الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
التورق
حكمه وتطبيقاته المعاصرة
إعداد
الأستاذ الدكتور نزيه كمال حماد
أستاذ الاقتصاد الإسلامي
التورّق
حكمه وتطبيقاته المعاصرة
المبحث الأول: حقيقة التورّق.
المبحث الثاني: حكم التورّق.
المبحث الثالث: التطبيقات المعاصرة للتورق (التورق المصرفي المنظم).
الخاتمة: خلاصة البحث.
المبحث الأول
حقيقة التورّق
( أ ) التورق لغةً:
1- يقال في اللغة: أورق الرجل؛ أي صار ذا ورِق. واستورق: أي طلب الوَرِق. فهو مُسْتَوْرِق. والوَرِق: الدراهم المضروبة (أي المسكوكة) من الفضة. وقيل: الفضة مضروبة أو غير مضروبة.
وجاء في "معجم مقاييس اللغة": (الورق: المال. من قياس ورق الشجر، لأن الشجرة إذا تحات ورقها انجردت كالرجل الفقير).
وقال الفيروز أبادي: أورق؛ أي كثر ماله ودراهمه. ويقال: التجارة مورقة للمال – كَمَجْلَبَة – أي مُكثَّرة (1) .
وكلمة (التوّرق) على هذا القياس، وهي تعني: سعي المرء بكلفة ومشقة في الحصول على النقد. وذلك لأن صيغة (تَفَعُّل) تدل على دخول المرء في الشيء بعناء وكلفة، وأنه ليس من أهله، كتحلَّم، وتشجَّع، وتشدَّق، وتكلّف، وتصبّر، وتجلّد ... إلخ (2) . وعلى ذلك فإنه لا يقال لغة للتاجر الذي يبيع سلعة بالنقد، ولا للمرء الذي يبيع شيئاً من أعيان ماله نقداً لوفاء دينه أو للتوسّع أو غير ذلك (مُتورَّق) لانتفاء ذلك المعنى في بيعهما.
( ب ) التورق في الاصطلاح الفقهي:
__________
(1) ) ... القاموس المحيط ص 1198، معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 6/101، أساس البلاغة ص 496، المغرب 2/350، المصباح 2/816.
(2) ) ... قال ابن القيم في زاد المعاد 4/138: "لأن لفظ (تفعُّل) يدل على تكلُّف الشيء والدخول فيه بعسر وكلفة، وأنه ليس من أهله، كتحلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرها، وكذلك بنوا (تكلَّف) على هذا الوزن".(1/1)
2- مصطلح (التورُّق) مستعمل على ألسنة فقهاء الحنابلة دون غيرهم من أهل العلم، ومرادُهم به "أن يشتري المرءُ سلعةً نسيئةً، ثم يبيعها نقداً لغير البائع بأقل ممّا اشتراها به، ليحصل بذلك على النقد" (1) .
قال ابن تيمية: "وإن كان المشتري يأخذ السلعة فيبيعها في موضع آخر، فيشتريها بمئة ويبيعها بتسعين لأجل الحاجة إلى الدراهم، فهي مسألة التورق" (2) .
3- وقد أشاروا إلى أن المعنى الاصطلاحي للكلمة مستمدُّ من المعنى اللغوي، نظراً لاشتقاقها من (الوَرِق) الذي يعني في أصل الوضع الدراهم الفضية، فقالوا: "لأن مشتري السلعة يبيع بها" (3) . و"لأن غرضه الورق لا السلعة" (4) و"لأن المقصود منها الورق" (5) . ثم تُوُسَّع في مفهومها حتى شملت تحصيل مطلق النقود بواسطة هذه العملية. وعلى ذلك نصّت م (234) من "مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد"التورق: وهو أنه يشتري الشيء نسيئة بأكثر من قيمته ليبيعه ويتوسع بثمنه" دون تقييد بالدراهم الفضية.
__________
(1) ) ... أنظر: الإنصاف 11/195، المبدع 4/49، معونة أولي النهى 4/67، كشاف القناع 3/175، شرح منتهى الإرادات 2/158، مطالب أولي النهى 3/61.
(2) ) ... مختصر الفتاوى المصرية، لابن تيمية ص 327، وأنظر: إعلام الموقعين 3/182.
(3) ) ... مطالب أولي النهى 3/61، كشاف القناع 3/175.
(4) ) ... مجموعة فتاوى ابن تيمية 29/302.
(5) ) ... مجموعة فتاوى ابن تيمية 29/30، تهذيب مختصر سنن أبي داود، لابن القيم 5/108، المسائل الماردينية لابن تيمية ص 121، بيان الدليل على بطلان التحليل لابن تيمية ص 119، القواعد النورانية الفقهية ص 121.(1/2)
4- ومسالة التورّق هذه معروفة عند الشافعية باسم (الزرنقة) حيث ذكرها الإمام اللغوي والفقيه الشافعي الثبت أبو منصور الأزهري في كتابه (الزاهر) فقال: "وأما الزرنقة: فهو أن يشتري الرجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم يبيعها من غير بائعها بالنقد". ثم قال: "وهي العينة الجائزة" (1) .
أما بقية الفقهاء، فقد عَرَفُوا هذه المسألة، وأشاروا لحكمها الشرعي في معرض كلامهم عن العينة أو بيوع الآجال، ولكن دون إطلاق أية تسمية خاصة عليها.
5- ومن جهة أخرى، فنظراً لوجود نوع شَبَهٍ بين التورق والعينة خَلَطَ بعض أهل العلم بينهما في المفهوم أو اعتبروا التورق (أو الزرنقة) نوعاً من العينة، وربما كان منشأ ذلك استواءهما في الحكم الشرعي في نظرهم. ومن ذلك قول ابن الأثير: "الزرنقة، وهي العينة: وذلك بأن يشتري الشيء بأكثر من ثمنه إلى أجل، ثم يبيعه منه أو من غيره بأقل مما اشتراه. كأنه معرب زرنه، أي ليس الذهب معي" (2) ، وقول ابن القيم: "فإن قيل: فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه (أي إلى البائع)، بل رجعت إلى ثالث، هل تسمون ذلك عينة؟ قيل: هذه مسألة التورق، لأن المقصود منها الوَرِق. وقد نصّ أحمد – في رواية أبي داود – على أنها من العِينة، وأطلق عليها اسمها" (3) ، وقول الفيومي: "فلو باعها المشتري من غير بائعها في المجلس، فهي عينة أيضاً" (4) .
المبحث الثاني
حُكم التورّق
( أ ) عرض آراء المذاهب:
__________
(1) ) ... الزاهر ص 216، قال الفيومي في المصباح 2/527، بعد أن ذكر صورتها: "فهي عينة أيضاً، لكنها جائزة باتفاق".
(2) ) ... النهاية 2/301، وأنظر: المغرب 1/364، القاموس المحيط ص 1149.
(3) ) ... تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم 5/108.
(4) ) ... المصباح المنير 2/527.(1/3)
6- ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة في المذهب إلى جواز التورق. وحُكي عن ابن المبارك أنه قال: "لا بأس بالزرنقة" (1) . ونُقل عن إياس بن معاوية أنه رخص في التورق (2) . وذكر أبو منصور الأزهري أنه جائز عند جميع الفقهاء، ثم قال: "وروي عن عائشة – رضي الله عنها – أنها كانت تأخذ من معاوية عطاءها عشرة آلاف درهم، وتأخذ الزرنقة مع ذلك، وهي العينة الجائزة" (3) .
وخالف في ذلك ابن تيمية، وذهب إلى كراهة التورق (4) . وهي رواية عن أحمد (5) . وحُكي عنه أنه اختار حرمته (6) ، وهي رواية عن أحمد أيضاً. وقد ارتضى ابن القيم مذهب شيخه بحظر التورق، وأنه منهي عنه مذموم (7) . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "التورق أخِيَّةُ الربا" (8) . أي أصله (9) .
... وبيان مذاهب أهل العلم في المسالة فيما يأتي:
أولاً مذهب الحنابلة:
__________
(1) ) ... النهاية لابن الأثير 2/301، المغرب للمطرزي 1/364.
(2) ) ... تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم 5/108، بيان الدليل لابن تيمية ص 119.
(3) ) ... الزاهر للأزهري ص 216.
(4) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/302، 442، 446، مختصر الفتاوى المصرية ص 327، المسائل الماردينية ص 121.
(5) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/30، 442، 446، القواعد النورانية الفقهية ص 121، بيان الدليل ص 119، المسائل الماردينية ص 121، التهذيب لابن القيم 5/108، الإنصاف 11/195، المبدع 4/49، معونة أولي النهى 4/67.
(6) ) ... الاختيارات الفقهية ص 129، الفروع 6/316، المبدع 4/49، الإنصاف 11/195.
(7) ) ... إعلام الموقعين 3/182، 212، التهذيب لابن القيم 5/108، وأنظر: مختصر الفتاوى المصرية ص 327، مجموع فتاوى ابن القيم 29/303، 434.
(8) ) ... إعلام الموقعين 3/182، التهذيب لابن القيم 5/108، بيان الدليل ص 119.
(9) ) ... كما قال ابن تيمية (مجموع فتاوى 29/434، مختصر الفتاوى المصرية ص 327).(1/4)
7- لقد نص الإمام أحمد على جواز التورق، وعلى ذلك أصحابه، وهو القول المعتمد في المذهب. وقد نص على جوازه ابن مفلح في (الفروع) وبرهان الدين ابن مفلح في (المبدع) وابن النجار الفتوحي في (معونة أولي النهي) والبهوتي في (كشاف القناع) و(شرح المنتهى) والرحيباني في (مطالب أولى النهي) وغيرهم (1) .
جاء في (الإنصاف) للمرداوي: "فائدة: لو احتاج إلى نقد، فاشترى ما يساوي مئة بمئة وخمسين، فلا بأس. نص عليه، وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وهي مسألة التورق" (2) .
وبناءً على ذلك نصت م (234) من (مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد): " يصح التورق، هو أن يشتري الشيء نسيئة بأكثر من قيمته ليبيعه ويتوسع بثمنه".
ثانياً: مذهب المالكية:
__________
(1) ) ... معونة أولي النهى 4/67، المبدع 4/49، مطالب أولي النهى 3/61، الفروع 6/316، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي 2/158، كشاف القناع 3/175.
(2) ) ... الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف 11/195.(1/5)
8- لم ينص المالكية صراحة على حكم مسألة التورق، ولم يذكروا صورتها المعروفة على التحديد في مدوناتهم، غير أن نصوصهم المتكاثرة في مسألة (بيوع الآجال) وهي (أن من باع سلعة بثمن مؤجل، فلا يجوز له أن يشتريها من المبتاع بثمن معجل أقل مما باعها به) تُفيد جوازه، حيث إنها قيدت الحظر والتحريم أو شرطت لثبوته أن يكون البائع الأول هو المبتاع، وعللت المنع بأيلولة هاتين البيعتين المتقابلتين وإفضائهما إلى أن يُقرض شخصٌ آخر مبلغاً من المال ليستوفي منه أكثر من ذلك المبلغ عند حلول الأجل، نظراً لرجوع السلعة إلى بائعها الأول، وهذا القيد أو الشرط أو المعنى غير متحقق في مسألة التورق. ويتضح ذلك جلياً في قول صاحب (القوانين الفقهية) بعد أن ذكر مسألة بيوع الآجال: "بيان: يجوز بيع السلعة من غير بائعها مطلقاً" (1) . أي حتى ولو كان البيع بثمن معجل أقل مما اشتراها به نسيئة، طالما أنه لغير البائع الأول. وهي مسألة التورق.
