أصل هذا الكتاب رسالة لنيل درجة (الماجستير)
وقد مُنحها الباحث (د. مهران ماهر عثمان نوري )
بتقدير (ممتاز)
بفضل الله تعالى
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد ؛
فإن الله تعالى أوجدنا على الأرض من أجل تحقيق غاية عظيمة ، هي عبادته، ومن أجل هذا بعث النبييِّن مبشرين ومنذرين ، وللقيام بهذا الواجب على أكمل وجه وأحسنه لا بُدَّ للمسلم أن يراعي شيئين :
الأول : أن يمتثل ما أُمر به .
والثاني : أن ينتهي عما نُهي عنه .
قال تعالى : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) } . ([(1)])
وإن من أكبر المحرمات التي تعوق سير السالكين إلى رب العالمين جريمة تتعلق بالأعراض فتدنسها ؛ ألا وهي جريمة الزِّنا .
وهذه الجريمة لم يختلف المسلمون منذ العهد الأول إلى يومنا هذا في أنَّها من كبائر الذنوب ، وأن لها آثاراً سيئةً تتولد عنها تفسد الدنيا والدين .
ولما كانت طريقة الشيطان في إغوائه لبني الإنسان أن يبدأ معه خطوة خطوة لينتهي به إلى الوقوع في أوحال هذه الخطيئة كان من الأهمية بمكان التعرف على الذرائع الموصلة إلى فاحشة الزِّنا ، ومن ثمَّ العمل على إيصاد أبوابها ؛ للسلامة من كيده ، والخلاص من وساوسه .
فهذا مما يجلي أهمية موضوع البحث .
ومما يبين أهمية هذا الموضوع أنَّ الله تعالى نهى المؤمنين عن كل ما من شأنه أن يوقع فيها ، فقال تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) } ([(2)]).
__________
(1) / سورة الحشر ، الآية : 7 .
(2) / سورة الإسراء ، الآية : 32 .(1/1)
فهذا النصُّ القرآنيُّ يوجب علينا - نحن المسلمين - أن ننتبه إلى ما يوصل إلى هذه الجريمة ، ومما يسهل امتثال ذلك مثل هذه البحوث .
سببا اختياري لهذا الموضوع :
لا يخفى هذا الواقع الأليم الذي نعيشه هذا الزمان ، من سيادة الفحش والعُري والتهتك ، واندثار كثير من المعاني التي كان عُرفنا من قديمٍ يمجها .
فكان هذا البحث إسهاماً متواضعاً مني للإصلاح - أسأل الله أن يتقبَّله- . هذا أولاً .
ثانياً : وافق هذا الموضوع رغبة ملحة عندي منذ أن كنت في السنة الثالثة بالجامعة .
منهجي في البحث :
المنهج العام الذي قام البحث عليه استقرائيٌّ استنباطيٌّ تحليلي ؛ فقد تتبعت النصوص في كلِّ مبحث من المباحث واستنبطت منها ما قصدته من إيرادها .
وقد اتبعت في بحثي هذا ما يلي :
1. أثبتُّ الآيات في متن البحث بالرسم العثماني .
2. قمت بعزو جميع الآيات إلى مكانها من المصحف .
3. قمت بشرح الآيات التي ورد ذكرها .
4. عزوت الأحاديث إلى مواضعها .
5. اكتفيت بالعزو إلى الصحيحين إن كان الحديث فيهما أو في أحدهما مالم تكن هناك زيادة في غيرهما .
6. إذا تكرر الحديث في مصدره استقصيت مُكرره في ذاك المصدر، ولم أكتف بإيراد موضع واحد منه .
7. إن كان الحديث في أكثر من كتاب من كتب السنن لم أكتف بعزوه إلى بعضها ، وإنما يكون العزو إلى جميع مصادره منها .
8. أحاديث الصحيحين والسنن عزوتها بذكر كتبها وأبوابها وأرقامها ، وأحاديث غيرها اكتفيت بذكر الجزء والصفحة .
9. شرحتُ غريب المفردات في النصوص الواردة ، وضبطتها بالشَّكل .
10. ضبطت بالشَّكل كلَّ لفظ يؤدي عدم تشكيله إلى إشكال .
11. إذا ورد حديث في السنن الأربعة فإنِّي أقدم في الذكر سنن أبي داود ، ثم الترمذي ، ثم النسائي ، ثم ابن ماجه . فإن كان مخرجه في المسند أيضاً فهو المقدَّم ، ولا شيء يُقدم على صحيحي البخاري ومسلم .(1/2)
12. ما ورد اسمه من عَلَمٍ أو مرجعٍ في المقدمة أو التمهيد أرجأت ترجمته والتعريف به إلى حين وروده في لبِّ البحث .
13. إذا حذفت بعض معلومات التوثيق - كسنة الطبع - فهذا لأني لم أجدها على المرجع .
اصطلاحاتي في البحث :
1. إذا قلت الحافظ ولم أعيِّن فهو ابن حجر رحمه الله . ...
2. إذا جعلت قوسين هكذا [ ] في ثنايا كلامٍ مقتبسٍ فما بينهما من كلامٍ لي ، وإنما أفعل ذلك إذا أمْلته الحاجة .
هذا ، وقد عنونته بـ: (المنهج القرآني في الوقاية من فاحشة الزِّنا)، وجعلته من ثلاثة فصول وخاتمة كما يلي :
الفصل الأول : جريمة الزِّنا في القرآن الكريم .
ويشمل خمسة مباحث :
الأول : تعريف الزِّنا .
الثاني : أدلة تحريم الزِّنا .
الثالث : عقوبة الزِّنا .
الرابع : تحريم نكاح أهله .
الخامس : بم تثبت هذه الجريمة ؟
الفصل الثاني : التشريعات القرآنية الواقية من جريمة الزِّنا .
ويشمل ثلاثة عشر مبحثاً :
الأول : التقوى .
الثاني : الصيام .
الثالث : التكافل والإنفاق .
الرابع : حدُّ الزِّنا وعقوبته .
الخامس : النكاح .
وتحته ستة مطالب :
1/ الأمر به .
2/ النكاح سنة الأنبياء .
3/ عرض الرجل بناته للصالحين .
4/ التعدد .
5/ تشريع نكاح ملك اليمين إذا خيف العنت .
6/ حرص القرآن على استمرارية العلاقة بين الزوجين .
السادس : الحجاب .
السابع : الصبر عن الفاحشة .
وتحته ثلاثة مطالب :
1. الأمر به .
2. ثناء الله على أهله .
3. قصص العفيفين في القرآن لأخذ العبر منها .
الثامن : الاعتصام بالدعاء .
التاسع : التنشئة الصالحة .
العاشر: الاستئذان قبل الدخول .
الحادي عشر : الغض من البصر .
الثاني عشر : الحياء .
الثالث عشر : القرار في البيوت للنساء .
الفصل الثالث : النهي القرآني عن ذرائع الزِّنا .
وفيه خمسة مباحث :
الأول : الخمر والمسكرات .
الثاني : التبرج .
الثالث : الخضوع بالقول .
الرابع : انعدام الغيرة على الأعراض .(1/3)
الخامس : ضرب النساء بأرجلهن لإبداء صوت زينتهن .
ختاماً فإني لا أنسى أن أتقدم بالشكر أوفره وأجزله لكل من أعانني في هذا البحث ولو بشيء يسير ؛ إعمالاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :((لا يشكر الله من لا يشكر الناس))([(1)]).
- - -
نادى ديننا الحنيف بالمحافظة على الضروريات الخمس ، وهي : الدين والعقل والنفس والمال والعرض .
وإنما سُميت بالضروريات ؛ لأن الإنسان مضطر للمحافظة عليها وصيانتها .
وشرَع ديننا كثيراً من التشريعات السمحة للمحافظة على الأعراض والأنساب ، ومن أهم هذه التشريعات : تحريم الزِّنا ؛ لما له من أثر واضح في تضييعها وتدنيسها.
فحرَّم الله الزِّنا ورتب عليه أنواعاً من العقوبات في العاجلة والآجلة ، وهي كفيلة بردع صاحب كل قلب حي .
ولم يكتف سبحانه وتعالى بذلك ، بل حرم كل ذريعة توصل إليه ؛ تسهيلاً لمجانبة طريقه ، وذلك من رحمته بنا وإرادته لتوبتنا واستقامتنا على دينه، وبين لنا ما يريده أعداؤنا المنساقون وراء شهواتهم منَّا ؛ لنستبصر بحيلهم ، فقال : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) } . ([(2)])
وحذَّر نبينا - صلى الله عليه وسلم - من فتنة النساء وبين خطورتها على الدنيا والدين في أحاديث شتَّى، فمن ذلك :
__________
(1) / مسند الإمام أحمد : 2/258 ، 2/295 ، 2/302 ، 3/32و73 ، 4/278 ، 5/211 . وسنن أبي داود ، كتاب الأدب ، باب في شكر المعروف ، برقم : 4811 . وسنن الترمذي ، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك ، برقم : 1954 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 27 .(1/4)
قوله - صلى الله عليه وسلم - :((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء )) ([(1)])
ولذا لما نص الله على ذكر ملذات الحياة قدَّم النساء عليها ؛ " لأن الفتنة بهنَّ أشد".([(2)]) قال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) } . ([(3)])
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهبَ لِلُبِّ ([(4)]) الرجل الحازم من إحداكن )). ([(5)])
وقال :(( إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)). ([(6)])
ومعنى هذا : تجنبوا الافتتان بالدنيا وبالنساء .
فكيف نفَّر القرآن من جريمة الزِّنا ؟ وما هي الذرائع الموصلة إليها ؟ وما الذي سلكه القرآن لإيصاد منافذها ؟
هذه وغيرها تساؤلات البحث التي يقوم بالإجابة عنها .
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب النكاح ، باب ما يُتقى من شؤم المرأة ، برقم : 4808 . وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، برقم : 2740 ، 2741 .
(2) / تفسير القرآن العظيم لابن كثير : 1/352 .
(3) / سورة آل عمران ، الآية : 14 .
(4) / اللبُّ : العقل .
(5) / صحيح البخاري ، كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ، برقم : 298 .وفي كتاب الزكاة، باب الزكاة على الأقارب ، برقم : 1393 .
(6) / صحيح مسلم ، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، برقم : 2742 .(1/5)
وها أنا أشرع في بيان ذلك سائلاً الله العلي القدير أن يسدد قلمي ، ويقوي حجتي ، ويمنحني الإخلاص في قولي وعملي ، وأن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك؛ فإنه لا أضعف من عبد تخلَّى الله عنه ولم يؤيده ، فهو حسبنا سبحانه ونعم الوكيل .
- - -(1/6)
(د. مهران ماهر عثمان نوري )
الفصل الأول
جريمة الزِّنا في القرآن
ويشمل أربعة مباحث :
الأول : تعريفُ الزِّنا .
الثاني : أدلة تحريم الزِّنا .
الثالث : عقوبة الزِّنا .
الرابع : حكم نكاح الزانية ، والزَّاني .
الخامس : بم يثبت الزِّنا ؟
المبحث الأول
لفظ الزِّنا يُمدُّ ويُقصر " قال القاضي عياض ([(1)]) : الزِّنا يمد ويقصر. فمن مده ذهب إلى أنه فعل من اثنين كالمقاتلة والمضاربة ...، ومن قصره جعله اسم الشيء نفسه"([(2)]) .
ومعنى الزِّنا : الفجور . والمُسَافِحة : الفاجرة . ([(3)])
وفي الشِّعر : أما الزِّناء فإني لست قاربه.
يُقال : يَزنِي الرجل زِنىً ، وزِناءً .
والمرأة تُزاني مزاناةً وزِناءً أي : تُباغي . وزَانى المرأةَ مزاناةً ، وزِناءً .
وزَنَّاه : نسبه إلى الزِّنا .
وما أزْنَاكَ ؟ : ما حملك على الزِّنا ؟
ويُقال في الولد : هو لزَنْيةٍ ؛ إذا كان ابنَ زنا . ([(4)]) .
__________
(1) / شيخ الإسلام أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي المالكي ، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة، استبحر من العلوم وجمع وألف وسارت بتصانيفه الركبان واشتهر اسمه في الآفاق ، ومن تصانيفه :(الشفا بمعرفة حقوق المصطفى) ، توفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة . انظر سير أعلام النبلاء ، مؤسسة الرسالة ببيروت ، الطبعة التاسعة ، 1413هـ ، تحقيق شعيب الأرنؤوط : 20/212.
(2) 2/ مواهب الجليل لشرح مختصر خليل ، للشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف بالحطَّاب ، مطبعة السعادة ، 1328 هـ: 7/392 .
(3) / لسان العرب للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ، دار صادر ببيروت ، الطبعة الأولى ، مادة (سفح) : 2/485 .
(4) / انظر لذلك لسان العرب ، مادة (زنا) :14/359 وما بعدها .(1/1)
ولما سأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً ([(1)]) عن الزِّنا وقال :(( أتدري ما الزِّنا)) ؟ قال : "أتيتُ منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً" ([(2)]).
ويُقال للزِّنا : السِّفاح - كما مرَّ - والمُسَاعاة ([(3)]) ، والعَهْر([(4)]) ، والعَنَت([(5)])،والسِّر ([(6)]).
وأما الزِّنا في الاصطلاح فهو :
كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ، ولا شبهة ، ولا ملك يمين ([(7)]) .
وهذا متفق عليه بالجملة ، وإنما اختلفوا في الشبهة التي يُدرأ الحدُّ بها؛ فمنهم من يمثل لها ولا يجعل لها ضابطاً وهم الحنابلة ، ومنهم من ضبطها وجعلها أقساماً ، وهم فقهاؤنا من المالكية .
فمن المسائل التي وقع الخلاف فيها :
- الأمة يقع عليها الرجل وله فيها شرك . قال الإمام مالك رحمه الله([(8)]) بدرء الحدِّ عنه، ولكنها تُقوَّم عليه ، ويَلحق به الولد .
__________
(1) / وقع في معصية الزِّنا ثم تاب ، وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الحدَّ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه :((إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها)) [انظر لتخريجه ص : 86] .
(2) / انظر تخريجه ص : 56 .
(3) / اللسان ، مادة (سعا) : 14/387 .
(4) / ويُقال : عُهور ، وعهورة ، وعَهارة ، انظر المصدر السابق ، مادة (عهر) :4/611
(5) / المصدر السابق ، مادة(عنت) : 2/61 .
(6) / المصدر السابق ، مادة (سرر) : 4/358
(7) / بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، للإمام ابن رشد القرطبي المالكي ، مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة ، 1415هـ : 2/769 .
(8) / حجَّةُ الأمة ، وإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، وُلد عام وفاة أنس بن مالك الصحابي - رضي الله عنه - سنة ثلاث وتسعين ، وتأهل للفُتيا وله من العمر واحد وعشرون عاماً ، قال الشافعي : إذا ذُكر العلماء فمالك النجم ، تُوفي سنة تسع وسبعين ومائة . انظر سير أعلام النبلاء : 8/48 .(1/2)
وبه قال الإمام أبو حنيفة ([(1)]) .
- إذا واقع جارية ابنه أو ابنته . قال الجمهور بدرء الحد عنه ، لكن تُقوم عليه حملت أم لم تحمل ؛ لأنها حرمت على ابنه ، فكأنه استهلكها .
- واقع رجل جارية امرأته . وهذه لم يجعلها الإمام مالك رحمه الله من الشبهات ، وأفتى بإقامة الحد عليه .
- المجاهد يطأ جارية من المغنم .
- إذا أحلَّ رجل لرجل وطء جاريته.
وهذه ليست من الشبه التي تدرأ الحدَّ ([(2)]) .
المبحث الثاني
تحريم الزِّنا من الأمور التي لا يختلف المسلمون فيها ، فهو أمر دلَّ عليه القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، والإجماع ، والعقل .
أما الأدلة من القرآن الكريم فهي :
قول الله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } ([(3)]) والنهي عن قربان الشيء أبلغ من النهي عنه ، فالنهي عن قربانه نهي عن كل ذريعة تُوصِّل إليه . وإذا نهى الله عما يوصِّل إلى الحرام فإنَّ هذا الحرام أولى بالنهي . وهذه الآية تدل على تحريم الزِّنا من وجوه :
الأول : أنها نهت عن مقدماته كما سبق ، ففي هذه الآية إشارة إلى أن أسباب الزِّنا ومبادئه توصل إليه ؛ ولهذا نُهي عن تعاطي ذلك ، ولله درُّ من قال :
" نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء ُ" ([(4)]).
فالجبال من الحصا ..
والسيل اجتماع النقط ..
والميل خطوة ..
__________
(1) / الإمام ، فقيه الملة وعالم العراق أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى التيمي الكوفي ، يقال : إنه من أبناء الفرس ، ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة ، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة ، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم . انظر السير : 6/390.
(2) / انظر لما سبق : بداية المجتهد : 2/770-771 .
(3) / سورة الإسراء ، الآية : 32
(4) / الشوقيات ، لأحمد شوقي رحمه الله ، دار الكتاب العربي ببيروت ، الطبعة الأولى : 2/112 .(1/3)
ولا يزال المرء يتنقَّل بين مراحل الجريمة ، كلما أضحى في واحدة صعب رجوعه إلى السابقة ، وسَهُلت عليه التي تليها ، حتى يتلبَّس بها .
الثاني : إثبات كونه فاحشة ، والفاحشة تُطلق على كل ما عظم إثمه ، وظهر قبحه ، قال ابن العربي رحمه الله ([(1)]) في الفاحشة :" هي في اللغة عبارة عن كل فعل تعظم كراهيته في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة". ([(2)])
الثالث : قوله تعالى : { u وَسَاء سَبِيلاً } ، لأن المعنى : وساء طريق الزِّنا طريقاً([(3)])
ولو لم ينزل الله تعالى في تحريم الزِّنا إلا هذه الآية لكانت كفيلة بردع كل مسلم عن تعاطيه .
وقد جاء النهي في هذه الآية عن وسائل الزِّنا معلَّلاً ؛ ليحرص الناس على الابتعاد عنه . والإنسان يجب عليه أن يبتعد عن الحرام سواء ذُكرت علته أم لم تُذكر ، ولكنْ ذِكرُ العلة مما يحمل على الاستجابة والانقياد ، فلو قال أحد لأخيه : ابتعد عن فلان ؛ لسوء أخلاقه . فهذا أدعى للاستجابة له مما لو لم يعلل أمره .
__________
(1) / الحافظ أحد الأعلام ، ولد في شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة ، رحل مع أبيه إلى المشرق ودخل الشام فتفقه على أبي بكر الطرطوشي ولقي بها جماعة من العلماء المحدثين ، ودخل بغداد ومصر فسمع بهما ، وعاد إلى بلده بعلم كثير لم يحصله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق ، وكان من أهل التفنن في العلوم ، صنف التفسير وأحكام القرآن وشرح الموطأ وشرح الترمذي وغير ذلك . تُوفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة . انظر طبقات المفسرين ، لأحمد بن محمد الداودي ، مكتبة العلوم والحكم بالسعودية ، الطبعة الأولى ، 1417هـ ، تحقيق : سليمان بن صالح الخزي:1/180.
(2) / أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ، دار الفكر للطباعة بلبنان ، تحقيق محمد عبد القادر عطا : 1/458 .
(3) / انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، دار الفكر، 1405هـ -1984م : 15/80.(1/4)
والزِّنا فيه انحطاط من مكانة الإنسانية إلى دائرة البهيمية ، فالبهيمة هي التي تسيرها شهوتها إذ لا ضابط يكبح جماحها ([(1)]) ، ولأن البهيمة لا اختصاص لها بذكر ، كذلك الزانية لا اختصاص لها برجل . قال الفخر الرازي رحمه الله ([(2)]) : " وأما أنه - الزِّنا - ساء سبيلاً فهو ما ذكرنا من أنه لا يبقى فرق بين الإنسان والبهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث ".([(3)]) فشابهت الزانية البهيمة من وجهين .
وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى : { س|سs%ur رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) } ([(4)])
أي : ومما قضى الله تعالى : عدم قربان الزِّنا ، وقضى : شرع وأمر.
__________
(1) / يُقال : جَمَح الفرس إذا جرى جرياً شديداً .
(2) / محمد بن عمر بن الحسين الرازي الشافعي ، المفسر المتكلم صاحب التصانيف ، ولد في سنة أربع وأربعين وخمسمائة ، تتلمذ على والده ، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ من فقهاء وغيرهم ، تُوفي سنة أربع وستمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/213.
(3) / التفسير الكبير المسمَّى : (مفاتيح الغيب) ، لفخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1421هـ : 20/159 .
(4) / سورة الإسراء ، الآية : 24 .(1/5)
وقد ذكر المفسرون تحت قوله تعالى: { وَسَاءَ سَبِيلًا } مفاسد الزِّنا وأضرارَه، فمن ذلك أنه : " ينشأ عنه استخدام ولد الغير ، واتخاذه ابناً ... وفساد الأنساب باختلاط المياه " ([(1)]) ، و" هيجان الفتن " ([(2)]) ، " وضياع الأولاد ، وانقطاع النسل ، وخراب العالم ، وفتح باب الهرج والمرج والمقاتلة ، وعدم اختصاص المرأة بالرجل".([(3)])
ومنها : أنه يؤدي إلى إرث من لا حق له في الميراث ، بل وربما منع وارثاً من الإرث .
ومن أضراره التي تبين سوء سبيله كذلك : سواد الوجه والقلب ، وما يعلوه من الكآبة والمقت ، ومنها الوحشة التي يجعلها الله في قلوب أصحابه ، ومنها : فشو الشك والتهم في المجتمع بعد أن كان سليماً من ذلك ، ومنها : ضيق الصدر ؛ فإن الزُّناة لما طلبوا اللذة بالحرام عاملهم الله بنقيض قصدهم ؛ فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته .
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن ، للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثالثة ، 1987 م : 10/253- 254 .
(2) / إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود محمد بن محمد العمادي ، دار إحياء التراث ببيروت : 5/170.
(3) / التفسير الكبير للرازي : 20/158 .(1/6)
وللزِّنا أثر سيئ على محارم الزَّاني ؛ فإنه يسقط هيبته من قلوبهن ، وربما كان ذلك سبباً في بذل أعراضهن إن لم يكن ثوب عفافهن منسوجاً من تربية إيمانية صادقة ، والزِّنا مدمر الأمم والشعوب بسبب الأمراض الفتاكة التي تتمخض عنه ، وهل أدلُّ على ذلك من طاعون العصر ( الإيدز ) ([(1)]) ؟
__________
(1) / الإيدز : اعتلال خطير ينتج عن عجز أجهزة المناعة في الجسم عن محاربة الأمراض ، ويسمى بمرض نقص المناعة المكتسبة ، وكلمة : (AIDS) هي الكلمة الناتجة من تجميع الحروف الأولى من اسمه : Acquired Immune Deficiency Syndrome ، وتعني : أعراض نقص المناعة المكتسبة . وقد اكتشف هذا المرض عام 1983م في فرنسا ، وعام 1984م في أمريكا ، ويسبب هذا المرض فيروس لا يستقر على شكل معين ، بل له خصيصة التغير المستمر ؛ ولذا لم يُتوصل إلى علاجه إلى يومنا هذا { وما يعلم جنود ربك إلا هو } . وينتقل هذا المرض عن طريق الاتصال الجنسي ، وانتقال الدم الملوث إلى الجسم، وينتقل في الغالب الأعم من الأم إلى جنينها . انظر للاستزادة كتاب (الأمراض الجنسية) ، للدكتور : نبيل صبحي الطويل ، طبع مؤسسة الرسالة .(1/7)
عن ابن عمر رضي الله عنهما ([(1)]) قال :" أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( يا معشر المهاجرين : خمسٌ إذا ابتليتم بِهنَّ وأعوذ بالله أن تدركوهنَّ : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطَّاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضَوا ... )) ([(2)])
والحاصل أن العبارة لا يحيط بها قلم ، فقد جرت سنة الله في الكون أنه يأخذ العصاة أخذ عزيز مقتدر .
والمتأمل في القرآن الكريم يجد أن هذه الآية أُودعت بين آيتي القتل ، قال الله تعالى قبلها: { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) } ([(3)]) .
__________
(1) / عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزَّى ، هاجر قبل أن يحتلم مع أبيه ، استُصغر يوم أحد فكانت الخندق أولى غزواته ، أمه وأمُّ أمِّ المؤمنين أختِه : زينب بنت مظعون أختُ عثمان بن مظعون ، من المكثرين في الرواية ، توفي سنة ثلاث وسبعين . انظر السير : 3/210 .
(2) / السنن لأبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي : كتاب الفتن ، باب العقوبات ، برقم : 4019 .
(3) / سورة الإسراء ، الآية : 31.(1/8)
وقال بعدها : { وںwu تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) } ([(1)]) ؛ وذلك لأن الزِّنا نوع من القتل ؛ فإنه يضيِّع الأنساب ومن ضاع نسبه فهو ميت حكماً ([(2)]) ، ولأنه يؤدي كثيراً إلى ارتكاب جريمة القتل وهيجان الفتن بين الناس ، ولذا اقترن بالقتل في هذه الآية . وفي موضعين آخرين :
في قول الله تعالى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) } ([(3)]) ، وفي قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) } ([(4)])
__________
(1) / سورة الإسراء ، الآية : 33 .
(2) / روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، للعلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي ، دار الفكر ببيروت ، 1398هـ - 1978م : 15/17
(3) / سورة الفرقان ، الآية 68
(4) / سورة الممتحنة ، الآية : 12(1/9)
وأمعن النظر في هذا الأثر تتيقن صدق ذلك : عن علي بن أبي طالب ([(1)]) قال: " كان راهب يتعبد في صومعة ، فزينت له امرأة نفسها فوقع عليها فحملت، فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت ، فقتلها فدفنها ، فجاءوه فأخذوه فذهبوا به ، فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجك ،فسجد له . فأنزل الله تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) } . ([(2)])". ([(3)])
ومن الأدلة كذلك على تحريمه قول الله تعالى :
{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) } ([(4)])
__________
(1) / علي بن أبي طالب - واسم أبي طالب : عبد مناف - بن عبد المطلب - واسمه : شيبة - القرشي الهاشمي ، ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها ، ووالد سيدي شباب أهل الجنة ، رابع الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، أسلم بعد يوم من مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وله من العمر عشر سنوات ، وتُوفي سنة أربعين . انظر تاريخ الخلفاء، للحافظ جلال الدين السيوطي ، دار الجيل ببيروت ، 1408هـ ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد، ص : 197.
(2) / سورة الحشر ، الآية : 16 .
(3) / المستدرك على الصحيحين ، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا: 2/526 .
(4) / سورة الفرقان ، الآيتان : 68، 69 .(1/10)
وما ورد في سبب نزول هذه الآية يدل على خطورة هذه المعصية وأنها من أعظم الآثام وأكبر الجرائم ؛ فقد جاء في الصحيحين ([(1)]) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ([(2)]) قال :" سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ الذنب أعظم ؟ قال :(( أن تجعل لله نداً وهو خلقك )) . قلت : ثم أي ؟ قال : (( أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك )). قلت : ثم أي ؟ قال : (( أن تزاني بحليلة جارك )).
__________
(1) / صحيح البخاري للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ، دار ابن كثير ببيروت، الطبعة الثالثة ، 1407هـ - 1987م ، تحقيق د. مصطفى ديب البغا : كتاب الديات ، باب قول الله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم } ، برقم : 6861، وفي كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } ، برقم : 7532 ، وباب قول الله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } ، برقم 4477 ، وفي كتاب الأدب ، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه ، برقم 6001، وفي كتاب الحدود ، باب إثم الزُّناة ، برقم : 6811، وصحيح مسلم ، للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، دار إحياء التراث العربي ببيروت ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي : كتاب الإيمان ، باب كون الشرك أعظم الذنوب وبيان أعظمها بعده، برقم : 86.
(2) / الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب أبو عبد الرحمن الهذلي ابن أم عبد - رضي الله عنه - ، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تلاعبت الرياح به على شجرة أراكٍ :((أتعجبون من دقة ساقيه إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد )) [مسند الإمام أحمد : 1/420] ، تُوفي سنة اثنتين وثلاثين . .انظر التاريخ الكبير ، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، دار الفكر ببيروت ، تحقيق : السيد هاشم الندوي : 5/2.(1/11)
فأنزل الله تعالى تصديقها : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا tچyz#uن... } الآيات ".
وقيل : إن ناساً من أهل الإشراك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : إن الذي تدعو إليه لحسن ، لو أخبرتنا عن عملنا هل له كفارة ؟ فأنزل الله الآيات . ([(1)]) ففي هذه الآية قرن الله تعالى الشرك بالزِّنا والقتل، وفي هذا " تهويل أمر الزِّنا والقتل بنظمهما في سلكه - الشرك - "([(2)]) وقد أشار القرطبي رحمه الله ([(3)]) إلى أن هذه الآية تدل على أن أكبر ذنب بعد الشرك هو القتل ثم الزِّنا . ([(4)]) ولهذا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قول الله تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) } ([(5)]): ((عدلت شهادة الزور الشرك بالله )) ([(6)]).وذلك لاقترانها به . فاقتران الشيء بالشيء يدل على مضارعته له .
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار ، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة، برقم : 3852 ، و مسلم في كتاب الإيمان ، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج ، برقم : 122
(2) / تفسير أبي السعود : 6/ 229.
(3) / محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي المالكي أبو عبد الله القرطبي، إمام متفنن متبحر في العلم ، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته وكثرة اطلاعه ووفور فضله ، منها التفسير المشهور المسمى بالجامع لأحكام القرآن وقد اختصره ابن الملقن ، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي :1/246.
(4) / انظر تفسيره : 13/76.
(5) / سورة الحج ، الآية : 30.
(6) / المعجم الكبير ، للإمام سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ، مكتبة العلوم والحكم بالموصل ، الطبعة الثانية ، سنة 1404هـ ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد : 9/109 .(1/12)
فهذه الآية حرم الله تعالى فيها الشرك به ، وقتل النفس المعصومة إلا بالحق - أي: حال كونكم عند قتلها ملتبسين بالحق - ، والزِّنا .
فإن قيل : لم نزَّه الله عباده عن هذه الكبائر بعدما نزههم عما دونها، وكان العكس أولى ؟
فالجواب : " المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المؤمنين وسيرة الكفار، كأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلها آخر وأنتم تدعون ، ولا يقتلون النفس وأنتم تقتلون الموؤدة ، ولا يزنون وأنتم تزنون"([(1)]) .
ويدل على التحريم من الآية كذلك قوله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) } . قيل في الأثام : " واد في جهنم" ([(2)]) ، وقيل : العقاب ، وأورد الطبري رحمه الله ([(3)]) دليله من الشِّعر :
جزى الله ابن عروة حيث أمسى عقوقاً والعقوق له أثام ([(4)])
وقيل : لقي أثام ذلك أي : جزاء ذلك ، ولا منافاة بين هذه المعاني .
ومن الأدلة كذلك :
__________
(1) / تفسير الرازي : 24/ 56 . والبيت لشافع الليثي ، انظر اللسان : 12/6 .
