الحجاب أدلة الموجبين وشبه المخالفين
الشيخ مصطفى العدوي
مقدمة
الأدلة على مشروعية ستر وجه المرأة وكفيها وجميع بدنها ووجوب ذلك
الدليل الأول: آية الحجاب
الدليل الثاني: الإذن للنساء في الخروج لحاجتهن وفيه دليل على ستر الوجه
الدليل الثالث
الدليل الرابع: حديث المرأة عورة
الدليل الخامس: فعل عائشة -رضي الله عنها-
الدليل السادس: حديث أسماء -رضي الله عنها-
الدليل السابع
أدلة المبيحين لظهور الوجه والكفين وتفنيدها(19) دليلاً دليلاً
الدليل الأول:
الدليل الثاني
الدليل الثالث للمبيحين: قصة الخثعمية وتفنيد الاستدلال به
دليل المبيحين الرابع (قصة الواهبة) وتفنيد الاستدلال به
دليل المبيحين الخامس حديث عائشة -رضي الله عنها- في شهود الصحابيات الفجر
دليل المبيحين السادس حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها
الدليل السابع للمبيحين وتوجيهه
الدليل الثامن: حديث سُبيعة
الخاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} . {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} , {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}.(1/1)
وبعد: فهذه رسالة متواضعة في الحجاب قمنا بكتابتها وجمعها في سلسلة عملنا في كتاب جامع أحكام النساء, وهو الكتاب الذي قمنا فيه بجمع ما يتعلق بالنساء أو يشترك فيه الرجال والنساء, لكن للنساء فيه حكم خاص أو نصيب أوفر, أو ما يظن أن ليس للنساء فيه نصيب, وقد صدر منه حتى الآن بعض الأجزاء, الجزء الأول: هو الطهارة وملحقاتها والجزء الثاني: الصلاة والجنائز, وقد قامت بنشرهما مكتبة ابن حجر بمكة المكرمة, ورسالة في سفر المرأة تسمى: كشف المبهم في حكم سفر المرأة بدون زوج أو محرم, نشرتها مكتبة ابن القيم بالدمام بالاشتراك مع مكتبة ابن حجر بمكة المكرمة, وكتاب الصحيح المسند من أحكام النكاح أصدرته مكتبة ابن تيميه بالقاهرة.
وها هي رسالة الحجاب, وقد كانت هذه الرسالة أحد أبواب كتاب الأدب واللباس من جامع أحكام النساء, ولكن لكبر حجمها أفردناها برسالة مستقلة سائلين الله -عز وجل- أن ينفع بها الإسلام والمسلمين وأن يثيبنا عليها يوم نلقاه.
هذا وبالنسبة لموضوع الحجاب فبادئ ذي بدء لا نختلف نحن والفضلاء من أهل العلم والمنصفون منهم -الذين لا يرون ما نراه من وجوب تغطية جميع بدن المرأة بما في ذلك وجهها وكفيها- لا نختلف معهم أو بمعني أصح: لا يختلفون معنا في أن الأفضل والأكمل والأقرب للتقوى ومرضاة الله ورسوله: هو ستر كل البدن بما في ذلك الوجه والكفين.
فنسوق لهؤلاء الفضلاء وأمثالهم من أهل الفضل رجالاً ونساءً شبابًا وشابات الأدلة التي رأينا أنها توجب علي المرأة أن تستر جميع بدنها بما في ذلك وجهها وكفيها,ومعها الأدلة التي تبين مشروعية ذلك, فإن رأى هؤلاء الفضلاء: أن الأدلة التي ذكرناها تنتهض للحكم بوجوب تغطية وجه المرأة وكفيها, فبها ونعمت, وإن لم يروها تنتهض للحكم بالوجوب فهي -في أقل أحوالها- تثبت مشروعية تغطية الوجه والكفين, وهذا قد اتفقنا فيه معهم.(1/2)
ثم اتجهنا بعد ذكر الأدلة على الوجوب والمشروعية إلى تفنيد كل الأدلة التي أتوا بها يثبتوا بها حالات كشف الوجه علي عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, واستفضنا -بحمد الله- في الرد عليها وإسقاط الاستدلال بها, وخاصة التي أوردها الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- في كتاب: حجاب المرأة المسلمة. فبعد إسقاط استدلالاتهم ما يبقى أمامهم -على الأكثر- إلا الإقرار بأن ستر جميع بدن المرأة بما في ذلك وجهها وكفيها هو الحال الذي كان علي عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وكانت عليه النساء الصحابيات في عهده, وفي هؤلاء الأسوة الحسنة فهم خير الناس كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((خير الناس قرني..)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم من طرق عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا وننبه هنا على أننا لم نتعرض في هذا البحث للتبرج المزري الذي يقع من نساء المسلمين في هذه الأيام والذي فاق تبرج الجاهلية الأولى, وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أهله: ((صنفان من أهل النار لم أرهما... ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها, وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا)). وأخرجه مسلم(حديث 2128), فمحل مناقشة هذا النوع وذمه في أبواب الأدب واللباس إن شاء الله.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميٍٍع العليم وتب علينا واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أبو عبد الله - مصطفى العدوي شلبايه
مصر - الدقهلية - منية سمنود
الأدلة على مشروعية ستر وجه المرأة وكفيها وجميع بدنها ووجوب ذلك
الدليل الأول: آية الحجاب
قال الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}[الأحزاب:53].
1- سبب نزول الآية:
قال الإمام البخاري --رحمه الله-- (فتح 11/22):(1/3)
حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: (أخبرني أنس بن مالك أنه قال: كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة فخدمت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عشرًا حياته, وكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل, وقد كان أبي بن كعب يسألني عنه, وكان أول ما نزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بزينب ابنة جحش: أصبح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها عروسًا, فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا وبقي منهم رهط عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فأطالوا المكث, فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرج وخرجت معه؛ كي يخرجوا, فمشي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومشيت معه حتى جاء عتبة حجرة عائشة, ثم ظن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنهم خرجوا, فرجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورجعت معه, حتى دخل على زينب فإذا هم جلوس لم يتفرقوا, فرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورجعت معه حتى بلغ عَتبة حجرة عائشة, فظن أن قد خرجوا فرجع ورجعت معه, فإذا هم قد خرجوا, فأنزل آية الحجاب فضرب بيني وبينه سترًا). صحيح وأخرجه مسلم 3/596, والترمذي 3219,3217 من طرق عن أنس -رضي الله عنه-.
قال الإمام البخاري -رحمه الله-(فتح 11/22):(1/4)
حدثنا أبو النعمان حدثنا معتمر قال: أبي حدثنا أبو مجلز عن أنس -رضي الله عنه- قال: ( لما تزوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم زينب دخل القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون, فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام, فلما قام قامَ من قام من القوم وقعد بقية القوم, وإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء ليدخل فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا فانطلقوا, فأخبرت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه, وأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي}(1) الآية). صحيح
وأخرجه مسلم(3/598), وعزاه المزي في الأطراف للنسائي (في الكبرى).
2- وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة مبني على أصلين:
الأول: أن خطاب الواحد يشمل خطاب الجماعة.
الثاني: الاشتراك في العلة.
أما بالنسبة للأصل الأول فيتأيد بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((... إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة)), وقد أمر الله -عز وجل- نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالحجاب -ولا نعلم في ذلك خلافًا- فنساء المؤمنين تبع لهم في ذلك؛ لما ذكرناه من أن خطاب الواحد يشمل خطاب الجماعة.
ويتأيد هذا الكلام بالأصل الثاني ألا وهو: الاشتراك في العلة, فعلة السؤال من وراء حجاب طهارة القلوب, ونساء المؤمنين كنساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاحتياج إلى ذلك, ويتأيد هذا الكلام بالعموم الوارد في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إياكم والدخول على النساء)). ويتأيد أيضًا بقرينة انضمام نساء المؤمنين إلى نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبناته في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا}. على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.(1/5)
3- أقوال أهل العلم في الآية:
* قال الطبري -رحمه الله-(21/28):
يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب, يقول: من وراء ستر بينكم وبينهن, ولا تدخلوا عليهن بيوتهن؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن, يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهن المتاع إذا سألتموهن ذلك من وراء حجاب؛ أطهر لقلوبكم وقلوبهن من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء, وفي صدور النساء من أمر الرجال, وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهن سبيل.
* ويقول القرطبي -رحمه الله- (ص5309):
المسألة التاسعة: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض, أو مسألة يستفتين فيها, ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى, وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها كما تقدم, فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها.
قلت:((وفيما قاله القرطبي -رحمه الله- من أن صوت المرأة عورة نظر يحرر في موضعه -إن شاء الله)). في كتابنا الأدب.
وقال -رحمه الله- أيضًا في المسألة الحادية عشر: قوله تعالى: {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}. .يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء, وللنساء في أمر الرجال, أي: ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية, وهذا يدل علي أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له؛ فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته.
وقال ابن كثير -رحمه الله- (3/505):
وقوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب}. أي: وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية, ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب.(1/6)
* أما الشنقيطي -رحمه الله- فقد قال: كلامًا طيبًا متينًا في أضواء البيان(6/584): فأفاد وأجاد -رحمه الله رحمة واسعة- فليراجع فإنه كلام طويل, ها نحن ننقل بعضه إن شاء الله.
قال الشنقيطي -رحمه الله- (أضواء البيان 6/592):
واعلم أن مع دلالة القرآن على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب, قد دلت على ذلك أيضًا أحاديث نبوية, فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إياكم والدخول على النساء)). فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو: الموت)). أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب النكاح في باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم إلخ, ومسلم في كتاب السلام في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها, فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالتحذير الشديد من الدخول على النساء, فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن, وسؤالهن متاعًا إلا من وراء حجاب؛ لأنه من سألها متاعًا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها, والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حذره من الدخول عليها, ولما سأله الأنصاري عن الحمو, الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرمًا لزوجته كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك, قال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الحمو: الموت, فسمى صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت, ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير؛ لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان كما قال الشاعر:
والموت أعظم حادث مما يمر على الجبلة,(1/7)
والجبلة:الخلق, ومنه قوله تعالى: {واتقوا الذي خلقكم والجلبة الأولين}. فتحذيره صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء, وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى: {فسألوهن من وراء حجاب}. عام في جميع النساء كما ترى إذ لو كان حكمه خاصًا بأزواجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم, لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء, وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما, وهو كذلك, فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريمًا شديدًا بانفراده, كما قدمنا أن مسلمًا -رحمه الله- أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها فدل على أن كليهما حرام (قلت: الذي يبدو ويترجح أن التبويب الذي في صحيح مسلم إنما هو للنووي, رحمه الله).
* وقال ابن حجر: في فتح الباري في شرح الحديث المذكور: إياكم والدخول بالنصب على التحذير وهو: تنبيه المخاطب على محذور ليتحذر عنه كما قيل: إياك والأسد, وقوله: إياكم مفعول لفعل مضمر تقديره, اتقوا, وتقدير الكلام: اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء, والنساء أن يدخلن عليكم, ووقع في رواية ابن وهب بلفظ: لا تدخلوا على النساء, وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى انتهي محل الغرض منه.
4- تنبيه:
قد يفهم أحد من الناس قول الله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن}. على أن ذلك يفيد انفصال نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحكم الشرعي المتقدم عن نساء المؤمنين, فهذا لا تحتمله هذه الآية الكريمة, ولننقل ما قاله بعض العلماء فيها.(1/8)
قال ابن كثير: -رحمة الله- في قوله تعالى: {يانساء النبي لستن كأحد من النساء}. هذه آداب أمر الله بها نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ونساء الأمة تبع لهن في ذلك فقال تعالى مخاطبًا لنساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, بأنهن إذا اتقين الله -عز وجل- كما أمرهن, فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة.
