الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
التورق
حقيقته، أنواعه
(الفقهي المعروف والمصرفي المنظم)
إعداد
الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحداد
كبير مفتين بدائرة أوقاف دبي
بسم الله الرحمن الرحيم
... الحمد لله الذي أحل البيع وحرم الربا، وأحكم شرعه منهجا ومذهبا، ووفق من أحب للتفقه بالدين مأخذا ومشربا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي دلنا على الرضوان، وحذرنا من سلوك أهل العصيان، المتحايلين على شرع الرحمن، بما ابتدعوه من تأويل، وما سلكوه من تحليل، فقال عليه الصلاة والسلام: " قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها (1) جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه" (2) ينعى عليهم ذلك لمحاولتهم التحايل على النصوص، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم، و هو صلى الله عليه وسلم بذلك ينفرنا من فعلهم أو الوقوع في مذهبهم ومشربهم، فإن كل مخالفة وقع فيها غيرنا وذموا عليها، فإننا إذا ضاهيناهم في الفعل وقع علينا الوصف الذي وصفوا به من أجله، فصلى الله وسلم وبارك عليه، فإنه لم يدع خيرا إلا ودلنا عليه، ولا شرا إلا وحذرنا منه، وإن مسألة التورق قد شابها من التحايل ما أخرجها عن أصل وضعها الفقهي القائم على مبدأ التجارة التي أحلها الله تعالى إلى الحيل التي ذمها الله تعالى وتجعلها ذريعة لما حرم الله من الربا، كما سيتجلى وضعه في هذا البحث المختصر، والمعتصر من الأبحاث السابقة والتحقيقات النافعة، وقد حاولت فيه الاستقصاء لوا قع السوق في ضوء
__________
(1) - ... أي الشحوم عموما كما في رواية النسائي وغيره: لما حرم عليهم الشحوم جملوه وهو ما دل عليه قوله تعالى:( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) [الأنعام/146]
(2) - ... أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الميتة والأصنام برقم : 2143(1/1)
الفقه ومقاصد الشرع، فجاء بحمد الله جامعا لأطراف المسألة، محققا للمراد في تجلية الحكم الممكن لها.
والله أسأل أن ينفع به ويجعله خالصا لوجهه الكريم .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
تعريف التورق
التورق مصدر تورق الثلاثي المضعف العين إذا اتخذ الورق، يقال: تورق الحيوان : إذا أكل الورق ، والورق بكسر الراء الدراهم المضروبة من الفضة ، وقيل : الفضة مضروبة أو غير مضروبة (1) ومنه قوله تعالى:{ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف/19].وهي بكسر الراء كما هي قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر والكساني وحفص عن عاصم ، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم "بورقكم" بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها ، وهما لغتان. وقرأ الزجاج "بورقكم" بكسر الواو وسكون الراء (2) .
التورق في الاصطلاح :
التورق : شراء سلعة بثمن من أجل مساومة أو مرابحة ثم بيعها إلى غير من اشتريت منه للحصول على النقد بثمن حال (3) .
__________
(1) ... أساس البلاغة ، ولسان العرب ، وتاج العروس ، ومعجم متن اللغة ، والمعجم الوسيط ، والمصباح المنير مادة : " ورق "
(2) ... الجامع لأحكام القرآن 10 / 375
(3) ... المعايير الشرعية ص 492(1/2)
وهو بهذا المعنى تجارة عن تراض، فلا يختلف وضعه بين أن يشتري بنقد ويبيع بنقد أو نسيئة، أو يشتري بنسيئة ويبيع بنقد أو نسيئة، فإن التجارة كما تكون بالبيع بالنقد تكون بالنسيئة، بل غالب التجارة اليوم لاسيما التجارة الداخلية تتم بهذا النوع من التعامل، فيشتري التاجر السلع على الحساب ليتم السداد يوم البيع، ولربما أعاد السلع التي لم تبع للتاجر الذي اشتراها منه إذا كسدت أو انتهت صلاحيتها، وربحه هو ما يحصل من فرق بين البيع والشراء، وقد تكون خسارة كذلك، وهذا هو جوهر التورق الذي نص عليه فقهاء الحنابلة ، ولم ينص عليه غيرهم بهذا الاسم، وإن كان قد يدخل في بعض صور العينة أحيانا عند بعضهم (1) ؛ لأنه لا يختلف عن أحكام التجارة لديهم فلم يفردوه بذكر .
وإنما خصه السادة الحنابلة بالذكر دون غيرهم لما ورد فيه من الأثر بالكراهة... فقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يكرهه ، وكان يقول " التورق أُخيَّّة الربا " (2) يعني لما في ظاهره من الاحتيال إلى الوصول إلى النقد بزيادة، كما يجري في بعض صور الربا كربا النسيئة. لكن رخص فيه غيره كإياس بن معاوية رحمه الله تعالى (3) . وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان ، ففي الإنصاف للمردوي ما نصه:
فائدة : لو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائة وخمسين، فلا بأس، نص عليه، وهو المذهب وعليه الأصحاب وهي مسألة التورق.وعنه يكره .وعنه يحرم، و اختاره الشيخ تقي الدين (4) .
