الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
التورق ، حقيقته ، أنواعه
( الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)
إعداد
الأستاذ الدكتور إبراهيم فاضل الدبو
مملكة البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أجمعين. وبعد:
يتميز التورق بكونه من المعاملات الشرعية التي سيطرت على الساحة المالية الإسلامية في الآونة الأخيرة حيث بادرت بعض المؤسسات والبنوك الإسلامية بطرح منتج مالي قائم على أساس صيغة التورق انطلاقا من فتاوى صادرة عن هيئاتها الشرعية. ويهدف هذا المنتج القائم على بيع التورق إلى تمكين عملاء البنوك من الحصول على السيولة النقدية، حيث يتسلمون مبلغاً نقديا حالّاً مقابل التزامهم بدفع مبلغ نقدي أكبر في الآجل، وذلك من خلال إبرام عقد شراء سلعة كثمن مؤجل وبيعها لطرف ثالث غير البائع بأقل من الثمن الأول. ثم بدأت المؤسسات المالية الأخرى تجتذب هذا النوع من التعامل حيث يعتزم عدد أخر من المؤسسات المالية الإسلامية طرح منتجات مالية مماثلة تقوم على أساس التورق أيضاً. وفي ضوء ما برز من أراء وحجج داعمة للتورق كصيغة من صيغ المعاملات المصرفية المعاصرة ومن ناحية أخرى ظهرت اعتراضات عديدة من بعض الفقهاء المعاصرين يرون مخالفة هذه الصيغة للمقاصد الشرعية والمبادئ الكلية بالرغم من القول بجوازه عند البعض الآخر.
من هنا تأتي أهمية البحث في موضوع التورق.
التورق لغة:
مأخوذ من الورق والدراهم المضروبة من الفضة أو المال من الدراهم، ويجمع على أوراق، وسميت بذلك لأن مشتري السلعة يبيعها بالورق، فإن مقصوده الحصول على الورق لا السلعة، والمراد بالورق النقود على اختلاف أنواعها (1) .
والتورق في الاصطلاح:
__________
(1) ... لسان العرب مادة (ورق)، القاموس المحيط1198، المصباح المنير 2/103.(1/1)
أن يشتري الرجل سلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها بنقد لغير البائع بأقلّ مما اشتراها به ليحصل بذلك على النقد. (1) فإن باعها إلى بائعها الأول فهي العينة الممنوعة، وإن باعها إلى طرف ثالث فهي التورق.
الفرق بين التورق والتوريق:
يخلط الكثيرون بين مصطلحي التورق والتوريق، فالتورق ما حكينا تعريفه أعلاه، أما التوريق فيعني التسنيد أو التصكيك الذي يعني تحويل الموجودات العينية أو المنافع إلى صكوك قابلة للتداول ويحتاج إلى بعض القيود والإجراءات لتحقيق الضوابط الشرعية التي تقوم على أساس ملكية المستثمر أصولا دارّةً للدخل الذي يمثل عائد السند، كما أن هناك آلية مقبولة شرعاً من شانها توفر التحوط (الحماية والأمان) للعميل دون الضمان الممنوع شرعاً في المشاركات. وتتنوع الصكوك المشروعة إلى صكوك الإجارة والسلم والمضاربة، وتحكم هذه الصكوك جملة من الضوابط الشرعية. كما أن لعملية التصكيك أطرافا مختلفة لحماية حملة الصكوك وتيسير تداولها، مع الإشارة إلى أن صكوك الإجارة تتوفر لها قابلية التطبيق الملائم للمدة الطويلة عن طريق الأجرة المتغيرة التي تتفق مع الضوابط الشرعية وتوفر عائداً متغيراً لحامل الصك، والصكوك تحقق للشركات السيولة على وجه مشروع، كما أنها تتيح للبنك توظيف السيولة.
الفرق بين العينة والتورق:
العينة عند الحنفية، أن يشتري الرجل شيئاً بثمن معلوم ثم يبيعه من البائع قبل نقد الثمن بثمن أقلّ مما اشتراه من جنس الثمن الأول. (2)
وعند المالكية، أن يبيع إنسان من إنسان سلعة بعشرة دنانير نقداً ثم يشتريها منه بعشرين إلى أجل أو عكس هذه الصورة. (3)
وعند الحنابلة، أن يبيع الرجل السلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها بأقلَ منه نقداً أو عكسها. (4)
__________
(1) ... الموسوعة الفقهية الكويتية مادة (ورق).