وقال القرطبي -رحمه الله-: في قوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن}. يعني: في الفضل والشرف.
5- لفتة طيبة:
قال الشنقيطي -رحمه الله-(6/592):
وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم أية الحجاب عام, وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة علي احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب, علمت أن القرآن دل على الحجاب, ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة, فمن يحاول منع نساء المسلمين -كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم- من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم, مريض القلب كما ترى.
______________________________
(1) ورد لهذه الآية سبب نزول آخر أخرجه البخاري (6240), ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: احجب نساءك, قالت: فلم يفعل, وكان أزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع, فخرجت سودة بنت زمعة - وكانت أمراة طويلة - فرآها عمر بن الخطاب وهو في المجلس فقال: عرفناك يا سوده - حرصًا على أن ينزل الحجاب- قالت: فأنزل الله -عز وجل- آية الحجاب.
قلت: ولا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة, انظر الصحيح المسند من أسباب النزول.(1/9)
الدليل الثاني: الإذن للنساء في الخروج لحاجتهن وفيه دليل على ستر الوجه
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 8/528):
حدثني ذكريا بن يحيى حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت:((خرجت سودة(2)-بعدما ضرب الحجاب(3)- لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة(4) لا تخفى على من يعرفها, فرآها عمر بن الخطاب فقال: يا سودة, أما والله ما تخفين علينا, فانظري كيف تخرجين, قالت: فانكفأت راجعة, ورسول الله صلى الله وعلى آله وسلم في بيتي, وإنه ليتعشى وفي يده عرق, فدخلت فقالت: يا رسول الله, إني خرجت لبعض حاجتي فقال: لي عمر كذا و كذا قالت: فأوحي الله إليه, ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال: ((إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن)) (5). صحيح
وأخرجه مسلم 5/13.
______________________________
(2) سودة هي بنت زمعة أم المؤمنين -رضي الله عنها-.
(3) قال الحافظ ابن حجر (في فتح الباري 8/531): وقد تقدم في الطهارة من طريق هشام بن عروة عن أبيه, ما يخالف ظاهره رواية الزهري هذه عن عروة قال الكرماني: فإن قلت: وقع هنا أنه كان بعد ما ضرب الحجاب, وتقدم في الوضوء أنه كان قبل الحجاب, فالجواب لعله وقع مرتين قلت (القائل هو الحافظ): بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني, والحاصل: أن= =عمر -رضي الله عنه- وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي, حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: (احجب نساءك), وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب, ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ولو كن مستترات فبالغ قي ذلك فمنع منه, وأذن لهن في الخروج لحاجتهن؛ دفعًا للمشقة ورفعًا للحرج.
(4) في رواية البخاري في الطهارة (1/248) وكانت امرأة طويلة, وقال الحافظ ابن حجر هناك (1/249):(1/10)
ويحتمل أن يكون أولًا أراد الأمر بستر وجوههن, فلما وقع الأمر بوفق ما أراد أحب أيضًا أن يحجب أشخاصهن مبالغة في التستر فلم يجب لأجل الضرورة, وهذا أظهر الاحتمالين.
(5) فسر هشام بن عروة الحاجة هنا بأنها: البراز (كما في البخاري حديث 147), وتعقب في هذا فقال الحافظ ابن حجر(11/24): وفي وجوب حجب أشخاصهن مطلقا إلا في حاجة البراز نظر, فقد كن يسافرن للحج وغيره ومن ضرورة ذلك الطواف والسعي وفيه بروز أشخاصهن, بل وفي حالة الركوب والنزول لابد من ذلك وكذا قي خروجهن إلى المسجد النبوي وغيره.
قلت: والأمر كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- فقد استأذنت عائشة -رضي الله عنها- رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تزور أبويها - وكان ذلك بعد الحجاب كما في حديث الإفك - فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسيأتي مزيد لهذه المسألة -إن شاء الله- في أبواب الأدب من أحكام النساء.
تنبيه: في هذا الحديث دليل على مشروعية ستر الوجه إذ أن عمر -رضي الله عنه- ما عرف سودة إلا بطولها وجسامتها فدل ذلك على أن وجهها كان مستورًا.
الدليل الثالث
قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورًا رحيمًا}[الأحزاب:59].
أولا: الآثار الواردة في الآية الكريمة:
* قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- (22/33):
حدثني يعقوب قال: ثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد عن عبيدة في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن...}. فلبسها عندنا ابن عون قال: ولبسها عندنا محمد قال محمد: ولبسها عندي عبيده قال ابن عون: بردائه فتقنع به فغطى أنفه وعينه اليسرى, وأخرج عينه اليمنى وأدنى رداءه من فوقٍ حتى جعله قريبًا من حاجبه أو على الحاجب.
صحيح عن عبيده(6)
* قال: أبو داود في كتاب المسائل(نقلاً عن كتاب الصارم المشهور للتو يجري):(1/11)
حدثنا أحمد -يعني ابن محمد بن حنبل- قال: حدثنا يحيى وروح عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء قال: أخبرنا أبو الشعثاء: أن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: تدني الجلباب إلى وجهها ولا تضرب به.
موقوف صحيح
قال روح في حديثه: قلت: وما لا تضرب به قال: تعطفه وتضرب به على وجهها كما هو مسدول على وجهها.
ثانيا: أقوال أهل العلم في الآية:
تقدمت بعض أقوال التابعين في الآية, وها هي أقوال بعض أصحاب التفاسير.
* قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-(22/23):
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا تتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن, ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن؛ لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول.
* قال القرطبي -رحمه الله-:
المسألة الثانية: لما كانت عادة العربيات التبذل, وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء, وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن, وتشعب الفكرة فيهن, أمر الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن, وكن يتبرزن في الصحراء -قبل أن تتخذ الكنف- فيقع الفرق بينهن وبين الإماء فتعرف الحرائر بسترهن فيكف عن معارضتهن من كان عزبًا أو شابًا. انتهي محل الغرض منه.
* قال الشوكاني -رحمه الله- (فتح القدير 4/304):
{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ...}. من للتبعيض, والجلابيب جمع جلباب, وهو ثوب أكبر من الخمار.(1/12)
قال الجوهري: الجلباب الملحفة وقيل: القناع, وقيل: هو ثوب يستر جميع بدن المرأة كما ثبت في الصحيح من حديث أم عطية أنها قالت: يا رسول الله, إحدانا لا يكون لها جلباب, فقال: ((لتلبسها أختها من جلبابها)). قال الواحدي: قال: المفسرون يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينًا واحدة فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى, وقال الحسن: تغطي نصف وجهها, وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه, والإشارة بقوله (ذلك) إلى إدناء الجلابيب, وهو مبتدأ وخبره (أدنى أن يعرفن) أي: أقرب أن يعرفن فلا يتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر (فلا يؤذين) من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن, وليس المراد بقوله (ذلك أدنى أن يعرفن) أن تعرف الواحدة منهن من هي, بل المراد: أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء؛ لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر, {وكان الله غفورًا} لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب, {رحيمًا} بهن أو غفورًا لذنوب المذنبين رحيمًا بهن فيدخلن في ذلك دخولاً أوليًا.
* قال الشنقيطي: -رحمه الله- (أضواء البيان 6/586):
ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى: { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}. فقد قال: غير واحد من أهل العلم إن معنى: يدنين عليهن من جلابيبهن: أنهن يسترن بها جميع وجوههن ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها, وممن قال به ابن مسعود وابن عباس وعبيدة السلماني وغيرهم.
ثم بدأ الشيخ -رحمه الله- مناقشته للمخالفين.
قلت: وقد بينا ما في أثر ابن عباس قريبًا.
هذا, وقد قال ابن كثير -رحمه الله- أقوالاً مشابهة لما تقدم.
ثالثا: وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
ووجه استدلالنا بالآية من ناحيتين:
الأولى: علة الاشتراك في قوله تعالى: {قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين..}.(1/13)
الثانية: قول أكثر أهل التفسير في الآية.
أما بالنسبة للناحية الأولى: فقد اشترك نساء المؤمنين في الأمر الموجه لأزواج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبناته بإدناء الجلابيب عليهن, ولا يختلف اثنان من أهل العلم أن نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمرن بستر وجوههن -على الأقل- فيتبعهن في ذلك نساء المؤمنين.
أما بالنسبة للناحية الثانية: وهي تفسير أهل العلم للإدناء من الجلابيب فالمراد -وإن كان ورد فيها بعض الخلاف- على قول أكثر أهل العلم: تغطية الوجه.
تنبيه هام: ليس المراد من قوله تعالى: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}. أن تعرف الواحدة من النساء من هي كما يذكره بعض من يلبسون الحق بالباطل, وإنما المراد: أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء؛ وذلك لأنهن لبسن لبسة تختص بالحرائر.
تنبيه ثان: ورد في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قدم المدينة على غير منزل, فكان نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيرهن إذا كان الليل خرجن يقضين حوائجهن, وكان رجال يجلسون على الطريق للغزل فأنزل الله: { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.
وسبب النزول هذا لا يصح فقد أخرجه ابن جرير الطبري -رحمه الله- (22/34) وفي إسناده ضعف شديد, ففيه ابن حميد وهو محمد بن حميد شيخ ابن جرير وهو ضعيف, وفيه راوٍ لم يسم وفيه أنواع أخرى من الضعف.
وليس معنى كون سبب النزول لا يصح أن تفسير العلماء للآية خطأ.
تنبيه ثالث: سبق أن بينا قي تفسير الآية أن الله -عز وجل- أمر نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء, وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن, فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق علموا أنهن حرائر فكفوا عنهن.(1/14)
وليس المراد من ذلك: أن تعرض الفساق للإماء جائز بل هو حرام لا شك في ذلك, والمتعرض لهن من الذين في قلوبهن مرض, بل كل ما في الأمر أن الحرائر يحترزن أكثر من الإماء, وقد قال الصحابة رضوان الله عليهم -لما بنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفية بنت حيي كما سيأتي في أبواب مناقشة المخالفين- إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين, وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه, فدل ذلك على التفريق.
ونحن إنما ذكرنا هذا التنبيه؛ لأن أبا محمد بن حزم -رحمه الله- قال: في المحلى(3/218): وقد ذهب بعض من وهل في قول الله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}. إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك؛ لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء للفسق فأمر الحرائر بأن يلبسن الجلابيب؛ ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يعترضونهن.
قال: ونحن نبرأ إلى الله من هذا التفسير الفاسد الذي هو إما زلة عالم ووهلة فاضل عاقل, أو افتراء كاذب فاسق؛ لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين وهذه مصيبة الأبد .. إلى آخر ما قال رحمه الله وعفا عنه.
قلت: أولاً إن هذا القول الذي نقده ابن حزم -رحمه الله- هو قول جمهور المفسرين من التابعين فمن بعدهم.
ثانيا: إن قول جمهور المفسرين الذي انتقده ابن حزم ليس فيه أبدًا ما ادعاه ابن حزم: من أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين, وتوضيحًا لذلك نقول: إذا أمر الله -عز وجل- نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأمر نحو قوله تعالى: {ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض}. فهل في هذا إباحة للذي في قلبه مرض أن يطمع في نساء المؤمنين وإمائهم, كلا وحاشا فهو زيادة أمر لا حتراز نساء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذين في قلوبهم مرض.(1/15)
قال الشنقيطي في أضواء البيان(6/588): وفي الجملة: فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء؛ ليهابهن الفسَّاق ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم, وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب.
تنبيه رابع: فسر أبو محمد بن حزم -رحمه الله- رغم مخالفته لنا في مسألة الوجه- الجلباب بقوله: والجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه. (المحلى 3/217).
______________________________
(6) وله إسناد آخر عن عبيدة أيضًا عند ابن جرير فقال ابن جرير -رحمه الله- : حدثني يعقوب قال: ثنا هشيم قال: أخبرنا هشام عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قوله:{قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}. قال: فقال: بثوبه فغطى رأسه ووجهه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
قلت: وهذا أيضًا إسناد صحيح.
