الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
منتجات التورق المصرفية
إعداد
الدكتور سامي بن إبراهيم السويلم
نائب مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب
البنك الإسلامي للتنمية بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
... فإن الله تعالى أتم على البشرية نعمته بإكمال هذا الدين وتفصيل أحكامه وأصوله وقواعده، كما قال تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شئ، وقال جل شأنه: تبياناً لكل شئ، وقال صلى الله عليه وسلم: تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
... وقد كان من أهم الأحكام التي تناولتها نصوص الكتاب والسنة هي أحكام الربا، حيث عده النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر. وإذا كان كذلك فإن التشريع الإسلامي لمحاصرة الربا وتجفيف منابعه لا يمكن أن يكون ناقصاً أو جزئياً، بل لا بد أن يكون شاملاً متكاملاً بموجب كمال الشريعة المطهرة وتمامها.
... وفي هذا الإطار يمكن دراسة منتجات التورق المصرفية، والخروج بنتائج تتفق مع موقف جماهير الفقهاء من السلف والخلف، ومع مقاصد الشريعة المطهرة وقواعدها.
... وقد سبق للكاتب في هذا الموضوع عدة أبحاث: منها بحث «التورق والتورق المنظم: دراسة تأصيلية»، قدم للمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في 1424هـ. ومنها بحث «موقف السلف من التورق المنظم» نشر بعد ذلك بقليل في موقع الإسلام اليوم. ومنها بحث «المنتج البديل للوديعة بأجل: مقلوب التورق» قدم للمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في 1428هـ.
... ولما طلب مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة الكتابة حول منتجات التورق، اجتهدت في استخلاص أهم ما جاء في الأبحاث السابقة، بالإضافة لغيرها من المذكرات أو الأوراق ذات الصلة، مع الترتيب والتنسيق والإيضاح بحسب ما يقتضيه المقام.
... وستتناول الورقة الموضوع من خلال أربعة فصول، عدا هذه المقدمة:(1/1)
? الأول: منهج التشريع في مواجهة الربا.
? الثاني: الأصول والقواعد الشرعية الدالة على منع العينة.
? الثالث: التورق المنظم.
? الرابع: مقلوب ا لتورق.
... أما الخاتمة فتتضمن مناقشة بدائل العينة وسبل الاستغناء عن الحيل الربوية.
... أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه جواد كريم.
(1)
منهج التشريع في مواجهة الربا
... ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: «هم سواء»، وقال أيضاً: «الآخذ والمعطي سواء في الربا» (1) .
... فبين عليه السلام أن الربا له طرفان: آخذ ومعطي، آكل وموكل. فالأول هو الدائن والثاني هو المدين. والغالب أن الدائن أقوى من المدين، فالمدين يقترض لحاجة ولذلك يدفع في مقابل الاقتراض. ومع ذلك لم يفرق عليه السلام بينهما، وكون المقترض محتاجاً لا يعني أنه معذور في اقتراضه بالربا، بل هو والمرابي سواء في استحقاق الوعيد التي جاء في الحديث. وذلك لأن المقترض هو الذي سمح بهذا الظلم وشجع المقرض على أن يتسلط عليه. ولا يجوز للمسلم أن يسمح لغيره بأن يظلمه؛ لأن هذا إعانة للظالم على ظلمه.
... والشرع حينما حرّم الربا، لم يحرّمه على المربي فحسب، بل حرّمه على الطرفين: الدائن والمدين؛ لأن الربا نتيجة تراضيهما؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - «الآخذ والمعطي سواء». وهذا يعني أنه لا يجوز للمربي أن يسعى للربا، كما لا يجوز للمدين أن يسعى إليه. بل يجب على كل منهما تجنبه من جهته.
... ولهذا سد الشرع الحكيم منافذ الربا من الطرفين. فمن جهة المربي منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربح ما لم يضمن، والبيع قبل القبض، وبيع ما ليس عنده، ومن بيع الكالئ بالكالئ، لأن كل واحد من هذه التصرفات يفضي إلى الربا من جهة الدائن.
__________
(1) ... رواهما مسلم وأحمد. صحيح الجامع (2751)، (5090).(1/2)
... أما ربح ما لم يضمن، فهو نص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، (1) ومحل اتفاق بين الأئمة في الجملة. وحكمة النهي هي ما ذكره الفقيه عبد الرحمن بن أبي ليلى جواباً عن سؤال الإمام مجاهد حين سأله: «حدِّثني حديثاً تجمع لي فيه أبواب الربا»، فقال ابن أبي ليلى: «لا تأكل شِفّ شئ ليس عليك ضمانُه» (2) . فمن يشتري سلعة بمائة، مثلاً، ثم يبيعها بمائة وعشرين دون أن تدخل السلعة في ضمانه، يكون قد دفع مائة وقبض مائة وعشرين دون أن يتحمل مسؤولية السلعة ومخاطرها، فتكون المحصلة هي نفسها التي يصل إليها المرابي حين يقرض مائة ويقبض مائة وعشرين. فهذا سدٌ لباب الربا من جهة الدائن.
... ومن هذا الباب أيضاً النهي عن البيع قبل القبض، كما بين ذلك حبر الأمة رضي الله عنه حين سُئل عن حكمة النهي فقال: «ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ»، وفي رواية: «ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجأ؟». (3) فانتفاء القبض المشروع يحيل المعاملة إلى مبادلة نقد بنقد، فيكون ربا من حيث المآل والحقيقة.
__________
(1) ... رواه أحمد وأصحاب السنن. صحيح الجامع (7644).
(2) ... مصنف عبد الرزاق (7/525)، مصنف ابن أبي شيبة (5/238).
(3) ... رواه مسلم.(1/3)
... ولهذا منع جمهور الفقهاء الاعتياض عن ثمن الطعام بطعام. فمن باع مالاً ربوياً بثمن مؤجل، فلا يجوز له أن يعتاض عن الثمن المؤجل بمال ربوي مما لا يباع به نسيئة قبل قبض الثمن، «فكأنه قد باع حنطة أو شعيراً بحنطة أو شعير إلى أجل متفاضلاً، وهذا لا يجوز باتفاق المسلمين». (1) ورجح جمع من الفقهاء المنع حتى لو كان البيع من غير المشتري. (2) وذلك نظرٌ منهم إلى حصيلة الصفقتين، وهي مبادلة مال ربوي بآخر متفقي العلة، ولذلك منعوا منها. واختار شيخ الإسلام الجواز بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن، وهو ما يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما حين قال عليه السلام: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء». (3)
... ومن هذا الباب النهي عن بيع ما ليس عند البائع وعن بيع الكالئ بالكالئ، فهي تمنع الربا من جهة الدائن. والفقهاء المعاصرون يدركون ذلك تماماً عند بحثهم لأحكام المرابحة للآمر بالشراء، وأن المصرف يجب أن يملك السلعة وتدخل في ضمانه قبل أن يبيعها بأجل على العميل. ولو باعها قبل ذلك لكان إما بيع ما ليس عند المصرف، أو من بيع الدين بالدين إن كانت موصوفة في الذمة. فهذه الأحكام تغلق بإحكام مدخل الربا من جهة الدائن. ولا يمنع ذلك أن تكون لهذه المنهيات حكم أخرى، فإن حكمة الله تعالى أوسع من أن يحيط بها مخلوق. لكن أثر هذه المنهيات في سد باب الربا واضح، وقصد الشارع في ذلك بيّن لمن تأمله.
الربا من جهة المدين
__________
(1) ... الفتاوى (29/449). والمنع هو قول الفقهاء السبعة، وأجازه أبو حنيفة والشافعي.
(2) ... الموسوعة الفقهية (22/131)، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله. انظر بحث: «بيع الدين بالدين» لراشد آل حفيظ رحمه الله، ص12 و 21.
(3) ... رواه أحمد وأبو داود والنسائي.(1/4)
... وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سّوى في الذم والوعيد بين آخذ الربا ومعطيه، فمن الممتنع أن يفرق بينهما في التشريع والأحكام، فيغلق الباب من جهة الآخذ ويبقيه مفتوحاً من جهة المعطي. فحكمة التشريع وكمال الشريعة المطهرة تأبى ذلك.
وإذا كان الشرع قد أحكم إغلاق باب الربا من جهة الدائن، فمن باب أولى أن يحكم إغلاقه من جهة المدين. وذلك أن أصل تحريم الربا هو بسبب الظلم الواقع على المدين، كما قال تعالى: {لا تَظلمون ولا تُظلمون}. فإذا منع الدائنَ أن يوقع الظلم على المدين، فمن باب أولى أن يمنع المدين أن يطلب إيقاع الظلم على نفسه. وإذا منع الدائنَ من أخذ الزيادة، فمن باب أولى أن يمنع المدينَ من إعطائها. فلو كان أحدهما أولى بالتشديد لكان هو المدين.
... وإذا كان يحرُم على الدائن أخذ الزيادة على وجه المعاوضة، ولو كانت من طرف ثالث كما في ربح ما لم يضمن والبيع قبل القبض، فكذلك يحرم على المدين إعطاء الزيادة على وجه المعاوضة، ولو كانت لطرف ثالث. فالشرع سوى في التحريم بين الآخذ والمعطي، فمن رام التفرقة بينهما فقد ناقض النص وجانب منهج التشريع.
... وحقيقة الأمر أن سد باب الربا من جهة المدين جاء في الشرع على وجهين: خاص وعام. أما الخاص فهو النهي عن العينة، وأما العام فهو الأصول الشرعية المتعلقة بحفظ المال، كما سيأتي في الفصل القادم.
تأصيل مفهوم العينة ...
... ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال: «إذا تبايعتم بالعينة (وفي رواية: بالعَين)، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (1) .
العنية لغةً
__________
(1) ... رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وقواه شيخ الإسلام في الفتاوى (29/30) وابن القيم في تهذيب السنن (5/104)، وصححه أحمد شاكر في تخريج المسند (4825) و(5007)، والألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).(1/5)
... قال ابن فارس: «ومن الباب العين، وهو المال الحاضر العتيد. يقال: عين غير دين، أي هو مال حاضر تراه العيون». ثم نقل عن الخليل قوله: «العينة: السلف، يقال: تعيّن فلان من فلان عِينة وعَيّنه تعييناً». قال ابن فارس: «وأطلقت العينة على السلف لأنه سبب لحصول النقد الحاضر». (1)
... قال ابن القيم: «العِينة فِعلة من العين، النقد». ثم نقل عن الجوزجاني أنه قال: «أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق، فيشتري السلعة ويبيعها بالعين الذي احتاج إليها وليست به حاجة إليها» (2) . وقال ابن رسلان: «سميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة. لأن العين هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتريها [أي السلعة] ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ليصل إلى مقصوده» (3) .
... وفي المصباح المنير: «قيل لهذا البيع عِينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عَيناً أي نقداً حاضراً» (4) .
... وواضح من هذه النصوص أن العينة وصف للسلف أو الاقتراض لوحظ فيه جانب المقترض وليس المقرض. وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا تبايعتم بالعينة» دليل على أن المقصود هو حصول القرض من خلال البيع. لكن البيع لا يكون غالباً إلا بربح ، فتكون النتيجة هي النقد الحاضر بيد المدين مقابل أكثر منه في ذمته، وهي نفسها نتيجة الربا. ولهذا قال الخليل: «واشتقت [أي العينة] من عين الميزان وهي زيادته». قال ابن فارس: «وهذا الذي ذكره الخليل صحيح؛ لأن العينة لا بد أن تجر زيادة». (5)
العينة فقهاً
__________
(1) ... معجم مقاييس اللغة (ع ي ن).
(2) ... تهذيب السنن (5/108).
(3) ... نيل الأوطار (5/234).
(4) ... تعريف (العين)، واعتمده ابن مفلح في المبدع (4/49) وغيره من متأخري الحنابلة، وابن عابدين في الحاشية (5/325).
(5) ... معجم مقاييس اللغة (ع ي ن).(1/6)
... واضح مما سبق أن مفهوم العينة لا يقتصر على العينة الثنائية التي تعود فيها السلعة إلى البائع، بل يشمل كل الصور التي يحصل فيها المدين على نقد حاضر مقابل أكثر منه في ذمته، من خلال شراء سلع ليس له بها حاجة بثمن مؤجل ثم بيعها نقداً. وهذا المعنى هو ما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين قال: «متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأيَّ طريق سلكوه إلى أن تحصل له دراهم ويَبْقَى في ذمته دراهم إلى أجل فهي معاملة فاسدة، وذلك حقيقة الربا». (1) وقال أيضاً: «متى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل - فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى». (2)
... وهذا يشمل التورق، وهو الحصول على النقد من خلال شراء سلعة بأجل ثم بيعها نقداً على طرف آخر غير البائع. وجمهور الفقهاء يدخلون التورق ضمن العينة، كما صرحت بذلك الموسوعة الفقهية، (3) وكما تدل عليه النصوص الآتية من المذاهب الفقهية التي تمنع العينة. (4)
مذهب الحنفية
... ذكر النسفي (537هـ) في طلبة الطلبة الأقوال في تفسير العينة فقال: «قيل: هي شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن. وقيل، وهو الصحيح: هي أن يشتري ثوباً مثلاً من إنسان بعشرة دراهم إلى شهر، وهو يساوي ثمانية، ثم يبيعه من إنسان نقداً بثمانية. فيحصل له ثمانية ويحصل عليه عشرة دراهم دَيناً. سُميت بها لأنه وصل بها من دين إلى عين» (5) . وقوله: ثم يبيعه من إنسان، واضح أنه يشمل غير الأول. والصورة الأولى التي ذكرها هي العينة الثنائية؛ لأن شراء ما باع بأقل مما باع هي التي تعود فيها السلعة للبائع.