__________
(1) ... انظر التورق والتورق المنظم دراسة تأصيلية للدكتور سامي السويلم (أبحاث الدورة 17للمجمع افقهي الإسلامي بمكة) 2/231-239
(2) ... تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته 2 / 156
(3) ... المرجع السابق وإياس هو ابن معاوية بن قرة بن إياس المزني أبو واثلة البصري القاضي المشهور بالذكاء ثقة من الخامسة مات سنة اثنتين وعشرين ومائة تقريب التهذيب 1 / 117
(4) ... الإنصاف 4 / 243(1/3)
وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وهذا من فقهه - رضي الله عنه - ، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر. (1) وقد روى أبو داود عن علي رضي الله تعالى عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر ، وكان هشيم (2) رحمه الله تعالى يقول : سيأتي على الناس زمان عضوض؛ يعض الموسر على ما في يديه ، ولم يؤمر بذلك ، قال الله تعالى{ ولا تنسوا الفضل بينكم} ويبايع المضطرون " وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر ، وبيع الغرر ، وبيع الثمرة قبل أن تدرك (3) .
فمن هنا كرهه من كره، واختار الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى تحريمه، (4) فقد قال في إعلام الموقعين (5) : كان شيخنا رحمه الله يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مرارا وأنا حاضر فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه مع زيادة الكلفة بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه .اهـ
هذا ما يذكر عن السلف في مسألة التورق الذي استند إليه من استند في القول بالكراهة .
__________
(1) ... إعلام الموقعين 3 / 170
(2) ... هشيم بالتصغير بن بشير بوزن عظيم بن القاسم بن دينار السلمي أبو معاوية بن أبي خازم بمعجمتين الواسطي ثقة ثبت كثير التدليس والإرسال الخفي من السابعة مات سنة ثلاث وثمانين وقد قارب الثمانين روى له الجماعة من أصحاب الصحاح والسنن. تقريب التهذيب - 1 / ص 574
(3) ... أخرجه أبو داود في البيوع باب في بيع المضطر برقم 2952
(4) ... انظر الاختيارات الفقهية له ص113
(5) ... إعلام الموقعين 3 / 170(1/4)
غير أن من أبى ذلك لم ير في هذا القول مقنعا لما رأوه، عملا بالأصل في الأشياء- لاسيما المعاملات- وهو الإباحة، الدال عليها قوله سبحانه: {وأحل الله البيع }فإن الألف واللام فيه للجنس ليشمل جميع البيعات التي تدخل في مفهوم التجارة عن تراض، والتي قال الله تعالى فيها:{إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}ولا يخرج عن هذا العموم إلا ما ورد الدليل الصحيح الصريح بمنعه ، والتورق ليس من ذلك في شيئ؛ لأن حقيقته: شراء سلعة دينا لتقليبها في التجارة ربحا أو خسارة، وإن كان الغالب فيها هو الخسارة عما اشترى، لكن هذه الخسارة معوضة بما حصل له فيها من تيسير أمره وقضاء حاجته، والتي حالت بينه وبين الربا المحرم، أو بقاءه في الحاجة الملحة ، وقد ورد في الحديث ما يشهد لمثل هذا النوع من التعامل وهو التحايل للإباحة، وذلك ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري ، و أبي هريرة رضي الله عنهما (1) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر ، فجاءه بتمر جنيب – أي جيد- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " ، قال : لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا " فدل على أن الحيلة التي يتوصل بها إلى الحلال مشروعة، وقد دون البخاري في صحيحه كتابا خاصا أسماه: كتاب الحيل.وذكر فيه أنواعا من الحيل المباحة والمحرمة.
وأخرج هذا الحديث في مواضع كثيرة من صحيحه، منها في كتاب الحيل، وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح مستدلا به على أنه من الحيل المشروعة :
__________
(1) ... صحيح البخاري في مواضع منها - كتاب البيوع باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه - حديث 2111 ؛ ومسلم في موضعين –من كتاب المساقاة منها باب بيع الطعام مثلا بمثل - حديث : 3068 ، / 12 / ص 326(1/5)
" الحيل جمع حيلة، وهي ما يتوصل به إلى مقصود بطريق خفي، وهي عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها؛ فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة ،وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة ...إلى أن قال : وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن فيه تخليصا من الحنث، وكذلك الشروط كلها فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" اهـ.
فدل كل ذلك على جواز مثل هذا التعامل في الجملة؛ لأنه حيلة إلى الوصول إلى أمر مباح ، وهو مخرج مما يصيب الإنسان من ضيق الحياة وتكاليفها، والشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد كما لا يخفى.
واستدل له بعضهم بأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، و لدخوله في عموم قوله سبحانه : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه ، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعه أو كرهه بكون المقصود منه هو النقد، فليس ذلك موجبا لتحريمه ولا لكراهته؛ لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك (1) اهـ
وهذا القول هو الذي ذهب إليه المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة فقد جاء فيه ما نصه:
أولاً : أن بيع التورق هو شراء سلعة في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع، للحصول على النقد (الورق) .
