...
الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
التورق الفردي
والتورق المصرفي( المنظم)
إعداد
د. حسين كامل فهمي
الباحث بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
بالبنك الإسلامي للتنمية سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
... بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
تهدف هذه الورقة إلى بيان الرأي الشرعي والاقتصادي فيما يعرف بالتورق الفردي، والتورق المصرفي اللذين انتشر التعامل بهما بين الناس مؤخرا، مع استعراض أهم الآثار التي قد تتعرض لها البنوك الإسلامية من جراء تطبيقها له، خاصة في ظل الوضع الحالي الذي تتعرض فيه هذه البنوك لحملات تشكيك مكثفة بسبب عدم ارتياح شريحة عريضة من المراقبين الشرعيين والمصرفيين والعملاء لنوعية الأدوات المصرفية التي تستخدمها تلك البنوك حاليا بما فيها هذا النوع الجديد.
وتبدأ هذه الورقة في الجزء الأول منها بمزيد من التعريف بمعنى التورق، والتورق المصرفي (المنظم) من الناحية اللغوية والشرعية. ثم يتلو ذلك في الجزء نفسه استعراض للجوانب الشرعية المتعلقة بصيغة التورق الفردي بالاستعانة بأقوال الفقهاء الواردة في كتب الفقه حول هذا الموضوع، مع بيان رأي الباحث في هذا الشأن.(1/1)
أما الجزء الثاني من البحث فيستعرض فيه الباحث الأنواع المختلفة لأدوات التورق المصرفي(المنظم)، مع بيان كيفية التطبيق العملي لكل نوع من هذه الأنواع على المستوى المؤسسي(المصارف)، بعد أن طوره بعض الاقتصاديين المعاصرين في شكل أدوات مصرفية جديدة وهي: التورق المصرفي المباشر ـ التورق المصرفي العكسي ـ بطاقة الائتمان القائمة على التورق، والتي بدأت البنوك الإسلامية في استخدامها جميعا مؤخرا مع عملائها لتوفير السيولة النقدية اللازمة لهم ولها. كما يبين أهم المزايا الاقتصادية والعملية التي قد يتوقع السادة العلماء من الفقهاء والاقتصاديين المقترحين لهذه الأدوات، أن تعود على البنوك وعملائها وكذا على الاقتصاد القومي للدولة الإسلامية من جراء استخدام هذه الأدوات.
أما الجزء الثالث من الورقة فيجيب الباحث فيه على عدد من الأسئلة المهمة التي تمهد الطريق لبيان الحكم الشرعي على هذه الأنواع المختلفة من التورق. مع بيان الآثار المركبة المتوقع ترتبها على استخدام البنوك الإسلامية لتلك الأدوات خلال المرحلة الحالية من حياتها العملية. ويتخلل هذا الجزء عرض غير مباشر للأسباب الجوهرية لحملات الاعتراض التي صاحبت استخدام البنوك الإسلامية للأدوات المصرفية الأخرى التي تشترك في جوهرها مع أدوات التورق سالفة الذكر في أسلوب البيع للآمر بالشراء(المرابحة ـ المشاركة المتناقصة ـ الإجارة المنتهية بالتمليك ـ الاستصناع). ويبين الباحث في هذا الشأن ما يتوقع ترتبه على هذا الاستخدام من آثار سلبية في ظل استمرار البنوك الإسلامية في التربح من وراء نشاط منح الائتمان الذي تقوم به من خلال تلك الأدوات جميعا، ومن ضمنها بطبيعة الحال أدوات التورق المختلفة التي تشكل الموضوع الأساسي لهذه الورقة.
... أما الجزء الرابع والأخير فيبين أهم النتائج والاستنتاجات والتوصيات التي خلص إليها الباحث من بحثه.(1/2)
... والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير .
الجزء الأول
التورق الفردي والتورق المصرفي(المنظم)
التعريف بالتورق :
الوَرِق بكسر الراء وفتحها لغة: الدراهم المضروبة من المال وكذا الرِّقَة. ويقال استورق الرجل أي طلب الورق فهو مستورق. ويقال رجل ورٌَاق أي كثير الدراهم، وفي الحديث في الرقة ربع العشر (1) .
... واصطلاحا، يقصد بالتورق الفردي : طلب شخص للنقود السائلة من خلال شرائه لسلعة من شخص آخر (البائع) بثمن مؤجل، وتملكه لها ، ثم قيامه(المشتري) ببيعها نقدا بسعر أقل لشخص ثالث (غير البائع)، للحصول على النقد السائل لتمويل حاجات أخرى مختلفة.
... أما التورق المصرفي المباشر: فيقصد به طلب الأفراد للنقود السائلة من خلال إعطاء أمر للبنك لشراء سلع مطروحة في الأسواق العالمية أو المحلية، ثم بيعها للعميل بسعر آجل. ثم يوكل العميل البنك ليبيعها نيابة عنه بسعر حال لشخص ثالث.
... وأما التورق المصرفي العكسي: فيقصد به طلب البنوك الإسلامية للنقود السائلة من عملائها، من خلال توسيط عمليات تقوم بها البنوك لصالح العملاء، لشراء بعض السلع من الأسواق العالمية أو المحلية، بسعر حال، ثم بيعها للبنك بسعر آجل. على أن يتصرف فيها البنك بعد ذلك بالبيع لشخص ثالث.
وقد توسع العمل بهذه الأدوات جميعا لدى مجموعة من البنوك الإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية. وسيأتي مزيد من التفصيل عن كل نوع من هذه الأدوات بعد ذلك.
ويرى بعض الفقهاء اختلافا بين بيع التورق بصفة عامة و بيع العينة. ولبيان الفرق بينهما سنكتفي في هذه الفقرة بالإشارة إلى المعنى المبسط الذي أورده بعض الفقهاء لبيع العينة وكذلك الأحاديث التي أخرجها المحدثون بشأنه، على أن نتناول المعاني الأخرى التي وردت بشأن هذا النوع من البيوع بمزيد من التفصيل في فقرات تالية عند تناول موضوع التورق المصرفي المنظم لأهمية تعلقه بها.
__________
(1) ... مختار الصحاح: 1/299.(1/3)
فبيع العينة في أبسط صوره يقصد به: أن يبيع الرجل سلعة لرجل آخر بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بعقد آخر بثمن أقل نقدا (1) .
... أما الأحاديث التي وردت بشأن النهي عن بيع العينة، فهي كالتالي:
1 ـ ... عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ قَالَ أَبُو دَاوُد الإِخْبَارُ لِجَعْفَرٍ وَهَذَا لَفْظُهُ (2) .
2 ـ ... عن أبي إِسْحَاقْ عَنْ امرَأَتِهِ عَالِيَةِ بِْنتُ انْفَعْ : أَنَهَا دَخَلتْ مَعَ امرَأِةِ أَبِي السَفَرَ على عَائِشَةٍ فذَكَرَتْ لعَائشةٍ بْيعَا بَاعَتْهُ مِنْ زَيْدِ بنْ أَرْقَمْ بِكَذَا أوْ كَذَا إِلى العَطَاءِ ، ثم اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَقَلِ مِنْ ذَلِكَ . فقَالَتْ عَائَِشةُ رضِيَ اللهُ عَنْهَا : بِئْسَ ما شَرَيتِ و بِئسَ ما اشْتَرَيْتِ ، أخبِرِي زَيْدَ بنِ أَرْقَمِ أنَّ اللهَ عز وجلَ قَد أبَطَلَ جَِهادَهَ مع رَسْولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَ سَلِمْ إلاَّ أنْ يَتُوب (3) .
أحاديث وأخبار أخرى مساندة:
3 ـ ... حديث أبي هريرة قال : " نَهَى رَسُولُ اللهِ صََلٌَى اللهُ عَلَيهِ وسلٌََََمَ عْن بَيْعَتَينِ فِي بَيْعَةِ" (4) .
__________
(1) ... انظر على سبيل المثال ابن قدامة: المغني:4/132 ـ السبكي: تكملة المجموع: 10/124.
(2) ... رواه أبو داود : باب البيوع : 3/274، البيهقي: باب كراهية التبايع بالعينة: 5/316 ، الطبراني: 12/432 ، وأحمد : 2/84 ، وأبو يعلي : 10/29.
(3) ... َرواه الدارقطني ،كتاب البيوع :3/52، والبيهقي : 5/ 331 .
(4) ... رواه الترمذي 3/533 و ابن حبان:11/347 و البيهقي في سننه: 5/384.(1/4)
4 ـ ... حديث معاذ بن معاذ عَنْ ابْنِ عون ، قَالَ ذَكَرُوْا عِنْدَ مُحَمَدٍ العِيْنْةَ فقَالَ نُبِئْتُ أَنَّ ابْنَ عَبَاسٍ كَانَ يَقُولُ: دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وبَيْنَهُمَا حَرِيْرَةٌ (1) .
5 ـ ... حديث الذي رواه الترمذي عبد الله بن عمرو : حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ حَتَّى ذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلا رِبْحُ مَا لَمْ تَضْمَنْ وَلا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (2) .
وهكذا فإن المقصد الأساسي من كلا البيعتين في جميع الأحاديث المشار إليها آنفا ليس الانتفاع بالسلعة المتبادلة بين الأطراف المتعاقدة، وإنما هو الحصول على تمويل نقدي لمقابلة بعض الاحتياجات الأخرى. إلا أن بعض الفقهاء ممن يجيز بيع التورق الفردي(الحنابلة والأحناف) يفرق بينه وبين بيع العينة من حيث إن الثاني ينحصر بين طرفين اثنين(البائع والمشتري) فقط، بحيث يتم تبادل السلعة بينهما من خلال عقدين متلازمين يتم توقيعهما على مرحلتين. أما التورق فيتم بين ثلاثة أطراف، البائع والمشتري(المستورق)، وطرف ثالث (مشتر ثان) تؤول السلعة إليه أيضا من خلال عقدين متلازمين يتم توقيعهما على مرحلتين.
__________
(1) ... رواه أبن أبي شيبة في مصنفه : 4/282.
(2) ... رواه الترمذي ( البيوع ) ، و النسائي ( البيوع ) ، و أحمد ( مسند المكثرين من الصحابة ) ، و أبو داود ( البيوع ) ، و ابن ماجة (التجارات ) . و قال عنه الترمذي حديث صحيح. و قد رواه مالك موصولا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده انظر : ابن حجر العسقلاني ( تلخيص الحبير : 2/17).(1/5)
وأما التطبيق المعاصر لبيع التورق فيمكن بحثه في إطار أربعة أشكال، أحدهم غير مؤسسي وهو ما قد يتم بين الأفراد بعضهم مع بعض، وسيتم التعرض له في هذا الجزء، أما الثلاثة أشكال الباقية فيتم تطبيقها جميعا في إطار مؤسسي منظم من خلال البنوك وسيلي عرضها في الجزء الثاني من البحث. وفيما يلي عرض مفصل للشكل الأول من هذه الأشكال، وبيان الرأي الشرعي فيه:
نموذج التورق على المستوى الفردي
وهو كما سبقت الإشارة إليه على سبيل المثال: أن يرغب رجل في الحصول على مبلغ مائة ريال نقدا فيذهب إلى تاجر ويطلب منه شراء سلعة تساوي مائة ريال في السوق، على أساس تأجيل الثمن وتقسيطه، فيبيعه التاجر السلعة المطلوبة بمائة وخمسين نسيئة، فيأخذها الرجل ويبيعها إلى شخص ثالث، أو في السوق بصفة عامة بمائة، فيتحصل له المبلغ النقدي الذي أراده.
... وفيما يلي أمثلة لبعض أقوال العلماء من المذاهب المختلفة حول هذا الموضوع:
1 ـ الأحناف:
... يقول ابن عابدين في حاشيته في كلامه عن بيع العينة : أن يأتي الرجل إلى تاجر فيطلب منه القرض، ويطلب التاجر منه الربح ، ويخاف من الربا فيبيعه التاجر ثوبا يساوي عشرة مثلا بخمسة عشر نسيئة، فيبيعه هو في السوق بعشرة فيحصل له العشرة، ويجب عليه للبائع خمسة عشر إلى أجل (1) .
... ويقول أيضا : ومن صورها(أي العينة): أن يعود الثوب إليه(أي إلى التاجر)، كما إذا اشتراه التاجر في الصورة الأولى من المشتري الثاني، ودفع الثمن إليه ليدفعه إلى المشتري الأول، وإنما لم يشتره من المشتري الأول تحرزا من شراء ما باع بأقل مما باع (2)
__________
(1) ... ابن عابدين : الحاشية :5/325.
(2) ... ابن عابدين : نفس المرجع السابق.(1/6)
... ويتبين من ذلك أن الأحناف لم يتناولوا موضوع بيع التورق بصفة مباشرة أو مستقلة، وإنما أدرجوه كأحد النماذج التي أشاروا إليها عند كلامهم عن بيع العينة في كتبهم المعتمدة. وفرقوا في الحكم بين الحالتين المشار إليهما في هذا المثال، فجعلوا العينة خاصة بالحالة التي تعود فيها السلعة إلى البائع الأول (النموذج الثاني) فحكموا عليها بكراهة التحريم. أما النموذج المشابه للتورق( النموذج الأول) والخاص بحالة إذا تصرف طالب النقود في السلعة بالبيع لطرف ثالث من السوق، فحكموا عليها بأنها خلاف الأولى لتراجع احتمالات نية التواطؤ على التعامل الربوي. ويتضح هذا مما أشار إليه ابن عابدين في الحاشية إلى قول محمد رحمه الله : " إن الذي يقع في قلبي أنه إن فُعِلَت: صُورَةٌ يعود فيها إلى البائع جميع ما أخرجه أو بعضه، كعود الثوب إليه في الصورة المارة، وكعود الخمسة في صورة إقراض الخمسة عشر، فيكره، يعني تحريما. فإن لم يعد، كما إذا باعه المديون في السوق فلا كراهة فيه، بل خلاف الأولى (1) ".
2 ـ المالكية:
قال العلامة عليش: " قال ابن حبيب: إذا اشترى طعاما أو غيره على أن ينقد بعض ثمنه ويؤخر بعضه إلى أجل، فإن كان اشتراه ليبيعه كله لحاجته لثمنه، فلا خير فيه، وكأنه إذا باعه بعشرة نقدا وعشرة إلى أجل قال خذه فبع منه بما تريد أن تنقدني، وما بقي فهو لك ببقية الثمن إلى الأجل، وإنما يعمل هذا أهل العينة. وهو قول مالك رضي الله تعالى عنه فروجع فيه غير مرة فقال: أنا قلته، قاله ربيعة وغيره قبلي. ونزٌَل ابن لبابة ما جاء في ذلك من الجواز والمنع على التفريق بين أهل العينة وغيرهم فجوز في غير أهل العينة ومنع في حقهم (2) .
3 ـ الشافعية:
__________
(1) ... ابن عابدين: الحاشية: 5/326.
(2) ... العلامة عليش : منح الجليل: 2/605.(1/7)
يمكن الاستدلال على رأي لفقهاء الشافعية بشأن بيع التورق في ضوء ما جاء في أقوالهم عن واقعة معينة مركبة وهي إبرام شخص لعقد شراء سلعة ما بسعر آجل يدفعه للبائع و يقبض على أثره تلك السلعة، ثم يعاود بيعها بعقد آخر لنفس البائع الذي اشتراها منه ـ أو لشخص ثالث ـ ولكن بسعر أقل. وهنا يجب التوضيح والتفصيل فيما قد يبدو للبعض اختلافا في الرأي بين ما يقول به الإمام الشافعي رحمه الله في هذا الشأن في كتابه الأم، وهو الجواز، وبين الرأي المعتمد والمعمول به في المذهب بالنسبة لبيع العينة ـ وفقا لما هو وارد بالكتب المعتمدة في المذهب ـ وهو الكراهة.
أما بالنسبة لقول الإمام الشافعي رحمه الله فينبني على أصل من أصول مذهبه، وهو أن الآثار المترتبة على العقود تتوقف على ما تعكسه ظاهر النصوص الواردة فيها، دون محاولة البحث عن المقاصد أو النوايا التي قد تكون كامنة في صدور المتعاقدين. وبالتالي إذا باع الرجل سلعة لرجل آخر بثمن مؤجل، ثم اشتراها منه بثمن أقل نقدا، فكلا البيعين جائز عنده لاستقلال كل منهما عن الآخر، ولا ينظر على أنهما عقدين مرتبطان ببعض، إلا إذا ورد شرط صريح منصوص عليه في أحد منهما أو في كليهما يفيد هذا الربط. والدليل على ذلك هو أن كلا العقدين يندرج تحت عموم الآية الكريمة : وأحلٌ اللهُ البَيْعَ وحَرٌَمَ الرٌِبَا ( البقرة: 85). فهذه الآية عامة تتناول كل بيع، إلا ما خرج بدليل يفيد عدم الجواز. فإذا لم يكن هناك دليل يخرج العقد عن صفة الجواز فهو باق على حليته.
ويقول الإمام الشافعي في هذا الشأن في كتاب الأم: " فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة فقبضها وكان الثمن إلى أجل فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه ـ ومن غيره ـ بنقد أقل أو أكثر مما اشتراها به أو بدين كذلك، أو عرض من العروض ساوى العرض ما شاء أن يساوي، وليست البيعة الثانية من البيعة الأولى بسبيل" (1) .
__________
(1) ... الأم : 6/252.(1/8)
... أما بالنسبة لرأي أصحاب الشافعي رحمه الله، فيقول الإمام شمس الدين الرملي في نهاية المحتاج عن أنواع البيوع : " والبيع ينقسم إلى الأحكام الخمسة : فقد يجب ، كما لو تعين مثل مال اللاوي أو المفلس ، 00000، وقد يكره كبيع العينة وكل بيع اختلف في حله كالحيل المخرجة من الربا، وكبيع دور مكة (1) ". ويقول الشربيني الخطيب في مغني المحتاج : "وأما المكروه فكبيع دور مكة ، والبيع ممن أكثر ماله حرام أو فيه حرام، 0000، وبيع العينة ". وكذلك أورد ابن حجر الهيتمي مثله بنفس اللفظ في تحفة المحتاج (2) . ويقول الإمام النووي رحمه الله في الروضة : "ويكره بيع العينة (3) " ( روضة الطالبين : 3/419).
... أما قول الإمام الشافعي رحمه الله بالجواز في كتابه "الأم" كما سبق بيانه، وكذلك قول الإمام النووي في نفس كتابه الروضة : " ليس من المنهي بيع العينة (الروضة:3/416)، فيوضحه بالتفصيل الإمام السبكي في تكملة المجموع بقوله: " أكثر أصحابنا أطلقوا الجواز في ذلك ولم يبينوا هل المراد الجواز مع الكراهة أو بدونها، وقد صرح الروياني في البحر وابن عصرون في الانتصار والنووي في الروضة بالكراهة في ذلك، ونقله ابن عبد البر عن الشافعي، وقال النووي: إن دلائل الكراهة أكثر من أن تحصى، والصواب ما تقدم، وأنه متى كان مقصودا كره، سواء اعتاده أو لم يعتده، أما إن جرى ذلك بغير قصد للمكروه ولا عادة، كقصة عامل خيبر، فينبغي الجزم بعدم الكراهة. والحاصل أنها مراتب:
... الأولى : أن يجري ذلك بقصد المكروه من أهل التهمة (أهل العينة) ، فهو حرام عند المالكية ، جائز عندنا مع الكراهة.
__________
(1) ... الرملي: ناهاية المحتاج 3/477.
(2) ... ابن حجر الهيثمي: تحفة المحتاج بشرح المنهاج: 4/323.
(3) ... الإمام النووي: روضة الطالبين: 3/419 .(1/9)
... الثانية: أن يجرى من غير قصد للمكروه، ولا يكون الشخص ممن تتطرق إليه التهمة كقصة عامل خيبر، فالذي ينبغي الجزم به عدم الكراهة، فإنه لغرض صحيح وهو التخلص من الربا.
... الثالثة: أن يجري بقصد المكروه من غير أهل التهمة فيكره عندنا (1) .
... وأضاف الإمام السبكي أيضا بأن كل هذه الأحكام مرهونة بحالة إذا لم يكن هناك شرط في العقد يفيد الربط بين العقدين. فيقول رحمه الله: " فإن فُرِضَ الشرطَ مقارنا للعقد بطل بلا خلاف، وليس محل الكلام، وإنما محل الكلام فيما إذا لم يكن مشروطا في العقد، وذلك من الواضحات( السبكي: نفس المرجع السابق: 10/130).
وهكذا فإن كل ما جاء في قول فقهاء الشافعية بالنسبة لبيع العينة، وهو الجواز مع الكراهة، مع تحريم ذلك في حالة ثبوت شرط صريح يربط بين العقدين، يمكن أن ينطبق على بيع التورق الفردي اتباعا لما تفرضه أصول المذهب، وكذا من منطلق قياس الأولى، حيث يتم انتقال السلعة بين ثلاثة أفراد بدلا من فردين كما في حالة عقد العينة.