__________
(1) ... جامع المسائل (1/223-224).
(2) ... الفتاوى (29/432).
(3) ... الموسوعة الفقهية، تورق.
(4) ... الشافعي رحمه الله لا يبطل العينة، والأرجح أنه لم يبلغه حديث ابن عمر رضي الله عنه، وسيأتي رأي الشافعي في الفصل القادم.
(5) ... طلبة الطلبة (ص242).(1/7)
... وقال الزيلعي (743هـ) في بيع العينة: «وصورته أن يأتي هو إلى تاجر فيطلب منه القرض ويطلب التاجر الربح ويخاف من الربا، فيبيعه التاجر ثوباً يساوي عشرة مثلاً بخمسة عشر نسيئة ليبيعه هو في السوق بعشرة، فيصل إلى العشرة ويجب عليه للبائع خمسة عشر إلى أجل». ثم ذكر كراهة العينة وذمها (1) .
... وما نقله من الكراهة أخذه عن المرغيناني حيث قال: «وهو مكروه لما فيه من الإعراض عن مبرة الإقراض مطاوعة لمذموم البخل» (2) . وسبق السرخسي إلى نحو ذلك (3) .
... لكن يبدو أن مفهوم العينة تغير عند المتأخرين من فقهاء المذهب. فقد ذكر الكمال بن الهمام (861هـ) رحمه الله أن صورة العينة المكروهة هي ما يسمي العينة الثلاثية، وهي أن يبيع المشتري السلعة على طرف ثالث، ثم يعيدها الثالث للبائع الأول. ثم بعد أن ذكر صوراً أخرى للعينة، ليس منها التورق، قال: «الذي يقع في قلبي أن ما يخرجه الدافع إن فعلت صورة يعود فيها إليه هو أو بعضه، كعود الثوب أو الحرير في الصورة الأولى ...، فمكروه. وإلا فلا كراهة إلا خلاف الأولى على بعض الاحتمالات، كأن يحتاج المديون فيأبى المسؤول أن يقرض، بل يبيع ما يساوي عشرة بخمس عشر إلى أجل، فيشتريه المديون ويبيعه في السوق بعشرة حالّة. ولا بأس في هذا فإن الأجل قابله قسط من الثمن. والقرض غير واجب عليه دائماً بل هو مندوب ... وما لم ترجع إليه العين التي خرجت منه لا يسمي بيع العينة» (4) .
__________
(1) ... تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (4/163)، ونحوه في الكفاية شرح الهداية للكرلاني، بحاشية فتح القدير، (6/323).
(2) ... الهداية للميرغيناني (3/94).
(3) ... المبسوط (14/36).
(4) ... فتح القدير (6/224).(1/8)
... ولما شرح ابن عابدين (1252هـ) رحمه الله معنى العينة قال: «فيبيعه التاجر ثوباً يساوي عشرة مثلاً بخمسة عشر نسيئة، فيبيعه هو في السوق بعشرة»، وهذه هي صورة التورق. ثم قال: «ومن صورها أن يعود الثوب إليه». فميز بين الصورتين، لكنه جعلهما من العينة. ثم قال: «وهو مكروه، أي عند محمد، وبه جزم في الهداية». ثم نقل ابن عابدين كلام الكمال السابق، وعقب عليه بقوله: «وأقره في البحر والشرنبلالية، وهو ظاهر» (1) .
... وهكذا ترى أن فقهاء المذهب قبل الكمال ابن الهمام عدّوا التورق من صور العينة، بل جعله النسفي هو الصحيح من معانيها، ونصوا على الكراهة. ثم جاء ابن الهمام وأخرج التورق من مفهوم العينة، ونَفَى عنه الكراهة، وجعله خلاف الأولى على أسوأ تقدير. وتبعه على ذلك كثير ممن جاء بعده، كصاحب البحر الرائق والشرنبلالية. وكلام ابن عابدين يعكس شيئاً من التردد؛ لأنه في موضع حكى خلاف مشايخ المذهب في تفسير العينة، فذكر من التفاسير التورق، ثم العينة الثلاثية، ولم يرجح. ثم في موضع آخر جعل التورق من صور العينة، ثم لما نقل كلام ابن الهمام أقره بقوله: «وهو ظاهر».
... وهذا يشير إلى تطور موقف الفقهاء من مفهوم العينة عبر التاريخ، حتى استقر عند المتأخرين أن العينة هي التي ترجع فيها السلعة للبائع، والتورق ما ليس كذلك. وهذا من تفسير النص بالاصطلاح الحادث، وهو خطأ يتكرر في كثير من المسائل الفقهية. (2) كما يشير إلى جنوح الفقه الإسلامي إلى الصورية في العصور المتأخرة، وهو نظير تطور المذهب الحنفي بشأن بيع الوفاء، حيث منعه المتقدمون لأنهم رأوه حيلة على الربا، بينما تسامح فيه المتأخرون للحاجة. (3)
مذهب المالكية
__________
(1) ... رد المحتار (5/325-326)، وانظر أيضاً: (5/275).
(2) ... انظر إعلام الموقعين، (2/168-169).
(3) ... الموسوعة الفقهية، بيع. وانظر إعلام الموقعين (2/75).(1/9)
... ورد في مختصر خليل ذكر صورة التورق ضمن أقسام العينة، وعبر عنها بقوله: «وكُره خُذ بمائةٍ ما بثمانين». قال الشراح: إذا جاء شخص لآخر وقال له: سلفني ثمانين وأردّ لك مائة، فقال له: هذا لا يحلّ، ولكن أبيعك سلعة قيمتها ثمانين بمائة. فهذا من العينة المكروهة. (1)
... لكن المتقدمين من علماء المالكية كانوا أكثر حذراً في هذا الباب، وذكروا صوراً للتورق صرحوا فيها بالمنع. ففي النوادر والزيادات: «قال مالك: "لو باعه، وهو ممن يعيّن (2) ، راوية زيت بعشرين، على أن ينقده عشرة، وعشرة إلى أجل، فلا خير فيه إن كان مبتاعها يريد بيعها" ... قال في العتبية: ابن القاسم عن مالك: "وكذلك على أن ينقده من الثمن ديناراً واحداً، فهو مكروه". وقال في الواضحة عن مالك: "وهذا فيما يشتريه ليبيعه لحاجته إلى ثمنه. فأما من يشتري لحاجته من ثوب يلبسه ودابة يركبها أو خادم يخدمه فلا بأس بذلك كله". قال في كتاب المواز: "ولو كان يريد أكل السلعة أو لبسها لم يكن به بأس". قال ابن القاسم: "وكذلك في العروض والحيوان بيع على نقد بعض الثمن فلا خير فيه. وقاله مالك في أهل العينة، ولا بأس به في غيرهم".» (3) انتهى النقل عن النوادر.
__________
(1) ... شرح الخرشي (5/106)، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي (3/89).
(2) ... أي من أهل العينة.
(3) ... النوادر والزيادات (6/92). وانظر المقدمات والممهدات (2/42) لابن رشد، ومنح الجليل (5/104). ولمزيد حول هذه الصور وتفسيرها راجع بحث: «التورق والتورق المنظم»، للكاتب.(1/10)
... ففي هذه النقول التصريح بأن العينة لا يشترط فيها عودة السلعة للبائع، وأن المنع خاص بما إذا كان البائع من أهل العينة وكان المشتري يريد بيع السلعة بنقد، وأن هذه الصيغة جائزة لمن أراد السلعة لينتفع بها لا ليبيعها. وهذا يتفق مع المبدأ الذي قرره فقيه المالكية ابن شاس رحمه الله حين قال بعد ذكر صور العينة المختلفة: «وبالجملة فهؤلاء قوم علموا فساد سلف جر منفعة، وما ينخرط في سلكه من الغرر والربا، فتحيلوا على جوازه بأن جعلوا سلعاً حتى يظهر فيها صورة الحل، ومقاصدهم التوصل إلى الحرام . وقد قدمنا أن أصلنا حماية الذرائع وسحب أذيال التهم على سائر المتعاملين متى بدت مخايلها، أو خفيت وأمكن القصد إليها من المتعاملين». (1)
مذهب الحنابلة
... يكاد يكون الإمام أحمد رحمه الله أكثر الأئمة في تشديده في العينة. فقد قال في معنى العينة: «العينة عندنا أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة. فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس». وفي رواية أنه سُئل عن العينة ما هي؟ فقال: «البيع بنسيئة»، قال: «إذا كان يبيع بنقد ونسيئة فلا بأس، وأما رجل لا يبيع إلا بنسيئة فهذا ما أكرهه». وسُئل عن الرجل يعدّ الشيء ليبيعه بنسيئة إلى أجل؟ فقال: «إذا أعَدّه أن يبيعه بنسيئة ولا يبيعه بنقد فلا يعجبني لأنه عينة حينئذ». (2)
__________
(1) ... عقد الجواهر الثمينة (2/453).
(2) ... انظر: مسائل الإمام أحمد لإسحاق بن منصور رقم (28)، مسائل ابنه صالح رقم (664)، بدائع الفوائد (4/11)، تهذيب السنن (5/109).(1/11)
... وهذا نظرٌ منه رحمه الله إلى سبب العينة وهو البائع بأجل. فإن من يتفرغ للبيع بأجل يكون مرجعاً للباحثين عن النقد الحاضر، سواء كان مصدر النقد هو البائع أو غيره، ولهذا سأله أبو داود: «يقال لها عِينة وإن لم يرجع إليه؟» قال: «نعم». (1) وهذا صريح في عموم معنى العينة عند الإمام أحمد، وهو مطابق لما سبق من كلام الأئمة وكلام أهل اللغة.
خلاصة
... تبين مما سبق أن العينة لغة وفقهاً لا تختص بالعينة الثنائية، بل هي عامة لكل الصور التي يتحقق فيها الربا من جهة المدين، وهو النقد الحاضر مقابل زيادة مشروطة في الذمة، سواء رجعت السلعة للبائع أو لم ترجع، وهذا يشمل العينة الثنائية والثلاثية والتورق ومقلوب التورق وبيع الوفاء والاستغلال، وسائر الصور التي يمكن اشتقاقها. وجميع هذه الصور تنتهي إلى النتيجة نفسها: نقد حاضر بيد المدين مقابل أكثر منه في الذمة، وهذه هي حقيقة العينة. ولهذا كان حديث النهي عن العينة من جوامع الكلم ومن شواهد الإعجاز النبوي، لأنه جمع كل هذه الصور المتفرعة التي تتعذر على الحصر في لفظة واحدة، هي مقصود المعاملة ومناط الحكم. ثم إنه يبرز كمال الشريعةالمطهرة حين أحكمت إغلاق أبواب الربا من جهة المدين، كما أحكمت إغلاقها من جهة الدائن، وصدق الله:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم، 3-4].
(2)
الأصول والقواعد الشرعية الدالة
على منع العينة
... منع العينة لا تختص أدلته بالحديث الذي ورد في ذمها، بل تدل عليه أيضاً قواعد الشريعة وأصولها التي تواترت بها نصوص الشرع وأحكامه.
حفظ المال
__________
(1) ... مسائل الإمام أحمد لأبي داود رقم (1257)، وذكره في تهذيب السنن (5/108). ...(1/12)
... أول هذه المقاصد هو ما أجمع عليه العلماء من وجوب حفظ المال وحرمة إضاعته، كما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويسخط لكم ثلاثاً. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال». (1) بل عدّ الشاطبي رحمه الله هذا الأصل من الكليات التي اتفقت عليها الملل، وعلمها عند الأمة كالضروري. (2)
... وفي جميع صور العينة بلا استثناء هدف المدين هو شراء السلعة بثمن أعلى من الثمن الذي يبيعها به نقداً، ولذلك ينتهي به الأمر إلى أن يقبض نقداً أقل مما يثبت في ذمته. وهذا المقصد يناقض مقصد الشرع بوجوب حفظ المال، فإن العاقل لا يقصد أن يشتري بسعر مرتفع ويبيع بسعر منخفض، فهذا إضاعة للمال. فالمدين يسعى للبيع بخسارة، وهذا منهي عنه بالنصوص المتواترة التي أجمع عليها العلماء.
... وبهذا يتبين الفرق بين التاجر وبين المعتان، فالأول هدفه الربح، والثاني هدفه الخسارة، فمن الممتنع تشبيه أحدهما بالآخر. ولا يمنع ذلك أن التاجر قد يبيع بخسارة أحياناً إذا تغير السعر وحالت الأسواق بعد شرائه السلعة، كما أن المعتان قد يبيع أحياناً بربح كذلك. لكن ليس هذا هو مقصود الطرفين. فالتاجر هدفه الربح وتنمية المال، وهذا هدف مشروع طالما كان ذلك بالطرق المشروعة، بحيث يملك السلعة ويضمنها قبل بيعها. أما البيع بخسارة فهو هدف مناقض لمقصود الشرع، سواء ضمن المعتان السلعة أو لم يضمنها.
__________
(1) ... رواه مالك في الموطأ (1/990)، وبنحوه أحمد ومسلم. صحيح الجامع (1895). ...
(2) ... الموافقات (1/31). ...(1/13)
... ولهذا اختص النهي بربح ما لم يضمن دون الخسارة، إذ الوضيعة لا يجوز قصدها أصلاً، سواء ضمن أو لم يضمن. أما الربح وتنمية المال، فهو هدف مشروع في نفسه، وإنما يجب أن يكون وفق ما شرعه الله. فإن كان كذلك فهو ربح مشروع، وإلا دخل في الربا المحرم.