(2) ... انظر تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4/54،53.
(3) ... انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/233.
(4) ... مواهب الجليل شرح سيدي خليل 4/404.(1/2)
وعند الشافعية، أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها منه بأقلَ من الثمن الذي باعها به (1) .
فيظهر مما سبق في تعريف العينة عند الفقهاء أن الفرق بين العينة والتورق، أن العينة فيها طرفان يكون الطرف البائع مشترياً للسلعة نفسها بأقلَ ويكون المشتري وهو الطرف الثاني مشترياً للسلعة بأكثر إلى أجل. في حين أن التورق فيه أطراف ثلاثة، وهم البائع والمشتري وطرف ثالث، فيشتري الطرف الأول السلعة من البائع، وبعد ذلك يبيعها للطرف الثالث وهو غير البائع.
وبيع العينة منعه أكثر الفقهاء لأنه ذريعة إلى الربا، وسد الذرائع معتبر شرعاً، فالسبيل الذي يتخذ للوصول إلى الحرام، هو حرام أيضاً. وكون العينة ذريعة إلى الربا، لأن البائع استباح أخذ الثمن الأكثر بعد أجل بالثمن الأقل حالّاً. وقد ورد النهي عن بيع العينة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله، أرسل الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا دينكم) أخرجه أبو داوود
وكذلك حديث السيدة عائشة رضي الله عنها عن العالية بنت أيفع أنها قالت: (دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريت منه بستمائة درهم، فقالت لها بئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب) رواه الأمام احمد .
أنواع التورق:
إن المصارف الإسلامية تجري نوعين من عقود التورق.
النوع الأول: التورق الحقيقي، وصورته، أن يشتري شخص سلعة من البنك بثمن مؤجل ثم يبيعها على جهة أخرى نقداً، ليحصل بذلك على حاجته من النقود.
__________
(1) ... انظر روضة الطالبين 3/814، والمجموع شرح المهذب للشيخ نجيب المطيعي 10/26 وما بعدها.(1/3)
النوع الثاني: التورق المنظم وتتم هذه المعاملة بشراء شخص سلعة من إحدى المصارف الإسلامية بالأجل، ومن ثمّ يوكله ببيعها قبل أن يقبضها، وأحياناً يكلف المصرف بائع السلعة ببيعها لصالح العميل والثمن بعد قبضه يسلمه للعميل مباشرة. والأغلب أن التورق المنظم يجري في السلع المحلية كالحديد والأرز والآلات الميكانيكية والسيارات وغيرها. والفرق بين التورق المنظم والحقيقي، أن العميل في المنظم لا يقبض السلعة ولا يتولى بيعها بنفسه، في حين أن العميل في الحقيقي بالخيار بين أن يحتفظ بالسلعة أو يبيعها بنفسه في السوق، لأن قبضه لها قبضاً حقيقياً يمكنه من التصرف فيها كما يشاء. وقد تضع بعض البنوك خيارات متعددة للعميل في نماذج التورق المنظم، بأن تخيره بين قبض السلعة بنفسه أو يوكل البنك أو طرفاً ثالثا له علاقة بالبنك ببيعها، وهذا التخيير في الواقع شكلي، لأن التورق المنظم إنما يقع في سلع يصعب على العميل قبضها أو التصرف فيها، ولهذا لو اختار العميل قبض السلعة فسيجد أمامه كثيراً من العقبات، أقلها أنه سيخسر في السلعة خسارة مضاعفة، مما يضطره حتماً إلى توكيل البنك أو من يختاره البنك في بيع السلعة.
التورق المصرفي. تاريخه:
التورق المصرفي وإن بدأ معاملة جديدة، إلا أنه امتداد وتطور للمرابحة سلباً، وكانت الريادة فيه للبنك الأهلي الإسلامي ثم تلتها البنوك ومعظمها فروع ونوافذ إسلامية لبنوك تجارية. فانطلق التورق المصرفي في البنك السعودي البريطاني في أكتوبر عام 2000م وفي بنك الجزيرة في آخر عام 2002م وفي التاريخ ذاته برز في البنك السعودي الأمريكي.