ويؤكد ما بينتُه النصوص الفقهية الآتية:
أ- قال أبو عمران الفاسي الصنهاجي في كتاب (النظائر في الفقه): "فيمن باع سلعة بثمن إلى أجل، ثم ابتاعها من فوره بثمن أقل منه نقداً من المبتاع منه: أن البيع الثاني باطل، لأنه ذريعة إلى الربا، وكأن السلعة لما رجعت إليه كأنها لم تخرج قط من يده، وإذا لم تخرج من يده، كان ذِكرُ البيع فيها ذريعة إلى دفع قليل في كثير من نوعه إلى أجل، وهو الربا". ثم قال: "ونحن نقول في قياس ذلك: لأنه بيع يتذرع به إلى الربا المحظور، فلم يجز، كما لو قصد إليه. ولها شرائط: وهي أن يكون البائع الأول هو المبتاع، وأن يكون البيع الثاني قريباً من الأول، وأن تكون السلعة واحدة، وأن يكون الثمن المدفوع أقل لا أكثر من المتأخر. والعلة هي صورة الربا مع هذه الشرائط فافهم" (2) .
__________
(1) ) ... القوانين الفقهية لابن جزى ص 277.
(2) ) ... النظائر في الفقه ص 28، 29.(1/6)
فمقتضى الشرط الأول أن المبتاع إذا كان غير البائع الأول فلا حظر في ذلك، وهي مسألة التورق.
ب- وجاء في (الشرح الصغير) للدردير: "يُمنع من البيوع ما أدّى لممنوع يكثر قصده للمتبايعين، ولو لم يُقصد بالفعل، كسلف بمنفعة، أي كبيع أدّى إلى ذلك، كبيعه سلعة بعشرة لأجل، ثم يشتريها بخمسة نقداً أو إلى أجل اقل، فقد آل الأمر إلى رجوع السلعة لربها، وقد دفع قليلاً، وعاد إليه كثيراً" (1) . وقال الصاوي في حاشيته عليه: "شروط بيوع الآجال: أن تكون البيعة الأولى لأجل، والمشتري ثانياً هو البائع أولاً أو وكيله، والمباع ثانياً هو المباع أولاً، والبائع الثاني هو المشتري أولاً أو وكيله، والثمن الثاني بصفة الثمن الأول، وتعجيل الثمن الثاني كله أو تأجيل كله" (2) .
ج- وجاء في (المقدّمات الممهّدات) لابن رشد: "ومن الحكم بالذرائع البيوع التي ظاهرها الصحة، ويتوصل بها إلى استباحة الربا، وذلك مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمئة دينار إلى أجل، ثم يبتاعها بخمسين نقداً، فيكونان قد توصلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى سلف خمسين ديناراً في مئة إلى أجل، وذلك حرام لا يحل ولا يجوز" (3) .
فحصّل من ذلك كله جواز التورّق في مذهب المالكية.
ثالثاً: مذهب الشافعية:
__________
(1) ) ... الشرح الصغير 3/117.
(2) ) ... حاشية الصاوي على الشرح الصغير 3/118.
(3) ) ... المقدّمات الممهّدات 2/39.(1/7)
9- ذهب الشافعية إلى جواز التورق (1) ، صرح بذلك أبو منصور الأزهري في كتابه (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي الذي أودعه المزني في مختصره) فقال: "وأما الزرنقة: فهو أن يشتري الرجل سلعة بثمن إلى أجل، ثم يبيعها من غير بائعها بالنقد. وهذا جائز عند جميع الفقهاء" (2) . وهذا يُفيد جواز التورق في مذهب الشافعي، لأن الأزهري مع إمامته في اللغة كان رأساً في الفقه على مذهب الإمام الشافعي كما ذكر مترجموه – ومنهم ابن السبكي الذي قال عنه في كتابه طبقات الشافعية: "كان إماماً في اللغة، بصيراً بالفقه، عارفاً بالمذهب" (3) – ولا بد أن يكون مراده بعبارة (جميع الفقهاء) سائر أهل العلم، أو جميع فقهاء الشافعية، وهو حجة في النقل عنهم والعزو إليهم.
__________
(1) ) ... وكذلك جواز العينة، حيث قال النووي في الروضة 3/416: "ليس من المناهي بيع العينة، وهو أن يبيع غيره شيئاً بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك نقداً. وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقداً، ويشتريه بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد أم لا. هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب". وقد حكى ابن القيم في إعلام الموقعين 3/200، والطحاوي في اختلاف العلماء 3/114 وغيرهم عن الإمام الشافعي إباحة العينة.
(2) ) ... الزاهر ص 216.
(3) ) ... طبقات الشافعية الكبرى 3/64.(1/8)
... يؤكد ذلك ويوضحه قول الإمام الشافعي في (الأم): "فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة فقبضها، وكان الثمن إلى أجل، فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه ومن غيره بنقدٍ أقل أو أكثر مما اشتراها به، أو بدين كذلك، أو عرض من العروض؛ ساوى العرض ما شاء أن يساوي، وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل، ألا ترى أنه كان للمشتري في البيعة الأولى إن كانت أمةٌ أن يُصيبها أو يهبها أو يُعتقها أو يبيعها ممن شاء غير بيعه بأقل أو أكثر مما اشتراها به نسيئة، فإذا كان هكذا، فمن حرمها على الذي اشتراها؟! وكيف يتوهم أحد – وهذا إنما تملكها ملكاً جديداً بثمن لها، لا بالدنانير المتأخرة – أن هذا كان ثمناً للدنانير المتأخرة؟! وكيف إن جاز هذا على الذي باعها لا يجوز على أحد لو اشتراها؟" (1) .
رابعاً: مذهب الحنفية:
10- التورق جائز مشروع في مذهب الحنفية خلافاً للعينة. ويؤكد ذلك:
أ - قول الزيلعي – في معرض كلامه عن العينة وشروط فسادها – "وشرطنا أن يكون الشراء من مشتريه أو من وارثه، لأنه لو باعه المشتري من رجل أو وهبه لرجل أو أوصى لرجل، ثم اشتراه البائع الأول من ذلك الرجل يجوز، لأن اختلاف سبب الملك كاختلاف العين" (2) . وقد نقل خاتمة المحققين في مذهب الحنفية ابن عابدين في حاشيته (رد المحتار) كلام الزيلعي وارتضاه (3) .
__________
(1) ) ... الأم 3/69، ومبنى قول الشافعي هو ما قرره في موطن آخر من كتاب الأم 3/65 ونصه: "قال الشافعي: أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحاً في الظاهر، لم أبطله بتهمة ولا عادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر، وأكره لهما النية إذا كانت لو أظهرت، كانت تفسد البيع". ويلاحظ أن هذه الكراهة إذا كانت تتناول مسألة العينة عنده، فإنها لا تشمل التورق، نظراً لصحة ومشروعية قصد المشتري فيه.
(2) ) ... تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/55.
(3) ) ... رد المحتار 4/114.(1/9)
ب - وجاء في (شرح العناية على الهداية) في نفس المعرض: "... بخلاف ما إذا باعه من غيره، لأن الربح لا يحصل للبائع، وبخلاف ما إذا اشتراه البائع بواسطة مشترٍ آخر، لأنه لم يعد إليه المستفاد من جهته، لأن اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان" (1) .
ج - وقال الكاساني: "إذا باع رجل شيئاً نقداً أو نسيئة، وقبضه المشتري، ولم ينقد ثمنه، لا يجوز لبائعه أن يشتريه من مشتريه بأقل من ثمنه الذي باعه منه عندنا ... ولو خرج المبيع من ملك المشتري، فاشتراه البائع من المالك الثاني بأقل مما باعه قبل نقد الثمن جاز، لأن اختلاف سبب الملك بمنزلة اختلاف العين، فيمنع تحقق الربا" (2) .
وعلى ذلك: فنصوص الحنفية في مدوناتهم المعتمدة صريحة في جواز التورق، لأن الربح فيه لا يحصل للبائع الأول، فقد نصوا على صورته وأجازوه وإن لم يسموه تورقاً، وهو المقصود. بل إنها صريحة أيضاً في أن من باع سلعة بثمن مؤجل، فباعها المشتري من شخص ثالث، ثم اشتراها البائع الأول من الشخص الثالث بثمن معجل أقل مما باعها به قبل نقد الثمن من المشتري الأول، فذلك جائز شرعاً، لانتفاء الذريعة إلى الربا في ذلك. ولا يخفى أن جواز هذه الصورة مبني على جواز التورق في مذهبهم.
خامساً: مذهب المانعين:
11- لقد ذهب ابن تيمية في مصنفاته إلى ترجيح الرواية الثانية عند أحمد بكراهة التورق (3) ، وحُكي عنه اختيار الرواية الثالثة عن أحمد بحرمة التورق (4) .
__________
(1) ) ... شرح العناية للبابرتي 6/69.
(2) ) ... بدائع الصنائع 5/199.
(3) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/30، 302، 442، 446، المسائل الماردينية ص 121، مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية ص 327.
(4) ) ... الاختيارات الفقهية للبعلي ص 129، الفروع لابن مفلح 6/316، الإنصاف للمرداوي 11/195، المبدع 4/49.(1/10)
وارتضى ابن القيم ترجيح شيخه ابن تيمية حظر التورق (1) ، ونبه إلى أنه مع ذلك أخف من العينة، فقال: "وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها، فهي العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما، فهو مُحلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها التورق. وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال: هو أخية الربا ... وكان شيخنا يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مراراً وأنا حاضر، فلم يرخص فيها" (2) .
( ب ) عرض أدلة المجيزين:
الدليل الأول:
12- عموم النصوص القرآنية الدالة على جواز التورق مثل قوله تعالى: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ } ] البقرة: 275[، وقوله تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } ]الأنعام: 119[، وقوله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } ]النساء: 29[، قال الكاساني: "فظاهر هذه النصوص يقتضي جواز كل بيع إلا ما خُص بدليل" (3) .
__________
(1) ) ... إعلام الموقعين 3/182، 212، تهذيب مختصر سنن أبي داود 5/108.
(2) ) ... إعلام الموقعين 3/182.
(3) ) ... بدائع الصنائع 5/189.(1/11)
وهي واضحة الدلالة على أن كل ما لم يبين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تحريمه من العقود فلا يجوز تحريمها، فإن الله سبحانه قد فصل لنا ما حرم علينا، فما كان منها حراماً، فلا بد أن يكون تحريمه مفصلاً، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه (1) . وقد جاء في (الموافقات) للشاطبي: "القاعدة المستمرة التفرقة بين العبادات والمعاملات، لأن الأصل في العبادات التعبد، دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يُقدم عليها إلا بإذن، إذ لا مجال للعقول في اختراع العبادات، وما كان من المعاملات يُكتفى فيه بعدم المنافاة، لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه" (2) .
