د/ عبد الله قادري الأهدل
كتاب الحدود
و
السلطان
الحدود والسلطان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)) [آل عمران: 102].
قال تعالى: (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)) [النساء: 1].
قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)) [الأحزاب: 7(ـ 71].
أما بعد: [هذه خطبة الحاجة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وكانوا يفتتحون بها كلامهم، وقد أفردها شيخنا الألباني برسالة مستقلة سماها باسمها خرّج أحاديثها وذكر طرقها والحكم عليها].
فإن الله عز وجل قد تفضل على عباده، فأنزل لهم من عنده منهجاً لحياتهم، وهو كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكم حميد، كما بعث إليهم رسولاً من أنفسهم يعلمهم كتابه، وسنة نبيه، ويزكيهم بهما، ليسعدوا في حياتهم الدنيا بالعيشة الطيبة وفي آخرتهم بالرضا والأجر والمثوبة، وتعبدهم سبحانه وتعالى بإقامة خليفة بعد نبيه ينفذ شريعته، وألزمهم بطاعته في غير معصيته.
ولقد بلَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربه، فلم ينتقل إلى جواره إلا بعد أن علَّم وزكَّى، وحث على نصب خليفة بعده، وأمر بما أمر الله به من طاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر من بعده.
فامتثل أصحابه رضوان الله عليهم، أمر الله وأمر رسوله، فلم يدفنوا نبيهم حتى بايعوا خليفة يسمعون له ويطيعون.(1/1)
وقام الخلفاء الراشدون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم بأمر الله ورسوله، وبينوا للناس أن لا طاعة لأحد منهم في غير طاعة الله ورسوله، فتعاون الخلفاء ورعاياهم على البر والتقوى، وقوَّم الخلفاءُ مَن اعوجَّ عن طاعة الله بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بقوة السلطان الذي قد يزع الله به ما لا يزع بالقرآن.
وكان خليفة المسلمين هو إمامَ الصلاة، وأميرَ الجيش، وقاضيَ الحكم، ومفتيَ الجاهل، وإن كان له في رعيته أعوان.
ولم تدم الحال على ذلك، بل أتى على المسلمين حين من الدهر، تولى فيه شؤون دنياهم وشيئاً من دينهم الأمراء، وتولى فيه تعليمهم والصلاة بهم وإفتاءهم، والقضاء بينهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، علماء الإسلام، وكان التعاون بين هؤلاء وبين الأمراء هو السائد، العلماء يفتون وينصحون والأمراء ينفذون.
ثم أخذت الهوة تتسع، بين العلماء والأمراء شيئاً فشيئاً، حتى أصبح بعض الأمراء ينفذون ما لا يرضى به العلماء، لبعده عن دين الله، ولكن الأمراء لم يكونوا يجرءون على إقصاء حكم الله إقصاءاً كاملاً، وإن خالفوه في سلوكهم وبعض تصرفاتهم، وبقي المسلمون على ذلك يقترب أمراؤهم إلى علمائهم تارة ويبتعدون أخرى.(1/2)
ولكن قاصمة الظهر كانت عند انفراط عقد المسلمين بسقوط آخر رمز للخلافة الإسلامية، الذي تفرقت بعده الشعوب الإسلامية وسيطر عليها أعداء الإسلام عسكرياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً وإعلامياً، فكان من جراء ذلك أن ربَّوا على أيديهم جيلاً من أبناء المسلمين يكفر بالإسلام أو ببعضه، ويقدس قوانين الغرب وأنظمته، ويعادي علماء الإسلام ودعاته، وتسلم هؤلاء دفةَ حكم شعوبهم بالقوة وليس بالاختيار، ونقلوا مناهج أساتذتهم من الكفار في كل مناحي الحياة، ونشَّأوا عليها أبناء شعوبهم، الذين شوهت معاني الإسلام في أدمغتهم، وقُدِّست مبادئ الحضارة الغربية المادية في نفوسهم، وغُرِس في قلوبهم التحررُ من قيود الدين والعادات التي توارثها آباؤهم قبلهم.
وقل العلماء العاملون الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، إما لانغماس كثير منهم مباهج الدنيا وملذاتها، والركون إلى ما فيها من مال وجاه ومنصب، وإما بِحَوْل من تولى أمور المسلمين بين العلماء وشباب الأمة.
فاصطرع دعاة الحق وأعداء الدين، فزج هؤلاء بأولئك في السجون وآذوهم وقتلوهم، ومن سلم من ذلك حيل بينه وبين قول كلمة الحق.
وبعد أن مضت فترة على الأمة الإسلامية جربوا فيها مذاهب الكفار ومناهجهم فلم يحصدوا منها إلا الذل والمهانة واستعباد أهل الكفر لهم، واحتلال أوطانهم ونهب خيراتهم، وصاح بهم قليل من دعاة الحق، منذرين إياهم من الأخطار المتلاحقة، مقدمين أنفسهم شهداء في ذات ربهم، يسجن الطغاة من يسجنون منهم، ويعذبون من يعذبون، ويقتلون من يقتلون، فصحا كثير من شباب الأمة من سباتهم، وأفاقوا من غفوتهم، وأخذوا ييممون وجوههم شطر دعاة الحق ليتفقهوا في الدين، وأغلب هؤلاء الشباب من الجامعات المسماة بالمدنية التي لم يكن للدين الإسلامي والتفقه فيه مكان، فوجدوا أمامهم ثلاثة أصناف من العلماء:(1/3)
الصنف الأول: مَن هم على دراية بأحكام الشريعة الإسلامية، ولكن كثيراً منهم لم يجرؤ على الاتصال بهذا الشباب ليعلمه ويفقهه في الدين مما علمه الله، خوفاً من طغاة الحكم الذين لا يرضيهم أن يروا عالماً يجتمع حوله الناس، بل يأخذون في مضايقته واتهامه بالتحريض ضد النظام، ثم إيذائه وفتنته وفتنة كل من يتصل به.
الصنف الثاني: مَن أضلهم الله على علم، فأخذوا يهزون رؤوسهم لكل حاكم بالحق وبالباطل، ويصدرون فتاوى تؤيد كل تصرف يصدر من طغاة الحكم، وكثير منهم تولى مناصب تسمى بالدينية، وهم أدوات لتشويه الدين فيها، فلم يطق هذا الشباب أن يتتلمذ على أمثال هؤلاء، لأنهم عنده ممن الذين يكتمون الحق، وينطقون بالباطل وهم يعلمون.
الصنف الثالث: مَن لهم صلة بعلوم الإسلام، ولكنهم ليسوا فقهاء في أحكامه، وإنما عندهم إلمام ببعض الدراسات الإسلامية، وتخصصاتهم في الأصل ليست في مجال الشريعة الإسلامية ولكن عواطفهم الإسلامية جياشة وحبهم للدين شديد، وهم يدعون إلى الله حسب الفرص المتاحة لهم بالمحاضرات واللقاءات وتأليف الكتب والكتابة في بعض الجرائد أو المجلات، والتدريس في المعاهد والجامعات.
وعلى أمثال هؤلاء وكتاباتهم تتلمذ كثير من الشباب، وقد يتناولون بالدراسة بعض آيات القرآن وتفسيرها، وبعض الأحاديث النبوية وشرحها، ولكنها دراسة شخصية قد يكثر فيها الخطأ ويقل الصواب، وبخاصة التشبث بالآراء الغالية، وقد تأخذ بألبابهم بعض الجزئيات من دين الإسلام، فيهتمون بها أكثر من غيرها، ويتركون جزئيات أخرى هي أهم مما عُنُوا به، فيقدمون بذلك المهم على الأهم والفرع على الأصل، فاهتمت بعض الطوائف ببعض جوانب العقيدة، واهتمت أخرى بجانب السياسة والحكم، واهتمت ثالثة بالجهاد العسكري، واهتمت رابعة بتنفيذ الأحكام وبخاصة الحدود، وقد يقترب بعضها من الشمول، وقد يبتعد بعضها الآخر.(1/4)
والذي يعنينا في هذا المقام أن بعض الجماعات نظرت إلى الأحكام الشرعية فوجدتها معطلة، ونظرت إلى المجتمعات في الشعوب الإسلامية فوجدتها قد غرقت في الفواحش والمنكرات، فأخذوا على أنفسهم بالتمسك بمبادئ الإسلام، بحسب ما فهموا منها، ومن ذلك إقامة الحدود على أعضائهم، إذا ما ارتكبوا ما يوجب حدا.
وهم ليسوا متعمقين في فقه الحدود وشروطها ومسقطاتها من جهة، وغير عالمين بعواقب ذلك في بلدان يتولى الحكم فيها من يعادي حدود الله، ويحارب من يدعو إلى إقامتها نظرياً، فكيف يكون موقفهم ممن يقوم بتنفيذها فعلاً؟
وانتشرت هذه الفكرة حتى وجدنا بعض الجماعات في بلاد الكفار تحاول إقامة الحدود على أعضائها، وجرت بيننا وبينهم حوارات في هذا الموضوع، وحاولنا إقناعهم بأن إقامة الحدود من حق ولاة الأمور الذين لهم سلطان وقوة، وليست لكل جماعة أو حزب، وأن القدرة ليس المقصود بها مجرد استطاعة فرد من الناس أو الجماعة تنفيذ الحكم، وإنما يتبع ذلك أن يكون ولي الأمر ذا قوة وسلطان تهابه رعيته، وإذا خرج عليه أحد منهم استطاع تأديبه ورده إلى طاعته بقوته ومنعته.(1/5)
ولكن القوم ازدادوا إصرارً على موقفهم، وتمسكاً برأيهم، على الرغم من اجتماعنا بهم مرة أخرى، كان بينها وبين المرة الأولى ما يقرب من عشرة سنوات، وقد حفزني هذا على البحث والتنقيب في نصوص القرآن والسنة، وتفسير آيات أحكام القرآن وشروح الحديث وكتب الفقه، وكتب السياسة الشرعية، وجمع النصوص المتفرقة في هذا الباب لأصل منها إلى نتيجة، فكانت بسبب ذلك هذه الرسالة التي أرجو أن ينفع الله بها الأمة الإسلامية، وبخاصة الشباب في الجماعات الإسلامية، الذين يتلهفون لمعرفة حكم الله للعمل به إرضاءاً لربهم، ونصراً لدينهم، وقد بذلت جهدي في عرض آراء العلماء وأدلتهم ومناقشتها، والوصول إلى القول الفصل عندي في النهاية، فإن كنت قد وفقت فما توفيقي إلا بالله، وإن كنت قد أخطأت فأرجو من الله أن يغفر لي خطئي ويثيبني على اجتهادي.
والله من وراء قصدي، وهو حسبي ونعم الوكيل.
محتوى الكتاب
تمهيد: في وجوب تنفيذ شرع الله.
الفصل الأول: وجوب إقامة الحدود.
وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: النصوص الدالة على وجوب إقامة الحدود.
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على عدم تنفيذ الحدود.
الفصل الثاني: اختلاف العلماء في المراد بأولي الأمر
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: القول: بأنهم الأمراء.
المبحث الثاني: القول: بأنهم العلماء.
المبحث الثالث: الجمع بين القولين.
الفصل الثالث: دلالة الواقع التاريخي على أن الحدود إلى السلطان من أولي الأمر.
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مجيء العصاة إلى السلطان ليطهرهم بإقامة الحد عليهم.
المبحث الثاني: مجيء الرعية إلى السلطان بالعصاة لتطهيرهم بإقامة الحد.
المبحث الثالث: أمر السلطان بإقامة الحدود.
الفصل الرابع: مذاهب العلماء في من إليه تنفيذ الحدود.
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: إقامة الحدود على الأحرار.
المبحث الثاني: إقامة الحدود على العبيد.
الفصل الخامس: إقامة غير السلطان الحدود بدون إذنه.(1/6)
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مذهب من يرى عدم الجواز وأدلته.
المبحث الثاني: من يرى الجواز وما يستدل له به.
المبحث الثالث: تعدد الأمراء أو تقصير السلطان في إقامة الحدود.
تمهيد في وجوب تنفيذ شرع الله.
وفي هذا التمهيد فرعان:
الفرع الأول: وجوب طاعة الله ورسوله على كل فرد من أفراد المسلمين:
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى كتابه وبعث نبيه إلى الخلق ليطاع. بل إنه تعالى أنزل كتبه كلها وبعث رسله كلهم ليطيعه العباد كلهم، كما قال تعالى: (( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)) [النساء: 64].
وقال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)) [النساء: 59].
وقد نزل القرآن الكريم لهداية البشر كما قال تعالى: (( ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين)) [البقرة: 1-2].
وقال تعالى: (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً)) [الإسراء: 9].
ولكنه لا يهتدي بهذا القرآن إلا من أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: (( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين)) [النور: 54].
والآيات في الأمر بطاعة الله ورسوله كثيرة في كتاب الله.
وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، بل لا طاعة لله بدون طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله) [البخاري (8/104) ومسلم (3/1466)].(1/7)
وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على أصحابه بأن يسمعوا ويطيعوا، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله" [البخاري (8/88) ومسلم (3/1470)].
فالواجب على كل مسلم طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، بامتثال الأمر واجتناب النهي، فمن ترك أمراً واجباً عليه فهو آثم، ومن ارتكب ما نهى الله عنه نهي تحريم فهو آثم كذلك، ولا يطبق شرع الله تعالى إلا بفعل الأمر وترك النهي.
الفرع الثاني: تعاون المسلمين على تنفيذ شريعة الله، كل منهم بحسب استطاعته، فعلى ولي الأمر أن يعمل بشرع الله في نفسه، وأن ينفذ حكم الله على رعيته، وعلى الرعية أن يطيعوا ولي الأمر ما كان طاعته في غير معصية الله تعالى، ولا يجوز لولي الأمر أن يُفَرِّط في تنفيذ شرع الله، ولا للرعية أن يأبوا حكم الله.
ومن أباح لنفسه أن يحكم بغير حكم الله تعالى، فقد كفر، ومن لم يرض بحكم الله عليه فقد كفر، قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا، ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً)) [النساء: 59-61].
وقال تعالى: (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما)) [النساء: 65].(1/8)
وقال تعالى: (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون... ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)) [المائدة: 44، 45، 47].
وقال تعالى: (( أن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)) [المائدة: 49 ـ 50].
فشرع الله تعالى واجب التنفيذ، ولي الأمر يحكم به، ورعيته تسلم له وتطيعه.
الفصل الأول
وجوب
إقامة الحدود
…
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: النصوص الدالة على وجوب إقامة الحدود.
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على عدم تنفيذ الحدود.
المبحث الأول
النصوص الدالة على وجوب تنفيذ الحدود
الحدود في اصطلاح الفقهاء تطلق على ما يغلب فيه جانب حق الله تعالى، مع تحديد عقوباتها، كما قال العلامة علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني، رحمه الله في تعريف الحد: "وفي الشرع عبارة عن عقوبة مقدرة، واجبة، حقاً لله تعالى عزَّ شأنه" [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (9/4149)، الناشر: زكريا علي يوسف].
ولكن حكم القصاص هنا كحكم الحدود من حيث إنه.. هل هو إلى الإمام أو يجوز أن يُستَوفَى بدون إذنه؟ ولذلك نورد النصوص الواردة فيه مع النصوص الواردة في الحدود.
قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)) [البقرة: 178 ـ 179].(1/9)
والمراد أنه مفروض على أولي الأمر أن ينهضوا به، ويمكنوا ولي من اعتدي عليه المطالبَ بدمه، من استيفاء القصاص لوليه ممن اعتدى عليه، سواء كان الاعتداء على النفس أو على الأطراف، أو كان جرحاً بالشروط التي بينها الفقهاء رحمهم الله [راجع الجامع لأحكام القرآن (2/244ـ245) لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ـ دار الكتب المصرية].
وقال تعالى: (( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين)) [البقرة: 194].
وقال تعالى: (( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)) [المائدة: 45].
فإقامة القصاص إذا توافرت شروطه فرض على ولي الأمر، والآية وإن كان سبب نزولها في اليهود، فإن حكم ما ورد فيها فرض كذلك على المسلمين. [راجع الجامع لأحكام القرآن (6/191)].
وقال تعالى: (( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءاً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم)) [المائدة: 38].
قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ "وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة". [المغني (9/103)].
وقال تعالى: (( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا، واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً)) [النساء: 15 ـ 16].
وكانت هذه أولى عقوبات الزناة في ابتداء الإسلام [راجع الجامع لأحكام القرآن: (5/82ـ90)].