دوافع عملية التورق:
الغاية من التورق بالنسبة للأفراد، هو الحصول على السيولة النقدية، وهذا ما ذكرته صراحة إعلانات البنوك الإسلامية ومطوياتها.(1/4)
أما السبب الرئيسي الذي حدا بالمصارف والمؤسسات المالية لعمليات التورق فيتمثل غالباً في التحرر من قيود الميزانية العمومية حيث تقضي القواعد المحاسبية والمالية مراعاة مبدأ كفاية رأس المال، وتدبير مخصصات لمقابلة الديون المشكوك فيها، وهو ما يعرقل أنشطة التمويل بشكل عام ويبطئ بالضرورة من دورة رأس المال ويقلل بالتبعية من ربحية المصرف، والتورق في هذه الحالة يعد بديلا مناسباً، إذ يسح بتدوير جزء من الأصول السائلة Recycle/cash عن تورق أصوله غير السائلة الضامنة لديونه لدى الغير دون أن يحتم ذلك زيادة في الجزء المخصص للمخاطر في ميزانية المصرف، أي دون الحاجة لمخصصات مناظرة في الميزانية العمومية.
أساليب عملية التورق الجارية في المصارف:
1- استبدال الدين: إن تحقيق عملية التورق من خلال هذا الأسلوب يسمح باستبدال الحقوق والالتزامات الأصلية بأخرى جديدة، غير أنه يقتضي الحصول على موافقة جميع الأطراف ذات الصلة بالقرض على إمكانية تحويله كلياً أو جزئياً إلى ورقة سالبة.
2- التنازل عن الأصول لمصلحة الدائنين أو المقرضين، ويشيع استخدام هذا الأسلوب في تورق الذمم الناشئة عن بيع الأصول أو إيجارها، ففي عقدي الإيجار والبيع يتم الاستمرار في دفع الأقساط إلى الممول الأصلي الذي يقوم بدوره إما بتحويلها إلى مشتري الذمم المدينة أو تسديدها ضمن سلسلة من الحوالات متفق عليها عند التعاقد على التورق، وفي المقابل يقوم باسترداد المبلغ من المؤجرين.
3- المشاركة الجزئية من قبل الدائن الأصلي إلى مصرف متخصص بشراء الذمم وبتحويلها، فلا يتحمل بائع الدين بعدها أي مسؤولية إذا عجز المدين عن التسديد، لذا يجب على مشتري الدين التأكد من أهلية المدين وجدارته الائتمانية. ويلاحظ أن هناك طرقاً عديدة لحماية هذا المشتري تتراوح بين حصوله على ضمانة عقارية وحقوق إدارة الدين كوصي عليها.
حكم التورق:(1/5)
أجاز أكثر الفقهاء الصورة الأولى من التورق – التورق الحقيقي – إذا تحققت فيه الشروط الآتية:
1- أن يتملك البنك السلعة المشتراة ويتم قبضها من قبله قبل بيعها للعميل.
2- ألا يبيع العميل السلعة التي اشتراها من البنك إلا بعد قبضها القبض المعتبر شرعاً.
3- أن يبيع العميل السلعة لجهة لم تكن طرفاً في تحويلها له سواء كان الممول الأول أو الثاني لئلا يقع في العينة المحرمة شرعاً. فعلى هذا لو توسط مصرف في شراء سلعة من مؤسسة ممولة وباعها للعميل بالتقسيط فلا يجوز له بيعها إلى الجهة الممولة الأولى.
4- لا مانع من توكيل العميل البنك ليبيع تلك السلعة نيابة عنه إلى جهة ليست طرفاً في الصفقة التي يجري فيها التورق بشرط أن لا يكون البيع إلى العميل مشروطا بتوكيله البنك في البيع، بل تكون الوكالة مستقلة عن البيع وأن تقع بعد توقيع عقد الصفقة مع البنك.
دليل الجواز:
من الأدلة التي يستدل بها على جواز التورق الحقيقي ما يأتي:
1- أن السلعة قد يشتريها الإنسان لغرض مقصود بعين السلعة كالرجل الذي يشتري سيارة لغرض استعمالها، أو يكون غرضه أحياناً قيمة السيارة فيشتريها لأجل أن يبيعها ويتوسع بالثمن فهذا الغرض يماثل الغرض الأول، وهو قصد الانتفاع في الحالتين، ولا فرق بينهما.