وعلى ذلك، فلما كانت العقود من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، فيُستصحب فيها الحل حتى يدل دليل على الحظر، وليس في الأدلة الشرعية ما يمنع من جواز التورق، فانتفاء دليل الحظر دليل على عدم الحظر، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم منع التورق شرعاً، فيكون فعله إما حلالاً وإما عفواً، كالأعيان التي لم تُحرّم.
الدليل الثاني:
__________
(1) ) ... أنظر: إعلام الموقعين 1/383.
(2) ) ... الموافقات 1/284.(1/12)
محرم ربيع أول ذو القعدة ? قياس الأمور بأشباهها ونظائرها، كما جاء في خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنهما – في أصول الإفتاء والقضاء: "ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى فاتبعه" (1) . وقد علق الإمام نجم الدين النسفي على ذلك فقال: "إذا وقعت واقعة لا تعرف جوابها، فردها إلى أشباهها من الحوادث، تعرف جوابها" (2) ، وكما جاء في قول المزني: "إن الفقهاء من عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا أجمعوا على أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل" (3) . وعلى ذلك، فإن من المؤكد:
__________
(1) ) ... أنظر: المدخل الفقهي العام للزرقا 1/68.
(2) ) ... طلبة الطلبة للنسفي ص 130.
(3) ) ... أنظر: المدخل الفقهي للزرقا 1/75.(1/13)
( أ ) أن التورق شبيه ونظير لمبايعات التجار المشروعة بالإجماع، فالتاجر يشتري بالنقد ويبيع بالنقد، ويشتري بالنقد ويبيع بالنسيئة، ويشتري بالنسيئة ويبيع بالنقد. وفي هذه الحالة قد يبيع التاجر السلعة التي اشتراها بزيادة على ما اشترى به، وقد يبيعها بغير ربح خوف كسادها، أو ليحصل على النقد، فيتجر به ويُخلفها بغيرها، وقد يبيعها بأقل مما اشترى به ليتورق ويحصل على النقد، فيعيد الاتجار به، أو يفي به ديونه والتزاماته المالية الحالّة، أو ينفقه على نفسه وعياله .. وفي ذلك كله مصلحة معتبرة شرعاً له. ولا فرق في النظر الشرعي في هذه الصورة بين أن يكون قصده من الشراء أولاً مصلحة التورق أو مصلحة الاسترباح أو مصلحة الانتفاع بالمبيع، فكل ذلك قصد مشروع، لعدم وجود دليل شرعي معارض قطعاً. وفي ذلك يقول الشيخ ابن سعدي – معللاً جواز مسألة التورق – :"لأن المشتري لم يبعها من البائع عليه، وعموم النصوص تدل على جوازها، وكذلك المعنى، لأنه لا فرق بين أن يشتريها ليستعملها في أكل أو شرب أو استعمال أو يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيه تحيّل على الربا بوجه من الوجوه، مع دعاء الحاجة إليها، وما دعت إليه الحاجة، وليس فيه محذور شرعي، لم يُحرمه الشارع على العباد" (1) .
__________
(1) ) ... الإرشاد إلى معرفة الأحكام لابن سعدي ص 107، 108.(1/14)
( ب ) وأن التورق شبيه بالمخرج الشرعي الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب التمر الرديء الذي يريد الحصول على تمر جيد بدله (بعدما حظر الشرع عليه أن يبيع صاعين من تمره مثلاً بصاع من الجيد يساويه في القيمة باعتباره من ربا الفضل) وهو أن يبيع الصاعين من الرديء مثلاً بدرهم، ثم يشتري بالدرهم صاعاً من الجيّد، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: "بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً" (1) . فقد علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبتعد عن الصيغة المحرمة وأن يستبدلها بعقدين صحيحين مستقلين، لا صلة بينهما، يُحقق تواليهما غرض صاحب التمر الرديء بالحصول على بدله من التمر الجيّد مع التفاضل في القدر، دون أن يؤثر ذلك القصد في مشروعية وصحة العقدين المشار إليهما، لأنه قصد سائغ شرعاً، وإن كان التوسل إليه ببيعةٍ واحدةٍ محرماً.
__________
(1) ) ... روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له: "أكلُّ تمر خيبر هكذا؟" قال: لا والله، إنَّ لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة. فقال له: "لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً". والجنيب: نوعٌ جيد متجانس من التمر لا تخالطه أنواع رديئة أخرى. (صحيح البخاري 3/97، صحيح مسلم 3/1208، عارضة الأحوذي 5/249، سنن النسائي 7/244، الموطأ 2/632). قال ابن القيم (إعلام الموقعين 3/238): "وظاهر الحديث أنه أمر بعقدين لا يرتبط أحدهما بالآخر".(1/15)
وكذلك الأمر في التورق، فإذا كان من المحظور شرعاً الحصول على النقد بقرض ربوي أو ببيع العينة الذي هو حيلة ربوية، فإن من السائغ في النظر الفقهي الحصول عليه بطريق التورق، لأن قصد الحصول على النقد للتوسع فيه، أو لوفاء دين حال، أو لأية حاجة أخرى أمر جائز كأصل شرعي، إذا تم ذلك أثراً لعقد معاوضة جائز، كعقد السلم، أو نتيجة لعقدين مستقلين مع طرفين مختلفين، كل واحد منهما جائز صحيح بمفرده كمسألة التورق، حيث إن الإقراض الربوي صراحة أو حيلة – كما هو في العينة – منتفٍ فيها. وقد بين العلامة محمد الطاهر ابن عاشور هذه القضية بقوله: "اسم التحيل يُفيد معنى إبراز عمل ممنوع شرعاً في صورة عمل جائز، أو إبراز عمل غير معتد به شرعاً في صورة عمل معتد به، بقصد التفصّي من مؤاخذته، فالتحيل شرعاً ما كان المنع فيه شرعياً، والمانع الشارع. فأما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته، أو بإيجاد وسائله، فليس تحيلاً، ولكنه يُسمى تدبيراً أو حرصاً أو ورعاً" (1) .
الدليل الثالث:
محرم ربيع ثان ذو القعدة ? عدم صحة قياس التورق على العينة، وذلك لانتفاء علة تحريم العينة – وهي كونها ذريعة إلى القرض الربوي – فيه، إذ في العينة عندما يسترجع البائع سلعته، تكون كأنها لم تخرج من يده قط، ويكون وجودها في البيع كعدمها، ويكون توسطها عبثاً، ويؤول الأمر إلى دفع مبلغ من المال لآخر في أكثر منه من نوعه إلى أجل، وهو ربا النسيئة. أما في التورق، فإنه لا يحصل للبائع شيء، لأن السلعة لا تعود إليه أصلاً، بل تنتقل بعقد مستقل إلى مشترٍ جديد، لا علاقة لشرائه بالبيع الأول. وعلى ذلك يكون قياس البائع في مسألة التورق على المُقرض بالربا حيلة في العينة قياساً مع الفارق، ولا وجه لصحته.
__________
(1) ) ... مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 110.(1/16)
أما تحمل المتورق بعض الخسارة في عملية التورق، نظراً لكون الثمن الذي يشتري به السلعة نسيئة أكثر من الثمن الذي يبيعها به نقداً لطرف ثالث، فذلك مأذون به شرعاً، إذ نص جماهير الفقهاء على أن الأجل يأخذ قسطاً من الثمن في بيه النسيئة (1) ، "إذ لا يُسلَّم الحاضر في الغائب – أي المؤجل – إلا ابتغاء ما هو أعلى من الحاضر في القيمة، وهو الزيادة" كما ذكر الشاطبي (2) . وقال الشوكاني: "بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء هو الجواز" (3) . وأساس ذلك – كما قال الكاساني – : أنه "لا مساواة بين النقد والنسيئة، لأن العين خير من الدين، والمعجّل أكثر قيمة من المؤجل" (4) .
( ج ) عرض أدلة المانعين:
الدليل الأول:
محرم جمادى أول ذو القعدة ? إن شراء المتورق السلعة بالنسيئة عملٌ غير مشروع أصلاً، لأن قصده من الشراء بيعها من أجل الحصول على دراهم معجلة بدراهم أكثر منها إلى أجل، وذلك محظور شرعاً، لأنه في معنى الاقتراض بالربا، إذ الأصل الشرعي أن شراء الأعيان بالنسيئة إنما يجوز شرعاً إذا كان قصد المشتري الاتجار بها أو الانتفاع بها، لا بيعها نقداً من أجل الحصول على نقدٍ معجلٍ أقل مما اشترى به، فذلك أصل الربا (5) .
جاء في (مجموع فتاوى ابن تيمية): "والأصل في هذا الباب أن الشراء على ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يشتري السلعة من يقصد الانتفاع بها، كالأكل والشرب واللباس والركوب والسكنى ونحو ذلك، فهذا هو البيع الذي أحلّه الله.
__________
(1) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/499، المغني لابن قدامة 6/432، الزرقاني على خليل 5/176.
(2) ) ... الموافقات 4/42.
(3) ) ... رسائل الشوكاني المطبوعة باسم (أمناء الشريعة) ص 228، وأنظر: نيل الأوطار5/152 وما بعدها.
(4) ) ... بدائع الصنائع 6/187.
(5) ) ... أنظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 29/30، 302، 446، المسائل الماردينية ص 121.(1/17)
والثاني: أن يشتريها من يقصد أن يتجر بها، إما في ذلك البلد، وإما في غيره. فهذه هي التجارة التي أباحها الله.
والثالث: أن لا يكون مقصوده لا هذا ولا هذا، بل مقصوده دراهم لحاجته إليها، وقد تعذر عليه أن يستسلف قرضاً أو سلماً، فيشتري سلعة ليبيعها ويأخذ ثمنها، فهذا هو التورق، وهو مكروه في أظهر قولي العلماء – وهذا إحدى الروايتين عن أحمد – كما قال عمر بن عبد العزيز: "التورق أَخيّة الربا" (1) .
وجاء فيه أيضاً: "وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان قصد المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها، جاز إذا كان على الوجه المباح. وأما إن كان مقصوده الدراهم، فيشتري بمئة مؤجلة، ويبيعها في السوق بسبعين حالّة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء" (2) .
وجاء في (مختصر الفتاوى المصرية) لابن تيمية: "وإن كان المشتري يأخذ السلعة، فيبيعها في موضع آخر، فيشتريها بمئة ويبيعها بتسعين لأجل الحاجة إلى الدراهم، فهي مسألة التورق، وفيه نزاع، والأقوى أنه منهي عنه، وأنه أصل الربا" (3) .
وقال ابن القيم: "وكان شيخنا يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مراراً، وأنا حاضرٌ، فلم يُرخَّص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حُرَّم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرّم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه" (4) .
__________
(1) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/442.
(2) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/303.
(3) ) ... مختصر الفتاوى المصرية ص 327.
(4) ) ... إعلام الموقعين 3/182.(1/18)
وقال ابن تيمية: "التورق قد تنازع فيه السلف والعلماء، والأقوى أنه منهي عنه، كما قال عمر بن عبد العزيز ما معناه: "إن التورق أصل الربا. فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصورة، وإنما الأعمال بالنيّات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (1) .