وقال تعالى: ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)) [النور: 2].(1/10)
قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ "ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصناً، وقد جاء ذلك في كتاب الله تعالى بقوله: (( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة...)).. وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لما جاء به الكتاب". [المغني (9/43)].
وقال: "الكلام في هذه المسألة ـ أي مسألة الزاني المحصن ـ في ثلاثة فصول:
أحدها: في وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفاً إلا الخوارج". [المغني (9/35)]. ورد على مذهبهم بالأحاديث الصحيحة وإجماع الأمة سلفاً وخلفاً ما عداهم.
وقال تعالى: (( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)) [النور: 4 ـ 5].
قال ابن قدامة ـ رحمه الله: "وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن إذا كان مكلفاً" [المغني (9/83)].
وقال تعالى: (( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم)) [المائدة: 33ـ34].
قال ابن قدامة رحمه الله: "وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين، وبه يقول مالك والشافعي أبو ثور، وأصحاب الرأي" [المغني: (9/144)].
وبعد ذكر الآيات المتعلقة ببعض الحدود، نذكر بعض الأحاديث الواردة في بعض الحدود التي لم تذكر في الآيات، كحد الردة، وحد الزاني المحصن، وحد اللوطي، وحد شارب الخمر.
( 1) في حكم المرتد والمرتدة:(1/11)
روى عكرمة، قال: أتى علي، رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من بدل دينه فاقتلوه)" [البخاري (8/50)].
قال ابن قدامة ـ رحمه الله: "وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد" [المغني (9/3)]. ثم ذكر الخلاف في قتل المرتدة، ورجح رأي الجمهور القائلين بقتلها، على رأي أبي حنيفة ذاكراً الأدلة على ذلك.
قال القرطبي رحمه الله: "واختلفوا في المرتدة: فقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد: تقتل كما يقتل المرتد سواء، وحجتهم ظاهر الحديث" (من بدل دينه فاقتلوه) و من يصلح للذكر والأنثى.
وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول ابن شبرمة، وإليه ذهب ابن علية، وهو قول عطاء والحسن، واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه قاقتلوه) ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروى علي مثله، ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
واحتج الأولون بقوله عليه السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان فعم كل من كفر بعد إيمانه وهو أصح) [الجامع لأحكام القرآن (3/48) وراجع فتح الباري (12/272)]
( 2) حد الزاني المحصن:
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ "أن رجلاً من أسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه أنه قد زنى، فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم، وكان قد أحصن" [البخاري (8/21) وذكر أحاديث غيره في الصفحات التي بعدها].(1/12)
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال - وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف" [البخاري (8/26) ومسلم (3/1317)].
( 3) حد اللواط:
عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) [الترمذي (4/57 ـ 58) وأبو داود (4/607) قال المحشي على جامع الأصول (3/549): وإسناده حسن].
( 4) حد الخمر:
عن أنس رضي الله عنه، "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين" [البخاري (8/13) ومسلم (3/331)].
وفي حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه) [الترمذي (4/48) وأشار إلى أن هذا الحديث منسوخ فيما يتعلق بالقتل، وأبو داود (4/623-626) وقال المحشي على جامع الأصول (3/587): "وللحديث روايات كثيرة من عدة طرق، يصير بمجموعها صحيحاً، ولكنه منسوخ عند جمهور أهل العلم، وقد جمع طرقه أحمد شاكر في رسالة سماها: كلمة الفصل في قتل مدمن الخمر"].
فهذه النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة واضحة الدلالة على وجوب تنفيذ الحدود على مرتكبي أي معصية من هذه المعاصي.
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على عدم تنفيذ الحدود.(1/13)
لقد أنزل الله تعالى كتابه وأرسل رسوله، من أجل هداية البشرية، وصلاحها وحماية مصالحها، ودرء المفاسد عنها، وإن من أعظم أبواب الشريعة الإسلامية التي تحمي للناس مصالحهم وتدرأ عنهم المفاسد، إقامة حدود الله تعالى على المجرمين.
ولهذا كان من أهم وظائف ولاة الأمور الذين يمكنهم الله في الأرض، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره وإن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [الحج: 39 ـ 41].
إن الذين يتعرضون للأذى والابتلاء والإخراج من ديارهم بغير حق، فيمكنهم الله في الأرض عليهم وظيفتنا عظيمتان:
الوظيفة الأولى: مجاهدة أعداء الله، ليدفع الله بهم عن الناس الاعتداء وبخاصة الاعتداء على الدين ومظاهره، كالصوامع والبيع والمساجد.
الوظيفة الثانية: أن يشكروا الله إذ مكنهم في الأرض ونصرهم على عدوهم، فيؤدوا حق الله ومنه الصلاة، وحقوق الناس ومنها الزكاة، ويحافظوا على مصالح الأمة، ويدرأوا عنها الفساد، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أعظم الأمر والنهي تنفيذ حدود الله التي تزجر العصاة وتردعهم عن الفساد في الأرض.(1/14)
ولقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يترتب على عدم إقامة حدود الله التي هي زواجر عن الفساد، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) [البخاري (3/111)].
فترك ولاة الأمر إقامة الحدود يؤدي إلى هلاك الأمة الإسلامية كلها، كما يؤدي خرق بعض الركاب السفينة وهي تمخر بركابها البحر إلى هلاكهم جميعا.
وترك إقامة الحدود لا يقع إلا في الأوقات التي فقد فيها من تولى أمور الأمة الإيمان الصادق، أو ضعف ضعفاً شبيهاً بالفقدان، ولهذا تجد الشعوب التي فقدت إقامة شرع الله، ومنه إقامة الحدود، قد تدنى أكثرهم في إيمانه وأخلاقه معاملاته، وأحاط بهم الفساد من كل جانب، ولهذا ترى علماء الإسلام يعنون ببيان المصالح التي تترتب على إقامة حدود الله، وأصول تلك المصالح هي: الضرورات الخمس.
قال الغزالي ـ رحمه الله: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو: أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة".(1/15)
ثم ربط إقامة كل حد من الحدود بما يحفظ به من هذه الأصول، فقال: "وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاءه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا، إذ به حفظ النسل والأنساب، وإيجاب زجر الغصاب والسراق، إذ به حفظ الأموال التي هي معاش الخلق، وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع، التي أريد بها صلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنى والسرقة وشرب المسكر". [المستصفي: تحقيق وتعليق مصطفى أبي العلا، شركة الطباعة الفنية المتحدة (ص251)].
وإذا كانت هذه المصالح تنال حظها من إقامة حدود الله لحمايتها إياها، فإنه يترتب على عدم إقامتها إهدار تلك المصالح، فلا يحفظ دين ولا عقل ولا نفس ولا نسل ولا مال، وهل يصلح بقاء أمة تضيع فيها هذه المصالح العظام، التي هي أصول الحياة السعيدة في الأرض؟
وقد بين علماء الإسلام الأضرار المترتبة على عدم إقامة الحدود:
فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكثير مما يوجد من فساد أمور الناس إنما هو لتعطيل الحد، بمال أو جاه، وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار.. وهو سبب سقوط حرمة المتولي وسقوط قدره في القلوب وانحلال أمره".
ثم قال: "وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يُمَكِّن من المنكر... كان قد أتى بضد المقصود مثل من نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً يجاهد به في سبيل الله فقاتل به المسلمين". [مجموعة الفتاوى (28/303، 306)].(1/16)
وقال ابن القيم رحمه الله: "وكذلك الحدود، جعلها الله تعالى زواجر للنفوس، وعقوبة ونكالاً وتطهيراً، فشرعها من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة ملك من ملوك الأرض، إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات، إذا علمت أن لها طريقاً إلى إبطال عقوباتها" [أعلام الموقعين عن رب العالمين (3/184 ـ 185)].
والذي يتأمل أحوال العالم الإسلامي اليوم، يجد أن الفساد بشتى أنواعه قد انتشر في أغلب شعوبه انتشاراً ينذر بمزيد من دماره وضياعه، بسبب إبعاد شريعة الله، ومنها الحدود عن حياته.
انتشر فيها الإجرام بالاعتداء على الأنفس بالقتل علناً وغيلة، وعلى الدين بارتداد كثير من أبناء المسلمين، ليس بجحد بعض شعائر الإسلام أو الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن فحسب، بل بجحد الخالق أيضاً، كما هو حال الشيوعيين الذين أقاموا دولاً تحكم المسلمين بقانون الإلحاد بالقوة، ولا يخلوا شعب من شعوب المسلمين، من أحزاب إلحادية وعلمانية وغيرها، وأصبح وجودهم أمراً مألوفاً يخالطهم من يزعم أنه مسلم ويوادهم ويناصرهم، ويعاملهم كما يعامل المسلم، الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، فانهد بنيان المجتمع الإسلامي، وتخلخل بسبب خروج أبناء المسلمين عن دينهم جهراً دون أن يجدوا أي رادع يزجرهم عن الاعتداء على أعظم ضرورة من ضرورات حياتهم، وهي الدين.
وهكذا اعتُدِيَ على العقول، بإباحة طغاة الحكم في الشعوب الإسلامية شرب المسكرات، وبيعها علناً في الأسواق، وحمايتها واستيرادها، وتقديمها في المناسبات والحفلات، وأصبحت بعض البلدان الإسلامية، لا فرق بينها وبين بلدان الكفر في ذلك.(1/17)
واعتدي على النسل، بإباحة الزنا في القوانين التي يحكم بها في المحاكم بين المسلمين، إلا في حالات خاصة، بعقوبات غير ذات بال، بجانب هذه الجريمة: "فلا يقصد بالزنا في القانون إلا الوطء الذي يحصل من شخص متزوج حال قيام الزوجية فعلاً أو حكماً" [ أي فلا يعتبر ارتكاب جريمة زنا في القانون الذي يحكم به المسلمين، إذا كان الزاني أو الزانية غير متزوجين] ثم: "إن زنا الزوج لا يعتبر جريمة إذا حصل في خارج منزل الزوجية" [أي يمكنه أن يرتكب الفاحشة في منزل أمام منزل الزوجة ولا حق لها في تحريك الدعوى ضده بجريمة زنا يعاقب عليها، أما الزوجة فإن]: "مواصلتها لغير قرينها.. يعد جريمة ولو حصل خارج منزل الزوجية".
وإذا ثبتت جريمة الزنا على الزوج فإن العقوبة المقررة عليه، لا تزيد على الحبس لمدة ستة شهور، أو غرامة لا تتجاوز عشرة جنيهات.. ويحتمل أن تعفو عنه الزوجة فيوقف عنه تنفيذ الحكم، أما الزوجة فتعاقب بالحبس مدة أقصاها سنتان؟! وللزوج أن يعفو عنها.. فيوقف التنفيذ! [راجع كتاب: القسم الخاص في قانون العقوبات: جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال (245ـ266) للدكتور عبد المهيمن بكري ـ دار النهضة].
هذا في الزنا الصريح، أما ما هو وسيلة إليه من الاختلاط والمخادنة وغيرها، فهو من الأمور الشخصية التي للإنسان فيها كامل الحرية.. ولهذا أصبح كثير من الناس لا يغارون على أهليهم، لكثرة الممارسات السيئة التي أصبحت مألوفة غير منكرة.
أما الاعتداء على الأموال بالقوة كالصيالة وقطع الطريق، أو الاختفاء كالسرقة أو أو غيرها، فإنه أكثر من أن يحصر، لأن غاية ما يعاقب به السارق أو الصائل السجن مدة الزمن محددة، ثم يفرج عنه ليعود إلى مهنته. [راجع الكتاب السابق (267وما بعدها)].(1/18)
والذي يطلع على بعض الإحصاءات العدوانية التي يسمح لها بالظهور، أو التي تصل إلى الجهات المسؤولة، يرى ما يهوله في أي شعب من الشعوب التي حرمت من التمتع بالأمن في ظل الشريعة الإسلامية.
ولقد أبدى وأعاد من نوَّر الله بصيرتهم بهدي الإسلام، فيما تعانيه الأمة الإسلامية من ويلات، بسبب إبعاد الشريعة الإسلامية عن الحكم واستبدال القوانين الوضعية بها، ومنهم هؤلاء خبير القانون الكبير عبد القادر عودة رحمه الله، فقد بين أن التجارب أثبتت فشل أي نظام في حماية المجتمع وأمنه غير الشريعة الإسلامية.
فقال رحمه الله ـ بعد أن ذكر بعض الإحصائيات المذهلة من الجرائم ـ: "ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية، وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية، وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية، وجزئية.
أما التجربة الكلية: فقد بدئ بها في مملكة الحجاز من حوالي عشرين عاماً [يقصد حكم الملك عبد العزيز آل سعود]. حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً، ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ الأمن والنظام، ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز، بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام.
فقد كان المسافر فيه كالمقيم، لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدوٍ أو حضر، في نهار أو ليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامتهم، ورد الاعتداء عنهم، وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية، بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات، ومنعها من سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم، وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور، حتى طبقت الشريعة الإسلامية، فانقلبت الحال بين يوم وليلة، وساد الأمن بلاد الحجاز، وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين، وانتهى عهد الخطف والنهب وقطع الطريق.(1/19)
وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها، وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام، فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة، ليبلغ حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضاً للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها.
وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها، ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه، وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية عظيمة من الداخل، وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بحفنة من الشرطة المحليين" [التشريع الجنائي الإسلامي (1/712) وراجع (1/708ـ716) منه].
وأخيراً فإني أحيل القارئ إلى كتاب عظيم للأستاذ محمد قطب وفقه الله، بين فيه أنواع الفساد التي حلت بالأمة الإسلامية، بسبب بعدها عن تطبيق شريعة الله: الفساد في التصور، والفساد في السلوك، والفساد في السياسة، والفساد في الاقتصاد، والفساد في الاجتماع، والفساد في الأخلاق، والفساد في علاقات الجنسين، والفساد في الفن، والفساد في كل شيء. [وهذا الكتاب هو: جاهلية القرن العشرين]. ولترك إقامة الحدود قسط وافر في كثير من أنواع الفساد.
الفصل الثاني
في
المراد بأولي الأمر
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
المبحث الأول: القول بأن أولي الأمر هم الأمراء.
المبحث الثاني: القول بأن أولي الأمر هم العلماء.
المبحث الثالث: القول بأن أولي الأمر هم العلماء والأمراء
تمهيد:
يطلق "أولوا الأمر" إطلاقاً عاماً، ويراد به كل من ولي أمر شيءٍ ولايةً صحيحة، مثل الزوج صاحب أمر زوجته، والوالد صاحب أمر ولده، والسيد صاحب أمر عبده، والمستأجِر صاحب أمر أجيره، فيما استأجره للقيام به، وولي اليتيم صاحب أمره. وهكذا..(1/20)
ومن أمثلة ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها و مسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته) [البخاري (8/104) ومسلم (3/1459) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما].
وكل راعٍ هو ولي أمر من يرعى.
وقد أشار إلى هذا العموم في معنى "أولي الأمر" أبو حيان الأندلسي في تفسيره، حيث قال: "والظاهر أنه كل من ولي أمر شيء ولاية صحيحة" [البحر المحيط (3/278)].
ويطلق "أولوا الأمر" إطلاقاً خاصاً، ويراد به الذي يلي أمور المسلمين العامة، التي يسمعون له فيها ويطيعون، وهذا هو المراد من هذا الفصل بمباحثه الثلاثة.
ومما لا شك فيه أن كل ولي أمر يجب أن يطاع في ولايته، في حدود طاعة الله تعالى، فالأمر بالطاعة يشمل الجميع بهذا الاعتبار. والله أعلم..
المبحث الأول: القول بأن أولي الأمر هم الأمراء:
ذهب كثير من المفسرين، وغيرهم من فقهاء الإسلام، إلى أن المراد بأولي الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم هم الأمراء.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ، في قوله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)) [النساء: 59].
قال: "واختلف أهل التأويل في "أولي الأمر" الذين أمر الله بطاعتهم في هذه الآية: فقال بعضهم: هم الأمراء". وذكر من القائلين بهذا أبا هريرة، وابن عباس، وميمون بن مهران، وزيد بن ثابت والسدي، رحمهم الله.
"وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه "وذكر منهم ابن أبي نجيح، وابن عباس ومجاهداً ـ أيضاً ـ وعطاء بن السائب، والحسن، وأبا العالية.
"وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه قول لمجاهد رحمه الله". "
وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر". وذكر أنه قول عكرمة.(1/21)
ثم ذكر ابن جرير الراجح عنده، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة، فيما كان طاعة، وللمسلمين فيه مصلحة". [جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/147ـ150) شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر]. وذكر بعضاً من تلك الأخبار.
وقال عماد الدين بن محمد الطبري المشهور بالكيا: يحتمل أن يراد به الفقهاء والعلماء، ويحتمل أن يراد به الأمراء وهو الأظهر، لما تقدم من ذكر العدل في قوله: (( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) [النساء: أحكام القرآن (2/72) طبع دار الكتب العلمية ـ بيروت].
وقال قاضي القضاة أبو السعود بن محمد الحنفي، رحمه الله: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم": وهم أمراء الحق، وولاة العدل، كالخلفاء الراشدين، ومن يقتدي بهم من المهتدين، وأما أمراء الجور فبمعزل عن استحقاق العطف على الله تعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام في وجوب الطاعة لهم.
وقيل: هم علماء الشرع، لقوله تعالى: (( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)) [النساء: 83].
ويأباه قوله تعالى: (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله...)) [النساء: 59 إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (1/722) مكتبة الرياض الحديثة].
وفي الكشاف للزمخشري المعتزلي (1/535) نحو ذلك، والحنفيون متأثرون برأي المعتزلة في الخروج على أئمة الجور].(1/22)
قلت: إن أراد أبو السعود بقوله: "وأما أمراء الجور فبمعزل عن استحقاق العطف على الله تعالى، والرسول عليه الصلاة والسلام في وجوب الطاعة لهم"، أن أمراء الجور لا يطاعون في معصية الله، فمسلم، وإن أراد أنهم لا يستحقون الطاعة، وإن أمروا بما لا معصية فيه لله، فهو مخالف لما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أمره بطاعة أمراء الجور فيما ليس فيه معصية، ونهيه عن الخروج عليهم، ما لم يأتوا كفراً بواحاً.
فقد روى عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان) [البخاري رقم (6647) ومسلم، رقم (1709)]
والكفر البواح، هو الظاهر البادي الذي لا يخفى في شرع الله، قال الحافظ ابن حجر: "يريد ظاهرا باديا من قولهم باح بالشيء يبوح به بوحا و بواحا إذا أذاعه وأظهره"
وروت أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع) قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: ( لا، ما صلوا). وفي حديث عوف بن مالك رضي الله عنه: ( وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا ولا تنزعوا يداً من طاعة). صحيح مسلم (3/148(ـ 1481).
وفي مسألة الخروج على الأئمة الجائرين، الذين لم يأتوا كفرا بواحا، خلاف بين العلماء، والذي يظهر أن الأمر يتعلق بالمصالح والمفاسد.(1/23)
فقد جوز بعض العلماء الخروج عليه، لدرء فساده، كما في الفروع لابن مفلح في باب قتال أهل البغي، قال: "وَجَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ الْخُرُوجَ عَلَى إمَامٍ غَيْرِ عَادِلٍ، وَذَكَرَا خُرُوجَ الْحُسَيْنِ عَلَى يَزِيدَ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ, وَكَذَا قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إذَا جَارَ وَظَهَرَ ظُلْمُهُ وَلَمْ يُزْجَرْ حِينَ زجر، فَلَهُمْ خَلْعُهُ وَلَوْ بِالْحَرْبِ وَالسِّلَاحِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: خَلْعُهُ غَرِيبٌ. وَمَعَ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْهُ.
ويبدو أن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحاكم المسلم، ليس نهيا تعبديا، بل هو نهي معقول المعنى، وهو أن الخروج على الحكام تترتب عليه - غالبا - مفاسد أعظم من مفاسد بقائه في الحكم، وهي الفتن وسفك الدماء واختلال الأمن.
وقد نص على هذا المعنى المعقول جمهور العلماء، الذين حرموا الخروج على الحاكم الجائر.
فقد قال النووي رحمه الله: "وأما الخروج عليهم وقتالهم، فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل، وحكي عن المعتزلة أيضا، فغلط من قائله مخالف للإجماع.
قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه، ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه" [شرح النووي على مسلم (12/229)](1/24)
وفي كتاب الإنصاف في الفقه الحنبلي: " وَنُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله: إنَّ ذَلِكَ [يعني الخروج على الإمام غير العادل] لا يَحِلُّ, وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ. وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ. وَأَنَّ السَّيْفَ إذَا وَقَعَ عَمَّتْ الْفِتْنَةُ, وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ. فَتُسْفَكُ الدِّمَاءُ, وَتُسْتَبَاحُ الْأَمْوَالُ, وَتُنْتَهَكُ الْمَحَارِمُ".
وإذا كان هذا المعنى ملحوظا في النهي، وجب تعليق الحكم به، إيجابا وسلبا.
ويجب أن ينظر مع هذا المعنى، إلى نصوص وردت في أبواب أخرى، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، و وقواعد الشريعة العادلة، ومقاصدها الثابتة، فلا تهدر بنصوص النهي عن الخروج على الحكام الجائرين، ما أمكن العمل بها جميعا...
ومن تلك الأبواب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا طغى الحاكم وعاث في الأرض فسادا، فاتخذ الأسباب المؤدية إلى إهدار ضرورات حياة الناس، وهي دينهم، ونفسهم، ونسلهم، وعقلهم ومالهم، مع ادعائه الإسلام، فإن بقاءه في الحكم، يصبح أعظم من مفسدة الخروج عليه، والأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، درء أعظم المفسدتين، وأعظمهما هنا، بقاؤه في الحكم، فيجب عزله عن الحكم بأخف الطرق وأقلها ضررا.
ويبدأ بنصحه ودعوته إلى التوبة، من جوره وفساده، فإن أصر على ذلك، طلب منه أن يتنحى عن الحكم، فإن أبى وجب عزله عند المقدرة بأسهل الطرق، بشرط ألا يكون في عزله مفاسد أعظم من مفاسد بقائه.
وإن كان الخروج عليه، أعظم مفسدة من بقائه في الحكم، وجب درْ ء أعظم المفسدتين، وهي الخروج عليه، فيحرم الخروج عليه لهذا السبب، وبهذا يجمع بين النهي عن الخروج على الأمراء، وبين ما ورد في الأبواب الأخرى الموجبة لرفع الظلم وإنكار الفساد.
واستيفاء الكلام على هذه المسألة يحتاج إلى بحث مستقل.
المبحث الثاني: القول بأن أولي الأمر هم العلماء.(1/25)
وممن قال بذلك فخر الدين الرازي، رحمه الله، قال: "علم أن قوله تعالى: ((وأولي الأمر منكم)) يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لا بد وأن يكون معصوماً عن الخطأ -إلى أن قال-: وإذا كان الأمر كذلك، علمنا أن المعصوم الذي أمر الله بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأمة، ولا طائفة من طوائفهم، ولمَاَّ بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: ((وأولي الأمر)) أهل الحل والعقد من الأمة - ثم ناقش بعض الاعتراضات وأجاب عليها - ثم قال: والعلماء في الحقيقة هم أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ "أولي الأمر" عليهم أولى. [التفسير الكبير (10/144ـ146) دار الكتب العلمية ـ طهران].
ولنا تعليق على قول الرازي: إن المراد بأولي الأمر هنا أهل الحل والعقد كلهم، واستدلاله على ذلك بأن من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لا بد أن يكون معصوماً، والمعصوم ليس بعضاً من الأمة، وإنما الأمة كلها ـ أي الإجماع.
والتعليق هو صعوبة معرفة إجماع أهل الحل والعقد حميعهم، لما علم في أصول الفقه، من أن بعض العلماء، قد لا يكونون موافقين على ما يصدر عن غيرهم من العلماء، إما لعدم علمهم بذلك قبل صدوره، وإما لعدم معرفة العلماء الذين صدر الحكم عنهم، بغيرهم من العلماء، وإما لخوفهم من الفتنة على أنفسهم أو على الأمة، وهكذا يقال عن أهل الحل والعقد.(1/26)
وقد أنكر الإمام الشافعي على بعض أصحاب الإمام مالك رحمهما الله: دعواهم إجماع أهل المدينة على بعض المسائل. فقال: "فأحسنوا النظر لأنفسكم، واعلموا أنه لا يجوز أن تقولوا أجمع الناس بالمدينة، حتى لا يكون بالمدينة مخالف من أهل العلم، ولكن قولوا فيما اختلفوا فيه اخترنا كذا ولا تدعوا الإجماع، فتدعوا ما يوجد على ألسنتكم خلافه، فما أعلمه يؤخذ على أحد نُسِبَ إلى علم، أقبح من هذا" [الأم (7/203)].
هذا في دعوى إجماع العلماء في مدينة واحدة، فكيف بدعواه في العالم؟
ونقل العلماء عن الإمام أحمد رحمه الله: قوله: "من ادعى الإجماع فقد كذب وما يدريه لعل الناس اختلفوا في ذلك" [المحلى (9/365)]
وقال ابن حزم: "ودعوى الإجماع بغير يقين كذب على الأمة كلها نعوذ بالله من ذلك" [المحلى (1/210)]
وقال الشوكاني: "على أنا لا ندين بحجية الإجماع بل نمنع إمكانه ونجزم بتعذر وقوعه" [نيل الأوطار (2/202]
وبناء على ذلك، يجب أن تقيد طاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، بما ليس بمعصية، وليس طاعتهم في كل أمر يصدر منهم، فالأمر بالطاعة ـ هنا ـ وإن كان ظاهره الإطلاق، فهو مقيد في نصوص أخرى، دلت على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد ذُكر في تفسير قوله تعالى: ((أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)) أن الفعل "أطيعوا" تكرر مع "الرسول" صلى الله عليه وسلم ولم يذكر مع "أولي الأمر" إشارة إلى أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، كطاعة الله أي تجب مطلقاً، لأنه لا يأمر إلا بأمر الله، بخلاف أولي الأمر، فإن طاعتهم إنما هي تبع لطاعة الله وطاعة رسوله، ولذا حذف الفعل ((أطيعوا)) مع أولي الأمر إشارة إلى هذا المعنى. [راجع صحيح البخاري (8/104ـ 106) ومسلم (3/1469) وراجع تفسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/42)].
المبحث الثالث: القول بأن أولي الأمر هم العلماء والأمراء(1/27)
وقد رأى بعض العلماء أن معنى أولي الأمر يشمل الفريقين: الأمراء والعلماء، وأنه لا يوجد دليل على تخصيصه، بفريق دون آخر.
ومن هؤلاء الأئمة: أبو بكر أحمد بن علي الجصاص، وأبو بكر محمد بن عبد الله، الشهير بابن العربي، وشيخ الإسلام بن تيمية، وأثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف، أبو حيان، وشمس الدين بن قيم الجوزية.
فقال الجصاص، رحمه الله: "اختلف في تأويل "أولي الأمر": فروي عن جابر بن عبد الله، وابن عباس رواية، والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولو الفقه والعلم، وعن ابن عباس رواية، وأبي هريرة أنهم أمراء السرايا، ويجوز أن يكونوا جميعاً مرادين بالآية، لأن الاسم يتناولهم جميعاً، لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو، والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم، ما عدل الأمراء والحكام، وكان العلماء عدولاً مرضيين موثوقاً بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون، وهو نظير قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)) [الأنبياء: 7].
ومن الناس من يقول: إن الأظهر من أولي الأمر ها هنا أنهم الأمراء، لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل، وهو خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام، وهم الأمراء والقضاة، ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولي الأمر، وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليه، ما داموا عدولاً مرضيين، وليس يمتنع أن يكون ذلك أمراً بطاعة الفريقين من أولي الأمر، وهم أمراء السرايا والأمراء، إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على الأمراء دون غيرهم. [أحكام القرآن (2/210ـ211)].
وقال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي ـ بعد أن ذكر اختلاف العلماء في المعنى المراد بأولي الأمر ـ:(1/28)
"والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعاً، أما الأمراء؛ فلأن أصل الأمر منهم، والحكم إليهم، وأما العلماء؛ فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب، يدخل فيه الزوج للزوجة، ولا سيما وقد قدمنا أن كل هؤلاء حاكم، وقد سماهم الله بذلك، فقال: ((يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار)) [المائدة: 44]. فأخبر تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم حاكم والرباني حاكم والحبر حاكم، والأمر كله يرجع إلى العلماء، لأن الأمر قد أفضي إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء" [أحكام القرآن (1/...)].
وعمم ابن تيمية رحمه الله معنى أولي الأمر على أهل الحل والعقد من العلماء والأمراء وغيرهم، فقال: (( وأولو الأمر)) أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترط فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء، والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاءنا في هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعاً، فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس القوي فيكم الضعيف عندي، حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي، حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم" [مجموع الفتاوى (28/170ـ171)].(1/29)
وقال تلميذه شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية رحمه الله: "والتحقيق أن الأمراء يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعاً، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبد الله بن المبارك وغيره من السلف: "صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء، كما قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب
،،،،،،،،،،،،،،،،،، وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
،،،،،،،،،،،،،،،،،، وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك
،،،،،،،،،،،،،،،،،، وأحبار سوء ورهبانها
[أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/10)].
هذه أقوال العلماء في المراد بأولي الأمر، فهل يعد هذا اختلافاً متبايناً بين القائلين: بأن أولي الأمر هم الأمراء، وبين القائلين: بأنهم العلماء، وبين القائلين: بأنهم العلماء والأمراء؟(1/30)
الذي يبدو أنه فيما يتعلق بأقوال السلف في عهد الصحابة والتابعين ـ في الجملة ـ ليس اختلاف تبيان وتضاد، وإنما هو من التفسير بالجزء، أي: بجزء المعنى المهم، لأن الأمراء في ذلك الوقت كانوا علماء، والعلماء كانوا مع الأمراء، وهم أهل الحل والعقد، وقد يحصل بينهم شيء من الاختلاف في بعض الأمور الاجتهادية، إما أن يتفقوا بعد المناظرة والمجادلة، وإما أن يظهر للأمير وجه الصواب فيأخذ به، لأنه أحد المجتهدين الذين لهم حق البحث والنظر والأخذ بما ظهر لهم من الحق، وكان العلماء لا يقفون ـ بعد اتخاذ الأمير القرار على هذه الصفة ـ ضد قرار الأمراء في تلك الأمور الاجتهادية، كما قال ابن تيمية رحمه الله: وإن كان ـ أي التشاور ـ أمراً قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله، عمل به.
كما قال تعالى: (( فإن تنازعتهم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً)) [مجموع الفتاوى (28ـ387ـ388). والآية في سورة النساء: 59].
فالظاهر في هذه الحالة ـ أي عندما يتولى أمر المسلمين إمام عالم عادل توافرت فيه شروط الإمامة ـ أنه لا منافاة بين الأمر بطاعة الأمير والأمر بطاعة العالم، فهو أمير عالم عادل، يستشير العلماء ويذاكرهم في الأمور الاجتهادية ويختار ما هو الأحوط لرعيته.
وإنما يحصل الخلاف بين طاعة العلماء وطاعة الأمراء، في حالتين فيما يبدو:
الحالة الأولى: أن يكون جاهلاً غير عالم فلا يجوز له أن يأمر بشئ، إلا بعد سؤال العلماء، لأن ذلك متعين عليه كما تقدم في كلام ابن العربي رحمه الله: "والأمر كله يرجع إلى العلماء، لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء".(1/31)
الحالة الثانية: أن يكون الأمير خارجاً عن أحكام الله، مطبقاً لما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه في هذه الحال لا يجوز للمسلمين أن يطيعوه فيما هو معصية لله وتجب عليه طاعة العلماء.
ولهذا قال شيخ الإسلام بن تيمية، رحمه الله: "وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يسوسون الناس في دينهم ودنياهم، ثم بعد ذلك تفرقت الأمور، فصار أمراء الحرب يسوسون الناس في أمر الدنيا والدين الظاهر، وشيوخ العلم والدين يسوسون الناس فيما يرجع إليهم فيه من العلم والدين، وهؤلاء أولوا الأمر تجب طاعتهم فيما يأمرونه به من طاعة الله التي هم أولوا أمرها، وهو كذلك فسر "أولوا الأمر" في قوله تعالى: (( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)) [النساء: 59].كما قال تعالى: (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)) [الحديد: 25].