(2) / الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، للشيخ العلامة عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1993م : 6/ 277
(3) / محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري الإمام أبو جعفر ، وُلد سنة أربع وعشرين ومائتين ، رأس المفسرين على الإطلاق ، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ، وله التصانيف العظيمة ، منها : تفسير القرآن وهو أجل التفاسير لم يُؤلَّف مثله ، وتهذيب الآثار ، وتاريخ الأمم والملوك ، وكتاب اختلاف العلماء ، وكتاب القراءات ، وكتاب أحكام شرائع الإسلام وهو مذهبه الذي اختاره بعد أن كان شافعياً ، تُوفي سنة عشرين وثلاثمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/50.
(4) / تفسير الطبري : 6/229(1/13)
قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا ڑ يَعْصِيْنَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) } ([(1)])
فقد أمر الله تعالى فيها نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يبايع المؤمنات على ترك هذه المنكرات
__________
(1) / سورة الممتحنة ، الآية : 12 .(1/14)
ولما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - هند بنت عتبة رضي الله عنها ([(1)])، وقال لها : ((وألاَّ تزني)) . قالت كلمةً تُكتب بماء الذهب على وَرَقٍ من وَرِق : " أوتزني الحرة يا رسول الله " ؟! ([(2)]) . وجاء في مسند الإمام أحمد([(3)]) رحمه الله ، وعن عائشة رضي الله عنها ([(4)]) أنَّ امرأةً ([(5)
__________
(1) / هند بنت عتبة بن ربيعة ، والدة معاوية - رضي الله عنه - ،شهدت مع زوجها أبي سفيان أحداً وحرضت على قتل حمزة - رضي الله عنه - ؛ لكونه قتل عمها شيبة واشترك في قتل أبيها عتبة ، ثم أسلمت يوم الفتح وكانت من عقلاء النساء ، وكانت قبل أبي سفيان تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي ثم طلقها فتزوجها أبو سفيان ، ماتت في خلافة عمر - رضي الله عنه - . انظر فتح الباري :7/141 .
(2) / المسند ، لأبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، دار المأمون للتراث بدمشق ، الطبعة الأولى، 1404هـ ، تحقيق : حسين سليم أسد : 8/194 .
(3) / أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني ، وُلد سنة أربع وستين ومائة ، ممن تتلمذ على الإمام الشافعي ، ابتلي ابتلاء شديداً بمحنة خلق القرآن وأبلى فيها بلاء لا يطيقه جهابذة الرجال حتى أظهر الله تعالى على يديه الحق ، تُوفي في الثاني عشر من شهر ربيع الثاني سنة واحد وأربعين ومائتين ، وشيعه أكثر من ألف ألف وخمسمائة ألف .انظر البداية والنهاية : 10/325 .
(4) / الصديقة بنت الصديق أبي بكر القرشية التيمية ، أم المؤمنين وأحب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ، أفقه نساء الأمة على الإطلاق ، وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر ، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة ببضعة عشر شهراً وقيل بعامين ، ودخل بها في شوال سنة اثنتين وهي ابنة تسع ولم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بكراً غيرها ، تُوفيت سنة ثمان وخمسين . السير : 2/135.
(5) / هي فاطمة بنت عتبة ..(1/15)
]) جاءت تبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ عليها : { أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ } الآية ، فوضعت يدها على رأسها حياءً ، فأعجبه ما رأى منها . فقالت عائشة : أقرِّي أيتها المرأة ، فوالله ما بايعنا إلا على هذا . قالت : نعم إذا ، فبايعها" . ([(1)])
وهذه البيعة التي تُسمى ببيعة النساء أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ([(2)]) - وكان شهد بدراً ، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وحوله عصابة من أصحابه -:(( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان ([(3)]) تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ،فمن وفَّى منكم فأجره على الله ،ومن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب به في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله ؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه )). فبايعناه على ذلك ([(4)]).
__________
(1) / المسند : 6/151 .
(2) / عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر ، الإمام القدوة أبو الوليد الأنصاري ، أحد النقباء ليلة العقبة ومن أعيان البدريين ، سكن بيت المقدس ، شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة . انظر السير : 2/5.
(3) / لا تكذبوا على أحد بشيء تختلقونه في قلوبكم التي بين أيديكم وأرجلكم .
(4) / صحيح البخاري ، كتاب مناقب الأنصار ، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، وبيعة العقبة، برقم : 3893 . وصحيح مسلم في كتاب الحدود ، باب الحدود كفارات لأهلها ، برقم : 1709.(1/16)
ومن الأدلة: قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ([(1)]) . ورد في سبب نزولها أن أبا سعيد الخدري([(2)]) - رضي الله عنه - قال :"بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدواً فقاتلوهم فظهروا عليهم ، وأصابوا لهم سبايا ، فكأنَّ ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهنَّ ،فأنزل الله عزَّ وجل : { M"oY|ءَsكJّ9$#ur مِنَ النِّسَاءِ ... } أي : فهنَّ لكم حلال إذا انقضت عدتهن ". ([(3)]) وأكد الله هذا التحريم بقوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي : "هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن حدوده" ([(4)]).
__________
(1) / سورة النساء ، الآية : 24
(2) / سعد بن مالك أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، من أصحاب الشجرة ، فقيه نبيل ، روى عنه ابن المسيِّب وأبو نضرة ، توفي سنة أربع وسبعين . انظر الكاشف في أسماء الرجال ، للحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ، دار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة ، الطبعة الأولى ، 1412هـ ، تحقيق : محمد عوامة : 1/ 430.
(3) / أخرجه مسلم في كتاب الرضاع ، باب جواز وطء المسبية بعد الاستبراء ، وأنَّ مَن لها زوج انفسخ نكاحها بالسبي، برقم : 1456
(4) / تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، جمعية إحياء التراث الإسلامي ، الطبعة الخامسة ، 1420هـ - 2000م : 1/619(1/17)
ومن الأدلة : قوله سبحانه لإبليس عليه اللعنة : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } ([(1)]) فمشاركته في الأولاد: الزِّنا كما قال مجاهد رحمه الله ([(2)]) . ([(3)]) .
والشيطان حريص على إشاعة هذه الفاحشة بين المؤمنين ، وقد علَّمنا القرآن كيف نتعامل معه ؛ فقد نهانا الله تعالى عن اتباع خطواته في أربعة مواضع من القرآن :
__________
(1) / سورة الإسراء ، الآية : 64.
(2) / مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي ، قرأ على ابن عباس التفسير ثلاث مرات ، وصحب ابن عمر مدة كبيرة ، حدث عنه قتادة وعمرو بن دينار وأيوب ومنصور والأعمش وابن عون وغيرهم ، توفي سنة ثلاث ومائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/11.
(3) / انظر : أحكام القرآن ، للإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص ، دار إحياء التراث ببيروت ، 1405هـ، تحقيق : محمد صادق قمحاوي : 5/30.(1/18)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) } ([(1)]) ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) } ([(2)]) . وقال : { كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } ([(3)]) . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) } ([(4)])
وقارنْ - رعاك الله - بين هذه الآيات الناهية عن اتباع خطوات الشيطان المعللة بأنه يأمر بالفحشاء ، وبين قوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا } ؛ تعلم أن الشيطان لا يأمر بالزِّنا ابتداءً ، ولكنه يطيل النَّفَس ، ويأمر بما دون ذلك ، ولا يزال المرء يستجيب له المرة تلو الأخرى حتى يحظى بما يريده منه .
ومن الأدلة :
قوله سبحانه : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) } ([(5)])
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 168
(2) / سورة البقرة ، الآية : 208 .
(3) / سورة الأنعام ، الآية : 142.
(4) / سورة النور ، الآية : 21.
(5) / سورة النور ، الآية : 33 .(1/19)
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ([(1)]) : " إن جارية لعبد الله بن أبيٍّ ابن ([(2)]) سلول ([(3)]) يُقال لها مسيكة ، وأخرى يُقال لها أميمة ، فكان يُكرههما على الزِّنا ، فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله تعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ". ([(4)]) والبغاء الزِّنا ، والتحصُّن : التعفُّف وزناً ومعنىً .
__________
(1) / جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، صحابي ابن صحابي ، غزا تسع عشرة غزوة ، ومات بالمدينة بعد السبعين وهو بن أربع وتسعين . انظر تقريب التهذيب ، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، دار الرشيد بسوريا، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق محمد عوامة : 1/136 .
(2) / سلول أمه ؛ ولذا أُثبتت همزة (ابن) .
(3) / رأس المنافقين إذ كانوا إليه يجتمعون ، آذى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من المواقف بسبب حقد دفين أشعله مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة حين أراد أصحابه تتويجه زعيماً لهم ، ولما مات صلَّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فنُهي عن ذلك . انظر السيرة النبوية ، لعبد الملك بن هشام الحميري ، دار الجيل ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد : 3/59 ، 4/254 .
(4) / أخرجه مسلم في كتاب التفسير ، باب في قوله تعالى : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } ، برقم : 3029 .(1/20)
وقوله تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } ليس تخصيصاً للنهي ، فلا يقول قائل : يجوز الإكراه إن لم يردن تعففاً !! لأن الإكراه لا يُتصور في مريد الفاحشة وإنما يُتصور في حق العفيف المبغض لها ، فـ " آمر الطَّيِّعة المواتية للبغاء لا يُسمى مُكرِهاً ، ولا أمره إكراهاً ". ([(1)]) ، فالإكراه يدل على أنَّها أُرغمت على فعل أمرٍ لا تريده .
فدلت هذه الآية على تحريم الزِّنا ، وأنَّ مَن أكرهها سيدُها عليه فمغفور لها.
هذا ، وكل آية نطقت بتحريم الفاحشة فهي محرمة للزِّنا ، فالزِّنا فاحشة بنص القرآن الكريم كما سبق في قوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) } ([(2)]) ، والفاحشة من فَحُش الشيء إذا عظُم إثمه ، وكَبُر جرمه كما سبق ، ولهذا كان اللواط فاحشة ،قال الله تعالى : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) } ([(3)]) . وقال : { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَد مِنَ الْعَالَمِينَ (28) } ([(4)]).
وقد تطلق الفاحشة على ما دون الزِّنا ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) } ([(5)]) .
__________
(1) / الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ، دار إحياء التراث ببيروت ، تحقيق عبد الرزاق المهدي : 3/245.
(2) / سورة الإسراء ، الآية : 32
(3) / سورة النمل ، الآية : 54.
(4) / سورة العنكبوت ، الآية : 28 .
(5) / سورة آل عمران ، الآية : 135 .(1/21)
جاء في سبب نزولها : " أن امرأة جاءت إلى تاجر ([(1)]) تشتري منه تمراً ، فضمَّها وقبلها ثم ندم ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ذلك ، فنزلت الآية " ([(2)]).
وربما أُطلقت الفاحشة على كل قبيح كما قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ِNن3فàدètƒِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) } ([(3)])
قال القرطبي رحمه الله : " الفحش كل قبيح من قول أو فعل " ([(4)]) وهذا يشمل الزِّنا وغيرَه ، كقوله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) } ([(5)]) ، وكقوله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) } ([(6)]) فالمراد بها هنا : طواف المشركين بالبيت عراة .
__________
(1) / يُدعي : نبهان التمَّار .
(2) / العجاب في بيان الأسباب ، للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى ، 1418هـ : 2/ 756.
(3) / سورة النحل ، الآية : 90.
(4) / الجامع لأحكام القرآن : 10/167 .
(5) / الأنعام : 151 .
(6) / سورة الأعراف ، الآية : 28(1/22)
وسواء فُسرت الفاحشة في القرآن بالزِّنا أو بما دونه فهي تتناوله مباشرةً ، أو من باب أولى . وأما قوله تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } ([(1)]) فقد نقل القرطبي عن مقاتل ([(2)]) رحمهما الله قوله : " إنها ترك الزكاة ". ([(3)])
والحاصل : أن " الفاحشة تطلق على كل معصية ، وقد كثر اختصاصها بالزِّنا ". ([(4)])
__________
(1) / البقرة ، الآية : 268 .
(2) / مقاتل بن سليمان الأزدي الخراساني أبو الحسن ، كان مشهوراً بتفسير كتاب الله العزيز ، وله تفسير مشهور ، حُكي عن الشافعي أنه قال : " كلهم عيال على مقاتل بن سليمان في التفسير ". ، توفي سنة خمسين ومائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/20 .
(3) / تفسير القرطبي : 2/210 .
(4) / المصدر السابق .(1/23)
واستُدل على التحريم كذلك بقول الله تعالى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) } ([(1)]) . فالسر يُراد به الزِّنا كما ذكر الجصَّاص رحمه الله ([(2)]) ، وتعقبه بأن المواعدة للزِّنا محرمة في العِدَّة وغيرها ([(3)])
وإنَّ تشريعَ حدِّ القذف لَمن الأدلة على قبح الزِّنا وخطورته ، فقد رتب الله على القاذف خمسة أحكام :
الأول : أن يُجلد ثمانين سوطاً .
الثاني : رد شهادته وعدم قبولها .
الثالث : الشهادة عليه بالفسق والكذب .
الرابع : اللعنة في الدنيا والآخرة .
الخامس : العذاب الأليم .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 235 .
(2) / أحمد بن علي أبو بكر الرازي الحنفي ، الإمام الكبير الشأن الملقب بالجصاص ،كان مولده سنة خمس وثلاثمائة ، سكن ببغداد وأخذ عنه فقهاؤها ، قال الخطيب :" إمام أصحاب أبي حنيفة في وقته ". وكان مشهوراً بالزهد ، وله من المصنفات : أحكام القرآن ، وشرح مختصر الطحاوي ، وله كتاب مفيد في أصول الفقه ، ومؤلفاته كثيرة . كانت وفاته سنة سبعين وثلاثمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/84.
(3) / انظر : أحكام القرآن للجصاص : 2/132 .(1/24)
قال تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) } ([(1)]) . وقال سبحانه : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) } . ([(2)]) وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) } . ([(3)])
بل توعد الله في القرآن من أحبَّ إشاعة قذف المؤمنين ، فكيف بمن لابس ذلك وفعله ؟ قال تعالى : { إِن الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) } . ([(4)]) فالفاحشة هنا : قذف المؤمنين . وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) } . ([(5)])
وقد جاءت الأدلة من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين حرمة هذه الرذيلة ، وفحشها ، وسوء عاقبة مرتكبيها ، فمن ذلك :
__________
(1) / سورة النور ، الآية : 4 .
(2) / سورة النور ، الآية : 13.
(3) / سورة النور ، الآيات : 23-25 .
(4) / سورة النور ، الآية : 19 .
(5) / سورة الأحزاب ، الآية : 58 .(1/25)
قول النبي عليه الصلاة والسلام: (( إذا ظهر الزِّنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها )). ([(1)])
وقال :(( لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيها ولد الزِّنا ، فإذا فشا فيهم ولد الزِّنا فأوشك أن يعمهم الله بعذاب )). ([(2)])
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الفاحشة لا يمكن أن يبقى الإيمان معها ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ([(3)]) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )) ([(4)]).
__________
(1) / مستدرك الحاكم : 2/43 .
(2) / أخرجه الإمام أحمد في المسند : 6/333 .
(3) / عبد الرحمن بن صخر الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة الدوسي اليماني ، سيد الحفاظ الأثبات ، كان مقدمه وإسلامه في أول سنة سبع عام خيبر ، قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - :((أبو هريرة وعاء العلم)) [مستدرك الحاكم : 3/582] ، مات سنة تسع وخمسين وله ثمان وسبعون سنة . انظر السير : 2/578 .
(4) / صحيح البخاري ،كتاب المظالم ، باب : النهبة بغير إذن صاحبه ، برقم : 2343. وفي كتاب الأشربة ، باب قول الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } ،برقم : 5256. وفي كتاب الحدود ،باب : الزنى وشرب الخمر ، برقم : 6390. وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبسين بالمعصية على إرادة نفي كماله ، رقم : 57 . والمراد نفي كمال الإيمان الواجب فهو مؤمن عاصٍ.(1/26)
وأما عن عاقبة هذه الجريمة في البرزخ فقد بُيِّنت لنا في حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - ([(1)]) الذي قال فيه :" كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يُكثر أن يقول لأصحابه : ((هل رأى أحد منكم من رؤيا ؟ )) فيقص عليه من شاء الله أن يقص ، وإنه قال ذات غداة : (( إنه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي : انطلق ، وإني انطلقت معهما ... فأتينا على مثل التَّنُّور - قال : وأحسب أنه كان يقول - فإذا فيه لغط وأصوات ، قال : فاطلعنا فيه ، فإذا فيه رجال ونساء عراة ، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم ، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا ([(2)]). قال : قلت لهما : ما هؤلاء ؟ قال : قالا لي : انطلق انطلق - فلما سألهما عما رأى قالا : - ... وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التَّنُّور فإنهم الزُّناة والزَّواني ...)) ([(3)])
أبَعد هذا الوعيد يقرب هذه الجريمة مسلم يحذر الله واليوم الآخر ؟! { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } ([(4)])
والزِّنا يتفاوت في الإثم تفاوت أنواعه ، فالزِّنا بالمتزوجة أشد من الزِّنا بغيرها ؛ لأن فيه اعتداءً على بعلها .
__________
(1) / الصحابي الجليل سمرة بن جندب الفزاري أبو عبد الرحمن ، ولي البصرة وله بها دار ، وكان مرة ينزل بالبصرة ومرة ينزل بالكوفة ، توفي في ولاية معاوية بالكوفة . انظر : الجرح والتعديل ، للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم ، دار إحياء التراث العربي ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1952م : 4/154 .
(2) / صاحوا .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب التعبير ، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح ، برقم : 7047.
(4) / سورة الحج ، الآية : 46(1/27)
والزِّنا بالمحارم ليس كغيره ، فقد ثبت ([(1)]) أنَّ رجلاً نكح امرأة أبيه ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه وأخذ ماله ".
ومن أرذل أنواعه وأقبحها الزِّنا بامرأة الجار ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه سائلاً : ((ما تقولون في الزِّنا))؟ قالوا : حرام حرمه الله ورسولُه فهو حرام إلى يوم القيامة . قال : (( لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره )) ([(2)]) ، فمن الخزي والقبح والعار أن يقع الإنسان في شيء من ذلك .
__________
(1) / في السنن ، للإمام أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى : كتاب الحدود ، باب في الرجل يزني بحريمه ، برقم : 4457 . والمجتبى من السنن المعروف بسنن النسائي ، للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي ، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب ، الطبعة الثانية،1406هـ : كتاب النكاح ، باب نكاح ما نكح الآباء ، برقم : 3331 .
(2) / المسند ، للإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ،مؤسسة قرطبة بمصر :6/8 .(1/28)
وهو من الشيخ الكبير أشد وأقبح ؛ لضعف داعي الجريمة عنده ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم: شيخ زان ، وملكٌ كذاب ، وعائل مستكبر )). ([(1)]) وقال في حديث آخر:((وأما الثلاثة الذين يبغضهم الله : الشيخ الزاني ، والفقير المختال ، والغني الظلوم)). ([(2)])
__________
(1) / صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، برقم : 46/107.
(2) / سنن الترمذي المسمى بـ (الجامع المختصر من السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل ) ، للإمام محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، دار إحياء التراث العربي ببيروت : كتاب صفة الجنة ، الباب رقم : 25 ، برقم : 2568.(1/29)
وأشد الزُّناة غبناً من زنا بامرأة مجاهد ؛ فعن سليمان بن بريدة ([(1)]) عن أبيه - رضي الله عنه - ([(2)]) قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم إلا وُقف له يوم القيامة، فيأخذُ من عمله ما شاء . فما ظنُّكم ؟ )) ([(3)])
__________
(1) / سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي المروزي ، قاضيها ، توأم عبد الله بن بريدة ، ولدا سنة خمس عشرة ، ثقة ، مات سنة خمس ومائة وله تسعون سنة . انظر تقريب التهذيب 1/250 .
(2) / بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي ، أسلم عام الهجرة لما مر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مهاجراً ، شهد غزوة خيبر والفتح وكان معه اللواء ، واستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقة قومه ، حدث عنه ابناه سليمان وعبد الله ، وجماعة . سكن البصرة مدة ، ومات سنة ثلاث وستين . انظر السير : 2/469.
(3) / أخرجه الإمام مسلم في كتاب الإمارة ، باب حرمة نساء المجاهدين ، وإثم من خانهم فيهن ، برقم : 1897 .(1/30)
وأجمع المسلمون قديماً وحديثاً على حرمته ([(1)])، بل لم يُبح الزِّنا في شريعة قط([(2)]) ؛ فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ([(3)]) قال : " مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيهودي محمَّماً مجلودًا، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم ؟ )) قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال : (( أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ([(4)])، أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم )) ؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجده الرَّجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد . قلنا : تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم ([(5)]) والجلد مكان الرَّجم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ، فأمر به ، فرُجم))([(6)]) .
__________
(1) / انظر الإجماع ، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر ، دار الجنان للطباعة والنشر ، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق وتعليق : عبد الله عمر البارودي ، ص : 130 .
(2) / انظر أحكام القرآن للجصاص : 3/96.
(3) / البراء بن عازب بن الحارث بن عدي الأنصاري الأوسي ، صحابي وابن صحابي ، نزل الكوفة ، استُصغر يوم بدر ، مات سنة اثنين وسبعين للهجرة . انظر تقريب التهذيب : 1/121.
(4) / أي : أسألك بالله .
(5) / تغطية الوجه بالحميم وهو الفحم .
(6) / صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزِّنا ، برقم : 1700.(1/31)
وفي بعض الأناجيل : " قد سمعتم أنه قيل للقدماء : لا تزن . وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه ، فإن كانت عينك اليمنى تُعثِرُك فاقلعها وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كلُّه في جهنم . وإن كانت يدك اليمنى تُعثِرُك فاقطعها وألقها عنك؛ لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم " . ([(1)])
والعجيب أن هذه الجريمة قبيحة مستنكرة حتى في عالم الحيوان ، فعن عمرو بن ميمون - رضي الله عنه - ([(2)]) قال : " رأيت في الجاهلية قردةً قد زنت ، فرجموها، فرجمتها معهم".([(3)])
ودلَّ العقل على قبح هذه الجريمة ، قال الجصَّاص في قول الله تعالى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) } مبيناً أنه فاحشة قبل ورود السمع ؛:" لأن الله سماه فاحشة ، ولم يخصص به حاله قبل وردود السمع أو بعده ، ومن الدليل على أن الزِّنا قبيح في العقل أن الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب ؛ إذ ليس بعض الزُّناة أولى بلحاقه من بعض ، ففيه قطع الأنساب ومنع ما يتعلق بها من الحرمات في المواريث والمناكحات وصلة الأرحام ، وإبطال حق الوالد على الولد وما جرى مجرى ذلك من الحقوق التي تبطل مع الزِّنا ، وذلك قبيح في العقول، مستنكر في العادات ". ([(4)])
__________
(1) / إنجيل متى ، دار الكتاب المقدس ، الطبعة الثانية ، 1998م : الإصحاح الخامس ، ص 19 .
(2) / عمرو بن ميمون الأودي أبو عبد الله ، سكن الكوفة ، حدث عن معاذ بن جبل وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما، توفي سنة أربع وسبعين للهجرة . انظر التاريخ الكبير :6/367 .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب مناقب الأنصار ، باب القسامة في الجاهلية ، برقم : 3849 .
(4) / أحكام القرآن للجصاص : 5/24 .(1/32)
وهل أدلُّ على قبحه في العقل من أن الأم - وهي من هي : حناناً وعطفاً وإشفاقاً على فلذة كبدها - إذا حَبَلَت بهذا الصنيع الشنيع تحاول الخلاص منه بكل وسيلة، وربما ألقته في العراء لا تعبأ به بأي واد من الأرض هلك !! الأم التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد معركة فقدت فيها ابنها ، فلما وجدته ضمَّته إلى صدرها ، وألقمته ثديها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار )) ؟ قالوا: لا يا رسول الله . قال : (( لَلَّه أرحم بعباده من هذه بولدها )) ([(1)]) . كل هذه المعاني تتلاشى وتنعدم في المولود الذي تُسفر عنه هذه الجريمة النَّكِدة ، فما أقبحها من خطيئة لِلَّهِ وما أرذلها من معصية لِلَّهِ أسأل الله تعالى أن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن .
المبحث الثالث
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الأدب ، باب رحمة الولد وتقبيله و معانقته ، برقم : 5999 ، وصحيح مسلم ، كتاب التوبة ، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه ، برقم : 2754 .(1/33)
كانت عقوبة الزِّنا في بداية الأمر الحبس في البيوت للمرأة والرجل إذا كانا ثيبين([(1)]) ، والإيذاء للأبكار . قال تعالى: { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ ِNà6ح !$|،خpS فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) } ([(2)]) ، فقد أمر الله تعالى فيها بحبس الثيب التي قارفت الفاحشة ، وبإيذاء الأبكار ([(3)]) .
وهل الإمساك في البيوت حد أم توعد به ؟ الصحيح أنه حد ؛ " لأن كل إيذاء وإيلام فهو حد " ([(4)]). ويترتب على ذلك أن الآية منسوخة كما سيمر بنا إن شاء الله ، فلو كان توعداً بالحد لما كان في الآية نسخ .
__________
(1) / انظر : الناسخ والمنسوخ ، للشيخ هبة الله بن سلامة بن نصر المقري ، المكتب الإسلامي ببيروت، الطبعة الأولى ، 1404هـ ، تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان : 1/68 . والناسخ والمنسوخ ، للإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق : د. عبد الغفار سليمان البنداري : 1/32 .
(2) / سورة النساء ، الآيتان : 15 ، 16 .
(3) / جاءت هذه الآية بعد آيات تأمر بالإحسان إلى النساء ، ثم جاء هذا التغليظ ، "ومن فوائد ذلك: أن هذا من الإحسان إليهن كذلك ، وليُعلم أن الإحسان إليهن لا يستلزم ترك عقوبتهن إذا ألممن بالفاحشة ، ولأن الله تعالى كما يستوفي لخلقه يستوفي عليهم ". التفسير الكبير : 9/186
(4) / أحكام القرآن لابن العربي : 1/461 .(1/34)
ومن العلماء من قال ليس في الآية نسخ ؛ لأن قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } يدل على أن الإمساك ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلاً ، وذلك السبيل كان مجملاً ، فبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - . فكان حديثه بياناً لا نسخاً . ([(1)])
والإيذاء هو التوبيخ والتعيير ، فيُقال لهما : فجرتما وفسقتما ونحو ذلك من الألفاظ التي يحصل التعيير بها .
وهذا الإيذاء ليس بمنسوخ ، وهو عام في جميع الزواني ، فمع إقامة الحد عليهم يُقال لهما : فجرتما ، وفسقتما ... ونحو ذلك . ([(2)])
كانت هذه عقوبة الزِّنا في بداية الأمر ، أي : الحبس والإيذاء . ثم نُسخ ذلك بالجلد أو الرَّجم فعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً ؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرَّجم )). ([(3)]) يشير إلى قول الله تبارك وتعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } ([(4)])
ولا خلاف بين علمائنا رحمهم الله في أن الأمر استقر على الجلد والرَّجم . فقد" أجمعوا على أن حدَّ البكر الزاني أنه الجلد ، وأجمعوا على أن الحرَّ إذا تزوج حرةً تزويجاً صحيحاً ووطئها في الفرج أنه محصن ، يجب عليهما الرَّجم إذا زنيا ". ([(5)])
__________
(1) / انظر التفسير الكبير : 9/188
(2) / انظر الجامع للقرطبي 5/86.
(3) / صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1690.
(4) / سورة النساء ، الآية : 15.
(5) / الإجماع ، ص : 130-131 .(1/35)
وإنما اختلفوا في النص الذي كان به النسخ ، فقال بعض العلماء: نُسخت هذه الآية بآية رُفع رسمُها وبقي حكمها ، واستدلوا بحديث عبادة الذي يُشعر بأن النسخ كان بوحي سابق . وقال بعضهم : نُسخ ذلك بحديث عبادة ([(1)])
وهذه بعض أقوال العلماء الدالة على نسخ الآية واستقرار الأمر على الجلد أو الرَّجم :
قال السيوطي رحمه الله ([(2)]): " نَزَل حد الزِّنا فصار الحبس والأذى منسوخاً"([(3)]).
وقال القرطبي رحمه الله : " هذه - آية الحبس والإيذاء - أول عقوبات الزُّناة ، وكان هذا في ابتداء الإسلام ، قاله عبادة بن الصامت ، والحسن ([(4)]) ، ومجاهد ، حتى نُسخ بالأذى الذي بعده ، ثم نُسخ ذلك بآية النور وبالرَّجم في الثيب. وقالت فرقة : بل كان الإيذاء هو الأول ثم نُسخ بالإمساك ، ولكن التلاوة أُخرت وقُدمت ... وهذا الإيذاء والحبس في البيوت كان في صدر الإسلام " ([(5)])
وقال :" هذه الآية - آية النور - ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء باتفاق ". ([(6)])
__________
(1) / راجع زاد المسير : 2/35.
(2) / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي ، العلاَّمة المشهور ، وُلد سنة تسع وأربعين وثمانمائة ، له مصنفات كثيرة جداً من أعظمها : الدر المنثور في التفسير المأثور ، تُوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة. انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/366 .
(3) / الدر المنثور : 2/458
(4) / كان من سادات التابعين ، وأفتى في زمن الصحابة ، بالغ الفصاحة وبليغ المواعظ ، كثير العلم بالقرآن ومعانيه ، بلغ من العمر تسعاً وثمانين وكانت وفاته سنة عشر ومائة . انظر : طبقات المفسرين للداودي : 1/13.
(5) / الجامع لأحكام القرآن: 5/84
(6) / الجامع لأحكام القرآن: 12/159(1/36)
وقال الواحدي ([(1)]) :" فأمسكوهن في البيوت: في السجون ، وهذا كان في أول الإسلام ". ([(2)])
__________
(1) / علي بن أحمد بن محمد بن علي أبو الحسن الواحدي النيسابوري ، كان واحد عصره في التفسير، وصنف التفاسير الثلاثة : البسيط والوسيط والوجيز ، وأسباب النزول ، والمغازي وغيرها . وقد كانت وفاته في شهر جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/127.
(2) / الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي ، دار القلم ببيروت ، الطبعة الأولى ، سنة الطبع : 1415هـ ، بتحقيق : صفوان عدنان : 1/256.(1/37)
وقال ابن الجوزي رحمه الله ([(1)]) :" كان حدُّ الزانييْن فيما تقدم : الأذى لهما ، والحبس للمرأة خاصة ([(2)]) ، فنُسخ الحكمان جميعاً ". ([(3)]) والذي نُسخ الاكتفاء بالأذى، والحبس . فانضاف إليه الجلد للبكر ، والرَّجم للثيب . ونص على هذا النسخ الكلبي رحمه الله ([(4)]) في التسهيل ([(5)]).
والحاصل أن عقوبة الزِّنا كانت في بداية الإسلام : الإيذاء ، والحبس في البيوت ، ثم نُسخ ذلك بالجلد في سورة النور ، وبالرَّجم .