وقال ابن القيم: "... فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإن باعها من غيره فهي التورق، ومقصوده في الموضعين الثمن، فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمنٍ حالّ أنقص منه، ولا معنى للربا إلا هذا" (2) .
الدليل الثاني:
__________
(1) ) ... مجموعة فتاوى ابن تيمية 29/434.
(2) ) ... تهذيب مختصر سنن أبي داود 5/108.(1/19)
محرم جمادى ثان ذو القعدة ? أن التورق من بيع المضطر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه (1) . قال ابن القيم: "وعن أحمد في مسألة التورق روايتان منصوصتان، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر، وقد روى أبو داود عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المضطر (2) . وفي المسند عن علي قال: سيأتي على الناس زمان عضُوض، يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك. قال تعالى: { وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } ] البقرة: 237[، ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر. وذكر الحديث (3) . فأحمد – رحمه الله – أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد، لأن الموسر يعضُّ عليه بالقرض، فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة، ثم يبيعها. فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإن باعها من غيره فهي التورق، ومقصوده في الموضعين الثمن" (4) .
الدليل الثالث:
محرم رجب ذو القعدة ? أن البائع في التورق يقول للمشتري: هذه السلعة بكذا نقداً، ثم يبيعُه إياها بأكثر من ذلك نسيئة، وذلك منهي عنه شرعاً، لقول ابن عباس: "إذا استقمت بنقد، ثم بعت بنقد، فلا بأس. وإذا استقمت بنقد، ثم بعت بنسيئة، فتلك دراهم بدراهم" (5) .
قال ابن تيمية: "فبيَّن أنه إذا قوّم السلعة بدراهم،ثم باعها إلى أجل، فيكون مقصوده دراهم بدراهم، والأعمال بالنيّات، وهذه المسألة تُسمى التورق" (6) .
__________
(1) ) ... رواه أبو داود وأحمد والبيهقي، وسنده ضعيف كما قال النووي في المجموع 9/161 وغيره. (مختصر سنن أبي داود 5/47، السنن الكبرى، للبيهقي 6/17، مسند أحمد 1/116.
(2) ) ... مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/47.
(3) ) ... مسند أحمد 1/116.
(4) ) ... تهذيب مختصر سنن أبي داود 5/108، وأنظر: بيان الدليل ص 119.
(5) ) ... المصنف لعبد الرزاق 8/236.
(6) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/446.(1/20)
وقال أيضاً: "ومعنى كلامه (إذا استقمت) إذا قومت. يعني: إذا قومت السلعة بنقد، وبعتها إلى أجل، فإنما مقصودك دراهم بدراهم، هكذا التورق. يقوم السلعة في الحال، ثم يشتريها إلى أجل بأكثر من ذلك" (1) .
وقال أيضاً: "وكذلك قال محمد بن سيرين: إذا أراد أن يبتاعه بنقد، فليساومه بنقد، وإن كان يريد أن يبتاعه بنساء، فليساومه بنساء، كرهوا أن يساومه بنقد، ثم يبيعه بنساء، لئلا يكون المقصود بيع الدراهم بالدراهم" (2) .
الدليل الرابع:
محرم شعبان ذو القعدة ? سدّ الذريعة إلى الربا قياساً على العينة. وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم: "وأما الحنابلة، فبيننا وبينهم معترك النزال في هذه المسائل ..... وقالوا: بجواز التورق، وهي شقيقة مسألة العينة، فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره؟ بل قد يكون عودُها إلى البائع أرفق بالمشتري واقل كلفة عليه، وأوضع لخسارته وتعنيه. فكيف يحرمون الضرر اليسير، ويُبيحون ما هو أعظم منه، والحقيقة في الموضعين واحدةٌ، وهي عشرة بخمس عشرة، وبينهما حريرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها، وفي الثانية إلى غيره" (3) .
( د ) مناقشة الأدلة والترجيح:
لقد ظهر لي بعد النظر والتأمل فيما ساقه الفقهاء المبيحون والمانعون من أدلة وحجج وتعليلات وتفسيرات وتأويلات الأمور الآتية:
الأمر الأول:
محرم رمضان ذو القعدة ? لقد احتج المانعون بأن المتورق إنما اشترى السلعة بالنسيئة لغرض بيعها بثمن أقل مما اشترى به نقداً والانتفاع بثمنها، والأصل الشرعي حرمة الشراء بهذا القصد، إذ لا فرق بينه وبين المقترض بالربا من حيث النتيجة والمآل، ولأن الشراء الجائز هو الذي يكون لغرض القنية أو الانتفاع بالمبيع أو الاتجار به لا غيره.
وهذه الحجة غير مسلمة من وجهين:
__________
(1) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/442.
(2) ) ... بيان الدليل على بطلان التحليل ص 120.
(3) ) ... إعلام الموقعين 3/212.(1/21)
أحدهما: أنه لا يوجد أصل شرعي على هذا النحو، وهذا المدّعى هو مجرد رأي لا يعضده دليل شرعي أو برهان صحيح، بل الأصل عدم التفريق في الحُكم بين من قصده من الشراء القنية أو الانتفاع بالمبيع أو الاتجار به وبين من قصده بيعه والانتفاع بثمنه، إذ كل من هذه القصود جائز مشروع، "لأن الرجل يشتري السلعة، ويكون غرضه إما عين السلعة وإما عوضها، وكلاهما غرض صحيح" كما ذكر ابن عثيمين في كتابه (المداينة) (1) .
والثاني: أن قياس المتورق على المقترض بالربا بعلة التزام كل منهما في ذمته بزيادة على ما حصل عليه من نقدٍ معجلٍ قياس مع الفارق، لأن هذه العلة غير مؤثرة، لمناقضتها لأصل تشريعي مفاده أن حصول المحتاج وغيره على النقد المعجّل مقابل بدلٍ مؤجل أكثر منه إنما هو محظور شرعاً في مسألة القرض الربوي والعينة التي هي حيلة إليه فقط. أما الحصول عليه عن طريق عقود مشروعة أخرى أو مخارج شرعية (2) ليست من هذا القبيل فهو جائز مرخص فيه، والأصل الشرعي إباحته لانتفاع أي دليل حاضر، واعتباراً للأشباه والنظائر الآتية:
__________
(1) ) ... المداينة ص 7.
(2) ) ... إذ المخارج الشرعية: هي ما كان مخرجاً من الضيق والحرج، متخذاً للتخلص من المأثم، يتوصل به على فعل الحلال أو ترك الحرام أو تخليص الحق أو دفع الباطل. بخلاف الحيل المحظورة، التي عرفها ابن قدامة بقوله: "هي أن يظهر المرء عقداً مباحاً، يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً على فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك". أنظر: المغني 6/116، إغاثة اللهفان 1/339، إعلام الموقعين 3/252، الموافقات 2/387، 4/210.(1/22)
( أ ) مشروعية عقد السلم، الذي سماه الفقهاء (بيع المفاليس) و(بيع المحاويج)، حيث يحصل فيه المحتاج ونحوه على نقدٍ معجلٍ مقابل سلعة موصوفة من ذمته مؤجلة تساوي قيمتها السوقية أكثر مما أخذ (1) ، وذلك في معنى التورق من حيث النتيجة والمآل. قال الكاساني: "السلم مبناه على الغبن ووكس الثمن، لأنه بيع المفاليس" (2) . وقال السرخسي: "عقد السلم من عقود المفاليس، فإنه يكون بدون ثمن المثل، ولو كان موجوداً في ملكه لكان يبيعه بأوفى الأثمان، ولا يقبل السلم فيه بدون القيمة" (3) . وقال ابن القيم: "فهذا يقع في السلم المؤجل، وهو الذي يُسمى بيع المفاليس، فإنه يكون محتاجاً إلى الثمن، وهو مفلسٌ، وليس عنده في الحال ما يبيعه، ولكن له ما ينتظره من مُغل أو غيره، فيبيعه في الذمة، فهذا يُفعل مع الحاجة، ولا يُفعل بدونها، إلا أن يقصد أن يتجر بالثمن في الحال، أو يرى أنه يحصل به من الربح أكثر مما يفوّت بالسلم، فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً، والمُسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند حلول الأجل تباع بمثل رأس مال السلم، لم يُسلم فيها، فيذهب نفع ماله بلا فائدة، وإذا قصد الأجر أقرضه ذلك قرضاً، ولا يجعل ذلك سلماً إلا إذا ظن أنه في الحال أرخص منه وقت حلول الأجل" (4) .
( ب ) ... مشروعية القرض الحسن الذي يتم عبر ذي جاه يقترض للمحتاج النقود بناءً على طلبه من ثالث مقابل جُعل له على ذلك في قول الشافعية والحنابلة. إذ في هذه المسألة يلتزم المقترض بأكثر من المبلغ الذي اقترضه، ولكن الزيادة لا تكون للمقترض، بل جعالة لمن أعانه على الحصول عليه. ولا حرج شرعاً في ذلك.
__________
(1) ) ... أنظر: الإشراف على مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب البغدادي 2/567.
(2) ) ... بدائع الصنائع 5/201.
(3) ) ... المبسوط 12/126.
(4) ) ... زاد المعاد 5/815.(1/23)
... جاء في (المبدع) لبرهان الدين ابن مفلح: "إذا قال: اقترض لي مئة، ولك عشرة، صح، لأنه في مقابلة ما بذل من جاهه" (1) . وجاء في (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج): "ولو قال: اقترض لي مئة، ولك عشرة، أي في مقابلة الاقتراض، فهو جعالة. ذكره الماوردي والروياني. أهـ. أي ويقع الملك في المقترض للقائل، فعليه رد بدله" (2) . وقال الماوردي في (الحاوي): "فصل: وإذا قال الرجل لغيره: اقترض لي مئة درهم، ولك عليّ عشرة دراهم، فقد كره ذلك إسحاق، وأجازه أحمد، وهو عندنا يُجرى مجرى الجعالة، ولا بأس به, فلو أن المأمور أقرضه مئة درهم من ماله، لم يستحق العشرة الأجرة، لأنها بُذلت له على قرضٍ من غيره" (3) .
الأمر الثاني:
صفر شوال ذو القعدة ? أن احتجاج المانعين – بأن المعنى الذي لأجله حُرم الربا موجود في مسألة التورق، مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى، وتبيح ما هو أعلى منه (4) – غير مُسلم من وجهين:
__________
(1) ) ... المبدع 4/213.
(2) ) ... حاشية الشرواني 2/381.
(3) ) ... الحاوي الكبير 6/440، وأنظر: حاشية القليوبي 2/258.
