الأمر من أيدي الطغاة المفسدين ويأخذه بأيديهم رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا وأضف إلى ذلك أن هذا الحزب بصرف النظر عما يرمي إليه من إصلاح العالم وبث الخير والفضيلة في أنحاء الأرض كافة لا يقدر أن يبقى ثابتًا على خطته متمسكًا بمنهاجه عاملاً وفق مقتضياته ما دام نظام الحكم قائمًا على أساس آخر سائرًا على منهاج غير منهاجه ، وذلك أن حزبًا مؤمنًا بمبدأ ونظام للحياة والحكم خاص ، لا يمكن أن يعيش متمسكًا بمبدئه عاملاً حسب مقتضاه في ظل نظام للحكم مؤسس على مبادئ وغايات غير المبادئ والغايات التي يؤمن بها ويريد السير على منهاجها فإن رجلاً يؤمن بمبادئ الشيوعية إن أراد أن يعيش في بريطانيا أو ألمانيا متمسكًا بمبدئه سائرًا في حياته على البرنامج الذي تقرره الشيوعية فلن يتمكن من ذلك أبدًا ، لأن النظم التي تقررها الرأسمالية أو الناتسية تكون مهيمنة عليه قاهرة بما أوتيت من سلطان فلا يمكنه أن يتخلص من براثنها أصلاً .(3/393)
وكذلك المسلم إذا أراد أن يقضي حياته مستظلاً بنظام للحكم مناقض لمبادئ الإسلام الخالدة ويوده أن يبقى متمسكًا بمبادئ الإسلام سائرًا وفق مقتضاه في أعماله اليومية فلن يتسنى له ذلك ولا يمكنه أن ينجح في بغيته هذه أبدًا ، لأن القوانين التي يراها باطلة والضرائب التي يعتقدها غرمًا ونهبًا لأموال الناس ، والقضايا التي يحسبها جائرة عن الحق وافتئاتًا على العدل ، والنظم التي يعرف أنها مبعث الفساد في الأرض ومناهج التعليم التي يجزم بوخامة عاقبتها وسوء نتائجها ، ويرى فيها هلاكًا للأمة ، يجد كل هذه مهيمنة عليه ومسيطرة على بيئته وأهله وأولاده بحيث لا يمكنه أن يتخلص من قيودها ، وينجو بنفسه وأهله من أثرها ونفوذها فالذي يؤمن بعقيدة ونظام فردًا كان أو جماعة ، مضطر بطبيعة عقيدته وإيمانه بها أن يسعى سعيه في القضاء على نظم الحكم القائمة ، على فكرة غير فكرته ، ويبذل الجهد المستطاع في إقامة نظام الحكم مستند إلى الفكرة ، ويعتقد أن فيها سعادة للبشر ، لأنه لا يتسنى له العمل بموجب عقيدته والسير على منهاجه إلا بهذا الطريق .
وإذا رأيت رجلاً لا يسعى وراء غايته أو يغفل عن هذا الواجب فعلم أنه كاذب في دعواه ولما يدخل الإيمان في قلبه .
وبهذا المعنى ورد في التنزيل ((عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ، لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، والله عليم بالمتقين ، إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون))(3/394)
وأي شهادة وأي حجة انصع من شهادة القرآن وحجته ففي هذه الآيات من سورة براءة قد نص القرآن الكريم على أن الذي لا يلبي نداء الجهاد ، ولا يجاهد بماله ونفسه في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة الدين الذي ارتضاه لنفسه وتوطيد نظام الحكم المبني على قواعده ، فهو في عداد الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .
لعلك تبينت مما أسلفنا آنفًا أن غاية الجهاد في الإسلام هي هدم بنيان النظم المناقضة لمبادئه وإقامة حكومة مؤسسة على قواعد الإسلام في مكانها واستبدالها بها ، وهذه المهمة مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام غير منحصرة في قُطر دون قطر بل مما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة ، هذه غايته العليا ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره إلا أنه لا مندوحة للمسلمين أو أعضاء الحزب الإسلامي عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها .
أما غايتهم العليا وهدفهم الأسمى فهو الانقلاب العالمي الشامل المحيط بجميع أنحاء الأرض وذلك أن فكرة انقلابية لا تؤمن بالقومية بل تدعو الناس جميعًا إلى سعادة البشر وفلاح الناس أجمعين لا يمكنها أصلاً أن تضيق دائرة عملها في نطاق محدود من أمة أو قُطر ، بل الحق أنها مضطرة بسجيتها وجبلتها أن تجعل الانقلاب العالمي غايتها التي تضعها نصب عينيها ، ولا نغفل عنها طرفة عين ، فإن الحق يأبى الحدود الجغرافية ولا يرضى أن ينحصر في حدود ضيقة اخترعها علماء الجغرافيا واصطلحوا عليها ـ وفق المخططات الاستعمارية ـ ) مقتطفات من كلام المودودي نقلها سيد في الظلال (3/1448-1451)
َ - - - - - - - - - - - - -
المراجع والمصادر الهامة
في ظلال القرآن
زاد المعاد
صحيح البخارى
صحيح مسلم
التربية الجهادية لعبد العزيز بن ناصر الجليل
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين
الموسوعة الفقهية1-45 كاملة(3/395)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية
فتاوى السبكي
فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
فتاوى الأزهر
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين
فتاوى الإسلام سؤال وجواب
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فتاوى الرملي
الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي
تنقيح الفتاوى الحامدية
لقاءات الباب المفتوح
فتاوى من موقع الإسلام اليوم
مجموع فتاوى ابن باز
موسوعة خطب المنبر
موسوعة الخطب والدروس لي
موسوعة الدين النصيحة لي
فتاوى يسألونك
شرح السير الكبير
معالم القربة في طلب الحسبة
مجلة البيان
المكتبة الشاملة 2
برنامج قالون
كثير من مواقع النت
الفهرس العام
مقدمة حول طبيعة العلاقة مع أهل الكتاب
لا يجوز ليُّ أعناق النصوص الشرعية
الرد على من زعم عدم وجود فوارق بيننا وبين أهل الكتاب
كشف القرآن الكريم لحقيقة أهل الكتاب
الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
مراحل تشريع الجهاد في الإسلام
بعض سمات هذا الدين
"السمة الأولى:هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . .
"والسمة الثانية في منهج هذا الدين . . هي الواقعية الحركية . .
"والسمة الثالثة:هي أن هذه الحركة الدائبة , والوسائل المتجددة , لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة , ولا عن أهدافه المرسومة .
"والسمة الرابعة:هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى .
الإسلام قادم بإذن الله تعالى
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
شبهة وجوابها : الإسلام شرع الجهاد للدفاع عن النفس فقط
أصول السعادة في سورة العصر :
لا يجوز للمسلم أن يخجل من إظهار حقيقة الإسلام اليوم
الباب الأول
أحكام أهل الذمة في الفقه الإسلامي
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ وَحَقُّ آلِ الْبَيْتِ تَعْرِيفُ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ :
اخْتِلَافُ الدَّارِ
أَنْوَاعُ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ :(3/396)
الْإِرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ :
( وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ) :
الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ :
بَحْرُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْجُزُرِ :
دُخُولُ الْكَافِرِ أَرْضَ الْعَرَبِ لِغَيْرِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ :
مَا يُشْتَرَطُ لِدُخُولِ الْكُفَّارِ أَرْضَ الْعَرَبِ :
اسْتِئْمَانٌ :
تَمَلُّكُ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ :
إقَامَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ :
دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ :
أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ :
حِمَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
اسْتِسْقَاءٌ
خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ
ثَالِثًا : الْإِسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ :
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى
الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ
جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ
مَا لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ
لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
حُكْمُ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ مِنْ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ
الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ
آثَارُ الِالْتِزَامِ
تَحَقُّقُ الْأَمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ
أَهْلُ الْحَرْبِ
انْقِلَابُ الْحَرْبِيِّ ذِمِّيًّا
انْقِلَابُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى حَرْبِيٍّ
دِمَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمْوَالُهُمْ
أَوَّلًا : قَتْلُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ حَرْبِيًّا
ثَانِيًا : حُصُولُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ بِمُعَامَلَةٍ يُحَرِّمُهَا الْإِسْلَامُ :
أَهْلُ الذِّمَّةِ
أَوَّلًا - عَقْدُ الذِّمَّةِ :
مَنْ يَتَوَلَّى إبْرَامَ الْعَقْدِ :(3/397)
مَنْ يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ :
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ :
ثَانِيًا : حُصُولُ الذِّمَّةِ بِالْقَرَائِنِ
أ - الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ :
ب - زَوَاجُ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ :
ج - شِرَاءُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ :
ثَالِثًا - صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا بِالتَّبَعِيَّةِ :
رَابِعًا - الذِّمَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ :
حُقُوقُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
أَوَّلًا - حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ لَهُمْ :
ثَانِيًا - حَقُّ الْإِقَامَةِ وَالتَّنَقُّلِ :
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :
رَابِعًا - اخْتِيَارُ الْعَمَلِ :
الْمُعَامَلَاتُ الْمَالِيَّةُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ :
أ - الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ :
ب - ( ضَمَانُ الْإِتْلَافِ ) :
ج - اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا لِلْخِدْمَةِ :
د - وَكَالَةُ الذِّمِّيِّ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ :
هـ - عَدَمُ تَمْكِينِ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ :
و - شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
أَنْكِحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا :
وَاجِبَاتُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَالِيَّةِ
أ - الْجِزْيَةُ :(3/398)
وَهِيَ الْمَالُ الَّذِي تُعْقَدُ عَلَيْهِ الذِّمَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ لِأَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ , تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ . وَتُؤْخَذُ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الذَّكَرِ , وَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ اتِّفَاقًا , كَمَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا : السَّلَامَةُ مِنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَفِي مِقْدَارِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَمَا تَسْقُطُ بِهِ الْجِزْيَةُ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( جِزْيَةٌ ) . ب - الْخَرَاجُ :
وَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا . وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِسَاحَتِهَا وَنَوْعِ زِرَاعَتِهَا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْخُمُسِ أَوْ السُّدُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ : ( خَرَاجٌ ) ج - الْعُشُورُ :
مَا يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ
جَرَائِمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعُقُوبَاتُهُمْ
أَوَّلًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْحُدُودِ :
ثَانِيًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِصَاصِ :
ثَالِثًا - التَّعْزِيرَاتُ :
خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ
مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ
حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ
عَقْدُ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ
مُجَاهَدَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ
تَرْكُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ :
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ , أَوْ مِيثَاقُهُ , أَوْ ذِمَّتُهُ :(3/399)
اتِّخَاذُ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ :
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ
اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِالْكُفَّارِ :
بَيْتُ الْمَالِ
مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ
مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ
أَمْثِلَةٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ :
تَبْيِيتٌ
حُكْمُ التَّبْيِيتِ : أَوَّلًا : تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ :
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : التَّقَوُّمُ :
مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ الْبَيْعِ :
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ
تَحْقِيرٌ
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :
تَحَوُّلُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى ذِمِّيٍّ
تَحَوُّلُ الذِّمِّيِّ إلَى حَرْبِيٍّ
تَشَبُّهٌ
3 - وَمِنْهَا : الْمُوَافَقَةُ , وَهِيَ : مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْآخَرِ أَمْ لَا لِأَجْلِهِ . فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنْ التَّشَبُّهِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّشَبُّهِ :
أَوَّلًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ :
أَحْوَالُ تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ :
سَادِسًا : تَشَبُّهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ :
أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ
الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ
الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ
تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ
صِفَةُ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ
تَقْبِيلٌ
تَقَوُّمُ الْمُتْلَفَاتِ
مَنْ شُرِعَ لَهُ التَّيْسِيرُ
أ - جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ :
«ب - جباية الخراج»
ج - جِبَايَةُ عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
جِزْيَةٌ
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ فِي الْإِسْلَامِ :
الْأَدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :
أَنْوَاعُ الْجِزْيَةِ :(3/400)
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَالْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ :
ثَانِيًا - جِزْيَةُ الرُّءُوسِ , وَالْجِزْيَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ :
( طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ ) :
عَقْدُ الذِّمَّةِ :
إجَابَةُ الْكَافِرِ إلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ :
رُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ :
مَحَلُّ الْجِزْيَةِ :
الطَّوَائِفُ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ :
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ :
( الْمَجُوسُ ) :
قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ الصَّابِئَةِ :
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ :
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ :
شُرُوطُ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ :
أَوَّلًا : ( الْبُلُوغُ ) :
ثَانِيًا : ( الْعَقْلُ ) :
ثَالِثًا : ( الذُّكُورَةُ ) :
رَابِعًا : ( الْحُرِّيَّةُ ) :
خَامِسًا : ( الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ ) :
سَادِسًا : أَلَا يَكُونَ مِنْ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ :
سَابِعًا : السَّلَامَةُ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ :
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ :
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ :
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ :
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ :
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
1 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ :
2 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ :
3 - دَفْعُ الْجِزْيَةِ إلَى الْبُغَاةِ :
حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطُّرُقِ " :
مَا يُرَاعِيهِ الْعَامِلُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ :
الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ :
الْأَمْوَالُ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْجِزْيَةُ :
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ :
تَأْخِيرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ :(3/401)
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَقْسَاطٍ :
كِتَابَةُ عَامِلِ الْجِزْيَةِ بَرَاءَةً لِلذِّمِّيِّ :
الرِّقَابَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ :
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :
مُسْقِطَاتُ الْجِزْيَةِ :
الْأَوَّلُ : الْإِسْلَامُ :
حُكْمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَمَّا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ بَعْدَ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ :
الثَّانِي : الْمَوْتُ :
الثَّالِثُ : اجْتِمَاعُ جِزْيَةِ سَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ :
الرَّابِعُ : طُرُوءُ الْإِعْسَارِ :
الْخَامِسُ : التَّرَهُّبُ وَالِانْعِزَالُ عَنْ النَّاسِ :
السَّادِسُ : الْجُنُونُ :
السَّابِعُ : الْعَمَى وَالزَّمَانَةُ وَالشَّيْخُوخَةُ :
الثَّامِنُ : عَدَمُ حِمَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
التَّاسِعُ : اشْتِرَاكُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ :
مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ :
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْجِهَادِ
مُجَاوَرَةُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ :
و - تَحْرِيقُ الْعَدُوِّ بِالنَّارِ , وَتَغْرِيقُهُ بِالْمَاءِ , وَرَمْيُهُ بِالْمَنْجَنِيقِ :
( جَهْلٌ )
أَقْسَامُ الْجَهْلِ : يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إلَى قِسْمَيْنِ :
حِجَازٌ
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ :
خَامِسًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ :
شُرُوطُ الْحِمَى :
( أَحْكَامُ الْحَمَالَةِ ) :
دُخُولُ الذِّمِّيَّةِ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ :
خَرَاجٌ
انْتِقَالُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إلَى الذِّمِّيِّ , وَمَا يَجِبُ فِيهَا :
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ :
ب - تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ :
شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِلِ الْخَرَاجِ :
1 - الْإِسْلَامُ :
2 - ( الْحُرِّيَّةُ ) :
3 - ( الْأَمَانَةُ ) :
4 - ( الْكِفَايَةُ ) :
5 - ( الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ ) :
الْخُرُوجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ :
إقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ :(3/402)
سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إتْلَافُهُ :
خِيَانَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
الْمُسَابَقَةُ بَيْنَهَا :
دَارُ الْإِسْلَامِ
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ :
الْأَمَانُ لِأَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ :
ب - ( الدِّيَةُ ) :
دَهْرِيٌّ
دَوْلَةٌ
أَوَّلًا : الْحَاكِمُ أَوْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ :
ثَانِيًا : وَلِيُّ الْعَهْدِ :
ثَالِثًا : أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ:
رَابِعًا : الْمُحْتَسِبُ :
خَامِسًا : الْقَضَاءُ :
سَادِسًا : بَيْتُ الْمَالِ :
وَاجِبَاتُ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ :
دِيوَانُ الدَّوْلَةِ وَأَقْسَامُهُ :
كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ :
انْتِهَاءُ الذِّمَّةِ :
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ :
( دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ ) :
( نَصْبُ الْعَشَّارِينَ ) :
3 - الْكُفَّارُ وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ :
5 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا :
( زُنَّارٌ )
مَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّنَّارِ مِنْ أَحْكَامٍ :
أَوَّلًا : اتِّخَاذُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الزُّنَّارَ :
ثَانِيًا : لُبْسُ الْمُسْلِمِ الزُّنَّارَ :
حُكْمُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
سَبُّ الذِّمِّيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
أَسْبَابُ السَّبْيِ :
الْأَوَّلُ - الْقِتَالُ :
الثَّانِي : النُّزُولُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ :
الثَّالِثُ - الرِّدَّةُ :
الرَّابِعُ : نَقْضُ الْعَهْدِ :
ب - الْمُفَادَاةُ :
أَرْكَانُ السَّرِقَةِ :
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ : السَّارِقُ :
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ :
شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي :
سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ :
السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ :
رَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ :
سِلْمٌ(3/403)
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : أَوَّلًا : السِّلْمُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ :
. ثَانِيًا : السِّلْمُ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ :
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُؤَقَّتًا . وَيَأْتِي فِي صُورَتَيْنِ :
الْأُولَى : عَقْدُ الْهُدْنَةِ :
شَهَادَةُ الزُّورِ :
صَابِئة
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّابِئَةِ :
إقْرَارُ الصَّابِئَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ :
دِيَةُ الصَّابِئِ :
حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ , وَحُكْمُ تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ :
وَقْفُ الصَّابِئَةِ :
هـ - الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ :
الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ :
اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ :
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ :
أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي شَهَادَةِ الْمَقْتُولِ :
عَرْضٌ
عُشْرٌ
حُكْمُ أَخْذِ الْعُشْرِ :
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ :
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ :
الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ تُعَشَّرُ أَمْوَالُهُمْ :
أَوَّلًا : الْمُسْتَأْمَنُونَ :
ثَانِيًا : أَهْلُ الذِّمَّةِ :
( تَعْشِيرُ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ ) :
شُرُوطُ مَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ :
الْأَمْوَالُ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْعُشْرِ :
شُرُوطُ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ :
مِقْدَارُ الْعُشْرِ :
ثَانِيًا : الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الْحَرْبِيِّ :
الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ :
( وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ ) :
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ :
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ :
حُكْمُ الْعَمَلِ عَلَى الْعُشُورِ :
شُرُوطُ الْعَاشِرِ :
مَا يُرَاعِيهِ الْعَاشِرُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ :
د - ( الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْعُشْرِ ) :
. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ :(3/404)
. مُسْقِطَاتُ الْعُشْرِ :
( مَصَارِفُ الْعُشْرِ ) :
صِفَةُ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
عَنْوة
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ )(عنوة ) :
- ( عَقْدُ الْجِزْيَةِ ) :
عِيادة
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
غَدْر
الْغَدْرِ ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