أما الجلد فقد نصَّ الله سبحانه وتعالى عليه في قوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا ×pxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) } ([(6)]) .
__________
(1) / عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد بن علي الجوزي أبو الفرج ، من ولد الإمام أبي بكر الصديق ، الفقيه الحنبلي الواعظ الملقب بجمال الدين الحافظ ، كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ ، صنف في فنون عديدة منها زاد المسير في علم التفسير ، وكتبه أكثر من أن تعد ، وكتب بخطه شيئاً كثيراً ، كانت وفاته في سنة سبع وتسعين وخمسمائة . انظر طبقات المفسرين : للداودي : 1/208 .
(2) / هذا خلاف ما قرره المقري وابن حزم رحمهما الله في كتابيهما الناسخ والمنسوخ : 1/68 ، 1/32، من أن الحبس للرجل والمرأة ، وهذا هو مقتضى العدل .
(3) / زاد المسير في علم التفسير : 2/35
(4) / الحافظ العالم محمد بن أحمد الغرناطي الكلبي ، مالكي المذهب ، توفي سنة ثلاث وتسعمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/442.
(5) / انظر : التسهيل لعلوم التنزيل لمحمد بن أحمد بن محمد الغرناطي الكلبي ، دار الكتاب العربي بلبنان ، الطبعة الرابعة ، 1403هـ : 3/58.
(6) / سورة النور ، الآية : 2 .(1/38)
والجلد سُمي بذا لأن الضرب يقع على الجلد ، كما يُقال رأسه إذا ضرب رأسه. وقدَّم الله تعالى الزانية على الزاني في هذه الآية لأن الزِّنا في النساء أكثر ؛ فقد كان عدد الزواني أكثر من عدد الزُّناة ([(1)]) ، ولأجل أن الزِّنا في المرأة أعرُّ ؛ للحَمل ، فصُدِّر ذكرها لعظيم حالها في الفاحشة ([(2)]) ، ولأن الإغواء بها أشد.
فإن قيل : لِمَ ذكر الله تعالى في الآية الزانية والزاني مع أن ذكر أحدهما يغني ، إذ أن الزِّنا لا يُتصور إلا بالمشاركة ؟! " قلنا : هذا من باب التأكيد ، كما قال : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) } ([(3)]) ". ([(4)]) أي : لئلا يُظن أن لا حدَّ على أحدهما . والمخاطب بإقامة الحدود هو الإمام ، وزاد الإمام مالك رحمه الله : السادة في حق العبيد ، وقيل : الخطاب للمسلمين والإمام ينوب عنهم ؛ إذ لا يمكن الاجتماع على إقامة الحدود.([(5)])
__________
(1) / انظر التسهيل 3/58، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي، دار الكتب العلمية بلبنان ، الطبعة الأولى، 1413هـ : 4/161.
(2) / انظر أحكام القرآن لابن العربي : 3/334.
(3) / سورة المائدة ، الآية : 38 .
(4) / أحكام القرآن لابن العربي : 3/333.
(5) / انظر الجامع للقرطبي : 12/161 .(1/39)
وقد ذكر المفسرون رحمهم الله تحت هذه الآية أحكاماً متعلقة بالجلد، منها : أن الجلد يكون بسوط بين سوطين ، لا شديداً ولا ليناً، لحديث الإمام مالك عن زيد بن أسلم ([(1)]) أنَّ رجلاً اعترف بالزِّنا فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسوط ، فجيء له بسوط مكسور فقال: (( فوق هذا )) . فأُتي له بسوط جديد لم تُقطع ثمرته . ففال : (( دون هذا )) ([(2)]).
وهذا محلُّ إجماع . ([(3)])
ونصَّ الإمام مالك رحمه الله على أن الرجل الزاني يُجرد ، ويبقى على المرأة ما يسترها .ولا يقيها ([(4)]) .
ويُجلد الزاني في ظهره جالساً ، وقيل يُفرق الجلد بين أعضائه . ويكون الجلد جلداً بين جلدين فالضارب لا ينبغي أن يخرج يده من تحت إبطه ، وتستوي في ذلك الحدود كلُّها ([(5)]).
__________
(1) / زيد بن أسلم الإمام الحجة القدوة أبو عبد الله العدوي العمري المدني الفقيه ، كانت له حلقة للعلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو حازم الأعرج : لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهاً ما رأيت في مجلسه متماريين ولا متنازعين في حديث لا ينفع . وكان علي بن الحسين يجلس إلى زيد ويقول : إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه . انظر السير : 5/316 .
(2) / الموطأ ، لإمام الأئمة وعالم المدينة مالك بن أنس رحمه الله ، دار إحياء التراث العربي بمصر ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي : 2/825 .
(3) / انظر الإجماع لابن المنذر ، ص : 131 .
(4) / تفسير القرطبي : 12/162.
(5) / أحكام القرآن لابن العربي : 3/334.(1/40)
ونصت الآية الكريمة على أن الزاني يُجلد مائة جلدة ، أما الإماء فإن الحد يُنصف في حقهنَّ؛ لقول الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) } ([(1)])
وتنصيف الحدِّ يكون في الجلد؛ فإن الرَّجم لا يُنصف ([(2)]). والمراد بالمحصنات هنا : الحرائر ، فإذا زنت الأمة فعليها الجلد : إن كانت بكراً أو ثيباً ، ولا رجم عليها ؛ لأنه لا يُشطَّر ، فهو غير داخل في الآية أصلاً. ولا فرق في تنصيف حد الجلد بين العبد والأمة ، فألحق العبد بها قياساً بجامع علة الرق في كلٍّ ، فهو مناط الحكم .وشريعة الله تأبى التفريق بين المتماثلات .
__________
(1) / سورة النساء ، الآية :25
(2) / انظر ص : 41 .(1/41)
ودلت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على إضافة التغريب للزاني غير المحصن ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام )) ([(1)]) . قال البخاري ([(2)]) : " باب البكران يُجلدان ويُنفيان" ([(3)])، وقد غرَّب الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، فقد ورد في الموطأ ([(4)]) أن أبا بكر - رضي الله عنه - ([(5)]) غرَّب إلى فدك. وقال عروة بن الزبير رحمه الله ([(6)
__________
(1) / صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1690.
(2) / أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ، وُلد في شوال سنة أربع وتسعين ومائة ، أقام بمكة وهو صغير لطلب العلم زمناً ورحل إلى خراسان والبصرة والكوفة والحجاز وغير ذلك ، لما بلغ ستة عشر عاماً كان قد فرغ من حفظ كتب ابن المبارك ووكيع ، جمع أنواعاً من الفنون فرتب صحيحه على أبواب الفقه ، وله في صحيحه كتاب التفسير ، كان متواضعاً مفرطاً في الكرم ، توفي سنة ست وخمسين ومائتين وله من العمر اثنان وستون عاماً إلا ثلاثة عشر يوماً . انظر السير : 12/391.
(3) / 6/2507 .
(4) / 2/826 .
(5) / عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو التيمي القرشي - رضي الله عنه - ، يلتقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة، خير الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - ، استُخلف بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجمعت الأمة على خلافته لا ينكر ذلك إلا ضال ، نطق القرآن والسنة بفضائله وصُنفت مصنفات في بيان ذلك ، وُلد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين وأشهر، تُوفي في السنة الثالثة عشر . انظر تاريخ الخلفاء ، ص : 33.
(6) / عروة بن الزبير بن العوام المدني ، تابعي جليل ، روى عن أبيه الزبير - رضي الله عنه - ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أمه أسماء بنت أبي بكر ، وخالته عائشة رضي الله عنهم أجمعين ، كان فقيهاً عالماً ثبتاً حجةً ، توفي سنة ثلاث وتسعين ..انظر البداية والنهاية : 9/101 .(1/42)
]):"غرَّب عمر بن الخطاب ([(1)])، ثم لم تزل تلك السُّنَّة".([(2)]) وهذا إجماع. ([(3)])
وأما العبيد فلا تغريب في حقِّهم لحديث الصحيحين : (( إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب )) ([(4)]) ، ولذا قال الإمام مالك رحمه الله : " الذي أدركت عليه أهل العلم أنه لا نفي على العبيد إذا زنَوا".([(5)]) وفي تغريب العبيد إضرار بسيدهم ، والضرر يُزال.
وأما تغريب المرأة فأنكره الإمام مالك رحمه الله ، وهو الحق ، قال في المختصر([(6)]) :" وغُرِّب الحرُّ الذكرُ فقط عاماً " فالمذهب أنه لا تغريب على امرأة أو عبد .
__________
(1) / عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العزى بن رياح القرشي العدوي الفاروق - رضي الله عنه - ، وُلد بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة ، ثاني الخلفاء الراشدين المهديين ، خير الأمة بعد نبيِّها وصديقها ، أسلم في ذي الحجة من السنة السادسة من النبوة وهو ابن ست وعشرين سنة ، له موافقات معروفة للقرآن الكريم، استُشهد سنة ثلاث وعشرين . انظر تاريخ الخلفاء ، ص : 126 .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب الحدود ، باب البكران يُجلدان ويُنفيان ، برقم : 6832 .
(3) / راجع الإجماع لابن المنذر ، ص : 131 .
(4) / صحيح البخاري ، كتاب الحدود ، باب : لا يُثرب على الأمة إذا زنت ولا تُنفى ، برقم : 6839 ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1703
(5) / الموطأ : 2/826.
(6) / مختصر العلامة خليل بن إسحاق المالكي ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، صححه وعلق عليه : الشيخ طاهر أحمد الزاوي ، ص : 326 .(1/43)
ومما يدل على عدم تغريب المرأة أن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ المرأة وصيانتها ، ولذا مُنعت من السفر إلا مع ذي محرم ، فكيف تُغرب وفي تغريبها إفساد لها. ولا يُعقل أن يُجبر وليها على السفر معها ؛ لقول الله تعالى في أربعة مواضع: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ([(1)])
والمرأة التي سبق لها أن مارست هذه الرذيلة تخرَّق ثوب حيائها أو امَّحى ، وفي سفرها إعانة للشيطان عليها فالجريمة أسهل في حق الغريب ، ولذا مما مُدح به نبي الله يوسف عليه السلام : رفضه لطلب امرأة العزيز مع كثرة الدواعي لإجابتها ، ومنها : كونه غريباً . ولربما افتقرت المرأة في سفرها ، والفقر سبب من أسباب الزِّنا كما سيأتي إن شاء الله ([(2)]) . فحديث التغريب مخصص بالأحاديث التي جاء فيها تحريم سفر المرأة بلا محرم ، ولم يقل أحد بوجوب إلزام محرمها بالسفر معها - حسب علمي القليل - ؛ لأنه لا ذنب له ، والله تعالى أعلم.
__________
(1) / سورة الأنعام ، الآية : 164 . والإسراء ، الآية: 15 . وفاطر ، الآية: 18. والزمر ، الآية: 7.
(2) / انظر ص : 75.(1/44)
وقد نهى الله تعالى المؤمنين عن الرأفة بالزُّناة فقال : { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ِ } ([(1)]) قال بعض المفسرين : هذا نهي عن إسقاط الحد. وقال بعضهم : نهي عن تخفيفه . ولا تعارض بين القولين ([(2)]) ، فالنهي منصب على تعطيل الحدِّ وتخفيفه ، وكلا الأمرين حكم بغير ما أنزل الله تعالى ، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن أسامة بن زيد ([(3)]) كلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة المخزومية التي سرقت ، فقال :(( إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا يقيمون الحد على الوضيع ويتركون الشريف ، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة فعلت ذلك لقطعتُ يدها )). ([(4)])
__________
(1) / سورة النور ، الآية : 2 .
(2) / أوردهما الرازي رحمه الله في التفسير الكبير : 23/130 .
(3) / أسامة بن زيد بن حارثة ، الأمير الكبير ، حِب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاه وابن مولاه ، استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على جيش لغزو الشام وله من العمر ثمان عشرة سنة وفي الجيش عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والكبار ، فلم يَسِر حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبادر الصديق ببعثهم . مات بالمدينة آخر خلافة معاوية . انظر السير : 2/496.
(4) / صحيح البخاري ، كتاب الحدود ، باب إقامة الحد على الشريف والوضيع ، برقم : 6787 ، وفي باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رُفع إلى السلطان ، برقم : 6788. وصحيح مسلم ، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود ، برقم : 1688.(1/45)
وحتى لا تتعطل هذه الحدود هيَّج الله المؤمنين ، وألهب غضبهم فقال: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ô ِ } ([(1)]) ، وهذا كقولك لمن ترجو منه فعل أمر : إن كنت صادقاً فافعل كذا . فَدِيْن الله وهو حكمه يجب على كل إنسان أن يذعن له ، فلسنا أرحم بالزناة من خالقهم ، فهو أرحم بعباده من أمهاتهم سبحانه وتعالى ، وهو العليم بما يصلح سلوكهم ، ويحسن أخلاقهم ، ويُقوِّم طباعهم .
وإذا كان الجلد إيلاماً بدنياً فقد أمر الله تعالى بما يحقق الإيلام النفسي للمجلود ، وهو أمره سبحانه وتعالى المؤمنين بشهود هذا الحد: { ‰pkôuٹّ9ur عَذَابَهُمَا ×pxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . والحكمة من ذلك : الإغلاظ على الزُّناة ، والتوبيخ بحضرة الناس ، وأن ذلك يدع المحدود ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله ، ويشيع حديثه فيكون عبرة لمن بعده ([(2)]).
وقيل : الحضور من أجل الدعاء لهما بالرحمة . وماذا علينا لو أغلظنا لهم في القول ظاهراً ، ودعونا لهم بالهداية والرحمة باطناً ؟
ولم أجد كلاماً في تحديد عدد الطائفة أفضل من كلام ابن العربي رحمه الله :"والصحيح سقوط العدد ، واعتبار الجماعة الذين يقع بهم التشديد من غير حدٍّ ". ([(3)])
هذا ما يتعلق بالجلد .
وأما الرَّجم فهو ثابت للزاني المحصن ، وهو في لغة العرب: الرمي بالحجارة ([(4)]). والرِّجام : الحجارة الضِّخام ([(5)]) . وللرَّجم إطلاقات أخرى منها: الظَّنُّ ، والشتم . ([(6)])
__________
(1) / سورة النور ، الآية : 2.
(2) / الجامع لأحكام القرآن : 12/167.
(3) / أحكام القرآن : 3/336.
(4) / لسان العرب ، مادة (رجم) : 12/227.
(5) / الفائق للزمخشري ، دار المعرفة بلبنان ، الطبعة الثانية ، تحقيق : علي محمد البجاوي ، وأبو الفضل إبراهيم : 2/74
(6) / التعاريف لمحمد عبد الرؤوف المناوي ، دار الفكر المعاصر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1410هـ ، تحقيق د. محمد رضوان الداية : 1/360(1/46)
وفي الاصطلاح : قذف الزاني المحصن بالحجارة حتى الموت . ([(1)])
والرَّجم للزاني المحصن ثابت بالقرآن والسنة والإجماع .
أما القرآن فقد دلت عليه أربع آيات:
الآية الأولى نُسخ رسمُها وبقي حكمُها ([(2)])، وهي التي أشار إليها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بقوله : " إن الله بعث محمداً بالحق وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آيةَ الرَّجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، ووعيناها ، رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرَّجم في كتاب الله ، فيَضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرَّجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أُحصن من الرجال والنساء ". ([(3)])
فهذا نص صريح من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يدل على أن آية الرَّجم نُسخ لفظها دون حكمها .
__________
(1) / القوانين الفقهية ، لأبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي ، مطبعة النهضة الأميرية التونسية ، 1344هـ ، ص : 232.
(2) / هذا ضرب من أضرب النسخ معروف ، قال السيوطي رحمه الله :" الضرب الثالث : ما نسخ تلاوته دون حكمه ، وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً ، وهو : ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم ؟ وهلا بقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها ؟ وأجاب صاحب الفنون: بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به ، فيسرعون بأيسر شيء ، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام ، والمنام أدنى طرق الوحي ، وأمثلة هذا الضرب كثيرة ". الإتقان في علوم القرآن ، دار الفكر بلبنان ، الطبعة الأولى ، 1426هـ، تحقيق سعيد المندوب : 2/66 .
(3) / أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزِّنا إذا أحصنت ، برقم : 6830، ومسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1691(1/47)
وقال بعض العلماء :"إن نسخ الحبس في البيوت والإيذاء كان بهذه الآية ثم ارتفع لفظها وبقي حكمها" ([(1)]) .
الآية الثانية : قوله سبحانه : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ ِNà6ح !$|،خpS فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) } ([(2)])
فقد بيَّن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا السبيل في حديث عبادة - رضي الله عنه - مرفوعاً :(( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً ؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرَّجم )). ([(3)]) فكانت الآية بذلك من أدلة القرآن على الرَّجم .
__________
(1) / المحرر الوجيز : 4/161.
(2) / سورة النساء ، الآية : 15
(3) / أخرجه مسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1690.(1/48)
الآية الثالثة : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) } ([(1)]) ، فإنها نزلت - كما قال ابن عباس ([(2)]) رضي الله عنهما - في يهودي ويهودية من خيبر ، حُكم عليهما بالرَّجم فأعرضوا عن ذلك ، وقالوا : "جرت علينا يا محمد ". فدعا بالتوراة ووجد الرَّجم فيها فرُجما . ([(3)])
فذمُّ الله تعالى في القرآن الكريم من تولى عن تطبيق الرَّجم دليل على وجوبه.
__________
(1) / سورة آل عمران، الآيتان : 23- 24 .
(2) / أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، الحبر والبحر في التفسير، كان ترجمان القرآن، قرأ عليه مجاهد وسعيد بن جبير والأعرج وعكرمة . توفي في الطائف سنة ثمان وستين ، وصلى عليه محمد بن الحنفية ، كُفَّ بصره في أواخر عمره . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/3 .
(3) / العجاب في بيان الأسباب : 2/674.(1/49)
الآية الرابعة : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) } ([(1)]).
فقد أورد الطبري رحمه الله في سبب نزولها : أن يهودياً زنى، فأراد يهود أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أمرهم برجمهما تركوا حكمه ، وإن قضى بغيره ائتمروا بأمره([(2)]).
فإذا تبين من هاتين الآيتين ذمُّ الله لليهود لما تركوا حدَّ الرَّجم ؛ دلَّ ذلك على وجوب إقامته .
وأما الأدلة من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكثيرة ، منها :
__________
(1) / سورة المائدة ، الآية :41 .
(2) / انظر جامع البيان : 6/232(1/50)
ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ([(1)]) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رجل فقال : أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله . فقام خصمه وكان أفقه منه فقال : اقض بيننا بكتاب الله واذن لي . قال : ((قل)) . قال : إن ابني كان عسيفاً ([(2)]) على هذا ، فزنى بامرأته ، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، ثم سألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وعلى امرأته الرَّجم . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جلَّ ذكره ، المائة شاة والخادم ردٌّ ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس ([(3)]) على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها))، فغدا عليها فاعترفت فرجمها ".
وورد في الصحيحين ([(4)]) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :" أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسجد فناداه فقال : يا رسول الله إني زنيت . فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( أبك جنون)) ؟ قال : لا . قال : ((فهل أُحصنت)) ؟ قال: نعم . قال : ((اذهبوا به فارجموه)) .
__________
(1) / البخاري في كتاب الحدود ، باب الاعتراف بالزِّنا ، برقم : 6827 ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا برقم : 1698
(2) / أجيراً . انظر اللسان ، مادة (عسف) : 9/246 .
(3) / لا يُعلم من هو ، وليس له إلا هذه الرواية . انظر فتح الباري : 12/140
(4) / أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب لا يُرجم المجنون والمجنونة ، برقم 6815 ، وفي باب الرَّجم بالمصلى ، برقم : 6820 ، وفي كتاب الطلاق ، باب الطلاق في الإغلاق والكره ، برقم : 5271 ، ومسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1691.(1/51)
وعن عبدالله بن بريدة ([(1)]) عن أبيه : " أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني . فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال : يا رسول الله إني قد زنيت . فرده الثانية ، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه فقال ((أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئًا))؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى . فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه : أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرُجم . فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني،وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً. فوالله إني لحبلى. قال ((إما لا ([(2)])، فاذهبي حتى تلدي))،فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدته. قال ((اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)). فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز. فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام. فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين. ثم أمر بها فحُفر لها إلى صدرها. وأمر الناس فرجموها. فأقبل خالد بن الوليد ([(3)]) بحجر فرمى رأسها، فتنضح الدم على وجه خالد، فسبها.
__________
(1) / عبد الله بن بريدة بن الحصيب ، الحافظ الإمام شيخ مرو وقاضيها أبو سهل الأسلمي المروزي ، أخو سليمان بن بريدة ، وكانا توأمين ولدا سنة خمس عشرة ، حدث عن أبيه فأكثر . انظر : سير الأعلام : 5/50
(2) / أي : إذا لم تستري على نفسك فاذهبي حتى تلدي .
(3) / خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي ، سيف الله وسيد المشاهد وفارس الإسلام ، أبو سليمان ، ابن أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين ، من كبار الصحابة،كان إسلامه بين الحديبية والفتح ، وكان أميراً على قتال أهل الردة وغيرها من الفتوح إلى أن مات سنة إحدى وعشرين. انظر السير : 1/366.(1/52)
فسمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها. فقال ((مهلا يا خالد ،فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْس([(1)]) لغُفر له )).
ثم أمر بها فصلَّى عليها ودُفنت".([(2)])
وفيه أن المرجوم يُصلى عليه .
ورجم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - امرأة فقال : " رجمتُها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".([(3)])
__________
(1) / المَكْس بفتح الميم وسكون الكاف : الجباية . انظر اللسان ، مادة (مكس) : 6/220 .
(2) / أخرجه مسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1695.
(3) / أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب الرَّجم ، برقم : 6812(1/53)
وعن أبي أمامة بن سهل بن حُنَيف - رضي الله عنه - ([(1)]) : أن عثمان بن عفان ([(2)]) أشرف يوم الدار ([(3)]) فقال : "أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :(( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنىً بعد إحصان ، أو ارتداد بعد إسلام ، أو قتل نفس بغير حق فيُقتل به )). فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام ، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا قتلت النفس التي حرم الله . فبِمَ تقتلونني" ؟!. ([(4)])
والإحصان لا يتحقق إلا بشروط ([(5)]) :
الأول : أن يكون الوطء في القُبُل ، ولا خلاف في هذا الشرط. وأجمع العلماء على أن من لم يطأ بعد عقد النكاح فليس بمحصن . ([(6)])
__________
(1) / أسعد بن سهل بن حُنيف الأنصاري أبو أمامة ، معروف بكنيته ، ومعدود في الصحابة ، له رؤية ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مات سنة مائة وله اثنتان وتسعون سنة . انظر التقريب : 1/104 .
(2) / عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي الأموي ، خير الأمة بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وُلد في السنة الثالثة من الفيل ، هاجر الهجرتين ، وتزوج ببنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمع هذا لأحد سواه ولذا سُمي بذي النورين ، كان ليناً رحيماً رقيقاً ، استُشهد سنة خمس وثلاثين .انظر تاريخ الخلفاء ، ص : 175.
(3) / يوم محاصرة الخوارج له في داره .
(4) / سنن أبي داود ، كتاب الحدود ، باب الحكم فيمن ارتدَّ ، برقم : 4351. وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن ، باب ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، برقم : 2158، واللفظ له .
(5) / انظر لهذه الشروط : المغني لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى، 1405هـ: 9/41 .
(6) / انظر الإجماع لابن المنذر ، ص : 131 .(1/54)
الثاني : أن يكون الوطء في نكاح ، فلو زنا البكر مرتين لم يكن بالأول محصناً ، ومن تسرى بجارية فليس بمحصن . والنكاح إحصان لقول الله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } ([(1)]) .
الثالث : أن يكون النكاح صحيحاً ، فنكاح الشبهة ليس إحصاناً ؛ لأنه في غير ملك . وهو قول الإمامين مالك والشافعي ([(2)]) رحمهما الله .
الرابع : الحرية .
الخامس : البلوغ .
السادس : العقل .
السابع : وجود الكمال فيهما ، أي : يطأ العاقل الحرُّ العاقلة الحرة.
وقال الإمام مالك رحمه الله : إذا وُجد الكمال في واحد أُحصن إلا الصبي إذا وطئ الكبيرة لم يُحصِنْها .
ولا يُشترط لإقامة الحد علمه به إذا كان عالماً بتحريم الزِّنا ؛ فإن ماعزاً - رضي الله عنه - لم يكن بالحد عالماً ، فقد قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما :" إنا لما خرجنا به ([(3)]) فرجمناه فوجد مسَّ الحجارة صرخ بنا : يا قوم ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن قومي قتلوني وغرُّوني من نفسي ، وأخبروني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير قاتلي".([(4)])
ودلت السنة على أن الإسلام ليس بشرط في الرَّجم ، كما في حديث اليهوديين آنف الذكر .
__________
(1) / سورة النساء ، الآية : 24
(2) / محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب القرشي ، وُلد بغزة ، ونشأ بمكة ، وتوفي بمصر ، حفظ الموطأ وهو ابن عشر ، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة ، ولي الحكم بنجران من أرض اليمن ، اشتهر بجانب سعة العلم بالورع والفصاحة ، من مصنفاته : الرسالة في الأصول ، والأم ، وأحكام القرآن ، قال فيه أبو ثور : "ما رأينا مثله ، ولم ير هو مثل نفسه ". ومناقبه أكثر من أنْ تُحصر هنا ، توفي في شهر رجب سنة أربع ومائتين . انظر البداية والنهاية : 10/251 . ...
(3) / أي : بماعز .
(4) / سنن أبي داود ، كتاب الرَّجم ، باب رجم ماعز بن مالك ، برقم : 4420 .(1/55)
والأدلة في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثبوت الرَّجم أكثر من أن تُحصر.
وأما الإجماع فقد أجمعوا على أنَّ من كان محصناً وزنى أديم عليه الرَّجم إلى الموت كما قال صاحب الإجماع([(1)]) وحكاه النووي رحمه الله ([(2)])في شرح مسلم ([(3)])، وابن قدامة رحمه الله ([(4)]) بقوله :" والرجم على الزاني المحصن رجلاً كان أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جمع الأعصار ، ولا نعلم فيه مخالفاً إلا الخوارج ". ([(5)]) ، ويكفينا في الخوارج ما قاله فيهم القرطبي رحمه الله : " ولا يعتدُّ بخلافهم ؛ لأنهم مرقوا من الدين وخرجوا منه ، ولأنهم مخالفون للسنة الثابتة".([(6)])
__________
(1) / انظر الإجماع لابن المنذر ، ص : 131 .
(2) / يحيى بن شرف بن حسن بن حسين الحازمي ، محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي ، العلامة شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه ، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة ، كان يقرأ في كل يوم اثني عشر درساً ، اعتنى بالتصنيف فجمع شيئاً كثيراً منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله كالمجموع وصل فيه إلى كتاب الربا، كان من الزهد والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير لا يُقدر عليه ، تُوفي في السابع من محرم سنة ست وسبعين وستمائة . انظر البداية والنهاية : 13/278 .
(3) / انظر شرح صحيح مسلم للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، مؤسسة مناهل العرفان : 11/189
(4) / الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي ، وُلد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة في شعبان ، ولزم الاشتغال من صغره ، كان من بحور العلم وأذكياء العالم، وكان ممن يُهابون ويُنتفع برؤيتهم قبل سماعهم ، تُوفي سنة عشرين وستمائة .انظر سير أعلام النبلاء : 22/165 .
(5) / المغني : 9/39 .
(6) / الجامع لأحكام القرآن : 5/125(1/56)
واحتجوا لمذهبهم بما يلي :
الأول : قوله تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } ([(1)]) فلو وجب الرَّجم على المحصن لوجب تنصيفه على الرَّقيق .
الثاني : لم يرد في القرآن الكريم ، وأورد الله في القرآن كثيراً مما يتعلق بالزِّنا ، فلو كان الرَّجم واجباً لذُكر .
ثالثاً : لو قلنا بالرَّجم للزم منه تخصيص القرآن بخبر الواحد .
والرد عليهم كما يلي :
أما استدلالهم بآية النساء فنعم الدليل وبئس الاستدلال ، فالأمة يُنصف لها الجلد، وأما الرَّجم فلا تنصيف فيه ولا رجم عليها ؛ لأن تنفيذ العقوبة كاملة عليها يفتقر إلى دليل ، فحد الأمة والعبد خمسون جلدة بكرَيْن كانا أو ثيبين،وهو إجماع ([(2)]) . ودليلهم في الأمة البكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب )) ([(3)])
وأما قولهم : لم يرد في القرآن . فهذا مما يُقال فيه : " كلام يغني سَردُه عن رَدِّه " وقد فُصِّلت أدلة الرَّجم في القرآن والسنة قبل قليل .
وأما قولهم : يلزم من إثبات الرَّجم تخصيص القرآن بخبر الواحد فالجواب: "بل بالخبر المتواتر لما بيَّنا أن الرَّجم منقول بالتواتر ، وأيضاً فقد بيَّنا في أصول الفقه أن تخصيص القرآن بخبر الواحد جائز " ([(4)]) . وقد علمت أيضاً أنه ثبت بالقرآن الكريم .
__________
(1) / سورة النساء ، الآية : 25 .
(2) / انظر المغني : 9/42 ، حيث نصَّ على أن قول أبي ثور في هذه المسألة مخالف للإجماع قبله.
(3) / سبق تخريجه ص : 31 .
(4) / التفسير الكبير : 23/118.(1/57)
وكل هذا لا يرد على من يقول بالجمع بين الجلد والرَّجم للمحصن ، وهو مذهب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فقد جلد زانيةً يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ثم قال: " جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ([(1)]). وقال غيره بوجوب الرَّجم فقط " رُوي ذلك عن عمر - رضي الله عنه - ، وبه قال النخعي ([(2)])، والزهري ([(3)])، والأوزاعي ([(4)
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب الرَّجم ، برقم : 6812 .
(2) / الإمام الحافظ فقيه العراق أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني ثم الكوفي ، أحد لأعلام ،كان بصيراً بعلم ابن مسعود واسع الرواية فقيه كبير الشأن كثير المحاسن ، قال سعيد بن جبير : أتستفتوني وفيكم إبراهيم ؟! توفي وله تسع وأربعون سنة ، عام ستة وتسعين . انظر السير : 4/ 520 .
(3) / محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ، الإمام العلم حافظ زمانه أبو بكر القرشي الزهري المدني نزيل الشام ، وُلد سنة خمسين أو إحدى وخمسين ، قال الليث بن سعد : ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب ، يحدث في الترغيب فتقول : لا يحسن إلا هذا ، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت : لا يحسن إلا هذا ، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه . مات لسبع عشرة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة . انظر السير : 5/326 .
(4) / عبد الرحمن بن عمرو ، شيخ الإسلام وعالم أهل الشام أبو عمرو الأوزاعي ، كان يسكن بمحلة الأوزاع وهي العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق ، ثم تحول إلى بيروت مرابطاً بها إلى أن مات وقيل : كان مولده ببعلبك ، كان خيِّراً فاضلاً مأموناً كثير العلم والحديث والفقه ، حجة، توفي سنة سبع وخمسين . انظر السير : 7/107 ..(1/58)
]) ، والثوري ([(1)])، وأبو حنيفة ، ومالك ، ورُوي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء"([(2)]).