(4) ) ... إعلام الموقعين 3/182.(1/24)
أحدهما: أن المعنى الذي لأجله حُرم الربا هو ظلم المُقرض للمقترض (1) بأخذ زيادة مشروطة على ما دفع إليه في عقد قرض أو حيلة ربوية إليه (كما في مسألة العينة التي يُتواطأ فيها في إقراض دراهم بدراهم متفاضلة وبينهما حريرة) وليس مجرد تحمل المحتاج خسارة مالية مقابل حصوله على نقد معجل في عقد معاوضة مالية محضة كالسلم، أو في مقابلة الحصول على سلعة معجلة في بيع النسيئة، فذلك جائز مشروع بإجماع الفقهاء. إذ إن من المقرر شرعاً جواز كون النقد المعجل (رأس المال) في عقد السلم أقل من القيمة الحاضرة للمبيع المؤجل فيه، بحيث يُزاد في المسلم فيه مقابل تأجيله (2) ، وكذلك يأخذ الأجل قسطاً من الثمن في بيع النسيئة (3) .
__________
(1) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/24، القواعد الفقهية لابن تيمية ص 117.
(2) ) ... قال ابن رشد: "إن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق، لأن المسلم يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة". (بداية المجتهد 2/203). وقال ابن القيم: "فإن المستسلف يبيع السلعة في الحال بدون ما تساوي نقداً، والمُسلف يرى أن يشتريها إلى أجل بأرخص مما يكون عند حصولها، وإلا فلو علم أنها عند حلول الأجل تباع بمثل رأس مال السلم، لم يُسلم فيها، فيذهب نفع ماله بلا فائدة" (زاد المعاد5/815).
(3) ) ... كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى 29/499، وحكى ابن قدامة وجه لزوم الأجل عند التراضي على تأخير ثمن المبيع والأجرة والصداق وعوض الخُلع: "بأن الأجل فيها يأخذ جزءاً من العوض". (المغني 6/432).
... = وأساس ذلك: أن للأجل قيمة مالية معتبرة عرفاً وشرعاً إذا كان في عقود المعاوضات المالية المحضة، لأنها تجارة أذن الشارع فيها، وحث عليها، واعتبرها سبباً مشروعاً للاكتساب والاسترباح وطلب الفضل، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ } ] النساء: 29[ وذلك على خلاف الأجل في القرض، فإنه لا يجوز أخذ العوض عنه، إذ هو من ربا النسيئة، لأن القرض في النظر الشرعي عقد إرفاق وإحسان، قوامه تبرع المُقرض بمنافع ماله للمقترض مدة القرض في الدنيا على أن يستوفي قيمتها من الله تعالى يوم القيامة، ولا يصح شرعاً جعل القرض سبيلاً للاكتساب والاسترباح والمتاجرة بالديون في الدنيا بأخذ البدل عن الأجل فيه.(1/25)
ولا يخفى أن بائع السلعة نسيئة للمتروق ليس بآخذ زيادة على رأس المال في قرض ربوي أو حيلة إليه، وليس بظالم له كالمرابي، وإنما هو بائع سلعته منه بثمن مؤجل عادل زائدٍ على الحال، وذلك جائز شرعاً، حتى ولو كان المشتري مضطراً إليها. قال ابن تيمية: "فإن كان المشتري مضطراً، لم يجز أن يباع إلا بقيمة المثل، مثل أن يضطر الإنسان إلى شراء طعام لا يجده إلا عند شخصن فعليه أن يبيعه إياه بقيمة المثل ... وإن باعه إياه إلى أجل باعه بالقيمة إلى ذلك الأجل، ويأخذ قسطاً من الثمن" (1) . ثم إنه لا صلة بين ذلك البيع وبين عقد البيع المستقل الذي ينشؤه المشترى مع شخص ثالث بنقدٍ أقل مما اشترى به من البائع الأول. وذلك أساس التفرقة بين الربا والتورق.
والثاني: إن زيادة الكلفة في التورق (بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها) على الاقتراض بفائدة، إن وقعت، لا تصلح دليلاً على حظر التورق نظراً لأن الشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه.. فذلك كلام لا معنى له في هذا المقام، لأن القرض الربوي محرم نصاً، والتورق جائز شرعاً لعموم الأدلة المبيحة له مع انتفاء الحاظر.
__________
(1) ) ... مختصر الفتاوى المصرية ص 326.(1/26)
يوضح ذلك ويؤكده أنه لا يوجد أحد من أهل العلم يقول بحظر بيع التمر الرديء بالدراهم، ثم ابتياع مقدار أقل من التمر الجيد بتلك الدراهم، إذا كان مقدار ما يحصل عليه صاحب التمر الرديء من التمر الجيد نتيجة ذلك أدنى مما يحصل عليه من الجيد فيما لو باع التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل من آخر، بحجة أن الشريعة لا تحرّم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه! ولا أحد من أهل العلم أيضاً يقول بتحريم شراء المحتاج للسلعة بثمن عادل نسيئة إذا كان اقتراض ثمنها بالفائدة، ثم شراؤها به نقداً يجعلها أرخص عليه من الشراء بالنسيئة، بحجة أن الشريعة لا تحرّم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه! ولا أحد من أهل العلم يقول بحظر بيع السلم إذا أدى استرخاص رب السلم للمبيع المؤجل إلى زيادة كلفة حصول المُسلم إليه على النقد (رأس مال السلم) عمّا إذا اقترض مقدار رأس المال بالربا، بحجة أن الشريعة لا تحرّم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه!.
الأمر الثالث:
21- استدل المانعون على عدم جواز التورق بأنه من بيع المضطر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر، فيكون التورق محظوراً. وهذا الاستدلال غير مُسلم لوجوه:(1/27)
أحدها: أن حديث النهي عن بيع المضطر ضعيف لا يصح الاحتجاج به كما قرر علماء الحديث، فقد رواه أحمد وأبو داود والبيهقي من حديث صالح بن عامر عن شيخ من بني تميم عن علي بن أبي طالب مرفوعاً. قال ابن القطان: صالح بن عامر لا يُعرف، والتميمي لا يُعرف. وفي (ميزان الاعتدال): صالح بن عامر نكره، بل لا وجود له، ذُكر في حديث لعلي مرفوعاً أنه نهى عن بيع المضطر، والحديث منقطع. وقال عبد الحق: هو حديث ضعيف. وقال البيهقي: روي من أوجه عن علي وابن عمر، وكلها غير قوية. وضعّفه ابن حزم في (المحلّى). وقال النووي في (المجموع): وهذا الإسناد ضعيف، لأن هذا الشيخ من بني تميم مجهول (1) .
والثاني: أننا لو سلمنا جدلاً بمنع بيع المضطر، فيجب التنبه على أنه ليس كل مضطر إلى شراء ما يحتاج إليه هو وعياله من طعام وشراب ودواء وملبس ومسكن وغير ذلك، أو إلى بيع ما عنده لشراء ذلك يدخل في مفهوم (المضطر) الذي نهى عن بيعه. قال ابن حزم – بعد بيانه ضعف حديث النهي عن بيع المضطر – : "فإذا لم يصحّ هذان الخبران، فلنطلب هذا الحكم من غيرهما، فوجدنا كل من يبتاع قوت نفسه وأهله للأكل واللبس، فإنه مضطر إلى ابتياعه بلا شك، فلو بطل ابتياع هذا المضطر لبطل بيع كل من لا يُصيب القوت من ضيعته، وهذا باطل بلا خلاف ... وقد ابتاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصواعاً من شعير لقوت أهله، ومات ودرعُه مرهونة في ثمنها، فصحّ أن بيع المضطر إلى قوته وقوت أهله وبيعه ما يبتاع به القوت بيعٌ صحيحٌ لازمٌ، فهو بيع عن تراضٍ، لم يجبره عليه أحدُ، فهو صحيح بنصّ القرآن" (2) .
__________
(1) ) ... أنظر: فيض القدير 6/332، مختصر سنن أبي داود، للمنذري 5/47، مسند أحمد 1/116، سنن البهقي 6/17، المحلّى 9/22، معالم السنن للخطابي 5/47، المجموع للنووي 9/161.
(2) ) ... المحلّى 9/22.(1/28)
والثالث: إن المانعين لبيع المضطر لم يقولوا بذلك على عمومه، حتى يشمل التورق على وجهه الصحيح، بل خصّوه بحالة الظلم والغبن الفاحش في مبايعة المضطر (1) .
أما مبايعته بالعدل، بمعنى بيعه ما هو مضطر إليه بثمن المثل أو ما في حكمه(وهو الغبن اليسير) أو الشراء منه ما هو مضطر إلى بيعه على ذلك النحو، فهي صحيحة مشروعة باتفاق أهل العلم، بل إن بعضهم نص على كونها مطلوبة في النظر الشرعي، لما في ذلك من معونته على دفع ضرورته.
قال المناوي: "نهى عن بيع المضطر: أي المضطر إلى العقد بنحو إكراه عليه بغير حق، فإنه باطل، أو إلى البيع لنحو دين لزمه أو مؤونة ترهقه، فيبيع بالوكس للضرورة، فينبغي أن يُعان ويمهل، أو يقرض إلى ميسرة، أو يشترى منه بالقيمة" (2) .
وقال الخطابي: بيع المضطر يكون من وجهين:
أحدهما: أنه يُضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه. فهذا فاسدٌ لا ينعقد.
__________
(1) ) ... قال البهوتي في كشاف القناع: "وكره الشراء منه، وهو بيع المضطرين. قال في المنتخب: لبيعه بدون ثمنه، أي ثمن مثله" (كشاف القناع 3/140). وقال برهان الدين ابن مفلح عن بيع المضطر: "وفسره أحمد في رواية: بأن يجيئك محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين". (المبدع 4/7). وقال ابن عابدين: "هو أن يضطر الرجل إلى طعام أو شراب أو لباس أو غيرها، ولا يبيعها البائع إلا بأكثر من ثمنها بكثير، وكذلك الشراء منه". أي من المضطر. (رد المحتار 4/106) ومثل ذلك جاء في النتف للسعدي 1/468، وجاء في الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية ص 122: "المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند شخص، ينبغي أن يربح عليه مثل ما يربح على غيره. وله أن يأخذ منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره". وأنظر: مواهب الجليل 4/248.
(2) ) ... فيض القدير 6/332.(1/29)
والوجه الآخر: أن يضطر إلى البيع لدين يركبه، أو مؤنة تُرهقه، فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة. فهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يُباع على هذا الوجه، وأن لا يُفتات عليه بماله (1) .
وقال ابن تيمية: "فإن كان المشتري مضطراً، لم يجز أن يُباع إلا بقيمة المثل، مثل أن يُضطر الإنسان إلى شراء طعام لا يجده إلا عند شخص، فعليه أن يبيعه إياه بقيمة المثل، فإن أبى أن يبيعه إلا بأكثر، فللمشتري أخذه قهراً بقيمة المثل. وإذا أعطاه إيّاه، لم يجب عليه إلا قيمة المثل. وإن باعه إياه إلى أجل، باعه بالقيمة إلى ذلك الأجل، ويأخذ قسطاً من الثمن" (2) .
وقال أيضاً: "وكذلك المضطر الذي لا يجد حاجته إلا عند هذا الشخص، ينبغي له أن يربح عليه مثل ما يربح على غير المضطر، فإن في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المضطر. ولو كانت الضرورة إلى ما لا بدّ منه، مثل أن يضطر الناس إلى ما عنده من الطعام واللباس، فإنه يجب عليه أن لا يبيعهم إلا بالقيمة المعروفة بغير اختياره، ولا يُعطوه زيادة على ذلك" (3) .
