الخلاصة في أحكام أهل الذمة
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
حقوق الطبع لكل مسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فقد قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (33) سورة التوبة
وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (28) سورة الفتح
أجل ما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله ، من حيث هو دين .
فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ومع نواميس الوجود الأصيلة؛ ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب!
وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة . . { وكفى بالله شهيداً } . .
وشهادة الله لهذا الدين بأنه { الهدى ودين الحق } هي الشهادة . وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة . ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله . ظهر في ذاته كدين ، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته ، فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال ، وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها ، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها ، فهو هي ، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان .(1/1)
ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها ، ونقصت من أطرافها ، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة . وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبداً ، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود .
فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته . فأما من ناحية واقع الحياة ، فقد صدق وعد الله مرة ، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله، فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان . ثم زحف زحفاً سلمياً بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقية ، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى . .
وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة - منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي « البطل » الذي صنعوه! وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد ، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي « أبطال » آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء .
وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل!
ولقد كانت تلك الآيات حافزاً للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى .
وكانت تطميناً لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة . وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة .بإذن الله (1)
===============
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 7 / ص 197)(1/2)
وهذا البحث هو حول أحكام أهل الذمة في الفقه الإسلامي .
وسببه أنَّ أناساً من جلدتنا راحوا يحرفون الكلم عن مواضعه ، وادعوا أن غالب أحكام أهل الذمة ، إنما هي من وضع الفقهاء ، وليس لها أساس شرعي ثابت -على حدِّ زعمهم-
ومن ثمَّ قاموا بتشويه هذا الجانب الهام من جوانب هذه الرسالة الخاتمة ، ليرضى عنهم أعداء الإسلام ، لظنهم أنهم إذا أنكروا أحكام أهل الذمة أو حرفوها ينتهي الأمر ، ويصبح أعداء الإسلام إخوة لنا في الإنسانية وخاصة أهل الكتاب ، ولا يبقى بيننا وبينهم إلا السلام والوئام !!!!
لقد أخطأ هؤلاء الطريق من وجهين :
الوجه الأول- أنهم لم يتعاملوا مع أهل الكتاب من وحي القرآن الكريم ، الذي وضَّح بالتفصيل طبيعة أهل الكتاب ، وتاريخهم ، وموقفهم من رسالة الإسلام ، وموقف الإسلام منهم ، كما في قوله تعالى : {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (105) سورة البقرة
وقوله تعالى : {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (109) سورة البقرة
وقوله تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (71) سورة آل عمران
وقوله تعالى : {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72) سورة آل عمران(1/3)
وقوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (99) سورة آل عمران
وأما موقف الإسلام منهم كقوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (64) سورة آل عمران
وقوله تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (46) سورة العنكبوت
وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (6) سورة البينة
وقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (51) سورة المائدة
وقوله تعالى : {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } (29) سورة التوبة .(1/4)
والوجه الثاني - أنهم أخطئوا في فهم الواقع ، لأنهم ظنوا أن الخلاف بيننا وبين أهل الكتاب يمكن أن يزول ، من خلال تنازل هؤلاء عن كثير من أحكام دينهم ، ونسي هؤلاء ما يفعله أهل الكتاب بالمسلمين اليوم ، وما فعلوه من قبل ، ونسوا قول الله تعالى : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (120) سورة البقرة
لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه ، وديناً يعرفون أنه الحق . .
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود . . شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب . وما فعلوه في حادث تحويل القبلة ، وما فعلوه في حادث الإفك ، وما فعلوه في كل مناسبة ، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم . . وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم . وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير :{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ، بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله - بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين } [ البقرة : 89 - 90 ] .(1/5)
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } [ البقرة : 101 ] .
{ سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . قل : لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ]
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون . يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } [ آل عمران : 70 - 71 ]
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [ آل عمران : 72 ] .
{ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران : 78 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران : 98 - 99 ] .
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء! فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم؛ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات . . . }[ النساء : 153 ] .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } . . . [ التوبة : 32 ] .
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين ، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر . كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب ، مما هو معروف مشهور .(1/6)
ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ . . كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير . .
وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية . . وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير . . وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية . . .
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض؛ وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي؛ وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!
ذلك شأن اليهود ، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود!
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون . . ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة؛ وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته « المسيحية » وهو ركام من الوثنيات القديمة ، والأضاليل الكنسية ، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح - عليه السلام - وتاريخه . . حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة ، ليواجهوا هذا الدين الجديد .
لقد اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة ، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض . ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية .(1/7)
إن « الحروب الصليبية » المعروفة بهذا الاسم في التاريخ ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام ، لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير . . لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد . . منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس؛ وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة . ثم بعد ذلك في « مؤتة » . ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة . . ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة ، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل . . وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم؛ ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة .
ومما جاء في كتاب « حضارة العرب » لجوستاف لوبون - وهو فرنسي مسيحي - :
« كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ، ثلاث آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه ، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم . ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب ، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل ، الذي رحم نصارى القدس ، فلم يمسهم بأذى ، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد ، أثناء مرضهما » .
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر ( اسمه يورجا ) يقول :(1/8)
« ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع ، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها . وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون . ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين ، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين ، ووفى لهم بجميع عهوده ، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم ، حتى أن الملك العادل ، شقيق السلطان ، أطلق ألف رقيق من الأسرى ، ومنّ على جميع الأرمن ، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة ، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن » .
ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدار التاريخ - ولكن يكفي أن نقول : إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية . ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً . حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم ، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص ، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً ، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة ، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه؟(1/9)
« لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد اختبار ، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف .. لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي ، والخطر الأصفر ، وبالخطر البلشفي . إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه . إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها . ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قوته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته . . إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي « (1).
لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان ، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس ، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على المماليك الإسلامية في إفريقية أولاً ، ثم في العالم كله أخيراً ..
ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبة العالمية حليفتين في حرب الإسلام - على كل ما بينهما من أحقاد - ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير : { بعضهم أولياء بعض } حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة . ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة . وبعد أن أجهزوا على عروة « الحكم » ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة « الصلاة »!
ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنيين . فيؤيدون الوثنية حيثما وجدت ضد الإسلام . عن طريق المساعدات المباشرة تارة ، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 4 / ص 4)(1/10)
وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض . وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم ، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام ، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال!
هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرناً؛ من مواقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام؛ لا فرق بين هذه وتلك؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر وذاك في الكيد للإسلام ، والحقد عليه ، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمان .
وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً؛ فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة؛ التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني - دون متابعة لبقيته؛ ودون متابعة لسياق السورة كله ، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة ، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله - ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها ، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة .
إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة - مهما قل عددها وعدتها - فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة . وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة؛ ولكن ضررهم لا يقل - حينئذ - عن ضرر أعدى الأعداء ، بل إنه ليكون أشد أذى وضراً .
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم؛ وهو لا يناقض بعضه بعضاً فلنقرأه إذن على بصيرة . (1).
=================
وطريقة عملي في هذا الكتاب ما يلي :
أولا- مقدمة هامة عن طبيعة هذا الدين وطبيعة العلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب ، من وحي القرآن الكريم .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 420)(1/11)
ثانيا- الباب الأول - جمعت فيه كل ما ورد في الموسوعة الفقهية ( 45 مجلدا)عن أحكام أهل الذمة ، مرتبة حسب ترتيبيها بها - وقد وجدت عديد من الصعوبات في جمعها ، لأن بعضها ظهار واضح ، وبعضها ، جاء ضمن موضوعات أخرى
ثالثا- الباب الثاني - وفيه فتاوى معاصرة حول أحكام أهل الذمة ، ولكنني استبعدت فتاوى فقهاء الهزيمة ، وفقهاء التنازل عن محكمات الشريعة
رابعا- عمل فهرس مفصل لكل ما ورد في هذا الكتاب
خامسا- ذكر أهل المصادر في آخر الكتاب .
صحيح أن المسألة اليوم - تاريخية - ولكن يجب على طلاب العلم أن يعرفوا أصول دينهم ، فنحن نعلم الطلاب في المدارس أركان الإسلام ، وبعضها لا يلزمهم حتى يبلغوا كالصلاة والصوم ، أو يملكوا النصاب كالزكاة ، أو يملكوا الزاد الراحلة كالحج ، ولكن يجب عليهم أن يعرفوا معرفة ذهنية - ولو لم يجب عليهم التطبيق آنذاك - هذه الأحكام الشرعية ، فهي باقية غير منسوخة ، وليأتين عليها يوم - بإذن الله- يراها الناس مطبقة مرة أخرى ، {.. وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (4) سورة الروم .
قال تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف
وكتبه
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 6 رجب 1428 هـ الموافق ل 20/7/207 م
- - - - - - - - - - - - - -
مقدمة حول طبيعة العلاقة مع أهل الكتاب
لا يجوز ليُّ أعناق النصوص الشرعية
في وقت يهاجم فيه الإسلام من كل أعداء الإسلام ، نجد أنَّ من أبنائه والمحسوبين عليه من يحاولُ -تحت وطأة الواقع المر والأليم - ليَّ أعناقِ النصوص الشرعية لكي تخدم التنازلات التي يقومون بها والهزيمة التي يعانون منها، يتقربون إلى الغرب بهذا لعله يرضى عنهم .
قال تعالى رادا على أمثال هؤلاء ومبينا طبيعة الكفار وخاصة اليهود والنصارى :(1/12)
( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120)
==================
الرد على من زعم عدم وجود فوارق بيننا وبين أهل الكتاب
يحاول هؤلاء المنهزمون أن يميعوا الفوارق الجوهرية بين الإسلام والملل الأخرى وخاصة أهل الكتاب بحجة ما يسمى ( زورا وبهتانا ) بحوار الحضارات .
وفاتهم أن هذا الحوار لا قيمة له ما لم يكن للمسلمين دولة تحميهم وتدافع عنهم ، بل وتفرض وجودها على الناس في الأرض .
وقد بين الله تعالى أصول الحوار والجدل مع أهل الكتاب وحسمه قال تعالى :
( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)
وإنها لدعوة منصفة من غير شك . دعوة لا يريد بها النبي صلى الله عليه وسلم أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين . . كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد . لا يعلو بعضهم على بعض , ولا يتعبد بعضهم بعضا . دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد , لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم
إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئا . لا بشرا ولا حجرا . ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضا من دون الله أربابا . لا نبيا ولا رسولا . فكلهم لله عبيد . إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه , لا لمشاركته في الألوهية والربوبية .
(فإن تولوا فقولوا:اشهدوا بأنا مسلمون) .(1/13)
فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك . والعبودية لله وحده دون شريك . وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية . . إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . .
وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله , تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون .
المسلمون هم الذين يعبدون الله وحده ; ويتعبدون لله وحده ; ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله . . هذه هي خصيصتهم التي تميزهم من سائر الملل والنحل ; وتميز منهج حياتهم من مناهج حياة البشر جميعا . وإما أن تتحقق هذه الخصيصة فهم مسلمون , وإما ألا تتحقق فما هم بمسلمين مهما ادعوا أنهم مسملون !
إن الإسلام هو التحرر المطلق من العبودية للعبيد . والنظام الإسلامي هو وحده من بين سائر النظم الذي يحقق هذا التحرر . .
إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله . .
يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء . . إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس . حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين . . وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس - في صورة من الصور - ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس - على أي وضع من الأوضاع - وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله ; ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية , وهم بذلك يعبدونها من دون الله , وإن لم يسجدوا لها ويركعوا . فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله .(1/14)
وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة . . ويصبح حرا . حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده , شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله . فهو وكل إنسان آخر على سواء . كلهم يقفون في مستوى واحد , ويتطلعون إلى سيد واحد , ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله .
والإسلام - بهذا المعنى - هو الدين عند الله . وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله . . لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله . ومن جور العباد إلى عدل الله . . فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله . مهما أول المؤولون , وضلل المضللون . . (إن الدين عند الله الإسلام) .(1) .
==================
كشف القرآن الكريم لحقيقة أهل الكتاب
قال تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) (المائدة:59)
إنها معركة العقيدة . فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه . . وهم يعادونه لعقيدته ودينه , قبل أي شيء آخر , وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم هم فاسقون عن دين الله , ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله:(قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله , وما أنزل إلينا , وما أنزل من قبل . وأن أكثركم فاسقون ? ?)
فهذه هي العقدة ; وهذه هي الدوافع الأصيلة !
وقيمة هذا المنهج , وقيمة هذه التوجيهات الأساسية فيه , عظيمة . فإخلاص الولاء لله ورسوله ودينه وللجماعة المسلمة القائمة على هذا الأساس , ومعرفة طبيعة المعركة وطبيعة الأعداء فيها .
أمران مهمان سواء في تحقيق شرائط الإيمان أو في التربية الشخصية للمسلم , أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة . .
__________
(1) -في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 57)(1/15)
فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلا , ولا يكونون في ذواتهم شيئا , ولا يحققون في واقع الأرض أمرا ما لم تتم في نفوسهم المفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المعسكرات التي لا ترفع رايتهم , وما لم يتمحض ولاؤهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به , وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم , وما لم يستيقنوا أنهم جميعا إلب عليهم , وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء .
إن هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب , هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم ; وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها .
وهو من ناحية سؤال استنكاري , لاستنكار هذا الواقع منهم , واستنكار البواعث الدافعة عليه . . وهو في الوقت ذاته توعية للمسلمين , وتنفير لهم من موالاة القوم , وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير .
إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي - إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله ; وما أنزله الله إليهم من قرآن ; وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب . .
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون ! لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى . ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ; وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم - لا ما ابتدعوه وحرفوه - ولا يؤمنون بالرسول الأخير , وهو مصدق لما بين يديه ; معظم لرسل الله أجمعين .(1/16)
إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ; التي لم تضع أوزارها قط , ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ; منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ; وتميزت لهم شخصية ; وأصبح لهم وجود مستقل ; ناشى ء من دينهم المستقل , وتصورهم المستقل , ونظامهم المستقل , في ظل منهج الله الفريد .
إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم - قبل كل شيء - مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ; فيصبحوا غير مسلمين . . ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ; ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين !
والله - سبحانه - يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة , وهو يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في السورة الأخرى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . . ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم: (قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ; وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ?) . .
وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين , هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب , وكثيرون ممن يسمون أنفسهم "مسلمين" . . باسم تعاون "المتدينين" في وجه المادية والإلحاد كما يقولون !(1/17)
أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها , لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم . ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي , فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي . . ولم يكن بد لهؤلاء - بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة , وفي حرب التبشير السافرة كذلك - أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير , فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين , أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت ! وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ! ثم تنور العالم و"تقدم" فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة . . وأنما الصراع اليوم على المادة ! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب ! وإذن فما يجوز للمسلمين - أو ورثة المسلمين - أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين !
وحين يطمئن أهل الكتاب - وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين - إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ;وحين تتميع القضية في ضمائرهم ; فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ; وللعقيدة . . الغضبة التي لم يقفوا لها يوما . .
ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير . .
ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها . بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ; ويغلبون في معركة "المادة " بعدما يغلبون في معركة "العقيدة " . . فهما قريب من قريب . .(1/18)
وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي , ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية , يقولون القول نفسه . . لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود . . وهؤلاء يقولون عن "الحروب الصليبية " ذاتها:إنها لم تكن "صليبية " !!! ويقولون عن "المسلمين" الذين خاضوها تحت راية العقيدة:إنهم لم يكونوا "مسلمين" وإنما هم كانوا "قوميين" !
وفريق ثالث مستغفل مخدوع ; يناديه أحفاد "الصليبين" في الغرب المستعمر:أن تعالوا إلينا . تعالوا نجتمع في ولاء ; لندفع عن "الدين" غائلة "الملحدين" ! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ; ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ; صفا واحدا , حينما كانت المواجهة للمسلمين ! على مدار القرون !
وما يزالون !
وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الإلحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام , ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارئ ء وعدو موقوت ; وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم !
وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ; وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين - في الوقت ذاته - ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون !
وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين . . حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم . .
إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق , فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن "الدين" إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا - لا استثناء فيها - كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات , وهو تعليم لا مواربة فيه , ولا مجال للحيدة عنه , وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول !(1/19)
إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية , والأحاديث النبوية , التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب ; وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك . ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ; والتقريرات الواعية عن بواعثهم , والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية , وخطة التنظيم , التي تحرم التناصر والموالاة , لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية , وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه - مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها - إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين , ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين . . كما يقول رب العالمين . .
إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ; يجزئونه ويمزقونه , فيأخذون منه ما يشاءون - مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها - ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب !
ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله , في هذه القضية , على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين ! وكلام الله - سبحانه - في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين . .
ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى - بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل - أن بقية السبب: (وأن أكثركم فاسقون)
فهذا الفسق هو شطر الباعث !
فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم . . وهي قاعدة نفسية واقعية ; تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة . .
إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم . .
إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه . إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه . . ومن ثم يكرهه وينقم عليه . يكره استقامته وينقم منه التزامه ; ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ; أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده !(1/20)
إنها قاعدة مطردة , تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة , إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة . إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة . .
والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار , وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين , وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين . . هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب . .
ولقد علم الله - سبحانه - أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر , وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل , وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق , وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين .
وعلم الله - سبحانه - أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف . وأنها معركة لا خيار فيها , ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل . لأن الباطل سيهاجمه , ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه . .
وغفلة - أي غفلة - أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ; وأنهم يملكون تجنب المعركة ; وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة ! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ; من أن يستسلموا للوهم والخديعة . . وهم يومئذ مأكولون مأكولون !
ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله - سبحانه - لرسوله صلى الله عليه وسلم لمواجهة أهل الكتاب , بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين . . فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم , وشأن لهم مع ربهم , وعقاب أليم: (قل:هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله ? من لعنه الله وغضب عليه , وجعل منهم القردة والخنازير , وعبد الطاغوت . أولئك شر مكانا , وأضل عن سواء السبيل !)
وهنا تطالعنا سحنة يهود , وتاريخ يهود !(1/21)
إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم , وجعل منهم القردة والخنازير . إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت . . وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم ; وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير . . فأما قضية عبادتهم للطاغوت , فتحتاج إلى بيان هنا , لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة . .
إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله , وكل حكم لا يقوم على شريعة الله , وكل عدوان يتجاوز الحق . . والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا , وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى . .
وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ; ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله . فسماهم الله عبادا لهم ; وسماهم مشركين . . وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق . فهم عبدوا الطاغوت . .
أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها . . وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع , ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة . وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله .
والله - سبحانه - يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ , وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ . . كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة . . يوجهه ليقول لهم:إن هذا شر عاقبة:.
(قل:هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله) . .
أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين , وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم . وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة الله وعذابه , وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل:
(أولئك شر مكانا , وأضل عن سواء السبيل) .(1) .
==================
الأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
قال تعالى :
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 131) ,في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 392)(1/22)
( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29)
إن الذين يلجئون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي , إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية , في وقت لم تعد للمسلمين شوكة بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل سلطان إلا سلطان الله , ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية:
(فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً . وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون:ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها , واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً ? الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله , والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت , فقاتلوا أولياء الشيطان , إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) . . . [ النساء:74 - 76 ] .(1/23)
(قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله , فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير) . . . [ الأنفال:38 - 40 ] . . (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر , ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله , ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وقالت اليهود عزير ابن الله , وقالت النصارى:المسيح ابن الله . ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل , قاتلهم الله أنى يؤفكون ! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم , وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً , لا إله إلّا هو , سبحانه عما يشركون . يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم , ويأبى الله إلا أن يتم نوره ; ولو كره الكافرون) . . [ التوبة:29 - 32 ] .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ; وتحقيق منهجه في حياة الناس . ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ; وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس , والناس عبيد الله وحده يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي . . مع تقرير مبدأ: (لا إكراه في الدين) . . أي لا إكراه على اعتناق العقيدة , بعد الخروج من سلطان العبيد ; والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله . أو أن الدين كله لله . بهذا الاعتبار .
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك . . وهذه وحدها تكفي . .
ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول:خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !(1/24)
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر , وحذيفة بن محصن , والمغيرة بن شعبة , جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية , وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية , قبل المعركة:ما الذي جاء بكم ? فيكون الجواب:الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام . . فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه , فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه , وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر" .
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ; وفي إعلانه العام , وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه , في مراحل محددة , بوسائل متجددة . . وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته , وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية . . لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة , وموقوتة !
وإنه ليكفي أن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله . . (في سبيل الله) . في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ; ولا يخرجه لها مغنم ذاتي . .
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان . . مع هواه وشهواته . . مع مطامعه ورغباته . . مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه . . مع كل شارة غير شارة الإسلام . .
ومع كل دافع إلا العبودية لله , وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله . .
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية "الوطن الإسلامي" يغضون من شأن "المنهج" ويعتبرونه أقل من "الموطن" !
وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . .(1/25)
إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي , فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها . وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و "دار الإسلام" ونقطة الانطلاق لتحرير "الإنسان" . .
وحقيقة أن حماية "دار الإسلام" حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها هي ليست الهدف النهائي . وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي . إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها . ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها , وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين , والأرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمنهج الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة , ونظام المجتمع , وأوضاع البيئة . . وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة . كي يخلو له وجه الأفراد من الناس , يخاطب ضمائرهم وأفكارهم , بعد أن يحررها من الأغلال المادية ; ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار . .
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ "الجهاد" , وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية , فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين , في ملابسات دفاعية وقتية , كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت هذه الملابسات أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي . .
وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية . .(1/26)
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له . لأن مجرد وجوده , في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين , وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله , وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية , وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية , لأن الحاكمية فيه لله وحده . . إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله , القائمة على قاعدة العبودية للعباد , أن تحاول سحقه , دفاعاً عن وجودها ذاته . ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه . .
هذه ملابسة لا بد منها . تولد مع ميلاد الإسلام ذاته . وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً , ولا خيار له في خوضها . وهذا صراع طبيعي بين وجوددين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً . .
هذا كله حق . .
ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده . ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً . .
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة . . إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء ; لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله . ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ; ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية ; تاركاً "الإنسان" . . نوع الإنسان . . في "الأرض" . . كل الأرض . . للشر والفساد والعبودية لغير الله .
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام , إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ; ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام ! . .
ولكن الإسلام لا يهادنها , إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية , ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها .(1/27)
هذه طبيعة هذا الدين , وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين !
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة , وتصوره قابعا داخل حدود إقليمية أو عنصرية , لا يحركه إلا خوف الاعتداء ! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الإنطلاق !
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية , وليس منهج إنسان , ولا مذهب شيعة من الناس , ولا نظام جنس من الأجناس ! . .
ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة . . حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد . .
إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق , بين تصور أن الإسلام كان مضطراً لخوض معركة لا اختيار له فيها , بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه . وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء , فيدخل في هذه المعركة . .
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة . فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتماً . ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة , تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا . . خطيرا .(1/28)
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجاً إلهياً , جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض , وعبودية البشر جميعاً لإله واحد , ويصب هذا التقرير في قالب واقعي , هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد , بالعبودية لرب العباد , فلا تحكمهم إلا شريعة الله , التي يتمثل فيها سلطان الله , أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته . . فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه , ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي , أو أوضاع الناس الاجتماعية . . إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو , واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه . فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية !
هذا تصور . . وذاك تصور . .
ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد . .
ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه , يختلف اختلافاً بعيداً , يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه .إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء . فالإسلام ليس نحلة قوم , ولا نظام وطن , ولكنه منهج إلهي , ونظام عالم . .
ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية "الإنسان" في الاختيار . وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته . إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة , المفسدة للفطرة , المقيدة لحرية الاختيار .(1/29)
من حق الإسلام أن يخرج "الناس" من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . . ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين , وتحرير الناس أجمعين . . وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي . فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم . حاكمهم ومحكومهم . أسودهم وأبيضهم . قاصيهم ودانيهم . فقيرهم وغنيهم تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء . . أما في سائر الأنظمة , فيعبد الناس العباد , لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد . وهو من خصائص الألوهية . فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادعى الألوهية اختصاصاً وعملاً , سواء ادعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء ! وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها !
والإسلام ليس مجرد عقيدة . حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان . إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس . والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو . ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرر العام . وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله . فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته , كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد !
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر , وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر , يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة . لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة . ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة . . ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام , بنفي هذا الاتهام ! فيلجئون إلى تلمس المبررات الدفاعية !(1/30)
ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته , وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" . . وأنه مجرد "عقيدة " في الضمير ; لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . . ومن ثم يكون الجهاد للدين , جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام . فالإسلام منهج الله للحياة البشرية . وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع , في ظل النظام العام , بعد رفع جميع المؤثرات . . ومن ثم يختلف الأمر من أساسه , وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي , الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي , فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام . مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان . .
فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد , فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ . مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة . وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة , في المراحل التاريخية المتجددة . ولا نخلط بين دلالالتها المرحلية , والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .(1)
================
مراحل تشريع الجهاد في الإسلام
"لقد لخص الإمام ابن القيم سياق الجهاد في الإسلام في "زاد المعاد" في الفصل الذي عقده باسم(2):
فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 205)
(2) - زاد المعاد - (ج 3 / ص 143)(1/31)
أَوّلَ مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرُ 1 ، 2 ] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ { اقْرَأْ } وَأَرْسَلَهُ ب { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ ، ثُمّ أَنْذَرَ الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ . ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ . وَلَمّا نَزَلَتْ ( سُورَةُ بَرَاءَةٌ ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا ، فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ " يُقَاتِلَ عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ(1/32)
فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ . [ ص 144 ]
[ الْفَرْقُ بَيْنَ أَشْهُرِ التّسْيِيرِ الْحُرُمِ وَبَيْنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ]
وَأَمَرَهُ فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ . وَقِسْمًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ . وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التّوْبَةُ 2 ] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةُ 5 ] فَالْحُرُمُ هَا هُنَا : هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التّوْبَةُ 36 ] فَإِنّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ(1/33)
سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ . وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ . [ ص 145 ] فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ . وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
فَصْلٌ [ سِيرَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ ](1/34)
وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ . وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ . خُلّفُوا . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ .
[ مَعْنَى خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ](1/35)
وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ . وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) و ( الْمُؤْمِنُونَ ) [ ص 146 ] فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْأَعْرَافِ 199 - 200 ] فَأَمَرَهُ بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا ، فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَلَا بُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ(1/36)
أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ الْمُؤْمِنُونَ 93 - 97 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 134 ] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ . انتهى .
"ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين , جديرة بالوقوف أمامها طويلا .
بعض سمات هذا الدين(1)
"السمة الأولى:هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين . .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 203) ,في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 225)(1/37)
فهو حركة تواجه واقعا بشريا . . وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي . . إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية , تقوم عليها أنظمة واقعية عملية , تسندها سلطات ذات قوة مادية . . ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه . . تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات ; وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها , تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ; وتخضعهم بالقهر والتضليل , وتعبدهم لغير ربهم الجليل . . إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي . كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد . .
وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجئ .
"والسمة الثانية في منهج هذا الدين . . هي الواقعية الحركية . .(1/38)
فهو حركة ذات مراحل . كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها , فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة , كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة . والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد , ولا يراعون هذه السمة فيه , ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج , وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها . . الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً , ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً , ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المباديء والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً , يمثل القواعد النهائية في هذا الدين . ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع البائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان -:إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون لهذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه , وهو إزالة الطواغيت جميعا من الأرض جميعا , وتعبيد الناس لله وحده , وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته , ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة . بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة , أو قهرها حتى تدفع الجزية , وتعلن استسلامها , والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة , تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها .
"والسمة الثالثة:هي أن هذه الحركة الدائبة , والوسائل المتجددة , لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة , ولا عن أهدافه المرسومة .(1/39)
فهو منذ اليوم الأول سواء - وهو يخاطب العشيرة الأقربين , أو يخاطب قريشا ,أو يخاطب العرب أجمعين , أو يخاطب العالمين . . إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ; ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد . . هو إخلاص العبودية لله , والخروج من العبودية للعباد . . . لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين . . ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد , في خطة مرسومة , ذات مراحل محددة , لكل مرحلة وسائلها المتجددة . . على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .
"والسمة الرابعة:هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى .
- على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن زاد المعاد - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ; أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي , أو قوة مادية . وأن تخلي بينه وبين كل فرد , يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته . ولكن لا يقاومه ولا يحاربه . فإن فعل ذلك أحد , كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله , أو يعلن استسلامه ! " .
في ضوء هذا البيان نستطيع أن نفهم لم كانت هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة:من براءة الله ورسوله من عهود المشركين ; وإمهال ذوي العهود الموقوتة منهم - ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا , ولم يظاهروا عليهم أحدا - إلى مدتهم . وإمهال ذوي العهود غير الموقوتة - ممن لم ينقضوا مع المسلمين عهدا كذلك ولم يظاهروا عليهم أحدا - إلى أربعة أشهر ; ومثلهم من لم يكن لهم مع المسلمين عهد أصلا من المشركين . ونبذ عهود الناقضين لعهودهم , مع إمهالهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض آمنين . فإذا انسلخت هذه الأشهر أخذوا وقتلوا حيث وجدوا وحوصروا ومنعوا من التنقل وهم آمنون . . كما نفهم الأحكام الواردة فيها عن قتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله الصحيح , حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . .(1/40)
ثم الأحكام الواردة بجهاد المنافقين مع الكافرين بالغلظة عليهم . وعدم الصلاة على موتاهم أو القيام على قبورهم . . وكلها أحكام تعدل الأحكام المرحلية السابقة في السور التي نزلت قبل التوبة . وهذا التعديل نحسب أنه أصبح مفهوما لنا الآن , في ضوء ذلك البيان !
وليس هنا مجال تفصيل القول في هذه الأحكام الأخيرة , ولا في الأحكام المرحلية السابقة لها ; ولا في غيرها من موضوعات السورة الأخرى . فسنعرض لهذا كله بالتفصيل - إن شاء الله - عند استعراض النصوص القرآنية في سياق السورة بالتفصيل .
ولكننا فقط نبادر فنقول:إن تلك الأحكام المرحلية ليست منسوخة بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة . ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدد- عن طريق الاجتهاد المطلق - أي الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف , في زمان من الأزمنة . في مكان من الأمكنة ! مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها , متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام ; كما كان حالها عند نزول سورة التوبة , وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية . سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب .
إن المهزومين في هذا الزمان أمام الواقع البائس لذراري المسلمين - الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على أصل الجهاد في الإسلام ; يحاولون أن يجدوا في النصوص المرحلية مهربا من الحقيقة التي يقوم عليها الانطلاق الإسلامي في الأرض لتحرير الناس كافة من عبادة العباد , وردهم جميعا إلى عبادة الله وحده ; وتحطيم الطواغيت والأنظمة والقوى التي تقهرهم على عبادة غير الله , والخضوع لسلطان غير سلطانه , والتحاكم إلى شرع غير شرعه . .
ومن ثم نراهم يقولون مثلا:(1/41)
إن الله سبحانه يقول: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) . . ويقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم) . .
ويقول:(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) . . .
ويقول عن أهل الكتاب:(قل:يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا:اشهدوا بأنا مسلمون)
فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج !
وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين . وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها !
ومعنى ذلك - في تصورهم المهزوم - أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض . ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون الله . ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله في الأرض كلها ما دام هو آمنا داخل حدوده الإقليمية ! وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله - سبحانه ! - تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم ; وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة !
وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته ; ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلا ! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين الله القوي المتين !
إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا . وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة . وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام . ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى ; وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين . .(1/42)
إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدما في تحسين ظروفها ; وفي إزالة العوائق من طريقها , حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة , والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية .
إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين:
(براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين , فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله , وأن الله مخزي الكافرين . وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله , فإن تبتم فهو خير لكم , وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم . إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا , ولم يظاهروا عليكم أحدا , فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين . فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد , فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله , ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) . .
وتقول في شأن أهل الكتاب: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله , ولا باليوم الآخر , ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله , ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب , حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) . .
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام ; فهم - اللحظة وموقتا - غير مكلفين بتحقيقها - ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها - ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها . .(1/43)
ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية . وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين . وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام ! إنه دين السلم والسلام فعلا , ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله , وإدخال البشرية كافة في السلم كافة . . إنه منهج الله هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه , والاستمتاع بخيره ; وليس منهج عبد من العبيد ; ولا مذهب مفكر من البشر ; حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله ; لإطلاق الحرية للناس أفرادا في اختياره . .
إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد ; وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا . فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا , ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين , ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر !
فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية , ووضع العبودية فيه لله وحده ; وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد . . فإن الأمر يختلف من أساسه . ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية ; ويحرر البشر من العبودية للعباد ; ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة لله وحده .
والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله . ينسون هذه الحقيقة الكبرى . .
وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد !!!(1/44)
إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي ; فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين . لعل الله أن يرزقهم القوة من عنده ; وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين !
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . .
فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس . .
أساس إعطاء الجزية . . وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد ; ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين . فأما إذا اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين . .
إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة . فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: (لا إكراه في الدين) . . ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية , وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس .
وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية . ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي , ومراحله المتعددة , ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى .
وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة ; قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر , أية عقبات مادية من قوة الدولة , ومن نظام الحكم , ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض ! ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر , ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده - كما هو الإعلان العام للإسلام - ومناهج الجاهلية تريد - دفاعاً عن وجودها - أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض , وأن تقضي عليها . .(1/45)
وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له ومتفوقة عليه , في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة . . والأحكام المرحلية والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل .
ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات , حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب ; ونص على أنه "شرك" و"كفر" و"باطل" وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم , سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات (الذين كفروا من قبل) . أو من سلوكهم وتصرفهم الواقعي كذلك .
والنصوص الحاضرة تقرر:
أولا:أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .
ثانيا:أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله .
ثالثا:أنهم لا يدينون دين الحق .
رابعا:أن اليهود منهم قالت:عزير ابن الله . وأن النصارى منهم قالت:المسيح ابن الله وأنهم في هذين القولين يضاهئون قول الذين كفروا من قبل سواء من الوثنيين الإغريق , أو الوثنيين الرومان , أو الوثنيين الهنود , أو الوثنيين الفراعنة , أو غيرهم من الذين كفروا [ وسنفصل فيما بعد أن التثليث عند النصارى , وادعاء البنوة لله منهم أو من اليهود مقتبس من الوثنيات السابقة وليس من أصل النصرانية ولا اليهودية ] .
خامسا:أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . كما اتخذوا المسيح ربا . وأنهم بهذا خالفوا عما أمروا به من توحيد الله والدينونة له وحده , وأنهم لهذا(مشركون) !
سادسا:أنهم محاربون لدين الله يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم , وأنهم لهذا(كافرون) !
سابعا:أن كثيراً من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله .
وعلى أساس هذه الأوصاف وهذا التحديد لحقيقة ما عليه أهل الكتاب , قرر الأحكام النهائية التي تقوم عليها العلاقات بينهم وبين المؤمنين بدين الله , القائمين على منهج الله . .(1/46)
ولقد يبدو أن هذا التقرير لحقيقة ما عليه أهل الكتاب , مفاجئ ومغاير للتقريرات القرآنية السابقة عنهم ; كما يحلو للمستشرقين والمبشرين وتلاميذهم أن يقولوا , زاعمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير أقواله وأحكامه عن أهل الكتاب عندما أحس بالقوة والقدرة على منازلتهم !
ولكن المراجعة الموضوعية للتقريرات القرآنية - المكية والمدنية - عن أهل الكتاب , تظهر بجلاء أنه لم يتغير شيء في أصل نظرة الإسلام إلى عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدهم عليها , وانحرافها وبطلانها ; وشركهم وكفرهم بدين الله الصحيح - حتى بما أنزل عليهم منه وبالنصيب الذي أوتوه من قبل - أما التعديلات فهي محصورة في طريقة التعامل معهم . .
وهذه - كما قلنا مراراً - تحكمها الأحوال والأوضاع الواقعية المتجددة . أما الأصل الذي تقوم عليه - وهو حقيقة ما عليه أهل الكتاب - فهو ثابت منذ اليوم الأول في حكم الله عليهم .
ونضرب هنا بعض الأمثلة من التقريرات القرآنية عن أهل الكتاب وحقيقة ما هم عليه . . ثم نستعرض مواقفهم الواقعية من الإسلام وأهله , تلك المواقف التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية في التعامل معهم:
في مكة لم تكن توجد جاليات يهودية أو نصرانية ذات عدد أو وزن في المجتمع . . إنما كان هناك أفراد , يحكي القرآن عنهم أنهم استقبلوا الدعوة الجديدة إلى الإسلام بالفرح والتصديق والقبول ; ودخلوا في الإسلام , وشهدوا له ولرسوله بأنه الحق المصدق لما بين أيديهم . .
ولا بد أن يكون هؤلاء ممن كان قد بقي على التوحيد من النصارى واليهود ; وممن كان معهم شيء من بقايا الكتب المنزلة . . وفي أمثال هؤلاء وردت مثل هذه الآيات:
(الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يتلى عليهم قالوا:آمنا به , إنه الحق من ربنا , إنا كنا من قبله مسلمين) . . . [ القصص:52 - 53 ] .(1/47)
قل:آمنوا به أولا تؤمنوا , إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا , ويقولون:سبحان ربنا , إن كان وعد ربنا لمفعولا . ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا . . . [ الإسراء:107 - 109 ] .
(قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به , وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله , فآمن واستكبرتم , إن الله لا يهدي القوم الظالمين) . . . [ الأحقاف:10 ] .
(وكذلك أنزلنا إليك الكتاب , فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به , ومن هؤلاء من يؤمن به , وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) . . . [ العنكبوت:47 ] .
أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا , والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق , فلا تكونن من الممترين . . . [ الأنعام:114 ] .
(والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك , ومن الأحزاب من ينكر بعضه . قل:إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به , إليه أدعو وإليه مآب) . . . [ الرعد:36 ] .
وقد تكررت هذه الاستجابة من أفراد كذلك في المدينة ; حكى عنهم القرآن بعض المواقف في السور المدنية ; مع النص في بعضها على أنهم من النصارى , ذلك أن اليهود كانوا قد اتخذوا موقفاً آخر غير ما كان يتخذه أفراد منهم في مكة , عندما أحسوا خطر الإسلام في المدينة:
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما انزل إليكم وما أنزل إليهم , خاشعين للّه لا يشترون بآيات اللّه ثمناً قليلاً , أولئك لهم أجرهم عند ربهم , إن اللّه سريع الحساب . . . [ آل عمران:199 ] .(1/48)
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا , ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً , وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق , يقولون:ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ? فآثابهم اللّه بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , وذلك جزاء المحسنين . . . [ المائدة:82 - 85 ] .
ولكن موقف هؤلاء الأفراد لم يكن يمثل موقف الغالبية من أهل الكتاب في الجزيرة - ومن اليهود منهم بصفة خاصة - فقد جعل هؤلاء يشنون على الإسلام , منذ أن أحسوا خطره عليهم في المدينة , حرباً خبيثة , يستخدمون فيها كل الوسائل التي حكاها القرآن عنهم في نصوص كثيرة ; كما أنهم في الوقت ذاته رفضوا الدخول في الإسلام طبعاً ; وأنكروا وجحدوا ما في كتبهم من البشارة بالرسول صلى الله عليه وسلم ومن تصديق القرآن لما بين أيديهم من بقايا كتبهم الحقة , مما كان أولئك الأفراد الطيبون يعترفون به ويقرونه ويجاهرون به في وجه المنكرين الجاحدين ! . . . كذلك أخذ القرآن يتنزل بوصف هذا الجحود وتسجيله ; وبتقرير ما عليه أهل الكتاب هؤلاء من الانحراف والفساد والبطلان في شتى السور المدنية . . على أن القرآن المكي لم يخل من تقريرات عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب . نذكر من ذلك:
(ولما جاء عيسى بالبينات قال:قد جئتكم بالحكمة , ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه , فاتقوا اللّه وأطيعون . إن اللّه هو ربي وربكم فاعبدوه , هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم , فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) . . [ الزخرف:63 - 65 ] .(1/49)
(وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغياً بينهم) . . . (ولولا حكمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضي بينهم , وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) . . . [ الشورى:14 ] .
(وإذ قيل لهم:اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم , وقولوا:حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين . فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم , فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون . واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت , إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم , كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) . . . [ الأعراف:161:163 ] .
(وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب , إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) . . . [ الأعراف:167 ] .
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون:سيغفر لنا , وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه . ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على اللّه إلا الحق , ودرسوا ما فيه ? والدار الآخرة خير للذين يتقون , أفلا تعقلون ? . . . [ الأعراف:169 ] .
أما القرآن المدني فقد تضمن الكلمة الأخيرة في حقيقة ما عليه أهل الكتاب ; كما حكى عنهم أشنع الوسائل وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله في قطاعات طويلة من سور البقرة , وآل عمران , والنساء , والمائدة , وغيرها . قبل أن يقرر الكلمة النهائية في أمرهم كله في سورة التوبة . وسنكتفي هنا بنماذج محدودة من هذه التقريرات القرآنية الكثيرة:(1/50)
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم , وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه , ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ? وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا . وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ? أفلا تعقلون ? أو لا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون ? ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ , وإن هم إلا يظنون . فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون:هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً , فويل لهم مما كتبت أيديهم , وويل لهم مما يكسبون) . . . [ البقرة:75 - 79 ] .
ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل , وآتينا عيسى ابن مريم البينات , وأيدناه بروح القدس , أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم , ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون ? وقالوا:قلوبنا غلف . بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون . ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم , وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا , فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به , فلعنة الله على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل - اللّه - بغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب , وللكافرين عذابمهين . وإذا قيل لهم:آمنوا بما أنزل اللّه , قالوا:نؤمن بما أنزل علينا , ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم . قل:فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين !) . . . [ البقرة:87 - 91 ] .
(قل:يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه ? واللّه شهيد على ما تعملون . قل:يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء ? وما اللّه بغافل عما تعملون) . . . [ آل عمران:98 - 99 ] .(1/51)
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت , ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ? أولئك الذين لعنهم اللّه , ومن يلعن اللّه فلن تجدله نصيراً . . . [ النساء:51 - 52 ] .
لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه هو المسيح ابن مريم . وقال المسيح:يا بني إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم , إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة , ومأواه النار , وما للظالمين من أنصار . لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه ثالث ثلاثة , وما من إله إلا إله واحد , وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم . أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه واللّه غفور رحيم . ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل , وأمه صديقة , كانا يأكلان الطعام . انظر كيف نبين لهم الآيات , ثم انظر أنى يؤفكون ! . . . [ المائدة:72-75ه ]
من مراجعة هذه النصوص القرآنية وأمثالها - وهو كثير في القرآن المكي والمدني على السواء - يتبين أن النظرة إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من الانحراف عن دين اللّه الصحيح لم يتغير فيها شيء في التقريرات الأخيرة الواردة في السورة الأخيرة . وأن وصمهم بالانحراف والفسوق والشرك والكفر ليس جديداً , ولا يعبر عن اتجاه جديد فيما يختص بحقيقة الاعتقاد . .
وذلك مع ملاحظة أن القرآن الكريم ظل يسجل للفريق المهتدي الصالح من أهل الكتاب هداه وصلاحه . فقال تعالى منصفاً للصالحين منهم:
(ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) . . . [ الأعراف:159 ] .
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك , ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً , ذلك بأنهم قولوا:ليس علينا في الأميين سبيل , ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون . . . [ آل عمران:75 ] .(1/52)
ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس , وباءوا بغضب من اللّه , وضربت عليهم المسكنة , ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه , ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . ليسوا سواء:من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون . يؤمنون باللّه واليوم الآخر , ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات , وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ; واللّه عليم بالمتقين .. [ آل عمران:112 - 115 ]
أما الذي وقع فيه التعديل فعلاً فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب . فترة بعد فترة . ومرحلة بعد مرحلة . وواقعة بعد واقعة . وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين في مواجهة أحوال أهل الكتاب وتصرفاتهم ومواقفهم مع المسلمين .
ولقد جاء زمان كان يقال فيه للمسلمين:
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا:آمنا بالذي أنزل إلينا(وأنزل إليكم , وإلهنا وإلهكم واحد , ونحن له مسلمون) . . . [ العنكبوت:46 ] .
(قولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط , وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم , لا نفرق بين أحد منهم , ونحن له مسلمون . فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا , وإن تولوا فإنما هم في شقاق , فسيكفيكهم اللّه , وهو السميع العليم) . . . [ البقرة:136 - 137 ] .
(قل:يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئاً , ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباًَ من دون اللّه . فإن تولوا فقولوا:اشهدوا بأنا مسلمون) . . . [ آل عمران:64 ] .
(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق , فاعفوا واصفحوا حتى يأتي اللّه بأمره , إن اللّه على كل شيء قدير) . [ البقرة:109 ] .(1/53)
ثم أتى اللّه بأمره الذي وكل المؤمنين إليه ; فوقعت أحداث , وتعدلت أحكام , وجرى المنهج الحركي الواقعي الإيجابي في طريقه حتى كانت هذه الأحكام النهائية الأخيرة , في هذه السورة , على النحو الذي رأينا . . .
إنه لم يتغير شيء في نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من فساد العقيدة ; ومن الشرك باللّه والكفر بآياته . .
إنما الذي تغير هو قاعدة التعامل . .
وهذه إنما تحكمها تلك الأصول التي أسلفنا الحديث عنها في مطلع هذا الفصل التمهيدي لهذا المقطع من سياق السورة , في هذه الفقرات:
"وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته , إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج اللّه ومناهج الجاهلية من ناحية . ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ومراحله المتعددة , ووسائله المتجددة , المكافئة للواقع البشري المتغير , من الناحية الأخرى . . . الخ" .
والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة , أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة . . . فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية .
إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها اولاً:في تقريرات اللّه - سبحانه - عنها , باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ; وباعتبار أن هذه التقريرات - بسبب كونها ربانية - لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات والاستدلالات البشرية من الأخطاء . .
وثانياً:في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات اللّه سبحانه !
إن اللّه سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم . .(1/54)
وهو تارة يتحدث عنهم - سبحانه - وحدهم , وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين ; باعتبار أن هنالك وحدة هدف - تجاه الإسلام والمسلمين - تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين . وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين . . والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا تحتاج منا إلى تعليق . . وهذه نماذج منها . .
(ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) . . . [ البقرة:105 ] .
(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسدا من عند أنفسهم , من بعد ما تبين لهم الحق) . . . [ البقرة:109 ] .
(ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . . . [ البقرة:120 ] .
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) . . . [ آل عمران:69 ] . (وقالت طائفة من اهل الكتاب:آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون , ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) . . . [ آل عمران:72 - 73 ] .
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) . . . [ آل عمران:100 ] . . .
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل , واللّه أعلم بأعدائكم . . .) . . . [ النساء:44 - 45 ] .
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت , ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً) . . . [ النساء:51 ] .(1/55)
وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين . . . فهم يودون لو يرجع المسلمون كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق . وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهوداً أو نصارى , ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف , فيترك المسلمون عقيدتهم نهائياً . وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلاً من المسلمين ! . . . الخ .
وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين كما يقررها اللّه - سبحانه - في قوله تعالى:
(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) . . . [ البقرة:217 ] .
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) . . . [ النساء:102 ] .
(إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) . . . [ الممتحنة:2 ] .
(وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . . . [ التوبة:8 ] .
(لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة) . . . [ التوبة:10 ] .
إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين , وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين , هي بعينها - وتكاد تكون بألفاظها - هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك . .
مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين .
وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية , تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة , لا على وصف حالة مؤقتة , كقوله تعالى في شأن المشركين:
(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) . .
وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . .(1/56)
إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص , أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات ; ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة !
فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات , متمثلة في مواقف أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - من الإسلام وأهله , على مدار التاريخ , تبين لنا تماماً ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة ; وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة , ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة .
إننا إذا استثنينا حالات فردية - أو حالات جماعات قليلة - من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين ; والاقتناع بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق هذا الدين . ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين . . وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم . .
فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة , إلا تاريخاً من العداء العنيد , والكيد الناصب , والحرب الدائبة , التي لم تفتر على مدار التاريخ . .
فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم ; وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة !
وليست هذه الظلال مجالاً لعرض هذا التاريخ الطويل . ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ . .
لقد استقبل اليهود رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه , وديناً يعرفون أنه الحق . .
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود . .(1/57)
شككوا في رسالة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه ; واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب . وما فعلوه في حادث تحويل القبلة , وما فعلوه في حادث الإفك , وما فعلوه في كل مناسبة , ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم . . وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم . وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير:
ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به , فلعنة اللّه على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه - بغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب , وللكافرين عذاب مهين . . . [ البقرة:89 - 90 ] .
وبعد هذا التقرير والبيان تختم الآية المبينة لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من الكفر والشرك , بقوله تعالى: (قاتلهم اللّه ! أنى يؤفكون ?) .
و . . نعم . . قاتلهم اللّه ! كيف يُصرفون عن الحق الواضح البسيط , إلى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير ?!
ودين الحق - كما أسلفنا - هو الدينونة للّه وحده في الاعتقاد والعبادة والتشريع مجتمعة . وهو متمثل في كل دين سماوي جاء به رسول من قبل . . ولا يدخل فيه طبعاً تلك الديانات المحرفة المشوبة بالوثنيات في الاعتقاد التي عليها اليهود والنصارى اليوم . كما لا تدخل فيه الأنظمة والأوضاع التي ترفع لافتة الدين , وهي تقيم في الأرض أرباباً يعبدها الناس من دون اللّه , في صورة الاتباع للشرائع التي لم ينزلها اللّه .
واللّه سبحانه يقول:إنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . . ويجب أن نفهم "الدين" بمدلوله الواسع الذي بيناه , لندرك أبعاد هذا الوعد الإلهي ومداه . .(1/58)
إن "الدين" هو "الدينونة " . . فيدخل فيه كل منهج وكل مذهب وكل نظام يدين الناس له بالطاعة والاتباع والولاء . .
واللّه سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله على "الدين" كله بهذا المدلول الشامل العام !
إن الدينونة ستكون للّه وحده . والظهور سيكون للمنهج الذي تتمثل فيه الدينونة للّه وحده .
ولقد تحقق هذا مرة على يد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ومن جاء بعدهم فترة طويلة من الزمان . وكان دين الحق أظهر وأغلب ; وكانت الأديان التي لا تخلص فيها الدينونة للّه تخاف وترجف !
ثم تخلى أصحاب دين الحق عنه ; خطوة فخطوة بفعل عوامل داخلة في تركيب المجتمعات الإسلامية من ناحية وبفعل الحرب الطويلة المدى , المنوعة الأساليب , التي أعلنها عليه أعداؤه من الوثنيين وأهل الكتاب سواء . .
ولكن هذه ليست نهاية المطاف . .
إن وعد اللّه قائم , ينتظر العصبة المسلمة , التي تحمل الراية وتمضي , مبتدئة من نقطة البدء , التي بدأت منها خطوات رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور اللّه .
إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه , ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم , الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم . . ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية !
ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين ; وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب [ ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم , كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم "مسلمين" ](1/59)
ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيراً من البيان في هذه السورة , نظراً للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك . حيث قال اللّه - سبحانه - للمؤمنين: (كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله . إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام , فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم , إن اللّه يحب المتقين . كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة ; يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله , إنهم ساء ما كانوا يعملون . لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون)
ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم , وهموا بإخراج الرسول , وهم بدأوكم أول مرة ? أتخشونهم ? فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين . قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم , ويشف صدور قوم مؤمنين , ويذهب غيظ قلوبهم , ويتوب اللّه على من يشاء , واللّه عليم حكيم
(ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر , أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) .
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان , ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) . . . . الخ . . . الخ . . .(1/60)
وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة - وأمرهم ظاهر - نظراً لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة . . فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق . تستهدف - أول ما تستهدف - تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك "اللافتة " الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة ; وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية . . مشركين كالمشركين . . كفاراً كالكفار . . محاربين للّه ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين . . ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه . .
في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة:
" قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر , ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله , ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب , حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . وقالت اليهود:عزير ابن اللّه , وقالت النصارى:المسيح ابن اللّه . ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل . قاتلهم اللّه ! أنى يؤفكون ? اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم , وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو , سبحانه عما يشركون . يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره . ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله , ولو كره المشركون . .
يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه . . . الخ" . .
وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة - في السور المكية والمدنية على السواء - عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل ; فضلاً على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة , التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان .(1/61)
فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلاً في قوله تعالى:
(قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل. وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين) [ المائدة:68 ]
كذلك سبق وصفهم بالكفر , وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة . . يهوداً ونصارى . . أو مجتمعين في صفة (أهل الكتاب) في مثل قوله تعالى: (وقالت اليهود:يد اللّه مغلولة ! غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً . . .) . . . [ المائدة:64 ] .
(لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه هو المسيح ابن مريم . . .) . . . [ المائدة:72 ] .
(لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه ثالث ثلاثة . . .) . . . [ المائدة:73 ]
(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) . . "البينة:1" .
وغيرها كثير , أثبتنا بعضه فيما تقدم , والقرآن الكريم - مكيُّه ومدنيّه - حافل بمثل هذه التقريرات
وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين . وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين , وإجازة التزوج بالمحصنات [ أي العفيفات ] من نسائهم . . فإن ذلك لم يكن مبيناً على أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق ; ولكن كان مراعى فيه - واللّه أعلم - أن لهم أصلاً من دين وكتاب - وإن كانوا لا يقيمونه - فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه ! فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم ; لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له . .
أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين , فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه ; بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم !(1/62)
وفي قول اللّه - سبحانه - فصل الخطاب في هذا الموضوع !
والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين . .
إن هذه "اللافتة " المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة , تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة "الجاهلية " . فتتحتم - إذن - إزالة هذه اللافتة ; وتعريتهم من ظلها الخادع ; وكشفهم على حقيقتهم الواقعة . . ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك - والتي أشرنا إليها من قبل - سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها , وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة !
وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب - قبل الإسلام - من هيبة وسمعة ومخافة ! . .
ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة , عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل . .
وهم أهل كتاب !!!
وأعداء هذا الدين , الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية , وبتاريخ الحركة الإسلامية , على السواء . . وهم من أجل ذلك حريصون - كل الحرص - على رفع "لافتة إسلامية " على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً . ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة "الجاهلية " الحقيقية القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة !
لقد أخطئوا - مضطرين - مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات ; وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها . . وأقرب مثال لذلك حركة "أتاتورك" اللا إسلامية الكافرة في تركيا . .(1/63)
وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة . ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام "الخلافة " . . وهو - وإن كان مجرد مظهر - كان آخر عروة تنقض قبل نقض عروة الصلاة ! كما قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - " ينقض هذا الدين عروة عروة , فأولها الحكم , وآخرها الصلاة " . .
ولكن أولئك الأعداء الواعين - من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين ! - لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة "أتاتورك" حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة "أتاتورك" في وجهتها الدينية , بستار الإسلام ; ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع - وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة - ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً ; ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية ; وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة ; ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها ; لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً ; يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين !
والسذج ممن يدعون أنفسهم "مسلمين" يخدعون في هذه اللافتة . .
ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض !
فيتحرجون من إنزالها عن "الجاهلية " القائمة تحتها , ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة . . صفة الشرك والكفر الصريحة . .(1/64)
ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك ! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة ; لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة !
بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي ; كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي , ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين .
هؤلاء السذج - من الدعاة إلى الإسلام - أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين , الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين !
إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان - والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون ; بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون , يتحرجون في غير تحرج ; ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام ; بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة !
إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض , أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية , والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً !(1/65)
وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف ; وإظهارها على حقيقتها . . شركاً وكفراً . . ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم ; كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة . بل كيما ينتبه هؤلاءالناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير - عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم , ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون !
وكل تحرج في غير موضعه ; وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات ; هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً ; وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات بعد ما انكشفت حركة "أتاتورك" في التاريخ الحديث ; وباتت عاجزة عن المضي خطوة واحدة بعد إلغاء آخر مظهر من مظاهر التجمع الإسلامي على أساس العقيدة . نظراً لانكشاف وجهتها هذا الانكشاف الصريح . .
مما دعا كاتباً صليبياً شديد المكر عميق الخبث مثل "ولفرد كانتول سميث" في كتابه:"الإسلام في التاريخ الحديث" إلى محاولة تغطية حركة أتاتورك مرة أخرى , ونفي الإلحاد عنها , واعتبارها أعظم وأصح حركة بعث "إسلامي" [ كذا ] في التاريخ الحديث !!! (1)
==================
الإسلام قادم بإذن الله تعالى
وإن كانت هذه الأحكام الآن نظرية لأنه لا وجود لها على أرض الواقع ولكن لا بد أن يأتي يوم فتعود للحياة مرة أخرى .
وعندئذ يشعر المؤمنون بعزة الإسلام وعظمة الإسلام ورحمة الإسلام بالبشرية جمعاء .
ونحن اليوم لم نحصل من حقوقنا ما يتمتع به الحيوانات وليس البشر .
وفي ظل هذه الحضارة العفنة النجسة التي جلبت للعلم الخراب والدمار والفساد في الأرض .
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 231)(1/66)
قال تعالى : ( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (لأعراف:56)
و قال تعالى : ( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (لأعراف:85)
قال تعالى : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد:22) وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (لأعراف:82)
وقال تعالى : ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56)
إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت و الجاهلية , التي لا يخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده , والتي يتخذ الناس فيها أرباباً من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه . . إن الذي يعود إلى هذه الملة - بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق , وهداه إلى الحق , وأنقذه من العبودية للعبيد - إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه .
شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيراً فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت !
أو مؤداها - على الأقل - أن لملة الطاغوت حقاً في الوجود , وشرعية في السلطان ; وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه . فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه . .(1/67)
وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى , ولم يرفع راية الإسلام . شهادة الاعتراف براية الطغيان . ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة !
وكذلك يستنكر شعيب - عليه السلام - ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها: (وما يكون لنا أن نعود فيها) . .
وما من شأننا أصلاً ; وما ينبغي لنا قطعاً أن نعود فيها . . يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة , التي تعلن خروجها عن سلطانه , ودينونتها للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه .
إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة للّه وحده - مهما عظمت وشقت - أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت ! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة - مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق ! - إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة !
تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه "الإنسانية " لا توجد , والإنسان عبد للإنسان - وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ?! . .
وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به , ورضاه أو غضبه عليه ?! . . وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ?! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ?!
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . .
إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس - في حكم الطواغيت - أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج . كما يكلفهم أولادهم إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات . فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها , فيذبحهم على مذبح هواه , ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية . .(1/68)
حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت , سواء في صورة الغصب المباشر - كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار !
وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . .
والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون اللّه . إنما يعيش في وهم , أو يفقد الإحساس بالواقع !
إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال . .
ومهما تكن تكاليف العبودية للّه , فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة . فضلاً على وزنها في ميزان اللّه . .
يقول السيد أبو الأعلى المودودي في كتاب:" الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية ":
" وكل من له أدنى بصيرة بمسائل الحياة الإنسانية , لا يخفى عليه أن المسألة - التي تتوقف عليها قضية صلاح الشؤون البشرية وفسادها - إنما هي مسألة زعامة الشؤون البشرية ومن بيده زمام أمرها . وذلك كما تشاهد في القطار أنه لا يجري إلا إلى الجهة التي يوجهه إليها سائقه , وأنه لا بد للركاب أن يسافروا - طوعاً أو كرهاً - إلى تلك الجهة نفسها . فكذلك لا يجري قطار المدنية الإنسانية إلا إلى جهة يوجهه إليها من بأيديهم زمام أمر تلك المدنية . ومن الظاهر البين أن الإنسانية بمجموعها لا تستطيع بحال من الأحوال أن تأبى السير على تلك الخطة التي رسمها لهم الذين بأيديهم وسائل الأرض وأسبابها طراً , ولهم الهيمنة كل الهيمنة على أزمة الأمر , وبيدهم السلطة المطلقة في تدبير شؤون الإنسانية , وتتعلق بأذيالهم نفوس الجماهير وآمالهم , وهم يملكون أدوات تكوين الأفكار والنظريات وصوغها في قوالب يحبونها , وإليهم المرجع في تنشئة الطباع الفردية , وإنشاء النظام الجماعي , وتحديد القيم الخلقية . فإذا كان هؤلاء الزعماء والقواد ممن يؤمنون باللّه ويرجون حسابه . .(1/69)
فلا بد لنظام الحياة بأسره أن يسير على طريق من الخير والرشد والصلاح , وأن يعود الخبثاء الأشرار إلى كنف الدين ويصلحوا شؤونهم . وكذلك تنمو الحسنات ويزكو غراسها , وأقل ما يكون من تأثير المجتمع في السيئات أنها لا تربو . إن لم تمحق وتنقرض آثارها . وأما إذا كانت هذه السلطة - سلطة الزعامة والقيادة والإمامة - بأيدي رجال انحرفوا عن اللّه ورسوله , واتبعوا الشهوات , وانغمسوا في الفجور والطغيان , فلا محالة أن يسير نظام الحياة بقضه وقضيضه على البغي والعدوان والفحشاء , ويدب دبيب الفساد والفوضى في الأفكار والنظريات والعلوم والآداب والسياسة والمدنية والثقافة والعمران والأخلاق والمعاملات والعدالة والقانون برمتها , وتنمو السيئات ويستفحل أمرها . . .
"والظاهر أن أول ما يطالب به دين اللّه عباده , أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد , حتى لا يبقى في اعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير اللّه تعالى . ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله اللّه تعالى , وجاء به الرسول الأمي الكريم - صلى الله عليه وسلم - ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد , وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب اللّه تعالى وسخطه . وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال ; ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم , يذكرون اللّه قابعين في زواياهم , منقطعين عن الدنيا وشؤونها , مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات
ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه . والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضي اللّه تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها . .(1/70)
ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة , حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة - ولو قيد شعرة - وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم . وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق , والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض . وكل ذلك يتوقف تحققه على القوة الجماعية , والذي يضعضع القوة الجماعية ويفت في عضدها , يجني على الإسلام وأهله جناية لا يمكن جبرها وتلافيها بالصلاة ولا بالإقرار بكلمة التوحيد . . ثم انظروا إلى ما كسب "الجهاد" من المنزلة العالية والمكانة الرفيعة في الدين , حتى إنالقرآن ليحكم "بالنفاق" على الذين ينكلون عنه ويثاقلون إلى الأرض . ذلك أن "الجهاد" هو السعي المتواصل والكفاح المستمر في سبيل إقامة نظام الحق , ليس غير . وهذا الجهاد هو الذي يجعله القرآن ميزاناً يوزن به إيمان الرجل وإخلاصه للدين . وبعبارة أخرى أنه من كان يؤمن باللّه ورسوله لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل , أو يقعد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق . .
فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب , فاعلم أنه مدخول في إيمانه , مرتاب في أمره , فكيف ينفعه عمل من أعماله بعد ذلك ? " . . .
"إن إقامة الإمامة الصالحة في أرض اللّه لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام . فكل من يؤمن باللّه ورسوله ويدين دين الحق , لا ينتهي عمله بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام , ولا تبرأ ذمته من ذلك فحسب , بل يلزمه بمقتضى ذلك الإيمان أن يستنفد جميع قواه ومساعيه في انتزاع زمام الأمر من أيدي الكافرين والفجرة والظالمين حتى يتسلمه رجال ذوو صلاح ممن يتقون اللّه , ويرجون حسابه , ويقوم في الأرض ذلك النظام الحق المرضيّ عند اللّه الذي به صلاح أمور الدنيا وقوام شؤونها" . .(1/71)
إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه , إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد ; كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم . .
إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت - تحت رايته - بكل ما فيها من تضحيات ; ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول , كما أنها أذل وأحقر ! . .
إنه يدعوهم للكرامة , وللسلامة , في آن . .
إن الطواغيت يتوجهون أولاً إلى الداعية ليكف عن الدعوة . فإذا استعصم بإيمانه وثقته بربه , واستمسك بأمانة التبليغ وتبعته , ولم يرهبه التخويف بالذي يملكه الطغاة من الوسائل . .
تحولوا إلى الذين اتبعوه يفتنونهم عن دينهم بالوعيد والتهديد , ثم بالبطش والعذاب . . إنهم لا يملكون حجة على باطلهم , ولكن يملكون أدوات البطش والإرهاب ; ولا يستطيعون إقناع القلوب بجاهليتهم - وبخاصة تلك التي عرفت الحق فما عادت تستخف بالباطل - ولكنهم يستطيعون البطش بالمصرين على الإيمان , الذي أخلصوا الدينونة للّه فأخلصوا له السلطان .
ولكنه من سنة اللّه الجارية أنه عندما يتمحض الحق والباطل , ويقفان وجهاً لوجه في مفاصلة كاملة تجري سنة اللّه التي لا تتخلف . . وهكذا كان . .
والبشرية اليوم في موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب , مأموراً من ربه أن ينذر به ويذكر ; وألا يكون في صدره حرج منه , وهو يواجه الجاهلية , ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق . .
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين , وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر , والسطوح والأعماق !
انتكست البشرية في تصوراتها الاعتقادية ابتداء - حتى الذين كان آباؤهم وأجدادهم من المؤمنين بهذا الدين , المسلمين لله المخلصين له الدين - فإن صورة العقيدة قد مسخت في تصورهم ومفهومهم لها في الأعماق . .(1/72)
لقد جاء هذا الدين ليغير وجه العالم , وليقيم عالماً آخر , يقر فيه سلطان الله وحده , ويبطل سلطان الطواغيت . عالماً يعبد فيه الله وحده - بمعني "العبادة " الشامل - ولا يعبد معه أحد من العبيد . عالماً يخرج الله فيه - من شاء - من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . عالماً يولد فيه "الإنسان" الحر الكريم النظيف . . المتحرر من شهوته وهواه , تحرره من العبودية لغير الله .
جاء هذا الدين ليقيم قاعدة:"أشهد أن لا إله إلا الله" التي جاء بها كل نبي إلى قومه على مدار التاريخ البشري - كما تقرر هذه السورة وغيرها من سور القرآن الكريم - وشهادة أن لا إله إلا الله ليس لها مدلول إلا أن تكون الحاكمية العليا لله في حياة البشر , كما أن له الحاكمية العليا في نظام الكون سواء . فهو المتحكم في الكون والعباد بقضائه وقدره , وهو المتحكم في حياة العباد بمنهجه وشريعته . .
وبناء على هذه القاعدة لا يعتقد المسلم أن لله شريكاً في خلق الكون وتدبيره وتصريفه ; ولا يتقدم المسلم بالشعائر التعبدية إلاّ لله وحده . ولا يتلقى الشرائع والقوانين , والقيم والموازين , والعقائد والتصورات إلا من الله , ولا يسمح لطاغوت من العبيد أن يدعي حق الحاكمية في شيء من هذا كله مع الله .
هذه هي قاعدة هذا الدين من ناحية الاعتقاد . .
فأين منها البشرية كلها اليوم ?
إن البشرية تنقسم شيعاً كلها جاهلية .
شيعة ملحدة تنكر وجود الله أصلا وهم الملحدون . . فأمرهم ظاهر لا يحتاج إلى بيان !
وشيعة وثنية تعترف بوجود إله , ولكنها تشرك من دونه آلهة أخرى وأرباباً كثيرة . كما في الهند , وفي أواسط إفريقية , وفي أجزاء متفرقة من العالم .(1/73)
وشيعة "أهل كتاب" من اليهود والنصارى . وهؤلاء أشركوا قديماً بنسبة الولد إلى الله . كما أشركوا باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله - لأنهم قبلوا منهم ادعاء حق الحاكمية وقبلوا منهم الشرائع . وإن كانوا لم يصلوا لهم ولم يسجدوا ولم يركعوا أصلاً ! . . ثم هم اليوم يقصون حاكمية الله بجملتها من حياتهم ويقيمون لأنفسهم أنظمة يسمونها "الرأسمالية " و "الاشتراكية " . . وما إليها . ويقيمون لأنفسهم أوضاعاً للحكم يسمونها "الديمقراطية " و"الديكتاتورية " . . . وما إليها . ويخرجون بذلك عن قاعدة دين الله كله , إلى مثل جاهلية الإغريق والرومان وغيرهم , في اصطناع أنظمة وأوضاع للحياة من عند أنفسهم . وشيعة تسمي نفسها "مسلمة " !
وهي تتبع مناهج أهل الكتاب هذه - حذوا النعل بالنعل ! - خارجة من دين الله إلى دين العباد . فدين الله هو منهجه وشرعه ونظامه الذي يضعه للحياة وقانونه . ودين العباد هو منهجهم للحياة وشرعهم ونظامهم الذي يضعونه للحياة وقوانينهم !
- ((وشيعةٌ عرفوا الحق فتمسكوا به ، وهم الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :
« لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ »(1)
« لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ - قَالَ - فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ تَعَالَ صَلِّ لَنَا. فَيَقُولُ لاَ. إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ اللَّهِ هَذِهِ الأُمَّةَ ».(2)
« لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ » (3)
__________
(1) - صحيح البخارى برقم(7311 )
(2) - صحيح مسلم برقم(412 )
(3) - صحيح مسلم برقم(5059(1/74)
« لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ».(1)
« لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ».(2)
ولكنهم مع هذا محاربون من الجميع حربا لا هوادة فيها ))(3)
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين للبشرية ; وانتكست البشرية بجملتها إلى الجاهلية . . شيعها جميعاً لا تتبع دين الله أصلاً . . وعاد هذا القرآن يواجه البشرية كما واجهها أول مرة , يستهدف منها نفس ما استهدفه في المرة الأولى من إدخالها في الإسلام ابتداء من ناحية العقيدة والتصور . ثم إدخالها في دين الله بعد ذلك من ناحية النظام والواقع . .
وعاد حامل هذا الكتاب يواجه الحرج الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يواجه البشرية الغارقة في مستنقع الجاهلية , المستنيمة للمستنقع الآسن , الضالة في تيه الجاهلية , المستسلمة لاستهواء الشيطان في التيه ! . .
وهو يستهدف ابتداء إنشاء عقيدة وتصور في قلوب الناس وعقولهم تقوم على قاعدة:أشهد أن لا إله إلا الله . وإنشاء واقع في الأرض آخر يعبد فيه الله وحده , ولا يعبد معه سواه . وتحقيق ميلاد للإنسان جديد , يتحرر فيه الإنسان من عبادة العبيد , ومن عبادة هواه !
إن الإسلام ليس حادثاً تاريخياً , وقع مرة , ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه . . إنه اليوم مدعو لأداء دوره الذي أداه مرة ; في مثل الظروف والملابسات والأوضاع والأنظمة والتصورات والعقائد والقيم والموازين والتقاليد . . .
التي واجهها أول مرة .
__________
(1) - صحيح مسلم برقم( 5060 )
(2) - مسلم برقم(5062 )
(3) - هذه الإضافة مني(1/75)
إن الجاهلية حالة ووضع ; وليست فترة تاريخية زمنية . . والجاهلية اليوم ضاربة أطنابها في كل أرجاء الأرض , وفي كل شيع المعتقدات والمذاهب والأنظمة والأوضاع . . إنها تقوم ابتداء على قاعدة:"حاكمية العباد للعباد" , ورفض حاكمية الله المطلقة للعباد . . تقوم على أساس أن يكون "هوى الإنسان" في أية صورة من صوره هو الإله المتحكم , ورفض أن تكون "شريعة الله" هي القانون المحكم . . ثم تختلف أشكالها ومظاهرها , وراياتها وشاراتها , وأسماؤها وأوصافها , وشيعها ومذاهبها . .
غير أنها كلها تعود إلى هذه القاعدة المميزة المحددة لطبيعتها وحقيقتها . .
وبهذا المقياس الأساسي يتضح أن وجه الأرض اليوم تغمره الجاهلية . وأن حياة البشرية اليوم تحكمها الجاهلية . وأن الإسلام اليوم متوقف عن "الوجود" مجرد الوجود ! وأن الدعاة إليه اليوم يستهدفون ما كان يستهدفه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً ; ويواجهون ما كان يواجهه صلى الله عليه وسلم تماماً , وأنهم مدعوون إلى التأسي به في قول الله - سبحانه - له:
(كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه , لتنذر به وذكرى للمؤمنين) . .
ولتوكيد هذه الحقيقة وجلائها نستطرد إلى شيء قليل من التفصيل:
إن المجتمعات البشرية اليوم - بجملتها - مجتمعات جاهلية . وهي من ثم مجتمعات "متخلفة " أو "رجعية " ! بمعنى أنها "رجعت" إلى الجاهلية , بعد أن أخذ الإسلام بيدها فاستنقذها منها . والإسلام اليوم مدعو لاستنقاذها من التخلف والرجعية الجاهلية , وقيادتها في طريق التقدم و "الحضارة " بقيمها وموازينها الربانية .(1/76)
إنه حين تكون الحاكمية العليا لله وحده في مجتمع - متمثلة في سيادة شريعته الربانية - تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر فيها البشر تحرراً حقيقياً كاملاً من العبودية للهوى البشري ومن العبودية للعبيد . وتكون هذه هي الصورة الوحيدة للإسلام أو للحضارة - كما هي في ميزان الله - لأن الحضارة التي يريدها الله للناس تقوم على قاعدة أساسية من الكرامة والتحرر لكل فرد . ولا كرامة ولا تحرر مع العبودية لعبد . . لا كرامة ولا تحرر في مجتمع بعضه أرباب يشرعون ويزاولون حق الحاكمية العليا ; وبعضهم عبيد يخضعون ويتبعون هؤلاء الأرباب !
والتشريع لا ينحصر في الأحكام القانونية . فالقيم والموازين والأخلاق والتقاليد . . كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه شاعرين أو غير شاعرين ! . .
ومجتمع هذه صفته هو مجتمع رجعي متخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي:"مجتمع جاهلي مشرك" !
وحين تكون آصرة التجمع في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكر ومنهج الحياة . ويكون هذا كله صادراً من الله , لا من هوى فرد , ولا من إرادة عبد . فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متحضراً متقدماً . أو بالاصطلاح الإسلامي:مجتمعاً ربانياً مسلماً . . لأن التجمع حينئذ يكون ممثلاً لأعلى ما في "الإنسان" من خصائص - خصائص الروح والفكر - فأما حين تكون آصرة التجمع هي الجنس واللون والقوم والأرض . . .
وما إلى ذلك من الروابط . . فإنه يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . . أو بالاصطلاح الإسلامي:مجتمعاً جاهلياً مشركاً . . ذلك أن الجنس واللون والقوم والأرض . . . .
وما إلى ذلك من الروابط لا تمثل الحقيقة العليا في "الإنسان" . فالإنسان يبقى إنساناً بعد الجنس واللون والقوم والأرض . ولكنه لا يبقى إنساناً بعد الروح والفكر !(1/77)
ثم هو يملك بإرادته الإنسانية الحرة - وهي أسمى ما أكرمه الله به - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته من ضلال إلى هدى عن طريق الإدراك والفهم والاقتناع والاتجاه . ولكنه لا يملك أبداً أن يغير جنسه , ولا لونه , ولا قومه . لا يملك أن يحدد سلفاً مولده في جنس ولا لون ; كما لا يمكنه أن يحدد سلفا مولده في قوم أو أرض . . فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر يتعلق بإرادتهم الحرة هو بدون شك أرقى وأمثل وأقوم من المجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمور خارجة عن إرادتهم ولا يد لهم فيها !
وحين تكون "إنسانية الإنسان" هي القيمة العليا في مجتمع ; وتكون "الخصائص الإنسانية " فيه موضع التكريم والرعاية , يكون هذا المجتمع متحضرا متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي:ربانياً مسلماً . .
فأما حين تكون "المادة " - في أية صورة من صورها - هي القيمة العليا . . سواء في صورة "النظرية " كما في الماركسية , أو في صورة "الإنتاج المادي" كما في أمريكا وأوربا وسائر المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي هو القيمة العليا , التي تهدر في سبيلها كل القيم والخصائص الإنسانية - وفي أولها القيم الأخلاقية - فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً رجعياً متخلفاً . .
أو بالاصطلاح الإسلامي:مجتمعاً جاهلياً مشركاً . .
. . إن المجتمع الرباني المسلم لا يحتقر المادة ; لا في صورة "النظرية " باعتبار المادة هي التي تؤلف كيان هذا الكون الذي نعيش فيه ; ولا في صورة "الإنتاج المادي" والاستمتاع به . فالإنتاج المادي من مقومات خلافة الإنسان في الأرض بعهد الله وشرطه ; والاستمتاع بالطيبات منها حلال يدعو الإسلام إليه - كما سنرى في سياق هذه السورة - ولكنه لا يعتبرها هي القيمة العليا التي تهدر في سبيلها خصائص "الإنسان" ومقوماته ! كما تعتبرها المجتمعات الجاهلية . . الملحدة أو المشركة .(1/78)
وحين تكون القيم "الإنسانية " والأخلاق "الإنسانية " - كما هي في ميزان الله - هي السائدة في مجتمع , فإن هذا المجتمع يكون متحضراً متقدماً . . أو بالاصطلاح الإسلامي . . ربانياً مسلماً .
والقيم "الإنسانية " والأخلاق "الإنسانية " ليست مسألة غامضة ولا مائعة ; وليست كذلك قيماً وأخلاقاً متغيرة لا تستقر على حال - كما يزعم الذين يريدون أن يشيعوا الفوضى في الموازين , فلا يبقى هنالك أصل ثابت يرجع إليه في وزن ولا تقييم . . إنها القيم والأخلاق التي تنمي في الإنسان "خصائص الإنسان" التي ينفرد بها دون الحيوان . وتُغلب فيه هذا الجانب الذي يميزه ويجعل منه إنساناً . وليست هي القيم والأخلاق التي تنمي فيه الجوانب المشتركة بينه وبين الحيوان . .
وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز فيها خط فاصل وحاسم وثابت , لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها "التطوريون" ! عندئذ لا تكون هناك أخلاق زراعية وأخرى صناعية . ولا أخلاق رأسمالية وأخرى اشتراكية . ولا أخلاق صعلوكية وأخرى برجوازية ! لا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومن مستوى المعيشة , على اعتبار أن هذه العوامل مستقلة في صنع القيم والأخلاق والاصطلاح عليها , وحتمية في نشأتها وتقريرها . . إنما تكون هناك فقط "قيم وأخلاق إنسانية " يصطلح عليها المسلمون في المجتمع المتحضر . "وقيم وأخلاق حيوانية " - إذا صح هذا التعبير - يصطلح عليها الناس في المجتمع المتخلف . . أو بالاصطلاح الإسلامي تكون هناك قيم وأخلاق ربانية إسلامية ; وقيم وأخلاق رجعية جاهلية !
إن المجتمعات التي تسود فيها القيم والأخلاق والنزعات الحيوانية , لا يمكن أن تكون مجتمعات متحضرة , مهما تبلغ من التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي ! إن هذا المقياس لا يخطىء في قياس مدى التقدم في الإنسان ذاته .(1/79)
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم الأخلاقي بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز الإنساني عن الحيوان . ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير الشرعية - ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة - رذيلة أخلاقية ! إن المفهوم "الأخلاقي" ينحصر في المعاملات الشخصية والاقتصادية والسياسية - أحياناً في حدود مصلحة الدولة ! - والكتاب والصحفيون والروائيون وكل أجهزة التوجيه والإعلام في هذه المجتمعات الجاهلية تقولها صريحة للفتيات والزوجات والفتيان والشبان:إن الاتصالات الجنسية الحرة ليست رذائل أخلاقية !
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة غير متحضرة - من وجهة النظر "الإنسانية " . وبمقياس خط التقدم الإنساني . . وهي كذلك غير إسلامية . .
لأن خط الإسلام هو خط تحرير الإنسان من شهواته , وتنمية خصائصه الإنسانية , وتغلبها على نزعاته الحيوانية . .
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في وصف المجتمعات البشرية الحاضرة , وإغراقها في الجاهلية . .
من العقيدة إلى الخلق . ومن التصور إلى أوضاع الحياة . .
ونحسب أن هذه الإشارات المجملة تكفي لتقرير ملامح الجاهلية في المجتمعات البشرية الحاضرة . ولتقرير حقيقة ما تستهدفه الدعوة الإسلامية اليوم وما يستهدفه الدعاة إلى دين الله . .
إنها دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام:عقيدة وخلقاً ونظاماً . . إنها ذات المحاولة التي كان يتصدى لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ذات النقطة التي بدأ منها دعوته أول مرة . وإنه ذات الموقف الذي وقفه بهذا الكتاب الذي أنزل إليه ; وربه - سبحانه - يخاطبه:
(كتاب أنزل إليك , فلا يكن في صدرك حرج منه , لتنذر به وذكرى للمؤمنين) .(1) .
=================
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 178) ,في ظلال القرآن - (ج 3 / ص 189)(1/80)
الجهاد في سبيل الله تعالى عبادة من العبادات العظيمة التي يتعبد لله تعالى بها، وهو كما ذكرت سابقًا يعد من لوازم القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبلاغ التوحيد للناس وإزالة ما يضاده من الشرك•
فما أعظمه وأشرفه من عبادة؛ حيث لا ينحصر نفعها على القائم بها ولكنها تتعداه إلى الناس بهدايتهم إلى الخير والسعادة في الدنيا والآخرة وإنقاذهم بإذنه تعالى من الشر والشقاء في الدنيا والآخرة•
ويمكننا حصر الغاية من الدعوة والجهاد في الأهداف التالية:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة؛ شعيرة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ فشعور المجاهد أنه عبد لله عز وجل يحب ربه سبحانه، ويحب ما يحبه من الجهاد في سبيله، ويبغض ما يبغضه من الشرك والفساد، ويبغض من يبغضهم الله من أعدائه الكفرة، ويجاهدهم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى• إن هذا الشعور لمن أعظم الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى• ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلا على شعوره بالعبودية لله عز وجل والتلذذ بذلك لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة(21).
كما أن في مصاحبة شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات المجاهد أكبر الأثر في التربية على الإخلاص وتحري الحق والصواب واللذان هما شرطا قبول العبادة، وعلى العكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل المجاهد أنه متعبد لله تعالى بدعوته وجهاده، فإنه بذلك يضعف إخلاصه وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، مما ينتج عنه في نهاية الأمر فتور المجاهد أو مزلة قدمه عياذًا بالله تعالى•
وإن بذل النفس والمال في سبيل الله عز وجل ليعد من أكبر العلامات على محبة الله تعالى ودينه، وعلى العكس من ذلك فيما لو تقاعس المسلم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وبخل بماله أو نفسه عندما يوجد داعي الجهاد؛ فإن هذا دليل على ضعف المحبة لله تعالى ولدينه•(1/81)
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن كان محبًا لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله• فجعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول، والجهاد في سبيله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح؛ ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ )(التوبة: من الآية24).
إلى قوله: (حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) فتوعد من كان أهله وماله أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بهذا الوعيد ••• والجهاد هو بذل الوسع - وهو القدرة - في حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه• ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالبًا إلا باحتمال المكروهات، سواء كان محبة صالحة أو فاسدة؛ فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة لله(22).
وقال في موطن آخر: " والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة، وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد• والجهاد دليل المحبة الكاملة ••• فإن المحبة مستلزمة للجهاد؛ لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له"(23).(1/82)
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة؛ وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيله على بصيرة• ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح المجاهدين في سبيله سبحانه والصابرين على ما أصابهم في سبيله وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم• وعندما ينْشَدُّ الداعية إلى هذه الغاية وتنجذب نفسه إليها فإنه يستسهل الصعاب ويمضي في طريقه بقوة وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنه بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة ولا ينتظر جزاء عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنما يروض نفسه ويربيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم في دار النعيم المقيم• ولذلك فإن أصحاب هذه النفوس المخلصة لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا•
أما أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأن وقت ومكان توفية الأجر ليس مجاله الدنيا وإنما في الآخرة - دار الحساب والجزاء - ولذلك فهم يعملون ويجاهدون حتى يأتيهم اليقين•
3- تعبيد الناس لرب العالمين عز وجل، وإنقاذهم - بإذنه تعالى - من الظلمات إلى النور، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان والمذاهب إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذاب النار يوم القيامة إلى جنات النعيم•(1/83)
وهذا لا يتأتى إلا بإزالة الشرك وأربابه الذين يحولون بين الناس وبين أن يصل التوحيد إلى قلوبهم، ومن أجل ذلك شرع الجهاد لإزالة هذه الحواجز والعوائق التي تعترض طريق الحق وتمنعه من الوصول إلى قلوب الناس؛ وذلك حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؛ قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39).
وعندما يتذكر المجاهد هذه المهمة الجسيمة وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنه يضاعف من جهده ولا يقر له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الناس والفساد المستطير والظلم العظيم في حياتهم والذي يؤول بهم إلى الشقاء والعنت وكثرة المصائب في الدنيا وإلى العذاب الأليم في الآخرة• ولذلك فلا ترى المجاهد المدرك لهذه الغاية من جهاده إلا خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراه إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم يريد من دعوته وجهاده هداية الناس وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة•
ولذلك فإن الجهاد في الإسلام إنما شرع رحمة بالناس، ولو كان فيه ما فيه من المشقة وبذل الأرواح والجراحات؛ فإن هذه المشقات والمكاره لا تساوي شيئًا في مقابلة ما يترتب على الجهاد من المصالح العظيمة وذلك من نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، وإزالة الفتنة والشرك والظلم عنهم•
وبعد هذا التفصيل في غايات الجهاد يمكن القول بأنها كلها ترجع إلى غاية في الدنيا، وغاية في الآخرة•
فأما غاية الجهاد في الدنيا:
فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده•
وأما الغاية من الجهاد في الآخرة:
فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه•(1/84)
والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته•
ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: "والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة"(24).
وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد• إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد•
وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة - وهي الشرك - عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار•
شبهة وجوابها : الإسلام شرع الجهاد للدفاع عن النفس فقط(1/85)
يثير بعض المهزومين روحيًا وعقليًا من أبناء المسلمين - وتحت ضغط الواقع اليائس وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر - قولهم بأن الجهاد في الإسلام إنما شرع للدفاع عن النفس والأوطان وليس لإكراه الناس على الدخول فيه بالسيف والاستيلاء على ديار غير المسلمين بالقوة• ولقد ظهرت هذه الشبهة بشكل جلي في السنوات الأخيرة وبالأخص في هذه الأيام بعد الحملة الصليبية واليهودية على ديار المسلمين بحجة ما يسمى مكافحة الإرهاب، مما دفع بعض المهزومين من أبناء المسلمين بل - ويا للأسف - من بعض دعاتهم إلى أن يركزوا على أن الإسلام دين سماحة وسلام ومحبة للناس، وليس دين إرهاب ولا قتال ولا غلظة على الكفار، وصاروا يكررون الآيات والأحاديث التي فيها ذكر الصفح والسماحة والسلام، ويضربون صفحًا عن النصوص التي فيها جهاد الكفار والإغلاظ عليهم حتى يكون الدين كله لله، وحتى يسلم الكفار أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون•
وللرد على هذه الشبهة أورد جوابين: أحدهما مجمل والآخر مفصل:
أما المجمل :
فهو القول بأن دوافع الجهاد في الإسلام تختلف عن تلك الدوافع التي تنشأ عنها الحروب من أجل الملك فحسب؛ فالجهاد في الإسلام إنما شرع لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله في جميع المعمورة، فمتى كان في المسلمين قوة وجب عليهم أن ينشروا هداية الله عز وجل في العالم، ولا يتركوا مكانًا تعلو فيه كلمة الكفر إلا فتحوه وأعلو كلمة التوحيد فيه• فإن لم يكن بهم قوة فلا أقل من أن يدافعوا عن بلادهم التي تحت أيديهم حتى لا يعلوا فيها الكفر ويفتن الناس في دينهم، مع إعدادهم لجهاد الفتح والطلب• وبناء على هذه الغاية الشريفة للجهاد تسقط كل بنود هيئة الأمم المتحدة الكافرة، وما يسمى بإعلان حقوق الإنسان التي تدعو إلى احترام حدود الغير، والسلام الدائم، والتعايش بين أصحاب الملل، وإلى حرية الاعتقاد لجميع الأفراد•
وأما الجواب المفصل :(1/86)
فيكفينا فيه ما سطرته يد الداعية المجاهد سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن الكريم؛ حيث لم أعثر حسب اطلاعي القاصر على من تكلم في هذا الموضوع المهم بكل عزة وصراحة كما تكلم هذا الرجل عليه رحمة الله•
وفيما يلي مقتطفات متفرقة من رده الحاسم على هؤلاء المهزومين: يقول رحمه الله تعالى: "إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشرافية في وقت لم تعد للمسلمين شوكة ••• فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام• والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبيه له أكثر من المبررات التى حملتها النصوص القرآنية (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الأنفال:38-40).
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض، وتحقيق منهجه في حياة الناس، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس، والناس عبيد لله وحده، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه! وهذا يكفي •• مع تقرير مبدأ: "لا إكراه في الدين" •• أي لا إكراه على اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله، أو أن الدين كله لله بهذا الاعتبار•(1/87)
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض، بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك •• وهذه وحدها تكفي •• ولقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين؛ فلم يُسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول: خرجنا ندافع عن وطننا المهدد! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة!
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر، وحذيفة بن محصن، والمغيرة بن شعبة، -رضي الله عنهم - جميعًا لرستم قائد جيش الفرس في القادسية، وهو يسألهم واحدًا بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية، قبل المعركة: ما الذي جاء بكم؟ فيكون الجواب: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام •• فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه• ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر ••••
حقًا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له؛ لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية؛ لأن الحاكمية فيه لله وحده •• إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعًا عن وجودها ذاته• ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفع عن نفسه•
هذه ملابسة لا بد منها؛ تولد مع ميلاد الإسلام ذاته، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضًا، ولا خيار له في خوضها، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً•(1/88)
هذا كله حق •• ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضًا••
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة •• إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ "الإنسان" في "الأرض" من العبودية لغير الله• ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركًا "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض" •• كل الأرض •• للشر والفساد والعبودية لغير الله•
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! •• ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانًا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها•
هذه طبيعة هذا الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعًا داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق!(1/89)
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من أجناس!•• ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة •• حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد •• إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي! •• والإسلام ليس مجرد عقيدة حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان• إنّما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس• والتجمعات الأخرى لا تمكنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام• وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله؛ فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقوم على عبودية العباد للعباد!
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر، وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة• والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيدًا أن هذه ليست هي الحقيقة، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة •• ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام، بنفي هذا الاتهام! فيلجئون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء•
وقد غشي على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة "الدين" •• وأنه مجرد "عقيدة" في الضمير؛ لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة •• ومن ثم يكون الجهاد للدين، جهادًا لفرض العقيدة على الضمير!(1/90)
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام؛ فالإسلام منهج الله للحياة البشرية• وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية! فالجهاد له جهادٌ لتقرير المنهج وإقامة النظام• أما العقيدة فأمرها موكول إلى حرية الاقتناع، في ظل النظام العام، بعد رفع جميع المؤثرات •• ومن ثم يختلف الأمر من أساسه، وتصبح له صورة جديدة كاملة•
وحيثما وجد التجمع الإسلامي، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان •• فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ، مسألة مقتضيات حركة لا مسألة مقررات عقيدة• وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة في المراحل التاريخية المتجددة، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الطويلة"(25).(1/91)
ويقول في موطن آخر: "والمهزومون روحيًا وعقليًا ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام"ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام!" •• يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه، والتي تعبد الناس للناس وتمنعهم من العبودية لله •• وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما •• ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم: "الحرب الدفاعية" •• والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك •• إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله؛ وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين، وجعلها خاتمة الرسالات ••(1/92)
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين •• إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور •• أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور •• ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابًا من دون الله •• ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من: أنظمة الدول السياسية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا•
وهو الذي قال عنه ابن القيم في الفقرة السابقة: "وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين"•
بينما قال عن جهاد الدفع: "فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلاً)•
قال الله تعالى عن جهاد الطلب: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: من الآية39).
وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم•(1/93)
ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين• ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:95).
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" •• نوع الإنسان •• في "الأرض"•• كل الأرض •• ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان! •• إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات •• فهنا: "لا إكراه في الدين" •• أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!"(26).
تنبيه:
إن الحديث السابق عن غاية الجهاد في الإسلام لا يعني التغافل عن مراحل الجهاد ومدى قوة المسلمين وضعفهم وهل لهم شوكة وتمكين أو لا•
إن بيان غاية الجهاد لا يتعارض مع كف اليد في مراحل الاستضعاف، أو الاقتصار على جهاد الدفع في بعض الأمكنة أو الأزمنة؛ فهذا من باب السياسات الشرعية وترجيح المصالح أو المفاسد• وكل هذه الاعتبارات ما هي إلا أسباب مؤقتة يجب على المسلمين أن يتجاوزوها لينتقلوا من مرحلة إلى غيرها، وأن يأخذوا بالأسباب التي تؤول بالمسلمين إلى غايات الجهاد ومراحله الأخيرة التي يكون الدين فيها كله لله، ويخضع الناس لسلطان الإسلام، ويتحدد مواقف الناس فيها: إما مسلم مؤمن بدين الإسلام، وإما مسالم آمن يدفع الجزية، وإما محارب خائف•(1/94)
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر مأمورًا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن •• وكان مأمورًا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة صار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار، فلما فتح الله مكة ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة"(27).
وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "زاد المعاد" وهو يستعرض مراحل الدعوة والجهاد منذ بعثته صلى الله عليه وسلم حتى نزلت سورة براءة حيث يقول: صلى الله عليه وسلم أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:1-2)؛ فنبأه بقوله: (اقْرَأْ) وأرسله بـ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)، ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته يُنذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤُمر بالكف والصبر والصفح•(1/95)
ثم أُذِنَ له في الهجرة، وأُذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يُقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفارُ معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقامُوا على العهد، فإن خاف منهم خيانة، نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأُمِرَ أن يقاتل من نقض عهده• ولما نزلت (سورة براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها؛ فأمره فيها أن يُقاتل عدوَّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم؛ فجهاد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان•
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عُهودهم إليهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم - وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له - فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مُؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم• وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )(التوبة: من الآية2).
قاتلهم؛ وهي الأشهر الأربعة المذكورة في قوله: وهي الحُرُمُ المذكورة في قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية5).(1/96)
فالحرم هاهنا: هي أشهر التسيير، أولها يوم الأذان - وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك - وآخرُها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة في قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (التوبة: من الآية36) ؛ فإن تلك واحد فرد، وثلاثة سرد: رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحَرَّمُ• ولم يَسِرْ المشركين في هذه الأربعة؛ فإن هذا لا يمكن لأنها غير متوالية، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقتل الناقض لعهده، وأجّل من لا عهد له، أو له عهد مطلق أربعة أشهر، وأمره أن يُتمَّ للموفي بعهده عهدَه إلى مدته، فأسلم هؤلاء كُلُّهم، ولم يُقيموا على كفرهم إلى مدتهم، وضَرَبَ على أهل الذمة الجزية•
فاستقر أمرُ الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حالُ أهل العهد والصلح إلى الإسلام، فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة، والمحاربون له خائفون منه، فصار أهلُ الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب•
وأما سيرته في المنافقين: فإنه أُمِرَ أن يقبل منهم علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحُجَّة، وأمره أن يُعْرِضَ عنهم، ويُغلِظَ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يُصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم؛ فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين"(28). ا.هـ.
ونخلص بعد هذا الكلام النفيس في بيان المراحل التي تنقل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته وجهاده إلى النتائج التالية:(1/97)
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية قد أُمِرَ بكف اليد وترك الجهاد المسلح مع كفار قريش، وأُمِرَ فيها بجهاد البلاغ والبيان، وتحمل في سبيل ذلك هو وأصحابه رضي الله عنهم من الأذى أصنافًا كثيرة• ولا شك أن في الأمر بكف اليد في المرحلة المكية حكمًا وغايات عظيمة لعل من أبرزها:
- ضعف المسلمين وقلة عددهم بحيث لو تمت المواجهة مع المشركين فإن ذلك من شأنه أن يئد الدعوة في مهدها•
- ومنها: الإعداد والتربية للقاعدة الصلبة التي يقوم على كاهلها نشر الإسلام ونصرة الدين•
- ومنها: أن يأخذ البلاغ حقه، وتقوم الحجة على المشركين، ويتم البيان للناس عن حقيقة الإسلام وحقيقة سبيل المجرمين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة•
وغير ذلك من الحكم(29).
2- أن الجهاد المسلح للكفار لم يؤذن فيه إلا بعد الهجرة بعد أن تهيأ للمسلمين المكان الذي يأمنون فيه وينطلقون منه ويفيئون إليه•
وجاء الإذن في أول الأمر لرفع الظلم، ثم تلا ذلك الأمر بجهاد المعتدي، ثم لمَّا قويت شوكة المسلمين بدأ جهاد الطلب حتى انتهى أمر الجهاد بعد آية السيف إلى أن لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو الجزية أو الحرب•
وفي ضوء ما سبق عرضه من غايات الجهاد ومراحله يمكن مناقشة موقفين خاطئين من الجهاد اليوم أحدهما يقابل الآخر•
الموقف الأول:
هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها•(1/98)
ويستند أصحاب هذا الرأي على هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر• وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل•
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل• ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين سبقت الإشارة إليهم في الصفحات السابقة عند الحديث عن غاية الجهاد في سبيل الله؛ وهم الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب•
وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معيناً• وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة• وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين •• إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية"(30).(1/99)
ولذلك فهم يتعاظمون مثل قوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (التوبة: من الآية5)، وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123).
ويحاول سيد قطب - رحمه الله تعالى - تفسير مواقف هؤلاء المهزومين، ولماذا تهولهم مثل هذه النصوص حتى يحاولوا تقييدها بالمراحل السابقة من أحكام فرض الجهاد فيقول: "إننا نعرف لماذا يهولهم هذا الأمر ويتعاظمهم على هذا النحو •• إنهم ينسون أن الجهاد في الإسلام جهاد في "سبيل الله" •• جهاد لتقرير ألوهية الله في الأرض وطرد الطواغيت المغتصبة لسلطان الله •• جهاد لتحرير "الإنسان" من العبودية لغير الله، ومن فتنته بالقوة عن الدينونة لله وحده والانطلاق من العبودية للعباد •• "حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله" •• وأنه ليس جهادًا لتغليب مذهب بشري على مذهب بشري مثله؛ إنما هو جهاد لتغليب منهج الله على مناهج العبيد! وليس جهاداً لتغليب سلطان قوم على سلطان قوم؛ إنما هو جهاد لتغليب سلطان الله على سلطان العبيد! وليس جهادًا لإقامة مملكة العبد؛ إنما هو جهاد لإقامة مملكة الله في الأرض •• ومن ثم ينبغي له أن ينطلق في "الأرض" كلها، لتحرير "الإنسان" كله؛ بلا تفرقة بين ما هو داخل في حدود الإسلام وبين ما هو خارج عنها •• فكلها "أرض" يسكنها "الإنسان" وكلها فيها طواغيت تُعَبِّد العباد للعباد!(1/100)
وحين ينسون هذه الحقيقة يهولهم طبعًا أن ينطلق منهج ليكتسح كل المناهج، وأن تنطلق أمة لتخضع سائر الأمم •• إنها في هذا الوضع لا تستساغ! وهي فعلاً لا تستساغ! •• لولا أن الأمر ليس كذلك، وليس له شبيه فيما بين أنظمة البشر اليوم من إمكان التعايش! إنها كلها اليوم أنظمة بشرية؛ فليس لواحد منها أن يقول: إنه هو وحده صاحب الحق في البقاء! وليس الحال كذلك في نظام إلهي يواجه أنظمة بشرية؛ ليبطل هذه الأنظمة كلها ويدمرها كي يطلق البشر جميعًا من ذلة العبودية للعباد، ويرفع البشر جميعًا إلى كرامة العبودية لله وحده بلا شريك!
ثم إنه يهولهم الأمر ويتعاظمهم لأنهم يواجهون هجوماً صليبيًا منظمًا لئيمًا ماكرًا خبيثًا يقول لهم: إن العقيدة الإسلامية قد انتشرت بالسيف، وإن الجهاد كان لإكراه الآخرين على العقيدة الإسلامية وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!
وأخيرًا فإن صورة الانطلاق في الأرض لمواجهة من يلون المسلمين من الكفار تهول المهزومين روحيًا في هذا الزمان وتتعاظمهم؛ لأنهم يبصرون بالواقع من حولهم وبتكاليف هذا الانطلاق فيهولهم الأمر •• وهو يهول فعلاً! •• فهل هؤلاء الذين يحملون أسماء المسلمين، وهم شعوب مغلوبة على أمرها؛ أو قليلة الحيلة عمومًا! هل هؤلاء هم الذين سينطلقون في الأرض يواجهون أمم الأرض جميعًا بالقتال، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله؟! إنه لأمر لا يتصور عقلاً •• ولا يمكن أن يكون هذا هو أمر الله فعلاً!(1/101)
ولكن فات هؤلاء جميعًا أن يروا متى كان هذا الأمر؟ وفي أي ظرف؟ لقد كان بعد أن قامت للإسلام دولة تحكم بحكم الله؛ دانت لها الجزيرة العربية ودخلت في هذا الدين، ونظمت على أساسه• وقبل ذلك كله كانت هناك العصبة المسلمة التي باعت أنفسها لله بيعة صدق، فنصرها الله يومًا بعد يوم، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة••• إن الناس لا يستطيعون أن يفهموا أحكام هذا الدين، وهم في مثل ما هم فيه من الهزال• إنه لن يفقه أحكام هذا الدين إلا الذين يجاهدون في حركة تستهدف تقرير ألوهية الله وحده في الأرض، ومكافحة ألوهية الطواغيت"(31).
الموقف الثاني:
وأصحاب هذا الموقف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء من كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم •• إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ حتى يكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة، ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا•
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذي أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون"(32).(1/102)
وقد جاء هذا الموقف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل الموقف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار•
وبين هذين الموقفين موقف ثالث نحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ وهو الموقف الذي رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار• ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى•
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك•
تنبيه:(1/103)
ليس المعني في الموقف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وغيرها، وإنما المعني هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم وقيل لهم بأن حكومتهم شرعية، وأن الخارجين عليها متطرفون إرهابيون مفسدون، ولم يجد الناس من يزيل عنهم هذا اللبس• فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين، ويقتل بعضهم بعضًا•
أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في مثل أفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس الوثنيين، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار•
أما جهاد الطلب فإنه لا يكون إلا بعد قيام دولة وكيان قوي للمسلمين ينطلقون منه ويفيئون إليه، ويهاجر إليه وتصب طاقات المسلمين فيه• وقبل قيام هذا الكيان القوي الآمن فإنه ليس أمام المسلمين إلا إعداد العدة لإقامة هذا الكيان، والقيام بجهاد الدفع فيما لو تعرض المسلمون إلى عدو كافر يريد صرفهم عن دينهم أو استباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وديارهم•(1)
====================
أصول السعادة في سورة العصر :
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) - راجع كتاب التربية الجهادية لعبد العزيز بن ناصر الجليل(1/104)
وَالْعَصْرِ ( 1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3)
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام . وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار . وتصف الأمة المسلمة:حقيقتها ووظيفتها . في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة . .
وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله . .
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه:
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار , وامتداد الإنسان في جميع الأدهار , ليس هنالك إلا منهج واحد رابح , وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده , وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه . وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .
(والعصر , إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا , وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . إنه الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق . والتواصي بالصبر . .
فما الإيمان ? ?
نحن لا نعرف الإيمان هنا تعريفه الفقهي ; ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة .
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود . ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر , وبالنواميس التي تحكم هذا الكون , وبالقوى والطاقات المذخورة فيه . والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير . ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية المجهولة . ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله .(1/105)
وفضلا عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق , فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعا بالوجود وما فيه من جمال , ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه . فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان . . . وهي سعادة رفيعة , وفرح نفيس , وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب . وهو كسب لا يعدله كسب . وفقدانه خسران لا يعدله خسران . . .
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . . .
التعبد لإله واحد , يرفع الإنسان عن العبودية لسواه , ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد , فلا يذل لأحد , ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . .
ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا , لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه , وكل ما يربطه بالله , أو بالوجود , أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة , وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه , وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها , وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة . . ولو كان فردا واحدا , لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .(1/106)
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق , وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتهما الناصعة , مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد , وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نورا , والروح طمأنينة , والنفس أنسا وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق , والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء !
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلتة عارضة , ولا نزوة طارئة , ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع , ويتجه إلى هدف , ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله , فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح , والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله , يرفع من اعتباره في نظر نفسه , ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . .
أنه كريم عند الله . .
وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه , ويرده إلى منبت حقير , ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة !
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني , فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع , ليس فيه ما يستغرب , ومن ثم ليس فيه ما يخجل . .
وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء !(1/107)
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما , ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله - سبحانه - في أطواء حسه إحساسا يرتعش له ويهتز .
فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه !
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم , يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة , وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية , ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب , إنما هي كذلك تبعة جماعية , وتبعة تجاه الخير في ذاته , وإزاء البشرية جميعا . .
أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله , فيكبر في عين نفسه , ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . .
إنه كائن له قيمة في الوجود , وعليه تبعة في نظام هذا الوجود . .
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا - وهو بعض إيحاءات الإيمان - واختيار ما عند الله , وهو خير وأبقى . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) . .
والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . .(1/108)
بين الدنيا والآخرة , والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير , ولأن الله يريده , ولا عليه ألا يدر الخير خيرا على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت - سبحانه - ولا ينسى , ولا يغفل شيئا من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف . ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجا موصولا , لا دفعة طارئة , ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية , أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية , أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه , وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير , وشهود انتصار الحق على الباطل ! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجا أساسيا كاملا .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير , الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير , وتتعلق به كل ثمرة من ثماره , وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته , صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية , وليس لها امتداد أو دوام !
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء , ذاهبة بددا مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال , ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون , وتنسلك في طريق واحد , وفي حركة واحدة , لها دافع معلوم , ولها هدف مرسوم . .(1/109)
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل , ولا يشد إلى هذا المحور , ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء) . .
وجاء في سورة النور: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) . .
وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله , ما لم يستند إلى الإيمان , الذي يجعل له دافعا موصولا بمصدر الوجود , وهدفا متناسقا مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني , وتناسقه مع فطرة الكون كله , ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله . فهو يعيش في هذا الكون , وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان , بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل , كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى , وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . .
خاسرة أي خسران !
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان , والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما أن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان الإسلامي . .(1/110)
لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك , كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . .
فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا . وإلا فهو غير موجود !
ومن هنا قيمة الإيمان . .
إنه حركة وعمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة .
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير , متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة - أو الجماعة المسلمة - ذات الكيان الخاص , والرابطة المميزة , والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح , الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح ; فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة - أو الجماعة - المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . .
وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . .
وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . .
هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير , متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن . .(1/111)
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة:هوى النفس , ومنطق المصلحة , وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة , وظلم الظلمة , وجور الجائرين . .
والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية , والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية , إذ تتفاعل معا فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . .
وهذا الدين - وهو الحق - لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح , وحراسة الحق والعدل , من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس , وجهاد الغير , والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل , وانطماس المعالم , وبعد النهاية !
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة , بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف , ووحدة المتجه , وتساند الجميع , وتزودهم بالحب والعزم والإصرار . .
إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها , ولا تبرز إلا من خلالها
وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران , فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا - قبل الآخرة - يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها ; مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض .(1/112)
هذا والمسلمون - أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق - هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير , وأشدهم إعراضا عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم , وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم , وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع التي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله , راية الإيمان , لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيرا قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله , لا شريك له , المسماة باسم الله لا شريك له , الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ? " . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله , وتحت عنوان "
عهد القيادة الإسلامية ":"الأئمة المسلمون وخصائصهم":(1)
"ظهر المسلمون , وتزعموا العالم , وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ,وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا , وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم , وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم . "
أولا:أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية , فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم .
__________
(1) - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - (ج 1 / ص 112)(1/113)
لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء , وقد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس , وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?) وقد قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط , ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون) .
ثانيا:- أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس ,
بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد صلى الله عليه وسلم وإشرافه الدقيق , يزكيهم ويؤدبهم , ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله , وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول:" إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله , أو أحدا حرص عليه " .
ولا يزال يقرع سمعهم:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) . .
فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب , فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة , ويزكوا أنفسهم , وينشروا دعاية لها , وينفقوا الأموال سعيا وراءها . فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد ; بل عدوه أمانة في عنقهم , وامتحانا من الله ; ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم , ومسؤولون عن الدقيق والجليل , وتذكروا دائما قول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) . . وقوله
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض , ورفع بعضكم فوق بعض درجات , ليبلوكم فيما آتاكم) .
"ثالثا:أنهم لم يكونوا خدمة جنس , ورسل شعب أو وطن , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده ,(1/114)
ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان , لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما , ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم !
إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:
الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
فالأمم عندهم سواء , والناس عندهم سواء . الناس كلهم من آدم , وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم) .
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا:خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر -:متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم ? فلم يبخل هؤلاء بما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد , ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا , بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد , وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر , وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة , وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد , بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل , وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
"رابعا:إن الإنسان جسم وروح ,(1/115)
وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح , لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها , ويتغذى غذاء صالحا , ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة , ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية , وأصحاب عقول سليمة راجحة , وعلوم صحيحة نافعة " . . .
إلى أن يقول تحت عنوان:"دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة ": (1)
"وكذلك كان , فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم , وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها , تسود فيها المثل الخلقية العليا , وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم , وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة , ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة , فتقل الجنايات , وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها , وتحسن علاقة الفرد بالفرد , و الفرد بالجماعة , وعلاقة الجماعة بالفرد . وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه , ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . " .
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع "سورة العصر" قواعده , وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
__________
(1) - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين - (ج 1 / ص 118)(1/116)
فأين منها هذا الضياع التي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان , والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر , والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور , وإذا هى كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح !
وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل , وفي الحياة الباقية , وفي عالم الحقيقة , هناك الربح والخسر:
ربح الجنة والرضوان , أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له , أو يرتكس فتهدر آدميته , وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة:
(يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا) . .
وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . .
إنه الخسر . .
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) . .
طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة , التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .(1/117)
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة "العصر" ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي , يتعاهدان على الإيمان والصلاح , ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . . (1)
================
لا يجوز للمسلم أن يخجل من إظهار حقيقة الإسلام اليوم
قال تعالى :
{ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( 12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ ( 13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( 14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 16)} سورة التوبة
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 28) وفي ظلال القرآن - (ج 8 / ص 89)(1/118)
إن تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للأيمان , ونقض للعهود . وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية . ولقد قبل صلى الله عليه وسلم من شروطهم - بإلهام من ربه وهداية - ما حسبه بعض أفاضل أصحابه قبولا للدنية ! ووفى لهم بعهده أدق ما يكون الوفاء وأسماه . ولكنهم هم لم يفوا , وخاسوا بالعهد بعد عامين اثنين , عند أول فرصة سنحت . .
كما أن المشركين هم الذين هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل في مكة ; وبيتوا أمرهم في النهاية على قتله قبل الهجرة . وكان هذا في بيت الله الحرام الذي يأمن فيه القاتل منهم على دمه وماله ; حتى لكان الواحد يلقى قاتل أخيه أو أبيه في الحرم فلا يمسه بسوء . أما محمد رسول الله , الداعي إلى الهدى والإيمان وعبادة الله وحده , فلم يرعوا معه هذه الخصلة ; وهموا بإخراجه ; ثم تآمروا على حياته ; وبيتوا قتله في بيت الله الحرام , بلا تحرج ولا تذمم مما يتحرجون منه ويتذممون مع أصحاب الثارات ! . . كذلك كانوا هم الذين هموا بقتال المسلمين وحربهم في المدينة . فهم الذين أصروا - بقيادة أبي جهل - على ملاقاة المسلمين بعد أن نجت القافلة التي خرجوا لها ; ثم قاتلوهم بادئين في أحد وفي الخندق . ثم جمعوا لهم في حنين كذلك . .
وكلها وقائع حاضرة أو ذكريات قريبة ; وكلها تنم عن الإصرار الذي يصفه قول الله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) كما تنم عن طبيعة العلاقة بين المعسكر الذي يعبد آلهة من دون الله تجاه المعسكر الذي لا يعبد إلا الله . .
وحين يستعرض السياق هذا الشريط الطويل من الذكريات والمواقف والأحداث , في هذه اللمسات السريعة العميقة الإيقاع في قلوب المسلمين , يخاطبهم:(أتخشونهم ?) . .
فإنهم لا يقعدون عن قتال المشركين هؤلاء إلا أن تكون هي الخشية والخوف والتهيب !
ويعقب على السؤال بما هو أشد استجاشة للقلوب من السؤال:(1/119)
(فالله أحق أن تخشوه , إن كنتم مؤمنين) . .
إن المؤمن لا يخشى أحدا من العبيد . فالمؤمن لا يخشى إلا الله . فإذا كانوا يخشون المشركين فالله أحق بالخشية , وأولى بالمخافة ; وما يجوز أن يكون لغيره في قلوب المؤمنين مكان !
وإن مشاعر المؤمنين لتثور ; وهي تستجاش بتلك الذكريات والوقائع والأحداث . . وهم يذكرون بتآمر المشركين على نبيهم صلى الله عليه وسلم . .
وهم يستعرضون نكث المشركين لعهودهم معهم وتبييتهم لهم الغدر كلما التمسوا منهم غرة , أو وجدوا في موقفهم ثغرة . وهم يتذكرون مبادأة المشركين لهم بالعداء والقتال بطرا وطغيانا . .
وفي غمرة هذه الثورة يحرض المؤمنين على القتال: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم , وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين , ويذهب غيظ قلوبهم) . .
قاتلوهم يجعلكم الله ستار قدرته , وأداة مشيئته , فيعذبهم بأيديكم ويخزهم بالهزيمة وهم يتخايلون بالقوة , وينصركم عليهم ويشف صدور جماعة من المؤمنين ممن آذاهم وشردهم المشركون . يشفها من غيظها المكظوم , بانتصار الحق كاملا , وهزيمة الباطل , وتشريد المبطلين . .
وليس هذا وحده ولكن خيرا آخر ينتظر وثوابا آخر ينال: (ويتوب الله على من يشاء) . .
فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين إلى الإيمان , ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين ينصرون , ويحسون أن قوة غير قوة البشر تؤيدهم , ويرون آثار الإيمان في مواقفهم - وهذا ما كان فعلا - وعندئذ ينال المسلمون المجاهدون أجر جهادهم , وأجر هداية الضالين بأيديهم ; وينال الإسلام قوة جديدة تضاف إلى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين: (والله عليم حكيم) .
عليم بالعواقب المخبوءة وراء المقدمات . حكيم يقدر نتائج الأعمال والحركات .(1/120)
إن بروز قوة الإسلام وتقريرها ليستهوي قلوبا كثيرة تصد عن الإسلام الضعيف , أو الإسلام المجهول القوة والنفوذ . وإن الدعوة إلى الإسلام لتختصر نصف الطريق حين تكون الجماعة المسلمة بادية القوة , مرهوبة الجانب , عزيزة الجناب .
على أن الله سبحانه وهو يربي الجماعة المسلمة بالمنهج القرآني الفريد لم يكن يعدها وهي في مكة قلة قليلة مستضعفة مطاردة , إلا وعدا واحدا:هو الجنة . ولم يكن يأمرها إلا أمرا واحدا:هو الصبر .
فلما أن صبرت وطلبت الجنة وحدها دون الغلب , آتاها الله النصر ; وجعل يحرضها عليه ويشفي صدورها به . ذلك أن الغلب والنصر عندئذ لم يكن لها ولكن لدينه وكلمته . وإن هي إلا ستار لقدرته . .
ثم إنه لم يكن بد أن يجاهد المسلمون المشركين كافة , وأن تنبذ عهود المشركين كافة ; وأن يقف المسلمون إزاءهم صفا . .
لم يكن بد من ذلك لكشف النوايا و الخبايا , ولإزالة الأستار التي يقف خلفها من لم يتجرد للعقيدة , والأعذار التي يحتج بها من يتعاملون مع المشركين للكسب , ومن يوادونهم لآصرة من قربى أو مصلحة . . لم يكن بد من إزالة هذه الأستار والمعاذير , وإعلان المفاصلة للجميع , لينكشف الذين يخبئون في قلوبهم خبيئة , ويتخذون من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة , يلجون منها إلى مصالحهم وروابطهم مع المشركين , في ظل العلاقات غير المتميزة أو الواضحة بين المعسكرات المختلفة:
(أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة , والله خبير بما تعملون) .(1/121)
لقد كان في المجتمع المسلم - كما هو الحال عادة - فئة تجيد المداورة , وتنفذ من الأسوار . وتتقن استخدام الأعذار . وتدور من خلف الجماعة , وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة , مرتكنة إلى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات . فإذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة , وكشفت المداخل والمسارب للأنظار .
وإنه لمن مصلحة الجماعة , ومن مصلحة العقيدة , أن تهتك الأستار وتكشف الولائج , وتعرف المداخل , فيمتاز المكافحون المخلصون , ويكشف المداورون الملتوون , ويعرف الناس كلا الفريقين على حقيقته , وإن كان الله يعلمهم من قبل: (والله خبير بما تعملون) . .
ولكنه سبحانه يحاسب الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم . وكذلك جرت سنته بالابتلاء لينكشف الخبيء وتتميز الصفوف , وتتمحص القلوب . ولا يكون ذلك كما يكون بالشدائد والتكاليف والمحن والابتلاءات .
(أليس الله بكاف عبده) ?
بلى ! فمن ذا يخيفه , وماذا يخيفه ? إذا كان الله معه ? وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام ? ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده ?
(ويخوفونك بالذين من دونه) . . فكيف يخاف ?
والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله . وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله ?
إنها قضية بسيطة واضحة , لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن . . إنه الله . ومَن هم دون الله . وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه .
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة . وهو الذي يقضي في العباد قضاءه . في ذوات أنفسهم , وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم: (ومن يضلل الله فما له من هاد . ومن يهد الله فما له من مضل) .
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله , ومن يستحق الهدى فيهديه . فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء .
(أليس الله بعزيز ذي انتقام ?)(1/122)
بلى . وإنه لعزيز قوي . وإنه ليجازي كلاً بما يستحق . وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام . فكيف يخشى أحداً أو شيئاً من يقوم بحق العبودية له , وهو كافله وكافيه ?
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم , ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ? ليقولن الله . قل . أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ? أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته ? قل:حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) . .
لقد كانوا يقررون - حين يسألون - أن الله هو خالق السماوات والأرض . وما تملك فطرة أن تقول غير هذا , وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا . فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعاً بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة . .
إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض . فهل يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله أن يصيب به عبداً من عباده ? أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبداً من عباده ?
والجواب القاطع:أن لا . .
فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله ? ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه ? وليس أحد بكاشف الضر عنه ? وليس أحد بمانع الرحمة عنه ? وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه ?
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه . وقد انقطع الجدل . وانقطع الخوف وانقطع الأمل . إلا في جناب الله سبحانه . فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده:
(قل:حسبي الله . عليه يتوكل المتوكلون) . .
ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين . الطمأنينة التي لا تخاف . والثقة التي لا تقلق . واليقين الذي لا يتزعزع . والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:
قل:يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل . فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم . .(1/123)
يا قوم اعملوا على طريقكم وعلى حالكم . إني ماض في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق . وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدينا , ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة . .
لقد قضي الأمر بعد عرض الحقيقة البسيطة التي تنطق بها الفطرة ويشهد بها الوجود . . إن الله هو خالق السماوات والأرض . القاهر فوق السماوات والأرض . وهو صاحب هذه الدعوة التي يحملها الرسل ويتولاها الدعاة . فمن ذا في السماوات والأرض يملك لرسله شيئاً أو لدعاته ? ومن ذا يملك أن يدفع عنهم ضراً أو يمسك عنهم رحمة ? وإذا لم يكن . فماذا يخشون وماذا يرجون عند غير الله ?
ألا لقد وضح الأمر ولقد تعين الطريق ; ولم يعد هناك مجال لجدال أو محال ! (1)
- - - - - - - - - - -
الباب الأول
أحكام أهل الذمة في الفقه الإسلامي
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْغَنِيمَةُ وَالْفَيْءُ وَحَقُّ آلِ الْبَيْتِ تَعْرِيفُ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ (2):
__________
(1) - في ظلال القرآن - (ج 1 / ص 227)وفي ظلال القرآن - (ج 3 / ص 487)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 41)(1/124)
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ عَلَى أَقْوَالٍ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ : " أَنْفَالٌ " " وَغَنِيمَةٌ " " وَفَيْءٌ " . حَقُّ آلِ الْبَيْتِ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ : 14 - لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَخْمَاسٍ : أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلْغَانِمِينَ , وَالْخَامِسُ لِمَنْ ذُكِرُوا فِي قوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } الْآيَةَ . لَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي مَصْرِفِ الْخُمُسِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام , فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , إنَّ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ الْخَامِسَ يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ . الْأَوَّلُ : سَهْمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْآيَةِ , وَلَا يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ , بَلْ يُصْرَفُ بَعْدَهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَعُمَارَةِ الثُّغُورِ وَالْمَسَاجِدِ . وَالثَّانِي : سَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى , وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ , دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ , لِاقْتِصَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي الْأَوَّلِينَ مَعَ سُؤَالِ بَنِي الْآخَرِينَ , وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوهُ لَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ . وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ , وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . وَيُفَضَّلُ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى , كَالْإِرْثِ . وَحَكَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِيهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ . وَالْأَسْهُمُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصُّ بِأَهْلِ(1/125)
الدِّيوَانِ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَحَقَّهُ بِحُصُولِ النُّصْرَةِ , فَيَكُونُ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي النُّصْرَةِ . وَعَنْهُ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ . وَالْفَيْءُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ , يُخَمَّسُ , وَمَصْرِفُ الْخُمُسِ مِنْهُ كَمَصْرِفِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ . وَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ , وَيَكُونُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ الْخُمُسَ الَّذِي لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ إلَخْ يُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى , وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ , وَسَهْمٌ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ . وَيَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ , يُعْطَوْنَ كِفَايَتَهُمْ , وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ . وَذَوُو الْقُرْبَى الَّذِينَ يُدْفَعُ إلَى فُقَرَائِهِمْ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ وَالْفَيْءُ لَا يُخَمَّسُ عِنْدَهُمْ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنَّ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ كُلِّهَا وَالرِّكَازِ وَالْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ وَخَرَاجِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَعُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَحَلُّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَارِفِهِ , بِاجْتِهَادِهِ , فَيَبْدَأُ مِنْ ذَلِكَ بِآلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام اسْتِحْبَابًا , ثُمَّ يَصْرِفُ لِلْمَصَالِحِ الْعَائِدِ نَفْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ , كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ . وَالْفَيْءُ لَا يُخَمَّسُ عِنْدَهُمْ . وَالْآلُ الَّذِينَ يَبْدَأُ بِهِمْ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ . .
اخْتِلَافُ الدَّارِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 684)(1/126)
1 - الدَّارُ لُغَةً : الْمَحَلُّ . وَتَجْمَعُ الْعَرْصَةَ وَالْبِنَاءَ , وَتُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْبَلْدَةِ . وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّوْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَنْتَسِبُ إلَيْهِمَا الشَّخْصَانِ . فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ شَيْئًا ; لِأَنَّ دِيَارَ الْإِسْلَامِ كُلَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ السَّرَخْسِيُّ : " أَهْلُ الْعَدْلِ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ يَتَوَارَثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ أَحْكَامٍ , فَبِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ وَالْمَلِكِ لَا تَتَبَايَنُ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ يَجْمَعُهُمْ " . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ السَّرَخْسِيُّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ , إلَّا مَا قَالَ الْعَتَّابِيُّ : إنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يَرِثُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِنَا , أَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا بِدَارِ الْحَرْبِ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : وَقَوْلُ الْعَتَّابِيِّ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً . فَقَدْ نَفَى اللَّهُ تَعَالَى الْوِلَايَةَ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } , فَلَمَّا كَانَتْ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُمَا مُنْتَفِيَةً كَانَ الْمِيرَاثُ مُنْتَفِيًا ; لِأَنَّ الْمِيرَاثَ عَلَى الْوِلَايَةِ . فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّ حُكْمَ الْهِجْرَةِ قَدْ نُسِخَ . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } . قَالَ السَّرَخْسِيُّ : "(1/127)
فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ فَلَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ , وَلَكِنْ دَارُ قَهْرٍ . فَبِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ وَالْمَلِكِ تَخْتَلِفُ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَبِتَبَايُنِ الدَّارِ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ . وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجُوا إلَيْنَا بِأَمَانٍ , لِأَنَّهُمْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِينَا , فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي مَنَعَةِ مَلَكِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِأَمَانٍ " . أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلِذَا فَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي الدَّارِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ . أَمَّا الْحَرْبِيُّونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ دُورَهُمْ قَدْ تَتَّفِقُ وَقَدْ تَخْتَلِفُ . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ شَارِحًا مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ : " اخْتِلَافُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْمَنَعَةِ أَيْ الْعَسْكَرِ , وَاخْتِلَافُ الْمَلِكِ , كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَلِكَيْنِ فِي الْهِنْدِ , وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ , وَالْآخَرُ فِي التُّرْكِ , وَلَهُ دَارٌ وَمَنَعَةٌ أُخْرَى , وَانْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَسْتَحِلَّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِتَالَ الْآخَرِ . فَهَاتَانِ الدَّارَانِ مُخْتَلِفَتَانِ , فَتَنْقَطِعُ بِاخْتِلَافِهِمَا الْوِرَاثَةُ ; لِأَنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الْعِصْمَةِ وَالْوِلَايَةِ . أَمَّا إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَاصُرٌ وَتَعَاوُنٌ عَلَى أَعْدَائِهِمَا كَانَتْ الدَّارُ وَالْوِرَاثَةُ ثَابِتَةً " : ( وَانْظُرْ : دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْكُفْرِ ) . وَدَارُ الْإِسْلَامِ مُخَالِفٌ لِدَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَاصُرٌ وَتَعَاوُنٌ .
أَنْوَاعُ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 685)(1/128)
2 - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : قَدْ تَخْتَلِفُ الدَّارَانِ حَقِيقَةً فَقَطْ , أَوْ حُكْمًا فَقَطْ , أَوْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا : فَاخْتِلَافُهُمَا حَقِيقَةً فَقَطْ , كَمُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِنَا وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِهِمْ , فَإِنَّ الدَّارَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ حَقِيقَةً لَكِنْ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمًا . فَهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا . وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا حُكْمًا فَكَمُسْتَأْمَنٍ وَذِمِّيٍّ فِي دَارِنَا , فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُمَا فِي دَارَيْنِ حُكْمًا ; لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ حُكْمًا , لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ . وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَكَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِهِمْ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِنَا . وَكَالْحَرْبِيِّينَ فِي دَارَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ . هَذَا وَإِنَّ اخْتِلَافَ الدَّارَيْنِ بَيْنَ كَافِرٍ وَكَافِرٍ يَسْتَتْبِعُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ أَحْكَامًا مُخْتَلِفَةً نَعْرِضُ جُمْلَةً مِنْهَا فِيمَا يَلِي : التَّوَارُثُ : 3 - اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا فَقَطْ , أَوْ حُكْمًا وَحَقِيقَةً , أَحَدُ مَوَانِعِ التَّوَارُثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا يَرِثُ الذِّمِّيُّ حَرْبِيًّا وَلَا مُسْتَأْمَنًا , وَلَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ ذِمِّيًّا وَلَوْ اتَّفَقَ دِينُهُمَا , وَلَا يَرِثُ الْحَرْبِيُّ حَرْبِيًّا إنْ اخْتَلَفَتْ دَارَاهُمَا . وَيَثْبُتُ التَّوَارُثُ بَيْنَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فِي دَارِنَا إنْ كَانَا مِنْ دَارٍ وَاحِدَةٍ , كَمَا يَثْبُتُ بَيْنَ مُسْتَأْمَنٍ فِي دَارِنَا وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِهِمْ لِاتِّحَادِ الدَّارِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا تَوَارُثَ(1/129)
عِنْدَهُمْ بَيْنَ ذِمِّيٍّ وَحَرْبِيٍّ , أَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهِدُ فَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي حُكْمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , لِلْقُرْبِ بَيْنَهُمْ وَلِعِصْمَتِهِمْ بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانِ , كَالذِّمِّيِّ , فَيَرِثَانِ الذِّمِّيَّ وَيَرِثُهُمَا , وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَ أَحَدِهِمَا وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّينَ . وَفِي قَوْلٍ آخَرَ : الْمُسْتَأْمَنُ وَالْمُعَاهِدُ كَالْحَرْبِيِّ . أَمَّا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ , وَمِثْلُهُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ - فِيمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعَذْبِ الْفَائِضِ وَلَمْ نَجِدْهُمْ صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا اطَّلَعْت عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِمْ - فَلَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ التَّوَارُثَ مَا دَامَتْ الْمِلَلُ مُتَّفِقَةً . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ آخَرُ هُوَ لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى : إنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَرِثُ ذِمِّيًّا , وَلَا الذِّمِّيُّ حَرْبِيًّا , فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَيَرِثُهُ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ وَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَيَرِثُ أَهْلُ الْحَرْبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ دِيَارُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ .
الْإِرْثُ بِالْعُصُوبَةِ السَّبَبِيَّةِ (1):
51 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَتِيقَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً يَرِثُ جَمِيعَ مَالِ مَنْ أَعْتَقَهُ أَوْ الْبَاقِيَ مِنْهُ إذَا اتَّفَقَا فِي الدِّينِ , وَلَمْ يَخْلُفْ الْعَتِيقُ مَنْ يَرِثُهُ , أَوْ خَلَفَ مَنْ يَرِثُ الْبَعْضَ . أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الدِّينِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا , وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَصَحِّ إلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْكَافِرَ بِالْوَلَاءِ وَعَكْسِهِ .
( وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ) :
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/130)
52 - عَقْدُ الْمُوَالَاةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْإِرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ . فَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ ( عَاقَدَتْ ) فَالْآيَةُ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ مُسْتَعْمَلَةٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ فَقْدِ ذَوِي الْأَرْحَامِ . وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَبَقَائِهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ , فَقَدْ رُوِيَ عَنْ { تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ } فَقَوْلُهُ : هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَمَاتِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَوْلَاهُمْ بِمِيرَاثِهِ , إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ بَيْنَهُمَا وِلَايَةٌ إلَّا فِي الْمِيرَاثِ . وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ : مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : إذَا جَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَإِنَّ وَلَاءَهُ لِمَنْ وَالَاهُ . وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً . وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّمَا(1/131)
الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الْإِرْثِ مَحْصُورَةٌ فِي رَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلَاءٍ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا , وَالْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ , وَلِذَلِكَ لَا يَرِثُ مَعَ ذِي رَحِمٍ شَيْئًا , وقوله تعالى : { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } مَنْسُوخٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ : نَسَخَتْهَا { وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَقَالَ مُجَاهِدٌ : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أَيْ مِنْ الْعَقْلِ - الدِّيَةِ - وَالنُّصْرَةِ وَالرِّفَادَةِ . وَلَيْسَ هَذَا بِوَصِيَّةٍ , لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يُشَارِكُ فِي دِيَةٍ , فَلَهُ الرُّجُوعُ
الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ (1):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/132)
2 - لَمَّا كَانَتْ أَرْضُ الْعَرَبِ مَنْبَتَ الْإِسْلَامِ وَعَرِينَهُ , وَفِيهَا بَيْتُ اللَّهِ وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ , فَقَدْ اُخْتُصَّتْ عَنْ سَائِرِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهَا لَا يَسْكُنُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ بِهَا أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَالثَّالِثِ : أَنَّهَا لَا يَبْقَى فِيهَا دَارُ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّابِعِ : أَنَّهَا لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِهَا خَرَاجٌ . وَفِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلٌ سَيَأْتِي . مَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ : 3 - وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثُ فِي مَنْعِ الْكُفَّارِ مِنْ سُكْنَى الْأَرْضِ الَّتِي يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ : مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ : { بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ , إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : انْطَلِقُوا إلَى يَهُودَ , فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ , فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ , أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا . فَقَالُوا : بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ . فَقَالَ : ذَلِكَ أُرِيدُ . ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ . فَقَالُوا : قَدْ بَلَّغْت يَا أَبَا الْقَاسِمِ . ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ . فَقَالَ : اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ , فَمَنْ وَجَدَ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ , وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ جَزِيرَةِ(1/133)
الْعَرَبِ , عَلَى أَقْوَالٍ : 4 - الْأَوَّلِ : وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , أَنَّ الْكُفَّارَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا , أَخْذًا بِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا : حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إلَّا مُسْلِمًا } . وَحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ : { آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا : { لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } , وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى , اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ } قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ : " لَا يُمَكَّنُونَ - يَعْنِي أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْعَرَبِ وَقُرَاهَا , بِخِلَافِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي لَيْسَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , يُمَكَّنُونَ مِنْ سُكْنَاهَا . " وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ " فِي شَرْحِ الْوَهْبَانِيَّةِ لِلشُّرُنْبُلَالِيِّ : يُمْنَعُونَ مِنْ اسْتِيطَانِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : قَوْلَهُ : لِأَنَّهُمَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ , أَفَادَ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا , بَلْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا كَذَلِكَ , كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ " . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ(1/134)
الْمَالِكِيَّةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ : أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ وَمَخَالِيفُهَا , فَقَالَ مَالِكٌ : يُخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ التَّرَدُّدِ بِهَا مُسَافِرِينَ . 5 - الرَّأْيُ الثَّانِي : وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , أَنَّ الْمُرَادَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَيْسَ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ ( جَزِيرَةُ الْعَرَبِ ) فِي اللُّغَةِ , بَلْ أَرْضُ الْحِجَازِ خَاصَّةً . وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ , قَالَ : { آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } وَفِي الْمُوَطَّأِ : قَدْ أَجْلَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَهُودَ نَجْرَانَ وَفَدَكَ . فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ فَخَرَجُوا مِنْهَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الثَّمَرِ وَلَا مِنْ الْأَرْضِ شَيْءٌ . وَأَمَّا يَهُودُ فَدَكَ فَكَانَ لَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ وَنِصْفُ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ عَلَى نِصْفِ الثَّمَرِ وَنِصْفِ الْأَرْضِ , فَأَقَامَ لَهُمْ عُمَرُ نِصْفَ الثَّمَرِ وَنِصْفَ الْأَرْضِ قِيمَةً مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ وَإِبِلٍ وَحِبَالٍ وَأَقْتَابٍ , ثُمَّ أَعْطَاهُمْ الْقِيمَةَ وَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا . وَقَدْ خَصَّصُوا عُمُومَ الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى السَّابِقَةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ , وَبِفِعْلِ عُمَرَ فِي مَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : فَأَمَّا إخْرَاجُ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْهُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا , فَنَقَضُوا(1/135)
عَهْدَهُ . فَكَأَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أُرِيدَ بِهَا الْحِجَازُ . وَلَا يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ أَطْرَافِ الْحِجَازِ كَتَيْمَاءَ وَفَيْدٍ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : " إنْ سَأَلَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَنْ يُعْطِيَهَا وَيَجْرِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ , عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ , وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا , لِأَنَّ تَرْكَهُمْ يَسْكُنُونَ الْحِجَازَ مَنْسُوخٌ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَثْنَى عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ حِينَ عَامَلَهُمْ فَقَالَ : { نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِجْلَائِهِمْ مِنْ الْحِجَازِ } . وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ ذِمِّيٍّ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْحِجَازَ بِحَالٍ " . وَقَالَ : " لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ أَحَدًا أَجْلَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَمَنِ , وَقَدْ كَانَتْ بِهَا ذِمَّةٌ , وَلَيْسَتْ بِحِجَازٍ , فَلَا يُجْلِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الْيَمَنِ , وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مُقَامِهِمْ بِالْيَمَنِ " . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ : " يُقَرُّونَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ إلَّا بِالْحِجَازِ , وَهِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَنَجْدُ وَمَخَالِيفُهَا وَالْوَجُّ وَالطَّائِفُ وَخَيْبَرُ مِنْ مَخَالِيفِ الْمَدِينَةِ , وَهَلْ يَدْخُلُ الْيَمَنُ فِي ذَلِكَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ , إذْ قِيلَ تَنْتَهِي جَزِيرَةُ الْعَرَبِ إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ " . وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ الْأَحَادِيثَ فِي إخْرَاجِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , ثُمَّ قَالَ : " لَيْسَ الْمُرَادُ جَمِيعَ جَزِيرَةِ(1/136)
الْعَرَبِ بَلْ الْحِجَازُ مِنْهَا , لِأَنَّ عُمَرَ أَجْلَاهُمْ مِنْهُ , وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ مَعَ أَنَّهُ مِنْهَا . وَهُوَ - أَيْ الْحِجَازُ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَقُرَاهَا , كَالطَّائِفِ وَجَدَّةَ وَخَيْبَرَ , وَيَنْبُعَ " .
بَحْرُ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْجُزُرِ (1):
6 - قَالَ الشَّافِعِيُّ : " لَا يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ رُكُوبِ بَحْرِ الْحِجَازِ - أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُبُورِ - وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ . وَكَذَا إنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ " . وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْجُزُرَ يُمْنَعُونَ مِنْ سُكْنَاهَا , مَسْكُونَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَسْكُونَةٍ . وَقَالَ : قَالَ الْقَاضِي : لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي مَرْكَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ , أَيْ إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
دُخُولُ الْكَافِرِ أَرْضَ الْعَرَبِ لِغَيْرِ الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ :
8 - يَرَى الْجُمْهُورُ , وَمَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ دُخُولُ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ بِحَالٍ . وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بِصُلْحٍ أَوْ إذْنٍ . وَلِمَعْرِفَةِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ ( ر : حَرَمٌ ) . وَأَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ لِرِسَالَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ حَمْلِ مَتَاعٍ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( الْمَدِينَةُ الْمُنَوَّرَةُ ) .
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/137)
9 - وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ - مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ - فَلَا يَدْخُلُهُ الْكَافِرُ إلَّا بِإِذْنٍ أَوْ صُلْحٍ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ . فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ دَخَلَ - أَيْ الذِّمِّيُّ - أَرْضَ الْعَرَبِ لِتِجَارَةٍ جَازَ , وَلَا يُطِيلُ , فَيُمْنَعُ أَنْ يُطِيلَ فِيهَا الْمُكْثَ , حَتَّى يَتَّخِذَ فِيهَا مَسْكَنًا ; لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي الْمُقَامِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ , كَحَالِهِمْ فِي غَيْرِهَا بِلَا جِزْيَةٍ , وَهُنَاكَ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ التِّجَارَةِ , بَلْ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ , فَكَذَلِكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ . وَقَدْ قَدَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِسَنَةٍ . قَالَ صَاحِبُ الِاخْتِيَارِ : لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ , فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ .(1/138)
10 - وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لِأَهْلِ الذِّمَّةِ الِاجْتِيَازُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي سَفَرِهِمْ لِتِجَارَةٍ وَنَحْوِهَا , وَإِقَامَةِ الْأَيَّامِ , كَالثَّلَاثَةِ لِمَصَالِحِهِمْ إنْ دَخَلُوهَا لِمَصْلَحَةٍ , كَبَيْعِ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ . قَالَ الصَّاوِيُّ : وَلَيْسَتْ الثَّلَاثَةُ قَيْدًا , بَلْ الْمَدَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ لِلْمَصَالِحِ , وَالْمَمْنُوعُ الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ . وَعِبَارَةُ الْعَدَوِيِّ عَلَى قَوْلِ الْخَرَشِيِّ : ( وَضَرَبَ لَهُمْ عُمَرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) قَالَ : " الظَّاهِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ لِكَوْنِ الثَّلَاثَةِ إذْ ذَاكَ مَظِنَّةٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ , وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ الْحَاجَةُ تَقْتَضِي أَكْثَرَ لَكَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ " . قَالَ الصَّاوِيُّ : وَظَاهِرُهُ أَنَّ لَهُمْ الْمُرُورَ عَابِرِينَ وَلَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ . وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ : قَالَ مَالِكٌ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ : يُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلٌ ثَلَاثُ لَيَالٍ , يَسْتَقُونَ وَيَنْظُرُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ , وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ .(1/139)
11 - أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ أَوْسَعُ , قَالُوا : إنْ اسْتَأْذَنَ الْكَافِرُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ أُذِنَ لَهُ إنْ كَانَ دُخُولُهُ لِمَصْلَحَةٍ , كَرِسَالَةٍ وَحَمْلِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ , وَكَإِرَادَةِ عَقْدِ جِزْيَةٍ أَوْ هُدْنَةٍ لِمَصْلَحَةٍ . وَهُنَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ دُخُولِهِ . أَمَّا مَعَ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يُؤْذَنُ لَهُ , فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ لِتِجَارَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ حَاجَةٍ , لَمْ يَجُزْ الْإِذْنُ لَهُ , إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ ذِمِّيًّا , وَبِشَرْطِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْبِضَاعَةِ أَوْ ثَمَنِهَا . وَلَا يُقِيمُ بِالْحِجَازِ حَيْثُ دَخَلَهُ , إلَّا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَأَقَلُّ , غَيْرَ يَوْمَيْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ , اقْتِدَاءً بِعُمَرَ رضي الله عنه . فَإِنْ أَقَامَ بِمَحَلٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , ثُمَّ بِآخَرَ مِثْلَهَا , وَهَكَذَا , لَمْ يُمْنَعْ , إنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ مَحَلَّيْنِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ . وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحِجَازَ مُشْرِكٌ بِحَالٍ , وَلَوْلَا مَا رَأَى عُمَرُ مِنْ أَنَّ أَجَلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَاجِرًا ثَلَاثٌ , لَا يُقِيمُ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ , لَرَأَيْت أَنْ لَا يُصَالَحُوا بِدُخُولِهَا بِكُلِّ حَالٍ .
12 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَقَالَ الْقَاضِي : أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ حَدُّ مَا يَتِمُّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ , وَقَالُوا كَالشَّافِعِيَّةِ : إنْ أَقَامُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أُخْرَى جَازَ .
مَا يُشْتَرَطُ لِدُخُولِ الْكُفَّارِ أَرْضَ الْعَرَبِ :(1/140)
17 - لَيْسَ لِلْكَافِرِ أَنْ يَدْخُلَ لِلْإِقَامَةِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ , عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي تَفْسِيرِهَا . وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ الْإِقَامَةِ بِهَا . وَحِينَئِذٍ إنْ شَرَطَ هَذَا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ , يَبْطُلُ الشَّرْطُ , فَلَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهِ , وَيَصِحُّ الْعَقْدُ . لَكِنْ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا الذِّمِّيُّ لِلتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا , فِي حُدُودِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ , فَإِنْ لَمْ يَعْقِدْ الذِّمَّةَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُهُ , نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ دُخُولُ سَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ . كَمَا أَنَّ الْحَرْبِيِّينَ لَا يَدْخُلُونَ سَائِرَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ . وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دُونَ إذْنٍ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُخْرَجُ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنَّمَا يُعَزَّرُ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالْمَنْعِ . فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُخْرَجُ وَلَا يُعَزَّرُ , وَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الْجَهْلَ . وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْإِذْنَ فِي دُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْحِجَازَ .
اسْتِئْمَانٌ (1):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/141)
التَّعْرِيفُ : 1 - الِاسْتِئْمَانُ فِي اللُّغَةِ : طَلَبُ الْأَمَانِ . يُقَالُ : اسْتَأْمَنَهُ : طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ , وَاسْتَأْمَنَ إلَيْهِ : دَخَلَ فِي أَمَانِهِ , وَقَدْ أَمَّنَهُ وَآمَنَهُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : دُخُولُ دَارِ الْغَيْرِ ( أَيْ إقْلِيمِهِ ) بِأَمَانٍ , مُسْلِمًا كَانَ الدَّاخِلُ أَوْ حَرْبِيًّا . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْعَهْدُ : 2 - الْأَصْلُ فِي مَعْنَاهُ : حِفْظُ الشَّيْءِ وَمُرَاعَاتُهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ , ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمُوثَقِ الَّذِي يَلْزَمُ مُرَاعَاتُهُ . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَهْدِ وَالِاسْتِئْمَانِ : أَنَّ الْعَهْدَ أَعَمُّ مِنْ الِاسْتِئْمَانِ . ب - الذِّمَّةُ : 3 - مِنْ مَعَانِي الذِّمَّةِ فِي اللُّغَةِ : الْعَهْدُ , وَالْأَمَانُ , وَالضَّمَانُ . وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الِاصْطِلَاحِ : إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ , بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ , وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ . فَالْفَرْقُ بَيْنَ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِئْمَانِ , أَنَّ عَقْدَ الِاسْتِئْمَانِ مُؤَقَّتٌ , وَعَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ فِي الْأَصْلِ . ج - الِاسْتِجَارَةُ : 4 - الِاسْتِجَارَةُ مِنْ مَعَانِيهَا لُغَةً : طَلَبُ شَخْصٍ مِنْ آخَرَ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيَحْمِيَهُ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ . فَالِاسْتِجَارَةُ أَعَمُّ ; لِأَنَّهَا تَشْمَلُ كُلَّ أَحْوَالِ طَلَبِ الْحِمَايَةِ , بِخِلَافِ الِاسْتِئْمَانِ , فَإِنَّهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ وَعَكْسِهِ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : 5 - اسْتِئْمَانُ رَايَةٍ أَوْ عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْأَمَانِ - جَائِزٌ بِشُرُوطٍ وَتَفْصِيلَاتٍ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مُسْتَأْمَنٌ ) فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ حُرِّمَتْ(1/142)
أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ . كَمَا يَجُوزُ اسْتِئْمَانُ الْمُسْلِمِ لِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِتِجَارَةٍ , أَوْ تَبْلِيغِ رِسَالَةٍ , إذَا كَانُوا مِمَّنْ يُوفُونَ بِالْعَهْدِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ تَعَرُّضِهِمْ لَهُ . .
تَمَلُّكُ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ (1):
18 - تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الرَّمْلِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , فَقَالَ : الصَّوَابُ مَعَ شِرَاءِ الْكَافِرِ أَرْضًا فِي الْحِجَازِ لَمْ يَقُمْ بِهَا ; لِأَنَّ مَا حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ حَرُمَ اتِّخَاذُهُ , كَالْأَوَانِي الذَّهَبِيَّةِ وَالْفِضِّيَّةِ , وَآلَاتِ اللَّهْوِ . وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ : وَلَا يَتَّخِذُ الذِّمِّيُّ شَيْئًا مِنْ الْحِجَازِ دَارًا .
إقَامَةُ الْكُفَّارِ فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ (2):
19 - لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يُقَرَّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ , وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , وَالدَّهْرِيِّينَ , وَنَحْوِهِمْ بِذِمَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا . وَلَكِنْ يَجُوزُ , عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خَاصَّةً , أَنْ يُقِيمَ بِهَا - خَارِجَ الْحِجَازِ - أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
دُورُ الْعِبَادَةِ لِلْكُفَّارِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ (3):
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة
(2) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة
(3) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/143)
21 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ - الْحِجَازَ وَمَا سِوَاهُ - لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا , وَلَا بِيعَةٍ , وَلَا صَوْمَعَةٍ , وَلَا بَيْتِ نَارٍ , وَلَا صَنَمٍ , تَفْضِيلًا لِأَرْضِ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِهَا , وَتَطْهِيرًا لَهَا عَنْ الدِّينِ الْبَاطِلِ كَمَا عَبَّرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ . وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مُدُنُهَا وَقُرَاهَا وَسَائِرُ مِيَاهِهَا . وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا مُحْدَثٍ أَوْ قَدِيمٍ , أَيْ سَابِقٍ عَلَى الْفَتْحِ الْإِسْلَامِيِّ . وَيُفْهَمُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : أَنَّ ذَلِكَ فِي الْحِجَازِ خَاصَّةً . أَمَّا سَائِرُ أَرْضِ الْعَرَبِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ غَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَهِيَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ : 1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفَتْحِ , فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثٌ وَلَا إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْمَعَابِدِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ . 2 - مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْإِحْدَاثُ , وَفِي وُجُوبِ هَدْمِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . 3 - مَا أَحْدَثَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأَمْصَارِ , كَالْبَصْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ وَلَوْ صُولِحُوا عَلَيْهِ . 4 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا , فَلَا يُحْدِثُونَ فِيهَا مَعْبَدًا , إلَّا أَنْ يَكُونَ شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : مَا وَقَعَ مُطْلَقًا مِنْ شَرْطٍ فَعَلَى شُرُوطِ عُمَرَ . 5 - مَا فُتِحَ صُلْحًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ , وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا شَاءُوا لِأَنَّ الْأَرْضَ مِلْكُهُمْ .(1/144)
أَخْذُ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ (1):
22 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ كُلَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ - أَيْ زَكَوِيَّةٌ - لَا يُؤْخَذُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ الْخَرَاجَ مِنْ أَرَاضِي الْعَرَبِ . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ - أَيْ الْخَرَاجَ - بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ , فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ , كَمَا لَا تَثْبُتُ فِي رِقَابِهِمْ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ , كَمَا فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ , وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ . وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ صَاحِبِهَا مِمَّا كَانَ مَعْمُورًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ كَانَ مَوَاتًا وَأُحْيِيَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ : أَرْضُ الْعَرَبِ مُخَالِفَةٌ لِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ , مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ , لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . فَإِنْ عَفَا لَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ بِلَادِهِمْ فَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ . وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ , أَوْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ , أَخَذُوا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ جِزْيَةً , إنَّمَا هُوَ الْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ . وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ تَحْوِيلُ أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْ الْعُشْرِ إلَى الْخَرَاجِ . يَقُولُ : أَرْضُ الْحِجَازِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَأَرْضُ الْيَمَنِ , وَأَرْضُ الْعَرَبِ الَّتِي افْتَتَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا وَلَا
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة(1/145)
يُنْقَصُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ شَيْءٌ قَدْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ بَلَغَنَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم افْتَتَحَ حُصُونًا مِنْ الْأَرْضِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعُشْرَ , وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا خَرَاجًا } . وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي تِلْكَ الْأَرْضِينَ , أَلَا تَرَى أَنَّ مَكَّةَ وَالْحَرَمَ كَذَلِكَ ؟ أَوَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حُكْمُهُمْ الْقَتْلُ أَوْ الْإِسْلَامُ , وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ؟ وَهَذَا خِلَافُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمْ فَكَذَلِكَ أَرْضُ الْعَرَبِ . وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - يُرَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , الْخَرَاجَ عَلَى رِقَابِهِمْ - وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيًّا . فَأَمَّا الْأَرْضُ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهَا خَرَاجًا , وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعُشْرَ فِي السَّيْحِ , وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِي الدَّالِيَةِ . أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , فَإِنَّ أَرْضَ الْعَرَبِ عِنْدَهُمْ قِسْمَانِ : الْأَوَّلُ مَا سِوَى الْحِجَازِ , وَالثَّانِي الْحِجَازُ . فَمَا سِوَى الْحِجَازِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْبِلَادِ . وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَهُمْ , أَنَّ أَرْضَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ :
1 - مَا أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ .
2 - مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ , فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ .(1/146)
3 - مَا فُتِحَ عَنْوَةً , وَلَمْ يَقِفْهُ الْإِمَامُ , بَلْ قَسَمَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ , فَيَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ كَذَلِكَ .
4 - مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ , فَيُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجٌ , وَهُوَ قِسْمَانِ . الْأَوَّلُ : مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَنْهُ , فَيَكُونُ خَرَاجُهُ أُجْرَةً , لَا تَسْقُطُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهِ . فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ . وَالثَّانِي : مَا صُولِحَ أَهْلُهُ عَلَى بَقَاءِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ , فَيَكُونُ خَرَاجُهُ جِزْيَةً , تَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ , فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .(1/147)
23 - أَمَّا أَرْضُ الْحِجَازِ فَقَدْ لَخَصَّ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ كَلَامَهُمْ فِيهَا فَقَالَ : أَرْضُ الْحِجَازِ تَنْقَسِمُ لِاخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِفَتْحِهَا قِسْمَيْنِ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : صَدَقَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي أَخَذَهَا بِحَقَّيْهِ , فَإِنَّ أَحَدَ حَقَّيْهِ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنْ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ , وَالْحَقُّ الثَّانِي أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الَّذِي أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ , مِمَّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ , فَمَا صَارَ إلَيْهِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ فَقَدْ رَضَخَ مِنْهُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ , وَتَرَكَ بَاقِيَهُ لِنَفَقَتِهِ وَصَلَاتِهِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ , حَتَّى مَاتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَلَفَ فِي حُكْمِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ , فَجَعَلَهُ قَوْمٌ مَوْرُوثًا عَنْهُ , وَمَقْسُومًا عَلَى الْمَوَارِيثِ مِلْكًا , وَجَعَلَهُ آخَرُونَ لِلْإِمَامِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ , فِي حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَجِهَادِ الْعَدُوِّ . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَةُ الرِّقَابِ , مَخْصُوصَةُ الْمَنَافِعِ , مَصْرُوفَةُ الِارْتِفَاعِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ . ثُمَّ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَصَرَهَا فِي ثَمَانٍ . الْقِسْمُ الثَّانِي : سَائِرُ أَرْضِ الْحِجَازِ مَا عَدَا مَا ذُكِرَ , وَهِيَ أَرْضُ عُشْرٍ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا مَا بَيْنَ مَغْنُومٍ مُلِكَ عَلَى أَهْلِهِ , أَوْ مَتْرُوكٍ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ . وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عُشْرِيٌّ لَا خَرَاجَ عَلَيْهِ . وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ ,(1/148)
وَافَقَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كُلِّ مَا قَالَهُ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - وَقَدَّمَهَا - فِي أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ , أَنَّهَا لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ .
حِمَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (1)
24 - يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ سَائِرِ أَرْضِ الْحِجَازِ , مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ . فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ ; لِيَكُونَ فِيهِ عُشْرٌ أَوْ خَرَاجٌ . فَقَدْ حَمَى الْبَقِيعَ ( وَفِي رِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ : النَّقِيعَ , بِالنُّونِ ) لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ , صَعِدَ جَبَلًا وَقَالَ : هَذَا حِمَايَ : وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْقَاعِ , وَهُوَ قَدْرُ مِيلٍ إلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ . فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : حِمَاهُ صلى الله عليه وسلم ثَابِتٌ , وَإِحْيَاءُ مَا حَمَاهُ بَاطِلٌ . وَالْمُتَعَرِّضُ لِإِحْيَائِهِ مَرْدُودٌ مَزْجُورٌ , وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ , أَنَّهُ إنْ زَالَتْ حَاجَةٌ إلَى حِمَى مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفِي جَوَازِ إحْيَائِهِ قَوْلَانِ . وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى اسْتِمْرَارِ مَا حَمَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ انْقِضَائِهِ . وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ نَقْضِهِ إنْ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى إرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ .
اسْتِسْقَاءٌ (2)
__________
(1) - موجود بالمطبوع وليس في الشاملة
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1002)(1/149)
1 - الِاسْتِسْقَاءُ لُغَةً : طَلَبُ السُّقْيَا , أَيْ طَلَبُ إنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ . وَالِاسْمُ : السُّقْيَا بِالضَّمِّ , وَاسْتَسْقَيْت فُلَانًا : إذَا طَلَبْت مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَك . وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلِاسْتِسْقَاءِ هُوَ : طَلَبُ إنْزَالِ الْمَطَرِ مِنْ اللَّهِ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
صِفَتُهُ ( حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ )
2 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : الِاسْتِسْقَاءُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ , سَوَاءٌ أَكَانَ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ أَمْ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ , فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحَابَتُهُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ بِسُنِّيَّةِ الدُّعَاءِ فَقَطْ , وَبِجَوَازِ غَيْرِهِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ التَّالِيَةُ : الْأَوَّلُ : سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ , إذَا كَانَ لِلْمَحَلِّ وَالْجَدْبِ , أَوْ لِلْحَاجَةِ إلَى الشُّرْبِ لِشِفَاهِهِمْ , أَوْ لِدَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ , سَوَاءٌ أَكَانُوا فِي حَضَرٍ , أَمْ سَفَرٍ فِي صَحْرَاءَ , أَوْ سَفِينَةٍ فِي بَحْرٍ مَالِحٍ . الثَّانِي : مَنْدُوبٌ , وَهُوَ الِاسْتِسْقَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِي خِصْبٍ لِمَنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَجَدْبٍ ; لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى . وَلِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ { تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ , إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى } . وَصَحَّ : { دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ , عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ(1/150)
مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ : آمِينَ وَلَك بِمِثْلٍ . } وَلَكِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ وَالشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَلَّا يَكُونَ الْغَيْرُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالَةٍ وَبَغْيٍ . وَإِلَّا لَمْ يُسْتَحَبَّ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا ; وَلِأَنَّ الْعَامَّةَ تَظُنُّ بِالِاسْتِسْقَاءِ لَهُمْ حُسْنَ طَرِيقِهِمْ وَالرِّضَى بِهَا , وَفِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا فِيهَا . مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ احْتَاجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَسَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِسْقَاءَ لَهُمْ فَهَلْ يَنْبَغِي إجَابَتُهُمْ أَمْ لَا ؟ الْأَقْرَبُ : الِاسْتِسْقَاءُ لَهُمْ وَفَاءً بِذِمَّتِهِمْ . ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : وَلَا يُتَوَهَّمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّا فَعَلْنَاهُ لِحُسْنِ حَالِهِمْ ; لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ . وَلَكِنْ تُحْمَلُ إحَابَتُنَا لَهُمْ عَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ , مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ , بِخِلَافِ الْفَسَقَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ . الثَّالِثُ : مُبَاحٌ , وَهُوَ اسْتِسْقَاءُ مَنْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَحَلٍّ , وَلَا حَاجَةَ إلَى الشُّرْبِ , وَقَدْ أَتَاهُمْ الْغَيْثُ , وَلَكِنْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ لَكَانَ دُونَ السِّعَةِ , فَلَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ .
دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ(1/151)
3 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ , أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا } . كَمَا اسْتَدَلَّ لَهُ بِعَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ , فَقَدْ وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْقَائِهِ صلى الله عليه وسلم . رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه : { أَنَّ النَّاسَ قَدْ قَحَطُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ . فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي , وَخَشِينَا الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِنَا , فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا . فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا غَدَقًا مُغْدِقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ . قَالَ الرَّاوِي : مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ , فَارْتَفَعَتْ السَّحَابُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا حَتَّى صَارَتْ رُكَامًا , ثُمَّ مَطَرَتْ سَبْعًا مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ . ثُمَّ دَخَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ , وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ , وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ , فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ , وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ , فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهُ , فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَلَالَةِ بَنِي آدَمَ . قَالَ الرَّاوِي : وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ خَضْرَاءَ . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ , فَقَالَ : اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ,(1/152)
اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ , وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ , وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ . فَانْجَابَتْ السَّمَاءُ عَنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى صَارَتْ حَوْلَهَا كَالْإِكْلِيلِ } . وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا , وَقَالَ : إنَّ السُّنَّةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ هِيَ الدُّعَاءُ فَقَطْ , مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ وَلَا خُرُوجٍ . وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : { شَكَا النَّاسُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ , فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى , وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ , قَالَتْ عَائِشَةُ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ , فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ , فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ : إنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ , وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ , وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوَهُ , وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ . ثُمَّ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ , الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ , مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ , لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ , اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ , أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ , أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ , وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْت لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إلَى حِينٍ . ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إبِطَيْهِ , ثُمَّ حَوَّلَ إلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ , وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ , ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ , وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ , فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ(1/153)
وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى , فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتْ السُّيُولُ , فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إلَى الْكُنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِزُهُ فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ , وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } . وَقَدْ اسْتَسْقَى عُمَرُ رضي الله عنه بِالْعَبَّاسِ , وَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّك فَتَسْقِينَا , وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ بِعَمِّ نَبِيِّك فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَسْقَى بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ . فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي بِخَيْرِنَا وَأَفْضَلِنَا , اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَسْقِي بِيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ , يَا يَزِيدُ ارْفَعْ يَدَيْك إلَى اللَّهِ تَعَالَى " فَرَفَعَ يَدَيْهِ , وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ . فَثَارَتْ سَحَابَةٌ مِنْ الْغَرْبِ كَأَنَّهَا تُرْسٌ , وَهَبَّ لَهَا رِيحٌ , فَسُقُوا حَتَّى كَادَ النَّاسُ أَلَّا يَبْلُغُوا مَنَازِلَهُمْ .
حِكْمَةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ(1/154)
4 - إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا نَزَلَتْ بِهِ الْكَوَارِثُ , وَأَحْدَقَتْ بِهِ الْمَصَائِبُ فَبَعْضُهَا قَدْ يَسْتَطِيعُ إزَالَتَهَا , وَبَعْضُهَا لَا يَسْتَطِيعُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنْ الْوَسَائِلِ , وَمِنْ أَكْبَرِ الْمَصَائِبِ وَالْكَوَارِثِ الْجَدْبُ الْمُسَبَّبُ عَنْ انْقِطَاعِ الْغَيْثِ , الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُلِّ ذِي رَوْحٍ وَغِذَاؤُهُ , وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ إنْزَالَهُ أَوْ الِاسْتِعَاضَةَ عَنْهُ , وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَطِيعُهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَشَرَعَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِسْقَاءَ , طَلَبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْإِغَاثَةِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ , وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ , وَهُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ .
خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1019)(1/155)
27 - فِي الْمَسْأَلَةِ رَأْيَانِ : الْأَوَّلُ : وَهُوَ لِلْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ : لَا يُسْتَحَبُّ خُرُوجُ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , بَلْ يُكْرَهُ , وَلَكِنْ إذَا خَرَجُوا مَعَ النَّاسِ فِي يَوْمِهِمْ , وَانْفَرَدُوا فِي مَكَان وَحْدَهُمْ لَمْ يُمْنَعُوا . وَجُمْلَةُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْكُفَّارِ ; لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ وَبَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا , فَهُمْ بَعِيدُونَ مِنْ الْإِجَابَةِ . وَإِنْ أُغِيثَ الْمُسْلِمُونَ فَرُبَّمَا قَالُوا : هَذَا حَصَلَ بِدُعَائِنَا وَإِجَابَتِنَا , وَإِنْ خَرَجُوا لَمْ يُمْنَعُوا ; لِأَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ , وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجِيبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ فِي الدُّنْيَا , كَمَا ضَمِنَ أَرْزَاقَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَكِنْ يُؤْمَرُونَ بِالِانْفِرَادِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِعَذَابٍ فَيَعُمَّ مَنْ حَضَرَهُمْ . وَلَا يَخْرُجُونَ وَحْدَهُمْ , فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَتَّفِقَ نُزُولُ الْغَيْثِ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ وَحْدَهُمْ , فَيَكُونُ أَعْظَمَ فِتْنَةً لَهُمْ , وَرُبَّمَا اُفْتُتِنَ غَيْرُهُمْ . الرَّأْيُ الثَّانِي : وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ , وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ , قَالَ بِهِ أَشْهَبُ وَابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَحْضُرُ الذِّمِّيُّ وَالْكَافِرُ الِاسْتِسْقَاءَ , وَلَا يَخْرُجُ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِدُعَائِهِ . وَالِاسْتِسْقَاءُ لِاسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ , وَهِيَ لَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْخُرُوجِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ(1/156)
يُسْقَوْا فَتَفْتَتِنَ بِهِ الضُّعَفَاءُ وَالْعَوَامُّ .
ثَالِثًا : الْإِسْرَافُ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ (1):
12 - الْإِسْرَافُ بِمَعْنَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالَةٍ , حَتَّى فِي الْمُقَابَلَةِ مَعَ الْأَعْدَاءِ فِي الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ , فَالْمُسْلِمُ مَأْمُورٌ بِمُرَاعَاةِ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا , اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . وَلِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْعَدُوُّ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ , حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , وَيُكْرَهُ نَقْلُ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ , عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ , وَتُكْرَهُ الْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ . لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } . وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ بِلَا خِلَافٍ , وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ وَلَا شَيْخٌ فَانٍ , وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , إلَّا إذَا اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْرَكَةِ , أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ , أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ الْغَدْرُ وَالْغُلُولُ , وَلَا يَجُوزُ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ إنْ أَمْكَنَ التَّغَلُّبُ عَلَيْهِمْ بِدُونِهَا , وَلَا
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1271)(1/157)
يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِالْقَتْلِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ , فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ , وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ } وَيَجُوزُ مَعَهُمْ عَقْدُ الْأَمَانِ وَالصُّلْحِ بِمَالٍ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ , لقوله تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } . وَلَوْ حَاصَرْنَاهُمْ دَعَوْنَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَسْلَمُوا فِيهَا , وَإِلَّا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ إنْ لَمْ يَكُونُوا مُرْتَدِّينَ وَلَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ , فَإِنْ قَبِلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مِنَّا الْمُعَامَلَةُ بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ عَلَى حَسْبِ شُرُوطِ عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلْنَاهُمْ حَتَّى نَغْلِبَهُمْ عَنْوَةً . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ر : ( جِهَادٌ ) ( وَجِزْيَةٌ ) .
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1289)(1/158)
17 - يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إلَى الْإِمَامِ , أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ . وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الْأَسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ , وَقَبْلَ إجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ , فِي أَحَدِ أُمُورٍ : فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ , بَيْنَ قَتْلِهِمْ , أَوْ اسْتِرْقَاقِهِمْ , أَوْ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ , أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَقَطْ : الْقَتْلِ , وَالِاسْتِرْقَاقِ , وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ , وَلَا الْفِدَاءَ بِالْمَالِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ , أَوْ إذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَالِ . وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ , وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ , وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ , وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ , وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ , وَالْإِمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ .(1/159)
18 - وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَايَا مِنْ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ . فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ : وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إلَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْفِدَاءُ . وَتَفْصِيلُهُ فِي ( سَبْيٌ ) . كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إسْلَامَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ , لَا يَحِقُّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ , لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
19 - وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ : إنْ خَفِيَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَحُظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ , لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الِاجْتِهَادِ , وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , إذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ
الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1301)(1/160)
44 - إذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَوَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْأَسْرِ , أَخَذَ حُكْمَ الْبَاغِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا يُقْتَلُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ , وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ إذَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ , وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إذَا اسْتَعَانَ الْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ بِذِمِّيٍّ فَلَا يَغْرَمُ الذِّمِّيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ , وَلَا يُعَدُّ خُرُوجُهُ مَعَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ . أَمَّا إنْ كَانَ الْبَاغِي مُعَانِدًا - أَيْ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ - فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي مَعَهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ , وَيَكُونُ هُوَ وَمَالُهُ فَيْئًا . وَهَذَا إنْ كَانَ مُخْتَارًا , أَمَّا إنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ , وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا يُؤْخَذُ بِهَا , حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا . وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ . قَالُوا : لَوْ أَعَانَ الذِّمِّيُّونَ الْبُغَاةَ فِي الْقِتَالِ , وَهُمْ عَالِمُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارُونَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ , كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِالْقِتَالِ . أَمَّا إنْ قَالَ الذِّمِّيُّونَ : كُنَّا مُكْرَهِينَ , أَوْ ظَنَنَّا جَوَازَ الْقِتَالِ إعَانَةً , أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيمَا فَعَلُوهُ , وَأَنَّ لَنَا إعَانَةَ الْمُحِقِّ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ , فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ , لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مُسْلِمَةً مَعَ عُذْرِهِمْ , وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ . وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ , عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ . وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ , أَحَدُهُمَا : يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ , لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَانْتَقَضَ(1/161)
عَهْدُهُمْ كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقَتْلِهِمْ . وَيَصِيرُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ . وَالثَّانِي : لَا يُنْتَقَضُ , لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ . وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ , وَالْكَفِّ عَنْ أَسِرْهُمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ . وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ , أَوْ ادَّعَوْا ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُمْ , لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ . وَكَذَلِكَ إنْ قَالُوا : ظَنَنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَعَانَ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ , لِأَنَّ مَا ادَّعُوهُ مُحْتَمَلٌ , فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ مَعَ الشُّبْهَةِ . وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ نُقِضَ عَهْدُهُمْ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا , لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ , وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ , وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ , وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ . وَإِذَا أُسِرَ مَنْ يُرَادُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ , وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْأَسْرِ , مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ .
جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1294)(1/162)
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ فِي رِقَابِ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا , وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَى ذَلِكَ إذَا سَأَلُوهُ , كَمَا يَجِبُ إذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ وَقَالُوا : إنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ , لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ , وَكَيْلَا يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ اخْتِيَارٍ . وَهَذَا إنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَالَ : وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ , وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَقَالَ قَوْمٌ : تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ , وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ . وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ , وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ : كُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنْ الرِّجَالِ , يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ , كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ , وَمَنْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ , كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ .
مَا لَا يَجُوزُ إظْهَارُهُ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1655)(1/163)
12 - مِنْ ذَلِكَ إظْهَارُ الْمُنْكَرَاتِ كُلِّهَا , وَإِظْهَارُ الْعَوْرَةِ , وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ إظْهَارُ شَيْءٍ مِنْ صُلْبَانِهِمْ وَنَوَاقِيسِهِمْ وَخَمْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ . وَلَا يَجُوزُ إظْهَارُ مَا يَجِبُ إخْفَاؤُهُ مِمَّا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْمُعَاشَرَةِ . وَلَا يَجُوزُ إظْهَارُ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ .
لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1)
23 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا يُمَيِّزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ , فَلَا يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ , لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ عَنْهُمْ , كَيْ تَكُونَ مُعَامَلَتُهُمْ مُخْتَلِفَةً عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ , وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ . وَإِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارُهُمْ لَا إعْزَازُهُمْ , وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
حُكْمُ الْوَفَاءِ بِالِالْتِزَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2059)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2086)(1/164)
39 - الْأَصْلُ فِي الِالْتِزَامِ أَنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ امْتِثَالًا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وَالْمُرَادُ بِالْعُقُودِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلَاقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ , وَكَذَلِكَ الْعُهُودُ وَالذِّمَمُ الَّتِي نَعْقِدُهَا لِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْخَوَارِجِ , وَمَا عَقَدَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الطَّاعَاتِ كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ , فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا . وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } عَامٌّ فِي إيجَابِ الْوَفَاءِ بِجَمِيعِ مَا يَشْرِطُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ , مَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةٌ تُخَصِّصُهُ لَكِنْ هَذَا الْحُكْمُ لَيْسَ عَامًّا فِي كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ , وَذَلِكَ لِتَنَوُّعِ الِالْتِزَامَاتِ بِحَسَبِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي :
( 1 ) الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا :(1/165)
40 - أ - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ بِسَبَبِ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ , كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَعُقُودِ الذِّمَّةِ , فَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ مَتَى تَمَّتْ صَحِيحَةً لَازِمَةً وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا مَا لَمْ يَحْدُثْ مَا يَقْتَضِي الْفَسْخَ , كَالْهَلَاكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ , وَهَذَا شَامِلٌ لِلْأَعْيَانِ الْوَاجِبِ تَسْلِيمُهَا , وَلِلدُّيُونِ الَّتِي تَكُونُ فِي الذِّمَمِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ أَوْ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ إنْفَاذِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ . ب - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ الْإِتْلَافِ أَوْ التَّفْرِيطِ . ج - الْأَمَانَاتُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ الْمُلْتَزَمِ , سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِمُوجِبِ عَقْدٍ كَالْوَدِيعَةِ , أَمْ لَمْ تَكُنْ كَاللُّقَطَةِ وَكَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا إلَى دَارِهِ . د - نَذْرُ الْقُرُبَاتِ , وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ قُرُبَاتٍ بَدَنِيَّةٍ أَوْ مَالِيَّةٍ طَاعَةً وَتَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . هـ - الِالْتِزَامَاتُ التَّكْلِيفِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ , وَمِنْهَا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَةُ . فَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا , مُنْجَزَةً إنْ كَانَتْ كَذَلِكَ , وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَشْرُوعِ إنْ كَانَتْ مُعَلَّقَةً , وَعِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ إنْ كَانَتْ مُضَافَةً , وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَفَاءُ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ أَمْ يَجِبُ بِدُونِهِ . وَيَتَحَقَّقُ الْوَفَاءُ بِالْأَدَاءِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْ الْقِيَامِ بِالْعَمَلِ أَوْ الْإِبْرَاءِ أَوْ(1/166)
الْمُقَاصَّةِ وَهَكَذَا . وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ , وَكَذَلِكَ قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } وقوله تعالى : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } وقوله تعالى : { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } . وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْوَفَاءِ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ , إذْ الْعُقُوبَةُ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } فَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ , وَعِرْضُهُ أَنْ يَحِلَّ الْقَوْلُ فِي عِرْضِهِ بِالْإِغْلَاظِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } . وَلِذَلِكَ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ الْوَفَاءِ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الْحَجْرِ وَمَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ , أَوْ بَيْعِ مَالِ الْمُلْتَزَمِ وَالْوَفَاءِ مِنْهُ . إلَّا إذَا كَانَ الْمُلْتَزِمُ مُعْسِرًا فَيَجِبُ إنْظَارُهُ لقوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ }(1/167)
41 - وَمَا سَبَقَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجُمْلَةِ , إذْ لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ , وَمِنْ ذَلِكَ مَثَلًا : اخْتِلَافُهُمْ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ الْمَشْرُوعِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ , فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقْضَى بِالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ إذَا كَانَ لِمُعَيَّنٍ , وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ وَلَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ , وَقِيلَ يُقْضَى بِهِ , وَفِيهِ الْخِلَافُ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْحَجْرَ فِي الدَّيْنِ , لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ آدَمِيَّةِ الْمَدِينِ , بَلْ لَا يُجِيزُ لِلْحَاكِمِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ , وَإِنَّمَا يُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِهِ لِوَفَاءِ دَيْنِهِ . وَهَكَذَا , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
2 - الْتِزَامَاتٌ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَجِبُ :(1/168)
42 - أ - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ . ب - الِالْتِزَامُ النَّاشِئُ بِالْوَعْدِ , فَهَذِهِ الِالْتِزَامَاتُ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهَا , لِأَنَّهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ الَّذِي نَدَبَ إلَيْهِ الشَّارِعُ , يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَيَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةٍ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَيَقُولُ : { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } . لَكِنْ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا , فَفِي الْوَصِيَّةِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا . وَفِي الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِطَلَبِ الْمُسْتَعَارِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ فِي الْحَالِ بَعْدَ الْقَبْضِ , وَهَذَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ , بَلْ قَالَ الْجُمْهُورُ : إنَّ الْمُقْرِضَ إذَا أَجَّلَ الْقَرْضَ لَا يَلْزَمُهُ التَّأْجِيلُ , لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ فِيهِ الْأَجَلُ لَمْ يَبْقَ تَبَرُّعًا . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ وَالْقَرْضَ إذَا كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ فَذَلِكَ لَازِمٌ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ , وَإِنْ كَانَا مُطْلَقَيْنِ لَزِمَ الْبَقَاءُ فَتْرَةً يُنْتَفَعُ بِمِثْلِهِ فِيهَا , وَاسْتَنَدُوا إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ { ذَكَرَ رَجُلًا سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ : إذَا أَجَّلَهُ فِي الْقَرْضِ جَازَ . وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , فَإِذَا(1/169)
تَمَّ الْقَبْضُ فَلَا رُجُوعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَّا فِيمَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا رُجُوعَ عِنْدَهُمْ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ فِي الْجُمْلَةِ , إلَّا فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
43 - وَالْوَعْدُ كَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الْوَفَاءُ بِهِ بِاتِّفَاقٍ . يَقُولُ الْقَرَافِيُّ : مِنْ أَدَبِ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ إذَا وَعَدَ رَبَّهُ بِشَيْءٍ لَا يُخْلِفُهُ إيَّاهُ , لَا سِيَّمَا إذَا الْتَزَمَهُ وَصَمَّمَ عَلَيْهِ , فَأَدَبُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِحُسْنِ الْوَفَاءِ وَتَلَقِّي هَذِهِ الِالْتِزَامَاتِ بِالْقَبُولِ . لَكِنْ الْوَفَاءُ بِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي الْجُمْلَةِ , فَفِي الْبَدَائِعِ : الْوَعْدُ لَا شَيْءَ فِيهِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ , وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ : لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ نَصًّا , وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : لَوْ قَالَ : أُؤَدِّي الْمَالَ أَوْ أُحْضِرُ الشَّخْصَ , فَهُوَ وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ , لِأَنَّ الصِّيغَةَ غَيْرُ مُشْعِرَةٍ بِالِالْتِزَامِ . إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ تَسْتَدْعِي الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ . فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ : لَوْ ذَكَرَ الْبَيْعَ بِلَا شَرْطٍ , ثُمَّ ذَكَرَ الشَّرْطَ عَلَى وَجْهِ الْعِدَةِ , جَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ , إذْ الْمَوَاعِيدُ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً فَيُجْعَلُ لَازِمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ . وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْوَعْدَ يَلْزَمُ وَيُقْضَى(1/170)
بِهِ إذَا دَخَلَ الْمَوْعُودُ بِسَبَبِ الْوَعْدِ فِي شَيْءٍ , قَالَ سَحْنُونٍ : الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ الْوَعْدِ إذَا قَالَ : اهْدِمْ دَارَك وَأَنَا أُسْلِفُك مَا تَبْنِي بِهِ , أَوْ اُخْرُجْ إلَى الْحَجِّ أَوْ اشْتَرِ سِلْعَةً أَوْ تَزَوَّجْ وَأَنَا أُسْلِفُك , لِأَنَّك أَدْخَلْته بِوَعْدِك فِي ذَلِكَ , أَمَّا مُجَرَّدُ الْوَعْدِ فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ , بَلْ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ . وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : قَوْلُهُمْ الْوَعْدُ لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مُشْكِلٌ , لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ , وَلِأَنَّ خُلْفَهُ كَذِبٌ , وَهُوَ مِنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ .
( 3 ) الْتِزَامَاتٌ يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا وَلَا يَجِبُ :
44 - أ - الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَنْشَأُ نَتِيجَةَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ , كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْقِرَاضِ , فَهَذِهِ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَسْخُهَا وَعَدَمُ الِالْتِزَامِ بِمُقْتَضَاهَا , هَذَا مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يَشْتَرِطُهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حِينَ الْفَسْخِ مِنْ نَضُوضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ , وَكَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْوَكَالَةِ .
مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ مِنْ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 1368)(1/171)
7 - قَالَ الْقَرَافِيُّ : إنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إذَا أَسْلَمَ , فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ , وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ , وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ , وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إنْ كَانَ حَرْبِيًّا . وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا , لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ , فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا . وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ , فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنْ الْأَيْمَانِ , وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ , وَلَا الزَّكَوَاتِ , وَلَا شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى , لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ } وَضَابِطُ الْفَرْقِ : أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ : مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ , وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ , هَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , لِأَنَّ إلْزَامَهُ إيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ . وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ , كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِ , فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا , فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ , لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ . وَأَمَّا حُقُوقُ(1/172)
اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى , فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ , وَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ , لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ . وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ , وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ , بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى , فَنَاسَبَ أَلَّا يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ . ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ , تُنَاسِبُ رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ , وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ , فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ , فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا , وَإِنْ رَضِيَ بِهَا , كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ , أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ . وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إلَّا مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ , فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ .
الْإِلْحَادُ فِي الدِّينِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2109) ,الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2111) ,الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12650)(1/173)
9 - الْمُلْحِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ عَلَى الشِّرْكِ , فَحُكْمُهُ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ ( إشْرَاكٌ ) , أَوْ يَكُونَ ذِمِّيًّا فَيُلْحِدُ أَيْ يَطْعَنُ فِي الدِّينِ جِهَارًا , فَيَنْتَقِضُ بِذَلِكَ عَهْدُهُ , وَيُنْظَرُ حُكْمُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) أَوْ يَكُونُ مُسْلِمًا فَيُلْحِدُ , فَيُنْظَرُ حُكْمُهُ تَحْتَ عِنْوَانِ ( ارْتِدَادٌ - زَنْدَقَةٌ ) .
آثَارُ الِالْتِزَامِ (1)
آثَارُ الِالْتِزَامِ هِيَ : مَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ , وَهِيَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ لِلِالْتِزَامِ . وَتَخْتَلِفُ آثَارُ الِالْتِزَامِ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُلْزَمَةِ وَاخْتِلَافِ الْمُلْتَزَمِ بِهِ , وَمِنْ ذَلِكَ :
( 1 ) ثُبُوتُ الْمِلْكِ :
29 - يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ الِانْتِفَاعِ أَوْ الْعِوَضِ وَانْتِقَالُهُ لِلْمُلْتَزِمِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي ذَلِكَ مَتَى اسْتَوْفَتْ أَرْكَانَهَا وَشَرَائِطَهَا , مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَالْقِسْمَةِ , وَمَعَ مُلَاحَظَةِ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ .
( 2 ) حَقُّ الْحَبْسِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2080)(1/174)
30 - يُعْتَبَرُ الْحَبْسُ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ . فَالْبَائِعُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ , حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ الَّذِي الْتَزَمَ بِهِ الْمُشْتَرِي , إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا . وَالْمُؤَجِّرُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَنَافِعِ إلَى أَنْ يَسْتَلِمَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ . وَلِلصَّانِعِ حَقُّ حَبْسِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ إذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ , كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالنَّجَّارِ وَالْحَدَّادِ . وَالْمُرْتَهِنُ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَرْهُونِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ . يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ : حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ , وَالرَّهْنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ , أَعْنِي أَنَّهُ إذَا رَهَنَهُ فِي عَدَدٍ مَا , فَأَدَّى مِنْهُ بَعْضَهُ , فَإِنَّ الرَّهْنَ بِأَسْرِهِ يَبْقَى بَعْدُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ . وَقَالَ قَوْمٌ : بَلْ يَبْقَى مِنْ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنْ الْحَقِّ , وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ , أَصْلُهُ ( أَيْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ) حَبْسُ التَّرِكَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ . وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ , أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ . وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ الْمَدِينِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ , إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ وَمَاطَلَ فِي الْأَدَاءِ , وَطَلَبَ صَاحِبُ(1/175)
الدَّيْنِ حَبْسَهُ مِنْ الْقَاضِي , وَلِلْغَرِيمِ كَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنْ السَّفَرِ , لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِحَبْسِهِ .
( 3 ) التَّسْلِيمُ وَالرَّدُّ
31 - يُعْتَبَرُ التَّسْلِيمُ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ فِيمَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ بِتَسْلِيمِهِ . فَالْبَائِعُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي , وَالْمُؤَجِّرُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَمَا يَتْبَعُهَا لِلْمُسْتَأْجِرِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا , وَالْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَأْجِرِ مُلْتَزِمَانِ بِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ , وَأَجِيرُ الْوَحْدِ ( الْأَجِيرُ الْخَاصُّ ) مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ , وَالْكَفِيلُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ مَا الْتَزَمَ بِهِ , وَالزَّوْجُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الصَّدَاقِ , وَالزَّوْجَةُ مُلْتَزِمَةٌ بِتَسْلِيمِ الْبُضْعِ , وَالْوَاهِبُ مُلْتَزِمٌ بِتَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ عِنْدَ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الْهِبَةِ , وَرَبُّ الْمَالِ فِي السَّلَمِ وَالْمُضَارَبَةِ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ الْتَزَمَ بِتَسْلِيمِ شَيْءٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِالتَّسْلِيمِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ رَدُّ الْأَمَانَاتِ وَالْمَضْمُونَاتِ , سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا ابْتِدَاءً أَمْ بَعْدَ الطَّلَبِ , وَذَلِكَ كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْقَرْضِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَاللُّقَطَةِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا , وَمَا عِنْدَ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ إذَا فَسَخَ الْمَالِكُ وَهَكَذَا . مَعَ اعْتِبَارِ أَنَّ التَّسْلِيمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ , قَدْ يَكُونُ بِالْإِقْبَاضِ , وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْمُلْتَزَمِ بِهِ .
( 4 ) ثُبُوتُ حَقِّ التَّصَرُّفِ :(1/176)
يَثْبُتُ لِلْمُلْتَزَمِ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْمُلْتَزَمِ بِهِ بِامْتِلَاكِهِ , لَكِنْ يَخْتَلِفُ نَوْعُ التَّصَرُّفِ بِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْمِلْكِيَّةِ فِي الْمُلْتَزَمِ بِهِ , وَذَلِكَ كَمَا يَأْتِي :
32 - أ - إذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ تَمْلِيكًا لِلْعَيْنِ أَوْ لِلدَّيْنِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِكُلِّ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ مِنْ بَيْعٍ وَهِبَةٍ وَوَصِيَّةٍ وَعِتْقٍ وَأَكْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , لِأَنَّهُ أَصْبَحَ مِلْكَهُ , فَلَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ . وَهَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ , أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا لَا يَجُوزُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ قَبْلَ قَبْضِهَا . إلَّا الْعَقَارَ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ . وَدَلِيلُ مَنْعِ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { لَا تَبِعْ مَا لَمْ تَقْبِضْهُ } وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي الطَّعَامِ , فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } وَأَمَّا الدُّيُونُ : فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ(1/177)
فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ : أَمَّا الصَّرْفُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ بَدَلَيْ الصَّرْفِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ وَثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ . فَمِنْ حَيْثُ هُوَ ثَمَنٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ , وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مَبِيعٌ لَا يَجُوزُ , فَغَلَبَ جَانِبُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا . وَأَمَّا السَّلَمُ فَلِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ بِالنَّصِّ , وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ . وَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمُقْرِضِ فِي الْقَرْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمْ , وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الدُّيُونِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ , فَإِنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا مَنَعَ بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا , وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي أَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ الْقَبْضُ هُوَ الطَّعَامُ , عَلَى مَا جَاءَ عَلَيْهِ النَّصُّ فِي الْحَدِيثِ . وَالثَّانِي : إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسْلَمُ فِيهِ طَعَامًا فَأَخَذَ عِوَضَهُ الْمُسْلِمُ ( صَاحِبُ الثَّمَنِ ) مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِيهِ رَأْسَ مَالِهِ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَرَضًا وَالثَّمَنُ عَرَضًا مُخَالِفًا لَهُ , فَيَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ إذَا حَانَ الْأَجَلُ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْعَرْضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ , وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا يَدْخُلُهُ إمَّا سَلَفٌ وَزِيَادَةٌ , إنْ كَانَ الْعَرَضُ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ , وَإِمَّا ضَمَانٌ وَسَلَفٌ إنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ .(1/178)
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إنْ كَانَ الْمِلْكُ عَلَى الدُّيُونِ مُسْتَقِرًّا , كَغَرَامَةِ الْمُتْلَفِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ جَازَ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ , لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْهِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ فَإِنْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ لَمْ يَجُزْ , وَإِنْ كَانَ ثَمَنًا فِي بَيْعٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : كُلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ , كَالْأُجْرَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كَانَا مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ أَوْ الْمَعْدُودِ , وَمَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ , كَعِوَضِ الْخُلْعِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ . أَمَّا مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ , كَالْوَصِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ , فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ .(1/179)
33 - ب - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ تَمْلِيكًا لِلْمَنْفَعَةِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي الْحُدُودِ الْمَأْذُونِ فِيهَا , وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ وَالْإِعَارَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الْإِجَارَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ , وَفِي غَيْرِهَا اخْتِلَافُهُمْ , وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُمْلَكُ بِبَدَلٍ يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِبَدَلٍ كَالْإِجَارَةِ , وَاَلَّتِي تُمْلَكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِعِوَضٍ . فَالْمُسْتَعِيرُ يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ .
34 - ج - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ حَقَّ الِانْتِفَاعِ فَقَطْ , فَإِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ يَقْتَصِرُ عَلَى انْتِفَاعِ الْمُلْتَزَمِ لَهُ بِنَفْسِهِ فَقَطْ , كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَكَالْإِبَاحَةِ لِلطَّعَامِ فِي الضِّيَافَاتِ .
35 - د - وَإِذَا كَانَ الْمُلْتَزَمُ بِهِ إذْنًا فِي التَّصَرُّفِ , فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَأْذُونِ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ إذَا كَانَ الْإِذْنُ مُطْلَقًا , وَإِلَّا اقْتَصَرَ التَّصَرُّفُ عَلَى مَا أَذِنَ بِهِ , وَذَلِكَ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ . وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ .
( 5 ) مَنْعُ حَقِّ التَّصَرُّفِ :(1/180)
36 - قَدْ يَنْشَأُ مِنْ بَعْضِ الِالْتِزَامَاتِ مَنْعُ حَقِّ التَّصَرُّفِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ : الرَّهْنُ , فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ , لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَخَذَ الْعَيْنَ بِحَقِّهِ فِي الرَّهْنِ , وَهُوَ التَّوَثُّقُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ وَقَبَضَ الْمَرْهُونَ . فَالْمُرْتَهِنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرَّهْنِ كَغُرَمَاءِ الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ .
( 6 ) صِيَانَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ :(1/181)
37 - الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِحُكْمِ إسْلَامِهِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا , فِي شَهْرِكُمْ هَذَا , فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنَّ مِمَّا يَصُونُ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ الْتِزَامُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْعُقُودِ الَّتِي تَتِمُّ مَعَهُمْ , كَعَقْدِ الْأَمَانِ الْمُؤَقَّتِ أَوْ الدَّائِمِ . إذْ ثَمَرَةُ الْأَمَانِ حُرْمَةُ قَتْلِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ , مَا دَامُوا مُلْتَزِمِينَ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْأَمَانِ أَوْ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَمِنْ صِيَانَةِ الْأَمْوَالِ : الِالْتِزَامُ بِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ بِجَعْلِهَا فِي مَكَان أَمِينٍ . وَقَدْ يَجِبُ الِالْتِزَامُ بِذَلِكَ حِرْصًا عَلَى الْأَمْوَالِ , وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْفُقَهَاءُ : إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِأَخْذِ الْوَدِيعَةِ غَيْرُهُ وَخَافَ إنْ لَمْ يَقْبَلْ أَنْ تَهْلِكَ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ قَبُولُهَا , لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ , لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { حُرْمَةُ مَالِ الْمُؤْمِنِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ } . وَلَوْ خَافَ عَلَى دَمِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ , فَكَذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى مَالِهِ . وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ , إذْ يَجِبُ الْأَخْذُ إذَا خِيفَ الضَّيَاعُ , لِأَنَّ حِفْظَ مَالِ الْغَيْرِ وَاجِبٌ , قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : يَلْزَمُ أَنْ يُؤْخَذَ اللَّقِيطُ وَلَا يُتْرَكَ , لِأَنَّهُ إنْ تُرِكَ ضَاعَ وَهَلَكَ , لَا خِلَافَ بَيْنَ(1/182)
أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا , وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي لُقَطَةِ الْمَالِ , وَهَذَا الِاخْتِلَافُ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ مَأْمُونِينَ وَالْإِمَامُ عَدْلٌ . أَمَّا إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَوْمٍ غَيْرِ مَأْمُونِينَ فَأَخْذُهَا وَاجِبٌ قَوْلًا وَاحِدًا . وَمِنْ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ بِالْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِحِفْظِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْيَتِيمِ وَالسَّفِيهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ .
( 7 ) الضَّمَانُ :(1/183)
38 - الضَّمَانُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الِالْتِزَامِ , وَهُوَ يَكُونُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ بِالتَّعَدِّي فِي الِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فِي الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ أَوْ بِالتَّفْرِيطِ وَتَرْكِ الْحِفْظِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ . يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : تَتَغَيَّرُ صِفَةُ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا : تَرْكُ الْحِفْظِ , لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْتَأْجَرَ فَقَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ , وَتَرْكُ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ , كَالْمُودَعِ إذَا تَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ . وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَالْإِفْسَادِ إذَا كَانَ الْأَجِيرُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ , إذْ الِاسْتِعْمَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ . وَيَقُولُ السُّيُوطِيّ : أَسْبَابُ الضَّمَانِ أَرْبَعَةٌ : الْأَوَّلُ : الْعَقْدُ , وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ ضَمَانُ الْمَبِيعِ , وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ قَبْلَ الْقَبْضِ , وَالْمُسْلَمُ فِيهِ , وَالْمَأْجُورُ . وَالثَّانِي : الْيَدُ , مُؤْتَمَنَةً كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْمُقَارَضَةِ إذَا حَصَلَ التَّعَدِّي , أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالسَّوْمِ وَالْعَارِيَّةِ وَالشِّرَاءِ فَاسِدًا . وَالثَّالِثُ : الْإِتْلَافُ لِلنَّفْسِ أَوْ الْمَالِ . وَالرَّابِعُ : الْحَيْلُولَةُ . وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ : الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ إمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِأَخْذِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ أَوْ لِإِتْلَافِهِ , وَإِمَّا الْمُبَاشَرَةُ لِلسَّبَبِ الْمُتْلِفِ , وَإِمَّا إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ . وَفِي الْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ : أَسْبَابُ الضَّمَانِ(1/184)
ثَلَاثَةٌ : عَقْدٌ , وَيَدٌ , وَإِتْلَافٌ . وَفِي كُلِّ ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ وَتَفْرِيعَاتٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا .
تَحَقُّقُ الْأَمْنِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ (1)
18 - مِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا هُوَ عِصْمَةُ النَّفْسِ وَالْمَالِ , لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا , وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } وَبِهَذَا يَتَقَرَّرُ الْأَمْنُ لِلْمُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ . أَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ لَهُ الْأَمْنُ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ وَإِعْطَائِهِ الْأَمَانَ , لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ هُوَ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَالِاسْتِغْنَامِ , فَيَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَتْلُ رِجَالِهِمْ وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاسْتِغْنَامُ أَمْوَالِهِمْ . وَالْأَصْلُ فِي إعْطَاءِ الْأَمَانِ لِلْكُفَّارِ قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ , ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2242)(1/185)
19 - وَالْأَمَانُ قِسْمَانِ الْأَوَّلُ : أَمَانٌ يَعْقِدُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ , وَهُوَ نَوْعَانِ : مُؤَقَّتٌ , وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْهُدْنَةِ وَبِالْمُعَاهَدَةِ وَبِالْمُوَادَعَةِ - وَهُوَ عَقْدُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مَعْلُومَةً - مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي مِقْدَارِ مُدَّةِ الْمُوَادَعَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشْرَ سِنِينَ } . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : الْأَمَانُ الْمُؤَبَّدُ , وَهُوَ مَا يُسَمَّى عَقْدَ الذِّمَّةِ , وَهُوَ إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , هَلْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَيُقَرُّونَ عَلَى حَالِهِمْ أَمْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْأَمَانِ : هُوَ الْأَمَانُ الَّذِي يُصْدَرُ مِنْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنْ الْكُفَّارِ , وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ : { الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ , وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ , وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } . وَأَخْبَارٌ أُخْرَى , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( أَمَانٌ , وَذِمَّةٌ , وَمُعَاهَدَةٌ )(1/186)
.
أَهْلُ الْحَرْبِ (1)
1 - أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ الْحَرْبِيُّونَ : هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَلَا يَتَمَتَّعُونَ بِأَمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عَهْدِهِمْ . ( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - أَهْلُ الذِّمَّةِ : 2 - أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ الْكُفَّارُ الَّذِينَ أُقِرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِالْتِزَامِ الْجِزْيَةِ وَنُفُوذِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ .
ب - أَهْلُ الْبَغْيِ : 3 - أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ الْبُغَاةُ : هُمْ فِرْقَةٌ خَرَجَتْ عَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْعِ حَقٍّ , أَوْ لِخَلْعِهِ , وَهُمْ أَهْلُ مَنَعَةٍ . وَالْبَغْيُ : هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ طَاعَةِ مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ بِمُغَالَبَةٍ , وَلَوْ تَأَوُّلًا .
ج - أَهْلُ الْعَهْدِ : 4 - هُمْ الَّذِينَ صَالَحَهُمْ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إنْهَاءِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِمَصْلَحَةٍ يَرَاهَا , وَالْمُعَاهَدُ : مِنْ الْعَهْدِ : وَهُوَ الصُّلْحُ الْمُؤَقَّتُ , وَيُسَمَّى الْهُدْنَةَ وَالْمُهَادَنَةَ وَالْمُعَاهَدَةَ وَالْمُسَالَمَةَ وَالْمُوَادَعَةَ .
د - الْمُسْتَأْمَنُونَ :
5 - الْمُسْتَأْمَنُ فِي الْأَصْلِ : الطَّالِبُ لِلْأَمَانِ , وَهُوَ الْكَافِرُ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ , أَوْ الْمُسْلِمُ إذَا دَخَلَ دَارَ الْكُفَّارِ بِأَمَانٍ . انْقِلَابُ الذِّمِّيِّ أَوْ الْمُعَاهَدِ أَوْ الْمُسْتَأْمَنِ حَرْبِيًّا :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2465)(1/187)
6 - يُصْبِحُ الذِّمِّيُّ وَالْمُعَاهَدُ وَالْمُسْتَأْمَنُ فِي حُكْمِ الْحَرْبِيِّ بِاللَّحَاقِ بِاخْتِيَارِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُقِيمًا فِيهَا , أَوْ إذَا نَقَضَ عَهْدَ ذِمَّتِهِ فَيَحِلُّ دَمُهُ وَمَالُهُ , وَيُحَارِبُهُ الْإِمَامُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مَأْمَنَهُ وُجُوبًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَجَوَازًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَلَا خِلَافَ فِي مُحَارَبَتِهِ إذَا حَارَبَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَعَانَ أَهْلَ الْحَرْبِ , وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُبْدِئَهُ بِالْحَرْبِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } , وَحِينَمَا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ , سَارَ إلَيْهِمْ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ , حَتَّى فَتَحَ مَكَّةَ . وَعِنْدَمَا نَقَضَ بَنُو قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ سَنَةَ خَمْسٍ , قَتَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رِجَالَهُمْ , وَسَبَى ذَرَارِيِّهِمْ , وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ , وَكَذَلِكَ بَنُو النَّضِيرِ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ , حَاصَرَهُمْ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ أَرْبَعٍ , وَأَجَلَاهُمْ . وَهُنَاكَ اتِّجَاهَانِ فِي أَسْبَابِ نَقْضِ الذِّمَّةِ : الْأَوَّلُ , مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّينَ , إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ يُحَارِبُونَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ , ثُمَّ يَلْحَقُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَغْلِبُونَ عَلَى مَوْضِعٍ , فَيُحَارِبُونَنَا . الثَّانِي , مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : تُنْتَقَضُ الذِّمَّةُ بِمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَهْدِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .(1/188)
انْقِلَابُ الْحَرْبِيِّ ذِمِّيًّا (1)
7 - يُصْبِحُ الْحَرْبِيُّ ذِمِّيًّا إمَّا بِالتَّرَاضِي , أَوْ بِالْإِقَامَةِ لِمُدَّةِ سَنَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ بِالزَّوَاجِ , أَوْ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
انْقِلَابُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى حَرْبِيٍّ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2466)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2466)(1/189)
8 - الْمُسْتَأْمَنُ : هُوَ الْحَرْبِيُّ الْمُقِيمُ إقَامَةً مُؤَقَّتَةً فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ , فَيَعُودُ حَرْبِيًّا لِأَصْلِهِ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ إقَامَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ لَهُ فِي بِلَادِنَا , لَكِنْ يَبْلُغُ مَأْمَنَهُ لقوله تعالى : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ } , أَوْ بِنَبْذِ الْعَهْدِ , أَيْ نَقْضِهِ مِنْ جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ ; لِوُجُودِ دَلَالَةٍ عَلَى الْخِيَانَةِ , لقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } , وَهِيَ فِي أَهْلِ الْهُدْنَةِ أَوْ الْأَمَانِ , لَا فِي أَهْلِ جِزْيَةٍ , فَلَا يُنْبَذُ عَقْدُ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ , وَعَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ آكَدُ مِنْ عَقْدِ الْهُدْنَةِ . وَقَدْ يُصْبِحُ الْمُسْتَأْمَنُ حَرْبِيًّا بِنَقْضِ الْأَمَانِ مِنْ جَانِبِهِ هُوَ , أَوْ بِعَوْدَتِهِ لِدَارِ الْحَرْبِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ , لَا التِّجَارَةِ أَوْ التَّنَزُّهِ أَوْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا , ثُمَّ يَعُودُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِمْ وَلَوْ لِغَيْرِ دَارِهِ , انْتَهَى أَمَانُهُ . هَذَا , وَكُلُّ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمِّيِّ , يُنْتَقَضُ بِهِ أَمَانُ الْمُسْتَأْمَنِ , عَلَى حَسَبِ الِاتِّجَاهَيْنِ السَّابِقَيْنِ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَمَانٌ مُؤَبَّدٌ , وَآكَدُ مِنْ الْأَمَانِ الْمُؤَقَّتِ , وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَالذِّمِّيِّ يَلْتَزِمُ بِتَطْبِيقِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ . وَمَنْ نَقَضَ أَمَانَهُ بِنَقْضِ الْعَهْدِ يُنْبَذُ إلَيْهِ وَيَبْلُغُ الْمَأْمَنَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ,(1/190)
وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي شَأْنِهِ كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ , مِنْ قَتْلٍ وَمَنٍّ وَفِدَاءٍ وَغَيْرِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ .
دِمَاءُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمْوَالُهُمْ (1)
11 - الْحَرْبُ - كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ - حَالَةُ عَدَاءٍ وَكِفَاحٍ مُسَلَّحٍ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ , تَقْتَضِي إبَاحَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ , وَهَذَا يَقْتَضِي بَحْثَ حَالَةِ الْعَدُوِّ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ , وَفِي حَالَةِ الْعَهْدِ : أ - فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ : الْحَرْبِيُّ غَيْرُ الْمُعَاهَدِ مُهْدَرُ الدَّمِ وَالْمَالِ , فَيَجُوزُ قَتْلُ الْمُقَاتَلِينَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يُقَاتِلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُ , وَتُصْبِحُ الْأَمْوَالُ مِنْ عَقَارَاتٍ وَمَنْقُولَاتٍ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ , وَتَصِيرُ بِلَادُ الْعَدُوِّ بِالْغَلَبَةِ أَوْ الْفَتْحِ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَيَكُونُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مُخَيَّرًا فِي الْأَسْرَى بَيْنَ أُمُورٍ : هِيَ الْقَتْلُ , وَالِاسْتِرْقَاقُ , وَالْمَنُّ ( إطْلَاقُ سَرَاحِ الْأَسِيرِ بِلَا مُقَابِلٍ ) , وَالْفِدَاءُ ( تَبَادُلُ الْأَسْرَى أَوْ أَخْذُ الْمَالِ فِدْيَةً عَنْهُمْ ) , وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَى الرِّجَالِ الْقَادِرِينَ . فَإِنْ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ وَعَقَدَ الْإِمَامُ لَهُمْ الذِّمَّةَ , أَصْبَحُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ , وَيَكُونُ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْإِنْصَافِ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الِانْتِصَافِ , قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا , وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا . ( ر : أَهْلُ الذِّمَّةِ ) . وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ إلَّا بِمَشْرُوعِيَّةِ الْجِهَادِ , كَمَا ذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2468)(1/191)
الْهِنْدِيَّةِ , فَفِيهَا : يُشْتَرَطُ لِإِبَاحَةِ الْجِهَادِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : امْتِنَاعُ الْعَدُوِّ عَنْ قَبُولِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الدِّينِ الْحَقِّ , وَعَدَمِ الْأَمَانِ وَالْعَهْدِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنْ يَرْجُوَ الْإِمَامُ الشَّوْكَةَ وَالْقُوَّةَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ , بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُعْتَدُّ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ . وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو الْقُوَّةَ وَالشَّوْكَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ , فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الْقِتَالُ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ . ب - فِي حَالَةِ الْعَهْدِ : الْعَهْدُ مِنْ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ أَوْ أَمَانٍ يَعْصِمُ الدَّمَ وَالْمَالَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ , فَإِنْ وُجِدَ عَهْدٌ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَهُ , وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ مُهْدَرُ الدَّمِ وَالْمَالِ . وَتُبْحَثُ هُنَا أُمُورٌ :
أَوَّلًا : قَتْلُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ حَرْبِيًّا (1)
12 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ , وَلَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا , كَمَا لَا دِيَةَ عَلَيْهِمَا بِقَتْلِ الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ ; بِسَبَبِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي إبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ , وَلِكَوْنِهِ مُبَاحَ الدَّمِ فِي الْأَصْلِ . وَشَرْطُ الْقِصَاصِ وَوُجُوبِ الدِّيَةِ : كَوْنُ الْمَقْتُولِ مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ , أَيْ يَحْرُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَيَاتِهِ , بَلْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِهَا فِي حَالَةِ قَتْلِ مُبَاحِ الدَّمِ - كَالْحَرْبِيِّ - قَتْلًا عَمْدًا .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2469)(1/192)
ثَانِيًا : حُصُولُ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْحَرْبِيِّ بِمُعَامَلَةٍ يُحَرِّمُهَا الْإِسْلَامُ (1):
13 - إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَعَاقَدَ حَرْبِيًّا عَقْدًا مِثْلَ الرِّبَا , أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ , أَوْ أَخَذَ مَالَهُ بِالْمَيْسِرِ وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ الْإِسْلَامُ , لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَمِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ , أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ فَظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزِمٌ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ , وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ ; فَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْمُحَرَّمَاتِ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } , وَآيَاتُ تَحْرِيمِ الرِّبَا , مِثْلُ قوله تعالى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا } , وَسَائِرُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا , وَهِيَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ , مُسْتَدِلِّينَ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَالِ الْحَرْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خِيَانَةٍ وَلَا غَدْرٍ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ مَالِهِ , فَإِتْلَافُهُ مُبَاحٌ , وَفِي عَقْدِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ رَاضِيَانِ , فَلَا غَدْرَ فِيهِ , وَالرِّبَا وَنَحْوُهُ كَإِتْلَافِ الْمَالِ , وَهُوَ جَائِزٌ . قَالَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2469)(1/193)
بِأَمَانٍ , فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الْمُبَاحَ عَلَى وَجْهٍ عَرَا عَنْ الْغَدْرِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ طَيِّبًا مِنْهُ . وَأَمَّا خِيَانَةُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَهُمْ فَمُحَرَّمَةٌ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْا الْأَمَانَ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ , فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى , وَلِذَلِكَ مَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ بِأَمَانٍ فَخَانَنَا , كَانَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَمْ تَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ خِيَانَةُ الْحَرْبِيِّينَ إذَا دَخَلَ دَارَهُمْ بِأَمَانٍ ; لِأَنَّهُ غَدْرٌ , وَلَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } فَإِنْ خَانَهُمْ , أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ , أَوْ اقْتَرَضَ شَيْئًا , وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى أَرْبَابِهِ , فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ , أَوْ إيمَانٍ , رَدَّهُ عَلَيْهِمْ , وَإِلَّا بَعَثَ بِهِ إلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ , فَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ , كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَمِمَّا يُوَافِقُ التَّنْزِيلَ وَالسُّنَّةَ وَيَعْقِلُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَيَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ , أَنَّ الْحَلَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَلَالٌ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ , وَالْحَرَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حَرَامٌ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ , فَمَنْ أَصَابَ حَرَامًا , فَقَدْ حَدَّهُ اللَّهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْهُ , وَلَا تَضَعُ عَنْهُ بِلَادُ الْكُفْرِ(1/194)
شَيْئًا .
أَهْلُ الذِّمَّةِ (1)
1 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ : الْأَمَانُ وَالْعَهْدُ , فَأَهْلُ الذِّمَّةِ أَهْلُ الْعَهْدِ , وَالذِّمِّيُّ : هُوَ الْمُعَاهَدُ . وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الذِّمِّيُّونَ , وَالذِّمِّيُّ نِسْبَةٌ إلَى الذِّمَّةِ , أَيْ الْعَهْدِ مِنْ الْإِمَامِ - أَوْ مِمَّنْ يَنُوبُ عَنْهُ - بِالْأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَظِيرَ الْتِزَامِهِ الْجِزْيَةَ وَنُفُوذَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ . وَتَحْصُلُ الذِّمَّةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ بِالْعَقْدِ أَوْ الْقَرَائِنِ أَوْ التَّبَعِيَّةِ , فَيَقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي مُقَابِلِ الْجِزْيَةِ , كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - أَهْلُ الْكِتَابِ : 2 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : أَهْلُ الْكِتَابِ هُمْ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ , فَيَدْخُلُ فِي الْيَهُودِ السَّامِرَةُ ; لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَيَعْمَلُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام , وَيَدْخُلُ فِي النَّصَارَى كُلُّ مَنْ دَانَ بِالْإِنْجِيلِ وَانْتَسَبَ إلَى عِيسَى عليه السلام بِالِادِّعَاءِ وَالْعَمَلِ بِشَرِيعَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : أَهْلُ الْكِتَابِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . وَأَهْلُ الذِّمَّةِ قَدْ يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْمَجُوسِ , فَالنِّسْبَةُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ , وَأَخَصُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , فَيَجْتَمِعَانِ فِي الْكِتَابِيِّ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2487)(1/195)
ب - أَهْلُ الْأَمَانِ ( الْمُسْتَأْمَنُونَ ) : 3 - الْمُرَادُ بِالْمُسْتَأْمَنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ : مَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ أَوْ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ , عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِهِ , وَعَلَى ذَلِكَ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنَّ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ , وَلِلْمُسْتَأْمَنِينَ مُؤَقَّتٌ .
ج - ( أَهْلُ الْحَرْبِ ) : 4 - الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْحَرْبِ : الْكُفَّارُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ قَبُولِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ , وَلَمْ يُعْقَدْ لَهُمْ عَقْدُ ذِمَّةٍ وَلَا أَمَانٍ , وَيَقْطُنُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي لَا تُطَبَّقُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ . فَهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُعْلَنُ عَلَيْهِمْ الْجِهَادُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ كُلَّ عَامٍ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِهِ . مَا يَكُونُ بِهِ غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا :
5 - يَصِيرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا بِالْعَقْدِ , أَوْ بِقَرَائِنَ مُعَيَّنَةٍ تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالذِّمَّةِ , أَوْ بِالتَّبَعِيَّةِ لِغَيْرِهِ , أَوْ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ . وَفِيمَا يَأْتِي تَفْصِيلُ هَذِهِ الْحَالَاتِ :
أَوَّلًا - عَقْدُ الذِّمَّةِ :(1/196)
6 - عَقْدُ الذِّمَّةِ : إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ , وَالْغَرَضُ مِنْهُ : أَنْ يَتْرُكَ الذِّمِّيُّ الْقِتَالَ , مَعَ احْتِمَالِ دُخُولِهِ الْإِسْلَامَ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ . فَكَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِلدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ , لَا لِلرَّغْبَةِ أَوْ الطَّمَعِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ . وَيَنْعَقِدُ هَذَا الْعَقْدُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِاللَّفْظِ , أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ , وَلَا تُشْتَرَطُ كِتَابَتُهُ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ , وَمَعَ هَذَا فَكِتَابَةُ الْعَقْدِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ لِأَجْلِ الْإِثْبَاتِ , وَدَفْعًا لِمَضَرَّةِ الْإِنْكَارِ وَالْجُحُودِ .
مَنْ يَتَوَلَّى إبْرَامَ الْعَقْدِ :
7 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ يَتَوَلَّى إبْرَامَهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ , فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ; وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ , فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتَاتَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ . وَأَجَازَ ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ ; وَلِأَنَّهُ مُقَابِلُ الْجِزْيَةِ , فَتَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ ; وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ طَلَبِهِمْ لَهُ , وَفِي انْعِقَادِهِ إسْقَاطُ الْفَرْضِ عَنْ الْإِمَامِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ , فَيَجُوزُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ .(1/197)
مَنْ يَصِحُّ لَهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ :
8 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس , كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ لِلْمُرْتَدِّ . أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا : فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ : لَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ , وَخُصَّ مِنْهُمْ الْمَجُوسُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ . . . } فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى بَقِيَّةِ الْعُمُومِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ : يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ , إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ الْمُخَالَطَةِ بِالْمُسْلِمِينَ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ , وَحَمَلُوا الرِّسَالَةَ , فَلَيْسَ لَهُمْ أَدْنَى شُبْهَةٍ فِي رَفْضِهِمْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ , فَتَعَيَّنَ السَّيْفُ دَاعِيًا لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , وَلِهَذَا لَمْ يَقْبَلْ رَسُولُ اللَّهِ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ . وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ الْكُفَّارِ , لَا فَرْقَ بَيْنَ كِتَابِيٍّ وَغَيْرِهِ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَثَنِيٍّ عَرَبِيٍّ , وَوَثَنِيٍّ غَيْرِ(1/198)
عَرَبِيٍّ .
شُرُوطُ عَقْدِ الذِّمَّةِ :
9 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ كَالْخَلَفِ عَنْ عَقْدِ الْإِسْلَامِ , وَعَقْدُ الْإِسْلَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا مُؤَبَّدًا , فَكَذَا عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَصِحُّ مُؤَقَّتًا . وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا الْعَقْدِ قَبُولُ وَالْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ , مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَةِ الْمُتْلِفَاتِ , وَكَذَا مَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَهُ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ , كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ مِنْهُمْ قَبُولُ بَذْلِ الْجِزْيَةِ كُلَّ عَامٍ .
10 - وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ شُرُوطًا أُخْرَى لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ . قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ سِتَّةُ أَشْيَاءَ :
( 1 ) أَلَّا يَذْكُرُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى بِطَعْنٍ وَلَا تَحْرِيفٍ لَهُ .
( 2 ) وَأَلَّا يَذْكُرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَكْذِيبٍ لَهُ وَلَا ازْدِرَاءٍ .
( 3 ) وَأَلَّا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ بِذَمٍّ لَهُ وَلَا قَدْحٍ فِيهِ .
( 4 ) وَأَلَّا يُصِيبُوا مُسْلِمَةً بِزِنًى وَلَا بِاسْمِ نِكَاحٍ .
( 5 ) وَأَلَّا يَفْتِنُوا مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُوا لِمَالِهِ .
( 6 ) وَأَلَّا يُعِينُوا أَهْلَ الْحَرْبِ وَلَا يُؤْوُوا لِلْحَرْبِيَّيْنِ عَيْنًا ( جَاسُوسًا ) .(1/199)
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : فَهَذِهِ حُقُوقٌ مُلْتَزَمَةٌ , فَتَلْزَمُهُمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ , وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ إشْعَارًا لَهُمْ وَتَأْكِيدًا لِتَغْلِيظِ الْعَهْدِ عَلَيْهِمْ , وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا بَعْدَ الشَّرْطِ نَقْضًا لِعَهْدِهِمْ . وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ . وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا الْآخَرُونَ لِدُخُولِهَا فِي شَرْطِ الْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ .(1/200)
11 - هَذَا , وَزَادَ بَعْضُهُمْ شُرُوطًا أُخْرَى كَاسْتِضَافَةِ الْمُسْلِمِينَ , وَعَدَمِ إظْهَارِ مُنْكَرٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا , وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَوْ اسْتِحْبَابِ اشْتِرَاطِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّرُوطِ , وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ رضي الله عنه , وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ , مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ : حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ , قَالُوا : كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : أَنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا , عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَلَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا وَلَا قَلَايَةً وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدُ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا , وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا نَمْنَعُ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ , وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ , وَلَا نُؤْوِي فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا , وَأَلَّا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نُخْرِجَ(1/201)
بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ وَلَا نَرْفَعُ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا , وَلَا نُظْهِرُ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ وَلَا بِبَيْعِ الْخُمُورِ , وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا , وَلَا نُرَغِّبَ فِي دِينِنَا وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ , وَأَلَّا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا , وَأَلَّا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ وَلَا فَرْقَ شَعْرٍ وَلَا فِي مَرَاكِبِهِمْ , وَلَا نَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِمْ , وَأَلَّا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ , وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا , وَلَا نُفَرِّقَ نَوَاصِيَنَا , وَنَشُدَّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا , وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ , وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ , وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ , وَلَا نَحْمِلَهُ , وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ , وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ , وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ , وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسِ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ , وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ , وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ , وَلَا يُشَارِكَ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ , وَأَنْ نُضَيِّفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرَ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ , وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ , ضَمَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا وَذَرَارِيِّنَا وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا , وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا(1/202)
شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا , وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ . فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ : أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ . وَلَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاجِبٌ , وَيُنْقَضُ بِمُخَالَفَتِهِ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَمَا سَيَأْتِي .
ثَانِيًا : حُصُولُ الذِّمَّةِ بِالْقَرَائِنِ (1)
وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
أ - الْإِقَامَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2492)(1/203)
12 - الْأَصْلُ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ عَلَى الذِّمَّةِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ الْيَسِيرَةِ بِالْأَمَانِ الْمُؤَقَّتِ , وَيُسَمَّى صَاحِبُ الْأَمَانِ ( الْمُسْتَأْمَنُ ) , وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِلْمُسْتَأْمَنِ لَا تَبْلُغُ سَنَةً , فَإِذَا أَقَامَ فِيهَا سَنَةً كَامِلَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا . فَطُولُ إقَامَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ قَرِينَةٌ عَلَى رِضَاهُمْ بِالْإِقَامَةِ الدَّائِمَةِ وَقَبُولِهِمْ شُرُوطَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا : الْأَصْلُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ , فَيَضْرِبَ لَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً , عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ رَأْيُهُ , وَيَقُولَ لَهُ : إنْ جَاوَزْت الْمُدَّةَ جَعَلْتُك مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَإِذَا جَاوَزَهَا صَارَ ذِمِّيًّا , فَإِذَا أَقَامَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ مَا قَالَ لَهُ الْإِمَامُ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ . وَإِذَا لَمْ يَضْرِبْ لَهُ مُدَّةً قَالَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ : يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِإِقَامَتِهِ سَنَةً , وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ أَقَامَ الْمُسْتَأْمَنُ , فَأَطَالَ الْمُقَامَ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ , فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَعَلَى هَذَا فَاعْتِبَارُ السَّنَةِ مِنْ تَارِيخِ إنْذَارِ الْإِمَامِ لَهُ بِالْخُرُوجِ , فَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ(1/204)
يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ الْإِمَامُ بِالْخُرُوجِ , فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , وَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْأَمَانِ لِلْمُسْتَأْمَنِ وَصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا .
ب - زَوَاجُ الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ :
13 - صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ الْمُسْتَأْمَنَةَ إذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمَسْكَنِ تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ , أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْخُرُوجَ إلَّا بِإِذْنِهِ , فَجَعْلُهَا نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ فِي دَارِنَا رِضًى بِالتَّوَطُّنِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ , وَرِضَاهَا بِذَلِكَ دَلَالَةٌ كَالرِّضَى بِطَرِيقِ الْإِفْصَاحِ , فَلِهَذَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً . بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً ; لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَكُونُ تَابِعًا لِامْرَأَتِهِ فِي الْمُقَامِ , فَزَوَاجُهُ مِنْ الذِّمِّيَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَقَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ , فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ خَالَفُوا الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا الْحُكْمِ , قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي : إذَا دَخَلَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا بِأَمَانٍ , فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا فِي دَارِنَا , ثُمَّ أَرَادَتْ الرُّجُوعَ لَمْ تُمْنَعْ إذَا رَضِيَ زَوْجُهَا أَوْ فَارَقَهَا , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُمْنَعُ . وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ .
ج - شِرَاءُ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ :(1/205)
14 - قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَزَرَعَهَا , يُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ تَخْتَصُّ بِالْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا قَبِلَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَلَوْ بَاعَهَا قَبْلَ أَنْ يَجْبِيَ خَرَاجَهَا لَا فَيَصِيرُ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّ دَلِيلَ قَبُولِ الذِّمَّةِ وُجُوبُ الْخَرَاجِ لَا نَفْسُ الشِّرَاءِ , فَمَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِشَرْطِ تَنْبِيهِهِ عَلَى أَنَّهُ فِي حَالَةِ عَدَمِ بَيْعِهِ الْأَرْضَ وَرُجُوعِهِ إلَى بِلَادِهِ سَيَكُونُ ذِمِّيًّا , إذْ لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ ذِمِّيًّا بِلَا رِضًى مِنْهُ أَوْ قَرِينَةٍ مُعْتَبَرَةٍ تَكْشِفُ عَنْ رِضَاهُ . هَذَا , وَلَمْ نَجِدْ لِسَائِرِ الْفُقَهَاءِ رَأْيًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
ثَالِثًا - صَيْرُورَتُهُ ذِمِّيًّا بِالتَّبَعِيَّةِ (1):
15 - هُنَاكَ حَالَاتٌ يَصِيرُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيًّا تَبَعًا لِغَيْرِهِ ; لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا تَسْتَوْجِبُ هَذِهِ التَّبَعِيَّةَ فِي الذِّمَّةِ مِنْهَا :
أ - الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالزَّوْجَةُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2494)(1/206)
16 - صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : ( الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ) أَنَّ الْأَوْلَادَ الصِّغَارَ يَدْخُلُونَ فِي الذِّمَّةِ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ أَوْ أُمَّهَاتِهِمْ إذَا دَخَلُوا فِي الذِّمَّةِ , لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ فِيهِ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ , وَالصَّغِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا يَتْبَعُ خَيْرَ الْوَالِدَيْنِ , كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ , وَهَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , حَيْثُ قَالُوا . لَا تُعْقَدُ الذِّمَّةُ إلَّا لِكَافِرٍ حُرٍّ بَالِغٍ ذَكَرٍ , فَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ فَهُمْ أَتْبَاعٌ . وَاذَا بَلَغَ صِبْيَانُ أَهْلِ الذِّمَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ دُونَ حَاجَةٍ إلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ , وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ لِهَؤُلَاءِ وَلِأَنَّهُمْ تَبِعُوا الْأَبَ فِي الْأَمَانِ , فَتَبِعُوهُ فِي الذِّمَّةِ . وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ لَهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ كَانَ لِلْأَبِ دُونَهُ , فَعَلَى هَذَا جِزْيَتُهُ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّرَاضِي . وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ أَنَّ التَّبَعِيَّةَ فِي الذِّمَّةِ يَجْرِي عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَوْ أَنَّ زَوْجَيْنِ مُسْتَأْمَنَيْنِ دَخَلَا دَارَ الْإِسْلَامِ بِالْأَمَانِ , أَوْ تَزَوَّجَ مُسْتَأْمَنٌ مُسْتَأْمَنَةً فِي دَارِنَا ثُمَّ صَارَ الرَّجُلُ ذِمِّيًّا , أَوْ دَخَلَتْ حَرْبِيَّةٌ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ(1/207)
فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا , صَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِلزَّوْجِ ; لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الْمُقَامِ تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا .
ب - اللَّقِيطُ :
17 - إذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي مَكَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , كَقَرْيَتِهِمْ أَوْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ يُعْتَبَرُ ذِمِّيًّا تَبَعًا لَهُمْ , وَلَوْ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - وَفِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ - أَوْ بِدَارٍ فَتْحهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ صُلْحًا , أَوْ أَقَرُّوهَا بِيَدِهِمْ بَعْدَ مِلْكِهَا بِجِزْيَةٍ وَفِيهَا مُسْلِمٌ - وَلَوْ وَاحِدًا - حُكِمَ بِإِسْلَامِ اللَّقِيطِ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا فَتَحُوهَا مُسْلِمٌ فَاللَّقِيطُ كَافِرٌ .
رَابِعًا - الذِّمَّةُ بِالْغَلَبَةِ وَالْفَتْحِ (1):
18 - هَذَا النَّوْعُ مِنْ الذِّمَّةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادًا غَيْرَ إسْلَامِيَّةٍ , وَرَأَى الْإِمَامُ تَرْكَ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ أَحْرَارًا بِالذِّمَّةِ , وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ , كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فَتْحِ سَوَادِ الْعِرَاقِ
حُقُوقُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2495)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2495)(1/208)
19 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : أَنَّ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا , وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ جَرَتْ عَلَى لِسَانِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , وَتَدُلُّ عَلَيْهَا عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ . وَيُؤَيِّدُهَا بَعْضُ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ , فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا , وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا . لَكِنَّ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ غَيْرُ مُطَبَّقَةٍ عَلَى إطْلَاقِهَا , فَالذِّمِّيُّونَ لَيْسُوا كَالْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ , وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ . وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ مَا يَتَمَتَّعُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْحُقُوقِ :
أَوَّلًا - حِمَايَةُ الدَّوْلَةِ لَهُمْ :(1/209)
20 - يُعْتَبَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَعْطَوْهُمْ الذِّمَّةَ فَقَدْ الْتَزَمُوا دَفْعَ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِمْ , وَصَارُوا أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ , كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِذَلِكَ . وَعَلَى ذَلِكَ فَلِأَهْلِ الذِّمَّةِ حَقُّ الْإِقَامَةِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ , وَعَلَى الْإِمَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ مِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ , فَيَجِبُ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُمْ , وَمَنْعَ مَنْ يَقْصِدُهُمْ بِالْأَذَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْكُفَّارِ , وَاسْتِنْقَاذَ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ , وَاسْتِرْجَاعَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ , سَوَاءٌ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مُنْفَرِدِينَ عَنْهُمْ فِي بَلَدٍ لَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ . وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُظْلَمُونَ وَلَا يُؤْذُونَ , قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ انْتَقَصَهُ حَقَّهُ , أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ , أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ , فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . حَتَّى إنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ إذَا اسْتَوْلُوا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ , ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِمْ , وَجَبَ رَدُّهُمْ إلَى ذِمَّتِهِمْ , وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ , وَهَذَا فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , كَمَا قَالَ(1/210)
صَاحِبُ الْمُغْنِي : لِأَنَّ ذِمَّتَهُمْ بَاقِيَةٌ , وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مَا يَنْقُضُهَا , وَحُكْمُ أَمْوَالِهِمْ حُكْمُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُرْمَتِهَا .
ثَانِيًا - حَقُّ الْإِقَامَةِ وَالتَّنَقُّلِ :
21 - لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُقِيمُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا , وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ . لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقَامَةِ الذِّمِّيِّ وَاسْتِيطَانِهِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ , عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا سِوَاهُمَا , يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَرْضِ الْعَرَبِ ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يَجْتَمِعُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ دِينَانِ } وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام : { لَئِنْ عِشْت - إنْ شَاءَ اللَّهُ - لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . أَمَّا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْمُدُنِ وَالْقُرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَجُوزُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُنْفَرِدِينَ , لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ رَفْعُ بِنَائِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَصْدِ التَّعَلِّي , وَإِذَا لَزِمَ مِنْ سُكْنَاهُمْ فِي الْمِصْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْلِيلُ الْجَمَاعَةِ أُمِرُوا بِالسُّكْنَى فِي نَاحِيَةٍ - خَارِجَ الْمِصْرِ - لَيْسَ فِيهَا جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ إذَا ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ .(1/211)
22 - وَأَمَّا حَقُّ التَّنَقُّلِ فَيَتَمَتَّعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْنَمَا يَشَاءُونَ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا , إلَّا أَنَّ فِي دُخُولِهِمْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ تَفْصِيلٌ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَرْضُ الْعَرَبِ ) .
ثَالِثًا - عَدَمُ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ :
23 - إنَّ مِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَّا يَتَعَرَّضَ الْمُسْلِمُونَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي عَقِيدَتِهِمْ وَأَدَاءِ عِبَادَتِهِمْ دُونَ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ , فَعَقْدُ الذِّمَّةِ إقْرَارُ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ , وَإِذَا كَانَ هُنَاكَ احْتِمَالُ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ عَنْ طَرِيقِ مُخَالَطَتِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , فَهَذَا يَكُونُ عَنْ طَرِيقِ الدَّعْوَةِ لَا عَنْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ , وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } , وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ : { وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ . . . } وَهَذَا الْأَصْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ,
لَكِنْ هُنَاكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي :
أ - مَعَابِدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2497)(1/212)
24 - قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَمْصَارَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَا اخْتَطَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَأَنْشَئُوهُ كَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ وَلَا صَوْمَعَةٍ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَا تُبْنَى كَنِيسَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ , وَلَوْ عَاقَدَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ . الثَّانِي : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ , وَمَا كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يَجِبُ هَدْمُهُ ؟ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يَجِبُ هَدْمُهُ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ . وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً , وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَّا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْتَ نَارٍ . وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : يَجِبُ هَدْمُهُ , فَلَا يَقَرُّونَ عَلَى كَنِيسَةٍ كَانَتْ فِيهِ ; لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ,(1/213)
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ , كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تُهْدَمُ , وَلَكِنْ تَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ مَسَاكِنَ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا لِلْعِبَادَةِ . الثَّالِثُ : مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا , فَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَالْخَرَاجَ لَنَا , فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِيهَا مِنْ الْكَنَائِسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ وَالدَّارَ لَهُمْ , فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا . وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : الْمَنْعُ ; لِأَنَّ الْبَلَدَ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَنَا , وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ , فَالْحُكْمُ فِي الْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ , وَالْأَوْلَى أَلَّا يُصَالِحَهُمْ إلَّا عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ رضي الله عنه مِنْ عَدَمِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْهَا . وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا , لَا يَجُوزُ الْإِحْدَاثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ : ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) , وَيَجُوزُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْقَدِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مِنْ إبْقَائِهَا كَنَائِسَ .
ب - إجْرَاءُ عِبَادَاتِهِمْ :(1/214)
25 - الْأَصْلُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ تَرْكُهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , فَيَقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ وَعَقَائِدِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ الَّتِي يَعْتَبِرُونَهَا مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ , كَضَرْبِ النَّاقُوسِ خَفِيفًا فِي دَاخِلِ مَعَابِدِهِمْ , وَقِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي يَعْتَقِدُونَ بِجَوَازِهَا , كَشُرْبِ الْخَمْرِ , وَاِتِّخَاذِ الْخَنَازِيرِ وَبَيْعِهَا , أَوْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ , أَوْ إذَا انْفَرَدُوا بِقَرْيَةٍ . وَيُشْتَرَطُ فِي جَمِيعِ هَذَا أَلَّا يُظْهِرُوهَا وَلَا يَجْهَرُوا بِهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَإِلَّا مُنِعُوا وَعُزِّرُوا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ , فَقَدْ جَاءَ فِي شُرُوطِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ : " أَلَّا نَضْرِبَ نَاقُوسًا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا , وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا الْقِرَاءَةَ فِي كَنَائِسِنَا , وَلَا نُظْهِرُ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ " إلَخْ هَذَا , وَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الْقُرَى , فَقَالُوا : لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَيْءٍ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالصَّلِيبِ وَضَرْبِ النَّاقُوسِ فِي قَرْيَةٍ , أَوْ مَوْضِعٍ لَيْسَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ كَانَ فِيهِ عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْأَعْيَادُ وَالْحُدُودُ ; لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ إظْهَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ(1/215)
لِكَوْنِهِ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فِي مَكَانِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَيَخْتَصُّ الْمَنْعُ بِالْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ , وَهُوَ الْمِصْرُ الْجَامِعُ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقُرَى الْعَامَّةِ وَالْقُرَى الَّتِي يَنْفَرِدُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يَمْنَعُونَ فِي الْأَخِيرَةِ مِنْ إظْهَارِ عِبَادَاتِهِمْ .
رَابِعًا - اخْتِيَارُ الْعَمَلِ :
26 - يَتَمَتَّعُ الذِّمِّيُّ بِاخْتِيَارِ الْعَمَلِ الَّذِي يَرَاهُ مُنَاسِبًا لِلتَّكَسُّبِ , فَيَشْتَغِلُ بِالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ كَمَا يَشَاءُ , فَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الذِّمِّيَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْمُسْلِمِ , هَذَا هُوَ الْأَصْلُ , وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ فِي هَذَا الْمَجَالِ سَتَأْتِي فِي بَحْثِ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ الذِّمِّيُّونَ . أَمَّا الْأَشْغَالُ وَالْوَظَائِفُ الْعَامَّةُ , فَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَالْخِلَافَةِ , وَالْإِمَارَةِ عَلَى الْجِهَادِ , وَالْوِزَارَةِ وَأَمْثَالِهَا , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْهَدَ بِذَلِكَ إلَى ذِمِّيٍّ , وَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَتَعْلِيمِ الصِّغَارِ الْكِتَابَةَ , وَتَنْفِيذِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْإِمَامُ أَوْ الْأَمِيرُ , يَجُوزُ أَنْ يُمَارِسَهُ الذِّمِّيُّونَ . وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْوَظَائِفِ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا . وَانْظُرْ كَذَلِكَ مُصْطَلَحَ : ( اسْتِعَانَةٍ )
الْمُعَامَلَاتُ الْمَالِيَّةُ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2500)(1/216)
27 - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْمُسْلِمِينَ ( إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا سَيَأْتِي ) . وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ , فَيَصِحُّ مِنْهُمْ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا تَصِحُّ مِنْهُمْ عُقُودُ الرِّبَا وَالْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ وَالْمَحْظُورَةُ الَّتِي لَا تَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ . قَالَ الْجَصَّاصُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : إنَّ الذِّمِّيِّينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتِّجَارَاتِ كَالْبُيُوعِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ , وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ , وَصَرَّحَ بِهِ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : كُلُّ مَا جَازَ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ مِنْ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَمَا يَبْطُلُ أَوْ يَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُلُ وَيَفْسُدُ مِنْ بُيُوعِهِمْ , إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ . بَلْ إنَّ الشَّافِعِيَّةَ صَرَّحُوا بِبُطْلَانِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَهُمْ أَيْضًا قَبْلَ الْقَبْضِ . وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَمُلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ . قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي(1/217)
الْأُمِّ : تَبْطُلُ بَيْنَهُمْ الْبُيُوعُ الَّتِي تَبْطُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا , فَإِذَا مَضَتْ وَاسْتُهْلِكَتْ لَمْ نُبْطِلْهَا وَقَالَ : فَإِنْ جَاءَ رَجُلَانِ مِنْهُمْ قَدْ تَبَايَعَا خَمْرًا وَلَمْ يَتَقَابَضَاهَا أَبْطَلْنَا الْبَيْعَ , وَإِنْ تَقَابَضَاهَا لَمْ نَرُدَّهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى .
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ نُجْمِلُهُ فِيمَا يَلِي :
أ - الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2500) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2501) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2502)(1/218)
28 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُمَا لَا يُعْتَبَرَانِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ } , لَكِنَّهُمْ أَقَرُّوا الْمُعَامَلَةَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , بِنَحْوِ شُرْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِثْلِهَا , بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ : أَنْ يُقَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْكُفْرِ مُقَابِلَ الْجِزْيَةِ , وَيُتْرَكَ هُوَ وَشَأْنُهُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ , وَالْمُعَامَلَةِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِمَّا يَعْتَقِدُ جَوَازَهَا . وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ . وَيَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : إنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ , كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ لِلْمُسْلِمِينَ , فَيَجُوزُ بَيْعُهُ , وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ : أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا , وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ .
ب - ( ضَمَانُ الْإِتْلَافِ ) :(1/219)
29 - إذَا أَتْلَفَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ فَلَا ضَمَانَ اتِّفَاقًا ; لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ إتْلَافُهُمَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ; لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ . لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِضَمَانِ مُتْلِفِهِمَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ , وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ , إذَا لَمْ يُظْهِرْ الذِّمِّيُّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( ضَمَانٌ ) .
ج - اسْتِئْجَارُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمًا لِلْخِدْمَةِ :
30 - تَجُوزُ مُعَامَلَةُ الْإِيجَارِ وَالِاسْتِئْجَارِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْجُمْلَةِ , لَكِنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمًا لِإِجْرَاءِ عَمَلٍ , فَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي يُؤَاجِرُ الْمُسْلِمَ لِلْقِيَامِ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ لِنَفْسِهِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ فَلَا بَأْسَ بِهِ , أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ كَعَصْرِ الْخُمُورِ وَرَعْيِ الْخَنَازِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الذِّمِّيِّ الشَّخْصِيَّةِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الْكَافِرِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إجَارَةٍ )
د - وَكَالَةُ الذِّمِّيِّ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ :(1/220)
31 - لَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَهُ مِنْ مُسْلِمَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَمْلِكُ عَقْدَ هَذَا النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ وَكَالَتُهُ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ : تَصِحُّ هَذِهِ الْوَكَالَةُ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ : أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وُكِّلَ بِهِ , وَأَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ عَاقِلًا , مُسْلِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ .
هـ - عَدَمُ تَمْكِينِ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ :
32 - لَا يَجُوزُ تَمْكِينُ الذِّمِّيِّ مِنْ شِرَاءِ الْمُصْحَفِ أَوْ دَفْتَرٍ فِيهِ أَحَادِيثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إلَى ابْتِذَالِهِ . وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ , إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ يَمْنَعَانِ الذِّمِّيَّ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ , وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدٌ إذَا اغْتَسَلَ لِذَلِكَ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مُصْحَفِ ) .
و - شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ :(1/221)
33 - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اتِّفَاقًا , إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُمْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ . وَيُعَلِّلُ الْفُقَهَاءُ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهَا مَعْنَى الْوِلَايَةِ , وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ . كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ : الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } , وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِذِي عَدْلٍ . وَأَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ , مَا دَامُوا عُدُولًا فِي دِينِهِمْ ; لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ } وَلِأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ , فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ . هَذَا , وَهُنَاكَ اسْتِثْنَاءَاتٌ أُخْرَى فِي مَسَائِلِ الْوَصِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ وَالتَّمَلُّكِ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَنَحْوِهَا , تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ .
أَنْكِحَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2504)(1/222)
34 - لَا يَخْتَلِفُ أَحْكَامُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ , إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً . وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُ الْمُسْلِمَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِ , وَلَوْ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ كِتَابِيًّا . وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لقوله تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } وَلَا يَجُوزُ زَوَاجُ مُسْلِمٍ مِنْ ذِمِّيَّةٍ غَيْرِ كِتَابِيَّةٍ , لقوله تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً , إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ , لقوله تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } إلَى قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ .
وَاجِبَاتُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَالِيَّةِ (1)
35 - عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبَاتٌ وَتَكَالِيفُ مَالِيَّةٌ يَلْتَزِمُونَ بِهَا قِبَلَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُقَابِلَ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنْ الْحِمَايَةِ وَالْحُقُوقِ , وَهَذِهِ الْوَاجِبَاتُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ ,
وَفِيمَا يَلِي نُجْمِلُ أَحْكَامَهَا :
أ - الْجِزْيَةُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2504)(1/223)
وَهِيَ الْمَالُ الَّذِي تُعْقَدُ عَلَيْهِ الذِّمَّةُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ لِأَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ , تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ . وَتُؤْخَذُ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الذَّكَرِ , وَلَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ اتِّفَاقًا , كَمَا يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِهَا : السَّلَامَةُ مِنْ الزَّمَانَةِ وَالْعَمَى وَالْكِبَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَفِي مِقْدَارِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَمَا تَسْقُطُ بِهِ الْجِزْيَةُ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( جِزْيَةٌ ) .
ب - الْخَرَاجُ :
وَهُوَ مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا . وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مِسَاحَتِهَا وَنَوْعِ زِرَاعَتِهَا , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ الَّذِي يُفْرَضُ عَلَى الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْخُمُسِ أَوْ السُّدُسِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ : ( خَرَاجٌ )
ج - الْعُشُورُ :
وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ , إذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ دَاخِلَ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَمِقْدَارُهَا نِصْفُ الْعُشْرِ , وَتُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ حِينَ الِانْتِقَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ أَوْجَبُوهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَنْتَقِلُونَ بِهَا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عُشْرٍ ) .
مَا يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2505)(1/224)
36 - يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الِامْتِنَاعُ عَمَّا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَانْتِقَاصُ دِينِ الْإِسْلَامِ , مِثْلُ ذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوْ دِينِهِ بِسُوءٍ لِأَنَّ إظْهَارَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ اسْتِخْفَافٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَازْدِرَاءٌ بِعَقِيدَتِهِمْ . وَعَدَمُ الْتِزَامِ الذِّمِّيِّ بِمَا ذُكِرَ يُؤَدِّي إلَى انْتِقَاضِ ذِمَّتِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ , كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ مَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ . كَذَلِكَ يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ إدْخَالِهَا فِيهَا عَلَى وَجْهِ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ . وَيُمْنَعُونَ كَذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ فِسْقٍ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهُ كَالْفَوَاحِشِ وَنَحْوِهَا . وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالتَّمْيِيزِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زِيِّهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَمَلَابِسِهِمْ , وَلَا يُصَدَّرُونَ فِي مَجَالِسَ , وَذَلِكَ إظْهَارًا لِلصِّغَارِ عَلَيْهِمْ , وَصِيَانَةً لِضَعَفَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الِاغْتِرَارِ بِهِمْ أَوْ مُوَالَاتِهِمْ . وَتَفْصِيلُ مَا يُمَيِّزُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الزِّيِّ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ تُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ , عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ الْجِزْيَةِ وَعَقْدِ الذِّمَّةِ .
جَرَائِمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَعُقُوبَاتُهُمْ (1)
أَوَّلًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْحُدُودِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2505)(1/225)
37 - إذَا ارْتَكَبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَرِيمَةً مِنْ جَرَائِمِ الْحُدُودِ , كَالزِّنَى أَوْ الْقَذْفِ أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ قَطْعِ الطَّرِيقِ , يُعَاقَبُ بِالْعِقَابِ الْمُحَدَّدِ لِهَذِهِ الْجَرَائِمِ شَأْنُهُمْ فِي ذَلِكَ شَأْنُ الْمُسْلِمِينَ , إلَّا شُرْبَ الْخَمْرِ حَيْثُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيهِ ; لِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ حِلِّهَا , وَمُرَاعَاةً لِعَهْدِ الذِّمَّةِ , إلَّا إنْ أَظْهَرُوا شُرْبَهَا , فَيُعَزَّرُونَ , وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ ,
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ يَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَأْتِي :
أ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إلَى الْمُسَاوَاةِ فِي تَطْبِيقِ عُقُوبَةِ الرَّجْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ , وَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا مِنْ ذِمِّيَّةٍ , لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ , وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِرَجْمِ يَهُودِيَّيْنِ . وَصَرَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِأَنَّ الزَّانِيَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا كَانَ مُتَزَوِّجًا لَا يُرْجَمُ ; لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي تَطْبِيقِ الرَّجْمِ عِنْدَهُمَا , وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْمُتَزَوِّجُ بِالْكِتَابِيَّةِ لَا يُرْجَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ : الْإِسْلَامُ وَالزَّوَاجُ مِنْ مُسْلِمَةٍ مُسْتَدِلًّا بِمَا { قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِحُذَيْفَةَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً : دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك } ,(1/226)
ب - لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , بَلْ يُعَزَّرُ , سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَذْفِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مُسْلِمًا , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ .
ج - يُطَبَّقُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى السَّارِقِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا , إلَّا إذَا كَانَ الْمَسْرُوقُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا , لِعَدَمِ تَقَوُّمِهِمَا , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ : ( سَرِقَةٌ ) .
د - إذَا بَغَى جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُنْفَرِدِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , إلَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ عَنْ ظُلْمٍ رَكِبَهُمْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَإِذَا بَغَوْا مَعَ الْبُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( بَغْيٍ ) . هَذَا , وَيُعَاقَبُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِعُقُوبَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ( الْحِرَابَةِ ) إذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا كَالْمُسْلِمِينَ بِلَا خِلَافٍ .
ثَانِيًا - مَا يَخْتَصُّ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِصَاصِ :(1/227)
38 - أ - إذَا ارْتَكَبَ الذِّمِّيُّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ , إذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِلَا خِلَافٍ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَتِيلُ مُسْتَأْمَنًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ قَالَ : إنَّ عِصْمَةَ الْمُسْتَأْمَنِ مُؤَقَّتَةٌ , فَكَانَ فِي حَقْنِ دَمِهِ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ . أَمَّا إذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أَوْ ذِمِّيَّةً عَمْدًا , فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُسْلِمِ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُقْتَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ , وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إذَا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُ غِيلَةً ( خَدِيعَةً ) أَوْ لِأَجْلِ الْمَالِ , وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( قِصَاصٌ ) .
ب - لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ وَشِبْهِ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتِيلُ مُسْلِمًا أَمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَفِي مِقْدَارِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُولِ , وَمَنْ يَشْتَرِكُ فِي تَحَمُّلِهَا مِنْ عَاقِلَةِ الذِّمِّيِّ الْقَاتِلِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( دِيَةٌ ) ( وَعَاقِلَةٌ ) . وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الذِّمِّيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ; لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْقُرْبَةِ , وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا , وَيَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ , لَا إنْ كَانَتْ صِيَامًا . ( ر : كَفَّارَةٌ ) .(1/228)
ج - لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ فِي جَرَائِمِ الِاعْتِدَاءِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ , مِنْ الْجُرْحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ , إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَيُقْتَصُّ مِنْ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ , وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ مُطْلَقًا إذَا تَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ , وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ مُطْلَقًا , بِحُجَّةِ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ . وَلَا خِلَافَ فِي تَطْبِيقِ الْقِصَاصِ إذَا كَانَتْ الْجُرُوحُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَوَفَّرَتْ الشُّرُوطُ . ( ر : قِصَاصٌ ) .
ثَالِثًا - التَّعْزِيرَاتُ :
39 - الْعُقُوبَاتُ التَّعْزِيرِيَّةُ يُقَدِّرُهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ حَسَبَ ظُرُوفِ الْجَرِيمَةِ وَالْمُجْرِمِ , فَتُطَبَّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ مُنَاسِبًا مَعَ الْجَرِيمَةِ شِدَّةً وَضَعْفًا وَمَعَ حَالَةِ الْمُجْرِمِ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( تَعْزِيرٍ ) .
خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2508)(1/229)
40 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الذِّمِّيِّ الْقَضَاءَ عَلَى الذِّمِّيِّينَ , وَإِنَّمَا يَخْضَعُونَ إلَى جِهَةِ الْقَضَاءِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَخْضَعُ لَهَا الْمُسْلِمُونَ . وَقَالُوا : وَأَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّمَا هِيَ رِئَاسَةٌ وَزَعَامَةٌ , لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ , فَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ , بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنْ حَكَمَ الذِّمِّيُّ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ , فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ التَّحْكِيمُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَجَازَ تَحْكِيمُهُ بَيْنَهُمْ . إلَّا أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَحْكِيمُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَى , وَأَمَّا تَحْكِيمُهُمْ فِي الْقِصَاصِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ .(1/230)
41 - وَإِذَا رَفَعَتْ الدَّعْوَى إلَى الْقَضَاءِ الْعَامِّ يَحْكُمُ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ فِي خُصُومَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وُجُوبًا , إذَا كَانَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . أَمَّا إذَا كَانَ كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , بِدَلِيلِ قوله تعالى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلْحَنَابِلَةِ : الْقَاضِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ : الْحُكْمِ أَوْ الْإِعْرَاضِ بِدَلِيلِ قوله تعالى : { فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ اشْتَرَطُوا التَّرَافُعَ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمَيْنِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى , وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُخَيَّرُ الْقَاضِي فِي النَّظَرِ فِي الدَّعْوَى أَوْ عَدَمِ النَّظَرِ فِيهَا . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( قَضَاءٍ ) ( وَوِلَايَةٍ ) . وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي الْمُسْلِمُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , لقوله تعالى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك } .
مَا يُنْقَضُ بِهِ عَهْدُ الذِّمَّةِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2509)(1/231)
42 - يَنْتَهِي عَهْدُ الذِّمَّةِ بِإِسْلَامِ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عُقِدَ وَسِيلَةً لِلْإِسْلَامِ , وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ . وَيُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِلُحُوقِ الذِّمِّيِّ دَارَ الْحَرْبِ , أَوْ بِغَلَبَتِهِمْ عَلَى مَوْضِعٍ يُحَارِبُونَنَا مِنْهُ ; لِأَنَّهُمْ صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا , فَيَخْلُو عَقْدُ الذِّمَّةِ عَنْ الْفَائِدَةِ , وَهُوَ دَفْعُ شَرِّ الْحَرْبِ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ . وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ الْجِزْيَةِ ; لِمُخَالَفَتِهِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَوْ امْتَنَعَ الذِّمِّيُّ عَنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ ; لِأَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي بِهَا الْقِتَالُ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ لَا أَدَاؤُهَا , وَالِالْتِزَامُ بَاقٍ , وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ لِعُذْرِ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ , فَلَا يُنْقَضُ الْعَهْدُ بِالشَّكِّ .(1/232)
43 - وَهُنَاكَ أَسْبَابٌ أُخْرَى اعْتَبَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَاقِضَةً لِلْعَهْدِ مُطْلَقًا , وَبَعْضُهُمْ بِشُرُوطٍ : فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يُنْقَضُ عَهْدُ الذِّمَّةِ بِالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , بِإِظْهَارِ عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهَا , وَبِإِكْرَاهِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى بِهَا إذَا زَنَى بِهَا بِالْفِعْلِ , وَبِغُرُورِهَا وَتَزَوُّجِهَا وَوَطْئِهَا , وَبِتَطَلُّعِهِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَبِسَبِّ نَبِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَنَا بِمَا لَمْ يُقَرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ . فَإِنْ سَبَّ بِمَا أُقِرَّ عَلَى كُفْرِهِ بِهِ لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ , كَمَا إذَا قَالَ : عِيسَى إلَهٌ مَثَلًا , فَإِنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْلِمَةٍ , أَوْ أَصَابَهَا بِنِكَاحٍ , أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ , أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ , أَوَذَكَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ , فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ شَرَطَ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ , وَإِلَّا فَلَا يُنْتَقَضُ ; لِمُخَالَفَتِهِ الشَّرْطَ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ , وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إنْ فَعَلُوا مَا ذُكِرَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ نُقِضَ الْعَهْدُ مُطْلَقًا , وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ . أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ إذَا لَمْ يُعْلِنْ السَّبَّ ; لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةُ كُفْرٍ , وَالْعَقْدُ يَبْقَى مَعَ(1/233)
أَصْلِ الْكُفْرِ , فَكَذَا مَعَ الزِّيَادَةِ , وَإِذَا أَعْلَنَ قُتِلَ , وَلَوْ امْرَأَةً , وَلَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا أَوْ زَنَى بِمُسْلِمَةٍ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُ , بَلْ تُطَبَّقُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْقَتْلِ وَالزِّنَى ; لِأَنَّ هَذِهِ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا , وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ فِي الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ , وَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَعَ الْكُفْرِ , فَمَعَ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى .
حُكْمُ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2510)(1/234)
44 - إذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ , وَيُحْكَمُ بِمَوْتِهِ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ , لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَاتِ , وَتَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الذِّمِّيَّةُ الَّتِي خَلَّفَهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ , وَإِذَا تَابَ وَرَجَعَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَتَعُودُ ذِمَّتُهُ , إلَّا أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَأُسِرَ يُسْتَرَقُّ , بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ , وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي حُكْمِ نَاقِضِ الْعَهْدِ , حَسَبَ اخْتِلَافِ أَسْبَابِ النَّقْضِ , فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : قُتِلَ بِسَبِّ نَبِيٍّ بِمَا لَمْ يَكْفُرْ بِهِ وُجُوبًا , وَبِغَصْبِ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَى , أَوْ غُرُورِهَا بِإِسْلَامِهِ فَتَزَوَّجَتْهُ , وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ , وَأَبَى الْإِسْلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ , أَمَّا الْمُطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى الْإِمَامُ فِيهِ رَأْيَهُ بِقَتْلٍ أَوْ اسْتِرْقَاقٍ . وَمَنْ الْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ , وَإِنْ خَرَجَ لِظُلْمٍ لَحِقَهُ لَا يُسْتَرَقُّ وَيُرَدُّ لِجِزْيَتِهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مَنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِقِتَالٍ يُقْتَلُ , وَإِنْ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ إبْلَاغُهُ مَأْمَنَهُ فِي الْأَظْهَرِ , بَلْ يَخْتَارُ الْإِمَامُ فِيهِ قَتْلًا أَوْ رِقًّا أَوْ مَنًّا أَوْ فِدَاءً . أَمَّا الْحَنَابِلَةُ , فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَسْبَابِ النَّقْضِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ , وَقَالُوا : خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ ,(1/235)
كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ ; لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ , فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ , وَيَحْرُمُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ نَقْضِ الْعَهْدِ إذَا أَسْلَمَ . هَذَا , وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُ ذُرِّيَّتِهِمْ وَنِسَائِهِمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ , فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِهِمْ . وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ تُسْتَرَقُّ ذُرِّيَّتُهُمْ .
أَهْلُ الْكِتَابِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2513)(1/236)
1 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ ( أَهْلَ الْكِتَابِ ) هُمْ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِفِرَقِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ . وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ : كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ , وَيَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى , وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُد , وَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دَيْنًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ . وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } قَالُوا : وَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّحُفَ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا , فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ . وَالسَّامِرَةُ مِنْ الْيَهُودِ , وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّابِئَةِ , فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى . وَفِي قَوْلٍ لِأَحْمَدَ , وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ , وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُمْ إنْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ , مِنْ تَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ كَانُوا مِنْهُمْ , وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ , وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . أَمَّا الْمَجُوسُ , فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَإِنْ كَانُوا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ(1/237)
فَقَطْ . وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَبُو ثَوْرٍ , فَاعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِمْ . وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ . . . } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ , وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا تَوَقَّفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - الْكُفَّارُ 2 - الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ أَهْلُ كِتَابٍ , وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمْ , وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ , وَهُمْ الْمَجُوسُ , وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ , وَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ . وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ . فَالْكُفَّارُ أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ .
ب - أَهْلُ الذِّمَّةِ : 3 - أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ : الْمُعَاهَدُونَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُقِيمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَيَقَرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ . فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ , فَقَدْ يَكُونُ ذِمِّيًّا غَيْرَ كِتَابِيٍّ , وَقَدْ يَكُونُ كِتَابِيًّا غَيْرَ ذِمِّيٍّ , وَهُمْ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .(1/238)
التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ : 4 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ( الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ) إذَا قُوبِلُوا بِالْمَجُوسِ . فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ , وَأَمَّا الْيَهُودِيَّةُ إذَا قُوبِلَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ : الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ . وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ وَالْفُقَهَاءِ , الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّنْ رَتَّبُوا أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً كَثِيرَةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَيْ تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمَا , وَعَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ , مِثْلُ : جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ , كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَجَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ , وَجَوَازِ أَكْلِ ذَبِيحَتِهِمْ , وَحِلِّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ ; وَلِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْإِنْكَارِ لِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . الِاتِّجَاهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ . وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , مِنْهُمْ ابْنُ نُجَيْمٍ وَصَاحِبُ الدُّرَرِ وَابْنُ عَابِدِينَ , وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ , وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِقَوْلِهِمْ : يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَنَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسِهِ تَبَعًا لِلْيَهُودِيِّ لَا النَّصْرَانِيِّ . وَفَائِدَتُهُ(1/239)
خِفَّةُ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ , حَيْثُ إنَّ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ النَّصْرَانِيُّ أَشَدَّ عَذَابًا ; لِأَنَّ نِزَاعَ النَّصَارَى فِي الْإِلَهِيَّاتِ , وَنِزَاعَ الْيَهُودِ فِي النُّبُوَّاتِ . وَكَذَا فِي الدُّنْيَا ; لِمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ : يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ; لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ يَطْبُخُ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ , وَالنَّصْرَانِيَّ لَا ذَبِيحَةَ لَهُ , وَإِنَّمَا يَأْكُلُ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ أَوْ يَخْنُقُهَا , وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْيَهُودِيِّ ; لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ أَوْ الْمُسْلِمِ , فَعُلِمَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا . وَالِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ , مَنْقُولًا عَنْ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا , وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ : أَنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا عليه السلام وَنُبُوَّةَ عِيسَى عليه السلام , وَكُفْرُ النَّصَارَى أَخَفُّ لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ ; وَلِأَنَّ الْيَهُودَ أَشَدُّ جَمِيعِ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ , وَأَصْلُبُهُمْ فِي ذَلِكَ , وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ أَلْيَنُ عَرِيكَةً مِنْ الْيَهُودِ , وَأَقْرَبُ إلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ
عَقْدُ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2515)(1/240)
5 - يَجُوزُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُبْرِمَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ , عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ , وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ , وَدَلِيلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِمَامِ , وَالْمُرَادُ بِالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ : قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ , وَأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ , وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ : الْتِزَامُهُ وَالْإِجَابَةُ إلَى بَذْلِهِ , لَا حَقِيقَةَ الْإِعْطَاءِ وَلَا جَرَيَانَ الْأَحْكَامِ فِعْلًا , وَبِالْعَقْدِ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَالْخَلَفِ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي إفَادَةِ الْعِصْمَةِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إذَا طَلَبَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَقْدَ الذِّمَّةِ , وَكَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ . وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَمَا يَنْعَقِدُ بِهِ , وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ , وَعَلَى مَنْ تُفْرَضُ , وَبِمَ تَسْقُطُ , وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ يُرْجَعُ إلَى مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) ( وَجِزْيَةٌ ) .
مُجَاهَدَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2517)(1/241)
10 - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ , وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ لِتَعَاظُمِ مَسْئُولِيَّتِهِمْ ; لِمَا أُوتُوا مِنْ كُتُبٍ سَمَاوِيَّةٍ , وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ , وَخُصُوصًا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ , فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ , وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ الْجَرِيمَةُ , فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّهِمْ , ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَةً , وَهِيَ إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنْ الْقَتْلِ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إذَا طَلَبُوا الْكَفَّ عَنْ الْقِتَالِ , لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي ( أَهْلِ الْحَرْبِ , وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَجِزْيَةٍ ) . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ , وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ الرُّومِ , فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ , فَقَالَ : هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ خَلَّادٍ : إنَّ ابْنَك لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ , قَالَتْ : وَلَمْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ } .(1/242)
تَرْكُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ :
12 - إنْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَهْلَ ذِمَّةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَاتِ الْمُتْلِفَاتِ , وَيُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ بِشُرُوطٍ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
هـ - عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ , أَوْ مِيثَاقُهُ , أَوْ ذِمَّتُهُ :(1/243)
40 - قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا قِيلَ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا مَثَلًا , فَهَذِهِ الصِّيَغُ مِنْ الْأَيْمَانِ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقِ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيِهِ , قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } فَجَعَلَ الْعَهْدَ يَمِينًا , وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ , وَمِنْ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ : بِأَهْلِ الذِّمَّةِ , أَيْ أَهْلِ الْعَهْدِ , وَالْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ , وَإِذَنْ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ , وَالتَّقْدِيرُ : عَلَيَّ مُوجِبُ عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ وَذِمَّتِهِ . فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ كَمَا سَبَقَ فِي " عَلَيَّ يَمِينٌ " . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : مِنْ صِيَغِ الْيَمِينِ الصَّرِيحَةِ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ , أَوْ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلًا فَتَجِبُ بِالْحِنْثِ كَفَّارَةٌ إذَا نَوَى الْيَمِينَ , أَوْ أَطْلَقَ , فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ بَلْ أُرِيدَ بِالْعَهْدِ التَّكَالِيفُ الَّتِي عَهِدَ بِهَا اللَّهُ تَعَالَى إلَى الْعِبَادِ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا . وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ : أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : أُعَاهِدُ اللَّهَ , لَيْسَ بِيَمِينٍ عَلَى الْأَصَحِّ ; لِأَنَّ الْمُعَاهَدَةَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ لَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ , وَكَذَا قَوْلُهُ : لَك عَلَيَّ عَهْدٌ , أَوْ أُعْطِيك عَهْدًا . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : مِنْ كِنَايَاتِ الْيَمِينِ : عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ(1/244)
أَوْ مِيثَاقُهُ أَوْ ذِمَّتُهُ أَوْ أَمَانَتُهُ أَوْ كَفَالَتُهُ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا , فَلَا تَكُونُ يَمِينًا إلَّا بِالنِّيَّةِ ; لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْيَمِينِ احْتِمَالًا ظَاهِرًا .
اتِّخَاذُ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ :
5 - لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَوْلِيَاءِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ , يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ , وَمَا يُضْمِرُونَهُ لِأَعْدَائِهِمْ , وَيَسْتَشِيرُونَهُمْ فِي الْأُمُورِ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَضُرَّ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ , وَيُعَرِّضَ أَمْنَهُمْ لِلْخَطَرِ , وَقَدْ وَرَدَ التَّنْزِيلُ بِتَحْذِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مُوَالَاةِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُخَالِفُونَهُمْ فِي الْعَقِيدَةِ وَالدِّينِ , وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ رَبِّكُمْ إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي , تُسِرُّونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } . وَنَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى(1/245)
عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ , يُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سَرَائِرِهِمْ , وَيَكْشِفُونَ لَهُمْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ . بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي شَأْنِ بِطَانَةِ السُّوءِ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : رضي الله عنه : إنَّ هُنَا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ حَافِظًا كَاتِبًا , فَلَوْ اتَّخَذْته كَاتِبًا ؟ قَالَ : اتَّخَذْت إذَنْ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : فِي الْأَثَرِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْكِتَابَةِ , الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَخَائِلِ أُمُورِهِمْ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَقَالَ السُّيُوطِيّ نَقْلًا عَنْ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ : فِي قوله تعالى : { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : أَكَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الزَّجْرَ عَنْ الرُّكُونِ إلَى الْكُفَّارِ وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } , وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ(1/246)
وَوُلَجَاءَ , يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ , وَيُسْنِدُونَ إلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ . ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ نَهَى عَنْ الْمُوَاصَلَةِ فَقَالَ : { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } يَعْنِي لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي إفْسَادِكُمْ , أَيْ أَنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْجَهْدَ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ . وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اسْتَكْتَبَ ذِمِّيًّا , فَعَنَّفَهُ عُمَرُ رضي الله عنهما وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ . وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا : لَا تَسْتَعْمِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الرِّشَا , وَاسْتَعِينُوا عَلَى أُمُورِكُمْ وَعَلَى رَعِيَّتِكُمْ بِاَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى .
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ (1)
6 - يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 2946)(1/247)
أ - أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ جَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ , وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِإِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ . فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا بُغَاةً . وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا طَلَبِ إمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ , وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ , وَلَا يُخْشَى قِتَالُهُمْ , وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ . وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِحَقٍّ - كَدَفْعِ ظُلْمٍ - فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ , وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ , وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ , وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ ; لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ , وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ , وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ . وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِمَنَعَةٍ , بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ , مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ , مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ , كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ , فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ ; لِأَنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ , وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْأَظْهَرُ , وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ , وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ , إذَا ضُمَّتْ إلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ .(1/248)
ب - أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى إمَامٍ وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ , وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ ; لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا , أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ , إنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ , وَإِلَّا فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنْ التَّعَرُّضِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
ج - أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ , أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ . وَقِيلَ : بِالْمُقَاتَلَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْصِي الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَا يَكُونُ مِنْ الْبُغَاةِ , فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ إظْهَارِ الْقَهْرِ لَا يَكُونُ بَاغِيًا .
د - وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ , يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا مَنْصُوبًا ; إذْ لَا شَوْكَةَ لِمَنْ لَا مُطَاعَ لَهُمْ . وَقِيلَ : بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ , هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ .
اسْتِعَانَةُ الْبُغَاةِ بِالْكُفَّارِ :(1/249)
33 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْحَرْبِيِّينَ وَأَمَّنُوهُمْ , أَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً , لَمْ يُعْتَبَرُ الْأَمَانُ بِالنِّسْبَةِ لَنَا إنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ , فَلَا يَصِحُّ الْأَمَانُ لَهُمْ . وَلِأَهْلِ الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ , وَحُكْمُ أَسِرْهُمْ فِي يَدِ أَهْلِ الْعَدْلِ حُكْمُ الْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ . أَمَّا مَا إذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ بِالْمُسْتَأْمَنِينَ , فَمَتَى أَعَانُوهُمْ كَانُوا نَاقِضِينَ لِلْعَهْدِ , وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ , وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , وَعَهْدُهُمْ مُؤَقَّتٌ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّينَ , فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ , وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ , لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ . وَإِنْ اسْتَعَانُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَعَانُوهُمْ , وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ , فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ , كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ ; وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ , فَيُقْتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ , وَيُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ , وَيُسْتَرَقُّونَ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ عَهْدُهُمْ ; لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ , فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُونَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ فِي الْكَفِّ عَنْ قَتْلِ(1/250)
أَسِرْهُمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ . وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّفِقُونَ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَعُونَةَ الذِّمِّيِّينَ لِلْبُغَاةِ اسْتِجَابَةٌ لِطَلَبِهِمْ لَا تَنْقُضُ عَهْدَ الذِّمَّةِ , كَمَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ نَقْضًا لِلْأَمَانِ . فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ , وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الدَّارِ . وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ لَمْ يُنْقَضْ عَهْدُهُمْ - قَوْلًا وَاحِدًا - وَيُقْبَلُ قَوْلُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ . وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ حُكْمَ الْبُغَاةِ , وَأَطْلَقُوا هَذِهِ الْعِبَارَةَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَالْبُغَاةِ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ , وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ ; إذْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الْخَارِجِ مَعَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ اسْتِجَابَةً لِطَلَبِهِمْ : لَا يَضْمَنُ نَفْسًا وَلَا مَالًا . لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ ; إذْ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ .
بَيْتُ الْمَالِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3068)(1/251)
1 - بَيْتُ الْمَالِ لُغَةً : هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَالِ , خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا . وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ : فَقَدْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ " بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ " بَيْتِ مَالِ اللَّهِ " فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَبْنَى وَالْمَكَانِ الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الْأَمْوَالُ الْعَامَّةُ لِلدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ , كَالْفَيْءِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا , إلَى أَنْ تُصْرَفَ فِي وُجُوهِهَا . ثُمَّ اُكْتُفِيَ بِكَلِمَةِ " بَيْتِ الْمَالِ " لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ , حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ . وَتُطَوَّرُ لَفْظُ " بَيْتِ الْمَالِ " فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ اللَّاحِقَةِ إلَى أَنْ أَصْبَحَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَمْلِكُ الْمَالَ الْعَامَّ لِلْمُسْلِمِينَ , مِنْ النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَرَاضِي الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا . وَالْمَالُ الْعَامُّ هُنَا : هُوَ كُلُّ مَالٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْيَدُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ , بَلْ هُوَ لَهُمْ جَمِيعًا . قَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ , وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ , فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ . ثُمَّ قَالَ : وَبَيْتُ الْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِهَةِ لَا عَنْ الْمَكَانِ . أَمَّا خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ لِلْخَلِيفَةِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَتْ تُسَمَّى " بَيْتُ مَالِ الْخَاصَّةِ " .(1/252)
2 - وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْخَلْطِ بَيْنَ ( دِيوَانِ بَيْتِ الْمَالِ ) ( وَبَيْتِ الْمَالِ ) فَإِنَّ دِيوَانَ بَيْتِ الْمَالِ هُوَ الْإِدَارَةُ الْخَاصَّةُ بِتَسْجِيلِ الدَّخْلِ وَالْخُرْجِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ . وَهُوَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبِي يَعْلَى : أَحَدُ دَوَاوِينِ الدَّوْلَةِ , فَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِهِمَا أَرْبَعَةُ دَوَاوِينَ : دِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ . وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ , وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ , وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ . وَلَيْسَ لِلدِّيوَانِ سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ , وَإِنَّمَا عَمَلُهُ قَاصِرٌ عَلَى التَّسْجِيلِ فَقَطْ . وَالدِّيوَانُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى ( السِّجِلِّ ) أَوْ ( الدَّفْتَرِ ) وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِبَارَةً عَنْ الدَّفْتَرِ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُرْتَزِقَةِ ( مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ ) ثُمَّ تَنَوَّعَ بَعْدَ ذَلِكَ , كَمَا سَبَقَ . وَمِنْ وَاجِبَاتِ كَاتِبِ الدِّيوَانِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ , مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ , أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ . وَعَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَهُ وَرُسُومَهُ , وَقَدْ حَصَرَ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَعْمَالَهُ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ , نَذْكُرُهَا بِاخْتِصَارٍ :
أ - تَحْدِيدِ الْعَمَلِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ , وَتَفْصِيلِ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا .(1/253)
ب - أَنْ يَذْكُرَ حَالَ الْبَلَدِ , هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا , وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِالتَّفْصِيلِ .
ج - أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ خَرَاجِ الْبَلَدِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَرَاضِيهِ , هَلْ هُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ , أَمْ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ ( دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ مُوَظَّفَةٌ عَلَى الْأَرْضِ ) .
د - أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ . هـ - إنْ كَانَ الْبَلَدُ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ , يَذْكُرُ أَجْنَاسَ مَعَادِنِهِ , وَعَدَدَ كُلِّ جِنْسٍ ; لِيُعْلَمَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا يُنَالُ مِنْهُ .
و - إنْ كَانَ الْبَلَدُ يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ , وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ إذَا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ تُعَشَّرُ عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ , أَثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ عَقْدَ صُلْحِهِمْ وَقَدْرَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ . نَشْأَةُ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ :(1/254)
3 - تُشِيرُ بَعْضُ الْمَصَادِرِ إلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ بَيْتَ الْمَالِ . نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ . غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَصَادِرِ تَذْكُرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ قَدْ اتَّخَذَ بَيْتَ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ . فَفِي الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ فِي تَرْجَمَةِ مُعَيْقِيبٍ بْنِ أَبِي فَاطِمَةَ : اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ . بَلْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ ( مِنْ ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ ) وَكَانَ يَسْكُنُهُ إلَى أَنْ انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَقِيلَ لَهُ : أَلَا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ ؟ قَالَ : لَا . فَكَانَ يُنْفِقُ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَلَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ , فَلَمَّا انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ بَيْتَ الْمَالِ فِي دَارِهِ . وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الْأُمَنَاءَ , وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَالِ , فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ , فَتَرْحَمُوا عَلَيْهِ . وَقَالَ : وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه - كَتَبَ لَهُمْ : وَجَعَلْت لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ , طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ(1/255)
وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ . . . وَشَرَطْت عَلَيْهِمْ جِبَايَةَ مَا صَالَحْتُهُمْ عَلَيْهِ , حَتَّى يُؤَدُّوهُ إلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا لَهُمْ مِنْهُمْ . 4 - أَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَذْكُرْ السُّنَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَرَاجِعِ - فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ - اسْتِعْمَالَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ " بَيْتِ الْمَالِ " فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم . وَلَكِنْ يَظْهَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ أَنَّ بَعْضَ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ قَائِمَةً , فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ مِنْ الْفَيْءِ , وَأَخْمَاسِ الْغَنَائِمِ , وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ , وَمَا يُهَيَّأُ لِلْجَيْشِ مِنْ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَضْبِطُهُ الْكُتَّابُ وَكَانَ يُخَزَّنُ إلَى أَنْ يَحِينَ مَوْعِدُ إخْرَاجِهِ . أَمَّا فِيمَا بَعْدَ عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَدْ اسْتَمَرَّ بَيْتُ الْمَالِ يُؤَدِّي دَوْرَهُ طِيلَةَ الْعُهُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ إلَى أَنْ جَاءَتْ النُّظُمُ الْمُعَاصِرَةُ , فَاقْتَصَرَ دَوْرُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ - فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ - عَلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ وَمَالِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ , وَقَامَ بِدَوْرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَزَارَاتُ الْمَالِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ .
مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ (1)
6 - مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ الْأَصْنَافُ التَّالِيَةُ , وَأَمَّا صِفَةُ الْيَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ , كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3071)(1/256)
أ - الزَّكَاةُ بِأَنْوَاعِهَا , الَّتِي يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ أَمْ بَاطِنَةٍ , مِنْ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَالنُّقُودِ وَالْعُرُوضِ , وَمِنْهَا عُشُورُ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا بِتِجَارَتِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ .
ب - خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ . وَالْغَنِيمَةُ هِيَ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ , مَا عَدَا الْأَرَاضِيَ وَالْعَقَارَاتِ , فَيُوَرَّدُ خُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ , لِيُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ . . . } الْآيَةَ .
ج - خُمُسُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا , وَقِيلَ : مِثْلُهَا الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْبَحْرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وَسِوَاهُمَا .
د - خُمُسُ الرِّكَازِ ( الْكُنُوزِ ) وَهُوَ كُلُّ مَالٍ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ , وَالْمُرَادُ هُنَا كُنُوزُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ إذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ , فَخُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَبَاقِيهِ بَعْدَ الْخُمُسِ لِوَاجِدِهِ .
هـ - الْفَيْءُ : وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَنْقُولٍ أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ , وَبِلَا إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ . وَالْفَيْءُ أَنْوَاعٌ :
( 1 ) مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتِ , وَهِيَ تُوقَفُ كَالْأَرَاضِيِ الْمَغْنُومَةِ بِالْقِتَالِ , وَتُقَسَّمُ غَلَّاتُهَا كُلَّ سَنَةٍ , نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ . وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ ( اُنْظُرْ : فَيْءٌ )(1/257)
( 2 ) مَا تَرَكُوهُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ . وَهُوَ يُقَسَّمُ فِي الْحَالِ وَلَا يُوقَفُ .
( 3 ) مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنْ الْأَرَاضِي الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ , وَدُفِعَتْ بِالْإِجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ عَنْ الْأَرَاضِي الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ , وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ .
( 4 ) الْجِزْيَةُ وَهِيَ : مَا يُضْرَبُ عَلَى رِقَابِ الْكُفَّارِ لِإِقَامَتِهِمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ . فَيُفْرَضُ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنْ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ مَبْلَغٌ مِنْ الْمَالِ , أَوْ يُضْرَبُ عَلَى الْبَلَدِ كُلِّهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مَبْلَغًا مَعْلُومًا . وَلَوْ أَدَّاهَا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَانَتْ هِبَةً لَا جِزْيَةً .
( 5 ) عُشُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَهِيَ : ضَرِيبَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَام إلَى بَلَدٍ آخَرَ , تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً , مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , ثُمَّ يَعُودُوا إلَيْهَا . وَمِثْلُهَا عُشُورُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ التُّجَّارِ كَذَلِكَ , إذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ .
( 6 ) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ .(1/258)
( 7 ) مَالُ الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ , وَمَالُ الزِّنْدِيقِ إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ , فَلَا يُورَثُ مَالُهُمَا بَلْ هُوَ فَيْءٌ , وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ تَفْصِيلٌ .
( 8 ) مَالُ الذِّمِّيِّ إنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ , وَمَا فَضَلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ كَذَلِكَ .
( 9 ) الْأَرَاضِي الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَالِ , وَهِيَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . و - غَلَّاتُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْلَاكِهِ وَنِتَاجُ الْمُتَاجَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ .
ز - الْهِبَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْوَصَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِلْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ .
ح - الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى الْقُضَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدَى لَهُمْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ , أَوْ كَانَ يُهْدَى لَهُمْ لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الْقَاضِي خُصُومَةٌ , فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُرَدَّ إلَى مُهْدِيهَا تُرَدُّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ . لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ مِنْ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ مَا أُهْدِيَ إلَيْهِ } . وَكَذَلِكَ الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى عُمَّالِ الدَّوْلَةِ , وَهَذَا إنْ لَمْ يُعْطِ الْآخِذُ مُقَابِلَهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ .(1/259)
ط - الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلْجِهَادِ أَمْ لِغَيْرِهِ , وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ , وَكَانَ لِضَرُورَةٍ , وَإِلَّا كَانَتْ مَوْرِدًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ . ي - الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ , وَهِيَ مَالٌ وُجِدَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهِ , مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ , وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مَعَ اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لَا طَالِبَ لَهُ , فَيُوَرَّدُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ .
ك - مَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِلَا وَارِثٍ , أَوْ لَهُ وَارِثٌ لَا يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ - عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ - وَمَنْ قُتِلَ وَكَانَ بِلَا وَارِثٍ فَإِنَّ دِيَتَهُ تُوَرَّدُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ , وَيُصْرَفُ هَذَا فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَحَقُّ بَيْتِ الْمَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ : يُرَدُّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا إرْثًا ( ر : إرْثٌ ) .(1/260)
ل - الْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ : وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ بِأَخْذِ شَطْرِ مَالِهِ , وَبِهَذَا يَقُولُ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ , وَوَرَدَ تَغْرِيمُ مَنْ أَخَذَ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَخَرَجَ بِهِ ضَعْفُ قِيمَتِهِ , وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْغَرَامَاتِ إذَا أُخِذَتْ تُنْفَقُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ , فَتَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ . وَوَرَدَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه صَادَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ بَعْضِ الْوُلَاةِ , لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْإِثْرَاءُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ , فَيَرْجِعُ مِثْلُ ذَلِكَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا
مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ (1)
12 - مَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ , فَيَكُونُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ , وَيَصْرِفُ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ . وَالْفُقَهَاءُ إذَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ نَفَقَةَ كَذَا هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ , يَقْصِدُونَ هَذَا الْبَيْتَ الرَّابِعَ ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُخَصَّصُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ , بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ , فَالْحَقُّ فِيهِ لِجِهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ , يُصْرَفُ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا . وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مِمَّا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ , لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالِاسْتِقْصَاءِ , فَإِنَّ أَبْوَابَ الْمَصَالِحِ لَا تَنْحَصِرُ , وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إلَى عَصْرٍ , وَمِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3077)(1/261)
13 - وَمِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي :
أ - الْعَطَاءُ , وَهُوَ نَصِيبٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطَى لِكُلِّ مُسْلِمٍ , سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَمْ لَمْ يَكُنْ . وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ قَدَّمَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي , وَهُوَ كَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ هُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : فِي الْفَيْءِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ . . . } الْآيَةَ . ثُمَّ قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ . . . } ثُمَّ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ . . . } فَاسْتَوْعَبَ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ : هَذِهِ - يَعْنِي الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ - اسْتَوْعَبَتْ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً , وَلَإِنْ عِشْت لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا , لَمْ يَعْرَقْ فِيهِ جَبِينَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ الْمُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ , وَجُنْدُ الْمُسْلِمِينَ(1/262)
, وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ - أَيْ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ الْآتِي بَيَانُهَا . وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ , مَا لَمْ يُجَاهِدُوا فِعْلًا . وَمِنْ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . . . } إلَى أَنْ قَالَ : { ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ , وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ . فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا , فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ , يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ , إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ . } وَقِيلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ الْفَيْءَ كُلَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ بَيْنَ مَنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَامِهِ , وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُوَفَّرُ شَيْءٌ لِلْمَصَالِحِ مَا عَدَا خُمُسِ الْخُمُسِ ( أَيْ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ : إعْطَاءُ مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ , وَصَرْفُ مَا يَتَبَقَّى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ لِلْمَصَالِحِ .(1/263)
ب - الْأَسْلِحَةُ وَالْمُعِدَّاتُ وَالتَّحْصِينَاتُ وَتَكَالِيفُ الْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ .
ج - رَوَاتِبُ الْمُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي أُمُورِهِمْ الْعَامَّةِ , مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ , وَمَنْ يُنَفِّذُونَ الْحُدُودَ , وَالْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ , وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ , فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ . وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْعَارِ . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرَّوَاتِبُ أُجْرَةً لِلْمُوَظَّفِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ , بَلْ هِيَ كَالْأُجْرَةِ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَصْلًا . ثُمَّ إنْ سُمِّيَ لِلْمُوَظَّفِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ اسْتَحَقَّهُ , وَإِلَّا اسْتَحَقَّ مَا يَجْرِي لِأَمْثَالِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ إلَّا بِمُرَتَّبٍ . وَأَرْزَاقُ هَؤُلَاءِ , وَأَرْزَاقُ الْجُنْدِ إنْ لَمْ تُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ , تَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ , وَوَجَبَ إنْظَارُهُ , كَالدُّيُونِ مَعَ الْإِعْسَارِ . بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ , وَتَسْقُطُ بِعَدَمِهَا . وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ , كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِمْ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعَامِ , يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنْ الْعَامِ , أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِعْطَاءُ إلَى وَارِثِهِ .(1/264)
د - الْقِيَامُ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ , الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ , وَلَا أَقَارِبَ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ , فَيَتَحَمَّلُ بَيْتُ الْمَالِ نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلَاجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ , وَكَذَا دِيَةُ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ فَعَجَزُوا عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْبَعْضِ , فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَتَحَمَّلُ بَاقِي الدِّيَةِ , وَلَا تُعْقَلُ عَنْ كَافِرٍ . وَنَبَّهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ إقْرَارَ الْجَانِي لَا يُقْبَلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ , كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
هـ - الْإِنْفَاقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ : لَيْسَ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ حَقٌّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . لَكِنَّ الذِّمِّيَّ إنْ احْتَاجَ لِضَعْفِهِ يُعْطَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ . وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ : أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنْ الْآفَاتِ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ , وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ . وَنَقَلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ .(1/265)
و - وَمِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ أَيْضًا : فِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ , وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِكَاكَهُ فِي مَالِهِ هُوَ ( ر : أَسْرَى ) . وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَالِكَ الدَّوَابِّ - غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ - لَوْ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا , وَلَمْ يُمْكِنْ إجْبَارُهُ لِفَقْرِهِ مَثَلًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَجَّانًا , وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهَا .
ز - الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ , مِنْ إنْشَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , وَإِصْلَاحِ مَا تَلِفَ مِنْهَا .(1/266)
ح - ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِأَخْطَاءِ أَعْضَاءِ الْإِدَارَةِ الْحُكُومِيَّةِ : مِنْ ذَلِكَ أَخْطَاءُ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقُومُ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ , إذَا أَخْطَئُوا فِي عَمَلِهِمْ الَّذِي كُلِّفُوا بِهِ , فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ أَوْ مَالٌ , كَدِيَةِ مَنْ مَاتَ بِالتَّجَاوُزِ فِي التَّعْزِيرِ , فَحَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ يَضْمَنُ بَيْتُ الْمَالِ . فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ لِشَأْنٍ خَاصٍّ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْئُولِينَ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ , أَوْ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْطَاءَهُمْ قَدْ تَكْثُرُ , فَلَوْ حَمَلُوهَا هُمْ أَوْ عَاقِلَتُهُمْ لَأَجْحَفَ بِهِمْ . هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ , وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ . أَمَّا الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ , وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ . أَمَّا ضَمَانُ الْعَمْدِ فَيَتَحَمَّلُهُ فَاعِلُهُ اتِّفَاقًا .(1/267)
ط - تَحَمُّلُ الْحُقُوقِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ لِأَصْحَابِهَا , وَاقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَحْمِلَهَا أَحَدٌ مُعَيَّنٌ : وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا لَوْ قُتِلَ شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوْ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ , وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ , فَتَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه : لَا يَبْطُل فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ , وَقَدْ { تَحَمَّلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ , لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ , وَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا الْقَسَامَةَ , وَلَمْ يَقْبَلُوا أَيْمَانَ الْيَهُودِ , فَوْدَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ } . وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أُجْرَةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ , فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ أُجْرَةَ تَعْرِيفِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ , عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرْضًا عَلَى صَاحِبِهَا .
أَمْثِلَةٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3219)(1/268)
18 - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ - بَعْدَ بَيَانِ الْبَيْعِ الْبَاطِلِ - أَمْثِلَةً عَنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ , وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا , وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ : بَيْعُ مَا سُكِتَ فِيهِ عَنْ الثَّمَنِ , كَبَيْعِهِ بِقِيمَتِهِ , وَذِرَاعٍ مِنْ ثَوْبٍ يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ , وَبَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ } وَبَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ , وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ , وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ , وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ , وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ . أَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ فَلِلْجَهَالَةِ وَاخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ , وَكَذَا الصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ , وَلِاحْتِمَالِ وُقُوعِ التَّنَازُعِ , وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ , وَسَمْنٍ فِي لَبَنٍ } . وَأَمَّا اللَّحْمُ فِي الشَّاةِ وَالْجِذْعُ فِي السَّقْفِ فَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ ذِرَاعٌ مِنْ ثَوْبٍ وَحِلْيَةٌ فِي سَيْفٍ , وَإِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ . وَلَوْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ , لِأَنَّ تَأْجِيلَ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ , إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ , لِأَنَّ التَّأْجِيلَ شُرِعَ فِي الْأَثْمَانِ تَيْسِيرًا عَلَى الْمُشْتَرِي , لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِ الثَّمَنِ , وَأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْأَعْيَانِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا . وَمِنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ : بَيْعُ الْمُزَابَنَةِ(1/269)
وَالْمُحَاقَلَةِ , لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا , وَلِشُبْهَةِ الرِّبَا فِيهِمَا . وَلَوْ بَاعَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ الْمُشْتَرِيَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ , { لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } , وَهَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ , وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ . وَالْبَيْعُ إلَى النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إذَا جَهِلَ الْمُتَبَايِعَانِ ذَلِكَ فَاسِدٌ , وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ إلَى الْحَصَادِ وَالْقِطَافِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ , وَهِيَ تَقْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ , وَإِنْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ قَبْلَ حُلُولِهِ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ , خِلَافًا لِزُفَرَ حَيْثُ قَالَ : الْفَاسِدُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا .(1/270)
19 - هَذَا , وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ : الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ , أَوْ بَيْعُهُمَا مُقَايَضَةً بِالْعَيْنِ , فَإِذَا قُوبِلَا بِالْعَيْنِ كَمَا إذَا اشْتَرَى الثَّوْبَ بِالْخَمْرِ , أَوْ بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ , أَمَّا إنْ قُوبِلَا بِالدَّيْنِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ . وَوَجْهُ الْفَرْقِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَرْغِينَانِيُّ : أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ , لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِإِهَانَتِهِ وَتَرْكِ إعْزَازِهِ , وَفِي تَمَلُّكِهِ بِالْعَقْدِ إعْزَازٌ لَهُ , وَهَذَا لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ فَالدَّرَاهِمُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ , لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً لِمَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ , وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَمْرُ , فَسَقَطَ التَّقَوُّمُ أَصْلًا فَبَطَلَ الْعَقْدُ , بِخِلَافِ مُشْتَرِي الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ لِأَنَّ فِيهِ إعْزَازًا لِلثَّوْبِ دُونَ الْخَمْرِ . وَكَذَا إذَا بَاعَ الْخَمْرَ بِالثَّوْبِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ فَاسِدًا , لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ شِرَاءَ الثَّوْبِ بِالْخَمْرِ , لِكَوْنِهِ مُقَايَضَةً .
20 - وَهُنَاكَ صُوَرًا أُخْرَى اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي اعْتِبَارِهَا بَيْعًا فَاسِدًا أَوْ بَيْعِهَا بَاطِلًا , كَبَيْعِ الْحَمْلِ , وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ , وَالسَّمَكِ فِي الْبَحْرِ قَبْلَ اصْطِيَادِهِمَا لَوْ قُوبِلَا بِالْعَرْضِ , وَبَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَالْغَائِصِ . وَبَيْعِ لُؤْلُؤٍ فِي صَدَفٍ , وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْآبِقِ , وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ .
تَبْيِيتٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3544)(1/271)
1 - التَّبْيِيتُ لُغَةً : مَصْدَرُ بَيَّتَ الْأَمْرَ إذَا دَبَّرَهُ لَيْلًا , وَبَيَّتَ النِّيَّةَ عَلَى الْأَمْرِ : إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ لَيْلًا فَهِيَ مُبَيَّتَةٌ بِالْفَتْحِ . وَبَيَّتَ الْعَدُوَّ : أَيْ دَاهَمَهُ لَيْلًا . وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ } وَفِي السِّيرَةِ : " هَذَا أَمْرٌ بُيِّتَ بِلَيْلٍ " . وَالتَّبْيِيتُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ , وَالْبَيَاتُ اسْمُ الْمَصْدَرِ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - الْإِغَارَةُ : 2 - يُطْلِقُ الْعَرَبُ الْبَيَاتَ أَوْ التَّبْيِيتَ عَلَى الْإِغَارَةِ عَلَى الْعَدُوِّ لَيْلًا . وَفِي التَّنْزِيلِ : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فَالْفَرْقُ بَيْنَ تَبْيِيتِ الْعَدُوِّ وَبَيْنَ الْإِغَارَةِ عَلَيْهِ : أَنَّ الْإِغَارَةَ مُطْلَقَةٌ , إذْ تَكُونُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا , أَمَّا التَّبْيِيتُ فَهُوَ فِي اللَّيْلِ
. ب - الْبَيْتُوتَةُ : 3 - الْبَيْتُوتَةُ : مَصْدَرُ بَاتَ , وَمَعْنَاهَا الْفِعْلُ بِاللَّيْلِ , فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ الْبَيَاتِ , وَيَنْدُرُ اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى النَّوْمِ لَيْلًا . وَيَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ أَحْيَانًا فِي آثَارِ الْقَسَمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ , وَبِهَذَا الْمَعْنَى يُخَالِفُ الْبَيَاتَ .
حُكْمُ التَّبْيِيتِ : أَوَّلًا : تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ :(1/272)
4 - تَبْيِيتُ الْعَدُوِّ جَائِزٌ لِمَنْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ , وَهُمْ الْكُفَّارُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَرَفَضُوهَا , وَلَمْ يَقْبَلُوا دَفْعَ الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَقْدُ ذِمَّةٍ وَلَا هُدْنَةٍ . قَالَ أَحْمَدُ رحمه الله : لَا بَأْسَ بِالْبَيَاتِ , وَهَلْ غَزْوُ الرُّومِ إلَّا الْبَيَاتُ ؟ قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَ تَبْيِيتَ الْعَدُوِّ . وَعَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : نُبَيِّتُهُمْ فَنُصِيبُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ } فَإِنْ قِيلَ : قَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ . قُلْنَا : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ لِقَتْلِهِمْ . وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى التَّعَمُّدِ , وَالْإِبَاحَةُ عَلَى مَا عَدَاهُ . وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا تَفْرِيعَاتٌ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَ الْكُفَّارِ مُسْلِمٌ وَقُتِلَ , تُنْظَرُ فِي : ( الْجِهَادِ وَالدِّيَاتِ ) . فَإِنْ بَيَّتَ الْإِمَامُ أَوْ أَمِيرُ الْجَيْشِ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمَ , لقوله تعالى : { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْهُمْ بِالتَّبْيِيتِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ , لِأَنَّهُ لَا إيمَانَ لَهُ , وَلَا أَمَانَ , فَلَمْ يُضْمَنْ . وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ , وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ . وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ لَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ قَبْلَ الْقِتَالِ , لِأَنَّ(1/273)
الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ , وَلِأَنَّ كُتُبَهُمْ قَدْ بَشَّرَتْ بِالرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ . وَيُدْعَى عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ قَبْلَ أَنْ يُحَارَبُوا .
5 - أَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ , فَتُسْتَحَبُّ الدَّعْوَةُ قَبْلَ التَّبْيِيتِ مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ , وَلِيَعْلَمُوا أَنَّنَا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ , وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : أَمَرَ عَلِيًّا حِينَ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَبَعَثَهُ إلَى قِتَالِهِمْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ } , وَهُمْ مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ . وَيَجُوزُ بَيَاتُهُمْ بِغَيْرِ دُعَاءٍ , لِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لَيْلًا وَهُمْ غَافِلُونَ } . { وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أَبْنَى صَبَاحًا } . { وَسُئِلَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ يُبَيِّتُونَ , فَيُصَابُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فَقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ . } وَكَانُوا جَمِيعًا مِمَّنْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ وَإِلَّا لَمْ يُبَيِّتُوا لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ . .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : التَّقَوُّمُ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3268)(1/274)
8 - وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ - بَعْدَ كَوْنِهِ مَالًا - أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا . وَالتَّقَوُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرْبَانِ : عُرْفِيٌّ : وَيَكُونُ بِالْإِحْرَازِ , فَغَيْرُ الْمُحْرَزِ , كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ , لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ . وَشَرْعِيٌّ : وَيَكُونُ بِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ , وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا . فَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مِنْ الْمَالِ بِهَذَا الْمَعْنَى , وَهُوَ غَيْرُ مَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ غَيْرَ مُبَاحٍ , يَبْطُلُ بَيْعُهُ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ , بِشَرْطَيْ الطَّهَارَةِ وَالنَّفْعِ , كَمَا فَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَغْنَى عَنْ شَرْطِ التَّقَوُّمِ هَذَا بِشَرْطِ الْمَالِيَّةِ , بِتَعْرِيفِ الْمَالِ عِنْدَهُ بِأَنَّهُ : مَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ , وَيُبَاحُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْحَنَابِلَةُ . فَخَرَجَ بِقَيْدِ الْمَنْفَعَةِ , مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ أَصْلًا : كَالْحَشَرَاتِ , وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ . وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ . وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلضَّرُورَةِ , كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ .(1/275)
9 - فَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ : بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ , فَإِنَّهُ فَاسِدٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . وَالْمَعْنَى فِيهِ هُوَ نَجَاسَةُ عَيْنِهِ , وَيُلْحَقُ بِهِمَا بَاقِي نَجِسِ الْعَيْنِ , وَكَذَا كُلُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ ذَاتِيَّةٌ وَلَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ . وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمُ : { إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } . وَالْحَنَفِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بِثَمَنٍ أَوْ بِدَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ , فَهُوَ بَاطِلٌ . وَبَيْنَ بَيْعِهَا بِأَعْيَانٍ أَوْ عُرُوضٍ , فَإِنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي الْخَمْرِ , وَيَفْسُدُ فِيمَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْعُرُوضِ وَالْأَعْيَانِ . وَوَجْهُ الْفَرْقِ : أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ , وَلَيْسَتْ الْخَمْرُ وَنَحْوُهَا مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ , فَبَطَلَ الْبَيْعُ فِيهَا , فَكَذَا يَبْطُلُ فِي ثَمَنِهَا . أَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا , فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ , مَقْصُودٍ بِالتَّمَلُّكِ , وَلَكِنْ فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ , فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ دُونَ الْخَمْرِ الْمُسَمَّى . وَكَذَلِكَ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَيْعِ الْمَذْكُورَاتِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَبَيْنَ الذِّمِّيِّ . وَفِي هَذَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : وَلَا يَنْعَقِدُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِ , لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ .
فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ , فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ تَبَايُعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِمَا يَلِي :(1/276)
أ - أَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا , فَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ الِانْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا لَهُمْ , كَالْخَلِّ وَكَالشَّاةِ لَنَا , فَكَانَ مَالًا فِي حَقِّهِمْ , فَيَجُوزُ بَيْعُهُ . وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُشَّارِهِ بِالشَّامِ : أَنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا . وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْخَمْرِ مِنْهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِتَوْلِيَتِهِمْ الْبَيْعَ .
ب - وَعَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا : حُرْمَةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ , لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ , وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا , فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ , لَكِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ بَيْعِهَا , لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا , ويَتَمَوَّلُونَهَا , وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ . فَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ - رحمه الله - مُعَلِّقًا عَلَى عِبَارَةِ الْكَاسَانِيِّ : وَظَاهِرُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ , وَلَوْ بِيعَتْ بِالثَّمَنِ .
10 - وَمِنْ أَمْثِلَةِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , الْمَيْتَةُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ حَتْفَ أَنْفِهَا , بَلْ مَاتَتْ بِالْخَنْقِ وَنَحْوِهِ , فَإِنَّهَا مَالٌ عِنْدَ الذِّمِّيِّ كَالْخَمْرِ . وَسَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهَا فِي شَرْطِ الْمَالِيَّةِ .
مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ الْبَيْعِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3352)(1/277)
147 - وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ حُكْمِ بَيْعِ الْمُصْحَفِ , أَشْيَاءَ : - الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ , الَّتِي نُقِشَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ لِلْحَاجَةِ . - شِرَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدُّورَ , وَقَدْ كُتِبَ فِي جُدْرَانِهَا أَوْ سُقُوفِهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى , فَيَكُونُ مُغْتَفَرًا لِلْمُسَامَحَةِ بِهِ غَالِبًا , إذْ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِهِ الْقُرْآنِيَّةُ . - وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ - كَابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ - التَّمِيمَةَ لِمَنْ يُرْجَى إسْلَامُهُ , وَكَذَا الرِّسَالَةُ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم . - وَكَذَا اسْتَثْنَوْا الثَّوْبَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ , لِعَدَمِ قَصْدِ الْقُرْآنِيَّةِ بِمَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ , إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْغَالِبُ فِيمَا يُكْتَبُ عَلَى الثِّيَابِ التَّبَرُّكُ بِلَا لُبْسٍ , فَأَشْبَهَ التَّمَائِمَ , عَلَى أَنَّ فِي مُلَابَسَتِهِ لِبَدَنِ الْكَافِرِ امْتِهَانًا لَهُ , بِخِلَافِ مَا يُكْتَبُ عَلَى السُّقُوفِ . وَاَلَّذِي يَأْمُرُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْكَافِرِ لِلْمُصْحَفِ , هُوَ الْحَاكِمُ لَا آحَادُ النَّاسِ , وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ , كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3585)(1/278)
6 - الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَالِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ فَقَالَ : وَسَأَلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ , وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً , وَأَطِلْ حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً . وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا - مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ - عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ , وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً , وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ , وَلِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَ الطَّمَعُ , لَا خُبْثُ الِاعْتِقَادِ , وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ , وَبِهِ أُمِرْنَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ { حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ , فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى قُرَيْشٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُوكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ , فَأَرَادَ(1/279)
عُمَرُ رضي الله عنه قَتْلَهُ , فَقَالَ الرَّسُولُ لِعُمَرَ : مَهْلًا يَا عُمَرُ , فَلَعَلَّ اللَّهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْلِ مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ , وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْلُ بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا , وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ , فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتَلَهُمْ , وَفِيهِ نَزَلَ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ , وَلَا يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ , لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا . أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ , وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ , إلَّا أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ(1/280)
إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبِ الْأَمَانِ قَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ : آمَنَّاك إنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَوْ آمَنَّاك عَلَى أَنَّك إنْ أَخْبَرْت أَهْلَ الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا أَمَان لَك - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ , لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ , فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلَّا يَكُونَ عَيْنًا , فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لَا أَمَانَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ . وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْأُسَرَاءِ , إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ . فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا , لِأَنَّهَا قَصَدَتْ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , كَمَا إذَا قَاتَلَتْ , إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى . وَإِنْ وَجَدُوا غُلَامًا لَمْ يَبْلُغْ , بِهَذِهِ الصِّفَةِ , فَإِنَّهُ يُجْعَلُ فَيْئًا وَلَا يُقْتَلُ , لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ , فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ بِهَا , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ . وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ , بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ إذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا . وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ(1/281)
الْعَقْلِ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا . وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ , وَقَالَ : الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ , فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ , لِأَنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ , فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْلِ . فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ , لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ , وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْلِ , وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إلَّا بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ , أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ , وَيُقْبَلُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ , لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا , وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ . وَإِنْ وَجَدَ الْإِمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ , إلَى مَلَكِ أَهْلِ الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَحْبِسُهُ , وَلَا يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ , لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ , وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ , فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُحْتَمَلِ , وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ : فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ , وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمًا(1/282)
وَاحِدًا , لِأَنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى فَهُوَ أَوْلَى .
7 - مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَلُ , وَقَالَ سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ : يُقْتَلُ وَلَا يُسْتَتَابُ وَلَا دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ . وَقِيلَ : يُجْلَدُ نَكَالًا وَيُطَالُ حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ , وَقِيلَ : يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ , وَقِيلَ : إلَّا أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ . وَقِيلَ : يُقْتَلُ إنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ , وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّلَ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } مَا يَأْتِي : مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُ عَدَدُهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ , إذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ , كَمَا فَعَلَ حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنْ الدِّينِ . وَإِذَا قُلْنَا : لَا يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَلْ يُقْتَلُ بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ , فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ : يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ . وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ : إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِلَ لِأَنَّهُ جَاسُوسٌ . وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ الْجَاسُوسُ - وَهُوَ صَحِيحٌ - لِإِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ , وَلَعَلَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ(1/283)
إنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لِأَنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّلِ فِعْلِهِ . فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا , فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ , وَقَالَ أَصْبَغُ : الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَلُ , وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إلَّا إنْ تَظَاهَرَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَيُقْتَلَانِ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَلَ , فَصَاحَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أُقْتَلُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَخَلَّى سَبِيلَهُ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إلَى إيمَانِهِ , مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ . }
8 - وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ . وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ ( أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الْإِسْلَامِ ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ , وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الْأَمَانِ ذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ , وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ .(1/284)
9 - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا : تَجَسُّسٌ أَوْ آوَى جَاسُوسًا , لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَلُ عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ , أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : إنَّهُ يُقْتَلُ . وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ . وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَلُ .
تَحْقِيرٌ (1)
1 - مِنْ مَعَانِي التَّحْقِيرِ فِي اللُّغَةِ : الْإِذْلَالُ وَالِامْتِهَانُ وَالتَّصْغِيرُ . وَهُوَ مَصْدَرُ حَقَّرَ , وَالْمُحَقَّرَاتُ : الصَّغَائِرُ . وَيُقَالُ : هَذَا الْأَمْرُ مَحْقَرَةٌ بِك : أَيْ حَقَارَةٌ . وَالْحَقِيرُ : الصَّغِيرُ الذَّلِيلُ . تَقُولُ : حَقَّرَ حَقَارَةً , وَحَقَّرَهُ وَاحْتَقَرَهُ وَاسْتَحْقَرَهُ : إذَا اسْتَصْغَرَهُ وَرَآهُ حَقِيرًا . وَحَقَّرَهُ : صَيَّرَهُ حَقِيرًا , أَوْ نَسَبَهُ إلَى الْحَقَارَةِ . وَحَقَّرَ الشَّيْءَ حَقَارَةً : هَانَ قَدْرُهُ فَلَا يَعْبَأُ بِهِ , فَهُوَ حَقِيرٌ . وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :
لِلتَّحْقِيرِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3666)(1/285)
2 - فَتَارَةً يَكُونُ حَرَامًا مَنْهِيًّا عَنْهُ : كَمَا فِي تَحْقِيرِ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ اسْتِخْفَافًا بِهِ وَسُخْرِيَةً مِنْهُ وَامْتِهَانًا لِكَرَامَتِهِ . وَفِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ , وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ , وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } وَنَحْوُهَا مِنْ الْآيَاتِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا , وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ , وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ , لَا يَظْلِمْهُ وَلَا يَخْذُلْهُ وَلَا يُحَقِّرْهُ التَّقْوَى هَاهُنَا . وَيُشِيرُ إلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ . كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } . وَفِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ . فَقَالَ رَجُلٌ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً . قَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ . الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } وَفِي رِوَايَةٍ { وَغَمْصُ النَّاسِ } , وَبَطَرُ الْحَقِّ : هُوَ دَفْعُهُ وَإِبْطَالُهُ , وَالْغَمْطُ وَالْغَمْصُ(1/286)
مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ , وَهُوَ : الِاحْتِقَارُ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } قِيلَ مَعْنَاهُ : مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ أَوْ سَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ : السُّخْرِيَةُ : الِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَوْمَ يُضْحَكُ مِنْهُ , وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ , أَوْ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِهِ إذَا تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلِطَ , أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ , أَوْ قَبِيحِ صُورَتِهِ . فَمَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ التَّحْقِيرِ مِمَّا هُوَ مَمْنُوعٌ كَانَ قَدْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا يُعَزَّرُ عَلَيْهِ شَرْعًا تَأْدِيبًا لَهُ . وَهَذَا التَّعْزِيرُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ , وَفْقَ مَا يَرَاهُ فِي حُدُودِ الْمَصْلَحَةِ وَطِبْقًا لِلشَّرْعِ , كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ ( تَعْزِيرٌ ) , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ , وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ , فَلِكُلٍّ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْهُ . وَهَذَا إنْ قُصِدَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ التَّحْقِيرُ . أَمَّا إنْ قُصِدَ التَّعْلِيمُ أَوْ التَّنْبِيهُ عَلَى الْخَطَأِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْقِيرًا - فَلَا بَأْسَ بِهِ , فَيُعْرَفُ قَصْدُهُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ .(1/287)
3 - هَذَا وَقَدْ يَصِلُ التَّحْقِيرُ الْمُحَرَّمُ إلَى أَنْ يَكُونَ رِدَّةً , وَذَاكَ إذَا حَقَّرَ شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , كَتَحْقِيرِ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ وَالْمَسْجِدِ وَالْمُصْحَفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } , وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ أَيْضًا : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } . وَنُقِلَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ لِمَالِكٍ : أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَزْدَرِي الصَّلَاةَ , وَرُبَّمَا ازْدَرَى الْمُصَلِّينَ وَشَهِدَ عَلَيْهِ مَلَأٌ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ , مِنْهُمْ مَنْ زَكَّى وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُزَكِّ . فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الِازْدِرَاءِ بِالْمُصَلِّينَ لِقِلَّةِ اعْتِقَادِهِ فِيهِمْ فَهُوَ مِنْ سِبَابِ الْمُسْلِمِ , فَيَلْزَمُهُ الْأَدَبُ عَلَى قَدْرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ . وَمَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى ازْدِرَاءِ الْعِبَادَةِ فَالْأَصْوَبُ أَنَّهُ رِدَّةٌ , لِإِظْهَارِهِ إيَّاهُ وَشُهْرَتِهِ بِهِ , لَا زَنْدَقَةٌ , وَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ .(1/288)
4 - وَقَدْ يَكُونُ التَّحْقِيرُ وَاجِبًا : كَمَا هُوَ الْحَالُ فِيمَنْ فُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . لقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَيْ ذَلِيلُونَ حَقِيرُونَ مُهَانُونَ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّغَارُ عِنْدَ إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ , وَجِزْيَةٌ ) .
تَحَوُّلُ الْمُسْتَأْمَنِ إلَى ذِمِّيٍّ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3732) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13737)(1/289)
29 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) إلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ سَنَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِذَا أَقَامَ فِيهَا سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَيَصِيرُ بَعْدَهَا ذِمِّيًّا . وَظَاهِرُ الْمُتُونِ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ : إنْ أَقَمْت سَنَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَضَعْنَا عَلَيْك الْجِزْيَةَ , شَرْطٌ لِصَيْرُورَتِهِ ذِمِّيًّا , فَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ سَنَةً , أَوْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لَهُ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا . وَكَذَلِكَ يَتَحَوَّلُ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى ذِمِّيٍّ بِالتَّبَعِيَّةِ : كَمَا لَوْ دَخَلَ مَعَ امْرَأَتِهِ , وَمَعَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ , فَصَارَ ذِمِّيًّا , فَالصِّغَارُ تَبَعٌ لَهُ بِخِلَافِ الْكِبَارِ . وَتَتَرَتَّبُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُسْتَأْمَنِ ذِمِّيًّا أَحْكَامُ عِدَّةٍ , يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إلَى مُصْطَلَحَيْ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ , وَمُسْتَأْمَنٌ ) .
تَحَوُّلُ الذِّمِّيِّ إلَى حَرْبِيٍّ (1)
31 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الذِّمِّيَّ يَتَحَوَّلُ إلَى حَرْبِيٍّ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُخْتَارًا طَائِعًا وَالْإِقَامَةِ فِيهَا , أَوْ بِنَقْضِ عَهْدِ ذِمَّتِهِ , فَيَحِلُّ دَمُهُ وَمَالُهُ . وَفِي مُحَارَبَتِهِ جَوَازًا أَوْ وُجُوبًا - بَعْدَ بُلُوغِ مَأْمَنِهِ - خِلَافٌ بَيْنَهُمْ , وَكَذَلِكَ فِيمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( أَهْلُ الْحَرْبِ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
تَشَبُّهٌ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 3732)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4154)(1/290)
1 - التَّشَبُّهُ لُغَةً : مَصْدَرُ تَشَبَّهَ , يُقَالُ : تَشَبَّهَ فُلَانٌ : بِفُلَانٍ إذَا تَكَلَّفَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ : الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهُمَا فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي , وَمِنْهُ : أَشْبَهَ الْوَلَدُ أَبَاهُ : إذَا شَارَكَهُ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
2 - مِنْهَا : الِاتِّبَاعُ وَالتَّأَسِّي وَالتَّقْلِيدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهَا تَحْتَ عِنْوَانٍ : ( اتِّبَاعٌ ) .
3 - وَمِنْهَا : الْمُوَافَقَةُ , وَهِيَ : مُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ , سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْآخَرِ أَمْ لَا لِأَجْلِهِ . فَالْمُوَافَقَةُ أَعَمُّ مِنْ التَّشَبُّهِ . الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّشَبُّهِ :
أَوَّلًا - التَّشَبُّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ :(1/291)
4 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ , وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ , وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى : أَنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ - الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ بِهِ يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ - يُحْكَمُ بِكُفْرِ فَاعِلِهِ ظَاهِرًا , أَيْ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا , فَمَنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ يَكْفُرُ , إلَّا إذَا فَعَلَهُ لِضَرُورَةِ الْإِكْرَاهِ أَوْ لِدَفْعِ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ . وَكَذَا إذَا لَبِسَ زُنَّارَ النَّصَارَى إلَّا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ . أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } لِأَنَّ اللِّبَاسَ الْخَاصَّ بِالْكُفَّارِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ , وَلَا يَلْبَسُهُ إلَّا مَنْ الْتَزَمَ الْكُفْرَ , وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعَلَامَةِ وَالْحُكْمُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَرَّرٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ شَدَّ الزُّنَّارَ لَا لِاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ , بَلْ لِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الْأَسَارَى مَثَلًا لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الشَّاطِّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - أَنَّ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكَافِرِ فِي الْمَلْبُوسِ الْخَاصِّ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ كَافِرًا , إلَّا أَنْ يَعْتَقِدَ مُعْتَقَدَهُمْ ; لِأَنَّهُ مُوَحِّدٌ بِلِسَانِهِ مُصَدِّقٌ بِجِنَانِهِ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله : لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ , وَالدُّخُولُ بِالْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ , وَهُمَا قَائِمَانِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ(1/292)
التَّشَبُّهِ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الَّذِي هُوَ شِعَارٌ لَهُمْ . قَالَ الْبُهُوتِيُّ : إنْ تَزَيَّا مُسْلِمٌ بِمَا صَارَ شِعَارًا لِأَهْلِ ذِمَّةٍ , أَوْ عَلَّقَ صَلِيبًا بِصَدْرِهِ حَرُمَ , وَلَمْ يَكْفُرْ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي . وَيَرَى النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَبِسَ الزُّنَّارَ وَنَحْوَهُ لَا يَكْفُرُ إذَا لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ .
أَحْوَالُ تَحْرِيمِ التَّشَبُّهِ :(1/293)
وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ كُفْرَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْكُفَّارِ فِي اللِّبَاسِ الْخَاصِّ بِهِمْ بِقُيُودٍ مِنْهَا : 5 - أَنْ يَفْعَلَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , قَالَ أَحْمَدُ الرَّمْلِيُّ : كَوْنُ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ رِدَّةً مَحَلُّهُ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . أَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ رِدَّةً ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ , أَوْ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمَ بِدَارِ حَرْبٍ أَوْ دَارِ كُفْرٍ غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْمُخَالَفَةِ لَهُمْ ( لِلْكُفَّارِ ) فِي الْهَدْيِ الظَّاهِرِ ; لِمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ بَلْ قَدْ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَوْ يَجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُشَارِكَهُمْ أَحْيَانًا فِي هَدْيِهِمْ الظَّاهِرِ , إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ , مِنْ دَعْوَتِهِمْ إلَى الدِّينِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى بَاطِنِ أُمُورِهِمْ لِإِخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ , أَوْ دَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْحَسَنَةِ . فَأَمَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْهِجْرَةِ الَّتِي أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا دِينَهُ , وَجَعَلَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِيهَا الصَّغَارَ وَالْجِزْيَةَ فَفِيهَا شُرِعَتْ الْمُخَالَفَةُ .(1/294)
6 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ , فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ لَا يَكْفُرُ , فَمَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِتَخْلِيصِ الْأَسْرَى , أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَدِيعَةً فِي الْحَرْبِ وَطَلِيعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَكْفُرُ . وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ عَلَى رَأْسِهِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ لَا يَكْفُرُ .
7 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْكَافِرِ , كَبُرْنِيطَةِ النَّصْرَانِيِّ وَطُرْطُورِ الْيَهُودِيِّ . وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِتَحَقُّقِ الرِّدَّةِ بِجَانِبِ ذَلِكَ : أَنْ يَكُونَ الْمُتَشَبِّهُ قَدْ سَعَى بِذَلِكَ لِلْكَنِيسَةِ وَنَحْوِهَا .
8 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ اللِّبَاسُ الْمُعَيَّنُ شِعَارًا لِلْكُفَّارِ , وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ , فَقَالَ : كَأَنَّهُمْ يَهُودُ خَيْبَرَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الِاسْتِدْلَال بِقِصَّةِ الْيَهُودِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ الطَّيَالِسَةُ مِنْ شِعَارِهِمْ , وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ , فَصَارَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْمُبَاحِ .
9 - أَنْ يَكُونَ التَّشَبُّهُ مَيْلًا لِلْكُفْرِ , فَمَنْ تَشَبَّهَ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ وَالسُّخْرِيَةِ لَمْ يَرْتَدَّ , بَلْ يَكُونُ فَاسِقًا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ , وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ .(1/295)
10 - هَذَا , وَالتَّشَبُّهُ فِي غَيْرِ الْمَذْمُومِ وَفِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّشَبُّهُ لَا بَأْسَ بِهِ . قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ : إنَّ التَّشَبُّهَ ( بِأَهْلِ الْكِتَابِ ) لَا يُكْرَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ , بَلْ فِي الْمَذْمُومِ وَفِيمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّشَبُّهُ . قَالَ هِشَامٌ : رَأَيْت أَبَا يُوسُفَ لَابِسًا نَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ بِمَسَامِيرَ فَقُلْت أَتَرَى بِهَذَا الْحَدِيدِ بَأْسًا ؟ قَالَ : لَا , قُلْت : سُفْيَانُ وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ كَرِهَا ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالرُّهْبَانِ , فَقَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَهَا شَعْرٌ وَإِنَّهَا مِنْ لِبَاسِ الرُّهْبَانِ } . فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ صُورَةَ الْمُشَابَهَةِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ لَا يَضُرُّ , فَإِنَّ الْأَرْضَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ فِيهَا إلَّا بِهَذَا النَّوْعِ . وَلِلتَّفْصِيلِ ر : ( رِدَّةٌ , كُفْرٌ ) .
سَادِسًا : تَشَبُّهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ :(1/296)
18 - يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِإِظْهَارِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا , وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ . وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه مَرَّ عَلَى رِجَالٍ رُكُوبٍ ذَوِي هَيْئَةٍ , فَظَنَّهُمْ مُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ , فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : أَصْلَحَك اللَّهُ تَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ : نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ . فَلَمَّا أَتَى مَنْزِلَهُ أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ لَا يَبْقَى نَصْرَانِيٌّ إلَّا عَقَدَ نَاصِيَتَهُ وَرَكِبَ الْإِكَافَ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ , فَيَكُونُ كَالْإِجْمَاعِ . وَلِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى إظْهَارِ هَذِهِ الشَّعَائِرِ عِنْدَ الِالْتِقَاءِ , وَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ إلَّا بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْعَلَامَةِ . هَذَا , وَإِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَغَارٌ لَا إعْزَازٌ ; لِأَنَّ إذْلَالَهُمْ وَاجِبٌ بِغَيْرِ أَذًى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ بِلَا سَبَبٍ يَكُونُ مِنْهُ , بَلْ الْمُرَادُ اتِّصَافُهُ بِهَيْئَةٍ خَاصَّةٍ . وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَمَيَّزَ نِسَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ , وَتُجْعَلُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَةٌ كَيْ لَا يُعَامَلُوا بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ شُرِعَ لِيَكُونَ وَسِيلَةً لَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . وَتَمْكِينُهُمْ مِنْ(1/297)
الْمَقَامِ أَبْلَغُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يُمْنَعُ تَشَبُّهُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ تُنْظَرُ أَبْوَابُ الْجِزْيَةِ وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
إتْلَافُ الصَّلِيبِ (1)
13 - مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا لِمُسْلِمٍ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ اتِّفَاقًا . وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَإِنْ أَظْهَرُوهُ كَانَتْ إزَالَتُهُ وَاجِبَةً , وَلَا ضَمَانَ أَيْضًا . وَإِنْ كَانَ اقْتِنَاؤُهُمْ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ , كَاَلَّذِي يَجْعَلُونَهُ فِي دَاخِلِ كَنَائِسِهِمْ أَوْ بُيُوتِهِمْ , يُسِرُّونَهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُظْهِرُونَهُ , فَإِنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ وَجَبَ رَدُّهُ اتِّفَاقًا . أَمَّا إنْ أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ , فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِذَلِكَ : فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : فِيهِ الضَّمَانُ , بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ضَمَانِ الْمُسْلِمِ خَمْرَ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ كَتَقَوُّمِ الْخَلِّ فِي حَقِّنَا . وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ : لَا يَضْمَنُ الْمُسْلِمُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لِمُسْلِمٍ وَلَا لِذِمِّيٍّ , وَهَكَذَا إذَا أَتْلَفَهُمَا ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ ; لِأَنَّهُ سَقَطَ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَذَا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لَنَا فِي الْأَحْكَامِ , فَلَا يَجِبُ بِإِتْلَافِهِمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ , وَهُوَ الضَّمَانُ , فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الصَّلِيبِ ; وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ , فَالتَّحْرِيمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ , لَكِنَّا
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4246)(1/298)
أُمِرْنَا بِتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ ذَلِكَ , وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ نَظَرًا إلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ . وَفِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ : إنَّ الْأَصْنَامَ وَالصُّلْبَانَ لَا يَجِبُ فِي إبْطَالِهَا شَيْءٌ , لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الِاسْتِعْمَالِ , وَلَا حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا ( أَيْ لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً ) وَإِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهَا لَا تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ , بَلْ تُفْصَلُ لِتَعُودَ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ التَّأْلِيفِ , لِزَوَالِ الِاسْمِ بِذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تُكْسَرُ وَتُرَضَّضُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ صَنَمًا أَوْ صَلِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ . وَنَقَلَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ الْقَاضِي ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ الصَّلِيبَ إنْ كَانَ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَلَا يُضْمَنُ إذَا كُسِرَ , أَمَّا إذَا أُتْلِفَ فَيُضْمَنُ مَكْسُورًا . وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلِيبِ مِنْ الْخَشَبِ بِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَابِعَةٌ ; لِأَنَّهَا أَقَلُّ قِيمَةً , وَفِي الْخَشَبِ أَوْ الْحَجَرِ هِيَ الْأَصْلُ فَلَا يُضْمَنُ . فَعَلَيْهِ يُضْمَنُ الصَّلِيبُ الْمَسْتُورُ لِلذِّمِّيِّ إنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إذَا أَتْلَفَ بِمِثْلِهِ ذَهَبًا بِالْوَزْنِ , وَتُلْغَى صَنْعَتُهُ . قَالَ الْحَارِثِيُّ : وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالصُّلْبَانِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4247)(1/299)
14 - يَجُوزُ إقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى إبْقَاءِ صُلْبَانِهِمْ , وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوهَا , بَلْ تَكُونُ فِي كَنَائِسِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ الْخَاصَّةِ . وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ : إنَّ الْمُرَادَ بِكَنَائِسِهِمْ كَنَائِسُهُمْ الْقَدِيمَةُ الَّتِي أُقِرُّوا عَلَيْهَا . وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ " بسم الله الرحمن الرحيم . هَذَا كِتَابٌ لِعُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ : لِمَا قَدِمْتُمْ عَلَيْنَا سَأَلْنَاكُمْ الْأَمَانَ . إلَى أَنْ قَالُوا : وَشَرَطْنَا لَكُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُظْهِرَ صَلِيبًا وَلَا كِتَابًا ( أَيْ مِنْ كُتُبِ دِينِهِمْ ) فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أَسْوَاقِهِمْ , وَلَا نُظْهِرُ الصَّلِيبَ فِي كَنَائِسِنَا إلَخْ " وَقَوْلُهُمْ : " فِي كَنَائِسِنَا " الْمُرَادُ بِهِ خَارِجَهَا مِمَّا يَرَاهُ الْمُسْلِمُ . قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ التَّصْلِيبِ عَلَى أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَظَوَاهِرِ حِيطَانِهَا , وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ إذَا نَقَشُوا دَاخِلَهَا . وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ : أَنْ يُمْنَعَ نَصَارَى الشَّامِ أَنْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا , وَلَا يَرْفَعُوا صَلِيبَهُمْ فَوْقَ كَنَائِسِهِمْ , فَإِنْ قَدَرَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ سَلَبَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ . وَكَذَا لَوْ جَعَلُوا ذَلِكَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ الْخَاصَّةِ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ . وَيُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الصَّلِيبِ وَتَعْلِيقِهِ فِي رِقَابِهِمْ أَوْ أَيْدِيهِمْ , وَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ الْإِظْهَارِ , وَلَكِنْ يُؤَدَّبُ مِنْ فِعْلِهِ(1/300)
مِنْهُمْ . وَيُلَاحَظُونَ فِي مَوَاسِمِ أَعْيَادِهِمْ بِالذَّاتِ , إذْ قَدْ يُحَاوِلُونَ إظْهَارَ الصَّلِيبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ , لِمَا فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إظْهَارِهِ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَيُؤَدَّبُ مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ , وَيُكْسَرُ الصَّلِيبُ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ , وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ كَسَرَهُ .
الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4284)(1/301)
60 - يَجُوزُ الدُّخُولُ إلَى مَكَان يَعْلَمُ الدَّاخِلُ إلَيْهِ أَنَّ فِيهِ صُوَرًا مَنْصُوبَةً عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ , وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ , وَلَوْ دَخَلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ . هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ . قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ عَنْهُ , لِمَنْ سَأَلَهُ قَائِلًا : إنْ لَمْ يَرَ الصُّوَرَ إلَّا عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ . أَيَخْرُجُ ؟ قَالَ : لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا . إذَا رَأَى الصُّوَرَ وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ . يَعْنِي : وَلَا يَخْرُجُ . قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي , قَالَ : لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ , فَقَالَ : قَاتَلَهُمْ اللَّهُ , لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ } قَالُوا : وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ رضي الله عنه عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ , لِيَدْخُلُوهَا لِلْمَبِيتِ بِهَا , وَلِلْمَارَّةِ بِدَوَابِّهِمْ . وَذَكَرُوا قِصَّةَ عَلِيٍّ فِي دُخُولِهَا بِالْمُسْلِمِينَ وَنَظَرِهِ إلَى الصُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . قَالُوا : وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ { أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ } ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا تَحْرِيمَ دُخُولِهِ , كَمَا لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ , مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ .(1/302)
61 - وَمِثْلُ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَهُمْ , أَوْ غَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ . أَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَلَى مَا يَأْتِي . وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُبَيِّنُ حُكْمَ الدُّخُولِ إلَى مَكَان هِيَ فِيهِ .
62 - وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ , وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ - وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُولُ إلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ . قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله : إنْ رَأَى صُوَرًا فِي الْمَوْضِعِ ذَوَاتَ أَرْوَاحٍ لَمْ يَدْخُلْ الْمَنْزِلَ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرُ إنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لَا تُوطَأُ , فَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ : عَدَمُ تَحْرِيمِ الدُّخُولِ , بَلْ يُكْرَهُ . وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَالصَّيْدَلَانِيّ , وَالْإِمَامِ , وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ , وَالْإِسْنَوِيِّ . قَالُوا : وَهَذَا إنْ كَانَتْ الصُّوَرُ فِي مَحَلِّ الْجُلُوسِ , فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَمَرِّ أَوْ خَارِجَ بَابِ الْجُلُوسِ لَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ ; لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَارِجَةِ مِنْ الْمَنْزِلِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهَا فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ .
الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4288)(1/303)
69 - الْكَنَائِسُ وَالْمَعَابِدُ الَّتِي أُقِرَّتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالصُّلْحِ لَا يُتَعَرَّضُ لِمَا فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ مَا دَامَتْ فِي الدَّاخِلِ . وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَتَقَدَّمَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه دَخَلَ الْكَنِيسَةَ بِالْمُسْلِمِينَ , وَأَخَذَ يَتَفَرَّجُ عَلَى الصُّوَرِ . وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ , لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمَارَّةُ . وَلِذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ : لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ الْكَنِيسَةِ وَالْبِيَعَةِ , وَالصَّلَاةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ . وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ : يُكْرَهُ دُخُولُهَا لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ . وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ : يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْخُلَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ مُعَلَّقَةٌ .
تَعَلِّي الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي الْبِنَاءِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4477)(1/304)
9 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ : فِي أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ أَنْ تَعْلُوَ أَبْنِيَتُهُمْ عَلَى أَبْنِيَةِ جِيرَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ , لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : أَنَّهُ قَالَ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ . عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ ذَهَبَ : إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ التَّعَلِّي لِلْحِفْظِ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّعَلِّي فِي الْبِنَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ - بَلْ لِلتَّحَفُّظِ - فَلَا يُمْنَعُونَ .
صِفَةُ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4572)(1/305)
6 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِي الْخُصُومَاتِ بِزِيَادَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ , عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْجَوَازِ . كَأَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ مَثَلًا : بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه , { أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ } , وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ , وَيَتَجَاسَرُ بِدُونِهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِهَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى : أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ كَالْجَامِعِ , وَأَدَاءُ الْقَسَمِ بِالْقِيَامِ , وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ صلى الله عليه وسلم إنْ وَقَعَ الْيَمِينُ فِي الْمَدِينَةِ , وَلَا يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُمْ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ , فَيَجْرِي بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا فِي الْجَامِعِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ , وَفِيهِمَا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ . وَهَلْ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَسَمِ إلَّا بِهِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ , أَظْهَرُهُمَا : الْأَوَّلُ , وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ : وَاجِبٌ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى : أَنَّهُ لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ , لَا بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ تَعْظِيمُ(1/306)
الْمُقْسَمِ بِهِ , وَهُوَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ , وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَوَّزُوا التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً , وَتُغَلَّظُ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
7 - وَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ , أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْخَصْمُ ؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي , وَلَا دَخْلَ لِلْخَصْمِ فِي التَّغْلِيظِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : إنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ هُوَ حَقٌّ لِلْخَصْمِ , فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ غُلِّظَتْ وُجُوبًا , فَإِنْ أَبَى مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِمَّا طَلَبَهُ الْمُحَلِّفُ مِنْ التَّغْلِيظِ عُدَّ نَاكِلًا . وَانْظُرْ لِمَزِيدٍ مِنْ التَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ ( أَيْمَانٌ ) .
تَقْبِيلٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4645)(1/307)
1 - التَّقْبِيلُ فِي اللُّغَةِ : مَصْدَرُ قَبَّلَ , وَالِاسْمُ مِنْهُ الْقُبْلَةُ وَهِيَ اللَّثْمَةُ , وَالْجَمْعُ الْقُبَلُ . يُقَالُ قَبَّلَهَا تَقْبِيلًا أَيْ لَثَمَهَا وَتَقَبَّلْتُ الْعَمَلَ مِنْ صَاحِبِهِ إذَا الْتَزَمْته بِعَقْدٍ . وَالْقَبَالَةُ : اسْمُ الْمَكْتُوبُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عَمَلٍ وَدَيْنٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : كُلُّ مَنْ تَقَبَّلَ بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا , فَالْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ هُوَ الْقَبَالَةُ " بِالْفَتْحِ " وَالْعَمَلُ قِبَالَةٌ " بِالْكَسْرِ " . وَتَقْبِيلُ الْخَرَاجِ : هُوَ أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ , صُقْعًا , أَوْ بَلْدَةً , أَوْ قَرْيَةً , إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ , مُقَاطَعَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ , يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَارِجِ أَرْضِهَا , أَوْ جِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ . وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي التَّقْبِيلِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ " خَرَاجٌ , وَقَبَالَةٌ " . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي .
أَقْسَامُ التَّقْبِيلِ : 2 - ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّقْبِيلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : قُبْلَةُ الْمَوَدَّةِ لِلْوَلَدِ عَلَى الْخَدِّ , وَقُبْلَةُ الرَّحْمَةِ لِوَالِدَيْهِ عَلَى الرَّأْسِ , وَقُبْلَةُ الشَّفَقَةِ لِأَخِيهِ عَلَى الْجَبْهَةِ , وَقُبْلَةُ الشَّهْوَةِ لِامْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ عَلَى الْفَمِ , وَقُبْلَةُ التَّحِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْيَدِ . وَزَادَ بَعْضُهُمْ قُبْلَةَ الدِّيَانَةِ لِلْحَجَرِ الْأَسْوَدِ . وَفِيمَا يَلِي أَحْكَامُ التَّقْبِيلِ بِأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ , وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ آثَارٍ :(1/308)
أَحْكَامُ التَّقْبِيلِ أَوَّلًا : التَّقْبِيلُ الْمَشْرُوعُ :
أ - تَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ :
3 - يُسَنُّ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ فِي حَالَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ يَقْدِرُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ , لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبَّلَ الْحَجَرَ ثُمَّ قَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّك حَجَرٌ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك } . فَإِنْ عَجَزَ عَنْ التَّقْبِيلِ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّلَهَا , وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ وَكَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ , وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ( الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِالْيَدِ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ } , وَلِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ } . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُقَبِّلَهُ لَمَسَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِعُودٍ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : طَوَافٌ , وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ " .
تَقَوُّمُ الْمُتْلَفَاتِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 4687)(1/309)
4 - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْمُتْلَفُ مُتَقَوِّمًا , فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَلَى الْمُسْلِمِ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُتْلِفُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا , لِسُقُوطِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ . ( ر : إتْلَافٌ ف 34 - 1 صلوات الله وسلامه عليه ) . أَمَّا لَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ عَلَى ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضَّمَانِ , وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّنَا أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَمَا يَدِينُونَ , وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَأَلَ عُمَّالَهُ : مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخُمُورِ ؟ فَقَالُوا : نُعَشِّرُهَا , فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا , وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا . فَلَوْلَا أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ وَبَيْعُهَا جَائِزٌ لَهُمْ لَمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ , فَإِذَا كَانَتْ مَالًا لَهُمْ وَجَبَ ضَمَانُهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ . وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانَا لِمُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ , لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَتِهِ لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ كَالْمَيْتَةِ , وَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُمَا , وَدَلِيلُ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ - فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ - { أَنَّ(1/310)
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : فَإِذَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّينَ لَا أَنَّ حَقَّهُمْ يَزِيدُ عَلَى حَقِّ الْمُسْلِمِينَ , وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَيَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالْإِسْلَامِ , إذَا الْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ , فَيَسْقُطُ تَقَوُّمُهُمَا فِي حَقِّهِمْ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( إتْلَافٌ , وَضَمَانٌ ) .