وقد ورد في هذا أيضًا أثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول تعالي:{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}. أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينًا واحدة.
لكن في إسناد هذا كلام إذ إن الراوي عن ابن عباس هو علي بن أبي طلحة, وهو لم يسمع منه, وقد قيل: إن بينهما مجاهدًا لكننا الآن علي ضعف رواية علي عن ابن عباس. ورد أثر آخر بسند حسن عن قتادة عند الطبري أيضًا فقال الطبري: حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة قوله:{يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين}.أخذ الله عليهن إذا خرجن أن يقنعن على الحواجب ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين, وقد كانت المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء فنهي الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء. وهذا سند حسن فبشر هو ابن معاذ, ويزيد هو ابن ذريع. وثمة آثار أخرى.
الدليل الرابع: حديث المرأة عورة
قال الترمذي -رحمه الله- (1173):(1/16)
حدثنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن مورق عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان))(7).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, (وفي نسخة التحفة حديث حسن صحيح غريب).
رجاله ثقات(8)
______________________________
(7) عند ابن خزيمة والطبراني زيادة: وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها.
(8) وإن كان في إسناده عمرو بن عاصم وثقه ابن معين وغيره, وتكلم فيه بعض أهل العلم إلا أنه من رجال الجماعة, وأيضًا فقد توبع,وإن كانت المتابعات فيها ضعف إلا أنها ترفع من شأنه.
وقد ورد في سند هذا الحديث خلاف يسير فرواه همام (كما عند الترمذي وابن خزيمة) عن قتادة عن مورق عن أبي الأحوص.. به كما, وتوبع همام على هذا تابعه سعيد بن بشير ( كما عند ابن خزيمة) وتابعه أيضًا سويد أبو حاتم(كما عند الطبراني) فرواه هؤلاء الثلاثة عن قتادة عن مورق عن أبي الأحوص .. به, وخالفهم سليمان التيمي (كما عند ابن خزيمة) فرواه عن قتادة عن أبي الأحوص مباشرة (أي بدون ذكر مورقًا) ولا يضر هذا الخلاف فهمام ثقه ثبت في قتادة وقد تشكك ابن خزيمة -رحمه الله- في صحة هذا الحديث من أجل عنعنة قتادة وهو مدلس فلم يصرح قتادة بالتحديث لا عن أبي الأحوص, ولا عن مورق. قال ابن خزيمة: وإنما قلت: ولا هل سمع قتادة هذا الخبر عن أبي الأحوص لرواية سليمان التيمي هذا الخبر عن قتادة عن أبي الأحوص؛ لأنه أسقط مورقًا من هذا الإسناد, وهمام وسعيد بن بشير أدخلا في الإسناد مورقًا وإنما شككت أيضًا في صحته؛ لأني لا أقف على سماع قتادة هذا الخبر من مورق. انتهي كلام ابن خزيمة -رحمه الله-. قلت: وقتادة مدلس مشهور بالتدليس كما ذكره الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين فقد ذكره في الطبقة الثالثة منهم وقال: كان حافظ عصره وهو مشهور بالتدليس وصفه به النسائي وغيره.(1/17)
لكن يقلل من ضرر هذه العلة أن همامًا ثبت في قتادة. قال عمرو بن علي: الأثبات من أصحاب قتادة ابن أبي عروبة وهشام وشعبة وهمام.
وقال ابن المبارك: همام ثبت عن قتادة.
وقال ابن عدي: وهمام أشهر وأصدق من أن يذكر له حديث وأحاديثه مستقيمة عن قتادة.
فالذي نخلص به من هذا الحديث يصلح للا حتجاج به,وقد صححه الشيخ ناصر الألباني في الإرواء 273, والله تعالى أعلم.
تنبيه: قد روي هذا الحديث موقوفًا علي ابن مسعود باسنادين إلى أبي الأحوص عنه عند الطبراني 9480, 9481.
* وأما قوله: المرأة عورة, فقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (3/337): قال في مجمع البحار: جعل المرأة نفسها عورة؛ لأنها إذا ظهرت يستحي منها كما يستحي من العورة إذا ظهرت, والعورة: السوأة وكل ما يستحي منه إذا ظهر, وقيل: إنها ذات عورة(فإذا خرجت استشرفها الشيطان)أي: زينها في نظر الرجال, وقيل أي: نظر إليها ليغويها ويغوي بها, والأصل في الاستشراف: رفع البصر للنظر إلى الشيء وبسط الكف فوق الحاجب, والمعني: أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها, ويغوي غيرها بها ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة, أو يريد بالشيطان: شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه.
ويتضح معني الاستشراف أيضًا مما أخرجه الطبراني (9478) عن ابن مسعود أنه قال: تقول إحداهن: أذهب إلى أهلي فيستشرفها الشيطان حتى تقول: ما رآني أحد إلا أعجبته, وفي رواية إنك لا تمري بأحد إلا أعجبتيه
الدليل الخامس: فعل عائشة -رضي الله عنها-
وفي حديث الإفك.
قالت عائشة:(.. وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي, فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني, وكان يراني قبل الحجاب, فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني, فخمرت(9) وجهي بجلبابي..). الحديث.
صحيح
أخرجه البخاري (8/452), ومسلم ص (2129).
______________________________(1/18)
(9) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (فتح الباري 8/463): قوله: فخمرت, أي: غطيت.
الدليل السادس: حديث أسماء -رضي الله عنها-
قال الحاكم -رحمه الله- (1/454):
حدثنا علي بن حمشاذ العدل ثنا محمد بن شاذان الجوهري ثنا زكرياء بن عدي ثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت:(كنا نغطي وجوهنا من الرجال, وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام).
صحيح(10)
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
______________________________
(10) وله شاهد عند أبي داود (1833), وأحمد (6/30), والبيهقي (5/48) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه.
وفي إسناد هذا الشاهد يزيد بن أبي زياد وهو وإن كان من رجال مسلم إلا أنه ضعيف, لكنه يصلح شاهدًا لحديث أسماء, وكذلك يقويه حديث أسماء.
الدليل السابع
قول الله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}[المؤمنون:31].
أثر ابن مسعود -رضي الله عنه-
قال ابن جرير الطبري -رحمه الله- (18/92):
حدثنا ابن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله(11) قال:(قال: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. قال: الثياب).
موقوف صحيح
قوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}[النور:31](12) وتطبيق الصحابيات لها
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 8/489):
حدثنا أبو نعيم حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تقول: (لما نزلت هذه الآية: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}, أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها) (13).
وعزاه المزي في الأطراف للنسائي في السنن الكبرى (في التفسير).(1/19)
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 8/489):
وقال أحمد بن شبيب(14): حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (يرحم الله نساء المهاجرات الأول(15) لما أنزل الله: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}. شققن مروطهن فاختمرن بها).
و أخرجه أبو داود(4102).
قوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن}[النور: 60].
أولاً: قوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا}.
* قال القرطبي: -رحمه الله- ص(4701) القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن, وقعدن عن الولد والمحيض, هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها. وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد, وليس ذلك بمستقيم؛ لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع قاله المهدوي.
* وقال الطبري -رحمه الله- (18/126): اللواتي قعدن عن الولد من الكبر من النساء فلا يحضن ولا يلدن, واحدتهن قاعد. اللاتي لا يرجون نكاحًا يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة فلا يطمعن في الأزواج.
* ويقول ابن كثير -رحمه الله-: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد(اللاتي لا يرجون نكاحًا) أي: لم يبق إليهن شرف إلى التزوج, ونقل هذا عن بعض السلف.
ثانيا: قوله تعالى: {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة}.
وردت عدة آثار في تفسير هذه الآية نقتصر على بعضها الذي يمثل رأي الجمهور.
قال ابن جرير -رحمه الله-(18/127):
حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت أبا وائل قال: سمعت عبد الله(16) يقول في هذه الآية: {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن}. قال: الجلباب.
موقوف صحيح
قال البيهقي -رحمه الله-(7/93):(1/20)
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنبأ أبو الحسن المصري ثنا مالك بن يحيى (ح وأخبرنا) أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ثنا يزيد بن هارون أنبأ جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان يقرأ: {أن يضعن ثيابهن}. قال: الجلباب.
صحيح(17)
ثالثا: قوله تعالى: {وأن يستعففن خير لهن}.
* قال ابن كثير -رحمه الله- وقوله: {وأن يستعففن خير لهن}. أي: وترك وضعهن
لثيابهن –وإن كان جائزًا– خير وأفضل لهن والله سميع عليم.
* قال البيهقي -رحمه الله- (7/93): أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي (ح وأخبرنا) أبو الحسين بن بشران أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار قالا: نا سعدان بن نصر ثنا سفيان بن عيينة عن عاصم الأحول قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين, وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به فنقول لها: رحمك الله قال الله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحًا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة}. هو الجلباب قال: فتقول لنا أي شئ بعد ذلك؟ فنقول: {وأن يستعففن خير لهن}. فتقول: هو إثبات الجلباب(18).
______________________________
(11) هذا إسناد صحيح عن عبد الله -رضي الله عنه- وهو ابن مسعود, ولهذا الأثر طرق أخري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- عند ابن جرير الطبري رحمه الله.
وقد أخرج ابن جرير -رحمه الله- آثارًا عن ابن عباس في تفسير الآية في كل أثر منها مقال, وها نحن موردوها ومبينوا ما فيها, إن شاء الله تعالى.
1- قال ابن جرير -رحمه الله-:
حدثنا أبو كريب قال: ثنا مروان قال: ثنا مسلم الملائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. قال: الكحل والخاتم.
قلت: وهذا إسناد ضعيف ففيه مسلم الملائي وهو مسلم بن كيسان وهو ضعيف جدًا, وقد اختلف عليه أيضًا فروي عنه عن سعيد قوله ولم يذكر ابن عباس.(1/21)
2- وقال ابن جرير أيضًا:
حدثنا ابن حميد قال: ثنا هارون عن أبي عبد الله نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال: (الظاهر منها الكحل والخدان).
قلت: وهذا إسناد في غاية من الضعف نرمي به ولا نبالي فابن حميد وهو شيخ ابن جرير وهو محمد بن حميد الرازي ضعيف, ونهشل واه للغاية والضحاك وهو ابن مزاحم لم يسمع من ابن عباس.
3- وقال ابن جرير أيضًا:
حدثني علي قال: ثنا عبد الله ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}.
قال: والزينة الظاهرة الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم فهذا تظهره في بيتها لمن دخل من الناس عليها.
قلت: وهذا إسناد ضعيف فعلي - وهو ابن أبي طلحة - لم يسمع من ابن عباس -رضي الله عنهما-. ومن هذه الطريق أخرجه أيضًا(7/94).
4- قال ابن جرير:
حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: قوله: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. قال الخاتم والمسكة.
وهذا إسناد ضعيف؛ فابن جريج لم يسمع ابن عباس فبينهما بون.
هذه هي الآثار التي أوردها ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وفي كل منها ضعف كما رأيت.
وذكر ابن كثير -رحمه الله- إسنادا آخر إلى ابن عباس فقال, وقال الأعمش: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. قال: وجهها وكفيها والخاتم.
قلت: ولم أقف على الإسناد إلى الأعمش, ولا تعرف للأعمش رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, ولم يخرج أحد من أصحاب الكتب الستة رواية للأعمش عن سعيد عن ابن عباس, والأعمش مدلس معروف بذلك فالغالب عندي أنه أخذه عن مسلم بن كيسان الملائي عن سعيد فقد روى الأعمش عن مسلم بن كيسان, وروي مسلم بن كيسان هذا الأثر عن سعيد كما تقدم قريبا في (1), ومسلم بن كيسان ضعيف كما تقدم.