قاعدة التبعية
... أجاز الشرع اعتبار الأجل في البيع، ومنعه في القرض. وهذا يدل على أن الأجل يجوز اعتباره تبعاً للبيع وليس مستقلاً عنه، ويجوز تبعاً ما لا يجوزاستقلالاً. وهذا تصريح بأن التمويل (القرض) يجب أن يكون تابعاً للتبادل أو البيوع، وليس العكس. وفي بيوع العينة بكل صورها يتم تبادل سلع غير مقصودة بهدف الوصول للنقد الحاضر مقابل أكثر منه في الذمة، أي الوصول لنفس نتيجة القرض بزيادة، كما سبق في بيان معنى العينة. فالتبادل أصبح وسيلة والتمويل أصبح هو الغاية. وهذا مناقض لمقصد التشريع وللمنطق الاقتصادي.
... وذلك أن البيع شرع لمنفعة المتبايعين، فالمشتري ينتفع بالسلعة إما بالاستهلاك وإما بالاستثمار، والبائع ينتفع بالربح. وهذه المنفعة هي التي نص عليها حديث النبي ? في قوله: «أطيب كسب المرء من عمل يده وكل بيع مبرور». (1) والمبرور هو ذو الخير الكثير، والمقصود هو الخير الذي يحصل للطرفين من التبادل، وهذه هي القيمة المضافة للتبادل التي ينص عليها الاقتصاديون. (2)
__________
(1) ... متفق عليه. ...
(2) ... وليس البر في الحديث هو الأجر الأخروي، لأن الحديث جاء لبيان أطيب كسب المرء، أي أطيبه عند الله تعالى، وهذا لا يكون إلا بالثواب عليه في الآخرة. فجاء الجواب ليبين أن أطيب الكسب عند الله أكثره نفعاً للمتبايعين، فالأجر الأخروي مترتب على النفع الدنيوي. ولو كان البر في الحديث هو الأجر الأخروي لم يكن الحديث مفيداً لمعنى، بل يكون قد عرف الشئ بنفسه، وهو ما ينزه عنه كلام النبي ?.(1/14)
... والحاصل أن منفعة البيع، أو القيمة المضافة للتبادل، هي التي تجبر الزيادة في الثمن مقابل الأجل. وهذه المنفعة منتفية في القرض، فتبقى الزيادة دون مقابل، فتكون ظلماً على المدين. وتظهر حكمة التشريع في تحريم هذه الزيادة بالنظر في لوازمها وآثارها. فالسماح بها يؤدي إلى نمو المديونية بمعزل عن نمو الثروة الحقيقية. وهذا يقود إلى تضاعف المديونية واستفحالها بما يشلّ النشاط الاقتصادي ويستنزف الثروة، كما سيأتي.
... إذا تقرر ذلك فإن الزيادة في الثمن الآجل إنما شرعت لوجود ما يجبرها وهو منفعة السلعة والقيمة المضافة للتبادل. وفي جميع صور العينة، بلا استثناء، لا تحقق السلعة أي منفعة للمدين، ولا يحقق التبادل أي قيمة مضافة، بل هو مجرد وسيلة للاقتراض. وإذا انتفعت منفعة التبادل انتفت حكمة مشروعية الزيادة في الثمن مقابل الأجل، وهذا يبطل الزيادة شرعاً، ولهذا قال النبي ?: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا». (1) وهذا نص في إبطال الزيادة في بيع العينة. فالزيادة في هذه الحالة تصبح من الربا، ويجعلها باطلة شرعاً.
... وهذا المعنى هو الذي يميز التمويل الإسلامي عن التمويل الربوي. فالتمويل في الأصل وجد ليسهل التبادل ويخدم النشاط الحقيقي المنتج، وعائد التمويل إنما يستحق لكونه سباً في توليد الثروة. أما العينة، فهي تعكس العلاقة بين التمويل والتبادل، فيصبح التبادل وسيلة والتمويل غاية، ويصبح البيع تابعاً بدل أن يكون متبوعاً. وإذا انعكس الوضع لم يكن هناك أي مبرر اقتصادي لعائد التمويل، ولم يكن هناك من ثم فرق بين الزيادة مقابل الأجل وبين الربا.
هرم المديونية
__________
(1) ... رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان. صحيح الجامع (6116).(1/15)
... آية الربا هي تضاعف المديونية، وهذا هو التعليل الذي أبرزه القرآن الكريم في أول آية نزلت بتحريم الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:130). والنتيجة الطبيعية للربا هي أن تصبح الديون أضعاف حجم الثروة في الاقتصاد، وتصبح من ثم خدمة هذه الديون نزيفاً مستمراً في النشاط الاقتصادي مما يؤدي لا محالة إلى كوارث اقتصادية: إما الانهيار وإما الإفلاس، مع ما يترتب على ذلك من استيلاء الدائنين على ثروة المدينين دون مقابل، فيكون من أبشع صور أكل المال بالباطل.
... أما في الاقتصاد الإسلامي فإن التمويل الربحي مقيد دائماً بالنشاط المولد للثروة (البيوع بصورها المختلفة)، لما سبق من اشتراط تبعية التمويل للتبادل. ولذلك فإن نسبة الديون إلى الثروة الحقيقية في الاقتصاد الإسلامي محدودة ولا يمكن للديون أن تصبح أضعاف الثروة. بل تكون غالباً أقل منها وعلى أسوأ الأحوال لا تتجاوز الثروة بأكثر من هامش الأجل. أما في الاقتصاد الربوي فإن النسبة غير منضبطة بأي قيد، وهذا ما يؤدي إلى نشؤ ما يسمى بالهرم المقلوب. وذلك أن الثروة هي قاعدة المديونية، وفي الوضع الطبيعي فإن القاعدة يجب أن تكون أكبر حجماً من القمة فتكون الثروة أكبر من الديون. أما في الاقتصاد الربوي فإن قاعدة الهرم أقل بكثير من الديون المبنية عليها، فتأخذ شكل الهرم المقلوب.(1/16)
... والعينة بصورها المختلفة تسمح بنشؤ مديونية دون قيمة مضافة، كما سبق، ممايؤدي إلى ظهور الهرم المقلوب. فالسلعة الواحدة يمكن استخدامها من أجل الحصول على النقد مئات الآلاف من المرات، كما هو الحال في التورق المنظم وغيره من صور العينة. فالعميل يشتري السلعة بأجل، ثم يبيعها نقداً (على البائع أو غيره)، ليشتري السلعة نفسها عميل آخر بأجل أيضاً ليبيعها بنقد، وهكذا. فالسلعة الواحدة يتولد عنها من الديون على مستوى المجتمع أضعاف أضعاف قيمتها. وهذا يستلزم اختلال نسبة المديونية إلى الثروة ومن ثم بروز الهرم المقلوب الذي يعد علامة فارقة للاقتصاد الربوي. فالأثر الاقتصادي للعينة لا يختلف عن الأثر الاقتصادي للربا، بل قد يكون أسوأ إذا أخذنا في الاعتبار التكلفة الإجرائية لمبادلة سلع لا تحقق أي قيمة مضافة.
المصالح الشرعية
... صنف علماء المقاصد أنواع المصالح التي جاءت الشرعية برعايتها إلى ثلاثة أقسام: ضرورية وحاجية وتحسينية. فالسلعة إن كانت ضرورية فشراؤها يكون واجباً إن قدر عليه، وإن كانت تحقق مصلحة حاجية فهي مطلوبة شرعاً بقدر الحاجة إليها، وإن كانت تحقق مصلحة تحسينية فهي مباحة في الجملة. أما إن كانت السلعة لا تحقق أي مصلحة، لا ضرورية ولا حاجية ولا تحسينية، فشراؤها في هذه الحالة من الإسراف المذموم والتبذير المنهي عن شرعاً كما سبق.
... وإذا كان الإسراف منهياً عنه مع كون الشخص يشتري بماله سلعة ضئيلة المنفعة، فكيف بمن يستدين من الآخرين ليشتري سلعة عديمة المنفعة أصلاً؟ فالاستدانة مكروهة في الأصل إلا لحاجة حقيقية مشروعة، (1) فإذا اجتمع الإسراف مع الاستدانة تحقق التحريم ولا شك.
__________
(1) ... انظر بحث الكاتب: «موقف الشريعة الإسلامية من الدين».(1/17)
... وفي جميع صور العينة يستدين الشخص ليشتري سلعة لا تحقق له أي مصلحة أو منفعة، وهذا يصادم مقاصد الشرع في النهي عن الإسراف وفي التشديد في الاستدانة، ولذلك لم يكن غريباً أن ينهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الوضوح
... الوضوح في المعاملات المالية من مقاصد التشريع، كما صرح بذلك العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله. (1) وأصله حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» (2) .
... ويظهر أثر هذا المقصد في موقف العلماء من العينة وسائر الحيل الربوية، كما يدل على ذلك بوضوح موقف الإمام الشافعي، رحمه الله. فهو لا يبطل بيع العينة (الثنائية)، (3) ، ومع ذلك فهو يصرح بقوله: «أصل ما أذهب إليه أن كل عقد كان صحيحاً في الظاهر، لم أبطله بتهمة ولا بعادة بين المتبايعين، وأجزته بصحة الظاهر. وأكره لهما النية إذا كانت النية لو أظهرت كانت تفسد البيع» (4) .
__________
(1) ... «مقاصد الشريعة الإسلامية»، تحقيق الحبيب بلخوجة، ص483.
(2) ... متفق عليه.
(3) ... الأم (3/38-39).
(4) ... الأم (3/74).(1/18)
... فالشافعي الذي يصحح بيع العينة، يبطلها إذا ظهرت النية وصرح المتعاقدان بمقصودهما عند التعاقد، فغيره من العلماء الذين يمنعون العينة الثنائية ابتداء من باب أولى. أي أن العينة إذا نفذت بوضوح وشفافية وبيان لقصد المتعاملين، بطلت عند جماهير العلماء. ... وهذا ما يجعل أهل العينة يلجؤون إلى تغييب الشفافية والوضوح في التعامل، من خلال فصل العقود عن بعضها وعدم التصريح فيها بالهدف منها، مع أن هذه العقود لا تتم إلا مجتمعة، والهدف منها يعرفه جميع الأطراف، وهو النقد الحاضر بزيادة في الذمة. فالعينة إذن تناقض مقصد الشرع من الوضوح والبيان والشفافية. ولكن مع الكتمان وعدم الوضوح تمحق بركة البيع، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - . وهذا يبين المأزق الذي تواجهه الحيل الربوية، فهي بين نارين: إما الكتمان وإما البطلان. فالعينة لا توفر بيئة صحية للتعاملات المالية، فلا يمكن أن تكون أساساً لنمو الصناعة المالية الإسلامية.
رفع الحرج
... مقصود العينة هو حصول المدين على النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة، وهذه هي نتيجة الربا. لكن العينة تتضمن من التكاليف والإجراءات والعقود ما لا يحقق أي مصلحة، كما سبق. والذين يجيزون العينة يجعلون هذه الإجراءات مقصودة ومطلوبة لجواز المعاملة، مع خلوها من أي نفع للمدين. وهذا يقتضي أن هذه التكاليف الإضافية مقصودة لذاتها لا لمصلحة المتبايعين. وهذا ينافي قاعدة الشرع في كون المشقة غير مرادة لذاتها، بل جاء الشرع بضدها وهو اليسر ورفع الحرج. (1) قال شيخ الإسلام: «المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها. فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه». (2)
__________
(1) ... انظر الفتاوى، 10/620-622، و«رفع الحرج في الشريعة الإسلامية»، يعقوب الباحسين، ص131-140.
(2) ... «إعلام الموقعين» (5/86-87).(1/19)
... وقال أيضاً: «ولهذا تجد الصحيح الفطرة لا يحافظ على تلك الشروط، لرؤيته أن مقصود الشروط تحقيق حُكم ما شرُطت له والمنع من شيء آخر، وهو إنما قصد ذاك الآخر لا ما شُرطت له. ولهذا يكون إتيانهم بالمحرم الظاهر أنفع لهم وأقل ضرراً عليهم من الإتيان بالحيلة لو كان مقصودهم مباحاً. فعلم أن مقصودهم محرم. مثال ذلك أن من كان مقصوده أخذ ألف بألف ومائتين، فأخْذُها على وجه الربا الظاهر أنفعُ له من المعاملات الربوية. فإنه يأخذها ألفاً ويبقى في ذمته ألف ومائتان. وإذا اشترى منه سلعة ثم باعها لثالث، يعيدها للأول أو لا يعيدها، فإنه في الغالب يزداد تعبه وعمله وتنقص نفقته. فإنه يذهب بعض المال أجرة الدلال وبعضه من إعطاء الثالث المعين أو من خازنها إذا بيعت، فلا تسلم له الألف المقصودة من المعاملة الربوية كما تسلم له مع الربا الظاهر، فيكون الربا أنفع لهم من هذه الحيل. والشارع حكيم رحيم، لا يحرم ما ينفع ويبيح ما هو أقل نفعاً، ولا يحرم ما فيه ضرر ويبيح ما هو أكثر ضرراً منه. فإذا كان قد حرّم الربا فتحريمه لهذه المعاملات أشد. ولو قدّر أنه أباحها، لكانت إباحته للربا الظاهر أولى» (1) .