مَنْ شُرِعَ لَهُ التَّيْسِيرُ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5071)(1/311)
27 - التَّيْسِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ . أَمَّا الْكَافِرُ فَلَهُ التَّشْدِيدُ وَالتَّضْيِيقُ وَالتَّغْلِيظُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ بِاَللَّهِ وَجَحْدِهِ لِنِعْمَتِهِ وَحَقِّهِ ; وَلِرَفْضِهِ الدُّخُولَ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . وَلِذَلِكَ شُرِعَ قِتَالُ الْكُفَّارِ وَإِدْخَالُهُمْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ . فَإِنْ دَخَلَ الْكَافِرُ فِي الذِّمَّةِ وَتَرَكَ الْمُحَارَبَةَ , أَوْ دَخَلَ مُسْتَأْمَنًا , حَصَلَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّيْسِيرِ , كَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ , وَمَنْعِ ظُلْمِهِ فِي النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ , وَإِقْرَارِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ فِي دِينِهِ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) ( وَجِهَادٌ ) . وَأَمَّا الْفَاسِقُ وَالْمُعْتَدِي وَالظَّالِمُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ مِنْ التَّشْدِيدِ بِحَسَبِ فِسْقِهِ وَعُدْوَانِهِ وَظُلْمِهِ بِقَدْرِ الذَّنْبِ الَّذِي جَنَاهُ , وَلَهُ مِنْ التَّيْسِيرِ بِحَسَبِ إسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ . فَمِنْ التَّشْدِيدِ عَلَى الْفَاسِقِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي بِرَجْمِهِ حَتَّى الْمَوْتِ إنْ كَانَ مُحْصَنًا , وَهِيَ مِنْ أَعْسَرِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَأَشَدِّهَا , وَبِجِلْدِهِ مِائَةَ جَلْدَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا . وَمِنْهَا قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ , وَقَتْلُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ , أَوْ صَلْبُهُ , أَوْ تَقْطِيعُ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ , أَوْ نَفْيُهُ مِنْ(1/312)
الْأَرْضِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي الْحُدُودِ .
أ - جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ :
17 - الْجِزْيَةُ لُغَةً : اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاصْطِلَاحًا عِبَارَةٌ عَنْ وَظِيفَةٍ أَوْ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ الْكَافِرِ فِي كُلِّ عَامٍ مُقَابِلَ إقَامَتِهِ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ . أَمَّا الْإِنَابَةُ فِي أَدَائِهَا وَمِقْدَارُهَا وَمَتَى تَجِبُ وَعَلَى مَنْ تَجِبُ فَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ : ( جِزْيَةٌ ) .(1/313)
18 - وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ جِبَايَتِهَا فَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ صُوَرًا لِكَيْفِيَّةِ الصَّغَارِ مِنْهَا : الْوَارِدُ فِي الْآيَةِ , وَمِنْهَا أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَهُوَ قَائِمٌ , وَيَكُونُ الْقَابِضُ قَاعِدًا , وَتَكُونُ يَدُ الْقَابِضِ أَعْلَى مِنْ يَدِ الذِّمِّيِّ , وَيَقُولُ لَهُ الْقَابِضُ أَعْطِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ . وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ : إنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَفْسِيرُ الصَّغَارِ بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ , وَنَقَلَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ نَحْوَهُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فَقَدْ قَالَ : إنْ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ أَخَذَهَا بِأَحْمَالٍ وَلَمْ يُضَرَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمْ يَنَلْهُ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ . قَالُوا : وَأَشَدُّ الصَّغَارِ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ وَيُضْطَرَّ إلَى احْتِمَالِهِ . وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُعَذَّبُونَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ . فَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ : مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْبَاطِ بِالشَّامِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا شَأْنُهُمْ ؟ قَالُوا حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ , فَقَالَ هِشَامٌ : أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا } . وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِمَالٍ كَثِيرٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَحْسَبُهُ الْجِزْيَةَ فَقَالَ : إنِّي لَأَظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمْ النَّاسَ ؟ قَالُوا وَاَللَّهِ مَا أَخَذْنَا إلَّا(1/314)
عَفْوًا صَفْوًا قَالَ بِلَا سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى يَدِي وَلَا فِي سُلْطَانِي .
«ب - جباية الخراج»
19 - الخراج في اللّغة : اسم للكراء والغلّة ومنه قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم :
« الخراج بالضّمان » وهو عند الفقهاء ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدّى عنها لبيت المال.
، والأرض المختصّة بوضع الخراج عليها هي الّتي صولح عليها المشركون من أرضهم على أنّها لهم ولنا عليها الخراج.
وكذلك الأرض الّتي فتحت عنوة عند من يقول بوضع الخراج عليها.
فأمّا مقدار الخراج المأخوذ فينظر في مصطلح : « خراج » .
ج - جِبَايَةُ عُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
20 - الْعُشْرُ ضَرِيبَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ , تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَعُودُوا إلَيْهَا مِثْلُهَا عُشُورُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ التُّجَّارِ كَذَلِكَ إذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إلَيْنَا مُسْتَأْمِنِينَ .
جِزْيَةٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5295)(1/315)
1 - قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَالْجَمْعُ الْجِزَى ( بِالْكَسْرِ ) مِثْلُ لِحْيَةٍ وَلِحًى . وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَالِ الَّذِي يُعْقَدُ الذِّمَّةُ عَلَيْهِ لِلْكِتَابِيِّ . وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَتْ عَنْ قَتْلِهِ . وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ : الْجِزْيَةُ أَيْضًا خَرَاجُ الْأَرْضِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْجِزْيَةُ ( بِكَسْرِ الْجِيمِ ) جَمْعُهَا جِزًى ( بِالْكَسْرِ ) أَيْضًا كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ وَنَحْوِهِ , وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَاءُ إسْكَانِنَا إيَّاهُ فِي دَارِنَا , وَعِصْمَتِنَا دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِيَالَهُ . وَقِيلَ : هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي إذَا قَضَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } أَيْ لَا تَقْضِي . وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ : جَزَاءُ رُءُوسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَمْعُ جِزْيَةٍ وَهُوَ مُعَرَّبٌ : كَزَيْتٍ , وَهُوَ الْخَرَاجُ بِالْفَارِسِيَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ وُجْهَاتُ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْجِزْيَةِ اصْطِلَاحًا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي طَبِيعَتِهَا , وَفِي حُكْمِ فَرْضِهَا عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَرْضُهُمْ عَنْوَةً ( أَيْ قَهْرًا لَا صُلْحًا ) . فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا : " اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ جِزْيَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مُوجِبُهَا الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ وَفَتْحَ الْأَرْضِ عَنْوَةً , أَوْ عَقْدَ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْشَأُ بِالتَّرَاضِي " . وَعَرَّفَهَا الْحِصْنِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ(1/316)
بِأَنَّهَا : " الْمَالُ الْمَأْخُوذُ بِالتَّرَاضِي لِإِسْكَانِنَا إيَّاهُمْ فِي دِيَارِنَا , أَوْ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ , أَوْ لِكَفِّنَا عَنْ قِتَالِهِمْ " وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا : " مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ كُلَّ عَامٍ بَدَلًا عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا " . قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ : " تُطْلَقُ - أَيْ الْجِزْيَةُ - عَلَى الْمَالِ وَعَلَى الْعَقْدِ وَعَلَيْهِمَا مَعًا " .
هَذَا وَيُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْجِزْيَةِ عِدَّةَ مُصْطَلَحَاتٍ وَأَلْفَاظٍ مِنْهَا :
أ - ( خَرَاجُ الرَّأْسِ ) : 2 - قَالَ السَّرَخْسِيُّ : " إذَا جَعَلَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْكُفَّارِ أَهْلَ ذِمَّةٍ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ , وَعَلَى الْأَرَضِينَ بِقَدْرِ الِاحْتِمَالِ , أَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسٍ هَجَرَ } . وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إذْلَالًا وَصِغَارًا " .(1/317)
ب - ( الْجَالِيَةُ ) : 3 - الْجَالِيَةُ فِي اللُّغَةِ : مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْجَلَاءِ , فَيُقَالُ : جَلَوْت عَنْ الْبَلَدِ جَلَاءً إذَا خَرَجْت . وَتُطْلَقُ الْجَالِيَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ , وَمِنْهُ قِيلَ : لِأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْجَالِيَةُ , وَقَدْ لَزِمَهُمْ هَذَا الِاسْمُ أَيْنَمَا حَلُّوا , ثُمَّ لَزِمَ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكُلِّ بَلَدٍ , وَإِنْ لَمْ يَجْلُوا عَنْ أَوْطَانِهِمْ . ثُمَّ أُطْلِقَتْ " الْجَالِيَةُ " عَلَى الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَقِيلَ : اُسْتُعْمِلَ فُلَانٌ عَلَى الْجَالِيَةِ . أَيْ عَلَى جِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَجَمْعُ الْجَالِيَةِ الْجَوَالِي . وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَلْقَشَنْدِيُّ بِأَنَّهَا : " مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الْجِزْيَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى رِقَابِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ " . وَقَدْ اُسْتُخْدِمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ , وَفِي الْإِيصَالَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُعْطَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ مُنْذُ عَصْرِ الْمَمَالِيكِ . قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ : فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَتُعَرَّفُ فِي زَمَنِنَا بِالْجَوَالِي , فَإِنَّهَا تُسْتَخْرَجُ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا فِي غُرَّةِ السَّنَةِ , وَكَانَ يَتَحَصَّلُ مِنْهَا مَالٌ كَثِيرٌ فِيمَا مَضَى . قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فِي مُتَجَدِّدَاتِ الْحَوَادِثِ : الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ ارْتِفَاعُ الْجَوَالِي لِسَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ , وَأَمَّا فِي وَقْتِنَا هَذَا , فَإِنَّ الْجَوَالِيَ قَلَّتْ جِدًّا , لِكَثْرَةِ إظْهَارِ النَّصَارَى(1/318)
لِلْإِسْلَامِ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي مَرَّتْ بِهِمْ . وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : تُسَمَّى - أَيْ الْجِزْيَةُ - جَالِيَةً .
ج - ( مَالُ الْجَمَاجِمِ ) : 4 - الْجَمَاجِمُ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ : وَهِيَ عَظْمُ الرَّأْسِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الدِّمَاغِ , وَرُبَّمَا عُبِّرَ بِهَا عَنْ الْإِنْسَانِ , فَيُقَالُ : خُذْ مِنْ كُلِّ جُمْجُمَةٍ دِرْهَمًا , كَمَا يُقَالُ : خُذْ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمًا . وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْجِزْيَةِ مَالُ الْجَمَاجِمِ ; لِأَنَّهَا تُفْرَضُ عَلَى الرُّءُوسِ . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : " هُوَ أَوَّلُ مَنْ مَسَحَ السَّوَادَ وَأَرْضَ الْجَبَلِ , وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرَضِينَ , وَالْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ . وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ : وَيُسَمَّى - أَيُّ خَرَاجُ الرَّأْسِ - فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ مَالَ الْجَمَاجِمِ , وَهِيَ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ , وَهِيَ الرَّأْسُ . وَجَاءَ فِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ خَرَاجِ مِصْرَ : " أَوَّلُ مَنْ جَبَى خَرَاجَ مِصْرَ فِي الْإِسْلَامِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رضي الله عنه , فَكَانَتْ جِبَايَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ بِفَرِيضَةِ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ مِنْ كُلِّ رَجُلٍ , ثُمَّ جَبَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ . . . أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ . . وَهَذَا الَّذِي جَبَاهُ عَمْرٌو ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ مِنْ الْجَمَاجِمِ خَاصَّةً دُونَ الْخَرَاجِ .(1/319)
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْجِزْيَةِ ) : أ - الْغَنِيمَةُ : 5 - الْغَنِيمَةُ : اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ . وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا اُسْتُرِقُّوا فَالْغَنِيمَةُ مُبَايِنَةٌ لِلْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ , وَالْغَنِيمَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقِتَالِ .
ب - الْفَيْءُ : 6 - الْفَيْءُ : كُلُّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ قَبْلِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ أَوْ رِجْلٍ ( مُشَاةٍ ) - أَيْ بِغَيْرِ قِتَالٍ - " وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا انْجَلَوْا عَنْهُ : أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ . وَالثَّانِي : مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ : كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ وَالْعُشُورِ . فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ , فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنْ الْجِزْيَةِ .(1/320)
ج - الْخَرَاجُ : 7 - الْخَرَاجُ هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِ , وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيُصْرَفَانِ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَمِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ , أَمَّا الْخَرَاجُ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ , وَالْجِزْيَةُ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , أَمَّا الْخَرَاجُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ , وَيَبْقَى مَعَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ . د - ( الْعُشُورُ ) : 8 - الْعُشُورُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : عُشُورُ الزَّكَاةِ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ , وَالثَّانِي : مَا يُفْرَضُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي أَمْوَالِهِمْ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَأْخُوذِ عُشْرًا , أَوْ مُضَافًا إلَى الْعُشْرِ : كَنِصْفِ الْعُشْرِ . وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ , وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُشُورِ وَالْجِزْيَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَهِيَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الشَّخْصِ , وَالْعُشْرُ عَلَى الْمَالِ .
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ فِي الْإِسْلَامِ :(1/321)
9 - بَعْدَ أَنْ تَمَّ فَتْحُ مَكَّةَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ , وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَرَّتْ الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ الْكَرِيمَ بِمُجَاهَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَلِهَذَا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا الْمُسْلِمِينَ إلَى ذَلِكَ , وَنَدَبَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ إلَى قِتَالِهِمْ , فَأَوْعَبُوا مَعَهُ وَاجْتَمَعَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا , وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ . وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ يُرِيدُ الشَّامَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ , فَبَلَغَ تَبُوكَ وَنَزَلَ بِهَا , وَأَقَامَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا , يُبَايِعُ الْقَبَائِلَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ , وَيَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ إلَى أَنْ تَمَّ خُضُوعُ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ . قَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ : " نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ بِحَرْبِ الرُّومِ , فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِهَا(1/322)
غَزْوَةَ تَبُوكَ " . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ . بِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَّ تَشْرِيعُ الْجِزْيَةِ , وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ تَشْرِيعِهَا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ . فَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَذَهَبَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إلَى أَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ , حَيْثُ قَالَ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ : هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّلُ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَمَا تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَامَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ , أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ . هَذَا وَلَمْ يَأْخُذْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِزْيَةً مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ , فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ , وَمَجُوسِ هَجَرَ , ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ , وَأَذْرُحَ , وَأَهْلِ أَذْرَعَاتٍ وَغَيْرِهَا مِنْ الْقَبَائِلِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِي أَطْرَافِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ . رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إلَى ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى " . وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ : لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا - أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمَجُوسِ وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ(1/323)
الْكِتَابِ وَأَخَذَهَا مِنْ النَّصَارَى . وَيَقْصِدُ مَجُوسَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ مَجُوسَ هَجَرَ . رَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : إنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ , وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ , وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ } . وَبَعْدَ أَنَّ أَخَذَهَا صلى الله عليه وسلم مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَجُوسِ هَجَرَ أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْيَهُودِيَّةِ , وَالنَّصْرَانِيَّة فِي تَبُوكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ فَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ حَيْثُ { قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبُوكَ , وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بَالِغٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارٌ , وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِأَنْ يُحْفَظُوا وَيُمْنَعُوا . وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَذْرُحَ وَأَهْلِ الْجَرْبَاءِ وَأَهْلِ تَبَالَةَ وَجَرَشَ , وَأَهْلِ أَذْرَعَاتٍ وَأَهْلِ مَقْنَا , وَكَانَ أَهْلُهَا يَهُودًا , فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رُبُعِ غُزُولِهِمْ وَثِمَارِهِمْ وَمَا يَصْطَادُونَ عَلَى الْعَرُوكِ } . وَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ , حَيْثُ أَرْسَلَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَيْهِمْ . فَقَالَ مُعَاذٌ : " بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ(1/324)
دِينَارًا " . وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ { كِتَابَ الرَّسُولِ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ : مِنْ مُحَمَّدٍ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ . . وَأَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ , لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ , وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْتَنُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ } .
الْأَدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :(1/325)
10 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْجِزْيَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا . وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ مُجَاهَدَةَ الْكَافِرِينَ , وَمُقَاتَلَتَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ , وَيَدْخُلُوا الدِّينَ الْحَقَّ , أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَبَقَ بَعْضُهَا . وَمِنْهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ بُرَيْدَةَ . { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا . ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ . فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . اُغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا . وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ . فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ , ثُمَّ اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ . وَأَخْبِرْهُمْ(1/326)
أَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ , وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ , فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ , يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ , وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ , إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ , فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ , فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ } . فَقَوْلُهُ : { فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ } يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ وَإِقْرَارِهَا . 11 - أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ : كَحَدِيثِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ بَرَاءَةٍ , وَسُورَةُ بَرَاءَةٍ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ , قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " وَإِنَّمَا تُوَجَّهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ , وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ بَرَاءَةٍ , وَيُؤْمَرَ فِيهَا بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ فِي قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } , وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ , وَفِيهِ أَحَادِيثُ , مِنْهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله(1/327)
عنهما قَالَ : " كَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ : سَمِعْت هُشَيْمًا يَقُولُ : كَانَتْ تَبُوكُ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا فِي الْجُمْلَةِ , وَقَدْ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما وَسَائِرُ الْخُلَفَاءِ دُونَ إنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ إجْمَاعًا .
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ :
1 - الْجِزْيَةُ عَلَامَةُ خُضُوعٍ وَانْقِيَادٍ لِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ :(1/328)
12 - قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ : قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } قِيلَ : مَعْنَاهُ عَنْ ذُلٍّ وَعَنْ اعْتِرَافٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ , وَقِيلَ عَنْ يَدٍ : أَيْ عَنْ إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَتَرْكَ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ وَيَدٌ مِنْ الْمَعْرُوفِ جَزِيلَةٌ . وَقِيلَ : عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ قَهْرٍ وَذُلٍّ وَاسْتِسْلَامٍ كَمَا تَقُولُ : الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ أَيْ الْأَمْرُ النَّافِذُ لِفُلَانٍ . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَزِّيِّ : عَنْ يَدٍ قَالَ : نَقْدًا عَنْ ظَهْرِ يَدٍ لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : كُلُّ مَنْ أَطَاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فَأَعْطَاهُ عَنْ غَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِهِ , فَقَدْ أَعْطَاهَا عَنْ يَدٍ . . " . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى : { عَنْ يَدٍ } , فَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ : { عَنْ يَدٍ } إنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْمُعْطِي فَالْمُرَادُ : عَنْ يَدٍ مُؤَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ , يُقَالُ أَعْطَى بِيَدِهِ إذَا انْقَادَ وَأَصْحَبَ , أَوْ الْمُرَادُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ إلَى يَدٍ نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ وَلَا مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ أَحَدٍ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْآخِذِ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا , أَوْ الْمُرَادُ عَنْ إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ , فَإِنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلًا عَنْ أَرْوَاحِهِمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ . وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ الصَّغَارَ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ : سَمِعْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ(1/329)
عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالُوا بِمَا قَالُوا , لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ . فَإِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَقَدْ أَصَغَرُوا بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْهُ , فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ دَفْعُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْخُضُوعُ لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مُوجِبًا لِلصَّغَارِ .
2 - الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :
13 - قَالَ الْقَرَافِيُّ : " إنَّ قَاعِدَةَ الْجِزْيَةِ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ , وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ , بَيَانُهُ : أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قُتِلَ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْإِيمَانِ , وَبَابُ مَقَامِ سَعَادَةِ الْإِيمَانِ , وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ , وَغَضَبُ الدَّيَّانِ , فَشَرَعَ اللَّهُ الْجِزْيَةَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَزْمَانِ , لَا سِيَّمَا بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ " . وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَانِبَيْنِ : الْأَوَّلُ : الصَّغَارُ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عِنْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ . وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ : " فَكَمَا يَقْتَرِنُ بِالزَّكَاةِ الْمَدْحُ وَالْإِعْظَامُ وَالدُّعَاءُ لَهُ , فَيَقْتَرِنُ بِالْجِزْيَةِ الذُّلُّ وَالذَّمُّ , وَمَتَى أُخِذَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى أَنْ لَا يَثْبُتُوا عَلَى الْكُفْرِ لِمَا يَتَدَاخَلُهُمْ مِنْ الْأَنَفَةِ وَالْعَارِ , وَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ الْكُفْرِ فَهُوَ أَصْلَحُ فِي الْحِكْمَةِ وَأَوْلَى بِوَضْعِ الشَّرْعِ . وَالثَّانِي : مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى(1/330)
دَفْعِ الْجِزْيَةِ مِنْ إقَامَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَحَاسِنِهِ . وَقَالَ الْحَطَّابُ - فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ - : الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ أَنَّ الذُّلَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ .
3 - الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الِاسْتِئْصَالِ وَالِاضْطِهَادِ :
14 - الْجِزْيَةُ نِعْمَةٌ عُظْمَى تُسْدَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَهِيَ تَعْصِمُ أَرْوَاحَهُمْ وَتَمْنَعُ عَنْهُمْ الِاضْطِهَادَ , وَقَدْ أَدْرَكَ هَذِهِ النِّعْمَةَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْأَوَائِلُ , فَلَمَّا رَدَّ أَبُو عُبَيْدَةُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ تَوْفِيرَ الْحِمَايَةِ لَهُمْ قَالُوا لِوُلَاتِهِ : " وَاَللَّهِ لَوِلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ , أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ فَقَدْ أَقَرَّ أَهْلُ حِمْصَ بِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ خِلَافِهِمْ لَهُمْ فِي الدِّينِ , أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ أَبْنَاءِ دِينِهِمْ , وَذَلِكَ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ وَاضْطِهَادٍ وَعَدَمِ احْتِرَامٍ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ . فَإِذَا قَارَنَّا بَيْنَ الْجِزْيَةِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ صَغَارٍ , وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي يُمَارِسُهَا أَهْلُ الْعَقَائِدِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ , تَكُونُ الْجِزْيَةُ نِعْمَةً مُسْدَاةً إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَرَحْمَةً مُهْدَاةً إلَيْهِمْ , وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى , وَالِاعْتِرَافَ بِالْجَمِيلِ لِلْمُسْلِمِينَ .(1/331)
14 - الْجِزْيَةُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ .
15 - تُعْتَبَرُ الْجِزْيَةُ مَوْرِدًا مَالِيًّا مِنْ مَوَارِدِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ : كَالدِّفَاعِ عَنْ الْبِلَادِ , وَتَوْفِيرِ الْأَمْنِ فِي الْمُجْتَمَعِ , وَتَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ , وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ : كَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجُسُورِ وَالطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ : " فِي أَخْذِهَا مَعُونَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَرِزْقٌ حَلَالٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ " . وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : " بَلْ هِيَ نَوْعُ إذْلَالٍ لَهُمْ وَمَعُونَةٌ لَنَا " . وَجِبَايَةُ الْمَالِ لَيْسَتْ هِيَ الْهَدَفُ الْأَسَاسِيُّ مِنْ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ , وَإِنَّمَا الْهَدَفُ الْأَسَاسِيُّ هُوَ تَحْقِيقُ خُضُوعُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْعَيْشُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ لِيَطَّلِعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَعَدْلِ الْمُسْلِمِينَ , فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَاسِنُ بِمَثَابَةِ الْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ لَهُمْ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ الْكُفْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ , وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ , وَأَنَّ الْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى فَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ إلَّا بَعْدَ تَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ , وَهِيَ تُفَضِّلُ(1/332)
دُخُولَ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِعْفَاءَهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْكُفْرِ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهَا دَوْلَةُ هِدَايَةٍ لَا جِبَايَةٍ . جَاءَ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ : " كَتَبَ عُمَرُ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . . فَاعْرِضْ عَلَى صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة أَنْ يُعْطِيَك الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ تُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ سَبْيِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ دِينِ قَوْمِهِ , فَمَنْ اخْتَارَ مِنْهُمْ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ , وَمَنْ اخْتَارَ دِينَ قَوْمِهِ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ مَا يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ " ثُمَّ قَالَ : " فَجَمَعْنَا مَا فِي أَيْدِينَا مِنْ السَّبَايَا وَاجْتَمَعَتْ النَّصَارَى , فَجَعَلْنَا نَأْتِي بِالرَّجُلِ مِمَّنْ فِي أَيْدِينَا , ثُمَّ نُخَيِّرُهُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ , فَإِذَا اخْتَارَ الْإِسْلَامَ كَبَّرْنَا تَكْبِيرَةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ تَكْبِيرِنَا حِينَ نَفْتَحُ الْقَرْيَةَ , ثُمَّ نَحُوزُهُ إلَيْنَا . وَإِذَا اخْتَارَ النَّصْرَانِيَّةَ نَخَرَتْ النَّصَارَى - أَيْ أَخْرَجُوا أَصْوَاتًا مِنْ أُنُوفِهِمْ - ثُمَّ حَازُوهُ إلَيْهِمْ وَوَضَعْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ , وَجَزِعْنَا مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّهُ رَجُلٌ خَرَجَ مِنَّا إلَيْهِمْ . . فَكَانَ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى فَرَغْنَا مِنْهُمْ " .
أَنْوَاعُ الْجِزْيَةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5305)(1/333)
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ - إلَى أَقْسَامٍ , فَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ رِضَا الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَعَدَمِ رِضَاهُ - إلَى صُلْحِيَّةٍ وَعَنْوِيَّةٍ . وَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا : هَلْ تَكُونُ عَلَى الرُّءُوسِ أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا الذِّمِّيُّ ؟ إلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عُشْرِيَّةٍ . وَقَسَّمُوهَا - بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَوْصَافِهِمْ وَعَدَمِ النَّظَرِ إلَيْهَا - إلَى جِزْيَةِ أَشْخَاصٍ , وَجِزْيَةِ طَبَقَاتٍ أَوْ أَوْصَافٍ . أَوَّلًا - الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ وَالْعَنْوِيَّةُ :(1/334)
16 - صَرَّحَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ , وَلَا يَرِدُ هَذَا التَّقْسِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ . فَالْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ : هِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ . وَعَرَّفَهَا الْعَدَوِيُّ بِأَنَّهَا : مَا الْتَزَمَ كَافِرٌ قَبْلَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ أَدَاءَهُ مُقَابِلَ إبْقَائِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَيُمَثَّلُ لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ رضي الله عنه لِأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَأَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ : فَهِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً بِدُونِ رِضَاهُمْ , فَيَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَرْضِهِمْ . وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا : " مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لِأَمْنِهِ بِاسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ , وَيُمَثَّلُ لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا فَرَضَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَالْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ :
17 - تَفْتَرِقُ الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ عَنْ الْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَهِيَ :(1/335)
1 - الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ مِنْ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ طَلَبُوا بِاخْتِيَارِهِمْ وَرِضَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَالَحَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ . أَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ . 2 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ مُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ . أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ .
3 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ كَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالذُّكُورَةِ أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ , فَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَ بَلَدٍ عَلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ , وَعَنْ النِّسَاءِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ .
4 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْأَمْوَالِ , أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ عَلَى الْأَمْوَالِ كَمَا تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ , فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى الْمَاشِيَةِ وَأَرْبَاحِ الْمِهَنِ الْحُرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .(1/336)
5 - الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ تَفْصِيلًا وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إجْمَالًا , أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إجْمَالًا وَتَفْصِيلًا , فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ , كَالصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلِ نَجْرَانَ , فَقَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي السَّنَةِ .
ثَانِيًا - جِزْيَةُ الرُّءُوسِ , وَالْجِزْيَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ :(1/337)
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ - بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ - إلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عَلَى الْأَمْوَالِ . 18 - فَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ تُوضَعُ عَلَى الْأَشْخَاصِ : كَدِينَارٍ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ , وَمِنْ ذَلِكَ جِزْيَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ , حَيْثُ وَضَعَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا . وَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ : مَا يُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ : كَالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعُشْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ " مَقْنَا " عَلَى رُبُعِ عَرُوكِهِمْ وَغُزُولِهِمْ وَرُبُعِ ثِمَارِهِمْ . وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ رضي الله عنه لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ , أَوْ ضِعْفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ . فَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ - بِهَذَا الْوَصْفِ - تَدْخُلُ تَحْتَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي تَتِمُّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ . وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا إلَى مُصْطَلَحِ : ( عُشْرٌ ) .
( طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ ) :(1/338)
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ , هَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ , أَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ مُعَوَّضٍ , أَمْ أَنَّهَا صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ ؟ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ , وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنْ الذِّمِّيِّ إذَا بَعَثَ بِهَا مَعَ شَخْصٍ آخَرَ , بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ , فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { عَنْ يَدٍ } - يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِيهَا أَحَدًا . فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ بِحَالَةِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَزَاءِ , وَهُوَ إمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ , وَإِمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ . وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ , لِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ وَشَرٌّ , وَلَيْسَ طَاعَةً فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلْجَزَاءِ : وَهُوَ الْعُقُوبَةُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ بِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ جِنَايَةٌ , فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً , وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَهُمْ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ . وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ابْتِدَاءً هُوَ الْقَتْلُ عُقُوبَةً(1/339)
لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ , فَلَمَّا دُفِعَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْجِزْيَةَ , صَارَتْ الْجِزْيَةُ عُقُوبَةً بَدَلَ عُقُوبَةِ الْقَتْلِ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ , ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلًا عَنْهُ . فَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ : الْجِزْيَةُ تَجِبُ عِوَضًا عَنْ النُّصْرَةِ : وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نُصْرَةَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحِمَايَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النُّصْرَةَ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ رَعَايَا الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ . فَالْمُسْلِمُونَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ الْمُقَاتِلَةِ : إمَّا بِأَنْفُسِهِمْ , وَإِمَّا بِأَمْوَالِهِمْ , فَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَيُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . وَلَمَّا فَاتَتْ النُّصْرَةُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ إصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ , تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ النُّصْرَةُ بِالْمَالِ : وَهِيَ الْجِزْيَةُ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ : الْجِزْيَةُ تَجِبُ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ , كَمَا تَجِبُ عِوَضًا عَنْ سُكْنَى دَارِ(1/340)
الْإِسْلَامِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا . فَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنْ الْعِصْمَةِ وَحَقْنِ الدَّمِ تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ . وَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا مَا عَنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا , تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الْإِجَارَةِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ , فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى دِمَاءَ الْكُفَّارِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ , فَكَانَتْ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا عِوَضًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يُقَرُّونَ فِي دَارِنَا , وَلَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ إلَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ . فَتَكُونُ الْجِزْيَةُ بِذَلِكَ بَدَلًا عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ صِلَةٌ مَالِيَّةٌ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ , فَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ ; لِأَنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ جَزَاءٌ مُسْتَحَقٌّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى , فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ أَصْلًا كَالْحُدُودِ , وَلِذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ . وَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ .
عَقْدُ الذِّمَّةِ :(1/341)
20 - يَتَرَتَّبُ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ لُزُومُ الْجِزْيَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ . فَعَقْدُ الذِّمَّةِ هُوَ : الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دَارِنَا وَحِمَايَتِنَا لَهُمْ , وَالذَّبِّ عَنْهُمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ .
إجَابَةُ الْكَافِرِ إلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ :
21 - قَالَ النَّوَوِيُّ : إذَا طَلَبَتْ طَائِفَةٌ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَكَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِالْجِزْيَةِ وَجَبَتْ إجَابَتُهُمْ مَا لَمْ تُخَفْ غَائِلَتُهُمْ , أَيْ غَدْرُهُمْ بِتَمْكِينِهِمْ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْنَا , وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } . { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ فَمَتَى بَذَلُوهَا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ . وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { فَادْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } . وَفِي كِتَابِ ( الْبَيَانِ ) وَغَيْرِهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا إذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهَا مَصْلَحَةً كَمَا فِي الْهُدْنَةِ .
رُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ :(1/342)
22 - وَرُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ : إيجَابٌ وَقَبُولٌ : إيجَابٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَصِيغَتُهُ إمَّا لَفْظٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ لَفْظِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى أُسُسٍ مُعَيَّنَةٍ , وَإِمَّا فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ , كَأَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَيَمْكُثَ فِيهَا سَنَةً , فَيُطْلَبُ مِنْهُ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يُصْبِحَ ذِمِّيًّا . وَأَمَّا الْقَبُولُ فَيَكُونُ مِنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ , وَلِذَا لَوْ قَبِلَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ , وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ عَقْدِ الْأَمَانِ لَا عَقْدِ الذِّمَّةِ , فَيُمْنَعُ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنْ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ . 23 - وَيُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ التَّأْبِيدُ : فَإِنَّ وُقِّتَ الصُّلْحُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِعِصْمَةِ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ بَدِيلٌ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَالْإِسْلَامُ مُؤَبَّدٌ , فَكَذَا بَدِيلُهُ , وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَعَقْدُ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ لَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ مَا دَامَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مُلْتَزِمًا بِهِ , وَيَنْتَقِضُ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ اُخْتُلِفَ فِيهَا , وَلَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْتِزَامَ الْجِزْيَةِ بَاقٍ , وَيَسْتَطِيعُ الْحَاكِمُ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى أَدَائِهَا , وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمُخَالَفَاتِ فَهِيَ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا , وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ , وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ , فَمَا دُونَهُ أَوْلَى . فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَقْدَ(1/343)
يَنْتَقِضُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , أَوْ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , أَوْ سَبِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ الزِّنَا بِمُسْلِمَةٍ , أَوْ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ , وَإِطْلَاعِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَذَلِكَ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ بِقِتَالِهِمْ لَنَا أَوْ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ , أَوْ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ . أَمَّا لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ , أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ , أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ الْقُرْآنِ , أَوْ ذَكَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِسُوءٍ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ وَإِلَّا فَلَا يَنْتَقِضُ . وَيَنْتَقِضُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَحَدِ أُمُورِ ثَلَاثَةٍ : وَهِيَ أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ , أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ , أَوْ يَغْلِبَ الذِّمِّيُّونَ عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا .
مَحَلُّ الْجِزْيَةِ :(1/344)
24 - الْجِزْيَةُ تُفْرَضُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ الَّذِي يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ لِقَضَاءِ غَرَضٍ ثُمَّ يَرْجِعُ , قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا أَطَالَ الْمُسْتَأْمَنُ الْمُقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ , فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ . فَمَحَلُّ الْجِزْيَةِ إذَا هَمَّ الذِّمِّيُّونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إقَامَةً دَائِمَةً أَوْ طَوِيلَةً , وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَتُضْرَبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ , وَيُشْتَرَطُ فِي الذِّمِّيِّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ بِالْجِزْيَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّتِي يُسْمَحُ لَهَا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , وَاَلَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ .
الطَّوَائِفُ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ :(1/345)
25 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس , وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَوْصَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . أَهْلُ الْكِتَابِ : 26 - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ : كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُد عليه السلام وَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام , وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ . وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِجَمِيعِ فِرَقِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ إلَّا بِصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُد . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } فَالطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا الْكِتَابُ مِنْ قَبْلِنَا هُمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى , كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ , وَمُجَاهِدٌ , وَقَتَادَةَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . وَأَمَّا صُحُفُ إبْرَاهِيمَ وَدَاوُد فَقَدْ كَانَتْ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا , فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ . قَالَ الشِّهْرِسْتَانِيّ : أَهْلُ الْكِتَابِ : الْخَارِجُونَ عَنْ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ , وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , مِمَّنْ يَقُولُ بِشَرِيعَةٍ وَأَحْكَامٍ وَحُدُودٍ(1/346)
وَأَعْلَامٍ . . . وَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام مَا كَانَ يُسَمَّى كِتَابًا , بَلْ صُحُفًا . وَتَفْصِيلُهُ فِي : ( يَهُودٌ ) ( وَنَصَارَى ) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ :
27 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَجَمِ , وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِإِطْلَاقِ قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ , فَقَدْ { أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ , وَيَهُودِ الْيَمَنِ , وَأُكَيْدِرِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ } . فَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى " وَأَهْلُ نَجْرَانَ عَرَبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ . وَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مُعَاذٍ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ , وَلَا يُفْتَنُ يَهُودِيٌّ عَنْ يَهُودِيَّتِهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَقَدْ { قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَهُمْ عَرَبٌ(1/347)
إذْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ } . كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْإِجْمَاعِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : " إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما قَبِلَا الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ . فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيُهَوِّدْهُمْ كَانُوا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ , وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ , فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ . وَقَدْ نَسَبَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
( الْمَجُوسُ ) :
28 - وَالْمَجُوسُ هُمْ عَبَدَةُ النَّارِ الْقَائِلُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ أَصْلَيْنِ اثْنَيْنِ مُدَبِّرَيْنِ , يَقْتَسِمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ , وَالنَّفْعَ وَالضَّرَّ , وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ , أَحَدُهُمَا النُّورُ , وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ . وَفِي الْفَارِسِيَّةِ " يزدان " " وَأَهْرَمَن " . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا .(1/348)
29 - وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ أَوْ الْبَحْرَيْنِ . رَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ - بِسَنَدِهِ - إلَى الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ , وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَأَنْ لَا يُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ , وَلَا تُنْكَحَ لَهُمْ امْرَأَةٌ } . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ : مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : أَشْهَدُ أَنِّي لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ , أَيْ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ , وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَرْبَرِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ , وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ : مِنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ قُدَامَةَ . وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ(1/349)
لَا تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَلَا تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ , لقوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ . فَإِنَّ مَفْهُومَهَا أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي حُكْمِ الْآيَةِ . وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمَجُوسِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ إلَّا وَجَمِيعُهُمْ أَسْلَمَ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ . وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَيْضًا إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( مَجُوسٌ ) .
قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ الصَّابِئَةِ :(1/350)
30 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ , وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ , وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي اسْتِقْبَالِهَا . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ , وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ , وَالسُّدِّيِّ , وَأَبِي الشَّعْثَاءِ , وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكِ . فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ , لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ , وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ , فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مِنْ الْعَجَمِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ , وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ , فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ , وَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , لِأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ مَالِكٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ , فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي تَدَيُّنِهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ , وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ , فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا أَقَرَّ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرُوهُمْ , فَإِنَّ كَفَّرُوهُمْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ النَّصَارَى ; لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالْإِنْجِيلِ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَالنَّصَارَى . وَذَهَبَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ(1/351)
يُسْبِتُونَ , وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : هُمْ يُسْبِتُونَ . فَتُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي : ( صَابِئَةٌ ) .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ :
31 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا , أَيْ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْعَجَمِ , وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ , فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } . { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَالْآيَةُ تَقْضِي بِجَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً , وَلَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } . فَالْحَدِيثُ عَامٌّ يَقْتَضِي عَدَمَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ , وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إلَّا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسَ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ , فَلَا تُقْبَلُ(1/352)
الْجِزْيَةُ مِنْ عَبَدَةٍ الْأَوْثَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدِّمَةٌ ( سَابِقَةٌ ) مِنْ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ , فَلَا حُرْمَةَ لِمُعْتَقَدِهِمْ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ , وَأَخَذَ بِهَا هُوَ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَكَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ , ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . } فَهُوَ خَاصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ , لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قوله تعالى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ . } وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي كَانَ الْعَرَبُ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْخُذْ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ . رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْجِزْيَةِ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ الْعَرَبِ . } وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : " أَجْمَعُوا عَلَى { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَى أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ , وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ } . وَاسْتَدَلُّوا مِنْ الْمَعْقُولِ : بِأَنَّ كُفْرَهُمْ قَدْ تَغَلَّظَ , لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ , وَالْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ ,(1/353)
فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ فِيهِ . وَكُلُّ مَنْ تَغَلَّظَ كُفْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا الْإِسْلَامُ , أَوْ السَّيْفُ لقوله تعالى : { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أَيْ تُقَاتِلُونَهُمْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا . وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , وَالْأَوْزَاعِيِّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ , وَمِنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ , سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ , أَمْ مِنْ الْعَجَمِ , وَسَوَاءٌ أَكَانُوا قُرَشِيِّينَ أَمْ غَيْرَ قُرَشِيِّينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ , أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ . . . وَقَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ . وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ , فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ . فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } وَذَكَرَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الْجِزْيَةَ . فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ } إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ . وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ; لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ بِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .(1/354)
فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَاسْتَدَلُّوا لِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس . وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ . وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا النَّقْلِ كُلٌّ مِنْ ابْنِ رُشْدٍ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ , وَابْنُ الْجَهْمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ : فَعَلَّلَهُ ابْنُ الْجَهْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَامٌ لَهُمْ , لِمَكَانِهِمْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . وَعَلَّلَهُ الْقَرَوِيُّونَ بِأَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ , فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى الشِّرْكِ , فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشِّرْكِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ , فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ .
أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ :
32 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عَنْ الْإِسْلَامِ .
الْأَمَاكِنُ الَّتِي يَقَرُّ الْكَافِرُونَ فِيهَا بِالْجِزْيَةِ :(1/355)
33 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ فِي أَيِّ مَكَان مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ : وَهِيَ مِنْ أَقْصَى عَدَنَ أَبْيَنَ جَنُوبًا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ شَمَالًا , وَمِنْ جَدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ غَرْبًا إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ شَرْقًا . كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقْرَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ وَهِيَ : مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا . وَاخْتَلَفُوا فِي إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلَادِ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى عَدَمِ جَوَازِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ; لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنْ السُّكْنَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ , } وَنَسِيت الثَّالِثَةَ . وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْت الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَقَالَ : مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ , وَقَالَ يَعْقُوبُ : وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ . فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا . وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ سَوَاءٌ أَكَانَ وَثَنِيًّا , أَمْ يَهُودِيًّا , أَمْ نَصْرَانِيًّا(1/356)
, أَمْ مَجُوسِيًّا . وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : { كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ قَالَ : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ , لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ } وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ . وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها : { كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَلَّا يَنْزِلَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } . وَبِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , حَتَّى لَا أَدَعُ إلَّا مُسْلِمًا } . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى إقْرَارِ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ عَلَى السُّكْنَى فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِيمَا عَدَا الْحِجَازَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَتَجُوزُ لَهُمْ سُكْنَى الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ : { كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ , وَأَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ(1/357)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . قَالُوا : فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم : { أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ سُكْنَى الْحِجَازِ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ , كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ بِجِزْيَةٍ , وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الصُّلْحُ فَاسِدًا . وَالْمُرَادُ بِالْحِجَازِ - كَمَا سَبَقَ - مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم { أَخْرِجُوا أَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بِلَادَهُمْ - وَهِيَ الْيَمَنُ - مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا ; لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ , وَكَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلَا يُحْدِثُوا حَدَثًا , وَلَا يَأْكُلُوا الرِّبَا , فَأَكَلُوا الرِّبَا , وَنَقَضُوا الْعَهْدَ , فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِهَذَا السَّبَبِ , لَا لِكَوْنِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا تَصْلُحُ لِسُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ . وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ أَجْلَى مَنْ كَانَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَقَدْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ مِنْ الْحِجَازِ وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ
شُرُوطُ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ :(1/358)
34 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِدَّةَ شُرُوطٍ مِنْهَا : الْبُلُوغُ , وَالْعَقْلُ , وَالذُّكُورَةُ , وَالْحُرِّيَّةُ , وَالْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ , وَالسَّلَامَةُ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ . وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ .
أَوَّلًا : ( الْبُلُوغُ ) :
35 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى صِبْيَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا , وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ , وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ , لَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ . . . } آيَةَ الْجِزْيَةِ . فَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْقِتَالِ تَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْقِتَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ , فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقِتَالِ , وَالصِّبْيَانُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ وَبِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ . حَيْثُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ . وَالْحَالِمُ : مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ بِالِاحْتِلَامِ , أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ , فَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلَا يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ , وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : فِي(1/359)
مَعْنَى " مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى " : يَعْنِي مَنْ أَنْبَتَ , وَقَالَ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ : هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ , وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَهَا عَلَى الذُّكُورِ الْمُدْرِكِينَ دُونَ الْإِنَاثِ وَالْأَطْفَالِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ لَوْ لَمْ يُؤَدُّوهَا , وَأَسْقَطَهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَهُمْ الذُّرِّيَّةُ . وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى الصِّبْيَانِ , وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ . فَقَدْ صَالَحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَهْلَ بُصْرَى عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَجَرِيبَ حِنْطَةٍ , وَصَالَحَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَهْلَ أَنْطَاكِيَّةَ عَلَى الْجِزْيَةِ أَوْ الْجَلَاءِ , فَجَلَا بَعْضُهُمْ وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ , فَأَمَّنَهُمْ وَوَضَعَ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ مِنْهُمْ دِينَارًا وَجَرِيبًا . وَوَضَعَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ وَأَخْرَجَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ , وَالصِّبْيَانُ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا .(1/360)
36 - وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ أَمْ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ إلَى أَنَّهُ يَكْفِي عَقْدُ أَبِيهِ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ يَتَنَاوَلُ الْبَالِغِينَ وَمَنْ سَيَبْلُغُ مِنْ أَوْلَادِهِمْ أَبَدًا , وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ , وَلَمْ يُفْرِدُوا كُلَّ مَنْ بَلَغَ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ , فَإِنْ اخْتَارَ الذِّمَّةَ عُقِدَتْ لَهُ , وَإِنْ اخْتَارَ اللَّحَاقَ لِمَأْمَنِهِ أُجِيبَ إلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ الْبُلُوغُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ , وَإِذَا كَانَتْ فِي أَثْنَائِهِ أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ بِقِسْطِهِ .
ثَانِيًا : ( الْعَقْلُ ) :
37 - نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ مَجَانِينِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : هَذَا إجْمَاعٌ , لَكِنَّ ابْنَ رُشْدٍ ذَكَرَ خِلَافًا فِي الْمَجْنُونِ , وَذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ نَقْلًا عَنْ الْبَيَانِ وَجْهًا ضَعِيفًا لِلشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ كَالْمَرِيضِ وَالْهَرِمِ . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
ثَالِثًا : ( الذُّكُورَةُ ) :(1/361)
38 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَدِلَّةِ .
رَابِعًا : ( الْحُرِّيَّةُ ) :
39 - جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَمْلُوكًا لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الِاتِّفَاقَ ابْنُ الْمُنْذِرِ , وَابْنُ هُبَيْرَةَ وَابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ رُشْدٍ . لِأَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ , وَعَنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا , وَالْعَبْدُ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ دَفْعِ الْجِزْيَةِ . وَالْعَبْدُ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ النُّصْرَةُ ; لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا , فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ امْتَنَعَ الْبَدَلُ , فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِسَيِّدٍ كَافِرٍ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ سَيِّدِهِ الْكَافِرِ , وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : " لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَلَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَرَاجٍ يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَلَا يُقِرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ . قَالَ أَحْمَدُ : أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ , وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ . وَلِأَنَّ الْعَبْدَ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ , فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَالْحُرِّ .
خَامِسًا : ( الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ ) :(1/362)
40 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِوُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ , فَلَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ عَنْ الْعَمَلِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ : وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ لَهُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ , وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلَةِ تَعَالَى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ الْكَسْبِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَدْفَعَ الْجِزْيَةَ , وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يُكَلَّفُ بِهَا . وَقَدْ وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُكْتَسِبِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . فَقَدْ فَرَضَهَا عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ أَدْنَاهَا الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ , فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ . وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم , وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ , فَهُوَ إجْمَاعٌ . وَقَالُوا : إنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ , فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ الْكَسْبِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ . وَأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْأَدَاءِ مَعْذُورٌ شَرْعًا(1/363)
فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ , لقوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةُ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَفِي الْجِزْيَةِ أَوْلَى . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ , كَمَا تُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ , إلَّا أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَمِلِ تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ , فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ . وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَعُمُومُ حَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ , وَالسُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , فَلَمْ يُفَارِقْ الْمَعْذُورُ فِيهَا غَيْرَهُ , فَتُؤْخَذُ مِنْ الْفَقِيرِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ الْغَنِيِّ .
سَادِسًا : أَلَا يَكُونَ مِنْ الرُّهْبَانِ الْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ :(1/364)
41 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرُّهْبَانَ الْمُخَالِطِينَ لِلنَّاسِ , وَالْمُشَارِكِينَ لَهُمْ فِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ وَالْمَكَايِدِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْفِكْرِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ , وَهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ عَوَامِّهِمْ , فَإِنَّهُمْ رُءُوسُ الْكُفْرِ , وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ عُلَمَائِهِمْ . وَاخْتَلَفُوا فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ انْقَطَعُوا لِلْعِبَادَةِ فِي الصَّوَامِعِ , وَلَمْ يُخَالِطُوا النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ . فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ , وَمَالِكٌ , وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ , وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُفْرَضُ عَلَيْهِمْ . وَسَوَاءٌ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ ; لِأَنَّ الرُّهْبَانَ لَا يُقْتَلُونَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ , لِمَا جَاءَ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ : " لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ احْتَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا , فَدَعْهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمْ اللَّهُ عَلَى ضَلَالَتِهِمْ , وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ . فَإِذَا كَانَ الرَّاهِبُ لَا يُقْتَلُ فَهُوَ مَحْقُونُ الدَّمِ بِدُونِ عَقْدِ الذِّمَّةِ , وَالْجِزْيَةُ إنَّمَا وَجَبَتْ لِحَقْنِ الدَّمِ , فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ , كَمَا لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ ; وَلِأَنَّ الرَّاهِبَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا تُرِكَ لَهُ مِنْ الْمَالِ الْيَسِيرُ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ نَقَلَهَا عَنْهُ(1/365)
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ , وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّهْبَانِ إذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ : " الْمُتَرَهِّبُونَ الَّذِينَ فِي الدِّيَارَاتِ إذَا كَانَ لَهُمْ يَسَارٌ أُخِذَ مِنْهُمْ , وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا هُمْ مَسَاكِينُ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْهُمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ , وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصَّوَامِعِ إنْ كَانَ لَهُمْ غِنًى وَيَسَارٌ , وَإِنْ كَانُوا قَدْ صَيَّرُوا مَا كَانَ لَهُمْ لِمَنْ يُنْفِقُهُ عَلَى الدِّيَارَاتِ وَمَنْ فِيهَا مِنْ الْمُتَرَهِّبِينَ وَالْقُوَّامِ أُخِذَتْ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ " . وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ قَيَّدَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ الرُّهْبَانِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِأَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ - أَنَّ الْمُعْتَمِلَ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ , فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ الصَّالِحَةَ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا الْخَرَاجُ بِتَعْطِيلِ الْمَالِكِ لَهَا عَنْ الزِّرَاعَةِ , فَكَذَلِكَ الرَّاهِبُ الْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ إذَا تَرَكَ الْعَمَلَ . هَذَا بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَلَى عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الرَّاهِبِ , فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا أَصْحَابُ هَذَا الْمَذْهَبِ , وَحَمَلُوهَا عَلَى الرَّاهِبِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ الَّذِي يَعِيشُ عَلَى صَدَقَاتِ الْمُوسِرِينَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمَعْمُولِ بِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى الرُّهْبَانِ الَّذِينَ(1/366)
يَنْقَطِعُونَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ , سَوَاءٌ أَكَانُوا مُوسِرِينَ أَوْ غَيْرَ مُوسِرِينَ , قَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ أَمْ غَيْرَ قَادِرِينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَهُوَ يَشْمَلُ الرُّهْبَانَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ وَغَيْرَ الْقَادِرِينَ , الْمُوسِرِينَ وَغَيْرَ الْمُوسِرِينَ . وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ بَالِغٍ كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } . وَحَدِيثِ عُمَرَ السَّابِقِ : { وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى } , وَبِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : " أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ " . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ , وَالرَّاهِبُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ , فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لِحَقْنِ الدَّمِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَالرَّاهِبُ كَغَيْرِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ .
سَابِعًا : السَّلَامَةُ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ :(1/367)
42 - إذَا أُصِيبَ الْمُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بِعَاهَةٍ مُزْمِنَةٍ , كَالْمَرَضِ , أَوْ الْعَمَى , أَوْ الْكِبَرِ الْمُقْعِدِ عَنْ الْعَمَلِ وَالْقِتَالِ , فَهَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ أَمْ لَا ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ : فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَوْ كَانُوا مُوسِرِينَ . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } . فَفَحْوَى الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ; لِاسْتِحَالَةِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِقِتَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ , إذْ الْقِتَالُ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ مِنْ الْمُحْتَرِفِينَ , وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ : كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الْفَانِي : سَوَاءٌ أَكَانَ مُوسِرًا أَمْ غَيْرَ مُوسِرٍ ; وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِمَّنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ , وَهَؤُلَاءِ لَا يُقْتَلُونَ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْكِبَارِ إذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ أَهْلٌ لِلْقِتَالِ , إذْ إنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إذَا كَانُوا ذَوِي رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ وَالْقِتَالِ , فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِهِمْ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ(1/368)
عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ , وَوُجُودُ الْمَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُصَابِينَ أَكْثَرُ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ , فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مُوسِرِينَ , وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا مُعْسِرِينَ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَأَهْلِ الْحِيرَةِ : " وَجَعَلْت لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنْ الْعَمَلِ , أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنْ الْآفَاتِ , أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دَيْنِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ , وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالَهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ خَرَجُوا إلَى غَيْرِ دَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ النَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِهِمْ . وَمَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُصَابِينَ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ , وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مُوسِرِينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ قوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَهُوَ يَشْمَلُ الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانَ وَالشُّيُوخَ الْكِبَارَ . وَبِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ , كَحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ . الَّذِي أَمَرَهُ فِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , وَحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ السَّابِقِ : { وَلَا يَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى } , وَاسْتَدَلُّوا مِنْ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ , وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِحَقْنِ الدَّمِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْجِزْيَةُ بِتِلْكَ الْإِصَابَاتِ ,(1/369)
وَأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَهَؤُلَاءِ كَغَيْرِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّارِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ الْجِزْيَةُ , كَمَا أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ .
ضَبْطُ أَسْمَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَصِفَاتِهِمْ فِي دِيوَانٍ :
43 - يَسْتَوْفِي الْعَامِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَفْقَ دِيوَانٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَسْمَائِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . قَالَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ : " وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ عَدَدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَسْمَاءَهُمْ , وَيُحَلِّيهِمْ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ بِالْأَيَّامِ فَيَقُولُ : طَوِيلٌ , أَوْ قَصِيرٌ , أَوْ رَبْعَةٌ , وَأَبْيَضُ , أَوْ أَسْوَدُ , أَوْ أَسْمَرُ , أَوْ أَشْقَرُ , وَأَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ , أَوْ مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ , أَوْ أَقْنَى الْأَنْفِ . وَيَكْتُبُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ , وَيَجْعَلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ عَرِيفًا , لِيَجْمَعَهُمْ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ , وَيَكْتُبُ مَنْ يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ بِالْبُلُوغِ , وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْهُمْ بِالْمَوْتِ .
مِقْدَارُ الْجِزْيَةِ :(1/370)
44 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ : جِزْيَةٌ تُوضَعُ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ , وَجِزْيَةٌ يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ وَضْعَهَا عَلَى الْكُفَّارِ إذَا فَتَحَ بِلَادَهُمْ عَنْوَةً . فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ بَلْ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِاخْتِلَافِ مَقَادِيرِ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ مِنْ مَجْمُوعَةٍ إلَى مَجْمُوعَةٍ أُخْرَى . فَقَدْ { صَالَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ , وَالْبَقِيَّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدُّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ } . { وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا , وَعَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } . وَصَالَحَ عُمَرُ رضي الله عنه بَنِي تَغْلِبَ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ . رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيِّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ - أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمَّا صَالَحَهُمْ - يَعْنِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ - عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ قَالُوا : نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ , وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ - يَعْنُونَ الصَّدَقَةَ - فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : لَا , هَذِهِ فَرْضُ الْمُسْلِمِينَ . قَالُوا : فَزِدْ مَا شِئْت بِهَذَا الِاسْمِ , لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ , فَفَعَلَ فَتَرَاضَى هُوَ وَهُمْ عَلَى أَنْ تُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةُ . وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ : " سَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ " . وَالضَّرْبُ الثَّانِي :(1/371)
الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ وَهِيَ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ , فَيَضَعُ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ , وَعَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَضَعَ فِي الْجِزْيَةِ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : " وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ , فَعَرَفْنَا أَنَّ عُمَرَ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذْنَا بِهِ " وَقَدْ فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى خَرَاجِ الْأَرْضِ , فَقَدْ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى مِقْدَارِ الطَّاقَةِ , وَاخْتَلَفَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَطَاقَتِهَا الْإِنْتَاجِيَّةِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَالْإِمْكَانِ , فَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ . وَبِأَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عِوَضًا عَنْ النُّصْرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَالنُّصْرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَتَفَاوَتُ , فَالْفَقِيرُ يَنْصُرُ دَارَ الْإِسْلَامِ رَاجِلًا , وَمُتَوَسِّطُ الْحَالِ يَنْصُرُهَا رَاجِلًا وَرَاكِبًا , وَالْمُوسِرُ يَنْصُرُهَا بِالرُّكُوبِ بِنَفْسِهِ وَإِرْكَابِ غَيْرِهِ . فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الشَّخْصِ وَإِمْكَانَاتِهِ الْمَالِيَّةِ . 45 - وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ عَلَى خَمْسَةِ(1/372)
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ : مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا تَجِبُ فِي مِثْلِهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَهُوَ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَهُوَ فَقِيرٌ . وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوَاسِطِ . وَمِنْ مَلَكَ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا , فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ , لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا قَالَا : أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ , وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَنْزٌ . وَالثَّانِي : مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ : مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا فَهُوَ فَقِيرٌ , وَمَنْ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَوْسَاطِ , وَمَنْ مَلَكَ زِيَادَةً عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ فَهُوَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ . وَالثَّالِثُ : مَا قَالَهُ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ : مَنْ كَانَ يَمْلِكُ قُوتَهُ وَقُوتَ عِيَالِهِ وَزِيَادَةً فَهُوَ مُوسِرٌ , وَإِنْ مَلَكَ بِلَا فَضْلٍ فَهُوَ الْوَسَطُ , وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ فَهُوَ الْفَقِيرُ الْمُعْتَمِلُ أَوْ الْمُكْتَسِبُ . وَالرَّابِعُ : مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ : " الْمُوسِرُ " : مِثْلُ الصَّيْرَفِيِّ , وَالْبَزَّازِ , وَصَاحِبِ الضَّيْعَةِ , وَالتَّاجِرِ , وَالْمُعَالِجِ , وَالطَّبِيبِ , وَكُلِّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِيَدِهِ صِنَاعَةٌ وَتِجَارَةٌ يَحْتَرِفُ بِهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ عَلَى قَدْرِ صِنَاعَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنْ الْمُوسِرِ , وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا مِنْ الْوَسَطِ , مَنْ احْتَمَلَتْ صِنَاعَتُهُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أُخِذَ مِنْهُ ذَلِكَ , وَمَنْ احْتَمَلَتْ أَرْبَعَةً(1/373)
وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا أُخِذَ ذَلِكَ مِنْهُ , وَاثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا عَلَى الْعَامِلِ بِيَدِهِ : مِثْلِ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالْإِسْكَافِ وَالْخَرَّازِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ . وَالْخَامِسُ : مَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ : إنَّهُ يُنْظَرُ إلَى عَادَةِ كُلِّ بَلَدٍ فِي ذَلِكَ , فَصَاحِبُ خَمْسِينَ أَلْفًا بِبَلْخٍ يُعَدُّ مِنْ الْمُكْثِرِينَ , وَفِي الْبَصْرَةِ لَا يُعَدُّ مُكْثِرًا . فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عُرْفُهَا , فَمَنْ عَدَّهُ النَّاسُ فِي بَلَدِهِمْ فَقِيرًا , أَوْ وَسَطًا , أَوْ غَنِيًّا فَهُوَ كَذَلِكَ , وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , قَالَ الْمَوْصِلِيُّ : " وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إلَى حَالِ أَهْلِهِ , وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي ذَلِكَ , فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ " .(1/374)
46 - وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ ضَرْبَانِ : صُلْحِيَّةٌ , وَعَنْوِيَّةٌ : فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ : الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ : وَهِيَ الَّتِي عُقِدَتْ مَعَ الَّذِينَ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَبِلَادَهُمْ مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ , وَهِيَ تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ مَا يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ . وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهَا وَلَا أَكْثَرِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ , وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الصُّلْحِيَّ إنْ بَذَلَ الْقَدْرَ الَّذِي عَلَى الْعَنْوِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْإِمَامَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ , وَيَحْرُمُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُقَاتِلَهُ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةِ الْحَنَفِيَّةِ السَّابِقَةِ . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ : وَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً , وَتُقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ , وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا عَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ , بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ . وَنَحْوُ هَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا أَنَّهَا عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْوَسَطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ , وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ , وَهَذِهِ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ , وَيُرْجَعُ إلَى الْعُرْفِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ . وَقَدْ اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ , وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَمَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ , وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . قَالَ الْبَاجِيُّ الْمُرَادُ بِأَرْزَاقِ(1/375)
الْمُسْلِمِينَ أَقْوَاتُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَالْمُرَادُ بِالضِّيَافَةِ ضِيَافَةُ الْمُجْتَازِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدَّرَهَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ وَذَلِكَ لِمَا رَآهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَالِ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجِزْيَةِ . وَأَمَّا أَرْزَاقُ الْمُسْلِمِينَ وَالضِّيَافَةُ , فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : " أَرَى أَنْ تُوضَعَ عَنْهُمْ الْيَوْمَ الضِّيَافَةُ وَالْأَرْزَاقُ , لِمَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجَوْرِ " , وَذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ , وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنْ الْبَاجِيِّ وَأَقَرَّهُ أَنَّهُ إنْ انْتَفَى الظُّلْمُ فَلَا تَسْقُطُ .(1/376)
47 - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةُ يَعْقُوبَ بْنِ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ إلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ ذَهَبِيٌّ خَالِصٌ , وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا , فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الْقُوَّةِ , وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ , بَلْ تُسْتَحَبُّ الْمُمَاكَسَةُ فِي الزِّيَادَةِ : بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ إنْ ظَنَّ إجَابَتَهُمْ إلَيْهَا , أَمَّا إذَا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَهُ إلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ , فَلَا مَعْنَى لِلْمُمَاكَسَةِ . وَفِي حَالَةِ الضَّعْفِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّرَاضِي مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ الدِّينَارِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } . فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ بِالدِّينَارِ مِنْ الذَّهَبِ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ , وَظَاهِرُ إطْلَاقِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ غَنِيًّا أَمْ مُتَوَسِّطًا أَمْ فَقِيرًا . وَقَدْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ " أَيْلَةَ " , حَيْثُ { قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَبُوكَ , وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارًا , وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ نِصْفَهَا فِي صَفَرٍ وَالْبَقِيَّةَ فِي رَجَبٍ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : سَمِعْت بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ يَذْكُرُ أَنَّ(1/377)
قِيمَةَ مَا أُخِذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ دِينَارٌ . وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ , يُقَالُ لَهُ مَوْهَبٌ دِينَارًا كُلَّ سَنَةٍ } وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ عَقْدِهَا مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ فِي حَالَةِ الضَّعْفِ بِأَنَّ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا : " أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ " فَإِذَا كَانَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .(1/378)
48 - وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - نَقَلَهَا عَنْهُ الْأَثْرَمُ - : أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي الْجِزْيَةِ إلَى الْإِمَامِ , فَلَهُ أَنْ يُزِيدَ وَيُنْقِصَ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَعَلَى مَا يَرَاهُ . وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ , وَقَالَ الْخَلَّالُ : الْعَمَلُ فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَصْحَابُهُ عَنْهُ فِي عَشْرَةِ مَوَاضِعَ , فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَلَفْظُ الْجِزْيَةِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ , فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ , غَيْرَ أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا كَانَ وَلِيَّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقْدًا عَلَى الْجِزْيَةِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : { أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ } . وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا , وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا , وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى ضِعْفِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ(1/379)
مِنْ الزَّكَاةِ . فَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ , لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ : مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ , وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ ؟ قَالَ : جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجَلِ الْيَسَارِ . وَلِأَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ عَلَى الْأَمَانِ ضَرْبَانِ : هُدْنَةٌ وَجِزْيَةٌ , فَلَمَّا كَانَ الْمَأْخُوذُ هُدْنَةً إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ , فَكَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ جِزْيَةً . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ , فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ كَالْأُجْرَةِ .
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ :
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :(1/380)
49 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ وَلَا تَتَكَرَّرُ . وَالسَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا هِيَ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ ; لِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَادَةُ شَرْعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ , أَمَّا إذَا عَيَّنَ الْإِمَامُ كَوْنَهَا شَمْسِيَّةً أَوْ قَمَرِيَّةً فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا عَيَّنَهُ . ( وَقْتُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ) : 50 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ عَقِبَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مُبَاشَرَةً , إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا : تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقَرٍّ وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ , فَكَلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ , حَتَّى تَسْتَقِرَّ جِزْيَةُ الْحَوْلِ كُلِّهِ بِانْقِضَائِهِ ; لِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ مَنْفَعَةِ حَقْنِ الدَّمِ , فَتَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ , وَتَسْتَقِرُّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْأُجْرَةِ . 51 - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ آخِرُ الْحَوْلِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا وَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِزْيَةِ , فَقَدْ ضَرَبَهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَجُوس بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ , وَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِأَدَائِهَا فِي الْحَالِ , بَلْ كَانَ يَبْعَثُ رُسُلَهُ وَسُعَاتَهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِجِبَايَتِهَا . رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ(1/381)
صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا , وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ } . وَتَدُلُّ سِيرَةُ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْعَثُونَ الْجُبَاةَ فِي آخِرِ الْعَامِ لِجِبَايَةِ الْجِزْيَةِ . فَبَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَبَا هُرَيْرَةَ إلَى الْبَحْرَيْنِ , فَقَدِمَ بِمَالٍ كَثِيرٍ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ , فَوَجَبَ بِآخِرِهِ كَالزَّكَاةِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ جَزَاءً عَلَى تَأْمِينِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ عَلَى دِينِهِمْ , فَلَا تَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَحَقَّقَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي طُولِ السَّنَةِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ فَوَجَبَ أَنْ تُؤْخَذَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ , فَتَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا كَالصَّلَاةِ , وَلِلْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . فَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِرَفْعِ الْقِتَالِ عَنْهُمْ ; لِأَنَّ غَايَةَ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ , وَالْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } وَقَدْ حَظَرَ إبَاحَةَ قُرْبِهِنَّ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ طُهْرِهِنَّ , وَكَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَا تُعْطِ(1/382)
زَيْدًا حَتَّى يَدْخُلَ الدَّارَ , مَنْعُ الْإِعْطَاءِ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ , فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ مُوجِبَةٌ لِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مُزِيلَةٌ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ . وَلِقَوْلِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ : { أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ } فَوَقْتُ وُجُوبِ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ عَقِبَ الْعَقْدِ مُبَاشَرَةً . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِمْ , فَتَجِبُ فِي الْحَالِ كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ . وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ قَدْ سُلِّمَ لَهُمْ , فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَقَّ الْعِوَضُ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا مِنْ النُّصْرَةِ فِي حَقِّنَا , وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي , وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ; لِأَنَّ نُصْرَةَ الْمَاضِي يُسْتَغْنَى عَنْهَا بِانْقِضَائِهِ . فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْجِزْيَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ تَجِبُ فِي أَوَّلِهِ .
تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ :(1/383)
52 - الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْجِزْيَةِ : اسْتِيفَاؤُهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ , فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ أَوْ يَسْتَسْلِفَهَا ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ , إلَى جَوَازِ تَعْجِيلِهَا لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَالْخَرَاجِ , وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ فَأَشْبَهَتْ الْأُجْرَةَ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا , وَيَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بِرِضَا أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْجِزْيَةِ عَلَى الزَّكَاةِ , فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَسْلِفَ الزَّكَاةَ إلَّا بِرِضَا رَبِّ الْمَالِ , بَلْ الْجِزْيَةُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ , لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلسُّقُوطِ قَبْلَ الْحَوْلِ وَبَعْدَهُ , فَتَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ وَالْمَوْتِ أَثْنَاءَ السَّنَةِ وَتَتَدَاخَلُ بِالِاجْتِمَاعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :(1/384)
54 - الْجِزْيَةُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَاطِينُ , فَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ , وَقِيلَ : يُقَدِّرُهَا الْإِمَامُ . وَالْإِمَامُ يَعْقِدُ الذِّمَّةَ وَيُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ وَيَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ بِاجْتِهَادِهِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ وَكِيلٌ عَنْ الْأُمَّةِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ , وَفِي تَدْبِيرِ شُئُونِهَا . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : " الْأَمْوَالُ الَّتِي لِلْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فِيهَا مَدْخَلٌ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : الْأَوَّلُ : مَا أُخِذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّطْهِيرِ لَهُمْ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ . وَالثَّانِي : الْغَنَائِمُ وَمَا يَحْصُلُ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكَافِرِينَ بِالْحَرْبِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ . وَالثَّالِثُ : الْفَيْءُ , وَهُوَ مَا رَجَعَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَفْوًا صَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إيجَافٍ كَالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ وَالْعُشُورِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ لِلْإِمَامِ , فَيُطَالِبُ بِهَا وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّفْعُ إلَيْهِ . وَالْإِمَامُ الْمُطَالِبُ بِالْجِزْيَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَادِلًا , أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا , أَوْ بَاغِيًا , أَوْ خَارِجًا عَلَى إمَامِ الْعَدْلِ , أَوْ مُحَارِبًا وَقَاطِعًا لِلطَّرِيقِ .
1 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ :(1/385)
54 م - الْإِمَامُ الْعَادِلُ : هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُسْلِمُونَ لِلْإِمَامَةِ وَبَايَعُوهُ , وَقَامَ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِذَا طَلَبَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مَالًا لَا يَطْلُبُهُ إلَّا بِحَقٍّ , وَإِذَا قَسَمَ أَمْوَالًا عَامَّةً قَسَمَهَا وَفْقَ شَرْعِ اللَّهِ وَحَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { مَا أُعْطِيكُمْ وَلَا أَمْنَعُكُمْ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه " إنِّي أَنْزَلْت نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي الْيَتِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَرْضًا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَاةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ إلَّا اسْتَسْرَعَ خَرَابُهَا . وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ إذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الدَّفْعُ إلَيْهِ , وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَفْرِقَةُ خَرَاجِ رَأْسِهِ بِنَفْسِهِ , وَإِذَا أَدَّى شَخْصٌ الْجِزْيَةَ إلَى مُسْتَحِقِّ الْفَيْءِ بِنَفْسِهِ فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُ ثَانِيَةً ; لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ .
2 - حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ :(1/386)
55 - الْإِمَامُ الْجَائِرُ : هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِتَدْبِيرِ شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفْقَ هَوَاهُ , فَيَقَعُ مِنْهُ الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ عَلَى النَّاسِ وَإِذَا طَلَبَ الْإِمَامُ الْجَائِرُ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَدَاؤُهَا إلَيْهِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَإِذَا أَدَّى الذِّمِّيُّ الْجِزْيَةَ إلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَا يُطَالَبُ بِهَا مَرَّةً ثَانِيَةً مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ . قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَأَمَّا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَخَذُوا الصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورَ وَالْخَرَاجَ لَا يَضَعُونَهَا مَوَاضِعَهَا , فَهَلْ تَسْقُطُ هَذِهِ الْحُقُوقُ عَنْ أَرْبَابِهَا ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ , ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ذَلِكَ كُلُّهُ , وَإِنْ كَانُوا لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا , لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُمْ فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِأَخْذِهِمْ , ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا فَالْوَبَالُ عَلَيْهِمْ . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعِيدٍ : إنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ , وَلَا تَسْقُطُ الصَّدَقَاتُ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يُصْرَفُ إلَى الْمُقَاتِلَةِ , وَهُمْ يَصْرِفُونَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيُقَاتِلُونَ الْعَدُوَّ , أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْعَدُوُّ فَإِنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ وَيَذُبُّونَ عَنْ حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ , فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالصَّدَقَاتُ فَإِنَّهُمْ لَا يَضَعُونَهَا فِي أَهْلِهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْجَائِرِ فِي طَلَبِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ بِمَا يَلِي : أ - مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ(1/387)
: { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ , كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ , وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي . وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ . قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَقَالَ : أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ , ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ , فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : فِي بَيَانِ مَعْنَى " أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ " - أَيْ ادْفَعُوا إلَى الْأُمَرَاءِ حَقَّهُمْ الَّذِي لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَقَبْضُهُ , سَوَاءٌ كَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ أَوْ يَعُمُّ , وَذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَالزَّكَاةِ , وَفِي الْأَنْفُسِ كَالْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ . ب - وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { أَنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ ؟ قَالَ : تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ , وَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الَّذِي لَكُمْ } . ج - وَمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم : { إنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ , أَسْوَدُ , يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا } .
3 - دَفْعُ الْجِزْيَةِ إلَى الْبُغَاةِ :(1/388)
56 - الْبُغَاةُ : هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى التَّأْوِيلِ وَيَخْرُجُونَ عَلَى الْإِمَامِ , أَوْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ , أَوْ يَمْنَعُونَ حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهِمْ كَالزَّكَاةِ وَشِبْهِهَا , فَيُدْعَوْنَ إلَى الرُّجُوعِ لِلْحَقِّ . فَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى بَلَدٍ وَنَصَبُوا إمَامًا , فَجَبَى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَفْعِهَا إلَى الْبُغَاةِ , وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ : بِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جُبِيَ مِنْهُمْ . قَالَ الشَّافِعِيَّةُ : وَلِأَنَّ حَقَّ الْإِمَامِ فِي الْجِبَايَةِ مَرْهُونٌ بِالْحِمَايَةِ , وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ عِنْدَ تَغَلُّبِ الْبُغَاةِ عَلَى بَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ . وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ احْتِسَابِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا وَمَشَقَّةً كَبِيرَةً , فَإِنَّ الْبُغَاةَ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ وَتَتَجَمَّعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَبَالِغُ طَائِلَةٌ لَا يُطِيقُونَهَا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَفَعَ الْجِزْيَةَ إلَى الْبُغَاةِ الْإِعَادَةُ , لِأَنَّهُ أَعْطَاهَا إلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ غَصْبًا .
حُكْمُ دَفْعِ الْجِزْيَةِ إلَى الْمُحَارِبِينَ " قُطَّاعِ الطُّرُقِ " :(1/389)
57 - الْمُحَارِبُونَ : هُمْ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ لِلنَّاسِ بِالسِّلَاحِ فَيَغْصِبُونَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً أَوْ يَقْتُلُونَ أَوْ يُخِيفُونَ الطَّرِيقَ فَإِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ , وَلَمْ تَسْقُطْ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ بِأَدَائِهَا إلَى الْمُحَارِبِينَ ; لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا .
مَا يُرَاعِيهِ الْعَامِلُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ :
الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ :
60 - لِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّجَاهَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَنْبَغِي لِعَامِلِ الْجِزْيَةِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهِ لِلْجِزْيَةِ : بِأَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُمْ بِتَلَطُّفٍ دُونَ تَعْذِيبٍ أَوْ ضَرْبٍ , وَأَنْ يُؤَخِّرَهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ , وَأَنْ يُقَسِّطَهَا عَلَيْهِمْ , وَأَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ الْقِيمَةَ بَدَلًا مِنْ الْعَيْنِ . وَالصَّغَارُ فِي قوله تعالى { وَهُمْ صَاغِرُونَ } مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ . وَالِاتِّجَاهُ الْآخَرُ : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُسْتَوْفَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِإِهَانَةٍ وَإِذْلَالٍ , لقوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
الْأَمْوَالُ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْجِزْيَةُ :(1/390)
61 - لَا يَتَعَيَّنُ فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ ذَهَبٌ وَلَا فِضَّةٌ وَلَا نَوْعٌ بِعَيْنِهِ , بَلْ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِمَّا تَيَسَّرَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ : كَالسِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَالْحُبُوبِ وَالْعُرُوضِ فِيمَا عَدَا ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - حَدِيثُ مُعَاذٍ السَّابِقِ : { أَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْقِيمَةِ فِي الْجِزْيَةِ مِنْ الثِّيَابِ الْمَصْنُوعَةِ بِالْيَمَنِ وَالْمَنْسُوبَةِ إلَى قَبِيلَةِ مَعَافِرَ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " أَلَا تَرَاهُ قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ الثِّيَابَ مَكَانَ الدَّنَانِيرِ ؟ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا كُلِّهِ الرِّفْقُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَأَنْ لَا يُبَاعَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْءٌ , وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِمَّا سَهُلَ عَلَيْهِمْ بِالْقِيمَةِ . أَلَا تَسْمَعُ إلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { أَوْ عَدْلَهُ مِنْ الْمَعَافِرِ } فَقَدْ بَيَّنَ لَك ذِكْرُ الْعَدْلِ أَنَّهُ الْقِيمَةُ " . 2 - { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ , النِّصْفُ فِي صَفَرٍ وَالْبَاقِي فِي رَجَبٍ } . 3 - مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ النَّعَمَ فِي الْجِزْيَةِ . 4 - مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ ذِي صَنْعَةٍ مِنْ مَتَاعِهِ : مِنْ صَاحِبِ الْإِبَرِ إبَرًا , وَمِنْ صَاحِبِ الْمَسَانِّ مَسَانًّا , وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَالِ(1/391)
حِبَالًا . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأَمْتِعَةَ بِقِيمَتِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهِمْ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَلَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى بَيْعِهَا ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ , إرَادَةَ الرِّفْقِ بِهِمْ وَالتَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ :
62 - اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَعْيَانِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ , وَمَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهَا فِي الْجِزْيَةِ . وَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا تَوَلَّى الذِّمِّيُّ بَيْعَهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : " بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ نَاسًا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْخَنَازِيرِ , وَقَامَ بِلَالٌ فَقَالَ : إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ , فَقَالَ عُمَرُ : لَا تَفْعَلُوا : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ : إنَّ عُمَّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ , فَقَالَ : لَا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ , وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا , وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " يُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا(1/392)
يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مِنْ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا , فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَهُ بِلَالٌ , وَنَهَى عَنْهُ عُمَرُ , ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهَا إذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ الْمُتَوَلِّينَ لِبَيْعِهَا ; لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ " . 2 - وَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا , وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا , فَجَازَ أَخْذُ أَثْمَانِهَا مِنْهُمْ كَثِيَابِهِمْ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - رَوَى الْبَيْهَقِيُّ - بِسَنَدِهِ - إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا , وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ } . 2 - وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ . 3 - وَلِأَنَّ ثَمَنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ فِي اعْتِقَادِنَا فَحَرُمَ عَلَيْنَا أَخْذُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِهِ كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ .
تَأْخِيرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ :(1/393)
63 - مِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ تَأْخِيرُ مَنْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ , أَيْ حَتَّى تَنْضَجَ الثِّمَارُ , وَتُحْصَدَ الزُّرُوعُ فَيَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيْعِهَا وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ - بِسَنَدِهِ - إلَى سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : " قَدِمَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حُذَيْمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , فَلَمَّا أَتَاهُ عَلَاهُ بِالدُّرَّةِ , فَقَالَ سَعِيدٌ : سَبَقَ سَيْلُك مَطَرَك , إنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ , وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرُ , وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ , فَقَالَ : مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا هَذَا , مَا لَك تُبْطِئُ فِي الْخَرَاجِ ؟ قَالَ : أَمَرْتنَا أَلَا نُزِيدَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَلَسْنَا نُزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ , وَلَكِنَّنَا نُؤَخِّرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ . فَقَالَ عُمَرُ : لَا عَزَلْتُك مَا حَيِيت . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : " وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّأْخِيرِ إلَى الْغَلَّةِ الرِّفْقُ بِهِمْ , وَلَمْ نَسْمَعْ فِي اسْتِيدَاءِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَقْتًا مِنْ الزَّمَانِ يُجْتَبَى فِيهِ غَيْرَ هَذَا .
اسْتِيفَاءُ الْجِزْيَةِ عَلَى أَقْسَاطٍ :(1/394)
64 - وَمِمَّا يُرَاعَى فِي اسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَاطٍ , فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ شَهْرِيًّا مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ . قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ : " يَأْخُذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ - أَيْ عَلَى الْغَنِيِّ - لِأَجْلِ التَّسْهِيلِ عَلَيْهِ " . وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ : " يُوضَعُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ , ثُمَّ قَالَ : نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَاتِرُونَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَصَارَ إجْمَاعًا . وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً كُلَّ عَامٍ .
كِتَابَةُ عَامِلِ الْجِزْيَةِ بَرَاءَةً لِلذِّمِّيِّ :(1/395)
65 - إذَا اُسْتُوْفِيَتْ الْجِزْيَةُ كُتِبَ لِلذِّمِّيِّ بَرَاءَةٌ , لِتَكُونَ حُجَّةً لَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا . التَّعَفُّفُ عَنْ أَخْذِ مَا لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ : 66 - يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْجِزْيَةِ عَفِيفَ النَّفْسِ , فَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا رِشْوَةً لِحَدِيثِ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ : { اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ , فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ , فَقَالَ : فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ , أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ , أَوْ شَاةً تَيْعَرُ , ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إبْطَيْهِ . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَغْت ثَلَاثًا } . فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ لِلْعُمَّالِ حَرَامٌ وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ قَبُولُهَا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : " فِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ , وَإِنَّمَا يُهْدَى إلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ وَلِيُخَفِّفَ عَنْ الْمُهْدِي وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ " . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ ( هَدِيَّةٌ(1/396)
وَرِشْوَةٌ ) .
الرِّقَابَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ :
67 - عَلَى الْإِمَامِ مُشَارَفَةُ الْأُمُورِ وَتَصَفُّحُ الْأَحْوَالِ , وَمِنْ مُقْتَضَيَاتِ هَذَا الْوَاجِبِ : الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّالِ الْجِزْيَةِ , وَضَرُورَةُ مَنْحِهِمْ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي نَصِيحَتِهِ الَّتِي كَتَبَهَا لِهَارُونَ الرَّشِيدِ : " أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ , يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّالِ , وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلَادِ , وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ ؟ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ وَعَلَى مَا وَظَّفَ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ , فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَك وَصَحَّ , أَخَذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَخْذِ , حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَالِ , حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إلَيْهِمْ فِيهِ , فَإِنَّ كُلَّ مَا عَمِلَ بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِهِ , وَقَدْ أُمِرَ بِغَيْرِهِ , وَإِنْ أَحْلَلْت بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ , وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , وَإِذَا صَحَّ عِنْدَك مِنْ الْعَامِلِ وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَك فِي رَعِيَّتِك وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ خُبْثِ طُعْمَتِهِ أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ , فَحَرَامٌ عَلَيْك اسْتِعْمَالُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ , وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِك(1/397)
أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِك , بَلْ عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ , وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا مُجَابَةٌ " . وَلِاجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّالِ الْجِزْيَةِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ , يَصْرِفُ الْإِمَامُ لَهُمْ أُجُورًا ( رَوَاتِبَ ) مُجْزِيَةً تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ , وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ . وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ حَيْثُ قَالَ : " حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَشْيَاخُنَا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : دَنَّسْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ : يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إذَا لَمْ اسْتَعِنْ بِأَهْلِ الدِّينِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ ؟ أَمَّا إنْ فَعَلْت فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنْ الْخِيَانَةِ يَعْنِي إذَا اسْتَعْمَلَتْهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِلْ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ لَا يَحْتَاجُونَ .
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْجِزْيَةِ :(1/398)
68 - الْقَبَالَةُ ( أَوْ التَّقْبِيلُ ) وَتُسَمَّى التَّضْمِينَ أَوْ الِالْتِزَامَ : هِيَ فِي اللُّغَةِ - بِالْفَتْحِ الْكَفَالَةُ , وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَبَلَ بِفَتْحِ الْبَاءِ إذَا كَفَلَ وَقَبُلَ بِضَمِّهَا إذَا صَارَ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : كُلُّ مَنْ يَقْبَلُ بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً وَكُتِبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابٌ , فَالْكِتَابُ الَّذِي يُكْتَبُ هُوَ الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ وَالْعَمَلُ قِبَالَةٌ بِالْكَسْرِ ; لِأَنَّهُ صِنَاعَةٌ , وَفِي الِاصْطِلَاحِ : أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا , وَجِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ , فَيَقْبَلُ ذَلِكَ , وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا . وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْجِزْيَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ غَبْنٌ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى مَنْعِهَا , قَالَ أَبُو يُوسُفَ " فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقَرْيَةِ أَنَا أُصَالِحُكُمْ عَنْهُمْ وَأُعْطِيكُمْ ذَلِكَ لَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا سَأَلَ لِأَنَّ ذَهَابَ الْجِزْيَةِ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ لَعَلَّ صَاحِبَ الْقَرْيَةِ يُصَالِحُهُمْ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَفِيهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ إذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ بَلَغَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ " .
مُسْقِطَاتُ الْجِزْيَةِ :(1/399)
69 - تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِالْإِسْلَامِ , أَوْ الْمَوْتِ , أَوْ التَّدَاخُلِ , أَوْ الْعَجْزِ الْمَالِيِّ , أَوْ عَجْزِ الدَّوْلَةِ عَنْ تَوْفِيرِ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , أَوْ الْإِصَابَةِ بِالْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ , أَوْ اشْتِرَاكِ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ , وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ خِلَافٌ يَتَبَيَّنُ بِمَا يَلِي :
الْأَوَّلُ : الْإِسْلَامُ :
70 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَلَا يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ } . 2 - الْإِجْمَاعُ : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : " أَجْمَعُوا - يَعْنِي الْفُقَهَاءَ - عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ " . 3 - وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ فَلَا تَبْقَى بَعْدَهُ . 4 - وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ أَوْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ , فَلَا تُقَامُ الْعُقُوبَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . وَلَا يُطَالَبُ بِالْجِزْيَةِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ قَادِرًا عَلَى النُّصْرَةِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . هَذَا الِاتِّجَاهُ الْفِقْهِيُّ هُوَ السَّائِدُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ , وَلَكِنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ لَمْ يَلْتَزِمُوا بِهِ , فَقَدْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَعْتَبِرُونَهَا بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ عَلَى الْعَبِيدِ . وَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ بِالْعِرَاقِ(1/400)
عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا , فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَارْفَعْ الْجِزْيَةَ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
حُكْمُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَمَّا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ بَعْدَ دُخُولِ الذِّمِّيِّ فِي الْإِسْلَامِ :
71 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ , فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , سَوَاءٌ أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَهُ , وَلَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - قوله تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } تَدُلُّ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى سُقُوطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ أَسْلَمَ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِمَّنْ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى الْكُفْرِ إنْ لَمْ يُؤَدِّهَا , وَمَتَى أَسْلَمَ لَمْ يَجِبْ قِتَالُهُ , فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ . 2 - قوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ , وَأَنَّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ لَا يُطَالَبُ بِقَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ , وَكَذَا لَا يُطَالَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ جِزْيَةٍ قَبْلَ إسْلَامِهِ . قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْهُ : " الصَّوَابُ عِنْدِي أَنْ يُوضَعَ عَمَّنْ أَسْلَمَ الْجِزْيَةُ حِينَ يُسْلِمُ ,(1/401)
وَلَوْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ السَّنَةِ إلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لقوله تعالى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا . . . } يَعْنِي مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ شَيْءٍ " . 3 - وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْآثَارِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . 4 - وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْجِزْيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ , وَلِهَذَا سُمِّيَتْ جِزْيَةً : أَيْ جَزَاءَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ , فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ , أَمَّا إذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ , فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا يُطَالَبُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنْ السَّنَةِ وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ : وَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنْ السَّنَةِ كَالْأُجْرَةِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا يَلِي : 1 - أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ , وَقَدْ وَصَلَ إلَى الذِّمِّيِّ الْمُعَوَّضُ وَهُوَ حَقْنُ الدَّمِ , فَصَارَ الْعِوَضُ وَهُوَ الْجِزْيَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ , فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ . 2 - أَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ , وَقَدْ اسْتَوْفَى الذِّمِّيُّ مَنَافِعَ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ , فَلَا تَسْقُطُ الْأُجْرَةُ بِإِسْلَامِ(1/402)
الذِّمِّيِّ . 3 - وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ بِالْعَقْدِ وُجُوبًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ , وَتَسْتَقِرُّ بِانْقِضَاءِ الزَّمَنِ كَالْأُجْرَةِ , فَكُلَّمَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الْحَوْلِ اسْتَقَرَّ قِسْطُهَا مِنْ جِزْيَةِ الْحَوْلِ .
الثَّانِي : الْمَوْتُ :
72 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُقُوطِ الْجِزْيَةِ بِالْمَوْتِ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَحَصَلَ الْمَوْتُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ : بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ , فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْحُدُودِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ وَسِيلَةً إلَى الْإِسْلَامِ , وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إذَا حَصَلَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ . بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ . أَمَّا إذَا حَصَلَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ , فَلَا تَسْقُطُ بِهِ أَيْضًا فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَتُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقِسْطِ مَا مَضَى مِنْ الْحَوْلِ . وَتَسْقُطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ حَوْلِهَا وَاسْتَدَلُّوا لِعَدَمِ سُقُوطِهَا بِالْمَوْتِ بِالْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ : 1 - مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنَادَةَ - كَاتِبِ حَيَّانِ بْنِ سُرَيْجٍ - وَكَانَ حَيَّانُ بَعَثَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ , وَكَتَبَ يَسْتَفْتِيهِ أَيَجْعَلُ جِزْيَةَ مَوْتَى الْقِبْطِ عَلَى أَحْيَائِهِمْ ؟ فَسَأَلَ(1/403)
عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ عِرَاكَ بْنَ مَالِكٍ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَسْمَعُ - فَقَالَ : مَا سَمِعْت لَهُمْ بِعَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ , إنَّمَا أُخِذُوا عَنْوَةً بِمَنْزِلَةِ الْعَبِيدِ , فَكَتَبَ عُمَرُ إلَى حَيَّانِ بْنِ سُرَيْجٍ يَأْمُرَهُ : أَنْ يَجْعَلَ جِزْيَةَ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْأَحْيَاءِ . 2 - وَلِأَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِ بَدَلًا عَنْ الْعِصْمَةِ وَالسُّكْنَى , فَلَمْ تَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَسَائِرِ دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ .
الثَّالِثُ : اجْتِمَاعُ جِزْيَةِ سَنَتَيْنِ فَأَكْثَرَ :(1/404)
73 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَدَاخُلِ الْجِزَى : فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى عَدَمِ التَّدَاخُلِ وَتَجِبُ الْجِزَى كُلُّهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ : بِأَنَّ الْجِزْيَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ يَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ , فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَغَيْرِهِمَا . وَلِأَنَّ الْمُدَّةَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَخَرَاجِ الْأَرْضِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ إذَا مَضَتْ عَلَى الْجِزْيَةِ سَنَةٌ وَدَخَلَتْ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ الْجِزَى تَتَدَاخَلُ , فَتَسْقُطُ جِزَى السَّنَوَاتِ الْمَاضِيَةِ وَيُطَالَبُ بِجِزْيَةِ السَّنَةِ الْحَالِيَّةِ . وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ : بِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْكُفْرِ , وَالْعُقُوبَاتُ إذَا تَرَاكَمَتْ تَدَاخَلَتْ خَاصَّةً إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْحُدُودِ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ زَنَى مِرَارًا ثُمَّ رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَوْفِ مِنْهُ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ . وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ , فَإِذَا صَارَ دَمُهُ مَحْقُونًا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ , فَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ لِأَجْلِهَا , لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ , كَمَا إذَا أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَى الْحَقْنِ بِالْجِزْيَةِ ; وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَا وَجَبَتْ إلَّا لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ , وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ حَتَّى دَخَلَتْ سَنَةٌ أُخْرَى انْقَطَعَ الرَّجَاءُ فِيمَا مَضَى , وَبَقِيَ الرَّجَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُؤْخَذُ لِلسَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ .(1/405)
الرَّابِعُ : طُرُوءُ الْإِعْسَارِ :
74 - الْإِعْسَارُ : ضِيقُ الْحَالِ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ الْمَالِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ الطَّارِئِ سَوَاءٌ أَطَرَأَ عَلَيْهِ الْإِعْسَارُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ . وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَعْسَرَ أَكْثَرَ الْحَوْلِ ; لِأَنَّ الْإِعْسَارَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً . وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ الطَّارِئِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ الْإِعْسَارَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْهُ , وَتُعْتَبَرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ , وَيُمْهَلُ إلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ . أَخْذًا بِعُمُومِ قوله تعالى : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بِالْإِعْسَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ , وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ , أَمَّا إذَا كَانَ الْإِعْسَارُ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ , فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ , وَيُنْظَرُ وَيُمْهَلُ إلَى وَقْتِ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْأَدَاءِ
الْخَامِسُ : التَّرَهُّبُ وَالِانْعِزَالُ عَنْ النَّاسِ :(1/406)
75 - إذَا تَرَهَّبَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ , فَانْعَزَلَ عَنْ النَّاسِ وَانْقَطَعَ لِلْعِبَادَةِ فِي الْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ , فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ , لِأَنَّهُ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ وَالْجُنُونَ , فَتَسْقُطُ عَنْهُ مُطْلَقًا وَلَوْ مُتَجَمِّدَةً عَنْ سِنِينَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْأَخَوَانِ ( مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ ) مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ الطَّارِئِ ; لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً , فَلَا يُعْتَبَرُ عُذْرًا لِإِسْقَاطِ الْجِزْيَةِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ . وَعَلَّلَهُ الْأَخَوَانِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَّخِذُهُ وَسِيلَةً لِلتَّهَرُّبِ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , فَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِهِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ التَّرَهُّبَ الطَّارِئَ لَا يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ , وَتُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ . أَمَّا إذَا تَرَهَّبَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ ; لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ . وَقَالُوا : الْمُرَادُ بِالرَّاهِبِ الَّذِي تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , هُوَ مَنْ لَا يَبْقَى بِيَدِهِ مَالٌ إلَّا بُلْغَتَهُ فَقَطْ وَيُؤْخَذُ مِمَّا بِيَدِهِ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ , وَأَمَّا الرُّهْبَانُ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ وَيَتَّخِذُونَ الْمَتَاجِرَ وَالْمَزَارِعَ فَحُكْمُهُمْ كَسَائِرِ النَّصَارَى تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ اتِّفَاقًا .(1/407)
السَّادِسُ : الْجُنُونُ :
76 - إذَا أُصِيبَ الذِّمِّيُّ - بَعْدَ الِالْتِزَامِ بِالْجِزْيَةِ - بِالْجُنُونِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ : ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إلَى سُقُوطِهَا بِالْجُنُونِ الطَّارِئِ إذَا اسْتَمَرَّ أَكْثَرَ الْعَامِ , لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً - كَمَا بَيَّنَّا فِي شُرُوطِ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ - وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ إنْ كَانَ يَسِيرًا كَسَاعَةٍ مِنْ شَهْرٍ أَوْ يَوْمٍ مِنْ سَنَةٍ فَلَا تَسْقُطُ . وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا كَيَوْمٍ إفَاقَةً وَيَوْمٍ جُنُونًا فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ تُلَفَّقُ فَإِذَا بَلَغَتْ سَنَةً وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ . أَمَّا الْجِزْيَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْجُنُونِ طِبْقًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي عَدَمِ تَدَاخُلِ الْجِزْيَةِ كَمَا سَبَقَ فِي ( ف 73 ) . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجُنُونَ الطَّارِئَ لَا يُسْقِطُ الْجِزْيَةَ إذَا كَانَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحَوْلِ . أَمَّا إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ فَتَسْقُطُ الْجِزْيَةُ ; لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُؤْخَذُ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ . وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرَّابِعُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَسْقُطُ وَلَا تَجِبُ .
السَّابِعُ : الْعَمَى وَالزَّمَانَةُ وَالشَّيْخُوخَةُ :(1/408)
77 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي سَبَقَ الْكَلَامُ عَنْهَا فِي شُرُوطِ الْجِزْيَةِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ بِهَذِهِ الْعَاهَاتِ , سَوَاءٌ أَكَانَ مَا أُصِيبَ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ أَمْ بَعْدَ انْتِهَائِهِ , وَاشْتَرَطُوا أَنْ تَكُونَ إصَابَتُهُ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ أَكْثَرَ السَّنَةِ , وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُطْلَقًا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ إلَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ الَّذِي أُصِيبَ بِإِحْدَى تِلْكَ الْعَاهَاتِ ; لِأَنَّهَا لَا تُعْتَبَرُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ ابْتِدَاءً . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ , أَمَّا إذَا أُصِيبَ بِإِحْدَى الْعَاهَاتِ السَّابِقَةِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ , فَتَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ , لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِكَمَالِ الْحَوْلِ .
الثَّامِنُ : عَدَمُ حِمَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ :(1/409)
78 - عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مُقَابِلِ الْجِزْيَةِ تَوْفِيرُ الْحِمَايَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَالذَّبُّ عَنْهُمْ , وَمَنْعُ مَنْ يَقْصِدُهُمْ بِالِاعْتِدَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ , وَاسْتِنْقَاذُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ , وَاسْتِرْجَاعُ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ سَوَاءٌ أَكَانُوا يَعِيشُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ كَانُوا مُنْفَرِدِينَ فِي بَلَدٍ لَهُمْ . فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنْ حِمَايَتِهِمْ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ حَتَّى مَضَى الْحَوْلُ , فَهَلْ يُطَالَبُونَ بِالْجِزْيَةِ أَمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ ؟ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا لَمْ تَتَمَكَّنْ الدَّوْلَةُ مِنْ حِمَايَةِ الذِّمِّيِّينَ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ , لِحِفْظِهِمْ وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ , فَإِنْ لَمْ تَدْفَعْ الدَّوْلَةُ عَنْهُمْ , لَمْ تَجِبْ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ الْجِزْيَةَ لِلْحِفْظِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ , فَلَمْ يَجِبْ مَا فِي مُقَابَلَتِهِ , كَمَا لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّمْكِينُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ . وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِالسُّقُوطِ إذَا لَمْ تَحْصُلْ الْحِمَايَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الْحِمَايَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ عِنْدَمَا أَعْلَمَهُ نُوَّابُهُ عَلَى مُدُنِ الشَّامِ بِتَجَمُّعِ الرُّومِ لِمُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ كَتَبَ إلَيْهِمْ أَنْ رُدُّوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ , وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ : إنَّمَا رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ , لِأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا مَا جُمِعَ لَنَا مِنْ الْجُمُوعِ , وَأَنَّكُمْ اشْتَرَطْتُمْ عَلَيْنَا أَنْ(1/410)
نَمْنَعَكُمْ , وَإِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ , وَقَدْ رَدَدْنَا عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ , وَنَحْنُ لَكُمْ عَلَى الشُّرُوطِ مَا كَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إنْ نَصَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَقَالَ الْبَلَاذِرِيُّ : حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : " بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ هِرَقْلُ لِلْمُسْلِمِينَ الْجُمُوعَ , وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ إقْبَالُهُمْ إلَيْهِمْ لِوَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ رَدُّوا عَلَى أَهْلِ حِمْصَ مَا كَانُوا أَخَذُوا مِنْهُمْ مِنْ الْخَرَاجِ . وَقَالُوا : قَدْ شَغَلَنَا عَنْ نُصْرَتِكُمْ وَالدَّفْعِ عَنْكُمْ , فَأَنْتُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ , فَقَالَ أَهْلُ حِمْصَ : لَوَلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ . وَلَنَدْفَعَنَّ جُنْدَ هِرَقْلَ عَنْ الْمَدِينَةِ مَعَ عَامِلِكُمْ , وَنَهَضَ الْيَهُودُ فَقَالُوا : وَالتَّوْرَاةِ لَا يَدْخُلُ عَامِلُ هِرَقْلَ مَدِينَةَ حِمْصَ إلَّا أَنْ نُغْلَبَ وَنَجْهَدَ فَأَغْلَقُوا الْأَبْوَابَ وَحَرَسُوهَا " . وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَهْلُ الْمُدُنِ الَّتِي صُولِحَتْ مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ . وَقَالُوا : إنْ ظَهَرَ الرُّومُ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صِرْنَا إلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ , وَإِلَّا فَإِنَّا عَلَى أَمْرِنَا مَا بَقِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَدَدٌ , فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ الْكَفَرَةَ وَأَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ فَتَحُوا مُدُنَهُمْ وَأَخْرَجُوا الْمُقَلِّسِينَ , فَلَعِبُوا وَأَدَّوْا الْخَرَاجَ . وَجَاءَ فِي كِتَابِ صُلْحِ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ مَعَ أَهْلِ تَفْلِيسَ : " . . . وَإِنْ عَرَضَ لِلْمُسْلِمِينَ شُغْلٌ عَنْكُمْ فَقَهَرَكُمْ عَدُوُّكُمْ فَغَيْرُ مَأْخُوذِينَ بِذَلِكَ .(1/411)
هَذِهِ السَّوَابِقُ التَّارِيخِيَّةُ حَدَثَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم , وَعَلِمُوا بِهَا وَسَكَتُوا عَنْهَا , فَيُعْتَبَرُ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا . وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ حَيْثُ قَالَ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ : " إنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ , وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ , وَنَمُوتُ دُونَ ذَلِكَ , صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم , فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ " وَحُكِيَ فِي ذَلِكَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
التَّاسِعُ : اشْتِرَاكُ الذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ :(1/412)
79 - صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْ الذِّمِّيِّينَ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ الشَّلَبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ : " أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ اسْتَعَانَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ سَنَةً , فَقَاتَلُوا مَعَهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ جِزْيَةُ تِلْكَ السَّنَةِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ , وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ , وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ طَرِيقَ النُّصْرَةِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ الْمَالَ دُونَ النَّفْسِ . وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ الِاسْتِعَانَةَ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِتَالِ . فَقَالَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى : " الْجِهَادُ أَنْ يُقَاتَلَ النَّاسُ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُشْرِكُ لَا يُقَاتِلُ لِذَلِكَ ; وَلِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُ أَنْ يُقَاتَلَ عَنْهُ وَتُمْنَعُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ فِي الْحَرْبِ وَإِنْ اُسْتُعِينَ بِهِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ وَالْخِدْمَةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : " إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكٍ . وَانْظُرْ بَحْثَ : ( جِهَادٌ ) - الِاسْتِعَانَةُ بِالْكُفَّارِ .
مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ :(1/413)
80 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ , حَتَّى رَأَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ اسْمَ الْفَيْءِ شَامِلٌ لِلْجِزْيَةِ . وَيُصْرَفُ الْفَيْءُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ وَمَرَافِقِ الدَّوْلَةِ الْهَامَّةِ : كَأَرْزَاقِ الْمُجَاهِدِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَسَدِّ الثُّغُورِ , وَبِنَاءِ الْجُسُورِ , وَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ , وَإِصْلَاحِ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا , وَرَوَاتِبِ الْمُوَظِّفِينَ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ وَمَا يُرَاعَى فِيهِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ : ( بَيْتُ الْمَالِ , وَفَيْءٌ ) .
حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْجِهَادِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5588)(1/414)
10 - الْقَصْدُ مِنْ الْجِهَادِ دَعْوَةُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْإِسْلَامِ , أَوْ الدُّخُولِ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ , وَجَرَيَانُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ , وَبِذَلِكَ يَنْتَهِي تَعَرُّضُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ , وَاعْتِدَاؤُهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ , وَوُقُوفُهُمْ فِي طَرِيقِ نَشْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ , وَيَنْقَطِعُ دَابِرُ الْفَسَادِ , قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } . وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } . وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسِيرَتُهُ , وَسِيرَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى جِهَادِ الْكُفَّارِ , وَتَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ مُرَتَّبَةٍ وَهِيَ : قَبُولُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ , أَوْ الْبَقَاءُ عَلَى دِينِهِمْ مَعَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ , وَعَقْدُ الذِّمَّةِ . فَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا , فَالْقِتَالُ . وَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ , عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( جِزْيَةٌ , وَأَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
مُجَاوَرَةُ الذِّمِّيِّ لِلْمُسْلِمِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5681)(1/415)
13 - لَا يُمْنَعُ الذِّمِّيُّ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْكِينِهِ مِنْ التَّعَرُّفِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَدْعَى لِإِسْلَامِهِ طَوَاعِيَةً . وَيُمْنَعُ مِنْ التَّعَلِّي بِالْبِنَاءِ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِ , وَهُوَ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْجِوَارِ وَإِنَّمَا مِنْ حَقِّ الْإِسْلَامِ , وَلِذَا يُمْنَعُ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ الْمُسْلِمُ بِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } , وَلِمَا فِي التَّعَلِّي مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْأَصَحِّ - بِمَا إذَا لَمْ يَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ بِمَحَلَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ عِمَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ إشْرَافٌ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَلَا مُجَاوَرَةَ عُرْفًا . وَقَيَّدَ الْحَلْوَانِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الْمُجَاوَرَةِ بِأَنْ يَقِلَّ عَدَدُهُمْ بِحَيْثُ لَا تَتَعَطَّلُ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا تَقِلُّ جَمَاعَتُهُمْ بِسُكْنَاهُمْ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ . وَيُنْظَرُ فِي التَّفْصِيلِ مُصْطَلَحُ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) وَمُصْطَلَحُ : ( تَعَلِّي ) .
و - تَحْرِيقُ الْعَدُوِّ بِالنَّارِ , وَتَغْرِيقُهُ بِالْمَاءِ , وَرَمْيُهُ بِالْمَنْجَنِيقِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5609)(1/416)
32 - قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : إذَا قَدَرَ عَلَى الْعَدُوِّ فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيقُهُ بِالنَّارِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ; لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْثٍ فَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ : إنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا , وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ , فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا } . فَأَمَّا رَمْيُهُمْ قَبْلَ أَخْذِهِمْ بِالنَّارِ , فَإِنْ أَمْكَنَ أَخْذُهُمْ بِدُونِهَا لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُمْ بِهَا ; لِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ , وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمْ بِغَيْرِهَا فَجَائِزٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ , وَالْأَوْزَاعِيُّ , وَالْحَنَابِلَةُ , وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَغْرِيقُ الْعَدُوِّ بِالْمَاءِ , إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ .(1/417)
33 - وَأَمَّا حِصَارُ الْقِلَاعِ : فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ : يَجُوزُ حِصَارُ الْكُفَّارِ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ , وَإِرْسَالُ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ , وَقَطْعُهُ عَنْهُمْ , وَرَمْيُهُمْ بِنَارٍ وَمَنْجَنِيقٍ وَغَيْرِهِمَا ; لقوله تعالى : { وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ } { وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ , وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ } . وَقِيسَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا يَعُمُّ بِهِ الْهَلَاكُ , وَوَافَقَ أَحْمَدُ الْحَنَفِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي جَوَازِ رَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا , وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْلَ فَقَالُوا : يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ بِالْحِصْنِ بِغَيْرِ تَحْرِيقٍ وَتَغْرِيقٍ إذَا كَانُوا مَعَ مُسْلِمِينَ , أَوْ ذُرِّيَّةٍ أَوْ نِسَاءٍ , وَلَمْ يَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَيُرْمَوْنَ بِالْمَنْجَنِيقِ , وَلَوْ مَعَ ذُرِّيَّةٍ , أَوْ نِسَاءٍ , أَوْ مُسْلِمِينَ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ الْغَرَقِ لَمْ يَجُزْ إذَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ إتْلَافُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ يَحْرُمُ إتْلَافُهُمْ قَصْدًا , وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ إلَّا بِهِ جَازَ . وَإِذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا لَزِمَتْهُ مُصَابَرَتُهُ , وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا فِي إحْدَى الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ :
1 - أَنْ يُسَلِّمُوا فَيُحْرِزُوا بِالْإِسْلَامِ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ , فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .(1/418)
2 - أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ , فَيَجُوزُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ , سَوَاءٌ أَعْطُوهُ جُمْلَةً , أَوْ جَعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ , فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَبَذَلُوهَا لَزِمَهُ قَبُولُهَا ; لقوله تعالى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . وَإِنْ بَذَلُوا مَالًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْجِزْيَةِ فَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَبُولِهِ قَبِلَهُ , وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إذَا لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ .
3 - أَنْ يَفْتَحَهُ .
4 - أَنْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهُ , إمَّا لِضَرَرِ الْإِقَامَةِ , وَإِمَّا لِلْيَأْسِ مِنْهُ , وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ يَنْتَهِزُهَا , تَفُوتُ بِإِقَامَتِهِ , فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ ; لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا , فَقَالَ : إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غَدًا . . . } .(1/419)
5 - أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ , فَيَجُوزُ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِأَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ } . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ حُرًّا مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا فَقِيهًا كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى ; لِأَنَّ عَدَمَ الْبَصَرِ لَا يَضُرُّ هُنَا ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَأْيُهُ وَمَعْرِفَةُ الْمَصْلَحَةِ , وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَصَرِ فِيهِ , بِخِلَافِ الْقَضَاءِ , فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَصَرِ لِيَعْرِفَ الْمُدَّعِيَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ , وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ , وَالْمُقَرَّ لَهُ مِنْ الْمُقِرِّ , وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْفِقْهِ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ وَيُعْتَبَرُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ , وَلَا يُعْتَبَرُ فِقْهُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا . وَلِهَذَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا حَكَّمُوا رَجُلَيْنِ جَازَ , وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ , وَإِنْ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى رَجُلٍ يُعَيِّنُهُ الْإِمَامُ جَازَ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ , وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ جَعَلُوا التَّعْيِينَ إلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اخْتَارُوا مَنْ لَا يَصْلُحُ , وَإِنْ عَيَّنُوا رَجُلًا يَصْلُحُ فَرَضِيَهُ الْإِمَامُ جَازَ ; لِأَنَّ { بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَيَّنُوهُ(1/420)
فَرَضِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَجَازَ حُكْمَهُ وَقَالَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ } . وَإِنْ مَاتَ مَنْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ قَامَ مَقَامَهُ , وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ , أَوْ طَلَبُوا حُكْمًا لَا يَصْلُحُ , رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ , وَكَانُوا عَلَى الْحِصَارِ حَتَّى يَتَّفِقُوا , وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِاثْنَيْنِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ جَازَ , وَإِلَّا رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ , وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِتَحْكِيمِ مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ الشَّرَائِطُ فِيهِ وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ . ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَمْ يَحْكُمْ , وَيُرَدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ كَمَا كَانُوا . 34 - وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ : فَإِنْ حَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ , وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ نَفَذَ حُكْمُهُ ; لِأَنَّ { سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِذَلِكَ , فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ , فَقَالَ الْقَاضِي يَلْزَمُ حُكْمُهُ , وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ إلَيْهِ فِيمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ , فَكَانَ لَهُ الْمَنُّ كَالْإِمَامِ فِي الْأَسِيرِ . وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ ; لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ , وَلَا حَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنِّ , وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ , فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْمَنَّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إذَا(1/421)
سُبُوا فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ , وَيُحْتَمَلُ الْجَوَازُ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ السَّبْيُ فِيهِمْ بِخِلَافِ مَنْ سُبِيَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ , وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ جَازَ , لِأَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ , وَالْفِدَاءِ , وَالِاسْتِرْقَاقِ , وَالْمَنِّ , فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ , وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ ; لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّرَاضِي , وَلِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ إجْبَارَ الْأَسِيرِ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ , وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ جَازَ لِلْإِمَامِ الْمَنُّ عَلَى بَعْضِهِمْ , لِأَنَّ { ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا مِنْ قُرَيْظَةَ وَمَالِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابَهُ } . وَيُخَالِفُ مَالَ الْغَنِيمَةِ إذَا حَازَهُ الْمُسْلِمُونَ ; لِأَنَّ مِلْكَهُمْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ , وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهُمْ أَحْرَارٌ , وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ , بِخِلَافِ الْأَسِيرِ , فَإِنَّ الْأَسِيرَ قَدْ ثَبَتَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ , وَلِذَلِكَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ . وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ نَظَرْت , فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ سَقَطَ لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ , قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ . كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ ,(1/422)
وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَا حُكِمَ فِيهِ , وَإِنْ حُكِمَ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ غَنِيمَةً ; لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْقَهْرِ وَالْحَصْرِ .