والرابع: لو سلّمنا جدلاً بمنع بيع المضطر، فإن المعنى الذي من أجله مُنع بيع المضطر غير متحقق في التورق، وذلك لأن المضطر في النظر الفقهي إما أن يكون بائعاً، وإما أن يكون مشترياً، وللاضطرار معنيان كما ذكر الفقهاء:
أحدهما: الإكراه. وعلى ذلك يكون المحظور إكراه المرء على بيع ما عنده أو على شراء ما عند الغير. وهذا المعنى خارج عن محل النزاع.
__________
(1) ) ... معالم السنن 5/47.
(2) ) ... مختصر الفتاوى المصرية ص 326.
(3) ) ... مجموع فتاوى ابن تيمية 29/300.(1/30)
والثاني: أن يضطر شخصٌ إلى طعام أو شراب أو دواء أو لباس أو غير ذلك، ولا يجد ذلك إلا عند رجل بعينه، فيبيعه ما يدفع ضرورته بأكثر من قيمته السوقية بكثير (أي بغبنٍ فاحش). أو أن يضطر شخص إلى بيع سلعته من أجل الحصول على نقد يلزمه لشراء ما هو مضطر إليه من طعام أو شراب أو لباس أو دواء أو نحو ذلك، ولا يجد من يشتريها منه، فيبتاعها منه شخص بأقل من قيمتها بكثير. وهذه العلة – أي مبايعة المضطر إلى البيع أو الشراء بوكس وظلم – منتفية في التورق الذي نتكلم عنه.
أ - ذلك أن المتورق عادة عندما يشتري السلعة من شخص بالنسيئة، ليبيعها بالنقد، فإنه يشتريها بقيمتها السوقية إلى الأجل المضروب أو بغبن يسير، وذلك سائغ شرعاً، ولا تثريب عليه في شرائه السلعة نسيئة بأكثر من قيمتها السوقية نقداً اعتباراً للأجل، ولا حرج شرعاً على بائعه في ذلك.
ب - وأن المتورق عندما يبيع تلك السلعة التي اشتراها نسيئة لشخص ثالث لا علاقة له بالبائع الأول بقيمتها السوقية نقداً، أو بغبن يسير – وهي عادة أقل من الثمن الذي اشترى به مؤجلاً – فذلك سائغ شرعاً للبائع (المتورق) وللمشتري الجديد على السواء.
هذا هو الأصل والجاري في الواقع من حالات التورق وتطبيقاته المعاصرة في الأعم الأغلب، وإليه ينصرف قول المجيزين.
الأمر الرابع:
صفر صفر ذو القعدة ? أن استدلال المانعين على حظر التورق – بأن البائع يقول للمتورق: إن قيمة السلعة كذا وكذا نقداً، ثم يبيعه إياها بأكثر من ذلك نسيئة. وذلك غير جائز لقول ابن عباس فيما رواه عبد الرزاق في (مصنفه): "إذا استقمت بنقد، فبعت بنقد، فلا بأس به، وإذا استقمت بنقد، فبعت بنسيئة، فلا خير فيه، فتلك دراهم بدراهم" – غير مُسلم من وجوه:
أحدها: أنه ليس من لوازم مسألة التورق أن يقوَّم البائع للمتورق ثمن السلعة نقداً، ثم يبيعه إياها بأكثر من ذلك نسيئة، بل إن ذلك لا يحصل عادة في التورق.(1/31)
والثاني: وحتى لو وقع ذلك عند شراء المتورق السلعة من البائع، فليس هناك مانعٌ شرعي من ذلك، ولا يظهر أي معنى مناسب لمنعه، ولا حجة في تلك الرواية عن ابن عباس، ولا في تفسيرها على ذلك النحو، وذلك:
أ- أنه روي عن ابن عباس أيضاً جواز ذلك، حيث جاء في مصنف ابن أبي شيبة: "الرجل يشتري من الرجل المبيع، فيقول: إن كان بنسيئة فبكذا، وإن كان نقداً فبكذا. أجازه ابن عباس وطاوس وعطاء والحكم وحماد وإبراهيم إذا افترقا عن رضا، وانصرفا على أحدهما" (1) .
ب- قول الإمام الترمذي في (سننه): إذا قال البائع: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين. فإذا فارقه على إحداهما فلا بأس، إذا كانت العقدة على واحدة منهما (2) . (أي من البيعتين: النقد أو النسيئة).
ج- ما جاء في آخر رواية المنع في (مصنف عبد الرزاق): قال ابن عيينة: فحدثت به ابن شُبرمة، فقال: ما أرى به بأساً.
د- إن تفسير ابن تيمية لرواية المنع مخالف لأقاويل غيره من شُراح الأثر، فقد جاء في النهاية لابن الأثير: "استقمت في لغة أهل مكة بمعنى قومت. يقولون: استقمت المتاع؛ إذا قومته. ومعنى الحديث: أن يدفع الرجل إلى الرجل ثوباً، فيقومه مثلاً بثلاثين، ثم يقول له: بعه بها، وما زاد عليها فهو لك. فإن باعه نقداً بأكثر من ثلاثين، فهو جائز، ويأخذ الزيادة. وإن باعه نسيئة بأكثر مما يبيعه نقداً، فالبيع مردودٌ، ولا يجوز" (3) .
وكلا التفسيرين للأثر فيه غموض، ولا يظهر فيهما معنى مناسبٌ يصحّ إناطة حظر التورق به.
الأمر الخامس:
__________
(1) ) ... المصنف لابن أبي شيبة 6/119، 121.
(2) ) ... سنن الترمذي مع العارضة 5/239.
(3) ) ... النهاية في غريب الحديث والأثر 4/125.(1/32)
صفر ربيع أول ذو القعدة ? إن قياس المانعين مسألة التورق على العينة – بحجة انتفاء الفرق بين عود السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره في الحكم، بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري، واقل كلفة عليه وأخف عناء، وأدنى خسارة، فكيف يُحرم الضرر اليسير، ويباح ما هو أعظم منه، والحقيقة في الموضعين واحدة، وهي عشرة بخمس عشرة وبينهما حريرة، رجعت في إحدى الصورتين إلى بائعها الأول، وفي الثانية إلى غيره (1) – غير مُسلم، إذ جُمع فيه بين المختلفين في المعنى المؤثر، وجرى التعليل فيه بأوصاف طردية لا مناسبة بينها وبين الحكم، فأين النظر في المعاني المؤثرة وغير المؤثرة فرقا وجمعاً، وأين النظر في المناسبات ورعاية المصالح، وأين تحقيق المناط وتنقيحُه وتخريجه!! وقد سبق بيان مثالب هذا القياس ووجوه فساده، فأغنى عن الإعادة (2) .
الرأي المختار:
__________
(1) ) ... إعلام الموقعين 3/212.
(2) ) ... أنظر: ف 14، 20 من البحث.(1/33)
صفر ربيع ثان ذو القعدة ? لقد ظهر لي بعد النظر والتأمل في أدلة الفريقين وتمحيص وجوهها ومبانيها بروح نقدية تنشد الحق والصواب أن حجج جمهور الفقهاء المجيزين للتورق صحيحة قوية دامغة، سالمة من الإيراد عليها، بخلاف أدلة المانعين، فإنها ضعيفة واهيةٌ، لا تصمد أمام النقد العلمي النزيه، البعيد عن التقليد والتعصب، ولا يصحّ الركون إليها أو الاعتماد عليها، وإن سعى أربابها بكل سبيل على تخريج حظر التورق على قاعدة سدّ الذرائع ليس إلا ضرباً من الغلو والتنطع المذموم. وقد أحسن العلامة محمد الطاهر ابن عاشور حين لفت عناية أهل الفقه والاجتهاد إلى ضرورة التمييز بين الغلو وسدّ الذرائع في مقام استنباط الأحكام، فقال: "وممّا يجب التنبيه عليه في التفقه والاجتهاد التفرقة بين الغلو في الدين وبين سدّ الذرائع، وهي تفرقة دقيقة. فسدّ الذريعه موقعه وجود المفسدة، والغلو موقعه المبالغة والإغراق في إلحاق مباح بمأمورٍ أو منهي شرعي، أو في إتيان عمل شرعي بأشدّ مما أراده الشارع، بدعوى خشية التقصير عن مراد الشارع، وهو المسمّى في السنة بالتعمّق والتنطع، وفيه مراتب: منها ما يدخل في الورع في خاصة النفس، الذي بعضه إحراج لها، أو الورع في حمل الناس على الحرج، ومنها ما يدخل في معنى الوسوسة المذمومة. ويجب على المستنبطين والمفتين أن يتجنبوا مواقع الغلو والتعمق في حمل الأمة على الشريعة، وما يُسنّ لها من ذلك، وهو موقف عظيم" (1) .
المبحث الثالث
التطبيقات المعاصرة للتورق
"التورق المصرفي المنظم"
( أ ) حقيقة التورق المصرفي المنظم:
__________
(1) ) ... مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 118.(1/34)
صفر جمادى أول ذو القعدة ? لقد اتجه كثير من المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة إلى التعامل بالتورق المصرفي المنظم كبديل شرعي للقرض الربوي المحظور الذي تقدمه البنوك التقليدية من جهة، وكبديل عملي مُنسق مبرمج للتورق الفردي غير المنظم، الذي يكلف المتورق عادة خسائر مالية فادحة، وكثيراً من المشقة والعناء من جهة أخرى، بحيث يقوم على نفس قاعدة التورق الشرعية وآليته، غير أنه يجري وفق منظومة تعاقدية أفضل، تكفل حصول العميل على السيولة النقدية المطلوبة في الوقت المرغوب، من غير تعرض للمتاعب والصعوبات والخسائر الفاحشة التي تكتنف عملية التورق الفردي عادة، وذلك عن طريق شراء المصرف المتخصص للعميل سلعة أو أكثر من سوق السلع الدولية (التي تتسم أسعارها بتحركات ضئيلة محدودة تقيه مخاطر تقلبات الأسعار الحادّة في غيرها) ثم بيعها نقداً لطرفٍ ثالثٍ بالنيابة عن العميل بعد ثبوت ملكيتها له، بغية توفير النقد المطلوب للعميل.
صفر جمادى ثان ذو القعدة ? ومع أن صيغ الاتفاقيات التي تبرمها المؤسسات المالية الإسلامية للتورق لا تخلو من الاختلاف في بعض الجزئيات أو التفصيلات، لكنها في الجملة تتفق على بناء وتركيب المنظومة التعاقدية للعملية على النسق الآتي:
أولاً: ... يقوم المصرف بشراء الكمية المطلوبة من السلعة أو السلع الدولية وفق المواصفات المحددة التي يرغب بها العميل نقداً.
ثانياً: ... بعد تملك المصرف وقبضه للسلع التي اشتراها قبضاً حكمياً، يقوم ببيعها للعميل بثمن معلوم مؤجل بحسب نظام التقسيط المتفق عليه بينهما.
ثالثاً: ... عقب ذلك يوكل العميل المصرف في بيع ما امتلكه من السلع بثمن نقدي معجل لطرف ثالث لا علاقة للمصرف به.