2- إن البيع تم بأركانه وشروطه فيكون صحيحاً بمقتضى قول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا). (1)
__________
(1) ... سورة البقرة آية 257.(1/6)
3- إن التورق يختلف عن العينة التي هي ذريعة للربا، لأن العينة محرمة بسبب اشتراط عودة المبيع إلى صاحبها وزيادة المال له بسبب المال، فقد جاء في رواية عن أبن عباس أن رجلاً باع من رجل حريرة بمئة، ثم اشتراها بخمسين، فسئل أبن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة. (1) وهذا المعنى غير موجود في التورق (2)
هذه وجهة نظر جمهور أهل العلم فقد قال بالجواز مجموعة كبيرة من علماء الحنفية والمالكية والشافعية والمذهب عند الحنابلة. (3)
وقال بالجواز الكثير من الهيئات الرقابية الشرعية للمؤسسات المالية، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، وكذلك مجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي.
القائلون بمنع التورق وحجتهم:
روي عن الإمام أحمد رحمه الله انه قال بالكراهة وفي رواية أخرى انه قال بالتحريم وأختار القول الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
دليل من قال بالكراهة:
__________
(1) ... انظر فتاوى ابن تيمية 29/245
(2) ... الدكتور عبد الغني عبد الفتاح غنيم في بحثه (التوريق) والمنشور في الجزء الرابع من قضايا فقهية معاصرة تأليف نخبة من أساتذة الشريعة والقانون بالقاهرة.
(3) ... انظر رد المحتار على الدرر المختار 4/244 ، المبسوط 13/127 ، مواهب الجليل 4/393 ، حاشية الدسوقي 3/88 وما بعدها، روضة الطالبين 3/418، الأنصاف في معرفة الرابح من الخلاف 3/337، كشاف القناع 3/186.(1/7)
ما روي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه قال: يأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده قال ولم يؤمر بذلك، قال الله عز وجل (ولا تنسوا الفضل بينكم) (1) ويعز الأشرار ويستذل الأخيار ويبايع المضطرون. قال: وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وعن بيع الثمرة قبل أن تدرك. (2)
وجه الدلالة:
إن التورق هو بيع المضطر، يضطر فيه المحتاج إلى نقود إلى الشراء من الموسر سلعة، ثم يبيعها ليحصل على النقد الذي يحتاج إليه نظراً لمنع الموسر له من القرض وبيع المضطر منهي عنه شرعاً والنهي هنا للكراهة.
نوقش هذا الدليل بأن رواية النهي عن بيع المضطر لا تنهض حجة لأن في إسنادها رجل مجهول، ذكر ذلك الخطاب في معالم السنن (3) وقال ابن حزم عن الحديث بأنه مرسل ولا يجوز القول في الدين بالمرسل.
كما أن المعنى الذي من أجله منع بيع المضطر لا يظهر في التورق وبخاصة في تطبيقاته المصرفية، قال الخطابي في معنى بيع المضطر: يبيع المضطر ليكون على وجهين، أحداهما، أن يضطر إلى العقد عن طريق الإكراه عليه فلا ينعقد العقد، والثاني أن يضطر إلى البيع لدين أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة فسبيله من حيث المروءة أن لا يترك حتى يبيع ماله ولكن يعلن ويقترض ويمهل لتسديد الدين إلى الميسرة.
واستدل القائلون بالتحريم بما يأتي:
1- بما روي عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه سابقاً غير أنهم حملوا النهي الوارد في الأثر على التحريم.
__________
(1) ... سورة البقرة آية 237.
(2) ... مسند الأمام احمد 1/199، سنن أبي داوود 3/255 كتاب البيوع باب بيع المضطر.
(3) ... انظر 3/677.(1/8)
2- إن التورق لا يبعد عن بيع العينة، لأن مقصود مشتري السلعة الحصول على النقد، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: التورق أخيه الربا، أي أصل الربا، والمعنى الذي لأجله حرم الربا موجود بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه. (1)
3- ما روي عن ابن عباس أنه قال:إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد ثم بعت بنسيئة فذلك دراهم بدراهم.