( جَهْلٌ ) (1)
1 - الْجَهْلُ لُغَةً : نَقِيضُ الْعِلْمِ . يُقَالُ جَهِلْت الشَّيْءَ جَهْلًا وَجَهَالَةً بِخِلَافِ عَلِمْته , وَجَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ أَوْ خَطَأَ . وَجَهِلَ الْحَقَّ أَضَاعَهُ , فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهْلٌ . وَجَهَّلْتُهُ - بِالتَّثْقِيلِ - نَسَبْته إلَى الْجَهْلِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ , وَهُوَ قِسْمَانِ : بَسِيطٌ وَمُرَكَّبٌ . أ - الْجَهْلُ الْبَسِيطُ : هُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا . ب - الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ : عِبَارَةٌ عَنْ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ غَيْرِ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ . وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ " جَهَالَةٌ " التَّفْرِقَةُ بَيْنَ مُصْطَلَحَيْ ( جَهْلٌ وَجَهَالَةٌ ) فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ لَهُمَا حَيْثُ يَسْتَعْمِلُونَ الْجَهْلَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الْإِنْسَانِ بِهِ فِي اعْتِقَادِهِ أَوْ قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ , وَيَسْتَعْمِلُونَ الْجَهَالَةَ فِي حَالَةِ اتِّصَافِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ بِهَا ( ر : جَهَالَةٌ ) .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5654)(1/423)
أ - ( النِّسْيَانُ ) : 2 - النِّسْيَانُ لُغَةً لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدِهِمَا : تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ , وَذَلِكَ خِلَافُ الذِّكْرِ لَهُ . وَالثَّانِي : التَّرْكُ عَنْ تَعَمُّدٍ وَمِنْهُ قوله تعالى : { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } أَيْ : لَا تَقْصِدُوا التَّرْكَ وَالْإِهْمَالَ . وَنَسِيت رَكْعَةً أَهْمَلْتهَا ذُهُولًا , وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : مِنْ الْمَجَازِ نَسِيت الشَّيْءَ تَرَكْته . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِ حَالِ السُّنَّةِ , فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ أَيْ : نَفْسَ الْوُجُوبِ , لَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ . قَالَ الْقَرَافِيُّ : النِّسْيَانُ لَا إثْمَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ , بِخِلَافِ الْجَهْلِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِنْسَانِ تَعَلُّمُهُ . وَالنِّسْيَانُ أَيْضًا يَهْجُمُ عَلَى الْعَبْدِ قَهْرًا لَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْهُ , وَالْجَهْلُ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ بِالتَّعَلُّمِ . قَالَ التَّهَانُوِيُّ : وَكَذَا الْغَفْلَةُ وَالذُّهُولُ وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ بَعْدَ الْعِلْمِ يُسَمَّى نِسْيَانًا . قَالَ الْآمِدِيُّ : إنَّ الذُّهُولَ وَالْغَفْلَةَ وَالنِّسْيَانَ عِبَارَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ , لَكِنْ يَقْرُبُ أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهَا مُتَّحِدَةً , وَكُلُّهَا مُضَادَّةٌ لِلْعِلْمِ , بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهَا مَعَهُ .(1/424)
ب - السَّهْوُ : 3 - السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ مِنْ سَهَا يَسْهُو سَهْوًا : أَيْ غَفَلَ , وَالسَّهْوَةُ : الْغَفْلَةُ . وَفَرَّقُوا بَيْنَ السَّاهِي وَالنَّاسِي بِأَنَّ النَّاسِيَ , إذَا ذَكَّرْته تَذَكَّرَ , وَالسَّاهِي بِخِلَافِهِ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ التَّهَانُوِيُّ : وَيَقْرَبُ مِنْهُ أَيْ مِنْ ( الْجَهْلِ ) السَّهْوُ وَكَأَنَّهُ جَهْلٌ بَسِيطٌ سَبَبُهُ عَدَمُ اسْتِثْبَاتِ التَّصَوُّرِ حَتَّى إذَا نُبِّهَ السَّاهِي أَدْنَى تَنْبِيهٍ تَنَبَّهَ .
أَقْسَامُ الْجَهْلِ : يَنْقَسِمُ الْجَهْلُ إلَى قِسْمَيْنِ :(1/425)
أَوَّلًا - الْجَهْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ عُذْرًا : 4 - وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ حَتَّى لَا يُقْتَلَ , وَلَكِنْ لَا يَكُونُ عُذْرًا فِي الْآخِرَةِ حَتَّى أَنَّهُ يُعَاقَبُ فِيهَا . وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ جَهْلُ الْكُفَّارِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ , فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا أَصْلًا , لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَعِنَادٌ بَعْدَ وُضُوحِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبُوبِيَّتِهِ , بِحَيْثُ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ , وَكَذَا عَلَى حَقِّيَّةَ الرَّسُولِ مِنْ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ . وَكَذَا جَهْلُ صَاحِبِ الْهَوَى الَّذِي يَقُولُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى , أَوْ يَقُولُ بِعَدَمِ إثْبَاتِ صِفَةٍ لَهُ سُبْحَانَهُ . هَذَا مَا قَالَهُ الْحَمَوِيُّ , وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ : الْجَهْلُ بِالصِّفَةِ هَلْ هُوَ جَهْلٌ بِالْمَوْصُوفِ مُطْلَقًا أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؟ الْمُرَجَّحُ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالذَّاتِ مِنْ حَيْثُ صِفَاتُهَا لَا مُطْلَقًا , وَمِنْ ثَمَّ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا جَهْلُ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ أَوْ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوْ الْإِجْمَاعَ , أَوْ عَمِلَ بِالْغَرِيبِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ أَصْلًا .
حِجَازٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5796)(1/426)
1 - الْحِجَازُ لُغَةً مِنْ الْحَجْزِ , وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الْحَجْزُ أَنْ يَحْجِزَ بَيْنَ مُتَقَاتِلَيْنِ , وَالْحِجَازُ الِاسْمُ وَكَذَا الْحَاجِزُ , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } أَيْ حِجَازًا بَيْنَ مَاءٍ مِلْحٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ لَا يَخْتَلِطَانِ , وَذَلِكَ الْحِجَازُ قُدْرَةُ اللَّهِ . وَيُقَالُ لِلْجِبَالِ أَيْضًا حِجَازٌ , أَيْ لِأَنَّهَا تَحْجِزُ بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ . وَالْحِجَازُ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ , سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ الْحَجْزِ الَّذِي هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ , قِيلَ : لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْغَوْرِ ( أَيْ تِهَامَةَ ) وَالشَّامِ وَالْبَادِيَةِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : سُمِّيَ حِجَازًا لِأَنَّ الْحِرَارَ حَجَزَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَالِيَةِ نَجْدٍ . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ اللُّغَوِيِّينَ فِي بَيَانِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْحِجَازِ وَبَيَانِ حُدُودِهِ , فَقَالَ يَاقُوتٌ الْحَمَوِيُّ : الْحِجَازُ الْجَبَلُ الْمُمْتَدُّ الَّذِي حَالَ بَيْنَ الْغَوْرِ , غَوْرِ تِهَامَةَ , وَنَجْدٍ , ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ الْحِجَازُ مِنْ تُخُومِ صَنْعَاءَ مِنْ الْعَبْلَاءِ وَتَبَالَةَ إلَى تُخُومِ الشَّامِ . وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ هِشَامٍ الْكَلْبِيِّ إنَّ جَبَلَ السَّرَاةِ مِنْ قُعْرَةِ الْيَمَنِ إلَى أَطْرَافِ بِوَادِي الشَّامِ سَمَّتْهُ الْعَرَبُ حِجَازًا , فَصَارَ مَا خَلْفَهُ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ غَوْرَ تِهَامَةَ , وَمَا دُونَهُ فِي شَرْقِيِّهِ إلَى أَطْرَافِ الْعِرَاقِ وَالسَّمَاوَةُ نَجْدًا . وَالْجَبَلُ نَفْسُهُ وَهُوَ سَرَاتُهُ وَمَا اُحْتُجِزَ بِهِ فِي شَرْقِيِّهِ مِنْ الْجِبَالِ وَانْحَازَ(1/427)
إلَى نَاحِيَةٍ فِيهِ هُوَ الْحِجَازُ . وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَخَاصَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ قَصَرُوا حُكْمَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ , فَبَيَانُ مُرَادِهِمْ بِالْحِجَازِ كَمَا يَلِي : قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَالْحِجَازُ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا كُلُّهَا . ثُمَّ قَالَ : " وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنْ يُمْنَعُوا رُكُوبَ بَحْرِ الْحِجَازِ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ الْمُقَامِ فِي سَوَاحِلِهِ , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي بَحْرِ الْحِجَازِ جَزَائِرُ وَجِبَالٌ تُسْكَنُ مُنِعُوا مِنْ سُكْنَاهَا لِأَنَّهَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ " . ا هـ . وَذَكَرَ فِي الْمِنْهَاجِ وَشَرْحِهِ مِنْ مَدَنِ الْحِجَازِ وَقُرَاهُ : مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَالْيَمَامَةَ وَقُرَاهَا كَالطَّائِفِ وَوَجٍّ وَجَدَّةَ وَالْيَنْبُعَ وَخَيْبَرَ , ( وَأَضَافَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ فَدَكًا ) . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ الْإِقَامَةِ بِجَزَائِرِ بَحْرِ الْحِجَازِ وَلَوْ كَانَتْ خَرَابًا , وَمِنْ الْإِقَامَةِ فِي بَحْرٍ فِي الْحِجَازِ وَلَوْ فِي سَفِينَةٍ . وَفَسَّرَ الْقَلْيُوبِيُّ الْيَمَامَةَ بِأَنَّهَا الْبَلَدُ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُسَيْلِمَةُ , وَاَلَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهَا زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحِجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَأْتِي - يَشْمَلُ مَا هُوَ شَرْقِيَّ جِبَالِ الْحِجَازِ حَتَّى الْيَمَامَةِ وَقُرَاهَا وَهِيَ مِنْطَقَةُ الرِّيَاضِ الْآنَ , أَوْ مَا كَانَ يُسَمَّى قَدِيمًا الْعَرْضُ أَوْ الْعَارِضُ وَهِيَ بَعْضُ الْعُرُوضِ , جَاءَ فِي مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ : الْعُرُوض الْيَمَامَةُ وَالْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهُمَا .(1/428)
وَلَيْسَتْ الْبَحْرَيْنِ وَقَاعِدَتُهَا هَجَرُ مِنْ الْحِجَازِ . وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ : فَإِنَّهُمْ عِنْدَمَا تَعَرَّضُوا لِمَا يُمْنَعُ الْكُفَّارُ مِنْ سُكْنَاهُ بَيَّنُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحَدِيثِ ( الْحِجَازُ ) . جَاءَ فِي الْمُغْنِي : قَالَ أَحْمَدُ , فِي حَدِيثِ { أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا وَمَا وَالَاهَا . وَجَاءَ فِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَيْمَاءَ وَفَيْدًا وَنَحْوَهُمَا لَا يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ سُكْنَاهَا وَكَذَلِكَ الْيَمَنُ وَنَجْرَانُ وَتَيْمَاءُ وَفَيْدٌ مِنْ بِلَادِ طيئ . وَجَاءَ فِي مُطَالَبِ أُولِي النُّهَى : يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْإِقَامَةِ بِالْحِجَازِ , وَهُوَ مَا حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ . وَالْحِجَازِ كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَامَةِ وَخَيْبَرَ وَالْيَنْبُعِ وَفَدَكِ وَقُرَاهَا , وَفَدَكُ قَرْيَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ . وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَمِنْ الْحِجَازِ تَبُوكُ وَنَحْوُهَا , وَمَا دُونَ الْمُنْحَنَى وَهُوَ عَقَبَةُ الصَّوَّانِ يُعْتَبَرُ مِنْ الشَّامِ كَمَعَانٍ .
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 5934)(1/429)
35 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مُكَلَّفٍ , وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ , لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْعِبَادَاتِ , وَسَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهُ فِي الْمَعَاصِي , فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَلَا تُقَامُ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ , إلَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ . وَلَا يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ حَدُّ الشُّرْبِ عِنْدَهُمْ . وَفِي حَدِّ الزِّنَى تَفْصِيلٌ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ ( الْمُسْتَأْمَنُ ) بِذِمِّيَّةٍ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ . وَإِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْتَأْمَنَةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنَةُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كِلَاهُمَا يُحَدَّانِ . وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى : لَا تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْفَرْعِ . وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ . أَمَّا حَدُّ الزِّنَى فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ فِيهِ فَقَطْ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا إذَا اغْتَصَبَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ . وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَكَبَ جَرِيمَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ . وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ . وَقَالَ(1/430)
الشَّافِعِيَّةُ : يُسْتَوْفَى مِنْ الذِّمِّيِّ مَا ثَبَتَ وَلَوْ حَدَّ زِنًى أَوْ قَطْعَ سَرِقَةٍ , وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ خَمْرٍ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ حِلِّهِ فِي عَقِيدَتِهِمْ . وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إحْصَانِ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا . وَلَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَيُحَدُّ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُعَاهَدًا . وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إذَا رُفِعَ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا يُوجِبُ عُقُوبَةً مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ فَجَرَا بَعْدَ إحْصَانِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا } . وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ كَشُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُحَدَّ , وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ . وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالسَّرِقَةِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ . وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يُقْطَعُ الْمُسْتَأْمَنُ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ . وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ , فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ . وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ , وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ , لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم : لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ . فَإِنْ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْهَلَهُ كَحَدِيثِ(1/431)
الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ , قُبِلَ مِنْهُ , لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا , وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ , لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ( كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ ) . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَالزُّهْرِيِّ , وَقَتَادَةَ , وَالثَّوْرِيِّ لقوله تعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ , وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } . وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ } . وَفِي حَدِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى مُصْطَلَحِ ( إكْرَاهٌ ) ( وَ ر : زِنًى ) وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لِوُجُوبِ كُلِّ حَدٍّ فُصِّلَ , الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا .
خَامِسًا - الِاحْتِسَابُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6071)(1/432)
40 - أَهْلُ الذِّمَّةِ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ , إذْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِهِمْ , وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ , وَبِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَإِنَّ إقَامَتَهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا , وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ دُونَ هَؤُلَاءِ . وَمِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُمْ إنْ أَقَامُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يُحْتَسَبُ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ فِي كُلِّ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهُ فِي دِينِهِمْ مِمَّا لَا أَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهِ , وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ , فَلَا تَعَرُّضَ لَهُمْ فِيمَا الْتَزَمْنَا تَرْكَهُ , وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ , وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا انْفَرَدُوا فِي مِصْرِهِمْ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ فِي الْقُرَى , وَلَوْ كَانَ مِنْ بَيْنِ سُكَّانِهَا مُسْلِمُونَ , لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ إعْلَامِ الدِّينِ مِنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنْ الْفِسْقِ فِي قُرَاهُمْ مِمَّا لَمْ يُصَالِحُوا عَلَيْهِ مِثْلَ الزِّنَى وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ مُنِعُوا مِنْهُ , لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِيَانَةٍ(1/433)
مِنْهُمْ , وَلَكِنَّهُ فِسْقٌ فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ " أَهْلُ الذِّمَّةِ " .
ب - الْآثَارُ الْفِقْهِيَّةُ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ : 5 - يُعْتَبَرُ مُصْطَلَحُ حَظْرٍ مِنْ النَّاحِيَةِ الْفِقْهِيَّةِ مَقْسِمًا لِمَا اُسْتُخْرِجَ مِنْ مُصْطَلَحَاتٍ أَصْلِيَّةٍ كَمُصْطَلَحِ : نَظَرٌ , وَلَمْسٌ , وَلِبَاسٌ , وَغَيْرِهَا . وَالنَّاظِرُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ يَجِدُ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَفْرَدُوا فِي كُتُبِهِمْ قِسْمًا خَاصًّا ذَكَرُوا فِيهِ أَحْكَامًا تَنَاوَلَتْ الْكَثِيرَ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ , فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ وَالْمَسِّ , وَقَدْ ذَكَرُوا فِيهِ حُكْمَ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ , وَالْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ , وَالرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ , وَالْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ , وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسِّ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّبْسِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ وَمَا لَا يُكْرَهُ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْآنِيَةِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْهُمَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ وَمَرَاتِبِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْهَدَايَا وَالضِّيَافَاتِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِنَثْرِ الدَّرَاهِمِ وَالسُّكْرِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي تَعُودُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ كَدُخُولِهِمْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ , وَدُخُولِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَسْبِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهِ ,(1/434)
وَأَسْبَابِهِ , وَبَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهَا , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْمَقَابِرِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّدَاوِي وَالْمُعَالَجَاتِ وَفِيهِ الْعَزْلُ وَإِسْقَاطُ الْوَلَدِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخِتَانِ وَالْخِصَاءِ , وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ , وَقَصِّ الشَّارِبِ , وَحَلْقِ الرَّأْسِ , وَحَلْقِ الْمَرْأَةِ شَعْرَهَا , وَوَصْلِهَا شَعْرَ غَيْرِهَا , وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالزِّينَةِ وَاِتِّخَاذِ الْخَادِمِ لِلْخِدْمَةِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَسَعُ مِنْ جِرَاحَاتِ بَنِي آدَمَ وَالْحَيَوَانَاتِ , وَقَتْلِ الْحَيَوَانَاتِ , وَمَا لَا يَسَعُ مِنْ ذَلِكَ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَسْمِيَةِ الْأَوْلَادِ وَكْنَاهُمْ وَالْعَقِيقَةِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِيبَةِ وَالْحَسَدِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْمَدْحِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ لِلنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ وَالِاسْتِيَامِ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ الَّذِي يَخْرُجُ إلَى السَّفَرِ فَيَمْنَعُهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا أَوْ الدَّائِنُ , وَفِي سَفَرِ الْمَرْأَةِ وَمَنْعِ زَوْجِهَا لَهَا , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَرْضِ وَالدَّيْنِ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُلَاقَاةِ الْمُلُوكِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمْ , وَتَقْبِيلِ أَيْدِيهِمْ أَوْ يَدِ غَيْرِهِمْ , وَتَقْبِيلِ الرَّجُلِ وَجْهَ غَيْرِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ , وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ ,(1/435)
وَمَسَائِلُ أُخْرَى مُتَفَرِّقَةٌ . وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ , وَبِغَالِبِ الرَّأْيِ , وَبِالرَّجُلِ الَّذِي رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ أَبَاهُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ , وَبِالصَّلَاةِ , وَبِالتَّسْبِيحِ , وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ , وَرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ , وَبِآدَابِ الْمَسْجِدِ , وَالْقِبْلَةِ وَالْمُصْحَفِ , وَمَا كُتِبَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ نَحْوِ الدَّرَاهِمِ وَالْقِرْطَاسِ أَوْ كُتِبَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى , وَبِالْمُسَابَقَةِ وَالسَّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ . هَذَا وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى اسْمٍ مُعَيَّنٍ يُطْلِقُونَهُ عَلَى ذَلِكَ الْقِسْمِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ تِلْكَ الْأَحْكَامَ فَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يُلَقِّبُونَهُ بِكِتَابِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ . وَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الْمَبْسُوطِ وَصَاحِبِ الْبَدَائِعِ يُلَقِّبُونَهُ بِكِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ , وَبَعْضُهُمْ كَصَاحِبِ الْكَنْزِ وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَصَاحِبِ الِاخْتِيَارِ وَصَاحِبِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ يُلَقِّبُونَهُ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ . وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ هُوَ أَنَّ الْمَسَائِلَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهِ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ , لِمَا يُوجَدُ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِهِ مِنْ الْكَرَاهِيَةِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ , وَلَقَّبَهُ بَعْضُهُمْ بِكِتَابِ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ , لِأَنَّ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ أَطْلَقَهَا الشَّرْعُ , وَالزُّهْدُ وَالْوَرَعُ تَرْكُهَا . وَأَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ(1/436)
الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا تِلْكَ الْمَسَائِلَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَمْ يُفْرِدُوا لَهَا قِسْمًا مُسْتَقِلًّا , وَمِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ النَّظَرُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الرُّؤْيَا , فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَحْكَامَهُ فِي عَدَدٍ مِنْ الْمَوَاطِنِ , فَالْمَالِكِيَّةُ ذَكَرُوا تِلْكَ الْأَحْكَامَ فِي نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ . وَفِي شَرَائِطِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ , وَفِي النِّكَاحِ , وَفِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ . وَالشَّافِعِيَّةُ ذَكَرُوا تِلْكَ الْأَحْكَامَ فِي النِّكَاحِ وَفِي الشَّهَادَاتِ . وَذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي النِّكَاحِ . وَالتَّفْصِيلُ مَحَلُّهُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الْمَسَائِلِ .
شُرُوطُ الْحِمَى (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6273)(1/437)
7 - أ - أَنْ تَقَعَ الْحِمَايَةُ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , وَلِنَائِبِ الْإِمَامِ الْحِمَايَةُ , وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنْ الْإِمَامَ , لِأَنَّ الْحِمَايَةَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكِ أَوْ الْإِقْطَاعِ , فَلَا تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُهُمَا , وَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ الْحَقُّ فِي الْحِمَايَةِ . ب - أَنْ يَكُونَ الْحِمَى لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ , بِأَنْ يَكُونَ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ , وَالْإِبِلُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَإِبِلِ الزَّكَاةِ , وَضَوَالِّ النَّاسِ الَّتِي يَقُومُ الْإِمَامُ بِحِفْظِهَا , وَمَاشِيَةِ ضِعَافِ الْمُسْلِمِينَ . وَخَصَّهُ الشَّافِعِيَّةُ لِلضُّعَفَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ . وَقَالَ الْحَطَّابُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا جَارٍ عَلَى مَذْهَبِنَا . وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالْحِمَى , لِأَنَّ فِي تَخْصِيصِ نَفْسِهِ بِالْحِمَى تَضْيِيقًا عَلَى النَّاسِ وَإِضْرَارًا بِهِمْ , وَلَيْسَ لَهُ إدْخَالُهُ مَوَاشِيَهُ مَا حَمَاهُ لِلْمُسْلِمِينَ , إنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ أَغْنِيَاءَ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ أَهْلَ الذِّمَّةِ , وَيَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ , لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ . ج - أَنْ لَا يَكُونَ الْحِمَى مِلْكًا لِأَحَدٍ , مِثْلَ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ وَالْمَوَاتِ , وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ الْمُسْلِمُونَ بِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ , فَمَنْفَعَتُهُمْ فِي حِمَايَةِ الْإِمَامِ أَكْثَرُ . قَالَ سَحْنُونٌ : الْأَحْمِيَةُ إنَّمَا تَكُونُ فِي بِلَادِ الْأَعْرَابِ الْعَفَاءِ , الَّتِي لَا عِمَارَةَ فِيهَا بِغَرْسٍ وَلَا(1/438)
بِنَاءٍ , وَإِنَّمَا تَكُونُ الْأَحْمِيَةُ فِيهَا فِي الْأَطْرَافِ , حَتَّى لَا تَضِيقَ عَلَى سَاكِنٍ , وَكَذَلِكَ الْأَوْدِيَةُ الْعَفَاءُ , الَّتِي لَا مَسَاكِنَ بِهَا , إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ مَنَافِعِ أَهْلِهَا مِنْ الْمَسَارِحِ وَالْمَرْعَى . وَلَا يَجُوزُ حِمَايَةُ الْمَاءِ الْعِدِّ - وَهُوَ الَّذِي لَهُ مَادَّةٌ لَا تَنْقَطِعُ - كَمَاءِ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ . د - أَنْ يَكُونَ الْحِمَى قَلِيلًا , لَا يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ , بَلْ يَكُونُ فَاضِلًا عَنْ مَنَافِعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
( أَحْكَامُ الْحَمَالَةِ ) (1):
أ - دَفْعُ الزَّكَاةِ لِلْحَمِيلِ :
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6277)(1/439)
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِلْحَمِيلِ إذَا اسْتَدَانَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِسَبَبِ إتْلَافِ نَفْسٍ , أَوْ مَالٍ , أَوْ نَهْبٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا , قَالَ الْحَنَابِلَةُ : وَلَوْ كَانَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ غَنِيًّا : فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا , وَبِهَذَا قَالَ إسْحَاقُ , وَأَبُو ثَوْرٍ , وَأَبُو عُبَيْدٍ , وَابْنُ الْمُنْذِرِ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ : لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا , أَوْ لِغَارِمٍ , أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ , أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ } فَيَجُوزُ لِلْمُتَحَمِّلِ فِي صَلَاحٍ وَبِرٍّ إذَا اسْتَدَانَ مَالًا لِتَسْكِينِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ مِمَّا يَأْخُذُهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إذَا كَانَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ كَالْغَرِيمِ . وَلِأَنَّ الْحَمِيلَ قَدْ يَلْتَزِمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ الْكَثِيرِ , وَقَدْ أَتَى مَعْرُوفًا عَظِيمًا , وَابْتَغَى صَلَاحًا عَامًّا , فَكَانَ مِنْ الْمَعْرُوفِ حَمْلُهُ عَنْهُ مِنْ الزَّكَاةِ وَتَوْفِيرِ مَالِهِ عَلَيْهِ , لِئَلَّا يُجْحِفَ بِمَالِ الْمُصْلِحِينَ , أَوْ يُوهِنَ عَزَائِمَهُمْ عَنْ تَسْكِينِ الْفِتَنِ , وَكَفِّ الْمَفَاسِدِ , فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يُؤَدِّي حَمَالَتَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا . وَأَمَّا إنْ(1/440)
اسْتَدَانَ الْحَمَالَةَ وَأَدَّاهَا جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ , لِأَنَّ الْغُرْمَ بَاقٍ , وَالْمُطَالَبَةَ قَائِمَةٌ , فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَدِينًا بِسَبَبِ الْحَمَالَةِ . وَإِنْ أَدَّى الْحَمَالَةَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ , لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ الْغُرْمُ , فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَدِينًا . وَلَا تُعْتَبَرُ الْغَرَامَةُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ حَمَالَةً , وَلَا تَأْخُذُ حُكْمَهَا , لِأَنَّ الْغَارِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ يَأْخُذُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ , فَاعْتُبِرَتْ حَاجَتُهُ كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ , وَأَمَّا الْغَارِمُ فِي الْحَمَالَةِ فَيَأْخُذُ لِإِخْمَادِ الْفِتْنَةِ فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مَعَ الْغِنَى كَالْغَازِي وَالْعَامِلِ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا تُدْفَعُ الزَّكَاةُ إلَّا لِحَمِيلٍ فَقِيرٍ , لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا تَحِلُّ لَهُ كَسَائِرِ أَصْنَافِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ رضي الله عنه : { وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } . إبَاحَةُ السُّؤَالِ لِأَجْلِ الْحَمَالَةِ : 6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ بِسَبَبِ إتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ , دِيَةً أَوْ مَالًا لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ حَتَّى يُؤَدِّيَ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ السَّابِقِ . وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَآلَهُ وَصَحْبَهُ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ : لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ ,(1/441)
أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ , أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ } .
دُخُولُ الذِّمِّيَّةِ الْحَمَّامَ مَعَ الْمُسْلِمَاتِ (1):
8 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ إذَا كَانَتْ فِي الْحَمَّامِ مَعَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ أَنْ تَكْشِفَ عَنْ بَدَنِهَا مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ , وَهُوَ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ . وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَجِبُ عَلَيْهَا فِي الْحَمَّامِ أَنْ تَسْتُرَ جَمِيعَ بَدَنِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ وَضَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا هَتَكَتْ سِتْرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ } . أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الْمُسْلِمَةِ إلَّا مَا يَرَاهُ الرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْهَا , وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الذِّمِّيَّةَ تُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ النِّسَاءِ , وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَامْنَعْ مِنْ ذَلِكَ . وَحُلْ دُونَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَرَى الذِّمِّيَّةُ عَرِيَّةَ الْمُسْلِمَةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمَةِ أَنْ تَرَاهَا يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ لِئَلَّا تَصِفَهَا لِزَوْجِهَا .
خَرَاجٌ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6315)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6575)(1/442)
1 - الْخَرَاجُ لُغَةً , مِنْ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا أَيْ بَرَزَ وَالِاسْمُ الْخَرَاجُ , وَأَصْلُهُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ . وَالْجَمْعُ أَخْرَاجٌ , وَأَخَارِيجُ , وَأَخْرِجَةٌ . وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الدَّارِ , وَالدَّابَّةِ , وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } . وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الْأُجْرَةِ , أَوْ الْكِرَاءِ , وَمِنْهُ قوله تعالى : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } وقوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّك خَيْرٌ } . وَالْخُرْجُ وَالْخَرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَاللَّيْثِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ . وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بَيْنَهُمَا , فَقَالَ الْخُرْجُ مَا تَبَرَّعْت بِهِ أَوْ تَصَدَّقْت بِهِ , وَالْخَرَاجُ مَا لَزِمَك أَدَاؤُهُ . وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الْإِتَاوَةِ , أَوْ الضَّرِيبَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ , فَيُقَالُ خَارَجَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الذِّمَّةِ , إذَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا لَهُ كُلَّ سَنَةٍ . 2 - الْخَرَاجُ فِي الِاصْطِلَاحِ : لِلْخَرَاجِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مَعْنَيَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ . فَالْخَرَاجُ - بِالْمَعْنَى الْعَامِّ - هُوَ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَتَوَلَّى الدَّوْلَةُ أَمْرَ جِبَايَتِهَا وَصَرْفِهَا فِي مَصَارِفِهَا . وَأَمَّا الْخَرَاجُ - بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ - فَهُوَ الْوَظِيفَةُ أَوْ ( الضَّرِيبَةُ ) الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ . وَعَرَّفَهُ كُلٌّ مِنْ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبِي يَعْلَى بِأَنَّهُ ( مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ(1/443)
الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا ) .
الْأَلْفَاظُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ : أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْخَرَاجِ - بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ - عِدَّةَ أَلْفَاظٍ وَمُصْطَلَحَاتٍ مِنْهَا :
أ - جِزْيَةُ الْأَرْضِ : 3 - يُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ جِزْيَةُ الْأَرْضِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِزْيَةِ خَرَاجُ الرَّأْسِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى , وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ .
ب - أُجْرَةُ الْأَرْضِ : 4 - أَطْلَقَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْخَرَاجِ " أُجْرَةَ الْأَرْضِ " وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ الْمَفْرُوضَ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ لَهَا . فَالْإِمَامُ يَقِفُ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , وَيَتْرُكُهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ . ج - الطَّسْقُ : 5 - أَوَّلُ مَنْ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الْإِسْلَامِ الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَيْثُ كَتَبَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه فِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَسْلَمَا , كِتَابًا جَاءَ فِيهِ : ( ارْفَعْ الْجِزْيَةَ عَنْ رُءُوسِهِمَا وَخُذْ الطَّسْقَ عَنْ أَرْضِيهِمَا ) وَبَوَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بَابًا بِاسْمِ ( أَرْضُ الْعَنْوَةِ تُقَرُّ فِي يَدِ أَهْلِهَا وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الطَّسْقُ وَهُوَ الْخَرَاجُ ) . وَالطَّسْقُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يُرَادُ بِهَا الْوَظِيفَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى الْأَرْضِ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :(1/444)
أ - الْغَنِيمَةُ : 6 - الْغَنِيمَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ : اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ , وَالْخَرَاجُ كَمَا تَقَدَّمَ , الْوَظِيفَةُ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ .
ب - الْفَيْءُ : 7 - الْفَيْءُ فِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ كُلُّ مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ . وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا انْجَلُوا عَنْهُ أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ : خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ وَالثَّانِي : مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ , وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ , وَالْعُشُورِ . وَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنْ الْخَرَاجِ .
ج - الْجِزْيَةُ : 8 - الْجِزْيَةُ مَالٌ يُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ لَا عَلَى الْأَرْضِ , وَالْخَرَاجُ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ .
د - الْخُمُسُ : 9 - الْخُمُسُ فِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ الْغَنِيمَةِ , وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ .
هـ - الْعُشْرُ : 10 - الْعُشْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ : هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي زَكَاةِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ . وَالْعُشْرُ يَتَّفِقُ مَعَ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ فِي أَنَّهُمَا يَجِبَانِ فِي الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ . وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَحَلِّهِمَا , فَمَحَلُّ الْعُشْرِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ , وَمَحَلُّ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ .
انْتِقَالُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إلَى الذِّمِّيِّ , وَمَا يَجِبُ فِيهَا :(1/445)
23 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إلَى جَوَازِ بَيْعِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ الذِّمِّيِّ , إلَّا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِإِفْضَائِهِ إلَى إسْقَاطِ عُشْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا . وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ لِلذِّمِّيِّ ; بِأَنَّهَا مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ غَيْرِهِ . وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِ مِنْ بَيْعِهَا إلَى الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ بِانْتِقَالِهَا إلَى الذِّمِّيِّ يَسْقُطُ الْعُشْرُ فَيَتَضَرَّرُ الْفُقَرَاءُ . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَظِيفَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا تَمَلَّكُوا الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ , فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي : ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عِنْدَهُمْ , وَالثَّوْرِيُّ , وَشَرِيكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ إلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إلَى الذِّمِّيِّ وَلَا يُفْرَضُ عَلَيْهَا عُشْرٌ , وَلَا خَرَاجٌ لِفَقْدِ مُوجِبِهِمَا . فَالْخَرَاجُ يَجِبُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي خَضَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْغَلَبَةِ , أَوْ الصُّلْحِ وَلَا يَجِبُ بِالْبَيْعِ وَلَا بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إلَى ذِمِّيٍّ . وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ , وَلَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ الْعُشْرَ عِبَادَةٌ , وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا . كَمَا قَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْحَيَوَانَاتِ(1/446)
السَّائِمَةِ إلَى الذِّمِّيِّ فَكَمَا تَسْقُطُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ بِانْتِقَالِهَا إلَى الذِّمِّيِّ , يَسْقُطُ الْعُشْرُ عَنْ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ بِانْتِقَالِهَا إلَى الذِّمِّيِّ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إلَى أَنَّهَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً , وَيُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ الَّذِي انْتَقَلَتْ إلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا الْعُشْرُ ; لِأَنَّ الْعُشْرَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ , وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ , وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً . وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُشْرِ وَجَبَ الْخَرَاجُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ فَرْضِ وَظِيفَةٍ عَلَى الْأَرْضِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً , فَفِي رِوَايَةٍ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِالشِّرَاءِ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ , وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا , سَوَاءٌ زَرَعَ أَمْ لَمْ يَزْرَعْ . وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ إلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ خَرَاجِيَّةً وَيُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا , كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رضي الله عنه مَعَ نَصَارَى تَغْلِبَ . وَلِأَنَّ انْتِقَالَهَا إلَى الذِّمِّيِّ يُؤَدِّي إلَى إسْقَاطِ الْعُشْرِ , وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ , فَإِذَا تَعَرَّضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِذَلِكَ ضُوعِفَ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ كَمَا لَوْ اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِمْ ضُوعِفَتْ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ نِصْفَ الْعُشْرِ .(1/447)
وَيُوضَعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ . وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إلَى أَنَّهَا تَبْقَى عُشْرِيَّةً , وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ سِوَى الْعُشْرِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا لَا يَتَبَدَّلُ الْحَقُّ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ , كَالْخَرَاجِ , وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَئُونَةُ الْأَرْضِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ , حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ , فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْمَأْخُوذِ وَمَصْرِفِهِ , فَقِيلَ : يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ قَدْرُ الْوَاجِبِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ , فَلَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ أَيْضًا . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ , لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَالًا مَأْخُوذًا مِنْ كَافِرٍ , فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ . وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مَعًا , فَأَمَّا الْعُشْرُ فَاسْتِصْحَابًا , وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَغُرْمٌ يَلْحَقُهُ بِمَصِيرِهَا إلَيْهِ
وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ :(1/448)
35 - لِمَعْرِفَةِ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْوُجُوبِ ; لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ - غَالِبًا - مَا يَكُونُ بَعْدَ حُلُولِ وَقْتِ الْوُجُوبِ . أ - وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ 35 م - وَقْتُ وُجُوبِ الْخَرَاجِ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِنَوْعِ الْخَرَاجِ الْمَفْرُوضِ عَلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ . فَإِذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ مُقَاسَمَةٍ , يَكُونُ وَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ كَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ , وَيَتَكَرَّرُ الْوَاجِبُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ . أَمَّا إذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ خَرَاجَ وَظِيفَةٍ , فَلَا يُؤْخَذُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ , وَلَا يَتَكَرَّرُ , وَلَوْ اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا فِي السَّنَةِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ , وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَأْخُذْ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ ; وَلِأَنَّ رِيعَ عَامَّةِ الْأَرَاضِي يَكُونُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً , وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِّ الْغَالِبِ . وَالْوَظِيفَةُ الْمَفْرُوضَةُ , إمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ , وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ . فَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ , فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ ; لِأَنَّهَا السَّنَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا . وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِسَاحَةِ الزَّرْعِ فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ ; لِأَنَّهَا السَّنَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْأَمْطَارُ وَيُزْرَعُ الزَّرْعُ . وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ عِنْدَ نِهَايَةِ السَّنَةِ , الْمَالِكِيَّةُ(1/449)
وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ , وَلَكِنْ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فِي يَدِهِ سَنَةً , إمَّا حَقِيقَةً , وَإِمَّا تَقْدِيرًا , وَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَلَّةِ .
ب - تَعْجِيلُ الْخَرَاجِ :
36 - الْمَقْصُودُ بِتَعْجِيلِ الْخَرَاجِ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ وُجُوبِهِ . فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُطَالَبَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْخَرَاجِ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِهِ ؟ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَعْجِيلَ الْخَرَاجِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ ; لِأَنَّ سَبَبَهُ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ , وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَرْضِ ; وَلِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ عُجِّلَ رِفْقًا فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَجَلِهِ كَالدَّيْنِ . وَمُقْتَضَى قِيَاسِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ تَعْجِيلِهِ لِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ , وَالْأُجْرَةُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ . وَلَوْ تَعَجَّلَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ قَبْلَ وُجُوبِهِ ثُمَّ انْقَطَعَ وُجُوبُهُ فَهَلْ يَرُدُّ الْإِمَامُ مَا أَخَذَهُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ؟ فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَدْ صُرِفَ , وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ بَاقِيًا . فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا رَدَّهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ صُرِفَ فَلَا شَيْءَ لَهُ , كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الْخَرَاجِ أَنَّهُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا - أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ بَاقِيًا أَوْ قَدْ صُرِفَ -(1/450)
لِأَنَّهُ أُجْرَةٌ مَحْضَةٌ , وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ لِيَقَعَ نَفْلًا . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الرَّدَّ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا , لِأَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَهُمْ أُجْرَةٌ . وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا لَهُمْ بِذَلِكَ .
شُرُوطُ تَعْيِينِ عَامِلِ الْخَرَاجِ :
يُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ : الْإِسْلَامُ , وَالْحُرِّيَّةُ , وَالْأَمَانَةُ , وَالْكِفَايَةُ , وَالْعِلْمُ وَالْفِقْهُ . وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي :
1 - الْإِسْلَامُ :(1/451)
45 - عَامِلُ الْخَرَاجِ قَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ , وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ . فَإِذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ ; لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ , وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَمَانَةِ . وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الذِّمِّيُّ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ , وَوَضْعِهِ , عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ . قَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - يُسْتَعْمَلُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلِ الْخَرَاجِ ؟ قَالَ : لَا يُسْتَعَانُ بِهِمْ فِي شَيْءٍ . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ , قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَتَّخِذُوا مِنْ الْكُفَّارِ , وَالْيَهُودِ , وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ دُخَلَاءَ , وَوُلَجَاءَ , يُفَاوِضُونَهُمْ فِي الْآرَاءِ , وَيَسْنُدُونَ إلَيْهِمْ أُمُورَهُمْ . وَقَالَ إلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ : فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : إنَّ هَاهُنَا غُلَامًا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا , فَلَوْ اتَّخَذْته كَاتِبًا , فَقَالَ(1/452)
: قَدْ اتَّخَذْت إذًا بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ . عَقَّبَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ بِقَوْلِهِ : فَفِي هَذَا الْأَثَرِ مَعَ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمْ فِي الْكِتَابَةِ الَّتِي فِيهَا اسْتِطَالَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , وَاطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ أُمُورِهِمْ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يُفْشُوهَا إلَى الْأَعْدَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } . وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ لَا تَسْتَنْصِحُوهُمْ , وَلَا تَسْتَضِيئُوا بِرَأْيِهِمْ . وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رضي الله عنه خِطَابًا جَاءَ فِيهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّ فِي عَمَلِي كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَتِمُّ أَمْرُ الْخَرَاجِ إلَّا بِهِ فَكَرِهْت أَنْ أُقَلِّدَهُ دُونَ أَمْرِك . فَكَتَبَ إلَيْهِ عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ , قَرَأْت كِتَابَك فِي أَمْرِ النَّصْرَانِيِّ , أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ قَدْ مَاتَ وَالسَّلَامُ . وَقَدْ سَارَ الْخُلَفَاءُ الَّذِينَ لَهُمْ ثَنَاءٌ حَسَنٌ فِي الْأُمَّةِ عَلَى نَهْجِ عُمَرَ رضي الله عنه فِي اسْتِبْعَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الْوَظَائِفِ الَّتِي فِيهَا اطِّلَاعٌ عَلَى دَوَاخِلِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَحَدِ عُمَّالِهِ : أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ فِي عَمَلِك كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا يَتَصَرَّفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ(1/453)
هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَإِذَا أَتَاك كِتَابِي هَذَا فَادْعُ حَسَّانًا - يَعْنِي ذَلِكَ الْكَاتِبَ - إلَى الْإِسْلَامِ , فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُوَ مِنَّا , وَنَحْنُ مِنْهُ , وَإِنْ أَبَى فَلَا تَسْتَعِنْ بِهِ , وَلَا تَتَّخِذْ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . فَأَسْلَمَ حَسَّانٌ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ . وَلِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ مُتَوَلِّي هَذَا الْعَمَلِ الْأَمَانَةُ وَالنُّصْحُ لِلْمُسْلِمِينَ , وَالْحِرْصُ عَلَى مَصَالِحِهِمْ . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْمُشْرِكِينَ , وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِفَاتِهِمْ فَهُمْ لَا يُحِبُّونَ الْخَيْرَ لِلْمُسْلِمِينَ , وَيَغُشُّونَ , وَلَا يَنْصَحُونَ , قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } . وَلِهَذَا وَلِغَيْرِهِ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الذِّمِّيُّ فِي عَمَلٍ يَخْتَصُّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرِهِ . أَمَّا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِبَايَتِهِ وَنَقْلِهِ , فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ . فَإِذَا كَانَ يَجْبِيهِ مِنْ الذِّمِّيِّينَ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا , وَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَيْدِيهِمْ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ فَفِي جَوَازِ ذَلِكَ وَجْهَانِ . وَالْأَصَحُّ عَدَمُ الْجَوَازِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ .(1/454)
2 - ( الْحُرِّيَّةُ ) :
46 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْمُخْتَصِّ بِتَقْدِيرِ الْخَرَاجِ وَوَضْعِهِ الْحُرِّيَّةُ . وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الْعَبْدُ تَقْدِيرَ الْخَرَاجِ وَوَضْعَهُ ; لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ وِلَايَةٌ شَرْعِيَّةٌ . أَمَّا إذَا كَانَ الْعَامِلُ جَابِيًا فَتُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ إنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِي هَذَا الْعَمَلِ إلَّا عَنْ اسْتِنَابَةٍ , وَلَا تُشْتَرَطُ إنْ اسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِنَابَةِ , لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالرَّسُولِ لِلْمَأْمُورِ .
3 - ( الْأَمَانَةُ ) :
47 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْأَمَانَةُ . وَلِذَا فَلَا يُوَلَّى الْخَائِنُ وَغَيْرُ الثِّقَةِ , لِئَلَّا يَخُونَ فِيمَا ائْتُمِنَ عَلَيْهِ , وَلَا يَغُشُّ فِيمَا قَدْ اُسْتُنْصِحَ فِيهِ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } . قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ الَّذِي وَجَّهَهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ : وَرَأَيْت أَنْ تَتَّخِذَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ , وَالدِّينِ , وَالْأَمَانَةِ فَتُوَلِّيهِمْ الْخَرَاجَ .
4 - ( الْكِفَايَةُ ) :(1/455)
48 - تُشْتَرَطُ فِي عَامِلِ الْخَرَاجِ الْكِفَايَةُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُضْطَلِعًا بِالْحِسَابِ , وَالْمِسَاحَةِ , وَكَيْفِيَّةِ خَرْصِ الثِّمَارِ , وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : فَمَنْ رَجُلٌ لَهُ جَزَالَةٌ وَعَقْلٌ يَضَعُ الْأَرْضَ مَوَاضِعَهَا , وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ . فَأُخْبِرَ بِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ فَعَيَّنَهُ , لِأَنَّهُ كَانَ ذَا بَصَرٍ وَعَقْلٍ , وَتَجْرِبَةٍ . قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ - فِي بَيَانِ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ كِفَايَةُ عَامِلِ الْخَرَاجِ - : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِحَفْرِ الْأَنْهَارِ , وَمَجَارِي الْمِيَاهِ , وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمِسَاحَاتِ , وَتَخْمِينِ الْغَلَّاتِ , وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِفُصُولِ السَّنَةِ , وَمَجَارِي الشَّمْسِ , وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْحِسَابِ وَكُسُورِهِ وَتَرْتِيبِهِ , وَأَنْ يَكُونَ لَهُ دُرْبَةٌ بِعَقْدِ الْجُسُورِ , وَالْقَنَاطِرِ وَالْمَصَالِحِ , وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا يُدْفَعُ عَنْ الزَّرْعِ فِي الْأَرَاضِي , وَأَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَوْقَاتِ الزَّرْعِ وَأَحْوَالِ الْأَسْعَارِ , وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ وَمَا يَجِبُ لَهُ . هَذَا إنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ وَتَقْدِيرَهُ , أَمَّا إنْ اقْتَصَرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى طَلَبِ جِبَايَتِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ .
5 - ( الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ ) :
49 - إنْ تَوَلَّى وَضْعَ الْخَرَاجِ اُعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ , وَإِنْ وُلِّيَ جِبَايَةَ الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا .
=============
الْخُرُوجُ لِلِاسْتِسْقَاءِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6631)(1/456)
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ الشَّبَابُ وَالشُّيُوخُ وَالضُّعَفَاءُ , وَالْعَجَزَةُ , وَغَيْرُ ذَاتِ الْهَيْئَةِ مِنْ النِّسَاءِ , وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجُوا مُشَاةً بِتَوَاضُعٍ وَخُشُوعٍ فِي ثِيَابٍ خُلْقَانٍ , وَأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ , وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى . وَاخْتَلَفُوا فِي خُرُوجِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَقْوَالٍ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ ( اسْتِسْقَاءٌ ) .
===============
إقْرَارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى اقْتِنَاءِ الْخِنْزِيرِ (1):
11 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَقَرُّونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ خَنَازِيرَ إلَّا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِهَا , وَيُمْنَعُونَ مِنْ إطْعَامِهَا مُسْلِمًا , فَإِذَا أَظْهَرُوهَا أُتْلِفَتْ وَلَا ضَمَانَ . وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ تَمْكِينِهِمْ مِنْ إظْهَارِهَا بِأَنْ يَكُونُوا بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إذَا انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةٍ مِنْ الْبَلَدِ , أَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى إجْبَارِ الزَّوْجَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى تَرْكِ أَكْلِ الْخِنْزِيرِ , لِأَنَّهُ مُنَفِّرٌ مِنْ كَمَالِ التَّمَتُّعِ , وَخَالَفَهُمْ فِي هَذَا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ عِنْدَهُمْ مَنْعُهَا مِنْهُ .
سَرِقَةُ الْخِنْزِيرِ أَوْ إتْلَافُهُ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 6897)(1/457)
12 - ( أ ) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ سَرَقَ أَوْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الْمُسْلِمِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ , وَلَا مُتَقَوِّمٍ , لِعَدَمِ جَوَازِ تَمَلُّكِهِ وَبَيْعِهِ وَاقْتِنَائِهِ . ( ب ) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ وَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ إذَا سَرَقَهُ . وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ } وَهُمْ يَدِينُونَ بِمَالِيَّةِ الْخِنْزِيرِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : { إذَا قَبِلُوهَا } يَعْنِي الْجِزْيَةَ { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ } وَلِلْمُسْلِمِينَ التَّضْمِينُ بِإِتْلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مَالًا فَكَذَا يَكُونُ الذِّمِّيُّ , بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالًا فِي حَقِّهِ أَصْلًا . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا غَصَبَ مُسْلِمٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ خِنْزِيرًا رُدَّ إلَيْهِمْ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ } فَإِذَا أَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ فَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ شَرْعِيٌّ , سَوَاءٌ أَظْهَرُوهُ أَوْ لَمْ يُظْهِرُوهُ . إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ إذَا أَتْلَفَهُ فِي حَالِ عَدَمِ إظْهَارِهِمْ لَهُ .
===============
خِيَانَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7084)(1/458)
12 - صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا خِيفَ مِنْهُمْ الْخِيَانَةُ لَمْ يَنْبِذْ إلَيْهِمْ الْعَهْدَ , وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْهُدْنَةِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَجَبَ لَهُمْ , وَلِهَذَا إذَا طَلَبُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ وَجَبَ الْعَقْدُ لَهُمْ فَلَمْ يُنْقَضْ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ , وَالنَّظَرُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ لِلْمُسْلِمِينَ , وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ الْكُفَّارُ الْهُدْنَةَ كَانَ النَّظَرُ فِيهَا إلَى الْإِمَامِ , إنْ رَأَى عَقْدَهَا عَقَدَ , وَإِنْ لَمْ يَرَ عَقْدَهَا لَمْ يَعْقِدْ , فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ فِي نَقْضِهَا عِنْدَ الْخَوْفِ ; وَلِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ وَتَحْتَ وِلَايَتِهِ , فَإِذَا ظَهَرَتْ مِنْهُمْ خِيَانَةٌ أَمْكَنَ اسْتِدْرَاكُهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ , فَإِذَا ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمْ لَمْ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهَا فَجَازَ نَقْضُهَا بِالْخَوْفِ .
===============
الْمُسَابَقَةُ بَيْنَهَا (1):
6 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بَيْنَ الْخَيْلِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِعِوَضٍ أَمْ بِغَيْرِهِ , وَفِي كَيْفِيَّةِ تَحَقُّقِ السَّبْقِ بَيْنَهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( رَمْيٌ , وَسَبْقٌ ) .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7087)(1/459)
7 - وَبِالْإِضَافَةِ إلَى مَا سَبَقَ يَتَعَلَّقُ بِالْخَيْلِ مَسَائِلُ أُخْرَى بَحَثَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مَوَاطِنِهَا , فَمَسْأَلَةُ إنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَيْهَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الْفُقَهَاءُ فِي الزَّكَاةِ , وَطَهَارَةُ بَوْلِهَا لِلْمُجَاهِدِ أَصَابَهُ بِأَرْضِ حَرْبٍ , بُحِثَ فِي بَابِ النَّجَاسَاتِ , وَرُكُوبُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا بُحِثَ فِي مَبَاحِثِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ . وَمَنْعُ الذِّمِّيِّ مِنْ رُكُوبِهَا بُحِثَ فِي الْجِزْيَةِ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ تَمْيِيزِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمَلْبَسِ , وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ .
================
دَارُ الْإِسْلَامِ (1)
1 - دَارُ الْإِسْلَامِ هِيَ : كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : هِيَ كُلُّ أَرْضٍ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ - وَيُرَادُ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ : كُلُّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ غَيْرِ نَحْوِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ - أَوْ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ , أَوْ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ , وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ , أَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَهَا , ثُمَّ أَجَلَاهُمْ الْكُفَّارُ عَنْهَا .
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - دَارُ الْحَرْبِ :
2 - دَارُ الْحَرْبِ هِيَ : كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْكُفْرِ ظَاهِرَةً .
ب - دَارُ الْعَهْدِ :
3 - دَارُ الْعَهْدِ : وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ وَدَارَ الصُّلْحِ وَهِيَ : كُلُّ نَاحِيَةٍ صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا بِتَرْكِ الْقِتَالِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِأَهْلِهَا .
ج - دَارُ الْبَغْيِ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7099)(1/460)
4 - دَارُ الْبَغْيِ هِيَ : نَاحِيَةٌ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ تَحَيَّزَ إلَيْهَا مَجْمُوعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ خَرَجَتْ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ .
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
5 - إذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بُقْعَةٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ , رِجَالًا وَنِسَاءً , صِغَارًا وَكِبَارًا , أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى , فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْلُ النَّاحِيَةِ دَفْعَ الْعَدُوِّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّوَاحِي الْأُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَهَكَذَا حَتَّى يَكُونَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَرَكُوا غَيْرَهُمْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . ( ر : جِهَادٌ ) . وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ بُلْدَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَقُرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إقَامَةُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , وَإِظْهَارُهَا فِيهَا كَالْجُمُعَةِ , وَالْجَمَاعَةِ , وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ , وَالْأَذَانِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ , فَإِنْ تَرَكَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ إقَامَةَ هَذِهِ الشَّعَائِرِ أَوْ إظْهَارَهَا قُوتِلُوا وَإِنْ أَقَامُوهَا سِرًّا . وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ أَمَانٍ فِي مُسْلِمٍ . وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْكَنَائِسِ , وَالصَّوَامِعِ , وَبَيْتِ النَّارِ , عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي(1/461)
.
================
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْعَهْدِ (1):
5 - يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْإِمَامُ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ عَهْدًا لِلْمَصْلَحَةِ يَتْرُكُ بِمُوجَبِهِ الْقِتَالَ مُدَّةً بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ , فَتَكُونُ تِلْكَ الدَّارُ دَارَ عَهْدٍ . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( هُدْنَةٌ ) .
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عَقْدَ الصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ إلَى قِسْمَيْنِ :
أ - قِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَرَاضِيُ لَنَا , وَنُقِرُّهَا بِأَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ لَنَا . فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , وَيَكُونُ الْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ أُجْرَةً لَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِهِمْ , وَيُؤْخَذُ خَرَاجُهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ , وَهُمْ يَصِيرُونَ أَهْلَ عَهْدٍ . وَالدَّارُ دَارُ إسْلَامٍ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا فِيهَا بِالْبَيْعِ , أَوْ الرَّهْنِ , فَإِنْ دَفَعُوا الْجِزْيَةَ عَنْ رِقَابِهِمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَى التَّأْبِيدِ , وَإِنْ مَنَعُوا الْجِزْيَةَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَيْهَا , وَلَمْ يُقَرُّوا فِيهَا إلَّا الْمُدَّةَ الَّتِي يُقَرُّ فِيهَا أَهْلُ الْهُدْنَةِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7116)(1/462)
ب - وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُمْ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ , فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ عَقْدٌ صَحِيحٌ , وَالْخَرَاجُ الَّذِي يُؤَدُّونَهُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا يَسْقُطُ عَنْهُمْ , وَلَا تَصِيرُ الدَّارُ دَارَ إسْلَامٍ , وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ وَلَهُمْ بَيْعُهَا , وَرَهْنُهَا , وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا , وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ , وَلَا تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ , لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ , وَلَهُمْ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ فِيهَا , لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَلَيْسَتْ دَارَ إسْلَامٍ فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا , وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِهِمْ فِيهَا كَالْخَمْرِ , وَالْخِنْزِيرِ , وَضَرْبِ النَّاقُوسِ , وَلَا يُمْنَعُونَ إلَّا مِمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَإِيوَاءِ جَاسُوسٍ , وَنَقْلِ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْأَعْدَاءِ , وَسَائِرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ . وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إذَا عَقَدَ الْعَهْدَ مَعَ الْكُفَّارِ عَلَى أَنْ تُجْرَى فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ صَارَتْ دَارُهُمْ بِالصُّلْحِ دَارَ إسْلَامٍ , وَصَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ , وَإِذَا طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُوَادَعَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ لَا تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ فِي دَارِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ , إلَّا أَنْ تَكُونَ فِي(1/463)
ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي عَقْدِ الْعَهْدِ مَعَهُمْ بِهَذَا الشَّرْطِ جَازَ بِشَرْطِ الضَّرُورَةِ , وَهِيَ ضَرُورَةُ الِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ بِأَنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَبِالْكَفَرَةِ قُوَّةُ الْمُجَاوَزَةِ إلَى قَوْمٍ آخَرِينَ , فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ , لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ تَرْكُ الْقِتَالِ الْمَفْرُوضِ , فَلَا يَجُوزُ إلَّا فِي حَالٍ يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْقِتَالِ , لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ قِتَالًا مَعْنًى , قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ وَاَللَّهُ مَعَكُمْ } وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { وَادَعَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ تُوضَعَ الْحَرْبُ عَشْرَ سِنِينَ } . وَلَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ بِالْمُوَادَعَةِ , حَتَّى لَوْ وَادَعَهُمْ فَرِيقٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ جَازَتْ مُوَادَعَتُهُمْ , لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ كَوْنُ عَقْدِ الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَلَكِنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ , فَإِذَا صَالَحَهُمْ , فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ مَعَ الْجَيْشِ بِبِلَادِهِمْ فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عَلَى الصُّلْحِ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمِّسُهَا , وَيَقْسِمُ الْبَاقِي عَلَى الْجَيْشِ , لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهِ بِقُوَّةِ السَّيْفِ , فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ بِسَاحَتِهِمْ , وَأَرْسَلُوا إلَيْهِ وَطَلَبُوا(1/464)
مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ بِالْمَالِ , فَمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ , لَا خُمُسَ فِيهِ , بَلْ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْجِزْيَةِ .
الْأَمَانُ لِأَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ :
6 - يَمْنَعُ الْإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ مِنْ إيذَاءِ أَهْلِ دَارِ الْعَهْدِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ , لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ , وَأَمْوَالِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ , أَمَّا إنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ , فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الدِّفَاعُ عَنْهُمْ , لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْعَهْدِ " الْمُوَادَعَةِ " مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ , لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ , فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نُصْرَتُهُمْ . وَهَذَا الْعَهْدُ أَوْ الْمُوَادَعَةُ : عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ , فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ , لقوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أَمَّا إذَا وَقَعَ عَلَى أَنْ تَجْرِيَ فِي دَارِهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عَقْدٌ لَازِمٌ , لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مِنَّا , لِأَنَّ الْعَهْدَ الْوَاقِعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَقْدُ ذِمَّةٍ . وَالدَّارُ دَارُ إسْلَامٍ يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ نَقَضُوا الصُّلْحَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ مَعَهُمْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ . فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ دَارَهُمْ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ , وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ فِي دَارِهِمْ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَتَبْقَى دَارُهُمْ دَارَ إسْلَامِ يَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا حُكْمُ الْبُغَاةِ , وَإِنْ(1/465)
لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ وَلَا بَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ بَلَدٌ لِلْمُسْلِمِينَ , فَتَكُونُ دَارَ حَرْبٍ . وَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَكَانَ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِدَارِنَا يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ , أَيْ مَا يَأْمَنُونَ فِيهِ مِنَّا وَمِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ , ثُمَّ كَانُوا حَرْبًا لَنَا .
================
ب - ( الدِّيَةُ )(1) :
10 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ إنْ كَانَتْ مِنْ الذَّهَبِ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ بِأَلْفِ مِثْقَالٍ , وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَعَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَلْفُ دِينَارٍ } . وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي : ( دِيَاتٌ ) .
==============
دَهْرِيٌّ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7282)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7284)(1/466)
1 - الدَّهْرِيُّ فِي اللُّغَةِ : مَنْسُوبٌ إلَى الدَّهْرِ , وَالدَّهْرُ يُطْلَقُ عَلَى الْأَبَدِ وَالزَّمَانِ , وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يَقُولُ بِقِدَمِ الدَّهْرِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ : دَهْرِيٌّ , بِالْفَتْحِ عَلَى الْقِيَاسِ . وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمُسِنُّ إذَا نُسِبَ إلَى الدَّهْرِ يُقَالُ لَهُ : ( دُهْرِيٌّ ) بِالضَّمِّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ . وَالدَّهْرِيُّونَ فِي الْإِصْلَاحِ فِرْقَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ ذَهَبُوا إلَى قِدَمِ الدَّهْرِ وَإِسْنَادِ الْحَوَادِثِ إلَيْهِ , مُنْكَرِينَ وُجُودَ الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ , كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { إنْ هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ } . يَقُولُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ : يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ تَأْثِيرَاتُ الطَّبَائِعِ , وَلَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَى إثْبَاتِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ . وَهَذَا إنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْآخِرَةِ وَتَكْذِيبٌ لِلْبَعْثِ وَإِبْطَالٌ لِلْجَزَاءِ , كَمَا يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - الزِّنْدِيقُ :
2 - عَرَّفَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الزِّنْدِيقَ بِأَنَّهُ هُوَ مَنْ يُبْطِنُ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ . وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ الْمُنَافِقِ . وَقِيلَ هُوَ مَنْ لَا يَنْتَحِلُ دِينًا , أَيْ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ .
ب - الْمُلْحِدُ :
3 - الْمُلْحِدُ : هُوَ مَنْ يَطْعَنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الْإِسْلَامِ أَوْ التَّأْوِيلِ فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ ; لِإِجْرَاءِ الْأَهْوَاءِ . وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ مَنْ مَالَ عَنْ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ .(1/467)
ج - الْمُنَافِقُ :
4 - الْمُنَافِقُ : هُوَ مَنْ يُضْمِرُ الْكُفْرَ اعْتِقَادًا , وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ قَوْلًا . أَوْ الَّذِي أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ لِأَهْلِهِ , وَأَضْمَرَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ . وَمَحَلُّ النِّفَاقِ الْقَلْبُ .
د - الْمُرْتَدُّ :
5 - الْمُرْتَدُّ : هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ , أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ بَعْدَ الْإِيمَانِ , فَالِارْتِدَادُ كُفْرٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَجَمِيعُ هَؤُلَاءِ يَشْتَرِكُونَ مَعَ الدَّهْرِيِّ فِي الْكُفْرِ .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) :
6 - الدَّهْرِيُّ إذَا كَانَ كَافِرَ الْأَصْلِ , أَيْ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ اعْتَنَقَ الْإِسْلَامَ , فَإِمَّا أَنْ يَعِيشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ , فَهُوَ حَرْبِيٌّ يُنْظَرُ حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الْحَرْبِ ) . أَوْ يَعِيشُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ مُؤَقَّتٍ فَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ , حُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( أَمَانٌ وَمُسْتَأْمَنٌ ) . أَوْ يَعِيشُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ , أَيْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَهُوَ ذِمِّيٌّ , وَحُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) . أَمَّا إذَا كَانَ مُسْلِمًا , ثُمَّ كَفَرَ بِقَوْلِهِ بِقِدَمِ الدَّهْرِ وَإِنْكَارِ إسْنَادِ الْحَوَادِثِ إلَى الصَّانِعِ الْمُخْتَارِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ مُرْتَدٌّ . وَحُكْمُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( رِدَّةٌ ) .
==================
دَوْلَةٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7290)(1/468)
1 - الدَّوْلَةُ فِي اللُّغَةِ حُصُولُ الشَّيْءِ فِي يَدِ هَذَا تَارَةً وَفِي يَدِ هَذَا أُخْرَى , أَوْ الْعُقْبَةُ فِي الْمَالِ وَالْحَرْبِ ( أَيْ التَّعَاقُبُ ) , وَالدُّولَةُ وَالدَّوْلَةُ فِي الْمَالِ وَالْحَرْبِ سَوَاءٌ , وَقِيلَ : الدُّولَةُ بِالضَّمِّ فِي الْمَالِ , وَالدَّوْلَةُ بِالْفَتْحِ فِي الْحَرْبِ . وَالْإِدَالَةُ مَعْنَاهَا الْغَلَبَةُ , يُقَالُ : أُدِيلَ لَنَا عَلَى أَعْدَائِنَا أَيْ نُصِرْنَا عَلَيْهِمْ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ { : يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى } . أَيْ نَغْلِبُهُ مَرَّةً وَيَغْلِبُنَا مَرَّةً , مِنْ التَّدَاوُلِ , وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } وَقَوْلُهُ : { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } أَيْ يُتَدَاوَلُونَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْعَلُونَ ; لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُ نَصِيبًا . أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَلَمْ يَشِعْ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ , وَوَرَدَ اسْتِعْمَالُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ . وَسَارَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلَامِ عَنْ اخْتِصَاصَاتِ " الدَّوْلَةِ " عَلَى إدْرَاجِهَا ضِمْنَ الْكَلَامِ عَنْ صَلَاحِيَّاتِ الْإِمَامِ وَاخْتِصَاصَاتِهِ حَيْثُ اعْتَبَرُوا أَنَّ " الدَّوْلَةَ " مُمَثَّلَةٌ فِي شَخْصِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ , أَوْ الْخَلِيفَةِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ وِلَايَاتٍ وَوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ . إلَّا أَنَّ الْمَعْهُودَ أَنَّ " الدَّوْلَةَ " هِيَ مَجْمُوعَةُ الْإِيَالَاتِ تَجْتَمِعُ ; لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ عَلَى أَقَالِيمَ مُعَيَّنَةٍ , لَهَا حُدُودُهَا , وَمُسْتَوْطِنُوهَا , فَيَكُونُ الْحَاكِمُ أَوْ الْخَلِيفَةُ , أَوْ أَمِيرُ(1/469)
الْمُؤْمِنِينَ , عَلَى رَأْسِ هَذِهِ السُّلُطَاتِ . وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ مُصْطَلَحِ " دَوْلَةٌ " عِنْدَ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ مِنْ فُقَهَاءِ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ . وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ أَنَّ الدَّوْلَةَ تَقُومُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ وَهِيَ : الدَّارُ , وَالرَّعِيَّةُ , وَالْمَنَعَةُ ( السِّيَادَةُ ) . 2 - وَلَقَدْ بَحَثَ الْفُقَهَاءُ أَرْكَانَ الدَّوْلَةِ عِنْدَ بَحْثِهِمْ عَنْ أَحْكَامِ دَارِ الْإِسْلَامِ , يَتَّضِحُ هَذَا مِنْ تَعْرِيفَاتِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ : التَّعْرِيفُ الْأَوَّلُ : " كُلُّ دَارٍ ظَهَرَتْ فِيهَا دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِهِ بِلَا خَفِيرٍ , وَلَا مُجِيرٍ , وَلَا بَذْلِ جِزْيَةٍ , وَقَدْ نَفَذَ فِيهَا حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إنْ كَانَ فِيهِمْ ذِمِّيٌّ , وَلَمْ يَقْهَرْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ " . وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي : " كُلُّ أَرْضٍ سَكَنَهَا مُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ , أَوْ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ " . فَالدَّارُ هِيَ الْبِلَادُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَمَا تَشْمَلُهُ مِنْ أَقَالِيمَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّعِيَّةُ هُمْ الْمُقِيمُونَ فِي حُدُودِ الدَّوْلَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ . وَالسِّيَادَةُ هِيَ ظُهُورُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَنَفَاذُهُ . وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ , وَعَدَمُ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ , أَوْ عَلَى أَيِّ وِلَايَةٍ مِنْ وِلَايَاتِ الدَّوْلَةِ ; لِأَنَّ الِافْتِيَاتَ عَلَيْهَا افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ . وَيَكُونُ الِافْتِيَاتُ بِالسَّبْقِ بِفِعْلِ شَيْءٍ دُونَ اسْتِئْذَانِ مَنْ يَجِبُ(1/470)
اسْتِئْذَانُهُ , وَالِافْتِيَاتُ عَلَى الْإِمَامِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ , فَإِذَا أَمَّنَ أَحَدُ الرَّعِيَّةِ كَافِرًا دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ , وَكَانَ فِي تَأْمِينِهِ مَفْسَدَةٌ , فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ هَذَا الْأَمَانَ , وَلَهُ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ افْتَاتَ عَلَيْهِ , وَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَ الْمُسْتَحِقُّ فَأَقَامَ الْحَدَّ أَوْ الْقِصَاصَ دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ عَزَّرَهُ الْإِمَامُ ; لِافْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ : " أَمَانٌ " " وَافْتِيَاتٌ " " وَدَارُ الْإِسْلَامِ " .(1/471)
3 - وَتَتَأَلَّفُ الدَّوْلَةُ مِنْ مَجْمُوعَةٍ مِنْ النُّظُمِ وَالْوِلَايَاتِ بِحَيْثُ تُؤَدِّي كُلُّ وِلَايَةٍ مِنْهَا وَظِيفَةً خَاصَّةً مِنْ وَظَائِفِ الدَّوْلَةِ , وَتَعْمَلُ مُجْتَمَعَةً لِتَحْقِيقِ مَقْصِدٍ عَامٍّ , وَهُوَ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ . يَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ : ( الْإِمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا ) وَالْإِمَامُ هُوَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُ جَمِيعُ الْوِلَايَاتِ فِي الدَّوْلَةِ . وَيَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ : " فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ إصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا , وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا , وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ " . وَيَقُولُ ابْنُ الْأَزْرَقِ : " إنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ - يَعْنِي وُجُوبَ نَصْبِ الْإِمَامِ - رَاجِعَةٌ إلَى النِّيَابَةِ عَنْ الشَّارِعِ فِي حِفْظِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا بِهِ , وَسُمِّيَ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ النِّيَابَةِ خِلَافَةً وَإِمَامَةً , وَذَلِكَ لِأَنَّ الدِّينَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي إيجَادِ الْخَلْقِ لَا الدُّنْيَا فَقَطْ " . وَبَعْدَ هَذَا نَعْرِضُ إلَى مَجْمُوعِ الْوِلَايَاتِ فِي الدَّوْلَةِ وَمَا يَخُصُّ كُلًّا مِنْهَا مِنْ وَظَائِفَ :
أَوَّلًا : الْحَاكِمُ أَوْ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ :(1/472)
4 - الْإِمَامُ وَكِيلٌ عَنْ الْأُمَّةِ فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا , وَيَتَوَلَّى مَنْصِبَهُ بِمُوجِبِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ . وَالْأَصْلُ فِي الْإِمَامِ أَنْ يُبَاشِرَ إدَارَةَ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ , وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ هَذَا مُتَعَذِّرًا مَعَ اتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ وَظَائِفِهَا , وَتَعَدُّدِ السَّلِطَاتِ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُنِيبَ عَنْهُ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ السُّلُطَاتِ مِنْ وُلَاةٍ , وَأُمَرَاءَ , وَوُزَرَاءَ , وَقُضَاةٍ , وَغَيْرِهِمْ , وَيَكُونُونَ الْوُكَلَاءَ عَنْهُ فِي إدَارَةِ مَا وُكِّلَ إلَيْهِمْ مِنْ أَعْمَالٍ . فَإِدَارَةُ الْإِمَامِ ; لِلدَّوْلَةِ دَائِرَةٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا عَنْ النَّاسِ وَنَائِبًا عَنْهُمْ , وَبَيْنَ أَنْ يُنِيبَ هُوَ وَيُوَكِّلَ مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ شَرِيطَةَ أَلَّا يَنْصَرِفَ عَنْ النَّظَرِ الْعَامِّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ , وَمُطَالَعَةِ كُلِّيَّاتِ الْأُمُورِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ يُوَلِّيهِمْ ; لِيَتَحَقَّقَ مِنْ كِفَايَتِهِمْ لِمَنَاصِبِهِمْ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( إمَامَةٌ كُبْرَى ) .
ثَانِيًا : وَلِيُّ الْعَهْدِ :(1/473)
5 - وَهُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ عَهْدَ الْإِمَامَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ تَصَرُّفٌ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَا دَامَ الْإِمَامُ حَيًّا , وَلَا يَلِي شَيْئًا فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ , وَإِنَّمَا تَبْدَأُ إمَامَتُهُ وَسُلْطَتُهُ بِمَوْتِ الْإِمَامِ , فَتَصَرُّفُهُ كَالْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِشَرْطٍ , وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ عَزْلُ وَلِيِّ الْعَهْدِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ ; لِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ , فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ , قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ خَلْعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ; لِمَنْ بَايَعُوهُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( إمَامَةٌ كُبْرَى ) .
ثَالِثًا : أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ:
6 - وَوَجْهُ اعْتِبَارِهِمْ سُلْطَةً مُسْتَقِلَّةً أَنَّ لَهُمْ قُدْرَةَ الْقِيَامِ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ وَاجِبَاتِ الدَّوْلَةِ وَهِيَ : أ - اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَمُبَايَعَتُهُ . ب - اسْتِئْنَافُ بَيْعَةِ وَلِيِّ الْعَهْدِ عِنْدَ تَوْلِيَتِهِ إمَامًا , حَيْثُ تُعْتَبَرُ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْعَهْدِ إلَيْهِ , فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ فَاسِقًا وَقْتَ الْعَهْدِ وَكَانَ بَالِغًا عَدْلًا عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَلِّي لَمْ تَصِحَّ خِلَافَتُهُ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَتَهُ . ج - تَعْيِينُ نَائِبٍ عَنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عِنْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ . د - خَلْعُ الْإِمَامِ إذَا قَامَ مَا يُوجِبُ خَلْعَهُ . وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : " أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ " .
رَابِعًا : الْمُحْتَسِبُ :(1/474)
7 - هُوَ مَنْ يُوَلِّيهِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ لِلْقِيَامِ بِوَظِيفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , وَلِلنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ , وَهُوَ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ . وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ إلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا , وَمَحَلُّ وِلَايَتِهِ كُلُّ مُنْكَرٍ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ , ظَاهِرٌ لِلْمُحْتَسِبِ بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ , مَعْلُومٌ كَوْنُهُ مُنْكَرًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ , وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى إنْكَارِهِ أَعْوَانًا ; لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ ; لِهَذَا الْعَمَلِ , وَمِنْ صَلَاحِيَّتِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ , وَلِهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ فَقِيهًا عَارِفًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ; لِيَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ . وَعَمَلُ الْمُحْتَسِبِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ عَمَلِ الْقَاضِي وَعَمَلِ وَالِي الْمَظَالِمِ . فَيَتَّفِقُ الْمُحْتَسِبُ مَعَ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا :
( 1 ) جَوَازُ الِاسْتِعْدَاءِ لِلْمُحْتَسِبِ , وَسَمَاعُهُ دَعْوَى الْمُسْتَعْدِي عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِصَاصِهِ .
( 2 ) لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ , فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَبِإِقْرَارٍ , مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَدَاءِ فَيَلْزَمُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ , وَهُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ . وَيَفْتَرِقُ الْمُحْتَسِبُ عَنْ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مِنْهَا :(1/475)
( 1 ) جَوَازُ النَّظَرِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ مَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مِنْ مُنْكَرٍ دُونَ التَّوَقُّفِ عَلَى دَعْوَى أَوْ اسْتِعْدَاءٍ .
( 2 ) أَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ ; لِلرَّهْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى قُوَّةِ السَّلْطَنَةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِالْجُنْدِ . وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : " حِسْبَةٌ " .
خَامِسًا : الْقَضَاءُ :
8 - عُرِّفَ الْقَضَاءُ بِأَنَّهُ . إنْشَاءُ إلْزَامٍ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الْمُتَقَارِبَةِ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَعُرِّفَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ : الْإِلْزَامُ فِي الظَّاهِرِ عَلَى صِيغَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَمْرٍ ظَنَّ لُزُومُهُ فِي الْوَاقِعِ . فَالْقَضَاءُ سَلِطَةٌ تُمَكِّنُ مَنْ تَوَلَّاهَا مِنْ الْإِلْزَامِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ , وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ , وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ . وَقَضَاءُ الْقَاضِي مُظْهِرٌ ; لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا مُثْبِتٌ لَهُ . وَتَجْتَمِعُ فِي الْقَاضِي صِفَاتٌ ثَلَاثَةٌ : فَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ جِهَةِ الْإِثْبَاتِ , وَمُفْتٍ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , وَذُو سُلْطَانٍ مِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ . وَيَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ فَصْلُ الْخُصُومَاتِ , وَاسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ , وَالنَّظَرُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى , وَالْمَجَانِينِ , وَالسُّفَهَاءِ , وَالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ , وَالْمُفْلِسِ , وَالنَّظَرُ فِي الْوُقُوفِ , وَتَنْفِيذُ الْوَصَايَا , وَتَزْوِيجُ اللَّاتِي لَا وَلِيَّ لَهُنَّ ; لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ " . وَالْقَاضِي يَنُوبُ عَنْ الْإِمَامِ فِي هَذَا . وَلَيْسَ هُنَاكَ ضَابِطٌ عَامٌّ لِمَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَاضِي(1/476)
وَمَا لَا يَدْخُلُ , فَالْأَصْلُ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ , فَقَدْ تَتَّسِعُ صَلَاحِيَّةُ الْقَاضِي لِتَشْمَلَ وِلَايَةَ الْحَرْبِ , وَالْقِيَامَ بِأَعْمَالِ بَيْتِ الْمَالِ , وَالْعَزْلِ , وَالْوِلَايَةِ , وَقَدْ تَقْتَصِرُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ . وَالْقَضَاءُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَا يَتَوَلَّاهَا إلَّا الْإِمَامُ , كَعَقْدِ الذِّمَّةِ , وَالْقَاضِي وَكِيلٌ عَنْ الْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ , وَلِذَا لَا تَثْبُتُ وِلَايَتُهُ إلَّا بِتَوْلِيَةِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ , وَهُوَ عَقْدُ وِلَايَةٍ , فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ , وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْوَكَالَةِ , وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهَا مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَهْلِيَّةَ مَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ , وَكَذَلِكَ تَعْيِينُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مِنْ أَعْمَالٍ ; لِيَعْلَمَ مَحَلَّهَا فَلَا يَحْكُمُ فِي غَيْرِهَا . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : " قَضَاءٌ " .
سَادِسًا : بَيْتُ الْمَالِ :(1/477)
9 - بَيْتُ الْمَالِ هُوَ الْجِهَةُ الَّتِي يُسْنَدُ إلَيْهَا حِفْظُ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ , وَالْمَالُ الْعَامُّ هُوَ كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ , وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ , وَالْفَيْءِ , وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ , وَخُمُسِ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ , وَالْمَعَادِنِ , وَخَمْسُ الرِّكَازِ , وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إلَى الْقُضَاةِ , أَوْ عُمَّالِ الدَّوْلَةِ مِمَّا يَحْمِلُ شُبْهَةَ الرِّشْوَةِ أَوْ الْمُحَابَاةِ , وَكَذَلِكَ الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ ; لِمَصْلَحَتِهِمْ وَمَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِلَا وَارِثٍ , وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ . وَيَقُومُ بَيْتُ الْمَالِ بِصَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَارِفِهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ , وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سِجِلٌّ هُوَ دِيوَانُ بَيْتِ الْمَالِ ; لِضَبْطِ مَا يَرِدُ إلَيْهِ وَمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمْوَالٍ , وَلِضَبْطِ مَصَارِفِهَا كَذَلِكَ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : " بَيْتُ الْمَالِ " . سَابِعًا : الْوُزَرَاءُ : 10 - لَمَّا كَانَ الْمُتَعَذِّرُ عَلَى الْإِمَامِ الْقِيَامَ بِنَفْسِهِ بِأَعْبَاءِ الْحُكْمِ وَتَسْيِيرِ شُئُونِ الدَّوْلَةِ مَعَ كَثْرَتِهَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْتَنِيبَ الْوُزَرَاءَ ذَوِي الْكِفَايَةِ لِذَلِكَ . وَالْوَزِيرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ , أَوْ وَزِيرَ تَنْفِيذٍ . أَمَّا وَزِيرُ التَّفْوِيضِ فَهُوَ مِنْ يُفَوِّضُ لَهُ الْإِمَامُ تَدْبِيرَ أُمُورِ الدَّوْلَةِ وَإِمْضَاءَهَا بِاجْتِهَادِهِ , وَلَهُ النَّظَرُ الْعَامُّ فِي شُئُونِ الدَّوْلَةِ , وَهُوَ وَكِيلٌ عَنْ الْإِمَامِ فِيمَا وُلِّيَ عَلَيْهِ , وَأُسْنِدَ إلَيْهِ ,(1/478)
وَيُشْتَرَطُ فِي وَزِيرِ التَّفْوِيضِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ بِاسْتِثْنَاءِ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا , وَكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ , وَكَمَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُبَاشِرَ شُئُونَ الدَّوْلَةِ , يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يُبَاشِرُهَا , وَكُلُّ مَا صَحَّ مِنْ الْإِمَامِ صَحَّ مِنْ الْوَزِيرِ إلَّا أُمُورًا ثَلَاثَةً : أَحَدُهَا : وِلَايَةُ الْعَهْدِ , فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْهَدَ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ . ثَانِيهَا : أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَطْلُبَ الْإِعْفَاءَ مِنْ الْإِمَامَةِ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ . ثَالِثُهَا : أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ , وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ عَزْلُ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ . وَالْوَزَارَةُ وِلَايَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى عَقْدٍ , وَالْعُقُودُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى شَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ النَّظَرِ وَالثَّانِي : النِّيَابَةُ . فَإِذَا اقْتَصَرَ الْإِمَامُ عَلَى عُمُومِ النَّظَرِ دُونَ النِّيَابَةِ كَانَ اللَّفْظُ خَاصًّا بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ , إذْ أَنَّ نَظَرَهُ عَامٌّ كَنَظَرِ الْإِمَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنُوبُ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ , وَأَمَّا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّيَابَةِ دُونَ عُمُومِ النَّظَرِ كَانَتْ نِيَابَةً مُبْهَمَةً لَمْ تُبَيِّنْ مَا اسْتَنَابَهُ فِيهِ , فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالنِّيَابَةِ ; لِتَنْعَقِدَ وَزَارَةُ التَّفْوِيضِ . أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلَا يَسْتَقِلُّ بِالنَّظَرِ كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ , فَتَقْتَصِرُ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَمْرِ الْإِمَامِ فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالرَّعِيَّةِ يُبَلِّغُهُمْ أَوَامِرَهُ وَيُخْبِرُهُمْ(1/479)
بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ , وَلِذَا لَا يَحْتَاجُ وَزِيرُ التَّنْفِيذِ إلَى عَقْدٍ وَتَقْلِيدٍ , وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا مُجَرَّدُ الْإِذْنِ , وَتَقْصُرُ فِي شُرُوطِهَا عَنْ شُرُوطِ وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ . وَلَمَّا قَصُرَتْ مُهِمَّتُهُ عَلَى تَبْلِيغِ الْخَلِيفَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُ , اُشْتُرِطَ فِيهِ الْأَمَانَةُ وَالصِّدْقُ , وَقِلَّةُ الطَّمَعِ , وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ , وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا لِمَا يُنْقَلُ , وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَقَدْ يُشَارِكُ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ فِي الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حُنْكَةٍ وَتَجْرِبَةٍ تُؤَدِّيهِ إلَى إصَابَةِ الرَّأْيِ وَحُسْنِ الْمَشُورَةِ .
إمَارَةُ الْحَرْبِ :
11 - تَتَوَلَّى هَذِهِ الْإِمَارَةُ وِلَايَةَ الْحَرْبِ وَحِمَايَةَ الدَّوْلَةِ مِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا مِنْ الْخَارِجِ . وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ إمَارَةً خَاصَّةً مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ وَإِعْدَادِهِ , وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ . أَوْ أَنْ تَتَّسِعَ صَلَاحِيَّتُهَا فِيمَا يُفَوِّضُ إلَيْهَا الْإِمَامُ فَتَشْمَلُ قَسْمَ الْغَنَائِمِ , وَعَقْدَ الصُّلْحِ .
وَاجِبَاتُ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ :
14 - يَتَعَيَّنُ عَلَى الدَّوْلَةِ مُمَثَّلَةً بِمَجْمُوعِ سُلُطَاتِهَا أَنْ تَرْعَى الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ الدَّاخِلِينَ تَحْتَ وِلَايَتِهَا , وَجِمَاعُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ يَعُودُ إلَى :
( 1 ) حِفْظِ أُصُولِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ الشَّرِيعَةِ . وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ فِي مُصْطَلَحَاتِ : ( إمَامَةٌ كُبْرَى , رِدَّةٌ , بِدْعَةٌ , ضَرُورِيَّاتٌ , وَجِهَادٌ ) .(1/480)
( 2 ) إقَامَةُ الْحُدُودِ , وَعُقُوبَةُ الْمُسْتَحِقِّ وَتَعْزِيرُهُ . وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحَاتِ : ( قِصَاصٌ , تَعْزِيرٌ ) .
( 3 ) حِفْظُ الْمَالِ الْعَامِّ لِلدَّوْلَةِ , وَيُرَاجَعُ فِي هَذَا مُصْطَلَحِ بَيْتِ الْمَالِ .
( 4 ) إقَامَةُ الْعَدْلِ وَتَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ وَقَطْعُ الْخُصُومَاتِ , وَيُنْظَرُ فِي ذَلِكَ مُصْطَلَحِ : ( قَضَاءٌ ) . ( 5 ) رِعَايَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) .
( 6 ) تَكْثِيرُ الْعِمَارَةِ , وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عِمَارَةٌ ) .
( 7 ) إقَامَةُ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ , وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحِ : ( سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ ) .
دِيوَانُ الدَّوْلَةِ وَأَقْسَامُهُ :
6 - دِيوَانُ الدَّوْلَةِ - وَنَحْوِهَا كَالسَّلْطَنَةِ أَوْ الْإِمَارَةِ أَوْ لْمَمْلَكَةِ - وُضِعَ لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ , وَالْأَمْوَالِ , وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنْ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّالِ . وَقُسِّمَ - فِي أَصْلِ وَضْعِهِ - أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : - الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : مَا يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ مِنْ إثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ : 7 - ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّ الْإِثْبَاتَ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ : وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الدِّيوَانِ ) , وَمُصْطَلَحِ : ( عَطَاءٌ ) .
الْإِخْرَاجُ أَوَالْخُرُوجُ مِنْ دِيوَانِ الْجَيْشِ :(1/481)
8 - إذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ إسْقَاطَ بَعْضِ الْجَيْشِ مِنْ الدِّيوَانِ لِسَبَبٍ أَوْجَبَهُ , أَوَلِعُذْرٍ اقْتَضَاهُ جَازَ , وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا أَرَادَ بَعْضُ الْجَيْشِ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ الدِّيوَانِ جَازَ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ , وَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ , إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا . وَإِذَا جَرَّدَ الْجَيْشَ لِقِتَالٍ فَامْتَنَعُوا - وَهُمْ أَكْفَاءُ مَنْ حَارَبَهُمْ - سَقَطَتْ أَرْزَاقُهُمْ , وَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهُمْ لَمْ تَسْقُطْ . وَإِذَا مَرِضَ بَعْضُهُمْ أَوْ جُنَّ وَرُجِيَ زَوَالُ الْمَرَضِ أَوْ الْجُنُونِ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أُعْطِيَ وَبَقِيَ اسْمُهُ فِي الدِّيوَانِ لِئَلَّا يَرْغَبَ النَّاسُ عَنْ الْجِهَادِ وَيَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ , فَإِنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ هَذِهِ الْعَوَارِضَ بِاتِّفَاقِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَإِنْ لَمْ يُرْجَ زَوَالُ الْمَرَضِ أَوْ الْجُنُونِ , فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : يَخْرُجُ مِنْ الدِّيوَانِ وَسَقَطَ سَهْمُهُ ; لِأَنَّهُ فِي مُقَابِلِ عَمَلٍ قَدْ عُدِمَ , وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَيُعْطَى الْكِفَايَةَ اللَّائِقَةَ بِهِ , وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُعْطَى لِعَدَمِ رَجَاءِ نَفْعِهِ , أَيْ : لَا يُعْطَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ الْمُعَدَّةِ لِلْمُقَاتِلَةِ , وَلَكِنْ يُعْطَى مِنْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ مُحْتَاجًا .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ مِنْ رُسُومٍ وَحُقُوقٍ :(1/482)
9 - وَبَيَانُهُ مِنْ جَوَانِبَ : الْأَوَّلُ : تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ , وَتَفْصِيلُ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا , فَيُجْعَلُ لِكُلِّ بَلَدٍ حَدًّا لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ , وَيُفَصَّلُ نَوَاحِي كُلِّ بَلَدٍ إذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُهَا . الثَّانِي : بَيَانُ حَالِ الْبَلَدِ هَلْ فُتِحَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهِ مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ , فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَلْزَمْ إثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ ; لِأَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الزَّرْعِ دُونَ الْمِسَاحَةِ , وَيَكُونُ مَا اُسْتُؤْنِفَ زَرْعُهُ مَرْفُوعًا إلَى دِيوَانِ الْعُشْرِ لَا مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ , وَيَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِ عِنْدَ رَفْعِهِ إلَى الدِّيوَانِ ; لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَابِهِ دُونَ رِقَابِ الْأَرْضِينَ , وَإِذَا رُفِعَ الزَّرْعُ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِهِ ذُكِرَ مَبْلَغُ كَيْلِهِ وَحَالُ سَقْيِهِ بِسَيْحٍ ( مَاءٍ جَارٍ ) أَوْ عَمَلٍ ; لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ لِيُسْتَوْفَى عَلَى مُوجِبِهِ . وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ خَرَاجٍ لَزِمَ إثْبَاتُ مِسَاحَاتِهِ ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمِسَاحَةِ , فَإِنْ كَانَ هَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْأُجْرَةِ لَمْ يَلْزَمْ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِ الْأَرْضِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِإِسْلَامٍ وَلَا بِكُفْرٍ , وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ لَزِمَ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِمْ وَوَصْفُهُمْ بِإِسْلَامٍ أَوْ كُفْرٍ ; لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِهِ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ عُشْرًا وَبَعْضُهُ خَرَاجًا فُصِّلَ فِي دِيوَانِ الْعُشْرِ مَا كَانَ مِنْهُ عُشْرًا , وَفِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ مَا كَانَ مِنْهُ خَرَاجًا ;(1/483)
لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِيهِمَا , وَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخْتَصُّ بِحُكْمِهِ . الثَّالِثُ : بَيَانُ أَحْكَامِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا مِنْ مُقَاسَمَةٍ عَلَى الزَّرْعِ أَوْ وَرِقٍ ( فِضَّةٍ ) مُقَدَّرٍ عَلَى الْخَرَاجِ . الرَّابِعُ : ذِكْرُ مَنْ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ , فَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ سُمُّوا فِي الدِّيوَانِ مَعَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ , لِيُخْتَبَرَ حَالُ يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ , وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِهِمْ وَوَجَبَ مُرَاعَاتُهُمْ فِي كُلِّ عَامٍ لِيُثْبَتَ مَنْ بَلَغَ وَيُسْقَطَ مَنْ مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ , لِيَنْحَصِرَ بِذَلِكَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ . الْخَامِسُ : ذِكْرُ أَجْنَاسِ الْمَعَادِنِ فِي الْبَلَدِ - إنْ كَانَ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ - وَعَدَدِ كُلِّ جِنْسٍ , لِيُسْتَوْفَى حَقُّ الْمَعْدِنِ مِنْهَا . السَّادِسُ : إنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ وَكَانَتْ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ قَدْ دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ مَعْشُورَةً عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ وَأُثْبِتَ فِي دِيوَانِ عَقْدِ صُلْحِهِمْ وَقُدِّرَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ , أَوْ خُمُسٍ , أَوْ زِيَادَةٍ , أَوْ نُقْصَانٍ , فَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْتِعَةِ , وَالْأَمْوَالِ فُصِّلَتْ فِيهِ , وَكَانَ الدِّيوَانُ مَوْضُوعًا لِإِخْرَاجِ رُسُومِهِ , وَلِاسْتِيفَاءِ مَا يَرْفَعُ إلَيْهِ مِنْ مَقَادِيرِ الْأَمْتِعَةِ الْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ :(1/484)
10 - وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي : الْأَوَّلُ : ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ الْعُمَّالِ , وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِنُفُوذِ الْأَمْرِ وَجَوَازِ النَّظَرِ , وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةٍ : السُّلْطَانِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ , أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ , أَوْ عَامِلِ عَامِّ الْوِلَايَةِ كَعَامِلِ إقْلِيمٍ أَوْ مِصْرٍ عَظِيمٍ يُقَلَّدُ فِي خُصُوصِ الْأَعْمَالِ عَامِلًا . أَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ عَامِلٍ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَعَةِ وَالِاسْتِئْمَارِ . الثَّانِي : ذِكْرُ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْعِمَالَةَ , وَهُوَ مَنْ اسْتَقَلَّ بِكِفَايَتِهِ وَوُثِقَ بِأَمَانَتِهِ , فَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَفْوِيضٍ تَفْتَقِرُ إلَى اجْتِهَادٍ رُوعِيَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ , وَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةُ تَنْفِيذٍ لَا اجْتِهَادَ لِلْعَامِلِ فِيهَا , لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ .
الثَّالِثُ : ذِكْرُ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَلَّدُهُ , وَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ :
أ - تَحْدِيدُ النَّاحِيَةِ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا .
ب - تَعْيِينُ الْعَمَلِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِهِ فِيهَا مِنْ جِبَايَةٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ .
ج - الْعِلْمُ بِرُسُومِ الْعَمَلِ وَحُقُوقِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَنْفِي عَنْهُ الْجَهَالَةَ . فَإِذَا اُسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي عَمَلٍ عَلِمَ بِهِ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى صَحَّ التَّقْلِيدُ وَنَفَذَ .(1/485)
الرَّابِعُ : بَيَانُ زَمَانِ النَّظَرِ , وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أ - أَنْ يُقَدَّرَ بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ , فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ مُجَوِّزًا لِلنَّظَرِ فِيهَا , وَمَانِعًا مِنْ النَّظَرِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا , وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لَازِمًا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلِّي , وَلَهُ صَرْفُهُ وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ إنْ رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا . ب - أَنْ يَقْدِرَ بِالْعَمَلِ , فَيَقُولَ الْمُوَلِّي : قَلَّدْتُك خَرَاجَ نَاحِيَةِ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ , أَوْ قَلَّدْتُك صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هَذَا الْعَامِ , فَتَكُونُ مُدَّةَ نَظَرِهِ مُقَدَّرَةً بِفَرَاغِهِ عَنْ عَمَلِهِ , فَإِذَا فَرَغَ انْعَزَلَ عَنْهُ , وَهُوَ قَبْلَ فَرَاغِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي , وَعَزْلُهُ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِصِحَّةِ جَارِيهِ وَفَسَادِهِ . ج - أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا فَلَا يُقَدِّرُ بِمُدَّةٍ وَلَا عَمَلٍ , فَيَقُولُ الْمُوَلِّي مَثَلًا : قَلَّدْتُك خَرَاجَ الْكُوفَةِ , أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ , أَوْ حِمَايَةَ بَغْدَادَ , وَهُوَ تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جُهِلَتْ مُدَّتُهُ . الْخَامِسُ : فِي جَارِي ( مُقَابِلِ ) الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ , وَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أ - أَنْ يُسَمِّيَ مَعْلُومًا , فَيَسْتَحِقَّ الْمُسَمَّى إذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا , فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ , وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَلِ رُوعِيَتْ الزِّيَادَةُ . ب - أَنْ يُسَمِّيَ مَجْهُولًا , فَيَسْتَحِقَّ جَارِيَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ , فَإِنْ كَانَ جَارِي الْعَمَلِ مُقَدَّرًا فِي الدِّيوَانِ , وَعَمِلَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُمَّالِ , صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِيَ الْمِثْلِ , وَإِنْ لَمْ(1/486)
يَعْمَلْ بِهِ إلَّا وَاحِدًا لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَأْلُوفًا فِي جَارِي الْمِثْلِ . ج - أَنْ لَا يُسَمَّى بِمَجْهُولٍ وَلَا بِمَعْلُومٍ , وَفِيمَا يَسْتَحِقُّهُ خِلَافٌ : قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْجَارِي مِثْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ قَالَهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ . فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا جَارِيَ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا بِهِ حَتَّى يُسَمِّيَ جَارِيًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا لِخُلُوِّ عَمَلِهِ مِنْ عِوَضٍ . وَقَالَ الْمُزَنِيّ : لَهُ جَارِي مِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ , لِاسْتِيفَاءِ عَمَلِهِ عَنْ إذْنِهِ . وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ , وَإِنْ لَمْ يُشْهَرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلَا جَارِيَ لَهُ . وَقَالَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنْ دُعِيَ إلَى الْعَمَلِ فِي الِابْتِدَاءِ , أَوْ أَمَرَ بِهِ , فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ , فَإِنْ ابْتَدَأَ بِالطَّلَبِ فَأَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ فَلَا جَارِيَ لَهُ . وَلَخَّصَ أَبُو يَعْلَى رَأْيَ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فَلَهُ جَارِي مِثْلِهِ , وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَيْهِ فَلَا جَارِيَ لَهُ , وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ ابْنِ سُرَيْجٍ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ . وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى : إذَا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَالٌ يُجْتَبَى فَجَارِيهِ يُسْتَحَقُّ فِيهِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَجَارِيهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ . السَّادِسُ : فِيمَا يَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ , فَإِنْ كَانَ نُطْقًا(1/487)
تَلَفَّظَ بِهِ الْمُوَلِّي صَحَّ بِهِ التَّقْلِيدُ كَمَا تَصِحُّ بِهِ سَائِرُ الْعُقُودِ , وَإِنْ كَانَ عَنْ تَوْقِيعِ الْمُوَلِّي بِتَقْلِيدِهِ خَطَأً لَا لَفْظًا صَحَّ التَّقْلِيدُ , وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْوِلَايَاتُ السُّلْطَانِيَّةُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ الْحَالِ , اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِيهِ , وَهَذَا إذَا كَانَ التَّقْلِيدُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهِ , وَلَا يَصِحُّ إنْ كَانَ عَامًّا مُتَعَدِّيًا .
===================
كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَحْكَامُ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ(1) :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7532)(1/488)
50 - صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ كِتَابَةُ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَيْءٍ نَجَسٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ نَجَسٍ , فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَصْدًا لِلْإِهَانَةِ اسْتَحَقَّ الْقَتْلَ ; لِأَنَّهُ رِدَّةٌ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا . وَحَيْثُ كُتِبَ بِنَجَسٍ وَجَبَ غَسْلُهُ بِطَاهِرٍ أَوْ حَرْقُهُ لِصِيَانَتِهِ , وَكَذَا لَوْ كَانَ طَاهِرًا فَتَنَجَّسَ , أَمَّا إنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا مَاءٌ نَجَسٌ أَوْ نَارٌ نَجِسَةٌ فَلَا يَجُوزُ الْغَسْلُ وَالتَّحْرِيقُ بِهِمَا وَيُعْدَلُ إلَى دَفْنِ الذِّكْرِ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لَا تَطَؤُهُ الْأَقْدَامُ . وَلَا تُكْرَهُ فِي الذِّكْرِ كِتَابَتُهُ فِي السُّتُورِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَسْجِدٍ إذَا لَمْ تَكُنْ تُدَاسُ , فَإِنْ كَانَتْ تُدَاسُ كُرِهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً , وَيَحْرُمُ دَوْسُ الذِّكْرِ . قَالُوا : وَيُكْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى حِيطَانِ الْمَسَاجِدِ ذِكْرٌ أَوْ غَيْرُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْهِي الْمُصَلِّي . وَكَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ شِرَاءَ ثَوْبٍ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَيُدَاسُ , وَكَرِهَ بَيْعَ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ . وَفِي الْفُرُوعِ : يَحْرُمُ مَسُّ ذِكْرِ اللَّهِ بِنَجَسٍ . وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الذِّكْرُ أَوْ مَسُّ مَا فِيهِ ذِكْرٌ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ , وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ لَوْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ . وَفِي تَعْلِيقِ الذِّكْرِ الْمَكْتُوبِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ وَاقِعٍ خِلَافٌ . ( ر : تَعْوِيذٌ ف 23 ) .
=================
انْتِهَاءُ الذِّمَّةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7552)(1/489)
6 - الذِّمَّةُ تَبْدَأُ مَعَ الشَّخْصِ مُنْذُ الْحَمْلِ بِهِ وَتَبْقَى مَعَهُ طِيلَةَ حَيَاتِهِ , فَإِذَا مَاتَ ذَلِكَ الشَّخْصُ فَإِنَّ تِلْكَ الذِّمَّةِ تَنْتَهِي إذْ لَا بَقَاءَ لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ , إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْتِهَاءِ الذِّمَّةِ فَوْرًا بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْمَوْتِ , أَوْ أَنَّ الْمَوْتَ يُضْعِفُهَا , أَوْ أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُسْتَوْفَى الْحُقُوقُ مِنْ الْمَيِّتِ عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ :(1/490)
- ( الرَّأْيُ الْأَوَّلُ ) : 7 - وَهُوَ رَأْيُ الْجُمْهُورِ ( الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ ) أَنَّ الذِّمَّةَ تَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُصَفَّى الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ فَيَصِحُّ لِلْمَيِّتِ اكْتِسَابُ حُقُوقٍ جَدِيدَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ سَبَبًا لَهَا , كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلِاصْطِيَادِ فَوَقَعَ فِيهَا حَيَوَانٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ وَتَظَلُّ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ بَاقِيَةً بَعْدَ مَوْتِهِ حَتَّى تُسَدَّدَ دُيُونُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { : نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ } وَيُمْكِنُ أَنْ تُشْغَلَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِدُيُونٍ جَدِيدَةٍ كَشَغْلِهَا بِثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسَبَبِ عَيْبٍ ظَهَرَ فِيهِ , وَكَالْتِزَامِهِ بِضَمَانِ قِيمَةِ مَا وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ حَفَرَهَا الشَّخْصُ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ . وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ فَتَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنْ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ نَفْعُهُ بِهَا فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ . وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ أَمْ لَا ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ الْمِلْكُ , فَأَثَرُ الْمَوْتِ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ يَقْتَصِرُ عَلَى عَدَمِ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْحُقُوقِ , وَإِنَّمَا يُطَالَبُ وَرَثَتُهُ بِأَدَاءِ الْحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا .(1/491)
( الرَّأْيُ الثَّانِي ) : 8 - وَهُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنْهِي الذِّمَّةَ بَلْ يُضْعِفُهَا , وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ فَإِنَّ ذِمَّةَ الْمَيِّتِ تَبْقَى بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِتَصْفِيَةِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ فِي حَالِ الْحَيَاةِ , وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَيِّتَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْتَسِبَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِلْكًا جَدِيدًا كَمَا لَوْ نَصَبَ قَبْلَ الْمَوْتِ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ , كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَلْتَزِمُ بِالدُّيُونِ الَّتِي تَسَبَّبَ بِهَا قَبْلَ مَوْتِهِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ عَلَيْهِ , وَالْتِزَامِهِ بِالثَّمَنِ , وَضَمَانِ مَا وَقَعَ فِي حُفْرَةٍ حَفَرَهَا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ . لَكِنْ لَا تَصِحُّ كَفَالَةُ دَيْنٍ عَلَى مَيِّتٍ مُفْلِسٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ , وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عَنْ الْفِعْلِ , فَكَانَتْ هَذِهِ كَفَالَةً بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلَا تَصِحُّ , كَمَا لَوْ كَفَلَ إنْسَانًا بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ , وَإِذَا مَاتَ مَلِيئًا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ , وَكَذَا إذَا مَاتَ عَنْ كَفِيلٍ ; لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ . وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ دَيْنِ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ ; لِأَنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْقُدْرَةِ , وَلِهَذَا بَقِيَ إذَا مَاتَ مَلِيئًا حَتَّى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ , وَكَذَا بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا , وَإِذَا مَاتَ عَنْ الْكَفِيلِ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنْهُ بِالدَّيْنِ , فَكَذَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ(1/492)
وَالتَّبَرُّعُ . وَمِثْلُ الْكَفَالَةِ فِي هَذَا الْوَصِيَّةُ , فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ أَمْ لَا . خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فَلَوْ أَوْصَى لِحَيٍّ وَمَيِّتٍ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوَصِيَّةِ فَلَا يُزَاحِمُ الْحَيَّ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِهَا , لَكِنْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ , بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ بِمَوْتِهِ فَلَا تَصِحُّ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْمَيِّتِ لَغْوٌ .
( الرَّأْيُ الثَّالِثُ ) : 9 - وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الذِّمَّةَ تَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهَا مِنْ خَصَائِصِ الشَّخْصِ الْحَيِّ , وَثَمَرَةُ الذِّمَّةِ صِحَّةُ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهَا بِتَفْرِيغِهَا مِنْ الدَّيْنِ الشَّاغِلِ لَهَا , فَبِالْمَوْتِ يَخْرُجُ الشَّخْصُ عَنْ صَلَاحِيَّةِ الْمُطَالَبَةِ فَتَنْهَدِمُ الذِّمَّةُ . وَعَلَى هَذَا إنْ تُوُفِّيَ الشَّخْصُ الْمَدِينُ دُونَ أَنْ يَتْرُكَ مَالًا فَمَصِيرُ دُيُونِهِ السُّقُوطُ . وَإِنْ تَرَكَ مَالًا تَعَلَّقَتْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ . هَذَا وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاءُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ إنْ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا لَكِنْ يُسْتَحَبُّ .(1/493)
( مَوَاطِنُ الْبَحْثِ ) : 10 - مَسَائِلُ الْفِقْهِ وَفُرُوعُهُ وَاَلَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الذِّمَّةُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى , فَهِيَ مَنْثُورَةٌ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَفُصُولِهِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهَا فِي الْأَبْوَابِ الْمُشَارِ إلَيْهَا وَغَيْرِهَا . وَيُنْظَرُ مَا يَتَّصِلُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ) وَمَا يَتَّصِلُ بِالذِّمَّةِ بِمَعْنَى الْعَهْدِ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَمَانٌ , وَحَلِفٌ , وَمُعَاهَدَةٌ ) .
==============
الْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7779)(1/494)
7 - الْإِكْرَاهُ : اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ , فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ , أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ , مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ أَهْلِيَّتُهُ , أَوْ يَسْقُطَ عَنْهُ الْخِطَابُ . وَالْإِكْرَاهُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا , كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ , قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ . وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا . وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ , وَهُوَ الْحَبْسُ أَوْ الْقَيْدُ أَوْ الضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ , وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا . 8 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ , لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لقوله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ } . وَمَا نُقِلَ مِنْ { أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رضي الله عنهما - حَمَلَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَا يَكْرَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ : إنْ عَادُوا فَعُدْ } , وَهَذَا فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ .(1/495)
9 - وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْلَامِ طَوْعًا , مِثْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ , فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ - وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنُونَ - فَلَا يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا , وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ; لِعَدَمِ صِحَّةِ إسْلَامِهِ ابْتِدَاءً . أَمَّا إنْ كَانَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ , فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرْتَدًّا بِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ , وَيُطَبَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ .
=================
( دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ )(1) :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8017)(1/496)
6 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ رِكَازٌ , وَيُسْتَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ بِوُجُودِهِ فِي قُبُورِهِمْ أَوْ خَزَائِنِهِمْ أَوْ قِلَاعِهِمْ . فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتٍ فَيُعْرَفُ بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلَامَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ كُفْرٍ وَبَعْضُهُ لَا عَلَامَةَ فِيهِ فَرِكَازٌ . أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ بِالْكَنْزِ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ الْإِسْلَامِ أَوْ اشْتَبَهَ , فَالْجُمْهُورُ ( الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ) عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الدَّفْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْأَصَحِّ - إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِكَازٍ بَلْ هُوَ لُقَطَةٌ , وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِيَقِينٍ . وَفِي الْمَجْمُوعِ : قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ مُدَارٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا أَنَّهُ مِنْ ضَرْبِهِمْ , فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَيَدْفِنُهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ وَأَخَذَهُ وَمَلَكَهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ : أَنَّ الْكَنْزَ الَّذِي لَا عَلَامَةَ فِيهِ يَكُونُ لُقَطَةً . فَأَمَّا إذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ رِكَازٌ , فَالْحُكْمُ مُدَارٌ عَلَى ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ .
الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ : 7 - الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ :(1/497)
مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ , أَيْ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَهَالَاتِهِمْ , أَوْ مَنْ كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ . وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا دِينَ لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ كَأَهْلِ الْكِتَابِ . قَالَ الشِّرْبِينِيُّ : وَيُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الدَّفِينِ الْجَاهِلِيِّ رِكَازًا كَمَا قَالَهُ أَبُو إسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنْ لَا يُعْلَمَ أَنَّ مَالِكَهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ , فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ وَعَانَدَ وَوُجِدَ فِي بِنَائِهِ أَوْ بَلَدِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا كَنْزٌ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ بَلْ فَيْءٌ , حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ وَأَقَرَّهُ . وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ هَلْ يُقَالُ : إنَّهُ جَاهِلِيٌّ ؟ قَالَ الدُّسُوقِيُّ : الْجَاهِلِيَّةُ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا عَدَا الْإِسْلَامَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ لَا . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ : اصْطِلَاحُهُمْ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ أَهْلُ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ . وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ : جَاهِلِيَّةٌ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ دَفْنُهُمْ جَمِيعِهِمْ رِكَازٌ . هَذَا وَأَخْرَجَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الرِّكَازِ دَفِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ . فَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي : إنَّمَا كَانَ مَالُ الذِّمِّيِّ كَالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ .
===================
( نَصْبُ الْعَشَّارِينَ ) (1):
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8251)(1/498)
155 - يَنْصِبُ الْإِمَامُ عَلَى الْمَعَابِرِ فِي طُرُقِ الْأَسْفَارِ عَشَّارِينَ لِلْجِبَايَةِ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أَتَوْا بِأَمْوَالِهِمْ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ , فَيَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةٍ , وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ , وَيَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ . وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ فَيْءٌ حُكْمُهُ حُكْمُ الْجِزْيَةِ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ , وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( عُشْرٌ ) .(1/499)
أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ زَكَاةٌ يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ , إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ مَالًا بَاطِنًا لَكِنَّهُ لَمَّا انْتَقَلَ صَاحِبُهُ بِهِ فِي الْبِلَادِ أَصْبَحَ فِي حُكْمِ الْمَالِ الظَّاهِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَابِدِينَ , وَلِذَا كَانَتْ وِلَايَةُ قَبْضِ زَكَاتِهِ إلَى الْإِمَامِ , كَالسَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ . وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَحْلِيفِ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ إنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْلِ عَلَى مَا بِيَدِهِ , أَوْ ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ , فَإِنْ حَلَفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ , وَكَذَا إنْ قَالَ أَدَّيْتهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ وَأَخْرَجَ بَرَاءَةً ( إيصَالًا رَسْمِيًّا بِهَا ) , وَكَذَا إنْ قَالَ أَدَّيْتهَا بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ . وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ حَتَّى يَجِبَ الْأَخْذُ مِنْهُ , فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ وَلَهُ فِي الْمِصْرِ مَا يَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ فَلَا وِلَايَةَ لِلْعَاشِرِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ . وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَاشِرِ مَا يُشْتَرَطُ فِي السَّاعِي كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنْ يَأْمَنَ الْمُسَافِرُونَ بِحِمَايَتِهِ مِنْ اللُّصُوصِ .
=================
3 - الْكُفَّارُ وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ (1):
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8266)(1/500)
لَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ . نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ لِحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إعْطَاءَهُمْ مَعَ الْعَامِلِينَ إنْ عَمِلُوا عَلَى الزَّكَاةِ . وَيُسْتَثْنَى الْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ أَيْضًا عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَوْضِعِهِ . وَيَشْمَلُ الْكَافِرُ هُنَا الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ وَالْمُرْتَدَّ , وَمَنْ كَانَ مُتَسَمِّيًا بِالْإِسْلَامِ وَأَتَى بِمُكَفِّرٍ نَحْوِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْآنِ , أَوْ سَبِّ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ , أَوْ دِينِ الْإِسْلَامِ , فَهُوَ كَافِرٌ لَا يَجُوزُ إعْطَاؤُهُ مِنْ الزَّكَاةِ اتِّفَاقًا , وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( رِدَّةٌ ) .
=================
5 - أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا (1):
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8324)(2/1)
28 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا , فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ . وَيُرَدُّ إلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ , وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ . وَإِنْ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ . وَقَدْ وَافَقَتْ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ . وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي : فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً , وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً , وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ : يُحَدُّ الْجَمِيعُ . وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ : لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ . فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ , وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ , وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ , وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ , وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ , وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ , وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُحَدَّانِ جَمِيعًا . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ(2/2)
وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالْأَحْكَامِ , وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِالْتِزَامِهِ بِالْأَحْكَامِ , وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ الْيَهُودِ زَنَيَا } . وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا . قَالَ الرَّمْلِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لَا يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ , لِأَنَّهُمْ لَا يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ , بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى , { لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا } وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ; لِالْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا . وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا . وَلِأَنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ , وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ . وَهَذَا إذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ . أَمَّا إذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
===============
( زُنَّارٌ ) (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8345)(2/3)
1 - الزُّنَّارُ وَالزُّنَّارَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يَشُدُّهُ الْمَجُوسِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ عَلَى وَسَطِهِ . وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ , فَفِي الدُّسُوقِيِّ : الزُّنَّارُ خُيُوطٌ مُتَلَوِّنَةٌ بِأَلْوَانٍ شَتَّى يَشُدُّ بِهَا الذِّمِّيُّ وَسَطَهُ . وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ : الزُّنَّارُ خَيْطٌ غَلِيظٌ فِيهِ أَلْوَانٌ يَشُدُّ بِهِ الذِّمِّيُّ وَسَطَهُ . وَهُوَ يَكُونُ فَوْقَ الثِّيَابِ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - الْحِزَامُ : 2 - الْحِزَامُ اسْمُ مَا حُزِّمَ بِهِ , وَاحْتَزَمَ الرَّجُلُ وَتَحَزَّمَ إذَا شَدَّ وَسَطَهُ بِحَبْلٍ , وَيَكُونُ الْحِزَامُ أَيْضًا لِلصَّبِيِّ فِي مَهْدِهِ , وَالْحِزَامُ لِلسَّرْجِ وَالدَّابَّةِ , وَحَزَّمَ الْفَرَسَ : شَدَّ حِزَامَهُ , وَأَحْزَمَهُ جَعَلَ لَهُ حِزَامًا .
ب - ( النِّطَاقُ ) : 3 - الْمِنْطَقُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالنِّطَاقُ : كُلُّ مَا شُدَّ بِهِ الْوَسَطُ , وَالنِّطَاقُ شِبْهُ إزَارٍ فِيهِ تِكَّةٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَنْتَطِقُ بِهِ . وَفِي الْمُحْكَمِ : النِّطَاقُ شُقَّةٌ أَوْ ثَوْبٌ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ تَشُدُّ وَسَطَهَا بِحَبْلٍ ثُمَّ تُرْسِلُ الْأَعْلَى عَلَى الْأَسْفَلِ إلَى الرُّكْبَةِ .
ج - ( الْهِمْيَانُ ) : 4 - الْهِمْيَانُ : كِيسٌ تُجْعَلُ فِيهِ النَّفَقَةُ وَيُشَدُّ عَلَى الْوَسَطِ , وَفِي اللِّسَانِ : الْهِمْيَانُ هِمْيَانُ الدَّرَاهِمِ , أَيْ الَّذِي تُجْعَلُ فِيهِ النَّفَقَةُ , وَهُوَ أَيْضًا : شِدَادُ السَّرَاوِيلِ وَالْمِنْطَقَةِ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَشُدُّ بِهَا حَقْوَيْهَا . إمَّا تِكَّةٌ وَإِمَّا خَيْطٌ .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّنَّارِ مِنْ أَحْكَامٍ :
أَوَّلًا : اتِّخَاذُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الزُّنَّارَ :(2/4)
5 - مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وُجُوبًا إظْهَارُ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا , وَلَا يُتْرَكُونَ يَتَشَبَّهُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ كَيْ لَا يُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤْمَرُ بِشَدِّ الزُّنَّارِ فِي وَسَطِهِ مِنْ فَوْقِ الثِّيَابِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً مُمَيِّزَةً لَهُ , فَلَا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ أَيْضًا تُؤْخَذُ بِذَلِكَ وَتَشُدُّهُ تَحْتَ إزَارِهَا بِحَيْثُ يَظْهَرُ بَعْضُهُ , وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ . وَمَنْ خَالَفَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَتَرَكَ الزُّنَّارَ بَعْدَ أَمْرِهِ بِهِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ .
ثَانِيًا : لُبْسُ الْمُسْلِمِ الزُّنَّارَ :(2/5)
6 - يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ شَدُّ الزُّنَّارِ فِي وَسَطِهِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِهِمْ , وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } . وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ مَنْ شَدَّ عَلَى وَسَطِهِ زُنَّارًا عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ , وَإِنَّمَا هُوَ عَاصٍ بِذَلِكَ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي , حَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّزَيِّي بِزِيِّ الْكُفَّارِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ : وَعَظَ الْإِمَامُ فَاسِقًا وَنَدَبَهُ إلَى التَّوْبَةِ , فَقَالَ : بَعْدَ الْيَوْمِ أَضَعُ عَلَى رَأْسِي قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ , وَكَانَتْ عَلَامَةً خَاصَّةً بِهِمْ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ وَضْعَ تِلْكَ الْقَلَنْسُوَةِ كَشَدِّ الزُّنَّارِ عَلَامَةِ الْكُفْرِ . وَمَنْ شَدَّ الزُّنَّارَ وَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ كَفَرَ , قَالَ الْأُسْرُوشَنِيُّ : إنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَخْلِيصِ الْأَسِيرِ لَا يَكْفُرُ , وَلَوْ دَخَلَ لِلتِّجَارَةِ كَفَرَ , وَمَنْ لَفَّ عَلَى وَسَطِهِ حَبْلًا وَقَالَ : هَذَا زُنَّارٌ لَا يَكْفُرُ , وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالْكُفْرِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ : مِنْ عَلَامَاتِ الرِّدَّةِ صُدُورُ فِعْلٍ يَقْتَضِي الْكُفْرَ كَشَدِّ زُنَّارٍ , وَالْمُرَادُ بِهِ مَلْبُوسُ الْكَافِرِ الْخَاصُّ بِهِ أَيْ إذَا فَعَلَهُ حُبًّا فِيهِ وَمَيْلًا لِأَهْلِهِ , وَأَمَّا إنْ لَبِسَهُ لَعِبًا فَحَرَامٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ , قَالَ الدُّسُوقِيُّ : يَكْفُرُ إذَا فَعَلَهُ حُبًّا فِيهِ سَوَاءٌ أَسَعَى بِهِ لِلْكَنِيسَةِ(2/6)
وَنَحْوِهَا أَمْ لَا , وَسَوَاءٌ أَفَعَلَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ فِي بِلَادِهِمْ , فَالْمَدَارُ فِي الرِّدَّةِ عَلَى فِعْلِهِ حُبًّا فِيهِ وَمَيْلًا لِأَهْلِهِ كَمَا فِي الْبُنَانِيِّ عَنْ ابْنِ مَرْزُوقٍ , لَكِنَّ الزَّرْقَانِيَّ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالسَّعْيِ بِهِ لِلْكَنِيسَةِ وَبِفِعْلِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ . قَالَ الدُّسُوقِيُّ : وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ كَأَسِيرٍ عِنْدَهُمْ يُضْطَرُّ إلَى اسْتِعْمَالِ ثِيَابِهِمْ , فَلَا حُرْمَةَ عَلَيْهِ فَضْلًا عَنْ الرِّدَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ .
=================
حُكْمُ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (1):
11 - إذَا سَبَّ مُسْلِمٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرْتَدًّا . وَفِي اسْتِتَابَتِهِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ ( رِدَّةٍ ) .
سَبُّ الذِّمِّيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8441) وانظر الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية وموسوعة الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم(2/7)
12 - لِلْعُلَمَاءِ عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي حُكْمِ الذِّمِّيِّ إذَا سَبَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم . فَقِيلَ : إنَّهُ يُنْقَضُ أَمَانُهُ بِذَلِكَ إنْ لَمْ يُسْلِمْ , وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) . وَيُقْتَلُ وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِهَذَا السَّبِّ إنْ لَمْ يُسْلِمْ , فَإِنْ أَسْلَمَ إسْلَامًا غَيْرَ فَارٍّ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ لَمْ يُقْتَلْ لقوله تعالى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } . قَالُوا : وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَلْ إذَا أَسْلَمَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ يُقْتَلُ بِسَبِّهِ عليه الصلاة والسلام , وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ مِنْ أَجْلِ حَقِّ الْآدَمِيِّ , لِأَنَّا نَعْلَمُ بَاطِنَهُ فِي بُغْضِهِ وَتَنْقِيصِهِ بِقَلْبِهِ لَكِنَّا مَنَعْنَاهُ مِنْ إظْهَارِهِ , فَلَمْ يَزِدْنَا مَا أَظْهَرَهُ إلَّا مُخَالَفَتَهُ لِلْأَمْرِ , وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ , فَإِذَا رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا قَبْلَهُ , بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّا ظَنَنَّا بَاطِنَهُ بِخِلَافِ مَا بَدَا مِنْهُ الْآنَ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ انْتِقَاضَ الْعَهْدِ بِمِثْلِ ذَلِكَ , انْتَقَضَ عَهْدُ السَّابِّ وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ إنْ لَمْ يَسْأَلْ الذِّمِّيُّ تَجْدِيدَ الْعَقْدِ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَبِيٍّ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ , وَكَذَا الرُّسُلُ إذْ النَّبِيُّ أَعَمُّ مِنْ الرَّسُولِ عَلَى الْمَشْهُورِ . وَالْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ تَخُصُّهُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ هُمْ الْمُتَّفَقُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ , أَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُمْ فَلَيْسَ حُكْمُ مَنْ سَبَّهُمْ كَذَلِكَ .(2/8)
وَلَكِنْ يُزْجَرُ مَنْ تَنَقَّصَهُمْ أَوْ آذَاهُمْ , وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ حَالِ الْقَوْلِ فِيهِمْ , لَا سِيَّمَا مَنْ عُرِفَتْ صِدِّيقِيَّتُهُ وَفَضْلُهُ مِنْهُمْ كَمَرْيَمَ , وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ نُبُوَّتُهُ , وَلَا عِبْرَةَ بِاخْتِلَافِ غَيْرِنَا فِي نُبُوَّةِ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ , كَنَفْيِ الْيَهُودِ نُبُوَّةَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ .
===================
أَسْبَابُ السَّبْيِ (1):
الْأَوَّلُ - الْقِتَالُ :
5 - شُرِعَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لِإِعْلَاءِ دِينِ الْحَقِّ وَكَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ . وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلْ , وَلِذَلِكَ يُمْنَعُ التَّعَرُّضُ لِلنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْعَجَزَةِ الَّذِينَ لَا يُشَارِكُونَ فِي الْقِتَالِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ . قَالَ صلى الله عليه وسلم : { لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا وَلَا طِفْلًا وَلَا امْرَأَةً } . وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا جَوَازُ قَتْلِ مَنْ يُشَارِكُ فِي الْقِتَالِ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ أَوْ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ , وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي ( جِهَادٍ ف 29 ) . وَإِذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ الْغَنَائِمَ فَإِنَّ مَنْ يُوجَدُ فِيهَا مِنْ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ يُعْتَبَرُ سَبْيًا .
الثَّانِي : النُّزُولُ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8461)(2/9)
6 - لَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا لِلْعَدُوِّ , وَطَلَبَ أَهْلُ الْحِصْنِ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ فُلَانٍ وَارْتَضَوْا حُكْمَ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ , فَلَهُ الْحُكْمُ بِسَبْيِ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ . وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله تعالى عنه , فَحَكَمَ سَعْدُ أَنْ تُقَتَّلَ رِجَالُهُمْ وَتُقَسَّمَ أَمْوَالُهُمْ وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ , فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ حَكَمْت بِمَا حَكَمَ الْمَلِكُ } . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( جِهَادٍ ف 24 )
الثَّالِثُ - الرِّدَّةُ :
7 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ إنْ اُسْتُتِيبَتْ وَلَمْ تَتُبْ فَإِنَّهَا تُقْتَلُ , لِمَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ رُومَانَ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ , فَبَلَغَ أَمْرُهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَتْ وَإِلَّا قُتِلَتْ } . وَلِأَنَّهَا شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ , فَيُقْتَلُ كَالرَّجُلِ .(2/10)
8 - وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَتُوبَ - إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - عَلَى مَا سَيَأْتِي . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ فَإِنَّهَا تُسْبَى وَلَا تُقْتَلُ , لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ وَذَرَارِيَّهُمْ , وَأَعْطَى عَلِيًّا مِنْهُمْ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ , وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ قَالَ : إنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلَوْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ , قِيلَ : لَوْ أَفْتَى بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا بَأْسَ بِهِ فِيمَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ حَسْمًا لِتَوَصُّلِهَا لِلْفُرْقَةِ بِالرِّدَّةِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - غَيْرُ رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - لَا تُسْبَى الْمَرْأَةُ إلَّا إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ ارْتِدَادِهَا , فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ سِبَاؤُهَا . 9 - أَمَّا ذُرِّيَّةُ الْمُرْتَدِّ فَمَنْ وُلِدَ بَعْدَ رِدَّةِ أَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ , لِأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ , وَيَجُوزُ سِبَاؤُهُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ , نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ , وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ . وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ فَلَا يُقِرُّونَ بِالِاسْتِرْقَاقِ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْبَى مَنْ وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لَحِقَ أَبَوَاهُ بِدَارِ(2/11)
الْحَرْبِ وَهُوَ مَعَهُمَا , وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إذَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ بَقِيَ وَلَدُهُ مُسْلِمًا سَوَاءٌ وُلِدَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا . 10 - وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ صَارَ دَارَ حَرْبٍ , فَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ سَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَاَلَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَ الرِّدَّةِ , كَمَا سَبَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله تعالى عنه ذَرَارِيَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ , وَكَمَا سَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله تعالى عنه بَنِي نَاجِيَةَ مُوَافَقَةً لِأَبِي بَكْرٍ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَصْبَغَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - غَيْرِ أَصْبَغَ - لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا ذَرَارِيُّهُمْ .
الرَّابِعُ : نَقْضُ الْعَهْدِ :(2/12)
11 - أَهْلُ الذِّمَّةِ آمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الْعَهْدِ , فَإِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ وَأَسَرَ رِجَالَهُمْ , أَمَّا نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ فَلَا يُسَبُّونَ لِأَنَّ أَمَانَهُمْ لَمْ يَبْطُلْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَشْهَبَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَشْهَبَ وَمُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : يُنْتَقَضُ عَهْدُ الْجَمِيعِ وَتُسْبَى النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ , قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : هَذَا الَّذِي خَالَفَتْ فِيهِ سِيرَةُ عُمَرَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله تعالى عنهما فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنْ الْعَرَبِ , سَارَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ سِيرَةَ النَّاقِضِينَ فَسَبَى النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ وَجَرَتْ الْمَقَاسِمُ فِي أَمْوَالِهِمْ . فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بَعْدَهُ نَقَضَ ذَلِكَ وَسَارَ فِيهِمْ سِيرَةَ الْمُرْتَدِّينَ , أَخْرَجَهُمْ مِنْ الرِّقِّ وَرَدَّهُمْ إلَى عَشَائِرِهِمْ وَإِلَى الْجِزْيَةِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : مَنْ وُلِدَ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَرَقُّ وَيُسْبَى . وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي ( أَهْلِ الذِّمَّةِ ) .
=================
ب - الْمُفَادَاةُ (1):
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8465)(2/13)
15 - جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ : لَا يُفَادَى بِنِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ ; لِأَنَّ الصِّبْيَانَ يَبْلُغُونَ فَيُقَاتِلُونَ وَالنِّسَاءُ يَلِدْنَ فَيَكْثُرُ نَسْلُ الْكُفَّارِ , لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : لَعَلَّ الْمَنْعَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ مَالًا وَإِلَّا فَقَدْ جَوَّزُوا دَفْعَ أَسْرَاهُمْ فِدَاءً لِأَسْرَانَا , مَعَ أَنَّهُمْ إذَا ذَهَبُوا إلَى دَارِهِمْ يَتَنَاسَلُونَ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : الصِّبْيَانُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إذَا سُبُوا وَمَعَهُمْ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ فَلَا بَأْسَ بِالْمُفَادَاةِ بِهِمْ , وَأَمَّا إذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ وَحْدَهُ , أَوْ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ , وَكَذَلِكَ إنْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ أَوْ بِيعَتْ الْغَنَائِمُ , فَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِمَنْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ فِيهِ بِالْقَسَمِ أَوْ الشِّرَاءِ . ثُمَّ فِي الْمُفَادَاةِ يُشْتَرَطُ رِضَا أَهْلِ الْعَسْكَرِ , فَلَوْ أَبَوْا ذَلِكَ لَيْسَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُفَادِيَهُمْ . 16 - وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْفِدَاءَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ بِمَالٍ أَمْ بِأَسْرَى . فَإِنْ كَانَ الْفِدَاءُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ مِنْ الْكُفَّارِ وَيَضُمُّهُ لِلْغَنِيمَةِ . وَإِنْ حَصَلَ الْفِدَاءُ بِرَدِّ الْأَسْرَى فَيُحْسَبُ الْقَدْرُ الَّذِي يَفُكُّ بِهِ الْأَسْرَى مِنْ عِنْدِهِمْ مِنْ الْخُمُسِ .(2/14)
17 - وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ أَنَّ الْإِمَامَ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِي السَّبْيِ , وَيَتَعَيَّنُ الرِّقُّ فِيهِمْ بِمُجَرَّدِ السَّبْيِ وَبِذَلِكَ يُمْتَنَعُ الْفِدَاءُ . لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ : إنْ فَادَى السَّبْيَ عَلَى مَالٍ جَازَ ; لِأَنَّ هَذَا الْفِدَاءَ بَيْعٌ وَيَكُونُ مَالُ فِدَائِهِمْ مَغْنُومًا مَكَانَهُمْ , وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِ الْغَانِمِينَ , وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُفَادَى بِهِمْ عَنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَيْدِي قَوْمِهِمْ عَوَّضَ الْغَانِمِينَ عَنْهُمْ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ .(2/15)
18 - وَالْأَصْلُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ يَصِيرُونَ رَقِيقًا بِمُجَرَّدِ سَبْيِهِمْ , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَصِيرُونَ رَقِيقًا بِالسَّبْيِ , ثُمَّ قَالَ : وَمَنَعَ أَحْمَدُ مِنْ فِدَاءِ النِّسَاءِ بِالْمَالِ لِأَنَّ فِي بَقَائِهِنَّ تَعْرِيضًا لَهُنَّ لِلْإِسْلَامِ لِبَقَائِهِنَّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ , وَجَوَّزَ أَنْ يُفَادَى بِهِنَّ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّ { النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ } . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِنْقَاذَ مُسْلِمٍ مُتَحَقِّقٌ إسْلَامُهُ فَاحْتُمِلَ تَفْوِيتُ مَا يُرْجَى مِنْ إسْلَامِهَا الْمَظْنُونِ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ احْتِمَالُ فَوَاتِهَا لِتَحْصِيلِ الْمَالِ , فَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُفَادَى بِهِمْ , وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيهِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَى الْمُشْرِكِينَ , وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِإِسْلَامِهِ كَاَلَّذِي سُبِيَ مَعَ أَبَوَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِدَاؤُهُ بِمَالٍ , وَهَلْ يَجُوزُ فِدَاؤُهُ بِمُسْلِمٍ ؟ يُحْتَمَلُ وَجْهَيْنِ . وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِأَبِي يَعْلَى : وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْفِدَاءُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَابِتٌ فِي السَّبْيِ فَلَمْ تَجْرِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ , وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَالْفِدَاءُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ . وَإِذَا فَادَى الْإِمَامُ بِالْأُسَارَى عَوَّضَ الْغَانِمِينَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ .
====================
أَرْكَانُ السَّرِقَةِ(1) :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8608)(2/16)
9 - لِلسَّرِقَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ : السَّارِقُ , وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ , وَالْمَالُ الْمَسْرُوقُ , وَالْأَخْذُ خُفْيَةً .
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ : السَّارِقُ :
10 - يَجِبُ - لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ - أَنْ تَتَوَافَرَ فِي السَّارِقِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ : أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا , وَأَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ السَّرِقَةِ , وَأَلَّا يَكُونَ مُضْطَرًّا إلَى الْأَخْذِ , وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ , وَأَلَّا تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَا أَخَذَ .
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ : التَّكْلِيفُ : 11 - لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إلَّا إذَا كَانَ مُكَلَّفًا , أَوْ بَالِغًا عَاقِلًا . وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( تَكْلِيفٍ ) . أ - وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ بَالِغًا إذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ إحْدَى عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ . يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( بُلُوغٍ ) . أَمَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْبُلُوغِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ } . وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ .(2/17)
ب - وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ , إذْ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ : { وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ } . هَذَا إنْ كَانَ الْمَجْنُونُ مُطْبَقًا , فَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ مُطْبَقٍ وَجَبَ الْحَدُّ إنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ , وَلَا يَجِبُ إنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْجُنُونِ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( جُنُونٍ ) .
ج - وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْتُوهَ بِالْمَجْنُونِ ; لِأَنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( عَتَهٍ ) .
د - وَلَا يَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ إذَا صَدَرَتْ السَّرِقَةُ مِنْ النَّائِمِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : { وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( نَوْمٍ ) .
هـ - كَذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا سَرَقَ حَالَ إغْمَائِهِ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( إغْمَاءٍ ) .(2/18)
و - أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ وَهُوَ سَكْرَانُ , فَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِي حُكْمِهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ : فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ عَقْلَهُ غَيْرُ حَاضِرٍ , فَلَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا إلَّا حَدَّ السُّكْرِ . سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَمْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ . غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ : إذَا كَانَ السَّكْرَانُ قَدْ تَعَدَّى بِسُكْرِهِ , فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ , سَدًّا لِلذَّرَائِعِ , حَتَّى لَا يَقْصِدَ مَنْ يُرِيدُ ارْتِكَابَ جَرِيمَةٍ إلَى الشُّرْبِ دَرْءًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ . أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالسُّكْرِ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ ; لِقِيَامِ عُذْرِهِ وَانْتِفَاءِ قَصْدِهِ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( سُكْرٍ ) .
ز - وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ : اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَثْبُتَ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ . وَلِذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ , وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ . اُنْظُرْ مُصْطَلَحَيْ : ( أَهْلِ الْحَرْبِ , وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ) .(2/19)
12 - أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ : فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ آخَرَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ : ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ( الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ ) إلَى وُجُوبِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي الْأَمَانِ يَجْعَلُهُ مُلْتَزِمًا الْأَحْكَامَ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إلَى عَدَمِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ , قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَظْهَرُهَا : أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالْحَرْبِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ كَالذِّمِّيِّ . وَالثَّالِثُ : يُفَصَّلُ بِالنَّظَرِ إلَى عَقْدِ الْأَمَانِ : فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقَطْعُ , وَإِلَّا فَلَا حَدَّ وَلَا قَطْعَ .
=================
شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ (1):
يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الْحَدِّ مَا يَلِي :
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8762)(2/20)
17 - أَوَّلًا : التَّكْلِيفُ وَهُوَ هُنَا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ , فَلَا حَدَّ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ بِاتِّفَاقٍ ; لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمَا . وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ يُؤَدَّبُ لِلزَّجْرِ .(2/21)
18 - ثَانِيًا : الْإِسْلَامُ : فَلَا حَدَّ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا بِالسُّكْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ : وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً , وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لَكَنَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ , وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ تَعَرُّضٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّنَا نَمْنَعُهُمْ مِنْ الشُّرْبِ . وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي الْأَدْيَانِ كُلِّهَا . قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ . وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ : " إنْ سَكِرَ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرَامِ حُدَّ فِي الْأَصَحِّ لِحُرْمَةِ السُّكْرِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ " وَجَاءَ بِهَا أَيْضًا قَوْلُهُ : حُدَّ فِي الْأَصَحِّ أَفْتَى بِهِ الْحَسَنُ وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ . وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ كَمَا فِي النَّهَرِ عَنْ فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَقَالَ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ : وَلَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِهِ وَإِنْ سَكِرَ وَعَنْهُ يُحَدُّ وَعِنْدِي إنْ سَكِرَ حُدَّ وَإِلَّا فَلَا . وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُؤَدَّبُ بِالشُّرْبِ إنْ أَظْهَرَهُ .(2/22)
19 - ثَالِثًا : عَدَمُ الضَّرُورَةِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ , بِأَنْ يَشْرَبَهَا مُخْتَارًا لِشُرْبِهَا , وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ . فَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِهَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ الرَّسُولِ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ بِالْإِكْرَاهِ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً فَلَا حَدَّ وَلَا إثْمَ . وَسَوَاءٌ أُكْرِهَ بِالْوَعِيدِ وَالضَّرْبِ أَوْ أُلْجِئَ إلَى شُرْبِهَا بِأَنْ يُفْتَحَ فُوهُ وَتُصَبَّ فِيهِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ . وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ , عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ أَوْ بِإِتْلَافِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ بِالضَّرْبِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ أَيْ : بِقَيْدٍ أَوْ سَجْنٍ شَدِيدَيْنِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لِسَحْنُونٍ . وَكَذَلِكَ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهَا لِدَفْعِ غُصَّةٍ بِهَا إذَا لَمْ يَجِدْ مَائِعًا سِوَاهَا وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ : { فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } . وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَالشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْغُصَّةِ حَلَالٌ فَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ . وَإِنْ شَرِبَهَا لِعَطَشٍ فَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ : إنْ كَانَتْ مَمْزُوجَةً بِمَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ أُبِيحَتْ لِدَفْعِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا تُبَاحُ الْمَيْتَةُ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَإِبَاحَتِهَا لِدَفْعِ الْغُصَّةِ . وَقَدْ(2/23)
رُوِيَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّهُ أَسَرَهُ الرُّومُ , فَحَبَسَهُ طَاغِيَتُهُمْ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَاءٌ مَمْزُوجٌ بِخَمْرٍ وَلَحْمُ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٌّ لِيَأْكُلَهُ وَيَشْرَبَ الْخَمْرَ , وَتَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَفْعَلْ , ثُمَّ أَخْرَجُوهُ حِينَ خَشُوا مَوْتَهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي فَإِنِّي مُضْطَرٌّ وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتَكُمْ بِدِينِ الْإِسْلَامِ . وَإِنْ شَرِبَهَا صِرْفًا أَوْ مَمْزُوجَةً بِشَيْءٍ يَسِيرٍ لَا يَرْوِي مِنْ الْعَطَشِ لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَحِلُّ شُرْبُهَا لِلْعَطَشِ لقوله تعالى : { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , الْأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا لِعَطَشٍ وَجُوعٍ وَلَكِنْ لَا يُحَدُّ وَقَالُوا : إنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنْ عَطَشٍ جَازَ لَهُ شُرْبُهَا .
شُرْبُ الْمُسْكِرِ لِلتَّدَاوِي :(2/24)
20 - إنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ لِلتَّدَاوِي ( لَمْ يُبَحْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ) وَالْمَالِكِيَّةِ , وَالْحَنَابِلَةِ , وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ . وَيُحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ إبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي بِحَدِيثِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ مِنْ أَنَّ { طَارِقَ بْنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ } . وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ مُحَرَّمٌ لِعَيْنِهِ فَلَمْ يُبَحْ لِلتَّدَاوِي كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ إلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يُسْكِرُ كَبَقِيَّةِ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالِ الضَّرُورَةِ , أَمَّا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَمْ يَجِدْ دَوَاءً آخَرَ فَفِي جَوَازِهِ خِلَافٌ , وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي ( تَدَاوِي ) .(2/25)
21 - رَابِعًا : مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَدِّ أَيْضًا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ . لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى لَوْ خُلِطَ الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شَرِبَ نُظِرَ فِيهِ : إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ - لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ , وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أَوْ كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ ; لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ . وَيُحَدُّ مَنْ شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهُ خَمْرٌ بِلَا شَكٍّ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ , وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِأَنَّ الدُّرْدِيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ صَافِيهِ , وَالِانْتِفَاعُ بِالْخَمْرِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ بِدُرْدِيِّهِ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الدُّرْدِيِّ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ وَلَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةٌ مِنْ خَمْرٍ فِي مَاءٍ لَمْ يَجُزْ شُرْبُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فَالدُّرْدِيُّ أَوْلَى . 22 - خَامِسًا : وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا الْعِلْمُ بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ , فَالْحَدُّ إنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ شَرِبَهَا عَالِمًا بِأَنَّ كَثِيرَهَا يُسْكِرُ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ , وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَلَمْ يَشْتَرِطْ الشَّافِعِيَّةُ إلَّا الْعِلْمَ بِكَوْنِ مَا شَرِبَهُ مُسْكِرًا . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا وَلَا قَاصِدٍ إلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ بِهَا فَأَشْبَهَ مَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ , وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهَا أَيْضًا - لِأَنَّ عُمَرَ(2/26)
وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما قَالَا : لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ - وَلِأَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِالتَّحْرِيمِ أَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا خَمْرٌ , وَإِذَا ادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِهَا نُظِرَ . فَإِنْ كَانَ نَاشِئًا بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِيهِ , وَإِنْ كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْبُلْدَانِ قُبِلَ مِنْهُ , لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ . نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ .
23 - سَادِسًا : اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ النُّطْقَ فَلَا يُحَدُّ الْأَخْرَسُ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا يُحَدُّ بِهِ كَإِكْرَاهٍ أَوْ غَصٍّ بِلُقْمَةٍ . وَلَا تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ فَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَى كُلٍّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالرَّقِيقِ إلَّا أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ يَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ .
=================
سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8789)(2/27)
29 - سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا تَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ . لَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : { أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ قَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ , وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ } , وَلِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } . وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ , إلَّا أَنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَذْكُورِينَ , نَظِيرُ مَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ جِزْيَةٍ , عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي :(2/28)
أَوَّلًا : مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ : 30 - إذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ السُّكْنَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُ بِالشِّرَاءِ لِدَارٍ , أَوْ بِاسْتِئْجَارِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَإِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا فِي الْمِصْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُبَاعَ مِنْهُ , وَإِنْ اشْتَرَاهَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ مُسْلِمٍ , وَقِيلَ : لَا يُجْبَرُ . وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ : إنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ - كَمَا مَصَّرَ عُمَرُ رضي الله عنه الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ - فَاشْتَرَى بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ دُورًا , وَسَكَنُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّا قَبِلْنَا مِنْهُمْ عَقْدَ الذِّمَّةِ , لِيَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ , فَعَسَى أَنْ يُؤْمِنُوا , وَاخْتِلَاطُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّكَنُ مَعَهُمْ يُحَقِّقُ هَذَا الْمَعْنَى . وَقَيَّدَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ جَوَازَ السُّكْنَى بِقَوْلِهِ : هَذَا إذَا قَلُّوا , وَكَانُوا بِحَيْثُ لَا تَتَعَطَّلُ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا تَتَقَلَّلُ الْجَمَاعَةُ بِسُكْنَاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ . فَأَمَّا إذَا كَثُرُوا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ , أَوْ تَقْلِيلِهَا مُنِعُوا مِنْ السُّكْنَى , وَأُمِرُوا أَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً لَيْسَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ . قَالَ : وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : قَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ : إنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ , فَلَا نَقُولُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا , وَلَا بِعَدَمِهِ مُطْلَقًا , بَلْ يَدُورُ الْحُكْمُ عَلَى الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ , وَالضَّرَرِ وَالْمَنْفَعَةِ ,(2/29)
وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ . وَإِذَا تَكَارَى أَهْلُ الذِّمَّةِ دُورًا فِي الْمِصْرِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْكُنُوا فِيهَا جَازَ ; لِعَوْدِ نَفْعِهِ إلَيْنَا ; وَلِيَرَوْا أَفْعَالَنَا فَيُسْلِمُوا . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِرَاءِ وَالشِّرَاءِ , فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي الشِّرَاءِ يَأْتِي هُنَا فِي الْكِرَاءِ . وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ سُكْنَى الذِّمِّيِّ أَنْ تَكُونَ حَيْثُ يَنَالُهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ , وَلَا يَسْكُنُ الذِّمِّيُّ حَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَنْكُثَ . فَإِذَا سَكَنَ فِي أَمَاكِنَ , بِحَيْثُ لَا تَنَالُهُ أَحْكَامُنَا , فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِانْتِقَالِ . فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا . وَنَقَلَ الْحَطَّابُ قَوْلَ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ : إنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَهْلُ جِهَةٍ , وَخِفْنَا عَلَيْهِمْ الِارْتِدَادَ إذَا فُقِدَ الْجَيْشُ , فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِالِانْتِقَالِ .
================
السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8828)(2/30)
21 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ السَّلَامَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ , وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الذِّمِّيِّ إنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ حَاجَةٌ ; لِأَنَّ السَّلَامَ حِينَئِذٍ لِأَجْلِ . الْحَاجَةِ لَا لِتَعْظِيمِهِ , وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا إلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ فِرَقِ الضَّلَالِ بِالسَّلَامِ مَكْرُوهٌ ; لِأَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةٌ وَالْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا . وَيَحْرُمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بُدَاءَةُ الذِّمِّيِّ بِالسَّلَامِ , وَلَهُ أَنْ يُحَيِّيَهُ بِغَيْرِ السَّلَامِ بِأَنْ يَقُولَ : هَدَاك اللَّهُ أَوْ أَنْعَمَ اللَّهُ صَبَاحَك إنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ حَاجَةٌ , وَإِلَّا فَلَا يَبْتَدِئُهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْإِكْرَامِ أَصْلًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ بَسْطٌ لَهُ وَإِينَاسٌ وَإِظْهَارُ وُدٍّ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُومَنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ : اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَقَطَعَ الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ , وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ هُوَ بِحَرَامٍ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ . حَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا ; أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِالسَّلَامِ , وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ الْمُسَلِّمُ عَلَى قَوْلِهِ : السَّلَامُ عَلَيْك وَلَا يَذْكُرُهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ , إلَّا أَنَّ النَّوَوِيَّ وَصَفَ هَذَا الْوَجْهَ بِأَنَّهُ شَاذٌّ . وَبُدَاءَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ لَا تَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ,(2/31)
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ نُحَيِّيَهُمْ بِتَحِيَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ السَّلَامِ . قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلذِّمِّيِّ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ أَوْ كَيْفَ حَالُك ؟ أَوْ كَيْفَ أَنْتَ ؟ أَوْ نَحْوَ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ مِنْ السَّلَامِ . وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ : أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَك جَازَ إنْ نَوَى أَنَّهُ يُطِيلُهُ لِيُسْلِمَ أَوْ لِيُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ . وَدَلِيلُ كَرَاهَةِ الْبُدَاءَةِ بِالسَّلَامِ قَوْلُ رَسُولِ - صلى الله عليه وسلم - { لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ , فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إلَى أَضْيَقِهِ } . وَالِاسْتِقَالَةُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : رُدَّ سَلَامِي الَّذِي سَلَّمْته عَلَيْك ; لِأَنِّي لَوْ عَلِمْت أَنَّك كَافِرٌ مَا سَلَّمْت عَلَيْك . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إنْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا فَبَانَ ذِمِّيًّا أَنْ يَسْتَقِيلَهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : رُدَّ سَلَامِي الَّذِي سَلَّمْته عَلَيْك , لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ( أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقِيلَ : إنَّهُ كَافِرٌ فَقَالَ : رُدَّ عَلَيَّ مَا سَلَّمْت عَلَيْك فَرَدَّ عَلَيْهِ , فَقَالَ أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك وَوَلَدَك , ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَكْثَرُ لِلْجِزْيَةِ ) . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لَا يَسْتَقِيلُهُ . وَإِذَا كَتَبَ إلَى الذِّمِّيِّ كِتَابًا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ : السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى , اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي(2/32)
اقْتِصَارِهِ عَلَى ذَلِكَ حِينَ كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ . وَإِذَا مَرَّ وَاحِدٌ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَلَوْ وَاحِدًا وَكُفَّارٌ فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيَقْصِدَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمُسْلِمَ . لِمَا رَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما . { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم } .
رَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ :(2/33)
22 - وَأَمَّا رَدُّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا يَجِبُ إلَّا إذَا تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ مِنْ لَفْظِ السَّلَامِ مِنْ الذِّمِّيِّ , وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ . وَيَقْتَصِرُ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ : وَعَلَيْكُمْ , بِالْوَاوِ وَالْجَمْعِ , أَوْ وَعَلَيْك بِالْوَاوِ دُونَ الْجَمْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ , لِكَثْرَةِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ . فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا عَلَيْكُمْ } وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ : { إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ . السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُلْ وَعَلَيْك } . وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ فِي الرَّدِّ : عَلَيْك , بِغَيْرِ وَاوٍ بِالْإِفْرَادِ أَوْ الْجَمْعِ . لِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - { إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُلْ عَلَيْك } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ قَالَ : { عَلَيْكُمْ } . بِالْجَمْعِ وَبِغَيْرِ وَاوٍ . وَنَقَلَ النَّفْرَاوِيُّ عَنْ الَأُجْهُورِيُّ قَوْلَهُ : إنْ تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ نَطَقَ بِالسَّلَامِ بِفَتْحِ السِّينِ , فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الدُّعَاءَ .
================
سِلْمٌ (1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 8892)(2/34)
1 - السِّلْمُ : بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا : الصُّلْحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ . وَالسِّلْمُ : الْمُسَالِمُ , يُقَالُ : أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَنِي . وَالتَّسَالُمُ : التَّصَالُحُ , وَالْمُسَالَمَةُ : الْمُصَالَحَةُ . وَيَأْتِي السِّلْمُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَمِنْهُ قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } . قَالُوا : الْإِسْلَامُ : إظْهَارُ الْخُضُوعِ وَإِظْهَارُ الشَّرِيعَةِ , وَالْتِزَامُ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبِذَلِكَ يُحْقَنُ الدَّمُ وَيُسْتَدْفَعُ الْمَكْرُوهُ . وَالسِّلْمُ : فِي حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يَبْعُدُ عَنْ حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ , وَلِذَا قَالُوا : هُوَ الصُّلْحُ , خِلَافُ الْحَرْبِ , أَوْ هُوَ : تَرْكُ الْجِهَادِ مَعَ الْكَافِرِينَ بِشُرُوطِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) :
أ - ( الْهُدْنَةُ ) : 2 - الْمُهَادَنَةُ : الْمُسَالَمَةُ - وَتُسَمَّى : الْمُوَادَعَةَ , وَالْمُعَاهَدَةَ . وَشَرْعًا : مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً مُعَيَّنَةً بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ .
ب - ( الْأَمَانُ ) : 3 - الْأَمَانُ فِي اللُّغَةِ : عَدَمُ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ فِي الزَّمَنِ الْآتِي . وَشَرْعًا : رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ , وَرِقِّهِ , وَمَالِهِ , حِينَ قِتَالِهِ , أَوْ الْغُرْمِ عَلَيْهِ , مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً مَا .(2/35)
ج - ( الذِّمَّةُ ) : 4 - الذِّمَّةُ فِي اللُّغَةِ : الْعَهْدُ وَالْأَمَانُ . وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ : الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دِيَارِنَا وَحِمَايَتِهِمْ , وَالذَّبِّ عَنْهُمْ , بِبَذْلِ الْجِزْيَةِ .
د - الْمُعَاهَدَةُ : 5 - وَهِيَ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُحَالَفَةُ . وَالْمُعَاهَدُ : مَنْ كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَهْدٌ . قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ إذَا صُولِحُوا عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ مُدَّةً مَا .
و - الْمُوَادَعَةُ : 6 - وَهِيَ الْمُصَالَحَةُ وَالْمُسَالَمَةُ عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ وَالْأَذَى , وَحَقِيقَةُ الْمُوَادَعَةِ الْمُتَارَكَةُ , أَيْ يَدَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا هُوَ فِيهِ .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : أَوَّلًا : السِّلْمُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ :
7 - السِّلْمُ الْمُطْلَقُ الَّذِي يَكُونُ بِأَصْلِ الْمِلَّةِ . غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ عَقْدٍ , وَلَا يَكُونُ إلَّا لِلْمُسْلِمِ بِأَصْلِ النَّشْأَةِ , أَوْ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . ( ر : إسْلَامٌ )
. ثَانِيًا : السِّلْمُ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ :
8 - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ عَقْدًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَيَتَنَوَّعُ إلَى أَنْوَاعٍ : النَّوْعُ الْأَوَّلُ : مَا كَانَ مُؤَبَّدًا . وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ . وَالْمَقْصُودُ بِهِ : إقْرَارُ بَعْضِ الْكُفَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ , وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ . وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ اُنْظُرْ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ - الْمَوْسُوعَةُ 7 120 - 139 - جِزْيَةُ الْمَوْسُوعَةِ 15 149 , 207 )(2/36)
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا كَانَ مُؤَقَّتًا . وَيَأْتِي فِي صُورَتَيْنِ :
الْأُولَى : عَقْدُ الْهُدْنَةِ :
9 - الْأَصْلُ فِيهَا : قوله تعالى : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } . وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمُهَادَنَةِ مَتَى كَانَتْ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . لقوله تعالى : { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } . فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُوَادَعَةِ مَصْلَحَةٌ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ . وَقَالَ صَاحِبُ رَوْضِ الطَّالِبِ : الْأَصْلُ فِيهَا - قَبْلَ الْإِجْمَاعِ - قوله تعالى : { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَقَوْلُهُ : { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } . { وَمُهَادَنَتُهُ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشًا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ } وَهِيَ جَائِزَةٌ لَا وَاجِبَةٌ . وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ وَجَمَاعَةٍ عَدِيدَةٍ وَشِدَّةٍ شَدِيدَةٍ فَلَا صُلْحَ . وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِنَفْعٍ يَجْتَلِبُونَهُ , أَوْ ضَرَرٍ يَدْفَعُونَهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ . وَقَدْ { صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا فَنُقِضَ صُلْحُهُمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ وَقَدْ صَالَحَ الضَّمْرِيَّ , وَأُكَيْدِرَ دَوْمَةَ - وَأَهْلَ نَجْرَانَ وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشْرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ } . وَمَا زَالَتْ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ ( هُدْنَةٌ , صُلْحٌ , وَمُعَاهَدَةٌ )
================(2/37)
شَهَادَةُ الزُّورِ (1):
63 - شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَعْدُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ , وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا - فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ . قَالَ : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ } . وَلِأَنَّ فِيهَا رَفْعَ الْعَدْلِ , وَتَحْقِيقَ الْجَوْرِ . فَإِذَا أَقَرَّ شَخْصٌ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ , قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُشَهَّرُ بِهِ فِي السُّوقِ , إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ أَوْ فِي قَوْمِهِ أَوْ مَحَلَّتِهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي مَكَان يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ , وَيُقَالُ : إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ . وَلَا يُحْبَسُ وَلَا يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ لِتَحَقُّقِ الْقَصْدِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ . وَكَانَ شُرَيْحٌ يُشَهِّرُهُ وَلَا يَضْرِبُهُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ شَاهِدَ الزُّورِ بِالضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ أَوْ الزَّجْرِ , وَإِنْ رَأَى أَنْ يُشَهِّرَ أَمْرَهُ فَعَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ أَيْ : سَوَّدَهُ . وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ , وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ . وَذَهَبَ
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9329)(2/38)
الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : إلَى تَعْزِيرِهِ وَضَرْبِهِ وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ . وَعَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا ثَبَتَ زُورُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ , وَنُبِّهَ النَّاسُ عَلَى حَقِيقَتِهِ . وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى شَهَادَتِهِ كَانَ بَاطِلًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم { اُذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ لِيَحْذَرَهُ النَّاسُ } وَالْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ , لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ . وَإِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ ظَهَرَتْ فِيهَا تَوْبَتُهُ , وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ وَعَدَالَتُهُ : قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ . وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُ .
==================
صَابِئة(1)
1 - الصّابئة لغةً : جمع الصّابئ .والصّابئ : من خرج من دين إلى دين . يقال : صبأ فلان يصبأ : إذا خرج من دينه ، وتقول العرب : صبأت النّجوم إذا طلعت .
وقد ورد ذكر الصّابئة في القرآن الكريم مع أهل الملل في ثلاثة مواضع ، منها : قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ » .
2 - وقد اختلف العلماء في تعريف الصّابئة على أقوال هي :
أ - أنّهم قوم كانوا على دين نوح - عليه السلام - نقله الرّاغب في مفرداته .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9383)(2/39)
ونقل ابن منظور عن اللّيث : هم قوم يشبه دينهم دين النّصارى ، إلاّ أنّ قبلتهم نحو مهبّ الجنوب ، يزعمون أنّهم على دين نوح وهم كاذبون .
ونقل قريباً منه القرطبيّ عن الخليل .
ب - أنّهم صنف من النّصارى ألين منهم قولاً . وهو مرويّ عن ابن عبّاس وبه قال أحمد في رواية .
ج - وقال السّدّيّ وإسحاق بن راهويه : هم طائفة من أهل الكتاب لأنّهم يقرؤون الزّبور ، وبه قال أبو حنيفة .
د - قال مجاهد والحسن وابن أبي نجيح : هم قوم تركّب دينهم بين اليهوديّة والمجوسيّة .
هـ - وقيل : هم بين اليهود والنّصارى .
و - وقال سعيد بن جبير : هم قوم بين النّصارى والمجوس .
ز - وقال الحسن أيضاً وقتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلّون إلى القبلة ، ويقرؤون الزّبور ، ويصلّون الخمس . رآهم زياد بن أبي سفيان فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنّهم يعبدون الملائكة ، ونقل القرطبيّ : أنّهم موحّدون يعتقدون تأثير النّجوم .
ح - وقيل : إنّهم قوم كانوا يقولون : لا إله إلاّ اللّه ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبيّ .
ط - وقال الصّاحبان من الحنفيّة : إنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، لأنّهم يعبدون الكواكب ، وعابد الكوكب كعابد الوثن .
ي - وقال أحمد في رواية ثانية : إنّهم قوم من اليهود ، لأنّهم يسبتون .
«مذاهب الفقهاء في حقيقة الصّابئة»
اختلف الفقهاء في حقيقة دين الصّابئة أهم من أهل الكتاب أم لا ، على أقوال :
3 - القول الأوّل : أنّهم من أهل الكتاب ، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد ، وقد جعلهم أبو حنيفة من أهل الكتاب ، لأنّهم يقرؤون الزّبور ، ولا يعبدون الكواكب ، ولكن يعظّمونها كتعظيم المسلمين للكعبة في الاستقبال إليها .
وأمّا أحمد فقال في رواية : هم من النّصارى ، لأنّهم يدينون بالإنجيل واستدلّ لذلك بما نقل عن ابن عبّاس ، وقال في رواية أخرى : هم من اليهود لأنّهم يسبتون ، واستدلّ لذلك بما روي عن عمر أنّه قال : إنّهم يسبتون .(2/40)
القول الثّاني : أنّهم ليسوا من أهل الكتاب .
قال القرطبيّ من المالكيّة : الّذي تحصّل من مذهبهم فيما ذكره بعض علمائنا : أنّهم موحّدون ، يعتقدون تأثير النّجوم ، وأنّها فعّالة ، قال : ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخريّ ، القاهر باللّه بكفرهم ، حين سأله عنهم ، وهو قول أبي يوسف ومحمّد بن الحسن فيهم ، لأنّهم يعبدون الكواكب ، وعابد الكواكب كعابد الوثن .
4 - القول الثّالث : وهو للشّافعيّة ، فقد تردّدوا فيهم .
قال النّوويّ : المذهب أنّهم إن خالفوا النّصارى في أصل دينهم فليسوا منهم ، وإلاّ فهم منهم . قال : وهكذا نصّ عليه - أي نصّ عليه الشّافعيّ - ، وقيل : فيهم قولان : قال : وهذا إذا لم يكفّرهم اليهود والنّصارى ، فإن كفّروهم لم يقرّوا قطعاً . أي : لأنّهم لا يكونون من أهل الكتاب . والمراد بأصل دينهم على ما في شرح المنهاج للمحلّيّ : عيسى والإنجيل ، وما عدا ذلك فروع ، أي : إن كانوا يتّبعون عيسى - عليه السلام - ويؤمنون بالإنجيل فهم من النّصارى ولو خالفوا النّصارى في الفروع ، ما لم تكفّرهم النّصارى بالمخالفة في الفروع فإن كفّروهم فليسوا منهم . وفي نهاية المحتاج : لو خالفوا النّصارى في أصل دينهم ولو احتمالاً كأن نفوا الصّانع أو عبدوا كوكباً حرم نساؤهم علينا .
5- القول الرّابع : أنّ الصّابئة فرقتان متميّزتان لا تدخل إحداهما في الأخرى وإن توافقتا في الاسم :
أ - الفرقة الأولى : هم الصّابئة الحرّانيّون - وسمّاهم ابن النّديم والشّهرستاني : الحرنانيين - وهم : قوم أقدم من النّصارى كانوا في زمن إبراهيم - عليه السلام - يعبدون الكواكب السّبعة ، ويضيفون التّأثير إليها ، ويزعمون أنّ الفلك حيّ ناطق .
قال الجصّاص من الحنفيّة : وهذه الفرقة تسمّت بالصّابئة ، وهم الفلاسفة الحرّانيّون الّذين بناحية حرّان ، وهم عبدة أوثان ، ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ، ولا ينتحلون شيئاً من كتب اللّه ، فهؤلاء ليسوا أهل كتاب .(2/41)
وذكرهم المسعوديّ وأنّ لهم سبعة هياكل بأسماء الزّهرة والمرّيخ والمشترى وزحل وغيرهما . وذكر أشياء من أحوالهم في زمانه .
وكذلك ذكرهم الشّهرستانيّ وأطنب في بيان اعتقاداتهم وأحوالهم .
وذكرهم ابن النّديم في فهرسته ، وذكر قراهم وأحوالهم ومعابدهم ، ونقل عن المؤلّفين النّصارى أنّهم لم يكن اسمهم الصّابئة ، وأنّ المأمون مرّ بديار مضر فتلقّاه النّاس ، وفيهم جماعة من الحرنانيين ، فأنكر المأمون زيّهم . فلمّا علم أنّهم ليسوا يهوداً ولا نصارى ولا مجوساً أنظرهم إلى رجوعه من سفرته ، وقال : إن أنتم دخلتم في الإسلام ، أو في دين من هذه الأديان الّتي ذكرها اللّه في كتابه ، وإلاّ أمرت بقتلكم . ورحل عنهم إلى أرض الرّوم ، وهي رحلته الّتي مات فيها . فمنهم من أسلم ، ومنهم من تنصّر ، وبقي منهم شرذمة على دينهم ، احتالوا بأن سمّوا أنفسهم الصّابئة ، ليسلموا ويبقوا في الذّمّة . وهذا يقتضي أنّ هذه الطّائفة لم يكن اسمهم الصّابئة أوّلاً ، وأنّهم تسمّوا بذلك في آخر عهد المأمون .
وأفاد البيرونيّ : أنّ هذه النّحلة هي نحلة فلاسفة اليونانيّين الّتي كانوا عليها قبل النّصرانيّة ، وأنّ من فلاسفتها : فيثاغورس ، وأغاذيمون ، وواليس ، وهرمس ، وكانت لهم هياكل بأسماء الكواكب ، وأنّ اليونانيّين ، ومن بعدهم الرّومان ، كانوا على هذه النّحلة ، ثمّ لمّا غلبت النّصرانيّة على بلاد الرّوم واليونان وتنصّر أهل هذه النّحلة ، بقي عليها من أهل المشرق بقايا ، ولم يكن اسمهم الصّابئة ، وإنّما تسمّوا بذلك في عصر المأمون سنة 228 هـ وهم ليسوا من الصّابئة في الحقيقة ، بل حقيقة الصّابئة هم الفرقة الثّانية .
ب - والفرقة الثّانية : هم طائفة من أهل الكتاب لهم شبه بالنّصارى .(2/42)
قال الجصّاص : وهؤلاء بنواحي كسكر والبطائح - من أرض العراق - وهم مع كونهم من النّصارى إلاّ أنّهم مخالفون لهم في كثير من ديانتهم ، لأنّ النّصارى فرق كثيرة ، منهم : المرقونيّون ، والآريوسيّة ، والمارونيّة . والفرق الثّلاث من النّسطوريّة ، والملكيّة ، واليعقوبيّة يبرؤون منهم ويجرّمونهم . وهم ينتمون إلى يحيى وشيث . قال : والنّصارى تسمّيهم يوحانسيّة . أ هـ .
قال الجصّاص : فمذهب أبي حنيفة في جعله الصّابئة من أهل الكتاب محمول على هؤلاء .(2/43)
وأمّا البيرونيّ فيرى : أنّ هذه الفرقة الثّانية أصلها اليهود الّذين أسرهم بختنصّر ، وأجلاهم من أرض فلسطين إلى بابل من أرض العراق ، فلمّا أذن لهم كورش بالعودة إلى فلسطين تخلّف بالعراق منهم طائفة وآثروا الإقامة في بابل ، ولم يكونوا في دينهم بمكان معتمد ، فسمعوا أقاويل المجوس وصبوا إلى بعضها ، فامتزج مذهبهم من المجوسيّة واليهوديّة . قال : وهؤلاء هم الصّابئون بالحقيقة ، وإن كان الاسم أشهر بالفرقة الأولى ، وكذا ميّز بين الفرقتين الرّمليّ من الشّافعيّة ، وابن تيميّة من الحنابلة ، وابن القيّم ، وقال ابن الهمام : قيل في الصّابئة الطّائفتان ، وهذه الفرقة الثّانية الّتي قال البعض إنّهم من النّصارى يسمّون « المندائيّين » ومنهم الآن بقايا في جنوب العراق ، وقد صدرت عنهم دراسات حديثة كشفت بعض ما عندهم ، ومنها ما كتبه بعض كتّابهم ، وبعض من يعايشهم من المسلمين ، وترجمت بعض كتاباتهم الدّينيّة إلى اللّغة العربيّة ، وفيها : أنّهم يؤمنون باللّه واليوم الآخر ، وبالملائكة ، وببعض الأنبياء ، منهم : آدم ، وشيث ، ونوح ، وزكريّا ، ويحيى - عليهم السلام - ولا يؤمنون بموسى ، ولا بالمسيح ، ولا التّوراة ، ولا الإنجيل ، ويؤمنون بالتّعميد . ولهم عبادات يعبدون اللّه بها : من صلوات ، وزكاة ، وصوم ، وأعياد دينيّة ، ويغتسلون كلّ يوم مرّتين ، أو ثلاثاً ، ولذلك قد يسمّون المغتسلة ، ويسمّون اللّه على الذّبائح .(2/44)
وأضاف ابن تيميّة فرقةً ثالثةً ، كانت قبل التّوراة والإنجيل ، كانوا موحّدين ، قال : فهؤلاء هم الّذين أثنى اللّه تعالى عليهم بقوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» قال : فهؤلاء كالمتّبعين لملّة إبراهيم - عليه السلام - إمام الحنفاء قبل نزول التّوراة والإنجيل ، هم الّذين أثنى عليهم اللّه تعالى .
على أنّ هذا التّقسيم للصّابئة إلى فرقتين ، ودعوى أنّ الحرّانيّين المشركين لم يكونوا يتسمّون الصّابئة حتّى كان عهد المأمون ، دعوى هي موضوع شكّ - وإن درج عليها بعض المؤرّخين وبعض الفقهاء - فإنّ كتب الحنفيّة ، تنسب إلى أبي حنيفة : أنّ الصّابئة الّذين يعظّمون الكواكب السّبعة ليسوا مشركين ، بل هم أهل الكتاب ، لأنّهم لا يعبدون تلك الكواكب ، بل يعظّمونها كتعظيم المسلمين الكعبة ، وأنّ صاحبيه قالا : بل هم كعبّاد الأوثان وأبو حنيفة كان قبل المأمون فإنّه توفّي سنة 150 والمأمون سنة 218 هـ . وكلامه وكلام صاحبيه منصبّ على الحرّانيّين ، فإنّهم هم الّذين كانوا يعبدون الكواكب السّبعة ، ممّا يدلّ على أنّهم كانوا في زمانه مسمّين باسم الصّابئة . ونصوص المؤرّخين مضطربة ، بعضها يدلّ على أنّهم فرقتان ، وبعضها على أنّهم فرقة واحدة .
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّابِئَةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9389)(2/45)
6 - يَنْطَبِقُ عَلَى الصَّابِئَةِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى الْكُفَّارِ عَامَّةً : كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الصَّابِئِ لِلْمُسْلِمَةِ , وَكَعَدِمِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُمْ , وَعَدَمِ إقَامَتِهِمْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ : كَجَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ , وَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ مِنْ نِسَائِهِمْ , وَأَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ , فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إجْرَائِهَا عَلَيْهِمْ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي حَقِيقَةِ دِينِهِمْ , فَمَنْ اعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ , أَوْ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ : أَجْرَى عَلَيْهِمْ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْكِتَابِيِّ , أَوْ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ . وَمَنْ اعْتَبَرَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَلَيْسَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ : أَجْرَى عَلَيْهِمْ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ : ( أَهْلُ الْكِتَابِ , أَرْضُ الْعَرَبِ , جِزْيَةٌ ) .
إقْرَارُ الصَّابِئَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ :(2/46)
7 - أَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ : فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الصَّابِئِينَ فِيهَا , كَسَائِرِ الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَأُخْرِجَن الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , حَتَّى لَا أَدَعَ إلَّا مُسْلِمًا } وَحَدِيثِ عَائِشَةَ . آخِرُ مَا عَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَا يُتْرَكُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } وَفِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ خِلَافٌ , وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَرْضُ الْعَرَبِ ) . وَأَمَّا فِي خَارِجِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ سَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ : فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إقْرَارِ الصَّابِئَةِ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ : فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ إقْرَارِهِمْ فِيهَا , وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ نَصَارَى , وَأَنَّ تَعْظِيمَهُمْ لِلْكَوَاكِبِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ لَهَا . وَقَالَ صَاحِبَاهُ : لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ كَعِبَادَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْأَصْنَامِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : بِجَوَازِ إقْرَارِهِمْ كَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ يَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ عَلَى كُلِّ كَافِرٍ , كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ : إلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ لَهُمْ الذِّمَّةُ بِالْجِزْيَةِ , عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مِنْ النَّصَارَى , إنْ وَافَقُوهُمْ فِي أَصْلِ دِينِهِمْ , وَلَوْ خَالَفُوهُمْ فِي فُرُوعِهِ , وَلَمْ تُكَفِّرْهُمْ النَّصَارَى . أَمَّا إنْ كَفَّرَتْهُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي الْفُرُوعِ , فَقَدْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا بِالْجِزْيَةِ(2/47)
وَإِنْ لَمْ تَجُزْ مُنَاكَحَتُهُمْ , لِأَنَّ مَبْنَى تَحْرِيمِ النِّكَاحِ , الِاحْتِيَاطُ , بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ . وَهَذَا التَّرَدُّدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , إنَّمَا هُوَ فِي الصَّابِئَةِ الْمُشَابِهَةِ لِلنَّصَارَى ( وَهُمْ الْمُسَمَّوْنَ الْمَنْدَائِيِّينَ ) , أَمَّا الصَّابِئَةُ عُبَّادُ الْكَوَاكِبِ : فَقَدْ جَزَمَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّ الْخِلَافَ لَا يَجْرِي فِيهِمْ , وَأَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ . قَالَ : وَلِذَلِكَ أَفْتَى الْإِصْطَخْرِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ - الْخَلِيفَةَ الْقَاهِرَ - بِقَتْلِهِمْ , لَمَّا اسْتَفْتَى فِيهِمْ الْفُقَهَاءَ , فَبَذَلُوا لَهُ مَالًا كَثِيرًا فَتَرَكَهُمْ . وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ , لِنَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى : وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ الْيَهُودِ , قَالُوا : وَرُوِيَ عَنْهُ : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ , وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ , أَيْ : فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ . وَرَجَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ , قَالَ : هَذِهِ الْأُمَّةُ - يَعْنِي الصَّابِئَةَ - فِيهِمْ : الْمُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ , وَفِيهِمْ الْكَافِرُ , وَفِيهِمْ الْآخِذُ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ مَا وَافَقَ عُقُولَهُمْ , وَاسْتَحْسَنُوهُ فَدَانُوا بِهِ وَرَضُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ , وَعَقْدُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِمَحَاسِنِ مَا عِنْدَ أَهْلِ الشَّرَائِعِ بِزَعْمِهِمْ , وَلَا يَتَعَصَّبُونَ لِمِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ , وَالْمِلَلُ عِنْدَهُمْ نَوَامِيسُ لِمَصَالِحِ الْعَالَمِ , فَلَا مَعْنَى لِمُحَارَبَةِ(2/48)
بَعْضِهِمْ بَعْضًا , بَلْ يُؤْخَذُ بِمَحَاسِنِهَا وَمَا تَكْمُلُ بِهِ النُّفُوسُ , وَتَتَهَذَّبُ بِهِ الْأَخْلَاقُ . قَالَ : وَبِالْجُمْلَةِ فَالصَّابِئَةُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْمَجُوسِ . فَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ الصَّابِئَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى , فَإِنَّ الْمَجُوسَ مِنْ أَخْبَثِ الْأُمَمِ دِينًا وَمَذْهَبًا , وَلَا يَتَمَسَّكُونَ بِكِتَابٍ وَلَا يَنْتَمُونَ إلَى مِلَّةٍ , فَشِرْكُ الصَّابِئَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَخَفَّ مِنْهُ فَلَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْهُ . ا هـ .
دِيَةُ الصَّابِئِ :(2/49)
8 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ , كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ , وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الصَّابِئَةُ إنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ دِيَةَ الصَّابِئِ كَدِيَةِ النَّصْرَانِيِّ , وَمِقْدَارُهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ , وَهَذَا إنْ وَافَقَ الصَّابِئُ النَّصَارَى فِي أَصْلِ دِينِهِمْ وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الْفُرُوعِ , مَا لَمْ يُكَفِّرْهُ النَّصَارَى . وَلَمْ يُصَرِّحْ الْحَنَابِلَةُ بِحُكْمِهِمْ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ , لَكِنَّ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ تَكُونَ دِيَةُ الصَّابِئِ نِصْفَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ , وَفِي رِوَايَةٍ : الثُّلُثَ . وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ . أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ لَدَيْهِمْ التَّصْرِيحَ بِمِقْدَارِ دِيَاتِ الصَّابِئَةِ , وَحَيْثُ إنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُمْ كَالنَّصَارَى فِي الذَّبَائِحِ وَنَحْوِهَا , فَلِذَا يَظْهَرُ أَنَّ دِيَاتِهِمْ كَدِيَةِ الْمَجُوسِ , وَهِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلرَّجُلِ , وَأَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْمَرْأَةِ .
حُكْمُ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ , وَحُكْمُ تَزَوُّجِ نِسَائِهِمْ :(2/50)
9 - ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ : لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ , وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَائِهِمْ , بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ , وَإِنَّمَا يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَعْبَةِ . وَقَالَ صَاحِبَاهُ : هُمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ وَالْمُشْرِكِينَ , فَلَا تَحِلُّ نِسَاؤُهُمْ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ : الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ , فَلَوْ اتَّفَقَ عَلَى تَفْسِيرِهِمْ اتَّفَقَ الْحُكْمُ فِيهِمْ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى تَحْرِيمِ ذَبَائِحِ الصَّابِئَةِ لِشِدَّةِ مُخَالَفَتِهِمْ لِلنَّصَارَى . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنْ خَالَفَ الصَّابِئَةُ النَّصَارَى فِي أَصْلِ دِينِهِمْ ( أَيْ الْإِيمَانِ بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ ) حَرُمَتْ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ , أَمَّا إنْ لَمْ يُخَالِفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَحْرُمُ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَيْنَا , مَا لَمْ تُكَفِّرْهُمْ النَّصَارَى , فَإِنْ كَفَّرَهُمْ النَّصَارَى حَرُمَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ , كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ ذَبِيحَةُ الْمُبْتَدِعِ إنْ كَانَتْ بِدْعَتُهُ مُكَفِّرَةً . وَهَذَا الْحُكْمُ الْمُتَرَدَّدُ فِيهِ هُوَ غَيْرُ الصَّابِئَةِ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ , وَهُمْ الْحَرَّانِيَّةُ ; فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَجْزُومٌ بِكُفْرِهِمْ ; فَلَا تَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُمْ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ قَوْلًا وَاحِدًا , وَلَا يَجْرِي فِيهِمْ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ . وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : الصَّابِئَةُ مِنْ الْيَهُودِ , وَفِي أُخْرَى : هُمْ مِنْ النَّصَارَى . فَعَلَى هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ : يَجُوزُ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ(2/51)
نِسَائِهِمْ . وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ : أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ ; فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .
وَقْفُ الصَّابِئَةِ :
10 - قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ : الصَّابِئَةُ إنْ كَانُوا دَهْرِيَّةً أَيْ : يَقُولُونَ : { مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ } فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الزَّنَادِقَةِ , وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ : بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ مِنْ أَوْقَافِهِمْ مَا يَصِحُّ مِنْ أَوْقَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَاَلَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ فَيَصِحُّ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا عَلَى بِيَعِهِمْ مَثَلًا
================
هـ - الصَّدَقَةُ عَلَى الْكَافِرِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 9431)(2/52)
19 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْكَافِرِ , وَسَبَبُ الْخِلَافِ : هُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ لِأَجْلِ الثَّوَابِ , وَهَلْ يُثَابُ الشَّخْصُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْكُفَّارِ ؟ . فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ , وَالْمَنْقُولُ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ : إنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِلْكُفَّارِ مُطْلَقًا , سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَمْ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ ؟ مُسْتَأْمَنِينَ أَمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ , وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : وَلَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إلَّا كَافِرًا وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ } وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ { أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهما - قَالَتْ : قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَفْتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْت : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ وَهِيَ رَاغِبَةٌ , أَفَأَصِلُ أُمِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ , صِلِي أُمَّك } وَلِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحْمُودَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ , وَالْإِهْدَاءُ إلَى الْغَيْرِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ . وَفَرَّقَ الْحَصْكَفِيُّ فِي الدُّرِّ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَغَيْرِهِ فَقَالَ : وَجَازَ دَفْعُ غَيْرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ إلَى الذِّمِّيِّ - وَلَوْ وَاجِبًا - كَنَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ وَفِطْرَةٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ . وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا فَجَمِيعُ الصَّدَقَاتِ لَا تَجُوزُ لَهُ . وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَكَرَهُ(2/53)
الشِّرْبِينِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالَ : قَضِيَّةُ إطْلَاقِ حِلِّ الصَّدَقَةِ لِلْكَافِرِ . أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِ , وَهُوَ مَا فِي الْبَيَانِ عَنْ الصَّيْمَرِيِّ وَالْأَوْجَهُ مَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ مِنْ أَنَّ : هَذَا فِيمَنْ لَهُ عَهْدٌ , أَوْ ذِمَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ أَوْ يُرْجَى إسْلَامُهُ , أَوْ كَانَ بِأَيْدِينَا بِأَسْرٍ وَنَحْوِهِ . فَإِنْ كَانَ حَرْبِيًّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلَا .
================
الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10008)(2/54)
9 - لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَمَا دُونَهَا مِنْ الْأَطْرَافِ إذَا صَالَ عَلَيْهَا صَائِلٌ : عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنْ النَّفْسِ إذَا كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ , بِأَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَأَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا . وَاسْتَدَلُّوا فِي وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَأَطْرَافِهِ بِنَفْسِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ - إذَا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا - حُكْمُهُ كَحُكْمِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ , فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ , وَيَنْتَفِي حَيْثُ يَنْتَفِي , إذْ لَا يَزِيدُ حَقُّ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ , وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ - عِنْدَهُمْ - إذَا أَمِنَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ , إذْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَهُ بَدَلًا عَنْ رُوحِ غَيْرِهِ , إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْخَوْفِ الظَّاهِرِ , وَهَذَا أَصَحُّ الطُّرُقِ عِنْدَهُمْ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . أَوَّلُهُمَا : يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنْ الْأَطْرَافِ قَطْعًا , لِأَنَّ لَهُ الْإِيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ , وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ - أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . ثَانِيهِمَا : لَا يَجُوزُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ , لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ(2/55)
يُحَرِّكُ الْفِتَنَ , وَخَاصَّةً فِي مَجَالِ نُصْرَةِ الْآخَرِينَ , وَلَيْسَ الدِّفَاعُ عَنْ الْغَيْرِ مِنْ شَأْنِ آحَادِ النَّاسِ , وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الْإِمَامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ . وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي الْمَذْهَبِ بِالنِّسْبَةِ لِآحَادِ النَّاسِ , أَمَّا الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ - مِنْ الْوُلَاةِ - فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى نَفْسِ الْغَيْرِ اتِّفَاقًا . أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنْ الْأَطْرَافِ فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ , وَمَعَ ظَنِّ سَلَامَةِ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ عَنْهُ , وَإِلَّا حُرِّمَ الدِّفَاعُ .
==================
اشْتِرَاطُ الضِّيَافَةِ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10233)(2/56)
10 - يَجُوزُ بَلْ يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ زَائِدًا عَلَى أَقَلِّ الْجِزْيَةِ إذَا صُولِحُوا فِي بَلَدِهِمْ , وَيَجْعَلُ الضِّيَافَةَ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ , لَا الْفَقِيرِ , وَيَذْكُرُ وُجُوبًا فِي الْعَقْدِ : عَدَدَ الضِّيفَانِ , وَعَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ , وَقَدْرَ الْإِقَامَةِ فِيهِمْ , وَجِنْسَ الطَّعَامِ , وَالْأُدْمِ , وَقَدْرَهُمَا , وَعَلَفَ الدَّوَابِّ إنْ كَانُوا فُرْسَانًا , وَمَنْزِلَ الضُّيُوفِ مِنْ كَنِيسِهِ , وَفَاضِلَ مَسْكَنٍ , وَلَا يَزِيدُ مَقَامُهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ أَيْلَةَ عَلَى ثَلَثِمِائَةِ دِينَارٍ , وَعَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا عَلَيْهِمْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ , فَلَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ .
=================
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10408)(2/57)
28 - يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ : إنَّهَا طَاهِرَةٌ لِأَنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ , وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ , فَيَكُونُ طَاهِرًا , فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ } . وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ : وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ , فَمَتَى تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ , إذْ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ , وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا إلَّا السَّرَاوِيلُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ لِاسْتِحْلَالِهِمْ الْخَمْرَ , وَلَا يَتَّقُونَهَا كَمَا لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا , فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا , فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا , وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ , سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوْ غَيْرِهِ . وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا { رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ , وَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ : لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إلَّا أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا , فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا } . وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَنَّبُونَ(2/58)
النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ . فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ : فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ ; { لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ } وَتَوَضَّأَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ , وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمْ الطَّهَارَةُ . وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمْ الطَّهَارَةُ , وَالثَّانِي : لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ . الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ , فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمْ النَّجَاسَةُ . وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيهِمْ إلَّا إذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا , وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ , وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ , فَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَالِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ . وَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِمَلَابِسِهِمْ , فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ , وَلِذَا لَا يُصَلَّى فِي مَلَابِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا , فَحُمِلَ عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ : أَمَّا إنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا(2/59)
فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا . وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ : إنَّهَا طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا , وَأَضَافُوا : إنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ - أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ - فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا , قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ , لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ } { وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ : أَصَبْت جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ , قَالَ فَالْتَزَمْته , فَقُلْت : وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا . قَالَ : فَالْتَفَتّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَسِّمًا } . وَرَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ } , وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ . وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَهُمْ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ - وَمَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ , أَوْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ , أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ , وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ , يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا , { لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ }(2/60)
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ , فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ . وَقَالَ الْقَاضِي : هِيَ نَجِسَةٌ , لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ غَسْلِهِ , لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمِ , وَلِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعَمْتهمْ , وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ , فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ , فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ : لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إلَّا الْفَاكِهَةُ , لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمْ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعَمْتهمْ , وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ طَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ .
================
أَثَرُ الْقَتْلِ ظُلْمًا فِي شَهَادَةِ الْمَقْتُولِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10474)(2/61)
11 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ لِلظُّلْمِ أَثَرًا فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمَقْتُولِ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ , وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ , وَمِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ ظُلْمًا : قَتِيلُ اللُّصُوصِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ , أَوْ مَنْ قُتِلَ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دَمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , أَوْ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَةٍ , أَوْ مَاتَ فِي السِّجْنِ وَقَدْ حُبِسَ ظُلْمًا . وَاخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِهِ شَهِيدَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ , أَوْ شَهِيدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ : إلَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا يُعْتَبَرُ شَهِيدَ الْآخِرَةِ فَقَطْ , لَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ , وَلَيْسَ لَهُ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا , فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ : إلَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ يُلْحَقُ بِشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ , لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه : سَمِعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : يَقُولُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ , وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } وَلِأَنَّهُمْ مَقْتُولُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتَلَهُمْ الْكُفَّارَ .
==================
عَرْضٌ (1)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10748)(2/62)
1 - الْعَرْضُ - بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الثَّانِي - فِي اللُّغَةِ يَأْتِي لَمَعَانٍ مِنْهَا : الْإِظْهَارُ وَالْكَشْفُ , يُقَالُ : عَرَضْت الشَّيْءَ , أَظْهَرْته , قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا } قَالَ الْفَرَّاءُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ : أَبْرَزْنَاهَا حَتَّى نَظَرَ إلَيْهَا الْكُفَّارُ وَمِنْهَا الْمَتَاعُ . وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . ( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) : أ - عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْ الزَّوْجَيْنِ : 2 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ : إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوْ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ أَسْلَمَ كِتَابِيٌّ تَزَوَّجَ بِوَثَنِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ إسْلَامِهِ , وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا . وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ , فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ , وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتْ الْفُرْقَةُ . أَمَّا إذَا كَانَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ يَقِفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ , فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ , وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ , فَلَا يُحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ , وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ , وَنَحْوُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ , وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ(2/63)
وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ , وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ , فَإِنْ أَبَى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتْ الزَّوْجِيَّةُ , وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ , فَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ الْآخَرُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ . وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ : أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُتَعَرَّضْ لَهُمَا ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ صَحِيحٌ بَعْدَ إسْلَامِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى , وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ , فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ , فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا , وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ دِهْقَانَةَ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ رضي الله تعالى عنه أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَأَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فِي عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى امْرَأَتِهِ(2/64)
فَأَبَتْ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا , وَهَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ , أَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الدَّارُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ خِلَافٌ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( اخْتِلَافُ الدَّارِ ف 5 ) . وَإِذَا عُقِدَ نِكَاحُ صَبِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ صَحَّ إسْلَامُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا , وَيُعْرَضُ عَلَى الْآخَرِ الْإِسْلَامُ إنْ كَانَ يَعْقِلُ , فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا , وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ : فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَالْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا بَالِغَيْنِ , وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا ; لِأَنَّ الْإِبَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ , وَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِذَلِكَ , إلَّا أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا , إذْ الْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ إذَا أَتَى بِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِبَاءُ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ , وَعِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ : الصَّبِيُّ يَسْتَوِي بِالْبَالِغِ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ امْرَأَتُهُ مَجْنُونًا هَذَا وَيُنْتَظَرُ عَقْلُ غَيْرِ مُمَيِّزٍ , وَأَمَّا الْمَجْنُونُ فَلَا يُنْتَظَرُ لِعَدَمِ نِهَايَتِهِ , بَلْ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى أَبَوَيْهِ فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ تَبِعَهُ فَيَبْقَى النِّكَاحُ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ نَصَّبَ الْقَاضِي عَنْهُ وَصِيًّا فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالْفُرْقَةِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى(2/65)
أَنَّهُ : إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ مَعًا ثَبَتَ نِكَاحُهُمَا إذَا خَلَا مِنْ الْمَوَانِعِ , فَإِنْ سَبَقَ الزَّوْجُ إلَى الْإِسْلَامِ أُقِرَّ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ , وَيُقَرُّ عَلَى غَيْرِهَا إذَا أَسْلَمَتْ بِأَثَرِهِ , وَإِنْ سَبَقَتْ هِيَ : فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ , وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ وَإِلَّا بَانَتْ .
================
عُشْرٌ (1)
1 - الْعُشْرُ لُغَةً : الْجُزْءُ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ , وَيُجْمَعُ الْعُشْرُ عَلَى عُشُورٍ , وَأَعْشَارٍ , وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ الْعُشْرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : الْأَوَّلِ : عُشْرُ التِّجَارَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ . وَالثَّانِي : عُشْرُ الصَّدَقَاتِ , أَوْ زَكَاةُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ . وَيُقْتَصَرُ هُنَا عَلَى بَحْثِ عُشْرِ التِّجَارَةِ . أَمَّا عُشْرُ الْخَارِجِ مِنْ الْأَرْضِ فَمَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ : ( زَكَاةٌ ) وَعُشْرُ التِّجَارَةِ : هُوَ مَا يُفْرَضُ عَلَى أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ دَاخِلَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ .
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ : أ - ( الزَّكَاةُ ) : 2 - الزَّكَاةُ لُغَةً : النَّمَاءُ وَالرَّيْعُ وَالزِّيَادَةُ . وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ : تُطْلَقُ عَلَى أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ فِي أَمْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ , وَيُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ , وَتُطْلَقُ - أَيْضًا - عَلَى الْمَالِ الْمُخَرَّجِ . وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلتِّجَارَةِ أَمْ غَيْرِهَا , أَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ , وَيُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 10809)(2/66)
ب - ( الْجِزْيَةُ ) : 3 - الْجِزْيَةُ : مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لِأَمْنِهِ وَاسْتِقْرَارِهِ , تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ . وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْجِزْيَةِ , أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ , وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ , أَمَّا الْعُشْرُ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ
ج - ( الْخَرَاجُ ) : 4 - الْخُرَاجُ : مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا , وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ : أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ , وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ , وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ( الْجِزْيَةَ الْعُشْرِيَّةَ ) . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ الْخَرَاجَ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ , أَمَّا الْعُشْرُ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ .
د - ( الْخُمُسُ ) : 5 - الْخُمُسُ : اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ , وَالْخُمُسُ يَجِبُ فِي كُلِّ مَالٍ فَاءَ إلَى الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا , أَمَّا الْعُشْرُ فَلَا يَجِبُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَنْتَقِلُ بِهَا التَّاجِرُ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنُ .(2/67)
هـ الْفَيْءُ : 6 - الْفَيْءُ لُغَةً : الرُّجُوعُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : مَا رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ دِينِهِ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ بِلَا قِتَالٍ , إمَّا بِالْجَلَاءِ , أَوْ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى جِزْيَةٍ , أَوْ غَيْرِهَا . فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْعُشُورِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ , فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنْ الْعُشُورِ .
حُكْمُ أَخْذِ الْعُشْرِ :
7 - يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ تِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِهِمْ بِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ , وَتَفْصِيلُ الْحُكْمِ سَيَأْتِي
أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ :(2/68)
8 - اسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ لِمَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ . أَمَّا السُّنَّةُ , فَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ } فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مَالٌ سِوَى الزَّكَاةِ , وَيُؤْخَذُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عُشْرُ التِّجَارَاتِ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْعُشَّارَ لِيَأْخُذُوا الْعُشْرَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضوان الله عليهم , وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ , فَكَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَالتَّاجِرُ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِتِجَارَتِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى آخَرَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَمَانِ , وَالْحِمَايَةِ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ , وَالدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَتَكَفَّلُ بِتَأْمِينِ ذَلِكَ عَبْرَ طُرُقِهَا وَمَمَرَّاتِهَا التِّجَارِيَّةِ , فَالْعُشْرُ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ التَّاجِرِ هُوَ فِي مُقَابِلِ تِلْكَ الْحِمَايَةِ , وَالِانْتِفَاعِ بِالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ لِلدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ .
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْعُشْرِ :(2/69)
9 - الْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ إلَى الْإِسْلَامِ , إذْ بِدُخُولِهِمْ بَعْدَ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِلتِّجَارَةِ يَطَّلِعُونَ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ وَالْعُشْرُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ . وَالْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِزِيَادَةِ الْمَالِ وَنَمَائِهِ , إذْ أَنَّ السَّمَاحَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالتَّنَقُّلِ بِتِجَارَاتِهِمْ فِي مُقَابِلِ الْعُشْرِ يُؤَدِّي إلَى تَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ وَزِيَادَتِهَا , كَمَا قَالَ الدَّهْلَوِيُّ ; لِأَنَّ النُّمُوَّ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّرَدُّدِ خَارِجَ الْبِلَادِ . وَالْعُشْرُ وَسِيلَةٌ لِزِيَادَةِ التَّبَادُلِ التِّجَارِيِّ بَيْنَ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالدُّوَلِ الْأُخْرَى . قَالَ السَّرَخْسِيُّ : إنَّا إذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَنَا بِهِ , كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الْأَمَانِ وَاتِّصَالِ التِّجَارَاتِ .
الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ تُعَشَّرُ أَمْوَالُهُمْ :
10 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ تِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلُوا بِهَا دَارَ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي :
أَوَّلًا : الْمُسْتَأْمَنُونَ :(2/70)
11 - الْمُسْتَأْمَنُ هُوَ الَّذِي يَقْدَمُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا , وَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : رُسُلٌ , تُجَّارٌ , وَمُسْتَجِيرُونَ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ , وَطَالِبُو حَاجَةٍ مِنْ زِيَارَةٍ وَغَيْرِهَا . فَمَنْ دَخَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِتِجَارَةٍ , فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُ مَذَاهِبَ : ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ بِمَالِ التِّجَارَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ مَالِهِ إذَا بَلَغَ الْمَالُ نِصَابًا , وَهَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا , فَإِنْ عُلِمَ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا أُخِذَ مِنْهُمْ مِثْلُهُ مُجَازَاةً , إلَّا إذَا عُرِفَ أَخْذُهُمْ الْكُلَّ فَلَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ الْكُلَّ بَلْ نَتْرُكُ لَهُمْ مَا يُبَلِّغُهُمْ مَأْمَنَهُمْ إبْقَاءً لِلْأَمَانِ , وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ مِنَّا لَا نَأْخُذُ مِنْهُمْ لِيَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ ; وَلِأَنَّنَا أَحَقُّ بِالْمَكَارِمِ , وَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ مَالِ صَبِيٍّ حَرْبِيٍّ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَمْوَالِ صِبْيَانِنَا . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ بِمَالِ التِّجَارَةِ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ عَلَى شَيْءٍ يُعْطِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ , وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ زَائِدٍ عَلَيْهِ , وَعِنْدَ عَدَمِ تَعْيِينِ جُزْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ , إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِمَامَ اجْتِهَادُهُ إلَى أَخْذِ أَقَلَّ فَيَقْتَصِرَ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ أَنْ(2/71)
يَأْخُذَ مِنْهُمْ عُشْرَ تِجَارَتِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ أَخَذَ مِنْهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ بَلْ عَقَدَ لَهُمْ الْأَمَانَ عَلَى دِمَائِهِمْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا إنْ دَخَلُوا بِأَمْوَالِهِمْ , إلَّا بِشَرْطٍ أَوْ طِيبِ أَنْفُسِهِمْ , وَسَوَاءٌ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَأْمَنُونَ مِنْ قَوْمٍ يُعَشِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ إنْ دَخَلُوا بِلَادَهُمْ أَوْ يُخَمِّسُونَهُمْ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَاتَّجَرَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ تِجَارَتِهِ الْعُشْرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً , سَوَاءٌ أَكَانَ كَبِيرًا أَمْ صَغِيرًا , وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى , وَسَوَاءٌ أَعْشَرُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلَتْ إلَيْهِمْ أَمْ لَا ; لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ , وَاشْتُهِرَ وَلَمْ يُنْكَرْ , عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ , وَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ , وَذَكَرَ الْمُوَفَّقُ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَرْكَ الْعُشْرِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ .
ثَانِيًا : أَهْلُ الذِّمَّةِ :(2/72)
12 - أَهْلُ الذِّمَّةِ : هُمْ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النَّصَارَى , وَالْيَهُودِ , وَالْمَجُوس الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِمُوجَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إذَا انْتَقَلَ الذِّمِّيُّ بِتِجَارَتِهِ إلَى غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي أُقِرَّ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ : كَالشَّامِيِّ يَنْتَقِلُ إلَى مِصْرَ أَوْ الْعِرَاقِ أَوْ الْحِجَازِ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ إنْ اتَّجَرَ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي تِجَارَتِهِ يُؤَدِّيهِ فِي الْعَامِ مَرَّةً , كَمَا يُؤَدِّي الْمُسْلِمُ زَكَاةَ تِجَارَتِهِ وَهِيَ رُبْعُ الْعُشْرِ فِي كُلِّ عَامٍ , فَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سِيَّانِ إلَّا فِي مِقْدَارِ الْعُشْرِ , وَقَالُوا : إنَّ مَا يَدْفَعُهُ الذِّمِّيُّ هُوَ جِزْيَةُ فِي مَالِهِ , كَمَا يُسَمَّى خَرَاجُ أَرْضِهِ جِزْيَةً , فَالْجِزْيَةُ عِنْدَهُمْ أَنْوَاعٌ : جِزْيَةُ مَالٍ , وَجِزْيَةُ أَرْضٍ , وَجِزْيَةُ رَأْسٍ , وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ بَعْضِهَا سُقُوطُ بَاقِيهَا إلَّا فِي بَنِي تَغْلِبَ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّينَ لِهَذَا الِانْتِقَالِ ; لِأَنَّهُمْ عُوهِدُوا عَلَى التِّجَارَةِ وَتَنْمِيَةِ أَمْوَالِهِمْ بِآفَاقِهِمْ الَّتِي اسْتَوْطَنُوهَا , فَإِذَا طَلَبُوا تَنْمِيَةَ أَمْوَالِهِمْ بِالتِّجَارَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَقُّ غَيْرِ الْجِزْيَةِ الَّتِي صُولِحُوا عَلَيْهَا , وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يَجْلِبُونَهُ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ لِحَاجَةِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِمَا إلَيْهِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ(2/73)
شَيْءٌ سِوَى الْجِزْيَةِ إنْ اتَّجَرُوا فِيمَا سِوَى الْحِجَازِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَّا إذَا شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ مَعَ الْجِزْيَةِ شَيْئًا مِنْ تِجَارَتِهِمْ , فَإِنْ دَخَلُوا بِلَادَ الْحِجَازِ فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ لِنَقْلِ طَعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَهْلُ الْحِجَازِ أَذِنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لَا حَاجَةَ بِأَهْلِ الْحِجَازِ إلَيْهَا كَالْعِطْرِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ , وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَشْتَرِطُ الْعُشْرَ فِي بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ كَالْقَطِيفَةِ , وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِي الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحِجَازِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : مَنْ يَجُزْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ , أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي السَّنَةِ .
( تَعْشِيرُ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ ) :
13 - يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ عُرُوضِ تِجَارَةِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا , وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُشْرِ الْمُقَرَّرِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ , لِحَدِيثِ : { إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى , وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ } .
شُرُوطُ مَنْ يُفْرَضُ عَلَيْهِمْ الْعُشْرُ :
14 - اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَمِنْ الذِّمِّيِّينَ عِدَّةَ شُرُوطٍ وَهِيَ :(2/74)
أ - ( الْبُلُوغُ ) : 15 - اشْتَرَطَ الْحَنِيفَةُ الْبُلُوغَ , وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَقَالُوا : يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ تَاجِرٍ , صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ , وَلَيْسَ هَذَا بِجِزْيَةٍ , وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِمَالِ التِّجَارَةِ , لِتَوَسُّعِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَانْتِفَاعِهِ بِالتِّجَارَةِ بِهَا , فَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ . وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ نُصُوصِهِمْ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ , فَالْعُشُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَرْجِعُهَا إلَى الشَّرْطِ وَالِاتِّفَاقِ , فَإِذَا اشْتَرَطَ الْإِمَامُ أَخْذَهَا مِنْ التُّجَّارِ أُخِذَتْ مِنْهُمْ , وَلَوْ كَانَ مَالِكُهَا صَغِيرًا , وَعِلَّةُ أَخْذِ الْعُشُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الِانْتِفَاعُ بِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ , وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي أَمْوَالِ الصَّغِيرِ .
ب - ( الْعَقْلُ ) : 16 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَقْلَ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ , فَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ الْمَجْنُونِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ . وَمُقْتَضَى إطْلَاقِ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ , فَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ مَالِ الْمَجْنُونِ الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ إذَا انْتَقَلَ بِهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ وَلَيْسَ بِالشَّخْصِ .(2/75)
ج - ( الذُّكُورَةُ ) : 17 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ , إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ لِحَاجَةِ أَمْوَالِ الْمَرْأَةِ إلَى الْحِمَايَةِ ; وَلِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى . وَاشْتَرَطَ أَبُو يَعْلَى لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الذُّكُورَةَ , فَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ الْمَرْأَةِ - ذِمِّيَّةً كَانَتْ أَوْ حَرْبِيَّةً - ; لِأَنَّهَا مَحْقُونَةُ الدَّمِ , وَلَهَا الْمُقَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ , فَلَمْ تُعَشَّرْ تِجَارَتُهَا كَالْمُسْلِمِ , إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَتُهَا بِالْحِجَازِ فَتُعَشَّرُ كَالرَّجُلِ ; لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْإِقَامَةِ بِالْحِجَازِ .
الْأَمْوَالُ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْعُشْرِ :
18 - لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ : كَالْأَقْمِشَةِ وَالزَّيْتِ وَالْحُبُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ , أَمَّا الْأَمْتِعَةُ الشَّخْصِيَّةُ وَمَا لَيْسَ مُعَدًّا لِلتِّجَارَةِ فَلَا عُشْرَ فِيهِ , رَوَى يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : كُنْت أُعْشِرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عُشُورَ أَمْوَالِهِمْ فِيمَا اتَّجَرُوا فِيهِ
شُرُوطُ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ :
19 - اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ عِدَّةَ شُرُوطٍ وَهِيَ :(2/76)
أ - ( الِانْتِقَالُ بِهَا ) : 20 - ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي أَمْوَالِهِ التِّجَارِيَّةِ إلَّا إذَا انْتَقَلَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ .
ب - أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلًا : 21 - اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلًا كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْأَقْمِشَةِ , وَأَمَّا مَا لَا يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ حَوْلًا فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ : كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْفَاكِهَةِ وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا بَالِغَةً لِلنِّصَابِ ; لِأَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ مَا يَمُرُّ بِهِ عَلَيَّ . وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ , فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ مَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ يَبْقَى فِي أَيْدِي النَّاسِ أَوْ لَا يَبْقَى : كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْفَوَاكِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ مُحْتَاجَةٌ إلَى الْحِمَايَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ ; وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَالِ التِّجَارَةِ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَالِيَّتُهُ وَقِيمَتُهُ لَا عَيْنُهُ(2/77)
ج - ( النِّصَابُ ) : 22 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ الَّتِي تُعْشَرُ النِّصَابَ ; لِأَنَّ الْعُشْرَ وَجَبَ بِالشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ لَهُ نِصَابٌ , وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ فِي مِقْدَارِهِ : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنْ فِضَّةٍ ; لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ مِنْ الزَّكَاةِ , وَيُؤْخَذُ عَلَى شَرَائِطِ الزَّكَاةِ وَمِنْهَا النِّصَابُ , وَمِقْدَارُ نِصَابِ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ مِنْ الْفِضَّةِ , وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ ; فَلِأَنَّ مَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ قَلِيلٌ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِيَصِلَ إلَى مَأْمَنِهِ , وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه : " خُذْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ , وَخُذْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ الْمُسْلِمِينَ رُبُعَ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا , وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ إلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ فِضَّةٍ , سَوَاءٌ كَانَ التَّاجِرُ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَأْخُوذَ مَالٌ يَبْلُغُ وَاجِبُهُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ(2/78)
إلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّاجِرِ الذِّمِّيِّ عِشْرُونَ دِينَارًا مِنْ ذَهَبٍ , وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ . وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْحَنْبَلِيُّ إلَى أَنَّ مِقْدَارَ النِّصَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّاجِرِ الذِّمِّيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مِنْ ذَهَبٍ , وَبِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ ; لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مَالٌ يَبْلُغُ نِصْفَ دِينَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّصَابِ لِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الذِّمِّيُّ أَوْ الْحَرْبِيُّ , فَيَجِبُ الْعُشْرُ فِي قَلِيلِ الْأَمْوَالِ وَكَثِيرِهَا , وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : سُنَّةُ عُمَر رضي الله عنه أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ , وَمِمَّنْ لَا ذِمَّةَ لَهُ كُلِّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ دِرْهَمٌ , كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْعُشْرَ حَقٌّ عَلَى الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ , فَوَجَبَ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ كَنَصِيبِ الْمَالِكِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي عَامَلَهُ عَلَيْهَا , وَبِأَنَّ الْعُشْرَ الَّذِي يُؤْخَذُ فَيْءٌ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .(2/79)
د - ( الْفَرَاغُ مِنْ الدَّيْنِ ) : 23 - اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ لِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ التَّاجِرِ الذِّمِّيِّ أَلَّا تَكُونَ أَمْوَالُهُ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ يُعْتَبَرُ لَهُ النِّصَابُ وَالْحَوْلُ فَيَمْنَعُهُ الدَّيْنُ كَالزَّكَاةِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ قَوْلِ الذِّمِّيِّ إذَا ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا : فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَيُصَدَّقُ بِالْحَلِفِ كَمَا يُصَدَّقُ الْمُسْلِمُ . وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ . وَأَمَّا التَّاجِرُ الْحَرْبِيُّ فَلَا يُشْتَرَطُ لِتَعْشِيرِ أَمْوَالِهِ التِّجَارِيَّةِ هَذَا الشَّرْطُ ; لِأَنَّ الدَّيْنَ يُوجِبُ نَقْصًا فِي الْمِلْكِ وَمِلْكُ الْحَرْبِيِّ نَاقِصٌ وَلِأَنَّ دَيْنَهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي دَارِنَا .
مِقْدَارُ الْعُشْرِ :(2/80)
24 - يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْعُشْرِ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَخْضَعُونَ لَهُ , فَهُوَ عَلَى الذِّمِّيِّ يُخَالِفُ مَا عَلَى الْحَرْبِيِّ . أَوَّلًا : الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الذِّمِّيِّ : 25 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ هُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ , لِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه : يُؤْخَذُ مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ , وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ كَامِلًا , وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَجْلِبُهُ مِنْ طَعَامٍ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَمَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ , فَيُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ , وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ : كُنْت غُلَامًا عَامِلًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه , فَكُنَّا نَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ الْعُشْرَ . وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُرَادِ بِالطَّعَامِ الَّذِي يَخْضَعُ لِهَذَا التَّخْفِيفِ , فَقِيلَ : الْحِنْطَةُ وَالزَّيْتُ , وَلَكِنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ جَمِيعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ , وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , إلَى أَنَّ قَدْرَ الْمَشْرُوطِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْعُشُورِ مَنُوطٌ بِرَأْيِ الْإِمَامِ .
ثَانِيًا : الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ فِي تِجَارَةِ الْحَرْبِيِّ :(2/81)
26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ مِثْلُ مَا يَأْخُذُهُ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْعُشْرَ أَخَذْنَا مِنْ تُجَّارِهِمْ الْعُشْرَ , وَإِنْ أَخَذُوا نِصْفَ الْعُشْرِ أَخَذْنَا مِنْ تُجَّارِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ , وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : خُذْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إلَى الْمُخَالَطَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَيَرَوْا مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ , وَفِي حَالَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِهِمْ الْعُشْرُ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ إذَا مَرُّوا بِتِجَارَةٍ عَلَى الْعَاشِرِ , فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ إذَا جَلَبُوا الطَّعَامَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ , لَكِنَّهُمْ أَجَازُوا بِالنِّسْبَةِ لِتُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ الْعُشْرِ إنْ اُشْتُرِطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ تَقْدِيرَ الْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ التَّاجِرِ الْحَرْبِيِّ مَتْرُوكٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ حَسْبَ مَا تَقْضِي بِهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ , فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَخْذَ الْعُشْرِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ دُونَهُ , وَيَجُوزُ لَهُ(2/82)
عَدَمُ أَخْذِ شَيْءٍ إذَا جَلَبَ الْحَرْبِيُّ بِضَاعَةً يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً , سَوَاءٌ عَشَّرُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلَتْ إلَيْهِمْ أَمْ لَا ; لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَخَذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَمْ يُنْكَرْ وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ .
الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ :
27 - تَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ الَّتِي يُجْزِئُ عَنْهَا الْعُشْرُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَخْضَعُونَ لَهُ .
أَوَّلًا - الذِّمِّيُّ : 28 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً , وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْجِزْيَةِ فَهِيَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ; وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ قَدْ يُؤَدِّي إلَى اسْتِئْصَالِ الْمَالِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ كُلَّمَا اخْتَلَفُوا إلَى آفَاقِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَوْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مِرَارًا إذَا كَانَ اخْتِلَافُهُ مِنْ قِطَاعٍ إلَى آخَرَ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَخْذِ مِنْهُمْ الِانْتِفَاعُ وَالْحِمَايَةُ وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ يَخْتَلِفُونَ بِهِ .(2/83)
ثَانِيًا : الْحَرْبِيُّ : 29 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ أَمَانٍ وَدَفَعَ عُشْرَ تِجَارَتِهِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْأَمَانِ الَّتِي تَقِلُّ عَنْ سَنَةٍ ; لِأَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ . كَمَا ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ إذَا عَادَ فِي السَّنَةِ بِمَالٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي عَشَرَهُ أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا لَمْ تَنْفُقْ تِجَارَتُهُ الَّتِي عَشَرَهَا ثُمَّ رَجَعَ بِهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى بِهَا , هَلْ تُعْشَرُ مَرَّةً ثَانِيَةً أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ , سَوَاءٌ عَادَ بِنَفْسِ الْمَالِ أَوْ بِمَالٍ آخَرَ سِوَاهُ ; لِأَنَّ الْأَمَانَ الْأَوَّلَ قَدْ انْتَهَى بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ وَقَدْ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْعُشْرِ ; وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بَعْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ لَا يُفْضِي إلَى اسْتِئْصَالِ الْمَالِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ , وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ , إلَى أَنَّ الْعُشْرَ لَا يُؤْخَذُ مِنْ التَّاجِرِ الْحَرْبِيِّ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي السَّنَةِ وَلَوْ تَرَدَّدَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ كَالذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْ التِّجَارَةِ فَلَا يُؤْخَذُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ كَالزَّكَاةِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَجِزْيَةِ الرُّءُوسِ .(2/84)
( وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ ) :
30 - يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ , وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ , أَنَّ وَقْتَ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ , وَبِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ مُرُورِهِ بِعَاشِرِ الْإِقْلِيمِ الْمُنْتَقِلِ إلَيْهِ , سَوَاءٌ بَاعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ بِضَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَبِعْ ; لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ لَهُ حَقُّ الْوُصُولِ وَالْحِمَايَةِ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ . وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ وَقْتَ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ الَّذِي يَنْتَقِلُ بِبِضَاعَتِهِ مِنْ أُفُقٍ إلَى آخَرَ عِنْدَ بَيْعِ مَا بِيَدِهِ مِنْ بِضَاعَةٍ , فَإِذَا لَمْ يَبِعْ شَيْئًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ لِحَقِّ الِانْتِفَاعِ , أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَام . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ شَرْطِ الْإِمَامِ , فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبِضَاعَةِ , أَوْ عِنْدَ الدُّخُولِ كَانَ الْوَقْتُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ عِنْدَ دُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَبِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ مُرُورِهِ بِالْعَاشِرِ سَوَاءٌ بَاعَ أَوْ لَمْ يَبِعْ , وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ كَانَ وَقْتُ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ يَبِيعُوا الْبِضَاعَةَ فَإِنْ كَسَدَتْ وَلَمْ يَبِيعُوا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الثَّمَنُ .
مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ :(2/85)
31 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَوَلَّى أَمْرَهَا الْأَئِمَّةُ وَالْوُلَاةُ ; لِأَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ بِالْإِمَامِ وَالْوُلَاةِ , فَصَارَ هَذَا الْمَالُ آمِنًا بِرِعَايَتِهِمْ وَحِمَايَتِهِمْ , فَثَبَتَ حَقُّ أَخْذِ الْعُشْرِ لَهُمْ .
طُرُقُ اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ :
32 - إذَا كَانَ الْإِمَامُ أَوْ الْوَالِي هُوَ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ فَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَيُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ , وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فِي اسْتِيفَائِهَا , وَمِنْ الطُّرُقِ الْمُتَّبَعَةِ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشُورِ , وَالْقُبَالَةُ ( التَّضْمِينُ ) . الطَّرِيقَةُ الْأُولَى : الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشْرِ : 33 - الْعِمَالَةُ عَلَى الْعُشْرِ وِلَايَةٌ مِنْ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْإِمَامِ يَتِمُّ بِمُقْتَضَاهَا اسْتِيفَاءُ الْعُشْرِ وَقَبْضُهُ , وَيُطْلَقُ عَلَى عَامِلِ الْعُشْرِ الْعَاشِرُ وَهُوَ : مَنْ يُنَصِّبْهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الْعُشْرَ الشَّامِلَ لِرُبُعِهِ وَنِصْفِهِ . وَلِلْعَاشِرِ وَظِيفَتَانِ هُمَا : الْجِبَايَةُ وَالْحِمَايَةُ , فَهُوَ يَجْبِي الْعُشْرَ سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ عُشْرًا لُغَوِيًّا أَوْ رُبُعَهُ أَوْ نِصْفَهُ , وَهُوَ يَحْمِي التُّجَّارَ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ .
حُكْمُ الْعَمَلِ عَلَى الْعُشُورِ :(2/86)
34 - الْعَمَلُ عَلَى الْعُشْرِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي عَمِلَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ , وَإِنْ كَانَ قَدْ تَحَرَّجَ مِنْهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ , فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَرَادَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه عَلَى هَذَا الْعَمَلِ , فَقَالَ لَهُ : أَتَسْتَعْمِلُنِي عَلَى الْمَكْسِ مِنْ عَمَلِك ؟ فَقَالَ : أَلَا تَرْضَى أَنْ أُقَلِّدَكَ مَا قَلَّدَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ؟ صلى الله عليه وسلم . وَكَانَ أَوَّلُ عَاشِرٍ فِي الْإِسْلَامِ زِيَادَ بْنَ حُدَيْرٍ الْأَسَدِيَّ الَّذِي بَعَثَهُ عُمَرُ رضي الله عنه عَلَى عُشُورِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ , وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رُبُعَ الْعُشْرِ وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ , فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمُرُورِ بِأَمْوَالِ التِّجَارَةِ خَاصَّةً .
شُرُوطُ الْعَاشِرِ :
35 - كَانَتْ مُهِمَّةُ الْعَاشِرِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى جِبَايَةِ الْعُشْرِ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ , وَأَهْلِ الذِّمَّةِ , وَإِنَّمَا تَشْتَمِلُ فَضْلًا عَنْ ذَلِكَ عَلَى جِبَايَةِ الزَّكَاةِ وَحِمَايَةِ التُّجَّارِ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ , فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُؤَهِّلُهُ لِلْقِيَامِ بِهَذَا الْعَمَلِ , وَمِنْ ذَلِكَ : الْإِسْلَامُ , وَالْحُرِّيَّةُ , وَالْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْعُشْرِ , وَالْقُدْرَةُ عَلَى حِمَايَةِ التُّجَّارِ مِنْ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطُّرُقِ ; لِأَنَّ الْجِبَايَةَ بِالْحِمَايَةِ . وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ : ( عَامِلٌ ف 6 ) .
مَا يُرَاعِيهِ الْعَاشِرُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ :(2/87)
36 - عَلَى الْعَاشِرِ أَنْ يُرَاعِيَ عِنْدَ أَخْذِهِ الْعُشْرَ الْأُمُورَ التَّالِيَةَ : أ - أَنْ لَا يَتَعَدَّى عَلَى النَّاسِ فِيمَا يُعَامِلَهُمْ بِهِ , فَلَا يَأْخُذَ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْحَاكِمُ . ب - أَنْ لَا يُكَرِّرَ أَخْذَ الْعُشْرِ . فَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ أَنَّهُ مَدّ حَبْلًا عَلَى الْفُرَاتِ , فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ فَأَخَذَ مِنْهُ , ثُمَّ انْطَلَقَ فَبَاعَ سِلْعَتَهُ فَلَمَّا رَجَعَ مَرَّ عَلَيْهِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ , فَقَالَ : كُلَّمَا مَرَرْت عَلَيْك تَأْخُذُ مِنِّي ؟ قَالَ : نَعَمْ , فَرَحَلَ الرَّجُلُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَجَدَهُ بِمَكَّةَ يَخْطُبُ النَّاسَ , قَالَ فَقُلْت لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إنِّي رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ مَرَرْت عَلَى زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ فَأَخَذَ مِنِّي , ثُمَّ انْطَلَقَتْ فَبِعْت سِلْعَتِي , ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنِّي , قَالَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ , لَيْسَ لَهُ عَلَيْك فِي مَالِكَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً , ثُمَّ نَزَلَ , فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي , وَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ أَتَيْته , فَقُلْت : أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَلَّمْتُك فِي زِيَادٍ , فَقَالَ : وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ قَدْ قَضَيْت حَاجَتَكَ . ج - أَنْ يَكْتُبَ الْعَاشِرُ كِتَابًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ , فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِهِ الْخَرَاجِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَى رُزَيْقِ بْنِ حَيَّانَ وَكَانَ عَلَى مَكْسِ مِصْرَ - يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُمْ إلَى مِثْلِهَا فِي الْحَوْلِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ(2/88)
الْعَاشِرَ لَا يَكْتُبُ بَرَاءَةً بِمَا يَأْخُذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يَكْتُبُ إلَى تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ أَخْذَ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ دُخُولِ الْحَرْبِيِّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَاخْتِلَافِ الذِّمِّيِّ بِتِجَارَتِهِ عَلَى الْعَاشِرِ .
د - ( الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْعُشْرِ ) :
37 - يَنْبَغِي لِلْعَاشِرِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الْعُشْرِ عِنْدَ اسْتِيفَائِهَا مِنْهُمْ , فَلَا يُؤَخِّرَهُمْ وَلَا يَظْلِمَهُمْ وَلَا يُتْلِفَ بَضَائِعَهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَتِهَا أَوْ تَفْتِيشِهَا , وَيَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَة . فَإِذَا أَرَادَ الْعَاشِرُ اسْتِيفَاءَ الْعُشْرِ مِنْ الْأَمْوَالِ التِّجَارِيَّةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ الْعَيْنِ , أَوْ مِنْ الْقِيمَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي : قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : يُؤْخَذُ مِنْ عَيْنِ السِّلْعَةِ الْوَارِدَةِ , فَإِنْ كَانَتْ مَتَاعًا أُخِذَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَقْدًا أُخِذَ مِنْهُ , وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْخَمْرَ يُؤْخَذُ مِنْ قِيمَتِهَا . وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَنْقَسِمُ وَمَا لَا يَنْقَسِمُ , فَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عُشْرُ مَا يَنْقَسِمُ , قِيَاسًا عَلَى زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ , وَأَمَّا مَا لَا يَنْقَسِمُ فَيُؤْخَذُ عُشْرُ الْقِيمَةِ , وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّ الْعَاشِرَ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ عَلَى كُلِّ حَالٍ , سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ; لِأَنَّ الْأَسْوَاقَ تُحَوَّلُ(2/89)
وَتَخْتَلِفُ فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مَالًا تُحِيلُهُ الْأَسْوَاقُ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي اسْتِيفَاءِ الْعُشْرِ الْعَيْنُ , فَيُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْمَتَاعِ , بِدَلِيلِ فِعْلِ عُمَرَ رضي الله عنه إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الْعُشُورِ الْأَخْذَ مِنْ الثَّمَنِ
. الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِاسْتِيفَاءِ الْعُشُورِ :
الْقَبَالَةُ ( التَّضْمِينُ ) 38 - الْقَبَالَةُ لُغَةً : مَصْدَرُ قَبَلَ ( بِفَتْحِ الْبَاءِ ) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ : " كُلُّ مَنْ تَقَبَّلَ بِشَيْءٍ مُقَاطَعَةً , وَكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ , فَعَمَلُهُ الْقِبَالَةُ ( بِالْكَسْرِ ) , وَكِتَابُهُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الْقَبَالَةُ ( بِالْفَتْحِ ) . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ عُشُورِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ , وَيَكْتُبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا , وَهِيَ تُسَمَّى بِالتَّضْمِينِ أَوْ الِالْتِزَامِ . وَقَدْ يَقَعُ فِي جِبَايَةِ الْعُشُورِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ ظُلْمٌ لِأَهْلِ الْعُشُورِ أَوْ غَبَنٌ لِبَيْتِ الْمَالِ , وَلِذَلِكَ مَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ ابْنُ عَابِدِينَ إلَى مَنْعِهَا
. مُسْقِطَاتُ الْعُشْرِ :
39 - يَسْقُطُ الْعُشْرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَى أَمْوَالِ التِّجَارَةِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بِالْأُمُورِ التَّالِيَةِ :(2/90)
أ - ( الْإِسْلَامِ ) : 40 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّ الْعُشْرَ الْخَاصَّ بِتِجَارَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَسْقُطُ عَمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِمْ كُفَّارًا , فَإِذَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ الْمُوجِبُ لِلْأَخْذِ .