هذه هي جملة الآثار المسندة التي وقفنا عليها عن ابن عباس في الكتب التي بين أيدينا, وقد علمت ما فيها.(1/22)
* وقد أورد ابن جرير جملة أسانيد عن سعيد بن جبير قوله: وهى ضعيفة أيضًا عن سعيد.
وقد صحت بعض الأقوال عن بعض التابعين في أن المراد بقوله تعالى:{إلا ما ظهر منها}.الوجه والكفان.
* ولم نقف - في الكتب التي بين أيدينا- على إسناد صحيح إلى صحابي في أن المراد( بما ظهر منها) الوجه والكفين وإذا صح شي منها فهو متجه كما قال ابن كثير –رحمه- الله إذ قال: وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للزينة التي نهين عن إبدائها, ثم هو إن صح مرجوح أيضًا لما سيأتي نقله عن الشنقيطي رحمه الله.
* وقد صحت جملة من الآثار عن التابعين أيضًا أن المراد بقوله تعالى:{إلا ما ظهر منها}. الثياب.
* فحاصل الأمر: أن الذي صح لدينا الآن أثر ابن مسعود في أن المراد بقوله: {إلا ما ظهر منها}. الثياب, وصح ذلك أيضًا عن جملة من التابعين, وصح عن جملة من التابعين أنهم قالوا:{إلا ما ظهر منها}. الوجه والكفين, وقد علمت ما فيه.
ولا شك أن تفسير ابن مسعود -رضي الله عنه- مقدم على تفسير غيره في هذا الباب, وحسبك بابن مسعود في عداد المفسرين من الصحابة -رضي الله عنهم-, ولنتركه هو يتحدث عن نفسه في مجال التفسير.
قال البخاري -رحمه الله- (فتح 9/47):
حدثنا عمر بن حفص ثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله -رضي الله عنه-: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتب الله إلا أنا أعلم أين نزلت, ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيمن أنزلت, ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه.
وأخرجه مسلم (حديث 2463).
وأخرج البخاري أيضًا (فتح 9/46), ومسلم (2462) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بضعًا وسبعين سورة, والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم.(1/23)
قال شقيق (الراوي عن ابن مسعود): (فجلست في الحلق أسمع ما يقولون فما سمعت رادًا يقول غير ذلك) اللفظ للبخاري.
وأخرج مسلم أيضًا (2459) بإسناده إلى أبي الأحوص قال: كنا في دار أبي موسى مع نفر من أصحاب عبد الله, وهم ينظرون في مصحف فقام عبد الله (قلت: وهو ابن مسعود) فقال أبو مسعود (قلت: وهو عقبة بن عمرو): ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم, فقال أبو موسى: أما لئن قلت ذاك لقد كان يشهد إذا غبنا, ويؤذن له إذا حجبنا.
قلت: فمثل هذا حري أن يقدم تفسيره للآية.
وللشيخ محمد الشنقيطي -رحمه الله- كلامًا طيبًا في هذا الباب:
قال -رحمه الله – بعد أن ذكر أقوالاً للسلف في هذا الباب – (أضواء البيان 6/197): قد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة, وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد بالزينة: ما تتزين به المرأة خارجًا عن أصل خلقتها, ولا يستلزم النظر إليه رؤية شي من بدنها كقول ابن مسعود, ومن وافقه: إنها ظاهر الثياب؛ لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار كما ترى.
وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة.
القول الثاني: أن المراد بالزينة: ما تتزين به, وليس من أصل خلقتها أيضًا لكن النظر لتلك الزينة يستلزم رؤية شي من بدن المرأة وذلك كا لخضاب والكحل, ونحو ذلك؛ لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن كما لا يخفى.(1/24)
القول الثالث: أن المراد بالزينة الظاهرة: بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها؛ لقول من قال إن المراد بما ظهر منها: الوجه والكفان, وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم. ثم قال -رحمه الله- بعد ذلك بقليل: أما الأول منهما, فبيانه أن قول من قال في معنى:{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. أن المراد: الوجه والكفان مثلاً, توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول, وهي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها: كالحلي والحلل فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر, ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه وبه تعلم أن قول من قال: الزينة الظاهرة: الوجه والكفان خلاف ظاهر معني لفظ الآية وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول, فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه.
وأما نوع البيان الثاني المذكور فإيضاحه: أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادًا به: الزينة الخارجة عن أصل المزين بها, ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشي المزين بها كقوله تعالى:{يا بني آدم خذوا زينتكم عن كل مسجد}. وقوله تعالى:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده}. وقوله تعالى:{إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها}. وقوله تعالى:{وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها}. وقوله تعالى:{إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب}. وقوله تعال:{والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}.
وقوله تعالى:{فخرج على قومه في زينته}.
وقوله تعالى:{المال والبنون زينة الحياة الدنيا}.
وقوله تعالى:{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة}.(1/25)
وقوله تعالى:{قال موعدكم يوم الزينة}. وقوله تعالى عن قوم موسى:{إنا حملنا أوزارًا من زينة القوم}. وقوله تعالى:{ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن}. فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به: ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته كما ترى, وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم, وهو المعروف في كلام العرب كقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل
وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين فيه نظر.
وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن: ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين, فقال بعضهم: هي زينة لا يستلزم النظر إليها ورؤية شي من بدن المرأة كظاهر الثياب, وقال بعضهم: هي زينة يستلزم النظر إليها رؤية موضعها من بدن المرأة كالكحل والخضاب, ونحو ذلك قال مقيده -عفا الله عنه وغفر له- : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود -رضي الله عنه- أن الزينة الظاهرة هي مالا يستلزم النظر إليها شيء من بدن المرأة الأجنبية, وإنما قلنا: أن هذا القول هو الأظهر؛ لأنه هو أحوط الأقوال وأبعدها عن أسباب الفتنة, وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها كما هو معلوم, والجاري على قواعد الشرع الكريم هو تمام المحافظة والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي.(1/26)
تنبيه: ذهب الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- رغم مخالفته لنا في مسألة الوجه والكفين- إلى نحو ما ذهبنا إليه من اختيار كلام ابن مسعود وترجيحه على غيره فقال ما نصه:- بعد أن ذكر الآية- ففي الآية التصريح بوجوب ستر الزينة كلها وعدم إظهار شي منه أمام الأجانب إلا ما ظهر بغير قصد منهن فلا يؤاخذن عليه إذا بادرن إلى ستره, قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (أي: لا يظهرن شيئًا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه, قال ابن مسعود: كالرداء والثياب, يعني: على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه). ثم انتصر الشيخ لهذا القول.
(12) ذهب فريق من العلماء إلى أن المراد بالآية: تغطية الصدر والنحر, من هؤلاء ابن كثير والقرطبي وغيرهم. بينما ذهب الشنقيطي في أضواء البيان إلى أن المراد: ستر الوجه, ولا تعارض بينهم فما قاله ابن كثير والقرطبي لا ينافي ما قاله الشنقيطي فتغطية الصدر والنحر أحد مستلزمات تغطية الوجه, وليس في تغطية الصدر والنحر انتفاء تغطية الوجه ومن عمل بتفسير الشنقيطي فقد عمل بالتفسيرين معًا, وساعد الشنقيطي على اتجاهه قول الحافظ ابن حجر الذي سنذكره قريبًا, وعمل الصحابيات -رضي الله عنهن- (أضواء البيان 6/595).
(13) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (فتح الباري 8/490) قوله: ((فاختمرن)) : أي: غطين وجوههن, وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه بالجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع.
وقال الحافظ أيضًا (الفتح 10/48) في سبب تسمية الخمر خمرًا.. ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها.
(14) هذا الحديث معلق عند البخاري, ولكنه موصول من طريق آخر عن ابن شهاب عند أبي داود (4102) وانظر تغليق التعليق (4/269).(1/27)
(15) عند البخاري - كما هنا- وأبي داود نساء المهاجرات الأول, وورد هذا أيضًا في نساء الأنصار من عدة أوجه بعضها صحيح وبعضها فيه مقال, لكنها بمجموعها صحيحة بلا شك. منه ما أخرجه أبو داود (4100) فقال: حدثنا أبو كامل حدثنا أبو عوانة عن إبراهيم بن مهاجر عن صفية بنت شيبة عن عائشة -رضي الله عنها- أنها ذكرت نساء الأنصار فأثنت عليهن وقالت: لهن معروفًا, وقالت: لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز, شك أبو كامل فشققنهن فاتخذنه خمرًا. وفي إسناده إبراهيم بن مهاجر متكلم فيه, لكن يصلح للشواهد.
وقال أبو داود أيضًا(4101) : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا ابن ثور عن معمر عن ابن خثيم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت: لما نزلت:{يدنين عليهن من جلابيبهن}. خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية.
وقال ابن كثير -رحمه الله- (3/284): قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثني الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة -رضي الله عنها-: إن لنساء قريش لفضلاً, وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا بكتاب الله ولا إيمانًا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن}. انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان.
وفي إسناد هذا الأخير الزنجي بن خالد وهو مسلم بن خالد وهو إلى الضعف أقرب.(1/28)
ومن عجيب أمر الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- أنه رغم تضعيفه للزنجي قال: والحديث كالنص على أنهن قمن وراء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كاشفات الوجوه؛ لأن الاعتجار بمعنى الاختمار ففي(الصحاح): والمعجر ما تشده المرأة على رأسها, يقال: اعتجرت المرأة. كذا قال وفيما قاله الشيخ -رحمه الله- نظر من ناحيتين:
الأولى: ضعف هذا الحديث, وإن كان له شواهد فالشواهد تشهد لأصله لا لكل جزئياته.
الثانية: أن القول في الاعتجار ليس قولاً واحدًا كما اقتصر الشيخ -رحمه الله- ففي اللسان ( لسان العرب مادة عجر) بعد أن ذكر في الاعتجار أقوالاً قال: والعجرة بالكسر نوع من العمة يقال: فلان حسن العجرة, وفي حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: وجاء وهو معتجر بعمامته ما يرى وحشي منه إلا عينيه ورجليه, الاعتجار بالعمامة هو: أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجهه ولا يعمل منها شيئًا تحت ذقنه.
قلت: فمن هذا يفهم أن الاعتجار يطلق أيضًا على تغطية الوجه وهناك ناحية ثالثة: وهي أنهن كن يصلين وراء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وللمصلية حكم خاص في كشف الوجه.
تنبيه: سيأتي -إن شاء الله- في أبواب مناقشة المبيحين لكشف الوجه- مزيد لتعريف الخمار.
تنبيه آخر:عزا الشيخ ناصر -رحمه الله- إلى القرطبي وغيره في سبب نزول الآية:{وليضربن بخمرهن على جيوبهن}. أن النساء في ذلك الزمان إذا غطين رءوسهن بالأخمرة, وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر كما يصنع النبط فيبقي النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك فأمر الله بضرب الخمار على الجيوب.
قلت: لم يصح لهذه الآية سبب نزول, وما هي بعادة الشيخ -رحمه الله- حيث عدل عن ذكر الأسانيد إلى ذكر أقوال مجردة عن الأسانيد, وأيضًا ليس في هذا صراحة لمراده.
(16) عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(17) وله شاهد عند ابن جرير (18/126) والبيهقي (7/93) أيضًا.(1/29)
(18) هكذا فهمت حفصة بنت سيرين التابعية الجليلة أن معنى: {وأن يستعففن خير لهن}. هو إثبات الجلباب وتطبيقها العملي له هو التنقب وتقدم قريبًا عن ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهم- أن المراد بقوله تعالى:{فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن}. أن المراد: الجلباب, وفي أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للنساء في الخروج للعيدين قالت إحداهن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال:((لتلبسها أختها من جلبابها)).أخرجه الشيخان.