ومعنى إذا استقمت إذا قومت السلعة، والله حرم أخذ الدراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل لما في ذلك من ضرر المحتاج وأكل ماله بالباطل. وهذا المعنى موجود في صور التورق. (2)
ويجاب على أدلة القائلين بالمنع بما يأتي:
إن التعليل من منع عملية التورق أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد، لا يصلح أن يكون ذلك سبباُ للتحريم أو الكراهة، لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المباعة هي الوسيلة لهذا الغرض.
كما أن نية العاقد لا أثر لها، فالنوايا لا يعلمها إلا الله عز وجل، فيحرم البيع إذا لم تتحقق الصورة الشرعية ويجوز بتحققها، يشهد لذلك ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب (والجنيب هو الطيب والجمع هو الرديء) فقال له أكل تمر خيبر هكذا؟ قال يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة، فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تفعل بع الجمع ثم ابتع بالدراهم جنيباً. إذ أن مبادلة التمر بالتمر يشترط فيها التساوي لأن التمر من الأموال الربوية التي وردت في حديث الأصناف الستة. ففي الخبر دليلٌ على تغيير صورة العقد من الحرمة إلى الحل، مع أن الغرض والقصد في كلتا الحالتين واحد.
__________
(1) ... انظر فتاوى ابن تيمية 29/236، أعلام الموقعين 3/22.
(2) ... انظر مجموعة فتاوى ابن تيمية 29/237 ، 242.(1/9)
من هنا يترجح لنا رأي القائلين بالجواز. والله أعلم
حكم التورق المصرفي المنظم:
ذكرنا فيما سبق أن السلعة في التورق المنظم لا يتم قبضها من قبل العميل الراغب في الشراء ولا من قبل البنك أحياناً. فربما يقوم العميل بتوكيل البنك مسبقاً بشراء السلعة وبيعها نيابة عنه قبل أن تتم الصفقة بينه وبين البنك، وأحيانا يخول البنك الجهة البائعة للسلعة ببيعها لصالح العميل وقبض ثمنها وتسليمه إليه.
والأغلب كما ذكرنا فيما مضى أن التورق المنظم يجري في السلع الدولية كالمعادن وقد يكون في السلع المحلية كالحديد والأرز والمكيفات والسيارات وغيرها. وقد ذهبت أكثر المجامع الفقهية وهيئات الرقابة الشرعية إلى تحريم هذا النوع من التورق، معللين ذلك بما يأتي:
1- إن العقد المذكور من العقود التي تنضوي تحت الربا، فالعميل لم يقبض من البنك إلا نقوداً، ومن ثمّ يرد تلك النقود بعد أجل بزيادة، فحقيقة المعاملة، قرض من البنك للعميل بفائدة، والسلعة المسماة في العقد جيء بها لإضفاء صفة الشرعية على العقد. ولهذا فإن العميل لا يرى السلعة ولا يعلم حقيقتها ولا يساوم في بيعها، لأنها غير المقصودة أصلاَ، وإنما المقصود من المعاملة هو النقود، ويقتصر دور العميل على التوقيع على أوراق يزعم فيها أنه ملك السلعة ثم بيعت لصالحه ومن ثمّ أودع ثمنها في حسابه.
2- إن هذا العقد يؤدي إلى العينة الثلاثية وهي محرمة، ففي السلع المحلية كالسيارات مثلا، يشتري البنك السيارة من المعرض ثم يبيعها على العميل بالأجل ثم يوكل العميل المعرض ببيعها ثم يبيعها المعرض على البنك وبعد ذلك يقوم البنك ببيعها على عميل آخر، وهكذا تدور أوراق السيارات مرات عديدة بين البنك والعميل والمعرض، والسيارة ما تزال في مكانها لم تتحرك. مما يؤكد أن المعاملة هي عبارة عن مبادلة مال بمال وإن السلعة أدخلت حيلة.(1/10)
3- إن كلاً من البنك والعميل يبيع السلعة قبل قبضها، وفي حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه مرفوعاً "ابن أخي إذا ابتعت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه (1) " وقبض صورة من شهادة الحيازة للمعدن أو صورة من البطاقة الجمركية للسيارة لا يكفي في تحقيق القبض الشرعي، لأن الصورة لا تعد وثيقة بالتملك، بل المشاهد أن المعرض الذي يتعامل مع البنوك في التورق المنظم يبيع السيارة الواحدة في وقت واحد لعدة بنوك، دون أن يحصل القبض المطلوب شرعاً. وتوكيل البنك أو المورد الأول بالقبض لا يصح أيضاً، لأن كل منهما بائع، فالسلعة مقبوضة له أصلاً، فلو صح توكيله لم يكن لاشتراط القبض أي معنى.