ومما يُرجِّح هذا القولَ الأخير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزاً ولم يجلده ، وحادثة ماعز متأخرة عن حديث عبادة الذي فيه الجمع بين الجلد والرَّجم ؛ لأنه قال فيه :((قد جعل الله لهن سبيلاً)) إشارة إلى آية النساء ، أي : كان ذلك في بداية تشريع الرَّجم . ورجم النبي - صلى الله عليه وسلم - الغامدية ولم يجلدها ، وحديث العسيف لم يُذكر الجلد فيه كذلك ، وقد قال فيه: ((فإن اعترفت فارجمها)) وقد أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي بينهم بكتاب الله وقضى عليها بالرَّجم فقط ، فهو مما يدل على نسخ الجمع بين الجلد والرَّجم .
ثم إن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في تنفيذ عقوبة غير لازمة ، وخلاف العلماء في هذه المسألة شبهة تَدرأ الحدَّ ، والله تعالى أعلم .
لكن لو جُلد الزاني على أنه غير محصن ثم بان محصناً رُجم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد زانياً ، ثم علم أنه محصن فرجمه . ([(3)])
وقد دلت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن المرأة إذا كانت حاملاً فإنها لا تُرجم إلا بعد وضع الحمل ، كما في حديث الغامدية . ومعلوم أن للحاكم سلطاناً عليها، ولكن ليس له من سلطان على جنينها ، لذا " أجمعوا على أن المرأة إذا اعترفت بالزِّنا وهي حامل أنها لا تُرجم حتى تضع حملها ". ([(4)])
__________
(1) / سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري ، شيخ الإسلام وإمام الحفاظ وسيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع ، ولد سنة سبع وتسعين اتفاقاً ، وطلب العلم وهو حَدَث ، مات في شعبان سنة إحدى وستين . انظر السير 7/229 .
(2) / زاد المسير : 6/7
(3) / انظر سنن أبي داود ، كتاب الحدود ، باب رجم ماعز بن مالك ، برقم : 4439 .
(4) / الإجماع ، ص : 131 .(1/59)
فاتضح مما سبق أن آية النور مخصصة مرتين : في الزاني المحصن ، وفي الإماء ؛ فإنَّ الحدَّ يُنصف في حقهنَّ .
وبعد أن بان لك - أخي المسلم - حكم الله في الزاني المحصن فلا تصغ إلى من يحاول إنكار هذا الحدَّ رافعاً شعار (حقوق الإنسان) لِلَّهِ إن الذين يرفعون هذا الشعار يريدون الكيد بنا ، وهم أبعد الناس عن حقوق الإنسان ، وأجهلهم بأخلاق الإسلام ، فديننا لم يراع حقوق الإنسان فحسب ، بل علمنا كيف نتقي الله في البهائم والحيوانات، حسبهم قول سيدنا وسيدهم - صلى الله عليه وسلم - : (( دخلت امرأة النار في هرة ، لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )) ([(1)]).
فهذا تشريع العليم الخبير الذي هو أعلم بنا من أنفسنا ، قال تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } ([(2)]) ، وقال : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } . ([(3)]) . وأي شيء أكرم للإنسان من أن يُحكَّم فيه القرآن الكريم، وسنة النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - ؟!
المبحث الرابع
بيَّن الله تعالى حكم نكاح الزاني والزانية في قوله : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) } ([(4)])
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب المساقاة ، باب فضل سقي الماء ، برقم : 2365 ، وفي كتاب بدء الخلق ، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم ، برقم : 3318 . ومسلم في كتاب السلام ، باب تحريم قتل الهرة ، برقم : 2242.
(2) / سورة الملك ، الآية :14.
(3) / سورة البقرة ، الآية : 140 .
(4) / سورة النور ، الآية :3.(1/60)
وسبب نزول هذه الآية الكريمة ما أخرجه أبو داود ([(1)]) والترمذي ([(2)]) رحمهما الله تعالى : أنَّ مرثد بن أبي مرثد - رضي الله عنه - ([(3)]) كان يحمل الأسرى بمكة ، وكان بمكة بغي يُقال لها عناق ، وكانت صديقتَه ، فقال : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ قال : فسكت عني، فنزلت : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ ... } فدعاني فقرأها علي وقال: ((لا تنكحها)) ([(4)])
__________
(1) / الإمام سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير أبو داود السجستاني صاحب السنن ، وُلد سنة اثنتين ومائتين ، أحد أئمة الحديث الرحَّالين إلى الآفاق في طلبه، جمع وصنَّف وخرج وألَّف ، قال إبراهيم الحربي وغيره :" ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود[عليه السلام] الحديد". تُوفي سنة خمس وسبعين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة ودفن إلى جانب قبر سفيان الثوري . انظر البداية والنهاية : 11/54.
(2) / الإمام محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ، يقال إنه ولد أكمه ، وقيل عمي بعدما كبر ، أحد أئمة الحديث ، له المصنفات المشهورة منها الجامع والشمائل وأسماء الصحابة وغير ذلك ، وكتاب الجامع أحد الكتب الستة التي يرجع إليها العلماء في سائر الآفاق ، توفي سنة تسع وسبعين ومائتين . انظر البداية والنهاية : 11/66 .
(3) / مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، شهد بدراً ، وقتل يوم الرَّجيع في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع . انظر التقريب:10/74 .
(4) / أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب في قول الله تعالى : { الزاني لا ينكح ... } ، برقم : 2051 . والترمذي في كتاب التفسير ، باب ومن سورة النور ، برقم : 3177 . والنسائي في كتاب النكاح ، باب تزويج الزانية ، برقم:3228 .(1/61)
وأخرج ابن أبي حاتم ([(1)]) عن مقاتل رحمهما الله: " لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم ، والمدينة غالية السعر شديدة الجهد، وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب ، وأما الأنصار منهنَّ أمية وليدة عبد الله بن أبي ، ومسيكة بنت أمية لرجل من الأنصار في بغايا من ولائد الأنصار ، قد رفعت كل امرأة منهن علامة على بابها ليُعرف أنها زانية ، وكنَّ من أخصب أهل المدينة وأكثره خيراً ؛ فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكسبن ؛ للذي هم فيه من الجهد ، فأشار بعضهم على بعض : لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول طعامهن . فقال بعضهم : نستأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتوه، فقالوا : يا رسول الله : قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل ، وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن ، فيصلح أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن ، وإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن ؟ فأنزل الله { الزَّانِي لَا كxإ3Ztƒ... } فحرم الله على المؤمنين أن يتزوجوا الزواني المسافحات العالنات زناهن" ([(2)])
فهذان السببان لنزول الآية يدلان على تحريم نكاح الزانية من العفيف ، والزاني من العفيفة ، وسبب النزول - كما هو معلوم - قطعي الدخول في الآية .
__________
(1) / عبد الرحمن بن أبي حاتم التميمي ، الإمام وابن الإمام ، أخذ علم أبيه وأبي زرعة ، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال ، صنَّف في الفقه واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار ، وكان عابداً زاهداً ، توفي في شهر المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي:1/65 .
(2) / الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : 8/2522-2523(1/62)
وفي الآية أقوال أخرى ؛ فقد قيل : النكاح فيها بمعنى الوطء ([(1)]) ، واستُدل له بعموم بعض الآيات ، كقول الله تعالى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ِNà6ح !$tBخ)ur إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) } ([(2)])
والجواب : أن هذه الآية عامة مخصصة بآية النور ، ولا تعارض بينهما بحمد الله .
وجزم الزجاج رحمه الله ([(3)]) بإنكار هذا القول([(4)]) ، بعلة أن النكاح في القرآن لم يرد إلا بمعنى التزويج لِلَّهِ ويكفي لرد هذا القول قول الله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) } ([(5)])
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن : 12/168-169.
(2) / سورة النور ، الآية : 32 .
(3) / إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج ، كان من أهل الفضل والدين وجميل المذهب والاعتقاد ، ومن تصانيفه : معاني القرآن في التفسير ، وخلق الإنسان ، وتفسير جامع المنطق ، وكانت وفاته سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في جمادى الآخرة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/52.
(4) / انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : 4/162
(5) / سورة البقرة ، الآية : 230 .(1/63)
فالنكاح فيها بمعنى الوطء كما جاء ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد جاءت إليه امرأة رفاعة القرظي ([(1)]) فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فأبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن ابن الزَّبِير ([(2)])، إنما معه مثل هُدْبة ([(3)]) الثوب، فقال: (( أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)) ([(4)]) .
يريد : الجماع . وأنكره ابن القيم رحمه الله ([(5)]) فقال : " هذا كلام ينبغي
__________
(1) / لم أجد له ترجمه إلا قول ابن أبي حاتم رحمه الله :" رفاعة القرظي وهو ابن سموءل ويقال : ابن سموأل ، وهو الذي ذُكر في حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته فتزوجها عبد الرحمن بن الزَّبير ، سمعت أبى يقول ذلك". الجرح والتعديل : 3/492 .
(2) / عبد الرحمن بن الزَّبير بن باطا المدني ، من صغار الصحابة . انظر التقريب : 1/340 .
(3) / يُقال : هُدبة وهَدبة : طرف الثوب . انظر النهاية ، للإمام مجد الدين المبارك بن محمد الجزري ، دار الفكر بلبنان ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي ، مادة (هدب) : 5/248 .
(4) / أخرجه البخاري في كتاب الشهادات ، باب شهادة المختبي ، برقم : 2638 . ومسلم في كتاب النكاح ، باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره ويطأها ثم يفارقَها وتنقضيَ عدتها، برقم : 1433.
(5) / محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الدمشقي ، العالم الفاضل المحقق شمس الدين ، وُلد سنة إحدى وتسعين وستمائة ، وصنف التبيان في أقسام القرآن وكثيراً من المؤلفات في متنوع المعارف والعلوم مما يدل على سعة علمه ، تُوفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/284 .(1/64)
أن يُصان عنه كتاب الله "([(1)]) لِلَّهِ وتعقيه في أضواء البيان بأنْ لو كان الأمر كذلك لصانه عنه ابن عباس رضي الله عنهما الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:((اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل)) ([(2)]) .
وقيل : كان تحريم هذا النكاح في أول الأمر ، ثم نُسخ بآية النور: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } ([(3)]). ولكن النسخ لا يمكن المصير إليه بلا دليل.
وقيل نزلت في أقوام معينين ([(4)]) ، ومن المقرر عند علمائنا رحمهم الله : أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ([(5)]) وهذا إجماع . ([(6)])
__________
(1) / انظر زاد المعاد في هدي خير العباد ، لابن قيم الجوزية ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى ، 1417هـ - 1996م ، حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط : 5/104.
(2) / أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة ، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما ، برقم : 3756. ومسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل عبد الله بن عباس ، برقم : 2477 .
(3) / انظر له جامع بيانِ الطبري : 18/74
(4) / حكاه ابن العربي في أحكام القرآن : 3/336
(5) / انظر لها الإتقان للسيوطي : 1/89 ، والبرهان في علوم القرآن ، للشيخ محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي ، دار المعرفة ببيروت ، 1391هـ ، تحقيق : محمد أبو الفضل : 1/32 ، وشرح النووي على صحيح الإمام مسلم : 13/229.
(6) / راجع : إرشاد الفحول ، للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1412هـ ، تحقيق محمد سعيد البدري : 1/230.(1/65)
والصحيح - والله أعلم - القول الأول . ولا يُشكل عليه ذكر الله تعالى للمشرك والمشركة ، قال ابن القيم رحمه الله : " وأما نكاح الزانية فقد صرح الله سبحانه بتحريمه في سورة النور ، وأخبر أن من نكحها فهو إما زانٍ أو مشرك؛ فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه ، أو لا . فإن لم يلتزمه ولم يعتقده فهو مشرك ، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زانٍ . ثم صرح بتحريمه فقال : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ".([(1)])
ويكفي لتأييد هذا القول قولُه تعالى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) } ([(2)])
فقد فُسر الإحصان فيها بالعفاف في بعض الأقوال .
__________
(1) / زاد المعاد: 5/104 .
(2) / سورة المائدة ، الآية : 5.(1/66)
قال ابن كثير رحمه الله ([(1)]) : " أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات . وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، فقيل : أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء ، حكاه ابن جرير عن مجاهد ، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ماحكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قال في الرواية الأخرى عنه . وهو قول الجمهور ها هنا ، وهو الأشبه ؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل : (حشفاً وسوء كِيلة) . والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزِّنا كما قال تعالى في الآية الأخرى: { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ([(2)]) ...فكما شرط الإحصان في النساء وهي العفة عن الزِّنا كذلك شرطها في الرجال ، وهو أن يكون الرجل أيضا محصناً عفيفاً ، ولهذا قال: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } ([(3)])، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم . { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن كما تقدم في سورة النساء.
__________
(1) / إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي ، الفقيه الشافعي الحافظ عماد الدين أبو الفداء ، إمام محدث مفت بارع ، أخذ العلوم من الحسين العراقي والحجار والقاسم بن عساكر، ولازم الحافظ المزي وتزوج بنته ، وسمع من الشيخ تقي الدين ، توفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي :1/260 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 25 .
(3) / سورة المائدة ، الآية : 5 .(1/67)
ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، ومادامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزِّنا لهذه الآية".([(1)])
والآية الثانية التي أشار إليها ابن كثير رحمه الله هي قول الله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) } ([(2)])
ومما يرجح هذا القول : أنه منسوب إلى الشيخين : أبي بكر ، وعمر([(3)]) ، وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيهما: ((اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )) ([(4)])
__________
(1) / تفسير القرآن العظيم : 2/30-31 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 25
(3) / راجع مفاتيح الغيب : 23/132.
(4) / الترمذي في كتاب المناقب ، باب في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما ، برقم : 3662 ، و 3663.(1/68)
ومما يؤيد هذا القول " أن للزنا تأثيراً في الفرقة ما ليس لغيره ، ألا ترى أنه([(1)]) إذا قذفها بالزِّنا يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه ، ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد "([(2)]). فإن قيل : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : إن امرأتي لا ترد يد لامس ؟ فقال له : (( طلقها )) . فقال : إني لا أصبر عنها ؟ قال : (( فأمسكها )) ([(3)]) ؟ فالصحيح أن المرأة لم تكن بغياً ، وإنما كانت كريمةً لا ترد يد سائل ، فأغضب ذلك زوجَها ، فشكاها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ،" وبهذا قال أحمد ، والأصمعي ([(4)])، ومحمد بن ناصر الدين ([(5)]) ونقله عن علماء الإسلام ، وابن الجوزي وأنكر على من ذهب إلى القول الأول "([(6)]).
__________
(1) / أي : الزوج .
(2) / مفاتيح الغيب : 23/132
(3) / أخرجه أبو داود في كتاب النكاح ، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء ، برقم : 2049. والنسائي في كتاب الطلاق ، باب ما جاء في الخُلْع ، برقم : 3465 .
(4) / عبد الملك بن قريب أبو سعيد الأصمعي البصري ، سمع من شعبة ، مات سنة ست عشرة ومائتين. انظر التاريخ الكبير : 5 /428 .
(5) / الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي ، المتوفى سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة ، له شرح الإلمام في أحاديث الأحكام وبرد الأكباد عند فقد الأولاد وجامع الآثار في مولد المختار . انظر كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ، لحاجي خليفة ، دار الكتب العلمية ببيروت ، 1413هـ: 1/238 .
(6) /عون المعبود شرح سنن أبي داود ، للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1410هـ : 6/32-33 .(1/69)
وهذا مقتضى إحسان الظن بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ لا يمكن أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمساك بغي عنده ، وهو الذي نهى مرثداً عن نكاح الزانية ، وهو الذي قال : ((تُنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) ([(1)])، ولو أراد الرجل بيان فجورها لصار قاذفاً لها ، ولأُرشد إلى الملاعنة ([(2)]). والله أعلم .
ولو اعتُبر أن التفسير الصحيح هو التفسير الآخر ، وأن المرأة زانية لا ترد يد من أرادها ؛ فيمكن القول بأن حدوث الزِّنا بعد العقد لا يفسخه ، والكلام في ابتداء العقد ، وليس في دوامه ، والاستدامة أقوى من الابتداء .
ثم كيف يرضى المؤمن لنفسه أن يتزوج من زانية ؟ وكيف يأمن على فراشه معها حال غيابه وحضوره ؟!
وهذا الكلام لا ينجرُّ على من تاب ؛ فقد قال حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - : (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )) . ([(3)])
وبذا نتعرف على خطأ كثير من الناس الذين يقومون بتزويج الفتاة والشاب إذا أُدينا بهذه الجريمة .
وفي هذه الآية الكريمة - : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) } - قدَّم الله تعالى ذكر الزاني؛ لأنها " مسوقة لذكر النكاح ، والرجل أصل فيه ، فهو الراغب والطالب"([(4)]) .
المبحث الخامس
تثبت جريمة الزِّنا بأمور أجمع العلماء على بعضها ووقع الخُلْف في اثنين منها .
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب النكاح ، باب تزويج المعسر ، برقم : 5090 . وصحيح مسلم ، كتاب الرضاع ، باب استحباب نكاح ذات الدين ، برقم : 1466.
(2) / راجع عون المعبود : 6/33 .
(3) / سنن ابن ماجه ، كتاب الزهد ، باب ذكر التوبة ، برقم : 4250.
(4) / مفاتيح الغيب : 23/132(1/70)
فأجمعوا على أن الزِّنا يثبت بالشهادة أو الإقرار([(1)]) ، واختلفوا في ثبوته بالقرائن. وهي : الحمل ، والملاعنة .
أما الشهادة فلابد أن تتوفر فيها ستة شروط :
الشرط الأول : أن يكون الشهود أربعةً ، فقد قال الله تعالى :
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) َ } ([(2)]). وقال : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ ِNà6ح !$|،خpS فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) } ([(3)]). وقال تعالى : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ اتجبَ } ([(4)]).
فبينت هذه الآيات أن شهادة الزِّنا لابد أن تكون من أربعة ، وهذا إجماع من أهل العلم حكاه ابن العربي المالكي ([(5)]) ، وابن قدامه الحنبلي ([(6)])
__________
(1) / انظر شرح النووي على صحيح الإمام مسلم : 11/192 .
(2) / سورة النور ، الآية : 4.
(3) / سورة النساء ، الآية : 15 .
(4) / سورة النور ، الآية : 13.
(5) / أحكام القرآن : 1/459.
(6) / المغني : 12/362 .(1/71)
فإذا نقص العدد فهي شهادة لم يكتمل نصابها ، وأصحابها كاذبون : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ َ } ، ويجب أن يُقام عليهم حدُّ القذف، قال تعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) } ([(1)])، وهو إجماع .([(2)])
الشرط الثاني : أن يكونوا رجالاً ، وعلى هذا عامة الفقهاء ([(3)])، فلا مدخل لشهادة النساء في الحدود ، ويدل لذلك أربعةُ أمور :
الأول : إذا شهدت امرأة فلا بد من تعضيدها بأخرى ؛ لقول الله تعالى - مبيناً أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل -: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } ([(4)]) وإذا شهدت امرأة في الزِّنا كان الشهود خمسةً ، وهذا خلاف ظاهر القرآن الكريم .
الثاني : أن الشبهة حاصلة بشهادتهن ، والحدود تدرأ بالشبهات ، قال ابن المنذر رحمه الله : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تُدرأ بالشبهات" . ([(5)])
الثالث : " لأنه سبحانه ذكر أولاً { مِنْ ِNà6ح !$|،خpS } ، ثم قال: { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } فاقتضى ذلك أن يكون الشاهد غير المشهود عليه ، ولا خلاف في ذلك بين الأمة " . ([(6)])
الرابع : العدد (أربعة) يخالف المعدود تذكيراً وتأنيثاً ، فهو يدل هنا على أن المراد أربعة رجال .
__________
(1) / سورة النور ، الآية : 4.
(2) / راجع المغني : 12/367 .
(3) / السابق : 12/363 .
(4) / سورة البقرة ، الآية : 282.
(5) / الإجماع ، ص : 132.
(6) / أحكام القرآن لابن العربي : 1/460 .(1/72)
الشرط الثالث : الحرية ، ولا خلاف في اشتراطها .
الرابع : العدالة ، قال ابن العربي رحمه الله :" ولابد أن يكون الشهود عدولاً؛ لأن الله عز وجل شرط العدالة في البيوع والرجعة ، فهذا أعظم ، وهو بذلك أولى ، وهو من باب حمل المطلق على المقيد بالدليل حسبما بيناه في أصول الفقه ". ([(1)])
فإذا نُصَّ على ذكر هذا الشرط فلا داعي إلى اشتراط الإسلام - كما جمع بينهما بعض الفقهاء - لأن من دان بدين غيره فليس بعدل.
الشرط الخامس : أن يصفوا الزِّنا ، فلابد في الشهادة أن تكون مفصلة بأن يصف الشهود الكيفية التي تم بها الزِّنا ، فيقولون مثلاً : رأيناه مغيباً ذكره في فرجها كالمِيل ([(2)]) في المكحلة أو الرِّشاء في البئر ، ورأيناه فوقها أو تحتها ... وهكذا .
وذلك لأن التفصيل لما اعُتبر في الإقرار - كما سيأتي - كان اعتباره في الشهادة من باب أولى كما هو ظاهر . وهذا هو مقتضى العقل ؛ فإن بعض الشهود قد يظن ما ليس بزنى زنىً . ولابد أن يفصل في زمان وقوع الجريمة ، فإذا شهد اثنان على رجل بأنه زنى بامرأة صباحاً ، وشهد الآخران أنه زنى بها مساءً فلا حدَّ عليه لاحتمال أن تكون المرأة الأولى غير الثانية ، وكل شهادة من هذين لم يكتمل نصابها .
الشرط السادس : أن تكون شهادة الشهود أصلية ، فمن الشبهات التي تُدرأ الحدود بها أن يشهد شاهد على رجل بالزِّنا بشهادة اثنين .
وظاهر قول الله تعالى : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } فيه متمسك لمن لا يشترط اتحاد المجلس في الشهادة ، والله تعالى أعلم .
وتثبت هذه الجريمة بالإقرار إجماعاً كما سبق بيانه ، وقد مضت جملة من الأحاديث النبوية التي فيها بيان رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإقرار . ([(3)])
ولابد من توفر خمسة شروط في الإقرار :
__________
(1) / أحكام القرآن : 1/459 .
(2) / الذي يُكتحل به .
(3) / انظر ص : 37 .(1/73)
الشرط الأول : أن يكون من بالغ عاقل ؛ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( رُفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المبتلى حتى يبرأ ، وعن الصبي حتى يكبر )). ([(1)])
الشرط الثاني : أن لا يكون بإكراه ؛ لحديث أبي ذر الغفاري يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنِّسيان ، وما استُكرهوا عليه)) . ([(2)])
الشرط الثالث : أن يكون أربع مرات . والناظر في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه اكتفى في بعض المرات بإقرار واحد ، وفي بعضها كان الإقرار أربع مرات ، وهذا سبب الاختلاف في المسألة .
والأحوط أن يقر أربع مرات .
الشرط الرابع : أن يكون مفصَّلاً مبيِّناً لحقيقة الوطء ؛ إذ أن من المحتمل أن يظن ماليس بزنى زنى .
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز - رضي الله عنه - (( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت))؟ قال : لا يارسول الله . قال : ((أنكتها )) ؟-لا يكني - فعند ذلك رجمه ([(3)]).
وفي رواية :((حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ))؟ قال : نعم . قال : ((كما يغيب المِرود في المِكحلة والرِّشاء في البئر)) ؟ قال : نعم . قال : ((فهل تدري ما الزِّنا)) ؟ قال: نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً . ([(4)])
__________
(1) / أخرجه أبو داود في كتاب الحدود ، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً ، برقم : 4398.
(2) / أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق ، باب طلاق المكره والناسي ، برقم : 2043 .
(3) / أخرجه أبو داود في كتاب الحدود ، باب رجم ماعز بن مالك ، برقم : 4427 .
(4) / المصدر السابق ، حديث رقم : 4428 .(1/74)
الشرط الخامس : الإبقاء على الإقرار ، وعدم الهرب عند إقامة الحد، فإن أقرَّ ثم رجع عن إقراره قُبل رجوعُه ؛ فإن الصحابة لما شرعوا في رجم ماعز - رضي الله عنهم أجمعين - ووجد من مسِّ الحجارة جزع ، فهرب، فلحقه أحدهم فقضى عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه )) ([(1)]). وهو قول الأئمة الأربعة.([(2)])
أما لو ثبت الحد بالشهادة فلا رجوع ، ولا هروب .
وليس من الإقرار في شيء أن يقول أصبت حداً ، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ([(3)]) قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجاءه رجل فقال : يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه عليَّ . قال : ولم يسأله عنه . قال : وحضرت الصلاة ، فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قام إليه الرجل فقال : يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم فيَّ كتاب الله . قال :(( أليس قد صليت معنا)) ؟ قال : نعم . قال :((فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو قال : حدك- )) ([(4)])
__________
(1) / المصدر السابق ، حديث رقم : 4419 .
(2) / انظر المغني : 12/361 .
(3) / أنس بن مالك بن النضر أبو حمزة الخزرجي ، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ارتحل إلى البصرة في زمان خلافة عمر - رضي الله عنه - وعلَّم الناس الفقه ومعاني القرآن ، كانت وفاته سنة إحدى وتسعين ، وكان له ثمانون ولداً من الذكور . انظر تهذيب التهذيب : 1/329 .
(4) / أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب إذا أقر بالحد ولم يبيِّن هل للإمام أن يستر عليه ؟ ، برقم : 6328 . ومسلم في كتاب التوبة ، باب قول الله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، برقم : 2764 .(1/75)
أما ظهور الحمل فاختُلف في ثبوت الحد به ، والصحيح أن الزِّنا يثبت به ، وهو قول المالكية ، قال في المختصر ([(1)]) - في كلامه عما يثبت به الزِّنا - :" وبحملٍ في غير متزوجة وذات سيدٍ مقرٍّ به ، ولم يُقبل دعواها الغصب بلا قرينة ".
والدليل ما ثبت في صحيح مسلم ([(2)]) عن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - :" إنَّ الله بعث محمداً بالحقِّ وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله عليه آيةَ الرَّجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، ووعيناها ، رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرَّجم في كتاب الله ، فيَضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، والرَّجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أُحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيِّنة ، أو كان الحَبَل ([(3)]) ، أو الاعتراف".([(4)])
و الاحتمالات الباردة لا عبرة بها .
__________
(1) / مختصر العلامة خليل ، ص : 326 .
(2) / الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري صاحب الصحيح ، وُلد سنة أربع ومائتين ، ورحل في طلب العلم واستقر به الترحال في بلده نيسابور . قال السمعاني رحمه الله :" أحد أئمة الدنيا ". توفي سنة إحدى وستين ومائتين . انظر السير : 12/557.
(3) / الحَبَل بتحريك الحاء والباء : الحَمْل .
(4) / أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزِّنا إذا أحصنت ، برقم : 6830. ومسلم في كتاب الحدود ، باب حد الزِّنا ، برقم : 1691 .(1/76)
ومما يثبت به الحد امتناع الملاعَنة عن اللِّعان ، قال الله تعالى : { tûïد%©!$#ur tbqمBِچtƒ ِNكgy_؛urّ-r& َOs9ur `ن3tƒ ِNçl°; âن!#y‰pkà Hwخ) ِNكgف،àےRr& نoy‰"ygt±sù َOدdد‰tnr& كىt/ِ'r& ON؛y‰"uhx© "!$$خ/ ¼çm¯Rخ) z`دJs9 ڑْüد%د‰"¢ء9$# ادب èp|،دJ"sƒّ:$#ur ¨br& |MuZ÷ès9 "!$# دmّn=tم bخ) tb%x. z`دB tûüخ/ة"s3ّ9$# اذب (#نtu'ô‰tƒur $pk÷]tم z>#xyèّ9$# br& y‰pkôs? yىt/ِ'r& ON؛y‰"pky "!$$خ/ ¼çm¯Rخ) z`دJs9 ڑْüخ/ة"s3ّ9$# ارب sp|،دJ"sƒّ:$#ur ¨br& |=ںزxî "!$# !$pkِژn=tو bخ) tb%x. z`دB tûüد%د‰"¢ء9$# ازب } ([(1)]) .
قال الطبري رحمه الله : "العذاب :جلد مائة إن كانت بكراً ، أو الرَّجم إن كانت ثيباً قد أحصنت". ([(2)])
- - -
__________
(1) / سورة النور ، الآيات : 6-9 .
(2) / جامع البيان : 18/85 .(1/77)
(د. مهران ماهر عثمان نوري )
الفصل الثاني
التشريعات القرآنية الواقية من جريمة الزِّنا
ويشمل ثلاثة عشر مبحثاً:
الأول : التقوى .
الثاني : الصيام .
الثالث : التكافل والإنفاق .
الرابع : حدُّ الزنا وعقوبته .
الخامس : النكاح .
وتحته ستة مطالب :
1/ الأمر به .
2/ النكاح سنة الأنبياء .
3/ عرض الرجل بناته للصالحين .
4/ التعدد .
5/ تشريع نكاح ملك اليمين إذا خيف العنت .
6/ حرص القرآن على استمرارية العلاقة بين الزوجين .
السادس : الحجاب .
السابع : الصَّبر عن الفاحشة .
وتحته ثلاثة مطالب :
1/ الأمر به .
2/ ثناء الله على أهله .
3/ قصص العفيفين في القرآن لأخذ العبر منها .
الثامن : الاعتصام بالدعاء عند فتنة النساء ، وغيرها من الفتن .
التاسع : التنشئة الصالحة .
العاشر: الاستئذان قبل الدخول .
الحادي عشر : الغض من البصر .
الثاني عشر : الحياء .
الثالث عشر : القرار في البيوت للنساء .
المبحث الأول
التقوى من وقى الشيء إذا صانه وحماه ، جاء في اللسان : " وقيت الشيء أقيه إذا صنته وسترته عن الأذى " ([(1)]) .
والتقوى في الشرع : قال عنها طلق بن حبيب رحمه الله ([(2)]) : " العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله ، وترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله."([(3)]) .
__________
(1) / لسان العرب ، مادة (وقى) : 15/401 .
(2) / العنزي ، زاهد كبير ، من العلماء العاملين ، حدث عن ابن عباس وابن الزبير وجندب بن سفيان وجابر بن عبد الله والأحنف بن قيس وأنس بن مالك ، كان يُقال : فقه الحسن وورع ابن سيرين وحلم مسلم بن يسار وعبادة طلق ، مات قبل المائة . انظر سير الأعلام : 4/600-603 .