... فإذا كان هناك معاملتان تستويان في النتيجة والهدف والغاية، إحداهما أكثر كلفة ومشقة من الثانية، فإن جواز الأكثر مشقة يستلزم بالضرورة جواز الأقل مشقة. وتحريم الأقل مشقة يستلزم بالضرورة تحريم الأكثر مشقة. والقول بخلاف ذلك متناقض ومناف لمنهج التشريع.
... ولهذا السبب فإن السماح بالعينة من جهة المدين سيؤدي بطبيعة النشاط الاقتصادي إلى الوقوع في العينة الثنائية، ومن ثم الوقوع في الربا. فإن الإجراءات عديمة الفائدة تحت ضغط المنافسة والربحية ستقود مآلاً إلى الربا. فسد الذرائع يقتضي منع الربا من جهة المدين حتى لو فرض جدلاً جوازه مجرداً.
خلاصة
__________
(1) ... «بيان الدليل» (ص268).(1/20)
... النهي عن العينة جاء متفقاً مع قواعد الشريعة المطهرة ومقاصدها. فليس النهي على خلاف القياس، بل هو على وفق القياس الصحيح الذي تشهد له نصوص الشرع وإجماع العلماء. فلو فرض جدلاً عدم صحة الحديث في النهي عن العينة، لكانت نصوص الشريعة وقواعدها كافية في منعها. ومع صحة الحديث يظهر كمال الشريعة وتمام حكمتها التي أنزلت من لدن حكيم خبير.
(3)
التورق المنظم
... التورق المنظم هو أن يتولى البائع ترتيب الحصول على النقد للمتورق، بأن يبيعه سلعة بأجل ثم يبيعها نيابة عنه نقداً ويقبض الثمن من المشتري ويسلمه للمتورق. والفرق بين التورق والتورق المنظم يتلخص فيما يلي:
[1] ... توسط البائع في بيع السلعة بنقد لمصلحة المتورق، في حين أن البائع في التورق الفردي لا علاقة له ببيع السلعة مطلقاً، ولا علاقة له بالمشتري النهائي.
[2] ... استلام المتورق للنقد من البائع بعدما صار مديناً له بالثمن الآجل، في حين أن الثمن في التورق الفردي يقبضه المتورق من المشتري النهائي مباشرة دون أي تدخل من البائع.
[3] ... التفاهم والتواطؤ المسبق بين الطرفين على أن الشراء بأجل ابتداء إنما هدفه الوصول للنقد من خلال البيع النقدي اللاحق. ولا يلزم حصول التواطؤ في التورق الفردي، بل قد يوجد وقد لا يوجد.
نشأة التورق المنظم
... لقد كان لانتشار التورق في التعاملات المالية المعاصرة امتداد طبيعي يتمثل في وسائل وأدوات تخفض من التكلفة الإجرائية للتورق وترفع من مستوى الربحية والكفاءة بما يحقق مصلحة المشتري (المتورق) والبائع.
... وتَمثَل هذا التطور في سعي البائع في بيع السلعة نيابة عن المشتري بثمن نقدي حاضر، بحيث لا يتكبد المشتري مصاريف القبض والحيازة والنقل والتسويق. وهذا بجانب تحقيقه لمصلحة المتورق، فهو أيضاً يحقق مصلحة البائع؛ لأنه بذلك يكسب شريحة أكبر من الراغبين في التمويل، ويستطيع مِنْ ثَمّ تحقيق أرباح أفضل.(1/21)
... ولم يكن هذا التطور في الحقيقة غريباً، لأنه مقتضى الحوافز الفطرية ونتيجة طبيعية للسنن الكونية التي تحكم الأنشطة المالية والاقتصادية، والتي تقتضي تخفيض التكاليف لزيادة الربح بكل ما هو ممكن، كما سبق. وذلك أن السلعة غير مقصودة أصلاً للمتورق، فليس من مصلحته قبضها وحيازتها ثم بيعها، بل كل ذلك يمثل أعباء إضافية فوق تكلفة التمويل، ولذلك سيقبل بأي أسلوب مناسب للتخلص من هذه التكاليف. وإذا كان البائع مصرفاً، فهو أيضاً ليس له أي مصلحة في السلعة أصلاً، فسيسير في الاتجاه نفسه كذلك. وهذه هي سنة الحياة الاقتصادية، ومن ظن أن الأمور تسير بعكس ذلك فهو بعيد عن معرفة السنن والحوافز التي توجه النشاط الاقتصادي.
... إن العاقل لا يسير في طريق يعلم أن نهايته هاوية سحيقة لا قرار لها. بل يدع الطريق من بدايته ويبحث عن طريق آمن يفضي به إلى غايته ومطلوبه. والسائرون في ركب العينة، بصورها المختلفة، يدركون أنهم سائرون في طريق نهايته هي هاوية الربا السحيقة، لكنهم مع ذلك يزعمون أنهم قادرون على التوقف تماماً أثناء الطريق أو قبيل بلوغ الهاوية بما يكفي.
... وهذا في الحقيقة وهم كبير؛ لأن الطريق ليست مستوية، بل هي منحدرة باتجاه الهاوية. وانحدارها تدريجي لا يلحظ بوضوح في أولها، لكنه يتزايد بشكل كبير في آخرها، وحينها سيكون من الصعب جداً الصعود للسفح مرة أخرى والعودة لأول الطريق.
موقف الفقهاء من التورق المنظم
... لم يذكر الفقهاء مصطلح «التورق المنظم» بطبيعة الحال، لكنهم صرحوا بالصيغة نفسها، كما قرروا من المعايير والضوابط ما يكفي لمعرفة موقفهم من هذا النوع من التعامل.(1/22)
... فقد كان موقف المالكية واضحاً منذ البداية في التفريق بين «أهل العينة» وغيرهم. فتجدهم في كثير من المناسبات يحرمون المعاملة إذا كانت مع أهل العينة، ويجيزونها مع من سواهم. ومن أوضح الأمثلة على ذلك الصور التي ذكرناها سابقاً. فقد رأينا أن الإمام مالكاً وأصحابه كرهوا أن يشتري الشخص السلعة على أن ينقد بعض ثمنها ويؤجل الباقي. وأن هذا المنع، كما قال ابن شاس، في حق المتهم خاصة، وصرح ابن رشد أن الصورة جائزة لغير أهل العينة؛ وذلك لأن هذا يعد قرينة على تواطؤ الطرفين على بيع السلعة من أجل النقد.
... وهذا صريح في أمرين:
[1] ... التفريق بين أهل العينة وغيرهم، وأن أهل العينة يعامَلون بما لا يعامَل به سائر الناس. وهذا التفريق يثبت تمييز فقهاء المالكية بين العمل المنظم والعمل التلقائي. وهذا واضح في أن المعاملة إذا تحولت من تصرف فردي عفوي إلى عمل منظم أخذت بُعداً آخر لم يكن معتبراً من قبل.
[2] ... الأخذ في الاعتبار أي علاقة إضافية بين المتورق والبائع، مثل رجوع المشتري للبائع ليضع عنه، أو أن يدفع له بعض الثمن نقداً وبعضه نسيئة، من أجل تيسير حصول المشتري على النقد في الحالتين. ومثل هذه العوامل لا توجد في التورق الفردي الذي لا يتضمن أي صلة إضافية للبائع بالمتورق مطلقاً. فوجود علاقة إضافية بين البائع وبين المتورق تؤثر في الحكم قطعاً.
... فإذا اجتمع هذان الأمران، كون البائع من أهل العينة ووجود علاقة إضافية بينه وبين المتورق، كان الحكم هو التحريم، كما واضح من النصوص المنقولة سابقاً، وكما سيتضح من النصوص الآتية.(1/23)
... أما موقف الإمام أحمد رحمه الله، فهو أكثر وضوحاً بالنظر إلى رأيه في العينة ومعناها. فقد سبق أنه يرى أن يتفرغ الشخص للبيع بنسيئة، فهو يقول: «العينة عندنا أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة. فإن باع بنقد ونسيئة فلا بأس». وفي رواية أنه سُئل عن العينة ما هي؟ فقال: «البيع بنسيئة»، قال: «إذا كان يبيع بنقد ونسيئة فلا بأس، وأما رجل لا يبيع إلا بنسيئة فهذا ما أكرهه».
... وكلامه رحمه الله صريح أن التخصص في البيع بنسيئة هو العينة، وأنه يكرهه. والكراهة هنا تفيد التحريم؛ لأنه علل ذلك بأنه عينة، والعينة مذمومة شرعاً. وهذا واضح أن التفرغ للبيع بأجل يحول المعاملة من العفوية والتلقائية إلى التنظيم والتخصص، ومن ثم ينقل الحكم من الجواز إلى المنع.
... ومما يؤكد ذلك أن الإمام أحمد يمنع العينة الثنائية مطلقاً، سواء أكانت ممن يتفرغ للنسيئة أم لا. وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون المنع من التفرغ للبيع نسيئة لمعنى آخر. وقد سبق أنه جعل التورق من العينة، كما في رواية أبي داود، وقرن بينه وبين البيع بنسيئة، كما سمى التفرغ للبيع بنسيئة عينة أيضاً. وهذا يدل على أن سبب المنع من التفرغ للبيع بنسيئة هو منع تحويل التورق إلى عمل منظم؛ لكونه حينئذ قرينة جلية على تواطؤ البائع والمشتري على النقد بالنقد.
... ومما سبق يمكن الجمع بين روايات الإمام أحمد رحمه الله في التورق. فهو نص في رواية أنه لا بأس به، ونص على التحريم في رواية أخرى. (1) فيمكن حمل رواية التحريم على ما كان من أهل العينة، كما هو موقف الإمام مالك، ويحمل ما ورد في الجواز على ما لم يكن كذلك وكان في حالة الضرورة، وتحمل رواية الكراهة على ما نزل عن درجة الضرورة، وبهذا تأتلف الروايات جميعها.
فتاوى السلف في التورق المنظم
__________
(1) ... الإنصاف (4/337). وانظر: الفروع (4/171).(1/24)
... فيما يلي نصوص عن الفقهاء من لدن عصر التابعين إلى أئمة المذاهب في صيغة التورق المنظم، وجميعها تصرح بالمنع والتحريم.
[1] الإمام سعيد بن المسيب (94هـ)
... وهو أعلم التابعين، وأفقه الناس في البيوع (1) . كان يفتي والصحابة رضي الله عنهم أحياء، وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - إذا سُئل عن شيء يشكل عليه يقول: «سلوا سعيد بن المسيب فإنه كان يجالس الصالحين» (2) .
... روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة عن داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته قالت له: إني أريد أن تشتري متاعاً عِينة، فاطلبه لي. قال: فقلت: فإن عندي طعاماً، [قال:] فبعتُها طعاماً بذهب إلى أجل، واستَوفَتْه. فقالت: انظر لي من يبتاعه مني. قلت: أنا أبيعه لك. قال: فبعتها لها. فوقع في نفسي من ذلك شيء. فسألتُ سعيدَ بن المسيب فقال:«انظر ألا تكون أنت صاحبه؟» قال: قلت: فأنا صاحبه. قال: «فذلك الربا محضاً، فخذ رأسمالك، واردد إليها الفضل». هذا لفظ عبد الرزاق.
... ولفظ ابن أبي شيبة: عن داود بن أبي عاصم أنه باع من أخته بيعاً إلى أجل، ثم أمَرَتْه أن يبيعه، فباعه. قال: فسألتُ سعيد بن المسيب، فقال: «أبصر ألا يكون هو أنت؟» قلت: أنا هو. قال: «ذلك الربا، فلا تأخذ منها إلا رأسمالك» (3) .
وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات المهمة:
__________
(1) ... انظر: «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية، (6/614)، «القواعد النورانية»، ص173.
(2) ... «الطبقات» لابن سعد، (5/141).
(3) ... «المصنف» لعبدالرزاق، (8/294-295)، «المصنف» لابن أبي شيبة، (7/275-276)، وإسناده صحيح. ووقع عند عبدالرزاق «عبدالملك بن أبي عاصم» بدل «داود بن أبي عاصم»، والترجيح من ابن أبي شيبة. وأشكر فضيلة الشيخ عبدالله الوكيل على مراجعته لإسناد الحديث.(1/25)
(1) ... إن هذه المعاملة التي تمت بين داود وأخته كانت من التورق المنظم؛ لأن داود هو الذي باع السلعة على أخته بأجل ثم تولى بيعها نقداً نيابة عنها على طرف ثالث. ويدل على أن البيع النقدي كان على طرف ثالث أمور:
? التصريح بأنها «أمَرَتْه أن يبيعه»، وهذا صريح أنه نائب عنها في البيع، لا أنه هو المشتري.
? قوله: «أنا أبيعه لكِ»، وهذا معناه أنه يبيع نيابة عنها، لا أنه يشتري منها، وهذا معروف عند السلف، إذا قال: أبيعه لك، أي أبيعه لمصلحتك نيابة عنك (1) . ولو كان هو المشتري لقال: أنا أبتاعه منك.
? قولها: «انظر لي من يبتاعه مني»، وهذا يدل على أنها طلبت البحث عن المشتري بعد شرائها من أخيها بأجل، ولو كان المقصود أن يشتريها هو نفسه لما كان هناك حاجة للبحث عن مشتر.
? أن عبد الرزاق وابن أبي شيبة ذكرا هذا الأثر في باب آخر خلاف أبواب العينة الثنائية (2) .
... فهذه المعاملة من باب التورق المنظم وليست من العينة الثنائية التي ترجع فيها السلعة للبائع.
__________
(1) ... انظر مثلاً: «المدونة»، (4/244-248)، «المنتقى شرح الموطأ» للباجي، (5/80).