غَصْبُ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ :
غَنِيمَةٌ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْغَنِيمَةِ :
مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ :
( أَصْحَابُ الرَّضْخِ ) :
انْفِرَادُ الْكُفَّارِ بِغَزْوَةٍ :
غِيلَةٌ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِيلَةِ مِنْ أَحْكَامٍ : الْقَتْلُ غِيلَةٌ :
فِدَاءُ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ , بِآلَاتِ الْحَرْبِ , وَالْكُرَاعِ :
فِدْيَةٌ
ز - ( الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدَّارِ ) :
فَقِيرٌ
الْفَقِيرُ الَّذِي تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ :
ب - ( مَوَارِدُ الْفَيْءِ ) :
قَبَالَةٌ
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ :
مَنْ تُوَجَّهُ إلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ :
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْكَافِرِ :
وِلَايَةُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ :
حُكْمُ لُبْسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْقَلَانِسَ :
طرق توفير الكفاية :
أ - توفير الكفاية عن طريق الزّكاة :
ب - توفير الكفاية عن طريق بيت المال :
ج - توفير الكفاية عن طريق توظيف الضّرائب على الأغنياء :
جزاء الكافر في الآخرة والدنيا :
نكاح المسلم كافرةً ونكاح الكافر مسلمةً :
رابعاً : المستحق للإطعام :
ما يشترط في التّكفير بالكسوة :
ب - كنوز الجاهليّة :
ج - الكنز المشتبه الأصل :
ثانياً : تقسيم الكنز الجاهليّ بالنّظر إلى الدّار الّتي وجد فيها :
النّوع الأوّل : الكنز الّذي يوجد في دار الإسلام :
النّوع الثّاني : الكنوز الّتي يجدها المسلم أو الذّمّي في دار الحرب :
ملكيّة الكنز :
ملكيّة الكنوز الإسلاميّة :
مسائل فقهيّة خاصّة بالكنز :
احتفار الذّمّيّ والمستأمن للكنوز :
لحوق الذّمّيّ بدار الحرب :(3/405)
ز - النّهي عن ألفاظٍ معيّنةٍ :
الحكم بإسلام اللّقيط أو كفره :
حرمة مال المسلم والذّمّيّ :
مَجُوس
الأحكام المتعلّقة بالمجوس :
عقد الذّمّة للمجوسيّ :
شهادة مدمن الخمر :
ثياب مدمن الخمر من حيث الطّهارة والنّجاسة :
أكل الأفيون للمدمن عليه :
المرور على العاشر :
مُسْتأمِن *
أمان المستأمن
أ - مشروعيّة الأمان والحكمة فيها :
أولاً - أمان الإمام أو نائبه :
ثانياً - أمان الأمير :
ثالثاً - أمان آحاد الرّعيّة :
هـ - ما ينعقد به الأمان :
و - شرط إعطاء الأمان للمستأمن :
ز - شروط المؤمِّن :
اختلف الفقهاء في أمان العبد والمرأة والمريض على التّفصيل الآتي :
ك - ما ينتقض به الأمان :
ل - ما يترتّب على رجوع المستأمن إلى دار الحرب :
م - ما يجوز للمستأمن حمله في الرجوع إلى دار الحرب :
الدخول إلى دار الإسلام بغير أمان :
نكاح المسلم بالمستأمنة :
التّفريق بين المستأمن وزوجته لاختلاف الدّار :
التّوارث بين المستأمنين وبينهم وبين غيرهم :
المعاملات الماليّة للمستأمن :
قصاص المستأمن بقتل المسلم وعكسه :
دية المستأمن :
زنا المستأمن وزنا المسلم بالمستأمنة :
قذف المستأمن للمسلم :
النّظر في قضايا المستأمنين :
شهادة المسلم على المستأمن وعكسه :
شهادة الكفّار بعضهم على بعض :
إسلام المستأمن في دارنا :
موت المستأمن في دارنا :
أخذ العشر من المستأمن :
ما يرضخ للمستأمن من مال الغنيمة :
ما يستحقّه للمستأمن من الكنز والمعدن :
تحول المستأمن إلى ذمّيٍّ :
استئمان المسلم :
ج - قتال المسلم المستأمن في دار الحرب :
د - قتل المستأمن المسلم مسلماً آخر في دار الحرب :
دخول الكافر المسجد الحرام :
سادساً : مصافحة الكافر :
مضاربة غير المسلم :
مَعَابِد
أقسام المعابد :
الأحكام المتعلّقة بالمعابد :
إحداث المعابد في أمصار المسلمين :
هدم المعابد القديمة :
15 - الأراضي المفتوحة صلحاً ثلاثة أنواعٍ :
إعادة المنهدم :
ترميم المعابد :(3/406)
نقل المعبد من مكانٍ إلى آخر :
اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً :
الصّلاة في معابد الكفّار :
النزول في الكنائس :
دخول المسلم معابد الكفّار :
الإذن في دخول الكنيسة والإعانة عليه :
ملاعنة الذّمّيّين في المعابد :
وقوع اسم البيت على المعابد :
بيع عرصة كنيسةٍ :
بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً :
استئجار أهل الذّمّة داراً لاتّخاذها كنيسةً :
جعل الذّمّي بيته كنيسةً في حياته :
عمل المسلم في الكنيسة :
ضرب النّاقوس في المعابد :
الوقف على المعابد :
الوصيّة لبناء المعابد وتعميرها :
حكم المعابد بعد انتقاض العهد :
المفارقة في النّكاح :
مُكُوس
الشّهادة على المكوس :
إظهار أهل الذّمّة المنكر في دار الإسلام :
نقض
ثانيا نقض العهود
و- الجزية
نكاح الكفار
نَكْث
أ- الحكم التكليفي للنكث
ب- الحكم الوضعي للنكث
ويشترط في وزير التنفيذ شروط خاصة ، تتعلق بعمله ،
الوصية لجهة عامة
الوصية لغير المسلم
تَوَطُّنُ الْحَرْبِيَّةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
الشروط المعتبرة في الداعي:
أولاً ـ كون الداعي مطلق التصرف:
ثانياً ـ كون الداعي مسلماً:
يوم السبت
جـ ـ ترك اليهودي طلب الشفعة يوم السبت:
د ـ إحضار اليهودي إلى مجلس القضاء يوم السبت:
الباب الثاني
بعض الفتاوى المعاصرة حول أحكام أهل الذمة
الإسلام تكفل بحماية غير المسلمين من أهل الذمة
شهادة أهل الذمة على بعضهم
مَا يَحِلُّ مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ .
قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أُلْزِمُوا بِلِبَاسِ غَيْرِ لِبَاسِهِمْ الْمُعْتَادِ
( مَسْأَلَةٌ ) فِي مَنْعِ تَرْمِيمِ الْكَنَائِسِ
( بَابُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ )
( بَابُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ )
( بَابٌ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )
( بَابُ مَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ )
( بَابُ التَّرْمِيمِ وَالْإِعَادَةِ )(3/407)
جيوش الكفار في بلاد المسلمين هل هم أهل الذمة؟
الخراج معناه وأنواعه وأحكامه.
حكم الله يجب تطبيقه ولو كان يعيش مع المسلمين أقلية من غيرهم
الشروط العمرية التي تخص أهل الذمة
دار الإسلام ودار الحرب
الأحوال التي يجوز فيها دخول أهل الكتاب إلى جزيرة العرب
لا تناقض بين الشروط العمرية والعهدة العمرية
حرية العقيدة لا تعني حرية الارتداد
وجوب تمييز غير المسلمين في المجتمع الإسلامي باللباس
المسلمون مطالبون بتحكيم الشريعة ولو كان نصف السكان نصارى
ما حكم من يقتل كافرا ؟
التصدق على الكافر... رؤية شرعية
الزواج بالكتابية وما يترتب عليه من ذرية مباح
أقوال العلماء في شأن الكنائس
حكم جلوس المعتدة مع خادمة نصرانية
أقوال الفقهاء في وراثة المسلم من الكافر
الكذب والسرقة من الكفار...رؤية شرعية
المكس...تعريفه...وحكمه
إطلاق الأسماء الإسلامية على غير المسلمين
الكافرة إذا أسلمت وهي تحت زوج كافر...رؤية شرعية
الفرق بين الذمي والمعاهد
حكم الاحتفال بعيد أول السنة الميلادية الكريسمس.
سبب أفضلية اللغة العربية عن غيرها
نفقة الأولاد على أبيهم واجبة وإن كان كافرا
مراتب حقوق الجار المسلم وغيره
حكم تقبيل الكافر ومصافحته
كفار أهل الكتاب يختلفون في بعض الأحكام عن بقية الكفار
دخول الكنائس يجوز من وجه دون وجه
كيفية مناداة الكافر
أهل الكتاب والذمة وموقف المسلم منهم
حكم قول القائل "مفهوم الجهاد ينبني على الطائفية"
حكم كشف المرأة رأسها للمرأة الكتابية
فرق بين العهدة العمرية والشروط العمرية
النظر إلى زينة نساء أهل الذمة.. رؤية شرعية
مسائل في الوقف
حكم الرد على الكافر بقول وعليكم السلام
حكم استعمال ثياب الكفار وآنيتهم
حكم دفع كفارة اليمين للكافرين
حكم استضافة الكافر وما يفعله إذا أضافه
حكم مصافحة المرأة المسلمة للمرأة الكافرة
يشترط كون المتبرَع له بالأعضاء معصوم الدم
حكم تزين المرأة عند كوافيرة مسيحية(3/408)
الجزية من محاسن الإسلام
هل يأذن للخادمة النصرانية للذهاب إلى الكنيسة
كشف الذميات عن سوقهن هل كان من الشروط عليهن
حكم قتل الكافر الذمي
المعاهد.. معناه.. وشروط سكنه في البلاد الإسلامية
مؤلفات تناولت كيفية معاملة المسلم للكفار
حكم الإذن للكافر بالصلاة في المسجد
السرقة من أهل الذمة.. رؤية شرعية
أقوال العلماء في رد السلام على الكافر
خطورة السماح بالتنصير في البلاد الإسلامية
تفسير قوله تعالى (..أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن..)
هل يعطى فقراء أهل الكتاب من الزكاة
سقوط الجزية عن الذمي بإسلامه
المسلم لا يرضى بالدنية في دينه
أمر الإسلام بالإحسان في معاملة أهل الذمة
شهادة الكافر على المسلم
وقف الذمى بين الصحة والبطلان ...