وإذا كان ولاة الحرب عاجزين ومفرطين عن تقويم المنتسبين إلى الطريق، كان تقويمهم على رؤسائهم، وكان لهم من تعزيرهم وتأديبهم ما يتمكنون منه إذا لم يقم به غيرهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [مجموع الفتاوى (11/551 ـ 552)، والحديث في صحيح مسلم (1/69)، وراجع أيضاً الفتاوى].
والخلاصة:(1/32)
أن الأمير العالم المقيم لشرع الله يكون هو وعلماء الأمة أولي الأمر، ولكنه واجب الطاعة في الأمور الاجتهادية بعد البحث والمشورة، وعندما يكون جاهلاً يتعين عليه سؤال أهل العلم، وهم الأصل في الطاعة، وتجب طاعة الأمير فيما هو مستند فيه إلى فتوى من علماء الإسلام، وأما عندما يخرج عن دين الله، وينابذه العداء، فإن علماء المسلمين العدول هم أولوا أمرهم، تجب عليهم طاعتهم، ولا يجوز أن يطيعوا من خالفهم في أمر الله كائناً من كان، ولكن قيامهم بذلك مشروط بقدرتهم التي يتمكنون بها من تنفيذ شرع الله، بدون فتنة أعظم من الفتنة الواقعة من الأمير المذكورة صفاته.
الفصل الثالث
دلالة الواقع التاريخي
على أن إقامة الحدود إلى السلطان
وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مجيء العصاة إلى السلطان ليطهرهم بإقامة الحد عليهم.
المبحث الثاني: مجيء الرعية إلى السلطان بالعصاة لتطهيرهم بإقامة الحد.
المبحث الثالث: أمر السلطان بإقامة الحدود.
المبحث الأول: مجيء العصاة إلى السلطان ليطهرهم بإقامة الحد عليهم.
كان الرجل أو المرأة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قارف ذنباً ذكر الله وندم على فعله، وأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقراً بذنبه، طالباً منه أن يطهره منه بحد الله تعالى، وفي هذا المبحث عدة حوادث، نذكر منها أمثلة:
أولاً: حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما: (أن رجلاً من أسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه أنه قد زنى، فشهد على نفسه أربع شهادات، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجم، وكان قد أحصن) [البخاري (8/21)].(1/33)
ثانياً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، حتى رد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أبك جنون)، قال: لا، قال: (فهل أحصنت)؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه) [البخاري (8/21ـ22) ومسلم (3/1318)].
ثالثاً: حديث عمران بن حصين، رضي الله عنه: أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنى، فقالت: يا نبي الله، أصبت حداً فأقمه عليْ، فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها، فقال: (أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها، ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت) [مسلم (3/1324)].
رابعاً: حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه: قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل، فقال: يا رسول، إني أصبت حداً، فأقمه عليْ، ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قام إليه الرجل، فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله، قال: (أليس قد صليت معنا؟) قال: نعم، قال: (فإن الله قد غفر لك ذنبك) أو قال: (حدك) [البخاري (8/23)].
وفي عدم استفصال الرسول صلى الله عليه وسلم من الرجل الحد الذي أصابه، وعدم إقامة الحد عليه، مع أنه جاء يطلب ذلك، دليل على أن الأولى في حق ولي الأمر، الستر على العاصي وعدم البحث في أمره، ما دامت المعصية تتعلق بحق الله تعالى.(1/34)
وذكر الحافظ بن حجر رحمه الله آراء العلماء في معنى هذا الحديث، فقال: "وقد اختلف نظر العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاري ـ وهي هكذا (باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه، حمله على من أقر بحد ولم يفسره، فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحمله الخطابي على أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم الله عليه وسلم، اطلع بالوحي على أن الله سبحانه وتعالى قد غفر له، لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحد ويقيمه عليه، وقال أيضاً، في هذا الحديث: أنه لا يكشف عن الحدود، بل يدفع مهما أمكن، وهذا الرجل لم يفصح بأمر يلزمه به إقامة الحد عليه، فلعله أصاب صغيرة ظنها كبيرة توجب الحد، فلم يكشفه النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم عن ذلك، لأن موجب الحد لا يثبت بالاحتمال، وإنما لم يستفسره، إما لأن ذلك قد يدخل في التجسس المنهي عنه، وإما إيثاراً للستر ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندماً ورجوعاً.
وقد استحب العلماء تلقين من أقر بموجب الحد بالرجوع عنه، إما بالتعريض وإما بأوضح منه، ليدرأ عنه الحد، وجزم النووي وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر، بدليل أن في بقية الخبر أنه كفرته الصلاة، بناءً على أن الذي تكفره الصلاة من الذنوب الصغائر لا الكبائر. [فتح الباري (12/134)].
واضح من هذه الأحاديث أن الذين كانوا يرتكبون ما يظنون أن فيه حداً، يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، طالبين منه إقامة الحد عليهم، وذلك لأنه الرسول الذي ينزل عليه الوحي بالأحكام من جهة، ولأنه ولي أمر المسلمين الذي يأمرهم وينهاهم من جهة أخرى.
المبحث الثاني: مجيء الرعية بالعصاة إلى السلطان ليقيم عليهم الحد
و هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتونه بمن يرتكب معصية، ليقيم عليه الحد، وهذه أمثلة لذلك:(1/35)
أولا: حديث أبي هريرة وزيد بن خالد، رضي الله عنهما، قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجل، فقال: أنشدك الله، إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه، فقال: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، قال: (قل) قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالا من أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت، فرجمها" [البخاري (8/24) ومسلم (3/324)].
ثانياً: حديث ابن عمر، رضى الله عنهما. قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية، قد أحدثا جميعا، فقال لهم: (ما تجدون في كتابكم)؟ قالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية.
قال عبد الله بن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة، فأتي بها، فوضع أحدهم على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ابن سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجما" [البخاري (8/22) ومسلم (3/1326)].
قال الحافظ: "قال المنذري يشبه أن يكون أصله الهمزة، وأنه التجبئة، وهي الردع والزجر يقال: جبَّأته تجبيئا، أي ردعته، والتجبية أن ينكس رأسه، فيحتمل أن يكون من فعل ذلك ينكس رأسه استحياء، فسمي ذلك الفعل تجبية، ويحتمل أن يكون من الْجَبْه وهو الاستقبال بالمكروه" [الفتح (12/168)](1/36)
ثالثاً: حديث عمر بن الخطاب، رض الله عنه، أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه فوالله ما علمت، أنه يحب الله ورسوله" [البخاري (8/14) وقوله: (ما علمت أنه يحب الله ورسوله) تفسرها رواية في شرح السنة: (فوالله ما علمت إلا أنه).. راجع فتح الباري (12/77ـ78).
رابعاً: حديث صفوان بن أمية، رضي الله عنه، أن رجلا سرق بردة له، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقال: يا رسول الله تجاوزت عنه، فقال: (يا أبا وهب أفلا كان قبل أن تأتينا به)؟ فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولفظه في الموطأ: "أن صفوان بن أمية قيل له: إنه من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان المدينة فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسرقت هذا الرداء)؟ قال: نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده، فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فهلا قبل أن تأتيني به). [النسائي (8/60ـ61) والموطأ (2/834ـ835) وقال محققه: (قال ابن عبد البر: هكذا رواه جمهور أصحاب مالك مرسلاً، قلت: وقد وصله النسائي)].
واضح من هذه الأحاديث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يأتونه بالعصاة، ليقيم عليهم الحد، ولم يكونوا يقيمونها هم عليهم، وفي ذلك دليل بين على أن الحدود إنما يقيمها ولي أمر المسلمين، ولا حق للرعية إقامتها دونه.
المبحث الثالث: أمر السلطان بإقامة الحدود(1/37)
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه سلم يأمر بإقامة الحدود على اختلاف أنواعها، كما سبق في حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا به فارجموه).
وقوله في حديث عمران بن حصين: " ثم أمر بها فرجمت" وفي حديث جابر: "فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم" [المبحث الأول من هذا الفصل].
وفي حديث أبي هريرة وزيد بن خالد: (واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها).
وفي حديث ابن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما في قصة اليهوديين "فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه فرجما". وفي قصة الشارب: "فأمر به فجلد". وفي قصة سارق رداء صفوان: "فأمر بقطعه" [المبحث السابق].
ومن ذلك حديث أبي أمية المخزومي، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما إخالك سرقت)؟ قال: بلى، قال: (اذهبوا به فاقطعوه، ثم جيئوا به) فقطعوه ثم جاؤا به، فقال صلى الله عليه وسلم: (قل: استغفر الله وأتوب إليه) فقال: استغفر الله وأتوب إليه، قال: (اللهم تب عليه) [النسائي (8/60) وأبو داود (4/542)، وما بعدها، وابن ماجة (2/866)، قال الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (8/79): "وهذا إسناد ضعيف من أجل أبي المنذر هذا، فإنه لا يعرف، كما قال الذهبي في الميزان، وله شاهد من حديث أبي هريرة بنحوه، لكن ليس فيه الاعتراف"].(1/38)
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث أمراءه إلى الأقطار لإقامة حكم الإسلام فيها، فكانوا يقيمون الحدود على من أتى حداً، كما في حديث أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال: أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك، فكلاهما سأل، فقال: (يا أبا موسى) قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل، فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته، فقال: (لن - أولا - نستعمل على عملنا من أراده، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى.. إلى اليمن، ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه ألقى له وسادة، قال: انزل، وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهودياً فأسلم ثم تهود، قال: اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله، ثلاث مرات، فأمر به فقتل.." [البخاري (8/50)].
وكذلك كان العصاة يأتون أو يؤتى بهم إلى خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقيمون عليهم الحدود، لأنهم ذوو السلطان، كما روى عكرمة، قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة، فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله) ولقتلتهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) [البخاري (8/50)].
وروت عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقاً سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان ابن عفان أن تُقَوَّم، فَقُوِّمت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار، فقطع عثمان يده [الموطأ (2/832) قال المحشي على جامع الأصول: "وإسناده صحيح" (3/558)].(1/39)
وعن السائب بن يزيد أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب فقال له: اقطع يد غلامي هذا، فإنه سرق. فقال له عمر: ماذا سرق؟ فقال: سرق مرآة لامرأتي، ثمنها ستون درهماً، فقال عمر: أرسله فليس عليه قطع، خادمكم سرق متاعكم" [الموطأ (2/839) وقال المحشي على جامع الأصول (3/571) وإسناده صحيح].
وفي الحديث الأخير دلالة على عدم جواز تولي غير العالم إقامة الحدود، لأنه قد يقيم الحد على من لا تجوز إقامته عليه، بخلاف العالم فإنه لعلمه بشروط إقامة الحدود يتحرى، وإنما لم يقم عمر رضي الله عنه الحد على الغلام، لأنه مخالط لأهل البيت فلا يعتبر ما يصل إليه من مالهم محرزاً عنه.
فقد دل الواقع التاريخي بحوادثه التي حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه ومن جاء بعدهم كذلك أن ولي الأمر هو الذي كان يتولى إقامة الحدود، وذكر عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد "أن لا تقتل نفس من دوني" [مصنف ابن أبي شيبة (9/416)].
الفصل الرابع
مذاهب العلماء في من إليه تنفيذ الحدود
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: إقامة الحدود على الأحرار.
المبحث الثاني: إقامة الحدود على الأرقاء.
المبحث الأول: إقامة الحدود على الأحرار
والذي يطالع كتب مذاهب العلماء لا يكاد يجد بينهم خلافاً في أن الحر لا يقيم عليه الحد إلا سلطان المسلمين، وإنما يبرز في تلك الكتب الخلاف في إقامة السيد الحد على عبده، ولذلك تجد بعض العلماء لا يتعرض للحر إلا عرضاً عندما يذكر الخلاف في إقامة السيد الحد على عبده، وقد لا يتعرض لذكر الحر، لأنه أمر مُسَلَّمٌ عند الجميع، وتجد بعضهم يصرح بأن الحر لا يقيم الحد عليه إلا الإمام أو نائبه.(1/40)
ومن أمثلة عدم التعرض للحر قول الكاساني، رحمه الله: "وأما شرائط جواز إقامتها، فمنها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص البعض دون البعض، أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة، وهو أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام" [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (9/4204)].
والسبب في عدم ذكر الحر عند الحنفية فيما يبدو، أنهم لا يفرقون بين الحر والعبد فهما عندهم سواء، لا يقيم الحد عليهما إلا الإمام، كما سيأتي.
ومن أمثلة الإشارة إلى أن الحاكم هو الذي يقيم الحد على الأحرار، بمناسبة ذكر حق السيد في إقامة الحد على رقيقه، قوله في الشرح الكبير: "وإقامته" أي حد الزنا رجماً وجلداً الحاكم دون غيره "و" كذا "السيد" في رقيقه... [حاشية الدسوقي (4/322) بخلاف الشرح الصغير، فإنه لم يتعرض للحر عند ما ذكر أن للسيد إقامة الحد على عبده بشروطه (4/458) وكذا القوانين لابن جزي (ص386)].
ومن أمثلة التصريح بعدم جواز إقامة غير الإمام الحد على الأحرار، قول الإمام الشافعي رحمه الله: لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام ومن فوض إليه الإمام.." [الأم (6/154)].
وقول النووي، رحمه الله: "إقامة الحدود على الأحرار إلى الإمام أو من فوض إليه الإمام.." [الروضة (9/221)، وراجع المغني لابن قدامة الحنبلي (9/51)].
ولعل المستند في ذلك كون الرسول صلى الله عليه وسلم تولى إقامة الحدود على الأحرار والعبيد، وأجاز للسادة إقامة الحد على عبيدهم، فيبقى الحر علي الأصل، وهو أن لا يقيم الحد عليه إلا الإمام.
بهذا يظهر أن المذاهب الأربعة متفقة، على أن الحر لا يقيم الحد عليه إلا الإمام أو من فوض إليه الإمام إقامة الحد.(1/41)
ولهذا قال ابن رشد، رحمه الله: "وأما من يقيم هذا الحد ( أي حد الشرب) فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود، واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم.." [بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2/480) مكتبة الكليات الأزهرية].
وقال بعد ذلك: "وعمدة أبي حنيفة ( أي في عدم جواز إقامة السيد الحد على عبده) الإجماع على أن الأصل في إقامة الحدود هو السلطان" [المرجع السابق].
وذكر ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أن حكم المحاربين إلى السلطان، فقال: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب، فإن قتل محارب أخا امريء أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، وأن القائم بذلك الإمام" [الإجماع ص111، والأوسط (1/384)].
المبحث الثاني: إقامة الحدود على العبيد
وفي هذا المبحث مذهبان رئيسان:
المذهب الأول: جواز إقامة السيد الحد على مملوكه في الجملة، وهو قول الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء رحمهم الله، وإن اختلفوا في التفاصيل، كما سيأتي: واستدلوا بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بذلك.
كما في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: (إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير) [البخاري (8/29) ومسلم (3/1328ـ1329)].(1/42)
وفي حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها، فليبيعها ولو بحبل من شعر [البخاري (8/29) ومسلم (3/1328ـ1329)]. [ومعنى لا يثرب عليها: لا يلمها ولا يوبخها، بل يكتفي بجلدها، وجه الدلالة من الحديث أن الخطاب للمالك في الأمر بالجلد والأمر بالبيع]
ثم اختلفت المذاهب الثلاثة في بعض التفاصيل، نذكرها على سبيل الإيجاز:
أولا: المذهب المالكي: يشترط في إقامة السيد الحد على عبده ثلاثة شروط:
الشرط الأول: ألا يكون رقيقه - ذكراً كان أو أنثى - متزوجاً بمن ليس ملكاً للسيد، بأن يكون غير متزوج أصلاً، أو متزوجاً بملك سيده، فإن كان متزوجاً بغير ملك سيده فلا يقيم الحد عليه إلا الحاكم؟.
الشرط الثاني: ألا يقيم عليه الحد بعلمه، بل لابد أن يثبت ما يوجب الحد بإقرار العبد، أو ظهور حمل الأمة، أو بشهادة أربعة عدول.
الشرط الثالث: أن يكون الحد جلداً كحد الزنا، وحد القذف، وحد الشرب، دون حد السرقة والردة، فإذا لم تتوافر هذه الشروط، فلا يجوز للسيد إقامة الحد على عبده، فإن قطع السيد يد عبده في السرقة، أدبه ولي الأمر للافتيات عليه" [حاشية الدسوقي (4/322ـ323) والشرح الصغير (4/458)].