رابعاً: ... يقوم المصرف ببيع تلك السلع لحساب موكله (العميل) على النحو المرسوم، ويوفر له ثمنها المقبوض لينتفع به.(1/35)
صفر رجب ذو القعدة ? ومن الجدير بالتنبه له في هذا المقام أن من أهم سمات وخصائص (التورق المصرفي المنظم) كونه معاملة مستحدثة، وصفقة تمويلية مستجدة، – وإن كانت مبنية في جوهرها وأساسها على مسألة التورق الشرعي – ينضوي تحتها مجموعة عقود ووعود مترابطة متوالية، لا تقبل التفكيك والتغيير الهيكلي، يجري التواطؤ المسبق بين المصرف والعميل على إنشائها وإبرامها على نسق محدد، متتابع الأجزاء، متعاقب المراحل، يهدف إلى تحقيق غرض تمويلي محدّد، اتجهت إرادة الطرفين وقصدهما إليه.
... وقد جرى العرف التجاري والمصرفي على اعتبار المواطأة المتقدمة على إنشاء هذه المعاملة واجبة المراعاة، وملزمة للطرفين، وذلك لقيام اتفاقيتها وابتنائها على نظام مترابط الأجزاء، صُمم ووضع لأداء وظيفة محددة باجتماع ذلك المزيج من العقود والوعود في صفقة واحدة، وفقاً لشروط تحكمها كمعاملة واحدة لا تقبل الفصل أو التجزئة.
( ب ) مبنى استنباط حكمه الشرعي:
... للتعرف على الحكم الشرعي للتورق المصرفي المنظم الذي عرضنا حقيقته وخصائصه، يجب مراعاة المبادئ الخمسة الآتية:
المبدأ الأول:(1/36)
صفر شعبان ذو القعدة ? التورق المصرفي المنظم معاملة جديدة مستحدثة، ولهذا فإنه يخضع في تكوينه (العاقدان – الصيغة – المحل) وآثاره إلى القواعد الشرعية العامة في التعاقد. وبمراعاتها يعتبر صحيحاً لازماً، ويجب الوفاء بمقتضياته، ما لم يخالف دليلاً شرعياً معتبراً، لعموم قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } ] المائدة: 1[، إذ للناس في مجال المعاملات المالية التي تتوقف عليها معايشهم، وتتوفر بها مصالحهم، أن يستحدثوا من العقود – في حدود مبادئ الشريعة وأصولها – ما تدعو إليه حاجاتهم، وتحملهم عليه مصالحهم، دون أن يلحقهم حرج بهذا الاستحداث، لأن العقود ما شُرعت إلا لتكون وسيلة لسدّ الحاجات، وسبيلاً إلى تحقيق المصالح (1) .
المبدأ الثاني:
صفر رمضان ذو القعدة ? من المقرر شرعاً أن تعامل الناس بعقدٍ أو معاملةٍ على صورة معينة (تقليدية) جرى بها العرف، لا يصلح وحده دليلاً على أن أي خروج عن صورته المألوفة، أو أي خلاف لوضعه محظورٌ شرعاً؛ لأنه إذا كان من شروطه ما أوجب الشارع مراعاته، ووقع الخروج أو الخلاف في هذا النوع من الشروط، فإن حظر الشارع للانحراف عنه حينئذٍ مرده لمخالفه ما أوجب الشارع مراعاته، وألزم الناس بإتباعه.
... أما إذا كان الخلاف فيما لم يرد فيه إيجاب ولا إلزام شرعي للناس بإتباعه، وإنما كانت مراعاته في التعامل والتمسك به بحكم العادة وعرف الناس فيه، وقد سكت الشارع عن حكم مخالفته، فإن الخلاف حينئذٍ يكون انحرافاً عن أمر سكت عنه الشارع، ولم يبين حكم مخالفته، والحكم في مثله الإباحة، تطبيقاً لمبدأ الإباحة الأصلية فيما سكت عنه الشارع.
__________
(1) ) ... المدخل الفقهي العام للزرقا 1/571.(1/37)
ربيع أول شوال ذو القعدة ? وعلى ذلك فلا حرج شرعاً (من حيث المبدأ) في تطوير التورق الفردي غير المنظم إلى تورق مصرفي منظم، يحقق الغرض المنشود منه بتكلفة أقلّ، وبدون مشقة وعناء فالشريعة – كما قال ابن تيمية – : "جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيحُ الخيرين، إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً، ودفع شر الشرين، إذا لم يندفعا جميعاً" (1) .
المبدأ الثالث:
31- يجب أن يراعى في التورق المصرفي المنظم الضوابط الشرعية العامة للجمع بين العقود والوعود في معاملة واحدة، يجري التواطؤ بين طرفيها على إبرامها على نسق محدد، متتابع الأجزاء ، متلاحق المراحل، وفقاً لشروط تحكمها كصفقة واحدة، لا تقبل التفكيك والتجزئة، تهدف إلى أداء وظيفة محددة، وبلوغ غرض معيّن، اتجهت إرادة العاقدين وقصدهما إلى تحقيقه وهي خمسة (2) :
__________
(1) ) ... المسائل الماردينية لابن تيمية ص 63.
(2) ) ... أنظر بحث: (اجتماع العقود المتعددة في صفة واحدة) ضمن كتاب قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد للدكتور نزيه حماد ص 249 – 274.(1/38)
الضابط الأول : أن لا يكون الجمع محل نهي في نصّ شرعي. كالجمع بين بيع وسلف (1) ، والجمع بين بيعتين في بيعة (2) ، وصفقتين في صفقة (3) .
... الضابط الثاني: أن لا يكون الجمع حيلة ربوية، وذلك كما في التواطؤ على العينة، أو عكسها، أو على الحيلة إلى ربا الفضل.
الضابط الثالث: أن لا يكون ذريعة إلى الربا. وذلك كما في الجمع بين البيع والقرض، أو التواطؤ على دفع المقترض للمقرض هدية أو زيادة على مقدار القرض.
__________
(1) ) ... حيث روى أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والشافعي ومالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع وسلف. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. (مختصر سنن أبي داود للمنذري 5/144، عارضة الأحوذي 5/241، الموطأ 2/657، مسند أحمد 2/178، مرقاة المفاتيح 2/323، نيل الأوطار 5/179).
(2) ) ... حيث روى أبو داود والترمذي والنسائي ومالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيعتين في بيعة. (مختصر سنن أبي داود 5/98، الموطأ 2/663، عارضة الأحوذي 5/239، سنن النسائي 7/295، القبس 2/842، نيل الأوطار 5/152).
(3) ) ... حيث روى أحمد والبزار والطبراني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن صفقتين في صفقة (مسند أحمد 1/198، نيل الأوطار 5/152، فتح القدير 6/81، مجمع الزوائد 4/84).(1/39)
الضابط الرابع: أن لا يكون الجمع بين عقدين – فأكثر – بينهما تناقض أو تضاد في الموجبات والأحكام. وغالباً ما يقع ذلك عند تواردهما على محلّ واحد أو بدلٍ واحد، كما في الجمع بين المضاربة وإقراض المضارب رأس المال، أو بين صرف دراهم بدنانير وإقراض تلك الدنانير لبائعها، وكما في الجمع بين صرف وجعالة ببدلٍ واحد، أو بين سلم وجعالة ببدل واحد (1) .
الضابط الخامس: أن يكون كل جزء من أجزاء المعاملة (أي العقود والوعود والشروط) صحيحاً مشروعاً بمفرده. وذلك لأن الأصل الشرعي هو جواز اجتماع العقود والوعود المختلفة في معاملة واحدة، إذا كان كل واحدٍ منها جائزاً بمفرده، ما لم يكن هناك دليل شرعي حاضر، فعندئذٍ يمتنع بخصوصه استثناء، إذا الأصل قياس المجموع على آحاده، فحيث انطوت المعاملة (الصفقة) على عدة عقود ووعود، كل واحد منها جائز بمفرده، فإنه يُحكم على المجموع بالجواز. وعلى ذلك نصّ جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة في مواطن عديدة، منها:
__________
(1) ) ... قال الشهاب الرملي: حيث يؤدي ذلك إلى تناقض الأحكام، لأن الثمن لا يلزم تسليمه عن عقد الجعالة إلا بفراغ العمل، وعن جهة الصرف والسلم يجب تسليمه في المجلس، وتنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات. (حاشية الرملي على أسنى المطالب 2/45). وأساس هذا الضابط كما قال القرافي في الفروق 3/142: "أن العقود أسباب، لاشتمالها على تحصيل حكمتها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، فكل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد".(1/40)
أ- قول الزيلعي الحنفي في معرض احتجاجه على مشروعية الحوالة المطلقة والمقيّدة: "ولأن كلاً منهما يتضمن أمولاً جائزة عند الانفراد – وهي تبرع المحتال عليه بالالتزام في ذمته والإيفاء، وتوكيل المحتال بقبض الدين أو العين من المحال عليه، وأمر المحال عليه بتسليم ما عنده من العين أو الدين إلى المحتال – فكذا عند الاجتماع " (1) . أي فحيث كانت هذه العقود كلها جائزة عند الانفراد، فإنها تكون كذلك عند الاجتماع، إذ لا فرق.
ب- قول الكاساني في معرض استدلاله على جواز شركة المفاوضة: "ولأنها مشتملة على أمرين جائزين، وهما الوكالة والكفالة، لأن كل واحدة منهما جائزة حال الانفراد، فكذا حالة الاجتماع" (2) .
ج- ما جاء في (المقنع) وشرحه (المبدع): "وإن جمعا بين شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة، صحّ؛ لأن كل واحد منها يصحُّ منفرداً، فصحّ مع غيره" (3) .
د- وقول ابن قيم الجوزية: "لا محذور في الجمع بين عقدين، كل منهما جائز بمفرده، كما لو باعه سلعة وأجّضره داره شهراً بمئة درهم" (4) .
ه- وما جاء في (أسنى المطالب): "فصل: وإذا جمع في صفقة بين عقدين مختلفي الحكم، كبيع وإجارة، أو بيع وسلم، أو بيع ونكاح، صحّ كل منهما لصحته منفرداً، فلا يضر الجمع، ولا أثر لاختلاف الحكم في ذلك ... وتقييدهم العقدين باختلاف حكمهما لبيان محل الخلاف، فلو جمع بين متفقين، كشركة وقراض، كأن خلط ألفين له بألف لغيره، وقال: شاركتك في أحدهما، وقارضتك على الآخر، فقبل، صحّ جزماً، لرجوعهما إلى الإذن في التصرف" (5) .
المبدأ الرابع:
__________
(1) ) ... تبيين الحقائق 4/174.
(2) ) ... بدائع الصنائع 6/58.
(3) ) ... المبدع لبرهان الدين ابن مفلح الحنبلي 5/43، وأنظر: المغني 7/137.
(4) ) ... إعلام الموقعين 3/354.