__________
(1) ... مجموع فتاوى ابن باز 19 / ص 50(1/6)
ثانياً : أن بيع التورق هذا جائز شرعا،ً وبه قال جمهور العلماء؛ لأن الأصل في البيوع الإباحة لقول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) ولم يظهر في هذا البيع رباً لا قصداً ولا صورة ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لقضاء دين أو زواج أو غيرهما .
ثالثاً : جواز هذا البيع مشروط بأن لا يبيع المشتري السلعة بثمن أقل مما اشتراها به على بائعها الأول، لا مباشرة ولا بالوساطة، فإن فعل فقد وقعا في بيع العينة المحرم شرعاً لاشتماله على حيلة الربا فصار عقداً محرماً (1)
وبهذا يكون قد تقرر جواز التورق الذي عهد عند العلماء ..
فهل هذا هو التورق الجاري تطبيقه الآن في المصارف الإسلامية المسمى" التورق المنظم"؟
للإجابة على ذلك لا بد من معرفة التورق المنظم الذي تجريه المصارف،
تعريف التورق المنظم
عرف المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي التورق المنظم بأنه : قيام المصرف بعمل نمطي يتم فيه بيع سلعة - ليست من الذهب و الفضة- من أسواق السلع العالمية أو غيرها على المستورق، بثمن آجل، على أن يلتزم المصرف إما بشرط مكتوب في العقد صراحة أو بحكم العرف والعادة، بأن ينوب عنه في بيعها إلى مشتر آخر بثمن حاضر وتسليم ثمنها للمستورق" (2)
وعرفه بعضهم بقوله هو (قيام المصرف أو المؤسسة المالية بترتيب عملية التورق للعميل بحيث يبيع المصرف سلعة- وهي غالبا معدن من المعادن المتوفرة في الأسواق الدولية- على العميل بثمن آجل، ثم يوكل العميل المصرف ببيع السلعة نقدا لطرف آخر ويسلم المصرف الثمن النقدي للعميل" (3)
وكلا التعريفين متفق في بيان الطريقة التي يجري فيها التورق المنظم،فقد اتفقا في بيان المراحل التي يمر بها التورق، وهي :
__________
(1) ... قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 322
(2) ... المرجع السابق .
(3) ... حقيقة بيع التورق الفقهي والتورق المصرفي للدكتور إبراهيم العبيدي ص79 نقلا عن قراء نقدية للدكتور سامي السويلم(1/7)
1- قيام المصرف بشراء السلعة بناء على وعد العميل بالشراء
2- قيام المصرف ببيع تلك السلعة للعميل بالأجل
3- قيام العميل بتوكيل المصرف ببيع السلعة نقدا
وعلى كلى التعريفين فإنه يتفق مع التورق الفقهي في ما يلي:
1- كون السلعة "المدعاه" تباع لطرف ثالث وليس كالعينة التي تباع للبائع نفسه بسعر
2- وكونه يحقق للعميل توفير سيولة مقصودة
3- كونه يتم بصورة تجارية ظاهرية.
إلا أنه يختلف عن التورق الفقهي المعروف من وجوه:
1- الغالب في التورق المنظم أن المصرف لا يحوز سلعة، وقد لا يكون يملكها، وإنما هي في سوق السلع الدولية، مما يعني أن إجراءها نمطي لا واقعي (1)
2- أن التورق المنظم لا يتم فيه تداول سلع بين البائع- المصرف- والمشتري، ولا بين المصرف-الوسيط- والسوق الدولية للسلع
3- أن التورق المنظم هو في الحقيقة محلل للوصول إلى قرض بفائدة؛لأن المصرف هو الذي يدفع ثمن السلعة المشتراة، تحت غطاء بيعها لآخر، والواقع أنه ليس هناك سلعة في حوزة المشتري ولا في حوزة الوكيل-المصرف-
4- أن التورق المصرفي المنظم وسيلة كبيرة لاجتذاب السيولة للمصارف من غير تحقيق أهداف حقيقية للمتعاملين، الذين أرادوا تخفيف أعباء المديونيات عليهم، والبعد عن المعاملات الربوية أو الشبيهة بها.