ثانيا: المذهب الشافعي: قال الإمام الشيرازي في المهذب: "فان ثبت الحد على عبد بإقراره، ومولاه حر مكلف عدل، فله أن يجلده في الزنا والقذف والشرب "..
ثم ذكر وجهين في التغريب:
الوجه الأول: أنه لا يغربه إلا الإمام.
الوجه الثاني: أن للسيد تغريبه.
وذكر في القطع وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يقطع وإنما ذلك إلى الإمام.
والوجه الثاني: أن سيده يملك القطع، كالجلد.
ورجح جواز قتل السيد عبده في الردة، واستدل على تلك الأوجه كلها بآثار وردت عن الصحابة رضي الله عنهم [المهذب (2/345) وما بعدها].(1/43)
ثالثاً: المذهب الحنبلي:
قال ابن قدامة، رحمه الله: "وللسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقه القن في قول أكثر العلماء". إلى أن قال: "إذا ثبت هذا فإنما يملك إقامة الحد بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون جلداً، كحد الزنا، والشرب، وحد القذف.
فأما القتل في الردة، والقطع في السرقة فلا يملكهما إلا الإمام، وهذا قول أكثر أهل العلم، وفيهما وجه آخر أن السيد يملكهما، وهو ظاهر مذهب الشافعي.
الشرط الثاني: أن يختص السيد بالمملوك، فإن كان مشتركاً بين اثنين أو كانت الأمة مزوجة أو كان المملوك مكاتباً، أو بعضه حراً لم يملك السيد إقامة الحد عليه".
الشرط الثالث: أن يثبت الحد ببينة أو اعتراف.
الشرط الرابع: أن يكون السيد بالغاً، عاقلاً، عالماً بالحدود، وكيفية إقامتها" [المغني (9/51ـ53].
وفي كل شرط من هذه الشروط تفاصيل لا داعي للإطالة بها، لأن المقصود ذكرها بإيجاز كما مضى.
وبهذا يظهر أن المذهب الشافعي أكثر المذاهب توسعاً في إقامة السيد الحد على مملوكه. واستدل علماء المذهب بعموم حديث علي رضي الله عنه الذي رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله، قال: خطب على رضي الله عنه - فقال: "يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أحسنت ) [مسلم (3/1330) والترمذي (4/47)].
وعن أبي جميلة، عن علي رضي الله عنه، قال: فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا علي، انطلق فأقم عليها الحد) فانطلقت، فإذا بها دم يسيل، فقال: (دعها حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحد، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم) [أبو داود (4/617) والمهذب مع تكملة المجموع (18/271)].(1/44)
وجه الدلالة العموم الذي يشمل كل الحدود في قوله: " أقيموا الحدود" واستدلوا كذلك ببعض الآثار، كقتل حفصة جاريتها التي سحرتها، وإقامة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما القطع على غلامه الآبق [مصنف عبد الرازق (10/239،241) وتكملة المجموع].
المذهب الثاني من المذهبين الرئيسين: المذهب الحنفي: وهو القول بأن حكم العبيد كحكم الأحرار، لا يقيم الحدود عليهم إلا الإمام، كما لا يقيمها على الأحرار إلا الإمام ومن في حكمه نائبه.
واستدلوا على مذهبهم بما يأتي:
أولاً: قياس العبيد على الأحرار، قال السرخي، رحمه الله: "وحجتنا فيه قوله تعالى: ((فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) [النساء: 25]. واستيفاء ما على المحصنات للإمام خاصة، فكذلك ما على الإماء من نصف.
ويجاب على هذا الاستدلال بأنه قياس معارض للنص، فلا يصار إليه فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد جعل إقامة الحدود إلى الإمام في حق الأحرار، فإنه جعل للسادة حقاً في إقامة الحدود على عبيدهم بنص صحيح لم يثبت مثله في حق الإمام، إلا إذا ثبت الإجماع كما ذكره ابن رشد فيما مضى [المبحث الأول من هذا الفصل].
ثانياً: ما ورد عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، رضي الله عنهم موقوفاً ومرفوعاً: (ضمن الإمام أربعة) وفي رواية: (أربعة إلى الإمام: الحدود والصدقات والجمعات والفيء).
وأجيب عن هذا بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبأنه لم ينف في هذا الأثر إقامة الحد عن غير الإمام، وغاية ما فيه أنه أسند إقامة الحدود إليه لا على سبيل الحصر، ثم لا يجوز معارضة نص ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه جل الصحابة وجمهور العلماء، بقول بعض السلف ولو كانوا من الصحابة. [راجع المحلى (11/165ـ166)، والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (4/311) للشوكاني، وراجع كذلك شرح النووي على صحيح مسلم (11/21)].(1/45)
ثالثاً: أن الإمام قادر على إقامة الحد لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم لانعدام المعارضة بينهم وبينه، بخلاف السيد في ذلك كله، فقد لا يقدر على إقامة الحد على عبده لمعارضته إياه، فإنه قد يتعرض لسيده بسوء إذا خاف، وقد لا يكون عند سيده منعة من اعتداء عبده عليه.
والجواب: أن الغالب أن يكون العبيد منقادين لسادتهم أذلة أمامهم، ثم إن الإمام الذي يعلم أن للسيد هذا الحق ينصره عليه ويعينه.
رابعاً: أن السيد قد يتوانى عن تنفيذ الحد على عبده، إما شفقة به وإما خوفاً على نقصان قيمته، والمرء مجبول على حب المال، بخلاف الإمام، فإنه لا تأخذه في إقامة الحدود رأفة في دين الله، ولا ميل ولا محاباة ولا يخشى فوات شيء إذا نقص ثمن العبد أو قيمته.
والجواب: أن الشرع أعطى السيد هذا الحق، فيجب عليه القيام به كسائر الواجبات، فإذا لم يفعل فهو مسؤول أمام الله تعالى، وإذا علم الإمام تقصيره في هذا الحق قام به هو، وإن لم يعلم فلا حرج عليه. وغير ذلك من الحجج العقلية التي ذكروها في كتبهم..
وأجاب علماء الحنفية عن استدلال الجمهور بحديث علي المتقدم بأن قوله: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" أنه خطاب للأئمة، وليس خطاباً للسادة، وهو كقوله تعالى في حد السرقة: (( فاقطعوا)) خطاب للأئمة، وقالوا: إن السبب في تخصيص المماليك لئلا تحمل الأئمة شفقتهم على المماليك بسبب رقهم على الامتناع، عن إقامة الحد عليهم..
وقد يبدو هذا الحمل للحديث مقبولا إلا أنه معارض بأمرين:
الأمر الأول: صعوبة صرف الخطاب عن السيد في حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا المبحث، وهو قوله: " إذا زنت أمة أحدكم.. فليجلدها.. ثم إن زنت الثالثة.. فليبعها"، فإن الخطاب يتعين للسيد صاحب الأمة.(1/46)
وجواب بعض علماء الحنيفيين عنه بأن المقصود أن السيد سبب للمرافعة إلى الإمام، جواب ضعيف لا يصلح لصرف الأمر عن ظاهره [راجع كتاب المبسوط، للإمام السرخي (9/80ـ82) وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني (9/4204ـ4206) وعمدة القاري (24/17) وفتح القدير لابن الهمام (5/235) وراجع فتح الباري (12/163)].
الأمر الثاني: أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد أقاموا الحدود على مماليكهم، كما مضى عن حفصة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
وقال، الشوكاني في نيل الأوطار [7/139]: "قد أخرج البيهقي [السنن (8/245)] عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: "أدركت بقايا الأنصار، وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت" ورواه الشافعي عن ابن مسعود وأبي بردة.
قال النووي، رحمه الله: "وفي هذا الحديث ـ أي حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا المبحث ـ دليل على وجوب حد الزنا على الإماء والعبيد، وفيه أن السيد يقيم الحد على عبده وأمته، وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم.
وقال أبو حنيفة، رضي الله عنه في طائفة: ليس له ذلك، وهذا الحديث صريح في الدلالة للجمهور [شرح النووي على مسلم (11/211)].
وبعد ذكر مذاهب العلماء رحمهم الله وذكر ما تيسر من أدلتهم ومناقشته، يتبين أن الحق هو جواز إقامة السيد الحد على عبده، كما هو مذهب الجمهور، وأميل إلى مذهب الإمامين: مالك وأحمد رحمهما الله في أن يختص بالحد الذي فيه جلد احتياطاً، لأن الإمام اكثر علماً - في الأصل - واكثر تثبتاً، وفي حكمه نائبه والله تعالى أعلم.
الفصل الخامس
إقامة
غير السلطان الحدود بدون إذنه
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث
المبحث الأول: مذهب من يرى عدم الجواز وأدلته.
المبحث الثاني: من يرى الجواز وما يستدل له به.
المبحث الثالث: تعدد الأمراء أو تقصير السلطان في إقامة الحدود.
المبحث الأول: مذهب من يمنع إقامة الحدود لغير الإمام
تمهيد:(1/47)
لا بد هنا من التنبيه على أمور:
الأمر الأول: أن فقهاء الإسلام عندما كتبوا في هذا الموضوع، كتبوا في وقت كان للمسلمين إمام ونواب، ولم يخل قطر من أقطارهم آنذاك من أمير، وإن كان قد يحصل من بعض الأمراء نوع من التقصير.
الأمر الثاني: أنه لم يوجد من علماء السلف من ينافس السلطان في إقامة الحدود، كغيرها من الوظائف المنوطة به، وإن قاموا بنصحه، إذا قصر أو تجاوز حده، ولا تجوز منافسته في ذلك، لما فيه من الافتيات على السلطان وعدم الطاعة المأمور بها في غير معصية.
الأمر الثالث: أنه لا فرق في الحكم بين السلطان العام، أي الخليفة الذي يحكم المسلمين كلهم، وبين أمير أو ملك يتولى حكم المسلمين في أحد أقطارهم، ويقيم فيهم حكم الله، فإنه يختص بوظائف الإمام أو الخليفة، ما دام لم يوجد للمسلمين خليفة واحد، وإن وجب عليهم السعي لإيجاده، كما هو مقرر في كتب السياسة الشرعية [راجع على سبيل المثال الأحكام السلطانية للماوردي (ص5ـ6) ومجموع الفتاوى لابن تيمية (28/62ـ65) وكذا (35/18ـ32)].
وبعد هذا التنبيه نبدأ بذكر أقوال العلماء في هذا المبحث:
أولا: المذهب الحنفي:
قال الإمام علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني: "وأما شرائط جواز إقامتها - يعنى الحدود - فمنها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص البعض دون البعض، أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة، وهو أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام" [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (9/204)، وراجع المبسوط (9/80ـ82) وفتح القدير لابن الهمام (5/235) وعمدة القاري (24/27)].
وقد سبق أن علماء المذهب الحنفي هم أكثر العلماء تشدداً في عدم جواز إقامة الحد لغير السلطان مطلقاً: على الأحرار والعبيد على السواء.
ثانيا: المذهب المالكي:(1/48)
سبق في المبحث الأول والثاني من الفصل الرابع، أنه لا يقيم الحدود إلا الإمام ما عدا السيد، فإنه يجوز أن يقيم الحد على عبيده، إذا كان جلداً فقط بشروط [راجع أيضاً المدونة (4/408ـ 409)].
وقال القرطبي، رحمه الله:
"لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر - أي الأمر بحد الزنا - الإمام ومن ينوب منابه، وزاد مالك والشافعي السادة في العبيد" [الجامع لأحكام القرآن (12/161)].
وقال أيضاً: "لا خلاف أن القصاص في القتل، لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود" [نفس المرجع السابق (2/245ـ246)].
وقال أيضا: "اتفق أئمة الفتوى أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض" [نفس المرجع السابق (2/256)].
ثالثاً: المذهب الشافعي:
والمذهب الشافعي كغيره من المذاهب لا يجيز لغير الإمام أن يقيم الحد، ما عدا السيد، فله أن يقيمه على عبيده، وهو كما سبق أكثر المذاهب توسعاً في هذا.
قال الإمام الشافعي، رحمه الله: "لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام ومن فوض إليه الإمام، لأنه لم يُقَم حدٌّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، لأنه حق الله يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فلم يجز بغير إذن الإمام. [الأم (6/154) وراجع المجموع (18/270) والروضة (9/221ـ223) (10/99ـ2)].
رابعاً: المذهب الحنبلي:(1/49)
قال ابن قدامة، رحمه الله: "لا يجوز لأحد إقامة الحد، إلا للإمام أو نائبه لأنه حق لله تعالى، ويفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد في حياته، ثم خلفاؤه بعده" [الكافي (3/234) وراجع المغني (9/51ـ52)].
خامساً: المذهب الظاهري:
قال ابن حزم، رحمه الله - وهو يرد على من نفى إقامة السيد الحد على مملوكه استدلالاً بما روي عن حسن البصري، رحمه الله أنه قال: إنه - أي السلطان ضمن هؤلاء أربعاً: الجمعة، والصدقة، والحدود، والحكم.
وعن ابن محيريز أنه قال: الحدود والفيء والزكاة والجمعة إلى السلطان.
"قال أبو محمد رحمه الله: "ما نعلم لهم شبهة غير هذا، وكل هذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليس في شيء مما ذكروا أن لا يقيم الحدود على المماليك ساداتهم، وإنما فيه ذكر الحدود عموماً إلى السلطان، وهكذا نقول، لكن يخص من ذلك حدود المماليك إلى ساداتهم" [المحلي (11/165ـ166)].
ومحل الشاهد قوله: "وإنما فيه ذكر الحدود عموماً إلى السلطان، وهكذا نقول" فهو يرى أن الحدود في الأصل إلى السلطان، وإنما خص حد العبيد إلى السادة، وهو يوافق مذهب الأئمة ما عدا أبا حنيفة رحمه الله.
وذكر السيد محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله، أن مذهب الهادوية أنه لا يقيم الحدود على العبيد سادتهم إلا إذا لم يوجد للمسلمين إمام. [سبل السلام (4/11) طبع مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر].
وحكى عبد القادر عودة اتفاق الفقهاء أن الحدود للإمام أو نائبه. [التشريع الجنائي الإسلامي (1/755)].
وبعد عرض مذاهب العلماء القائلين بعدم جواز إقامة غير السلطان الحدود بدون إذنه، نذكر بعض الأمور التي استندوا إليها فنقول، وبالله التوفيق:(1/50)
الأمر الأول: ما سبق من أن الخطاب بالأمر بإقامة الحدود موجه إلى ولاة الأمور، وهم الأئمة، كما قال القرطبي رحمه الله: "لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ينوب منابه" [الجامع لأحكام القرآن (120ـ161)].
وقال: "لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر.. لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص وغير ذلك" ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعاً أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود" [نفس المرجع السابق (2/245ـ246)].
الأمر الثاني: ما تقدم من أنه لم يكن يقيم الحدود ولا يأمر بها، إلا الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه والأئمة بعدهم.
الأمر الثالث: ما ذكر من إجماع العلماء أن الحدود إلى الإمام إلا ما خصه الدليل، وهو جواز إقامة السيد الحدود كلها أو بعضها على عبيده.
الأمر الرابع: أن الإمام هو الذي يقدر على إقامة الحدود، لما له من سلطة ومنعة.
الأمر الخامس: أنه لو أسند إقامة الحد إلى غير السلطان، لم يؤمن من الحيف وتعدى المشروع، والإمام في الغالب يتحرى ولا هوى له في تعدي المشروع، بخلاف الرعية، فإنه قد يكون بينهم من الحزازات والثارات ما يدعو بعضهم إلى التشفي من بعض.
الأمر السادس: أن السلطان لا تحصل منه محاباة لمن وجب عليه الحد في الغالب، بخلاف غيره فقد يحابي، فلا يقيم الحد، وبخاصة إذ كان من وجب عليه الحد يمت إليه بصلة، كابنه وزوجته وعبده.
الأمر السابع: أن ولي الأمر يكون عالما بالحدود وشروطها ومسقطاتها فلا يقيم الحد إلا على من يستحقه، ولا يترك إقامة الحد بسبب جهله.
ولو فرض أن السلطان غير فقيه في ذلك، فإنه مأمور بسؤال أهل العلم ما لزم بفتواهم، كما أنه مأمور بأن ينيب في إقامتها من هو فقيه في دين الله كالقضاة ونحوهم، ويجب أن يكون أهل مشورته من العلماء وذوي الرأي..(1/51)
ولهذا قال الإمام الشافعي، رحمه الله: "لا يقيم الحدود على الأحرار إلا الإمام ومن فوض إليه الإمام، لأنه لم يقم حد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه، ولا في أيام الخلفاء إلا بإذنهم، لأنه حق الله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه من الحيف" [سبق في أول هذا المبحث].