(2) ... فقد ذكر عبدالرزاق العينة الثنائية في باب: الرجل يبيع السلعة ثم يريد شراءها بنقد، (8/184)، بينما ذكر أثر سعيد في باب: الرجل يعيّن الرجل هل يشتريها منه أو يبيعها لنفسه. أما ابن أبي شيبة فقد ذكر العينة الثنائية في باب: الرجل يبيع السلعة بالنقد ثم يشتريها، (6/593)، كما ذكر العينة في (6/47، 573)، بينما ذكر أثر سعيد في باب: الرجل يبيع الدّين إلى أجل.(1/26)
(2) ... إن فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله كانت بتحريم هذه المعاملة؛ لأنها في نظره ربا، بل وصفها بأنها «الربا محضاً» وأن داود ليس له من أخته إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، وتبطل الزيادة فوق ذلك. وهذا الإبطال للزيادة هو ما دل عليه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي سبقت الإشارة إليه: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا».
(3) ... إن فتواه رحمه الله كانت حاسمة وواضحة، وهذا يشعر أن هذه المعاملة لم تكن جديدة على سعيد، بل وقف عليها وعلم حكمها قبل ذلك. وإذا كان سعيد بن المسيب رحمه الله لقي جمعاً كبيراً من الصحابة، وكان صهر أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وكان مقيماً بالمدينة النبوية وفيها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان أعلم الناس بأقضية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فيَبعد والحال كذلك أن تكون هذه الفتوى، بهذا الجزم، محض اجتهاد منه رحمه الله، بل الأقرب أن له فيها سلفاً يتصل بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(4) ... أن أخت داود سمّت معاملتها عينة؛ لأنها قالت: أريد أن تشتري متاعاً عينة، مع أن مقصودها ليس العينة الثنائية وإنما التورق. فدل على أن التورق كان يسمى عينة. ويؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن سليمان التيمي: «أن إياس بن معاوية كان يرى التورق يعني العينة» (1) . ففسر التورق بأنه عينة. وسيأتي إن شاء الله ما يؤكد ذلك عند الفقهاء.
[2] الحسن بن يسار البصري (110هـ)
... من سادات التابعين علماً وعملاً، وفقيه البصرة ومفتيها. قال أبو قتادة: ما رأيت أحداً أشبه برأي عمر بن الخطاب منه. وقال قتادة: ما جمعتُ علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدتُ له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شيء كتب فيه إلى سعيد بن المسيب (2) .
__________
(1) ... «المصنف» (6/47).
(2) ... «سير أعلام النبلاء» (4/573، 577).(1/27)
... روى عبد الرزاق عن أَبي كعب، عبد ربه بن عبيد الأزدي، أنه قال: قلت للحسن: إني أبيع الحرير، فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق. فقال الحسن: «لا تبعه، ولا تشتره، ولا ترشده، إلا أن ترشده إلى السوق».
... وروى أيضاً عن رزيق بن أبي سلمى أنه قال: سألت الحسن عن بيع الحرير، فقال: «بع واتق الله». قال: يبيعه لنفسه؟ قال: «إذا بعته فلا تدل عليه أحداً، ولا تكون منه في شيء. ادفع إليه متاعه ودعه» (1) .
... وهذا الأثر يتضمن عدداً من الدلالات:
(1) ... قوله: إني أبيع الحرير، كان الغالب آنذاك هو استعمال الحرير للحصول على النقد من خلال شرائه بأجل ثم بيعه نقداً، ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - في العينة: «دراهم بدراهم وبينهما حريرة»، وتسمى العينة أحياناً: «بيع الحريرة» (2) ، وسيأتي ما يؤيد ذلك من كلام الفقهاء. ويفهم أن أبا كعب ربما باع بأجل لمن يريدون العينة، ولهذا قال الحسن في الرواية الثانية: «بع واتق الله» أي لكثرة ما يلابس بيع الحرير من الوقوع في العينة بصورها المختلفة.
(2) ... إن جواب الحسن صريح في منع البائع بأجل من أن يتدخل بأي صورة من الصور لتحصيل النقد للمشتري، ولهذا قال: «لا تكون منه فيه شيء، ادفع إليه متاعه ودعه». وهذا يقتضي منع توسط البائع بأجل لمن يريد النقد حتى لو كان بمجرد الدلالة على من يشتريه نقداً، وهذا صريح في منعه للتورق المنظم.
__________
(1) ... «المصنف» (8/295)، والرواية الأولى إسنادها صحيح. والرواية الثانية فيها «رزيق بن أبي سلمى»، ذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (3/505) وسكت عليه. وجاء في الأصل في الرواية الثانية: «إذا ابتعته»، والتصحيح من حاشية التحقيق.
(2) ... انظر: «المصنف» لابن أبي شيبة (6/48)، «بيان الدليل» لابن تيمية، المكتب الإسلامي، (ص73).(1/28)
(3) ... وقول الحسن رحمه الله: «لا تبعه» أي لا تبع الحرير نيابة عمن اشتراه منك بأجل، وهذا منع للتورق المنظم. وقوله: «ولا تشتره» أي لا تشتره منه، وهذا منع للعينة الثنائية. وقوله: «ولا ترشده» أي لا تدله على من يشتريه منه نقداً. وقال في الرواية الأخرى: «إذا بعته فلا تدل عليه أحداً» يعني والله أعلم إذا بعت الحرير واشتراه منك المتورق فلا تدل عليه من يشتري منه بنقد.
... فمجموع الروايتين منعٌ للدلالة من الجهتين. وعلى كل تقدير فهو نهي عن التدخل في عملية التورق؛ ولهذا قال: «ادفع إليه متاعه ودعه».
(4) ... إن هذا التدخل ممنوع وإن كان المشتري لا يحسن التعامل في السوق، لقوله: «فتبتاع مني المرأة والأعرابي، يقولون: بعه لنا فأنت أعلم بالسوق»، ومع ذلك نهاه الحسن رحمه الله عن التدخل، لعلمه أن مراد هؤلاء النقد. ولو كان هذا المراد حلالاً طيباً لكانت الإعانة عليه مشروعة مطلوبة. فلما كانت الإعانة على تحصيل النقد بهذا الطريق ممنوعة، علم أن هذا الغرض محل شبهة على أقل تقدير.
[3] الإمام مالك بن أنس (179هـ)
... إمام دار الهجرة، وعالم المدينة الذي ضربت إليه أكباد الإبل في طلب العلم، فلم يجد الناس أعلم منه، كما ورد في الحديث النبوي (1) .
... قال ابن القاسم: «سألتُ مالكاً عن الرجل يبيع السلعة بمائة دينار إلى أجل، فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد فإني لا أبصر البيع. فقال مالك: لا خير فيه، ونهى عنه» (2) .
... ويلاحظ من هذا النص:
__________
(1) ... «سير أعلام النبلاء» (8/55-56).
(2) ... «المدونة» (4/125)، بحث «التورق كما تجريه المصارف» عبدالله السعيدي، ص18.(1/29)
(1) ... أن المعاملة التي سَأل ابنُ القاسم عنها مالكاً هي عماد التورق المنظم؛ لأن المشتري بأجل يطلب من البائع أن يبيع السلعة نقداً نيابة عنه على رجل آخر. فقوله: «فإذا وجَبَ البيع بينهما قال المبتاع للبائع: بعها لي من رجل بنقد»، أي قال المشتري للبائع: بعها لي، أي: بعها نيابة عني، كما سبق. وقوله: «من رجل» أي غير البائع نفسه كما هو ظاهر.
(2) ... إن الإمام مالكاً منع هذا التعامل بقوله: «لا خير فيه» وبنهيه عنه أيضاً. ونحوه ما جاء في النوادر والزيادات: «قال مالك: ولا يلي بيعها لمبتاعها منه يسأله ذلك. قال أشهب: لا خير فيه» (1) .
... ... وهذا يوافق فتوى سعيد بن المسيب رحمه الله في هذه المسألة. ولا غرابة في ذلك، فالإمام مالك وارث علم أهل المدينة قبله، ومن أبرزهم سعيد بن المسيب.
(3) ... وقول المشتري: «إني لا أبصر البيع» هو نفس التعليل الذي سُئل عنه الحسن البصري رحمه الله. ومع ذلك فإن الإجابة كانت حاسمة بالمنع. وهذا يؤكد أنه لو كان مقصود المشتري من تحصيل النقد بهذا الأسلوب أمراً مشروعاً ومحموداً، لكانت إعانته عليه محمودة كذلك، فلما كانت الإعانة مذمومة، عُلم أن هذا الأسلوب غير محمود أصلاً.
(4) ... وقول الإمام مالك هذا - رحمه الله - يوافق ما ورد عنه من مسائل التورق التي ذكرها عنه أصحابه، وتتفق جميعها على أن أي تدخل للبائع لتسهيل التورق للمتورق يكشف حقيقة المعاملة ويجعلها من ثم محرمة، كما سبق.
[4] الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ)
... الفقيه المجتهد المحدّث، صاحب أبي حنيفة ومن أئمة المذهب الحنفي.
... وقد جاء عنه أكثر من نص:
__________
(1) ... «النوادر والزيادات» (6/94)، وانظر: «الذخيرة» (5/15).(1/30)
(أ) ... جاء في كتاب الأصل: «ولو باعه لرجل، لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد، لنفسه ولا لغيره. ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك، لنفسه ولا لغيره؛ لأنه هو البائع» (1) .
(1) ... ذكر محمد بن الحسن رحمه الله هذا النص بعد أن ذكر صورة العينة الثنائية، وهي أن يبيع الشخص السلعة بثمن مؤخر ثم يشتريها بثمن حاضر، ويسميها فقهاء الحنفية: «شراء ما باع بأقل مما باع قبل انتقاد الثمن»، وبيّن أن هذا الشراء مردود. ثم بعد أن تعرض لبعض التفاصيل انتقل إلى المسألة التي نحن بصددها، وهي ما إذا كان الشراء أصالة أو وكالة.
(2) ... قوله: «ولو باعه لرجل»، سبق أن عبارة «باع له» تعني باع لمصلحته ونيابة عنه. فقوله: ولو باعه لرجل، أي باع المبيع لمصلحة رجل آخر، فالذي يباشر البيع هنا وكيل ونائب عن مالك المبيع. ثم قال: «لم يكن ينبغي له أن يشتريه بأقل من ذلك قبل أن ينقد». أي لم يكن ينبغي للمالك الأصيل أن يشتري المبيع بأقل. فيكون معنى العبارة: لو وكّل مالكُ السلعة من يبيعها نيابة عنه، فلا يجوز للمالك أن يشتري السلعة بثمن أقل قبل انتقاد ثمن الشراء. وقوله: «لنفسه ولا لغيره» أي لا ينبغي له أن يشتري: سواء كان الشراء لنفسه أو لغيره. وواضح من ذلك أنه لا يلزم أن ترجع السلعة للمالك الأصيل، ومع ذلك حكم الإمام محمد بمنع هذا الشراء.
__________
(1) ... «كتاب الأصل»، عالم الكتب، (5/192)، وهناك زيادة أضافها المحقق للإيضاح، حُذفت هنا.(1/31)
(3) ... ثم قال: «ولا ينبغي للذي باعه أن يشتريه أيضاً بأقل من ذلك، لنفسه ولا لغيره؛ لأنه هو البائع». وقوله «الذي باعه» يريد الوكيل الذي باشر البيع نيابة عن المالك. فيكون معنى العبارة: لا يجوز للوكيل الذي باشر البيع أن يشتري المبيع بأقل من الثمن الذي باع به قبل أن ينقد المشتري الثمن. وقوله: «لنفسه ولا لغيره» أي لا يصح الشراء، سواء كان الشراء لمصلحة الوكيل نفسه أو لمصلحة غيره. وواضح مرة أخرى أن المنع لا يشترط فيه أن تكون السلعة قد عادت للمالك الأصلي، بل قد تباع على طرف ثالث، وبذلك تكون المعاملة من صور التورق وليس العينة الثنائية، وهو تأكيد لمفهوم العبارة السابقة. وسيأتي من كلام فقهاء الحنفية ما يؤكد هذه النتيجة.
(4) ... إن هذا الحكم ليس رأياً خاصاً بالإمام محمد وحده، بل هو رأي أئمة المذهب: أبي حنيفة (150هـ)، والقاضي أبي يوسف (182هـ)، بالإضافة لمحمد بن الحسن، رحمة الله عليهم جميعاً. ولهذا كان كتاب الأصل من كتب ظاهر الرواية، أي الكتب المعتمدة في المذهب الحنفي. ولهذا السبب وجدنا هذا الحكم منصوصاً عليه في كتب الفقهاء ممن بعدهم.
... ففي تبيين الحقائق للزيلعي، بعد أن ذكر المنع من شراء ما باع بأقل مما باع، قال: «وكذا لو وكّل رجلاً ببيع عبدَه بألف درهم، فباعه، ثم أراد الوكيل أن يشتري العبد بأقل مما باع، لنفسه أو لغيره بأمره، قبل نقد الثمن، لم يجز» (1) .
... ويؤكد ابن عابدين في حاشيته هذا المعنى فيقول: «فأفاد أنه لو باع شيئاً أصالة بنفسه أو وكيله، أو وكالة عن غيره، ليس له شراؤه بالأقل، لا لنفسه ولا لغيره» (2) .
__________
(1) ... «تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق»، ط بولاق، (4/54).