لهذا كله يترجح لي رأي القائلين بتحريم التورق المصرفي. والله أعلم
حكم التورق العكسي أو المرابحة العكسية:
المقصود بالتورق العكسي ويسمى أيضاً بالمرابحة العكسية، والصورة الشائعة لهذه المعاملة تقوم على ما يلي:
1- توكيل العميل (المودع) المصرف في شراء سلعة محددة، وتسليم العميل للمصرف الثمن حاضراً.
2- ثم يقوم المصرف بشراء السلعة من العميل بثمن مؤجل وبهامش ربح يجري الاتفاق عليه.
وتجري بعض المصارف هذه المعاملة في الوقت الحاضر تحت أسماء عديدة منها:
المرابحة العكسية والتورق العكسي أو مقلوب التورق، والاستثمار المباشر والاستثمار بالمرابحة، ونحوها من الأسماء المحدثة أو التي يمكن أحداثها.
ولدى النظر في هذه الصورة من التورق لا نجد فرقاً بينها وبين التورق المنظم، والذي سبق أن بينّا وجهة نظر الفقهاء المعاصرين فيه. والجزم بحرمته. وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، يقضي بحرمة التورق العكسي، معللاً ذلك بما يلي:
1- إن هذه المعاملة مماثلة لمسألة العينة المحرمة شرعاً، من جهة كون السلعة المبيعة ليست مقصودة لذاتها فتأخذ حكمها، خصوصاً أن المصرف يلتزم للعميل مسبقاً بشراء هذه السلعة منه.
__________
(1) ... رواه الإمام أحمد.(1/11)
2- إن هذه المعاملة تدخل في مفهوم (التورق المنظم) وما علل به منع التورق المصرفي من علل يوجد في هذه المعاملة.
3- إن هذه المعاملة تنافي الهدف من التمويل الإسلامي القائم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي بما يعزز النمو والرخاء الاقتصادي.
وما ذهب إليه المجمع المذكور هو المختار لدي.
التوريق، حقيقته، حكمه:
إتماماً لفائدة البحث أبين حقيقة التوريق الذي تتبناه بعض المصارف الإسلامية ووجهة نظر فقهاء المسلمين فيه.
وقد سبق لنا أن ذكرنا الفرق بينه وبين التورق. والتوريق كما قلنا هو عبارة عن جعل الدائن دينه المؤجل في ذمة الغير – في الفترة ما بين ثبوته في الذمة وحلول أجله – صكوكاً قابلة للتداول في سوق ثانوية، فالدائن ليس في حاجة إلى المال، فهو يستفيد بحقه الذي في ذمة الغير بأن يستثمره عن طريق التوريق، ولذا سمي بالتوريق من التفعيل.
فالدائن في هذه المعاملة يصبح ذا نقود سائلة بعد أن كان مجرد صاحب دين مؤجل في ذمة الغير، وكذا كل من انتقلت إليه ملكية ذلك الصك، وتوريق الديون، تصكيكها على أساس خلق أوراق مالية قابلة للتداول. ولما كان الدين هو ما ثبت في الذمة، فيشمل النقود والأشياء الموصوفة في الذمة، ويجب أن نفرق بين نوعين من الديون، الدين النقدي والدين الموصوف في الذمة.
توريق الدين النقدي:(1/12)
وهذا النوع من التوريق لا يكون إلا إذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل نقدياً، وتوريق مثل هذا الدين، هو من باب بيع الدين لغير من هو عليه، لأن الدائن بتوريقه الصك قد باعه لغير من عليه الدين بثمن معجل أقل من القيمة المدونة بالصك سواء تم بيعه بثمن من جنس الدين أو من غير جنسه. ففي توريق الدين بثمن معجل أقلّ ومن جنس الدين، يحقق ربا الفضل والنساء، وبتوريقه بثمن من غير جنسه يتحقق ربا النساء، وذلك ما قرره العلماء، حتى المالكية الذين أجازوا بيع الدين لغير من عليه الدين اشترطوا شروطاً للجواز، ومن هذه الشروط وقوع التقابض وهذا منتفٍ هنا، فيكون توريق الدين النقدي ممنوعا لاشتماله على الربا.