وقال الكاساني، رحمه الله: "وبيان ذلك أن ولاية إقامة الحد إنما تثبت للإمام لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والمولى لا يساوي الإمام في هذا المعنى، لأن ذلك يقف على الإمامة، والإمام قادر على الإقامة، لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام، وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيم على وجهها، فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين" [بدائع الصنائع في تنفيذ الشرائع (9/4204)].
الأمر الثامن: ما رواه النزال بن سبرة، قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن لا يقتل نفس دوني" [مصنف ابن أبي شيبة (9/416)].
المبحث الثاني: رأي من يقول بجواز إقامة الحدود من دون السلطان
لقد بحثت جهدي فيما قرأت من الكتب في هذا الباب:
كتب التفسير وكتب الحديث والأثر، وكتب الفقه لمعرفة من يرى جواز إقامة الحدود لغير السلطان بدون إذنه، فلم أجد إلا ما ذكر الإمام النووي، رحمه الله عن عالمين من علماء الشافعية أنهما يريان جواز استيفاء ولي الدم القصاص من القاتل استقلالاً.
قال رحمه الله:
"ليس لمستحق القصاص استيفاؤه إلا بإذن الإمام أو نائبه، وعن أبي إسحاق، ومنصور التميمي أن المستحق يستقل بالاستيفاء، كالأخذ بالشفعة وسائر الحقوق، والصحيح المنصوص الأول، وسواء فيه قصاص النفس والطرف، وإذا استقل به عزر"[روضة الطالبين (9/221)].(1/52)
وإلا ما ذكره النووي أيضا حيث ذكر عن القفال روايةَ قولٍ في جواز استيفاء الآحاد الحد حسبة كما الأمر بالمعروف، قال، رحمه الله: "فإن كان المحدود حراً فالمستوفي الإمام أو من فوض إليه، كما سبق، هذا هو المذهب والمنصوص، وبه قطع الأصحاب، وحكي عن القفال رواية قال: إنه يجوز للآحاد استيفاؤه حسبة، كالأمر بالمعروف، وليس بشيء" [نفس المرجع السابق (10/102)].
كما وجدت كلاماً للشوكاني، رحمه الله يرد فيه على من يقول: "تجب إقامتها على الإمام وواليه إن وقع سببها في زمنٍ ومكانٍ يليه" [متن الأزهار للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضي (ص286)].
فقد فهم الشوكاني من هذا النص القول بجواز إسقاط الحدود إذا لم يوجد إمام، فرد على ذلك بقوله:
"أقول: هذا مبنى على أن الحدود إلى الأئمة، وأنه لا يقيمها غيرهم على من وجبت عليه، وليس على هذا أثارة من علم، وما استدلوا به من المروي بلفظ: "أربعة إلى الأئمة" [سبق نصه في المبحث الثاني من الفصل الرابع] فلا أصل له، ولا يثبت بوجه من الوجوه، بل هو مروي من قول بعض السلف، ولا شك أن الإمام ومن ولي من جهته، هم أولى من غيرهم كما قدمنا وأما أنه "لا" [ليست موجودة في الأصل ولكن السياق يقتضيها] يقيمها إلا الأئمة، وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه فباطل، وإسقاط لما أوجبه الله من الحدود في كتابه، والإسلام موجود، والكتاب والسنة موجودان، وأهل الصلاح والعلم موجودون، فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد من المسلمين.
ومع هذا فلا يعدم من له ولاية من إمام أو سلطان أو متول من جهة أحدهما، أو منتصب بالصلاحية في كل قطر من أقطار المسلمين، وإن خلا عن ذلك بعض البادية، لم تخل الحاضرة" [السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (4/311)، دار الكتب العلمية، بيروت].(1/53)
وغاية ما يفهم من كلام الشوكاني هذا أنه يرى أن يقيم الحدود من كان قادراً على إقامتها، عند فقد ولي الأمر من إمام أو متول أو أمير، يقيم حدود الله والذي يبدو أن الشوكاني، رحمه الله قصد إماماً خاصاً بشروط محددة ذكرها المرتضي نفسه في أول كتاب السير من متن الأزهار.
وهذا نص كلام صاحب الأزهار: "فصل، يجب على المسلمين شرعاً نصب إمام مكلف، ذكر، حر، علوي، فاطمي، ولو عتيقاً" [متن الأزهار (ص313،315،316)].
وقد نص بعد ذلك على اختصاص الإمام الذي هذه صفاته بإقامة الحدود، فقال:
"فصل، وإليه وحده إقامة الحدود، والجمع، ونصب الحكام، وتنفيذ الأحكام" [السيل الجرار (4/506)].
ومعنى هذا أنه لو وجد أمير للمؤمنين حاز كل شرائط الإمامة عند غير الهادوية من أهل السنة، فليس له هذه الوظائف التي منها الحدود، وقد رد الشوكاني على اشتراط كون الإمام علوياً فاطمياً بقوله:
" أقول: العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش وأعلاها شرفاً وبيتاً، ولا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش، كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بذلك" [السيل الجرار (4/506)].
فالشوكاني يرى أن هذه الشروط، وبخاصة كون الإمام علوياً فاطمياً، تهدر بها أحكام الشريعة الإسلامية، لأنه قد يوجد إمام صالح أو متول يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، ولكنه ليس علوياً فاطمياً، فعند أهل هذا المذهب لا حق له في إقامة الحدود، وهو أمر باطل، كما قال الشوكاني.
وإذاً فلم يبق أمامنا - حسب علمنا - من يقول بجواز الاستيفاء استقلالاً بدون إذن الإمام مع وجوده إلا الفقيهان الشافعيان اللذان ذكرهما النووي رحمه الله، وهما أبو إسحاق ومنصور التميمي، وقولهما شاذ مخالف لإجماع الأمة سابقاً ولاحقاً، فلا يعتد بقولهما في هذا الباب.(1/54)
وكذلك ما حكى من رواية قول عن القفال رحمه الله، أنه يجوز لآحاد المسلمين استيفاء الحدود، هو أكثر شذوذاً، وغاية ما يمكن أن يستدل به لهم بعض الحوادث التي حصلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في عهد خلفائه.
حوادث اسْتُدِلَّ بها على جواز إقامة الحدود بدون إذن الإمام
ومن تلك الحوادث ما يأتي:
أولا: ما ذكر ابن كثير رحمه الله بسند ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بينهما فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم انطلقا إليه) فلما أتيا إليه، فقال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب، فردنا إليك، فقال: أكذاك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما، حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملاً على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله وأدبر الآخر، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله قتل والله عمر صاحبي، ولولا أني أعجزته لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أظن أن يجتريء عمر على قتل مؤمن) فأنزل الله: (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) [الآية]، فهدر دم ذلك الرجل، وبريء عمر من قتله.
قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكره: "وكذا رواه ابن مردوية من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به، وهو أثر غريب مرسل، وابن لهيعة ضعيف، والله أعلم" [تفسير القرآن العظيم (1/531)، وراجع تاريخ الخلفاء للسيوطي رحمه الله ص123].
والجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث ضعيف، لكونه مرسلاً، ولضعف أحد رواته وهو ابن لهيعة وهذا وحده كاف لإبطال الاحتجاج به.(1/55)
الوجه الثاني: أن من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حكم بالحق ولم يرض المحكوم عليه أن يغضب غضباً شديداً ويزجر من فعل، وهو يخالف ما تضمنه هذا الحديث الضعيف.
كما روى عروة، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، أنه حدثه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراح الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك) فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)) [البخاري (3/76) ومسلم (4/1829ـ1830) والآية في سورة النساء: 65].
فهذه الآية التي يُدَّعى أنها نزلت في قصة عمر ألصق بقصة الزبير وخصمه، وقد اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم على الأنصاري كما هو واضح، فكيف لا يشتد غضبه من طلب المحكوم عليه منه أن يحيله إلى غيره من الصحابة ليحكم له؟
الوجه الثالث: قول المحكوم له: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يريد قتله، مع أنه فيما يبدو لا ذنب له، لأن الذي طلب الرد إلى عمر هو خصمه وليس به، ولأنه - لو صح الحديث - أحيل هو وخصمه من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يقال: إنه ظن أن عمر أراد قتله لشدة رعبه وعلى كل فلا حجة في هذا الحديث لما ذكر.(1/56)
وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل من رأوا أنه يستحق القتل، ومنهم عمر بن الخطاب نفسه، كما في قصة حاطب عندما كتب إلى المشركين ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما: فقال عمر، رضي الله عنه: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: (إنه شهد بدراً) [البخاري (4/18ـ19) ومسلم (4/1941ـ1942)].
وكذلك كان الصحابة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنون الخلفاء في مثل ذلك، كما استأذن أبو برزة أبا بكر رضي الله عنهما في قتل رجل تغيظ عليه أبو بكر فلم يأذن له. [راجع سنن أبي داود (4/530ـ531)].
ثانياً: ومن الحوادث التي يستدل بها على إقامة الحدود بدون إذن الإمام: قطع عائشة رضي الله عنها يد عبد سرق:
كما روت ذلك عمرة بنت عبد الرحمن رضي الله عنها، قالت: خرجت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ومعها مولاتان، ومعهما غلام لبنى عبد الله ابن أبي بكر الصديق، فبعث مع المولاتين بِبُرد مُرَجَّل، قد خيط عليه خرقة خضراء، قالت: فأخذ الغلام البرد ففتق عنه فاستخرجه وجعل مكانه لبداً أو فروة، وخاط عليه، فلما قدمت المولاتان المدينة دفعتا ذلك إلى أهله، فلما فتقوا عنه وجدوا فيه اللبد ولم يجدوا البرد، فكلموا المرأتين، فكلمتا عائشة وكتبتا إليها واتهمتا العبد، فسئل عن ذلك فاعترف فأمرت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقطعت يده، وقالت: عائشة: القطع في ربع دينار فصاعداً" [الموطأ (2/832ـ833) قال المحشي على جامع الأصول (وإسناده صحيح).
وهذا الحديث يرد عليه ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن يكون سادة الغلام، وهم أبناء أخي عائشة، فوضوا الأمر إليها فأمرت بقطعه، وقد يكونون قصاراً، وهي الوصية عليهم فيكون حكمها حكم السيد.(1/57)
الاحتمال الثاني: أن تكون رفعت أمره إلى السلطان، فاعترف لديه فقطعه بطلب منها، وقد أشار إلى هذا الاحتمال القاضي أبو الوليد سليمان بن خلف الباجى رحمه الله [في كتاب المنتقي، شرح الموطأ (7/162)].
الاحتمال الثالث: أن تكون عائشة رضي الله عنها تصرفت اجتهاداً منها ولكن ذلك بعيد إن لم يكن بإذن من سادة الغلام.
ثالثاً: ومن الحوادث التي يستدل بها على إقامة الحدود بدون إذن الإمام: قطع ابن عمر يد عبده الآبق الذي سرق.
كما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "إن عبداً لابن عمر سرق وهو آبق، فبعث به إلى سعيد بن العاص - وهو أمير المدينة - ليقطع يده، فقال سعيد: لا تقطع يد الآبق، فقال له ابن عمر: في أي كتاب وجدت هذا؟ فأمر به ابن عمر فقطعت يده" [الموطأ (2/833) قال المحشي على جامع الأصول: وإسناده صحيح].
ويجاب عن الاستدلال بهذا الأثر بأن ابن عمر أقام الحد على مملوكه، وقد سبق أن بعض العلماء يرون أن للسيد أن يقيم على مملوكه الحدود كلها، جلداً كانت أو قطعاً، أو قتلا، فلا حجة فيه على المطلوب هنا، وهو استيفاء الآحاد الحدود دون الإمام.
رابعاً: ومن الحوادث التي يستدل بها على إقامة الحدود بدون إذن الإمام، قتل حفصة رضي الله عنها جارية لها سحرتها.
كما روى ذلك ابن عمر رضي الله عنهما، قال: "إن جارية لحفصة سحرتها واعترفت بذلك، فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها، فأنكر ذلك عليها عثمان رضي الله عنه، فقال ابن عمر: ما تنكر على أم المؤمنين من امرأة سحرت واعترفت؟ فسكت عثمان رضي الله عنه [مصنف عبد الرازق (10/180)].
[راجع المغني (9/8ـ9)](1/58)
وجواب هذا أن حفصة قتلت جاريتها، ويمكن أن تكون ممن يرى أن للسيد إقامة الحد على عبده، ولو كان الحد هو القتل، وحد الساحر القتل. [المغني لابن قدامة (9/8 ،30)]، والظاهر من إنكار عثمان على حفصة، أنه لا يرى للسيد إقامة الحد على عبده إذا كان القتل، وابن عمر وحفصة أخته يريان ذلك، وسكوت عثمان سببه أن المسألة اجتهادية والمسائل الاجتهادية لا تنكر [أعلام الموقعين عن رب العالمين (3/288)] وبخاصة إذا كان الاجتهاد من الفقيه ابن عمر وأخته أم المؤمنين رضي الله عنهم.
خامساً: ومن الحوادث التي يستدل بها على إقامة الحدود بدون إذن الإمام، حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
"أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة، جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول، فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الناس فقال: (أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام)، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة، جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا أن دمها هدر) [أبو داود (4/528) والنسائي (7/99) والمغول بالكسر شبه سيف قصير].(1/59)
قال شمس الحق عظيم آبادي: "أم ولد" أي غير مسلمة، ولذلك كانت تجترئ ذلك الأمر الشنيع. وقال: (إن دمها هدر) لعله صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صدق قوله، وفيه دليل على أن الذمي إذا لم يكف لسانه عن الله ورسوله فلا ذمة له فيحل قتله" [عون المعبود شرح سنن أبي داود (12/15ـ16)].
ويجاب عن هذا إن استدل به مستدل على جواز إقامة غير السلطان الحد بدون إذنه - أنه من إقامة السيد الحد على عبده، وهو مأذون فيه شرعاً كما ذهب إلى ذلك كثير من العلماء وبخاصة الشافعية في الحدود عموماً، ولو كان قتلا.
وبهذا يعلم أنه لا يوجد دليل على جواز استيفاء الآحاد شيئاً من الحدود، ولا القصاص دون إذن من الإمام ما دام موجوداً، إلا ما أذن فيه الشارع، وهو إقامة السيد الحد على مملوكه، حسب ما يراه أهل كل مذهب كما سبق.
ولو فرض أن وجدت بعض الحوادث خارجة عن هذه القاعدة، فهي حوادث فردية اجتهد فيها فاعلوها واخطأوا، وللإمام الحق في تأديب من فعل شيئا من ذلك ما دام ليس بمأذون فيه شرعاً.
ومن هذا القبيل ما نقل عن جندب بن كعب بن عبد الله، رضي الله عنه من قتله الساحر الذي كان يلعب بين يدي الوليد بن عقبة، أمير عثمان رضي الله عنه بالعراق.
كما قال ابن كثير رحمه الله: "وقد روى من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة، كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله ! يحيي الموتى، ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: " أتأتون السحر وأنتم تبصرون) [الأنبياء: 3].
فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه، ثم أطلقه.(1/60)
-ثم ذكر- ما رواه الخلال بسنده، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندب مشتملاً سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً. [تفسير القرآن العظيم (1/144) السنن الكبرى للبيهقي (8/136) والمصنف لعبد الرازق (10/181)، والإصابة في تمييز الصحابة (1/511)].
المبحث الثالث: حكم تعدد الأمراء أو تقصير السلطان في إقامة الحدود
أولا: تعدد الأمراء:
إن الأصل الذي يجب على المسلمين أن يتمسكوا به ويحموه ويسعوا إلى إيجاده إذا فقد، أن يكون لهم إمام واحد في كل أقطار الأرض تكتمل فيه شروط الإمامة، حسب المقدور عليه من ذوى الكفاءة الموجودين [الأحكام السلطانية للماوردي (ص5ـ6) والفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (4/106، وما بعدها)].
وبذلك تكتمل وحدتهم التي أمر الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت موجودة - وإن أصابها الضعف في بعض الفترات - إلى عهد غير بعيد، وإذا خرج خارج على ولي أمرهم الشرعي وجب عليهم صده ولو بقتله.
كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ستكون هنات وهنات [أي فتن وحوادث] فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهى جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان).