4 ـ الحنابلة:
__________
(1) ... السبكي: تكملة المجموع 10/132.(1/10)
يقول الإمام البهوتي الحنبلي: ومن احتاج لنقد فاشترى ما يساوي ألفا بأكثر ليتوسع بثمنه، فلا بأس نصا (1) . ويقول الإمام ابن قدامة: " ومن باع مدي تمر رديء بدرهم، ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا، أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم، وتقابضاها، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة، ولا حيلة، فلا بأس به، ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط، ولا مواطأة. فجاز، كما لو باعه من غيره. ولأن ما جاز من البياعات مرة جاز على الإطلاق. فأما إن تواطآ على ذلك لم يجز، وكان حيلة محرمة. وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ما لم يكن مشروطا، وقال الإمام أحمد رحمه الله في رواية الأثرم:" يبيعها من غيره أحب إلي (2) ". وقال أيضا: " والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما مخادعة، وتوسلا إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته أو إسقاط واجب، أو دفع حق، ونحو ذلك، قال أيوب السختياني :" إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا (3) "
5 ـ الإمام ابن تيمية والعلامة ابن القيم:
... سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل تداين دينا، فدخل به السوق. فاشترى شيئا بحضرة الرجل، ثم باعها عليه بفائدة ، هل يجوز ذلك ؟ أم لا ؟
... فأجاب رحمه الله : " الحمد لله. هذا على ثلاثة أوجه، .....، وذكر منها:
__________
(1) ... البهوتي: منتهى الإرادات 2/26.
(2) ... ابن قدامة : المغني:4/42.
(3) ... ابن قدامة: نفس المرجع السابق.(1/11)
... " الوجه الثالث : أن يشتري السلعة سرا، ثم يبيعها للمستدين بيانا، فيبيعها أحدهما، فهذه تسمى " التورق "؛ لأن المشتري ليس غرضه في التجارة، ولا في البيع ، ... ولكن يحتاج إلى دراهم ، فيأخذ مائة، ويبقى عليه مائة وعشرون مثلا . فهذا قد تنازع فيه السلف والعلماء، والأقوى أيضا أنه منهي عنه، كما قال عمر بن عبد العزيز ما معناه : إن التورق أصل الربا، فإن الله حرم أخذ دراهم بدراهم أكثر منه إلى أجل؛ لما في ذلك من ضرر المحتاج ، وأكل ماله بالباطل، وهذا المعنى موجود في هذه الصورة (1) .
... وقال العلامة ابن القيم : وكان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارا وأنا حاضر، فلم يرخص فيها. وقال : المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه (2) .
رأي الباحث بالنسبة لنموذج التورق الفردي:
بتتبع آراء الفقهاء السابق عرضها، وكذا الأصول الخاصة بكل مذهب من المذاهب المعتمدة الأربعة في هذا الشأن، سيلاحظ أنه باستثناء فقهاء الحنابلة الذين تناولوا بحث موضوع التورق بصفة منفصلة ومحددة، فإن معظم من أشار إلى هذا النوع من البيوع من فقهاء المذاهب الأخرى، لم يتناولوه بطريقة مباشرة بنفس هذا اللفظ، وإنما تناولوه ضمنا عند كلامهم عن بيع العينة.
__________
(1) ... الفتاوى الكبرى:29/ 433.
(2) ... ابن القيم: إعلام الموقعين: 3/170.(1/12)
و يمكن الاستنتاج من تلك الآراء والأصول بأن بيع التورق في شكله الفردي غير المنظم قد يختلف الرأي بشأنه بين تلك المذاهب، فمنهم من تجيزه أصول المذهب مع الكراهه كما هو الحال بالنسبة لرأي الإمام الشافعي وجمهور الشافعية بصفة عامة، لاعتبارات تتعلق بضرورة التمسك بظاهر النصوص الواردة في العقود دون محاولة التوغل لإثبات تهمة التواطؤ من خلال ما قد تخفيه نية المتعاقدين، وكأحد القولين للإمام أحمد مراعاة لحاجة الناس ولتوفير حلول ملائمة لمواجهة مشكلات السيولة التي قد يتعرض لها بعض التجار، وأصحاب العمل. ومنهم من اعتبره خلافا للأولى كالأحناف، والقول الثاني للإمام أحمد، ومنهم من حرمه بالفعل سدا للذرائع كالمالكية والإمام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم.
... كما يتضح أيضا مما سبق أن هناك اتفاقا بين الفقهاء من المذاهب الأربعة، بدون استثناء، على أنه إذا ثبت وجود تحايل معلن عنه بين طرفي العقد، أو شرط صريح منصوص عليه في أحد العقدين، أو في كليهما، للربط بينهما، فإن ذلك يبطل العقد أو يفسده، لما يترتب عليه من وقوع الربا.(1/13)
... وفي واقع الأمر فإن التدقيق في مراجعة أقوال معظم العلماء من مختلف المذاهب في هذه المسألة يعكس لنا أن الحكم النهائي عليها يتوقف إلى حد كبير على نية طرفي التعاقد. فنجد أنه باستثناء قول الإمام الشافعي، فإن سائر الأقوال الأخرى حتى تلك الصادرة عن فقهاء الشافعية أنفسهم من أصحاب الإمام الشافعي ـ رغم أنهم راعوا في فتاواهم أصول مذهبهم ـ فإنهم آثروا في هذه المسألة التفصيل في الفتوى حسب نية المتعاقدين وليس سدا للذرائع كما هو القول عند فقهاء المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم. وهذا واضح وضوحا جليا من قول الإمام السبكي وتفصيله في الحكم، فإنه فرق بين حالة من كان قاصدا للمكروه، سواء من أهل التهمة(أهل العينة) أو من غير أهل التهمة، فحكم على عمله بالكراهة، وبين من أتى به غير قاصد ولا متعمد للمكروه، فحكم على عمله بالجواز وذلك بقوله: " نعم إن جرى ذلك بغير قصد للمكروه ولا عادة، فينبغي الجزم بعدم الكراهة (1) ".
6 ـ ... ولنا ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ (2) . والقاعدة التي تقول: الأمور بمقاصدها (3) " .
__________
(1) ... السبكي: تكملة المجموع:10/132.
(2) ... رواه البخاري كتاب الإيمان : ابن حجر العسقلاني: فتح الباري : 1/135 ـ البيهقي ، السنن الكبرى1/215 .
(3) ... الإمام السيوطي: الأشباه والنظائر: ص 9.(1/14)
... وكذلك 7 ـ الحديث الذي أخرجه الشيخان عن نعمان بن بشير قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْحَلآلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ (1) .
__________
(1) ... رواه البخاري:1/28 و مسلم: 3/1221.(1/15)
فكسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه. وكثير من الناس من غير أهل التهمة، وبغير عادة ثابتة على أي منهم، قد يشتري السلعة بثمن آجل قاصدا تملكها و استهلاكها أوالتمتع بمنافعها بالفعل، ثم يعن له بعد فترة زمنية، قصرت أو طالت، بيعها نقدا ولو بثمن أقل لمواجهة نفقات طارئة لم يكن يتوقعها عند الشراء. فمثل هذه الحالات ينبغي الحكم بجوازها لبعدها عن أية مظنة للتهمة، ولا تعكس إلا عملية بيع عادية كسائر عمليات البيع التجارية العادية، وبالتالي تدخل تحت عموم الآية الكريمة : وأحلٌ اللهُ البَيْعَ وحَرٌَمَ الرٌِبَا ( البقرة: 85). أما إذا تواطأ شخص، سواء مع نفسه أو مع غيره من الناس، قاصدا محاكاة أسلوب الاقتراض الربوي، وهو عالم بحرمته، فيشتري سلعة بأجل بسعر مائة جنيه من شخص من الأشخاص، ثم يبيعها نفسها في الحال لشخص ثالث بسعر خمسون جنيها متكبدا فارق السعر، فكأنه اقترض الخمسين جنيها ودفع عليها زيادة ربوية قدرها خمسون جنيها أخرى. فهذا العمل نرى عدم جوازه وتحريمه، سواء كان ذلك بعادة عنده أو بغير عادة، أخذا بقول من منع ذلك سدا للذرائع وهم فقهاء المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم، والله أعلم.
الجزء الثاني
نماذج التورق المصرفي التي تطبقها البنوك الإسلامية حاليا(1/16)
بدأت البنوك الإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية في التوسع بطريقة طردية في استغلال أسلوب التورق السابق الإشارة إليه في إطار مؤسسي متكامل، وذلك لاستخدامه كأساس شرعي لنماذج جديدة ومتنوعة من الأدوات المصرفية، بما يتيح لعملائها مزيدا من الخدمات، ويحقق للبنوك نفسها فرصا جديدة لمضاعفة الربح. فضلا عن رغبتها في استخدام أسلوب أكثر واقعية لتحقيق أهداف السياسة النقدية للدولة التي تتبعها. وقد ظهرت تلك النماذج على مراحل متتابعة، بدأت بأسلوب التورق في جانب الأصول لترتيب مديونيات نقدية على عملائها سواء بصفة مباشرة، أو في شكل بيع للديون التي تتراكم على عملائها من جراء استخدام بطاقات الائتمان المصرفية التي تصدرها تلك البنوك وتربط العمل بها بأسلوب التورق المباشر.
ثم استمرت البنوك في مسارها هذا باستخدام التورق في جانب الخصوم لترتب ديونا (قروضا) نقدية على نفسها ولصالح عملائها، بما يمكنها في النهاية من استخدام أرصدة تلك القروض لصالحها في أغراض استثمارية مختلفة، مع تحقيق بعض المكاسب المادية من ذلك، سيتم التعرض لها بعد ذلك.
وسيعرض الباحث في الفقرات التالية نبذة مختصرة عن كل أداة من هذه الأدوات تمهيدا للنظر في مدى تواؤمها مع الشريعة الإسلامية. وحيث إن معظم البنوك تتبع أسلوبا عمليا متشابها في تنفيذ تلك النماذج، فسيعمد الباحث إلى التعليق عليها جميعا في إطار متكامل يشمل تفصيل أقوال العلماء من المذاهب المختلفة فيما يتعلق ببعض المفاهيم الأخرى للعينة، لم يذكرها الباحث في الفقرات السابقة من هذا البحث، والتي تكاد تتطابق مع هذه الأدوات المستخدمة حديثا، وهو أمر يجب عدم إغفاله. ثم يعمد الباحث بعد ذلك إلى بيان أوجه الارتباط بين مفاهيم العينة سالفة الذكر وبين الأسلوب الذي تتبعه البنوك في تنفيذ جميع عمليات التورق باختلاف أشكالها، تمهيدا للوصول إلى رأي جامع بخصوص تلك الأدوات، وذلك وفقا لما يلي:(1/17)
1 ـ أسلوب التورق المصرفي في جانب الأصول:
... أولت البنوك الإسلامية كل اهتمامها في بداية هذه المرحلة لاستخدام أداة التورق لدعم جانب الأصول ( الاستثمارات) من نشاطها. وكان ذلك نتيجة لما لاحظه القائمون على إدارات الائتمان في هذه البنوك من تزايد الرغبة لدى العملاء المستثمرين للحصول على قروض نقدية سائلة تساعدهم على توفير احتياجاتهم الاستثمارية من مواد خام وخدمات غير مباشرة وأجور عمال، وما شابه ذلك بطريقة مباشرة بواسطتهم بدلا من شراء السلع عن طريق البنوك ثم الاضطرار إلى بيعها في السوق بعد ذلك للحصول على النقدية السائلة لتحقيق نفس الغرض.
من ناحية أخرى، حرصت البنوك الإسلامية مؤخرا على تلبية رغبات عملائها بإصدار بطاقات ائتمانية مرتبطة بأسلوب التورق المصرفي، لتوفر لهم أسلوبا جديدا يساعدهم على سداد فواتير مشترياتهم الشهرية المستحقة السداد فورا بطريقة السداد الآجل.
... وحيث إن كلا الأسلوبين يتوقف تنفيذه على نظام التورق، كما يترتب عليه زيادة في حجم الأصول في المراكز المالية لتلك البنوك، فإن الأمر يستلزم بيان الخطوات التنفيذية لكل منهما، وفقا لما يلي:
أ ـ نموذج التورق المباشر:(1/18)
بالنظر إلى نماذج التورق الذي تتعاقد عليها عينة من البنوك العاملة حاليا في مجال الصيرفة الإسلامية، كبنك التنمية الوطني المصري التابع لبنك أبو ظبي الوطني، وبنك الجزيرة السعودي، وبنك الرياض، والبنك الأهلي السعودي، وبنك الإمارات وتعلن عنها في المنشورات التي تصدرها، وكذا في جميع الوسائل الإعلامية، سيلاحظ أنها تأخذ في مجموعها الشكل التالي (1) :
__________
(1) ... انظر المنشورات التي تصدرها بنوك العَينة في هذا الشأن ، وكذلك الأبحاث المقدمة حول هذا الموضوع إلى مؤتمر المجمع الفقهي الإسلامي ـ الدورة التاسعة عشرة، 22ـ 27/10/1428. وانظر كذلك بحث د. محمد على القري حول: التورق كما تجريه المصارف ـ هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ـ البحرين ، ص 15 (بدون تاريخ).(1/19)
يتقدم العميل المحتاج إلى اقتراض النقود السائلة إلى البنك ويتعاقد معه، بموجب عقد نمطي واحد، أو من خلال عدد من العقود المركبة المرتبطة ببعضها، يتم تطبيقها على جميع العملاء، على إعطاء أمر للبنك لشراء سلعة بثمن حاضر على أساس بيع المرابحة للآمر بالشراء، من الأسواق والمخازن السلعية العالمية أو المحلية (المعادن ـ الحبوب ..إلخ ) باسم البنك، حيث يلتزم العميل بموجب وعد ملزم بشراء نفس السلعة بعد ذلك من البنك، وبسعر آجل يتم تقسيطه على عدد من الأقساط المؤجلة. ثم يقوم البنك بإعادة بيعها مرة أخرى لشخص ثالث في السوق، ولصالح العميل، بسعر حاضر، يكون بطبيعة الحال أقل من الثمن الآجل الذي سيتكبده عميل البنك في بداية المعاملة. وفي جميع الأحوال فإن السلعة المطلوب شراؤها ثم بيعها معينة وموصوفة، ولكنها غير موجودة في مجلس العقد، ولا مثبته في ذمة البائع ولا البنك. وإنما يتم عادة حفظها بأحجام كبيرة ـ غير قابلة للتجزئة ـ في عبوات مرقمة وموصوفة وصفا دقيقا في مخازن كبيرة لدى المورد الأصلي في إحدى هذه الأسواق. و لذلك تتم عملية شراء وبيع تلك السلعة وتبادلها بين البنك والموردين وكذا عملاء البنك عن طريق القبض الحكمي، وبموجب شهادات موثقة يتم تداولها بينهم جميعا، على غرار ما يجري التعامل به في حالة أسهم الشركات في البورصات العالمية المختلفة. وعند الانتهاء من جميع خطوات عمليتي الشراء والبيع، تضاف القيمة الحالية النهائية للسلعة إلى حساب العميل المفتوح لهذا الغرض لدى أي فرع من فروع البنك. وبطبيعة الحال فإن البنك يربح قيمة الفرق ما بين الثمن الحال الذي اشترى به والثمن الآجل للسلعة المباعة للعميل نظير التمويل.(1/20)
ب ـ أسلوب بطاقات الائتمان آجلة الدفع المدعمة بأسلوب التورق (1) :
... تستخدم البنوك الإسلامية أسلوب التورق في هذه الحالة كعامل مساعد لجذب مزيد من العملاء، وذلك باتاحة الفرصة لهم لتأجيل سداد ما قد يتراكم عليهم من ديون شهرية نتيجة استخدام بطاقة اعتماد يصدرها البنك له البنك، في حالة عدم وجود رصيد كاف في حساباتهم لسداد تلك الديون. فيعمد البنك إلى تحرير عقد مع عميله، يتمكن العميل بموجبه من سداد مبالغ الفواتير المتراكمة عليه في نهاية كل شهر على عدد من الأقساط الشهرية المستقبلة. وتتم هذه العملية على نفس النحو السابق بيانه في حالة عقد التورق المباشر. فيأمر العميل البنك بشراء كمية من سلعة معينة من الأسواق العالمية لصالحه، ثم يبيعها البنك للعميل بسعر آجل عن طريق المرابحة للآمر بالشراء، بحيث يزيد هذا السعر عن قيمة الفواتير المطلوب سدادها بمقدار هامش الربح الذي يستقطعه البنك لنفسه، والذي يتفق عليه الطرفان في عقد التورق. وتثبت قيمة السلع التي يشتريها العميل في جانب الأصول في ميزانية البنك كدين على العميل، يسدد على أقساط آجلة. وبعد أن يتملك العميل السلعة المشتراه، يقوم البنك بصفته وكيلا عن العميل، ببيعها في السوق لشخص ثالث بسعر حال، ثم يورد القيمة المتحصلة في النهاية إلى حساب العميل، تمهيدا لسداد قيمة الفواتير الأصلية المتراكمة.
فإذا استخدم العميل البطاقة مرة أخرى في الشهر التالي، وثبت في ذمته دين جديد فله أن يقوم حينئذ بنفس الإجراءات السابقة، فينتهي إلى تسديد قسطين شهريا أحدهما للتورق الأول، والآخر للتورق الثاني. حتى يصل إلى الحد الأعلى المسموح به لاستخدام البطاقة.
2 ـ أسلوب التورق في جانب الخصوم ( التورق العكسي):
__________
(1) ... أ. د. محمد العلى القري بن عيد: نفس المرجع السابق ـ ص 19. وانظر أيضا: أ.د. محمد عبد الغفار الشريف: التطبيقات المصرفية للتورق ـ ندوة البركة المصرفية الثالثة والعشرين، ص 7.(1/21)
... استحدثت بعض البنوك الإسلامية مؤخرا أداة مصرفية جديدة باسم التورق العكسي، مستوحاة من فكرة التورق المباشر، للتعامل بها مع أرصدة أموال عملائها المودعين من أصحاب الحسابات الجارية، والتي تظهر في جانب الخصوم من مراكزها المالية، أملا في أن تحقق لهم ولنفسها بعض المزايا الأخرى المتعارف عليها في ساحة العمل المصرفي بصفة عامة، والتي سيتم التعرض لها بالتفصيل في فقرة قادمة.
وتقوم صيغة بيع التورق العكسي على خطوات تتشابه في مجموعها مع الصيغة التنفيذية لأداة التورق المباشر ـ نظام المرابحة للآمر بالشراء ـ ولكن بطريقة عكسية (1) . ويقول أ.د. عبد الله بن سليمان المنيع في شرح أسباب حكمه عليها بالجواز، وذلك في رد منه على من يستفسر عن الاتجاه السائد في توسيط سلع غير مقصودة: " أما إذا كان شراء السلعة مستكملا شروط البيع وأركانه ومنفية عنه موانع صحته، فلا يسأل المشتري عن قصده في الشراء سواء أكان قصده تورقا أم كان استخداما للسلعة، أم كان متاجرة، أم كان غير ذلك من المقاصد. فليست صحة البيع والشراء مشروطة بمعرفة نية البائع أو المشتري عما باعه أو اشتراه (2) . " ويقول أ. د. محمد عبد الغفار الشريف في هذا الشأن أيضا: " إن النية أمر غيبي لا يمكن للخلق الاطلاع عليه، لذا لا يمكن تعليق مصالح الناس وعقودهم على أمر لا يمكن الاطلاع عليه، وفقا للقاعدة التي تقول:" الصريح لا يحتاج إلى نية (3) " .
__________
(1) ... انظر المنشورات التي تصدرها البنوك في هذا الشأن ، وكذلك بصفة خاصة انظر بحث أ. د. عبد الله بن سليمان المنيع ـ المنتج البديل للوديعة ـ الدورة التاسعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي مكة المكرمة، 22 ـ 27 شوال 1428هـ.
(2) ... انظر أ. د. عبد الله بن سليمان المنيع ، نفس المرجع السابق ص (10) .