والبديل الشرعي للتوريق هو حوالة الحق، يؤيد ذلك ما جاء في الموطأ عن الأمام مالك قال: وإنما نهى سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابن شهاب عن أن لا يبيع الرجل حنطة بذهب إلى أجل، ثم يشتري بالذهب تمراً قبل أن يقبض الذهب من بائعه الذي اشترى منه الحنطة، فأما أن يشتري بالذهب الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمن التمر فلا بأس بذلك. (1)
توريق الدين الموصوف في الذمة:
ويكون الدين الموصوف في الذمة محددا بمواصفات مانعة من الجهالة والغرر طبقا لمقاييس ومعايير دقيقة معروفة، سواء كانت من المنتجات الزراعية كالحبوب أو الحيوانية كالألبان ومشتقاتها أو غير ذلك من المواد الأخرى، وقد قامت المؤسسات المالية الإسلامية بجعل قيمة تلك العروض التجارية على شكل صكوك أو أسهم، تسمى صكوك المضاربة.
__________
(1) ... انظر: الموطأ للإمام مالك 2/499(1/13)
وإذا كان صك المضاربة أو السهم فيها، يمثل حصة شائعة من وعاء المضاربة، ونظراً لأن وعاء المضاربة قد يكون خليطاً من سلع عينية وديون مرابحات، فإن لكل حالة من هذه الحالات حكماً شرعياً يختلف عن غيرها. وذلك على النحو التالي:
الحالة الأولى: إذا كان وعاء المضاربة سلعاً عينية، فيجوز بيعها بنقود معجلة سواء أقلّ من قيمتها أو أكثر أو مساوية، لأن ذلك من قبيل بيع الأعيان وهي الحصة الشائعة في وعاء المضاربة بالنقود المعجلة، وهذا جائز. لعدم انطوائه على شيء من الغرر أو شبهة الربا.
الحالة الثانية: إذا كان وعاء المضاربة ديون مرابحات مؤجلة، وفي هذه الحالة لا يجوز توريق هذه الديون بنقود معجلة اقلّ من مقدار الديون المؤخرة. فحكم هذه الحالة هو حكم توريق الدين النقدي.
الحالة الثالثة: إذا كان وعاء المضاربة خليطاً من سلع عينية وديون مرابحات مؤجلة، ونظراً لأنه قد تكون للسلع أكثر من ديون المرابحات المؤجلة، أو العكس يجب التفرقة بين هاتين الصورتين:
الصورة الأولى: إذا كانت الأعيان أو السلع أكثر من قيمة الدين، ففي هذه الحالة يجوز بيع أو توريق الأسهم التي تمثل هذه السلع وهذه الديون. لأن للأكثر حكم الكل ويغتفر في التوابع مالا يغتفر في غيرها.
الصورة الثانية: إذا كانت ديون المرابحات أكثر من قيمة السلع. فلا يجوز توريق مثل هذه الديون. إذ الأقل لا يزاحم الأكثر، ولأن إقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع.
وإذا كان توريق الدين النقدي الثابت في الذمة المؤجل ممنوعاً، فيمكن سلوك طريق حوالة الحق الذي سبق وأن حكينا عن الأمام مالك جوازه، فيعتبر ذلك البديل الشرعي لهذه الصورة من التوريق. (1)
الخاتمة
في ختام بحثنا لموضوع التورق حقيقته، أنواعه. أود أن أبين أهم النتائج التي توصلت أليها من خلال البحث.
__________
(1) ... انظر التوريق بحث للدكتور عبد الغني عبد الفتاح غنيم . مرجع سابق,(1/14)
أولاً: هناك فرق بين التورق والتوريق، كما أن هناك فرقاً بين العينة والتورق.
ثانياً: إن المصارف الإسلامية تجري نوعين من عقود التورق، التورق الحقيقي والتورق المصرفي المنظم.
ثالثا: ذهب أكثر الفقهاء القدامى والمعاصرين إلى جواز الصورة الأولى من التورق، لخلوها من شائبة الربا وعدم انضوائها تحت أي صورة من صور بيوع العينة.