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "إذا بويع الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" [الحديثان في صحيح مسلم (3/1479ـ 1480)].
فإذا كان إمامهم واحداً - حسب هذا الأصل - فلا إشكال، يجب عليهم أن يطيعوه في المعروف، ويجب عليه أن يقيم فيهم شرع الله، ومنه إقامة الحدود.(1/61)
فإذا ترك هذا الأصل بسبب عصيان بعض الرعية من النواب أو غيرهم لسلطان المسلمين، ولم يقدر السلطان والموالون له على القضاء على تمرد الأمير أو الأمراء الذين خرجوا عن طاعته في بعض الأقطار الإسلامية، واستقلوا بالحكم فيها بشوكة ومنعة، وأقاموا شريعة الله تعالى، ومنها الحدود، فإن الواجب على أهل كل قطر أن يطيعوا أمير ذلك القطر، ويتعاونوا معه على تنفيذ شريعة الله، وأن لا يعصوه في معروف، لأنه أصبح هو سلطانهم، لعدم استطاعتهم السمع والطاعة للسلطان العام، وامتناعهم عن طاعته في المعروف بحجة أنه ليس بسلطان هو تعطيل لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على الأمير الذي خرج عن طاعة السلطان أمران:
الأمر الأول: التوبة إلى الله والعودة إلى طاعة السلطان.
الأمر الثاني: إقامة شريعة الله في القطر الذي له عليه ولاية، فإذا عصى في الأمر الأول، وأطاع الله في الأمر الثاني، فإن الواجب على الرعية أن يطيعوه فيما أطاع الله فيه ويكرهوا ما عصى الله فيه، وإذا قدروا أن يأمروه بالمعروف فلهم ذلك، بل يجب عليهم إذا لم يكن في أمرهم له مفسدة أعظم من عصيانه للسلطان العام.
ومن الأدلة على وجوب طاعة الرعية لهؤلاء الأمراء في المعروف قوله تعالى:
(( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)) [النساء: 59].
وهؤلاء الأمراء أصبحوا بحكم الضرورة، هم ولاة أمور تلك الأقطار، ومن ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع) قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: (لا ما صلوا) [مسلم (3/1480)].(1/62)
ومنها حديث عوف ابن مالك الأشجعي رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم) قالوا: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة) [مسلم (3/1482)].
فاللفظ في الحديث الأول والثاني شامل لأمراء الأقطار هؤلاء: أمراء يعرف منهم وينكر، وولي عليكم وال...
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين، أو غير ذلك، فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق، ولهذا قال العلماء: إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزاباً، لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم" [مجموع الفتاوى (34/175ـ176)].
وقال الشوكاني رحمه الله: " أما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وتابعه أهله، كان الحكم فيه أن يقتل إن لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته" [السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار (4/512)].(1/63)
قلت: وهذا الحكم ينطبق من باب أولى، على ما إذا لم يكن للأمة سلطان واحد أصلاً، وتأمر على كل قطر من أقطارهم أمير، فإنه يجب عليهم طاعته في طاعة الله تعالى، ومن ذلك إقامة الحدود، ولا يجوز لهم الخروج عليه إلا إذا أتى كفراً بواحاً فيه من الله برهان، كأن يجوز الحكم بغير ما أنزل الله ويحارب حكم الله.
وإذا حكم فيهم بشرع الله فأبوا بحجة أنه ليس بسلطان، فهم كالإمامية الذين قال فيهم ابن حزم رحمه الله: "فإنهم يدَّعون إماماً لم يخلق كعنقاء مغرب". [الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/114)].
ثانياً: تقصير السلطان في إقامة الحدود:
سبق في أول هذا الكتاب أن شرع الله واجب التنفيذ، والنصوص الدالة على وجوب إقامة الحدود، والآثار المترتبة على إقامتها، والمفاسد المترتبة على عدم إقامتها، وقد أشار بعض علماء المذهب الحنفي إلى الهدف العام من تشريع الحدود، فقال: "لأن الحدود حق الله تعالى، لأن القصد منها إخلاء العالم عن الفساد" [الهداية بشرح البناية (5/373)].
فإذا أهمل من تولى أمر المسلمين إقامة الحدود، فقد أذن بذلك للفساد أن يتمكن في الأرض، أو في العالم، فما موقف المسلمين عندئذ، وبخاصة علماءهم وذوي الرأي منهم؟
إنه لا يخلو الحاكم من حالات ثلاث:
الحالة الأولى: أن يجتمع أهل الحل والعقد لمناصحته، فيستجيب لنصحهم وينفذ شرع الله تعالى، ومنه الحدود، فما عليه عندئذ من سبيل، بل يجب أن يعان على ذلك من قبل الأمة.
الحالة الثانية: أن يرفض إقامة الحدود بنفسه، مقيماً بعض الأعذار على سبب رفضه، مع إظهاره الإيمان بشريعة الله وأنها حق، ويأذن لعلماء قطره وذوي الرأي منهم أن يقوموا بها حسبة، ولا يعارضهم بل يأمر أتباعه بعدم التعرض لهم.(1/64)
الحالة الثالثة: أن يرفض إقامة الحدود مدعياً أنها غير صالحة لهذا الزمن وأن وقتها قد انتهى، وأن القوانين الوضعية أولى بالتنفيذ من شرع الله، وقد لا يصرح بذلك، ولكن قرائن أحواله المتضافرة تدل على هذا المعنى.
الحالة الأولى: لا حاجة إلى الكلام عنها، وإنما الحاجة إلى بيان ما يجب على العلماء وأولي الرأي من الأمة إزاء الحالتين: الثانية والثالثة:
فالحالة الثانية التي يأذن فيها السلطان لغيره بإقامة الحدود، هذه الحالة في الحقيقة مفروضة فرضاً، والغالب أن الحاكم الذي يهمل إقامة الحدود ولا يسمع نصح أهل الحل والعقد، ولا يرجع إلى الله تعالى فيطبق حكمه، الغالب أنه لا يأذن لغيره في إقامتها، ولكن ما الحكم على هذا الافتراض؟
إنه يجب أن نعود هنا إلى قاعدتين من قواعد الإسلام:
القاعدة الأولى: حكم فرض الكفاية - والحدود من فروض الكفاية.
والقاعدة الثانية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية.
أما القاعدة الأولى، فان فرض الكفاية هو كما قال ابن قدامة رحمه الله:
"الذي إن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم، وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس، فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع، كفرض الأعيان، ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض العين لا يسقط عن أحد بفعل غيره" [المغني (9/196)].
فإذا تخلى الحاكم الذي نصبته الأمة، أو نصب نفسه للقيام بمصالحها عن إقامة الحدود، فإن الأمة كلها تأثم بعدم إقامتها، إلا من كان عاجزاً عن ذلك، وعلى هذا فإنه بناءً على هذه القاعدة يتحتم على القادرين من الأمة أن يدفعوا عنها الإثم بإقامة الحدود.
أما القاعدة الثانية، فإن النصوص الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاطعة بإثم من استطاع القيام بذلك ولم يقم به.
قال تعالى: ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)) [آل عمران: 110].(1/65)
وقال تعالى: (( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)) [التوبة: 71].
وقال تعالى: (( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)) [التوبة: 112].
وقال تعالى: (( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [الحج: 41].
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) [مسلم (1/69)].
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" [البخاري (3/111)].
فهذه النصوص تدل على أن هذه الأمة خير من غيرها من الأمم، بإيمانها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، فإذا فقدت ذلك أو نقص شيء منه، فقدت تلك الخيرية أو نقصت بمقدار ما نقص منها.
وأن من لوازم تحقيق الولاء بين المسلمين، أن يتآمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ومن صفاتهم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وحفظهم لحدود الله، ولا حفظ لحدود الله بغير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن من أهم وظائفهم إذا مكنهم الله في الأرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/66)
وأن المستطيع مأمور بالقيام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حسب استطاعته والأمر - للوجوب، فمن لم يقم بما يقدر عليه من ذلك وقد تعين عليه فهو آثم.
وأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يمكن السفهاء من نشر الفساد في الأرض وفي ذلك هلاك العالم وفساده.
معنى القدرة الشرعية
وهذا يعنى أنه يجب على القادرين على إقامة الحدود أن يقيموها تحقيقاً لهذه القاعدة، ولكن يجب أن يعلم معنى القدرة والاستطاعة الشرعية التي يجب على صاحبها الأمر بالمعروف والهي عن المنكر، وبخاصة في الحدود التي وسيلتها التغيير باليد وليس باللسان أو القلب فقط.
فهل إذا تعاقدت جماعة من الناس في قطر من الأقطار على أن يقيموا الحدود على من على ارتكب ذنبا فيه حد، سواء كان جلده أو قطعا أو رجما أو قتلا، هل يعد هذا استطاعة، ولو وقفت قبيلة من يراد إقامة الحد عليه، ضد من أقاموه واشتعلت بينهم الحروب، دون أن يكون لهم قوة تردع من يمتنع عليهم من إقامة الحدود.
هل يضمن الذين يريدون أن يقيموا الحدود، أن يطيعهم الناس في ذلك؟
وهل يضمنون عدم قيام جماعات معارضة لهم تحول بينهم وبين ما يريدون أن يقوموا به؟
وهل إذا وقفت ضدهم جماعات تقاتلهم، تكون عندهم شوكة ومنعة تلقى الهيبة في قلوب المعارضين كما هو الحال بالنسبة للسلطان؟.
وهل يضمنون أن لا تترتب على إقامتهم الحدود على الناس مفسدة أكبر من مفسدة ترك الحدود؟
إن على الذين يريدون أن يقوموا بفرض الكفاية، لإسقاط الإثم عن أنفسهم وعن الأمة، ويريدون أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر عليهم، أن يجيبوا على هذه الأسئلة قبل الإقدام على ذلك، فقد يحدثون بفعلهم مفسدة أعظم من مفسدة ترك إقامة الحدود بأضعاف مضاعفة.
والذي يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يجب أن لا يحدث بأمره ونهيه منكراً أكبر من المنكر الذي يريد تغييره.(1/67)
والمقصود من هذا أن الإنسان قد يكون قادراً على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بيده، كإقامة الحدود، ولكنه غير قادر على دفع المفسدة المترتبة على فعله، وقد تكون المفسدة التي يحدثها أعظم بكثير من مفسدة ترك إقامة الحد، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون غير قادر على شرعا على تغيير المنكر، ما دام يترتب على فعله وجود منكر أكبر لا يقدر على دفعه.
وهذا ما يجب أن نفهم به كلام العلماء، فإنهم قد يطلقون هذه العبارات: فرض الكفاية هو الذي إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين، أو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على المستطيع، ويظن القارئ أن الاستطاعة هي أن يتمكن الشخص من القيام بذلك الفعل، بصرف النظر عن النتائج المترتبة عليه، وقد تكون نتائج مدمرة لحياة المسلمين وفيها من الفتن، ما لا يقدر هو ولا غيره على دفعها إذا وقعت.
ولهذا ترى كثيرًا من العلماء إذا بحثوا في مثل هذه الأمور يحترزون ويذكرون قيوداً توصد باب الفتن، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد توسع في هذا الموضوع، وأرى أنه لابد من نقل مقتطفات وافية من كلامه، خشية أن يفهم بعض قليلي البضاعة من العلم أنه يجيز لغير السلطان أن يقيم الحدود ما دام قادراً على ذلك، بصرف النظر عما يترتب على الإقامة، فإن شيخ الإسلام رحمه الله براء من ذلك، وسأسوق أقواله في هذا الشأن وإن طالت توضيحاً لمراده.(1/68)
قال رحمه الله: "خاطب الله المؤمنين بالحدود خطاباً مطلقاً، كقوله: ((والسارق والسارقة فاقطعوا)) وقوله: ((الزانية والزانى فاجلدوا)) وقوله: ((والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم)) وكذلك: ((ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا)) لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لابد أن يكون قادراً عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية من القادرين، والقدرة هي السلطان، فلهذا وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه" إلى أن قال: "وكذلك لو فرض عجز بعض الأمراء عن إقامة الحدود والحقوق أو إضاعة ذلك، لكان ذلك الفرض على القادر عليه.
وقول من قال لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل، كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم، إنما هو العادل القادر، فإذا كان مضيعاً لأموال اليتامى أو عاجزاً عنها لم يجب تسليمها إليه، مع إمكان حفظها بدونه، وكذلك الأمير إذا كان مضيعاً للحدود أو عاجزاً عنها، لم يجب تفويضها إليه، مع إمكان إقامتها بدونه.
والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان، أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه، والله أعلم" [مجموع الفتاوى (34/175ـ176) وراجع كتاب شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/173ـ175)].(1/69)
إن ذوى الهوى قد يأخذون قوله: "ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت" ويتركون الاحترزات الذي ذكرت في السياق، سابقة أو لاحقة، وخاصة قوله هنا" " إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها.." هو قيد احترازي يمنع فتح باب الفتن بين المسلمين، وقد أفاض في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب أن لا يؤدي إلى مفسدة أكبر في أماكن أخرى.
ومن ذلك قوله: "فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد، هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به، ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب والله لا يحب الفساد، بل كل ما أمر الله به فهو صلاح، وقد أثنى على الصلاح والمصلحين. والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن تُرك واجب وفُعل محرم. إذًا المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هداهم" إلى أن قال: "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة، فيما إذا تعارضت المصالح، والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذ ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمر والنهي إن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فان كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته اكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على إتباع النصوص لم يعدل عنها وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر وقل أن تعوز النصوص من كان خبيرا بها" [مجموع الفتاوى (28/126ـ129)].(1/70)
إن الفسقة في هذا الزمان لهم مؤسسات تدعمهم، بل دول في داخل الشعوب الإسلامية وخارجها بهدف إفساد حياة المسلمين، وإن الذي ينصب نفسه في أي شعب من الشعوب الإسلامية التي لا تحكم بالإسلام، ليقيم الحدود على الناس، يفتح الباب على مصراعيه لتلك المؤسسات والدول، للهجوم على الإسلام والمسلمين، وإشعال نار العداوة والفتن بين المسلمين، بتحريض الأخ على أخيه، والأب والأم على ابنهما، والأسرة على الأسرة، والحي على الحي، والقرية على القرية ويحصل من الفوضى والاضطراب في البلد، ما لا قدرة لمن فتح باب الفتنة على دفعه.
هذا إن لم تقم الدولة - وهي لم تطبق شرع الله - بإشعال الفتن بين الفئات لتتخذ ذلك ذريعة للقدح في الإسلام وضرب الدعاة إليه، فكيف لو قامت هي بذلك؟!
إن على الذين يريدون أن ترتفع راية الإسلام في الأرض أن يسلكوا مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعوب التي تحكم بقوانين الكفر، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ويغرسون في نفوس الناس الإيمان القوي ويزكونهم من المعاصي والآثام ببغضها، ويربونهم على الأعمال الصالحة بمحبتها ويفقهونهم في دينهم بأحكام الإسلام، على طريقة علماء الإسلام من كتبهم المعتمدة التي تحمل الدارس على الاعتدال، وعدم الإفراط أو التفريط، وتوازن بين المصالح والمفاسد، وتقدم ما هو أصلح للإسلام والمسلمين، أما أخذ الإسلام عن طريق العواطف المثارة والحماس غير المحكوم، فإن ذلك يوقع في مفاسد تؤخر الدعوة إلى الإسلام أكثر مما يقدمها.
وهذا ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم في كثير من الأقطار، من نزوع بعض الناس المتحمسين لدين الله، إلى الإقدام على ما يظنونه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهو في حقيقته منكر شرعا، لما يحدثه من مفاسد، أعظم بكثير من المفاسد التي أرادوا بأمرهم ونهيهم درأها.(1/71)
إن تربية الشعوب على الإيمان والعمل الصالح، وشرح محاسن الإسلام لأبنائها وبيان مضار الكفر وقوانينه التي تطبق في بلدان المسلمين، وتوعيتهم بالخطر الذي يحيكه لهم أعداء الإسلام، وبالأساليب التي يجب أن تتخذ لصد ذلك ودفعه، ولو طال زمنه، هو السبيل الوحيد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
أما أن تقوم جماعة ضعيفة عدداً وعدة وعلماً، ثم تحاول أن تقوم بوظائف خليفة المسلمين الذي ينضوي تحت لواء دولته عامة المسلمين، كلهم جنود حق يفدون الإسلام بأرواحهم وأموالهم وكل ما يملكون، إن جماعة تلك صفاتها، وتريد أن تنفذ وظيفة خليفة المسلمين الذي ذلك شأنه، في وسط دول تحارب الإسلام والمسلمين بقوة الشعب كله، وإن كره، إن ذلك يعد خَرَقاً وغفلة وجهلاً بدين الله الذي كله مصالح كما قال علماء الإسلام.