(3) ... انظر أ. د. محمد عبد الغفار الشريف: التطبيقات المصرفية للتورق ، ص (9).(1/22)
أما عن صفة أداة التورق المصرفي العكسي وخطوات تنفيذها، فهي تأتي كبديل للحساب الجاري الذي يفتحه العميل لدى البنك، أو بديل عن الحساب الاستثماري، إذا أراد العميل ذلك. فالعميل في هذه الحالة يتعاقد مع البنك من خلال مجموعة من العقود المركبة التي يتم التوقيع عليها جميعا معا في نفس اللحظة أو على مراحل، أو من خلال عقد واحد شامل لجميع الإجراءات المطلوب من البنك القيام بها تدريجيا. وفي المرحلة الأولى يوكل العميل البنك لشراء السلعة المطلوب تداولها بينهما من الأسواق العالمية، أو من الأسواق المحلية بسعر حال. على أن يلتزم البنك بموجب وعد ملزم بإعادة شراء هذه السلعة من العميل بعد تملكه لها بسعر آجل وفقا لنظام بيع المرابحة للآمر بالشراء . وكما سبق بيانة في حالة التورق المباشر فإن السلعة المطلوب شرائها معينة وموصوفة، ولكنها غير موجودة في مجلس العقد، ولا مثبته في ذمة البائع ولا البنك. ويقوم البنك في المرحلة الثانية بشراء السلعة وفقا للمواصفات المتفق عليها، من خلال أسلوب القبض الحكمي، باسم العميل ولصالحه، و بالسعر المتفق عليه، نقدا أو خصما من حسابه، ويخطر عميله بإنجاز عملية الشراء. ثم يلي ذلك المرحلة الثالثة، حيث يقوم فيها البنك بصفته وكيلا عن عميله ببيع هذه السلعة لنفسه( أي للبنك). وأخيرا تضاف قيمة البيع الآجل كبند مستقل في الحساب الجاري للعميل كقرض آجل على البنك، ويمكن للعميل السحب منه بشرط الخضوع لمبدأ ضع وتعجل. وفي جميع الأحوال يستطيع البنك إعادة بيع السلعة لطرف ثالث في السوق والانتفاع بحصيلتها لنفسه لمقابلة أي أغراض مصرفية أخرى. (1)
أهم الأهداف والمزايا التي توفرها أدوات التورق المصرفي:
__________
(1) ... أ. د. عبد الله بن سليمان المنيع: نفس المرجع السابق، ص ( 7).(1/23)
... يرى بعض الأخوة الأفاضل من علماء الشريعة ورواد الاقتصاد الإسلامي والمصارف الإسلامية المجوزون لعقود التورق المصرفي بجميع أشكاله، أن نشر العمل بهذه العقود بين البنوك الإسلامية جميعا يحقق فوائد و مزايا مهمة يعم الخير منها، ليس فقط على مستوى البنوك وحدها، ولكن على مستوى جمهور عملائها، وعلى مستوى الاقتصاد القومي للدول التي تعمل بها ككل. ومن أهم ذلك ما يلي:
1 ـ ... أن استخدام البنك لأسلوب التورق العكسي يتيح له فصل العائد الذي يمنحه للحسابات الجارية أو الاستثمارية المستغلة لهذا الأسلوب عن العائد على سائر الأنشطة الاستثمارية الأخرى التي يقوم بها البنك. وبالتالي يستطيع التحكم في هذا العائد بالخفض، بما يوفر معه مزيد من الأرباح المحققة لأصحاب الأسهم، على غرار السياسات المالية التي تتبعها جميع البنوك التقليدية، وكذا سائر الشركات الإنتاجية العادية في التفرقة بين العائد على أموال المساهمين من خلال عملية المضاربة، والعائد على أموال المودعين أو المقرضين التي هي جميعا في حكم القروض.(1/24)
2 ـ ... أن اتباع البنك لأسلوب التورق العكسي والتوسع فيه بصفة طردية من خلال الحسابات الجارية، يحقق مزية مهمة للعملاء (1) . ويرجع ذلك إلى أن أرصدة الحسابات الجارية التي يحتفظ بها العملاء لدى البنوك الإسلامية حاليا لا تغل أي عائد عليها لأنه يتم تكييفها من الناحية الفقهية على أنها قروض محضة من العملاء إلى البنك. وكذلك يرى آخرون (2) أن أرصدة الحسابات الاستثمارية التي يحتفظ بها العملاء لدى البنك، يتم تكييفها فقهيا بأنها رأس مال في شركة مضاربة يقودها البنك بصفته مضاربا بعمله. وبموجب هذا التكييف تكون هذه الودائع، وكذا العائد الذي قد يتحقق عليها غير مضمونين من البنك. أما في حالة رغبة العملاء تغيير صفة كل من الحساب الاستثماري والحساب الجاري تدريجيا من خلال عمليات التورق العكسي، من كون الأول رأس مال في شركة مضاربة غير ضامنة لرأس المال أو العائد المحقق عليها، وكون الثاني قرضا محضا(حسابا جاريا عاديا لا يغل أي عائد على رصيده)، ليصبحا معا وديعة جديدة جارية مضمونا رأس مالها وكذا الأرباح المحققة عليها، لصاحبها العميل، وخاضعة لتصرفه فيها بالسحب والإيداع، فضلا عن تمكنه في أي وقت من استخدامها في شكل عمليات جديدة متكررة من التورق العكسي، وجلب الربح عليها.
وهذا الوضع في واقع الأمر يفضله كثير من المودعين بالمقارنة بالوضع الحالي الذي تكون فيه الودائع الاستثمارية والعوائد التي عليها غير مضمونة من البنك، كما تكون العوائد على الحسابات الجارية غير مستحقة أصلا.
__________
(1) ... أ. د. عبد الله بن سليمان المنيع ـ نفس المرجع السابق، ص (4) .
(2) ... يقصد بذلك عينة البنوك الإسلامية التي تتبع أسلوب التورق العكس، وتعلن عنه في منشوراتها أو في التقارير الدورية التي تصدرها.(1/25)
3 ـ ... أن اتباع البنوك لأسلوب التورق العكسي وما يترتب عليه من ضمان البنك للودائع الجارية الجديدة والعائد عليها، قد يساعد في جذب مزيد من العملاء ـ وبصفة خاصة من أصحاب المعاشات والدخول الثابتة المحدودة ـ لزيادة حجم مدخراتهم في البنوك ، بما يعود على الاقتصاد القومي بالمنافع لمقابلة الزيادة في الطلب على الاستثمار، ودعم عملية التنمية.
4 ـ ... أن أسلوب التورق المباشر يؤدي إلى توفير القروض السائلة للمستثمرين من عملاء البنوك بما يتيح لهم فرصة تدبير احيتاجاتهم الاستثمارية بصفة مباشرة بدلا من اضطرارهم شراء سلع عينية عن طريق البنك، ثم إعادة بيعها للحصول على التمويل النقدي السائل المطلوب لمثل هذه الأغراض.
5 ـ ... أن فيه نفع للاقتصاد القومي للدولة ككل من حيث إنه يساعد الشركات المستثمرة من توفير التمويل اللازم للمخزون السلعي لديها بدلا من أن تلجأ إلى الاقتراض بالفائدة من البنوك الربوية. وفضلا عن ذلك فإن أسلوب التورق يساعد الدولة في الربط بين القطاع المالي (السوق النقدية)، والقطاع الحقيقي( الشركات المنتجة للسلع والخدمات)، نتيجة التبادل السلعي المطرد الذي قد يترتب على تطبيق هذا النوع من الأدوات (1) .
6 ـ ... أن الهيكل الحالي الذي تمارس من خلاله البنوك الإسلامية نشاطها، له آثار سلبية على فعالية السياسة النقدية التي تنتهجها الدولة لتحقيق أهداف النمو والاستقرار الاقتصادي فيها. ويعد ذلك من الأمور المهمة التي تستدعي الانتباه، وتشجع على ضرورة إعادة النظر في الهيكل الحالي للنظام المصرفي الإسلامي ككل (2) .
__________
(1) ... أ.د. محمد على القري، مرجع سابق، ص 25.
(2) ... د. حسين كامل فهمي: أدوات السياسة النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية في اقتصاد إسلامي:1427هـ/2006م،ص (76).(1/26)
وقد يعتقد البعض أن التوسع في استخدام نظام التورق المصرفي ككل قد يساعد البنوك الإسلامية في إيجاد حل لهذه المشكلة، بما يحقق الأهداف الكلية المنشودة من السياسة النقدية.
ولشرح المقصود من هذه العبارة، نقول وبالله التوفيق: إن قدرة السياسة النقدية في أي دولة من الدول المتبعة للنظام الاقتصادي التقليدي، في التأثير على حجم المتغيرات الاقتصادية الكلية، بها، كالاستثمار والادخار والعمالة ومستوى الأسعار، يرتبط ارتباطا وثيقا بالقوة الاحتكارية التي تتمتع بها البنوك التجارية في السوق النقدية لهذه الدولة. لأن هذه القوة الاحتكارية تمكنها أولا من تنفيذ تعليمات الجهات الرقابية(البنوك المركزية)من التأثير على السعر السائد في السوق النقدية(سعر الفائدة)، بالرفع أو الخفض، وبالتالي على الطلب والعرض للمعروض النقدي، وبالتالي على سائر المتغيرات الكلية سالفة الذكر. فكلما زادت القوة الاحتكارية والهيمنة للبنوك التجارية على أسعار الفائدة في السوق النقدية، كلما كانت فعالية السياسة النقدية في تحقيق الأهداف الاقتصادية المرجوة منها أكبر.(1/27)
وهذا الأمر يكاد يكون مفتقدا تماما بالنسبة لحالة البنوك الإسلامية في ظل وضعها وهيكلها الحالي، لكونها لا تتعامل مع أسواق نقدية. وإنما تتعامل مع العديد من الأسواق السلعية الآجلة الخاضعة تماما لقوى الطلب و العرض. فهي تتعامل مع سلع عينية وخدمية متعددة ، قد تصل في بعض الأحيان إلى ما يزيد عن ألف نوع من السلع (ثلاجات ـ سيارات ـ مواد غذائية ـ مواد بناء،....إلخ). وكل سلعة من هذه السلع لها سوقها الآجلة الخاصة بها، وسعر توازني يحدده حجم الطلب والعرض عليها في هذا السوق. ويترتب على ذلك، أنه لو فرض أن جميع البنوك في أي دولة من الدول الإسلامية أصبحت تتبع نفس الهيكل الحالي للأدوات المصرفية والودائع السائدة في النظام المصرفي الإسلامي ـ وبصفة خاصة نظام المرابحة للآمر بالشراء ـ فإنها ستفقد القوة الاحتكارية اللازمة للتأثير على الأسعار الآجلة لأي سلعة من السلع المعروضة في الأسواق، لأنها ليست المنتجة لها، وإنما هي وسيطة وموزعة، ولا تملك القدرة للتأثير على حجم الطلب والعرض على أي من هذه السلع ـ سواء كانت مجتمعة أو بمفردها. وعليها في هذا المجال منافسة مئات، بل آلاف، من منتجي هذه السلعة وموزعيها، حسب نوع كل منها. ومعظم هؤلاء ليس لديه ما يمنع في أي وقت من الأوقات من منافسة البنوك ومزاحمتها في بيع منتجاتها بالتقسيط من خلال أساليب الدعاية والإغراء وتوفير الصيانة الدائمة للسلعة المباعة، إذا لزم الأمر ذلك. ويؤدي ذلك في النهاية إلى تقلص دور البنوك الإسلامية، وبالتالي السلطات النقدية (البنوك المركزية)، وفعاليتها في التأثير على أي من المتغيرات الكلية في الدولة (الاستثمارـ الاستهلاك ـ الادخار ـ العمالة،.... إلخ). وبمعنى آخر، تصبح إدارة السياسة النقدية التي تنفذها البنوك المركزية بالاعتماد على المصارف الإسلامية بصفة عامة، مشكوكا في فعاليتها تماما.(1/28)
ولذلك قد يرى بعض الاقتصاديين أن التوسع في استخدام أسلوبي التورق المباشر، والتورق العكسي معا بشكل مطٌََرد قد يؤدي في النهاية إلى تحول قنوات الاستثمار للبنوك الإسلامية، من الاعتماد المباشر على أسعار السلع الاستهلاكية والمعمرة والاستثمارية العادية التي يصنعها و يتاجر فيها معظم التجار في السوق المحلي، وبالتالي تكون قدرة البنوك الإسلامية في التأثير عليها في السوق المحلي بالرفع أو الخفض محدودة للغاية ؛ إلى ِأسعار سلع يتم تداولها في الخارج من خلال أسواق المعادن والغذاء العالمية كالنحاس والقصدير والنيكل والقمح، والتي لا تجد عددا كبيرا من التجار المحليين يتاجر فيها أو يتخصص في تسويقها محليا. وبالتالي تكتسب البنوك مركزا احتكاريا لتسويق تلك السلع محليا، وتتمكن بذلك ـ من خلال أداة التورق المباشرـ من التأثير على أسعارها بالرفع أو الخفض بما يتواءم مع أهداف السياسة النقدية للدولة وبطريقة تشابه إلى حد ما آلية العمل للسياسات النقدية المتبعة في الأسواق النقدية التقليدية.
الجزء الثالث
التمهيد لعرض الرأي الشرعي والاقتصادي
بالنسبة لأدوات التورق المصرفي(المنظم)(1/29)
... بمراجعة الأدوات المصرفية التي تتعامل بها البنوك الإسلامية حاليا سواء كانت في شكل أداة لتمويل عمليات التورق المباشر، أو في شكل تورق عكسي، أو بطاقة ائتمان مقرونة بعمليات التورق؛ أوالمرابحة للآمر بالشراء، أوالمشاركة المتناقصة، أو تمويل لعمليات استصناع، أو إجارة منتهية بالتمليك ؛ فسنجد أن المرحلة الأولى من تنفيذ هذه الصيغ جميعا، قائمة على أداة واحدة لا تتغير، وهي البيع للآمر بالشراء، سواء قام بعمليتي الشراء والبيع البنك نفسه أو عميله. فإذا أراد العميل المستثمر شراء سلعة عن طريق البنك من خلال أسلوب التورق المباشر أو المرابحة للآمر بالشراء أو الاستصناع على سبيل المثال، فإنه في المرحلة الأولى لتنفيذ أي عقد من هذه العقود، يأمر البنك بشراء تلك السلعة ـ سواء في صورتها النهائية، أو من خلال شراء المواد الخام المتعلقة بها ثم تجميعها لتصل إلى شكلها النهائي كما في حالة الاستصناع ـ بسعرٍ حالٍ من البائع الأصلي أو المورد، على أن يبيعها البنك له بعد ذلك بسعر آجل. وكذلك الحال في جميع العقود الأخرى سالفة الذكر بما فيها أداة التورق العكسي الذي تتقيد البنوك في تنفيذه بإطار المرابحة للآمر بالشراء، ولكن يترتب عليها آثار عكسية، حيث يوكل العميل فيها البنك بشراء السلعة لصالحه(لصالح العميل)، ثم يأمره بإعادة بيعها لنفسه (أي للبنك).
... وبناء على هذا كله فإنه للتوصل إلى رأي شرعي محدد بالنسبة لعقود التورق المصرفي (المنظم) بجميع أشكاله، فإنه يجب النظر في عدد من الأسئلة التي تمهد الطريق للتوصل إلى هذا الرأي. ومن أهم ذلك ما يلي:
... السؤال الأول: هل هناك صيغ من البيوع يرى العلماء فسادها لكونها عندهم من جنس بيوع العينة، و تتماثل في تفاصيلها مع صيغة البيع للآمر بالشراء، وفي مقدمتها بطبيعة الحال (التورق) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية حاليا؟
... الإجابة على ذلك هي بالإيجاب. وفيما يلي بعض نماذج من هذه الصيغ:(1/30)
أ ـ عند المالكية:
... أورد الفقيه المالكي ابن جزي في كتابه " القوانين الفقهية"، تحت باب البيوعات الفاسدة (النوع الثاني) ، ما نصه : " بيع العينة : هو أن يظهرا ( طرفا العقد ) فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز ، فيمنع للتهمة سدا للذرائع ، و هي ثلاثة أقسام : (الأول): أن يقول اشترها بعشرة وأعطك فيها خمسة عشر إلى أجل ، فإن هذا يئول إلى الربا ، لأن مذهب مالك أن ينظر ما خرج عن اليد و دخل به ، و يلغي الوسائط ، فكأن هذا الرجل أعطى لأحدٍ عشرة دنانير و أخذ منه خمسة عشر دينارا إلى أجل، و السلعة واسطة ملغاة (1) ".
ب ـ عند شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم:
... سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل اضطر إلى قرضة دراهم ، فلم يجد من يقرضه إلا رجلا يأخذ الفائدة ، فيأتي السوق يشتري له بضاعة بخمسين ، ويبيعها له بربح معين إلى مدة معينة ، فهل هي قنطرة الربا؟
... فأجاب: " إذا اشترى له بضاعة، وباعها له فاشتراها منه ،أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه ، فهذا ربا. والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين في تحريم ذلك كثيرة : مثل حديث عائشة لأم ولد زيد بن أرقم 00000(الحديث رقم2) ، وعن أنس بن مالك أنه سئل عن مثل ذلك ، فقال هذا ما حرم الله (2) ". وقال في موضع آخر : قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنّمَا الأَعماَلُ بِالنِيّاتِ (3) " ، فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ دراهم بدراهم إلى أجل ، فبأي طريق توصلا إلى ذلك كان حراما ، لأن المقصود حرام لا يحل قصده ؛ بل قد نهى السلف عن كثير من ذلك سدا للذرائع؛ لئلا يفضي إلى هذا المقصود (4) ".
__________
(1) ... ابن جزي المالكي: القوانين الفقهية، ص 170 ـ 171.
(2) ... ابن تيمية: الفتاوى:29/430.
(3) ... سبق تخريجه ـ ص ( 10 ) من هذا البحث.
(4) ... ابن تيمية:29/436.(1/31)
... ويشير الإمام ابن القيم إلى هذا النوع من العينة ولكن بطريقة عكسية تكاد تتفق تماما مع نموذج التورق العكسي الذي تريد أن تتوسع البنوك الإسلامية في تطبيقه مطلقا عليها اسم العينة الثلاثية، فيقول : " وللعينة صورة خامسة: وهي أقبح صورها، وأشدها تحريما ـ وهي أن المترابيين يتواطآن على الربا ، ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع، فيشتريه منه المحتاج ، ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه ، ثم يبيعه إياه المربي بثمن مؤجل، وهو ما اتفقا عليه، ثم يعيد المتاع إلى ربه، ويعطيه شيئا، وهذه تسمى الثلاثية، قد أدخلا بينهما محللا يزعمان أنه يحلل لهما ما حرم الله من الربا ، وهو كمحلل النكاح . فهذا محلل الربا، وذلك محلل الفروج، والله تعالى لا تخفى عليه خافية. بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" (1) .
... وقال أيضا رحمه الله في رده على مسألة توسيط محلل للربا: "وقالوا بجواز مسألة التورق وهي شقيقة مسألة العينة. فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره (الطرف الثالث)؟ بل قد يكون عودها إلى البائع أرفق بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيته. فكيف تحرمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه، والحقيقة في الموضوعين واحدة وهي عشر بخمسة عشر وبينهما حريرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها، وفي الثانية إلى غيره (2) .
ج ـ عند الأحناف:
... قال ابن عابدين في حاشيته: " إن يدخلا ( البائع و المشتري) بينهما ثالثا، فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهما بالأجل و يسلمه إليه، ثم يبيعه المستقرض من الثالث بعشرة ويسلمه إليه، ثم يبيعه الثالث من صاحبه وهو المقرض بعشرة و يسلمه إليه. و يأخذ منه العشرة ويدفعها للمستقرض فيحصل للمستقرض عشرة و لصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهما. (3)
__________
(1) ... ابن القيم: حاشية على عون المعبود ، شرح سنن أبي داود 9/347.
(2) ... ابن القيم : إعلام الموقعين: 3/200.
(3) ... ابن عابدين: ا273.(1/32)
... وجاء في المبسوط للسرخسي : " وذكر عن الشعبي أنه كان يكره أن يقول الرجل للرجل أقرضني ، فيقول لا حتى أبيعك، وإنما أراد بهذا إثبات كراهة العينة : وهو أن يبيعه ما يساوي عشرة بخمسة عشر ليبيعه المستقرض بعشرة(أي في السوق) فيحصل للمقرض زيادة ، وهذا في معنى قرض جر منفعة، والإقراض مندوب إليه في الشرع ، إلا أن الناس تطرقوا بهذا إلى الامتناع مما ندبوا إليه ، والإقدام على ما نهوا عنه من الغرر . وبنحوه ورد الأثر إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم ، حتى يطمع فيكم ...... (1) .
وبمقارنة عموم نماذج البيع للآمر بالشراء التي تتعامل بها البنوك الإسلامية حاليا من خلال الأدوات المصرفية المختلفة التي تطبقها مع عملائها، بتلك التي تكلم عنها و تعرض لها العلماء على اختلاف مذاهبهم على أنها من بيوع العينة، يتضح أن جميع النماذج المصرفية المستخدمة سواء كانت خاصة بعقود التورق بجميع أشكاله، أو كانت من الأدوات التمويلية الأخرى التي تستخدمها كالمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستصناع والإيجار المنتهي بالتمليك...إلخ، تكاد تطابق إلى حد كبير النماذج التي أشار إليها هؤلاء العلماء، وبصفة خاصة تلك التي تعرض لها فقهاء المالكية، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، في النموذج الذي سماه بالثلاثية، والذي يتوسط فيه طرف ثالث ليحلل الربا لطرفي العقد، وكذا بعض النماذج المتعددة التي أشار إليها الأحناف، وهو ما لا يخفى جميعه على الله عز وجل.
__________
(1) ... السرخسي: المبسوط : 14/36.(1/33)
... السؤال الثاني: إذا استندت البنوك الإسلامية في ممارستها لعقود التورق بجميع أشكالها مع عملائها، أو في أي عقود أخرى تقوم بها من جنس البيع للآمر للشراء كالمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستصناع ... إلخ، إلى قول الإمام الشافعي رحمه الله بجواز ما يقوم به بعض الأفراد من بيع سلعة ما لأحد الأشخاص بسعر آجل، ثم يشتريها منه بسعر حال (أقل)، دون النظر إلى النية الكامنة في صدر كل من طرفي العقد. فهل هذا يبرأ ذمتها أمام الله ثم أمام عملائها من الوقوع في الربا في هذا النوع من التعامل؟
... الجواب على ذلك : لقد سبقت الإشارة بالتفصيل إلى رأي السادة فقهاء الشافعية عن بيع العينة وأنه جائز مع الكراهة، إلا إذا كانت نية الربط بين العقود مشروطة صراحة في أي عقد منها، ففي هذه الحالة يكون العقد باطلا وغير جائز، بلا خلاف بين الأصحاب في المذهب.
... ويقول الإمام السبكي في هذا الشأن : " فإن فُرِضَ الشرطَ مقارنا للعقد بطل بلا خلاف، وليس محل الكلام، وإنما محل الكلام فيما إذا لم يكن مشروطا في العقد، وذلك من الواضحات (1) .