(2) ... «رد المحتار»، ط بولاق، (4/114).(1/32)
(5) ... وهذه العبارات من فقهاء المذهب عبر القرون صريحة في منع هذا التعامل أصالة أو وكالة، في أي من العقدين: البيع أو الشراء. وتعليلهم لهذا المنع يعكس حرصهم على سد الباب من أصله. فيعلل الزيلعي المنع من شراء الوكيل لنفسه بقوله: «أما شراؤه لنفسه فلأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه، والثابت من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات». ثم يعلل المنع من الشراء لغيره بقوله: «وأما لغيره فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فكان هذا شراء ما باع لنفسه من وجه». وذكر ابن عابدين تعليل الزيلعي وأقره.
(6) ... إن هذه النصوص تؤكد أن من باع سلعة بثمن مؤخر،لم يجز له أن يشتري هذه السلعة لا لنفسه ولا لغيره، حتى لو كان في البيع الأول وكيلاً يعمل لمصلحة غيره، حتى لو لم ترجع السلعة لمالكها الأول. وهذا إغلاق محكم لكل أنواع الوساطة في هذا الباب، وهذا يشمل كل صور التورق المنظم.
(ب) ... النص الآخر جاء في كتاب الجامع الصغير: «رجل كَفَل عن رجل بأمره، فأمَرَه أن يتعيّن عليه حريراً. فالشرى للكفيل، والربح الذي ربحه البائع عليه» (1) .
وفي هذا النص وقفات:
(1) ... قال الشراح: قوله «يتعيّن»، أي يتعامل بالعينة، كما هو المعنى اللغوي. وسبق معنى العينة عند فقهاء الحنفية، وأنه يشمل التورق.
(2) ... قوله: «أمره أن يتعيّن عليه» نظير قول أخت داود بن أبي عاصم في أثر سعيد بن المسيب السابق حين قالت: «أريد أن تشتري متاعاً عينة»، فكلاهما أمرٌ بالعينة.
__________
(1) ... «الجامع الصغير»، عالم الكتب، (ص373)، وأشكر فضيلة الشيخ علي الندوي لمراجعته للموضوع.(1/33)
(3) ... مضمون هذه الصيغة أن الآمر محتاج للنقد، فيطلب من المأمور أن يشتري حريراً لمصلحة الآمر بثمن مؤجل، ثم يبيع المأمور الحرير بنقد، أقل من الثمن الآجل بطبيعة الحال، ويسلم النقد للآمر أو يوفي به الدين الذي كفله عنه. والأصل في هذه الحالة أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالثمن الآجل؛ لأن الأخير هو المشتري للسلعة أصالة.
لكن محمد بن الحسن يرى أن المأمور ليس له أن يطالب الآمر بالثمن الآجل، ولهذا قال: «فالشرى للكفيل، والربح الذي ربحه البائع عليه». أي أن الثمن الآجل يثبت في ذمة المأمور أمام البائع، ولا يثبت في ذمة الآمر أمام المأمور، لأن الشراء لا يكون للآمر، بل للمأمور. وعليه، فإن المأمور لا يطالب الآمر إلا بمقدار النقد الذي سلمه إياه أو وفّى به عنه، دون أي زيادة.
... وهذا يقتضي تحريم هذه الزيادة، لأن الأصل أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالثمن الآجل كاملاً، إذ الشراء في الأصل للآمر لأنه هو المحتاج للنقد. فإذا بطل كون الشراء له، امتنع أن يطالب المأمورُ الآمرَ بالزيادة عن النقد الذي سلمه إياه. وهذا يستلزم تحريم إثبات الزيادة في ذمة الآمر، ولولا ذلك لما حكم ببطلانها.
... وهذا مطابق لفتوى سعيد بن المسيب حين أمر داود بن أبي عاصم أن يرد الزيادة لأخته ولا يأخذ إلا رأسماله الذي يعادل الثمن النقدي، كما سبق. فأقوال محمد بن الحسن وسعيد بن المسيب متفقة على أن الزيادة على الثمن النقدي باطلة، ولا تثبت في ذمة الآمر بالعينة.
(4) ... وهذا الحكم ليس رأي محمد بن الحسن وحده، بل هو قول أئمة المذهب؛ لأن كتاب الجامع الصغير من كتب ظاهر الرواية المعتمدة في المذهب الحنفي. ومع اتفاق فقهاء المذهب على هذا الحكم إلا أنهم اجتهدوا في تعليله. فعلله بعضهم بأنه ضمان من الآمر لما يخسره المأمور بالفرق بين الثمن الآجل والثمن النقدي، قالوا: وضمان الخسران باطل. وعلله بعضهم بأنه توكيل مع جهالة مقدار السلعة والثمن، فهي وكالة باطلة.(1/34)
... لكنهم متفقون على أن المأمور به هو العينة التي تشمل التورق، وأنها مذمومة، وأن الزيادة لا تثبت في ذمة الآمر. ولا حاجة للتعليل بعد ذلك بأكثر من أن هذه المعاملة من العينة المنهي عنها بنص الحديث، فلا تثبت الزيادة في حق الآمر لأنها ربا، ويتحملها المأمور لأنه هو الذي باشر الشراء. وإذا علم المأمور أنه لا يحق له مطالبة الآمر بالزيادة فإنه سيمتنع من هذا التعامل أساساً.
(5) ... وموقف محمد بن الحسن هذا يؤكده عبارته المشهورة في العينة: «هذا البيع في قلبي كأمثال الجبال، ذميمٌ، اخترعه أكلة الربا» (1) . وهذا الذم لا يقتصر على العينة الثنائية، كما تأوله البعض، بل يشمل الوساطة بالتورق كما سبق صريحاً.
خلاصة
(1) ... إن اتفاق هؤلاء العلماء على منع هذه المعاملة، مع تباين مناهجهم، ما بين أهل الرأي وأهل الحديث، وتعدد مدارسهم، ما بين المدينة إلى البصرة إلى الكوفة، يشير إلى أن منعها يستند إلى أصل صحيح يتفقون عليه جميعاً، ألا وهو منع العينة وذمها؛ إذ يقتضي هذا سدَّ الباب أمام اتخاذ البيع ذريعة للحصول على النقد الحاضر بأكثر منه في الذمة.
وسبق أن الوكالة بالتورق إعانة ومساعدة للمحتاج للنقد، فإذا كانت ممنوعة دل ذلك على أن تحصيل النقد بهذا الطريق من العينة المذمومة شرعاً.
(2) ... إن الفتاوى السابقة تمنع توسط البائع لتحصيل النقد حتى بدون تواطؤ أو اتفاق مسبق بين المتورق وبين البائع، كما يظهر من سياق النصوص المنقولة عنهم. وإذا كان هذا ممنوعاً مع غياب التواطؤ، فهو مع وجوده أولى بالمنع. والتورق المنظم بالصورة التي يطبق بها اليوم يظهر فيها التواطؤ ظهوراً لا مزيد عليه، فالقول بمنعه إذن آكد وأوجب.
__________
(1) ... «فتح القدير»، دار إحياء التراث،(6/224).(1/35)
(3) ... إن قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمنع التورق المنظم (انظر الملحق)، مع عدم اطلاع أعضائه فيما يبدو على أقوال السلف في هذا الخصوص، يشهد على كمال هذه الشريعة الغراء وربانيتها وعصمتها، فالكل يصدر عن مشكاة واحدة تعصم مَن تمسك بها عن الانحراف، وتهديه إلى المحجة البيضاء التي سار عليها السلف الصالح، مهما باعدت بينهم القرون وتطاولت بهم الأزمان.
(4) ... وكون هذه المعاملة معروفة منذ القرن الأول الهجري، وكانت مواقف السلف منها بهذا الحسم والوضوح، دليل على أن مسيرة التمويل الإسلامي اليوم بحاجة لمراجعة جادة. فانتشار التورق المنظم والمصرفي تراجع وتقهقر للتمويل الإسلامي من جهتين: الأولى أن هذه الصيغة ممنوعة منذ القدم، وبدلاً من إيجاد صيغ وأدوات مشروعة، تتجه المؤسسات الإسلامية إلى الصيغ المشبوهة والممنوعة. الثانية أنها صيغة قديمة ليس فيها جديد، حتى لو غضضنا الطرف عن مدى مشروعيتها.
إن المنهج السائد اليوم لتصميم الأدوات والصيغ المالية بحاجة حقيقية إلى إعادة نظر، والبحث عن منهجية أكثر إبداعاً، وفي الوقت نفسه أبعد عن الشبهات.
ملحق
قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن
التورق كما تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر
... «الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه. أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة، في الفترة من 19-23/10/1424هـ الذي يوافقه: 13-17/12/2003م، قد نظر في موضوع: «التورق كما تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر».(1/36)
... وبعد الاستماع إلى الأبحاث المقدمة حول الموضوع، والمناقشات التي دارت حوله، تبين للمجلس أن التورق الذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر هو: قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه ترتيب بيع سلعة (ليست من الذهب أو الفضة) من أسواق السلع العالمية أو غيرها، على المستورق بثمن آجل، على أن يلتزم المصرف – إما بشرط في العقد أو بحكم العرف والعادة – بأن ينوب عنه في بيعها على مشتر آخر بثمن حاضر، وتسليم ثمنها للمستورق.
... وبعد النظر والدراسة ، قرر مجلس المجمع ما يلي:
أولاً: عدم جواز التورق الذي سبق توصيفه في التمهيد للأمور الآتية:
1) ... أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر أو ترتيب من يشتريها يجعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعاً، سواء أكان الالتزام مشروطاً صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة.
2) ... أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشروط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة.(1/37)
3) ... أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من إجرائها أن تعود عليه بزيادة على ما قدم من تمويل. وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، والذي سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن قال بجوازه بمعاملات حقيقية وشروط محددة بينها قراره، وذلك لما بينها من فروق عديدة فصلت القول فيها البحوث المقدمة. فالتورق الحقيقي يقوم على شراء حقيقي لسلعة بثمن آجل تدخل في ملك المشتري ويقبضها قبضاً حقيقياً وتقع في ضمانه، ثم يقوم ببيعها هو بثمن حال لحاجته إليه، قد يتمكن من الحصول عليه وقد لا يتمكن، والفرق بين الثمنين الآجل والحال لا يدخل في ملك المصرف الذي طرأ على المعاملة لغرض تسويغ الحصول على زيادة لما قدم من تمويل لهذا الشخص بمعاملات صورية في معظم أحوالها، وهذا لا يتوافر في المعاملة المبينة التي تجريها بعض المصارف.
ثانياً:
... يوصي مجلس المجمع جميع المصارف بتجنب المعاملات المحرمة، امتثالاً لأمر الله تعالى . كما أن المجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في إنقاذ الأمة الإسلامية من بلوى الربا، فإنه يوصي بأن تستخدم لذلك المعاملات الحقيقية المشروعة دون اللجوء إلى معاملات صورية تؤول إلى كونها تمويلاً محضاً بزيادة ترجع إلى الممول.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.»
(3)
مقلوب التورق
... مقلوب التورق هو أن يوكل شخص آخر بشراء سلعة نيابة عنه، ويسلمه الثمن نقداً، فإذا اشترى الوكيل السلعة اشتراها من الأصيل بثمن مؤجل، ثم يبيع الوكيل السلعة بعد ذلك نقداً.(1/38)
... وهذه الصيغة تستخدم في الصناعة المصرفية بأسماء مختلفة، مثل المرابحة العكسية، أو «الاستثمار المباشر» أو «الوكالة بالاستثمار» أوغيرها من الأسماء التسويقية. وقد انتشر بشكل كبير بديلاً عن الوديعة لأجل لدى المصارف التقليدية.
... والوديعة لأجل هي أن يودع العميل مبلغاً من المال (مائة ألف مثلاً) لدى المصرف ويلتزم المصرف له في المقابل بأكثر منه بنسبة متفق عليها (مائة وعشرة آلاف مثلاً) بعد مضي فترة محددة (وهو الأجل المشار إليه).
... والمقصود من هذا المنتج هو الوصول إلى نفس النتيجة، وهو أن يسلم العميل مبلغاً من المال للمصرف على أن يضمن له المصرف بعد مدة محددة مبلغاً أكثر منه بنسبة متفق عليها. أي أن النتيجة واحدة في الأمرين، وهي نقد حاضر من العميل للمصرف، مقابل نقد مؤجل في ذمة المصرف أكثر منه للعميل.
... والأسلوب المتبع للوصول لهذه النتيجة هو ما يسمى «توكيل الطرف المقابل». فيقوم العميل بتسليم النقد للمصرف ويوكله بشراء سلع لمصلحة العميل، أياً كان نوع هذه السلع، ثم يقوم المصرف بعد ذلك بشراء هذه السلع بأجل بالزيادة المتفق عليها.
وسُمّي هذا المنتج «المرابحة العكسية» لأن المعتاد في المرابحة أن يكون المصرف هو البائع الدائن، والعميل هو المشتري المدين. وهنا انعكس الوضع فصار العميل هو الدائن والمصرف هو المدين. ولهذا السبب أيضاً سمي «مقلوب التورق»، لأن مقصود المصرف هو الوصول للنقد من خلال بيع السلعة حاضراً.