ب - ( إسْقَاطُ الْإِمَامِ لَهَا ) : 41 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُ : يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إسْقَاطُ الْعُشُورِ عَنْ بَعْضِ التُّجَّارِ الَّذِينَ يَجْلِبُونَ بَضَائِعَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ : كَالطَّعَامِ وَالزَّيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا نَأْخُذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ شَيْئًا إذَا كَانَ مِنْ قَوْمٍ لَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا شَيْئًا , عَمَلًا بِمَبْدَأِ الْمُجَازَاةِ أَوْ الْمُعَامَلَةِ بِالْمِثْلِ . وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ إسْقَاطَ الْعُشْرِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ .
ج - ( انْقِطَاعُ حَقِّ الْوِلَايَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْبِيِّ ) : 42 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى : أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَمَرَّ بِالْعَاشِرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَعَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَعَلِمَ بِهِ لَمْ يَعْشُرُهُ لِمَا مَضَى ; لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْوِلَايَةِ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ , بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّ الْعُشْرَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِعَدَمِ عِلْمِ الْعَاشِرِ بِهِ عِنْدَ الْمُرُورِ
( مَصَارِفُ الْعُشْرِ ) :
43 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى : أَنَّ الْعُشْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ . وَتَفْصِيلُ مَصَارِفِ الْفَيْءِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ : ( فَيْءٌ ) .(2/91)
4 - وَالْعِصْمَةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي : وَهِيَ الَّتِي يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ وَمَالِهِ بِهَا قِيمَةٌ , بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ عَلَى مَنْ هَتَكَهَا , فَهَذِهِ تَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمَنْ نَطَقَ بِهِمَا عُصِمَ دَمُهُ وَمَالُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { فَإِذَا قَالُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } , وَقَوْلِهِ : { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ : دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } فَمَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا مَعْصُومَ الدَّمِ يَضْمَنُ بِالْقَوَدِ أَوْ الدِّيَةِ . ر : مُصْطَلَحَ : ( قِصَاصٌ ) ( وَدِيَاتٌ ف 11 وَمَا بَعْدَهَا ) . وَمَنْ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَ , قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } . ر : مُصْطَلَحَ : ( ضَمَانٌ ف 7 وَمَا بَعْدَهَا وَمُصْطَلَحَ : غَصْبٌ ) . وَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ أَيْضًا بِأَمَانٍ يَحْقِنُ دَمَهُ بِعَقْدِ ذِمَّةٍ , أَوْ عَهْدٍ أَوْ مُجَرَّدِ أَمَانٍ , وَلَوْ فِي آحَادِ الْمُسْلِمِينَ , جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا أَوْ انْتَقَضَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَلِأَهْلِ الْعَهْدِ أَنْ يُؤَمَّنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ , وَعَلَى الْإِمَامِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ أَرَادَ بِهِمْ سُوءًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ , وَغَيْرِهِمْ , فَلَا يُظْلَمُونَ فِي عَهْدِهِمْ وَلَا يُؤْذَوْنَ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( أَهْلُ الذِّمَّةِ ف 19 وَمَا بَعْدَهَا ) مُصْطَلَحِ : ( عَهْدٌ )
================(2/92)
صِفَةُ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ (1):
10 - لَبِسَ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَمَائِمَ الْمُلَوَّنَةَ تَمْيِيزًا لَهُمْ فَكَانَتْ عَمَائِمُ الْمَسِيحِيِّينَ زَرْقَاءَ وَعَمَائِمُ الْيَهُودِ صَفْرَاءَ وَيُذْكَرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ . بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ التَّعْلِيمَاتِ لَمْ تُطَبَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَيْثُ تَعَمَّمَ الْمُسْلِمُونَ بِالْعَمَائِمِ الْمُلَوَّنَةِ , وَمِنْ صِفَاتِ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ خُلُوُّهَا مِنْ الْعَذَبَةِ , عَدَمُ إدَارَتِهَا تَحْتَ الْحَنَكِ عِنْدَ التَّعَمُّمِ , قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ : " . . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ الْحَنَكِ مِنْهَا شَيْءٌ , وَلَا لَهَا ذُؤَابَةٌ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا عَلَى صِفَةِ عَمَائِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ "
=================
عَنْوة (2)
1 - العنوة - بفتح العين - في اللّغة : القهر والغلبة ، يقال : أخذت الشّيء عنوةً : أي قهراً وغلبةً ، وفتحت هذه البلدة عنوةً وتلك صلحاً أي : قهراً وغلبةً ، وقال الأزهريّ : قولهم : أخذته عنوةً يكون غلبةً ، ويكون عن تسليم وطاعة ممّن يؤخذ منه شيء .
وفي الاصطلاح : يستعمل الفقهاء كلمة « عنوة » عند الكلام على أحكام الأراضي الّتي تئول إلى المسلمين من أهل الحرب ، فيقسمونها إلى أرض فتحت عنوةً وأرض فتحت صلحاً ؛ لاختلاف بعض أحكامهما .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ )(عنوة ) :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11040)
(2) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11111)(2/93)
2 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأَرَاضِيَ الَّتِي يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنَائِمِ " وَاخْتَلَفُوا بِمَ تَنْتَقِلُ الْمِلْكِيَّةُ إلَى الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : لَا يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ إلَّا بِالضَّمِّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ , أَوْ حِيَازَتِهَا فِعْلًا , وَجَعْلِهَا جُزْءًا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ ; لِأَنَّهَا مَالٌ زَالَ عَنْهُ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَالْمُبَاحِ , تَسْبِقُ إلَيْهِ الْيَدُ فَيَتِمُّ تَمَلُّكُهُ بِإِحْرَازِهِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ , مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ , وَلَا تُقْسَمُ عَلَى الْجَيْشِ كَبَقِيَّةِ الْغَنَائِمِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَا يَتِمُّ انْتِقَالُ الْمِلْكِيَّةِ بِالِاسْتِيلَاءِ , بَلْ بِالْقِسْمَةِ مَعَ الرِّضَا بِهَا . وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ يَكُونُ الْمِلْكُ لَهُ بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ . فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ بِالْخِيَارِ , إنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَيْبَرَ وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا , وَوَضَعَ عَلَى رُءُوسِهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَضِيهِمْ الْخَرَاجَ , فَتَكُونُ أَرْضَ خَرَاجٍ وَأَهْلُهَا أَهْلَ ذِمَّةٍ . وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : قَسَّمَهَا بَيْنَ الْجَيْشِ إنْ شَاءَ أَوْ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا بِجِزْيَةٍ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَخَرَاجٍ عَلَى أَرَضِيهِمْ , وَالْأَوَّلُ أَوْلَى عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ , وَتَرْكُهَا بِيَدِ أَهْلِهَا عِنْدَ عَدَمِ(2/94)
الْحَاجَةِ لِتَكُونَ عِدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ : تُصْبِحُ هَذِهِ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى وَقْفِ الْإِمَامِ , وَلَا تَكُونُ مِلْكًا لِأَحَدٍ , وَيُصْرَفُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : الْخُمُسُ مِنْ الْأَرَاضِي لِمَنْ ذَكَرَتْهُمْ آيَةُ الْغَنَائِمِ , وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ الْبَاقِيَةُ لِلْغَانِمَيْنِ . فَإِنْ طَابَتْ بِتَرْكِهَا نُفُوسَ الْغَانِمِينَ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَقَفَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَلِلتَّفْصِيلِ ( ر : غَنِيمَةٌ )
================
- ( عَقْدُ الْجِزْيَةِ ) (1):
13 - الْجِزْيَةُ : اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ سَوَاءٌ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَفَتْحِ الْبِلَادِ عَنْوَةً . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ هَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ أَمْ عِوَضٌ أَمْ صِلَةٌ ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ , عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلًا عَنْهُ . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ ( جِزْيَةٍ ف 19 ) .
مُسْقِطَاتُ الْعِوَضِ : هُنَاكَ أَسْبَابٌ تُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ الْعِوَضِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ , مِنْهَا مَا يَلِي :
أ - ( هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ) :
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11146)(2/95)
26 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعِوَضِ فِي الْجُمْلَةِ . فَإِذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي . ( ر : تَلَفٌ ف 9 ) وَإِذَا هَلَكَتْ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ بِحَيْثُ تَفُوتُ الْمَنَافِعُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهَا كُلِّيَّةً كَالدَّارِ إذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ أَنْقَاضًا , وَالسَّفِينَةُ إذَا نُقِضَتْ وَصَارَتْ أَلْوَاحًا انْفَسَخَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَسَقَطَتْ الْأُجْرَةُ .
ب - الْإِبْرَاءُ : 27 - الْإِبْرَاءُ : هُوَ إسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ . فَالْإِبْرَاءُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ عَنْ الذِّمَّةِ , وَالْحُكْمُ الْغَالِبُ لِلْإِبْرَاءِ هُوَ النَّدْبُ . ( ر : إبْرَاءٌ ف 12 )(2/96)
ج - ( الْعَفْوُ ) : 28 - الْعَفْوُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ , وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ وَالْجِنَايَاتِ , فَإِذَا ثَبَتَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي , كَانَ الْعَفْوُ مُسْقِطًا لَهَا , فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ النَّفْسِ تَسْقُطُ بِعَفْوِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا , وَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ دُونَ الْبَعْضِ يَسْقُطُ حَقُّ مَنْ عَفَا , وَتَبْقَى حِصَّةُ الْآخَرِينَ فِي مَالِ الْجَانِي إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَمْدًا , وَعَلَى الْعَاقِلَةِ إنْ كَانَتْ خَطَأً . وَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَنْ دِيَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْقَطْعِ وَإِتْلَافِ الْمَعَانِي تَسْقُطُ دِيَتُهَا ; لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي تَسْقُطُ بِعَفْوِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْعَفْوِ . ( ر : دِيَاتٌ ف 83 )
د - ( الْإِسْلَامُ ) : 29 - قَدْ يَكُونُ الْإِسْلَامُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْعِوَضِ , وَذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ . فَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَلَا يُطَالَبُ بِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الزَّمَانِ , لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ } . وَهُنَاكَ مُسْقِطَاتٌ أُخْرَى لِلْجِزْيَةِ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي ( مُصْطَلَحِ جِزْيَةٍ ف 69 وَمَا بَعْدَهَا ) .
================
عِيادة(1)
1 - العيادة لغةً : الزّيارة مطلقاً ، واشتهر استعمالها في زيارة المريض ، حتّى صارت كأنّها مختصّة به
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11160)(2/97)
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ عَلَى أَقْوَالٍ : فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ , وَقَدْ تَصِلُ إلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَفْرَادِ دُونَ بَعْضٍ , وَقَالَ ابْنُ عَلَّانَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ : هِيَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ , وَقِيلَ : فَرْضُ كِفَايَةٍ . وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ , وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ , وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْأَعْيَانِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنَّهَا مَنْدُوبَةٌ إذَا قَامَ بِهَا الْغَيْرُ , وَإِلَّا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْكِفَايَةِ , إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عِيَادَتُهُ عَلَيْهِ عَيْنًا . وَتُكْرَهُ عِيَادَةُ ذِي بِدْعَةٍ دِينِيَّةٍ , وَتَحْرُمُ عَلَى الْعَالِمِ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ ذِي الْبِدْعَةِ الدِّينِيَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِيَادَتِهِ لَهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَإِغْرَاءِ الْعَامَّةِ بِاتِّبَاعِهِ وَحُسْنِ طَرِيقَتِهِ . وَتَجُوزُ عِيَادَةُ الْفَاسِقِ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ , وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ حَدِيثُ : { حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّ السَّلَامِ , وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ , وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ , وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ , وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ } وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ رضي الله عنه { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَبِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ } . كَمَا تَجُوزُ عِيَادَةُ الْكَافِرِ خَاصَّةً إنْ رُجِيَ إسْلَامُهُ , لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه { أَنَّ غُلَامًا لِيَهُودٍ كَانَ(2/98)
يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم , فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ , فَقَالَ : أَسْلِمْ , فَأَسْلَمَ } , وَوَرَدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِهِ } . وَتَجُوزُ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّهُ نَوْعُ بِرٍّ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ . وَفِي عِيَادَةِ الْمَجُوسِ قَوْلَانِ .
=================
غَدْر(1)
1 - الغدر لغةً : نقض العهد وترك الوفاء به ، وغدر به غدراً من باب ضرب .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة
«أ - الغَوْل»
2 - من معاني الغول : إهلاك الشّيء من حيث لا يحسّ به ، وكلّ ما أخذ الإنسان من حيث لا يدري فأهلكه فهو غول ، والاسم : الغيلة .
والغدر قد يكون سبباً للغول .
«ب - الخدعة»
3 - الخديعة والخدعة : إظهار الإنسان خلاف ما يخفيه ، أو هو بمعنى الختل وإرادة المكروه ، وما يخدع به الإنسان .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
والخدعة أعمّ من الغدر ، إذ الغدر حرام ، أمّا الخدعة فتباح أحياناً كما في قوله صلى الله عليه وسلم : « الحرب خدعة » .
«ج - الخيانة»
4 - من معاني الخيانة في اللّغة : نقص الحقّ ونقض العهد وعدم أداء الأمانة كلّها أو بعضها .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
والخيانة أعمّ من الغدر .« ر : الخيانة ف /1 » .
الْغَدْرِ ( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11233)(2/99)
5 - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لِأَنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ , وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْغَادِرُ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ يَتَعَدَّى إلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا : قوله تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } , وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا , وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ , إذَا حَدَّثَ كَذَبَ . وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ , وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِشَتَّى صُوَرِهِ , سَوَاءٌ كَانَ مَعَ فَرْدِ الْجَمَاعَةِ , وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ مُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ أَمْ مُعَاهِدٍ . 6 - وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِشُرُوطِ الْعَهْدِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ , مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } وَلِأَنَّ أَبَا بَصِيرٍ رضي الله عنه لَمَّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ - حَسَبَ الْعَهْدِ - قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم { يَا أَبَا بَصِيرٍ إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ , فَالْحَقْ بِقَوْمِك . . . فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا } , وَلِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ(2/100)
رضي الله عنه وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ , وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلَادِهِمْ , حَتَّى إذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ , فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ , اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ , فَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رضي الله عنه . فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ , فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ , أَوْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } قَالَ : فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ . وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ , وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَأْمَنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدٍ وَلَا صُلْحٍ , وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنْ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ , وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ .
7 - وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ لَهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ , حَتَّى تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْأَمَانِ وَيَبْلُغَ مَأْمَنَهُ , لقوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } , وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : { ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ , فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ , لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } .(2/101)
8 - كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَغْدِرَهُمْ وَلَا يَخُونَهُمْ , لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى , فَإِنْ خَانَهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ أَوْ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إلَى أَرْبَابِهِ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَامٍ , فَلَزِمَهُ رَدُّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَقَالُوا : لَوْ أَطْلَقَ الْكُفَّارُ الْأَسِيرَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ , أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ , حَرَامٌ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ , وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إلَيْهِمْ ثَمَنَهُ , أَوْ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مَالًا فِدَاءً - وَهُوَ مُخْتَارٌ - فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ , وَلِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ أَسْرَانَا بَعْدَ ذَلِكَ . إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ : أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ أَوْ لَا يَهْرُبَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ مُخْتَارًا , فَالْجُمْهُورُ يَرَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إظْهَارُ دِينِهِ وَإِقَامَةُ شَعَائِرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ , بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالْهَرَبُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ , لقوله تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسَهُمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا(2/102)
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ إقَامَةِ الدِّينِ وَالْتِزَامَ مَا لَا يَجُوزُ . أَمَّا إنْ أَمْكَنَهُ إقَامَةُ شَعَائِرِ دِينِهِ وَإِظْهَارُهُ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ , لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ . لِئَلَّا يُكْثِرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ . وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ , فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْهَرَبُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ وَهُوَ حَرَامٌ . ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ : أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ - مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ - فَلَهُ بَعْثُ الْمَالِ دُونَ رُجُوعِهِ , وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ , أَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَالِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا وَلَا يَرْجِعْ . وَأَمَّا إذَا وَافَقَ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ مُكْرَهًا فَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ , سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ , حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ , وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( أَسْرَى ف 82 )
===================
غَصْبُ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11329)(2/103)
13 - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا تُضْمَنُ الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ , سَوَاءٌ أَكَانَ مُتْلِفُهَا مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا , وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَمْ لِذِمِّيٍّ إذْ لَا قِيمَةَ لَهَا , كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَسَائِرِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ , وَمَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَمْ يُضْمَنْ بِبَدَلٍ عَنْهُ , لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ , وَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا , فَمَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ وَلَا تَمَلُّكُهُ , لَا ضَمَانَ فِيهِ . لَكِنْ إذَا كَانَتْ خَمْرُ الذِّمِّيِّ مَا زَالَتْ بَاقِيَةً عِنْدَ الْغَاصِبِ , يَجِبُ رَدُّهَا عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى شُرْبِهَا . فَإِنْ غَصَبَهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَمْ يَلْزَمْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رَدُّهَا . وَيَجِبُ إرَاقَتُهَا , لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى اقْتِنَائِهَا , وَيَحْرُمُ رَدُّهَا إلَى الْمُسْلِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَانِعَ خَلٍّ ( خَلَّالًا ) ; لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ . وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَمْرِ , فَقَالُوا : تُرَدُّ الْخَمْرُ الْمُحْتَرَمَةُ - وَهِيَ الَّتِي عُصِرَتْ بِقَصْدِ الْخَلِّيَّةِ , أَوْ بِغَيْرِ قَصْدِ الْخَمْرِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ - الْمَغْصُوبَةُ مِنْ مُسْلَمٍ إلَيْهِ , وَلَا تُرَدُّ الْخَمْرُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ , بَلْ تُرَاقُ . وَلَوْ غَصَبَ عَصِيرًا , فَتَخَمَّرَ , ثُمَّ تَخَلَّلَ , فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخَلَّ لِلْمَالِكِ , وَعَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ إنْ كَانَ الْخَلُّ أَنْقَصَ قِيمَةً مِنْ الْعَصِيرِ , لِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ , وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْعَصِيرِ . وَلَوْ غَصَبَ شَخْصٌ جِلْدَ مَيْتَةٍ(2/104)
فَدَبَغَهُ , فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْجِلْدَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ , كَالْخَمْرِ الَّتِي تَخَلَّلَتْ , فَإِذَا تَلِفَا بِيَدِهِ ضَمِنَهُمَا . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : لَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ رَدُّ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَلَوْ دَبَغَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِدَبْغِهِ عِنْدَهُمْ , وَلَا قِيمَةَ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ خَمْرَ الْمُسْلِمِ أَوْ خِنْزِيرَهُ إذَا غَصَبَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ , أَوْ اسْتَهْلَكَهُ , أَوْ خَلَّلَ الْخَمْرَ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْغَاصِبُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا ; لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ , وَيَجِبُ إرَاقَتُهَا , وَكَذَا الْخِنْزِيرُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ . لَكِنْ لَوْ قَامَ الْغَاصِبُ بِتَخْلِيلِ خَمْرِ الْمُسْلِمِ , ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا يَضْمَنُ خَلًّا مِثْلَهَا لَا خَمْرًا ; لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ الضَّمَانِ , وَهُوَ إتْلَافُ خَلٍّ مَمْلُوكٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ , فَيَضْمَنُ , وَلِصَاحِبِ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْخَلَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ ; وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ إذَا دَبَغَهُ الْغَاصِبُ , وَيَأْخُذُ جِلْدَ الْمَيْتَةِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ إنْ دَبَغَهَا بِمَا لَهُ قِيمَةٌ , وَكَذَلِكَ إذَا خَلَّلَ الْخَمْرَ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ . وَيَضْمَنُ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَالْخَمْرُ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ عِنْدَنَا , وَالْخِنْزِيرُ عِنْدَهُمْ كَالشَّاةِ عِنْدَنَا , وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ , وَبِهِ يُقَرُّونَ عَلَى(2/105)
بَيْعِهِمَا . لَكِنْ تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ قِيمَةُ الْخَمْرِ لَا رَدُّ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمَلُّكِهَا , وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُ الْمِثْلِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ . أَمَّا الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَوْ لِذِمِّيٍّ , فَلَا يَضْمَنَانِ بِالْغَصْبِ ; لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ , وَلَا يَدِينُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ تَمَوُّلَهُمَا . وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ مِنْ الْمُسْلِمِ قِيمَةَ صَلِيبٍ غَصَبَهُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ , فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ; لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى ذَلِكَ . وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ كَمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا ذُكِرَ , فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا تُضْمَنُ خَمْرُ الْمُسْلِمِ أَوْ خِنْزِيرُهُ , وَلَا آلَاتُ الْمَلَاهِي وَالْأَصْنَامِ , لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } . وَلِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهَا , وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يُضْمَنُ . لَكِنْ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ لِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ ; وَلِأَنَّهَا مَالٌ مُحْتَرَمٌ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ يَتَمَوَّلُونَهَا . وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ وَكَانَتْ لِمُسْلِمٍ , خُيِّرَ صَاحِبُهَا بَيْنَ أَخْذِهَا خَلًّا , أَوْ مِثْلِ عَصِيرِهَا إنْ عَلِمَ قَدْرَهَا وَإِلَّا فَقِيمَتُهَا . أَمَّا خَمْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ إذَا تَخَلَّلَتْ فَيُخَيَّرُ صَاحِبُهَا بَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهَا يَوْمَ الْغَصْبِ , أَوْ أَخْذِ الْخَلِّ , عَلَى الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ جِلْدَ مَيْتَةٍ دُبِغَ أَوْ لَمْ يُدْبَغْ ,(2/106)
أَوْ كَلْبًا مَأْذُونًا فِي اتِّخَاذِهِ مِثْلُ كَلْبِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ حِرَاسَةٍ فَأَتْلَفَهُ الْغَاصِبُ , فَإِنَّهُ يَغْرَمُ الْقِيمَةَ وَلَوْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْجِلْدِ أَوْ الْكَلْبِ , وَأَمَّا الْكَلْبُ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِيهِ , فَلَا قِيمَةَ لَهُ .
=================
غَنِيمَةٌ (1)
1 - الْغَنِيمَةُ وَالْمَغْنَمُ وَالْغَنِيمُ وَالْغُنْمُ بِالضَّمِّ فِي اللُّغَةِ : الْفَيْءُ , يُقَالُ : غَنِمَ الشَّيْءَ غُنْمًا : فَازَ بِهِ , وَغَنِمَ الْغَازِي فِي الْحَرْبِ : ظَفِرَ بِمَالِ عَدُوِّهِ . وَالْغَنِيمَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ : اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ , إمَّا بِحَقِيقَةِ الْمَنَعَةِ أَوْ بِدَلَالَتِهَا , وَهِيَ إذْنُ الْإِمَامِ , وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : هِيَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُوجَفِ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - الْفَيْءُ . 2 - الْفَيْءُ : هُوَ الْمَالُ الْحَاصِلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ : أَنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ , وَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا إيجَافِ خَيْلٍ . وَثَمَّةَ فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ , هُوَ أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ كَمَا تُخَمَّسُ الْغَنِيمَةُ .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11408)(2/107)
ب - الْجِزْيَةُ : 3 - الْجِزْيَةُ : اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , فَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ جِزْيَةٍ , سَوَاءٌ أَكَانَ مُوجِبُهَا الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ وَفَتْحَ الْأَرْضِ عَنْوَةً , أَوْ عَقْدُ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْشَأُ بِالتَّرَاضِي وَالْغَنِيمَةُ مُخَالِفَةٌ لِلْجِزْيَةِ ; لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ , وَالْغَنِيمَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقِتَالِ وَالتَّفْصِيلُ فِي ( جِزْيَةٍ ف 1 وَ 5 )
ج - النَّفَلُ : 4 - النَّفَلُ بِالتَّحْرِيكِ فِي اللُّغَةِ : الْغَنِيمَةُ , وَالْجَمْعُ أَنْفَالٌ . وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الِاصْطِلَاحِ : مَا خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ , وَسُمِّيَ نَفْلًا لِكَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يُسْهِمُ لَهُمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالنَّفَلِ : أَنَّ النَّفَلَ يَنْفَرِدُ بِهِ بَعْضُ الْغَانِمِينَ مِنْ الْغَنِيمَةِ زِيَادَةً عَلَى أَسْهُمِهِمْ لِعَمَلٍ قَامُوا بِهِ نِكَايَةً بِالْعَدُوِّ , أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَلِلْجَمِيعِ .
د - السَّلَبُ : 5 - السَّلَبُ : مَا يَأْخُذُهُ الْمُقَاتِلُ الْمُسْلِمُ مِنْ قَتِيلِهِ الْكَافِرِ فِي الْحَرْبِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابٍ وَآلَاتِ حَرْبٍ , وَمِنْ مَرْكُوبِهِ الَّذِي يُقَاتِلُ عَلَيْهِ , وَمَا عَلَيْهِ مِنْ سَرْجٍ وَلِجَامٍ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّلَبِ وَالْغَنِيمَةِ : أَنَّ السَّلَبَ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى سَهْمِ الْمُقَاتِلِ مِمَّا مَعَ الْقَتِيلِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْغَنِيمَةِ :(2/108)
6 - الْغَنِيمَةُ مَشْرُوعَةٌ أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ , وَحِلُّهَا مُخْتَصٌّ بِهَا , قَالَ صلى الله عليه وسلم : { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي . . . } وَذَكَرَ فِيهَا : { وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ } وَكَانَتْ الْغَنِيمَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ , ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } فَجَعَلَ خُمُسَهَا مَقْسُومًا عَلَى هَذِهِ الْأَسْهُمِ الْخَمْسَةِ , وَجَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِلْغَانِمِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَى الْغَانِمِينَ فِي قَوْلِهِ : { غَنِمْتُمْ } وَجَعَلَ الْخُمُسَ لِغَيْرِهِمْ , فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَائِرَهَا لَهُمْ .
مَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَمْوَالِ الْغَنِيمَةِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ :
أ - الْأَمْوَالُ الْمَنْقُولَةُ : 7 - يُعَدُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا أُخِذَ مِنْ الْحَرْبِيِّ مِنْ أَمْوَالٍ مَنْقُولَةٍ قَهْرًا بِقِتَالٍ ; لِأَنَّهُ مَالٌ أُخِذَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ , فَكُلُّ مَالٍ يَصِلُ إلَى يَدِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهِمْ فَهُوَ غَنِيمَةٌ , لَا مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ جِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ وَنَحْوِهِ , وَلَا مَا جَلَوَا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ فَزَعًا , وَلَا مَا أُخِذَ مِنْهُمْ مِنْ الْعُشْرِ إذَا اتَّجَرُوا إلَيْنَا وَنَحْوُهُ .(2/109)
ب - الْأَرْضُ : وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : أَوَّلًا - مَا فُتِحَ عَنْوَةً : 8 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَسْمِ الْأَرْضِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً , أَوْ عَدَمِ قَسْمِهَا : فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ , أَوْ يَضْرِبَ عَلَى أَهْلِهَا الْخَرَاجَ وَيُقِرَّهَا بِأَيْدِيهِمْ . وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهَا لَا تُقْسَمُ , وَتَكُونُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى قَسْمِهَا بَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ كَمَا يُقْسَمُ الْمَنْقُولُ . وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يُوَافِقُ رَأْيَ كُلٍّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( أَرْضٍ ف 25 - 26 ) .
ثَانِيًا - مَا جَلَا أَهْلُهَا عَنْهَا خَوْفًا : 9 - وَهَذِهِ تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظُّهُورِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ غَنِيمَةً , فَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الْفَيْءِ .(2/110)
ثَالِثًا - مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ : 10 - وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يُصَالِحَهُمْ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَنَا وَنُقِرُّهَا مَعَهُمْ بِالْخَرَاجِ , فَهَذِهِ الْأَرْضُ تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ مِلْكِنَا لَهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ وَيُضْرَبَ عَلَيْهَا خَرَاجٌ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا , وَهَذَا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ , مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ . ج - الْمَالُ الْمَأْخُوذُ بِاتِّفَاقٍ : 11 - مَا يُؤْخَذُ مِنْ فِدْيَةِ الْأُسَارَى غَنِيمَةٌ , لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ فِدَاءَ أُسَارَى بَدْرٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ; وَلِأَنَّهُ مَالٌ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ أَشْبَهَ بِالسِّلَاحِ . وَمَا أَهْدَاهُ الْكُفَّارُ لِبَعْضِ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لِلْجَيْشِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ فُعِلَ خَوْفًا مِنْ الْجَيْشِ , فَيَكُونُ غَنِيمَةً , كَمَا لَوْ أَخَذَهُ بِغَيْرِهَا , فَلَوْ كَانَتْ الْهَدِيَّةُ بِدَارِنَا فَهِيَ لِمَنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ . ( ر : مُصْطَلَحُ أَسْرَى ف 23 - 24 ) .
===================
( أَصْحَابُ الرَّضْخِ ) (1):
28 - الْأَصْلُ أَنَّ مَنْ يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ وَشَارَكَ فِيهِ يُسْهَمُ لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ , وَأَنَّ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ لَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُ حَسَبَ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ , مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 7859) والموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11421)(2/111)
وَأَصْحَابُ الرَّضْخِ مَنْ يَلِي : أ - ( الصَّبِيُّ ) : 29 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ , وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَأَبُو ثَوْرٍ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ يُرْضَخُ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ , لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ { كَانَ الصِّبْيَانُ يُحْذَوْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا حَضَرُوا الْغَزْوَ } وَالْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ . وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّ الصَّبِيَّ يُسْهَمُ لَهُ إنْ أَطَاقَ الْقِتَالَ وَأَجَازَهُ الْإِمَامُ وَقَاتَلَ بِالْفِعْلِ . وَإِلَّا فَلَا , وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ - وَشَهَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ - أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ مُطْلَقًا . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُسْهَمُ لِلصَّبِيِّ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { أَسْهَمَ لِلصِّبْيَانِ بِخَيْبَرَ } . وَأَسْهَمَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِكُلِّ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ , وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ بِإِسْنَادٍ عَنْ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ قَالَ : حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي قَالَتْ : كُنْت مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ , وَكَانَ يُسْهِمُ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ لِمَا فِي بُطُونِهِنَّ .(2/112)
ب - ( الْمَرْأَةُ ) : 30 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ إلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعْطَى الرَّضْخَ وَلَا يُسْهَمُ لَهَا , لِمَا وَرَدَ أَنَّ نَجْدَةَ بْنَ عَامِرٍ الْحَرُورِيَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : { هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنِّسَاءِ ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنَّ بِسَهْمٍ ؟ فَأَجَابَهُ : قَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنَّ . فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى , وَيُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ , وَأَمَّا بِسَهْمٍ فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ وَفِي رِوَايَةٍ : وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ } وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ . فَلَمْ يُسْهَمْ لَهَا كَالصَّبِيِّ . وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يُرْضَخُ لَهُ مِثْلُ الْمَرْأَةِ مَا لَمْ تَبِنْ ذُكُورَتُهُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ : كَمَا لَا يُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ لَا يُرْضَخُ لَهَا وَلَوْ قَاتَلَتْ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُسْهَمُ لِلْمَرْأَةِ لِمَا رَوَى { حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا حَضَرَتْ فَتْحَ خَيْبَرَ قَالَتْ . فَأَسْهَمَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ } وَأَسْهَمَ أَبُو مُوسَى فِي غَزْوَةِ تَسْتُرَ لِنِسْوَةٍ مَعَهُ , وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ : أَسْهَمْنَ النِّسَاءَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ .(2/113)
ح - ( الْعَبْدُ ) . 31 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ , وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ , إلَى أَنَّ الْعَبِيدَ لَا يُسْهَمُ لَهُمْ , وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُمْ حَسَبَ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ إذَا قَاتَلُوا . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " , وَاحْتَجُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ : { شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي , فَكَلَّمُوا فِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَلَّمُوهُ أَنِّي مَمْلُوكٌ , فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ } وَلَا يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِإِعْطَاءِ الرَّضْخِ لِلْعَبْدِ إذْنَ السَّيِّدِ , فَيُعْطَى لَهُ الرَّضْخُ إذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ سَيِّدُهُ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا غَزَا الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يُرْضَخْ لَهُ وَلَا لِفَرَسِهِ لِعِصْيَانِهِ . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّهُ لَا يُرْضَخُ لِلْعَبِيدِ كَمَا لَا يُسْهَمُ لَهُمْ .(2/114)
د - ( الذِّمِّيُّ ) : 32 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي قَوْلٍ إلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ يُرْضَخُ لَهُ إذَا بَاشَرَ الْقِتَالَ وَلَا يُسْهَمُ لَهُ ; لِأَنَّ السَّهْمَ لِلْغُزَاةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِغَازٍ , فَإِنَّ الْغَزْوَ عِبَادَةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا , وَأَمَّا الرَّضْخُ فَلِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْإِعَانَةِ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ . وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ إنْ حَضَرَ الذِّمِّيُّ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا عَلَى الصَّحِيحِ , بَلْ يُعَزِّرُهُ الْإِمَامُ آنَذَاكَ , وَيُلْحَقُ بِالذِّمِّيِّ الْمُعَاهَدُ وَالْمُؤَمَّنُ وَالْحَرْبِيُّ إنْ جَازَتْ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ . وَأَذِنَ الْإِمَامُ لَهُمْ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ : لَوْ كَانَ فِي الْعَسْكَرِ قَوْمٌ مُسْتَأْمَنُونَ , فَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرَّضْخِ وَاسْتِحْقَاقِ النَّفَلِ إذَا قَاتَلُوا , وَإِنْ كَانُوا دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ مِمَّا يُصِيبُونَ مِنْ السَّلَبِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ , بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ , قَالَ الْخَصَّافُ : لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْمَرَافِقِ الشَّرْعِيَّةِ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ اسْتَعَانَ بِهِمْ . فَبِاسْتِعَانَتِهِ بِهِمْ يُلْحَقُونَ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حُكْمًا . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ كَمَا لَا يُسْهَمُ لِلذِّمِّيِّ لَا يُرْضَخُ لَهُ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُسْهَمُ لَهُ إذَا غَزَا مَعَ الْإِمَامِ(2/115)
بِإِذْنِهِ , وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعَانَ بِنَاسٍ مِنْ الْيَهُودِ فِي حَرْبِهِ . فَأَسْهَمَ لَهُمْ } . وَلَا يَبْلُغُ بِالرَّضْخِ السَّهْمَ إلَّا فِي الذِّمِّيِّ إذَا دَلَّ , فَيُزَادُ عَلَى السَّهْمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , لِأَنَّهُ كَالْأُجْرَةِ .
===================
انْفِرَادُ الْكُفَّارِ بِغَزْوَةٍ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11426)(2/116)
36 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ عِنْدَهُمْ إلَى أَنَّ مَا يُصِيبُهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَهُمْ مَنَعَةٌ أُخْرِجَ خُمُسُهُ , وَالْبَاقِي غَنِيمَةٌ بَيْنَهُمْ , لِأَنَّهُ غَنِيمَةُ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ , فَأَشْبَهَ غَنِيمَةَ الْمُسْلِمِينَ , إذْ إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي السُّكْنَى حِينَ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا , فَيَكُونُونَ تَبَعًا لِلْمُسْلِمِينَ فِيمَا يُصِيبُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَيْضًا , وَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِالْكُلِّ , فَلِهَذَا يُخَمَّسُ جَمِيعُ الْمُصَابِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : لَا يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ الذِّمِّيُّونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ; لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقٌّ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَالزَّكَاةِ . وَمَا أَصَابَ الْمُسْتَأْمَنُونَ فَهُوَ لَهُمْ لَا خُمُسَ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ . وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ , إذْ الْخُمُسُ عِنْدَهُمْ حَقٌّ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَطْ كَالزَّكَاةِ , فَلَا مَجَالَ لِتَخْمِيسِ مَا يَأْخُذُهُ الْمُسْتَأْمَنُونَ . وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُعْطَى لَهُ شَيْءٌ وَلَوْ قَاتَلَ .
=================
غِيلَةٌ (1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11454)(2/117)
1 - مِنْ مَعَانِي الْغِيلَةِ فِي اللُّغَةِ : الْخَدِيعَةُ . يُقَالُ : قُتِلَ فُلَانٌ غِيلَةً , أَيْ : خُدْعَةً , وَهُوَ أَنْ يَخْدَعَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ , فَإِذَا صَارَ إلَيْهِ قَتَلَهُ . وَالْغِيلَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : إيصَالُ الشَّرِّ وَالْقَتْلِ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَشْعُرُ . وَمِنْ مَعَانِي الْغِيلَةِ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ : وَطْءُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَهِيَ تُرْضِعُ , وَإِرْضَاعُ الْمَرْأَةِ وَلَدَهَا وَهِيَ حَامِلٌ . وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغِيلَةِ مِنْ أَحْكَامٍ : الْقَتْلُ غِيلَةٌ :
2 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عُدْوَانًا الْقِصَاصُ , سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَتْلُ غِيلَةً أَمْ لَمْ يَكُنْ . وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ , فِيمَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ غِيلَةً .(2/118)
وَمِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : أ - ( قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ ) : 3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ مُطْلَقًا , وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم { لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ } , وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ , وَلَا يَبْلُغُ بِحَبْسِهِ سَنَةً , وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : عَلَيْهِ الدِّيَةُ فَقَطْ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ , لقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } , وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم { قَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ , وَقَالَ : أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ } ; وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِصْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ ; وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقِصَاصِ فِيهِ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَنْ قَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إذَا قَتَلَهُ غِيلَةً بِأَنْ خَدَعَهُ حَتَّى ذَهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعٍ فَقَتَلَهُ , يُقْتَلُ بِهِ سِيَاسَةً لَا قِصَاصًا , أَمَّا إذَا لَمْ يَقْتُلْهُ غِيلَةً , فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ فَقَطْ .
=================
فِدَاءُ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ , بِآلَاتِ الْحَرْبِ , وَالْكُرَاعِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11532)(2/119)
6 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ فِدَاءِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ بِسِلَاحٍ نَدْفَعُهُ لِلْعَدُوِّ . فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ : يَجُوزُ ذَلِكَ . وَفِي جَوَازِهِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ , لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ : فَالْمَنْعُ لِابْنِ الْقَاسِمِ , وَالْجَوَازُ لِأَشْهَبَ . مَا لَمْ يَكُنْ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ أَمْرًا كَثِيرًا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ الْقُدْرَةُ الظَّاهِرَةُ . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا رَأْيَانِ . وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ : وَلَا يَجُوزُ رَدُّ أَسْلِحَتِهِمْ الَّتِي اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لَنَا , لِأَنَّا لَا نَبِيعُهُمْ سِلَاحًا , لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَوْجَهِ عِنْدَهُمْ مُفَادَاةُ أَسْرَانَا بِسِلَاحِهِمْ الَّذِي غَنِمْنَاهُ مِنْهُمْ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ , وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِدَفْعِ ذَلِكَ لِلْعَدُوِّ , وَيُحَاسِبَهُمْ بِقِيمَةِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ , فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ جَازَ شِرَاءُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِافْتِدَاءِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ لِلضَّرُورَةِ , وَقَالُوا : وَمَحَلُّ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَرْضَوْا إلَّا بِذَلِكَ , أَمَّا إذَا رَضُوا بِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ الْفِدَاءُ بِهِمَا .
===================
فِدْيَةٌ (1)
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11536)(2/120)
1 - الْفِدْيَةُ لُغَةً : مَالٌ أَوْ نَحْوُهُ يَسْتَنْقِذُ بِهِ الْأَسِيرَ أَوْ نَحْوَهُ فَيُخَلِّصُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } , أَيْ جَعَلْنَا الذِّبْحَ فِدَاءً لَهُ وَخَلَّصْنَاهُ بِهِ مِنْ الذَّبْحِ . وَاصْطِلَاحًا : هِيَ الْبَدَلُ الَّذِي يَتَخَلَّصُ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ مَكْرُوهٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِ .
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : أ - ( الْجِزْيَةُ ) : 2 - الْجِزْيَةُ هِيَ : اسْمٌ لِلْمَالِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِإِسْكَانِهِمْ فِي دِيَارِنَا وَحِمَايَتِهِمْ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ , وَتُطْلَقُ الْجِزْيَةُ عَلَى الْعَقْدِ أَيْضًا . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالْجِزْيَةِ أَنَّ الْفِدْيَةَ أَعَمُّ مِنْ الْجِزْيَةِ .
ب - ( الدِّيَةُ ) : 3 - الدِّيَةُ هِيَ : الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى حُرٍّ فِي نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهَا وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الْفِدْيَةِ .
ج - ( الْكَفَّارَةُ ) : 4 - الْكَفَّارَةُ لُغَةً : السَّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ , وَاصْطِلَاحًا : مَا يُغَطِّي الْإِثْمَ . وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الْفِدْيَةِ .
د - الْخُلْعُ : 5 - الْخُلْعُ لُغَةً : النَّزْعُ , وَمِنْهُ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا إذَا افْتَدَتْ مِنْهُ بِمَالٍ . وَالْخُلْعُ فِي الشَّرْعِ : فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ مَقْصُودٍ لِجِهَةِ الزَّوْجِ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ , قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } . وَالْخُلْعُ أَخَصُّ مِنْ الْفِدْيَةِ .
( الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ ) :(2/121)
6 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْفِدْيَةِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً بِحَسَبِ مَا يَلِي : أ - ارْتِكَابُ أَحَدِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ : 7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وَالِادِّهَانِ وَالتَّطَيُّبِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ . وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ : ( إحْرَامٌ ف 148 )
=================
ز - ( الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدَّارِ ) (1):
11 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مُجَرَّدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ لَا يُعْتَبَرُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي الدِّينِ . وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ : إنَّ اخْتِلَافَ دَارَيْ الزَّوْجَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا , فَلَوْ دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَعَقَدَ الذِّمَّةَ وَتَرَكَ زَوْجَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ انْفَسَخَ نِكَاحُهُمَا , وَكَذَا الْعَكْسُ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( اخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ ف 5 )
=====================
فَقِيرٌ (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11590)
(2) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11692)(2/122)
1 - الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ ضِدُّ الْغَنِيِّ , وَهُوَ مَنْ قَلَّ مَالُهُ , وَالْفَقْرُ ضِدُّ الْغِنَى . وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ , وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ : مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَلْبَتَّةَ , أَوْ يَجِدُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ مَالٍ أَوْ كَسْبٍ لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ . وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ : بِأَنَّهُ مَنْ يَمْلِكُ دُونَ نِصَابٍ , مِنْ الْمَالِ النَّامِي , أَوْ قَدْرَ نِصَابٍ غَيْرِ نَامٍ مُسْتَغْرَقٍ فِي حَاجَتِهِ . وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ : بِأَنَّهُ مَنْ يَمْلِكُ شَيْئًا لَا يَكْفِيهِ قُوتَ عَامِهِ .
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
الْمِسْكِينُ : 2 - الْمِسْكِينُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ , وَالْمَالِكِيَّةِ : مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا , وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ : مَنْ قَدَرَ عَلَى مَالٍ أَوْ كَسْبٍ يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ وَلَا يَكْفِيهِ , وَقَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْفَقِيرَ وَالْمِسْكِينَ صِنْفٌ وَاحِدٌ . وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ : مَنْ يَجِدُ مُعْظَمَ الْكِفَايَةِ أَوْ نِصْفَهَا مِنْ كَسْبٍ أَوْ غَيْرِهِ . وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ اسْمٌ يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ , وَأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ .
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَقِيرِ مِنْ أَحْكَامٍ :
الْفَقِيرُ الَّذِي تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ :
3 - يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيرِ الَّذِي تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ :(2/123)
أ - الْإِسْلَامُ : فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى كَافِرٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ , لِحَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه : { خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِوَضْعِ الزَّكَاةِ فِي فُقَرَاءِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ , وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ , فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِمْ . أَمَّا مَا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ , وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ صَرْفِهَا لِفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ . فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , لِأَنَّ فَقِيرَهُمْ كَافِرٌ فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَفُقَرَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ . وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ . وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إلَى جَوَازِ صَرْفِهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَقَالَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } , مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ فَقِيرٍ وَفَقِيرٍ , وَعُمُومُ هَذَا النَّصِّ يَقْتَضِي جَوَازَ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ , إلَّا أَنَّهُ خَصَّ مِنْهُ زَكَاةَ الْمَالِ , لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ , وَلِأَنَّ صَرْفَ الصَّدَقَةِ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَابِ إيصَالِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ , وَمَا نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ , قَالَ تَعَالَى : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } , وَظَاهِرُ هَذَا النَّصِّ جَوَازُ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ , لِأَنَّهُ بِرٌّ بِهِمْ , إلَّا أَنَّ الْبِرَّ(2/124)
بِطَرِيقِ زَكَاةِ الْمَالِ غَيْرُ مُرَادٍ , لِحَدِيثِ مُعَاذٍ , فَيَبْقَى غَيْرُهَا مِنْ طُرُقِ الْبِرِّ بِهِمْ جَائِزًا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ : ( كَفَّارَةٌ , وَنَذْرٌ ) .
ب - أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ , لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ , إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ } .
ج - أَنْ لَا يَكُونَ رَقِيقًا , وَلَوْ كَانَ سَيِّدُهُ فَقِيرًا , لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى سَيِّدِهِ فَهُوَ غَنِيٌّ بِغِنَاهُ , إلَّا الْمُكَاتَبَ فَإِنَّهُ يُعْطَى لَهُ .(2/125)
د - أَنْ لَا يَكُونَ مُكَفِّيًا بِنَفَقَةِ قَرِيبٍ , أَوْ زَوْجٍ , وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَلِلتَّفْصِيلِ اُنْظُرْ : ( زَكَاةٌ ف . 16 ) . 4 - وَلَا يَمْنَعُ الْفَقْرَ : مَسْكَنُ الْفَقِيرِ وَثِيَابُهُ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّجَمُّلِ , وَخَادِمُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ , وَمَالُهُ الْغَائِبُ فِي مَرْحَلَتَيْنِ , وَكَسْبٌ لَا يَلِيقُ بِهِ , وَكُتُبُ الْعِلْمِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ , لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْهَا . وَطَالِبُ الْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْكَسْبُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ فَقِيرٌ , فَتُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ , وَيَتْرُكُ الْكَسْبَ لِتَعَدِّي نَفْعِهِ وَعُمُومِهِ , بِخِلَافِ مَنْ تَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ وَالنَّوَافِلِ , فَلَا تُعْطَى لَهُ الزَّكَاةُ لِقُصُورِ نَفْعِهَا عَلَيْهِ , فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاكْتِسَابُ وَتَرْكُهَا . وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ : ( طَالِبُ عِلْمٍ ف 4 , زَكَاةٌ ف 162 ) . وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيرِ لِيُعْطَى الزَّكَاةَ : الزَّمَانَةُ , وَلَا التَّعَفُّفُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ : ( زَكَاةٌ ف 177 - 178 ) .
==================
ب - ( مَوَارِدُ الْفَيْءِ ) (1):
10 - مِنْ مَوَارِدِ الْفَيْءِ :
( 1 ) مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَرَاضِيِ وَالْعَقَارَاتِ .
( 2 ) مَا تَرَكَهُ الْكُفَّارُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11728)(2/126)
( 3 ) مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنْ الْأَرَاضِيِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ , وَدُفِعَتْ بِالْإِجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ , أَوْ عَنْ الْأَرَاضِيِ الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ , وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ .
( 4 ) الْجِزْيَةُ .
( 5 ) عُشُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
( 6 ) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى الْمُسْلِمِينَ .
( 7 ) مَالُ الْمُرْتَدِّ إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ .
( 8 ) مَالُ الذِّمِّيِّ إنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَمَا فَضَلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ .
( 9 ) الْأَرَاضِيُ الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَالِ وَهِيَ الْأَرَاضِيُ الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ . وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ ( بَيْتُ الْمَالِ ف 6 ) .
================
قَبَالَةٌ (1)
1 - الْقَبَالَةُ بِالْفَتْحِ : الْكَفَالَةُ وَهِيَ مَصْدَرُ قَبَلَ فُلَانًا : إذَا كَفَلَهُ وَيُقَالُ : قَبُلَ بِالضَّمِّ إذَا صَارَ قَبِيلًا : أَيْ كَفِيلًا , وَتُطْلَقُ الْقَبَالَةُ عَلَى الصَّكِّ الَّذِي يُكْتَبُ فِيهِ الدِّينُ , وَنَحْوُهُ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : أَنْ يَدْفَعَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ صَقْعًا أَوْ بَلْدَةً أَوْ قَرْيَةً إلَى رَجُلٍ مُدَّةَ سَنَةٍ مُقَاطَعَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ عَنْ خَرَاجِ أَرْضِهَا , وَجِزْيَةِ رُءُوسِ أَهْلِهَا إنْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ , وَيَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا . وَعَرَّفَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ : أَنْ يَتَقَبَّلَ بِخَرَاجٍ أَوْ جِبَايَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11751)(2/127)
( الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ ) : ( الْإِقْطَاعُ ) : 2 - الْإِقْطَاعُ مِنْ قَطَعَ لَهُ , وَأَقْطَعَ لَهُ , وَاسْتَقْطَعَهُ : سَأَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ فَقَطَعَ . وَفِي الِاصْطِلَاحِ : يُطْلَقُ الْإِقْطَاعُ عَلَى مَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ - أَيْ يُعْطِيهِ - مِنْ الْأَرَاضِيِ رَقَبَةً , أَوْ مَنْفَعَةً لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْإِقْطَاعِ وَالْقَبَالَةِ أَنَّ الْإِقْطَاعَ أَعَمُّ مِنْ الْقَبَالَةِ , لِأَنَّ الْإِقْطَاعَ قَدْ يَكُونُ بِبَدَلٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ , أَمَّا الْقَبَالَةُ , فَلَا تَكُونُ إلَّا بِبَدَلٍ .
( الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ ) :(2/128)
3 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الْقَبَالَةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَبَاطِلَةٌ شَرْعًا , لِأَنَّ الْعَامِلَ مُؤْتَمَنٌ يَسْتَوْفِي مَا وَجَبَ , وَيُؤَدِّي مَا حَصَّلَ , فَهُوَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي إذَا أَدَّى الْأَمَانَةَ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانًا , وَلَمْ يَمْلِكْ زِيَادَةً , وَضَمَانُ الْأَمْوَالِ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِ مَا زَادَ , وَغُرْمِ مَا نَقَصَ , وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْعِمَالَةِ وَحُكْمِ الْأَمَانَةِ فَبَطَلَ , وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ عَسْفِ أَهْلِ الْخَرَاجِ , وَالْحَمْلِ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , وَظُلْمِهِمْ , وَأَخْذِهِمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ , لِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لَا يُبَالِي مَا يُصِيبُ أَهْلَ الْخَرَاجِ . جَاءَ فِي الرِّسَالَةِ الَّتِي كَتَبَهَا أَبُو يُوسُفَ إلَى الْخَلِيفَةِ الرَّشِيدِ : رَأَيْت أَنْ لَا تُقْبِلَ شَيْئًا مِنْ السَّوَادِ وَلَا غَيْرِ السَّوَادِ مِنْ الْبُلْدَانِ , فَإِنَّ الْمُتَقَبِّلَ - إذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنْ الْخَرَاجِ - عَسَفَ أَهْلَ الْخَرَاجِ , وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ , وَظَلَمَهُمْ , وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ , لِيَسْلَمَ مِمَّا يَدْخُلُ فِيهِ , وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلَادِ , وَهَلَاكُ الرَّعِيَّةِ , وَالْمُتَقَبِّلُ لَا يُبَالِي بِهَلَاكِهِمْ لِصَلَاحِ أَمْرِهِ , وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْدَ مَا يَتَقَبَّلُ بِهِ فَضْلًا كَبِيرًا , وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إلَّا بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ , وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ , وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ , وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الْأَعْنَاقِ , وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَالُ أَهْلَ الْخَرَاجِ مِنْهُ , وَهَذَا مَا لَا يَحِلُّ(2/129)
, وَلَا يَصْلُحُ , وَلَا يَسَعُ , وَالْحَمْلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ , وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ الْعَفْوُ , وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ , وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ لِأَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يُحَمِّلَ هَذَا الْمُتَقَبِّلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ , فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْت لَك , فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ , فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا وَيَدَعُوهُ , فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ , فَلَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْفَسَادِ شَيْءٌ , وَلَنْ يَقِلَّ مَعَ الصَّلَاحِ شَيْءٌ , إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنْ الْفَسَادِ , قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا } . وَاسْتَدَلُّوا بِآثَارٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا , فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ : قَالَ : قُلْت لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما : إنَّا نَتَقَبَّلُ الْأَرْضَ فَنُصِيبُ مِنْ ثِمَارِهَا - يَعْنِي الْفَضْلَ - قَالَ : ذَلِكَ الرِّبَا الْعَجْلَانُ , وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ : أَتَقَبَّلُ مِنْك الْأَيْلَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ , فَضَرَبَهُ مِائَةً وَصَلَبَهُ حَيًّا . وَرَوَى أَبُو هِلَالٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : أَنَّهُ قَالَ : الْقَبَالَاتُ حَرَامٌ , وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : إنَّهَا رِبًا .
================
الْقُرْبَةُ فِي الْوَقْفِ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 11995)(2/130)
16 - الْأَصْلُ فِي الْوَقْفِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرَبِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا , إذْ هُوَ حَبْسُ الْأَصْلِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ , وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما , قَالَ { أَصَابَ عُمَرُ بِخَيْبَرَ أَرْضًا , فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ فَقَالَ : إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ , وَلَا يُورَثُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ , وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ , لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ , أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوَّلٍ فِيهِ } . وَوَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ , أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ , أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } . وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ , فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً . وَالْوَقْفُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ هُوَ مَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْقُرْبَةُ , وَالْقُرْبَةُ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَنْوِيَ بِوَقْفِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى , يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ : الْوَقْفُ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلتَّعَبُّدِ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ , بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ أَصْلًا , بَلْ التَّقَرُّبُ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى نِيَّةِ الْقُرْبَةِ , فَهُوَ بِدُونِهَا(2/131)
مُبَاحٌ . وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ : الْوَقْفُ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ فِي وَقْفٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقِفُ عَلَى غَيْرِهِ تَوَدُّدًا , أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ خَشْيَةَ بَيْعِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِتْلَافِ ثَمَنِهِ , أَوْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ فَيُبَاعَ فِي دَيْنِهِ , أَوْ رِيَاءً وَنَحْوَهُ , فَهَذَا وَقْفٌ لَازِمٌ لَا ثَوَابَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَغِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةَ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ , كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ صَحِيحٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَكِنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ , جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ : إنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ , نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ . وَالثَّانِي : لَا , وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ . وَيَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ : يُشْتَرَطُ فِي مَحَلِّ الْوَقْفِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي ذَاتِهِ , أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَى ذَاتِهِ وَصُورَتِهِ قُرْبَةً , وَالْمُرَادُ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ لَوْ صَدَرَ مِنْ مُسْلِمٍ يَكُونُ قُرْبَةً حَمْلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الْقُرْبَةَ , وَهَذَا شَرْطٌ فِي وَقْفِ الْمُسْلِمِ .
===============
مَنْ تُوَجَّهُ إلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12071)(2/132)
18 - لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ تُوَجَّهُ إلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ مِنْ عَشِيرَةِ الْمَقْتُولِ الْوَارِثِينَ لَهُ , كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي عَدَمِ تَوَجُّهِهَا إلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ . وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي تَوْجِيهِهَا إلَى النِّسَاءِ أَوْ غَيْرِ الْوَارِثِينَ مِنْ الْعَصَبَةِ . وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَتْلِ عَمْدًا , وَبَيْنَ كَوْنِهِ خَطَأً , وَاشْتَرَطُوا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الذُّكُورَةَ وَالْعُصُوبَةَ وَالْعَدَدَ . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ أَوْ الدِّيَةَ , وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْعَصَبَةِ , وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ ; لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ فَإِنْ انْفَرَدْنَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَارَ الْمَقْتُولُ كَمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ , فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَيَحْلِفُ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً بِخِلَافِ الْعَمْدِ , لِانْفِرَادِ الرِّجَالِ بِهِ , وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ , فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَطَأِ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ , فَإِنَّهَا تُحَلَّفُ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا وَتَأْخُذُ حَظَّهَا مِنْ الدِّيَةِ , وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِنْ الدِّيَةِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَالِ . وَإِذَا كُسِرَتْ الْيَمِينُ يُكْمَلُ عَلَى ذِي الْأَكْثَرِ مِنْ الْكُسُورِ وَلَوْ أَقَلَّهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِهِ , كَابْنٍ وَبِنْتٍ عَلَى الِابْنِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يَمِينًا وَثُلُثٌ وَعَلَى(2/133)
الْبِنْتِ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَيُجْبَرُ كَسْرُ الْيَمِينِ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنَّ كَسْرَ يَمِينِهَا أَكْثَرُ مِنْ كَسْرِ يَمِينِ الِابْنِ , وَإِنْ كَانَتْ الْبِنْتُ أَقَلَّ نَصِيبًا فَتَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا فَإِنْ تَسَاوَتْ الْكُسُورُ جَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ كَسْرَهُ , كَثَلَاثَةِ بَنِينَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ فَتَكْمُلُ عَلَى كُلٍّ , فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا . جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ : قُلْت : وَإِنَّمَا يَحْلِفُ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْخَطَأِ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ مِنْ الْمَيِّتِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ , قَالَ : نَعَمْ , قُلْت : فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : لَا , قُلْت : فَهَلْ يُقْسِمُ النِّسَاءُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : يَحْلِفُ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ , رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فِي دَعْوَى الْقَسَامَةِ بِالْقَتْلِ , عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ; لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عِنْدَهُمْ يَمِينٌ فِي الدَّعْوَى , فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ وَارِثَانِ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْقَسَامَةِ لَمْ يُمْنَعْ ذَلِكَ الْآخَرُ مِنْ أَنْ يَقْسِمَ خَمْسِينَ يَمِينًا , وَيَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ , وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنْ الدِّيَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ بِلَا وَارِثٍ سَقَطَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ , إلَّا إذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْقَتْلَ عَلَى مُعَيَّنٍ , فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ(2/134)
يَنْصِبَهُ لِلْحَلِفِ فِي الْقَسَامَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ , وَيَسْتَحِقَّ بَيْتُ الْمَالِ الدِّيَةَ , وَإِنْ نَكَلَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ , وَجْهٌ يُسْقِطُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ , وَالْوَجْهُ الْآخَرُ يُوجِبُ حَبْسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ . وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إذَا كَانَ فِي الْأَوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ أَقْسَمَ الرِّجَالُ وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ , وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ , أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ لَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ , وَكَذَا لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ , وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ , وَالْأَيْمَانُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ . وَذَهَبَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ إلَى أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ عَمْدًا لَا يَحْلِفُ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ , وَلَا الْحَاضِرُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ هُوَ الْقِصَاصُ , وَمِنْ شَرْطِهِ عِنْدَهُمْ مُطَالَبَةُ جَمِيعِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ بِهِ . أَمَّا إذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ عَمْدٍ , فَأَجَازَ قَسَامَةَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ دُونَ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ , وَحُضُورِ الْغَائِبِ ; لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِقَسَامَتِهِمْ هُوَ الدِّيَةُ , فَيَسْتَحِقُّ كُلٌّ مِنْهُمْ قِسْطَهُ مِنْهَا . وَعَلَى ذَلِكَ يَحْلِفُ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ - وَهُمْ وَرَثَتُهُ - وَتُوَزَّعُ الْأَيْمَانُ كَسِهَامِ التَّرِكَةِ , وَيُبْدَأُ بِالذُّكُورِ , وَتُرَدُّ الْقَسَامَةُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ إلَّا النِّسَاءُ , وَكَذَا إذَا نَكَلَ(2/135)
الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ , فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ , وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعُونَ وَلَمْ يَرْضَوْا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ , قِيَاسًا عَلَى مَنْ قُتِلَ فِي زِحَامٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ كَقَتِيلٍ فِي الطَّوَافِ أَوْ فِي جُمُعَةٍ . وَالْحَنَفِيَّةُ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُدَّعِي , وَبِنَاءً عَلَيْهِ يَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ وَيُحَلِّفُهُمْ , وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّالِحِينَ أَوْ الْفَسَقَةَ , كَمَا يَحِقُّ لَهُ اخْتِيَارُ الشُّبَّانِ وَالشُّيُوخِ , وَيَكُونُ الِاخْتِيَارُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ , وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ , أَيْ عَوَاقِلِ كُلِّ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ . وَقَدْ اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ فِيمَا لَوْ خَصَّ الْوَلِيُّ قَاتِلًا مُعَيَّنًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ . الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : يُوجِبُ الْقَسَامَةَ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ; لِأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُمْ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ تُدِينُ الْقَاتِلَ الْمُخَصَّصَ , قَالَ السَّرَخْسِيُّ : وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْقَتِيلِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَقَالُوا : قَتَلَهُ فُلَانٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً , لَمْ يُبْطِلْ هَذَا حَقَّهُ , وَفِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ ; لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ , وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ,(2/136)
وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً . الْقَوْلُ الثَّانِي : رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ , لِأَنَّ دَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ , يَكُونُ إبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ , فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يُعْرَفُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ , صَارَ مُبْرِئًا لَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ , فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ , فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالْحُجَّةِ , فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ , وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ; لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصُومٌ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتْ الْقَسَامَةُ . وَتَسْقُطُ الْقَسَامَةُ عَنْ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ , وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إنْ لَمْ تَكُنْ لِلْوَلِيِّ بَيِّنَةٌ , لِلتَّنَاقُضِ بَيْنَ الْإِبْرَاءِ وَالِاتِّهَامِ , وَإِذَا اتَّهَمَتْ الْمَحَلَّةُ قَاتِلًا مُعَيَّنًا فِيهَا أَوْ فِي غَيْرِهَا كُلِّفَتْ بِإِحْضَارِ الْبَيِّنَةِ , فَإِنْ أَحْضَرَتْ الْبَيِّنَةَ وَوَافَقَ الْوَلِيُّ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ , وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ , قَالَ الْكَاسَانِيُّ : وَلَوْ ادَّعَى أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ تَصِحُّ دَعْوَاهُمْ , فَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي(2/137)
الْعَمْدِ , وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ إنْ وَافَقَهُمْ الْأَوْلِيَاءُ فِي الدَّعْوَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ , وَإِنْ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ قَدْ أَبْرَءُوهُ حَيْثُ أَنْكَرُوا وُجُودَ الْقَتْلِ مِنْهُ , وَلَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ أَيْضًا شَيْءٌ ; لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ , وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمْ الْبَيِّنَةُ وَحَلَفَ ذَلِكَ الرَّجُلُ , تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ . وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَحَلَّةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا مُسْلِمِينَ وَبَيْنَهُمْ ذِمِّيٌّ , فَلَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْمِلْكِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمُسْلِمِينَ , وَلَا يُزَاحِمُهُمْ الذِّمِّيُّ , لِأَنَّهُ تَابِعٌ , فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النِّسَاءِ , أَمَّا إذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي قَرْيَةٍ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ , فَقَدْ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ , لِأَنَّهُمْ مَسْئُولُونَ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهِمْ . أَمَّا إذَا كَانَ هَذَا الْحَادِثُ فِي زَمَانِنَا هَذَا فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُوجِبُونَ الْقَسَامَةَ عَلَى جَمِيعِ مَنْ فِي الْمَحَلَّةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالذِّمِّيُّونَ , فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي , إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَحَمَّلُ عَوَاقِلُهُمْ الدِّيَةَ , وَالذِّمِّيُّ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ . وَقَدْ اسْتَدَلَّ السَّرَخْسِيُّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ بِقِصَّةِ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ مِنْ قِبَلِ الْيَهُودِ فِي خَيْبَرَ , إذْ إنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ(2/138)
الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ , قَالَ السَّرَخْسِيُّ : إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى , فِيهِمْ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ , فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ ( خَيْبَرَ ) وَكَانُوا مِنْ الْيَهُودِ , ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ , فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ , وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الذِّمَّةِ , فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَعَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَفِي أَمْوَالِهِمْ , وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ , أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ , وَقَوْلُ الْمَجْنُونِ لَيْسَ صَحِيحًا , فَلَا قَسَامَةَ عَلَيْهِمَا , كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَا تَشْتَرِكُ فِي الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ إذَا كَانَ الْقَتِيلُ فِي غَيْرِ مِلْكِهَا , وَعَلَيْهَا الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي مِلْكِهَا , وَهَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ; لِأَنَّهَا مَسْئُولَةٌ عَنْ تَدْبِيرِ مِلْكِهَا , لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْمِلْكُ مَعَ أَهْلِيَّةِ الْقَسَامَةِ , وَقَدْ وُجِدَا فِي حَقِّهَا , أَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لَهَا , وَأَمَّا الْأَهْلِيَّةُ فَلِأَنَّ الْقَسَامَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ , أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسْتَحْلَفُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ , وَمَعْنَى النُّصْرَةِ يُرَاعَى وُجُودُهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي كُلِّ فَرْدٍ , كَالْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ . أَمَّا بِالنِّسْبَةِ(2/139)
لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ : فَإِنَّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ , خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَى الْحَاضِرِ فَقَطْ دُونَ الْغَائِبِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَسْئُولًا عَنْ تَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ أَثْنَاءَ غِيَابِهِ .
=================
حُكْمُ تَقْلِيدِ الْكَافِرِ (1):
22 - الْإِسْلَامُ هُوَ أَحَدُ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ , فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْكَافِرِ لقوله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } , سَوَاءٌ أَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَمْ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ , لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ تَقْلِيدَهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِ , لِجَوَازِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ; وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَتْ وِلَايَتُهُمْ فِي الْمَنَاكِحِ جَازَتْ فِي الْأَحْكَامِ . وَاعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْجَارِي فِي تَقْلِيدِهِمْ قَالَ الشِّرْبِينِيُّ : أَمَّا جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِنَصْبِ حَاكِمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ : إنَّمَا هِيَ زَعَامَةٌ وَرِيَاسَةٌ , لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ , وَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ وَلَا يُلْزَمُونَ بِالتَّحَاكُمِ عِنْدَهُ .
================
وِلَايَةُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ (2):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12214)
(2) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12215)(2/140)
23 - لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الَّذِي يَمْلِكُ وِلَايَةَ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ هُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ; لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ ; وَلِأَنَّ الْإِمَامَ صَاحِبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ , فَلَا يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ , وَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ إلَى شَخْصٍ تَوْلِيَةَ الْقُضَاةِ , وَلَيْسَ لِمَنْ فَوَّضَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ اخْتِيَارُ نَفْسِهِ وَلَا وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ , وَقِيلَ : يَجُوزُ إذَا كَانَا صَالِحَيْنِ لِلْوِلَايَةِ لِأَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ فِي عُمُومِ الْإِذْنِ مَعَ أَهْلِيَّتِهَا . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلَا مَنْ يَجُوزُ التَّقَلُّدُ مِنْهُ , أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ , فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَالِيًا فَيُوَلِّي قَاضِيًا , أَوْ يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَقْضِي بَيْنَهُمْ . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ الْإِمَامِ أَوْ الِاتِّصَالُ بِهِ , يَتِمُّ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَدَالَةِ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ كَمُلَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْقَضَاءِ , وَيَكُونُ عَقْدُهُمْ نِيَابَةً عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ . وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ : إذَا خَلَا الْبَلَدُ مِنْ قَاضٍ , فَقَلَّدَ أَهْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قَاضِيًا مِنْهُمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لَهُ بَاطِلًا إنْ كَانَ فِي الْعَصْرِ إمَامٌ , وَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَنْظُرَ بَيْنَهُمْ مُتَوَسِّطًا مَعَ التَّرَاضِي - لَا مُلْزَمًا -(2/141)
وَإِنْ خَلَا الْعَصْرُ مِنْ إمَامٍ فَإِنْ كَانَ يُرْجَى أَنْ يَتَجَدَّدَ إمَامٌ بَعْدَ زَمَانٍ قَرِيبٍ كَانَ تَقْلِيدُ الْقَاضِي بَاطِلًا , وَإِنْ لَمْ يُرْجَ تَجْدِيدُ إمَامٍ قَرِيبٍ وَأَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى قَاضِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِمْ كَانَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي بَاطِلًا , وَيَكُونَ تَقْلِيدُهُمْ لِلْقَاضِي جَائِزًا إذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّقْلِيدِ جَمِيعُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ , وَأَمْكَنَهُمْ نَصْرُهُ وَتَقْوِيَةُ يَدِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ التَّحَاكُمُ إلَى غَيْرِهِ , فَإِنْ قَلَّدَهُ بَعْضُهُمْ نُظِرَ فِي بَاقِيهِمْ إنْ ظَهَرَ الرِّضَا مِنْهُمْ صَحَّ التَّقْلِيدُ وَصَارُوا كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ , وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُمْ الْإِنْكَارُ بَطَلَ التَّقْلِيدُ , فَإِنْ كَانَ لِلْبَلَدِ جَانِبَانِ فَرَضِيَ بِتَقْلِيدِهِ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ صَحَّ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَبَطَلَ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّ تَمَيُّزَ الْجَانِبَيْنِ كَتَمَيُّزِ الْبَلَدَيْنِ , فَإِذَا صَحَّتْ وِلَايَتُهُ نَفَذَتْ أَحْكَامُهُ وَلَزِمَتْ طَوْعًا وَجَبْرًا لِانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ . وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ إذَا خَلَا الْبَلَدُ مِنْ قَاضٍ , فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَقَلَّدُوا قَاضِيًا عَلَيْهِمْ , فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَفْقُودًا صَحَّ وَنَفَذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ , وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لَمْ يَصِحَّ , فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجَدَّدَ بَعْدَ ذَلِكَ , لَمْ يَسْتَدِمْ هَذَا الْقَاضِي النَّظَرَ إلَّا بَعْدَ إذْنِهِ , وَلَا يُنْقَضْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حُكْمِهِ . وَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ تَوْلِيَةَ قَاضٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّاسِ وَيَعْرِفُ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَلَّاهُ , وَإِنْ(2/142)
لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ سَأَلَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِالنَّاسِ , وَاسْتَرْشَدَهُمْ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ , فَإِذَا عَرَفَ عَدَالَتَهُ وَلَّاهُ , وَيَكْتُبُ لَهُ عَهْدًا بِمَا وَلَّاهُ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ , وَالتَّثَبُّتِ فِي الْقَضَاءِ وَمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَتَصَفُّحِ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَتَأْمُلْ الشَّهَادَاتِ , وَتَعَاهُدِ الْيَتَامَى , وَحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْوُقُوفِ , وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى مُرَاعَاتِهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ , وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي تَوْلِيَتِهِ الْقَضَاءَ .
=================
حُكْمُ لُبْسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْقَلَانِسَ (1):
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12322)(2/143)
4 - مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُمْ يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ , لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ , فَإِذَا لَبِسُوا الْقَلَانِسَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْقَلَانِسِ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ بِتَمْيِيزِهَا بِعَلَامَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا . قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ : يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ لُبْسِ الْقَلَانِسِ الصِّغَارِ , وَإِنَّمَا تَكُونُ طَوِيلَةً مِنْ كِرْبَاسَ مَصْبُوغَةً بِالسَّوَادِ مَضْرَبَةً مُبَطَّنَةً وَهَذَا فِي الْعَلَامَةِ أَوْلَى . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِإِلْزَامِهِمْ لُبْسَ الْقَلَانِسِ الطَّوِيلَةِ الْمَضْرَبَةِ وَأَنَّ عُمَرَ رضي الله تعالى عنه كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ , أَيْ تَكُونُ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا . وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ : إنْ لَبِسُوا الْقَلَانِسَ جَعَلُوا . فِيهَا خِرَقًا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ قَلَانِسِ الْمُسْلِمِينَ , لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعُمَرَ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ فَشَرَطَ أَنْ لَا تَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ . وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ . وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ .
===============
طرق توفير الكفاية(1) :
تتعدّد طرق توفير الكفاية على النّحو التّالي :
أ - توفير الكفاية عن طريق الزّكاة :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12648)(2/144)
20 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الفقير يعطى أقلّ من النّصاب , فإذا أعطي نصاباً جاز مع الكراهة عند جمهور الحنفيّة , وقال زفر : لا يجوز إعطاؤُه نصاباً , لأنّ الغنى قارن الأداء فكأنّ الأداء حصل للغنى وهو لا يجوز .
واستثنى الحنفيّة من ذلك صاحب العيال بحيث لو فرّق عليهم لا يخص كلاً منهم نصاباً وكذلك المديون
وذهب المالكيّة وأحمد في روايةٍ , وبعض الشّافعيّة كالغزاليّ والبغويّ إلى أنّه يعطى ما يكفيه مدّة سنةٍ ولو كان أكثر من النّصاب , لأنّ الزّكاة تتكرّر كلّ سنةٍ فيحصل كفايته منها سنةً بسنة , ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كان يحبس لأهله قوت سنتهم » .
وذهب الشّافعيّة وأحمد في روايةٍ - وهي المذهب - وأبو عبيدٍ إلى أنّ الفقير يعطى كفاية العمر الغالب بحيث يخرج من الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ولا يرجع إلى أخذ الزّكاة مرّةً أخرى .
ب - توفير الكفاية عن طريق بيت المال :
21 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الفقراء الّذين لا يعطون من الزّكاة لعدم كفايتها أو لعدم تحقق شروط استحقاقهم لها كفقراء أهل الذّمّة يصرف لهم من بيت المال .
ج - توفير الكفاية عن طريق توظيف الضّرائب على الأغنياء :
22 - ذهب الفقهاء إلى أنّ للإمام فرض ضرائب على القادرين لوجوه المصالح العامّة ولسدّ حاجات المسلمين .
قال القرطبي : اتّفق العلماء على أنّه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزّكاة فإنّه يجب صرف المال إليها .
=================
جزاء الكافر في الآخرة والدنيا (1):
6 - جزاء الكافر في الآخرة الخلود في النّار لقول اللّه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12651)(2/145)
وأمّا في الدنيا فيختلف حكم الكافر في حالة العهد عنه في غير حالة العهد : ففي غير حالة العهد يجوز قتل المقاتلين من الكفّار , لأنّ كلّ من يقاتل يجوز قتله . ( ر : أهل الحرب ف 11 ) .
ولا يجوز قتل النّساء والصّبيان والمجانين والخنثى المشكل باتّفاق الفقهاء , وكذلك لا يجوز قتل الشيوخ عند جمهور الفقهاء .
وصرّح الحنابلة بأنّ الفلاح الّذي لا يقاتل لا ينبغي أنّ يقتل لما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه قال : اتّقوا اللّه في الفلاحين الّذين لا ينصبون لكم الحرب .
وقال الأوزاعي : لا يقتل الحرّاث إذا علم أنّه ليس من المقاتلة .( ر : جهاد ف 29 ) .
وأمّا في حالة العهد فيعصم دم الكافر وماله بتفصيل في مصطلحات : ( أهل الذّمّة , مستأمن , هدنة ) .
=================
نكاح المسلم كافرةً ونكاح الكافر مسلمةً (1):
21 - يحرم على المسلم أن يتزوّج ممّن لا كتاب لها من الكفّار لقول اللّه تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } وهذا باتّفاق .
قال ابن قدامة : لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم .
والعلّة في تحريم نكاح المشركات كما يقول الكاساني : إنّ ازدواج الكافرة والمخالطة معها مع قيام العداوة الدّينيّة لا يحصل السكن والمودّة الّتي هي قوام مقاصد النّكاح .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12662)(2/146)
22 - ويجوز للمسلم زواج الحرائر من نساء أهل الكتاب وهم اليهود والنّصارى لقول اللّه تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } , ولأنّ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم تزوّجوا من أهل الذّمّة فتزوّج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبيّة وهي نصرانيّة وأسلمت عنده , وتزوّج حذيفة رضي الله تعالى عنه بيهوديّة من أهل المدائن . وإنّما جاز نكاح الكتابيّة لرجاء إسلامها , لأنّها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة . ومع الحكم بجواز نكاح الكتابيّة , فإنّه يكره الزّواج منها , لأنّه لا يؤمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدّين , أو يتولّى أهل دينها , فإن كانت حربيّةً فالكراهية أشد , لأنّه لا تؤمن الفتنة أيضاً , ولأنّه يكثر سواد أهل الحرب , ولأنّه لا يؤمن أن يسبى ولده منها فيسترق .
وقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه للّذين تزوّجوا من نساء أهل الكتاب : طلّقوهنّ فطلّقوهنّ إلا حذيفة رضي الله عنه ، فقال له عمر : طلّقها قال : تشهد أنّها حرام ؟ قال : هي خمرة طلّقها ، قال : تشهد أنّها حرام ؟ قال : هي خمرة ، قال : قد علمت أنّها خمرة ولكنّها لي حلال ، فلمّا كان بعد طلّقها ، فقيل له : ألا طلّقتها حين أمرك عمر ؟ قال : كرهت أن يرى النّاس أنّي ركبت أمراً لا ينبغي لي .
وقد كره ذلك أيضاً مالك لأنّها تتغذّى بالخمر والخنزير , وتغذّي ولده بهما , وهو يقبّلها ويضاجعها وليس له منعها من ذلك التّغذّي , ولو تضرّر برائحته , ولا من الذّهاب للكنيسة , وقد تموت وهي حامل فتدفن في مقبرة الكفّار وهي حفرة من حفر النّار .(2/147)
23 - ولا يجوز للكافر أنّ يتزوّج مسلمةً لقول اللّه تعالى : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ } , ولأنّ في نكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر , لأنّ الزّوج يدعوها إلى دينه , والنّساء في العادات يتبعن الرّجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلّدنهم في الدّين , وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في آخر الآية بقوله عزّ وجلّ : { أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } لأنّهم يدعون المؤمنات إلى الكفر , والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النّار , لأنّ الكفر يوجب النّار , فكان نكاح الكافر المسلمة سبباً داعياً إلى الحرام فكان حراماً , والنّص وإن ورد في المشركين لكن العلّة وهي الدعاء إلى النّار تعم الكفرة أجمع , فيعم الحكم بعموم العلّة .
24 - واختلف الفقهاء في زواج المسلم من المجوسيّة باعتبار شبهها بأهل الكتاب .
كما اختلفوا في الزّواج من السّامرة والصّابئة .
واختلفوا فيما إذا كان أحد أبويّ الكافرة كتابياً والآخر وثنياً .
وكذلك فيما إذا تزوّج كتابيّةً فانتقلت إلى دينٍ آخر من أهل الكتاب , أو من غير أهل الكتاب . وينظر تفصيل ذلك في : ( نكاح ) .
===============
رابعاً : المستحق للإطعام (1):
80 - اشترط الفقهاء في المحلّ المنصرف إليه الطّعام شروطاً منها :
أ - أن لا يكون من تصرف إليه الكفّارة ممّن يلزم المكفّر نفقته , كالأصول والفروع , لأنّ القصد إشعار المكفّر بألمٍ حين يخرج جزءاً من ماله كفّارةً عن الذّنب الّذي ارتكبه , وهذا المعنى لا يتحقّق إذا أطعم من تلزمه نفقته .
ب - أن يكونوا مسلمين , فلا يجوز عند الجمهور إطعام الكافر من الكفّارات ذمّياً كان أو حربياً , وأجاز أبو حنيفة ومحمّد إعطاء فقراء أهل الذّمّة من الكفّارات , لعموم قوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } , من غير تفرقةٍ بين المؤمن وغيره .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12743)(2/148)
ج - أن لا يكون هاشمياً , لأنّ اللّه تعالى جعل لهم ما يكفيهم من خمس الغنائم .
ما يشترط في التّكفير بالكسوة :
81 - اشترط الفقهاء للتّكفير بالكسوة شروطاً مجملها - على اختلافهم في بعضها - ما يلي :
أ - أن تكون الكسوة على سبيل التّمليك .
ب - أن تكون الكسوة بحيث يمكن الانتفاع بها , فلو كان الثّوب قديماً أو جديداً رقيقاً لا ينتفع به فإنّه لا يجزئ .
ج - أن تكون ممّا يسمّى كسوةً , فتجزئ الملاءة والجبّة والقميص ونحو ذلك , ولا تجزئ العمامة ولا السّراويل على الصّحيح عند الحنفيّة , وكذلك المالكيّة والحنابلة , لأنّ لابسها لا يسمّى مكتسياً عرفاً بل يسمّى عرياناً خلافاً للشّافعيّة الّذين أجازوا الكسوة بالعمامة والسّراويل , لأنّه يقع عليها اسم الكسوة .
د - أن يعطى للمرأة ثوباً ساتراً وخماراً يجزئها أن تصلّي فيه .
================
ب - كنوز الجاهليّة (1):
5 - يطلق اصطلاح كنوز الجاهليّة على ما ينتسب إلى ما قبل ظهور الإسلام , سواء انتسب إلى قومٍ أهل جهلٍ لا يعرفون شيئاً عن الدّين ممّن عاشوا في فترات الرسل , أو انتسب إلى قومٍ من اليهود أو النّصارى , ويتقيّد هذا النّوع من الكنوز بمقتضى هذا الوصف بكونه دفين غير مسلمٍ ولا ذمّيٍّ .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12790)(2/149)
وعلى الرّغم من إشارة أكثر الفقهاء إلى هذا النّوع من الكنوز بأنّه دفين الجاهليّة فإنّ هذا لا يعني اشتراط كونه مدفوناً في باطن الأرض لترتب الأحكام الفقهيّة الخاصّة به , إذ يذكر أكثر الشرّاح فيما نصّ عليه الدسوقي أنّ ما وجد فوق الأرض من أموالهم فهو ركاز , وأنّ التّقييد بالدّفن لأنّه شأن الجاهليّة في الغالب , ومع ذلك فقد ذكر بعض العلماء اشتراط الدّفن لاعتباره من الرّكاز حقيقةً , ولكن غير المدفون من الأموال يلتحق بالمدفون قياساً عليه , يدل على هذا الرّأي ما جاء في حاشية الدسوقيّ : أنّ غير المدفون ليس بركازٍ وإن كان فيه الخمس قياساً عليه .
وقال الشّافعيّة : لا بدّ أن يكون الموجود مدفوناً , فلو وجده ظاهراً وعلم أنّ السّيل أو السّبع أو نحو ذلك أظهره فركاز , أو علم أنّه كان ظاهراً فلقطة , فإن شكّ كان لقطةً كما لو تردّد في كونه ضرب الجاهليّة أو الإسلام , قاله الماورديّ .
وقد ورد في سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى هذا النّوع من الكنوز بهذا الاصطلاح الّذي اتّبعه الفقهاء فيما بعد , فعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص : « أنّ رجلاً من مزينة سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه الكنز نجده في الخرب وفي الآرام ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فيه وفي الرّكاز الخمس » .
والضّابط في التحاق ما يكتشف من الأموال بكنوز الجاهليّة أن يعلم أنّها من دفنهم , ولم تدخل في ملك أحدٍ من المسلمين ولا من أهل الذّمّة , وإنّما يظن ذلك ظناً غالباً بأن تكون عليه علاماتهم أو نقوشهم أو أي شيءٍ آخر يدل عليهم , جاء في المغني اعتبار الكنز دفناً جاهلياً بأن ترى عليه علاماتهم كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم وصور أصنامهم ونحو ذلك .
ومن هذه العلامات فيما نصّ عليه البعض أن يوجد في قبورهم , أو أن يوجد في قلاعهم وخرائبهم .(2/150)
وحكم هذا الكنز وجوب الخمس فيه باتّفاق الفقهاء إذا توافرت شروطه للنّصّ على هذا الوجوب .
ج - الكنز المشتبه الأصل :
6 - وهو النّوع الثّالث من الكنوز فهي الّتي لا نعرف حقيقتها , بأن لا يوجد عليها أثر مطلقاً كتبرٍ وآنيةٍ وحليٍّ , أو كان عليها أثر لا يكشف عن أصلها , كما إذا كانت نقداً يضرب مثله في الجاهليّة والإسلام .
وإنّما يصدق هذا إذا لم يمكن معرفة حقيقة الكنز من المكان الّذي وجد فيه , كما إذا وجد في قريةٍ لم يسكنها مسلم فإنّه يعد جاهلياً , وإذا كان المسلمون هم الّذين اختطوها ولم يسكنها جاهلي فإنّ الموجود يعد كنزًا إسلامياً .
واختلف الفقهاء في حكم هذا الكنز , فألحقه الحنفيّة في ظاهر المذهب والمالكيّة والحنابلة وهو قول عند الشّافعيّة بكنوز الجاهليّة فيعطى حكم الرّكاز .
وألحقه بعض الحنفيّة والشّافعيّة في الأصحّ بالكنوز الإسلاميّة فيعطى حكم اللقطة .
ثانياً : تقسيم الكنز الجاهليّ بالنّظر إلى الدّار الّتي وجد فيها :
يفرّق الفقهاء بين الكنز الّذي يجده الواجد في دار الإسلام , وبين ذلك الّذي يوجد في دار الحرب , وفيما يلي بيان هذا التّقسيم .
النّوع الأوّل : الكنز الّذي يوجد في دار الإسلام :
7 - تختلف أحكام الكنوز الّتي توجد في دار الإسلام تبعاً لاختلاف ملكيّة الأرض الّتي وجدت فيها وسبيل هذه الملكيّة , ويختلف النّظر الفقهي إلى ما يوجد من هذه الكنوز في أرضٍ لا مالك لها , أو في طريقٍ غير مسلوكٍ , أو في أرضٍ ملكها صاحبها بشراءٍ أو بميراثٍ , أو في أرضٍ ملكها صاحبها بالإحياء , على التّفصيل التّالي بين هذه الأنواع :(2/151)
أ - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الكنز الجاهليّ الّذي يوجد في مواتٍ أو في أرضٍ لا يعلم لها مالك مثل الأرض الّتي توجد فيها آثار الملك كالأبنية القديمة والتلول وجدران الجاهليّة وقبورهم ، فهذا فيه الخمس ولو وجده في هذه الأرض على وجهها أو في طريقٍ غير مسلوكٍ أو في قريةٍ خرابٍ فهو كذلك في الحكم , لما روى عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال : ما كان في طريقٍ مأتيٍّ أو في قريةٍ عامرةٍ فعرّفها سنةً ، فإن جاء صاحبها وإلا فلك ، وما لم يكن في طريقٍ مأتيٍّ ولا في قريةٍ عامرةٍ ففيه وفي الرّكاز الخمس » .
ومنه كذلك ما يوجد في بلاد الإسلام في أرضٍ غير مملوكةٍ لأحدٍ كالجبال والمفاوز .
وقال الشّافعيّة : يملك الواجد الرّكاز وتلزمه الزّكاة فيه إذا وجده في مواتٍ أو في خرائب أهل الجاهليّة أو قلاعهم أو قبورهم .
ب - وأمّا ما يوجد من الكنوز في أرضٍ أو دارٍ يملكها الواجد نفسه بشراءٍ أو ميراثٍ أو هبةٍ فالاتّفاق على وجوب الخمس باعتباره كان مال الكفرة استولى عليه على طريق القهر فيخمّس .
وأمّا الأربعة الأخماس الباقية فهي لصاحب الخطّة عند أبي حنيفة ومحمّدٍ إن كان حياً , وإن كان ميّتًا فلورثته إن عرفوا , وإن كان لا يعرف صاحب الخطّة ولا ورثته تكون لأقصى مالكٍ للأرض أو لورثته .
وقال أبو يوسف : أربعة أخماسه للواجد .(2/152)
وذهب أبو حنيفة ومحمّد إلى أنّ ملكيّة الأخماس الأربعة في الكنز الموجود في أرضٍ مملوكةٍ للواجد أو غيره ليست للواجد ولا لمالك الأرض , وإنّما يرجع هذا الملك إلى المختطّ له الأوّل الّذي انتقلت إليه ملكيّة الأرض بما فيها بعد تقسيم الإمام لها عقب فتحها على أيدي الجيش المسلم , ويعرّف المرغيناني المختطّ له بأنّه هو الّذي ملّكه الإمام هذه البقعة أوّل الفتح , ويعقّب الكمال على هذا بقوله : لا نقول إنّ الإمام يملّك المختطّ له الكنز بالقسمة , بل يملّكه البقعة ويقرّر يده فيها ويقطع مزاحمة سائر الغانمين فيها , وإذا صار مستولياً عليها أقوى الاستيلاءات , وهو بيد خصوص الملك السّابقة فيملك بها ما في الباطن من المال المباح , للاتّفاق على أنّ الغانمين لم يعتبر لهم ملك في هذا الكنز بعد الاختطاط , وإلا لوجب صرفه إليهم أو إلى ذراريّهم , فإن لم يعرفوا وضع في بيت المال واللازم منتفٍ , ثمّ إذا ملكه - أي الكنز - لم يصر مباحاً فلا يدخل في بيع الأرض , فلا يملكه مشتري الأرض كالدرّة في بطن السّمكة يملكها الصّائد لسبق يد الخصوص إلى السّمكة حال إباحتها , ثمّ لا يملكها مشتري السّمكة لانتفاء الإباحة , وما ذكر في السّمكة من الإطلاق ظاهر الرّواية .
أمّا إن لم يعرف هذا المختط له ولا ورثته فإنّما يستحق الكنز أقصى مالكٍ يعرف في الإسلام , وهو اختيار السّرخسيّ , خلافاً لأبي اليسر البزدويّ الّذي اختار استحقاق بيت المال للكنز , يقول السّرخسي : إن كان المختط له باقياً أو وارثه دفع إليه , وإلا فهو لأقصى مالكٍ يعرف لهذه البقعة في الإسلام , وهذا قول أبي حنيفة ومحمّدٍ , ولعلّ أبا اليسر قد نظر إلى تعذر التّعرف على المختطّ له في عصره فأوجب ملك الأربعة الأخماس لبيت المال .(2/153)
وقال المالكيّة : إن ملّكت الأرض بإرثٍ فأربعة الأخماس الباقية لمالكها , وإن ملّكت بشراءٍ أو هبةٍ فهي للبائع الأصليّ أو الواهب إن علم وإلا فلقطة , وقيل لمالكها في الحال .
وقالوا : إنّ ملك ما يوجد من الكنوز في أرضٍ مملوكةٍ بشراءٍ أو ما يشبهه يختص بمالك تلك الأرض حكماً وهو الجيش الّذي فتحها عنه , فيدفع الباقي لمن وجد منهم , فإن لم يوجد الجيش فلوارثه إن وجد , فإن انقرض الوارث فقال سحنون : إنّه لقطة فيجوز التّصدق به عن أربابه ويُعمل فيه ما يعمل في اللقطة , وقال بعضهم : إذا انقرض الوارث حلّ محلّه بيت المال من أوّل الأمر , لأنّه مال جهلت أربابه , وهذا هو المعتمد وهو ما مشى عليه الشّارح , وكان مالك يقول : كل كنزٍ وجد من دفن الجاهليّة في بلاد قومٍ صالحوا عليها فأراه لأهل تلك الدّار الّذين صالحوا عليها , وليس هو لمن أصابه , وما أصيب في أرض العتق فأراه لجماعة مسلمي أهل تلك البلاد الّذين افتتحوها , وليس هو لمن أصابه دونهم , لأنّ ما في داخلها بمنزلة ما في خارجها فهو لجميع أهل تلك البلاد , ويخمّس .
وقال الشّافعيّة : إذا كان الرّكاز في أرضٍ انتقلت إلى واجده من غيره لم يحلّ للواجد أخذه , بل يلزمه عرضه على من ملك الأرض عنه , ثمّ الّذي قبله إن لم يدعه , ثمّ هكذا حتّى ينتهي إلى المحيي .
وذهب الحنابلة في الأصحّ إلى أنّ الأربعة الأخماس لواجدها لأنّها مال كافرٍ مظهورٍ عليه في الإسلام , فكان لمن ظهر عليه كالغنائم , وهذا قد ظهر عليه فوجب أن يملكه , وفي روايةٍ ثانيةٍ للحنابلة هي للمالك قبله إن اعترف به , وإن لم يعترف به فهي للّذي قبله كذلك إلى أوّل مالكٍ , فإن لم يعرف له أوّل مالكٍ فهو كالمال الضّائع الّذي لا يعرف له مالك .
ج - ما يوجد من الكنز في بلاد الإسلام في أرضٍ ملكها صاحبها بالإحياء فيخمّس ما يوجد , ويستحق المحيي الأخماس الأربعة الباقية .(2/154)
ونصّ الحنابلة على أنّ الكنز للواجد إن وجده في أرضٍ ملكها بالإحياء أو انتقلت إليه بميراثٍ أو بيعٍ أو غير ذلك .
د - ما يوجد من الكنز في بلاد الإسلام في أرضٍ موقوفةٍ فالكنز لمن في يده الأرض , كذا ذكره البغوي
النّوع الثّاني : الكنوز الّتي يجدها المسلم أو الذّمّي في دار الحرب :
8 - فصّل الفقهاء أنواع ما يجده المسلم أو الذّمّي من كنوزٍ في دار الحرب على النّحو التّالي :
فقال المالكيّة والحنابلة : هو كموات دار الإسلام فيه الخمس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « وفي الرّكاز الخمس » .
وقال الحنفيّة : إذا وجد الكنز في أرضٍ ليست بمملوكةٍ لأحدٍ في دار الحرب فهو للواجد , ولا يخمّس , لأنّه مال أخذه لا عن طريق القهر والغلبة لانعدام غلبة أهل الإسلام على ذلك الموضع فلم يكن غنيمةً , ولا خمس فيه , ويكون الكل له , لأنّه مباح استولى عليه بنفسه فيملكه كالحطب والحشيش , وسواء دخل بأمانٍ أو بغير أمانٍ , لأنّ حكم الأمان يظهر في المملوك لا في المباح .
وفصّل الشّافعيّة فقالوا : إذا وجده في دار الحرب في مواتٍ لا يذبون عنه فهو كموات دار الإسلام فيه الخمس , لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « وفي الرّكاز الخمس » .
وإن وجده في مواتٍ في دار الحرب يذبون عنه ذبّهم عن العمران فالصّحيح أنّه ركاز كالّذي لا يذبون عنه لعموم الحديث .
9 - أمّا إن وجد الكنز في أرضٍ مملوكةٍ لأهل هذه الدّار فيفرّق الفقهاء بين حالين :
أوّلهما : أن يدخل بأمانٍ فلا يحل له أخذ الكنز لا بقتالٍ ولا غيره , وليس له خيانتهم في أمتعتهم , فإن أخذه لزمه رده , قال الحنفيّة : ويرده إلى صاحب الأرض , وإلا ملكه ملكاً خبيثاً , لتمكن خبث الخيانة فيه فسبيله التّصدق به , ولو باعه يجوز بيعه لكن لا يطيب للمشتري , بخلاف بيع المشترى شراءً فاسداً , ويعد سارقاً إن أخذه خفيةً , ومختلساً إن أخذه جهاراً .(2/155)
والثّاني : أن يكون قد دخل بغير أمانٍ فيحل للواجد أن يأخذ ما يظفر به من كنوزهم ولا شيء فيه عند الحنفيّة إن كان أخذه بغير قتالٍ , أمّا إن كان أخذه على سبيل القهر والغلبة بقتالٍ وحربٍ كما لو دخل جماعة ممتنعون في دار الحرب فظفروا بشيءٍ من كنوزهم يجب فيه الخمس ، لكونه غنيمةً لحصول الأخذ عن طريق القهر والغلبة .
وقال الشّافعيّة : إن وجد في موضعٍ مملوكٍ لهم نظر : إن أخذ بقهرٍ وقتالٍ فهو غنيمة كأخذ أموالهم ونقودهم من بيوتهم فيكون خمسه لأهل خمس الغنيمة وأربعة أخماسه لواجده , وإذا أخذ بغير قتالٍ ولا قهرٍ فهو فيء ومستحقه أهل الفيء , كذا ذكره إمام الحرمين .
ملكيّة الكنز :
تناول الفقهاء أحكام ملكيّة الكنز من حيث طبيعة ملكيّة الخمس وسبب ملكيّة الأربعة أخماس الباقية والعلاقة بين ملكيّة الأرض وملكيّة الكنوز الّتي توجد فيها .
أ - ملكيّة الخمس :
10 - يميّز فقهاء الحنفيّة بين نوعين من الحقوق :
أوّلهما : الحقوق المتعلّقة بذمّة أحدٍ من العباد , كدين القرض في ذمّة المقترض , والثّمن في ذمّة المشتري , والأجرة في ذمّة المستأجر , وقيمة المغصوب أو مثله في ذمّة الغاصب , والمهر والنّفقة في ذمّة الزّوج .
الثّاني : الحقوق القائمة بنفسها المتعلّقة بالأشياء ذاتها لا في ذمّة أحدٍ , وهي الّتي عرّفها صدر الشّريعة بأنّها حقوق قائمة بنفسها لا تجب في ذمّة أحدٍ كخمس الغنائم والمعادن , فالخمس فيهما مفروض على عين الغنائم والمعادن قبل الاستيلاء أو الكشف , دون نظرٍ إلى شخص الغانم أو الواجد للمعدن . وقد نصّ الحنفيّة على أنّ الخمس للفقراء , والواجد منهم , والأربعة الأخماس للواجد إذا لم تبلغ مائتي درهمٍ , فإن بلغت لم يجز له الأخذ من الخمس .
قال السّرخسي : من أصاب كنزاً أو معدناً وسعه أن يتصدّق بخمسه على المساكين , فإذا اطلع الإمام على ذلك أمضى له ما صنع , لأنّ الخمس حق الفقراء وقد أوصله إلى مستحقّه .(2/156)
وقال الكاساني : يجوز دفع الخمس إلى الوالدين والمولودين إذا كانوا فقراء بخلاف الزّكاة والعشر , ويجوز للواجد أن يصرفه في مصالحه إذا كان محتاجاً ولا تغنيه الأربعة الأخماس الباقية بأن كانت تقل عن المائتين , أمّا إذا بلغت الأخماس الأربعة المائتين فليس للواجد الأخذ من الخمس لغناه , ولا يقال ينبغي ألا يجب الخمس مع الفقر كاللقطة , لأنّا نقول إنّ النّصّ عام فيتناوله .
وقال المالكيّة : خمس الرّكاز مصرفه ليس كمصرف الزّكاة وإنّما هو كخمس الغنائم يحل للأغنياء وغيرهم , ويجب الخمس في الرّكاز ولو كان الواجد عبداً أو كافراً أو صبياً أو مديناً , وإن احتاج إلى كبير عملٍ في تخليصه وإخراجه من الأرض ففيه الزّكاة ربع العشر , ولا يشترط لوجوب الزّكاة بلوغ النّصاب ولا غيره من شروط الزّكاة .
وقال الشّافعيّة : في الرّكاز الخمس يصرف مصرف الزّكاة على المشهور , لأنّه حق واجب في المستفاد من الأرض , فأشبه الواجب في الزّرع والثّمار , ولا بدّ أن يكون الواجد أهلاً للزّكاة .
والثّاني : أنّه يصرف لأهل الخمس , لأنّه مال جاهلي حصل الظّفر به من غير إيجاف خيلٍ ولا ركابٍ , فكان كالفيء , وعليه فيجب على المكاتب والكافر من غير احتياجٍ لنيّةٍ . وشرطه النّصاب - ولو بالضّمّ - والنّقد أي الذّهب والفضّة وإن لم يكن مضروباً على المذهب , لأنّه مال مستفاد من الأرض فاختصّ بما تجب فيه الزّكاة قدراً ونوعاً كالمعدن . والثّاني : لا يشترطان للخبر المارّ , ولا يشترط الحول بلا خلافٍ .
والمذهب عند الحنابلة : أنّ الخمس يكون مصرفه مصرف الفيء , اختاره ابن أبي موسى والقاضي وابن عقيلٍ , ويجب الخمس على كلّ من وجده من مسلمٍ وذمّيٍّ وحرٍّ وعبدٍ ومكاتبٍ وكبيرٍ وصغيرٍ وعاقلٍ ومجنونٍ , إلا أنّ الواجد له إذا كان عبداً فهو لسيّده , وإن كان صبياً أو مجنوناً فهو لهما ويخرج عنهما وليهما .(2/157)
وفي روايةٍ عن أحمد : أنّه زكاة , جزم به الخرقي , وإن تصدّق به على المساكين أجزأه لأنّ عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أمر صاحب الكنز أن يتصدّق به على المساكين . وإذا كان الخمس زكاةً فلا تجب على من ليس من أهلها .
ب - ملكيّة الأخماس الأربعة :
11 - يملك واجد الكنز ما يبقى منه بعد صرف الخمس بالشروط التّالية :
أوّلاً : أن يكون الواجد مسلماً أو ذمّياً , فإن كان حربياً اشترط سبق إذن الإمام له بالعمل في التّنقيب عن الكنوز , ويتقيّد حقه في الكنز باتّفاقه مع الإمام , وقد نصّ فقهاء المذهب الحنفيّ على أنّ الحربيّ إذا عمل في المفاوز بإذن الإمام على شرطٍ فله المشروط .
ثانياً : أن يكون الكنز من دفين الجاهليّة لم يدخل في ملك مسلمٍ ولا ذمّيٍّ وإلا أخذ الكنز حكم اللقطة
ثالثاً : أن يوجد الكنز في أرضٍ غير مملوكةٍ لأحدٍ كالجبال والمفاوز والطرق المهجورة الّتي لا يأتيها المسلمون ولا أهل الذّمّة .
ونصّ الشّافعيّة على أنّ الواجد يملك الرّكاز , لأنّه كسب له فيملكه بالاكتساب , وإذا ملكه وجبت الزّكاة فيه وهي الخمس لأنّه من أهلها .
ج - ملكيّة الكنز الموجود في أرضٍ مملوكةٍ لغير معيّنٍ :(2/158)
12 - قال الحنفيّة : إذا وجد الكنز في أرضٍ مملوكةٍ فإمّا أن تكون مملوكةً لغير معيّنٍ أو مملوكةً لمعيّنٍ , والأراضي المملوكة لغير معيّنٍ هي الّتي آلت إلى المسلمين بلا قتالٍ ولا إيجاف خيلٍ ولا ركابٍ , وكذا الّتي آلت إلى بيت المال لموت المالك من غير وارثٍ , كما صرّح به بعض الفقهاء فيما يتعلّق بأراضي مصر , وتنتقل ملكيّة هذا النّوع من الأرضين إلى بيت المال وتصير أملاك دولةٍ , فيملكها جميع المسلمين , واعتبرها بعض الفقهاء وقفاً , وحكم ما يوجد من كنزٍ في هذا النّوع من الأراضي أن يذهب خمسه لبيت المال أمّا الباقي وهو الأربعة الأخماس فالقياس أن يذهب إلى الواجد على مذهب أبي يوسف والحنابلة , أو إلى المختطّ له الأوّل إن عرف , وإلا فلبيت المال أو للجيش وورثته عند القائلين به حسبما يأتي تفصيله , وفي هذا يذكر ابن عابدين أنّه لم ير حكم ما وجد في أرضٍ مملوكةٍ لغير معيّنٍ , ثمّ يقول : والّذي يظهر لي أنّ الكلّ لبيت المال , أمّا الخمس فظاهر , وأمّا الباقي فلوجود المالك - وهو جميع المسلمين - فيأخذه وكيلهم وهو السلطان. وهو مذهب المالكيّة بناءً على أصلهم في صرف الباقي بعد الخمس أو دفع نسبة الزّكاة إلى مالك الأرض , ويفسّر الخرشي هذا الأصل بقوله : باقي الرّكاز سواء وجب فيه الخمس أو الزّكاة , وهو الأربعة الأخماس في الأوّل والباقي بعد ربع العشر في الثّاني لمالك الأرض , وأراد بالمالك حقيقةً أو حكماً , بدليل قوله : ولو جيشًا , فإنّ الأرض لا تملّك للجيش , لأنّها بمجرّد الاستيلاء تصير وقفاً , فإن لم يوجد فهو مال جهلت أربابه , قال مطرّف وابن الماجشون وابن نافعٍ : لواجده , وحكى ابن شاسٍ عن سحنونٍ أنّه كاللقطة , ومفاده أنّ الأربعة الأخماس تذهب إلى مالك الأرض , سواء كان معيّناً أو غير معيّنٍ .
ملكيّة الكنوز الإسلاميّة :(2/159)
13 - تأخذ هذه الكنوز حكم اللقطة في المذاهب المختلفة , لأنّها مال مسلمٍ لا يعرف على التّعيين , من حيث وجوب الالتقاط , والتّعريف ومدّته والتّملك والانتفاع بها , وضمانها بعد التّصدق , وما إلى ذلك . ( ر : لقطة ) .
مسائل فقهيّة خاصّة بالكنز :
أ - حكم التّنقيب عن الكنوز :
14 - بحث الفقهاء المسلمون حكم التّنقيب عن الكنوز ولم يروا حرمته فيما نصوا عليه , لإيجاب الشّريعة الخمس فيما خرج منها , ممّا يدل بوجه الاقتضاء على حلّ استخراجه وجواز البحث عنه , وما روي عنهم من الكراهة أو الحرمة فإنّما هو لمعنىً آخر , من ذلك أنّ مالكاً قد كره الحفر في القبور ولو كانت لموتى الجاهليّة تعظيماً لحرمة الموت , ففي المدوّنة : قال مالك : أكره حفر قبور الجاهليّة والطّلب فيها ولست أراه حراماً , فما نيل فيها من أموال الجاهليّة ففيه الخمس , وذلك - كما جاء في حاشية الدسوقيّ - لإخلاله بالمروءة , وخوف مصادفة قبر صالحٍ من نبيٍّ أو وليٍّ , واعلم أنّ مثل قبر الجاهليّ في كراهة الحفر لأجل أخذ ما فيه من المال قبر من لا يعرف هل هو من المسلمين أو الكفّار , وكذا قبور أهل الذّمّة , أي الكفّار تحقيقاً , وأمّا نبش قبور المسلمين فحرام , وحكم ما وجد فيها حكم اللقطة , وقد خالف أشهب في هذا , ورأى جواز نبش قبر الجاهليّ وأخذ ما فيه من مالٍ وعرضٍ , وفيه الخمس , وهو مذهب الأحناف , فعندهم أنّه لا بأس بنبش قبور الكفّار طلباً للمال .(2/160)
ولا يشترط إذن الإمام في التّنقيب عن الكنوز والمعادن ليأخذ الواجد حقّه عند الأحناف , ففي السّير : أنّه إن أصاب الذّمّي أو العبد أو المكاتب أو الصّبي أو المرأة معدناً في دار الإسلام أو ركازاً خمّس ما أصاب , وكانت البقيّة لمن أصابه , إن كان ذلك بغير إذن الإمام , لأنّ هؤلاء يثبت لهم في الغنيمة حق وإن أصابوها بغير إذن الإمام , فإنّهم لو غزوا مع عسكرٍ من المسلمين بغير إذن الإمام رضخ لهم من الغنيمة , فكذلك ثبت لهم حق فيما أصابوا في دار الإسلام .(2/161)
ولو أذن الإمام لأحدٍ في استخراج المعادن أو الكنوز على شرطٍ لزم هذا الشّرط , فكل شيءٍ قدّره الإمام صار كالّذي ظهر تقديره بالشّريعة , فيما لا يصادم نصاً ولا أصلاً من الأصول الشّرعيّة , ولذا لا يجوز للإمام الاتّفاق على إسقاط شيءٍ من الخمس الّذي أوجبه الشّارع لحظّ الفقراء , فلو أنّ مسلماً حراً أو عبداً أو مكاتباً أو امرأةً أذن له الإمام في طلب الكنوز والمعادن من الذّهب والفضّة وغير ذلك على أنّ ما أصاب من ذلك فهو له لا خمس فيه فأصاب مالاً كثيراً من المعادن فليس ينبغي للإمام أن يسلّم ذلك له إن كان موسراً , لأنّ ما يصاب من الرّكاز والمعدن هو غنيمة , والخمس حق الفقراء في الغنيمة , ولا يجوز له أن يبطل حقّ الفقراء , فإن كان الّذي أصابه محتاجاً عليه دين كثير لا يصير غنياً بالأربعة الأخماس فرأى الإمام أن يسلّم ذلك الخمس له جاز , لأنّ الخمس حق الفقراء , هذا الّذي أصابه فقير , فقد صرف الحقّ إلى مستحقّه فيجوز , والدّليل عليه ما روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال لذلك الرّجل الّذي أصاب الرّكاز : إن وجدتها في أرضٍ خربةٍ فالخمس لنا وأربعة أخماسه لك ، ثمّ قال : وسنتمها لك , وإنّما قال ذلك لأنّه رآه أهلاً للصّدقة , ولو اشترط الزّيادة على الخمس لم يجز هذا الشّرط , ففي السّير الكبير أنّ الإمام إذا أذن لمسلمٍ أو ذمّيٍّ في طلب الكنوز والمعادن على أنّ له النّصف وللمسلمين النّصف فأصاب كنزاً أو أموالاً من المعادن , فإنّ الإمام يأخذ منه الخمس وما بقي فهو لمن أصابه , وهذا لأنّ استحقاقه بالإصابة لا بالشّرط , ولذا لا يعتبر الشّرط .
احتفار الذّمّيّ والمستأمن للكنوز :(2/162)
15 - الذّمّي كالمسلم في إيجاب الخمس وفي عدم اشتراط إذن الإمام لاستحقاق الملك . يقول الشّيباني : وما أصاب الذّمّي من ركازٍ في دار الإسلام أو معدنٍ ذهبٍ أو فضّةٍ أو رصاصٍ أو زئبقٍ فهو والمسلم فيه سواء , يخمّس ما أصاب وما بقي فهو له , سواء كان بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام , لأنّه من أهل دارنا ويجري عليه حكمنا فكان بمنزلة المسلم أمّا الحربي المستأمن فقال الشّيباني : إذا دخل الحربي دار الإسلام بأمانٍ فأصاب ركازاً أو معدناً , فاستخرج منه ذهباً أو ورقاً أو حديداً فإنّ إمام المسلمين يأخذه منه كلّه , ولا يكون له شيء , لأنّ هذا غنيمة , فإنّ المسلمين أوجفوا عليها الخيل , ألا ترى أنّ المسلم لو كان هو الّذي أصاب يخمّس والباقي له , ولو لم يكن غنيمةً لكان لا خمس فيه , والحربي لا حقّ له في غنائم المسلمين , فإن كان الحربي المستأمن استأذن إمام المسلمين في طلب ذلك والعمل فيه حتّى يستخرجه فأذن له في ذلك , فعمل فأصاب شيئاً خمّس ما أصاب وكان ما بقي للحربيّ المستأمن , لأنّ الحربيّ المستأمن لو قاتل المشركين بإذن الإمام صار له في الغنيمة نصيب , حتّى أنّه يرضخ له كما يرضخ للذّمّيّ .