__________
(1) ... السبكي: تكملة المجموع:10/130.(1/34)
ومن ناحية أخرى، يجب ملاحظة أن الإمام الشافعي رحمه الله لم يجز بيع العينة التي تثبت فيها تهمة المفسدة واضحة، ويؤكدها التواطؤ المشروط بين طرفي العقد. وليس أدل في هذا الِشأن من قول كل من الإمام ابن القيم في الإعلام ، والذي عززه الإمام ابن حجر العسقلاني في الفتح ( وهو في الأصل شافعي المذهب). قال ابن القيم رحمه الله: أحدث بعض المتأخرين حيلا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله عَلِمَ أنه لم يكن يأمر بفعل الحيل التي تبنى على الخداع وإن كان يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد إذا خالف لفظه، فحاشاه أن يبيح للناس المكر والخديعة، فإن الفرق بين إجراء العقد على ظاهره فلا يعتبر القصد في العقد وبين تجويز عقد قد علم بناؤه على المكر مع العلم بأن باطنه بخلاف ظاهره ظاهر، ومن نسب حِل الثاني إلى الشافعي فهو خصمه عند الله فإن الذي جوزه بمنزلة الحاكم يجري الحكم على ظاهره في عدالة الشهود فيحكم بظاهر عدالتهم وإن كانوا في الباطن شهود زور. وكذا في مسألة العينة، إنما جوز أن يبيع السلعة ممن يشتريها جريا منه على أن ظاهر عقود المسلمين سلامتها من المكر والخديعة، ولم يجوز قط أن المتعاقدين يتواطآن على ألف بألف ومائتين ثم يحضران سلعة تحلل الربا ولا سيما أن لم يقصد البائع بيعها ولا المشتري شراءها، ويتأكد ذلك إذا كانت ليست ملكا للبائع كأن يكون عنده سلعة لغيره فيوقع العقد ويدعى أنها ملكه ويصدقه المشتري فيوقعان العقد على الأكثر ثم يستعيدها البائع بالأقل ويترتب الأكثر في ذمة المشتري في الظاهر، ولو علم الذي جوز ذلك بذلك لبادر إلى إنكاره، لأن لازم المذهب ليس بمذهب، فقد يذكر العالم الشيء ولا يستحضر لازمه حتى إذا عرفه أنكره".(1/35)
وقد علق الإمام ابن حجر في الفتح على كلام ابن القيم، وعلى رأي الإمام الشافعي في هذه المسألة قائلا: " والتحقيق أنه لا يلزم من الإثم في العقد بطلانه في ظاهر الحكم، فالشافعية يجوزون العقود على ظاهرها ويقولون مع ذلك إن من عمل الحيل بالمكر والخديعة يأثم في الباطن" (1) .
ويشير هذا الكلام في مجموعه إلى أن الأصل عند الإمام الشافعي رحمه الله وأصحابه من فقهاء الشافعية في الحكم على عقد بيع العينة، أنه إذا جاءه العقد مثبتا فيه تواطؤ معلن بوضوح بين المتعاقدين للتحايل على الربا، أو مدرج فيه شرط يفيد الربط بين العقدين، فالتعاقد باطل، ويأثم فاعله إذا أمضاه ـ وهذا الكلام واضح من كلام الإمام السبكي بأنه إذا شرط في العقد ارتباط عقدي الشراء والبيع، بطلا معا باتفاق فقهاء الشافعية. أما إذا تعمد الطرفان إخفاء حقيقة المقصد ولم يبيناها، فالحكم عندهم هو الجواز مع الكراهة، وإن كان كل منهما يأثم في الباطن بينه وبين ربه. لأن المفتي ليس له إلا ظاهر الأمور، أما ما يجول في صدور الناس فلا يعلمه إلا الله، وهو العليم الخبير، وهو العالم بما في صدور العالمين.
ولقد أشرنا في التفصيلات الخاصة بعقود التورق إلى أن العميل(في حالة التورق المباشر)، والبنك(في حالة التورق العكسي)، يحرر كل منهما عقدين متتاليين الغرض منهما معلن من البداية، وهو الحصول على نقود سائلة (قرض) بحجم معين تثبت في ذمتهما إلى أجل معين، مقابل دفع حجم أقل من النقود السائلة عند إبرام العقد الأول. ثم إن عميل البنك يحرر في نفس الوقت وعدا ملزما عليه ومعلنا للبنك بشراء السلعة منه بعد شرائها من المورد الأصلي في حالة التورق المباشر للوصول إلى الغرض المطلوب، كما أن البنك يحرر وعدا مماثلا معلنا وملزما أيضا للعميل بشراء السلعة منه في حالة التورق العكسي. فالنية معلنة بين الطرفين تماما، والقصد واضح منذ بداية التعاقد.
__________
(1) ... ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 12/336.(1/36)
فلا مفر إذن من الحكم على هذين العقدين بالبطلان، سواء أكان ذلك وفقا لرأي المذهب الشافعي أم وفقا لأي مذهب من المذاهب الثلاثة الأخرى.
... السؤال الثالث: هل أداة التورق وكذا سائر الأدوات الأخرى التي تستخدمها البنوك الإسلامية و تعتمد على أسلوب البيع للآمر بالشراء تدخل في حيز النهي الذي نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة؟
... الجواب: إن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة قد ورد بشأنه ثلاث روايات، بل وأكثر، وهي:
8 ـ ... ما رواه الترمذي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَة ٍ". وَفِي الْبَاب عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ . قَالَ أَبُو عِيسَى التِرْمِذِي حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
9 ـ ... ما رواه أبو داود والبيهقي عن يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوَكْسُهُمَا أَوْ الرِّبَا (1) .
10 ـ ... ما رواه ابن مسعود، قال:" نَهَى النَبي صَلٌَى اللهُ عَلَيهِ وسَلَْمَ عَنْ صَفَقَتَيْنِ فِي صَفَقَةٍ" (2) .
__________
(1) ... رواه أبو داود 3/274، والبيهقي: 5/343.
(2) ... حديث رقم 3783 من مسند الإمام أحمد.(1/37)
... وفي واقع الأمر، فإن من أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى دعم صيغة البيع للآمر بالشراء ونشر التعامل بها في بداية حياة البنوك الإسلامية، هو أن العلماء الأفاضل الذين أجازوا هذه الصيغة ـ وفي مقدمتهم فضيلة أ.د. يوسف القرضاوي ـ أشاروا في النصف الأول من الثمانينيات إلى ضعف حديث النهي (حديث رقم 8) الذي يستند إليه المانعون، لأن فيه محمد بن عمرو بن علقمه، وقد قال فيه الحافظ المنذري: قد تكلم فيه غير واحد. وفضلا عن ذلك، قالوا: إن صيغة البيع للآمر بالشراء هذه لا يمكن إدراجها ضمن زمرة البيوع التي ينهى عنها الحديث، واستدلوا على ذلك ببعض التفسيرات التي أوردها بعض العلماء عنه، وهي بعيدة عن مفهوم هذه الصيغة (1) . فعلى سبيل المثال أشاروا إلى تفسيرين جاء بهما أهل العلم لهذا الحديث، أولهما: بأن يقول الرجل أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحد منهما. وثانيهما: هو تفسير الإمام الشافعي رحمه الله الذي يقول فيه: ومن معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، وهذا يفارق عن بيع بغير ثمن معلوم ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته (2) .
ولنا في هذا الشأن أنه رغم أن الرواية الأولى، حديث (8) ، و الرواية الثانية، حديث (9)، فيهما محمد بن عمرو، إلا أن الإمام الترمذي حسٌَنَ الأولى منهما، وقال فيها: والعمل على هذا عند أهل العلم. كما أن الروايات الثلاثة معا يقوي بعضها البعض الآخر ويعضده.
__________
(1) ... انظر على سبيل المثال: أ.د. يوسف القرضاوي: بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه البنوك الإسلامية، ص 72.
(2) ... أ.د. يوسف القرضاوي: نفس المرجع السابق، ص 73 .(1/38)
وفضلا عن ذلك فقد ورد تفسيران آخران عن النهي الوارد في الحديث: أولهما تفسير علماء المالكية الذي أشار إليه الإمام الزرقاني في شرحه لموطأ الإمام مالك نقلا عن الإمام الباجي، وهو تفسير ينطبق تماما على صيغة البيع للآمر بالشراء الخاصة ببيوع التورق، وسائر البيوع الأخرى التي تتعامل بها البنوك الإسلامية حاليا كالمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستصناع والإجارة المنتهية بالتمليك. قائلا: والخبر الذي رواه مالك في موطئه: إنهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَجُلٍ ابتَعَ لِيَ هذاْ البعيرَ بِنَقْدٍ حَتَى ابتَاعََهُ مِنكَ إلى أجلِ، فسُئِل عَن ذلك عبد الله بن عُمر فكَرِهَهُ ونَهَى عَنهُ" (1) . أدخله مالك تحت ترجمة حديث النهي عن بيعتين في بيعه: " أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللَّهُ عَليهِ وسَلَمَ نَهَىَ عَنْ بَيعَتَينِ فِي بَيْعَهٍ" (2) . وقال الإمام الزرقاني عنه : أدخله مالك رحمه الله في ترجمة الحديث لأن مبتاعه بالنقد إنما ابتاعه على أنه قد لزم مبتاعه لأجل بأكثر من ذلك الثمن ، فتضمن بيعتين : بيعة النقد ، وبيعة الأجل. وفيه مع ذلك بيع ما ليس عندك، لأنه باع منه البعير قبل أن يملكه وسلف بزيادة، كأنه أسلفه ما نقده بالثمن المؤجل، وهذا كله يمنع الجواز، والعينة فيها أظهر ، قاله الباجي (3) .
__________
(1) ... الخبر رواه مالك في موطئه 2/663.
(2) ... رواه النسائي عن أبي هريرة ، كما رواه الترمذي وقال حسن صحيح. ...
(3) ... شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: 3/484.(1/39)
أما التفسير الثاني فقد جاء به الإمام ابن القيم عن الحديثين (9)و(10) قائلا: " روى سِمَاك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال:نهى رسول الله صلى الله علية وسلم عن صفقتين في صفقة. وفي السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا. وقد فسرت البيعتان في البيعة بأن يقول : أبيعك بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، وهذا بعيد من معنى الحديث من وجهين. أحدهما: أنه لا يُدخِل الربا في هذا العقد. الثاني: أن هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين. وقد ردده بين الأوليين أو الربا. ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا. فليس هذا معنى الحديث. وفُسِرَ بأن يقول : خذ هذه السلعة بعشرة نقدا وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها. وهذا هو المعنى المطابق للحديث. فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الثمنين. فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا. فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا. ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع، فإن الشرط يطلق على العقد نفسه. لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرا، كالضرب يطلق على المضروب، والحلق على المحلوق والنسخ على المنسوخ. فالشرطان كالصفقتين سواء. فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة " (1) .
__________
(1) ... حاشية ابن القيم على شرح سنن أبي داود : 9/343.(1/40)
وقد رجح فضيلة أ. د. يوسف القرضاوي في النهاية تفسير ابن القيم سالف الذكر، قائلا: " هذا هو الذي نطمئن إليه و نختاره هنا لمعنى "بيعتين في بيعة"، لكونه يهدف إلى ما هدف إليه حديث التحذير من بيع العينة، وهو منع الاحتيال على أكل الربا باسم البيع ". إلا أن فضيلتة استرسل في كلامه قائلا: " بهذا الشكل، فإن بيع المرابحة (1) بعيد كل البعد عن هذا المفهوم لأنها بيع حقيقي، لا صوري، ولا اسمي وإن شئنا الدقة ، قلنا: إنها مواعدة على بيع حقيقي لسلعة مطلوبة بالفعل، فلا وجه لإدخالها في بيعتين في بيعة. فإنما هي بيعة واحدة". انتهى كلام فضيلة أ. د.يوسف القرضاوي. (2)
... أما الرد على قول فضيلته فيأتي من خلال عدد من الأبعاد، هي:
... البعد الأول: أن التفسير الذي تحدث عنه علماء المالكية ينطبق طبق الأصل على صيغة البيع للآمر بالشراء التي يدخل في زمرتها جميع نماذج التورق التي نحن بصدد بحثها الآن، فضلا عن انطباقه على جميع الصيغ الأخرى التي مازالت تتعامل بها البنوك الإسلامية كالمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستصناع والإجارة المنتهية بالتمليك. وأن هذا التفسير يتكلم عن تعلق الربا والغرر بصيغة البيع للآمر بالشراء بصفة عامة، وبالتالي يُدخِلُ الربا في التعامل بهذه العقود جميعا بلا استثناء.
__________
(1) ... وهي نفس الصيغة التي نبحث عن مدى شرعيتها هنا في هذا البحث في كلامنا عن بيع التورق.
(2) ... أ.د. يوسف القرضاوي: مرجع سابق، ص 74.(1/41)
... البعد الثاني: أنه من الواضح الذي لا يخفى على أي متعامل مع البنوك الإسلامية أن جميع صيغ التورق التي يتكلم عنها المجوزون لها والمدافعون عنها، وكذا جميع الصيغ الأخرى كالمرابحة للآمر بالشراء، والاستصناع، والمشاركة المتناقصة، والإجارة المنتهية بالتمليك ...إلخ، تتضمن على الأقل بيعتين: بيعة بالنقد بسعر حال، وبيعة أخرى بسعر آجل (أعلى). كما أنه ينطبق عليها نهي الرسول صلى الله عليه وسلم الوارد في حديث ابن عمرو (حديث رقم 5) عن بيع ما ليس عندك، وعن سلف وبيع (1) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلا رِبْحُ مَا لَمْ تَضْمَنْ وَلا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (2) .
__________
(1) ... سيتم بيان أسباب تعلق أداة التورق (بجميع أشكالها) وكذا بيع المرابحة للآمر بالشراء بالنهي الوارد بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين بيع وسلف، وبيعتين في بيعة، وبيع ما ليس عندك في داخل هذا البحث نفسه. أما عن الأ سباب المفصلة عن تعلق كل من أدوات الاستصناع والمشاركة المتناقصة،والإجارة المنتهية بالتمليك بكل من هذه الأحاديث، فقد سبق لي أن قدمت أبحاثا وتعليقات مباشرة بشأن كل منهم. ونظرا لعدم وجود ارتباط مباشر بين تلك الأدوات وموضوع ( التورق) الذي أعد هذا البحث أصلا من أجله، فسأترك المجال لأي استفسارات أخرى تخص أي منهم للمناقشات التي ستدور في مؤتمر المجمع بمشيئة الله .
(2) ... رواه الترمذي( البيوع )، و النسائي ( البيوع )، و أحمد ( مسند المكثرين من الصحابة )، و أبو داود ( البيوع )، وابن ماجة (التجارات ). و قال عنه الترمذي حديث صحيح. و قد رواه مالك موصولا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده انظر: ابن حجر العسقلاني ( تلخيص الحبير: 2/17).(1/42)
... ثم إن عمليات التورق بصفة خاصة ينطبق عليها النهي الوارد في الخبر المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه(4 رقم)، في قوله على مثل هذه العمليات " دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وبَيْنَهُمَا حَرِيْرَةٌ " (1) . وهو ما سنوضحه في الفقرات التالية بالتفصيل.
... البعد الثالث: أن التفسيرين الأخيرين لمفهوم بيعتين في بيعة، وهما تفسير السادة علماء المالكية، والتفسير الذي قال به العلامة ابن القيم، رغم اختلاف الصيغة الخاصة بكل منهما عن الأخرى، إلا أن بينهما عموم وخصوص من وجه، وهو أن السلعة التي يفترض أنها محل البيع في كلا العقدين غير مرغوب فيها من الأصل (صورية)سواء من طرفي التعاقد معا، أو على الأقل من طرف واحد منهما. ولبيان صحة هذا القول، سنتناول شرح هذه النقطة بشيء من التفصيل ضمن الأسئلة التالية تباعا.
... السؤال الرابع: هل وجود وعد ملزم بالشراء من طرف واحد(عميل البنك طالب الشراء) يؤدي إلى وقوع الغرر في عقود التورق وغيرها من عقود البيع للآمر بالشراء؟
__________
(1) ... رواه ابن أبي شيبة في مصنفه : 4/282.(1/43)
يمكن القول بأنه إذا صدر وعد من المشتري بشراء السلعة بالثمن المحدد من قبل البائع، واعتبرنا هذا الوعد ملزما له، و صاحب هذا كله قرائن واضحة تفيد أيجابا من البائع على عملية البيع، دل ذلك في مجمله على وقوع التعاقد بين الطرفين، وأصبح العقد نافذا ومرتبا لكافة آثاره. وتفسير ذلك هو أن كثيرا من الفقهاء أفادوا بأن إضفاء صفة الإلزام على إيجاب البائع يمكن التوصل إليه بطرق أخرى، كوجود القرائن والملابسات المحيطة بالتعاقد نفسه (1) . وبطبيعة الحال فإن الوعد الذي يحرره العميل المشتري إنما يتضمن التزامه بشراء السلعة من البائع بشرط قيام البائع بشرائها من بائعها الأصلي، وفي معظم الحالات يشترط المشتري شراء البائع السلعة من مورد معين، ومحدد اسمه مسبقا.
__________
(1) ... الإمام الحطاب ، تحرير الكلام في مسائل الالتزام، كتاب فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ـ الشيخ عليش 1/257.(1/44)
وبالنسبة للحالة التي نحن بصددها الآن ـ سواء أكانت عملية تورق أو مرابحة للآمر بالشراء ـ إذا صدر وعد من عميل البنك (المشتري للسلعة) واعتبرنا هذا الوعد ملزما، فإن ذلك يصحبه عادة قيام البنك بدراسة المركز المالي للعميل على مدى فترة معينة، وحصوله على مقدم الثمن، وكافة الضمانات النقدية والعينية التي تؤمن له إعادة السداد، فضلا عن قيامه بتحديد كل من هامش الربح والسعر النهائي الذي سيبيع السلعة به، والحصول على موافقة العميل المشتري نفسه على هذا السعر النهائي. ثم يبدأ البنك بعد كل هذه الإجراءات في شراء السلعة، تمهيدا لتسليمها للمشتري. فإذا حدثت هذه الخطوات جميعها، دل ذلك بلا شك على حدوث توافق بين الطرفين على الصفقة، وعلى موافقة البائع عليها بصفة خاصة. أي اعتُُبِر هذا إيجابا من جانبه على الدخول في التعاقد الذي يقع في حالتنا هذه على إجراء أمرين هما شراء السلعة الغائبة و بيعها للآمر بالشراء، كليهما معا، وليس على الشراء فقط (ولذلك أطلق عليه بيع للآمر بالشراء).
... ونقول وبالله التوفيق أن هذا الإجراء يترتب عليه وقوع غرر فاحش على عميل البنك، لتضمنه بيع البنك ما ليس عنده، مع التزام العميل بموجب الوعد الملزم بشراء السلعة التي سيشتريها البنك له، دون أن يراها كما أشار إلى ذلك الإمامين الزرقاني والباجي من علماء المالكية. بما يعني فوات أية فرصة أمامه للتحقق من مطابقة المواصفات المطلوبة في السلعة. وبمعنى آخر فهو يعنى ثبوت الملك للبائع فور تحرير العقد دون أن يكون للمشترى حق خيار الرؤية. وهذا يؤدي إلى غرر فاحش تأباه الأحكام الشرعية في جميع المذاهب الفقهية. لأن مطلق العقد يقتضي السلامة، وتطابق المواصفات بالرؤية، فإذا فاتت الرؤية مطلقا(سواء قبل أم بعد العقد) بسبب وجود التزام بالشراء، ثبت احتمال وقوع الغرر على المشتري لاضطراره قبول ما قد لا يرضى به.(1/45)
... السؤال الخامس: هل صيغة البيع للآمر بالشراء التي يقوم عليها عقود التورق وعقود المرابحة، وغيرها من أدوات الائتمان المصرفية، تتضمن بيعا صوريا للسلعة ؟
... الإجابة: عندما نقول أن التعاقد مع البنوك الإسلامية يتضمن بيعا صوريا للسلعة، فإننا نعني بذلك أن أحد طرفي العقد أو كليهما لا يقصد اقتناء السلعة المشتراة أو المباعة نفسها من خلال العقود المتتالية التي يحررها. ويقول الإمام ابن القيم في هذا الشأن: وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما يقطع بأنة لا غرض لهما في السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما. لذلك يتواطأ كثير منهم على ذلك قبل العقد، ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله، (1)
وبالتدقيق في النماذج محل البحث وهي أدوات التورق بجميع أشكالها، سنلاحظ أنها صممت لتحقيق هدف واحد معلن ومتفق عليه من البداية بين طرفي العقد، وهو توفير التمويل الائتماني النقدي السائل سواء لعميل البنك أو للبنك نفسه. فلا العميل يريد إقحام نفسه في امتلاك سلعة مثل القصدير أو النحاس أو القمح أو الشعير، لأنه قد لا يستطيع بيعها أو التصرف فيها بعد ذلك. ولا البنك له مآرب من الاحتفاظ بتلك السلع لأي فترة من الفترات، سواء قصرت أم طالت. لأنه قد يعرض نفسه لمخاطر أزمات السيولة.
وسيأتي مزيد من التفصيل لإثبات أن رغبة التعامل الصوري في عقد التورق ـ وفي معظم العقود الأخرى القائمة على صيغة البيع للآمر بالشراء ـ تأتي من كلا الطرفين، وليس من طرف واحد فقط.
... السؤال السادس: لماذا تنتهج البنوك مسلك البيوع الصورية، وكيف يمكن اثبات التعامل الصوري على البنك؟
__________
(1) ... ابن القيم : حاشية على سنن أبي داود:9/339.(1/46)
يجب التنبيه بشكل واضح وفاصل، بأن البنوك الإسلامية ليست مخيرة بين استخدام أو عدم استخدام بيوع العينة وأساليب التحايل الأخرى بجميع أشكالها، في معاملاتها مع عملائها. فالأمر مفروض عليها من البداية وحتى النهاية، وخارج تماما عن نطاق اختيارها، وعن إرادة القيادات الإدارية فيها.