__________
(1) ... عمليات التورق وتطبيقاتها الاقتصادية لأحمد فهدي الرشيدي ص126(1/8)
5- التورق المنظم يقتضي توكيل المصرف ببيع السلعة لثالث، والعادة المتبعة في المصارف أنها لا تدفع الثمن للبائع الأصلي، بل للمتورق بصفة كونه وكيلا له بالشراء ثم البيع، فتصبح العملية تشابه التوكيل الربوي، فإن المتورق يأخذ من المصرف المبلغ الأقل، ويدفع إليه المبلغ الأكثر عند حلول الأجل، وإن كان أخذه للمبلغ الأقل إنما يقع بصفته وكيلا بالشراء، وليس كمستقرض، غير أن هذا الفرق الدقيق لا يبعد العملية عن مشابهة التمويل الربوي (1)
وقد يكون هذا التوكيل مشروطا على المتورق فلا يبيعه أو لا يجري له المعاملة إلا بذلك، فيكون العقد فاسدا عند جمهور الفقهاء (2)
ومن خلال النظر في وجوه الافتراق والاختلاف يتبين أن التورق المنظم هو تورق ظاهري نمطي لا يمت إلى حقيقة التورق الفقهي بصلة، ومن هنا ثار الخلاف الفقهي لما اختلف الواقع عن النظر، و لذلك لما أعاد المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السابعة عشرة النظر فيه من واقع تطبيقه في المصارف قرر عدم جوازه لأربعة أمور هي:
1- أن التزام البائع في عقد التورق بالوكالة في بيع السلعة لمشتر آخر، أو ترتيب من يشتريها، جعلها شبيهة بالعينة الممنوعة شرعا، سواء أكان الالتزام مشروطا صراحة أم بحكم العرف والعادة المتبعة
2- أن هذه المعاملة تؤدي في كثير من الحالات إلى الإخلال بشرط القبض الشرعي اللازم لصحة المعاملة
__________
(1) ... أحكام التورق وتطبيقاته المصرفية للشيخ تقي العثماني ص59 من أعمال وبحوث الدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي
(2) ... المرجع السابق(1/9)
3- أن واقع هذه المعاملة يقوم على منح تمويل نقدي بزيادة لما سمي بالمستورق فيها من المصرف في معاملات البيع والشراء التي تجري منه، والتي هي صورية في معظم أحوالها، هدف البنك من جرائها أن تعود عليه زيادة على ما قدم من تمويل. وهذه المعاملة غير التورق الحقيقي المعروف عند الفقهاء، والذي سبق للمجمع في دورته الخامسة عشرة أن بينهما من فروق عديدة (1) .
وأعاد الحديث عنه كذلك في دورته التاسعة عشرة في موضوع المنتج البديل عن الوديعة لأجل الذي تجريه بعض المصارف، الذي يكون مثله في هذا التورق المنظم، فقرر عدم جوازه، نظرا لأن المعاملة الجارية فيه مماثلة لمسألة العينة، من حيث كون السلعة المباعة ليست مقصودة لذاتها، فتأخذ حكمها، خصوصا أن المصرف يلتزم للعميل بشراء السلعة منه، وأن هذه المعاملة تدخل في مفهوم التورق المنظم الذي سبق له تحريمه، ولمنافاتها للهدف من التمويل الإسلامي القائم على ربط التمويل بالنشاط الحقيقي بما يعزز النمو والرخاء الاقتصادي، (2) كما بين أن المرابحة العكسية والتورق العكسي أو مقلوب التورق والاستثمار بالمرابحة ونحوها هي كذلك غير جائزة .
وهذا ما كان قد بينه العلامة تقي الدين العثماني في بحثه الذي تقدم به للمجمع وبين تحفظه على هذه المعاملة بقوله:
__________
(1) ... قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 27-28
(2) ... قرارات المجمع الفقهي .(1/10)
1- إن بورصات السلع العالمية تجري فيها بيوع كثيرة ليست حقيقية، ولا تسلم فيها السلع إلى المشتري، وإنما تدرج بيوع كثيرة متعاقبة على الحاسب الآلي، ثم تقع التصفية على أساس فروق الأسعار، فمنها ما هي بيوع مستقبلية وهي ممنوعة شرعاً، ومنها ما هي بيوع حالة، ولكنها لا تراعي فيها الشروط الشرعية من تعين المبيع و إفرازه عن غير المبيع، ومن كون المبيع في ملك البائع و حوزته، وإنما تقع البيوع المتعددة بتبادل الأوراق، وهي في أحيان كثيرة لا تمثل بضاعة معينة، و إنما تمثل حق الحامل في تسلم كمية من المخازن التي تودع فيها آلاف الأطنان من نفس السلعة، و الكمية التي تمثلها هذه الأوراق غير متميزة عن الكمية الباقية، فلا تأتي الكمية المشتراة في ضمان المشتري، ويبيعها المشتري إلى آخر قبل أن تتميز و تضمن من قبل المشتري، فيقع فيها محظور ربح ما لم يضمن .
... ... وذكر أن البيع الحقيقي الشرعي لا يتحقق في هذه البورصات إلا إذا كان بمراقبة فقهاء متخصصين في هذا المجال، ولا يتيسر ذلك غالبا إلا بوضع طريق خاص وصياغة عقود جديدة من قبل الهيئات الشرعية، و التفاوض مع السماسرة والمتعاملين في هذا السوق لكي يلتزموا بالشروط الشرعية، فإذا لم يتحقق هذا الاهتمام البالغ، فلا يجوز التعامل في بورصات السلع العالمية، لا للتورق ولا لغرض آخر .