وقال : لو أنّ الحربيّ المستأمن استأذن الإمام في طلب الكنوز والمعادن , فأذن له الإمام على أنّ للمسلمين ممّا يصيب النّصف وله النّصف , فعمل على هذا فأصاب ركازاً معدناً فإنّ الإمام يأخذ نصف ما أصاب والحربي نصفه , وذلك لأنّ الحربيّ المستأمن إنّما يستحق من الرّكاز الّذي أصابه في دار الإسلام ما استحقه بشرط إذن الإمام , فإنّه لو أصابه بعد إذن الإمام أخذ منه , وإذا كان استحقاقه بالشّرط ، والإمام شرط له النّصف فلا يستحق أكثر من النّصف .
ثمّ الإمام يأخذ خمس ما أصاب الحربي من النّصف الّذي أخذه من الحربيّ فيجعله للفقراء , ويجعل النّصف للمقاتلة , وذلك لأنّ إذن الإمام يصيّر ما أصابه الحربي غنيمةً يجب فيها الخمس .(2/163)
لحوق الذّمّيّ بدار الحرب :
11 - ينتقض عهد الذّمّة بلحوق الذّمّيّ بدار الحرب , لأنّه صار بلحوقه دار الحرب حرباً علينا , فيخلو عقد الذّمّة عن الفائدة , وهو دفع شرّه عنّا . ( ر : أهل الذّمّة ف 42 ) .
===============
ز - النّهي عن ألفاظٍ معيّنةٍ (1):
13 - ورد النّهي عن بعض الألفاظ لمقاصد شرعيّةٍ كقوله تعالى : { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا }
ومن ذلك النّهي عن تسمية العنب بالكرمة , وصلاة المغرب بالعتمة ، والنّهي عن ألفاظ سلام الجاهليّة عم صباحاً ومساءً , والنّهي عن ابتداء أهل الذّمّة بألفاظ السّلام الخاصّة بالمؤمنين ، ونحو ذلك . وتنظر تفصيلات ذلك في مصطلحاتها .
================
الحكم بإسلام اللّقيط أو كفره (2):
10 - اختلف الفقهاء في الأصل الّذي يحكم به على اللّقيط من حيث الإسلام أو الكفر , هل يكون الأصل في ذلك هو الدّار الّتي وجد فيها من حيث كونها دار إسلامٍ أو دار كفرٍ أو أنّ الأصل في ذلك هو حال الواجد من كونه مسلماً أو غير مسلمٍ ؟
فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المعتبر في ذلك هو الدّار الّتي يوجد فيها اللّقيط فإن كانت الدّار دار إسلامٍ حكم بإسلامه تبعاً للدّار الّتي وجد فيها , والدّار الّتي تعتبر دار إسلامٍ عندهم هي :
أ - دار يسكنها المسلمون ولو كان فيها أهل ذمّةٍ تغليباً للإسلام ولظاهر الدّار ولأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه .
ب - دار فتحها المسلمون وقبل ملكها أقروها بيد الكفّار صلحاً .
ج - دار فتحها المسلمون وملكوها عنوةً وأقروا أهلها عليها بجزية .
د - دار كان المسلمون يسكنونها ثمّ أجلاهم الكفّار عنها .
ففي هذه الأماكن يعتبر اللّقيط الّذي يوجد فيها مسلماً لكن بشرط أن يوجد بها مسلم يمكن أن يكون اللّقيط منه لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام .
__________
(1) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 12965)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13000)(2/164)
فإن لم يكن فيها مسلم , بل كان جميع من فيها كفّاراً فهو كافر كما إذا وجد بدار كفّارٍ لم يسكنها مسلم يحتمل إلحاقه به , فإن كانت الدّار دار كفرٍ وكان فيها مسلمون كتجّار وأسرى فأصح الوجهين عند الشّافعيّة وفي احتمالٍ للحنابلة أنّ اللّقيط فيها يعتبر مسلماً تغليباً للإسلام , وفي الوجه الثّاني عند الشّافعيّة والاحتمال الآخر للحنابلة يحكم بكفره تغليباً للدّار والأكثر .
وعند الحنفيّة لا يخلو حال اللّقيط من أمورٍ أربعةٍ :
أ - أن يجده مسلم في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في قريةٍ من قراهم , فإنّه في هذه الحالة يحكم بإسلامه حتّى لو مات يغسّل ويصلّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين .
ب - أن يجده ذمّي في بيعةٍ أو كنيسةٍ أو في قريةٍ ليس فيها مسلم فإنّه يكون ذمّياً تحكيماً للظّاهر .
ج - أن يجده مسلم في بيعةٍ أو كنيسةٍ أو في قريةٍ من قرى أهل الذّمّة فإنّه يكون ذمّياً أيضاً .
د - أن يجده ذمّي في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في قريةٍ من قراهم فإنّه يكون مسلماً . كذا ذكر في كتاب اللّقيط من الأصل واعتبر المكان , وروى ابن سماعة عن محمّدٍ أنّه اعتبر حال الواجد من كونه مسلماً أو ذمّياً , وفي كتاب الدّعوى اعتبر الإسلام إلى أيّهما نسب إلى الواجد أو إلى المكان , قال الكاساني : والصّحيح رواية هذا الكتاب - أي كتاب اللّقيط , وقد صرّح به في العناية على الهداية - لأنّ الموجود في مكانٍ هو في أيدي أهل الإسلام وتصرفهم في أيديهم , واللّقيط الّذي هو في يد المسلم وتصرفه يكون مسلماً ظاهراً , والموجود في المكان الّذي هو في أيدي أهل الذّمّة , وتصرفهم في أيديهم , واللّقيط الّذي هو في يد الذّمّيّ وتصرفه يكون ذمّياً ظاهراً فكان اعتبار المكان أولى .(2/165)
وفي بعض الرّوايات يعتبر الزّي والعلامة , جاء في فتح القدير وفي كفاية البيهقيّ : قيل يعتبر بالسّيما والزّيّ لأنّه حجّة , قال اللّه تعالى : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } , { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } .
وقال المالكيّة : إذا وجد اللّقيط في بلاد المسلمين فإنّه يحكم بإسلامه , لأنّه الأصل والغالب وسواء التقطه مسلم أو كافر , وإذا وجد في قريةٍ ليس فيها من المسلمين سوى بيتين أو ثلاثةٍ فإنّه يحكم بإسلامه أيضاً تغليباً للإسلام بشرط أن يكون الّذي التقطه مسلم , فإن التقطه ذمّي فإنّه يحكم بكفره على المشهور , ومقابل المشهور ما قاله أشهب وهو أنّه يحكم بإسلامه مطلقاً أي سواء التقطه مسلم أو كافر .
وإذا وجد في قرى الشّرك فإنّه يحكم بكفره سواء التقطه مسلم أو كافر تغليباً للدّار والحكم للغالب وهو قول ابن القاسم , وأمّا أشهب فيقول : إن التقطه مسلم فهو مسلم تغليباً لحكم الإسلام لأنّه يعلو ولا يعلى عليه .
=================
حرمة مال المسلم والذّمّيّ (1):
14 - اتّفق الفقهاء على حرمة مال المسلم والذّمّيّ , وأنّه لا يجوز غصبه ولا الاستيلاء عليه , ولا أكله بأيّ شكلٍ كان وإن كان قليلاً , لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } .
وقوله عليه الصّلاة والسّلام : « إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا » .
وقوله : « ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه حقّه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه , فأنا حجيجه يوم القيامة » .
وللتّفصيل : ( ر : أهل الذّمّة ف 20 غصب ف 7 وما بعدها ) .
=================
مَجُوس (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13107)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13244)(2/166)
1 - المجوس : فرقة من الكفرة يعبدون الشّمس والقمر والنّار .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة :أهل الذّمّة :
2 - الذّمّة : الأمان لقوله صلى الله عليه وسلم : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » .
والذّمّة أيضاً الضّمان والعهد ، وعهد الذّمّة : إقرار بعض الكفّار على كفره بشرط بذل الجزية ، وأهل الذّمّة من أهل العهد .
والمجوسي يكون من أهل الذّمّة إن عقد مع الإمام أو نائبه عقد الذّمّة .
الأحكام المتعلّقة بالمجوس :
آنية المجوسيّ :
2 - ذهب المالكيّة إلى أنّه يجب غسل آنية المجوسيّ لأنّهم يأكلون الميتة فلا يقرّب لهم طعام ، وحجّتهم حديث أبي ثعلبة الخشنيّ قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس فقال : أنقوها غسلاً واطبخوا فيها » .
ذبيحة المجوسيّ :
4 - لا يحل للمسلم أكل ذبيحة المجوسيّ عند جمهور الفقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو قول ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعليٍّ وجابرٍ وأبو بردة وسعيد بن المسيّب وعكرمة والحسن بن محمّدٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ وابن أبي ليلى وسعيد بن جبيرٍ ومرّة الهمذانيّ والزهريّ رضي الله عنهم .
واحتجوا بمفهوم قوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } لأنّ إباحة طعام أهل الكتاب للمسلمين يقتضي تحريم طعام غيرهم من الكفّار .
وما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا تؤكل ذبيحة المجوسيّ » .
وما روي عن قيس بن سكنٍ الأسديّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّكم نزلتم بفارس من النّبط ، فإذا اشتريتم لحماً ، فإن كان من يهوديٍّ أو نصرانيٍّ فكلوا ، وإن كانت ذبيحة مجوسيٍّ فلا تأكلوا » .(2/167)
وخالف أبو ثورٍ وأباح ذبيحة المجوس محتجاً بقوله صلى الله عليه وسلم : « سنوا بهم سنّة أهل الكتاب » ، ومن حيث المعقول فلأنّهم يقرون على الجزية كما يقر لأهل الكتاب فيقاسون عليهم في حلّ ذبائحهم .
صيد المجوسيّ وحده أو بالاشتراك مع المسلم :
أ - صيد المجوسيّ وحده :
5 - إذا صاد المجوسي وحده بسهمه أو كلبه فإنّ العلماء اختلفوا في حكم صيده بالنّسبة للمسلم على قولين :
القول الأوّل : ذهب عامّة أهل العلم إلى القول بتحريم صيد المجوسيّ على المسلم إذا كان الصّيد ممّا له زكاة أمّا ما ليست له زكاة كالسّمك والجراد فإنّهم قالوا : بحلّه .
القول الثّاني : ذهب أبو ثورٍ إلى حلّ صيد المجوسيّ كما قال بحلّ ذبيحته ودليله هو ما سبق في قوله في ذبيحته .
ب - صيد المجوسيّ مشتركاً مع المسلم :
6 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا اشترك مجوسي مع من هو أهل للصّيد فإنّ الصّيد حرام لا يؤكل ، وذلك لقاعدة تغليب جانب الحرمة على جانب الحلّ .
والتّفصيل في مصطلح : ( صيد - ف 40 وما بعدها ) .
نكاح المجوسيّ :
أ - زواج المسلم بالمجوسيّة :
7 - ذهب جمهور العلماء إلى حرمة زواج المسلم من المجوسيّة واستدلوا بقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } .
وبقوله تعالى : { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } .
وذهب أبو ثورٍ إلى حلّ نكاح المسلم بالمجوسيّة ، وقال ابن القصّار من المالكيّة : قال بعض أصحابنا : يجب على أحد القولين أنّ لهم كتاباً أن تجوز مناكحتهم .(2/168)
واحتجوا بأنّ المجوس لهم كتاب فهم من أهل الكتاب وقد قال اللّه تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } .
ب - زواج المجوسيّ بالمسلمة :
8 - يحرم بالإجماع زواج المجوسيّ بالمسلمة لقوله تعالى : { وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } .
وهذا الحكم لا استثناء فيه بخلاف ما قبله في قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } حيث استثني منه أهل الكتاب .
ج - إسلام زوجة المجوسيّ :
9 - إذا أسلمت زوجة المجوسيّ قبل زوجها فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوالٍ . والتّفصيل في : ( إسلام ف 6 ) .
تشبيه المسلم زوجته بالمجوسيّة :
10 - إذا ظاهر الزّوج المسلم من امرأته فشبّهها بالمجوسيّة فقد اختلفت أقوال الفقهاء في حكم هذا الظّهار على الأقوال الآتية :
القول الأوّل : ليس ذلك بظهار وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة ورواية عن أحمد ووجه هذا القول أنّها غير محرّمةٍ على التّأبيد فلم تشبه الأمّ فلا يكون ظهاراً وبقياس حرمة وطئها على حرمة وطء الحائض والمحرمة .
القول الثّاني : هو ظهار وهو مذهب الحنابلة وقول لبعض المالكيّة .
القول الثّالث : للمالكيّة أنّه إنّ شبّه الزّوجة بظهر المجوسيّة وهي من المحرّمات مؤقّتاً فهو كناية ظاهرة في الظّهار إن نواه يقبل قوله في الفتوى والقضاء وإن شبّه الزّوجة بالمجوسيّة دون كلمة الظّهر فإنّه إن نوى الظّهار قبل قوله في الفتوى ، ووجه هذا القول أنّ المجوسيّة ليست محرّمةً على التّأبيد فلا يكون اللّفظ صريحاً في الظّهار .(2/169)
ولمّا كان يقصد به الظّهار كان كنايةً فيه .
ظهار المجوسيّ :
11 - إذا ظاهر المجوسي من زوجته فقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأوّل : لا يصح ظهاره وهو قول الحنفيّة والمالكيّة وحجّتهم :
أ - قوله تعالى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .
ووجه الاستدلال أنّ اللّه تعالى قال : { مِنكُم } فالخطاب للمؤمنين فيدل على اختصاص الظّهار بالمسلمين .
ب - المجوسي ليس أهلاً للكفّارة فلا يصح ظهاره لأنّها تفتقر إلى النّيّة وهو ليس من أهلها .
القول الثّاني : يصح ظهار المجوسيّ وهو قول الشّافعيّة والحنابلة وحجّتهم :
أ - قول اللّه تعالى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ } .
ووجه الدّلالة أنّ الآية عامّة فيدخل فيها الكافر أيضاً فصحّ ظهاره .
ب - الظّهار لفظ يقتضي التّحريم فيصح من المجوسيّ كما يصح منه الطّلاق .
ج - الكفّارة فيها شائبة غرامةٍ فيصح منه الإعتاق .
وصيّة المجوسيّ والوصيّة له :
12 - تأخذ كل من وصيّة المجوسيّ والوصيّة له حكم وصيّة الكافر والوصيّة له وذلك في الجملة والتّفصيل في مصطلح : ( وصيّة ) .
وقف المجوسيّ :
13 - يصح وقف المجوسيّ ما دام بالغاً عاقلاً أهلاً للتّبرع إذا كان الموقوف عليه قربةً عند المسلمين وعند المجوس .
أما إذا كان الوقف على معصيةٍ عند المسلمين وعند المجوس فإنّ الوقف يكون باطلاً وهذا في الجملة والتّفصيل في : ( وقف ) .
توارث المجوسيّ والمسلم :
14 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المجوسيّ لا يرث المسلم ولا يرثه المسلم لأنّه كافر لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم » . والتّفصيل في مصطلح : ( جزية ف 28 20 ) .
القصاص بين المجوسيّ وغيره :(2/170)
15 - المجوسي كافر وحكمه في القصاص حكم الكافر وهو مختلف فيه في القصاص له أو منه والتّفصيل في : ( قصاص ف 13 وما بعدها )
دية المجوسيّ :
16 - اختلف الفقهاء في دية المجوسيّ الذّمّيّ أو المستأمن على تفصيلٍ ينظر في : ( ديات ف 32 )
تولية المجوسيّ القضاء :
17 - اتّفق الفقهاء على أنّ المجوسيّ لا يتولّى القضاء على المسلم لأنّ القضاء ولاية بل من أعظم الولايات - ولا ولاية لكافر على مسلمٍ - لقوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } .
وأمّا تولية المجوسيّ القضاء على المجوسيّ فاختلف فيها الفقهاء والتّفصيل في مصطلح : ( قضاء ف 22 ) .
قضاء القاضي المسلم بين المجوس :
18 - اختلف الفقهاء في وجوب قضاء القاضي المسلم بين المجوس إذا ترافعوا إلينا وكانوا أهل ذمّةٍ أو عدم وجوبه :
فذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا تحاكم المجوس وهم من أهل الذّمّة إلى الإمام ليس له أن يعرض عنهم ونصوا على أنّ المسلمين وأهل الذّمّة سواء في عقود المعاملات والتّجارات والحدود إلا أنّهم لا يرجمون لأنّهم غير محصنين .
واختلف الحنفيّة في مناكحاتهم ، فقال أبو حنيفة : هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا .
وقال محمّد : إذا رضي أحدهما حملا جميعاً على أحكامنا وإن أبى الآخر إلا في النّكاح بغير شهودٍ خاصّةٍ ، وقال أبو يوسف : يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في النّكاح بغير شهودٍ نجيزه إذا تراضوا بها .
وقال المالكيّة : إذا كانت الخصومة بين ذمّيّين خيّر القاضي في الحكم بينهم وبحكم الإسلام في المظالم من الغصب والتّعدّي وجحد الحقوق .
وإن تخاصموا في غير ذلك ردوا إلى أهل دينهم إلا أن يرضوا بحكم الإسلام ، وإن كانت الخصومة بين مسلمٍ وذمّيٍّ وجب على القاضي الحكم بينهما .(2/171)
وقال الشّافعيّة : لو ترافع إلينا مجوسي ذمّي أو معاهد أو مستأمن ومسلم يجب الحكم بينهما بشرعنا قطعاً طالباً كان المسلم أو مطلوباً لأنّه يجب رفع الظلم عن المسلم والمسلم لا يمكن رفعه إلى حاكم أهل الذّمّة ولا تركهما متنازعين ، فرددنا من مع المسلم إلى حاكم المسلمين لأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه .
ولو ترافع مجوسيّان ذمّيّان ولم نشترط في عقد الذّمّة لهما التزام أحكامنا وجب علينا الحكم بينهما في الأظهر لقوله تعالى : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ } .
ولأنّه يجب على الإمام منع الظلم عن أهل الذّمّة فوجب الحكم بينهم كالمسلمين ، والثّاني : وهو مقابل الأظهر لا يجب على القاضي الحكم بل يتخيّر لقول اللّه تعالى : { فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
أما لو ترافع إلينا مجوسيّان شرط في عقد الذّمّة لهما التزام أحكامنا فإنّه يجب الحكم بينهما جزماً عملاً بالشّرط .
وإن ترافع إلينا ذمّيّان اختلفت ملّتهما وأحدهما مجوسي فيجب كذلك على القاضي المسلم الحكم بينهما جزماً لأنّ كلاً منهما لا يرضى ملّة الآخر .
واستثنى الشّربيني الخطيب وغيره ما لو ترافع إلينا أهل الذّمّة في شرب الخمر فإنّهم لا يحدون وإن رضوا بحكمنا لأنّهم لا يعتقدون تحريمه .
وقال الحنابلة : إذا تحاكم إلينا أهل الذّمّة أي ومنهم المجوس الذّمّيون إذا استعدى بعضهم على بعضٍ فالحاكم مخيّر بين إحضارهم والحكم بينهم وبين تركهم سواء كانوا من أهل دينٍ واحدٍ أو من أهل أديانٍ .
وحكى أبو الخطّاب عن أحمد روايةً أنّه يجب الحكم بينهم وإن تحاكم مسلم وذمّي - مجوسي - وجب الحكم بينهما بغير خلافٍ لأنّه يجب دفع الظلم كل واحدٍ منهما عن صاحبه .
شهادة المجوسيّ على المسلم :
19 - لا خلاف بين العلماء في جواز شهادة المسلم على المجوسيّ وغيره من الكفّار لأنّ المسلم أهل للولاية على المجوسيّ .(2/172)
ولا خلاف بين العلماء أيضاً في عدم جواز شهادة المجوسيّ على المسلم لا في حضرٍ ولا سفرٍ ولا وصيّةٍ ولا غيرها .
لقوله تعالى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } والمجوسي ليس منّا وليس عدلاً فلا تجوز شهادته على المسلم . ( وانظر شهادة - ف 5 ) .
عقد الذّمّة للمجوسيّ :
20 - إذا دعي المجوسي إلى الإسلام فأبى ثمّ دعي إلى الجزية فقبلها عقدت لهم الذّمّة . وأخذ الجزية من المجوسيّ ثابت بالإجماع فإنّ الصّحابة أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الرّاشدون ومن بعدهم من غير نكيرٍ ولا مخالفٍ وبه يقول أهل العلم .
وذلك لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « سنوا بهم سنّة أهل الكتاب » . والتّفصيل في مصطلح : ( جزية ف 28 - 29 ) .
===============
شهادة مدمن الخمر (1):
4 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا تقبل شهادة شارب الخمر وشارب كلّ مسكرٍ .
وقيّد الحنفيّة عدم قبول شهادة شارب الخمر بما إذا أراد الإدمان في النّيّة , يعني يشرب ومن نيّته أن يشرب بعد ذلك إذا وجده , قال السّرخسيّ : ويشترط مع الإدمان أن يظهر ذلك للنّاس أو يخرج سكران فيسخر منه الصّبيان , حتّى إنّ شرب الخمر في السّرّ لا يسقط العدالة , فإنّ المتّهم بشرب الخمر في بيته مقبول الشّهادة وإن كان كبيرةً , وجاء في الفتاوى الهنديّة نقلاً عن المحيط : قال في الأصل : ولا تجوز شهادة مدمن السكر وأراد به في سائر الأشربة .
ثياب مدمن الخمر من حيث الطّهارة والنّجاسة :
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13436)(2/173)
5 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ والشّافعيّة على القول الرّاجح المختار والحنابلة إلى أنّ ثياب مدمني الخمر طاهرة ولا تكره الصّلاة فيها , لأنّه - كما قال صاحب الهداية - لم يكره من ثياب أهل الذّمّة إلا السّراويل مع استحلالهم الخمر فهذا أولى , وقال في الفتح : قال بعض المشايخ - مشايخ الحنفيّة - : تكره الصّلاة في ثياب الفسقة لأنّهم لا يتّقون الخمور , وقال جماعات من الخراسانيين من الشّافعيّة بنجاسة ثياب مدمني الخمر والقصّابين وشبههم ممّن يخالط النّجاسة ولا يتصوّن منها .
وقال المالكيّة : ثياب شارب الخمر من المسلمين لا تجوز الصّلاة فيها عند تحقق النّجاسة أو ظنّها , لا إن شكّ في نجاستها فإنّه تجوز الصّلاة فيها تقديماً للأصل على الغالب .
أكل الأفيون للمدمن عليه :
6 - قال ابن عابدين : سئل ابن حجرٍ المكّي عمّن ابتلي بأكل نحو الأفيون , وصار إن لم يأكل منه هلك , فأجاب : إن علم ذلك قطعاً حلّ له , بل وجب لاضطراره إلى إبقاء روحه كالميتة للمضطرّ , ويجب عليه التّدريج في تنقيصه شيئاً فشيئاً حتّى يزول تولع المعدة به من غير أن تشعر , فإن ترك ذلك فهو آثم فاسق , ثمّ نقل ابن عابدين عن الخير الرّمليّ قوله : وقواعدنا لا تخالفه .
================
المرور على العاشر (1):
13 - ينصب الإمام على المعابر في طرق الأسفار عشّارين للجباية ممّن يمر عليهم بأموال التّجارة من المسلمين وأهل الذّمّة وأهل الحرب إذا أتوا بأموالهم إلى بلاد الإسلام , فيأخذ من أهل الإسلام ما يجب عليهم من زكاة , ويأخذ من أهل الذّمّة نصف العشر , ويأخذ من أهل الحرب العشر .
والتّفصيل في مصطلح ( زكاة ف / 155 , وعشر ف / 13 وما بعدها ) .
================
مُسْتأمِن *(2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13563)
(2) -الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13716)(2/174)
1 - المستأمن في اللغة بكسر الميم الثّانية اسم فاعل أي : الطّالب للأمان , ويصح بالفتح اسم مفعول والسّين والتّاء للصّيرورة , أي صار مؤامناً , يقال : استأمنه : طلب منه الأمان, واستأمن إليه : دخل في أمانه .
وفي الاصطلاح : المستأمن : من يدخل إقليم غيره بأمان مسلماً كان أم حربياً .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الذّمّي :
2 - الذّمّي في اللغة : المعاهد الّذي أعطي عهداً يأمن به على ماله وعرضه ودينه , والذّمّي نسبة إلى الذّمّة , بمعنى العهد .
والذّمّي في الاصطلاح هو المعاهد كل الكفّار لأنّه أومن على ماله ودمه ودينه بالجزية . والصّلة بين المستأمن والذّمّيّ : أنّ الأمان للمستأمن مؤقّت وللذّمّيّ مؤبّد .
ب - الحربي :
3 - الحربي منسوب إلى الحرب , وهي المقاتلة والمنازلة , ودار الحرب : بلاد الأعداء , وأهلها : حربي وحربيون .
والصّلة بينهما التّباين .
ما يتعلّق بالمستأمن من أحكام :
يتعلّق بالمستأمن أحكام منها :
أمان المستأمن
أ - مشروعيّة الأمان والحكمة فيها :
4 - الأصل في مشروعيّة أمان المستأمن قوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } , وقوله عليه الصّلاة والسّلام : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » .
وأمّا الحكمة في مشروعيّته كما نصّ عليها النّووي قد تقتضي المصلحة الأمان لاستمالة الكافر إلى الإسلام أو إراحة الجيش أو ترتيب أمرهم أو للحاجة إلى دخول الكفّار أو لمكيدة وغيرها .
ب - حكم طلب الأمان أو إعطائه للمستأمن :
5 - إعطاء الأمان للمستأمن أو طلبه للأمان مباح وقد يكون حراماً أو مكروهاً .
وبالأمان يثبت للمستأمن الأمن عن القتل والسّبي وغنم المال , فيحرم على المسلمين قتل رجالهم وسبي نسائهم وذراريّهم واغتنام أموالهم .
ج - من يحقّ له إعطاء الأمان للمستأمن :(2/175)
الأمان إمّا أن يكون من الإمام أو نائبه أو من الأمير , أو من آحاد المسلمين وعامّتهم .
أولاً - أمان الإمام أو نائبه :
6 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يصح أمان الإمام أو نائبه لجميع الكفّار وآحادهم , لأنّ ولايته عامّة على المسلمين , فيجوز له أن يعطي الكفّار الأمان على أنفسهم وأموالهم لمصلحة اقتضته تعود على المسلمين , لا لغير مصلحة .
ثانياً - أمان الأمير :
7 - نصّ الحنابلة على أنّه يصح أمان الأمير لأهل بلدة جعل بإزائهم , أي : ولي قتالهم , لأنّ له الولاية عليهم فقط , وأمّا في حقّ غيرهم فهو كآحاد الرّعيّة المسلمين , لأنّ ولايته على قتال أولئك دون غيرهم .
ثالثاً - أمان آحاد الرّعيّة :
8 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّه يصح أمان آحاد الرّعيّة بشروطه, لواحد وعشرة , وقافلة وحصن صغيرين عرفاً كمائة فأقلّ : لأنّ عمر رضي اللّه تعالى عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن , ولا يصح أمان أحد الرّعيّة لأهل بلدة كبيرة , ولا رستاق , ولا جمع كبير , لأنّه يفضي إلى تعطيل الجهاد , والافتيات على الإمام .
قال المالكيّة : إن أمن غير الإمام إقليماً أي عدداً غير محصور , أو أمن عدداً محصوراً بعد فتح البلد , نظر الإمام في ذلك فإن كان صواباً أبقاه وإلّا ردّه .
وقال النّووي : وضابطه : أنّ لا ينسدّ باب الجهاد في تلك النّاحية فإذا تأتّى الجهاد بغير تعرض لمن أمن , نفذ الأمان , لأنّ الجهاد شعار الدّين , وهو من أعظم مكاسب المسلمين. وفي مقابل الأصحّ للشّافعيّة : لا يجوز أمان واحد لأهل قرية وإن قلّ عدد من فيها .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه يصح الأمان من الواحد سواء أمن جماعةً كثيرةً أو قليلةً , أو أهل مصر أو قرية , وعبارة فتح القدير : أو أهل حصن أو مدينة .
د - ما يترتّب على إعطاء الأمان :(2/176)
9 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره بشروطه , وجب على المسلمين جميعاً الوفاء به , فلا يجوز قتلهم , ولا أسرهم , ولا أخذ شيء من مالهم , ولا التّعرض لهم , لعصمتهم , ولا أذيّتهم بغير وجهٍ شرعيٍّ .
وأمّا سراية حكم الأمان إلى غير المؤمّن من أهل ومال : فقد نصّ الحنابلة , والشّافعيّة في مقابل الأصحّ على أنّه إذا أمن من يصح أمانه سرى الأمان إلى من معه من أهل , وما معه من مال , إلّا أن يقول مؤمّنه : أمّنتك وحدك ونحوه , ممّا يقتضي تخصيصه بالأمان , فيختص به .
هذا بالنّسبة لأهله وماله في دار الإسلام , وأمّا من كان منهم في دار الحرب فلا يسري إليه الأمان جزماً عند الشّافعيّة .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّه لا يسري الأمان إلى من معه من أهل وما معه من مال إلّا بالشّرط , لقصور اللّفظ عن العموم .
وزاد الشّافعيّة فقالوا : المراد بما معه من ماله غير المحتاج إليه مدّة أمانه , أمّا المحتاج إليه فيدخل ولو بلا شرطٍ , ومن ذلك ما يستعمله في حرفته من الآلات , ومركوبه إن لم يستعن عنه , هذا إذا أمّنه غير الإمام , فإن أمّنه الإمام دخل ما معه بلا شرطٍ , ولا يدخل ما خلّفه بدار الحرب إلّا بشرط من الإمام , أمّا إذا كان الأمان للحربيّ بدارهم : فما كان من أهله وماله بدارهم دخلا ولو بلا شرطٍ إن أمّنه الإمام , وإن أمّنه غيره لم يدخل أهله ولا ما لا يحتاج إليه من ماله إلّا بشرط , ولا فرق في ذلك بين ما معه من ماله أو مال غيره .
هـ - ما ينعقد به الأمان :
10 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الأمان ينعقد بكلّ لفظ يفيد الغرض , وهو اللّفظ الدّال على الأمان نحو قول المقاتل مثلاً : آمنتكم , أو أنتم آمنون , أو أعطيتكم الأمان , وما يجري هذا المجرى .(2/177)
وزاد الحصكفيّ من الحنفيّة : وإن كان الكفّار لا يعرفونه , بعد معرفة المسلمين كون ذلك اللّفظ أماناً بشرط سماع الكفّار ذلك من المسلمين , فلا أمان لو كان بالبعد منهم .
كما ذهبوا إلى أنّه يجوز الأمان بأيّ لغة كان , بالصّريح من اللّفظ كقوله : أجرتك , أو آمنتك , أو أنت آمن وبالكناية : كقوله : أنت على ما تحب , أو كن كيف شئت ونحوه .
وزاد بعض الشّافعيّة كالرّمليّ والشّربينيّ الخطيب اشتراط النّيّة في الكناية .
ويجوز الأمان بالكتابة لأثر فيه عن عمر رضي اللّه تعالى عنه , وقال الشّربيني الخطيب : ولا بدّ فيها من النّيّة لأنّها كناية .
كما يجوز بالرّسالة : لأنّها أقوى من الكتابة , قال الشّربيني : سواء كان الرّسول مسلماً أم كافراً , لأنّ بناء الباب على التّوسعة في حقن الدّم , وكذلك بإشارة مفهمة ولو من ناطقٍ : لقول عمر رضي اللّه تعالى عنه : واللّه لو أنّ أحدكم أشار بأصبعه إلى السّماء إلى مشركٍ فنزل بأمانه فقتله لقتلته به , ولأنّ الحاجة داعية إلى الإشارة لأنّ الغالب فيهم عدم فهم كلام المسلمين , وكذا العكس .
فلو أشار مسلم لكافر فظنّ أنّه أمّنه , فأنكر المسلم أنّه أمّنه بها , فالقول قوله , لأنّه أعلم بمراده , ولكن لا يغتال بل يلحق بمأمنه , وإن مات المشير قبل أن يبيّن الحال فلا أمان , ولا اغتيال فيبلغ المأمن
ويصح إيجاب الأمان منجّزاً كقوله : أنت آمنً , ومعلّقاً بشرط , كقوله : من فعل كذا فهو آمن , لقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكّة : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» .
وأمّا القبول فلا يشترط , وهو ما صرّح به البلقيني من الشّافعيّة فقال : إنّ الإمام الشّافعيّ لم يعتبر القبول وقال : وهو ما عليه السّلف والخلف لأنّ بناء الباب على التّوسعة , فيكفي السكوت , ولكن يشترط مع السكوت ما يشعر بالقبول , وهو الكف عن القتال كما صرّح به الماورديّ , وتكفي إشارة مفهمة للقبول ولو من ناطق .(2/178)
قال الشّربيني : إنّ محلّ الخلاف في اعتبار القبول : إذا لم يسبق منه استيجاب , فإن سبق منه لم يحتج للقبول جزماً .
و - شرط إعطاء الأمان للمستأمن :
11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ شرط الأمان انتفاء الضّرر , ولو لم تظهر المصلحة . وقال الحنفيّة : يشترط في الأمان أن تكون فيه مصلحة ظاهرة للمسلمين .
والتّفصيل في ( أمان ف / 6 ) .
ز - شروط المؤمِّن :
للمؤمِّن شروط على النّحو التّالي :
الشّرط الأوّل : الإسلام :
12 - اتّفق الفقهاء على أنّه يشترط أن يكون الأمان من مسلم فلا يصح من كافر , وزاد الكاساني : وإن كان يقاتل مع المسلمين , لأنّه متّهم في حقّ المسلمين فلا تؤمن خيانته , ولأنّه إذا كان متّهماً فلا يدري أنّه بنى أمانه على مراعاة مصلحة المسلمين من التّفرق عن حال القوّة والضّعف أم لا , فيقع الشّك في وجود شرط الصّحّة , فلا يصح مع الشّكّ , ونصوا على أنّه لا يجوز أمان غير المسلم ولو كان ذمّياً , واستدلوا بقوله عليه الصّلاة والسّلام : « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » , ووجه الاستدلال أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جعل الذّمّة للمسلمين , فلا تحصل لغيرهم , ولأنّ كفره يحمله على سوء الظّنّ , ولأنّه متّهم على الإسلام وأهله , فأشبه الحربيّ , ولأنّه كافر فلا ولاية له على المسلمين . وزاد الحنفيّة : إلّا إذا أمره به مسلم - سواء كان الآمر أمير العسكر أو رجلاً من المسلمين - بأن قال المسلم للذّمّيّ : آمنهم , فقال الذّمّي : قد آمنّتكم , لأنّ أمان الذّمّيّ إنّما لا يصح لتهمة ميله إليهم , وتزول التهمة إذا أمره به مسلم , وكذلك إذا قال الذّمّي : إنّ فلاناً المسلم قد آمنكم , لأنّه صار مالكاً للأمان بهذا الأمر , فيكون فيه بمنزلة مسلم آخر .
الشّرط الثّاني : العقل :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز أمان المجنون لأنّ العقل شرط أهليّة التّصرف , ولأنّ كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم .(2/179)
الشّرط الثّالث : البلوغ :
14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يصح أمان الطّفل وكذلك الصّبي المراهق إذا كان لا يعقل الإسلام قياساً على المجنون .
وأمّا إن كان مميّزاً يعقل الإسلام , ولكنّه كان محجوراً عن القتال , فذهب جمهور الحنفيّة والحنابلة في وجهٍ إلى أنّه لا يصح أمانه ; لأنّ من شرط صحّة الأمان أن يكون بالمسلمين ضعف , وبالكفر قوّة , وهذه حالة خفيّة ولا يوقف عليها إلّا بالتّأمل والنّظر , ولا يوجد ذلك من الصّبيّ , ولاشتغاله باللهو واللّعب , ولأنه لا يملك العقود , والأمان عقد , ومن لا يملك أن يعقد في حقّ نفسه , ففي حقّ غيره أولى , ولأنّ قوله غير معتبر كطلاقه وعتاقه .
وقال الحنابلة في وجهٍ آخر ومحمّد : يصح , لأنّ أهليّة الأمان مبنيّة على أهليّة الإيمان , والصّبي المميّز الّذي يعقل الإسلام من أهل الإيمان , فيكون من أهل الأمان كالبالغ .
وإن كان مأذوناً في القتال فالأصح أنّه يصح بالاتّفاق بين الحنفيّة , لأنّه تصرف دائر بين النّفع والضّرر , فيملكه الصّبي المأذون .
وعند المالكيّة في الصّبيّ المميّز خلاف , قيل : يجوز ويمضي وقيل : لا يجوز ابتداءً , ويخيّر فيه الإمام إن وقع : إن شاء أمضاه , وإن شاء ردّه .
وقال الشّافعيّة : لا يصح أمان الصّبيّ وفي الصّبيّ المميّز وجهٌ كتدبيره .
ومن زال عقله بنوم أو سكر أو إغماء , فقد نصّ الحنابلة على أنّه في حكم الصّبيّ غير المميّز , لأنّهم لا يعرفون المصلحة من غيرها , ولأنّ كلامهم غير معتبر فلا يثبت به حكم . الشّرط الرّابع : الاختيار :
15 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه لا يصح الأمان من مكرهٍ لأنّه قول أكره عليه بغير حقٍّ, فلم يصحّ كالإقرار .
الشّرط الخامس : عدم الخوف من الكفرة :(2/180)
16 - ذهب المالكيّة والحنابلة والشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى أنّه يصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره , لدخوله في عموم الخبر , ولأنّه مسلم مكلّف مختار فأشبه غير الأسير , قال ابن قدامة : وكذلك يصح أمان الأجير , والتّاجر في دار الحرب .
ويرى الشّافعيّة في الأصحّ عدم جواز أمان الأسير , قال الشّربيني الخطيب : محل الخلاف في الأسير المقيّد والمحبوس وإن لم يكن مكرهاً , لأنّه مقهور بأيديهم لا يعرف وجه المصلحة , ولأن وضع الأمان أن يأمن المؤمّن , وليس الأسير آمناً , وأمّا أسير الدّار , وهو المطلق بدار الكفر الممنوع من الخروج منها فيصح أمانه .
وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز أمان من كان مقهوراً عند الكفّار كالأسير والتّاجر فيهم , ومن أسلم عندهم وهو فيهم , لأنّهم مقهورون عندهم , فلا يكونون من أهل البيان , ولا يخافهم الكفّار , والأمان يختص بمحلّ الخوف , ولأنّهم يجبرون عليه , فيعرى الأمان عن المصلحة , ولأنّه لو انفتح هذا الباب لانسدّ باب الفتح , لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر عليهم , لا يخلون عن أسير أو تاجر فيتخلّصون به , وفيه ضرر ظاهر .
قال ابن عابدين : نقل في البحر عن الذّخيرة أنّه لا يصح أمان الأسير في حقّ باقي المسلمين حتّى كان لهم أن يغيروا عليهم , أمّا في حقّه هو فصحيح , قال ابن عابدين : والظّاهر أنّ التّاجر المستأمن كذلك .
ح - أمان العبد والمرأة والمريض :
اختلف الفقهاء في أمان العبد والمرأة والمريض على التّفصيل الآتي :
أولاً - العبد :
17 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يجوز أمان العبد , واستدلوا بقوله عليه الصّلاة والسّلام: « ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم » , وفسّره محمّد بالعبد , ولقول عمر بن الخطّاب رضي اللّه تعالى عنه : العبد المسلم رجل من المسلمين ذمّته ذمّتهم " وفي رواية يجوز أمانه " , ولأنّه مسلم مكلّف , فصحّ أمانه كالحرّ .(2/181)
وزاد النّووي : يصح أمان العبد المسلم وإن كان سيّده كافراً .
وفي قول للمالكيّة أنّه لا يجوز أمان العبد ابتداءً وإذا أمّن فيخيّر الإمام بين إمضائه وردّه . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية : لا يصح أمان العبد المحجور عليه إلّا أن يأذن له مولاه في القتال , لأنّه محجور عن القتال فلا يصح أمانه , لأنّهم لا يخافونه فلم يلاق الأمان محلّه , بخلاف المأذون له في القتال ; لأنّ الخوف منه متحقّق , ولأنّه مجلوب من دار الكفر, فلا يؤمن أنّ ينظر لهم تقديم مصلحتهم .
ثانياً - المرأة :
18 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّ الذكورة ليست بشرط لصحّة الأمان , فيصح أمان المرأة , واستدلوا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : «قد أجرنا من أجرت يا أمّ هانئٍ إنّما يجير على المسلمين أدناهم »ولما روي : « أنّ زينب ابنة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رضي اللّه عنها وزوجة أبي العاص أمّنت زوجها أبا العاص بن الرّبيع وأجاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمانها » , ولأنّ المرأة لا تعجز عن الوقوف على حال القوّة والضّعف .
وفي قول المالكيّة أنّه لا يجوز أمان المرأة ابتداءً , فإن أمّنت نظر الإمام في ذلك فإن شاء أبقاه وإن شاء ردَّه .
ونصّ النّووي على أنّه في جواز عقد المرأة استقلالاً وجهان .
وقال الشّربيني الخطيب : أرجحهما الجواز كما جزم به الماورديّ .
ثالثاً المريض :
19 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا يشترط لصحّة الأمان السّلامة عن العمى والزّمانة والمرض , فيصح أمان الأعمى والزّمن والمريض ما دام سليم العقل , لأنّ الأصل في صحّة الأمان صدوره عن رأيٍ ونظر في الأحوال الخفيّة من الضّعف والقوّة , وهذه العوارض لا تقدح فيه .
ط - الأمان على الشّرط :(2/182)
20 - ذهب الفقهاء إلى أنّه إذا حاصر المسلمون حصناً فناداهم رجل وقال : أمّنوني أفتح لكم الحصن , جاز أنّ يعطوه أماناً , لما روي أنّ زياد بن لبيد لمّا حاصر النّجير , قال الأشعث بن قيس : أعطوني الأمان لعشرة أفتح لكم الحصن ففعلوا , فإن أشكل الّذي أعطي الأمان - وادّعاه كل واحد من أهل الحصن - فإن عرف صاحب الأمان عمل على ذلك وإن لم يعرف صاحب الأمان المؤمّن , لم يجز قتل واحد منهم , لأنّ كلّ واحد منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرّم فيما لا ضرورة إليه فحرّم الكلّ , كما لو اشتبهت ميّتة بمذكّاة ونحوها .
وإذا لم يوفّ الشّرط فلهم ضرب عنقه كما إذا قال الرّجل : كفّ عنّي حتّى أدلك على كذا , فبعث معه قوم ليدلّهم فامتنع من الدّلالة أو خانهم , فالإمام إن شاء قتله وإن شاء جعله فيئاً, لأنّ إعطاء الأمان له كان بشرط , ولم يوجد , ولأنّه كان مباح الدّم , وعلّق حرمة دمه بالدّلالة وترك الخيانة , فإن انعدم الشّرط , بقي حل دمه على ما كان .
ي - مدّة الأمان :
21 - نصّ الحنفيّة وفي قول للشّافعيّة على أنّ مدّة الإقامة في دار الإسلام للمستأمن لا تبلغ سنةً , وقال الحنفيّة : يجوز التّوقيت ما دون السّنة كشهر أو شهرين , لكن لا ينبغي أن يلحق المستأمن ضرر وعسر بتقصير المدّة جداً , خصوصاً إذا كان له معاملات يحتاج في اقتضائها إلى مدّة أطول .
وقال الحنابلة : يشترط أن لا تزيد مدّة الأمان على عشر سنين .
وعند الشّافعيّة يجب أن لا تزيد مدّة الأمان على أربعة أشهر , فإن زاد عليها بطل في الزّائد. وتفصيل ذلك في مصطلح ( أهل الذّمّة ف / 12 ) .
ك - ما ينتقض به الأمان :
ينتقض الأمان بأمور هي :
أوّلاً - نقض الإمام :(2/183)
22 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الإمام لو رأى المصلحة في نبذ الأمان وكان بقاؤُه شراً له أنّ ينقضه , لأنّ جواز الأمان - مع أنّه يتضمّن ترك القتال المفروض - للمصلحة , فإذا صارت المصلحة في النّقض نقضه , لقوله تعالى : { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } لكن ينبغي أن يخبرهم بالنّقض وإعادتهم إلى ما كانوا عليه قبل الأمان , ثمّ يقاتلهم لئلّا يكون من المسلمين غدر في العهد .
ثانياً - رد المستأمن للأمان :
23 - إذا جاء أهل الحصن بالأمان إلى الإمام فنقضه , ففي هذه الحالة ينبغي للإمام أن يدعوهم إلى الإسلام , فإن أبوا فإلى الذّمّة , فإن أبوا ردّهم إلى مأمنهم , ثمّ قاتلهم .
قال النّووي : إنّ المستأمن إذا نبذ العهد , وجب تبليغه المأمن , ولا يتعرّض لما معه بلا خلاف .
ثالثاً - مضي مدّة الأمان :
24 - ينقضي الأمان بمضيّ الوقت إذا كان الأمان مؤقّتاً إلى وقت معلوم من غير الحاجة إلى النّقض .
رابعاً - عودة المستأمن إلى دار الحرب :
25 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّ أمان المستأمن ينتقض في نفسه دون ماله بالعودة إلى الكفّار , ولو إلى غير داره مستوطناً أو محارباً , وأمّا إن عاد إلى دار الحرب لتجارة , أو متنزّهاً أو لحاجة يقضيها , ثمّ يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه .
خامساً - ارتكاب الخيانة :
26 - صرّح الحنابلة بأنّ من جاءنا بأمان , فخاننا , كان ناقضاً لأمانه لمنافاة الخيانة له , ولأنّه لا يصلح في ديننا الغدر .
ل - ما يترتّب على رجوع المستأمن إلى دار الحرب :
27 - ذهب الحنابلة والشّافعيّة في الصّحيح - وهو ما يفهم من كلام الحنفيّة - إلى أنّ من دخل دار الحرب مستوطناً , بقي الأمان في ماله , وإن بطل في نفسه .
واستدلّ الحنابلة لذلك بقولهم : لأنّه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان لماله الّذي كان معه , فإذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله , لاختصاص المبطل بنفسه , فيختص البطلان به .(2/184)
وزاد الشّافعيّة كما نقله النّووي عن ابن الحدّاد : للمستأمن أن يدخل دار الإسلام من غير تجديد أمان لتحصيل ذلك المال , والدخول للمال يؤمّنه كالدخول لرسالة , وسماع كلام اللّه تعالى , ولكن ينبغي أن يعجّل في تحصيل غرضه , وكذا لا يكرّر العود لأخذ قطعة من المال في كلّ مرّة , فإن خالف تعرّض للقتل والأسر , وقال غير ابن الحدّاد : ليس له الدخول , لأنّ ثبوت الأمان في المال لا يوجب ثبوته في النّفس .
28 - ويترتّب على عدم بطلان الأمان في ماله أنّه إن طلبه صاحبه بعث إليه .
وإن تصرّف فيه ببيع أو هبة أو غيرهما صحّ تصرفه .
وإن مات في دار الحرب انتقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه كما نصّ عليه الحنابلة , وهو الأظهر عند الشّافعيّة قياساً على سائر الحقوق من الرّهن والشفعة , وبه قال الحنفيّة كما يأتي .
وقال الشّافعيّة في قول : يبطل الأمان في الحال في هذه الحالة ويكون فيئاً لبيت المال , لأنّه قد صار لوارثه , ولم يعقد فيه أماناً , فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله , ولأنّ الأمان يثبت في المال تبعاً .
وإن لم يكن له وارث , صار فيئاً كما قال الحنابلة والشّافعيّة .
وعند الشّافعيّة في بقاء الأمان في ماله قول ثالث : وهو أنّه إذا لم يتعرّض للأمان في ماله حصل الأمان فيه تبعاً , فيبطل فيه تبعاً , وإن ذكره في الأمان لم يبطل .
29 - وأمّا الأولاد فقد نصّ الشّافعيّة على أنّه لا يسبي أولاده , فإذا بلغوا وقبلوا الجزية تركوا , وإلّا بلغوا المأمن .
30 - أمّا إن أسر , بأن وجده مسلم فأسره , أو غلب المسلمون على أهل دار الحرب , فأخذوه أو قتلوه , وكان له دين على مسلم أو ذمّيٍّ أو وديعة عندهما , فقد نصّ الحنفيّة على أنّه يسقط دينه , لأنّ إثبات اليد على الدّين بالمطالبة , وقد سقطت , ويد من عليه الدّين أسبق إليه من يد العامّة , فيختص به فيسقط , ولا طريق لجعله فيئاً لأنّه الّذي يؤخذ قهراً , ولا يتصوّر ذلك في الدّين .(2/185)
وكذلك الحكم لو أسلم إلى مسلم دراهم على شيء , وما غصب منه وأجرة عين أجّرها , وكل ذلك لسبق اليد .
31 - وأمّا وديعته عند مسلم أو ذمّيٍّ أو غيرهما , وما عند شريكه ومضاربه وما في بيته في دار الإسلام فيصير فيئاً عند الحنفيّة ; لأنّ الوديعة في يده تقديراً , لأنّ يد المودع كيده فيصير فيئاً تبعاً لنفسه , وكذلك ما عند شريكه ومضاربه وما في بيته .
32 - واختلف الحنفيّة في الرّهن : فعند أبي يوسف للمرتهن بدينه , وعند محمّد يباع ويستوفى دينه , والزّيادة فيء للمسلمين , قال ابن عابدين : وينبغي ترجيح قول محمّد , لأنّ ما زاد على قدر الدّين في حكم الوديعة .
33 - وإن مات أو قتل بلا غلبة عليه , فماله من القرض والوديعة لورثته لأنّ نفسه لم تصر مغنومةً فكذا ماله , كما لو ظهر عليه فهرب فماله له , وكذا دينه حال حياته قبل الأسر .
م - ما يجوز للمستأمن حمله في الرجوع إلى دار الحرب :
34 - نصّ الحنفيّة على أنّه لا يمكّن المستأمن إذا أراد الرجوع إلى دار الحرب أن يحمل معه سلاحاً اشتراه من دار الإسلام , لأنّهم يتقوّون به على المسلمين , ولا يجوز إعطاء الأمان له ليكتسب به ما يكون قوّةً لأهل الحرب على قتال المسلمين , وله أن يخرج بالّذي دخل به .
فإن باع سيفه واشترى به قوساً أو نشّاباً أو رمحاً مثلاً لا يمكّن منه , وكذا لو اشترى سيفاً أحسن منه , فإن كان مثل الأوّل أو دونه مكّن منه .
الدخول إلى دار الإسلام بغير أمان :
يختلف حكم من دخل دار الإسلام بغير أمان باختلاف الأحوال على النّحو التّالي :
أ - ادّعاء كونه رسولاً :(2/186)
35 - من دخل دار الإسلام وقال : أنا رسول الملك إلى الخليفة , لم يصدّق كما صرّح به الحنفيّة والحنابلة إلّا إذا أخرج كتاباً يشبه أن يكون كتاب ملكهم , فهو آمن حتّى يبلّغ رسالته ويرجع , لأنّ الرّسول آمن كما جرى به الرّسم جاهليّةً وإسلاماً , ولأنّ القتال أو الصلح لا يتم إلّا بالرسل , فلا بدّ من أمان الرّسول ليتوصّل إلى ما هو المقصود , وإن لم يخرج كتاباً أو أخرج ولم يعلم أنّه كتاب ملكهم , فهو وما معه فيء , لأنّ الكتاب قد يفتعل .
وقال الشّافعيّة : يصدّق سواء كان معه كتاب أم لا , ولا يتعرّض له لاحتمال ما يدّعيه . وذكر الروياني تفصيلاً في الرّسول فقال : وما أشتهر أنّ الرّسول آمن هو في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها , فإن كان رسولاً في وعيد وتهديد , فلا أمان له , ويتخيّر الإمام فيه بين الخصال الأربع كأسير , أي : القتل , أو الاسترقاق , أو المن عليه , أو المفاداة بمال أو نفس , إلّا أنّ المعتمد عند الشّافعيّة الأوّل .
ب - ادّعاء كونه تاجراً :
36 - لو دخل الحربي دارنا وقال : إنّه تاجر وقال : ظننت أنّكم لا تعرضون لتاجر , والحال أنّه تاجر , فنصّ المالكيّة على أنّه يقبل منه , ويرده إلى مأمنه , وكذلك الحكم إذا أخذ بأرضهم , أو بين أرض العدوّ وأرضنا , وادّعى التّجارة , أو قال : جئت أطلب الأمان , حيث يرد لمأمنه .
وقال الشّافعيّة : قصد التّجارة لا يفيد الأمان , ولكن لو رأى الإمام مصلحةً في دخول التجّار, فقال : من دخل تاجراً فهو آمن , جاز , ومثل هذا الأمان لا يصح من الآحاد .(2/187)
وكذلك لو قال : ظننت أنّ قصد التّجارة يفيد الأمان فلا أثر لظنّه , ولو سمع مسلماً يقول : من دخل تاجراً فهو آمن , فدخل وقال : ظننت صحّته , فالأصح أنّه يقبل قوله , ولا يغتال . وقال الحنابلة : لو دخل وادّعى أنّه تاجر وكان معه متاع يبيعه , قبل منه , إن صدّقته عادةً, كدخول تجارتهم إلينا ونحوه , لأنّ ما ادّعاه ممكن , فيكون شبهةً في درء القتل , ولأنّه يتعذّر إقامة البيّنة على ذلك , فلا يتعرّض له , ولجريان العادة مجرى الشّرط , وإن لم يوجد معه متاع , وانتفت العادة , لم يقبل قوله , لأنّ التّجارة لا تحصل بغير مال , ويجب بقاؤُه على ما كان عليه من عدم العصمة .
ج - ادّعاء كونه مؤمَّناً :
37 - من دخل دارنا وقال : أمّنني مسلم , فقد نصّ الحنفيّة والحنابلة في وجهٍ على أنّه لا يصدّق , لأنّ حقّ المسلمين قد ثبت فيه حين تمكّنوا منه من غير أمان ظاهر له , فلا يصدّق في إبطال حقّهم , ولكن إن قال مسلم : أنا أمّنته قبل قوله , لأنّه يملك أن يؤمّنه , فقبل قوله فيه كالحاكم إذا قال : حكمت لفلان على فلان .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة في وجهٍ آخر إلى أنّه يصدّق بلا بيّنة , تغليباً لحقن دمه, فلا يتعرّض له , لاحتمال كونه صادقاً فيما يدّعيه لأنّ الظّاهر أنّه لا يدخل بغير أمان , وفي مقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : يطالب ببيّنة لإمكانها غالباً .
نكاح المسلم بالمستأمنة :
38 - صرّح الحنفيّة بأنّ الحربيّة المستأمنة إذا تزوّجت مسلماً أو ذمّياً فقد توطّنت وصارت ذمّيّةً .
وتفصيل ذلك في ( أهل الذّمّة ف / 13 ) .
ما يترتّب للمستأمنة على النّكاح من حقوقٍ :
39 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الزّوجة المستأمنة الكتابيّة كمسلمة في نفقة وقسم وطلاقٍ وغير ذلك إذا كان الزّوج مسلماً , لاشتراكهما في الزّوجيّة .
والتّفصيل في مصطلحات : ( نكاح , ومهر , وقسم بين الزّوجات , وكفر , ونفقة , وظهار , ولعان , وعدّة , وحضانة , وإحصان ) .(2/188)
التّفريق بين المستأمن وزوجته لاختلاف الدّار :
40 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الحربيّ إذا خرج إلينا مستأمناً , أو المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين امرأته , لأنّ اختلاف الدّار عبارة عن تباين الولايات وذلك لا يوجب ارتفاع النّكاح , ولأنّ الحربيّ المستأمن من أهل دار الحرب , وإنّما دخل دار الإسلام على سبيل العارية لقضاء بعض حاجاته لا للتّوطن . والتّفصيل في : ( اختلاف الدّار ف / 5 ) .
التّوارث بين المستأمنين وبينهم وبين غيرهم :
41 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يثبت التّوارث بين مستأمنين في دارنا إن كانا من دار واحدة , كما يثبت بين مستأمن في دارنا وحربيٍّ في دارهم , لاتّحاد الدّار بينهما حكماً , هذا في الجملة .
والتّفصيل في مصطلح ( اختلاف الدّار ف / 3 ) .
المعاملات الماليّة للمستأمن :
42 - نصّ الحنفيّة على أنّ المستأمن في دار الإسلام كالذّمّيّ إلّا في وجوب القصاص , وعدم مؤاخذته بالعقوبات غير ما فيه حقّ العبد , وفي أخذ العاشر منه العشر , لأنّه التزم أحكام الإسلام أو ألزم بها من غير التزامه , لإمكان إجراء الأحكام عليه ما دام في دار الإسلام , فيلزمه ما يلزم الذّمّيّ في معاملاته مع الآخرين , وعلى هذا فلا يحل أخذ ماله بعقد فاسد بخلاف المسلم المستأمن في دار الحرب فإنّ له أخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار لأنّ مالهم مباح لنا إلّا أنّ الغدر حرام , وما أخذ برضاهم ليس غدراً من المستأمن بخلاف المستأمن منهم في دارنا , لأنّ دارنا محل إجراء أحكام الشّريعة , فلا يحل لمسلم في دارنا أن يعقد مع المستأمن إلّا ما يحل من العقود مع المسلمين ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء لا يلزمه شرعاً وإن جرت به العادة .
قصاص المستأمن بقتل المسلم وعكسه :
43 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يقتل المستأمن بقتل المسلم , وكذلك بقتل الذّمّيّ , ولو مع اختلاف أديانهم , لأنّ الكفر يجمعهم .(2/189)
واختلفوا في قصاص المسلم والذّمّيّ بقتل المستأمن :
فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا يقتل المسلم بالمستأمن , لأنّ الأعلى لا يقتل بالأدنى ولقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا يقتل مسلم بكافر » .
ويقتل الذّمّي والمستأمن بقتل المستأمن , كما يقتل المستأمن بقتل المستأمن والذّمّيّ .
وذهب الحنفيّة في ظاهر الرّواية إلى أنّه لا قصاص على مسلم أو ذمّيٍّ بقتل مستأمن , لأنّهم اشترطوا في القصاص أن يكون المقتول في حقّ القاتل محقون الدّم على التّأبيد , والمستأمن عصمته مؤقّتة , لأنّه مصون الدّم في حال أمانه فقط , ولأنّه من دار أهل الحرب حكماً , لقصده الانتقال إليها , فلا يمكن المساواة بينه وبين من هو من أهل دارنا في العصمة , والقصاص يعتمد المساواة , ولكن عليه دية .
وروي عن أبي يوسف أنّه يقتل المسلم بالمستأمن , واستدلّ بقوله تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } .
ونصّ الحنفيّة على أنّ المستأمن يقتل بقتل مستأمن آخر قياساً , ووجه القياس المساواة بين المستأمنين من حيث حقن الدّم , ولا يقتل استحساناً , لقيام المبيح وهو عزمه على المحاربة بالعود .
قال الكاساني : وروى ابن سماعة عن محمّد : أنّه لا يقتل .
هذا في النّفس , وأمّا الجناية على ما دون النّفس فاختلفت آراء الفقهاء في اشتراط التّكافؤ في الدّين وتفصيله ينظر في مصطلح ( جناية على ما دون النّفس ف / 7 ) .
دية المستأمن :
44 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الدّية بقتل المستأمن , واختلفوا في مقدارها على النّحو التالي :
فذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ دية الكتابيّ المعاهد نصف دية الحرّ المسلم , ودية المجوسيّ ثمانمائة درهم , وكذلك دية جراح أهل الكتاب على النّصف من دية جراح المسلمين .
والصّحيح عند الحنفيّة أنّ المستأمن والمسلم في الدّية سواء .(2/190)
وقال الشّافعيّة : دية المستأمن الكتابيّ ثلث دية المسلم نفساً وغيرها , ودية المستأمن الوثنيّ والمجوسيّ وعابد القمر والزّنديق ثلثا عشر دية المسلم هذا في الذكور .
أما المستأمنات الإناث فلا خلاف بين الفقهاء في أن ديتهنّ نصف دية الذكور منهم . والتّفصيل في مصطلح ( ديات ف / 32 ) .
وأمّا من لم تبلغه الدّعوة وكان مستأمنا , فقال البهوتي من الحنابلة : إن ديته دية أهل دينه, لأنه محقون الدّم , فإن لم يعرف دينه فكمجوسيّ , لأنّه اليقين , وما زاد عليه مشكوك فيه .
زنا المستأمن وزنا المسلم بالمستأمنة :
45 - اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ على المستأمن إذا زنى بالمسلمة أو الذّمّيّة على أقوال:
فذهب المالكيّة والحنابلة , وأبو حنيفة ومحمّد , وأبو يوسف في قول , والشّافعيّة في المشهور إلى أنه لا يحد المستأمن إذا زنى .
وأضاف المالكيّة : إذا كانت المسلمة طائعةً فإنه يعاقب عقوبةً شديدةً وتحد المسلمة وإن استكره المسلمة فإنه يقتل لنقضه العهد .
وقال الحنابلة : لا يحد لأنه يجب أن يقتل لنقض العهد , ولا يجب مع القتل حد سواه .
وقال الشّافعيّة في وجهٍ آخر , وأبو يوسف في قول : يقام عليه الحد .
وأمّا إذا زنى المسلم بالمستأمنة فقد نص جمهور الحنفيّة على أنه يحد المسلم دون المستأمنة لأن تعذر إقامة الحدّ على المستأمنة ليس للشبهة فلا يمنع إقامته على الرّجل , وذهب أبو يوسف إلى أنه تحد المستأمنة أيضا . والتّفصيل في مصطلح ( زنا ف / 28 ) .
قذف المستأمن للمسلم :
46 - لو دخل حربي دارنا بأمان فقذف مسلماً لم يحد في قول أبي حنيفة الأوّل , وذهب الصاحبان أبو يوسف ومحمّد وهو قول آخر لأبي حنيفة إلى أنه يحد .
والتّفصيل في ( قذف ف / 15 ) .
سرقة المستأمن مال المسلم وعكسه :
47 - ذهب الفقهاء إلى أنه يشترط لإقامة حدّ السّرقة توافر شروطٍ منها : كون السّارق ملتزما أحكام الإسلام .(2/191)
وعلى هذا فإن سرق المستأمن من مستأمن آخر مالا لا يقام عليه الحد لعدم التزام أيٍّ منهما أحكام الإسلام , وأمّا إن سرق من مسلم أو ذمّيٍّ ففي إقامة الحدّ عليه أقوال مختلفة ينظر في مصطلح ( سرقة ف / 12 ) .
فإن سرق المسلم مال المستأمن فلا يحد عند الحنفيّة - عدا زفر - والشّافعيّة , لأن في ماله شبهة الإباحة .
وذهب المالكيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنه يقام عليه الحد لأن مال المستأمن معصوم . والتّفصيل في مصطلح ( سرقة ف / 25 ) .
النّظر في قضايا المستأمنين :
48 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لو ترافع إلينا مسلم ومستأمن برضاهما , أو رضا أحدهما في نكاح أو غيره وجب الحكم بينهما بشرعنا , طالباً كان المسلم أو مطلوباً , واستدلّ لذلك الشّافعيّة والحنابلة بقولهم : لأنّه يجب رفع الظلم عن المسلم , والمسلم لا يمكن رفعه إلى حاكم أهل الذّمّة , ولا يمكن تركهما متنازعين , فرددنا من مع المسلم إلى حاكم المسلمين لأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه , ولأنّ في ترك الإجابة إليه تضييعاً للحقّ . واختلفوا فيما إذا كان طرفا الدّعوى غير مسلمين فذهب المالكيّة والحنابلة , والشّافعيّة إلى أنّه إن تحاكم إلينا مستأمنان , أو استعدى بعضهم على بعض خيّر الحاكم بين الحكم وتركه , واستدلوا بقوله تعالى : { فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
وقال مالك : وترك ذلك أحب إلى , وقيّده الشّافعيّة بأن تتّفق ملّتاهما كنصرانيّين مثلاً , ويشترط عند الحنابلة اتّفاقهما , فإن أبى أحدهما , لم يحكم لعدم التزامهما حكمنا , وروي التّخيير عن النّخعيّ , والشّعبيّ والحسن وإبراهيم .
وإذا حكم فلا يحكم إلّا بحكم الإسلام , لقوله تعالى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } . وإن لم يتحاكموا إلينا ليس للحاكم أن يتّبع شيئاً من أمورهم ولا يدعوهم إلى حكمنا , لظاهر الآية : { فَإِن جَآؤُوكَ } .(2/192)
وذهب الحنفيّة والشّافعيّة في قول إلى أنّ على الحاكم أن يحكم بينهم , ولا يشترط ترافع الخصمين , وبه قال ابن عبّاس رضي الله عنه , وعطاء الخراسانيّ , وعكرمة ومجاهد , والزهري .
غير أنّ أبا حنيفة قال في نكاح المحارم والجمع بين خمس نسوة والأختين : يشترط مجيئهم للحكم عليهم , فإذا جاء أحدهما دون الآخر , لم يوجد الشّرط وهو مجيئهم , فلا يحكم بينهم. وقال محمّد : لا يشترط ترافع الخصمين , بل يكفي لوجوب الحكم بينهما أن يرفع أحدهما الدّعوى إلى القاضي المسلم , لأنّه لمّا رفع أحدهما الدّعوى , فقد رضي بحكم الإسلام , فيلزم إجراء حكم الإسلام في حقّه , فيتعدّى إلى الآخر كما إذا أسلّم أحدهما .
وقال أبو يوسف : لا يشترط التّرافع في الأنكحة الفاسدة أصلاً , ويفرّق الحاكم بينهما إذا علم ذلك , سواء ترافعا أو لم يترافعا , أو رفع أحدهما دون الآخر , لقوله تعالى { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } , ووجه الاستدلال أنّ الأمر مطلق عن شرط المرافعة.
شهادة المسلم على المستأمن وعكسه :
49 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز شهادة المسلم على غير المسلم , سواء المستأمن وغيره , لما روي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا تجوز شهادة ملّة على ملّة إلّا أمّتي تجوز شهادتهم على من سواهم » , ولأنّ اللّه تعالى أثبت للمؤمنين شهادةً على النّاس بقوله عزّ وجلّ : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } , ولمّا قبلت شهادة المسلم على المسلم , فعلى الكافر أولى
كما أنّه لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز شهادة الكافر على المسلم .
وينظر في ذلك مصطلح ( شهادة ف / 20 ) .
شهادة الكفّار بعضهم على بعض :
50 - اختلف الفقهاء في جواز شهادة الكفّار بعضهم على بعض فقال الجمهور بعدم الجواز. وذهب الحنفيّة إلى الجواز , وذلك على التّفصيل الآتي :
أ - شهادة الذّمّيّ على المسلمين :(2/193)
51 - الأصل عند الحنفيّة أنّ حكم المستأمن مع الذّمّيّ في الشّهادة كحكم الذّمّيّ مع المسلم , وعليه فتقبل شهادة الذّمّيّ على المستأمن , لأنّ الذّمّيّ أعلى حالاً من المستأمن , لأنّه قَبِل خلف الإسلام وهو الجزية , فهو أقرب إلى الإسلام منه , ولأنّ الذّمّيّ بعقد الذّمّة صار كالمسلم في قبول شهادته على المستأمن .
ب - شهادة المستأمن على الذّمّيّ :
52 - بناءً على الأصل المذكور لا تقبل شهادة المستأمن على الذّمّيّ , ولأنّه لا ولاية له عليه , لأنّ الذّمّيّ من أهل دارنا بخلاف المستأمن , لأنّه ليس من دار الإسلام حقيقةً , وإنّه فيها صورةً , فكان الذّمّي أعلى حالاً من المستأمن .
ج - شهادة المستأمن على مستأمن آخر :
53 - تقبل شهادة المستأمنين بعضهم على بعض إذا كانوا من أهل دار واحدة , وأمّا إن كانوا من دارين مختلفين فلا تقبل .
إسلام المستأمن في دارنا :
54 - نصّ الحنفيّة على أنّه إذا دخل الحربي دارنا بأمان , وله امرأة في دار الحرب وأولاد صغار وكبار , ومال أودع بعضه ذمّياً , وبعضه مسلماً وبعضه حربياً , فأسلم في دارنا , ثمّ ظهر على دار الحرب فهو فيء .
أما المرأة والأولاد الكبار فلكونهم حربيّين كباراً , وليسوا بأتباع للّذي خرج , وكذلك ما في بطن المرأة لو كانت حاملاً لأنّه جزؤُها .
وأمّا الأولاد الصّغار , فلأنّ الصّغير إنّما يصير مسلماً تبعاً لإسلام أبيه إذا كان في يده , وتحت ولايته , ولا يتحقّق ذلك مع تباين الدّارين , وأمّا أمواله فلأنّها لا تصير محرزةً لإحراز نفسه بالإسلام لاختلاف الدّارين , فيبقى الكل فيئاً وغنيمةً .
وأمّا لو دخل مع امرأته ومعهما أولاد صغار , فأسلم أحدهما , أو صار ذمّياً , فالصّغار تبع له , بخلاف الكبار ولو إناثاً , لانتهاء التّبعيّة بالبلوغ عن عقل .
ولو أسلّم وله أولاد صغار في دارهم لم يتبعوه إلّا إذا خرجوا إلى دارنا قبل موت أبيهم .
موت المستأمن في دارنا :(2/194)
55 - لو مات المستأمن في دارنا وله ورثة في بلاده , ومال في دارنا , فاختلف الفقهاء في تركته على النّحو التّالي :
نصّ الحنفيّة على أنّه ليس على الإمام إرسال مال المستأمن المتوفّى إلى ورثته إلى دار الحرب , بل يسلّمه إليهم إذا جاءوا إلى دار الإسلام , وأقاموا البيّنة على أنّهم ورثته ; لأنّ حكم الأمان باقٍ في ماله , فيرد على ورثته من بعده , قالوا : وتقبل بيّنة أهل الذّمّة هنا استحساناً , لأنّ أنسابهم في دار الحرب لا يعرفها المسلمون , فصار كشهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه الرّجال , ولا يقبل كتاب ملكهم ولو ثبت أنّه كتابه , لأنّ شهادته وحده لا تقبل , فكتابته بالأولى .
وذهب المالكيّة كما قال الدّردير إلى أنّه إن مات المؤمَّن عندنا فماله لوارثه إن كان معه وارثه عندنا - دخل على التّجهيز أم لا - وإلّا يكن معه وارثه أرسل المال لوارثه بأرضهم إن دخل عندنا على التّجهيز لقضاء مصالحه من تجارة أو غيرها , لا على الإقامة عندنا , ولم تطل إقامته عندنا , وإلّا بأن دخل على الإقامة أو على التّجهيز , ولكن طالت إقامته عندنا ففيء محله بيت مال المسلمين .
قال الصّاوي : أشار المصنّف , " الدّردير " إلى الحالة الأولى بقوله : وإن مات عندنا فماله لوارثه . . إلخ , ولم يستوف الأحوال الأربعة , ونحن نبيّنها فنقول : أما الحالة الثّانية : وهي ما إذا مات في بلده وكان له عندنا نحو وديعة , فإنّها ترسل لوارثه , وأمّا الحالة الثّالثة : وهي أسره وقتله , فماله لمن أسره وقتله حيث حارب فأسره ثمّ قتل , وأمّا الحالة الرّابعة : وهي ما إذا قتل في معركة بينه وبين المسلمين من غير أسر , في ماله قولان , قيل : يرسل لوارثه , وقيل : فيء , ومحلهما إذا دخل على التّجهيز , أو كانت العادة ذلك ولم تطل إقامته , فإن طالت إقامته وقتل في معركة بينه وبين المسلمين كان ماله ولو وديعةً فيئاً قولاً واحداً .(2/195)
وعند الشّافعيّة لو مات المستأمن في دار الإسلام فالمذهب القطع بردّ المال إلى وارثه , لأنّه مات , والأمان باقٍ في نفسه فكذا في ماله , وفي قول عندهم : يكون فيئاً .
قالوا : وفي حكمه لو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد , بل لرسالة أو تجارة ومات هناك , فهو كموته في دار الإسلام .
وعند الحنابلة يبعث مال المستأمن إلى ملكهم , يقول ابن قدامة : وقد نصّ أحمد في رواية الأثرم فيمن دخل إلينا بأمان , فقتل أنّه يبعث بديته إلى ملكهم حتّى يدفعها إلى الورثة .
أخذ العشر من المستأمن :
56 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّ المستأمن إذا دخل دار الإسلام بتجارة يؤخذ منه عشر تجارته أو أكثر أو أقلّ على اختلاف الأقوال بين المذاهب .
واختلفوا أيضاً في شروط أخذ العشر من المستأمن من البلوغ والعقل والذكورة . كما أنّهم اختلفوا في المقدار الواجب في تجارته والمدّة الّتي يجزئ عنها العشر , ووقت استيفائه . والتّفصيل في مصطلح ( عشر ف / 11 , 15 16 , 17 , 26 , 29 , 30 ) .
ما يرضخ للمستأمن من مال الغنيمة :
57 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لو باشر المستأمن القتال بإذن الإمام , فهو بمنزلة أهل الذّمّة في استحقاق الرّضخ .
وقال المالكيّة : لا يرضخ للمستأمن كما لا يسهم للذّمّيّ .
والتّفصيل في مصطلح ( غنيمة ف / 3 ) .
ما يستحقّه للمستأمن من الكنز والمعدن :
58 - إذا وجد المستأمن في دارنا كنزاً أو معدناً فقد نصّ الحنفيّة على أنّه يؤخذ منه كله , لأنّ هذا في معنى الغنيمة , ولا حقّ لأهل الحرب في غنائم المسلمين رضخاً ولا سهماً .
وإن عمل في المعدن بإذن الإمام , أخذ منه الخمس , وما بقي فهو له , لأنّ الإمام شرط له ذلك لمصلحة , فعليه الوفاء بما شرط , كما لو استعان بهم في قتال أهل الحرب فرضخ لهم, فهذا مثله .
تحول المستأمن إلى ذمّيٍّ :(2/196)
59 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المستأمن يصير ذمّياً بأن يمكث المدّة المضروبة له , أو بأن يشتري أرض خراج ووضع عليه الخراج , أو بأن تتزوّج المرأة المستأمنة مسلماً , أو ذمّياً , لأنّها التزمت البقاء تبعاً للزّوج . وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ( أهل الذّمّة ف / 12 - 15 ) .
استئمان المسلم :
60 - إذا دخل المسلم دار الكفّار بأمان صار مستأمناً كما نصّ عليه جمهور الفقهاء ويترتّب على استئمانه أحكام على النّحو التّالي :
أ - حرمة خيانة الكفّار والغدر بهم :
61 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه تحرم على المسلم الّذي دخل دار الكفّار بأمان خيانتهم, فلا يحل له أن يتعرّض لشيء من أموالهم ودمائهم وفروجهم , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: « المسلمون على شروطهم » , ولأنّه بالاستئمان ضمن لهم أن لا يتعرّض بهم , وإنّما أعطوه الأمان بشرط عدم خيانتهم , وإن لم يكن ذلك مذكوراً في اللّفظ , فهو معلوم في المعنى , ولا يصلح في ديننا الغدر .
واستثنى الحنفيّة حالة ما إذا غدر بالمسلم ملكهم , فأخذ أمواله أو حبسه , أو فعل غير الملك ذلك بعلمه ولم يمنعه , لأنّهم هم الّذين نقضوا العهد .
فإن خان المسلم المستأمن الكفّار , أو سرق منهم , أو اقترض منهم شيئاً , فنصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه يجب عليه رد ما أخذ إلى أربابه , فإن جاء أربابه إلى دار الإسلام بأمان أو إيمان ردّه عليهم , وإلّا بعث به إليهم لأنّه أخذه على وجهٍ حرم عليه أخذه فلزمه رد ما أخذ , كما لو أخذه من مال مسلم , ولأنّه ليس له التّعرض لهم إذا دخل بأمان .
وقال الحنفيّة : إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان وأخرج إلينا شيئاً ملكه ملكاً حراماً , لأنّه ملكه بالغدر , فيتصدّق به وجوباً , ولو لم يخرجه ردّه عليهم .
ب - معاملات المستأمن المسلم الماليّة :(2/197)
62 - نصّ جمهور الحنفيّة على أنّه لو أدّان حربي المسلم المستأمن ديناً ببيع أو قرض , أو أدّان هو حربياً , أو غصب أحدهما صاحبه مالاً , ثمّ خرج المسلم إلينا واستأمن الحربي فخرج إلينا مستأمناً , لم يقض لواحد منهما على صاحبه بشيء .
أما الإدانة : فلأنّ القضاء يعتمد الولاية , ولا ولاية وقت الإدانة أصلاً على واحد منهما , إذ لا قدرة للقاضي فيه على من هو في دار الحرب , ولا وقت القضاء على المستأمن , لأنّه ما التزم أحكام الإسلام فيما مضى من أفعاله وإنّما التزمه فيما يستقبل .
وأمّا أنّه لا يقضي بالغصب لكلّ منهما فلأنّ المال المغصوب صار ملكاً للّذي غصبه , سواء كان الغاصب كافراً في دار الحرب أو مسلماً مستأمناً واستولى عليه , لمصادفته مالاً مباحاً غير معصوم , فصار كالإدانة .
وقال أبو يوسف يقضي بالدّين على المسلم دون الغصب لأنّه التزم أحكام الإسلام حيث كان . قال الحصكفيّ نقلاً عن الزّيلعيّ , والكمال ابن الهمام : ويفتى بردّ المغصوب والدّين ديانةً لا قضاءً , لأنّه غدر .
وعند الشّافعيّة والحنابلة يجب رد ما أخذ إلى أربابه .
ج - قتال المسلم المستأمن في دار الحرب :
63 - نصّ الحنفيّة على أنّه لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدّار الّتي فيها المسلم المستأمن , لا يحل له قتال هؤُلاء الكفّار إلّا إن خاف على نفسه , لأنّ القتال لمّا كان تعريضاً لنفسه على الهلاك لا يحل إلّا لذلك , أو لإعلاء كلمة اللّه , وهو إذا لم يخف على نفسه , ليس قتاله لهؤُلاء إلّا إعلاءً للكفر(2/198)
ولو أغار أهل الحرب الّذين فيهم مسلمون مستأمنون على طائفة من المسلمين , فأسروا ذراريّهم , فمروا بهم على أولئك المستأمنين , وجب عليهم أن ينقضوا عهودهم , ويقاتلوهم إذا كانوا يقدرون عليه , لأنّهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم , ولم يضمن المسلمون المستأمنون ذلك لهم , بخلاف الأموال , لأنّهم ملكوها بالإحراز وقد ضمنوا لهم أن لا يتعرّضوا لأموالهم .
وكذلك لو كان المأخوذ ذراريّ الخوارج , لأنّهم مسلمون .
د - قتل المستأمن المسلم مسلماً آخر في دار الحرب :
64 - نصّ الحنفيّة على أنّه إذا دخل مسلمان دار الحرب بأمان فقتل أحدهما صاحبه عمداً أو خطأً , فعلى القاتل الدّية في ماله في القتل العمد , أما القصاص فيسقط لأنّه لا يمكن استيفاؤُه إلّا بمنع , ولا منعة دون الإمام وجماعة المسلمين , ولم يوجد ذلك في دار الحرب, فلا فائدة في الوجوب فيسقط القصاص وتجب الدّية , وأمّا وجوبها في ماله فلأنّ العواقل لا تعقل العمد .
وفي القتل الخطأ تجب الدّية في ماله والكفّارة , أما الدّية فلأنّ العصمة الثّابتة , بالإحراز بدار الإسلام لا تبطل بعارض الدخول إلى دار الحرب بالأمان , وأمّا في ماله فلتعذر الصّيانة على العاقلة مع تباين الدّارين , وأمّا وجوب الكفّارة فلإطلاق قوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } بلا تقييد بدار الإسلام أو الحرب .
ونصّ الشّافعيّة على أنّه إذا كان المسلمون مستأمنين في دار الحرب , فقتل بعضهم بعضاً , أو قذف بعضهم بعضاً , أو زنوا بغير حربيّة , فعليهم في هذا كلّه الحكم كما يكون عليهم لو فعلوه في بلاد الإسلام , ولا تسقط دار الحرب عنهم فرضاً كما لا تسقط عنهم صوماً ولا صلاةً ولا زكاةً , والحدود فرض عليهم كما هذه فرض عليهم , وإنّما يسقط عنهم حد الزّنا لو زنى بحربيّة إذا ادّعى الشبهة .
==================(2/199)
دخول الكافر المسجد الحرام (1):
16 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن الشّيباني إلى أنّ الكافر ليس له دخول المسجد الحرام بحال لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .
ويقرب من هذا ما ذهب إليه المالكيّة إذ أنّهم يرون أنّ الكافر يمنع من دخول المسجد مطلقاً وإن أذن له مسلم ما لم تدع ضرورة لدخوله كعمارة , وقالوا : إنّ الآية : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } عامّة في سائر المشركين وسائر المساجد , وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله , ونزع في كتابه بهذه الآية , ويؤيّد ذلك قوله تعالى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } , ودخول الكفّار فيها مناقض لترفيعها .
وصرّح الحنفيّة بأنّه لا بأس بدخول أهل الذّمّة المسجد الحرام وسائر المساجد .
==================
سادساً : مصافحة الكافر (2):
10 - ذهب الحنفيّة والحنابلة إلى القول بكراهة مصافحة المسلم للكافر إلّا أنّ الحنفيّة استثنوا مصافحة المسلم جاره النّصرانيّ إذا رجع بعد الغيبة وكان يتأذّى بترك المصافحة , وأمّا الحنابلة فقد أطلقوا القول بالكراهة , بناءً على ما روي أنّ الإمام أحمد سئل عن مصافحة أهل الذّمّة فقال : لا يعجبني .
وذهب المالكيّة إلى عدم جواز مصافحة المسلم الكافر ولا المبتاع , لأنّ الشّارع طلب هجرهما ومجانبتهما , وفي المصافحة وصل مناف لما طلبه الشّارع .
=================
مضاربة غير المسلم (3):
11 - اختلف الفقهاء في مضاربة غير المسلم :
فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز مضاربة غير المسلم في الجملة .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13807)
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 13954)
(3) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14005)(2/200)
قال الكاساني : ولا يشترط إسلام ربّ المال أو المضارب , فتصح المضاربة بين أهل الذّمّة وبين المسلم والذّمّيّ والحربيّ المستأمن , حتّى لو دخل حربي دار الإسلام بأمان , فدفع ماله إلى مسلمٍ مضاربةً , أو دفع إليه مسلم ماله مضاربةً فهو جائز , لأنّ المستأمن في دارنا بمنزلة الذّمّيّ , والمضاربة مع الذّمّيّ جائزة فكذلك مع الحربيّ المستأمن .
فإن كان المضارب هو المسلم فدخل دار الحرب بأمان فعمل بالمال فهو جائز , لأنّه دخل دار ربّ المال , فلم يوجد بينهما اختلاف الدّارين , فصار كأنّهما في دارٍ واحدةٍ .
وإن كان المضارب هو الحربي فرجع إلى داره : فإن كان بغير إذن ربّ المال بطلت المضاربة , وإن كان بإذنه فذلك جائز ويكون على المضاربة , ويكون الرّبح بينهما على ما شرطا إن رجع إلى دار الإسلام مسلماً أو معاهداً أو بأمان استحساناً , والقياس أن تبطل المضاربة .
وجه الاستحسان : أنّه لمّا خرج بأمر ربّ المال صار كأنّ ربّ المال دخل معه , ولو دخل رب المال معه إلى دار الحرب لم تبطل المضاربة , فكذا إذا دخل بأمره , بخلاف ما إذا دخل بغير أمره , لأنّه لمّا لم يأذن له بالدخول انقطع حكم ربّ المال عنه , فصار تصرفه لنفسه فملك الأمر به .
ووجه القياس : أنّه لمّا عاد إلى دار الحرب بطل أمانه وعاد إلى حكم الحرب كما كان , فبطل أمر ربّ المال عند اختلاف الدّارين , فإذا تصرّف فيه فقد تعدّى بالتّصرف فملك ما تصرّف فيه .
وقال ابن قدامة : وأمّا المجوسي فإنّ أحمد كره مشاركته ومعاملته قال : ما أحب مخالطته ومعاملته , لأنّه يستحل ما لا يستحل غيره .
وأمّا الشّافعيّة والمالكيّة في المذهب فذهبوا إلى أنّ مضاربة غير المسلم أو مشاركته مكروهة , وعند المالكيّة قول بحرمة مضاربة المسلم للذّمّيّ .
وقال مالك : لا أحب للرّجل أن يقارض رجلاً إلا رجلاً يعرف الحرام والحلال , وإن كان رجلاً مسلماً فلا أحب له أن يقارض من يستحل شيئاً من الحرام .(2/201)
=================
مَعَابِد(1)
التّعريف
1 - المعابد في اللغة جمع معبَدٍ - بفتح الباء - وهو مكان العبادة ومحلها .
والعبادة مصدر عبَد - بفتح الباء - يقال : عبد اللّه عبادةً وعبوديّةً : انقاد له وخضع وذلّ , والمتعبّد : مكان التّعبد .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ .
الألفاظ ذات الصّلة
«المسجد»
2 - المسجد لغةً مفعل بكسر العين : اسم لمكان السجود , وبالفتح اسم للمصدر .
والمسجد شرعاً : كل موضعٍ من الأرض , لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » , وخصّصه العرف بالمكان المهيّأ للصّلوات الخمس .
والصّلة بين المسجد والمعابد العموم والخصوص المطلق .
أقسام المعابد (2):
مكان عبادة المسلمين هو المسجد والجامع والمصلّى والزّاوية .
وتفصيل أحكام ذلك في مصطلح : ( مسجد ف 1 - 4 ) .
وأمّا مكان عبادة غير المسلمين فله أقسام وتسميات مختلفة على النّحو التّالي :
أ - الكنيسة :
3 - تطلق الكنيسة عند بعض اللغويّين على متعبّد اليهود , وتطلق أيضاً على متعبّد النّصارى , وهي معرّبة .
ونصّ بعض الفقهاء كقاضي زاده وغيره على أنّ الكنيسة اسم لمعبد اليهود والنّصارى مطلقاً في الأصل , ثمّ غلب استعمال الكنيسة لمعبد اليهود , قال ابن عابدين : وأهل مصر يطلقون الكنيسة على متعبّدهما .
وأورد البركتي أوجهاً أربعةً فقال : الكنيسة : متعبّد اليهود أو النّصارى , أو الكفّار , أو موضع صلاة اليهود فقط .
ونصّ زكريّا الأنصاري من الشّافعيّة على أنّ الكنيسة متعبّد النّصارى .
وقال الدسوقيّ : الكنيسة : متعبّد الكفّار , سواء كانت بيعةً أو بيت نارٍ .
ب - البيعة :
4 - البِيعة - بكسر الباء - مفرد جمعه بِيع - بكسر الباء - مثل سدرةٍ وسدرٍ , وهي متعبّد النّصارى , وزاد الفخر الرّازيّ فقال : وهي الّتي يبنونها في البلد .
__________
(2) - الموسوعة الفقهية1-45 كاملة - (ج 2 / ص 14136)(2/202)
وقال قاضي زاده من الحنفيّة : إنّ البيعة اسم لمعبد اليهود مطلقاً , ثمّ غلب استعمال البيعة لمعبد النّصارى .
وقال ابن القيّم : إنّ أهل اللغة والتّفسير على أنّ البيعة معبد النّصارى إلا ما حكيناه عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه قال : البيع مساجد اليهود .
ج - الصّومعة :
5 - قال ابن عابدين : الصّومعة بيت يبنى برأس طويلٍ ليتعبّد فيه بالانقطاع عن النّاس , وذكر الفخر الرّازيّ : أنّ الصّوامع للنّصارى وهي الّتي بنوها في الصّحاري , وقيل : الصّوامع للصّابئين .
د - الدّير :
6 - الدّير مقام الرهبان والرّاهبات من النّصارى , ويجتمعون فيه للرّهبانيّة والتّفرد عن النّاس , ويجمع على ديورةٍ مثل : بعلٍ وبعولةٍ .
قال ابن عابدين : وأهل مصر والشّام يخصون الدّير بمعبد النّصارى .
هـ - الفُهُر :
7 - الفهر بضمّ الفاء والهاء جمع , ومفردها فُهْر , لليهود خاصّةً , وهو بيت المدراس الّذي يتدارسون فيه العلم , وفيه قول أنسٍ رضي اللّه تعالى عنه : وكأنّهم اليهود حين خرجوا من فهرهم .
و - الصّلوات :
8 - الصّلوات كنائس اليهود , قال الزّجّاج وهي بالعبريّة " صلوتا " , وقيل : للنّصارى , وقيل : للصّابئين .
ز - بيت النّار والنّاووس :
9 - بيت النّار : هو موضع عبادة المجوس .
وأمّا النّاووس فقال اللغويون : النّاووس مقابر النّصارى , أو صندوق من خشبٍ أو نحوه يضع فيه النّصارى جثّة الميّت .
وقال ابن القيّم : النّاووس للمجوس كالكنيسة للنّصارى , وهو من خصائص دينهم الباطل .
الأحكام المتعلّقة بالمعابد :
10 - لا يفرّق الفقهاء بين الكنيسة والبيعة , والصّومعة , وبيت النّار , والدّير وغيرها في الأحكام , والأصل في هذا ما ورد في كتاب عمر رضي اللّه عنه لمّا صالح نصارى الشّام كتب إليهم كتاباً : " إنّهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسةً ولا صومعة راهبٍ . . . " .(2/203)
وقال الدسوقيّ في كراهة الصّلاة فيها : وتكره الصّلاة بمتعبّد الكفّار سواء كان كنيسةً أو بيعةً , أو بيت نارٍ .
وقال البهوتي وابن قدامة في الوقف : ولا يصح الوقف على كنائس , وبيوت نارٍ , وبيعٍ وصوامع , وديورةٍ ومصالحها .
ونصّ ابن القيّم بعد ذكر جميع أنواع المعابد على أنّ : حكم هذه الأمكنة كلّها حكم الكنيسة , وينبغي التّنبيه عليها .
وتفصيل الأحكام المتعلّقة بالمعابد على النّحو التّالي :
إحداث المعابد في أمصار المسلمين :
11 - يختلف حكم إحداث المعابد في أمصار المسلمين باختلاف الأمصار على النّحو التّالي : أ - ما اختطّه المسلمون كالكوفة والبصرة , فلا يجوز فيها إحداث كنيسةٍ ولا بيعةٍ ولا مجتمعٍ لصلاتهم ولا صومعةٍ بإجماع أهل العلم .
ب - ما فتحه المسلمون عنوةً , فلا يجوز فيه إحداث شيءٍ بالاتّفاق لأنّه صار ملكاً للمسلمين , واختلفوا في هدم ما كان فيه كما يأتي فيما بعد .
ج - ما فتحه المسلمون صلحاً : فإن صالحوهم على أنّ الأرض لهم والخراج لنا جاز الإحداث عند جمهور الفقهاء , وإن صالحوهم على أنّ الدّار لنا ويؤدون الجزية فلا يجوز الإحداث إلا إذا شرطوا ذلك , وإن وقع الصلح مطلقاً لا يجوز الإحداث عند جمهور الفقهاء . والتّفصيل في مصطلح : ( أهل الذّمّة ف 24 - 25 ) .
هدم المعابد القديمة :
12 - المراد من المعابد القديمة ما كانت قبل فتح الإمام بلد الكفّار ومصالحتهم على إقرارهم على بلدهم وعلى دينهم , ولا يشترط أن تكون في زمن الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم أو التّابعين لا محالة
ويختلف حكم المعابد القديمة باختلاف مواقعها على النّحو التّالي :
أ - المعابد القديمة في المدن الّتي أحدثها المسلمون :(2/204)
13 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ البيع والكنائس القديمة في السّواد والقرى لا يتعرّض لها ولا يهدم شيء منها , قال الكمال بن الهمام : إنّ البيع والكنائس في السّواد لا تهدم على الرّوايات كلّها , وأمّا في الأمصار فاختلف كلام محمّدٍ , فذكر في العشر والخراج : تهدم القديمة , وذكر في الإجارة : لا تهدم ، وعمل النّاس على هذا , فإنّا رأينا كثيراً منها توالت عليها أئمّة وأزمان وهي باقية لم يأمر إمام بهدمها , فكان متوارثاً من عهد الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم .
وعلى هذا لو مصّرنا برّيّةً فيها دير أو كنيسة فوقع داخل السور ينبغي أن لا يهدم , لأنّه كان مستحقاً للأمان قبل وضع السور , فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك لأنّها كانت فضاءً فأدار العبيديون عليها السور , ثمّ فيها الآن كنائس , ويبعد من إمام تمكين الكفّار من إحداثها جهاراً في جوف المدن الإسلاميّة , فالظّاهر أنّها كانت في الضّواحي , فأدير السور عليها فأحاط بها , وعلى هذا فالكنائس الموضوعة الآن في دار الإسلام - غير جزيرة العرب - كلها ينبغي أن لا تهدم , لأنّها إن كانت في أمصارٍ قديمةٍ , فلا شكّ أنّ الصّحابة أو التّابعين حين فتحوا المدينة علموا بها وأبقوها , وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوةً حكمنا بأنّها بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم , ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتّقرب , وإن عرف أنّها فتحت صلحاً حكمنا بأنّهم أقروها معابد فلا يمنعون من الاجتماع فيها بل من الإظهار .
وقال المالكيّة : إنّ الكنائس القديمة تترك لأهل الذّمّة فيما اختطّه المسلمون فسكنوه معهم , وقال عبد الملك : لا يجوز الإحداث مطلقاً ولا يترك لهم كنيسةً .(2/205)
وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الّذي يوجد في البلاد الّتي أحدثها المسلمون من البيع والكنائس وبيوت النّار وجهل أصله لا ينقض لاحتمال أنّها كانت قريةً أو بريّةً فاتّصل بها عمران ما أحدث منّا , بخلاف ما لو علم إحداث شيءٍ منها بعد بنائها فإنّه يلزمنا هدمه إذا بني للتّعبد , وإن بني لنزول المارّة : فإن كان لعموم النّاس جاز , وكذلك إذا كان لأهل الذّمّة فقط كما جزم به ابن الصّبّاغ .
وقال الحنابلة : الكنائس الّتي في البلاد الّتي مصّرها المسلمون وأحدثت بعد تمصير المسلمين لها تزال , وما كان موجوداً بفلاة من الأرض ثمّ مصر المسلمون حولها المصر فهذه لا تزال .
ب - المعابد القديمة فيما فتح عنوةً :
14 - ذهب المالكيّة وهو وجه عند الحنابلة وقول للشّافعيّة في مقابل الأصحّ إلى أنّ المعابد القديمة فيما فتح عنوةً لا يجب هدمه .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ وهو وجه عند الحنابلة إلى أنّه يجب هدمه .
وقال الحنفيّة : لا تهدم ولكن تبقى بأيديهم مساكن , ويمنعون من الاجتماع فيها للتّقرب .
ج - المعابد القديمة فيما فتح صلحاً :
15 - الأراضي المفتوحة صلحاً ثلاثة أنواعٍ :
النّوع الأوّل : أن يصالحهم الإمام على أن تكون الأرض لنا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح .
النّوع الثّاني : أن يصالحهم الإمام على أن تكون الأرض لهم ويؤدوا عنها خراجاً , فهذا ممّا لا يتعرّض للمعابد القديمة فيها دون خلافٍ .
النّوع الثّالث : أن يقع الصلح مطلقاً : فذهب الشّافعيّة في مقابل الأصحّ , والحنابلة , وهو المفهوم من كلام الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يتعرّض للقديمة وهذا لحاجتهم إليها في عبادتهم كما علّله الشّافعيّة .
وذهب الشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّها لا تبقى , لأنّ إطلاق اللّفظ يقتضي ضرورة جميع البلد لنا .
إعادة المنهدم :(2/206)
16 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة على الأصحّ وهو رواية عن أحمد إلى أنّه إذا انهدمت الكنيسة - الّتي أقرّ أهلها عليها - فللذّمّيّين إعادتها , لأنّ الأبنية لا تبقى دائماً , ولمّا أقرّهم الإمام على إبقائها قبل الظهور عليهم وصالحهم عليه فقد عهد إليهم الإعادة , ولأنّ ذلك ليس بإحداث , والمراد بالإعادة أن تكون من غير زيادةٍ على البناء الأوّل كما نصّ عليه الحنفيّة أي : لا يبنون ما كان باللّبن بالآجرّ , ولا ما كان بالآجرّ بالحجر ولا ما كان بالجريد وخشب النّخل بالنّقى والسّاج , ولا بياضاً لم يكن .
قالوا : وللإمام أن يخرّبها إذا وقف على بيعةٍ جديدةٍ , أو بني منها فوق ما كان في القديم , وكذا ما زاد في عمارتها العتيقة .
وإذا جاز لهم إعادة بنائها فإنّ لهم ذلك من غير توسيعٍ على خطّتها , كما نصّ عليه الشّافعيّة في الصّحيح من المذهب , لأنّ الزّيادة في حكم كنيسةٍ محدثةٍ متّصلةٍ بالأولى , وقيل : المراد بالإعادة الإعادة لما تهدّم منها لا بآلات جديدةٍ , والمراد بالمهدم كما ذكره ابن عابدين نقلاً عن الأشباه : ما انهدم , وليس ما هدمه الإمام , لأنّ في إعادتها بعد هدم المسلمين استخفافاً بهم وبالإسلام , وإخماداً لهم وكسراً لشوكتهم , ونصراً للكفر وأهله , ولأنّ فيه افتياتاً على الإمام فيلزم فاعله التّعزير , وبخلاف ما إذا هدموها بأنفسهم فإنّها تعاد .
وذهب الحنابلة , والاصطخري وابن أبي هريرة من الشّافعيّة إلى أنّه ليس لهم ذلك , وعلّله الحنابلة فقالوا : لأنّه كبناء كنيسةٍ في دار الإسلام .
ترميم المعابد :
17 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة إلى أنّه لا يمنع أهل الذّمّة من رمّ ما تشعّث من الكنائس والبيع ونحوها الّتي أقرّ أهلها عليها وإصلاحها , لأنّ المنع من ذلك يفضي إلى خرابها وذهابها , فجرى مجرى هدمها .(2/207)
وزاد الشّافعيّة في وجهٍ : بأنّه يجب إخفاء العمارة لأنّ إظهارها زينة تشبه الاستحداث . والوجه الثّاني وهو الأصح أنّه لا يجب إخفاء العمارة فيجوز تطيينها من الدّاخل والخارج . والمعتمد عند المالكيّة أنّهم يمنعون من رمّ المنهدم في العنويّ - ما فتح عنوةً - وفي الصلحيّ عند بعضهم .
نقل المعبد من مكانٍ إلى آخر :
18 - اختلف الفقهاء في نقل المعبد من مكانٍ إلى مكانٍ آخر على أقوالٍ على النّحو التّالي : ذهب الحنفيّة إلى أنّه ليس لأهل الذّمّة أن يحوّلوا معابدهم من موضعٍ إلى موضعٍ آخر , لأنّ التّحويل من موضعٍ إلى موضعٍ آخر في حكم إحداث كنيسةٍ أخرى .
وقال المالكيّة : الظّاهر أنّهم لو شرطوا النّقل في العقد يجوز وإلا فلا .
وفصّل ابن القيّم الكلام عليه فقال : والّذي يتوجّه أن يقال : إن منعنا إعادة الكنيسة إذا انهدمت , منعنا نقلها بطريق الأولى , فإنّها إذا لم تعد إلى مكانها الّذي كانت عليه فكيف تنشأ في غيره ؟ وإن جوّزنا إعادتها فكان نقلها من ذلك المكان أصلح للمسلمين , لكونهم ينقلونها إلى موضعٍ خفيٍّ لا يجاوره مسلم , ونحو ذلك جائز بلا ريبٍ , فإنّ هذا مصلحة ظاهرة للإسلام والمسلمين فلا معنى للتّوقف فيه , وأمّا إن كان النّقل لمجرّد منفعتهم , وليس للمسلمين فيه منفعة فهذا لا يجوز , لأنّه إشغال رقبة أرض الإسلام بجعلها دار كفرٍ , فهو كما لو أرادوا جعلها خمّارةً أو بيت فسقٍ
فلو انتقل الكفّار عن محلّتهم وأخلوها إلى محلّةٍ أخرى فأرادوا نقل الكنيسة إلى تلك المحلّة , وإعطاء القديمة للمسلمين فهو على هذا الحكم .
وقال المالكيّة : إذا نقل الإمام النّصارى المعاهدين من مكانهم إلى مكانٍ آخر يباح لهم في
هذه الحالة بنيان بيعةٍ واحدةٍ لإقامة شرعهم ويمنعون من ضرب النّواقيس فيها .
اعتقاد الكنيسة بيت اللّه واعتقاد زيارتها قربةً :(2/208)
19 - نصّ الشّيخ تقي الدّين من الحنابلة على أنّ من اعتقد أنّ الكنائس بيوت اللّه أو أنّه يعبد فيها , أو أنّه يحب ذلك ويرضاه فهو كافر لأنّه يتضمّن اعتقاد صحّة دينهم , وذلك كفر , أو أعانهم على فتح الكنائس وإقامة دينهم , واعتقد ذلك قربةً أو طاعةً , وكذلك من اعتقد أنّ زيارة أهل الذّمّة كنائسهم قربةً إلى اللّه فهو مرتد .
الصّلاة في معابد الكفّار :
20 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه تكره الصّلاة في معابد الكفّار إذا دخلها مختاراً , أمّا إن دخلها مضطراً فلا كراهة .
وقال الحنابلة : تجوز الصّلاة فيها من غير كراهةٍ على الصّحيح من المذهب , وروي عن أحمد تكره , وفي روايةٍ أخرى عنه مع الصور , وقال الكاساني من الحنفيّة : لا يمنع المسلم أن يصلّي في الكنيسة من غير جماعةٍ , لأنّه ليس فيه تهاون بالمسلمين ولا استخفاف بهم .
والتّفصيل في مصطلح : ( صلاة ف 105 , دخول ف 12 ) .
النزول في الكنائس :
21 - نصّ بعض الفقهاء على أنّه يستحب للإمام أن يشترط على أهل الذّمّة في عقد الصلح منزل الضّيفان من كنيسةٍ , كما صالح عمر أهل الشّام على ذلك , فقد ورد في صلحه : ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في اللّيل والنّهار وأن نوسّع أبوابها للمارّة وابن السّبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً .
دخول المسلم معابد الكفّار :
22 - اختلف الفقهاء في جواز دخول المسلم معابد الكفّار على أقوالٍ :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره للمسلم دخول البيعة والكنيسة , لأنّه مجمع الشّياطين , لا من حيث إنّه ليس له حق الدخول .
ويرى المالكيّة والحنابلة وبعض الشّافعيّة أنّ للمسلم دخول بيعةٍ وكنيسةٍ ونحوهما .
وقال بعض الشّافعيّة في رأيٍ آخر : إنّه لا يجوز للمسلم دخولها إلا بإذنهم .
والتّفصيل في مصطلح : ( دخول ف 12 ) .
الإذن في دخول الكنيسة والإعانة عليه :(2/209)
23 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ للزّوج منع زوجته الذّمّيّة من دخول الكنيسة ونحوها .
ووجه ذلك عند الحنابلة : أن لا يعينها على أسباب الكفر وشعائره ولا يأذن لها فيه .
وعلّله الشّافعيّة : بأنّه إذا كان له منع المسلمة من إتيان المساجد فمنع الذّمّيّة من الكنيسة أولى .
وعند المالكيّة قولان كما ذكرهما الحطّاب : قال في المدوّنة : ليس له منعها من ذلك , وفي كتاب ابن الموّاز : له منعها من الكنيسة إلا في الفرض .
وأمّا الجارية النّصرانيّة فقد نصّ الحنابلة على أنّه إن سألت الخروج إلى أعيادهم وكنائسهم وجموعهم لا يأذن لها في ذلك .
ونصّ المالكيّة على أنّ المسلم لا يمنع مكاتبه النّصرانيّ من إتيان الكنيسة , لأنّ ذلك دينهم , إذ لا تحجير له عليه .
ونصّ الحنفيّة على أنّه لو سأل ذمّي مسلماً على طريق البيعة لا ينبغي للمسلم أن يدلّه على ذلك , لأنّه إعانة على المعصية , وأيضاً : مسلم له أم ذمّيّة أو أب ذمّي ليس له أن يقوده إلى البيعة , وله أن يقوده من البيعة إلى المنزل .
ملاعنة الذّمّيّين في المعابد :
24 - ذهب المالكيّة إلى أنّه يجب أن يكون لعان الذّمّيّة في كنيستها , واليهوديّة في بيعتها , والمجوسيّة في بيت النّار .
وقال الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة باستحباب لعان الزّوجة الكتابيّة في الكنيسة وحيث تعظّم , وإذا كان الزّوجان كتابيّين لاعن الحاكم بينهما في الكنيسة وحيث يعظّمان .
وقال القاضي من الحنابلة : يستحب التّغليظ بالمكان .
وأمّا الحنفيّة : فلا يتأتّى ذلك عندهم لأنّهم يشترطون الإسلام في اللّعان .
والتّفصيل في مصطلح : ( لعان ف 32 وما بعدها ) .
وقوع اسم البيت على المعابد :(2/210)
25 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن حلف شخص لا يدخل بيتاً فدخل كنيسةً أو بيعةً لا يحنث , وهو المفهوم من كلام المالكيّة , لعدم إطلاق اسم البيت عرفاً لأنّ البيت اسم لما يبات فيه , وأعدّ للبيتوتة وهذا المعنى معدوم في الكنيسة .
بيع عرصة كنيسةٍ :
26 - قال ابن شاسٍ من المالكيّة : لو باع أسقف الكنيسة عرصةً من الكنيسة أو حائطاً جاز ذلك إن كان البلد صلحاً , ولم يجز إن كان البلد عنوةً , لأنّها وقف بالفتح , وعلّله ابن رشدٍ فقال : لأنّه لا يجوز لهم بيع أرض العنوة , لأنّ جميعها فيء للّه على المسلمين : الكنائس وغيرها .
وأمّا أرض الصلح فاختلف قول ابن القاسم في أرض الكنيسة تكون عرصة الكنيسة أو حائطاً فيبيع ذلك أسقف أهل تلك البلدة هل للرّجل أن يتعمّد الشّراء , فأجاز شراء ذلك في سماع عيسى , ومنعه في سماع أصبغ .
بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً :
27 - نصّ جمهور الفقهاء على أنّه يمنع المسلم من بيع أرضٍ أو دارٍ لتتّخذ كنيسةً :
قال الحنفيّة : إن اشتروا دوراً في مصرٍ من أمصار المسلمين فأرادوا أن يتّخذوا داراً منها كنيسةً أو بيعةً أو بيت نارٍ في ذلك لصلواتهم منعوا عن ذلك .
وقال المالكيّة : يمنع أي يحرم بيع أرضٍ لتتّخذ كنيسةً وأجبر المشتري من غير فسخٍ للبيع على إخراجه من ملكه ببيع أو نحوه .
روى الخلال عن المروذيّ أنّ أبا عبد اللّه سئل عن رجلٍ باع داره من ذمّيٍّ وفيها محاريب فاستعظم ذلك وقال : نصراني ؟ ! ! لا تباع ، يضرب فيها النّاقوس وينصب فيها الصلبان ؟ وقال : لا تباع من الكافر وشدّد في ذلك .
وعن أبي الحارث أنّ أبا عبد اللّه سئل عن الرّجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدّار , ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي , قال : لا أرى له ذلك , قال : ولا أرى أن يبيع داره من كافرٍ يكفر فيها باللّه تعالى .
استئجار أهل الذّمّة داراً لاتّخاذها كنيسةً :(2/211)
28 - إذا اشترى أو استأجر ذمّي داراً على أنّه سيتّخذها كنيسةً فالجمهور على أنّ الإجارة فاسدة , أمّا إذا استأجرها للسكنى ثمّ اتّخذها معبداً فالإجارة صحيحة , ولكن للمسلمين عامّةً منعه حسبةً والتّفصيل في : ( إجارة ف 98 ) .
جعل الذّمّي بيته كنيسةً في حياته :
29 - نصّ الحنفيّة على أنّه لو جعل ذمّي داره بيعةً أو كنيسةً أو بيت نارٍ في صحّته , فمات فهو ميراث اتّفاقاً بين الإمام وصاحبيه واختلفوا في التّخريج : فعنده لأنّه كوقف لم يسجّل , والمراد أنّه يورث كالوقف , وليس المراد أنّه إذا سجّل لزم كالوقف , وأمّا عندهما فلأنّه معصية .
عمل المسلم في الكنيسة :
30 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجوز للمسلم أن يعمل لأهل الذّمّة في الكنيسة نجّاراً أو بناءً أو غير ذلك , لأنّه إعانة على المعصية , ومن خصائص دينهم الباطل , ولأنّه إجارة تتضمّن تعظيم دينهم وشعائرهم , وزاد المالكيّة بأنّه يؤدّب المسلم إلا أنّ يعتذر بجهالة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها لا بأس به لأنّه لا معصية في عين العمل .
ضرب النّاقوس في المعابد :
31 - ذهب الفقهاء إلى أنّه يمنع أهل الذّمّة من إظهار ضرب النّواقيس في معابدهم في الجملة , وأنّه لا بأس بإخفائها وضربها في جوف الكنائس , واختلفوا في التّفاصيل :
فقال الحنفيّة : لو ضربوا النّاقوس في جوف كنائسهم القديمة لم يتعرّض لذلك لأنّ إظهار الشّعائر لم يتحقّق , فإن ضربوا به خارجاً منها لم يمكّنوا لما فيه من إظهار الشّعائر , ولا يمنعون من ضرب النّاقوس في قريةٍ أو موضعٍ ليس من أمصار المسلمين , ولو كان فيه عدد كثير من أهل الإسلام , وإنّما يكره ذلك في أمصار المسلمين وهي الّتي تقام فيها الجمع والأعياد والحدود .
وكذلك الحكم في إظهار صليبهم , لو فعلوا ذلك في كنائسهم لا يتعرّض لهم .
وقال المالكيّة : يمنع أهل الذّمّة من ضرب النّواقيس فيها .(2/212)
قال ابن جزيٍّ : عليهم إخفاء نواقيسهم .
وقال الشّافعيّة يمنعون من ضرب النّاقوس في الكنيسة , وقيل : لا يمنعون تبعاً لكنيسة , قال النّووي : وهذا الخلاف في كنيسة بلدٍ صالحناهم على أنّ أرضه لنا , فإن صالحناهم على أنّ الأرض لهم فلا منع قطعاً , قال : وقال إمام الحرمين : وأمّا ناقوس المجوس فلست أرى فيه ما يوجب المنع , وإنّما هو محوّط وبيوت يجمع فيها المجوس جيفهم , وليس كالبيع والكنائس فإنّها تتعلّق بالشّعار .
وذهب الحنابلة إلى أنّه يلزم أهل الذّمّة الكف عن إظهار ضرب النّواقيس , سواء شرط عليهم أو لم يشرط .
وأجازوا الضّرب الخفيف في جوف الكنائس .
الوقف على المعابد :
32 - اختلف الفقهاء في الوقف على المعابد على أقوالٍ كما يلي :
ذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يصح وقف المسلم على بيعةٍ لعدم كونه قربةً في ذاته , وكذلك لا يصح وقف الذّمّيّ لعدم كونه قربةً عندنا .
قال ابن عابدين نقلاً عن الفتح : هذا إذا لم يجعل آخره للفقراء , فلو وقف الذّمّي على بيعةٍ مثلاً فإذا خربت تكون للفقراء , كان للفقراء ابتداءً , ولو لم يجعل آخره للفقراء كان ميراثاً عنه , كما نصّ عليه الخصّاف ولم يحك فيه خلافاً .
واختلف المالكيّة على ثلاثة أقوالٍ :
ففي المعتمد عندهم لا يجوز وقف الذّمّيّ على الكنيسة مطلقاً , سواء كان لعبّادها أو لمرمّتها , وسواء كان الواقف مسلماً أو كافراً .
وفصّل ابن رشدٍ فقال : إنّ وقف الكافر على الكنيسة باطل لأنّه معصية , أمّا الوقف على مرمّتها أو على الجرحى أو المرضى الّذين فيها فالوقف صحيح معمول به .
وهناك قول ثالث قال به عياض وهو : أنّ الوقف على الكنيسة مطلقاً صحيح غير لازمٍ , سواء أشهدوا على ذلك أم لا , وسواء خرج الموقوف من تحت يد الواقف أم لا .(2/213)