(3) / تفسير ابن أبي حاتم ، للإمام عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي ، المكتبة العصرية ، تحقيق أسعد محمد الطيب : 1/98.(1/1)
وهو بهذا التعريف قد " أبدع وأوجز ؛ فلا تقوى إلا بعمل ، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع ، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله لا ليُقال فلان تارك للمعاصي بنور الفقه ، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها ويكون الترك خوفاً من الله لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز" .([(1)])
وقال الفخر الرازي رحمه الله :" التقوى : الخشية ".([(2)]) ، وقال: " التقوى : الاحتراز عن فعل المنهيات ، وترك المأمورات ".([(3)])
وإنما ذكر - رحمه الله -: ترك المأمورات ؛ لأن معصية الله كما تكون بفعل الحرام ، تكون بترك الواجب .
ونقل - رحمه الله - عن بعضهم أنه فسرها باتقاء الشرك . ([(4)]) وهذا من قبيل التفسير بالمثال .
وقال الشنقيطي رحمه الله : " والتقوى في اصطلاح الشرع هي : اتخاذ الوقاية دون عذاب الله وسخطه ." ([(5)])
ومن نظر في معنى التقوى في اللغة ، وأقوال هؤلاء العلماء رحمهم الله علم يقيناً أن التقوى هي : أن تجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية ؛ بفعل أوامره ، وترك نواهيه.
__________
(1) / من كلام الإمام الذهبي معلقاً على تعريفه في سير أعلام النبلاء : 4/601 .
(2) / مفاتيح الغيب : 2/22 .
(3) / المصدر السابق : 3/202
(4) / المصدر السابق : 7/137.
(5) / أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي ، دار الفكر ، 1415، تحقيق مكتب البحوث والدراسات : 2/278.(1/2)
وقد أورد القرطبي في تفسيره ([(1)]) أثراً يجلي معنى التقوى ، ويبين حقيقتها، قال رحمه الله : " وسأل عمر بن الخطاب أبياً ([(2)]) رضي الله عنهما عن التقوى ، فقال : هل أخذت طريقاً ذا شوك ؟ قال نعم . قال فما عملت فيه ؟ قال تشمرت وحذرت . قال : فذاك التقوى ".
ثم أورد رحمه الله أبياتاً تصور هذا المعنى :
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى ".
وقد جاءت كثير من آي القرآن الكريم تدلل على أن التقوى تحمل على فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، فمن الآيات التي تدل على أثر التقوى في فعل الطاعات ، والقيام بالواجبات ؛ قوله جلَّ شأنه : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) } ([(3)]).
وشعائر الله هنا : أوامره ([(4)]) .
ومنها قوله سبحانه تعالى : { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ([(5)]) .والمعنى : أن عفو المرأة عن نصف المهر أو عفو الزوج عن حقه أقرب لتحصيل التقوى . ([(6)])
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن : 1/162 .
(2) / أبي بن كعب بن قيس بن عبيد ، أبو المنذر سيد القراء ، مات في خلافة عثمان بخبر ، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له :((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)). قال أبي : آلله سماني لك ؟ قال : ((الله سماك لي)) . فجعل أبي يبكي . فقرأ عليه سورة البينة . انظر السير : 1/389 .
(3) / سورة الحج ، الآية : 32.
(4) / انظر تفسير القرآن العظيم : 3/220.
(5) / سورة البقرة ، الآية : 237 .
(6) / انظر تيسير الكريم المنان ، ص : 105 .(1/3)
وقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) } ([(1)]).والمعنى: أن للمطلقة التي لم يُسم صداقها وسُرِّحت قبل الدخول بها متاعاً بما جرى العرف به ، وهذه وصية لا يقوم بها إلا أهل التقوى .([(2)])
ودلت غيرها من الآيات على أن التقوى تحمل على اجتناب المنكرات ، ومباينة المحرمات .
فمن ذلك قوله عز وجل :
{ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) } ([(3)]) فأمرهم فيها بالتقوى التي تحمل على ترك الخبيث مهما كثر.
ومنه قوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا Zoy‰ح !$tB مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) } ([(4)]) قال ابن جرير رحمه الله في قولهم : هل يستطيع ربك :" هذه مسألة ، كقول الرجل : هل أنت كاف عنا ، أي : اكفف عنا " . ([(5)])
والشاهد من هذه الآية : لما كان سؤال الآيات مما لا ينبغي أُمروا بتقوى الله ، الحاملة على ترك كل ذميم .
ولما أمرنا ربنا باتباع صراطه ، وسلوك طريقه ، ونهانا عن اتباع سبل الباطل أوصانا بتقواه - المعينة على ذلك - فقال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) } . ([(6)])
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 241 .
(2) / انظر تيسير الكريم المنان ، ص : 106 .
(3) / سورة المائدة ، الآية : 100.
(4) / سورة المائدة ، الآية : 112 .
(5) / جامع البيان : 3/ 214.
(6) / سورة الأنعام ، الآية : 153 .(1/4)
وإن من الفضائل التي تحمل عليها التقوى : العفة والطُّهر . ومن الرذائل التي تصد عنها : الفجور والعُهر .
ويدل على عظيم أثر التقوى في تحقيق ذلك : قول الله تعالى عن مريم عليها السلام : { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) } ([(1)]) فإن الله تعالى لما أرسل إليها جبرائيل عليه السلام في صورة بشر كامل الخلقة وظنت أنه يريدها ؛ خوفته بالله عز وجل ، وقالت : إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً ، أي : إن كنت تقياً فلا تتعرض لي ([(2)]) .
قال ابن الجوزي رحمه الله : " إن كنت تتقي الله فستنتهي بتعوذي منك ".([(3)]) مما يدل على أن للتقي وازعاً يمنعه من ارتكاب المحرمات .
فإن قيل : كيف يصح تعوذها بالله منه إن كان تقياً والتعوذ إنما يكون من الفاجر؟ فالجواب : " هذا كقول القائل : إن كنت مؤمناً فلا تظلمني ، أي ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً من الظلم ، كذلك هنا ." ([(4)])
ومن الأدلة على حمل التقوى على العفة كذلك قوله تعالى عن قوم لوط عليه السلام : { وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) } ([(5)])
__________
(1) / سورة مريم ، الآية : 18 .
(2) / انظر فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية ، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الفكر ، الطبعة الأولى ، 1412هـ : 3/468.
(3) / زاد المسير في علم التفسير : 5/217 .
(4) / معالم التنزيل في التفسير ، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ، دار طيبة ، 1411هـ : 5/223.
(5) / سورة هود ، الآية : 78 .(1/5)
وقوله سبحانه وتعالى : { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) } ([(1)])
وقصة أصحاب الغار التي أخبر بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - تبين ذلك ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار ، فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار . فقالوا : إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم . فقال رجل منهم : اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أَغْبِقُ ([(2)]) قبلهما أهلاً ولا مالاً ، فنأى بي في طلب شيء يوماً فلم أُرِح عليهما حتى ناما ، فحلبتُ لهما غَبُوقَهما فوجدتهما نائميْن ، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً ، فلبثت والقدح على يدي أنتظرُ استيقاظَهما حتى برق الفجر ، فاستيقظا ، فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة . فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج . وقال الآخر : اللهم كانت لي بنت عم كانت أحبَّ الناس إلي ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قَدَرْتُ عليها قالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقِّه ، فتحرجت من الوقوع عليها ، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي ، وتركت الذهب الذي أعطيتها . اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافْرُج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها .
__________
(1) / سورة الحجر ، الآيات : 67-69 .
(2) / لا أُقَدِّم . راجع لسان العرب ، مادة (غبق) : 10/282 .(1/6)
وقال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء ، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب ، فثَمَّرتُ أجرَه حتى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدِّ إلي أجري . فقلت له : كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرَّقيق . فقال : يا عبد الله لا تستهزئ بي . فقلت إني لا أستهزئ بك . فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً . اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه . فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).([(1)])
فالحديث واضح الدلالة على أثر التقوى في تحقيق العفة ، فقد ذكرته المرأة بتقوى الله ؛ لئلا يقع في الفاحشة ، فتذكر وارعوى .
إن المتقين إذا وقعوا في شيء من الفواحش والآثام فإن بالهم لا يهدأ حتى يتوبوا إلى ربهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، ويستغفروا من معاصيهم ؛ إذ لا يمكن أن تستقر هذه الفواحش في القلوب التقية ، قال الله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ دوالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) } . ([(2)])
المبحث الثاني
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الإجارة ، باب من استأجر أجيراً فترك أجره فعمل فيه المستأجر فزاد أو من عمل في مال غيره فاستفصل، برقم : 2272 ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال ، برقم 2743 .
(2) / سورة آل عمران ، الآيات : 133- 135 .(1/7)
الصوم من العبادات التي يتقي بها العبد الوقوع في جريمة الزِّنا . وقد نص الله تبارك وتعالى على خيرية هذه العبادة في قوله : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) } ([(1)]).
قال القرطبي رحمه الله : " أي من الإفطار مع الفدية ، وكان هذا قبل النسخ . وقيل : وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق ، والله أعلم . وعلى الجملة فإنه يقتضي الحض على الصوم ، أي : فاعلموا ذلك وصوموا ". ([(2)])
وذكر سبحانه أهل مغفرته وإكرامه فجعل منهم الصائمين والصائمات ، قال تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) } ([(3)]) .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 184 .
(2) / الجامع لأحكام القرآن : 2/290.
(3) / سورة الأحزاب ، الآية : 35 .(1/8)
إنَّ هذه العبادة سبيل عظيم لتحصين النفس من جريمة الزِّنا ؛ ولذا أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب الذين لا يقدرون على مؤن النكاح وتاقت إليه أنفسهم ، فقال : (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )) ([(1)])
وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - الشباب بالخطاب " لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم إلى النكاح ، بخلاف الشيوخ ، وإن كان المعنى معتبراً إذا وُجد السبب في الكهول والشيوخ أيضاً ". ([(2)])
" والوَجْءُ : أن تُرضَّ أنثيا الفحل رَضَّاً شديداً يُذهب شهوة الجماع ... وقيل : أن تُوجَأ العروق والخُصيتان بحالهما ". ([(3)])
فالمراد من الحديث : أن الصوم كالوجاء يقطع الشهوة .
قال ابن حجر رحمه الله : " ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح. واستُشكل بأن الصوم يزيد في تهييج الحرارة ، وذلك مما يثير الشهوة . لكن ذلك إنما يقع في مبدأ الأمر ، فإذا تمادى عليه واعتاده سكن ذلك ، والله أعلم ". ([(4)])
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الصوم ، باب الصوم لمن خاف على نفسه العُزوبة ، برقم : 1905. وفي كتاب النكاح، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من استطاع منكم الباءة ، برقم 5065. وفي باب من لم يستطع الباءة فليصم ، برقم : 5066 . وأخرجه مسلم في كتاب النكاح ، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه ، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ، برقم : 1400 .
(2) / فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، للحافظ أحمد بن علي بن حجر أبي الفضل العسقلاني الشافعي ، دار المعرفة ببيروت ، 1379هـ ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب : 9/107 .
(3) / لسان العرب ، مادة (وَجَأ) : 1/191 .
(4) / فتح الباري : 4/119 .(1/9)
وقال النووي رحمه الله :" فتقديره : من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج ، ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ؛ ليدفع شهوته ، ويقطع شرَّ منيِّه كما يقطعه الوجاء ". ([(1)])
وتأمل الآية السابقة ؛ تجد أن الله تعالى ذكر العفيفين بعد الصائمين، وفي هذه لطيفة يجليها ابن كثير رحمه الله بقوله :" ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فانه أغض للبصر وأحصن للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجاء )). ناسب أن يذكر بعده : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } ، أي : عن المحارم والمآثم ، إلا عن المباح ، كما قال الله سبحانه وتعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) } ([(2)]) ". ([(3)])
فهذه النصوص الشريفة دلت على أن الصوم وقاية من مزالق الشهوات ولعلَّ ذلك يرجع إلى أمرين :
الأول : أنه عبادة تزكو النفوس بها ، وتتسامى الأرواح بسببها من حضيض البهيمية . ومن سمت روحه وطهرت نفسه لم تأنس بمعصية الله . فالصائم يعلم أنه ترك ما أحل الله تعالى تقرباً إليه ؛ فكيف يترك ما أحل الله ويقع فيما حرمه عليه ؟!
الثاني : ما يحدثه الصوم من ضعف في البدن ؛ فإن من الثابت طبياً أن الصوم يؤدي إلى انخفاض هرمون الذكورة Testosterone .وهذا الهرمون هو المحرك للرَّغبة الجنسية .
__________
(1) / شرح مسلم : 9/137 .
(2) / سورة المؤمنون ، الآيات : 5، 6، 7 .
(3) / تفسير القرآن العظيم : 3/489.(1/10)
وإن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - آنف الذكر لدليل على صدق نبوته ، فقد أشار بقوله (( فإنه له وجاء )) إلى أن الخُصيتين هما مكان إنتاج الإثارة الجنسية ، لأن الوجاء رض الخُصيتين كما مر معنا ، فسبحان من قال في كتابه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } ([(1)])
ولذا - والله أعلم - جعل الله تعالى الصيام في كثير من الكفارات ؛ لما يترتب عليه من آداب تنعكس على السلوك حسناً ، وعلى الأخلاق جمالاً.
فقال تعالى في كفارة قتل الخطأ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ B5irك‰tم لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ×,"sVدiB× فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيْمَاً حَكِيمًا (92) } ([(2)]) .
وقال في كفارة الحنث في الأيمان : { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ َلَّْم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) } ([(3)])
__________
(1) / سورة النجم ، الآيتان : 3 ، 4 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 92 .
(3) / سورة المائدة ، الآية : 89 .(1/11)
وفي كفارة قتل الصيد حال الإحرام : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ xدpt7÷ès3ّ9$# أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) } ([(1)]) .
وقال سبحانه في كفارة الظهار : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ ôيَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) } ([(2)]).
وقد ذم النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرة الأكل بقوله لمن تجشأ عنده : (( كفَّ عنا جشاءك؛ فإن أكثرهم شِبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة )) ([(3)]).
__________
(1) / سورة المائدة ، الآية : 95 .
(2) / سورة المجادلة ، الآيتان : 3 ، 4 .
(3) / أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة ، باب رقم 37 ، برقم : 2478 .(1/12)
جاء في فيض القدير :" الجشاء : هو الريح الذي يخرج من المعدة عند الشبع ، وهو مذموم طباً وشرعاً ، كيف وهو يقرِّب الشيطان ، ويهيج النفس إلى الطغيان ، والجوع يضيق مجاري الشيطان ، ويكسر سطوة النفس فيندفع شرهما ([(1)]). ومن الشبع تنشأ شدة الشبق إلى المنكوحات ". ([(2)])
ولذا نهى الله تعالى عن الإسراف في المآكل والمشارب ،فقال : { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) } ([(3)]) .
أي : في الطعام والشراب . ([(4)])
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن البطن شر وعاء يُملأ ، فقال : (( ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن )) ([(5)]).
ففي هذه الحديث " جعل البطن أولاً وعاءً كالأوعية التي تُتخذ ظروفاً لحوائج البيت ؛ توهيناً لشأنه ، ثم جعله شرَّ الأوعية ... والبطن خُلق لأن يتقوم به الصلب بالطعام، وامتلاؤه يفضي إلى الفساد في الدين والدنيا ". ([(6)])
__________
(1) / أي : الشيطان ، والنفس .
(2) / فيض القدير شرح الجامع الصغير ، للإمام عبد الرؤوف المناوي ، دار المعرفة ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1491هـ : 5/8 .
(3) / سورة الأعراف ، الآية : 31 .
(4) / انظر جامع البيان للطبري : 8/162 .
(5) / أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل ، برقم : 2380 .
(6) / تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للإمام الحافظ أبي العُلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1410هـ : 7/43-44 .(1/13)
وأما قول أبي هريرة : " لا أجد له مسلكاً " ([(1)]) - بعد أن كرر النبي - صلى الله عليه وسلم - له الأمر بالشرب من لبنٍ - فقد وفَّق الحافظ ابن حجر رحمه الله بينه وبين حديثي :(( ما ملأ ابن آدم ...)) و (( أكثرهم شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً...)) بقوله : " ويمكن الجمع بأن يحمل الزجر على من يتخذ الشبع عادة ؛ لما يترتب على ذلك من الكسل عن العبادة وغيرها ، ويحمل الجواز على من وقع له ذلك نادراً ، ولا سيما بعد شدة جوع ، واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب ". ([(2)])
وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قلة الأكل صفة للمؤمن ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :(( المؤمن يأكل في معىً واحدٍ ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء)). ([(3)])
قال النووي رحمه الله : " قيل : إن المراد أن المؤمن يقتصد في أكله ... قال العلماء : ومقصود الحديث التقليل من الدنيا ، والحث على الزهد فيها والقناعة ، مع أن قلة الأكل من محاسن أخلاق الرجال، وكثرة الأكل بضدِّه ".([(4)])
وقال القرطبي رحمه الله : " وقد كانت العرب تمتدح بقلة الأكل ، وتذم بكثرته كما قال قائلهم ([(5)]) :
تكفيه فِلذةُ كَبِدٍ إن ألمَّ بها من الشواء ويُروي شربَه الغُمَرُ ([(6)]).
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا، برقم : 6087 .
(2) / الفتح : 11/288 .
(3) / أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة ، باب المؤمن يأكل في معىً واحد ، برقم : 5393، 5394 . ومسلم في كتاب الأشربة ، باب المؤمن يأكل في معىً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ، برقم : 2060 ، 2061 .
(4) / صحيح مسلم بشرح النووي : 14/24-25 .
(5) / هو أعشى باهلة .
(6) / أصغر الأقداح ، انظر اللسان ، مادة (غمر) : 5/31 . والمراد أنه يشبع بقطعة صغيرة من كبد مشويٍّ ويطفئ ظمأه ماء يسير ، وهذا مدح له .(1/14)
وفي حديث أم زرع ([(1)]): ويشبعه ذراع الجَفْرة ([(2)]).
وقال حاتم الطائي ([(3)]) يذم بكثرة الأكل :
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله وفرجك نالا منتهى الذمِّ أجمعا. "ا.هـ([(4)])
المبحث الثالث
الإنفاق من العبادات التي يتعدى نفعها للناس ، والعبادة المتعدية النفع خير من التي يقتصر نفعها على صاحبها ، ولذا امتلأ القرآن الكريم بالحضِّ على إنفاق المال ، ورتب على ذلك الأجر الكبير والفضل الكثير .
فجعل الله تعالى الإنفاق صفة من صفات المتقين المفلحين المهتدين ، الوارثين لجنات رب العالمين ، قال الله تعالى : { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤمِنُونَ t!$oےد3 أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ مڑcqكsخ=ّےكJّ9$# (5) } ([(5)]) .
__________
(1) / هي واحدة من إحدى عشرة امرأة اجتمعن لدى عائشة ، تعاهدن وتعاقدن أن يخبرن بحال أزواجهن ولا يكتمن من ذلك شيئاً .
(2) / الشاة التي بلغت أربعة أشهر . انظر مختار الصحاح ، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ، دار الفكر العربي ، ترتيب محمود خاطر ، ص 45 .
(3) / حاتم بن عبدالله بن سعد الطائي ، والد عدي بن حاتم الصحابي ،كان جواداً ممدحاً في الجاهلية ، وكذلك كان ابنه في الإسلام ، وكانت له مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه . البداية والنهاية : 2/212 .
(4) / الجامع لأحكام القرآن : 7/193.
(5) / الآيات :(1-5) من سورة البقرة .(1/15)
وأناط سبحانه وتعالى نيل البر ببذل ما حُبِّب إلى نفوسنا ؛ قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) } ([(1)]) .ولئلا يتسلط الشُّح على النفوس البشرية - المائلة إليه - وعد الله تعالى المنفق بالخلف فقال : { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ ¼ çmàےخ=ّƒن† وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) } ([(2)]) . وفي الحديث القدسي :(( أنفق يا ابن آدم أنفق عليك )) ([(3)])
والخلف للمنفق دعوة ملكيْن كريمين ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً )). ([(4)])
وليس المراد استقصاء النصوص في فضل الإنفاق ، وإنما الإشارة إلى خيرية هذه العبادة.
وقد جاء في حديثين نبويين ما يدل على أن الفقر سبب لارتكاب جريمة الزِّنا ، فقد تخضع المرأة لمن أرادها ؛ لدفع حاجتها وفقرها .
__________
(1) / الآية:(92) من سورة آل عمران .
(2) / الآية:(39) من سورة سبأ .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : { وكان عرشه على الماء } ، برقم : 4407. وفي كتاب النفقات ، باب فضل النفقة على الأهل ، برقم : 5036 . وفي كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ، برقم : 7057 . وصحيح مسلم ،كتاب الزكاة ، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف ، برقم : 993.
(4) / أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ، باب : { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } ، برقم : 1347. ومسلم في كتاب الزكاة ، باب في المنفق والممسك ، برقم : 1010.(1/16)
أما الحديث الأول : فحديث قصة الغار الذي سبق ذكره ([(1)]) ، وفيه : (( وقال الآخر اللهم كانت لي بنت عم كانت أحبَّ الناس إلي ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني ، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ، ففعلت ، حتى إذا قَدَرْتُ عليها قالت : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجت من الوقوع عليها ، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي ، وتركت الذهب الذي أعطيتها . اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافْرُج عنا ما نحن فيه . فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها .))
قال الحافظ رحمه الله :" فلما احتاجت أجابت ... وفي حديث النعمان بن بشير: فلما أمكنتني من نفسها بكت فقلت ما يبكيك قالت فعلت هذا من الحاجة فقلت : انطلقي ". ([(2)])
قال النووي رحمه الله : " ألمت بها سنة : أي وقعت في سنة قحط . قوله : وقعت بين رجليها : أي جلست مجلس الرجل للوقاع . قولها : لا تفتح الخاتم إلا بحقه: الخاتم كناية عن بكارتها ، وقولها : بحقه . أي بنكاح لا بزنا ".([(3)])
والحديث واضح الدلالة على أن الفقر قد يكون سبباً لجنوح المرأة إلى الفاحشة والعياذ بالله .
وأما الحديث الثاني :
__________
(1) / ص : 65 .
(2) / فتح الباري : 6/509 .
(3) / شرح النووي على صحيح مسلم : 17/58(1/17)
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين -حتى عد سبع مرات -ولكني سمعته أكثر من ذلك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :((كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت ، فقال : ما يبكيك أأكرهتك ؟ قالت : لا ، ولكنه عمل ما عملته قط ، وما حملني عليه إلا الحاجة . فقال : تفعلين أنت هذا ولم تفعليه قط ؟! اذهبي فهي لك . وقال : لا والله لا أعصي الله بعدها أبداً . فمات من ليلته . فأصبح مكتوباً على بابه : إن الله قد غفر للكفل )). ([(1)])
فهذا الحديث النبوي الشريف كسابقه في بيان أنَّ من أسباب الوقوع في وحل الزِّنا : الفقرَ والحاجة .
وليس المراد تسويغ ملابسة هذه الجريمة بأي سبب من الأسباب ، وإنما بيان أسبابها ، ومن جملتها قلة ذات اليد .
وقد جاءنا في سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما يبين أن الإنفاق يفضي إلى التعفف عن الزِّنا :
__________
(1) / أخرجه أحمد في المسند : 2/23 . والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب رقم (48) ، حديث رقم : 2496 .(1/18)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( قال رجل : لأتصدقن بصدقة . فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون : تُصُدِّقَ على سارق لِلَّهِ فقال : اللهم لك الحمد . لأتصدقن بصدقة . فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية لِلَّهِ فقال : اللهم لك الحمد على زانية . لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني لِلَّهِ فقال اللهم لك الحمد على سارق ، وعلى زانية ، وعلى غني . فأُتي([(1)]) فقيل له : أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته ، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها ، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله )). ([(2)])
ولهذه الآثار التي تتمخض عن الفقر أرشد ديننا الحنيف إلى العناية بأمر الأرامل والأيتام .
__________
(1) / في المنام . راجع فتح الباري : 3/290.
(2) / أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم ، برقم : 1355 . ومسلم في كتاب الزكاة ، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها ، برقم : 1022.(1/19)
قال الله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى 44'yJ"tGuٹّ9$#ur وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ tû,خ#ح !$،،9$#ur وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } ([(1)]). وقال سبحانه : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) } ([(2)]) .
وثبت في الصحيحين ([(3)]) عن أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله )).
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 177 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 36 .
(3) / أخرجه البخاري في كتاب النفقات ، باب فضل النفقة على الأهل ، برقم : 5038. وفي كتاب الأدب ، باب الساعي على الأرملة ، برقم : 5660. وأخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق ، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم ، برقم : 2982 .(1/20)
والمرأة يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها - بلا علمه - إن كان شحيحاً ؛ لئلا تحتاج ، قالت هند بنت عتبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أبا سفيان ([(1)]) رجل شحيح ، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سراً ؟ قال : (( خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف )) . ([(2)])
وإن واقعنا اليوم يدل كذلك على ما سبق تقريره من أن الفقر سبب لانتشار الفواحش ، فكم من امرأة سرَّحت عفتَها وأكلت بثديها بحجة حاجتها ، وإطعام أولادها!
ونسي هؤلاء قول رب السماء : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) } ([(3)]).
المبحث الرابع
بُعث نبينا - صلى الله عليه وسلم - متمماً لمكارم الأخلاق ، قاطعاً لدابر الشر والإفساد ، وإن من أعظم سبل تحقيق ذلك وإيجاده إقامة الحدود التي أوجبتها الشريعة الإسلامية
__________
(1) / صخر بن حرب بن أمية بن عبد ، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ،وكان من دهاة العرب ، ومن أهل الرأي والشرف فيهم ، توفي بالمدينة سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة اثنتين وقيل سنة ثلاث أو أربع وثلاثين وله نحو التسعين . انظر سير أعلام النبلاء : 2/105-106
(2) / البخاري في كتاب البيوع ، باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم، برقم : 2097. وفي كتاب النفقات ، باب إذا لم يُنفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف برقم : 5049 . وفي باب { وعلى الوارث مثل ذلك } برقم : 5055 . وفي كتاب الأحكام ، باب القضاء على الغائب ، برقم : 6758 . ومسلم في كتاب الأقضية ، باب قضية هند ، برقم : 1714.
(3) / الآيتان (2، 3) من سورة الطلاق .(1/21)
إن الله تعالى لما قضى بنزول آدم عليه السلام من الجنة إلى الأرض بين له طريق العودة إليها ، وأن ذلك لا يكون إلا باتباع شريعته التي ارتضاها لعباده ، وأوضح أنَّ في مخالفتها الذلَّ والصَّغار والشَّقاء ، قال تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) ومَنْ ôuعtچôمr& عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } . ([(1)])
فتنحية شرع الله مخالفة مرتب عليها ذل وشقاء ، وإقامة حدود الله وشرعه هداية وسعادة وأمن لمجتماتنا . ([(2)])
وما سُمي الحدُّ حداً إلا لأنه يمنع من معاودة جريمته ، جاء في اللسان :" سميت حدوداً لأنها تَحُدُّ ، أي : تمنع من إتيان ما جعلت عقوبات فيها". ([(3)]).
وقال الشوكاني رحمه الله :" وسميت عقوبات المعاصي حدوداً لأنها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب ". ([(4)])
وجاء في المصباح المنير :" ومنه الحدود المقدرة في الشرع لأنها تمنع من الإقدام".([(5)])
وقال ابن حجر رحمه الله :" وسُميت العقوبة حداً لأنها تمنع عن المعصية ". ([(6)])
__________
(1) / سورة طه ، الآيتان : 123 ، 124 .
(2) / نسأل الله أن يُعجل بذلك في ديار المسلمين .
(3) / نقله عن الأزهري : 3/140 .
(4) / نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، للقاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الجيل ببيروت ، 1973م : 7/250 .
(5) / المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، للشيخ الإمام أحمد بن محمد بن علي الفيومي ، دار المعرفة ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1403 ، مادة (حدد) : 1/124.
(6) / فتح الباري : 9/485 .(1/22)
وفي الثمر الداني :" والحدُّ شرعاً ما وُضع لمنع الجاني من عوده لمثل فعله وزجر غيره ". ([(1)])
وربُّ العباد أعلم بما يصلحهم ويزكي أخلاقهم { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } . ([(2)])
وقبل أن أدلِف إلى ما يتعلق بهذا المبحث لا بد من وقفة لتبيين معنى الحد .
فالحدُّ في اللسان العربي : الحاجز بين الشيئين . وحدُّ كلِّ شيء ما انتهى إليه ، ولذا جعل الله في دينه حدوداً فلا يُتعدى عليها ، وكلُّ مانع فهو حدٌّ ، ومدة إحداد المرأة: مدة امتناعها عن الزينة والطِّيب . ([(3)])
والحدود في الشرع : "عقوبات الله التي قرنها بالذنوب ". ([(4)])
وأوضح علماؤنا أن الحدودَ هي العقوبات المقدَّرة ، وأما غير المقدَّرة فهي التعزيرات. ([(5)])، قال في بدائع الصنائع ([(6)]) :" والحدُّ في الشرع عقوبة مقدرة واجبة حقاً لله تعالى عز شأنه ، بخلاف التعزير فإنه ليس بمقدر ، قد يكون بالضرب وقد يكون بالحبس وقد يكون بغيرهما ، وبخلاف القصاص فإنه وإن كان عقوبة مقدرة لكنه يجب حقاً للعبد حيث يجري فيه العفو والصلح ".
وقد أوجب الله تعالى تحكيم شرعه في كل شيء ، فقال تعالى حكاية لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) } . ([(7)])
__________
(1) / الثمر الداني في تقريب المعاني ، للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري ، دار الكتب العلمية ببيروت ، ص : 568.
(2) / سورة الملك ، الآية : 14 .
(3) / انظر لسان العرب ، مادة (حدد) : 3/140.
(4) / النهاية في غريب الحديث : 1/352 .
(5) / راجع الشرح الكبير للدردير : 4/354 .
(6) / بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، للعلامة علاء الدين الكاساني ، دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة الثانية ، 1982م : 7/33 .
(7) / سورة الشورى ، الآية : 10 .(1/23)
قال الرازي رحمه الله :" وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا تؤثروا حكومة غيره على حكومته ". ([(1)])
وقال ابن كثير رحمه الله عندها :" فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ". ([(2)])
وهذه عامة في كل شيء ينبغي أن يُحكم فيه شرع الله . ومثلها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ ةbخ) كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } . ([(3)])
فلم يأمر الله تعالى برد أمورنا ونزاعنا إلى قوانين البشر من الكفرة الفجرة التي أملتها عليهم أفكارهم الضحلة وأذهانهم السقيمة وعقولهم القاصرة، وإنما أوجب علينا تحكيم كتابه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه تعالى هو الذي خلقنا ، فهو أعلم بنا من أنفسنا .
قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أنَّمَاك‰ƒجچمƒ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) } . ([(4)])
__________
(1) / التفسير الكبير : 27/128 .
(2) / تفسير القرآن العظيم : 1/519 .
(3) / سورة النساء ، الآية : 59 .