أما الصورة الثانية. فقد ذهبت أكثر المجامع الفقهية المعاصرة إلى تحريمها. لوجود شبهة الربا فيها فحقيقة هذه المعاملة هي قرض من البنك للعميل بفائدة والسلعة المسماة في العقد إنما جيء بها حيلة لإضفاء الصفة الشرعية على العقد. كما أن هذا العقد يؤدي إلى العينة الثلاثية، وهي محرمة عند أكثر الفقهاء.
وقد اخترت هذا الرأي لما ظهر لي رجحانه ورجحان أدلته
رابعاً: وقد ظهر لي كذلك من خلال البحث أن ما يسمى بالتورق العكسي أو المرابحة العكسية. حرمة هذه المعاملة أيضاً. لأن هذه المعاملة تدخل في مفهوم (التورق المنظم) الذي اخترنا قول من قال بحرمته.
خامساً: وأخيرا يتبين لي أن التوريق الذي هو عبارة عن جعل الدائن دينه المؤجل في ذمة الغير صكوك قابلة للتداول في سوق ثانوية. ويجري على طريقتين، طريقة لا خلاف في تحريمها لانطوائها على ربا الفضل والنساء، ولأنه عبارة عن بيع الدين بثمن معجل أقل من القيمة المدونة بالصك.
والطريقة الثانية، هو توريق الدين الموصوف في الذمة والصكوك المتداولة غالباً ما تكون قيمة لعروض تجارية سواء كانت مثلية أو قيمة. وقد اختلف العلماء في حل هذه الصورة أو حرمتها. وقد اخترت رأي القائلين بجواز هذه الصورة. والله أعلم.
وأخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين
مراجع البحث
1- ... شرح صحيح مسلم، محي الدين بن شرف النووي، بيروت – دار الكتب العلمية.
2- ... مسند الأمام أحمد بن حنبل- الناشر المكتب الإسلامي- بيروت ودمشق الطبعة الرابعة سنة1403هـ.(1/15)
3- ... روضة الطالبين – يحيى بن شرف النووي – بيروت المكتب الإسلامي – الطبعة الثانية سنة1045هـ.
4- ... الإنصاف، أبو الحسن المرداوي – تحقيق عبدالله التركي – مصر، مطبعة هجر الطبعة الأولى سنة1415هـ.
5- ... تبيين الحقائق، عثمان بن علي الزيلعي – مصر مطبعة بولاق الطبعة الأولى 1313هـ.
6- ... تحفة المحتاج، ابن حجر الهيثمي – بيروت دار صادر.
7- ... حاشية الدسوقي على الشرح الكبير – محمد بن عرفة الدسوقي – مصر – مطبعة عيسى البري الحلبي.
8- ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية – دار الحديث- القاهرة.
9- ... كشاف القناع على متن الإقناع – مكتبة النصر.
10- ... لسان العرب لأبن منظور الأفريقي – دار إحياء التراث – بيروت الطبعة الأولى 1408 هـ مادة ورق.
11- ... الموسوعة الفقهية الكويتية مادة تورق.
12- ... قضايا فقهية معاصرة – تأليف نخبة من أساتذة الشريعة والقانون بالقاهرة – الجزء الرابع 1422هـ .
13- ... الاقتصاد الإسلامي – دراسة وتطبيق، إبراهيم فاضل الدبو، الناشر دار المناهج –عمان – الأردن 2007م.
14- ... إعلام الموقعين عن رب العالمين ابن القيم الجوزية – إدارة المطبعة المنبرية / القاهرة.
15- ... رد المحتار على الدر المختار- للشيخ محمد أمين بن عمر بن عبدالعزيز الدمشقي الشهير بابن عابدين – مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر1966م.
16- ... المبسوط – للإمام شمي الدين محمد بن سهل السرخسي المتوفى سنة 384هـ مطبعة السعادة بمصر 1324هـ.
17- ... معايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية الإسلامية 1424هـ 2003م.
18- ... مغني المحتاج إلى معاني ألفاظ المنهاج – للشيخ محمد بن أحمد الشربيني الخطيب المتوفى 977هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1377هـ 1958.
19- ... المغني لأبن قدامة – أبي محمد بن عبدالله أحمد بن محمد بن قدامة على مختصر أبي القاسم عمر بن حسين بن عبدالله أحمد الخرقي – مطابع سجل العرب.(1/16)
20- ... بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني – مطبعة الإمام بالقاهرة.
21- ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي- مكة المكرمة.(1/17)