موقع المنتج في مسيرة المصارف الإسلامية
... وقبل تناول الإشكالات الفقهية على هذا المنتج، من المهم الإشارة إلى موقعه في مسيرة المصارف الإسلامية. فالمصرف الإسلامي من الناحية النظرية يقوم على جذب الأموال ثم توظيفها، وفي كلا الأمرين يستند إلى الأدوات الإسلامية المعروفة.(1/39)
... في بداية المسيرة كان الاستقطاب والتوظيف كلاهما من خلال المشاركة بصورها المختلفة. ثم بعد فشل تطبيق المشاركة في جانب التوظيف برزت المرابحة لتحتل القسط الأكبر. المرحلة التي تلت ذلك هي سيطرة التورق المنظم على جانب التوظيف أو على جانب الأصول في قائمة ميزانية المصرف. والتورق المنظم يمثل (تقريباً) الحلقة الأخيرة في هذا الجانب، لأنه يحول المصرف من كونه عنصراً في العملية الحقيقية إلى مجرد مصدر للنقد كما هو حال المصرف الربوي، ووجود سلع صورية لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً. وقد كان قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمنع التورق المنظم معلماً ضرورياً للحكم على خطأ هذا التوجه.
... لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل انتقل الخلل من جانب الأصول إلى جانب الخصوم، ومن جانب التوظيف إلى جانب الاستقطاب. فإذا كان التورق هو عماد التوظيف، فالمنطق يقتضي أن يكون مقلوب التورق هو عماد الاستقطاب، وهذا ما حصل بالضبط. وإذا كان التورق المنظم مصدراً للنقد للعميل، فإن مقلوب التورق أصبح مصدراً للنقد للمصرف نفسه. فالتمويل النقدي (نقد مقابل نقد) أصبح هو أساس نشاط كثير من المصارف الإسلامية، في الأصول وفي الخصوم. وبهذا ينتهي دور المصرف الإسلامي الذي كان قائماً على أساس النشاط الحقيقي في الجانبين. والسبب هو هذه المنتجات المشبوهة.
... وسيرى القارئ أن هذا المنتج:
? نص الفقهاء المتقدمون على منعه.
? وصرحت بذلك الهيئات والمجامع الفقهية المعاصرة.
? وهو أسوأ من التورق المنظم الذي صرح الفقهاء، قديماً وحديثاً، بمنعه.
? وكما هو شأن سائر الحيل الربوية، فهو يناقض مقاصد التشريع وضوابط المعاملات.
موقف الفقهاء من مقلوب التورق(1/40)
... نص الإمام مالك رحمه الله على منع هذه الصيغة، وصرح بذلك فقهاء المالكية. ففي حاشية الدسوقي: «وأما إن أعطى ربُّ مال لمريد سَلَف منه بالربا ليشتري بها سلعةً على ملك ربِّ المال، ثم يبيعها له، فهو ممنوع» (1) . وفي مواهب الجليل: «ومن هذا الباب مسألة يفعلها بعض الناس، وهي ممنوعة، وذلك أن يدفع لبعض الناس دراهم ويقول له: اشتر بها سلعة على ذمتي فإذا اشتريتَها بعتُها منك بربح لأجل، ولا إشكال في منع ذلك» (2) .
... وقد صرح ابن رشد الجد رحمه الله أن المنع ثابت وإن تحقق القبض لوجود التهمة، قال: «إلا أن الوكيل في هذه المسألة هو المبتاع للطعام بالثمن الذي دفعه إليه موكله، فلا يجوز أن يبيعه منه وإن تحقق قبضه بأكثر مما دفع إليه» (3) . وليس هذا غريباً عن منهج الإمام مالك الذي ينظر إلى الغايات والمقاصد من المعاملات ويشدد في سد أبواب التحايل، خاصة على الربا.
موقف الفقهاء المعاصرين
... نص عدد من الفتاوى المعاصرة على أن الأصل منع توكيل العميل الآمر بالشراء في المرابحة المصرفية. فقد قررت الهيئة الشرعية الموحدة لمجموعة البركة أن «الأصل: عدم جواز توكيل البنك الواعدَ بالقيام بالشراء والتسلم لأن ذلك يفقد عملية المرابحة معناها»، وأن توكيل العميل يمكن قبوله في حالات استثنائية مثل أن يكون للبضاعة وكيل رسمي لا يمكن تسويق البضاعة لغيره، ومثل حالات الازدواج الضريبي، «ففي مثل هذه الاستثناءات يجوز توكيل الواعد بالشراء» (4) .
__________
(1) ... «حاشية الدسوقي»، دار الفكر، (3/89).
(2) ... «مواهب الجليل»، دار الفكر، (4/408).
(3) ... «البيان والتحصيل»، دار الغرب الإسلامي، (8/132). وانظر أيضاً: (7/137) و(12/335)، و«النوادر والزيادات»، دار الغرب الإسلامي، (7/240).
(4) ... الفتوى 10/3.(1/41)
... وأكد ذلك توصيات ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي (9/7) التي قررت: «الأخذ بالرأي القائل بعدم جواز هذا التوكيل بخصوص بيع المرابحة للآمر بالشراء»، وهو ما أخذت به عدد من الهيئات الشرعية الأخرى (1) . كما أكدت ندوة البركة المذكورة على أن يكون دفع الثمن للبائع مباشرة دون توسط الآمر بالشراء (9/5).
... وقد أخذ المجلس الشرعي لهيئة المعايير المحاسبية بالبحرين بمضمون ذلك، حيث نص المعيار رقم (8) حول المرابحة للآمر بالشراء في الفقرة (3/1/3) على أن: «الأصل أن تشتري المؤسسة السلعة بنفسها مباشرة من البائع. ويجوز لها تنفيذ ذلك عن طريق وكيل غير الآمر بالشراء، ولا تلجأ لتوكيل العميل (الآمر بالشراء) إلا عند الحاجة الملحة». ثم نص في الفقرة (3/1/4–ب) على أنه في حالة توكيل العميل، يجب «أن تباشر المؤسسة دفع الثمن للبائع بنفسها وعدم إيداع ثمن السلعة في حساب العميل الوكيل».
... وكان مجمع الفقه الإسلامي قد نص في الدورة الثالثة قرار (1) على أن «الأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك».
... وواضح أن هذه القرارات تقتضي منع الاستثمار المباشر لأنها تمنع توكيل المدين بصفة دائمة ومطردة، وهو ما يتحقق بأوضح صورة في الأخير. كما أنها تصرح في حالة التوكيل بمنع تسليم الثمن للوكيل، وهذا يمنع أهم عناصر الاستثمار المباشر القائم على تسليم المستثمر المبلغ نقداً للبنك.
الإشكالات الفقهية على المنتج
... بالإضافة لما سبق، فإن مقلوب التورق بالطريقة التي يطبق بها لدى المصارف ينطوي على عدد من المحاذير والإشكالات الفقهية:
__________
(1) ... راجع «الدليل الشرعي للمرابحة»، عز الدين خوجة، دلة البركة، ص147–149.(1/42)
1. ... إن المصرف عندما يقبض الثمن من العميل نقداً فهو يقبضه قبض ضمان وليس قبض أمانة، إذ يتصرف فيه بمجرد قبضه لمصلحته، كما هو الحال في جميع الأموال التي ترد للخزينة. وإذا كان القبض قبض ضمان امتنع أن يكون المصرف وكيلاً عن العميل، بل يكون بمثابة المقترض لأنه ضامن للمال. ثم في نهاية الأمر يثبت في ذمة المصرف دين نقدي للعميل أكثر مما قبضه منه، وهذا هو الربا.
2. ... إن التمييز بين تصرف الوكيل لمصلحته وبين تصرفه لمصلحة موكله يرجع إلى نية الوكيل، كما هو معلوم عند الفقهاء ومحل اتفاق بينهم. فلو اشترى الوكيل ونوى الشراء لنفسه لم يكن تصرفه لموكله وكانت السلعة ملكَه وفي ضمانه. والنية كما هو معلوم تتبع المقاصد والغايات، وهذا هو شأن العقلاء.
... والمصرف مراده أن تكون السلعة ملكَه، لأنه هو الذي سيشتريها، وهو يَعِدُ العميل بذلك من أول الأمر. فشراؤه نيابة عن العميل مقيد حقيقة وعرفاً بأنه سيشتري هذه السلعة بعينها من العميل، وهذا يناقض كونه وكيلاً عنه، لأن الوكيل يجب أن يتصرف لمصلحة الأصيل، وهنا المصرف يتصرف في حقيقة الأمر لمصلحته.
... ولذلك لا يمكن للمصرف أن ينوب عن العميل في شراء سلع لا يمكن للمصرف أن يشتريها لنفسه بعد ذلك. بل إن المصرف هو الذي يحدد السلعة ويحدد السمسار أو الوسيط وكل ما يتعلق بشرائها، لأنه هو الذي سيشتريها وهو الذي سيضمنها. فالمصرف لا يتصرف في الواقع بصفته وكيلاً بل بصفته مشترياً، فيكون شراء السلعة حقيقة لمصلحته وليس لمصلحة العميل. ولهذا السبب اتفق جماهير الفقهاء المعاصرين على منع توكيل العميل في المرابحة للآمر بالشراء، كما سيأتي.(1/43)
... وإذا كانت السلعة حقيقة ملكاً للمصرف لم يصح شراؤها من العميل بعد ذلك، إذ هي ملك المصرف ابتداء. كما أن قبض المصرف للنقد من العميل لم يعُد قبض أمانة لأنه لم يعد وكيلاً حقيقة في الشراء. فيكون القبض حقيقة قبض ضمان وليس أمانة، وهذا يؤكد الوجه السابق. وتصبح المعاملة في الحقيقة مبادلة بين النقد الحاضر وبين دين مؤجل في ذمة المصرف، وهذا هو المنتج وغرضه من الأساس.
3. ... إن المصرف يعلن عن هذا المنتج ويسوقه للعملاء بأنه استثمار يضمن فيه المصرف الثمن الآجل للعميل، فهو بذلك يلتزم بأن يشتري السلعة من العميل بعد شرائها نيابة عنه (بافتراض صحة هذا التوكيل). وهذا ثابت بقرائن الأحوال وبصريح الهدف المعلن من المنتج وبعلم جميع الأطراف.
... وهذا الالتزام غير صحيح لأنه يقع قبل تملك المصرف للسلعة، فهو من جنس الالتزام بالوعد في المرابحة للآمر بالشراء. وإذا كان الالتزام بالوعد في المرابحة ممنوعاً مع أن حصيلة المرابحة هي سلعة مقابل نقد مؤجل، فالمنع من الالتزام هنا أولى وآكد لأن حصيلة المعاملة هي نقد حاضر بنقد مؤجل.
... ومنع الوعد الملزم في الاستثمار المباشر متعذر لأن هذا هو الهدف من المنتج أساساً، كما سبق، وبموجبه يتم تسويق المنتج على أنه بديل للوديعة لأجل، وبدون هذا الالتزام يفقد المنتج غرضه وقيمته، إذ ليس للعميل مصلحة في إبقاء السلع في ملكه إذا لم يشتريها منه البنك. كما أن العميل يصبح معرضاً لمخاطر تذبذب السعر إذا قرر بيع السلعة في السوق إذا تراجع البنك عن الشراء، وكل هذا يمنع العميل من قبول عدم التزام البنك بالشراء. فالمنع من الالتزام يقتضي منع المنتج بالضرورة.(1/44)
4. ... إن هذا المنتج أسوأ من التورق المصرفي أو المنظم الذي صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمنعه. وذلك أن التورق المصرفي يجعل البائع (الدائن) وكيلاً في البيع النقدي، فيقبض النقد من طرف ثالث (نظرياً على الأقل) ويسلمه للمدين. وهنا النقد يسلمه الدائن مباشرة للمدين. فالنقد والدين في الاستثمار المباشر منحصر بين الطرفين: الدائن والمدين. أما في التورق المنظم فالنقد من طرف ثالث مستقل عنهما. فإذا كان تحصيل النقد الحاضر من طرف ثالث لا يبرر التورق المنظم ولا ينفي عنه تهمة الاحتيال على الربا، فثبوت التهمة إذا كان النقد الحاضر من الدائن من باب أولى.
... ويوضح الفرق بينهما أيضاً أن التورق المنظم توكيل بالبيع بعد إتمام شراء السلعة، أما مقلوب التورق فهو توكيل بالشراء ابتداء. وإذا كان التوكيل بعد تملك السلعة ممنوعاً ومحل تهمة كما سبق، فكيف إذا وقع قبل تملك السلعة أصلاً؟
5. ... إن المعاملة في حقيقتها لا تختلف عن الوديعة لأجل، والجميع يعلم هذه النتيجة، سواء من العملاء أو من المصارف، والمعادن أو السلع ما هي إلا «حريرة» تدخل من هنا لتخرج من هناك، وليس لأي من الطرفين فيها مصلحة ولا غرض إلا تحليل مبادلة النقد الحاضر بالمؤجل بين البنك والعميل، وهذا هو ربا النسيئة المجمع على تحريمه.
... والأصل المتفق عليه، بل صرح شيخ الإسلام بإجماع الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم عليه (1) ، هو منع التحايل في الدين، لأنه استخفاف بأحكام الشرع واستحلال للمحرمات، فهو لذلك أشد من إتيان المحرم صراحة.