إن الواجب على هذا الشباب المتحمس، أن يفقه معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون أمره ونهيه شرعيين، وقد فصل ذلك علماء المسلمين ووضحوه غاية الإيضاح.
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل، وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة" [أعلام الموقعين عن رب العالمين (3/3ـ4)].
والنتيجة التي نريد الوصول إليها هي:(1/72)
أن إقامة الحدود لابد أن يكون متوليها ذا قوة ومنعة، لا يستعصي عليه العصاة الذين يريد إقامتها عليهم، وأن لا يكون في ذلك صدام بينه وبين الحاكم يؤدي إلى إزهاق الأرواح واستباحة الحرم، ولا يفتح باب فتنة بين مؤيدين ومعارضين تكون نتيجتها فساداً أعظم من ترك الحدود، أو تقوية أهل الفساد وزيادة سيطرتهم على مصالح المسلمين، وجعلهم يفتحون أبواباً أكثر من أبواب الفساد، فإذا كان يترتب على إقامة الحدود هذه المفاسد أو أكثر منها، فلا يجوز الإقدام على ذلك، والمعروف عندئذ، ترك الإنكار، والمنكر هو الإقدام على الإنكار.
وهذا هو سبب اشتراط علماء المسلمين أن يقيم الحدود السلطان دون غيره.
كما قال الكاساني، وهو يذكر شروط إقامة الحدود: "أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة، وهو أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام" [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (9/4204)].
أما الحالة الثالثة: وهي أن يكون الحاكم معارضاً لإقامة الشريعة الإسلامية وبخاصة الحدود، ويرى أن الإسلام غير صالح، لهذا الزمن، وأن الحكم بالقانون هو المفضل عنده، فإن هذا الحاكم كافر كفرا مخرجا من ملة الإسلام، و لا شك فيه، والأمر هنا أهم من الحدود، وهو أنه يجب على المسلمين إذا كانوا قادرين الخروج عليه وخلعه من منصب الحكم، لأن ما قاله كفر بواح، ويشترط في الخروج عليه كذلك أن لا يترتب عليه مفسدة أكبر من و جوده. [راجع فتح الباري (13/5ـ9)].
هذا كله يتعلق بالشعوب الإسلامية، وبقي أن أوجز الكلام في الحكم في بلدان غير المسلمين، كبلاد أوربا وأمريكا واستراليا وغيرها، حيث يوجد هناك جماعات إسلامية، لكل جماعة رئيس وأعضاء، ولها نظام خاص بها، فهل يجب على هذه الجماعات أن تقيم الحدود على أعضائها في حدود ما قد يتغاضى عنه حكام تلك البلاد، كالجلد مثلاً؟
والجواب عن ذلك لابد من معرفة الأمور الآتية:(1/73)
الأمر الأول: أن كثيرا من أعضاء تلك الجماعات لم يصلوا إلى معرفة حقائق الإسلام، بطلب العلم على علماء من ذوى الفقه في الدين، وإن كان بعض أفرادهم قد يتمكن من التعلم على أيدي بعض العلماء لفترة وجيزة، لا يستطيع أن يستوعب فيه تفاصيل كثير من الأحكام الشرعية، وأغلب معلوماتهم يأخذونها من كتب مترجمة غير سليمة، ومعنى هذا أن الجهل يغلب عليهم وبخاصة في دقائق الأحكام الإسلامية.
الأمر الثاني: أن تربيتهم على الإسلام تربية ناقصة، وأفضلهم من يحافظ على الفرائض، وقليل من يؤديها على الوجه الشرعي المطلوب، وكثير منهم قد لا يتورع عن كثير من العادات السائدة في تلك البلدان، كاختلاط الرجال والنساء والخلوة ونحوها.
الأمر الثالث: أن الأصل في تلك البلدان تناول المحرمات واقتراف الموبقات، وهى ليست ميسرة فحسب لمن يريدها، وإنما هي معروضة بإغراء شديد في كل مكان، وإذا كان الفقه في الدين مفقودا، أو ناقصا نقصا قريبا من الفقد، والتزكية الربانية ضعيفة، وتقوى الله في قلب المسلم، لا ترقى إلى درجة الرقابة الزاجرة عن المآثم، ومغريات الشهوات والمنكرات ذات سوق نافقة مدعومة من فئات المجتمع، فكيف تقام الحدود في أمثال هذا المستنقع الآسن؟!
الأمر الرابع: أن أغلب المسلمين لا يتمكنون من إيجاد أحياء خاصة بهم تتيح لهم أن يعيشوا في مجتمع يقدرون فيه على التعاون على تطبيق الإسلام حسب المستطاع، وإنما تجد المسلم يسكن بين غير المسلمين الذين يحيطون به من كل جانب ويضطر إلى الاحتكاك بهم شاء أم أبى.
الأمر الخامس: أن قانون البلد يحمي جميع المنكرات، وهى تسمى بالحريات، فإذا أراد أي أحد أن يخالف تلك القوانين أرغمته الدولة على تطبيقها، وبخاصة القوانين العامة.(1/74)
الأمر السادس: أن الناس في تلك البلدان يفهمون الإسلام فهماً مشوهاً، بسبب الدعايات التي تبثها أجهزة الإعلام، وما يسجل في الكتب المدرسية عن الإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وما يطبع من كتب وبحوث صادرة من مراكز المستشرقين، ومراكز البحوث وغيرها، ضد الإسلام، وأمور أخرى كثيرة يصعب استقصاؤها.
بعد معرفة هذه الأمور ترى هل يجوز لجماعة تعيش في مثل تلك المجتمعات أن تقيم الحدود على أعضائها؟
الجهل بالدين وحده كاف في القول بعدم جواز ذلك، وإن أظهر بعضهم أنه عالم، فإن تفاصيل الأحكام ودقائقها تخفى على كثير من طلبة الشريعة العرب فضلاً عن أعاجم يأخذ أغلبهم علمه من كتب مترجمة كثير منها غير سليم.
ثم إن المسلم لابد أن يجد العالم العامل القدوة المربي حتى يتمسك بالإسلام، ويجد المجتمع الذي يغلب عليه خفاء المعاصي وإنكارها، أما أن يعيش في مجتمع الكفر والمغريات تحيط به وتطلبه بإلحاح، وهو يعيش في وسط الأسر التي تشرب الخمر في كل وقت، ونساؤها عاريات عرياً فاضحا،ً متعرضات بالفتنة في كل شبر من البلد، وقانون البلد ضد الإسلام والمسلمين، ولو شكا إليها من أقيم عليه الحد لعاقبت الحكومة من أقامه وهو لا يقدر أن يدافع عن نفسه.
فكيف يقال: يجوز في مثل هذا المجتمع إقامة الحدود لأفراد ضعفاء لا حول لهم ولا قوة؟
ثم إن الذي يقام عليه الحد، لا يُؤمَن أن يرتد ويترك الإسلام، ويذهب يشوهه في أوساط الناس ويؤلب من استطاع على المسلمين، وقد سمعنا أن بعض من أقيم عليه الحد قد أرتد فعلاً، وبعضهم يهدد من أقاموه عليه بالانتقام.
وعندما تحصل الفتنة بين أعضاء الجماعة، قد يعتدي بعضهم على بعض بالضرب أو القتل، فتتدخل الدولة وقد تعاقب المسلمين بقفل أماكن عبادتهم، بل قد يكون الأمر أشد من ذلك فتأخذ أجهزة الإعلام في الدعاية ضد الإسلام، وتقديم أمثلة على تشويهه بما يحصل بين المسلمين بسبب الجهل بعواقب الأمور.(1/75)
وإنا كما يعلم الله لأشد اشتياقاً لعقاب المجرمين وتنفيذ أحكام الله على العصاة، ولكن شوقنا إلى حصول أعلى المصالح وأدنى المفاسد المتعارضة يجعلنا أشد حرصاً على رفع راية الإسلام في كل مكان.
وإن السبب في تأليف هذا الكتاب لهو الحرص على مصلحة إخواننا المسلمين في كل مكان، وبخاصة أولئك الذين يعيشون في مجتمعات الكفر، الحرص على اجتماع كلمتهم، والحرص على تفقههم في الدين، والحرص على سلامتهم من التعرض للفتن من داخل أنفسهم أو من أعدائهم، والحرص على انتشار الدعوة إلى الله بين الناس.
وإنه لمن حكمة الله تعالى أنه لم ينزل آيات الأحكام على رسوله صلى الله عليه وسلم في مكة عندما كان هو وأصحابه بين مجتمع الكفر، وإنما أنزلها عليه عندما أسس دولة يطيعها المسلم ويهابها الكافر:
قال تعالى: (( إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور. أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)) [الحج: 38ـ41].
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنا الدين الذي ضمه كتابه واحتوته سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكتب علماء الإسلام، فإنه سبحانه وتعالى لم يكلفنا إلا ما نستطيع والذي لا يستطيع القيام بحكم من أحكام الإسلام، لا يكون ذلك الحكم واجبَ الفعلِ عليه حتى يزول المانع، فإذا استطاع صار لازماً له، وكذلك المحرم الذي يضطر إلى تناوله لا يكون محرماً عليه تركه في تلك الحال، فإذا زال الاضطرار عاد التحريم في حقه.(1/76)
قال تعالى: (( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفساً إلى وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين)) [البقرة: 285،286].
تمت مراجعة هذا الكتاب وإضافة زيادات في بعض مباحثه، في المدينة النبوية على ساكنها صلاة الله وسلامه، في منزلي الكائن بحي الأزهري، على شما طريق أبي بكر الصديق النازل، في يوم الأحد بتاريخ 7 من شهر شعبان، لعام 1423هـ ـ الثالث عشر من شهر أكتوبر، لعام 2002م
و"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك"
مراجع كتاب الحدود والسلطان
1ـ أحكام القرآن ـ أبو بكر أحمد بن علي الجصاص ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت.
2ـ أحكام القرآن ـ عماد الدين بن محمد الطبري المشهور بالكيا ـ المكتبة العلمية ـ بيروت.
3ـ الأحكام السلطانية ـ أبو الحسن علي بن محمد الماوردي ـ شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
4ـ إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم ـ أبو السعود بن محمد الحنفي ـ مكتبة الرياض الحديثة.
5ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ـ محمد الأمين الشنقيطي ـ طبع على نفقة الأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود.
6ـ أعلام الموقعين عن رب العالمين ـ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ـ مكتبة الكليات الأزهرية.
7ـ الأم ـ الإمام محمد بن إدريس الشافعي ـ كتاب الشعب.
8ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد ـ أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد ـ مكتبة الكليات الأزهرية.
9ـ البحر المحيط ـ أبو عبد الله محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الغرناطي ـ مكتبة ومطبعة النصر الحديثة بالرياض.(1/77)
10ـ تأريخ الخلفاء ـ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ـ المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
11ـ تفسير القرآن العظيم ـ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ـ مكتبة الدعوة الإسلامية ـ شباب الأزهر.
12ـ التشريع الجنائي الإسلامي ـ عبد القادر عودة ـ مكتبة دار العروبة ـ القاهرة.
13ـ التفسير الكبير ـ أبو عبد الله محمد بن عمر القرشي الرازي ـ دار الكتب العلمية ـ طهران.
14ـ تكملة مجموع النووي ـ محمد حسين العقبي ـ زكريا علي يوسف.
15ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ـ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ـ المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة.
16ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن ـ محمد بن جرير الطبري ـ مصطفى البابي الحلبي وشركاه بمصر.
17ـ الجامع لأحكام القرآن ـ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ـ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر.
18ـ جاهلية القرن العشرين ـ محمد قطب ـ مكتبة وهبة ـ القاهرة.
19ـ حاشية الدسوقي ـ محمد عرفة الدسوقي ـ عيسى البابي الحلبي وشركاه.
20ـ خطبة الحاجة ـ محمد ناصر الدين الألباني ـ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ـ بيروت.
21ـ روضة الطالبين ـ أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ـ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ـ بيروت.
22ـ سبل السلام في شرح بلوغ المرام ـ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ـ مصطفى البابي الحلبي وشركاه.
23ـ سنن ابن ماجة ـ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ـ عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي.
24ـ سنن الترمذي ـ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة ـ شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر.
25ـ السنن الكبرى ـ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ـ محمد أمين دمج ـ بيروت.
26ـ سنن النسائي ـ (المجبتي) أبو عبد الرحمن شعيب بن علي النسائي ـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.(1/78)
27ـ السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ـ محمد بن علي الشوكاني ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
28ـ الشرح الصغير على أقرب المسالك ـ أبو البركات أحمد بن محمد الدردير ـ دار المعارف بمصر.
29ـ شرح النووي على صحيح مسلم ـ محي الدين يحيى بن شرف النووي ـ المطبعة المصرية بالأزهر.
30ـ صحيح البخاري ـ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ـ طبع استانبول.
31ـ صحيح مسلم ـ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ـ عيسى البابي الحلبي وشركاه.
32ـ عمدة القاري ـ شرح صحيح البخاري ـ بدر الدين أبو محمد محمود بن أحمد العيني ـ دار الفكر.
33ـ عون المعبود ـ شرح سنن أبي داود ـ أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ـ المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
34ـ فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ـ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ـ المكتبة السلفية ومطبعتها بالقاهرة.
35ـ فتح القدير ـ كمال الدين محمد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام ـ شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
36ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ـ أبو محمد علي بن حزم الظاهري ـ مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده بمصر.
37ـ القسم الخاص بقانون العقوبات ـ عبد المهيمن بكر ـ دار النهضة العربية ـ بمصر.
38ـ المبسوط ـ شمس الدين محمد بن أحمد السرخسي ـ مطبعة السعادة ـ مصر.
39ـ المحلي ـ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ـ المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت.
40ـ المدونة الكبرى ـ الإمام مالك بن أنس برواية سحنون ـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
41ـ الكتاب المصنف ـ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ـ الدار السلفية ـ بمباي ـ الهند.
42ـ المستصفي ـ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ـ شركة الطباعة الفنية المتحدة ـ بمصر.
43ـ المصنف ـ أبو بكر عبد الرازق بن همام الصنعاني ـ المكتب الإسلامي ـ بيروت.(1/79)
44ـ المغني ـ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة ـ مكتبة القاهرة ـ مصر.
45ـ المهذب ـ أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي ـ شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
46ـ البناية في شرح الهداية ـ أبو محمد محمود بن أحمد العيني ـ دار الفكر للطباعة والنشر.
محتويات كتاب الحدود والسلطان
الفصل الأول وجوب إقامة الحدود : …11
المبحث الأول: النصوص الدالة على وجوب تنفيذ الحدود…12
( 1) في حكم المرتد والمرتدة:…15
( 2) حد الزاني المحصن:…15
( 3) حد اللواط:…16
( 4) حد الخمر:…16
المبحث الثاني: الآثار المترتبة على عدم تنفيذ الحدود.…18
الفصل الثاني :في المراد بأولي الأمر…24
المبحث الأول: القول بأن أولي الأمر هم الأمراء:…26
المبحث الثاني: القول بأن أولي الأمر هم العلماء.…30
المبحث الثالث: القول بأن أولي الأمر هم العلماء والأمراء…32
الفصل الثالث: دلالة الواقع التاريخي على أن إقامة الحدود إلى السلطان…37
المبحث الأول: مجيء العصاة إلى السلطان ليطهرهم بإقامة الحد عليهم.…38
المبحث الثاني: مجيء الرعية بالعصاة إلى السلطان ليقيم عليهم الحد…41
المبحث الثالث: أمر السلطان بإقامة الحدود…43
الفصل الرابع: مذاهب العلماء فيمن عليه تنفيذ الحدود…46
المبحث الأول: إقامة الحدود على الأحرار…47
المبحث الثاني: إقامة الحدود على العبيد…49
الفصل الخامس: إقامة غير السلطان بدون إذنه…55
المبحث الأول: مذهب من يمنع إقامة الحدود لغير الإمام…56
تمهيد:…56
المبحث الثاني: رأي من يقول بجواز إقامة الحدود من دون السلطان…63
المبحث الثالث: حكم تعدد الأمراء أو تقصير السلطان في إقامة الحدود…73(1/80)