تبرع غير المسلم ومساهمته فى بناء المسجد جائز شرعا ...
أملاك غير المسلمين فى بلاد المسلمين ليست فيئا أو غنيمة
تأجير مكان لعمل محرم
عورة المسلمة مع غير المسلمة
العلاقة بين المسلم و غيره
بيوت العبادة لغير المسلمين فى بلاد الإسلام
التفرقة العنصرية
القصاص من المسلم للكافر
نقل الخمر وأكل الطعام المصنوع بالنبيذ والزواج بالكنيسة
مطلقة الذمى وعدتها
كيفية معاملة الكفار
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم
حكم مخالطة الكفار ومعاملتهم بالرفق
حكم رد السلام على الكافر
لماذا لا يعيش المسلمون واليهود معا بسلام
حكم الزواج من غير المسلمة
216 - 216 - بَابٌ : مَا يُبَاعُ مِنْ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ
( الْبَابُ الرَّابِعُ : فِي الْحِسْبَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ )
أحكام أهل الذمة باقية لم تنسخ
أهْلُ الذِّمَّة
واجبات أهل الذمة
الاستعانة بغير المسلمين وغير الصالحين على مافيه الخير جائزة
حقيقة الخمر وحكمها
حديث : لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان
القيام للجنازة
اختلاط المال الحلال بالحرام
التحية بالانحناء
الزراعة بين الدين والدنيا
معاملة الذمي
هل يعطى الكافر من لحم الأضحية أم ما فيه صدقة؟(3/409)
الفرق بين أهل الذمة والمستأمنين
حكم إحداث أهل الذمة مكانالعبادتهم
بَابُ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ
وقف الذمي
وقف الذمي داره على بنيه ثم على كنيسة
ذِمِّيٍّ وَقَفَ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ
وقف الذمية على فقراء اهل الذمة
( سُئِلَ ) عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا بَنَى دَارًا عَالِيَةً بَيْنَ دُورِ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ لَهَا طَاقَاتٍ وَشَبَابِيكَ تُشْرِفُ عَلَى جِيرَانِهِ هَلْ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ ؟
حكم محاكاة النصارى في أعيادهم
حكم التهنئة برأس العام الجديد
خضور جنازة الكافر في الكنيسة
كيفية توزيع الأضحية
تعزية غير المسلم
هل يجوز حضور الاحتفال بأعياد النصارى وتهنئتهم بها ؟.
مقاطعة بضائع الكفار المحاربين
ما معنى اتخاذ الكفار أولياء ؟ وحكم مخالطة الكفار
حكم تهنئة الكفار بأعيادهم .
يُدعى للذهاب مع الكفّار إلى أماكن
بماذا نردّ إذا سلم علينا أهل الكتاب
منع المسلم زوجته غير المسلمة من الاحتفال بأعيادها الدينية
حكم فتح المحلات التجارية في يوم عيدٍ للكفار
تسريح الشعر
مسلم يقوم بجمع التبرعات للكنيسة فهل يقبل صومه؟
نظرة واقعية للزواج من الكتابيات
اللين مع الكفار بقصد الدعوة
معاملة المسلم لغير المسلم
أهداف الجهاد
حقوق الإنسان الزائفة
في حياة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
حيّ على الجهاد
حكومة طالبان وكسر الأوثان
موقف المسلم من الأديان الأخرى
من الحروب الصليبية إلى التنصير
أتدرون ما الإرهاب؟!
الرحمة في الإسلام
ضوابط العلاقة بأهل الكتاب
صور من الحروب الصليبية
لا مكان للإحباط حتى بعد سقوط بغداد ثانية
أعياد الكفار
نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
أنت أيها الآخر
أصول التعامل مع غير المسلمين
أولاً: أصناف غير المسلمين:
أولاً: أصناف غير المسلمين:
ثانيا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:(3/410)
ثالثًا: أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
رابعًا: أصول في التعامل خاصّة بكل صنف:
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
فتنة مسايرة الواقع
أهداف الجهاد في سبيل الله
حديث القرآن عن الجهاد في سبيل الله ( 2 )
مراحل تشريع الجهاد:
الهدف من الجهاد
المراجع والمصادر الهامة(3/411)