(5) ) ... أسنى المطالب لزكريا الأنصاري الشافعي 2/45، وأنظر: البيان للعمراني 5/148، مغني المحتاج 2/41، 42، روضة الطالبين 3/429، قليوبي وعميرة 2/188.(1/41)
ربيع أول صفر ذو القعدة ? يعتبر التواطؤ المسبق بين المصرف والعميل على إبرام اتفاقية التورق المصرفي المنظم بعقودها ووعودها الجائزة شرعاً مُلزماً للطرفين، لأن المواطأة – في حقيقتها – اتفاق بين طرفين على إجراء عقود وإنجاز وعود فيما يستقبل من الزمان، وهذا الاتفاق يعتبر بمثابة الشرط المتقدم على العقد في القوة الملزمة والأحكام المترتبة، ولأن الشرط المتقدم كالمقارن في الصحة ووجوب الوفاء، على الراجح من أقاويل الفقهاء، طالما أن العقد قد اعتمد عليه وابتنى، واتفقت إرادة العاقدين على الالتزام به، واعتباراً لجريان العرف التجاري والمصرفي على كون المواطأة المتقدمة على المنظومات العقدية المستحدثة واجبة المراعاة، ومُلزمة للطرفين، نظراً لقيام المعاملة وابتنائها على نظام مترابط الأجزاء، صُمم ووضع لأداء وظيفة محددة باجتماع ذلك المزيج من العقود والوعود في صفقة واحدة، حيث إن ذلك العرف غير مصادم لنص شرعي، وعلى ذلك فإنه يُحكم شرعاً بلزوم مراعاته (1) .
المبدأ الخامس:
__________
(1) ) ... أنظر: قضايا فقهية معاصرة في المال والاقتصاد، للمؤلف ص 270 وما بعدها، الموافقات 2/286،المعيار للونشريسي 6/63، مجموع فتاوى ابن تيمية 29/17، المجلة العدلية م 36،37.(1/42)
ربيع أول ربيع أول ذو القعدة ? وجوب التفرقة بين الحيل الباطلة المذمومة التي تقوم على التوسل بالعقود والتصرفات المشروعة إلى مقصود محرم خبيث، وذلك بأن يُظهر المرء تصرفاً أو عقداً مباحاً يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته، وبين المخارج الشرعية المحمودة، التي تقوم على التوسل بالعقود والتصرفات الجائزة إلى مقصود حسن مشروع، بُغية الخروج من الضيق والحرج والوقوع في المأثم، والوصول إلى فعل ما أحل الله وترك ما نهى عنه (1) . وقد نبّه إلى ذلك الشاطبي بقوله: "الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها: ما هدم أصلاً شرعياً، أو ناقض مصلحة شرعية. فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها، فغير داخلة في النهي، ولا هي باطلة" (2) . وقال محمد الطاهر ابن عاشور: "التحيل (أي المذموم) شرعاً: ما كان المنع منه شرعياً، والمانع الشارع، فأما السعي إلى عمل مأذون بصورة غير صورته، أو بإيجاد وسائله، فليس تحيلاً، ولكنه يُسمى تدبيراً أو حرصاً أو ورعاً" (3) .
ربيع أول ربيع ثان ذو القعدة ? ومعيار التفرقة بين النوعين مبني على النظر إلى مآلات الأفعال، والتعويل على مقاصد التصرفات وأغراض المكلفين منها: فما كان منها مشروع المآل موافقاً لمقاصد الشارع في أحكامه، كان حلالاً طيباً. وما كان منها محظور المآل، أو مناقضاً لمقاصد الشريعة، كان محظوراً خبيثاً.
وفي ذلك يقول ابن القيم: "فالحيلة معتبرة بالأمر المحتال بها عليه، إطلاقاً ومنعاً، ومصلحة ومفسدة، وطاعة ومعصية، فإن كان المقصود أمراً حسناً، كانت الحيلة إليه حسنة، إن كان قبيحاً، كانت الحيلة غليه قبيحة" (4) .
( ج ) حكمه الشرعي:
__________
(1) ) ... المغني لابن قدامة 6/116، إغاثة اللهفان 1/339، إعلام الموقعين 3/252.
(2) ) ... الموافقات 2/387.
(3) ) ... مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور ص 110.
(4) ) ... إغاثة اللهفان 1/385.(1/43)
ربيع أول جمادى أول ذو القعدة ? بناءً على ما تقدّم، فقد ظهر لي أن حكم التورق المصرفي المنظم – إذا وقعت سائر عقوده ووعوده على الوجه الشرعي المطلوب من حيث الأركان وشروط الصحة – هو الجواز والمشروعية، بشرط أن تُباع السلعة التي يشتريها العميل المتورق لشخص ثالث لا علاقة للمصرف به، وأن لا تؤول المعاملة بأي وجه من الوجوه إلى رجوع السلعة إلى بائعها بثمنٍ معجلٍ قلّ مما باعها به نسيئة، وذلك نظراً:
أ - لتواقر الأركان وشروط الصحة في جميع العقود والوعود المجتمعة في المعاملة – إذ الأصل الشرعي قياس المجموع على الآحاد في الحكم بجواز العقود والالتزامات المتعددة في صفقة واحدة – مع انتفاء الدليل الشرعي الحاضر.
ب - وكون هذه المنظومة التعاقدية المستحدثة ليست محل نهي في نصّ شرعي، وليست حيلة ربوية ولا ذريعة إلى ربا أو حرام، كما أنه ليس هناك تناقضٌ أو تضادّ في الموجبات والأحكام بين عقودها ووعودها المتعددة.
ج - وأنها مخرجٌ شرعيٌ محمودٌ لحصول المحتاج إلى السيولة المالية على طلبته بمنأى عن القرض الربوي وذرائعه والحيل إليه، وذلك غرض صحيحٌ مشروعٌ يتضمن مصلحة معتبرة مأذوناً بها شرعاً.
د - وأن هذه المعاملة لا تؤول ولا تفضي إلى فعل محظورٍ أو مخالفةٍ لمقصد من مقاصد الشارع الحكيم فيما أحلّ وحرّم.
ه - وأنها لا تعدو أن تكون صيغة مطورة مُحسنة لمسألة التورق – التي ذهب جماهير الفقهاء إلى جوازها، وقامت الأدلة والبراهين المعتبرة على مشروعيتها – لا تختلف عنها في المفهوم والقصد والآلية، فيسري عليها حكمها الشرعي بالحلَّ والجواز، لانتفاء الفارق المؤثر.(1/44)
ربيع أول جمادى ثان ذو القعدة ? أما إذا كان الشخص الثالث – أي مشتري السلعة من العميل المتورق – وكيلاً عن البائع (المصرف) في شرائها، أو مشترياً لحسابه بمواطأة لفظية أو عرفية أو نحو ذلك، فلا تجوز عندئذٍ هذه المعاملة (1) ، لأنها تكون (عينة) في الحقيقة، وإن كانت تورقاً صورةً، والأصل الشرعي كما قال ابن القيم: "أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها" (2) . وإن من المقرر فقهاً أن العينة ليست إلا حيلة ربوية محظورة، لأن البيع الأول فيها إنما عقد ليفسخ وتعود السلعة لبائعها، والعقد كما يقول ابن القيم: "إذا قُصد به فسخه، لم يكن مقصوداً، وإذا لم يكن مقصوداً كان وجوده كعدمه، وكان توسطه عبثاً" (3) ، بخلاف التورق، فإن البيع الأول فيه إنما عقد ليُمضى وتنقطع علاقة البائع بالسلعة تماماً، كما هو مقتضى عقد البيع وموجبه شرعاً، فافترقا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
خاتمة
ملخص البحث
1- التوّق مصطلح فقهي جرى استعماله على ألسنة فقهاء الحنابلة دون غيرهم من أهل العلم، ومرادهم به "أن يشتري المرء سلعة بالنسيئة، ثم يبيعها لغير بائعها نقداً بأقل مما اشتراها به، ليحصل بذلك على النقد". وهذا المفهوم الاصطلاحي مستمدٌ من المعنى اللغوي للكلمة، وهو: سعي المرء بكلفة ومشقةٍ للحصول على النقد. (نظراً لاشتقاقها من "الورق" الذي يعني في أصل الوضع الدراهم الفضية، التي هي مقصود المتورق وغرضه، ثم توسع في مدلول الكلمة حتى شملت تحصيل مطلق النقود على ذلك النحو).
... ويستعمل الشافعية مصطلح (الزرنقة) بدل التورق، أما بقية الفقهاء فقد عرفوا مفهوم التورق، وتلكموا عنه في معرض كلامهم عن (العينة) أو (بيوع الآجال)، ولكن من غير إطلاق تسمية خاصة عليه.
__________
(1) ) ... المغني 6/263، الفروع 6/315، عقد الجواهر الثمينة 2/450.
(2) ) ... إعلام الموقعين 3/107.
(3) ) ... إعلام الموقعين 3/240.(1/45)
2- وقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة في المذهب إلى جواز التورق، وخالفهم في ذلك ابن تيمية، وذهب إلى كراهته، وهي رواية عن أحمد، وحُكي عنه أنه اختار حرمته، وهي رواية ثالثة عن أحمد. وقد ارتضى ابن القيم مذهب شيخه ابن تيمية بحظر هذه المعاملة.
3- وظهر لنا بعد النظر والتأمل في أدلة الفريقين ومناقشتها بإنصاف وتجردٍ أن حجج جمهور الفقهاء المجيزين للتورق صحيحةٌ قويةٌ، سالمةٌ من الإيراد عليها، بخلاف أدلة المانعين، فإنها ضعيفةٌ واهيةٌ، لا تصمد أمام النقد العلمي النزيه، البعيد عن التقليد والتعصب، ولا يصحُّ الركون إليها أو الاعتماد عليها.
4- أما عن التطبيقات المعاصرة للتورق، فقد بيّنا توجه كثير من المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة إلى التعامل بالتورق المصرفي المنظم كبديل شرعي للقرض الربوي، الذي تقدمه البنوك التقليدية من جهة، وكبديل عملي منسق مبرمج للتورق الفردي، الذي يكلف المتورق عادة خسائر مالية فادحة، وكثيراً من المشقة والعناء من جهة أخرى، وأنه يقوم على قاعدة التورق الشرعي وآليته، غير أنه يجري وفق منظومة تعاقدية مستحدثة أفضل، تكفل حصول العميل على السيولة النقدية المطلوبة في الوقت المرغوب، من غير تعرض للصعوبات والخسائر البالغة التي تكتنف عملية التورق الفردي عادة، وذلك عن طريق شراء المصرف للعميل سلعة أو أكثر من سوق السلع الدولية (التي تتسم أسعارها بالثبات النسبي، لتقيه مخاطر التقلبات الحادة في أسعار غيرها) ثم بيعها نقداً لطرف ثالث بالنيابة عن العميل بعد ثبوت ملكيتها له، بغية توفير النقد المطلوب له.(1/46)
5- وقد تبين لنا بعد المناقشة المستفيضة للتورق المصرفي المنظم أن حكمه الشرعي – إذا وقعت سائر عقوده ووعوده على الوجه الشرعي – هو الجواز والمشروعية، بشرط أن تباع السلعة أو السلع التي يشتريها العميل لطرف ثالث، لا علاقة للمصرف به، وأن لا تؤول المعاملة بأي وجه من الوجوه إلى رجوع السلعة إلى بائعها بثمن معجل أقلّ مما باعها به نسيئة.(1/47)