أدلة المبيحين لظهور الوجه والكفين وتفنيدها(19) دليلاً دليلاً
الدليل الأول:
حديث عائشة -رضي الله عنها- في مجيء أسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وعليها ثياب رقاق وبيان الضعف الشديد الذي يعتريه
قال أبو داود -رحمه الله- (4104):
حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد قال يعقوب ابن دريك: عن عائشة -رضي الله عنها- أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: (( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا)). وأشار إلى وجهه وكفيه(20) قال أبو داود: هذا مرسل؛ خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها.
ضعيف جدًا
وأخرجه البيهقي (2/226).
بيان الضعف الشديد للشاهد الذي استشهد به الشيخ ناصر لهذا الحديث:
وذكر الشيخ ناصر لهذا الحديث شاهدًا عند البيهقي (7/86) من طريق محمد بن رمح ثنا ابن لهيعة عن عياض بن عبد الله أن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر عن أبيه أظنه عن أسماء بنت عميس... فذكر الشاهد.
وقال البيهقي: إسناده ضعيف(21)
______________________________
(19) التفنيد: هو اللوم وتضعيف الرأي. كذا في لسان العرب.
(20) هذا حديث ضعيف جدًا؛ وذلك لأمور:(1/30)
أولها: ما أشار إليه أبو داود وجمع من أهل العلم وهو أن خالد بن دريك لم يدرك عائشة فالسند منقطع.
ثانيها: قتادة مدلس وقد عنعن.
ثالثها: سعيد بن بشير ضعيف وخاصة في قتادة.
رابعها: الوليد - وهو ابن مسلم- وهو مدلس وقد عنعن.
فضلاً عن هذا كله فإن هذا محتمل أن يكون قبل الحجاب أو بعده فلا حجة فيه بحال.
(21) قلت: وهذا الشاهد ضعيف للآتي:
1- ابن لهيعة ضعيف مختلط وانظر ترجمته في كتب الرجال إن شئت وبعض الذين صححوا حديثه صححوه من رواية العبادلة الأربعة عنه, وليس من رواية ابن رمح.
2- عياض بن عبد الله ننقل أقوال العلماء فيه:
قال أبو حاتم: ليس بالقوي, وذكره ابن حبان في الثقات وقال الساجي: روى عنه ابن وهب أحاديث فيها نظر, وقال يحيى بن معين: ضعيف الحديث, وقال ابن شاهين في الثقات: وقال أبو صالح ثبت له بالمدينة شأن كبير في حديثه شيء, وقال البخاري منكر الحديث.
من هذا يتبين أن أكثر أهل العلم ضعفوا عياضًا, ومن المعلوم أن ابن حبان متساهل في توثيق المجاهيل.
3- في الحديث ظن لبعض الرواة, وهذا الظن يوهن السند.
من هنا يتبين أن الشاهد ضعيف جدًا.
أما الشاهد الآخر الذي ذكره الشيخ ناصر فهو من مراسيل قتادة, ومن المعلوم أن مراسيل قتادة من أضعف المراسيل, وأيضًا فإن قتادة قد روى الحديث عن خالد بن دريك عن عائشة فلا يمتنع أن يكون أسقط خالدًا وعائشة وذكر الحديث مرسلاً إذ أن قتادة مدلس, فحينئذٍ يرجع الحديث إلى حديث خالد عن عائشة.
يتبين بهذا أن حديث عائشة حديث ضعيف لا ترقيه الشواهد المذكورة للحسن والله أعلم.
الدليل الثاني
حديث جابر -رضي الله عنه- في قصة سفعاء الخدين وتفنيد الاستدلال به:
قال الإمام مسلم -رحمه الله- (2/537):(1/31)
وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة, ثم قام متوكئًا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم, ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال: ((تصدَّقن فإن أكثر كن حطب جهنم)). فقالت امرأة من سِطة(22) النساء سفعاء الخدين فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشَّكاة وتكفرن العشير)). قال فجعلن يتصدقن من حُليهن يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن.
صحيح
وأخرجه النسائي (3/186).
بيان أن الإماء لا يلزمهن من الحجاب ما يلزم الحرائر:
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 9/126):
حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس -رضي الله عنه- قال: أقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين خيبر والمدينة ثلاثًا يُبنى عليه بصفية بنت حُيي, فدعوت المسلمين إلى وليمته, فما كان فيها خبز و لا لحم, أمر بالأنطاع فألقي فيها من التمر والأقط والسمن فكانت وليمته, فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو مما ملكت يمينه؟ فقالوا إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين, وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه(23) فلما ارتحل وطَّى لها خلفه, ومد الحجاب بينها وبين الناس.
صحيح
وأخرجه مسلم (3/593) والنسائي (6/134).
______________________________(1/32)
(22) قال النووي: وفي بعض النسخ (واسطة النساء) ثم نقل عن عياض أنه قال: وزعم حذاق شيوخنا: أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم وأن صوابه (من سفلة النساء) وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده والنسائي في سننه, وفي رواية لابن أبي شيبة: (امرأة ليست من علية النساء), وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده: سفعاء الخدين هذا كلام القاضي, ثم قال النووي: وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول بل هي صحيحة, وليس المراد من خيار النساء كما فسره هو, بل المراد: امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن.
قلت: وهذا الذي نقله عياض عن حذاق شيوخه هو الصواب أي: أن لفظ سطة النساء غلط في صحيح مسلم خلافًا لما قاله النووي -رحمه الله- وأيضًا - بناء على ذلك- فمعناها مخالف لما قاله النووي وعياض -رحمهما الله- والصواب: (امرأة من سلفة النساء).
وهاك بيان وجهنا للتصويب الذي ذكرناه:
1- أخرجه مسلم الحديث كما هنا من طريق عبد الله بن نمير عن عبد الملك عن عطاء عن جابر بلفظ (امرأة من سطة النساء) وقد تقدم بيان الخلاف في نسخ مسلم.
2- أخرج النسائي الحديث (3/186) من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الملك عن عطاء عن جابر بلفظ ( امرأة من سفلة النساء)
3- أخرج أحمد الحديث (3/318) من طريق يحيى عن عبد الملك عن عطاء عن جابر بلفظ (امرأة من سفلة النساء).
4- أخرج الدارمي الحديث (1/377) من طريق يعلى بن عبيد عن عبد الملك عن عطاء عن جابر بلفظ (امرأة من سفلة النساء).
5- أخرج البيهقي الحديث (3/296) من طريق إسحاق بن يوسف الأزرق عن عبد الملك عن عطاء عن جابر بلفظ: (امرأة من سفلة النساء).
6- أخرج البيهقي أيضًا الحديث (3/300) من طريق يزيد بن هارون عن عبد الملك عن عطاء عن جابر بلفظ: (امرأة من سفلة النساء).
7- ذكر عياض - كما تقدم قريبًا - أن الحديث عند ابن أبي شيبة بلفظ: (امرأة من سفلة النساء).(1/33)
8- ذكر عياض أيضًا - كما تقدم قريبًا - أن في بعض روايات ابن أبي شيبة (امرأة ليست من علية النساء). من هذا يتضح لنا وضوحًا لا نشك فيه أن الصواب (امرأة من سفلة النساء) وتؤيدها رواية ابن أبي شيبة الأخيرة: (ليست من علية النساء) إذ المعنى واحد فترجح لدينا الآن أن الصواب (من سفلة النساء).
والمعني على هذا الذي ترجح يخالف ما قاله النووي وعياض -رحمهما الله- ففي اللسان ص (2031) وسفلة الناس وسفلتهم: أسافلهم وغوغاؤهم, وفيه أيضًا السفل والسفل.. نقيض العُلو والعِلو.
وأما قوله: (سفعاء الخدين) فلا نختلف فيه مع النووي -رحمه الله- فمعناه فيها تغير وسواد فعلى هذا فقوله: (امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين) أي: ليست من علية النساء - بل هي من سفلتهم- وهي سوداء هذا القول يُشعر ويشير إشارة قوية إلى أن المرأة كانت من الإماء وليست من الحرائر وعليه فلا دليل في هذا لمن استدل به على جواز كشف وجه المرأة؛ إذ أنه يغتفر في حق الإماء ما لا يغتفر في حق الحرائر - كما سيأتي قريبًا إن شاء الله- وقد قال الصحابة لما بنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصفية: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين, وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه,وسيأتي هذا الحديث إن شاء الله.
* ثم هناك احتمال وارد أيضًا وهو: أن هذه المرأة قد تكون من القواعد من النساء.
* هذا وليس في هذا الحديث أيضًا - بالإضافة إلى ما ذكرنا- ما يفيد أن ذلك كان قبل الأمر بالحجاب.(1/34)
* أما ما حاول به الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- إثبات أن ذلك كان بعد الحجاب فمحاولة واهية لا تقوم على أساس من الصحة فهذا أول دليل ذكره مثبتًا به أن هذه القصة - قصة السفعاء الخدين - كانت بعد الحجاب قال الأول: حديث أم عطية -رضي الله عنها- (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد قالت أم عطية: إحدانا لا يكون لها جلباب؟ . قال:((لتلبسها أختها من جلبابها)). قال ففيه دليل على أن النساء إنما كن يخرجن إلى العيد في جلابيبهن وعليه فالمرأة السفعاء كانت محتجبة.
قلت: فهل في هذا إشارة يا أولي النُّهى إلى أن قصة سفعاء الخدين كانت بعد الحجاب؟!!! وهل هو عيد واحد الذي صلاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ وهل قبل أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم للنساء بالخروج لم تكن امرأة تخرج لصلاة العيد؟!
أما الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ ناصر - رحمه الله - فهو حديث ضعيف لا ندين الله به؛ ففي إسناده إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية والصواب لدينا أنه مجهول وقد قال عنه الحافظ ابن حجر (مقبول) ومعناه - عنده- إذا توبع وإلا فلين فلا نحتج به, ثم إن هذا الحديث الضعيف الذي قال عنه الشيخ يستشهد به فيه أن عمر مد يده من خارج الباب ومددن أيديهن من داخل فهل يستجيز الشيخ بذلك جواز مصافحة الرجل للنساء؟!!! اللهم غفرًا.
* ثم إن الشيخ -رحمه الله- لم يشر إلى الاختلاف الوارد في لفظ: (سفلة النساء) و(سطة النساء), بل عزا الحديث إلى النسائي وأحمد والبيهقي والدارمي بلفظ: (سطة) وهذا غلط فليس عند أحد منهم بلفظ: (سطة), هذا وبالله تعالى التوفيق.(1/35)
(23) في بعض الروايات, (وإن لم يحجبها فهي أم ولد), وفي هذا الحديث دليل واضح على أن الإماء لا يلزمهن من الحجاب الذي يشمل ستر الوجه ما يلزم الحرائر, ومع ذلك فإن خشيت الفتنة من قبلهن لزمهن الستر كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم, ولعمومات الشريعة التي تقضي بسد الذرائع والنهي عن الفساد, والله أعلم.
الدليل الثالث للمبيحين: قصة الخثعمية وتفنيد الاستدلال به
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 11/8):
حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سليمان بن يسار أخبرني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: أردف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته, وكان الفضل رجلاً وضيئًا فوقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للناس يفتيهم, وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة(24) تستفتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها, فالتفت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والفضل ينظر إليها فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها فقالت: يا رسول الله, إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة, فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: ((نعم)).
صحيح
وأخرجه مسلم (3/479) وأبو داود (1809) والنسائي (5/119) وغيرهم.
إثبات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أردف الفضل من مزدلفة إلى مني(25)
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 3/404):
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن أسامة -رضي الله عنه- كان ردف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عرفة إلى المزدلفة, ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى. قال فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
صحيح
وأخرجه مسلم 3/414.(1/36)
بيان أن سؤال الخثعمية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في الطريق من مزدلفة إلى منى(26)
قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1/219):
حدثنا سفيان عن الزهري سمع سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم غداة جمع(27) والفضل بن عباس ردف فقالت: إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستمسك على الرحل فهل ترى أن أحج عنه؟ قال: ((نعم)).
صحيح
وأخرجه النسائي (5/117), وأبو يعلى (4/272), والبيهقي (4/328), وابن خزيمة (4/342) (28), وابن ماجة (2909).