وتفسير ذلك هو أنه طالما ارتضت تلك البنوك أن تتخصص كليةً في نشاط منح الائتمان المصرفي ومداينة الناس، الذي هو مرفوض ومذموم من قبل السادة العلماء من المذاهب الفقهية المختلفة كما سنوضحه في الفقرات القادمة، فإنها ستضطر راغمة للخضوع للقواعد والأحكام المنظمة لهذا النشاط. وهذه القواعد والأحكام، وإن كانت سليمة ولازمة للعمل والفن المصرفي بصفة عامة سواء تقليدي أو إسلامي، إلا أنها لابد وأن تقود البنوك الإسلامية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى الوقوع في الأخطاء الشرعية واتباع نماذج للتعامل قائمة كلها على بيع العينة وغيرها من أساليب التحايل والمعاملات المشبوهة والمرفوضة من قبل شريحة عريضة من العلماء، سواء رضيت البنوك الإسلامية بذلك أم لم ترض، وسواء كان المناخ المحيط بها يتحلى بالقيم والمبادئ الإسلامية أم لا. فطالما وافق المؤسسون لهذه البنوك بأن تدخل في نطاق النشاط الائتماني فإن عليها توقع المزيد والمزيد من المصايد الربوية. ومتى تلبست بواحدة منها ، فإن الخروج منها ليس بهين ولا يسير.(1/47)
فوظيفة البنك الأساسية وطبيعة عمله التي أنشئ من أجلها، سواء كان إسلاميا أو تقليديا، هي منح الائتمان للعملاء، وليس امتلاك سلع عينية ليقتنيها ويحتفظ بها فوق الأرفف وفي مخازنه ليتاجر بها، وقد لا يستطيع التصرف فيها في أي وقت من الأوقات. وكما أشرنا، فإن أي بنك يتحتم عليه الخضوع في هذا الشأن للقرارات الرقابية التي تصدرها البنوك المركزية، وكذا الجهات الرقابية الدولية كلجنة بازل وغيرها من المراكز والهيئات الرقابية في جميع أنحاء العالم. و هذه الجهات تمنع على البنوك اقتناء سلع منقولة أو عقارات للتعامل فيها بالبيع والشراء. وكذلك فإنها تمنع البنوك من التوسع في امتلاك أسهم طويلة الأجل في شركات تنموية بما يزيد عن نسبة معينة ضئيلة جدا. ولا يستطيع البنك أن يحيد عن هذه القرارات أوالقواعد قيد أنملة، سواء أكان ذلك في الحال أم في المستقبل. وبالتالي فالبنوك الإسلامية تضطر في النهاية إلى استخدام الحيل وأساليب التعامل الصوري التي تؤدي بها إلى ارتكاب العديد من الأخطاء الشرعية كبيوع العينة، والغرر ....إلخ.
وعلى سبيل المثال فإن البند (5) من المادة (60) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي في مصر رقم 93 لسنة 2005م يقول: " يحظر على البنوك التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة، عدا العقار المخصص لإدارة أعمال البنك، أو المنقول أو العقار الذي تؤول ملكيته إلى البنك وفاء لدين قبل الغير.كما تنص نفس المادة سالفة الذكر في البند (3) منها، أنه يحظر على البنك تجاوز القيمة الاسمية للحصص أو الأسهم التي يملكها البنك ـ لغير أغراض المتاجرة ـ مقدار القاعدة الرأسمالية للبنك التي تحدد اللائحة التنفيذية لهذا القانون أساس حسابها. وهذه القاعدة الرأسمالية تقتصر على رأس المال المدفوع مضافا إليه الاحتياطيات والأرباح غير الموزعة، وكل ذلك لا يزيد عادة عن نسبة 10ـ15% من إجمالي حجم المركز المالي للبنك.(1/48)
أما السبب في هذا المنع، فهو ببساطة شديدة أن تلك البنوك تحتفظ لديها بحسابات جارية قابلة للسحب عند الإطلاع، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الحسابات قصيرة ومتوسطة الأجل . فإذا لم يستجب البنك ـ سواء كان تقليديا أو إسلاميا ـ لقواعد الأصول والأحكام المتعارف عليها في النشاط المصرفي و في قوانين البنوك، وحاول اقتناء سلع حقيقية بأحجام كبيرة للتجارة فيها بشكل يتخلله القبض الفعلي، واكتظ بها مركزه المالي، فإنه إذا قابل أي أزمة سحب مفاجئ لأي سبب من الأسباب، ففي أغلب الظن لن يستطيع التصرف في هذه السلع والبضائع على وجه السرعة بما يكفي لمواجهة هذه المشكلة. وبالتالي قد يتعرض للإفلاس خلال 24 ساعة، ويترتب على إفلاسه مفاسد اقتصادية عظيمة قد تعم الاقتصاد القومي للدولة ككل.
وأما السبب في أننا نصف التعامل السلعي للبنوك بأنه صوري، وأن السلع فيه غير مقصودة، فهو أن كثيرا من الاقتصاديين قد دأبوا بصفة مستمرة على ابتكار صيغ مستحدثة لمساعدة البنوك الإسلامية على التخلص من السلع قبل دخولها مبنى البنك والتفرغ لعمليات الائتمان، كما هو الحال بالنسبة لصيغة عقود التورق التي نحن بصدد بحثها الآن، وهي كما أوضحنا شكل مستحدث من أشكال البيع للآمر بالشراء(بجميع أشكاله)، و هي تضيف حيلة جديدة من الحيل التي يقتني بها عميل البنك (أو البنك نفسه) السلعة صوريا ثم يتصرف فيها من خلال ما يعرف بالقبض الحكمي. وهذه الصورة وإن كانت تحاكي وسيلة بيع المرابحة للآمر بالشراء وكذا سائر الأدوات الأخرى التي تستخدمها البنوك الإسلامية، في أن كلا منها تعد وسيلة إلى الحرام، إلا أنها أفدح منهم جميعا نتيجة لإفصاح كل من طرفي العقد عن مقصده من الحيلة التي ترتبط بها هذه الأداة علنا، وبجرأة عظيمة.(1/49)
ومن الأدلة الواضحة على صورية تعامل البنوك، فهو أن كافة العمليات التي تقوم بها البنوك حاليا من خلال صيغة " البيع للآمر بالشراء" ـ كالمرابحة والمشاركة المتناقصة والاستصناع...إلخ، قد ترتب عليها خلو ميزانياتها من أي نوع من أنواع السلع في نهاية المدة(سواء أكانت طعاما أم غير طعام) المرتبطة بهذه العمليات طوال فترة حياتها العملية السابقة( ما يزيد عن ثلاثين عاما). وحل محلها أرصدة مدينة على العملاء. وفي واقع الأمر فإن هذا الدليل يعتبر أيضا من الأدلة التي نستند إليها في دعم قولنا بفساد عقود التورق بجميع أشكاله، بل والنظام والهيكل اللذين تتعامل بهما البنوك الإسلامية جميعا.
وتفسير ذلك هو أنه في ظل ما تدعيه البنوك الإسلامية من أنها تمارس أنشطة تجارية وصناعية فعلية وحقيقية، من خلال هذه الأدوات منذ منتصف السبعينات، وحتى يومنا هذا، بما يستحوذ في مجموعه على مالا يقل عن 70 ـ 90 % من العمليات الاستثمارية لتلك البنوك. فقد كان من المفروض أن تنعكس نتائج تلك العمليات بشكل واضح على المراكز المالية لتلك البنوك، بحيث تظهر أرصدة سلع حقيقية (كالثلاجات و السيارات و المواد الغذائية كالفواكه والخضروات، ومواد البناء ...إلخ) كمخزون في نهاية كل فترة من فترات النشاط الخاص بها. إلا أن ما توضحه المراكز المالية المتكررة لتلك البنوك على مدى فترة طويلة ومتصلة من حياتها العملية (أكثر من ثلاثين سنة)، هو أنها تكاد تخلو من أي نوع من أنواع السلع والأصول المادية السابق الإشارة إليها، المترتبة على عمليات المرابحة للآمر بالشراء أوالمشاركة المتناقصة أو الاستصناع، أو الإجارة المنتهية بالتمليك ...إلخ . أما ما يظهر في تلك الميزانيات الآن فهو مجرد أرصدة مدينة في جانب الأصول، كنتيجة لاستخدام تلك الأدوات التمويلية، بما يمثل ديونا معلقة في ذمم أصحابها من عملاء كل بنك، سواء مستثمرين أم مستهلكين.(1/50)
أما ما يتوقع حدوثه في حالة البدء في استخدام عمليات التورق، فهو زيادة حجم تلك الديون، ليس فقط في جانب الأصول، وإنما سيتسع الأمر ليشمل كل من جانب الأصول والخصوم معا من خلال عمليات التورق المباشر والعكسي. وستصبح ميزانيات البنوك الإسلامية في النهاية مطابقة تماما لميزانيات البنوك التقليدية، وسيستشري فيها الربا كما هو مستشري الآن في تلك البنوك. ولا شك أن ذلك يبرهن بطريقة قاطعة على الرغبة في استمرار صورية التعامل من جانب البنوك الإسلامية، وعلى أن السلع المتعامل فيها غير مقصودة إطلاقا في حد ذاتها من وراء هذا النشاط الذي تقوم به. وإنني أدعي فساد هذا النوع من النشاط بأسره لقيامه أصلا على هيكل مؤسسي خاطيء، وأهداف ومقاصد لا تتواءم مع طبيعة التعامل الشرعي.
أما طريقة إثبات ما جاء في الفقرات السابقة، فهو في غاية من الوضوح والبساطة: فبملاحظة أن عمليات البنوك تستمر عادة بلا انقطاع يوميا، وعلى مدار العام بأسره؛ وأن المركز المالي لأي بنك من البنوك يتم إقفاله عند استكمال الساعة الأخيرة من آخر يوم عمل في السنة المالية للبنك ، وأن جميع العمليات التي تنفذ بعد نهاية ذلك اليوم يتم ترحيلها عادة إلى أرصدة المركز المالي للعام التالي . فإنه لو أتيح أي فارق زمني ( ولو كان دقيقة واحدة فقط ) بين كل من عقد الشراء وعقد البيع اللذان يحررهما البنك مع عميله(بفرض أن عقد الشراء تم في الدقيقة الأخيرة من العام المالي للتسهيل)، لظهرت بالضرورة قيمة البضائع المشتراة " كرصيد في نهاية الفترة " ضمن المركز المالي للعام الحالي، "الذي اشتريت فيه هذه البضاعة"، ولو حتى لبنك واحد على مدى ما يزيد عن ثلاثين عاما، التي تمثل تقريبا فترة الحياة العملية للنظام المصرفي الإسلامي ككل (1) .
__________
(1) ... هذا المثال هو لمجرد عرض الفكرة ، لكنه يعكس للقارئ بسهولة حقيقة الموقف الذي انتهت إليه أنشطة البنوك الإسلامية .(1/51)
وقد أرفقت مع هذا البحث صورة من المركز المالي لمصرفين من المصارف الإسلامية هما بنك قطر الإسلامي عن عام 2007م، وبنك دبي الإسلامي عن عام 2004م، وكذا صورة من المركز المالي لشركتين صناعيتين، هما شركة الدلتا للسكر، وشركة البويات والصناعات الكيماوية"باكين" بمصر عن عام 2007م. وذلك على سبيل المثال للمقارنة بين حجم أرصدة السلع المادية الفعلية وكذا حجم أرصدة الذمم المدينة التي تمثل ديونا على العملاء في كل من حالتي الشركتين الصناعيتين اللتان تمارسان عمليات صناعية وتجارية فعلية(شراء وبيع)، بالمقارنة بحجم نفس نوعية هذه الأرصدة في حالة البنكين الإسلاميين، اللذين يفترض أنهما يمارسان أيضا نفس هذه النوعية من الأنشطة ولكن تحت مسميات أخرى شرعية. ويتضح من هذه المراكز أن متوسط حجم الأصول العينية(كبضاعة نهاية المدة) إلى إجمالي حجم الميزانية لدى الشركتين الصناعيتين في نهاية العام هو 14%، مقابل صفر% في حالة البنكين الإسلاميين. كما يتبين أن نسبة متوسط إجمالي الأصول المادية والإنمائية التي تمتلكها الشركتان تبلغ نحو 7و67% في نهاية العام، مقابل متوسط قدره 7و5% فقط أصول ثابته وعقارية لدى البنكين. أما متوسط نسبة الديون على العملاء لدى الشركتين فقد بلغ 1و7%، مقابل نسبة قدرها 1و76% من إجمالي حجم النشاط لدى البنكين المذكورين في المتوسط.(1/52)
... وتبين تلك الأرقام ظاهرتين على جانب كبير من الخطورة بالنسبة للبنوك، أولاهما هي عظم وغلبة حجم الديون التي تسود جانب الأصول من ميزانية كل بنك من البنكين الإسلاميين، وتؤدي إلى عدم جواز تداول أسهم كل منهما إلا بقيمته الاسمية. وهو أمر يعوق حركة التداول لهذه الأسهم في أسواق رأس المال تماما، بل إنه يكفي في حد ذاته لتوقف النشاط المصرفي ككل. وثانيهما اختفاء أي بند من بنود البضاعة والسلع قصيرة وطويلة الأجل (الإنمائية) التي تعاملت بها البنوك من خلال نظام البيع للآمر بالشراء(المرابحة للآمر بالشراء والمشاركة المتناقصة والاستصناع، والإجارة المنتهية بالتمليك). وكما سبق إليه القول فإن هذه المشكلة ينتظر اتساع نطاقها لتشمل جانب الخصوم أيضا في حالة ابتداء البنوك في عمليات التورق. وهكذا فإن البيانات المتاحة تعزز ما سبقت الإشارة إليه بأن السلع في حد ذاتها لا أهمية لها بالنسبة للبنوك بصفة عامة، وبأنها صورية وغير مقصودة في عمليات البيع والشراء التي يتعاقد عليها البنك مع عملائه.(1/53)
... ويجب التعليق هنا على ما أشار إليه فضيلة أ.د. القري بن عيد في بحثه (1) ، إلى أن كلا من البنوك الإسلامية و التقليدية تتعامل في السلع من خلال نماذج متنوعة. والإجابة على هذا التعليق هو نعم، إن البنوك جميعا تتعامل في السلع، ولكن هناك فارق كبير بين التعامل في السلعة على أساس القروض والتمويل الائتماني الربوي وبيوع العينة، وبين التعامل من خلال التجارة الفعلية التي تقوم بها الشركات التجارية والصناعية والخدمية.فالنوع الأول تقوم به البنوك التقليدية والإسلامية، وتحدث في ذلك بلا حرج. أما النوع الثاني فهو خاص بشركات تجارية وصناعية حقيقية. مع ملاحظة أمر مهم وهو أننا نتكلم فقط على جميع السلع التي تتعامل فيها البنوك الإسلامية من خلال أساليب البيع للآمر بالشراء، ويدخل فيها أدوات التورق المختلفة. ويستحوذ ذلك في مجموعه على ما يربو عن 70% ـ 90% من حجم مراكزها المالية.
... السؤال السابع: هل التخصص الكامل في مداينة الناس من خلال نشاط منح الائتمان وتوسيط السلع مقبول أم مرفوض من العلماء من مختلف المذاهب الفقهية:
فبعد إثبات أن النشاط الأساسي الذي تتخصص فيه البنوك الإسلامية، هو منح الائتمان (الإقراض) من خلال توسيط السلع، فإنه يتبقى لنا أن ننبه إلى حقيقة دامغة، وهي أن هذا النوع من التخصص الكامل في عمليات مداينة الناس من خلال توسيط وهمي للتجارة في السلع، قد ذمه العلماء على اختلاف مذاهبهم. وأطلقوا على الفئة التي تمارسه من أجل التكسب من ورائه " أهل التهمة أو أهل العينة".
__________
(1) ... أ.د. القري بن عيد: التطبيقات المصرفية للتورق ومدى شرعيتها، ندوة البركة 2002م : ص 9.(1/54)
... وقد أشار إلى ذلك عديد من الفقهاء أمثال: الدسوقي ، وعليش، من المالكية، والإمام أحمد وابن تيمية من الحنابلة ، ومحمد والزيلعي والحصفكي من الحنفية، والسبكي من الشافعية. بل إنهم في كثير من الأحيان يصدرون حكمين مختلفين على نوع واحد من التعامل، أحدهما بالفساد ، والآخر بالصحة ، وذلك حسب نوع الأشخاص القائمين به ، هل هم من أهل التهمة (العينة) ، فيحكمون عليه بالفساد ، أم هم من التجار العاديين، فيحكمون عليه بالجواز. وفيما يلي عينة من الأقوال الخاصة بالعلماء من كل مذهب من هذه المذاهب:
المالكية:
... يقول العلامة الدسوقي المالكي: أهل العينة قوم نصبوا أنفسهم لطلب شراء السلع منهم ، وليست عندهم ، فيذهبون إلى التجار فيشترونها منهم ليبيعوها لمن طلبها منهم . فهي بَيْعُ مَنْ طُلِبَتْ مَنْهُ سِلْعَةً قَبْل مِلْكِهِ إيَّاهَا لِطَالِبِهَا بَعْدَ شِرَائِهَا . سميت بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل مقصده من دفع قليل ليأخذ عنه كثيرا" (1) .
... ويعرف الإمام ابن رشد أهل العينة بقوله في باب الذرائع الربوية: " إلا أن مالكا كره ذلك لمن هو من أهل العينة : أعني الذي يداين الناس، لأنه عنده ذريعة لسلف في أكثر منه، يتوصلان إليه بما أظهرا من البيع من غير أن تكون له حقيقة (2) ".
... ويقول العلامة الشيخ عليش المالكي في هذا الشأن : " سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن رجل من أهل العينة باع من رجل طعاما بثمن إلى أجل على أن ينقد من عنده دينارا، فكره ذلك ، وقال لست أول من كرهه ، فقد كرهه ربيعة وغيره . فهذه بيعة واحدة صحيحة في ظاهرها، إذ يجوز للرجل بيع سلعته بدينار نقدا، ودينار إلى أجل، فلا يتهم بالفساد فيها إلا من علم ذلك من سيرته ، وهم أهل العينة (3) ".
__________
(1) ... الدسوقي على الشرح الكبير للدردير:3/66.
(2) ... ابن رشد : بداية المجتهد ونهاية المقتصد:2/141.
(3) ... الشيخ عليش: شرح منح الجليل: 2/605.(1/55)
... يقول الإمام السبكي الشافعي في مسألة العينة : والحاصل أنها مراتب (1) .
الأولى : ... أن يجري ذلك بقصد المكروه من أهل التهمة ، فهو حرام عند المالكية ، جائز عندنا مع الكراهة.
الثانية: ... أن يجرى من غير قصد للمكروه،ولا يكون الشخص ممن يتطرق إليه التهمة كقصة عامل خيبر، فالذي ينبغي الجزم به عدم الكراهة، فإنه لغرض صحيح وهو التخلص من الربا.
الثالثة: ... أن يجري بقصد المكروه من غير أهل التهمة فيكره عندنا.
3 ـ الحنابلة:
... يقول العلامة ابن قدامة عن الإمام أحمد وابن عقيل رحمهما الله : " وقد روى عن أحمد أنه قال : العينةُ أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئةٍ .فإن باعه بنقد ونسيئة ، فلا بأس . وقال : أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة، لا يبيع بنقد. وقال ابن عقيل : إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل ؛ ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع بنسيئة جميعا. لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا، ولايكره إلا أن لا يكون له تجارة غيره. انتهى كلام ابن قدامة " (2) .
4 ـ الأحناف :
... جاء في كتاب الدر المختار لعلاء الدين الحصفكي : " بيع العينة ، أي بيع العين بالربح نسيئة ليبيعها المستقرض بأقل ليقضي دينه ، اخترعه أكلة الربا ، وهو مكروه مذموم شرعا لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض " .( الدر المختار لمحمد بن علاء الدين الحصفكي بأعلى حاشية ابن عابدين {رد المحتار} : 5/325) .
... وهكذا يتضح أن التخصص الكامل في مداينة الناس من خلال نشاط منح الائتمان وتوسيط السلع صوريا مرفوض من العلماء من مختلف المذاهب الفقهية. وعلى ضوء ما أشرنا إليه من أدلة متعددة تفيد عدم جواز هذا النشاط، فيجب بالتالي النظر في إلغائه من البنوك الإسلامية.
__________
(1) ... تكملة المجموع: 10/132.
(2) ... ابن قدامة: المغني : 4/133.(1/56)
أما بالنسبة لما يجب أن تتخصص فيه البنوك الإسلامية في مجتمع إسلامي، فهو قاصر على بيع وشراء العملات، وأداء الخدمات المصرفية للعملاء من تحويل العملات للخارج والداخل، وفتح الحسابات الجارية على سبيل الأمانة المحضة، باحتياطي نقدي لدى البنوك المركزية قدره 100%، أو فتح اعتمادات مستندية مغطاة بالكامل، وفتح خطابات ضمان مغطاه بالكامل، وإصدار بطاقات ائتمان مغطاه بالكامل، أو إصداراستشارات مالية واستثمارية(مستشار مالي)، وما شابه ذلك. وأما مهام منح التسهيلات الائتمانية من خلال البيع المؤجل(بالتقسيط)، فمحلها الطبيعي هو الشركات التجارية والصناعية، التي يقبل نظامها إمكانية البيع أو الشراء النقدي للسلع والخدمات بين تلك الشركات وعملائها من الناس على اختلاف شرائحهم، بجانب إمكانية البيع بالتقسيط، وهو القول الواضح للإمام أحمد رحمه الله، كما سبق بيانه حول هذا الموضوع (1) .