2- لو فرضنا أن آلية التعامل في البورصات قد تم تخطيطها بكل حزم واحتياط ليكون البيع حقيقيا ملتزما بالشروط الشرعية، ثم اتخذت عملية التورق الشكل الذي شرحناه فيما سبق، فإنه لا بد أن تأتي البضاعة في حوزة المتورق بعد شرائه إياها من المصرف، وقبل أن يبيعها إلى المشتري النهائي، فيتحقق منه قبضها، إما بنفسه و إما عن طريق وكيل له، ولا يجوز أن يكون المصرف هو الوكيل للمتورق بالقبض، فإن المصرف هو البائع، فلا بد من أن تخرج السلعة من حوزته و ضمانه إلى حوزة المشتري أو وكيله الذي هو غير البائع .(1/11)
3- ولئن فرضنا أن وكيل المشتري هو السمسار، فهو الذي يقبض السلعة من المصرف نيابة عن المشتري ثم يبيعها إلى المشتري النهائي، فإن المشكلة هاهنا أن ذلك السمسار نفسه هو الوكيل للمصرف أيضا، فهو يشتري السلعة من البائع الأصلي نيابة عن المصرف ويقبضها نيابة عنه، ويبيعها إلى المتورق، فهو في حكم المصرف من حيث كونه وكيلا له، فلا يصح أن يكون وكيلا للمشتري بالقبض، ولا مساغ للخروج من ذلك إلا بأن تقع من المصرف تخلية السلعة للمتورق بعد ما يتم شراء السلعة من البائع الأصلي، فإذا تحققت التخلية التي هي في حكم القبض خرجت السلعة من ضمان المصرف، ويمكن الآن أن يوكل المتورق المصرف أو السمسار ببيعها إلى المشتري النهائي، فإن اشترط التوكيل عند الشراء فسد العقد كما أسلفنا، و إن عقد التوكل قبل التخلية فإنه لا يجوز لكون السلعة في ضمان المصرف حينئذ .
... ولا شك أن الالتزام بهذه الآلية في بيوع السلع الدولية السريعة من الصعوبة بمكان .
... والطريق الثاني أن يكون السمسار الذي يقبض السلعة نيابة عن المتورق ويبيعها وكيلا له، غير السمسار الذي اشترى البضاعة للمصرف، فيكون هناك سمساران، أحدهما وكيل للمصرف، و الآخر وكيل للمتورق، وبما أن الطريق الأول في صورة وحدة السمسار صعب تنفيذه، بل لا يكاد يتحقق مهما وقعت الدقة في المراقبة، فهذا الطريق الثاني هو المتعين، ولا ينبغي أن يسمح بالطريق الأول من قبل الهيئات الشرعية .
4- ثم إن البيوع في نظام البورصات الجديد إنما تتم عن طريق الحاسب الآلي، ولم يتحقق لي حتى الآن أن مجرد ظهور اسم المشتري على شاشة الحاسوب ينقل الملك و يتحقق القبض وينقل الضمان إليه، ويجب أن تكون العقود الجارية عن طريق الحاسوب موضوع دراسة مستقلة في ضوء القوانين و الأعراف قبل الحكم عليها بالجواز و عدمه (1) .
__________
(1) أحكام التورق وتطبيقاته المصرفية ص62-64 من أبحاث الدورة السابعة عشرة للمجمع الفقهي(1/12)
وبهذا يقرر الشيخ الوضع النمطي الذي يجري في التورق، وأنه يؤول إلى قرض بفائدة، بوسيلة مسمى التورق.
وهذا ما جعل بعضهم يقول: لو كان هناك مذهب واحد ، أو رأي فقهي معتبر يجيزه فلا داعي للتضييق على الناس والخوض في صحة التورق من الناحية الشرعية، مبينا أن التورق الذي أجازه الفقهاء مبني على الفرد الذي يقوم بعملية شراء للسلعة مستوفية لكل أركان البيع والشراء والأجل، ثم تنتهي هذه العملية لتبدأ عملية أخرى منفصلة عنها تماما لا ترتبط بأي ارتباط بالعلاقة التعاقدية السابقة.
فخلص من ذلك إلى أنه لا يمكن القول بأن عملية التورق المصرفية هي نفسها عملية التورق التي أجازها بعض الفقهاء ، وبالتالي لا يجوز أن نبني على ذلك التصور حكماً مفاده أن عملية التورق المصرفية جائزة. (1)
هكذا خلص الباحث إلى القول بعدم جواز التورق المنظم لكونه ليس هو التورق الحقيق الذي أجازه جمهور الفقهاء، ولا ريب أن هذا القول وجيه تدل عليه النصوص والقواعد الفقهية، والمقاصد الشرعية، والمصالح الاجتماعية.
وقد حاول المجلس الشرعي للمعايير الشرعية أن يضبط هذه النمطية الجارية في عملية التورق، فأصدر معياره الثلاثين في التورق جاء فيه:
4- ضوابط صحة عملية التورق
1/4 استيفاء المتطلبات الشرعية لعقد شراء السلعة بالثمن الآجل، مساومة أو مرابحة -ويراعى المعيار الشرعي رقم (8) بشأن المرابحة و المرابحة للأمر بالشراء- و يجب التأكد من وجود السلعة وتملك البائع لها قبل بيعها، وفي حال وجود وعد ملزم فإنه يحب أن يكون من طرف واحد، وأن لا يكون المبيع من الذهب أو الفضة أو العملات بأنواعها .
2/4 وجوب تعيين السلعة تعييناً يميزها عن موجودات البائع الأخرى، و ذلك إما بحيازتها أو بيان أرقام وثائق تعيينها مثل أرقام شهادات تخزينها .