تفنيد رأي من استدل بتكرار سؤال الخثعمية عند المنحر وإبطاله من ستة أوجه
قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1/75):
ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير ثنا سفيان عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعرفة فقال هذا الموقف وعرفة كلها موقف, وأفاض حين غابت الشمس, ثم أردف أسامة فجعل يعنق على بعيره والناس يضربون يمينًا وشمالاً يلتفت إليهم ويقول: ((السكينة أيها الناس)). ثم أتى جمعًا فصلى بهم الصلاتين: المغرب والعشاء, ثم بات حتى أصبح, ثم أتى قزح فوقف على قزح فقال: ((هذا الموقف وجمع كلها موقف)). ثم سار حتى أتي مُحسرًا فوقف عليه فقرع ناقته فخبت حتى جاز الوادي, ثم حبسها ثم أردف الفضل وسار حتى أتى الجمرة فرماها, ثم أتى المنحر(29) فقال: ((هذا المنحر ومنى كلها منحر)). قال واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبي شيخ كبير قد أفند وقد أدركته فريضة الله في الحج فهل يجزي عنه أن أؤدي عنه؟ قال: ((نعم فأدي عن أبيك)). قال وقد لوى عنق الفضل.
فقال له العباس: يا رسول الله, لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: ((رأيت شابًا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما)) .(1/37)
قال: ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله, حلقت قبل أن أنحر؟ قال: ((انحر ولا حرج)), ثم أتاه آخر فقال يا رسول الله, إني أفضيت قبل أن أحلق قال: ((احلق أو قصر ولا حرج)). ثم أتي البيت فطاف به ثم أتي زمزم فقال: ((يا بني عبد المطلب سقايتكم, ولولا أن يغلبكم الناس عليها لنزعت بها)).
في بعض رجال إسناده كلام(30)
و أخرجه أحمد أيضًا (1/156– 157), وعبد الله بن أحمد (في زوائد المسند) (1/72, 76, 81), والترمذي (تحقيق أحمد شاكر حديث 885).
وأخرجه آخرون مختصرًا لم يذكروا فيه قصة الفضل, كأبي داود (1935), وابن ماجة (3010), والبيهقي (4/329), وابن جرير (3827, 3828) وفي الإسناد عنده بعض الاختلاف.
حديث ((لا تنتقب المحرمة))
قال الإمام البخاري -رحمه الله-(فتح 4/52):
حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا الليث حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قام رجل فقال: يا رسول الله ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب في الإحرام؟ فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس, إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين, ولا تلبسوا شيئًا مسه زعفران ولا الورس, ولا تنتقب المرأة المحرمة(31) ولا تلبس القفازين)).
دفع توهم
قال الإمام أحمد -رحمه الله- (1/211):
ثنا حسين بن محمد ثنا جرير عن أيوب عن الحكم بن عتيبة عن ابن عباس عن أخيه الفضل قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جمع إلى منى فبينا هو يسير إذ عرض له أعرابي مردفًا ابنة له جميلة وكان يسايره قال: فكنت أنظر إليها فنظر إليَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقلب وجهي عن وجهها, ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها حتى فعل ذلك ثلاثًا وأنا لا أنتهي فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة.
إسناده منقطع(32)
______________________________(1/38)
(24) لفظة وضيئة تفرد بها البخاري, ولم يذكرها مسلم ولا أبو داود وعند النسائي: (وكانت امرأة حسناء). وقد استدل بهذا الحديث بعض أهل العلم على أن وجه المرأة ليس بعورة ويجوز لها إبداؤه فقال ابن بطال: كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/10 ) .. وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضًا؛ لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء, وأن قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}. على الوجوب في غير الوجه, وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: وفي استدلاله بقصة الخثعمية لما ادعاه نظر؛ لأنها كانت محرمة.
وقال ابن حزم في المحلى(3/218) بعد أن ذكر هذا الحديث:فلو كان الوجه عورة يلزم ستره لما أقرها عليه السلام على كشفه بحضرة الناس, ولأمرها أن تسبل عليه من فوق, ولو كان وجهها مغطى ما عرف ابن عباس أحسناء هي أم شوهاء فصح كل ما قلناه يقينًا. انتهي.
قلت: المرأة كانت محرمة - وسنثبت ذلك قريبًا إن شاء الله- ونتعقب على من قال: إن الرواية تكررت عند المنحر فلا دليل في هذا أصلاً على جواز كشف الوجه.والله أعلم.
(25) وقد ورد ذلك من عدة طرق منها - بالإضافة إلى الحديث المذكور - حديث جابر عند مسلم في حجة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ص (887) وطرق أخرى شتى نذكر منها رواية؛ لما قد يكون فيها من فائدة للمتأمل هذه الطريق هي ما ذكرها الحافظ ابن حجر فتح الباري (4/68) وعزاها إلى أبي يعلى وقال الحافظ: إسنادها قوي من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال:(كنت ردف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها, ويأخذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم برأسي فيلويه فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة).(1/39)
(26) هذا الباب والذي قبله ذكرناهما تمهيدًا لحديث علي -رضي الله عنه- للرد على من قال: إن الرواية تكررت عند المنحر وسيأتي له مزيد شرح وتوضيح في حديث علي الآتي إن شاء الله.
(27) جمع: هي مزدلفة كما هو معلوم.
(28) في بعض الروايات غداة جمع, وفي بعضها غداة يوم النحر ومعناهما واحد, وانظر صحيح مسلم (3/415).
(29) اعلم أن هذا الحديث قد استدل به الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله - لكي يثبت أن سؤال الخثعمية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونظر الفضل إليها كان عند المنحر أي: أن ذلك - كما فهم الشيخ -رحمه الله- كان بعد التحلل أي: أنه كان لزامًا على المرأة -إذا كانت تغطية الوجه واجبة- أن تغطي وجهها فلما لم تغط وجهها أصبح هذا دليلاً - عند الشيخ رحمه الله- على جواز كشف المرأة لوجهها بحضرة الأجانب, وظن الشيخ -رحمه الله- أنه رد بذلك على من ادعى أنها كانت محرمة؛ لأنها كانت عند المنحر أي: بعد التحلل, ولنا على كلام الشيخ -رحمه الله- عدة ملاحظات نذكرها في التعقيب التالي -إن شاء الله- فانظره وها هو وهو أول هذه الملاحظات.
(30) في إسناده -عند كل المشار إليهم- عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعه وهذه أقوال أهل العلم فيه نقلاً من التهذيب والميزان وغيرهما.
قال عنه ابن معين: صالح, وفي رواية أخرى عن ابن معين قال عنه: ليس به بأس وذكره ابن حبان في الثقات, وقال ابن سعد: كان ثقة ووثقه العجلي, وقال أحمد: متروك, وقال النسائي: ليس بالقوي وضعفه علي المديني, وقال أبو حاتم: شيخ, وقال ابن نمير:لا أقدم على ترك حديثه.
فبالنظر في أقوال الموثقين فابن حبان والعجلي معروفان بالتساهل في التوثيق كما لا يخفى على عالم بالحديث, وابن سعد ليس ببعيد منهما في ذلك وإن كان أحسن حالاً.(1/40)
أما ابن معين -رحمه الله- فهو من مشاهير أهل الجرح والتعديل الذين يعتد برأيهم لكن قول ابن معين صالح مع قوله ليس به بأس لا تفيد التوثيق صراحة, انظر التاريخ لابن معين.
أما أحمد بن حنبل والنسائي وابن المديني فكلهم -رحمهم الله- من أهل التثبت في الجرح والتعديل -وإن كان النسائي يؤثر عنه بعض التشدد- وقد رأيت مقالتهم وبالغ أحمد فقال: متروك, أما قول أبي حاتم: شيخ, وقول ابن نمير: لا أقدم على ترك حديثه فكلا القولين يفيد أن الرجل يصلح في الشواهد والمتابعات كما هو معلوم, وإن كنا نحن نجنح إلى أن الرجل حسن الحديث إذا لم يخالف, فإذا خالف فحديثه غير مقبول لدينا وكأن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- رأى هذا الرأي قبلنا فقال في التقريب: صدوق له أوهام.
هذه هي الملاحظة الأولى التي وعدنا قريبًا بذكرها أما.
الملاحظة الثانية: فهي أنه قد تقدم بما لا يدع مجالاً للشك أن الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- كان رديف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مزدلفة إلى منى - كما ذكرنا ذلك في جملة أحاديث صحيحة تقدمت قريبًا- وفي هذا الحديث أن الفضل إنما أردفه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ما جاوز الوادي(وادي محسر كما في رواية الترمذي) فهذا من مخالفات هذا الحديث للروايات الصحيحة.(1/41)
الملاحظة الثالثة: قدمنا قريبًا - أيضًا- أن الخثعيمة سألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غداة جمع (وفي رواية غداة يوم النحر) وجمع هي: مزدلفة كما هو معلوم والمعنى واحد فغداة جمع هي غداة يوم النحر كلاهما يفيد أن السؤال كان في الغداة, وفي اللسان (مادة غدا) الغدوة بالضم: البكرة ما بين صلاة الغداة (أي: صلاة الفجر) وطلوع الشمس, ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إنما وقف في مزدلفة حتى أسفر جدًا ( كما في صحيح مسلم من حديث جابر ص891), ثم اتجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والفضل رديفه إلى منى فلكي يصل صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مزدلفة إلى منى لابد وأن تكون الشمس قد ارتفعت كثيرًا, فيكون وقت الغداة قد انتهى فيتعين أن الخثعمية إنما سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الطريق من مزدلفة إلى منى, وليس عند المنحر. فإن أتي إلينا قائل يقول: إن الرواية تكررت فالخثعمية سألت مرة في الطريق من مزدلفة إلى منى ومرة عند المنحر, قلنا: إن هذا بعيد أن تسأل خثعمية من مزدلفة إلى منى عن شئ وينظر إليها الفضل ويصرف النبي صلى الله علي آله وسلم وجه الفضل ثم تأتي الخثعمية أيضًا تسأل عن نفس الشيء عند المنحر وينظر الفضل إليها ويصرف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجه الفضل فالقول بتكرار الواقعة قول بعيد عن الصواب والله أعلم.(1/42)
الملاحظة الرابعة: قد اختلف على عبد الرحمن بن الحارث ابن عياش في هذا الحديث فرواه عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- كما هنا, ورواه ابن ماجة (2907) من طريق عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري عن نافع ابن جبير عن عبد الله بن عباس أن امرأة من خثعم جاءت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. فذكر الحديث و ليس فيه نظر الفضل إليها ولا ذكر للفضل وإن كانت الرواية الأولى أرجح, والله أعلم.
الملاحظة الخامسة: لا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد تحلل برميه الجمرة الكبرى أن يكون كل المسلمين قد تحللوا فقد كان السائل يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: يا رسول الله: رميت قبل أن أنحر؟ فيقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((انحر ولا حرج)), ويقول آخر: حلقت قبل أن أرمي؟ فيقول: ((ارم ولا حرج)). وما سئل صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: ((افعل ولا حرج)). وقد قال قائل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كما عند البخاري (فتح 3/1735)- رميت بعد ما أمسيت؟ فقال: ((لا حرج)). فعلى فرض أن سؤال الخثعمية كان عند المنحر - وقد بينا خطأ ذلك- لا يلزم من كونها عند المنحر أن تكون قد رمت أو نحرت كما هو واضح, والله اعلم.