(4) / سورة المائدة ، الآية : 49 .(1/24)
جاء في سبب نزولها عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فجاؤوا فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنَّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعتنا يهود ولم يخالفونا ، وأن بيننا وبين قومنا خصومةً ، فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ، فأبى ذلك ، وأنزل الله فيهم : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ ... } . ([(1)])
وكرر الله في الآية قوله { !tAt"Rr& اللَّهُ } ؛ "لتأكيد التحذير بتهويل الخطب".([(2)])
وليست هذه الآية ناسخة لقوله الله تعالى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ([(3)])
يقول ابن العربي رحمه الله :" قال قوم : هذا ناسخ للتخيير . وهذه دعوى عريضة؛ فإن شروط النسخ أربعة ؛ منها معرفة التاريخ بتحصيل المتقدم والمتأخر ، وهذا مجهول من هاتين الآيتين ، فامتنع أن يُدعى أن واحدة منهما ناسخة للأخرى، وبقي الأمر على حاله ". ([(4)])
وقال السعدي رحمه الله :" والصحيح أنها ليست بناسخة ، وأن تلك الآية تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق ، وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة ، وهو القسط ". ([(5)])
__________
(1) / انظر لباب النقول في أسباب النزول لأبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، دار إحياء العلوم ببيروت ، الطبعة الأولى : 1/92 .
(2) / تفسير أبي السعود : 3/47 .
(3) / سورة المائدة ، الآية : 42 .
(4) / أحكام القرآن : 2/137 .
(5) / تيسير الكريم المنان ، ص : 234 .(1/25)
وقال له أيضاً : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ tûüدZح !$y‚ù=دj9 خَصِيمًا (105) } . ([(1)])
وقال : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجَاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) } . ([(2)])
__________
(1) / سورة النساء ، الآية : 105 .
(2) / سورة المائدة ، الآية : 48 .(1/26)
وفاض القرآن بالآيات الدالة على أن الحكم لا يكون إلا لله ، فهو الذي يحكم بما شاء في عباده ، ولا يكون حكمه فيهم إلا عدلاً وحكمةً ، قال تعالى : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) } . ([(1)]) وقال : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ مالقَيِّم وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) } . ([(2)]) وقال : { وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وعَلَيْهِ دب@©.uqtGuٹù=sù الْمُتَوَكِّلُونَ (67) } . ([(3)])
__________
(1) / سورة الأنعام ، الآية : 57 .
(2) / سورة يوسف ، الآية : 40 .
(3) / سورة يوسف ، الآية : 67 .(1/27)
ففي الآيات حصر الحكم على الله تعالى بطريق النفي والإثبات ، وجاء الحصر في آيات أُخَر بطريق تقديم ما حقه التأخير ، قال تعالى : { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } . ([(1)]) وقال : { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) } . ([(2)]) وقال : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } . ([(3)])
قال السعدي رحمه الله :" { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي فأمر ونهى فإنه سيحكم بالحكم الجزائي فيثيب ويعاقب بحسب ما تقتضيه حكمته ". ([(4)])
ومما يدل على وجوب الانقياد لحكم الله تعالى قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ôفقَد ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) } . ([(5)])
قال ابن كثير رحمه الله :" فهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد ها هنا ولا رأي ولا قول ". ([(6)])
وقوله : { وَمَا كَانَ } تفيد الحظر والمنع والتحريم . ([(7)])
__________
(1) / سورة الأنعام ، الآية : 62 .
(2) / سورة القصص ، الآية : 70 .
(3) / سورة القصص ، الآية : 88 .
(4) / تيسير الكريم المنان ، ص : 258 .
(5) / سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
(6) / تفسير القرآن العظيم : 3/491 .
(7) / انظر تفسير القرطبي : 14/187 .(1/28)
ورتب الله تعالى على إقامة شرعه وإنفاذ حدوده خيراً كبيراً وبركات كثيرة في العاجلة والآجلة ، قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } . ([(1)])
قوله : { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ } أي : القرآن . ([(2)])
وقال: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . ([(3)])
وهذا الإيمان منفي عمن لم يحكِّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أموره ويرضى بذلك كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
ويبلغ هذا الترغيب ذروته عندما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إقامة حدٍّ من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله عز وجل )) . ([(4)])
ومن بركات أقامتها أنها كفارة لأهلها ، ويدل عليه ما يلي :
__________
(1) / سورة المائدة ، الآية : 66 .
(2) / تفسير القرآن العظيم : 2/77 .
(3) / سورة الأعراف ، الآية : 96 .
(4) / سنن ابن ماجه ، كتاب الحدود ، باب إقامة الحدود ، برقم : 2537 .(1/29)
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وكان شهد بدراً وهو أحد النُّقباء ليلة العقبة- ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وحوله عصابة من أصحابه - : ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفَى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعُوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه )). فبايعناه على ذلك . ([(1)])
ومن الأدلة عليه : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجم ماعزاً قال رجل لصاحبه : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجم رجمَ الكلب ، فسكت عنهما، ثم سار ساعةً حتى مرَّ بجيفة حمارٍ شائلٍ برجله ([(2)]) فقال :((أين فلان وفلان )) ؟ فقالا : نحن ذانِ يا رسول الله . قال :((انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)). فقالا : يا نبي الله من يأكل من هذا ؟! قال :((فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من أكلٍ منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس ([(3)]) فيها)) . ([(4)])
ومنها حديث الغامدية الذي سبق ذكره . ([(5)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب علامة الإيمان حب الأنصار ، برقم : 18 . وفي كتاب فضائل الصحابة ، باب وفود الأنصار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة وبيعة العقبة ، برقم : 3679 . وفي كتاب الحدود ، باب الحدود كفارة ، برقم : 6402 . وصحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب الحدود كفارات لأهلها ، برقم : 1709 .
(2) / انتفخ بطنه فارتفع لذلك رجلُه .
(3) / ينقمس وينغمس بمعنىً . راجع اللسان ، مادة (قمس) : 6/182.
(4) / سنن أبي داود ، كتاب الحدود ، باب رجم ماعز بن مالك ، برقم : 4428 .
(5) / ص : 37 .(1/30)
ولما كانت هذه المسألة من أهم المسائل في دين الله تنوعت الأساليب النبوية في التذكير بها ، فما مضى من نصوص يرغب في تطبيق أحكام الله وحدوه التي سنَّها لخلقه ، ومن أساليب الدعوة إلى تطبيقها : الترهيب من إهمالها والتخويف من إغفالها .
ولقد نطقت آي القرآن الكريم بكفر من عطَّل حدود الله ولم يحكم بشريعته ، قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ںفَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) } . ([(1)])
وقال : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) } ([(2)]).
وقال : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } . ([(3)])
فهذه الآيات وإن نزلت في اليهود إلا أنه من المقرر عند علمائنا أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما لا يخفى ، ولذا أُثر عن الشعبي رحمه الله([(4)]) أنه قال :" هذا في المسلمين ". ([(5)])
__________
(1) / سورة المائدة ، الآية : 44 .
(2) / سورة المائدة ، الآية : 45 .
(3) / سورة المائدة ، الآية : 47 .
(4) / عامر بن شراحبيل بن عبد إمام عصره ، وُلد في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، حدَّث عن جمع من الصحابة ، كان حافظاً علامةً ولم يكتب شيئاً قط ، قال مكحول : ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي. انظر سير أعلام النبلاء : 4/294-231 .
(5) / جامع البيان للطبري : 6/255 .(1/31)
ونفى الله عنهم الإيمان بآكد عبارة في قوله : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } ([(1)]). فجعلت هذه الآية أموراً لا يتحقق إيمان العبد بدونها :
- أن يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند النزاع .
- أن ينتفي الحرج إذا حكم فلا يضيق صدره به .
- أن يُسلم بهذا الحكم .
- أن يكون تسليمه له مطلقاً لا تشوبه شائبة ضيق .
قال أبو السعود رحمه الله ([(2)]):" { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي ِNخhإ،ےRr& حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } أي مما قضيت به أو من قضائك ... { #qكJدk=|،ç"ur } أي : ينقادوا لأمرك ويذعنوا له ، { تَسْلِيمًا } تأكيد للفعل بمنزلة تكريره ، أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنهم ، يُقال سلَّم لأمر الله وأسلم له بمعنى ً ، وحقيقته : سلَّم نفسه له إذا جعلها سالمة له خالصة ، أي : ينقادوا لحكمك انقياداً لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم". ([(3)])
__________
(1) / سورة النساء ، الآية : 65 .
(2) / محمد بن محمد العمادي من كبار علماء التفسير ، قرأ على أبيه في بداية الطلب ، وكانت وفاته في شهر جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين وتسعمائة . انظر طبقات المفسرين للداودي : 1/399 .
(3) / تفسير أبي السعود : 2/197 .(1/32)
فكل من رضي بالإسلام ديناً فلا بد أن يرضى بتحكيم حدوده ؛ لأن الإسلام شريعة كاملة أُمرنا بالتزام جميع فروعها ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) } . ([(1)]) ولا فرق بين قول الله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) } ([(2)])، وبين قوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } . ([(3)])
ومن الآيات التي تذمُّ من تحاكم إلى غير ما أنزل الله ، وتبين سفه عقله ورباجة ذهنه قوله سبحانه وتعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } . ([(4)]) فإنَّ من سَلِم عقله لا يمكن أن يترك أعدل العادلين وأعلم العالِمين وأرحم الراحمين ويتحاكم إلى غيره ممن يجري الهوى والانحراف عليهم .
وكل حكم ليس من حكم الله فهو حكم الجاهلية التي ذم الله . ([(5)])
فقوله { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } إنكار وتعجب وتوبيخ .
وقوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : عند قوم يوقنون ، فهم يعلمون أنه لا أحد أحسن حكماً من الله .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 208.
(2) / سورة البقرة ، الآية : 43 .
(3) / سورة النور ، الآية : 2 .
(4) / سورة المائدة ، الآية : 50 .
(5) / راجع تفسير القرآن العظيم : 2/68 .(1/33)
قال ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية : " يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى ؛ من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير ؛ قال تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } ، أي : يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون ، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقِل عن الله شرعَه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء". ([(1)])
لله دَرُّك .. ما أجملَ دُرَرَك !!
وقد توعد الله تعالى من اتبع غير أحكام الله وشريعته بالعذاب الأليم في الآخرة فقال : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) } . ([(2)])
__________
(1) / تفسير القرآن العظيم : 2/68 .
(2) / سورة الشورى ، الآية : 21 .(1/34)
قال ابن كثير رحمه الله :" أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم ، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم ". ([(1)])
وكفى بالإعراض عن التحاكم إلى شرع الله سُبَّةً ومذمةً أنه من صفات اليهود والمنافقين ..
فقد مر معنا أن اليهود غيَّروا حدَّ الرَّجم لما كثُر الزِّنا في أشرافهم ، فأحيا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما أماتوه من هدى التوراة وأقامه فيهم . ([(2)])
وأما المنافقون فهم الذين قال الله عنهم : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويُرِيْدُ كك`"sـّO±9$# أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) } . ([(3)])
فإنها نزلت في أحد المنافقين تحاكم إلى يهودي معرضاً عن حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ! ([(4)]) .
وقيل : أراد التحاكم إلى بعض الكهان . ([(5)])
ألا يكفي لردعنا قول ربنا فيهم يحذرنا : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَت أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ ميَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) } . ([(6)])
__________
(1) / تفسير القرآن العظيم : 4/112 .
(2) / انظر ص : 23.
(3) / سورة النساء ، الآية : 60 .
(4) / راجع التسهيل للكلبي : 1/146 .
(5) / راجع تفسير أبي السعود : 2/195 .
(6) / سورة النساء ، الآيات : 61-63 .(1/35)
قال الرازي رحمه الله :" وهذا نصٌ في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام ". ([(1)])
والآيات الدالة على ذلك كثيرة لا يكتنفها الحصر .
يقول الشنقيطي رحمه الله :" وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر فهي كثيرة جداً ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) } ([(2)]) ، وقوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ ِNèdqكJçG÷èsغr&ِ إنَّكُم لَمُشْرِكُونَ (121) } ([(3)])، وقوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَن لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) } ([(4)]) ". ([(5)])
فلا فرق بين أن يشرك المرء بربه في عبادته ، وبين أن يشرك في الحكم ؛ فقد قال تعالى في شأن العبادة : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } ([(6)])، وقال في شأن الحُكْم : { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } . ([(7)]) ففي قراءة { ولا تُشركْ } . ([(8)])
__________
(1) / التفسير الكبير : 10/124 .
(2) / سورة النحل ، الآية : 100.
(3) / سورة الأنعام ، الآية : 121 .
(4) / سورة يس ، الآية : 60 .
(5) / أضواء البيان : 7/48 .
(6) / سورة الكهف ، الآية : 110 .
(7) / سورة الكهف ، الآية : 26 .
(8) / قراءة ابن عامر رحمه الله ، انظر الحجة في القراءات السبع ، للإمام الحسين بن أحمد بن خالويه، دار الشروق ببيروت، الطبعة الرابعة ، 1401هـ ، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم: 1/223.(1/36)
ولم يرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من أسامة بن زيد - رضي الله عنه - شفاعته لإبطال حدٍّ أوجبه الله ، وغضب لذلك ، فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا من يكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فكلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :((أتشفع في حدٍّ من حدود الله)) ؟! ثم قام فخطب ، قال :((يا أيها الناس إنما ضلَّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحدَّ لِلَّهِ وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) . ([(1)])
__________
(1) / صحيح البخاري ،كتاب الأنبياء ، باب حديث الغار ، برقم : 3288 . وفي كتاب المناقب ، باب ذكر أسامة بن زيد - رضي الله عنه - ، برقم : 3526 . وفي كتاب الحدود ، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع ، برقم : 6405 . وفي باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان ، برقم : 6406 . وصحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود ، برقم : 1688 .(1/37)
وإن مما يؤدي إليه تغييب شرع الله وعدم إقامة حدوده ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)). ([(1)])
فإذا طُبِّق حَدُّ الزِّنا عاش الناس في أمن على أعراضهم ، وتلاشت هذه الجريمة أو قلَّت نسبتها .
ولا يُشَغَّبُ علينا بأقوال الملحدين ممن يطعن في حدود رب العالمين ، ويتخذ فئاماً من بني جلدتنا أبواقاً تنعق لهم بما يريدون .
ومن تُرَّهاتهم التي راموا بها إبطال الحدود وزعزعة عقيدة المسلمين :
أن الحدود نوع من الوحشية لا تتناسب مع البشر ؟
وإن لم يكن اعتقاد هذا الكلام كفراً فما أدري ما الكفر وما الإلحاد!!
لقد خلق الله الإنسان وكرمه ، ولا ينازع كافر أو مسلم في أن الله تعالى هو الذي خلق البشر ، والذي خلقهم هو أعلم بما يُصلحهم عقلاً وشرعاً ..
أما العقل فلأن من قدر على صنعة شيء فهو أقدر على المحافظة عليها وصونها مما يتلفها .
__________
(1) / سنن ابن ماجه ، كتاب الفتن ، باب العقوبات ، برقم : 4018 .(1/38)
وأما الشرع فلأن الله تعالى قال في أربعة مواضع : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ([(1)]) ، وقال : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } . ([(2)])
وإن من المعلوم لدى كل من يعقل قوله أن القسوة لا بد منها -أحياناً- لتحقيق الإصلاح ..
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم
وكما أن الطبيب قد يلجأ إلى استئصال جزء من بدن المريض ليسلم باقيه فكذلك قد يكون من الضروري استئصال فرد من المجتمع ليُعافى سائره ، هذا ما لا يعقله إلا من بعُد نظره واتسع أُفُقُه ، وأنَّى لقاصر النظر أنْ يُدرك ذلك .
وإن صدور هذا الكلام من الغربيين مما يُضحك الثكالى من النِّساء ؛ ذلك لأنهم أبعد الناس عن احترام الإنسان وحقوقه ، وما يحدث لإخواننا الذين يُعذَّبون بأيديهم في مختلف البقاع أعظم دليل وأكبر شاهد على ذلك .
ومن أباطيلهم : أنَّ أقامة حد الزِّنا يفضي إلى إزهاق النفوس .
والجواب : لنقارن بين بقاء الذين يجب أن يُرجموا وبين إنفاذ حكم الله فيهم :
ففي بقائهم وعدم إقامة الحد عليهم : إفساد للنسل ، وهتك للعرض ، وتدمير للأسر ، وقتل وتشريد ... إلى غير ذلك مما لا يخفى على العاقل الرشيد .
أما إقامة الحد فمفضٍ إلى الحياة وليس إلى إزهاق الأرواح ؛ ذلك لأن الحد المقام على فرد واحد يردع الآلاف غيره ، ويبقى المجتمع نظيفاً طاهراً تخيِّم عليه العفة ، ويظلله النقاء . قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) } . ([(3)])
ومن مزاعمهم المبينة لجهالتهم : أن الرَّجم لم يثبت في القرآن الكريم .
وقد سبق الكلام عن هذا . ([(4)])
__________
(1) / سورة البقرة ، الآيتان : 216، 232 . وسورة آل عمران ، الآية : 66 . وسورة النور ، الآية : 19 .
(2) / سورة الملك ، الآية : 14 .
(3) / سورة البقرة ، الآية : 179 .
(4) / انظر ص : 34.(1/39)
فالله نسأل أن يقيض لأمتنا من يُحكِّم في أعراضهم ودمائهم وأموالهم شرع الله تعالى .
المبحث الخامس
النكاح من نعم الله تعالى على عباده ، وقد امتن به عليهم فقال :
{ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) } .([(1)])
فقد ذكر الله في هذه الآية ثلاث منن :
الأولى : { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ }
من أنفسكم : من جنسكم ، لا من جنس آخر ([(2)]) . قال ابن كثير رحمه الله :" خلق لكم من جنسكم إناثاً تكون لكم أزواجاً ". ([(3)])
فالمرأة خلقت من مادةِ خلق الرجل ، فهي مثله في هذا ، فلا ينبغي التعالي والتكبر عليها ، أو إهانتها كما كان يفعله أهل الجاهلية .
والجنس يألفه الجنس ، ويسكن إليه .
ولهذا كانت المنة الثانية :
{ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا }
وفرق بين سكن إليه ، وسكن عنده . يقول الرازي رحمه الله موضحاً هذا الفرق: " يقال سكن إليه للسكون القلبي ويقال سكن عنده للسكون الجسماني لأن كلمة عند جاءت لظرف المكان وذلك للأجسام وإلى للغاية وهي للقلوب ". ([(4)])
والسكون : التآلف ، والميل ، والاطمئنان . ([(5)])
والسكون لا يكون إلا بين أبناء الجنس الواحد ، فالموافقة مؤداها التآلف، والمخالفة بخلافها .
وهذه المنة ورد ذكرها كذلك في قول الله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ([(6)]).
__________
(1) / سورة الروم ، الآية : 21 .
(2) / راجع تفسير أبي السعود : 7/56 .
(3) / تفسير القرآن العظيم : 3/430 .
(4) / مفاتيح الغيب : 25/97 .
(5) / انظر تفسير أبي السعود : 7/56 .
(6) / سورة الأعراف ، الآية : 189 .(1/40)
وبه فُسر اللباس الوارد في قول الله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } ([(1)])في أحد التفسيرين ([(2)]).
ومهما قيل من شيء لإيضاح هذه الكلمة ، فلا أدل عليها من لفظها ، " فالسكن أمر نفساني ، وسر وجداني، يجد فيه المرء سعادةً وأنساً لا تكلف فيه ". ([(3)])
المنة الثالثة :
{ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }
والمودة هي المحبة ، فلا أُلْفَة بين روحين كما هي بين الزوجين : " فتجد الرجل من المشرق يتزوج بامرأة من المغرب ، غريبة عنه ، لا يربطه بها رابط قرابة، تختلف عنه في الأخلاق والعادات والصفات ، وما إن يقترن أحدهما بالآخر بالزواج، ويتم بينهما اللقاء والمعاشرة ، حتى تصبح كأنها جزء منه ؛ يحنو عليها ، ويحبها ، ويسعى لرفاهتها وسعادتها ". ([(4)])
" إن القرآن بهذا النص يضع أسس الحياة العاطفية الهانئة الهادئة ، فالزوجة ملاذ الزوج يأوي إليه بعد جهاده اليومي في سبيل تحصيل لقمة العيش ، ويركن إلى مؤانسته بعد كده وجهده ، وسعيه ودأبه ، يلقي في نهاية مطافه بمتاعبه إلى هذا الملاذ ، إلى زوجته التي ينبغي أن تتلقاه فرحة ، مرحة ، طلقة الوجه ، ضاحكة الأسارير ، يجد منها آنئذٍ أذناً صاغيةً ، وقلباً حانياً ، وحديثاً رقيقاً حلواً يخفف عنه ، ويذهب ما به " ([(5)])
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 187 .
(2) / راجع جامع البيان للطبري : 2/163 .
(3) / الزواج الإسلامي السعيد ، محمود مهدي الإستانبولي ، العالمية للنشر والتوزيع ، ص : 26 .
(4) / الزواج الإسلامي المبكر ، للشيخ محمد علي الصابوني ، الطبعة الثالثة ، 1415هـ ، ص: 14 .
(5) / الزواج الإسلامي السعيد ، ص : 27 .(1/41)
وفرق الرازي رحمه الله بين المودة و الرحمة بقوله :" { مودة } حالة حاجة نفسه { ورحمة } حالة حاجة صاحبه إليه ، وهذا لأن الإنسان يحب مثلاً ولده فإذا رأى عدوه في شدة من جوع وألم قد يأخذ من ولده ويصلح به حال ذلك ، وما ذلك لسبب المحبة وإنما هو لسبب الرحمة ... ولهذا فإن الزوجة قد تخرج عن محل الشهوة بكبر أو مرض ويبقى قيام الزوج بها وبالعكس ". ([(1)])
وإذا كان بقاء النوع البشري من أسمى غايات النكاح ؛ فلا سبيل لتحقيق هذه الغاية إلا بوجود المودة بين الزوجين .
وهذه المنن تستوجب التفكر في سنن الله تعالى ، ولذا ناسب أن تُختم الآية بقوله: { ... لقوم يتفكرون } .
إن النكاح أعظم سبيل يتقي به المرء جرائر الآثام والفواحش ، وقد دلت آيات القرآن الكريم على أثر النكاح في تحقيق العفة والتحصن من الزِّنا .
فبين الله تعالى ما تمثله المرأة للرجل ، وما يمثله لها فقال : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } ([(2)])؛ وذلك لاحتواء كل واحد من الزوجين لصاحبه احتواء اللباس له ، قال الرازي رحمه الله :" لما كان الرجل والمرأة يعتنقان فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه سُمي كل واحد منهما لباساً ". ([(3)])
وفي الآية لطيفة بديعة ، وهي : أن الثياب تستر صاحبها ، وكل واحد من الزوجين كذلك ؛ وقد ركب الله في بني الإنسان شهوة يتشوف لإشباعها ، وإذا ما أعمل هذه الشهوة فيما لا يحل له فُضح أمره وخاب سعيه ، فلما كان كل واحد من الزوجين محلاً حلالاً لقضائها كان كاللباس لأنه منع صاحبه من الوقوع في الحرام فكان ستراً له.([(4)])
__________
(1) / مفاتيح الغيب : 7/171 .
(2) / سورة البقرة ، الآية : 187.
(3) / مفاتيح الغيب : 5/90 .
(4) / أشار أبو السعود إلى شيء من هذا المعنى في تفسيره : 1/201 .(1/42)
وقد جاء هذا التشبيه القرآني بعد إباحة قضاء الوطر من الزوجة في ليالي شهر رمضان ، قال سبحانه تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى ِNن3ح !$|،خS هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } ([(1)])
ففي بداية الأمر كان المسلمون إذا صلى أحدهم العشاء أو نام بعد الغروب لم تحل له المقارفة إلا بعد اليوم التالي ، فشق ذلك عليهم ؛ لقلة صبر الرجال عن النساء مع كثرة مخالطتهن ، فكان أن وقع بعضهم في المحظور ، فأدركتهم رحمة العزيز الغفور بنسخ هذا الحكم ، ومحو أثر ذنبهم .
إن هذه الآية تصور لنا بوضوح صعوبة الصبر عن النساء ، وأن للشهوات غوائل لا تُؤمن ، وتجلي لنا عظيم رحمة ربنا بنا ؛ إذ جعل من الزوجة سبيلاً لنيلها، وطريقاً لإروائها .
ثم ندب إلى التسامي بهذه الغريزة المركبة فينا بأن نطلب بها الولد ،وهذا فرق ما بين الحيوان والإنسان ، فالأول همه في الحياة أن يأكل ويشرب وينزو ، أما الإنسان الذي أخبر الله تعالى عن تكريمه إياه فإنه يأتي شهوته وله من المقاصد من وراء ذلك ما تناطح السحب في عليائها : من كف نفسه عن الحرام ، وتحصين غيره ، ومن طلب الولد الذي تكثر به أمة الإسلام ، يقول ربنا العلاَّم: { فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } . ([(2)]) أي : الولد .([(3)])
ولعل هذه السياحة في ظلال هذه الآية الكريمة تُعلمنا أنه لا مضادة بين ما سبق تقريره ، وبين من فسر اللباس بالسكن ([(4)]) ؛ لأن ما مضى من معنى من أكبر أسباب السكن .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 187 .
(2) / سورة البقرة ، الآية : 187 .
(3) / راجع تفسير الطبري : 2/169 .
(4) / راجع الدر المنثور : 1/478 .(1/43)
وأوجب الله حفظ الفرج ، واستثنى الزوجة وملك اليمين ، وبيَّن أن من سلك غير هذ السبيل فهو من الآثمين ، قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } . ([(1)])
قال الطبري رحمه الله :" أي : يحفظونها عن إعمالها في شيء من الفروج إلا من أزواجهم وإمائهم " ([(2)]) . وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :(( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )) ([(3)]) .
قال ابن تيمية رحمه الله ([(4)]) موضحاً ما يندرج تحت حفظ الفرج من المعاني :
" وحفظ الفرج يتضمن : حفظه عن الوطء به في الفروج والأدبار ودون ذلك، وعن المباشرة ، ومس الغير ([(5)]) له ، وكشفه للغير ، ونظر الغير إليه ". ([(6)])
__________
(1) / سورة المؤمنون ، الآيتان : 5 ، 6 . وسورة المعارج ، الآيتان : 29، 30 .
(2) / جامع البيان : 18/4 .
(3) / أخرجه أبو داود في كتاب الحمام ، باب ما جاء في التعري ، برقم : 4017 . والترمذي في كتاب الأدب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في ستر العورة ، برقم : 2794 . وابن ماجه في كتاب النكاح ، باب التستر ثم الجماع ، برقم : 1920.
(4) / الشيخ الإمام العلامة المجاهد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وُلد سنة إحدى وستين وستمائة ، كان ملماً بأنواع الفنون إذا تكلم في فنٍّ ظن الجالس أنه فنه ، ممن تتلمذ عليه : الإمام الذهبي ، وابن كثير ، وابن القيم رحمهم الله ، توفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة . انظر البداية والنهاية : 14/136 .
(5) / بعض اللغويين يُلحِّن من أدخل (ال) على (غير) .
(6) / مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي ، مكتبة ابن تيمية ، الطبعة الثانية : 15/378 .(1/44)
وكل ما ذكره الشيخ يجوز في حق الزوجة والأمة ، وأما الوطء في الدبر فلا خلاف في تحريمه.
وأباح الله تعالى للرجل أن يأتي أهله متى شاء ؛ قطعاً لبوائق الشهوات ، وحسماً لمادة الفجور ، فقال تعالى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) } . ([(1)])
وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه الشيخان في الصحيحين ([(2)])عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : " كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ".
فتبين من سبب النزول أن معنى { '¯Tr& } : كيف شئتم إذا كان في موضع الحرث واتقيتم الدبر ؛ لأن قوله تعالى { أَنَّى شِئْتُمْ } مرتب بالفاء التعقيبية على قوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } ومعلوم أن القُبل فقط هو موضع الحرث ، وذكره دليل على تحريم الإتيان في غيره ، وليس مِن خلاف في هذا .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 223 .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ... } الآية ،برقم : 4254 . وصحيح مسلم ، كتاب النكاح ، باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر ، برقم : 1435 .(1/45)
قال النووي رحمه الله :" قال العلماء : وقوله تعالى { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي: موضع الزرع من المرأة ، وهو قبلها الذي يزرع فيه المني لابتغاء الولد ، ففيه إباحة وطئها في قبلها إن شاء من بين يديها ، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة . وأما الدبر فليس هو بحرث ، ولا موضع زرع. ومعنى قوله { أنى شئتم } أي كيف شئتم . واتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها حائضاً كانت أو طاهراً ؛ لأحاديث كثيرة مشهورة ([(1)])".([(2)])
وقد فُسرت { '¯Tr& } بمتى كذلك ([(3)])، فهي دليل على جواز إتيان الرجل أهله متى شاء وكيف شاء إذ لا معارضة بين القولين ولا تناقض بين التفسيرين ؛ والآية إذا جاء فيه قولان فأكثر لا تعارض بينها فإنها تُحمل على جميع الأقوال .
أما القول الأول - أنى بمعنى كيف شئتم - فمخصوص بما مضى بيانه. وأما القول الثاني - بمعنى : متى شئتم - فمخصوص بمثل قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهرْنَ t فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } ([(4)]) فليس له أن يجامعها حال حيضها ،ولكن له أن يستمتع بها بما دون ذلك .
__________
(1) / للتعرف على هذه الأدلة راجع : الجامع لأحكام القرآن : 3/93 وما بعدها ، وأضواء البيان :1/92 وما بعدها ، والتسهيل للكلبي : 1/80 ، ومفاتيح الغيب للرازي : 6/61 وما بعدها.
(2) / شرح النووي على صحيح مسلم : 10/6 .
(3) / الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 3/93 ، وزاد المسير : 1/251 .
(4) / سورة البقرة ، الآية : 222 .(1/46)
وقد جاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين أن المرأة مطالبة بالاستجابة لزوجها متى أرادها لفراشه ، فعن طلق بن علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التَّنُّور ([(1)]) )). ([(2)])
والمراد من الحديث أن انشغالها بأي شيء مهما عظم لا ينبغي أن يمنعها من تلبية رغبة بعلها .
وممن تلعنهم الملائكة: المرأة التي يدعوها زوجها إلى فراشه فتأبى ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح )). ([(3)])
قال النووي رحمه الله :" حتى تصبح ،وفي رواية : حتى ترجع . هذا دليل على تحريم امتناعها من فراشه لغير عذر شرعي ، وليس الحيض بعذر للامتناع ؛ لأنَّ له حقاً في الاستمتاع بها فوق الإزار ، ومعنى الحديث : أن اللعنة تستمر عليها حتى طلوع الفجر بعد أن يستغني عنها ، أو بتوبتها ورجوعها إلى الحق ". ([(4)])
__________
(1) / الذي يُخبز فيه ، انظر اللسان ، مادة (تنر) : 4/95 .
(2) / أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع ، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة ، برقم : 1160.
(3) / أخرج البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه ، برقم : 3065 .وفي كتاب النكاح ، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها ، برقم : 4897. ومسلم في كتاب النكاح ، باب تحريم امتناعها من فراش زوجها ، برقم 1436.