__________
(1) - د. أحمد محيي الدين، كتاب الوقائع، الصادر من كلية الشريعة بجامعة الشارقة 2، ص 456(1/13)
3/4 إذا لم تكن السلعة حاضرة عند العقد فإنه يجب تزويد العميل ببيانات السلعة بالوصف أو النموذج، وكميتها و مكان وجودها، ليكون شراؤه للسلعة حقيقياً وليس صورياً، ويفضل أن تتم العملية بالسلع المحلية .
4/4 قبض السلعة إما حقيقية وإما حكماً بالتمكن فعلاً من القبض الحقيقي، و انتفاء أي قيد أو إجراء يحول دون قبضها .
5/4 وجوب أن يكون بيع السلعة ( محل التورق ) إلى غير البائع الذي اشتريت منه بالأجل ( طرف ثالث ) لتجنب العينة المحرمة، و أن لا ترجع إلى البائع بشرط أو مواطأة أو عرف .
6/4 عدم الربط بين عقد شراء السلعة بالأجل و عقد بيعها بثمن حال، بطريقة تسلب العميل حقه في قبض السلعة . سواء كان الربط بالنص في المستندات، أم بالعرف، أم بتصميم الإجراءات .
7/4 عدم توكيل العميل للمؤسسة أو وكيلها في بيع السلعة التي اشتراها منها وعدم توكل المؤسسة عن العميل في بيعها، على أنه إذا كان النظام لا يسمح للعميل ببيع السلعة بنفسه إلا بواسطة المؤسسة نفسها فلا مانع من التوكيل للمؤسسة على أن يكون في هذه الحالة بعد قبضه السلعة حقيقياً أو حكماً .
8/4 أن لا تجري المؤسسة للعميل توكيلاً لطرف آخر يبيع له السلعة التي اشتراها من تلك المؤسسة .
9/4 أن لا يبيع العميل السلعة إلا بنفسه أو عن طريق وكيل غير المؤسسة مع مراعاة بقية البنود
10/4 على المؤسسة تزويد العميل بالبيانات اللازمة لبيعه السلعة بنفسه أو عن طريق وكيل يختاره
5_ الضوابط الخاصة بتورق المؤسسة لنفسها
1:5 التورق ليس صيغة من صيغ الاستثمار أو التمويل، و إنما أجيز للحاجة بشروطها، ولذا على المؤسسات أن لا تقدم على التورق لتوفير السيولة لعملياتها بدلاً من بذل الجهد لتلقي الأموال عن طرق المضاربة أو الوكالة بالاستثمار أو إصدار الصكوك الاستثمارية و غيرها، وينبغي حصر استخدامها له لتفادي العجز أو النقص في السيولة لتلبية الحاجة وتجنب خسارة عملائها وتعثر عملياتها .(1/14)
2/5 تجنب المؤسسات التوكيل عند بيع السلعة محل التورق ولو كان التوكيل لغير من باع إليها السلعة و القيام بذلك من خلال أجهزتها الذاتية، ولا مانع من الاستفادة من خدمات السماسرة (1) .
فقد حاول أن يخرج من محظورات التوكيل التي نبه إليها رئيس المجلس الشرعي التقي العثماني بمنع ذلك التوكيل المفضي لفساد العقد، كما أنه لم يشجع التورق وإنما جعله عند الحاجة وندب أن لا يكون بديلا للمنتجات الأخرى التي فيها مشاركة في المخاطرة والغرم والغنم، ومعنى ذلك أن في النفس منه شيئ، كما أنه لم يستثن البيع الصوري الذي تضمنته الفقرة 3/4 حيث أجازت الحيازة بمجرد معرفة أرقام الوثائق مثل أرقام شهادات تخزينها، ومعلوم أن معرفة هذه الأرقام لا تعني شيئا في واقع العمل، فإن البضائع التي تباع عن طريق البورصة، ترسل أولا إلى أحد المخازن، وبعد التفريغ واتخاذ الإجراءات اللازمة تبدأ عملية الوزن لوحدات متساوية،تزن كل وحدة25طنا، وبعد الوزن تكتب البيانات الكاملة المتصلة بهذه الوحدة، فيكتب الجنس والصفة، والوزن الحقيقي، الذي قد يزيد قليلا أو ينقص نحوه، ومكان التخزين الذي يوضع فيه . الخ، وهذه الورقة المكتوبة هي إيصال المخازن، هي التي تتداول في البورصة،وتنتقل من يد لأخرى، إلى أن تنتهي ليد المستهلك الذي يستطيع أن يتسلم بها ما اشتراه، وهذه البيانات مسجلة على أجهزة الحاسب الآلي، والمصارف الإسلامية لا تتسلم سلعة من هذه السلع أو إيصالا من هذه الإيصالات، ولم يحدث ذلك في تاريخها؛ لأنها لا تريد أن تتحمل مخاطر تغيير الأسعار والتلف،فهي تكتفي بعرض ثمن شرائها الحال وبيعها في الآجل في وقت واحد، وتبليغ الوكيل بالموافقة على الاثنين معا، وتسليم إيصالات المخازن باعتباره وكيلا عنها (2)
__________
(1) ... المعايير الشرعية ص492-493
(2) ... العينة والتورق المصرفي للدكتور علي السالوس ص158 أبحاث المجمع الفقهي للدورة السابعة عشرة(1/15)
ولهذا كله نستطيع أن نقول: إن التورق المنظم لا يصح شرعا لما يلي:
1- إن العقد ظاهره الاحتيال على الربا من أول أمره، فالعميل لا يقبض من البنك إلا نقوداً، وسيرد إليه تلك النقود بعد أجل بزيادة، فحقيقته قرض من البنك للعميل بفائدة، والسلعة المسماة في العقد إنما جيء بها حيلة لإضفاء الشرعية على العقد، ولهذا فإن العميل لا يسأل عن السلعة ولا يماكس في ثمنها بل ولا يعلم حقيقتها؛ لأنها غير مقصودة أصلاً، وإنما المقصود من المعاملة هو النقود، ويقتصر دور العميل على التوقيع على أوراقٍ يُزعم فيها أنه ملك سلعةً ثم بيعت لصالحه ثم أودع ثمنها في حسابه، وقد حذر العلماء من التحايل على الربا بحيل مكشوفة،كما قال الإمام السيد عبد الله باعلوي الحداد: وإياكم وما يتعاطاه بعض الجهال الأغبياء المغرورين الحمقى من استحلالهم الربا في زعمهم بحيل أو مخادعات ومناذرات يتعاطونها بينهم ويتوهمون أنهم يسلمون بها من إثم الربا، ويتخلصون بسببها من عاره في الدنيا وناره في العقبى، وهيهات هيهات إن الحيلة في الربا من الربا.(1/16)
(1) وقد روى واثلة بن الأسقع ،رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تراءيت للنبي صلى الله عليه وسلم بمسجد الخيف، فقال لي أصحابي : إليك يا واثلة، أي تنح عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه، فإنما جاء ليسأل " قال : فدنوت، فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لتفتنا عن أمر نأخذه عنك من بعدك، قال : " فليفتك نفسك " قال : فقلت : فكيف لي بذلك؟ قال : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون " قلت : فكيف لي بذلك؟ قال : " ضع يدك على فؤادك، فإن القلب يسكن للحلال، ولا يسكن للحرام، وإن ورع المسلم يدع الصغير مخافة أن يقع في الكبير" (2)
2- أن الصورة المفترضة لهذا العقد هي أن النقد الذي يأخذه العميل هو ثمن السلعة التي بيعت له، وهذا الأمر يكذبه الواقع؛ فإن عقود التورق المنظم تجري على سلعٍ موصوفة أي غير معينة، فهي ليست مملوكة لا للبنك الذي باعها على العميل، ولا للعميل الذي وكل البنك في بيعها، بل ولا للمورد الذي يبيع على البنك، فهو يعقد صفقات مع البنك بكمياتٍ أكبر مما عنده حقيقة من السلع.
3- ومما يؤكد عدم ارتباط مبلغ التمويل بالسلعة وثمنها، أن البنك يلتزم بإيداع المبلغ المتفق عليه في حساب العميل خلال فترة وجيزة، مع أن من المعلوم أن بيع أي سلعة مهما كانت لا يخلو من المخاطرة إما لتقلب الأسعار، أو لعدم وفاء المشتري، أو لظهور عيبٍ في السلعة، أو التأخر في البيع، أو لغير ذلك، ومع ذلك يتم إيداع المبلغ المتفق عليه دون تأخيرٍ أو نقصان
__________
(1) ... النصائح الدينية والوصايا الإيمانية ص 327
(2) ... أخرجه لحافظ ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية - كتاب البيوع باب بيع المضطر برقم : 1467(1/17)
4- أن هذا العقد يؤدي إلى العينة الثلاثية، وهي محرمة، ففي السلع المحلية كالسيارات مثلاً يشتري البنك السيارة من المعرض، ثم يبيعها على العميل بالأجل، ثم يوكل العميلُ المعرضَ ببيعها، ثم يبيعها المعرض على البنك، ثم يبيعها البنك على عميلٍ آخر، وهكذا تدور أوراق السيارة مئات المرات بين البنك والعميل والمعرض، والسيارة في مكانها لم تتحرك، مما يؤكد أن المعاملة ما هي إلا مبادلة مالٍ بمالٍ، وأن السلعة إنما أدخلت حيلة، وهذا التدوير وإن لم يكن مشروطاً في العقد أو متفقاً عليه إلا أنه معروف، والقاعدة عند أهل العلم: " أن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً".
وقد نص العلماء على أن المتعاقدين إن كانا يقصدان إظهار ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز، فينفسخ العقد إذا كثر القصد إليه ، كبيع بسلف جر نفعاًً، فإن بعدت التهمة بعض البعد، وأمكن القصد به كدفع الأكثر مما فيه ضمان، وأخذ الأقل إلى أجل، فقولان مشهوران في مذهب مالك: وقالوا إن الأصل أن ينظر إلى ما خرج من اليد وإلى ما خرج إليها، فإن جاء العامل به صح، وإلا فلا، ولا تعتبر أقوالهما، بل أفعالهما فقط. (1)
ولا يختلف الأمر في السلع الدولية عما هو عليه في السلع المحلية، فإن من المعتاد أن البنك يشتري المعدن من أحد الموردين ثم يبيعه على العميل، ثم يتوكل عن العميل في بيعه فيبيعه على المورد الأول نفسه أو على موردٍ آخر يكون متواطئاً مع المورد الأول على نقل ملكية المعدن إليه –أي إلى الأول-. فيتم تداول شهادة الحيازة الخاصة بالمعدن بين هذه الأطراف عشرات المرات، والمعدن في مكانه لم يتحرك
1- أن كلاً من البنك والعميل يبيع السلعة قبل قبضها، وقد قال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه" ابن أخي إذا ابتعت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه" (2) .