الملاحظة السادسة: وهي أننا لو سلمنا جدلاً أن حديث علي صحيح وأن السؤال قد تكرر فليس في حديث علي ذكر أن المرأة كانت وضيئة ولا أنها حسناء كل ما فيه أنها شابة, والشباب يعرف - كما يدرك ذلك أهل الجزيرة وغيرهم- من مشية المرأة ومن لفظها ولو لم يُر منها شئ, نقل الشنقيطي في أضواء البيان (6/601) قول الشاعر:
طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا
قال الشنقيطي -رحمه الله-: فقد بالغ في حسن قوامها مع أن العادة كونه مستورًا بالثياب لا منكشفًا.(1/43)
قلت: فبهذا يسقط الاستدلال بهذا الحديث على جواز كشف وجه المرأة ويثبت لدينا ما قد ثبت من قبل ألا وهو أن الخثعمية كانت محرمة والمحرمة لا يجب عليها تغطية وجهها؛ للدليل الآتي قريبًا, ولحديث الخثعمية نفسه.
(31) قال ابن قدامة في المغني (3/325) في شرحه لمسألة (والمرأة إحرامها في وجهها فإن احتاجت سدلت على وجهها): وجملة ذلك أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه لا نعلم في هذا خلافًا إلا ما رُوي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة, ويحتمل أنها كانت تغطيه بالسدل عند الحاجة فلا يكون اختلافًا.
قلت: سبق أن بينا في كتاب الحج من كتابنا جامع أحكام النساء أن للمرأة أن تسدل على وجهها- في الحج - شيئًا يستره عن الناس, بشيء غير النقاب وقد بينا حديث أسماء المشار إليه في أبواب الأدلة على وجوب الستر ومشروعيته.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في الفتح (4/54) في قوله: لا تنتقب المحرمة: أي لاتستر وجهها, واختلف العلماء في ذلك فمنعه الجمهور وأجازه الحنفية وهو رواية عند الشافعية والمالكية. فعلى هذا فالأصل في المرأة المحرمة: أنها لا تغطي وجهها إلا إذا احتاجب - عند مرور الرجال مثلاً أن تغطيه فتغطية بشيء غير النقاب كأن تسدل عليه شيئًا, وليست تلك التغطية بالسدل واجبة عليها, والله أعلم.(1/44)
أما قول الشيخ ناصر -رحمه الله- في حجاب المرأة المسلمة ص29 الطبعة الثانية – ثم هب أنها كانت محرمة فإن ذلك لا يخدج في استدلال ابن بطال المذكور البتة ذلك؛ لأن المحرمة تشترك مع غير المحرمة في جواز ستر وجهها بالسدل عليه... وإنما يجب عليها أن لا تنتقب فقط فلو أن كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب لا يجوز لأمرها صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن تسدل عليه من فوق - كما قال ابن حزم - لا سيما وهي من أحسن النساء وأجملهن, وقد كاد الفضل ابن عباس أن يفتتن بها ومع هذا كله لم يأمرها صلى الله عليه وعلى آله وسلم بل صرف وجه الفضل عنها ففي هذا أيضًا دليل على أن الستر المذكور لا يجب على المرأة ولو كانت جميلة وإنما يستحب لها ذلك كما يستحب لغيرها. انتهي كلامه رحمه الله.
قلت: وهذا كلام لا فائدة فيه فقد ذكر الشيخ -رحمه الله-: أن المحرمة تشترك مع غير المحرمة في جواز ستر وجهها بالسدل عليه, ثم قال في آخر البحث: ومع هذا لم يأمرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أما عدم الفائدة من هذا الكلام؛ فلأننا لم نختلف مع الشيخ في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يأمرها؛ لأنه عليه السلام لو أمرها لأصبح واجبًا على المحرمة أن تغطي وجهها, ولم ندَّعِ هذا. وليس هو محل بحثنا, إذا أننا قررنا أن المحرمة لا يجوز لها أن تنتقب ويجوز لها أن تسدل على وجهها سدلاً إذا احتاجت إليه, والله أعلم.
(32) وذلك لأنه منقطع بين الحكم وابن عباس فلا تعرف للحكم رواية عن ابن عباس ولا يحفظ له سماع منه.(1/45)
وهذا الحديث - رغم أنه منقطع- فقد أوردناه؛ دفعًا لتوهم قد يقع فيه من يقرأ كتاب الشيخ ناصر -رحمه الله- (حجاب المرأة المسلمة) إذ إن الشيخ -عفا الله عنه- أورد هذا الحديث عقب رواية علي بن أبي طالب التي تفيد أن سؤال الخثعمية كان عند المنحر, واقتصر الشيخ على بيان أن الحديث منقطع, لكن كان ينبغي أن يبين الشيخ أول الحديث وهو أن الفضل كان رديف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جمع إلى منى؛ وذلك حتى لا يظن ظان أن هذا المنقطع يشهد لرواية علي التي عند المنحر.
وهذا الحديث وإن كان إسناده منقطعًا إلا أن لمعناه شواهد تؤكد أن الفضل إنما كان رديف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مزدلفة إلى منى تقدم ذكر بعضها, وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح (4/68) بإسناد قال فيه الحافظ: إنه إسناد قوي وعزاه إلى أبي يعلى من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس عن الفضل بن عباس قال:(كنت ردف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ رجاء أن يتزوجها, وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم برأسي فيلويه فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة).
قلت: ففي هذا الحديث إشارة - وخاصة في قوله: (فكان يلبى حتى رمى جمرة العقبة) -إلى أن القصة- على فرض اتحادها- كانت في الطريق من مزدلفة لمنى.
وفي هذا الحديث شيء آخر وهو: أن عرض الأعرابي ابنته على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان من أجل أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا, وثمة استدلالات أخرى استدل بها الشيخ ناصر -رحمه الله-, نذكرها ضمن ما يأتي:
دليل المبيحين الرابع (قصة الواهبة) وتفنيد الاستدلال به
أخرجه البخاري (فتح 9/181), ومسلم (3/582):(1/46)
من حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت يا رسول الله, جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه...) صحيح(33)
______________________________
(33) وفي الاستدلال بهذا الحديث على جواز كشف الوجه نظر من نواحي:
الأولى: أن مجيئها على هذا الحال كان لإرادة التزويج من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ومن ثم فلها حينئذٍ أن تكشف وجهها ليراها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي جاءت لتهب نفسها له, وقد قال الحافظ ابن حجر (فتح 9/210): وفيه (أي في الحديث) جواز تأمل محاسن المرأة لإرادة تزويجها وإن لم تتقدم الرغبة في تزويجها ولا وقعت خطبتها.
الثانية: أن ذلك محتمل أنه قبل الحجاب.
الثالثة: أن ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, وقد قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (فتح الباري 9/210): ...والذي تحرر عندنا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يحرم عليه النظر إلى النساء الأجنبيات بخلاف غيره.
دليل المبيحين الخامس حديث عائشة -رضي الله عنها- في شهود الصحابيات الفجر
أخرجه البخاري (فتح 2/54), ومسلم (حديث 645):
من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:(كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغَلَس) (34) صحيح
______________________________(1/47)
(34) نذكر هاهنا أقوال أهل العلم في معنى هذا الحديث: قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (2/55) قال الداودي: معناه لا يعرفن أنساء أم رجال أي: لا يظهر للرائي إلا الأشباح خاصة, وقيل: لا يعرف أعيانهن فلا يفرق بين خديجة وزينب, وضعفه النووي بأن المتلفعة في النهار لا تعرف عينها فلا يبقى في الكلام فائدة, وتعقب بأن المعرفة إنما تتعلق بالأعيان فلو كان المراد الأول لعبر بنفي العلم, وما ذكره من أن المتلفعة بالنهار لا تعرف عينها فيه نظر؛ لأن لكل امرأة هيئة غير هيئة الأخرى في الغالب ولو كان بدنها مغطى , وقال الباجي: هذا يدل عل أنهن كن سافرات إذ لو كن منتقبات لمنع تغطية الوجه من معرفتهن لا الغلس قلت (القائل هو الحافظ ابن حجر): وفيه ما فيه؛ لأنه مبني على الاشتباه الذي أشار إليه النووي, وأما إذا قلنا: إن لكل واحدة منهن هيئة غالبًا فلا يلزم ما ذكر. انتهي كلام الحافظ -رحمه الله-. فعمد الشيخ ناصر -رحمه الله- إلى أضعف الأقوال في تفسير: (لا يعرفهن أحد من الغلس) ألا وهو قول الباجي, وقد تعقبه الحافظ كما رأيت, ثم قال الشيخ ناصر -رحمه الله- في حاشية كتابه.. ثم وجدت رواية صريحة في ذلك بلفظ (وما يعرف بعضنا وجوه بعض) رواه أبو يعلى في مسنده (ق 214/2) بسند صحيح عنها. انتهي.
قلت: الرواية المشار إليها عند أبي يعلى في الطبعة التي بين أيدينا (جـ 7/466) فهذا اللفظ - على فرض صحته- ليس فيه دليل على كشف الوجه؛ إذ إن لفظه - كرواية مستقلة (وما يعرف بعضنا وجوه بعض) فهذا ليس فيه دليل على كشف الوجه بل إلى تغطية الوجه أقرب هذا شيء, والشيء الآخر: أننا لا نقول: أنه لا يجوز للمرأة أن تري وجه المرأة ولكن الكلام في حق الرجال, والشيء الثالث: هو أنه ليس في الحديث ما يفيد أن ذلك بعد الحجاب. والله أعلم.
دليل المبيحين السادس حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها
أخرجه مسلم (5/801):(1/48)
من حديث فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- بعد أن تأيمت وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها: ((انتقلي إلى أم شريك)), -وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله ينزل عليها الضيفان- فقلت (أي: فاطمة) سأفعل فقال: ((لا تفعلي إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان فإني أكره أن يسقط عنك خمارك أو ينكشف الثوب عن ساقيك فيرى القوم منك بعض ما تكرهين, ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم (الأعمى)..)). الحديث(35) صحيح
______________________________
(35) قال الشيخ ناصر -رحمه الله-: ووجه دلالة الحديث على أن الوجه ليس بعورة ظاهر؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقر ابنة قيس على أن يراها الرجال وعليها الخمار -وهو غطاء الرأس- فدل هذا على أن الوجه منها ليس بالواجب ستره كما يجب ستر رأسها, ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم خشي عليها أن يسقط الخمار عنها فيظهر منها ما هو محرم بالنص فأمرها عليه السلام بما هو الأحوط لها وهو: الانتقال إلى دار ابن أم مكتوم الأعمى. انتهي.
قلت: بل ليس في الحديث دلالة ظاهرة على جواز كشف الوجه هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن تفسير الخمار: بأنه غطاء الرأس تفسير ضيق بل الخمار أعم من ذلك فأصل التخمير التغطية سواء كانت للرأس أو غيره, ومنه قول عائشة -رضي الله عنها- كما في حديث الإفك في صحيح البخاري (فتح 8/452) وغيره(.. فخمرت وجهي بجلبابي). قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري 8/463): فخمرت أي: غطيت, وقد تقدم بعض بيان لمعني الخمار في الأدلة على المشروعية والوجوب, وقد نقل الشيخ ناصر نفسه في كتاب حجاب المرأة المسلمة بعض ما جاء في ترجمة أبي علي التنوخي أنه أنشد: قل للمليحة في الخمار المذهب أفسدت نسك أخي التقي المذهب
نور الخمار ونور خدك تحته عجبًا لوجهك كيف لم يتلهب
فهذا يفيد أن الخمار قد يغطي الوجه أيضًا.
الدليل السابع للمبيحين وتوجيهه(1/49)
واحتج الشيخ ناصر أيضًا بما أخرجه البخاري(فتح الباري 2/465) وغيره.
من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- (أنه شهد العيد مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى ثم خطب, ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين بأيديهن(36) يقذفنه في ثوب بلال, ثم انطلق هو وبلال إلى بيته).
صحيح
وأخرجه أبو داود (1146), والنسائي (3/186).
______________________________
(36) قال الشيخ -رحمه الله - نقلاً عن ابن حزم في المحلى (3/217)- فهذا ابن عباس بحضرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى أيديهن فصح أن اليد من المرأة والوجه ليسا بعورة, وما عداها ففرض ستره.