... السؤال الثامن: هل براءة أحد طرفي التعاقد من تهمة التواطؤ تلغي أثر الفساد في عقد التورق وبالتالي تؤدي إلى الحكم بصحته:
__________
(1) ... لمزيد من التفصيل، انظر ابن قدامة: نفس المرجع السابق. وانظر أيضا: د. حسين كامل فهمي، أدوات السياسة النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية في اقتصاد إسلامي : ص 82.(1/57)
يقول أ. د. القري بن عيد في معرض دفاعه عن عقود التورق، وكذلك فضيلة أ.د. يوسف القرضاوي في دفاعه عن بيع المرابحة للآمر بالشراء، أن قصد التحايل من جانب عملاء البنك للتعامل بالعينة غير وارد في حالة عمليات التورق المباشر أو العكسي، وكذا في حالة المرابحة للآمر بالشراء. وهذه العمليات تتم بطريقة شرعية، لعدم ثبوت التهمة على العملاء في معظم الحالات التي يتقدمون فيها إلى البنوك الإسلامية بهدف اقتناء المال والتصرف فيه أو اقتناء سلعة بطريقة مشروعة للاستهلاك الشخصي (1) . وأشار أ.د. القري في هذا الصدد إلى أن العلامة ابن القيم قد أفاض في الحديث عن الحيل المباحة والمخارج في إعلام الموقعين حتى ضرب للمخارج مثلا وهو التورق (2) !؟
والرد على هذا القول يأتي من بعدين.
__________
(1) ... أ.د. القري بن عيد: التورق كما تجريه المصارف، ص 8 ، وانظر أيضا فضيلة أ.د. يوسف القرضاوي، بيع المرابحة، ص 65.
(2) ... أ.د. القري بن عيد: نفس المرجع السابق، ص 9.(1/58)
... البعد الأول: نقول وبالله التوفيق : يتبين من التعريفات الواردة عن بيع العينة، أن الأصل فيها كون طرفا التعامل (المشتري الراغب في السلعة والبائع ) متواطئين، ولهما عادة نفس الغرض، وهو تبادل دراهم بدراهم مع الزيادة وبينهما سلعة صورية غير مقصودة(حريرة) . إلا إنه بالتدقيق في وصف الفقهاء لبيع العينة فسيلاحظ أن الأمر قد لا يقتصر على هذه الحالة فقط؛ بل ربما يتسع ليشمل حالات أخرى، يكون كل من المشتري والبائع فيها من أهل التقوى والفضل، أو قد يكون أحدهما فقط صاحب فضل وتقوى، بينما الآخر يقصد البيع بالعينة . كما لو كان البائع من أهل العينة، كما هو الحال بالنسبة للبنوك الإسلامية، بينما المشتري من التجار أو المستهلكين العاديين، ولا يرغب من وراء شراء السلعة من خلال المرابحة للآمر بالشراء على سبيل المثال إلا للمتاجرة فيها، أو لاستهلاكها استهلاكا طبيعيا. والمثال على هذه الحالة يتضح جليا من حديث السيدة عائشة رضوان الله عليها بالنسبة للتعامل الذي تعامل به زيد رضي الله عنه (1) . فرغم جلالة زيد وتقواه، ظل هذا التعامل الذي تعامل به عند الفقهاء فاسدا في جميع الأحوال. مما يعني أن الحكم بفساد هذا النوع من العقود ـ عند من ينهى عنه ـ قد يتسع ليشمل جميع هذه الاحتمالات بدون استثناء. وبمعنى آخر، رغم أن الغالب هو حدوث التواطؤ من الطرفين معا، إلا أنه لا يمنع أن يكون طرف واحد فقط هو الذي يسعى لاستغلال هذه الطريقة لصالح نفسه وتحقيق أغراضه. ونقصد في حالتنا هذه هنا البنوك الإسلامية التي تصر على التخصص المحض في نشاط منح الائتمان والاسترزاق منه من خلال عمليات البيع للآمر بالشراء بجميع اشكاله. وفي كلتا الحالتين يرى الفقهاء بطلان العقد وسد الذريعة على الجميع (2) .
__________
(1) ... راجع الحديث رقم (2) ، ص ( 4 ) من هذا البحث.
(2) ... انظر القرافي ، الفروق، 2/132.(1/59)
... البعد الثاني: يمكن الرد على النقطة السابقة التي أثارها كل من فضيلة الدكتور يوسف القرضاوى و الدكتور القري بن عيد، بإثبات صحة الاحتمال الثاني أيضا، وهو وجود الرغبة لدى طرفي التعاقد معا (العميل والبنك)، في آن واحد، للدخول في مثل هذه العقود الصورية. وذلك بالإشارة إلى حالة بيوع التورق الذي هو الموضوع الأساسي لهذا البحث. فبمجرد أن أعلنت البنوك الإسلامية عن قصدها من وراء هذا النوع من البيوع، وهو توفير التمويل الائتماني للعملاء في شكل نقود سائلة بطريقة غير مباشرة ومبتكرة (قروض على أقساط مؤجلة)، تدفقت جماهير غفيرة من العملاء على البنوك للتعامل معها من خلال هذا النوع من العقود الصورية للوصول إلى غرضهم وهو الحصول على قروض نقدية سائلة يدفع عليها مبالغ إضافية(ربا).أما الغرض الذي يسعى إليه العميل (مستثمر ـ مستهلك) من وراء هذا النوع من التمويل، فهو الحصول على السيولة النقدية لمقابلة احتياجاته مباشرة، بدلا من أن يشتري سلعا ثم يضطر إلى بيعها في السوق.
وبذلك نستطيع القول بأن الرغبة في التواطؤ والتعامل الصوري يمكن تصورها سواء من جهة البنوك الإسلامية وحدها، أو من جهة عملائها وحدهم بصفة مستقلة، كما يمكن تصوره شاملا للطرفين معا. وفي جميع الأحوال، فإن الأثر النهائي لثبوت التواطؤ على العقد يكون واحدا لا يتغير، وهو الحكم عليه بالبطلان.
أما قول د. القري، الذي نسب فيه كلاما إلى العلامة ابن القيم بما يفيد أنه يرى في التورق مخرجا للناس، فإنني أتعجب من هذا القول، وأحيل فضيلته إلى قول نفس العلامة ابن القيم الذي يقول فيه: " وقالوا بجواز مسألة التورق وهي شقيقة مسألة العينة، فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره(الطرف الثالث)؟! (1)
__________
(1) ... ابن القيم : إعلام الموقعين،3/200.(1/60)
... السؤال التاسع: هل تطبيق فكرة القبض الحكمي على عمليات التورق تعتبر صحيحة شرعا، وهل يجوز التوسع في تطبيق هذه الفكرة، بالسماح بتداول السلع العالمية بين الناس(بيعا وشراء) عن طريق القبض الحكمي بموجب صكوك بها وصف مفصل للسلعة، كما هو الحال بالنسبة لتداول أسهم الشركات في البورصة ؟
يمكن الرد على هذا السؤال من خلال أبعاد ثلاثة، هي:
البعد الأول:(1/61)
... أن الحكم على أداة التورق في حد ذاتها بعدم الجواز، ليس له علاقة مباشرة بموضوع القبض الحكمي، وهو في أصله جائز بالنسبة لحالات استثنائية معينة ومحددة، وقد جوزه الفقهاء في بعض من المسائل التي يصعب فيها القبض الفعلي. وإنما نرجع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث رقم (6): " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". ومن توسل بوسيلة صورتها حلال ليأتي بها عملا حراما، فإنما عمله مردود عليه عند الله. فإذا كان العمل نفسه حرام، وكان كل من المقصد والنية فيه واضحين، فلا يحتاج الأمر لكي نحكم على هذا العمل بالحرمة النظر في الوسيلة المستعان بها وهي النض الحكمي. وعلى سبيل المثال إذا وسط كل من طرفي العقد سلعة فعلية كحريرة أو علبة حلوى على سبيل المثال، وتبادلاها بينهما مراعيان في ذلك جميع أركان وشروط عقد البيع، فيقول البائع بلفظ البيع القاطع بصيغة الماضي:"بعتُك هذه السلعة بسعر آجل قدره مائة وعشرون ألف جنيه "، فيرد عليه المشتري بصيغة الماضي أيضا قائلا: "اشتريتُ" ، ثم يقبضها منه المشتري قبضا فعليا، وقد يسير بها بضع خطوات إلى الخارج، ثم يعود إلى البائع مرة أخرى ليبيعها له بنفس الأسلوب ويسلمها له، ولكن بسعر مائة ألف جنيه. فالسلعة موجودة في كلتا البيعتين، والسعر معلن بينهما، والصيغة واضحة، والقبض الفعلي تم، والاستلام تم. إلا أن العلماء المانعون لهذا البيع يرون بعد إتمام جميع هذه الخطوات بطلان كلتا البيعتين. والسبب في ذلك أن النية والقصد واضحان من البداية أنهما لم يتوجها أصلا لشراء وبيع الحريرة أو علبة الحلوى، وإنما الأمر لا يتعدى كونه مائة ألف بمائة وعشرين ألفا، تحايلا عليه من خلال بيعتين متتاليتين.
البعد الثاني: مشكلة قبض السلعة:(1/62)
من الأبعاد المهمة التي قد ترتب انعكاسات سلبية على البنوك بسبب أداة بيع التورق (وكذا سائر الأدوات القائمة على صيغة البيع للآمر بالشراء الذي تمارسه البنوك الإسلامية)، موضوع تصرف البنك في السلع المعينة والموصوفة الغائبة عن مجلس العقد، وبصفة خاصة المكيلة أو الموزونة، والمشتراة من البائع الأصلي قبل القبض وقبل انتقال الضمان من البائع الأصلي إلى البنك، بما يخالف الشروط اللازمة لصحة ونفاذ هذا البيع عند معظم أهل العلم. وقبل إبداء أي تعليقات على هذا الموضوع فإنه يجدر استعراض الآراء المختلفة التي وردت من الفقهاء حول هذا الموضوع ، لنتمكن من حصر الضوابط المحيطة به، ومن ثم الخروج برأي محدد في هذا الشأن :
... فيما يلي استعراض لرأي المذاهب المختلفة بالنسبة لشروط القبض لهذا النوع من السلع:
أ) ... يرى الشافعية عدم جواز التصرف في جميع أنواع السلع المباعة قبل قبضها. فالقبض وانتقال الضمان عندهم في المنقول يكون بالنقل وفي العقار بالتخلية (1) . كما أن بيع السلعة الغائبة، غير الموصوفة في الذمة، عندهم لا يصح سواء أكانت السلعة موصوفة أو إلى أجل، وإنما تباع مع ثبوت شرط الخيار للمشتري، فله أن يمضي في البيع ، وله أن يحجم عنه (2) .
ب) ... لا يجوز عند الأحناف في القول الظاهر في المذهب ـ وهو أيضا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ـ بيع جميع أنواع السلع قبل القبض باستثناء العقار ففيه اختلاف. والقبض لا يتم عندهم في جميع أنواع السلع التي لها مثل وتباع بالمكايلة أو الموازنة، إلا بالكيل أو الوزن، ويشترط في هذه الحالة جريان صاع البائع و صاع المشتري في الشيء المباع. أما في العقار فيتم القبض فيه عندهم بالتخلية. وعند محمد لا يجوز بيع أي شيء إلا بالقبض، بما في ذلك العقار (3) .
__________
(1) ... الإمام النووي: المجموع: 9/260.
(2) ... الإمام الشافعي: الأم 6/115.
(3) ... الكاساني: البدائع، 7/3225.(1/63)
ج) ... لا يجوز عند المالكية بيع الطعام و لا الشراب قبل قبضه ـ باستثناء المباع جزافا ففيه خلاف. والقبض عندهم بالنسبة للطعام يكون بالكيل أو الوزن أو العدد، ويشترط جريان صاع المشتري و صاع البائع في السلعة المباعة (1) . وكذلك لا يجوز عندهم بيع أي سلعة أخرى من غير الطعام مما يكال أو يوزن كالزنك والقصدير والنحاس قبل القبض، إذا كان بيعها بسعر آجل. لأن ضمان المكيل أو الموزون على البائع حتى يستوفى، فإذا باعه للمشتري بثمن مؤجل قبل أن يستوفى كان ذلك من بيع الكالئ بالكالئ (2) . أما بيع السلع الموصوفة الغائبة عن المجلس فيشترط فيها عندهم أن لا تكون بعيدة جدا عن مجلس العقد.
د) ... لا يجوز عند الحنابلة بيع كل ما يكال أو يوزن أو يعد ـ و كذا المبيع بصفة أو رؤية متقدمة ـ إلا بعد تمام القبض. والقبض يتم عندهم في كل نوع حسب نوعه، فما يوزن يتم قبضه بالوزن، وما يكال يتم قبضه بالكيل000و هكذا . ويشترط هنا أيضا جريان صاع المشتري وصاع البائع في الشيء المبيع (3) .
__________
(1) ... القرافي : الذخيرة : 5/133.
(2) ... الإمام الباجي : المنتقى شرح الموطأ: 4/158و162و5/35.
(3) ... ابن قدامة ، المغني: 4/84 ـ 85.(1/64)
... ومن هذا كله يتضح أن عمليات البيع والشراء تعني عند العلماء مزاولة التجارة بمعناها الحقيقي . فالبيع والتصرف فيما ينقل من السلع التي تكال أو توزن سواء أكان طعاما أو غير ذلك، لا يتم عند قاعدة عريضة من هؤلاء العلماء، حتى عند المالكية ( إذا بيع بسعر آجل) ، إلا بعد قبضه ، وقبض هذ النوع من السلع يكون بالوزن أو الكيل، و لا يتم إلا بنقل السلعة المباعة من مكان البائع الأول إلى المشتري الأول . فلا يحل لهذا المشتري أن يتصرف في السلعة بالبيع إلا بعد أن يتسلمها وينقلها إلى حوزته.. فإذا أريد بيع نفس الكمية المباعة من السلعة إلى مشتر ثان، تعين جريان صاع المشتري الأول وصاع المشتري الثاني من جديد. وهذا يصعب تصوره إلا إذا توافر عند البائعين الأول والثاني الرغبة الأكيدة والاستعدادات الحقيقية للتجارة من الأصل، كوجود مخازن محلية ، ونوعيات من العمالة المتخصصة في البيع و الشراء 000الخ .
... وبالنظر إلى موضوع عقود التورق، فيلاحظ في هذا الشأن ما يلي:
أ ـ ... أن الفقهاء من جميع المذاهب ـ ومنهم المالكية ـ على الرأي بعدم جواز تصرف المشتري بالبيع لجميع أنواع السلع(سواء طعام أو غير طعام) التي تكال أو توزن، إلا بالقبض إذا تم وزنه أو كيله من البائع وكان بيعه بسعر آجل. ويشترط لنقل الملكية للمشتري الثاني في هذه الحالة جريان كل من صاع البائع وصاع المشتري في الكمية المباعة.
وبمراعاة أن جميع أنواع عقود البيع التي تحررها البنوك لعملائها سواء أكانت تورقا أو مرابحة هي بثمن آجل. فإن أمر التصرف فيها قبل قبضها وجريان صاع البائع والمشتري فيها، يصبح من الناحية الشرعية غير جائز.(1/65)
ب ـ أن طريقة القبض الحكمي تعتبر كبديل مستثنى من الأصل وهو طريقة القبض الفعلي، لظروف تتعلق بصعوبة الإتيان بالأصل. وهذه الخاصية تتعلق ببعض الأحوال الخاصة من العمليات، و في عقود واضح فيها أن نية الطرفين فيها متوجهة أصلا للبيع أو للتبادل الحقيقي بين الثمن والمثمن، وليس للتحايل. أما عمليات التورق فنية التحايل فيها معلنة مسبقا، وهي تتعلق بسلع من الأصناف المقدرة التي يجب أن تباع بالوزن أو الكيل، وأن يطبق عليها القبض الفعلي الحقيقي، بحيث يقبضها البنك ـ أو وكيله ـ قبضا فعليا طالما أنه قادر على ذلك، ثم يعيد بيعها للغير بعد ذلك. لأن الأصول التي لها أبدال ينتقل إليها عند العجز، مع القدرة على الأصل في ثاني الحال (1) ، فلا يعيد بيعها باستخدام القبض الحكمي بدون مبرر. ثم إنه بسبب أن القصد من التورق ليس الحصول على السلعة المباعة، وإنما الحصول على نقود في شكل قروض سائلة مقابل عوض يزيد عن أصل رأس المال، وهو حرام لوقوع الربا في البيع، وأسلوب النض الحكمي يلعب دورا أساسيا في إتمام هذا العمل الحرام. فيمنع من يريد استخدامه سواء من البنوك أو غيرها من المؤسسات المالية سدا للذرائع، ولأن الرخص لا تعلق بالمعاصي. ألا ترى أن سفر المعصية لا يبيح لصاحبه القصر ولا التيمم ولا أكل الميتة، وهو قول جمهور العلماء من الشافعية والمالكية والحنابلة (2) . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثبت في الصحيح أنه قال< إنٌَما الأَعْمَالُ بالنِيَاتِ> فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ دراهم بدراهم ، فبأي طريق يوصل إلى ذلك كان حراما، لأن المقصود حرام لا يحل قصده، بل قد نهى السلف عن كثير من ذلك سدا للذرائع، لئلا يفضي إلى هذا المقصود (3) .
__________
(1) ... بدر الدين الزركشي: المنثور: 1/88.
(2) ... النووي : المجموع: 4/20 .
(3) ... ابن تيمية: مجموع الفتاوي: 29/436.(1/66)
ج ـ أن كثيرا من الفقهاء يرجحون قول الشافعية في اشتراط القبض الفعلي للسلعة من أي نوع( طعام أو غير طعام ) قبل التصرف فيها، استنادا للأحاديث التي رواها الشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن حكيم بن حزام، ومن ذلك مايلي:
... 11 ـ حديث ابن عباس : " حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ح و حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ وَقُتَيْبَةُ قَالا حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ (1) .
12 ـ حديثي حكيم بن حزام : قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيَّ قَالَ فَإِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ (2) .
__________
(1) ... حديث ابن عباس رواه البخاري بلفظ : حتى يقبض ، و مسلم بلفظ : و أحسب كل شئ بمنزلة الطعام . و يقول ابن حجر : يدل على صحة قياس ابن عباس : حديث حكيم بن حزام ( رقم 1 في هذا البحث ) . انظر ابن حجر العسقلاني ( تلخيص الحبير : 2/25).
(2) ... حديث حكيم بن حزام رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ في مسند المكيين ، حديث رقم 1477. و لكن في سنده رجل مجهول، و قد رواه البيهقي بنفس اللفظ موصولا، وقال عنه : إسناده حسن متصل ، وفي الصحيحين أحاديث أخرى بمعناه ( النووي : المجموع : 9/ 252).(1/67)
13 ـ وعَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مِنْ الْبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي أَبْتَاعُ لَهُ مِنْ السُّوقِ ثُمَّ أَبِيعُهُ قَالَ لا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (1) .
... و هذه الأحاديث منها الصحيح، ومنها الحسن. وتدل جميعها على أن التصرف في جميع أنواع السلع(طعام أو غير طعام) لا يكون إلا بعد القبض الفعلي للسلعة، وهو القول المعتمد في المذهب عند الشافعية، وقد رجحه العلامة ابن القيم، وكثير غيره من العلماء على اختلاف مذاهبهم، لأنه أقرب الآراء إلى ما يفهم من الحديث، ولأن علة الغرر في حالة بيع الإنسان ما ليس عنده تعم جميع أنواع السلع دون تفرقة. وهذا الذي أؤيده.
__________
(1) ... رواه الترمذي ( البيوع ) و النسائي ( البيوع ) و أحمد ( مسند المكثرين من الصحابة ) و أبو داود ( البيوع ) و ابن ماجة (التجارات) . و قال عنه الترمذي حديث حسن صحيح، و قد روي من غير وجه عن حكيم ، و رواه عوف عن ابن سيرين عن حكيم ، ولم يسمعة ابن سيرين منه إنما سمعه من أيوب عن يوسف ابن ماهك عن حكيم ، ميز ذلك الترمذي و غيره / انظر : ابن حجر العسقلاني تلخيص الحبير: 2/5.(1/68)
د ـ أن لدينا شاهد عدل، وهو فضيلة أ.د. على السالوس وهو يتكلم عن زياراته الشخصية المتكررة للمخازن الدولية للسلع، التي تتم من خلالها عمليات المضاربات السلعية وعمليات التورق المطلوب البت في أمرهالا. فيقول فضيلته: " والمصارف الإسلامية منذ نشأتها لا أعلم أي مصرف تسلم سلعة من السلع، أو تسلم الإيصالات الأصلية واحتفظ بها ليبيع في الوقت المناسب، سواء هو أو وكيله". ويقول أيضا:" إن السلعة التي ذكرت للتحليل لا وجود لها، ولا يعلم المشتري عنها شيئا، ولا يمكن أن يتم تسليمها، وإنما التعامل في أوراق فقط، وأوراق المخازن الأصلية التي تثبت الملكية لا أحد يتسلمها أو يفكر في الحصول عليها، والذين يحصلون عليها للتسلم شركات عملاقة تشتري بمئات الملايين أو بالمليارات، ويمكن لها التعامل في البرصة، أما المبالغ التي تودع في البنوك في هذا المنتج فهي ضئيلة لا تصلح لشراء الأطنان من المعادن. لذلك وجدنا من هذه البنوك من يلغي السلعة أصلا، ووجدنا كذلك من يصرح بأن العمليات تتم بالأوراق فقط، فالسلعة غير مقصودة. (1) " .
وكلام فضيلته لا يحتاج إلى مزيد من البيان، أو التعليق على أن التعامل من خلال أداة التورق المصرفي هو تعامل صوري يجب منعه في أي دولة من الدول الإسلامية.
هـ ـ وهذا ينقلنا إلى التعليق على ما اقترحه أ.د.القري بن عيد في نهاية بحثه عن التورق، بأنه يمكن تداول الإيصالات التي تصدرها المخازن العالمية، بالبيع والشراء بين البنوك المشترية للسلع العالمية وبين عملائها، بطريقة القبض الحكمي في البرصات ـ على غرار ما يتم به تداول أسهم الشركات في البورصات المختلفة (2) .