__________
(1) ... راجع «بيان الدليل في بطلان التحليل»، دار ابن الجوزي، (ص27، 137، 146).(1/45)
... وقد شنع القرآن العظيم على اليهود ما تحايلوا به على حكم الله، وذكر عقوبتهم على ذلك بالمسخ قردة جزاء لفعلهم، كما قال تعالى: {وَلَقَد عَلِمتُمُ الَّذينَ اعتَدَوا مِنكُم فِي السَّبتِ فَقُلنا لَهُم كونوا قِرَدَةً خاسِئينَ} [البقرة، 65]. وهذا من عدل الله تعالى وحكمته، لأن القرد يشبه في الصورة الإنسان ويخالفه في الحقيقة، فلما تحايل اليهود بامتثال النهي في الصورة وارتكابه في الحقيقة، كان الجزاء من جنس العمل، نسأل الله السلامة. ولهذا ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود بقوله: «قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها». (1) وثبت عنه عليه السلام أنه قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل». (2)
... وقد يختلف العلماء في بعض التعاملات هل هي من الحيل المحرمة أو لا، لكن هذا لا ينقض الأصل العام المقطوع به من تحريم التحايل على المحرمات، خاصة المحرمات القطعية المحرمة تحريم مقاصد وغايات، كما هو الحال في ربا النسيئة الذي توعد الله عليه بالحرب. أما ربا الفضل فهو محرم تحريم وسائل وليس تحريم مقاصد، كما صرح بذلك العلماء، ولهذا جازت العرايا للحاجة بينما لا يجوز ربا النسيئة للحاجة مطلقاً. فلا يصح قياس هذا على هذا مع وجود الفارق المؤثر.
__________
(1) ... متفق عليه. صحيح الجامع (4291).
(2) ... رواه ابن بطة في «إبطال الحيل» (ص112)، وقواه شيخ الإسلام في «بيان الدليل» (ص55)، و«القواعد النورانية» (ص174).(1/46)
... وأياً ما كان الأمر فإن ورود الدليل أو اختلاف العلماء في بعض الصور لا يعني نقض الأصل الكلي المتفق عليه. فمن غير المقبول أن تجعل الصورة المستثناة أو المختلف فيها أصلاً يقاس عليه كل أنواع الحيل حتى لا يبقى منها إلا العينة الثنائية أو قلب الدين فحسب، ويجاز كل ما عداها. فإن هذا يعني أن الأصل في الحيل الحِلّ عدا هاتين الصورتين. وهذا قلبٌ للأمور لأنه يجعل الأصل استثناء والاستثناء أصلاً. وهو مع ذلك نقيض الإجماع على أن الأصل في الحيل التحريم، بل هو نقيض أصل المذهب الحنبلي خصوصاً.
... فقد صرح الموفق ابن قدامة رحمه الله أن أصل الإمام أحمد هو منع الحيل كلها، فقال: «ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة» (1) . وقال الزركشي في شرح الخرقي: «وهذه قاعدة لنا: أن الحيل كلها، لإسقاط واجب أو ارتكاب محرم، باطلة» (2) .
... ومقتضى التمسك بأصول المذهب، فضلاً عن أصول الشريعة، هو منع الحيل كلها إلا ما دل الدليل أو نص الإمام على جوازه، وما عدا ذلك فيبقى على الأصل. وما اختلفت فيه الرواية عنه فيؤخذ بما هو أقرب لأصوله ومنهجه، وتحمل الرواية الأخرى على حال الاضطرار أو عند انتفاء التهمة وعدم التواطؤ المسبق على الحيلة.
خلاصة
__________
(1) ... «المغني»، عالم الكتب، (6/154).
(2) ... «شرح الخرقي»، مكتبة العبيكان، (2/459).(1/47)
... إن هذه الحيل المكشوفة لها أثر سلبي في تشويه مظهر الإسلام والاقتصاد الإسلامي ومن ثم الصد عن سبيل الله. ومن أقرب الأمثلة ما حصل بين أحد المصارف الإسلامية وبين أحد عملائه من نزاع في قضية تمويل من خلال توكيل الطرف المقابل هذا، وادعى فيها العميل أن الاتفاقية لا تمثل تمويلاً إسلامياً حقيقياً ليتنصل من التزاماته، ورُفعت القضية للمحكمة الإنجليزية، ثم بعد دراستها كان من تعليق القاضي: «لو كان الحكم في هذه القضية وفقاً للشريعة الإسلامية لكان الأقرب أن يكسب المدعى عليه القضية»، أي لكان الأقرب هو بطلان العقد (1) .
... وهذا ما دعا أحد المحامين الغربيين، بعد أن وقف على ما تقوم به بعض المصارف الإسلامية، أن يصرح بقوله: إن المسلمين يستطيعون التحايل على ربهم بما لا نستطيع أن نحتال به على قضاتنا (2) .
__________
(1) انظر: www.hmcourts-service.gov.uk/judgmentsfiles/j2232/beximco-v-shamil.htm, no. 55. (17.07.2008)
(2) ... حكى ذلك فضيلة الشيخ صالح الحصين في ندوة البركة، رمضان، 1424هـ، بمكة المكرمة.(1/48)
... وقد نبه العلماء قديماً إلى الأثر السيئ للحيل في الصد عن السبيل الله والتنفير من الإسلام، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر أمثلة للحيل المذمومة:«ومثل هذا وأمثاله منع كثيراً من أهل الكتاب من الدخول في الإسلام، وقالوا: كيف يأتي رسول بمثل هذه الحيل؟ وأساءوا ظنهم به وبدينه، وتواصوا بالتمسك بما هم عليه، وظنوا أن هذا هو الشرع الذي جاء به. وقالوا: كيف تأتي بهذا شريعة أو تقوم به مصلحة أو يكون من عند الله؟ ولو أن ملكاً من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه، قالوا: وكيف يشرع الحكيم الشيء لما في شرعه من المصلحة ويحرمه لما في فعله من المفسدة ثم يبيح إبطال ذلك بأدنى حيلة تكون؟ وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الإسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل، كما هو في كتبهم وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة، فالله المستعان» (1) .
... فالواجب على القائمين على المؤسسات والمصارف الإسلامية أن يستشعروا مسؤوليتهم أمام الله وأمام الناس في إظهار الإسلام بأفضل صورة، وأن يبرزوا الفقه الإسلامي في أجمل حُلة، وأن يأخذوا من كلام العلماء أحسنه وأليقه بالحق الذي جاء به محمد ?، كما هو شأن أولي الألباب الذين امتدحهم الله بقوله جل وعلا: {الَّذينَ يَستَمِعونَ القَولَ فَيَتَّبِعونَ أَحسَنَهُ أُولئِكَ الَّذينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُم أُولُو الأَلبابِ} [الزمر، 18] .
ملحق
قرار المجمع الفقهي الإسلامي بشأن
... المنتج البديل عن الوديعة لأجل ...
... «الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
__________
(1) ... «إعلام الموقعين»، دار ابن الجوزي، (5/198–199).(1/49)
... فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من 22-27/شوال/1428هـ الذي يوافقه 3-8/نوفمبر/2007م، قد نظر في موضوع: «المنتج البديل عن الوديعة لأجل»، والذي تجريه بعض المصارف في الوقت الحاضر تحت أسماء عديدة، منها: المرابحة العكسية، والتورق العكسي أو مقلوب التورق، والاستثمار المباشر، والاستثمار بالمرابحة، ونحوها من الأسماء المحدثة أو التي يمكن إحداثها.
... والصورة الشائعة لهذا المنتج تقوم على ما يلي:
1. ... توكيل العميل (المودع) المصرف في شراء سلعة محددة، وتسليم العميل للمصرف الثمن حاضراً.
2. ... ثم شراء المصرف للسلعة من العميل بثمن مؤجل، وبهامش ربح يجري الاتفاق عليه.
... وبعد الاستماع إلى البحوث والمناقشات المستفيضة حول هذا الموضوع، قرر المجلس عدم جواز هذه المعاملة؛ لما يلي:
1. ... أن هذه المعاملة مماثلة لمسألة العينة المحرمة شرعاً، من جهة كون السلعة المبيعة ليست مقصودة لذاتها، فتأخذ حكمها، خصوصاً أن المصرف يلتزم للعميل بشراء هذه السلعة منه.
2. ... أن هذه المعاملة تدخل في مفهوم «التورق المنظم» وقد سبق للمجمع أن قرر تحريم التورق المنظم بقراره الثاني في دورته السابعة عشرة، وما علل به منع التورق المصرفي من علل يوجد في هذه المعاملة.
3. ... أن هذه المعاملة تنافي الهدف من التمويل الإسلامي، القائم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي، بما يعزز النمو والرخاء الاقتصادي.
... والمجلس إذ يقدر جهود المصارف الإسلامية في رفع بلوى الربا عن الأمة الإسلامية، ويؤكد على أهمية التطبيق الصحيح للمعاملات المشروعة والابتعاد عن المعاملات المشبوهة أو الصورية التي تؤدي إلى الربا المحرم، فإنه يوصي بما يلي:(1/50)
1. ... أن تحرص المصارف والمؤسسات المالية على تجنب الربا بكافة صوره وأشكاله؛ امتثالاً لقوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
2. ... تأكيد دور المجامع الفقهية، والهيئات العلمية المستقلة، في ترشيد وتوجيه مسيرة المصارف الإسلامية؛ لتحقيق مقاصد وأهداف الاقتصادي الإسلامي.
3. ... إيجاد هيئة عليا في البنك المركزي في كل دولة إسلامية، مستقلة عن المصارف التجارية، تتكون من العلماء الشرعيين والخبراء الماليين؛ لتكون مرجعاً للمصارف الإسلامية، والتأكد من أعمالها وفق الشريعة الإسلامية.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.»
(4)
خاتمة: بدائل العينة
... إن الله تعالى لم يحرم شيئاً إلا لما فيه من الضرر الغالب. ولا يمكن أن تأتي الشريعة بتحريم ما ينفع الناس ويصلحهم. وإنما يلجأ الناس للحيل إما بسبب سوء الفهم، أو بسبب الانحراف في حياتهم العملية. قال شيخ الإسلام: «ولقد تأملتُ أغلب ما أوقع الناس في الحيل، فوجدته أحد شيئين: إما ذنوب جُوُزوا عليها بتضييق في أمورهم فلم يستطيعوا دفع هذا الضيق إلا بالحيل، فلم تزدهم الحيل إلا بلاء، كما جرى لأصحاب السبت من اليهود، وكما قال تعالى: {فَبِظُلمٍ مِنَ الَّذينَ هادوا حَرَّمنا عَلَيهِم طَيِّباتٍ أُحِلَّت لَهُم} [النساء،160]. وهذا الذنب ذنب عملي. وإما مبالغة في التشديد لما اعتقدوه من تحريم الشارع، فاضطرهم هذا الاعتقاد إلى الاستحلال بالحيل، وهذا من خطأ الاجتهاد. وإلا فمن اتقى الله وأخذ ما أحَل له، وأدى ما أوجب عليه، فإن الله لا يحوجه إلى الحيل المبتدعة أبداً، فإنه سبحانه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وإنما بُعث نبينا محمد ? بالحنيفية السمحة» (1) .
__________
(1) ... القواعد النورانية، (ص188).(1/51)
... فالله تعالى شرع لنا البيع بثمن مؤجل، والسلم، والإجارة، وسائر طرق التمويل التي تلبي احتياجات الناس الحقيقية. أما الربا فهو وإن كان يلبي احتياجاً مؤقتاً للنقد، لكنه يوقع المدين في دوامة الديون التي لا تنتهي، بل لا تزال تنمو وتتضاعف حتى تدمر حياة الفرد والمجتمع. فهو كماء البحر، لا يزيد شاربه إلا ظمأ. فلو أحسن استثمار الصيغ الإسلامية وتم تطبيقها بالأساليب المناسبة التي تلبي احتياجات المجتمع، لأغنى ذلك عن الحيل الربوية. فإن المتورق مآله أن يصرف النقد مقابل سلع وخدمات. وإذا كان كذلك فما الذي يمنع من توظيف أدوات التقنية الحديثة في البيع والشراء من أجل تسهيل امتلاك العميل للسلع والخدمات التي يرغبها من خلال المرابحة، بدلاً من توسيط سلع أو معادن تبعد آلاف الأميال ولا تحقق أي منفعة للمدين؟ فالتقاعس عن توظيف التقنية وأدوات التعاقد الحديثة في تلبية الاحتياجات الفعلية من التفريط الذي يلجئ الناس إلى الحيل، كما قال شيخ الإسلام.(1/52)
... كما أن الله تعالى أمر المسلمين بالتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، ومن ذلك القرض المجاني. فالقرض المجاني من فروض الكفاية في المجتمع الإسلامي، شأنه شأن سائر أوجه البر والمعروف التي لو تركها الناس لأثموا جميعاً. فلا يجوز للمجتمع المسلم أن يخلو من هذا اللون من ألوان التعاون والتكافل. والأسوأ من ذلك هو تبرير الفتاوى بجواز الحيل بشح الناس عن المعروف وعدم وجود من يقرض بلا فائدة. وهذا التبرير جمع بين سوء الفهم وسوء الحكم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال هلك الناس فهو أهلكهم». فمن ظن بالمجتمع الإسلامي أن يتواطأ أهله على ترك المعروف، فقد أساء الظن بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - . ولو فرض ذلك جدلاً لكان الواجب أن ينتدب العلماء أنفسهم لحث أهل الخير والموسرين على القيام بهذه الفريضة الكفائية بدلاً من تقديم المبرر لهم للاستمرار على ما هم عليه. وإنه لمن المؤسف أن نجد في المنظمات الدولية وفي الدول غير المسلمة من الاهتمام بالقرض المجاني أكثر مما يوجد لدى الصناعة المالية الإسلامية.
... فإذا أحسن تطبيق صيغ التمويل الإسلامية، وقام العلماء بواجبهم في الحث على القرض الحسن وسائر صور المعروف، استغنى المجتمع عن الحيل الربوية جملة وتفصيلاً، وتحقق بذلك نموذج الاقتصاد الإسلامي الذي نفخر بأن نقدمه للعالم لينقذه من ويلات الرأسمالية.
... والله تعالى المسؤول أن يهدينا وسائر المسلمين لأحسن القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.(1/53)