قلت: فيما قاله الشيخ ناصر -رحمه الله- نظر إذ أن اللفظ ليس صريحًا في مراده فقوله: رأيتهن يهوين بأيديهن لا يفد صراحة أن اليد كانت مكشوفة هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى أن ابن عباس يقول في أول الحديث عند البخاري:.. ولولا مكاني من الصغر ما شهدته, وذلك لما سئل أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ وحمل بعض أهل العلم هذا القول على أن ابن عباس أراد أنه لولا مكانه من الصغر ما شهد ما وقع من وعظه النساء؛ لأن الصغر يقتضي أن يغتفر له الحضور معهن بخلاف الكبر, فإن قال قائل: فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان حاضرًا؟ قلنا: قد تقدم قريبًا ما حرره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يغتفر له من النظر إلى الأجنبيات مالا يغتفر لغيره. فإن قال قائل: فبلال؟ قلنا إن الحديث ليس فيه ما يساعد على الجزم بأن بلالاً -رضي الله عنه- رأى أيديهن مكشوفة. والله أعلم.
الدليل الثامن: حديث سُبيعة(1/50)
واستدل الشيخ -رحمه الله- أيضًا بحديث سُبيعة بنت الحارث -رضي الله عنهما- ومما ذكره الشيخ فيه: (أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وكان بدريًا فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته, فلقيها أبو السنابل بن بعكك حين تعلت من نفاسها وقد اكتحلت (واختضبت وتهيأت) (37) فقال لها: اربعي على نفسك أو نحو هذا لعلك تريدين النكاح؟ إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك قالت فأتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك فقال: ((قد حللت حين وضعت)).
بيان أن رؤية أبي السنابل لسبيعة كانت أثناء خطبته لها:
قال الإمام البخاري -رحمه الله- (فتح 9/469):
حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته عن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن امرأة من أسلم يقال لها: سبيعة كانت تحت زوجها توفي عنها وهي حُبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك, فأبت أن تنكحه فقال: والله ما يصلح أن تنكحيه حتى تعتدي آخر الأجلين فمكثت قريبًا من عشر ليال ثم جاءت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أنكحي)) (38)
صحيح
وأخرجه مسلم (3/704), وأبو داود (2306), والنسائي (6/194), وهذا السياق الذي سقناه عند البخاري هو عند النسائي أيضًا بلفظ قريب.
______________________________
(37) قال الشيخ -رحمه الله-: والحديث صريح الدلالة على أن الكفين ليسا من العورة في عرف النساء الصحابة وكذا الوجه أو العينين على الأقل.(1/51)
قلت: فيما قاله الشيخ نظر من نواحي أقواها: أن تجمُّل سبيعة -رضي الله عنها- إنما كان للخطاب وأن أبا السنابل تقدم لخطبتها وقال لها هذا الكلام على أثر رفضها له فرؤية أبي السنابل بن بعكك لسبيعة إنما كانت وقت خطبته لها، وها نحن نسوق ما يؤيد ذلك -إن شاء الله- مع أننا ننبه هنا إلى أنه قد وردت لقصة سبيعة طرق كثيرة في بعضها ما ليس في الآخر, بل وفي بعضها ما يخالف ما في الآخر أشار إلى هذه الطرق الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/469) فما بعده.
(38) قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- (فتح 9/475) وفيه (أي في الحديث) جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها.
قلت: وقد ورد في عدة طرق في الصحيحين وغيرهما أن تجملها كان للخطاب, وليس في الصحيحين ذكر الخضاب ولا الكحل ولا بأس أيضًا أن نذكر الرواية التي احتج بها الشيخ ناصر -رحمه الله- ونناقشها.
قال الإمام أحمد -رحمه الله- (6/432):
ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال: أرسل مروان عبد الله بن عتبة إلى سبيعة بنت الحارث يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأخبرته: أنها كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع, وكان بدريًا فوضعت حملها قبل أن ينقضي أربعة أشهر وعشر من وفاته, فلقيها أبو السنابل -يعني ابن بعكك- حين تعلت من نفاسها وقد اكتحلت فقال لها: اربعي على نفسك -أو نحو ذلك- لعلك تريدين النكاح إنها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجك, قالت: فأتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت له ما قال أبو السنابل بن بعكك, فقال لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((قد حللت حين وضعت حملك)).(1/52)
حدثنا إبراهيم بن خالد ثنا رباح عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: إن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة(كذا في المسند, ولعله عبد الله ابن عتبة) كتب إلى عبد الله بن الأرقم يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث يسألها عما أفتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فزعمت: أنها كانت تحت سعد بن خولة فذكر معناه.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: كتبت إلى عبد الله بن الأرقم آمره أن يدخل على سبيعة الأسلمية فيسألها عن شأنها قال: فدخل عليها فذكر الحديث.
هذا أصل الحديث الذي ذكره الشيخ ناصر -رحمه الله- في كتابه والزيادات تأتي في حديث آخر نشير إليه قريبًا.
أما بالنسبة للحديث المتقدم فمن الواضح بالنظر في مجموع طرقه التي أوردناها بالإضافة إلى ما في صحيح البخاري (مع الفتح 7/310), ومسلم (3/704) أن هناك واسطة بين عبد الله بن عتبة وبين سيبعة الأسلمية -رضي الله عنها-, وأن هذه الواسطة في المسند عبد الله بن أرقم, وفي الصحيحين عمر بن عبد الله بن أرقم والذي نرجحه هو ما رجحه الحافظ ابن حجر (في الفتح 9/471) أنه عمر بن عبد الله بن أرقم, وعمر هذا قال فيه الحافظ في التقريب: مقبول ومعنى قول الحافظ: مقبول أنه مقبول إذا توبع وإلا فلين.
ثم أنه ليس في الرواية السابقة ما يفيد كشف الوجه الكحل يُرى من خلال النقاب. أما الرواية التي فيها الخضاب فنذكرها هنا إذ إنها تفيد أيضًا أن أبا السنابل كان إنما رآها لخطبتها.(1/53)
قال الإمام احمد -رحمه الله- (6/432) ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على سيبعة بنت أبي برزة الأسلمية فسألتها عن أمرها فقالت: كنت عند سعد بن خولة فتوفي عني فلم أمكث إلا شهرين حتى وضعت فخطبني أبو السنابل بن بعكك أخو بني عبد الدار, فتهيأت للنكاح قالت: فدخل علي حموي وقد اختضبت وتهيأت فقال: ماذا تريدين يا سبيعة؟ قالت: فقلت أريد أن أتزوج قال: والله ما لك من زوج حتى تعتدين أربعة أشهر وعشرًا, قالت: فجئت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فذكرت ذلك له فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم لي: ((قد حللت فتزوجي)).
فهذا فيه ما يساعدنا على الجزم بما قدمناه ألا وهو أن أبا السنابل بن بعكك إنما رآها أثناء خطبته لها. والله أعلم.
استدلالات أخرى استدل بها الشيخ ناصر وتوجيهها وتفنيدها.
ومما استدل به الشيخ ناصر أيضًا ما عزاه إلى أبي داود والبيهقي (7/86) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تبايعه ولم تكن مختضبة فلم يبايعها حتى اختضبت.
وجدنا حديث عائشة الآتي فنذكره بسنده -إن شاء الله- ونبين ما فيه.
قال أبو داود -رحمه الله- (4165):
حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنني غبطة بنت عمرو المجاشعية قالت: حدثتني عمتي أم الحسن عن جدتها عن عائشة -رضي الله عنها- أن هند بنت عتبة قالت: يا نبي الله بايعني, قال: ((لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع)).(1/54)
فهذا إسناد ضعيف جدًا ففيه غبطة بنت عمرو المجاشعية لم يوثقها معتبر, فالراجح لدينا فيها أنها مجهولة, وقد قال الحافظ ابن حجر فيها أنها مقبولة وعلى تسليمنا لقول الحافظ فإن معني قوله مقبولة, أي: إذا توبعت وإلا فليَّنة كما نص هو على ذلك, وفيه أيضًا أم الحسن مجهولة فالسند ضعيف جدًا إذ هو كما رأيت مسلسل بالمجاهيل. وعقب أبو داود الحديث السابق بالحديث (4166) فقال: حدثنا محمد بن محمد الصوري حدثنا خالد بن عبد الرحمن حدثنا مطيع بن ميمون عن صفية بنت عصمة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أومأت امرأة من وراء ستر بيدها كتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقبض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده فقال: ((ما أدري أيد رجل أم يد امرأة)). قلت: بل امرأة, قال: ((لو كنت امرأة لغيرت أظفارك)). يعني بالحناء.
وهذا إسناد ضعيف ففيه مطيع بن ميمون وهو ضعيف وذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته في الميزان ونقل عن ابن عدي أنه قال فيه: هذا الحديث غير محفوظ. وكذلك في هذا الإسناد صفية بنت عصمة وهي مجهولة فهذا الإسناد ضعيف جدًا.
فبهذا يسقط الاستدلال بهذا والذي قبله.
ويزيد هذا الحديث ضعفًا ما أخرجه البخاري (فتح 13/203) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لا يشركن بالله شيئا}. قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها.(1/55)
واستدل الشيخ -رحمه الله- أيضًا بحديث الحارث بن الحارث الغامدي قال:(قلت لأبي ونحن بمنى) ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء القوم قد اجتمعوا على صابئ لهم قال: (فنزلنا, وفي رواية فتشرفنا) فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به وهم يردون عليه قوله ويؤذونه حتى انتصف النهار وتصدع عنه الناس, وأقبلت امرأة قد بدا نحرها (تبكي) تحمل قدحًا فيه ماء ومنديلاً فتناوله منها وشرب وتوضأ ثم رفع رأسه (إليها) فقال: ((يا بنية: خمري عليك نحرك ولا تخافي على أبيك (غلبة ولا ذلاً) )).
قلت: من هذه؟ قالوا (هذه) زينب بنته).
قلت: هذا الحديث أخرجه الطبراني في موضعين من المعجم الكبير أولهما (3/268) والثاني (22/1052), ومن الواضح أن هذه القصة كانت بمنى وكانت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يؤيد ذلك قوله: قد اجتمعوا على صابئ لهم, وقوله: يدعو الناس إلى توحيد الله -عز وجل-, فمن ثم فهي قبل نزول آية الحجاب فلا دلالة فيها, وما أظن أن الشيخ ناصر -رحمه الله- يخفي عليه مثل هذا.
ثم استدل الشيخ -رحمه الله- في الحاشية وفي آخر استدلالاته ببعض الآثار, ولكنه لم يجعلها عمدة في استدلالاته؛ حيث ذكرها في الحواشي, وهذه الآثار ليست مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فليست أصلاً في الاحتجاج, هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن في بعضها - بل في أغلبها- ذكر امرأة سوداء فهذا يشير إلى أن المرأة من الإماء, وقد قدمنا أن الإماء ليس عليهن ما على الحرائر من وجوب تغطية الوجه. وأيضًا ففي كثير من هذه الآثار لم يتحقق هل المرأة من القواعد من النساء أم لا؟ وليس فيما ذكر عن بعض الجواري هل بلغت إحداهن المحيض أم لا؟ كل هذا لم يتضح في هذه الآثار.(1/56)
وأيضًا فكثير منها يحتاج إلى النظر في إسناده, ولم نرهق أنفسنا في النظر في إسناده إذ أن الشيخ لم يجعلها عمدة من ناحية ومن ناحية أخرى أنها ليست بحجة فليس فيها شئ مرفوع, هذا بالإضافة إلى النواحي المذكورة.
الخاتمة
بهذا ينتهي ما جمعناه في هذه الرسالة رسالة الحجاب, وهناك أبواب وثيقة الصلة بهذا الموضوع محلها –إن شاء الله– كتاب الأدب واللباس من كتابنا جامع أحكام النساء, وفقنا الله لإتمامه, والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد ألا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.
كتبه أبو عبد الله
مصطفي بن العدوى شلباية
مصر – الدقهلية – منية سمنود
الأحد 23 من شعبان سنة 1408هـ(1/57)