__________
(1) ... أ.د. على السالوس: المنتج البديل للوديعة لأجل ـ عرض ومناقشة : ص 13.
(2) ... أ.د. القري بن عيد : التورق كما تجريه المصارف : ص 14.(1/69)
والرد على اقتراح فضيلته هذا، هو أن أسهم الشركات تتعلق بعقارات من مباني وأراضي وأصول ضخمة يصعب تداولها بين الناس بطريقة القبض الفعلي، فكان أنسب الطرق للتعامل معها هو القبض الحكمي بالتخلية من خلال إصدار الأسهم التي يسهل تداولها، مع وجود الشركات نفسها والأصول التابعة لها في محلها وقريبة من المتعاملين بتلك الأسهم. أما السلع الدولية من قمح وشعير ونحاس وزنك وما شابه ذلك فهي جميعا من المنقولات المقدرة والتي اتفق جمهور الفقهاء على أن استيفاءها يكون بما يقدر من كيل أو وزن أو عد بحضور المشتري أو وكيله، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من ابتَاع طعَامَاً فلا يبِعْهُ حَتَى يَكتَالَهُ" (1) . وقد روى مالك رحمه الله في الموطأ أنه بلغه أن صكوكا خرجت للناس في زمان مروان بن الحكم من طعام الجار، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت، ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم فقالا: أتحل الربا يامروان؟ فقال: أعوذ بالله، وماذاك؟ فقال: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها قبل أن تستوفى، فبعث مروان بن الحكم الحرس، ينزعونها من أيدي الناس، ليردوها لأهلها (2) .
ومن هذا كله، نرى عدم جواز عمليات التورق المصرفي، وما يرتبط بها من اقتراحين يخصان أسلوب القبض الحكمي، وكذا اقتراح تداول الإيصالات بين الناس.
... السؤال العاشر: ماهو الرأي بالنسبة للبطاقات الائتمانية التي تصدرها البنوك الإسلامية والمدعمة بعمليات التورق:
أقول وبالله التوفيق، إن عمليات التورق المصرفي المرتبطة بهذه البطاقات يحاط بها أخطاء شرعية من ثلاثة أبعاد:
__________
(1) ... أخرجه مسلم عن ابن عباس : 3/1160 و البيهقي: 5/313 و أبو داود: 3/281.
(2) ... الزرقاني: شرح موطأ الإمام مالك : 4/6 ـ ابن عبد البر: التمهيد: 22/85.(1/70)
... البعد الأول: هي مجموعة الأخطاء الخاصة بأسلوب التورق نفسه، وقد تم استعراضها بالتفصيل من خلال الإجابة على التسع أسئلة السابقة. وفي رأيي، أن هذه الأخطاء في حد ذاتها كافية شافية للحكم بعدم جواز استخدام البطاقة على النحو السابق بيانه.
... البعد الثاني: أن عملية التورق هذه يقصد بها في الأساس الأول فرض عقوبات مالية، أو بمعنى آخر فوائد تأخير، على العميل مقابل مد أجل السداد، وهذا عين ربا الجاهلية الذي يقول فيه المدين لدائنه:" أمهلني أزدك" وهو الذي نهى عنه العلماء بالإجماع في كل عصر ومصر.
... البعد الثالث: أن هذا النظام يفتح الباب على مصراعيه لتطبيق ميكانيكية الربا المضاعف، أي الفوائد المركبة. وذلك في حالة بقاء أصل الرصيد المعلق من الدين، مع تكرار البنك لعمليات التورق عليه، وزيادة سعر السلعة المتداولة. وهو يعني مضاعفة الفائدة مع كل عملية جديدة.
... ولاشك أن هذه الباقة من الأخطاء الشرعية تؤدي إلى مفاسد جسيمة لا يمكن قبولها ولا التغاضي عنها بأي حال من الأحوال.
... السؤال الحادي عشر: إذا كان أسلوب التورق المصرفي فيه كل هذه المآخذ، فما هو الرأي بالنسبة للمزايا التي يوفرها هذا الأسلوب سواء للبنوك أو لعملائها أو للدولة ككل؟(1/71)
الرد على ذلك هو أن المفاسد المترتبة على استخدام أسلوب التورق المصرفي بجميع أشكالة تعتبر عظيمة، لارتباطها بواحدة من أكبر الكبائر، وهي تفشي التعامل بالربا بين البنوك وعملائها. فالربا من أعظم الكبائر التي نهى الشارع الكريم عنها نهيا مغلظا، لقول الله عز وجل : [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ و ذَرُواْ مَا بَقيَ مِنَ الرِبَا إِنْ كُنْتُم مُؤمِنِينَ. فَإِن لَّم تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَربٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ] [ سورة البقرة : 278 ـ 279] .و للحديث الذي رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ] (1) .
... وحيث إن جميع المصالح المترتبة على التعامل بأسلوب التورق، مهما كبرت لا يمكن مقارنتها بمفسدة انتشار التعامل بالربا بين الناس، فإنه يتعين الأخذ بالقاعدتين:" درء المفاسد أولى من جلب المصالح". و" إذا تعارضت مفسدة ومصلحة ، قدم دفع المفسدة" (2) . وعلاوة على ذلك فإن كثيرا من المصالح التي عددها المجوزون لهذا الأسلوب مشكوك في تحققها، كما هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للقول بأن التورق يسهم في ربط القطاعين المالي والسلعي(الإنتاجي) في الدولة، ونحن نتساءل ما هي المصلحة المحققة للاقتصاد القومي من وراء شراء وبيع سلع معظمها أجنبية، ولا تنتقل من مخازن الموردين في الخارج؟!
__________
(1) ... الحديث رواه البخاري ( الوصايا) ، و مسلم ( الإيمان ) ، و النسائي ( الوصايا).
(2) ... الإمام السيوطي: الأشباه والنظائر، ص 97.(1/72)
أما بالنسبة لما أشرنا إليه في هذا البحث من أن استخدام أسلوب التورق قد يُمكِنُ السلطات النقدية من التغلب على مشكلة عدم فعالية الهيكل الحالي للبنوك الإسلامية في تحقيق أهداف السياسة النقدية للدولة. فالرد عليه هو بالرجوع إلى القاعدة التي تقول : " لا تُزالُ مفسدةٌ بمفسدة أعظم منها. والضرر لا يُزال بضرر مثله أو بما هو أعظم منه (1) .
ونقول في هذا الشِأن، إنما الحل يكون بإعادة النظر بصفة شمولية في الهيكل الحالي الذي تقوم عليه البنوك الإسلامية، بل والنظام المصرفي الإسلامي ككل، ومحاولة تقويم أبعاد المشكلات الشرعية والاقتصادية المتعلقة بكل منهما، وبصفة خاصة مشكلة الاستمرار في إقرار البنوك الإسلامية على نشاط منح الائتمان الذي تنتهجه، وهو أصلا مذموم من عدد كبير من الفقهاء من مختلف المذاهب الفقهية، ويؤدي إلى تفشي الربا في العالم الإسلامي، على النحو الذي حاولت بيانه بالتفصيل في هذا البحث (2) . فضلا عن أن فعاليته في تحقيق أهداف السياسة النقدية للدولة تكاد تكون معدومة.
الجزء الرابع
أهم النتائج التي استخلصها الباحث من البحث
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن والاه.
__________
(1) الإمام السيوطي، نفس المرجع السابق: ص 96.
(2) انظر السؤال السادس.(1/73)
إن فكرة أداة التورق الفردي والمصرفي المطروحة للمناقشة في هذه الجلسة الكريمة، تستدعي منا وقفة موضوعية، وجادة من خلال مجمع الفقه الإسلامي الموقر لبحث الأبعاد المختلفة المحيطة بموضوع منح الائتمان من خلال المصارف الإسلامية. فالتيار الجارف نحو استخدام مزيد من الأدوات المصرفية التي تتصف بأنها بيوع عينة، تتخلص من خلالها البنوك الإسلامية من السلع محل التعاقد قبل أن تدخل باب البنك، لن ينقطع. وهو أمر وارد، لا مفر للبنوك الإسلامية من الخوض فيه طالما أنها ارتضت من البداية التخصص في نشاط منح الائتمان. وأنا أدعي بأن ذلك سيؤدي في النهاية، لا محال، إلى تفشي التعامل بالربا في ربوع العالم الإسلامي كله بطريقة خفية.
أيها السادة الأفاضل العلماء، إن المفاسد الكبيرة المترتبة على العمل بأسلوب التورق المصرفي ليدعونا جميعا إلى مناقشة الأوضاع الخاصة بالنظام المصرفي الإسلامي ككل. ولقد حاولت على مدى يربو على خمسة وعشرين عاما، و في عديد من المؤتمرات والندوات واللقاءات العلمية السابقة، لفت النظر إلى هذه الحقيقة. واليوم أنتهز فرصة هذا اللقاء الكريم لأكرر دعوتي أمام حضراتكم، من خلال هذا البحث لمحاولة التأمل بهدوء وإعمال الفكر في نظام الائتمان المصرفي، الذي نحاول التوسع في تطبيقه الآن تحت مسمى النظام المصرفي الإسلامي، رغم أن هذا النظام لا يناسب الدولة الإسلامية. فضلا عن كونه مذموما من قبل عدد كبير من الفقهاء من جميع المذاهب الفقهية، على النحو الذي أشرت إليه في هذا البحث، وفي أبحاث أخرى سابقة قدمتها إلى مجمعكم الموقر.(1/74)
والذي حاولت إثباته في هذا البحث من خلال الأدلة الشرعية النقلية والعقلية التي فتح الله بها علي، هو أن ما يجب النظر في منعه وسد جميع الذرائع المؤدية إليه، ليس هو فقط أسلوب التورق في حد ذاته، وإنما الأمر أصبح يلح علينا الآن لبسط نطاق المنع ليشمل نظام الائتمان المصرفي الإسلامي ككل. خاصة في ظل ما تم استعراضه في هذا البحث من أوجه قصور متعددة تتعلق به، سواء من الناحية الشرعية أومن الناحية الاقتصادية، وإنه من الصعب إصلاح تلك الأوجه أو التغلب عليها في ظل المتطلبات والمحددات العملية التي يستلزمها نشاط منح الائتمان بصفة عامة. فهذا النشاط وإن كان سائدا في جميع أنحاء العالم غير الإسلامي، فهو غير مقبول شرعا في مجتمعاتنا سواء أكان في شكله التقليدي الربوي (المباشر)، أم في شكل بيوع عينة(غير مباشر)، لما يترتب عليه من تفشي التعامل بالربا بين الناس. ويأتي هذا بصفة خاصة في ظل حقيقة معينة دامغة، وهي أن المحددات و المتطلبات الفنية والعملية للنظام المصرفي بصفة عامة(سواء تقليدي أو إسلامي)، لا تقبل المساومة، أوالتغاضي عنها. فإعطاء أوامر للبنوك الإسلامية للتوسع في التجارة الفعلية من خلال القبض والامتلاك الحقيقي للسلع ثم البيع، أو للتوسع في امتلاك حصص في شركات إنمائية دون مرعاة للحدود التي يقتضيها العرف المصرفي، كل هذا يمكن أن يجر البنوك والأسواق النقدية في اقتصاديات الدول الإسلامية إلى الدمار.
إن محاولة الاستمرار في تطبيع أدوات الائتمان المصرفي التقليدي للأحكام الشرعية لتتواءم مع هذا النشاط ومتطلباته، قد نتج عنها عددا من الأدوات المصرفية التي أقل ما يمكن أن يقال بشأنها، أنه يجب إعادة النظر فيها جميعا، وبأن هذه المسيرة لن تؤدي في النهاية إلا إلى مزيد من الانتشار للتعامل الربوي في ربوع العالم الإسلامي كله، من خلال بيوع العينة التي نهانا عنها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم نهيا مغلظا.(1/75)
... وقد يثار هنا سؤالان مهمان، وهما:
الأول: ... إذا أخذنا بهذا الرأي وألغينا نشاط منح الائتمان والإقراض والتسهيلات الائتمانية من خلال البنوك الإسلامية، فمن سيقرض الناس بعد ذلك، علما بأن إقراض الناس والتيسير عليهم يعد من الأعمال الخيرية المندوب فعلها ويثاب فاعلها عند الله ؟
... والإجابة على ذلك هي أن الإقراض قربة من القرب التي يتقرب بها الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى من خلال القروض الحسنة، وليس من خلال التجارة في النقود عن طريق أساليب التحايل المباشر وغير المباشر. لأن الأحكام الشرعية المناطة بالنقود تأبى على صاحب النقود أخذ الأجرة على مجرد انتفاع الغير بنقوده من خلال القرض أو منح تمويلات ائتمانية.
إن ما ستنتهي إليه التجربة العملية للنشاط المصرفي الإسلامي ـ إذا لا قدر الله اعتمدت صيغة التورق ـ لن يزيد عن كونه تجارة في النقود المحضة والاسترزاق منها ولكن عن طريق التحايل والالتفاف غير المباشر، وليس التجارة في السلع بأي حال من الأحوال، كما حاولنا إثباته في هذا البحث.
أما التجارة الحقيقية في السلع والأصول المختلفة، وما يتخللها من بيع بالتقسيط، وبأجل وهو جائز شرعا باتفاق جمهور الفقهاء من جميع المذاهب، فمحلها الشركات التجارية والصناعية، التي تبيع ما تمتلكه بالفعل، إما عن طريق الشراء الذي يتخلله القبض الفعلي للسلعة بعد نقلها إلى مخازن الشركة، وإما بالإنتاج الفعلي من سلع وخدمات لصالحها وليس لصالح المشتري الآمر بالشراء من خلال عمليات المرابحة أو التورق، كما تجريها البنوك.(1/76)
وكذلك الاستصناع للعقارات والآلات الصناعية والمصانع وما شابه ذلك فمحلة عقد السلم عن طريق شركات المقاولات وشركات التصنيع الكبيرة، وهو رأي جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة، وليس عن طريق عقد الاستصناع عن طريق البنوك. حيث يمكن دفع قيمة كل مرحلة من مراحل التصنيع مقدما، وليس مؤخرا كما هو وارد بالقرار 65(3/7) الصادر من المجمع في هذا الشأن. والذي لا يعكس إلا تمويلا ائتمانيا نقديا محضا من قبل الصانع، أو الممول(البنك)، وهو ملزم للطرفين مسبقا وفقا لقرار المجمع، ويحصل البنك أو حتى الصانع مقابله في النهاية على أجرة تشمل تكلفة الصنع والعمل، بالإضافة إلى أجرة على إقراض المال، بما يؤدي إلى وقوع الربا بدون أدنى شك(وهو يمثل تكلفة الفرصة البديلة لوحدات النقود المُقرََضة طوال فترة التمويل، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى عدة سنين).
كذلك فإن طلب الشركات من الناس للإسهام في رؤوس أموالها أو زيادته، يكون من خلال سوق رأس المال عن طريق عقد الشركة الشرعي الموروث، الذي يشترك فيه الشركاء (قدامى ومحدثون جميعا) في رأس المال، ولا يجوز لأي من طرفي العقد الاشتراط مسبقا على الطرف الآخر ضمان رأس المال، كما لا يجوز للشركات إلزام الشركاء مسبقا على التخارج من الشركة، كما هو الحال في عقد الشركة المتناقصة الذي تستخدمه البنوك الإسلامية للالتفاف حول تمويل ائتماني محض لشراء سيارة أو غسالة لأحد العملاء.(1/77)
وأخيرا فإن الأفراد لا يذهبون إلى البنوك الإسلامية ليأمروها بشراء أصل رأسمالي كي يؤجروه منها كما تفعل البنوك التقليدية، وإنما يذهبون إليها لتمول لهم شراء الأصل عن طريق البيع للآمر بالشراء (وهو أيضا عقد باطل)، ويدفعون مقدما لثمن الشراء لكي يتملكوه. ويفترض أنهم قد تملكوه بالفعل بمجرد دفع القسط الأول من الثمن. إلا أن البنوك لا تحقق لهم هذا المطلب إلا بالدخول معهم في مجموعة من العقود المركبة قد تصل إلى أربعة عقود، لا لشيء إلا لتضمن لنفسها عائدا على التمويل الممنوح في شكل نقدي يضاف إلى قسط السداد على أنه يمثل الأجرة الدورية المستحقة، ثم تعاود البنوك منح الأصل للعميل نفسه بعد ذلك على سبيل الهبة بعد نهاية السداد؟!!!
السؤال الثاني: إذا كان الأمر كذلك، فما الذي ستقوم به البنوك الإسلامية إذن؟(1/78)
لقد سبقت الإشارة في هذا البحث إلى أن النشاط المصرفي الذي تقوم به البنوك بصفة عامة، وما يترتب عليه من إيرادات أو أرباح، ينقسم إلى قسمين أساسيين. الأول منهما هو منح الائتمان، وقد أشرنا إلى ضرورة إلغائه تماما بالنسبة للبنوك الإسلامية. أما القسم الثاني فهو الخدمات المصرفية، وهو المجال الطبيعي للنشاط المصرفي الإسلامي، والذي نقترح اقتصار أعمال البنوك الإسلامية عليه. وهذا القسم يعد من أهم المصادر المغلة للإيرادات بالنسبة للبنوك. وبناء عليه، فإن ما نقترحه على البنوك الإسلامية أن تتخصص فيه كلية، هو تقديم الخدمات المصرفية، مثل: بيع وشراء العملات، وتحويل العملات للخارج وللداخل، وفتح الحسابات الجارية على سبيل الأمانة المحضة، باحتياطي نقدي لدى البنوك المركزية قدره 100%، و وإصدار بطاقات ائتمان مغطاة بالكامل، و فتح اعتمادات مستندية مغطاة بالكامل، و إصدار خطابات ضمان مغطاة أيضا بالكامل، وتقديم الاستشارات المالية والاستثمارية(مستشار مالي)، فتح خزائن أمانات للعملاء، ..... وما يمكن استحداثه بعد ذلك في إطار الخدمات المصرفية التي لا تتضمن بأي حال من الأحوال أي تسهيلات ائتمانية بمقابل نقدي.
أهم القرارات التي انتهى إليها الباحث
أولا : بالنسبة لعمليات التورق على المستوى الفردي:
... يرى الباحث ضرورة التفرقة بين نوعين من التورق الفردي:(1/79)
? النوع الأول: كثيرا من الناس من غير أهل التهمة، وبغير عادة ثابتة على أي منهم، قد يشتري السلعة شراء فعليا بثمن آجل قاصدا تملكها واستهلاكها أو التمتع بمنافعها بالفعل، ثم يعن له بعد فترة زمنية، قصرت أو طالت، بيعها نقدا ولو بثمن أقل لمواجهة نفقات طارئة لم يكن يتوقعها عند الشراء. فمثل هذه الحالات يرى الباحث الحكم بجوازها لبعدها عن أية مظنة للتهمة، ولا تعكس إلا عملية بيع عادية كسائر عمليات البيع التجارية العادية، وبالتالي تدخل تحت عموم الآية الكريمة : وأحلٌ اللهُ البَيْعَ وحَرٌَمَ الرٌِبَا ( البقرة: 85). ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" رواه الشيخان.
? النوع الثاني: أنه قد يتواطأ شخص، مع غيره من الناس، قاصدا محاكاة أسلوب الاقتراض الربوي، وهو عالم بحرمته، فيشتري سلعة بأجل بسعر مائة وخمسين جنيها، ثم يبيعها نفسها في الحال لشخص ثالث بمائة جنيه متكبدا فارق السعر، فكأنه اقترض المائة جنيها ودفع عليها زيادة ربوية قدرها خمسين جنيها. فهذا العمل يرى الباحث عدم جوازه وتحريمه، سواء كان ذلك بعادة عنده أو بغير عادة، أخذا بقول من منع ذلك سدا للذرائع وهم فقهاء المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم.
ثانيا : بالنسبة لعمليات التورق المصرفي(المنظم):(1/80)
1 ـ ... لقد تأكد للباحث بعد استعراضه لكافة الأدلة النقلية والعقلية التي وردت بالبحث بخصوص النوعين الأولين من التورق المصرفي (المباشر، والعكسي)، صورية العقود التي تتعامل بها بعض البنوك الإسلامية حاليا مع عملائها في إطار كل نوع من هذين النوعين من العمليات. إذ أن نية الطرفين معلنة ومبيتة بين كل منهما من بداية التعاقد حتى نهايته، على اتخاذ عقود البيع والشراء كوسيلة لتوفير التمويل الائتماني سواء لعملاء البنوك (التورق المباشر)، أو للبنوك نفسها (التورق العكسي)، في صورة نقدية سائلة محضة، في مقابل دفع مبالغ زائدة، وهذا هو عين الربا.
2 ـ ... لقد تأكد لدى الباحث أيضا من واقع نفس الأدلة النقلية والعقلية، وكذلك من فحص المراكز المالية لبعض البنوك الإسلامية، على صورية العقود التي تتعامل بها هذه البنوك من خلال عمليات البيع للآمر بالشراء بصفة عامة ( كالمرابحة ـ والمشاركة المتناقصة ـ الاستصناع ـ الإجارة المنتهية بالتمليك). وأن السلع المباعة ، والمشتراة لا غرض للبنوك فيها، وإنما الغرض من إمضاء عقود البيع هو التربح من وراء منح التمويل الائتماني نفسه الذي تتخصص فيه البنوك، وهو يمثل نشاطها الأساسي.