__________
(1) ... الفروق للقرافي، بهوامشه، 3/440.
(2) ... أخرجه ابن حبان في البيوع باب البيع المنهي عنه – برقم : 5060 ورقم 24210(1/18)
2- وقبض صورة من شهادة الحيازة للمعدن، أو صورةٍ من البطاقة الجمركية للسيارة، لا يكفي في تحقق القبض الشرعي؛ لأن الصورة لا تعد وثيقة بالتملك، بل المشاهد أن المعرض الذي يتعامل مع البنوك في التورق المنظم يبيع السيارة الواحدة في وقتٍ واحدٍ لعدة بنوك، ويسلم كلاً منهم صورة البطاقة الجمركية ؛ لأنه يدرك تماماً أن لا أحد من العملاء يطلب تسلم السيارة، وكذلك الحال في التورق الدولي، فالمورد يبيع المعدن نفسه في وقتٍ واحدٍ على بنوكٍ مختلفة ويسلم كلاً منهم صورة من شهادة الحيازة للمعدن الذي عنده.
4- وتوكيل البنك أو المورد الأول بالقبض لا يصح أيضاً؛ لأن كلاً منهما –أي البنك والمورد- بائع، فالسلعة مقبوضة له أصلاً، فلو صح توكيله لم يكن لاشتراط القبض أي معنى. ولأجل هذه التجاوزات فإن اشتراط قبض السلع قبل بيعها وإن كان مختلفاً فيه إلا أنه في مثل هذه العقود التي يقصد منها التمويل لا ينبغي أن يكون من المسائل الخلافية، وذلك لتجنب الصورية في العقد، وللبعد عن مشابهة التمويل الربوي.
5- أن العميل يوكل البنك في بيع السلعة قبل أن يتملكها، وقد ورد النهي عن ذلك كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه السابق، وفي رواية : يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي أفأبتاعه له من السوق؟ فقال : " لا تبع ما ليس عندك " (1)
6- أن العميل لم يتحمل مخاطرة السلعة أو ضمانها، فهي لم تدخل في ضمانه، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك" (2)
__________
(1) ... أخرجه أبو داود في البيوع ، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده برقم: 3057 من حديث عبد الله بن عمرو
(2) ... الترمذي في الجنائز وسلم - باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك برقم: 1191(1/19)
7- وبما سبق يتبين أن العقد ملفقٌ من جملة من رخص المذاهب التي قد يسوغ الخلاف في واحدة منها إذا انفردت، أما مع اجتماعها فأحرى بالعقد أن يكون صورياً لا حقيقياً، وذلك من التلفيق المذموم الذي حذر منه العلماء، لأنه يعني تتبع الأقوال الضعيفة، والرخص المتفرقة ليتكون منها جميعا قول واحد لا يقول به أحدهم، كما قال بعض المجان:
أحل العراقي النبيذ وشربه وقال حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد فحل لنا من بين قولهما الخمر
ذلك أن الحكم على العقد يجب أن يكون عليه بمجموعه لا بأفراده، فعقد يكون الشراء فيه بالأجل، والبيع بالنقد، والسلعة غير معينة ولا مقبوضة، والبائع هو الممول والوكيل بالبيع والوكيل بالقبض والوكيل بتسلم الثمن، والمبلغ مضمون، والزيادة بسبب الأجل بقدر سعر الفائدة في السوق. لا يفترق كثيرا عن التمويل الربوي؟ وقد سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عَنْ رَجُل بَاعَ مِنْ رَجُل حَرِيرَة بِمِائَةٍ، ثُمَّ اِشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ؟ فَقَالَ : دَرَاهِم بِدَرَاهِم مُتَفَاضِلَة ، دَخَلَتْ بَيْنهَا حَرِيرَة " وَفِي رواية عَنْه : أَنَّهُ قَالَ " اِتقُوا هَذِهِ الْعِينَة، لَا تَبِيعُوا دَرَاهِم بِدَرَاهِم بَيْنهمَا حَرِيرَة " (1) فكذلك التورق المنظم نقودٌ بنقود دخلت بينهما سلعة، ولا يكتسب الشرعية بتسميته تورقاً مباركاً، أو تورق التيسير، أو تورق الخير، أو تورق اليسر؛ إذ العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
فيتعين القول بعدم جوازه لبعض ما تقدم فكيف بكله؟!
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وكتبه الفقير إلى عفو الله تعالى
الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحداد
13ذو الحجة1429هـ
11ديسمبر2008م
__________
(1) ... أخرجه ابن أبي شيبة في البيوع والأقضية برقم : 19733 وتهذيب سنن أبي داود2/142(1/20)