3 ـ ... أظهر البحث أن هناك تماثلا واضحا بين بعض نماذج بيوع العينة التي أشار إليها علماء المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وبعض من علماء الأحناف والحنابلة، وبين تلك التي تتعامل بها البنوك الإسلامية حاليا تحت اسم عمليات التورق المصرفي المنظم، وكذا عمليات البيع للآمر بالشراء بصفة عامة (المرابحة ـ المشاركة المتناقصة ـ الاستصناع ـ الإجارة المنتهية بالتمليك)، وبصفة خاصة في ظل الربط المتعمد بين هذه العقود من خلال ما يحرره طرفي العقد من وعود لها صفة الإلزام.(1/81)
4 ـ ... يرى الباحث من خلال بحثه أن النماذج التي تتعامل بها البنوك الإسلامية تحت اسم التورق بجميع أنواعه، وكذا جميع نماذج البيع للآمر بالشراء، ينطبق عليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نهى فيه عن بيعتين في بيعة، وكذا حديثه عليه الصلاة والسلام عن النهي عن بيع ما ليس عندك، وعن سلف وبيع، وعن ربح ما لم يضمن. لِما تتضمنه هذه النماذج على الأقل من بيعتين، إحداهما بالنقد بسعر حال، والأخرى بسعر آجل. ولأن التعامل في جميع هذه النماذج يتم بشكل صوري، وغير مستوف لشروط القبض الحقيقي.
5 ـ ... أوضح البحث أن الفقهاء من جميع المذاهب ـ ومنهم المالكيةـ على الرأي بعدم جواز تصرف المشتري بالبيع لجميع أنواع السلع(سواء طعام أو غير طعام) التي تكال أو توزن، وكان بيعها بسعر آجل، إلا بالقبض، إذا تم وزنها أو كيلها من البائع. وبأنه يشترط لنقل الملكية للمشتري الثاني في هذه الحالة جريان كل من صاع البائع وصاع المشتري في الكمية المباعة. و بمراعاة أن جميع أنواع عقود البيع للسلع للآمر بالشراء التي تحررها البنوك لعملائها ـ أو يحررها العملاء للبنوك ـ من خلال عمليات التورق أو المرابحة أو المشاركة المتناقصة هي بثمن آجل. فإن الحكم على كل من: التصرف فيها قبل قبض هذه السلع وجريان صاع البائع والمشتري فيها، أو قبضها قبضا حكميا بدون مبرر، أو تداولها بين الناس بموجب إيصالات قبل استيفائها كيلا أو وزنا، يصبح من الناحية الشرعية غير جائز.(1/82)
6 ـ ... بالنسبة للاقتراح بدعم بطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الإسلامية، بأسلوب التورق، فيرى الباحث أن القصد من هذا الاقتراح في الأساس الأول، هو فرض عقوبات مالية، أو بمعنى آخر فوائد تأخير، على العميل صاحب البطاقة مقابل مد أجل السداد للأرصدة المدينة المعلقة في ذمته. وهذا عين ربا الجاهلية الذي يقول فيه المدين لدائنه:"أمهلني أزدك" وهو الذي نهى عنه العلماء، ويسمى بفسخ الدين بالدين. وهو يفتح الباب على مصراعيه لتطبيق ميكانيكية الربا المضاعف، أي الفوائد المركبة. وكان المجمع قد أصدر القرار رقم 139(5/15) في مارس 2004م بجواز إصدار بطاقات الائتمان المغطاة إذا لم تتضمن شروطها دفع فوائد عند التأخر في السداد، وبشرط أن تتجنب شبهات الربا أو الذرائع التي تؤدي إليها، كفسخ الدين بالدين.
بناء على كل ما سبق، وعلى ضوء ما أظهرته تجربة العمل المصرفي الإسلامي من خلال مسيرتها التي دامت نحو ما يزيد عن ثلاثين عاما، فإن الباحث يوصي بكل مما يلي:
أ ـ ... بطلان جميع أشكال عقود التورق المصرفي، سواء مباشر أو عكسي، أو كدعم لبطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الإسلامية.
ب ـ ... إلغاء العمل في جميع عمليات الائتمان المصرفي الأخرى الذي تتخصص فيها البنوك الإسلامية حاليا بالكامل، ويشمل ذلك جميع عقود البيع للآمر بالشراء التي تتعاقد عليها البنوك في شكل عمليات مرابحة ـ مشاركة متناقصة ـ استصناع ـ إجارة منتهية بالتمليك.
ج ـ ... تفرغ البنوك الإسلامية لنشاط الخدمات المصرفية والاستشارية فقط.
د ـ ... أنه تعزيزا للتوصيات الموضحة بالبنود السابقة، فإن الباحث يرى ضرورة عقد ندوة عالمية موسعة تحت رعاية مجمع الفقه الإسلامي بجدة، للنظر في إعادة تقويم التجربة بأكملها، وبصفة خاصة موضوعين أساسين هما:(1/83)
? مدى ملائمة الهيكل الحالي لنظام الائتمان المصرفي الإسلامي للأحكام الشرعية المنبثقة من الكتاب والسنة، وكذا لتحقيق أهداف السياسة النقدية والاقتصادية بصفة عامة للدولة الإسلامية.
? إعادة فتح ملف البيع للآمر بالشراء الذي تطبقه حاليا البنوك الإسلامية على جميع معاملاتها وأدواتها المصرفية(المرابحة ـ المشاركة المتناقصة ـ الاستصناع ـ الإجارة المنتهية بالتمليك)، لإعادة النظر في كل منها على ضوء ما جاء بالاستنتاجات المستخلصة من هذا البحث .
... ولا أجد شيئا أختم به بحثي أفضل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، محذرا أمته : عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ (1) .
والله أعلى وأعلم
النص المقترح لقرار مجمع الفقه الإسلامي بالنسبة
لعمليات التورق الفردي والمصرفي المنظم
القرار رقم: ( / )
بشأن
التورق الفردي والتورق المصرفي(المنظم)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة المؤتمر الثامن عشر بمدينة الشارقةـ الإمارات العربية المتحدة خلال الفترة 1ـ جمادي الأول 1430هـ الموافق 26 أبريل ـ مايو 2009م. بعد إطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع التورق الفردي والتورق المصرفي(المنظم)، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي :
... فرقت الأبحاث بين عمليات التورق الفردي، عمليات التورق المصرفي(المنظم)، على النحو التالي:
أولا : عمليات التورق الفردي:
__________
(1) ... سبق تخريجه في بداية البحث.(1/84)
... يقصد بالتورق الفردي : طلب شخص للنقود السائلة من خلال شرائه لسلعة من شخص آخر (البائع) بثمن مؤجل، وتملكه لها، ثم قيامه(المشتري) ببيعها نقدا بسعر أقل لشخص ثالث (غير البائع)، للحصول على النقد السائل لتمويل حاجات أخرى مختلفة.
... ويرى المجمع ضرورة التفرقة في الحكم بين نوعين من التورق الفردي:
? النوع الأول: كثيرا من الناس من غير أهل التهمة، وبغير عادة ثابتة على أي منهم، قد يشتري السلعة شراء فعليا بثمن آجل قاصدا تملكها و استهلاكها أو التمتع بمنافعها بالفعل، ثم يعن له بعد فترة زمنية، قصرت أو طالت، بيعها نقدا ولو بثمن أقل لمواجهة نفقات طارئة لم يكن يتوقعها عند الشراء. فمثل هذه الحالات يرى المجمع الحكم بجوازها لبعدها عن أية مظنة للتهمة، ولا تعكس إلا عملية بيع عادية كسائر عمليات البيع التجارية العادية، وبالتالي تدخل تحت عموم الآية الكريمة : وأحلٌ اللهُ البَيْعَ وحَرٌَمَ الرٌِبَا ( البقرة: 85). ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" رواه الشيخان.
? النوع الثاني: أنه قد يتواطأ شخص، سواء مع نفسه أو مع غيره من الناس، قاصدا محاكاة أسلوب الاقتراض الربوي، وهو عالم بحرمته، فيشتري سلعة بأجل بسعر مائة جنيه من شخص من الأشخاص، ثم يبيعها نفسها في الحال لشخص ثالث بسعر خمسون جنيها متكبدا فارق السعر، فكأنه اقترض الخمسين جنيها ودفع عليها زيادة ربوية قدرها خمسون جنيها أخرى. فهذا العمل يرى المجمع عدم جوازه وتحريمه، سواء كان ذلك بعادة عنده أو بغير عادة، أخذا بقول من منع ذلك سدا للذرائع وهم فقهاء المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم.
ثانيا: عمليات التورق المصرفي(المنظم):
... قسمت الأبحاث المقدمة للمؤتمر عمليات التورق التي تقوم بها البنوك إلى ثلاثة أنواع، هي:(1/85)
أ ـ ... أما التورق المصرفي المباشر: فيقصد به طلب الأفراد للنقود السائلة من خلال إعطاء أمر للبنك لشراء سلع مطروحة في الأسواق العالمية أو المحلية، ثم بيعها للعميل بسعر آجل. ثم يوكل العميل البنك ليبيعها نيابة عنه بسعر حال لشخص ثالث.
ب . ... وأما التورق المصرفي العكسي: فيقصد به طلب البنوك الإسلامية للنقود السائلة من عملائها، من خلال توسيط عمليات تقوم بها البنوك لصالح العملاء، لشراء بعض السلع من الأسواق العالمية أو المحلية، بسعر حال، ثم بيعها للبنك بسعر آجل. على أن يتصرف فيها البنك بعد ذلك بالبيع لشخص ثالث.
ج ـ ... بطاقات الا ئتمان المدعمة بأسلوب التورق، ويقصد بها: إعطاء العميل حق تأجيل سداد أي أرصدة مدينة مستحقة في ذمته نتيجة استخدامه لبطاقته لفترات مستقبلة، نظير إلزامه بالدخول مع البنك في عمليات تورق جديدة لشراء وبيع سلع دولية أو محلية، بحيث تعلى قيمة كل دين جديد ناتج عن هذه العمليات على الأرصدة المدينة السابقة.
... وبعد إطلاع المجمع على الأبحاث المقدمة من الباحثين في هذا الشأن، فهو يرى ما يلي:
1 ـ ... أنه بالنسبة للنوعين الأولين: التورق المصرفي المباشر، والتورق المصرفي العكسي، فإن هناك أدلة واضحة على صورية العقود التي تتعامل بها بعض البنوك الإسلامية حاليا مع عملائها في إطار هذه العمليات. إذ أن نية الطرفين معلنة ومبيتة بين كل منهما من بداية التعاقد حتى نهايته، على اتخاذ عقود البيع والشراء كوسيلة لتوفير التمويل الائتماني لعملاء البنوك(أو للبنك نفسه) في صورة نقدية سائلة محضة، في مقابل دفع مبالغ زائدة، وهو عين الربا.(1/86)
2 ـ ... أظهرت الأبحاث أن هناك تماثلا واضحا بين بعض نماذج بيوع العينة التي أشار إليها علماء المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وبعض من علماء الأحناف والحنابلة، وبين تلك التي تتعامل بها البنوك الإسلامية حاليا تحت اسم عمليات التورق المصرفي المنظم، وبصفة خاصة في ظل الربط المتعمد بين هذه العقود من خلال ما يحرره طرفي العقد من وعود لها صفة الإلزام.
3 ـ يرى المجمع أن النماذج التي تتعامل بها البنوك الإسلامية تحت اسم التورق بجميع أنواعه، ينطبق عليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نهى فيه عن بيعتين في بيعة، وكذا حديثه عليه الصلاة والسلام عن النهي عن بيع ما ليس عندك، وعن سلف وبيع، وعن ربح ما لم يضمن. لِما تتضمنه هذه النماذج على الأقل من بيعتين، إحداهما بالنقد بسعر حال، والأخرى بسعر آجل. وأن التعامل في جميع هذه النماذج يتم بشكل صوري، وغير مستوف لشروط القبض الحقيقي.
4 ـ يرى الفقهاء من جميع المذاهب ـ ومنهم المالكية ـ عدم جواز تصرف المشتري بالبيع لجميع أنواع السلع(سواء طعام أو غير طعام) التي تكال أو توزن، وتباع على أساس آجل، إلا بعد القبض عن طريق استيفاء الوزن أو الكيل من البائع. وبأنه يشترط لنقل الملكية للمشتري الثاني في هذه الحالة جريان كل من صاع البائع وصاع المشتري في الكمية المباعة.
وبمراعاة أن جميع أنواع عقود بيع السلع للآمر بالشراء التي تحررها البنوك الإسلامية لعملائها ـ أو يحررها العملاء للبنوك ـ من خلال عمليات التورق بجميع أنواعه هي بثمن آجل. فإن الحكم على كل من: التصرف في هذه السلع قبل قبضها وجريان صاع البائع والمشتري فيها، أو قبضها قبضا حكميا بدون مبرر، أو تداولها بين الناس بموجب إيصالات قبل استيفائها، يصبح من الناحية الشرعية غير جائز.(1/87)
5 ـ ... بالنسبة للاقتراح بدعم بطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الإسلامية، بأسلوب التورق، فيرى المجمع أن القصد من هذا الاقتراح في الأساس الأول، هو فرض عقوبات مالية، أو بمعنى آخر فوائد تأخير، على العميل صاحب البطاقة مقابل مد أجل السداد للأرصدة المدينة المعلقة في ذمته. وهذا عين ربا الجاهلية الذي يقول فيه المدين لدائنه:"أمهلني أزدك" وهو الذي نهى عنه العلماء، ويسمى بفسخ الدين بالدين. وهو يفتح الباب على مصراعيه لتطبيق ميكانيكية الربا المضاعف، أي الفوائد المركبة. وكان المجمع قد أصدر القرار رقم 139(5/15) في مارس 2004م بجواز إصدار بطاقات الائتمان المغطاة إذا لم تتضمن شروطها دفع فوائد عند التأخر في السداد، وبشرط أن تتجنب شبهات الربا أو الذرائع التي تؤدي إليها، كفسخ الدين بالدين.
القرار بالنسبة لأنواع التورق المصرفي (المنظم):
بناء على ما جاء بالمقدمة السابقة، فإن المجمع يرى عدم جواز وبطلان جميع أشكال عقود التورق المصرفي، سواء مباشر أو عكسي، أو في شكل عمليات داعمة لبطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الإسلامية.
هذا، وعلى ضوء ما أظهرته تجربة العمل المصرفي الإسلامي من خلال مسيرته التي دامت نحو ما يزيد عن ثلاثين عاما، فإن المجمع يرى ضرورة عقد ندوة عالمية موسعة تحت رعاية مجمع الفقه الإسلامي بجدة، للنظر في إعادة تقويم التجربة، وبصفة خاصة بالنسبة لموضوعين أساسين هما:
أ ـ ... مدى ملائمة الهيكل الحالي لنظام الائتمان المصرفي الإسلامي للأحكام الشرعية المنبثقة من الكتاب والسنة، وكذا لتحقيق أهداف السياسة النقدية والاقتصادية بصفة عامة للدولة الإسلامية.(1/88)
ب ـ ... إعادة فتح ملف البيع للآمر بالشراء الذي تطبقه حاليا البنوك الإسلامية على جميع معاملاتها وأدواتها المصرفية الأخرى (المرابحة ـ المشاركة المتناقصة ـ الاستصناع ـ الإجارة المنتهية بالتمليك)، وذلك لإعادة النظر في كل منها، على ضوء ما جاء بالاستنتاجات الواردة بهذا القرار.
أهم المراجع المستخدمة في البحث
1) ابن المنذر ، أبو بكر بن محمد بن ايراهيم ، الإجماع ، تحقيق أبو حماد صغير محمد حنيفل، دار طيبة ، الرياض 1982م.
2) ابن الهمام ، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي ، شرح فتح القدير على الهداية شرح بداية المبتدي ، دار الكتب العلمية ، بيروت لبنان ، 1415هـ(1995م).
3) ابن رشد ،محمد بن أحمد بن محمد بن أحد . بداية المجتهد و نهاية المقتصد ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ط(4)ن 1395 هـ.
4) ابن عابدين، محمد أمين . حاشية رد المحتار على الدر المختار: شرح تنوير البصار. مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر، 1966.
5) ابن قدامة ، أبي محمد بن محمد بن قدامة . المغني ، مكتبة القاهرة ، الأزهر ، 1389هـ .
6) ابن مفلح المقدسي ، شمس الدين أبي عبد الله محمد . الفروع ، دار الكتب العلمية ، بيروت،1418هـ1997م.
7) ابن منظور ، لسان العرب ، دار المعارف ، مكتبة زهران ، القاهرة ، مصر، 1979.
8) أبو بكر ، محمد السرخسي ، المبسوط ، دار المعرفة ، بيروت، لبنان، 1406هـ .
9) البهوتي ، منصور بن يونس بن إدريس، شرح منتهى الإرادات ، عالم الكتب ، بيروت، لبنان ، 1416هـ (1996م) .
10) أحمد ، ابن تيمية، القواعد النورانية الفقهية، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان، د.ت.
11) الجوزية ، ابن القيم ، إعلام الموقعين ، مكتبة الكليات الأزهرية ـ القاهرة ، د.ت.
12) الجوزية ، ابن القيم. عون المعبود ، شرح سنن أبي داود ، المكتبة السلفية ، المدينة المنورة ، السعودية ، 1388هـ(1969م).(1/89)
13) دنيا ، شوقي أحمد، نقاش هادئ حول ما يسمى "المنتج البديل للوديعة لأجل"، الدورة التاسعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي 1428هـ/2007م.
14) الرملي ، شمس الدين محمد بن أبي العباس بن شهاب الدين ، نهاية المحتاج على شرح المنهاج، مؤسسة التاريخ العربي ـ دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، 1413هـ (1992م).
15) الزرقاني : شرح الزرقاني على موطأ الأمام مالك . وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف، دولة الإمارات العربية ، 1413هـ(1992م) .
16) الزركشي، بدر الدين، المنثور في القواعد ، مكتبة عباس أحمد الباز، مكة المكرمة1421هـ/2000م.
17) الزيلعي، فخرالدين، تبيين الحقائق شرح كنزالدقائق، دارالكتاب الإسلامي،1313هـ .
18) السالوس، على أحمد، المنتج البديل للوديعة لأجل، الدورة التاسعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي ـ مكة المكرمة 1428هـ/2007م.
19) السبكي، تقي الدين علي بن عبد الكافي ، تكملة المجموع للنووي (الجزء العاشر) ، مكتبة الشيخ محمد نجيب المطيعي ، القاهرة ، د0ت .
20) السويلم، سامي بن إبراهيم، المنتج البديث للوديعة الآجلة ـ الدورة التاسعة عشرة للمحجمع الفلقهي اظفسلامي ـ مكة المكرمة 2007م.
21) السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، الأشباه والنظائر، مكتبة عيسى البابي الحلبي، ب.ت.
22) الشافعي ، محمد بن إدريس ، الأم ، دار قتيبة ، تحقيق أحمد بدر الدين حسون، ط(1) 1416هـ. المجلد الثالث ،.
23) الشتري، سعد بن ناصر، المنتج البديل عن الوديعة ـ التورق الاستثماري ـ الاستثمار بالمرابحة. الدورة التاسعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي ـ مكة المكرمة ـ 1428هـ/2007م.
24) الشريف، محمد عبد الغفار، التطبيقات المصرفية للتورق ـ مشروعيتها ودورها الإيجابي والسلبي ـ ندوة البركة المصرفية الثالثة والعشرين، رمضان 1423هـ/نوفمبر2002م.
25) الشوكاني، محمد بن علي، إرشاد الفحول، دار الكتاب العربي، بيروت، 1419هـ/1999م(1/90)
26) الضرير ، الصديق محمد الأمين، المرابحة الآمرة بالشراء . مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة ، ج (2) 1409هـ/1988م.
27) العسقلاني، ابن حجر . تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان1384هـ.
28) عليش ، أبو عبد الله الشيخ محمد أحمد ، فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر ، 1378هـ (1958).
29) فهمي، حسين كامل،أدوات السياسة النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية في اقتصاد إسلامي، بحث منشور رقم 63 المعهد الإسلامي للبحوث، جدة، 1427هـ / 2006م.
30) فهمي، حسين كامل، نحو إعادة النظام المصرفي الإسلامي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز ـ الاقتصاد الإسلامي ـ المجلد 4 ـ 1412هـ ،1992، ص (3).
31) فهمي، حسين كامل، الودائع المصرفية ( حسابات المصارف)، بحث مقدم إلى المؤتمر السابع لمجمع الفقه الإسلامي، أبو ظبي، الإمارات العربية، 1995م.
32) فهمي، حسين كامل، عقد المشاركة المتناقصة، مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الخامسة عشرة ـ سلطنة عمان، 1425هـ /2004م.
33) القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس.الذخيرة. دار الغرب الإسلامي، ط(1)،1994م.
34) القرضاوي ، يوسف . بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية. دراسة مقارنة في ضوء النصوص و القواعد الشرعية. دار القلم ، 1404هـ، 1984م.
35) القري، محمد العلي، التورق كما تجريه المصارف(دراسة فقهية اقتصادية) ـ هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ـ بدون تاريخ.
36) القري، محمد العلي، التطبيقات المصرفية للتورق ومدى شرعيتها ودورها الإيجابي، ندوة البركة المصرفية الثالثة والعشرين رمضان1423هـ / نوفمبر2002م.
37) مجمع الفقه الإسلامي، قرارات وتوصيات المجمع للدورات 1ـ10.(1/91)
38) المنيع، عبدالله بن سليمان، المنتج البديل للوديعة الآجلة، الدورة التاسعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي، مكة المباركة، 1428هـ/2007م
39) المواردي ، أبو الحسن على بن محمد بن حبيب ، الحاوي الكبير ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، 1414هـ(1994م).
40) النووي ، زكريا محيي الدين ، روضة الطالبين وعمدة المفتين ، المكتب الإسلامي ، بيروت ، لبنان ، 1405هـ (1985م).
مرفق (1)
مرفق (2)
مرفق (3)
مرفق (4)(1/92)