(4) / شرح النووي على مسلم : 10/7-8 .(1/47)
وإن من أوضح الأدلة وأبينها على أثر النكاح في إحصان الفرج قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إن المرأة تقبل في صورة شيطان ، وتدبر في صورة شيطان ، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه)). ([(1)])
قال النووي رحمه الله :" ومعنى الحديث أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته إن كانت له فليواقعها ؛ ليدفع شهوته، وتسكن نفسه ، ويجمع قلبه على ما هو بصدده . وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن المرأة تقبل في صورة شيطان ، وتدبر في صورة شيطان )) . قال العلماء : معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها ؛ لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء ، والالتذاذ بنظرهن وما يتعلق بهن ، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له . ويستنبط من هذا : أنه ينبغي لها أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة ، وأنه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها ، والإعراض عنها مطلقاً ".([(2)])
رحمه الله ما أعظم نصحه .
ومن الآثار الدالة على عظيم أثر النكاح في تحقيق العفة والبعد عن الزِّنا ، وأن عدمه من أسباب الوقوع فيه قول ابن عباس رضي الله عنهما لغلمانه واحداً واحداً :" ألا أزوجك ؟ ما من عبد يزني إلاَّ نزع الله منه نور الإيمان ". ([(3)])
والحديث عن هذه الشعيرة العظيمة يقوم على ستة مطالب ، وهي :
المطلب الأول : الأمر بالنكاح .
لقد ورد الأمر بالنكاح في نصوص عديدة ، فمن ذلك قول الله سبحانه :
{
__________
(1) / أخرجه مسلم في كتاب النكاح ، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها ، برقم : 1403 .
(2) / شرح النووي : 9/178 .
(3) / كتاب الإيمان ، للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع بالرياض ، الطبعة الأولى ، 1421هـ ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني ، ص : 52.(1/48)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ِNà6ح !$tBخ)ur إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) } ([(1)])
قال الرازي رحمه الله : " اعلم أنه تعالى لما أمر مِن قبلُ بغض الأبصار وحفظ الفروج بين من بعد أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل ، فبين تعالى بعد ذلك طريق الحلِّ فقال { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى } " ([(2)])
والأيِّم : من لا زوج له من الرجال والنساء ، سواء سبق له الزواج أم لا ([(3)]).
فأمر الله تعالى الأولياء بتزويج من لا زوج له .
ووعد ربُّنا سبحانه المتزوج بالغنى ؛ ترغيباً في تحقيق هذه الشعيرة العظيمة، قال أبو السعود رحمه الله :" { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } إزاحة لما عسى يكون وازعاً من النكاح من فقر أحد الجانبين ، أي : لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة ؛ فإن في فضل الله عز و جل غنية عن المال ". ([(4)])
وهذا الوعد جاء مصرحاً به كذلك في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد قال: (( ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف )). ([(5)])
__________
(1) / الآية : 32 ، من سورة النور .
(2) / مفاتيح الغيب : 23/183 .
(3) / انظر التسهيل لعلوم التنزيل : 3/66 .
(4) / تفسير أبي السعود : 6/171 .
(5) / أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون الله لهم ، برقم : 1655 . والنسائي في كتاب الجهاد ، باب فضل الروحة في سبيل الله عز وجل ، برقم : 3119 . وفي كتاب النكاح ، باب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف ، برقم : 3218 .(1/49)
وجاء الأمر بالنكاح كذلك في قول الله عز وجل : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } . ([(1)])
كما جاء في كثير من أحاديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فمن ذلك :
قوله عليه الصلاة والسلام (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )) ([(2)])
والنكاح وتكثير النسل رغبة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى تحقيقها فقال : (( تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم )). ([(3)]) ولأحمد رحمه الله في مسنده ([(4)]): ((تزوجوا الودود الولود ؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة )) .
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باختيار المرأة الديِّنة الصالحة ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( تُنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ([(5)]) ، وجمالها ، ولدينها . فاظفر بذات الدين تربت يداك ([(6)]) )). ([(7)])
__________
(1) / سورة النساء ، الآية : 3 .
(2) / مضى تخريجه والكلام عليه ص: 67 .
(3) / أخرجه أبو داود في كتاب النكاح ، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء ، برقم : 2050
(4) / 3/158 .
(5) / الحسب : الشرف ، وما يُعد من مفاخر الآباء . راجع اللسان ، مادة (حسب) : 1/310 .
(6) / هذا إخبار عما يفعله الناس وإرشاد إلى أفضل ذلك ، وأما تربت يداك فأصلها : افتقرت . واستُخدمت لمعنى الحث، فتربت يداك ، وقاتله الله ما أشجعه ، ولا أم له ، ولا أب لك ، وثكلته أمه ، وويل أمه ... وما أشبه هذا من ألفاظهم تُقال لإنكار الشيء ، والزجر عنه ، أو الذم عليه ، أو استعظامه ، أو الحث عليه ، أو الإعجاب به . راجع شرح النووي على مسلم : 3/221 .
(7) / أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، باب الأكفاء في الدين ، برقم : 4802. ومسلم في كتاب الرضاع ، باب استحباب نكاح ذات الدين ، برقم : 1466 .(1/50)
وبين حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - أن خير ما يحوزه الحائزون في الدنيا بعد تقوى الله تعالى : الزوجة الصالحة ؛ فقال -عليه الصلاة والسلام -:(( الدنيا متاع وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة)). ([(1)]) وقال :(( ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة ؛ إن أمرها أطاعته ، وإن نظر إليها سرته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله )) . ([(2)])
وفي المسند ([(3)]) قوله - صلى الله عليه وسلم - :(( من سعادة ابن آدم ثلاثة ، ومن شقوة ابن آدم ثلاثة، من سعادة ابن آدم : المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح ، والمركب الصالح . ومن شقوة ابن آدم : المرأة السوء ، والمسكن السوء ، والمركب السوء )).
وهذه الرواية مفسرة بما في المستدرك :(( ثلاث من السعادة ، وثلاث من الشقاوة . فمن السعادة : المرأة تراها تعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك ، والدابة تكون وطية فتُلحِقك بأصحابك ، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق . ومن الشقاوة : المرأة تراها فتسوءك وتحمل لسانها عليك وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك ، والدابة تكون قطوفاً فإن ضربتها أتعبتك وإن تركبها لم تلحقك بأصحابك ، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق )) . ([(4)])
المطلب الثاني : النكاح سنة الأنبياء.
دلت آيات القرآن الكريم على أن النكاح من هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فقال سبحانه عن أبينا آدم عليه السلام :
{
__________
(1) / أخرجه مسلم في كتاب الرضاع ، باب : خير متاع الدنيا الزوجة الصالحة ، برقم : 1467.
(2) / أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح ، باب أفضل النساء ، برقم : 1855 .
(3) / مسند الإمام أحمد : 1/168 .
(4) / مستدرك الحاكم : 2/175 .(1/51)
وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) } . ([(1)])
وقال في شأن زكريا عليه السلام :
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدَاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } . ([(2)])
وقال في موسى عليه السلام :
{ ... فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) } . ([(3)])
وأثبت ذلك لنوح ولوط عليهما السلام بقوله :
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) } . ([(4)])
وجاء في شأن إبراهيم عليه السلام :
{ وَامْرَأَتُهُ ×pyJح !$s% فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) } ([(5)])
وحكى قوله :
{
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية :35 .
(2) / سورة الأنبياء ، الآيتان : 89 ، 90 .
(3) / سورة طه ، الآية : 10 .
(4) / سورة التحريم ، الآية : 10 .
(5) / سورة هود ، الآية : 71 .(1/52)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) } . [(1)])
وفي نبينا - صلى الله عليه وسلم - :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } في موضعين . ([(2)])
وأوضح أن الزواج من هديهم جميعاً فقال سبحانه :
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } . ([(3)])
وورد في جامع الترمذي رحمه الله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( أربع من سنن المرسلين : الحياء والتعطر والسواك والنكاح )) . ([(4)])
__________
(1) / سورة إبراهيم ، الآية : 37 .
(2) / الآيتان : 28 ، 59 من سورة الأحزاب .
(3) / سورة الرعد ، الآية : 38 .
(4) / كتاب النكاح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه ، بالرقم : 1080 .(1/53)
وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح من سنته وليس منه من رغب عنها ، فعن أنس ابن مالك أنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً . وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )) . ([(1)])
فكل هذه النصوص تدل بوضوح على أنَّ هذه الشعيرة العظيمة قام بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم سادات خلق الله كلهم ؛ لما يترتب عليها من حفظ النوع البشري ، وتحصين النفس ، وغيرها من المصالح العظيمة والغايات الجليلة .
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، باب : الترغيب في النكاح ، برقم : 4776 . ومسلم في كتاب النكاح ، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم ، برقم : 1401.(1/54)
ولا يعكر على هذا ما جاء في مدح نبي الله يحيى عليه السلام { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } . ([(1)]) ؛ وذكر بعض المفسرين أنَّ الحصور بمعنى الذي لا قدرة له على النساء لِلَّهِ ([(2)]) فهذا ليس من المدح في شيء ، قال الرازي رحمه الله راداً على من قال ذلك:" ثم منهم من قال : كان ذلك لصغر الآلة ، ومنهم من قال : كان ذلك لتعذر الإنزال ، ومنهم من قال : كان ذلك لعدم القدرة . فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول، كأنه قال : محصور عنهن أي محبوس ، ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب ، وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان ، وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز ، ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً". ([(3)])
__________
(1) / سورة آل عمران ، الآية : 39 .
(2) / راجع زاد المسير : 1/383 .
(3) / التفسير الكبير : 8/33 .(1/55)
فالتحقيق في معنى هذه الآية ما قاله ابن كثير رحمه الله منكراً قول من ألصق به هذا العيب ، مستشهداً بغيره من أئمة المفسرين ، موضحاً معنى الحصور :" أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي لا يأتيها كأنه حصور عنها . وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهوة في النساء . وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى ، أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام . ثم هي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه درجة عليا وهي درجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ؛ بتحصينهن ، وقيامه عليهن ، وإكسابه لهن ، وهدايته إياهن . بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال :((حبب إلي من دنياكم )) ([(1)]). هذا لفظه . والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن . بل قد يُفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } ، ([(2)]) كأنه قال : ولداً له ذرية ونسل وعقب ". ([(3)])
المطلب الثالث : عرض الرجل بناته للصالحين .
هدف ديننا الحنيف إلى تزويج الأيامى بسبل شتى ، ومن ذلك تسويغه أن يعرض الرجل موليته على من يظن به صلاحاً واستقامةً .
وهذا الأمر كان معروفاً قبل الإسلام ، وجاء في ديننا ما يُؤيده .
__________
(1) / سنن البيهقي : 7/78 .
(2) / سورة آل عمران ، الآية : 38 .
(3) / تفسير القرآن العظيم : 1/362-363 .(1/56)
قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) } . ([(1)])
فالآية ظاهرة الدلالة في عرض شيخ مدين بنته على موسى عليه السلام بعدما علم من أخلاقه ما يدعوه إلى ذلك : القوة والأمانة ، وأكرم بهما من دافعين.
قال القرطبي رحمه الله حاضاً الناس على هذه السنة :" فمن الحسن عرض الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداءً بالسلف الصالح". ([(2)])
ويقول ابن العربي رحمه الله معلقاً على هذه القصة :" فيه عرض المولى وليته على الزوج وهذه سنة قائمة ؛ عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة ([(3)]) على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ([(4)])
__________
(1) / سورة القصص ، الآية : 27 .
(2) / الجامع لأحكام القرآن : 13/271 .
(3) / العدوية ، أم المؤمنين ، أبوها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، تزوجها النبي بعد خنيس بن حذافة ، ثم طلقها وأُمر بمراجعتها لكثرة صيامها وقيامها ، ماتت سنة خمس وأربعين انظر تقريب التهذيب : 1/745 .
(4) / أحكام القرآن : 3/494-495 .(1/57)
وقصة حفصة رضي الله عنها التي أُشير إليها وردت في صحيح البخاري رحمه الله ([(1)])، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيَّمت حفصة قال :" لقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة ، فقلت : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر ؟ قال : سأنظر في أمري . فلبثت ليالي فقال : قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا . قال عمر : فلقيت أبا بكر فقلت إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر ؟ فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً! فكنت عليه أوجد مني على عثمان . فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه . فلقيني أبو بكر فقال : لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك ؟ قلت : نعم . قال : فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها ، فلم أكن لأفشي سرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو تركها لقبلتها.
قال الحافظ رحمه الله :" وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه ؛ لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه ، وأنه لا استحياء في ذلك . وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجاً ؛ لأن أبا بكر كان حينئذٍ متزوجاً " . ([(2)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب شهود الملائكة بدراً ، برقم : 3783 . وفي كتاب النكاح ، باب من قال: لا نكاح إلا بولي ، برقم : 4836. وفي باب الخطبة ، برقم : 4850.
(2) / فتح الباري : 9/178 .(1/58)
ومما يدل على هذه السنة كذلك ما رواه سهل بن سعد - رضي الله عنه - ([(1)]) قال :" كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوساً ، فجاءته امرأة تعرض نفسها عليه ، فخفض فيها النظر ورفعه فلم يردها ، فقال رجل من أصحابه : زوجنيها يا رسول الله . قال : (( أعندك من شيء )) ؟ قال : ما عندي من شيء . قال : (( ولا خاتماً من حديد )) ؟ قال : ولا خاتماً من حديد ، ولكن أشق بردتي هذه فأعطيها النصف وآخذ النصف . قال : (( لا ، هل معك من القرآن شيء ))؟ قال : نعم . قال : (( اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن )).([(2)])
فالحديث واضح الدلالة في عرض المرأة نفسها لمن تظن به الصلاح ، وقد استدل به ابن العربي على ذلك في نقلي السابق عنه .
__________
(1) / سهل بن سعد الساعدي أبو العباس الأنصاري المدني ، أدرك النبي وهو ابن خمس عشرة سنة ، تُوفي سنة ثمان وثمانين . انظر التاريخ الكبير : 4/97 .
(2) / أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، برقم : 4741. وفي كتاب النكاح ، باب إذا كان الولي هو الخاطب ، برقم : 4839. ومسلم في كتاب النكاح ، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير واستحباب كونه خمسمائة درهم لمن لا يجحف به ، برقم : 1425.(1/59)
وفرق بين هذا وبين هبة المرأة نفسها ، فالأخير مما اختُص به سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) } . ([(1)])
فهبة النساء أنفسهن بلا مهر لا تجوز لهذه الآية ، وللإجماع . ([(2)])
المطلب الرابع : التعدُّد .
لا شك أن الله تعالى فاضل بين عباده فيما آتاهم ، فالناس متفاوتون في قدراتهم .
فتجد بعض الناس لا رغبة عنده في النساء ألبتة ..
وبعضهم لا يقوى على إشباع واحدة منهن ..
وبعضهم تضيق به زوجه ذرعاً ؛ لكمال فحولته ، وعظيم قوته ..
فالتعدد في حق هؤلاء خير عاصم لهم من الزِّنا والفواحش .
وقد دلَّ القرآن الكريم على مشروعية تعدد الزوجات ، قال الله عزَّ وجلَّ : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) } . ([(3)])
__________
(1) / سورة الأحزاب ، الآية : 50 .
(2) / راجع الجامع لأحكام القرآن : 14/211 .
(3) / سورة النساء ، الآية : 3 .(1/60)
جاء تفسير هذه الآية الكريمة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين ([(1)]): أن عروة بن الزبير قال : " سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى { وإن خفتم } إلى { ورباع } فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها ، تشاركه في ماله ، فيعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ".
وهذه الآية استدل بها بعض العلماء رحمهم الله على أن التعدد في النكاح مندوب، قال ابن قدامة رحمه الله مدللاً على ذلك :" ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج وبالغ في العدد ، وفعل ذلك أصحابه ، ولا تجتمع الصحابة على ترك الأفضل والاشتغال بالأدنى ". ([(2)])
ومما يدل على فضل التعدد قول ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير ([(3)]) رحمه الله :" هل تزوجت ؟ فقال سعيد : لا . قال : تزوج ؛ فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء ". ([(4)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الشركة ، باب شركة اليتيم وأهل الميراث ، برقم : 2362 . وفي كتاب التفسير ، باب { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } ، برقم : 4297 . وفي كتاب النكاح ، باب الترغيب في النكاح لقوله تعالى: { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ، برقم : 4776 . وفي باب الأكفاء في المال وتزويج المقل المثرية ، برقم : 4804. وفي باب لا يتزوج أكثر من أربع ، برقم : 4846 . وصحيح مسلم ، كتاب التفسير ، برقم : 3018 .
(2) / المغني لابن قدامة : 6/446 .
(3) / الإمام الحافظ المقرئ المفسر أبو محمد، روى عن ابن عباس وقرأ عليه القرآن ، وكان ابن عباس يحيل إليه في الفتوى، قتله الحجاج بن يوسف . انظر سير الأعلام : 4/321 وما بعدها.
(4) / أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، باب كثرة النساء ، برقم : 4782.(1/61)
قال ابن حجر رحمه الله في شرح هذا الأثر :" قيل المعنى خير أمة محمد [ - صلى الله عليه وسلم - ] ([(1)]) من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل . والذي يظهر أن مراد ابن عباس بالخير النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالأمة أخصاء أصحابه ، وكأنه أشار إلى أن ترك التزويج مرجوح إذ لو كان راجحاً ما آثر النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره وكان مع كونه أخشى الناس لله وأعلمهم به يكثر التزويج ". ([(2)])
ولا يناقض ما تقرر من فضل للتعدد قول الله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) } . ([(3)]) مع قوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129) } .([(4)])
فليس لأحدٍ أن يقول : أمرنا الله بالواحدة عند الخوف من الجور ، وأثبت في آية أخرى أن العدل لا يمكن ؛ فيتعين الزواج من واحدة !!
فمثل هذا خفي عليه معنى الآية ، لأن المراد من الآية : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ } أي في الحب والميل القلبي مهما حرص الإنسان على تساوي كفة حب كل واحدة فلن يتمكن ؛ فإن ذلك أمر قلبي لا يملكه البشر ، وإنما يملكه الله الذي يصرف القلوب كيف شاء ، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل ، ويقول : (( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ). يعني القلب". ([(5)])
__________
(1) / زيادة لا بد منها .
(2) / الفتح : 9/114 .
(3) / سورة النساء ، الآية : 3.
(4) / سورة النساء ، الآية : 129 .
(5) / أخرجه أبو داود في كتاب النكاح ، باب القسم بين النساء ، برقم : 2134.(1/62)
ولا يعكر على فضل التعدد كذلك تشويش من يحاول الحض من شأنه بحجة أنه يقحم الإنسان في مشاكل لا آخر لها ، ويفتح عليه أبواب متاعب كان الأولى إيصادها ؛ لأن ملابسة المتاعب في الحياة الدنيا لبني البشر أمر قدري واقع لا محالة ولو لم يتزوج الإنسان أبداً ، ألم يقل الله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } . ([(1)]) أي : في شدة وضيق . ولا بد أن يجري عليه الفرح والكدر ، واليسر والعسر ، والشدة والرخاء . سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً .
وأحسن بقول من قال ([(2)]) :
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأيُّ الناس تصفو مشاربه؟
والواقع يثبت أن بعض الناس ممن اكتفى بامرأة واحدة يعيش في تعب وتعروه منغصات تخطت الكثيرين ممن آثروا التعدد .
وكم من أشقاء تجذرت في صدورهم الشحناء والبغضاء ؟ وكم من إخوة لأب تحلت قلوبهم بالحب والصفاء ؟
ولو ترتبت بعض الأزمات على التعدد فإن المصالح التي تتمخض عنه لا يكاد العادُّ يَعُدُّها .
ويوضح لنا بجلاء أهمية التعدد في مجتمعات المسلمين ما يلي :
1. بعض الناس لا يكتفي بزوجة واحدة ؛ من أجل ما حباه الله به من قوة ، ومن هنا يتضح دور التعدد في الوقاية من الفواحش
2. كثرة ولادة البنات ، وهذا شيء مشاهد في الواقع ، وقد سألت بعض الأطباء في مختلف المستشفيات عن نسبة ولادة البنات إلى الذكور ؛ فأبانوا أنها نسبة مرتفعة جداً .
3. أن الرجال أكثر تعرضاً للمهالك والموت ؛ لأنهم الذين يخوضون الحروب وهم وقودها ، ويكثر خروجهم من المنازل -بخلاف النساء - فيكثر تعرضهم لحوادث المرور والطائرات والقطارات وغيرها ، وكثيراً ما يروح ضحية هذه الحوادث المئات والآلاف .
__________
(1) / الآية : 4، من سورة البلد .
(2) /بشار بن برد .(1/63)
4. كثرة الأرامل واليتامى نتيجة مؤكدة للنقطة السابقة، فالتعدد بهؤلاء نبل وتضحية وشهامة لا يحظى بها إلا أفذاذ الرجال . وقد كان تعدد النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الباب إذ أنه لم يتزوج بكراً إلا عائشة رضي الله عنها .
قال ابن حجر رحمه الله :" والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه تقدمت الإشارة إلى بعضها :
أحدها : أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر ونحو ذلك .
ثانيها : لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم .
ثالثها : للزيادة في تألفهم لذلك .
رابعها : للزيادة في التكليف ، حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ .
خامسها : لتكثر عشيرته من جهة نسائه ؛ فيزاد أعوانه على من يحاربه.
سادسها : نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال ؛ لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله .
سابعها : الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة ، فقد تزوج أم حبيبة وأبوها إذ ذاك يعاديه ، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها ، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه . بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن .
ثامنها : ما تقدم مبسوطاً من خرق العادة له في كثرة الجماع ، مع التقلل من المأكول والمشروب وكثرة الصيام والوصال ، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم وأشار إلى أن كثرته تكسر شهوته ، فانخرقت هذه العادة في حقه - صلى الله عليه وسلم - .
تاسعها وعاشرها : ما تقدم نقله عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن . والله أعلم ". ([(1)])
__________
(1) / فتح الباري : 9/115 .(1/64)
5. أن المرأة تكون مهيأةً للزواج قبل الرجل بكثير ؛ فالرجل إذا بلغ سن النكاح لم يفكر فيه إلا بعد أن يقوم بإعداد مؤنه واحتياجاته، وهذه من الأسباب التي تؤدي إلى تأخره في الزواج بعد بلوغه بسنوات عديدة . وهذا ما لا ينطبق على جنس النساء ؛ فهن في غالب الأمر مستعدات للزواج بعيد البلوغ مباشرة .
6. تعرض المرأة للعقم أسرع من الرجل ، فإذا تفرد الزوج بالمقدرة على الإنجاب فلِمَ لا يبحث عن أرض أخرى ينمو فيها حرثه ؟!
7. أن المرأة إذا كبرت سنها وشاب رأسها قلت الشهوة والرغبة فيها من زوجها ، والرجل ربما احتاج إلى قضاء وطره بعد كبر سنه ، وهذا ما لا تفي به عُجُزُ النساء .
8. جريان بعض الأمور على النساء كالحيض والنفاس مما لا يُمَكِّن الرجال من القيام بأخص لوازم الزوجية .
9. تحقيق رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بتكثير النسل وزيادة الأمة .
فما يترتب على التعدد من بعض المتاعب مغمور في هذه المصالح والفوائد ، ولا يُقارن بها ، وما أُغفل من فوائده أكثر مما سُطر .
إني لأجد نفسي بعد تأمل هذه الفوائد مردداً قول الأحد الواحد : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } . ([(1)])
لكن لا بد من توفر أمور بمن رغب في التعدد ، وهي :
الأول :
ألا يزيد عدد الزوجات على أربع .
فالآية فيها التخيير بين أن يتزوج الإنسان أربعاً أو ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة ، أو يكتفي بالتسري في بعض الحالات ، ولا ينبغي أن يُفهم منها أن المراد الجمع بين هذه الأعداد فيُفرِّع عن ذلك : تسويغ الزواج من تسع .
__________
(1) / سورة المائدة ، الآية : 50 .(1/65)
قال ابن العربي رحمه الله :" قد توهم قوم من الجهال أن هذه الآية تبيح للرجل تسع نسوة لِلَّهِ ولم يعلموا أن مثنى عند العرب عبارة عن اثنين مرتين وثلاث عبارة عن ثلاث مرتين ورباع عبارة عن أربع مرتين ، فيخرج من ظاهره على مقتضى اللغة إباحة ثمان عشرة امرأة ؛ لأن مجموع اثنين وثلاثة وأربعة تسعة ، وعضدوا جهالتهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تحته تسع نسوة . وقد كان تحت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من تسع ، وإنما مات عن تسع ، وله في النكاح وفي غيره خصائص ليست لأحد بيانها في سورة الأحزاب . ولو قال ربنا تبارك وتعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين وثلاثاً وأربعاً لما خرج من ذلك جواز نكاح التسع ؛ لأن مقصود الكلام ونظام المعنى فيه : فلكم نكاح أربع فإن لم تعدلوا فثلاثة فإن لم تعدلوا فاثنتين فإن لم تعدلوا فواحدة ، فنقل العاجز عن هذه الرتب إلى منتهى قدرته وهي الواحدة من ابتداء الحل وهي الأربع ، ولو كان المراد تسع نسوة لكان تقدير الكلام فانكحوا تسع نسوة فإن لم تعدلوا فواحدة! وهذا من ركيك البيان الذي لا يليق بالقرآن ، لا سيما وقد ثبت من رواية أبي داود والدارقطني وغيرهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل حين أسلم وتحته عشر نسوة : ((اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن )) ".([(1)])
وقال في التسهيل :" لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع ،ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بياناً . وأيضا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة" ([(2)]) . وممن حكا الإجماع كذلك ابن كثير رحمه الله ([(3)]).
__________
(1) / أحكام القرآن : 1/408-409 .
(2) / التسهيل في علوم التنزيل للكلبي : 1/129-130 .
(3) / انظر تفسير القرآن العظيم : 1/451 .(1/66)
وعن نوفل بن معاوية الديلي ([(1)]) قال :" أسلمت وتحتي خمس نسوة ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :(( فارق واحدة وأمسك أربعاً )). فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها ".([(2)])
الثاني :
أن يكون المعدد قادراً على النفقة عليهن ؛ وذلك لوجوب النفقة للزوجة على زوجها .قال الله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } . ([(3)])
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف )). ([(4)])
قال النووي رحمه الله :" فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها ، وذلك ثابت بالإجماع ". ([(5)])
الثالث :
استطاعة العدل ، وقد نصت عليه الآية السابقة : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) }
قال الحافظ رحمه الله :" المراد بالعدل : التسوية بينهن بما يليق بكل منهن، فإذا وفَّي لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها لم يضره ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة ". ([(6)])
المطلب الخامس : جواز نكاح الإماء عند خوف العنت .
__________
(1) / صحابي من مسلمة الفتح ، عاش إلى أول خلافة يزيد ، وعُمِّر مائة وعشرين سنة . انظر تقريب التهذيب : 1/567.
(2) / سنن البيهقي : 7/184 .
(3) / سورة النساء ، الآية 34 .
(4) / أخرجه الإمام مسلم في كتاب الحج ، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، برقم : 1218 .
(5) / شرح النووي على صحيح مسلم : 8/184 .
(6) / فتح الباري : 9/313 .(1/67)
أباح الله عند الخوف من الوقوع في العنت والزِّنا الزوج من الإماء بقوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ £ `خgخ=÷dr& وءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ ڑ7pt±إs"xےخ/ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ (تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) } . ([(1)])
فهذه الآية سبيل آخر من سبل الوقاية من فاحشة الزِّنا ، وهو العنت المنصوص عليه فيها .
فذكر الله تعالى في الآية شرطين
الأول : أن لا يجد المؤمن سعة لزواج الحرة .
الثاني : أن يخاف من الوقوع في فاحشة الزِّنا .
وقد ذكر الفقهاء شروطاً أخرى بأدلتها تُراجع في مظانها ([(2)]) ، فإذا انطبقت فيه هذه الشروط جاز له أن يتزوج الأمة .
قال الكلبي رحمه الله :" ومذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح أمة إلا بشرطين ، أحدهما : عدم الطول ، وهو ألا يجد ما يتزوج به حرة. والآخر : خوف العنت ، وهو الزِّنا ؛ لقوله بعد هذا { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } ... واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة التي تتزوج لقوله تعالى: { فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } إلا أهل العراق لم يشترطوه ". ([(3)])
__________
(1) / سورة النساء ، الآية 25.
(2) / كمثل المغني : 7/105 .
(3) / التسهيل : 1/137-138 .(1/68)
ثم جاء التذكير القرآني : " { وَأَنْ (تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } ، فالمراد الصبر عن نكاح الإماء ، وهذا يندب إلى تركه ،وعلته ما يؤدي إليه من استرقاق الولد ". ([(1)])
فالولد يتبع أمَّه في الحرية والرق .
فهذه الآية الكريمة أوضحت أن مفسدة الزواج من الإماء أيسر من مفسدة ملابسة الفواحش ، فلا جرم أنها من التشريعات الواقية من الوقوع في جريمة الزِّنا.
ومما يُستفاد من الآية : مشروعية الرِّق في الإسلام ، وللشيخ محمد الأمين الشنقيطي في هذه الفائدة كلام ذكره في تفسيره بلغ في النفاسة غايتها ، فليراجعه من شاء، ([(2)]) ففيه رد على من يحاول الطعن في ديننا الحنيف متخذاً من مسألة الرق مطية له في ذلك .
المطلب السادس : حرص القرآن على استمرارية العلاقة بين الزوجين.
من أجل ما يترتب على النكاح من فوائد عديدة وآثار حميدة : من استقرار الفكر والنفس ، وراحة البال ، وتكثير الأمة ، والحفاظ على النسل ، والاستقامة بالبعد من الفواحش ... وغير ذلك ؛ حرَص القرآن الكريم على استمرارية العلاقة بين الزوجين ، وحرص الشيطان على زعزعة استقرار هذه الحياة ، وقطع رباطها .
فقد جاء في صحيح مسلم ([(3)])عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا. فيقول : ما صنعت شيئاً . قال : ثم يجيء أحدهم ، فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته . قال : فيدنيه منه ، ويقول : نعم ، أنت )).
__________
(1) / المصدر السابق : 1/138 . وانظر المغني : 7/104 .
(2) / في أضواء البيان : 3/29 .
(3) / في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قريناً ، برقم : 2813 .(1/69)
والشيطان لا يوقع الإنسان في كثير من الآثام إلا بخطوات توصل إلى ذلك جاءنا التحذير منها ، وإن تشتيت شمل الأسرة لمن أعظم خطواته كما في هذا الحديث .
ولما ذكر الله تعالى آثار السحر -حتى يذر المؤمن طريقه- ذكر منها التفرقة بين المرء وزوجه ، وهذا يدل على أهمية بقاء العلاقة الزوجية وأن ذلك من مقاصد ديننا ، قال تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَآرِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) } . ([(1)])
ومما يجلي ذلك ويُبَيِّنُه :
أولاً : الأمر بمراعاة حقوق الزوجية .
قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ([(2)])
قال الطبري رحمه الله :" ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها". ([(3)])
وقال القرطبي رحمه الله :" أي : لهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن ، ولهذا قال ابن عباس ([(4)]) : إني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي ، وما أحب أن أستنظف كل حقي الذي لي عليها فتستوجب حقها الذي لها علي ؛ لأن الله تعالى قال: { ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف } ". ([(5)])
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 102 .
(2) / سورة البقرة ، الآية : 228 .
(3) / جامع البيان : 2/453 .
(4) / المصنف ، لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي ، مكتبة الرشد بالرياض ، الطبعة الأولى ، 1409هـ ، تحقيق كمال يوسف الحوت : 4/196 .
(5) / الجامع لأحكام القرآن : 3/123-124 .(1/70)
والذي رفع السماء بلا عمد: لو أن الناس جعلوا من هذه الآية منهجاً في حياتهم الزوجية لتدنَّت نسبة الطلاق ، ولقلَّ الخلاف بين الأزواج .
إن من يطبق هذه الآية لخليق به أن يهنأ بعيشه ، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } ([(1)])
وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الحقوق والواجبات في أعظم مجمَع شهده تاريخ البشرية، ألا وهو اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه في عرفة إذ قال لهم :(( اتقوا الله في النساء ، فإنَّكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ([(2)]) ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ([(3)])، فإن فعلن ذلك فاضربوهن غير مُبرِّح ([(4)]) . ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف )). ([(5)])
ولا جرم أن إعمال هذه النصوص في الحياة الزوجية أهدأ للنفس ، وأطيب للعيش، إذ ينأى بها عن بؤر الشحناء ، لتستمر الحياة هانئة طيبة ، وهذا ما يرمي إليه القرآن الكريم .
الثاني : الترغيب في الصبر على المرأة ولو ساءت أخلاقها .
قال تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) } ([(6)])
ومعنى الآية :" إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه ؛ فعسى أن يجعل الله الخير في وجه آخر ". ([(7)])
__________
(1) / سورة المائدة ، الآية : 50 .
(2) / كلمة التوحيد ؛ إذ لا تحل مسلمة لكافر ، وقيل : الإيجاب والقبول ، وقيل : هي { فانكحوا ما طاب لكم ... } .
(3) / لا يُدخلن بيوتكم أحداً تكرهونه .
(4) / المُبَرِّح : الشديد الشاق .
(5) / أخرجه الإمام مسلم في كتاب الحج ، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، برقم : 1216 .
(6) / سورة النساء ، الآية : 19 .
(7) / التسهيل للكلبي : 1/135 .(1/71)
وهذا موافق لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنةً ؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر )). ([(1)])
ولا يفرك : لا يبغض . فهذا الحديث ينبئ عن أنه لا ينبغي إيجاد مساحة للبغض والكره في حياة من قال الله تعالى فيهما : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } ؛ ذلك لأن الكره إذا حل بساحة قوم ساء عيشهم ، وكان التدابر والتفرق شعارهم.
ومن قلَّب النظر في أقوال المفسرين لهذه الآية أيقن أن المراد منها : أن الإبقاء على المرأة والصبر على أخلاقها خير من فصم عرى الزوجية بطلاقها ، فإن الأمر بيد الله تعالى، وهو الذي يصرف قلوب عباده ويغيِّر أحوالها .
قال الرازي رحمه الله : " حثَّ على استمرار الصحبة وعدم المفارقة ". ([(2)])
وقال القرطبي رحمه الله " وفيها دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة ". ([(3)])
لطيفة :
قال ابن العربي رحمه الله متحدثاً عن حال بعض المشايخ مع زوجه :" كانت له زوجة سيئة العشرة ، وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها ، فيُقال له في أمرها ، فيفضل الصبر عليها . وكان يقول : أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني ، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إذا فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها ". ([(4)])
وقديماً قالوا : ما كل البيوت بُنيت على الحب .([(5)])
ثالثاً : كون الطلاق بيد الرجل .
وذلك لكمال عقله ، وعدم تسرعه ، ولو كان الطلاق بيد المرأة لما أمكن الحفاظ على استقرار أسرة من الأسر ؛ لنقص عقولهن ، وسرعة تأثرهن . لا سيما إن كان رب الأسرة من أهل التعدد .
__________
(1) / أخرجه مسلم في كتاب الرضاع ، باب الوصية بالنساء ، برقم : 1469.
(2) / مفاتيح الغيب : 10/11 .
(3) / الجامع لأحكام القرآن : 5/98 .
(4) / أحكام القرآن : 1/468-469 .
(5) / أوردها البيهقي في سننه : 8/334 من كلام طليحة بن خويلد لعمر بن الخطاب ، لكن في إسناد القصة الواقدي ؛ فلا يصح .(1/72)
ومما يدل على أن الطلاق بيد الرجل قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . ([(1)]) ونحوها من الآيات .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن سيدي زوجني أمته ، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها ؟ قال : فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فقال :(( يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما ، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق )).([(2)])
وهذه مما يبين لنا عظيم حكمة الله تعالى ؛ فإن المرأة تطلب طلاقها لأي مشكلة تعترض طريق حياتها مع زوجها ، ولذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء عن ذلك فقال :(( أيما امرأة سألت زوجها طلاقاً بغير بأس فحرام عليها رائحة الجنة )).([(3)])
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنقصهن فقال : (( إن المرأة خلقت من ضِلَع لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عِوَج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها)).([(4)])
قال النووي رحمه الله :" وفي هذا الحديث ملاطفة النساء ، والإحسان إليهن، والصبر على أخلاقهن ، واحتمال ضعف عقولهن ، وكراهة طلاقهن بلا سبب، وأنه لا يطمع باستقامتها والله أعلم ". ([(5)])
__________
(1) / أول سورة الطلاق .
(2) / أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق ، باب في طلاق العبد ، برقم : 2081.
(3) / أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في المختلعات ، برقم : 1187 .
(4) / أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء ، باب خلق آدم صلوات الله عليه ، برقم : 3153 . وفي كتاب النكاح ، باب المداراة مع النساء وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما المرأة كالضلع ، برقم : 4889 . وأخرجه مسلم في كتاب الرضاع ، باب الوصية بالنساء ، برقم 1468 .
(5) / شرح مسلم : 10/57 .(1/73)
وقال الحافظ رحمه الله :" والوصية بالنساء آكد ؛ لضعفهن واحتياجهن إلى من يقوم بأمرهن ... ((وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه )) قيل : فيه إشارة إلى أن أعوج ما في المرأة لسانها ... وفائدة هذه المقدمة : أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فلا ينكر اعوجاجها ، أو الإشارة إلى أنها لا تقبل التقويم كما أن الضلع لا يقبله . قوله : ((فإن ذهبت تقيمه كسرته)) . قيل : هو ضرب مثل للطلاق ، أي إن أردت منها أن تترك اعوجاجها أفضى الأمر إلى فراقها ". ([(1)])
رابعاً :أمر الله تعالى المؤمنين أن يكون طلاقهم في حال تستقبل به النساء عدتهنَّ .
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } ([(2)])
أي : طلقوهن مستقبلات لعدتهن ([(3)])
فلا يطلقها حال حيضها ، فهذا مما لا يجوز بإجماع العلماء ([(4)])، ولا يطلقها في طهر مسها فيه .
قال ابن جرير رحمه الله :" فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن طاهراً من غير جماع ، ولا تطلقوهن بحيضهن الذي لا يعتددن به ". ([(5)])
__________
(1) / الفتح : 6/368 .
(2) / سورة الطلاق ، الآية : 1 .
(3) / راجع التسهيل للكلبي : 4/125 .
(4) / المرجع السابق . .وحكا الإجماع أيضاً الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم : 10/60.
(5) / جامع البيان : 28/129 .(1/74)
وقد ثبت أن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :(( مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس . فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء )) .([(1)]) وفي رواية لمسلم :(( مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً )).
والحديث واضح الدلالة على ما سبق ذكره .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - :(( وإن شاء طلق قبل أن يمس )) يفهم منه تحريم الطلاق في الطهر الذي مسها فيه ، ولذا قال ابن حجر رحمه الله :" وقد ثبت النهي عن الطلاق في طهر جامعها فيه ". ([(2)])
قال ابن قدامة رحمه الله :" وإذا طلقها للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم في قول عامة أهل العلم ، قال ابن المنذر وابن عبد البر ([(3)]): لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع ". ([(4)])
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر رضي الله عنهما أن يمسك إلى طهر بعد طهر ؛ لئلا تكون رجعته بنية الطلاق ، ولأنه إذا راجعها ربما يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها .([(5)])
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الطلاق ، باب قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ... } ، برقم : 4953 . ومسلم في كتاب الطلاق ، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ، برقم : 1471 .
(2) / فتح الباري : 9/350 .
(3) / الإمام الحافظ المجود أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد البر التجيبي الأندلسي القرطبي المالكي ، توفي بالشام بطرابلس في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة . انظر السير : 15/498 .
(4) / المغني : 7/279 .
(5) / راجع شرح مسلم للإمام النووي : 10/60 . وفتح الباري : 9/349 .(1/75)
فهذا يوضح أن الإبقاء على الحياة الزوجية من مقاصد ديننا ، حتى إذا أراد الزوج فصام وشاجها انتظر ؛ حتى يطلق للسنة ، لئلا يكون للغضب والانفعالات الوقتية دور في مصير حياتهما.
خامساً :أمر الله للأزواج أن لا يُخرجوا المطلقات من البيوت ؛ ليسهل على الزوج إرجاع زوجته .
وذلك في الآية آنفة الذكر : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) } ([(1)]).
قال الطبري رحمه الله :" لا تخرجوا مَن طلقتم من نسائكم لعدتهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق حتى تنقضي عدتهن ". ([(2)])
ولا تُخرج المرأة من بيتها إلا إذا ألمَّت بفاحشة ، فإنها تُخرج لإقامة الحد عليها.([(3)])
ومن تأمل في هذا الحكم أحس بما فيه من جوانب الرحمة والحكمة ؛ فإن الزوج إذا طلق أهله - والمرأة لا تبين عن زوجها ما دامت في عدتها - وكانت بجواره في بيته فهذا من أكبر ما يدعوه إلى إرجاعها ، ولولا وجود الأمل لرجوع الحياة إلى سيرتها الأولى ما كان في بقائها فائدة .
قال ابن كثير رحمه الله - موضحاً معنى قوله تعالى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } - :" أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها". ([(4)])
فسبحان ربك رب العزة ما أرحمه وأحكمه.
سادساً : كون الطلاق ثلاث مرات .
__________
(1) / سورة الطلاق ، الآية : 1.
(2) / جامع البيان : 28/132 .
(3) / راجع المصدر السابق : 28/133 .
(4) / تفسير القرآن العظيم : 4/379 .(1/76)
قال تعالى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حدُوْدَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ y حدُوْدَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهمآ أنْ !!$yèy_#uژtItƒ إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) } ([(1)])
أي : الطلاق الذي يملك فيه الزوج الرجعة مرتان .
فإذا تسرب الطلاق إلى حياتهما ، وتصدَّع جدار الزوجيَّة به ؛ فللزوج أن يصلح ذلك ، ويروب ما حدث بواحد من أمرين بينتهما الآية سالفة الذكر ؛ { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ } .
قال ابن كثير رحمه الله:" إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها مادامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها ، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسناً إليها ، لا تظلمها من حقها شيئاً ، ولا تضار بها ". ([(2)])
أمَا عقل أعداء الإسلام هذه المعاني النبيلة التي يؤصل لها ويندب إليها ويذم بمخالفتها !!؟
__________
(1) / سورة البقرة ، الآيتان : 229 ،230 .
(2) / تفسير القرآن العظيم : 1/273 .(1/77)
ونص القرآن الكريم على أن الزوج إذا طلق وأراد صلحاً فهو أحق بمطلقته، قال تعالى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) } ([(1)])
{ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا } فليس له أن يرجعها للإضرار بها ، أو لإذهاب ما في صدره من الغل لها ، أو لإيجاد مساحة زمنية لأذيتها ونحوه .
قال القرطبي رحمه الله :" وأجمع العلماء على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولاً بها تطليقة أو تطليقتين أنه أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها وإن كرهت المرأة ، فإن لم يراجعها المطلق حتى انقضت عدتها فهي أحق بنفسها ، وتصير أجنبية منه لا تحل له إلا بخطبة ونكاح مستأنف بولي وإشهاد، ليس على سنة المراجعة . وهذا إجماع من العلماء". ([(2)])
سابعاً : ندبُ القرآن للأزواج إلى الفيئة من الإيلاء ([(3)]).
قال تعالى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ ِNخgح !$|،خpS تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ râن!sù فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
زOدm' (226) } .([(4)]) أي : من حلف على أن لا يُجامع أهله فإنه يُنظر أربعة أشهر ثم يُخيَّر بين أمرين ندب القرآن إلى أولهما ، وهو الفيئة ، فإن رجع عن يمينه فإن الله يغفر له ما كان من تقصير منه في حقها ، وإلا أُجبر على طلاقها لئلا يُضار بها .
__________
(1) / الآية : 228 من سورة البقرة .
(2) / الجامع لأحكام القرآن : 3/120 .
(3) / يمين على ترك وطء منكوحة فوق أربعة أشهر . انظر التعاريف للمناوي : 1/106 .
(4) / سورة البقرة ، الآية : 226 .(1/78)
ثامناً : علاج القرآن لحالات النشوز والإعراض بين الزوجين .
النشوز في اللغة : كراهة كل من الزوجين صاحبه ، وسوءُ عشرته له. ومادة هذه الكلمة تدل على العلو والارتفاع ، فالنَّشَز : ما ارتفع من الأرض . ([(1)])
وللنشوز ثلاث حالات : أن يكون من الزوج ، أومن الزوجة ، أو منهما .
قال الله تعالى في الحالة الأولى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوْا ((#qà)Gs?ur فَإِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) } ([(2)])
ففي الآية نشوز ، وإعراض معطوف عليه ، مما يدل على تغاير في المعنى بينهما .
فالنشوز من الزوج : " أن يتعدى على زوجته ، ويضارها بالهجر والضرب بغير موجب شرعي ، والأذى والشتم والسب كلعنٍ وغيره ". ([(3)])
وأما الإعراض فهو " أن يُقِلَّ محادثتها ومؤانستها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب " .([(4)])
وبذا يتضح أن " النشوز من حيث المعنى يشمل الإعراض وغيره ".([(5)])
__________
(1) / لسان العرب ، مادة (نشز) : 5/418 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 128 .
(3) / جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ، للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري ، دار الفكر بلبنان : 1/328 .
(4) / تفسير أبي السعود : 2/239 .
(5) / تفسير المنار ، للشيخ محمد رشيد رضا ، دار المعرفة بلبنان ، الطبعة الثانية : 5/72 .(1/79)
قالت عائشة رضي الله عنها في معنى الآية :" هي المرأة تكون ثم الرجل لا يستكثر منها ، فيريد طلاقها ويتزوج غيرها ، تقول له : أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري ، فأنت في حلٍّ من النفقة علي والقسمة لي . فذلك قوله تعالى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ".([(1)])
وقد ورد أن سودة بنت زَمْعَة ([(2)]) لما كبرت سنها وهبت يومها لعائشة رضي الله عنهما ([(3)]).
ففي الآية دليل على أن " صلح الزوجين خير من فراقهما ".([(4)])
وكل ما تراضيا عليه من أجل دوام الحياة وبقاء رباط الزوجية بينهما فهو جائز.([(5)])
الحالة الثانية : النشوز من الزوجة .
قال تعالى : { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) } ([(6)]).
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب المظالم ، باب إذا حلله من ظلمه فلا رجوع فيه ، برقم : 2318 . وفي كتاب الصلح ، باب قول الله تعالى : { أن يصلحا بيهما صلحاً والصلح خير } ، برقم : 2548 .وفي التفسير ، باب : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } ، برقم : 4325 . وفي كتاب النكاح، باب : { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً } ، برقم : 4910 .و مسلم في كتاب التفسير ، برقم : 3021.
(2) / أم المؤمنين سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية القرشية ، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة وهو بمكة ، وماتت سنة خمس وخمسين على الصحيح. انظر : تقريب التهذيب : 1/748 .
(3) / سنن ابن ماجه في كتاب النكاح ، باب المرأة تهب يومها لصاحبتها ، برقم : 1972 .
(4) / التسهيل للكلبي : 1/159 .
(5) / انظر الجامع لأحكام القرآن : 5/403 .
(6) / سورة النساء ، الآية : 34 .(1/80)
يقول علماؤنا في تعريف نشوز المرأة : " خروج المرأة عن الطاعة الواجبة ، المانعة عن الاستمتاع بها ، الخارجة بغير إذن لمحل تعلم أنه لا يأذن فيه ، التاركة لحقوق الله تعالى كغسل الجنابة وصيام رمضان ، الغالقة الباب دونه ".([(1)])
فإن لاح من المرأة بعض هذه الأشياء سلك الزوج معها الطرق التالية:
الأول : الموعظة، أن يقول لها : اتقي الله ، ويعرفها بحقه عليها ونحو ذلك ..
الثاني : فإن أبت ترك مضاجعتها وجماعها . وقيل : يطؤها ولا يكلمها.
الثالث : فإن لم يُجْدِ ذلك ضربها ضرباً غير مبرِّح ، أي : لا يحدث أثراً بجسمها، فلا يدميها ، ولا يكسر عظمها ، ولا يصيب وجهها ، ويكون ذلك بسواك ونحوه .([(2)])
والضرب وسيلة ، فإذا تحقق عدم نفعها أو مفسدتها فلا فائدة من سلوكها .
الحالة الثالثة : أن يقع النشوز منهما .
قال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) } ([(3)]).
ومعنى الشقاق : أن يأتي كل واحد بما يشق على صاحبه ؛ لكراهيته إياه.
قال ابن كثير رحمه الله :" فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ؛ بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ؛ ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق ، وتشوف الشارع إلى التوفيق ولهذا قال تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } " ([(4)])
__________
(1) / جواهر الإكليل : 1/328 .
(2) / انظر جامع البيان للطبري : 5/62- 69 .
(3) / سورة النساء ، الآية : 35 .
(4) / تفسير القرآن العظيم : 1/494 .(1/81)
إن من يقف على هذه التدابير القرآنية للمحافظة على بقاء العلاقة بين الزوجين يعلم يقيناً أهميتها في شريعة الإسلام ؛ فقد رسم لنا ربنا من أساليب الحكمة والأناة ما ليس وراءه غاية لمصلح ؛ ولا غرو من ذلك ؛ فهو الذي خلقنا ، ويعلم خبايا نفوسنا ومواطن ضعفنا ، فسن لنا ما يزيل آلامنا ، ويضمن لنا الحياة الآمنة المستقرة .
فياليت شعري .. هل وقف أصحاب القوانين الوضعية على هذه الحِكم العلية ؟! أهذا خير أم سن قوانين لا يقرها عقل ولا دين ؛ كإجبار المرأة على المكث مع زوجها في بيت الطاعة، وكعدم تمكين الزوج من إيقاع الطلاق إلا أمام القاضي ،مع أن الطلاق حق للزوج لا للقاضي !؟. { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } ([(1)])
إن الأسرة إذا لم تستظل بظل التفاهم والرحمة والمودة تداعت أركانها ، وتساقط بناؤها .
المبحث السادس
لا ريب أن من أفضل سبل تحقيق العفة وإيجاد الطهر في مجتمعات المسلمين : التزامَ النساء بالحجاب الشرعي الساتر للبدن . وقد دلت على وجوبه آيات القرآن الكريم، وسنة النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - .
فالآيات التي تأمر به نساء المؤمنين هي :
__________
(1) / الآية (82) من سورة النساء .(1/82)
قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فإنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) } ([(1)])
هذه الآية هي آية الحجاب ([(2)]) .
وسبب نزولها أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فنزلت آية الحجاب ". ([(3)])
ووجه الدلالة من هذه الآية قوله تعالى { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } .
__________
(1) / سورة الأحزاب ، الآيتان : 53 ، 54 .
(2) / راجع جامع البيان : 22/39 ، وفتح الباري : 3/481 .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب أبواب القبلة ، باب ما جاء في القبلة ، برقم : 393. وفي كتاب التفسير، باب قوله { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ، برقم : 4213 ، وفي باب قوله : { لا تدخلوا بيوت النبي } ، برقم : 4512.(1/83)
وقد أجاد القرطبي رحمه الله في تفسير المتاع فقال :" واختلف في المتاع فقيل: ما يتمتع به من العواري ، وقيل : فتوى ، وقيل : صحف القرآن . والصواب أنه عام في جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ".([(1)])
ولا ينبغي الالتفات إلى قول من يقول : إنها خاصة بأمهات المؤمنين لتوجه الخطاب إليهن ؛ وذلك لأنها تخاطب جميع المؤمنات ، وهاهي الأدلة على ذلك :
أولاً : أقوال المفسرين .
قال الطبري رحمه الله :" وإذا سألتم أزواج رسول الله ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً { فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } يقول : من وراء ستر بينكم وبينهن ولا تدخلوا عليهن بيوتهن ". ([(2)])
فهذا كلام صريح من الطبري رحمه الله في أن الآية تُخاطب أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء المسلمين .
ويقول ابن العربي المالكي :" وهذا يدل على أن الله أذن في مساءلتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها والمرأة كلها عورة ".([(3)])
ويقول القرطبي رحمه الله :" ويدخل في هذا جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة ". ([(4)])
وجاء في صفوة البيان " { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } إذا طلبتم من نسائه - صلى الله عليه وسلم - { مَتَاعًا } شيئاً يتمتع به الماعون ونحوه ، مثله العلم والفتيا { فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } أي : ستر بينكم وبينهن ... وكان نزول آية الحجاب في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة من الهجرة ، وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه ".([(5)])
ثانياً :
__________
(1) / الجامع : 14/227.
(2) / جامع البيان : 22/39 .
(3) / أحكام القرآن : 3/616 .
(4) / جامع القرطبي : 14/227 .
(5) / صفوة البيان لمعاني القرآن ، للعلامة حسنين محمد مخلوف ــ مفتي مصر سابقاً ــ الدار المصرية للكتاب ، الطبعة الأولى : 2/190.(1/84)
قوله تعالى معلِّلاً أمره لهن بالحجاب : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } ، وهذه الطهارة لا يقول أحد بعدم الحاجة إليها ، فإذا كان الله تعالى قد أمر أمهات المؤمنين زوجات نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب لطهارة القلب فكيف لا يُؤمر به من دونهن في الفضل والمكانة!! ولذا لما أوضح بعض المفسرين معنى هذه الآية أشار إلى دخول جميع النساء فيها.
قال الكلبي رحمه الله :" أنقى من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء والنساء في أمر الرجال ".([(1)])
قال القرطبي رحمه الله :" { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال ، أي ذلك أنفى للريبة وأبعد للتهمة وأقوى في الحماية ، وهذا يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع مَن لا تحلُّ له ؛ فإن مجانبة ذلك أحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته ".([(2)])
ويقول الشوكاني رحمه الله :" { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي : أكثر تطهيراً لها من الرِّيبة وخواطر السوء التي تعرض للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال ، وفى هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع لا تحل له ، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه ". ([(3)])
ويقول الشنقيطي رحمه الله :" لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن ، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها ([(4)]) ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
وقد تخصِّصُ وقد تعمِّمُ لأصلها لكنَّها لا تُخْرمُ ". ([(5)])
ثالثاً : الآية التالية لها .
__________
(1) / التسهيل : 3/143.
(2) / جامع القرطبي : 14/228 .
(3) / فتح القدير : 4/298 .
(4) / حكمها .
(5) / أضواء البيان : 6/242 .(1/85)
وهي قوله تعالى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا £`خgح !$uZِ/r& وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا £`خgح !$|،خS وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) } ([(1)])
" فإن نفي الجناح استثناء من الأصل العام وهو فرض الحجاب ، ودعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع ، وهذه دعوى غير مسلم بها إجماعاً ؛ لما عُلم من عموم نفي الجناح بخروج المرأة أمام محارمها غير محجبة ".([(2)])
و كلام أهل التفسير عن الآية يُفهم أنهم عمموا حكم ما قبلها ولم يخصصوه بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن كثير رحمه الله :" لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى : { ولا ُيْبِدينَ زِيْنَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُوْلَتِهِنَّ أَوْ ءابآئِهِنَّ } ".([(3)])
وقال في مدارك التنزيل :" لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نحن أيضا نكلمهن من وراء حجاب ؟ فنزل : { لَا جُنَاحَ £`حkِژn=tم... } ".([(4)])
__________
(1) / سورة الأحزاب ، الآية : 55
(2) / حراسة الفضيلة ، د. بكر عبد الله أبي زيد ، دار العاصمة للنشر والتوزيع بالرياض ، الطبعة الثالثة ، 1421هـ، ص: 43 .
(3) / تفسير القرآن العظيم : 3/507 .
(4) / مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، للعلامة أبي البركات عبد الله ابن أحمد بن محمود النسفي ، مطبعة السعادة بمصر ، 1326هـ : 3/314 .(1/86)
رابعاً : لما تقرر من أصول الشريعة أن خطاب الواحد خطاب لجميع الأمة إلا إذا قام دليل التخصيص ، حتى إذا كان هذا الخطاب متوجهاً إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فإن أمته تُخاطب به ، يوضح ذلك ويجليه قول الله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } .([(1)]) فصُدِّرت الآية بنداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خُوطبت الأمة بها ، فالشريعة الإسلامية لم تنزل أحكامها لأناس معينين ، ولكنها عامة شاملة لكل الناس .
ويقول الجصاص الحنفي رحمه الله :" وهذا الحكم وإن نزل خاصاً في النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه فالمعنى عام فيه وفي غيره ؛ إذ كنا مأمورين باتباعه والاقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته ". ([(2)])
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لامرأة قولي لمائة امرأة)).([(3)])
خامساً :
إذا كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ من هنَّ : فضلاً وعفافاً وطهراً -أُمرن بالحجاب ألا يدل ذلك بطريق الأولى على أن غيرهن من النساء أولى بهذا الحكم منهنَّ ؟!
ولذا جعل العلماء قول الله تعالى: { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } ([(4)])دالاً على تحريم ضربهما من باب أولى .
سادساً : لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .([(5)])
__________
(1) / سورة الطلاق ، الآية الأولى .
(2) / أحكام القرآن : 5/242 .
(3) / موطأ الإمام مالك : 2/982 . ومسند الإمام أحمد : 3/357 . وسنن النسائي ، كتاب البيعة ، باب بيعة النساء ، برقم : 4181 . ومستدرك الحاكم : 4/80 . وسنن البيهقي : 8/148.
(4) / سورة الإسراء ، الآية : 23 .
(5) / انظر الإتقان للسيوطي : 1/89 ، وفتح الباري : 1/18 ، 1/261 ، 1/315، 5/228، 8/185 ، 8/191، 9/459 ، 9/501 .(1/87)
سابعاً : إطباق العلماء على أن المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسودة رضي الله عنها: (( إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن )).([(1)]) جميع النساء ولا يختص هذا الحكم بسودة مع أن الخطاب موجه إليها .
ولذا قال البخاري رحمه الله في صحيحه ([(2)]) مترجماً لهذا الحديث :" باب خروج النساء لحوائجهن ".
ثامناً : وهو الدليل الثاني على فَرض الحجاب ، وهو :
قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) } . ([(3)])
سبب نزول هذه الآية " أن جماعة من المنافقين كانوا يؤذون المؤمنات بالرفث ولا يعلمون الحرة من الأمة فنزلت هذه الآية ".([(4)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } ، برقم :4517.وصحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان ، برقم:2170.
(2) / 5/2006 .
(3) / سورة الأحزاب ، الآية : 59 .
(4) / جامع البيان : 18/166 .
تنبيه : ... ... ... ... ... ... ... ... =
= عجيب أمر بعض الناس في هذا الزمان ممن يغمز ويلمز المحتجبات ويسخر منهن ومن زيهن !! ومنافقو العهد الأول ما كانوا يتعرضون إلا للإماء ، فتباً لهم .(1/88)
" والإدناء : السدل" ([(1)]) ، والجلباب في لسان العرب : الثوب الذي يغطي البدنَ كلَّه . ([(2)]) ولذا قال البيضاوي رحمه الله :" يغطين وجوههن وأبدانهن بملاحفهن إذا برزن لحاجة ، و { مِنْ } للتبعيض ؛ فإن المرأة ترخي بعض جلبابها وتتلفع ببعض " ([(3)])، أو يتعلق التبعيض بالثياب لا بالثوب الواحد ، فيكون المعنى : يتسترن ببعض ما لهن من جلابيب .([(4)])
__________
(1) / الدر المنثور : 6/661 . وانظر : أحكام القرآن لابن العربي : 3/625.
(2) / لسان العرب ، مادة (جلب) : 1/273 .
(3) / أنوار التنزيل للقاضي العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي ، دار الفكر ببيروت: 4/386 .
(4) / راجع الكشاف للزمخشري : 3/570 .(1/89)
وينبغي أن يغطي الجلباب جميع جسدها، قال القرطبي رحمه الله :" الجلابيب جمع جلباب ، وهو ثوب أكبر من الخمار ، وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنه الرداء ، وقد قيل : إنه القناع ، والصحيح أنه الثوب الذي يستر جميع البدن ، وفي صحيح مسلم ([(1)]) عن أم عطية رضي الله عنها ([(2)]) قالت : قلت يا رسول الله : إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال :(( لتلبسها أختُها من جلبابها )) " ([(3)])
وقال ابن العربي رحمه الله :" اختلف الناس في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي يُستر به البدن ، لكنهم نوعوه هاهنا ، فقد قيل : إنه الرداء ، وقيل : إنه القناع ".([(4)])
__________
(1) / الحديث في الصحيحين ، أخرجه البخاري في كتاب الحيض ، باب من أخذ ثياب الحيض سوى ثياب الطهر ، برقم: 318 . وفي كتاب أبواب الصلاة في الثياب ، باب وجوب الصلاة في الثياب وقول الله تعالى : { خذوا زينتكم عند كل مسجد } ، برقم : 344 . وفي كتاب العيدين ، باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد ، برقم : 937 . وفي كتاب الحج ، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ، برقم : 1569 . وأخرجه مسلم في كتاب صلاة العيدين ، باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى وشهود الخطبة مفارقات للرجال ، برقم : 890.
(2) / نسيبة بنت الحارث ، صحابية فقيهة ، لها عدة أحاديث ، وهي التي غسلت بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب ، عاشت إلى حدود سنة سبعين . انظر سير الأعلام : 2/318.
(3) / الجامع : 14/243 . وراجع : فتح القدير للشوكاني : 4/304 . والمحلى للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت : 3/217 .
(4) / أحكام القرآن : 3/625.(1/90)
ولها أن تُبدي عيناً واحدةً تُبصر بها طريقها . ([(1)])
وجاء هذا الحكم حتى يعرف المنافقون أن صاحبته من الحرائر فلا يعرض لها بأذى، وليس المراد أن تُعرف المرأة من هي .
ويُستفاد من هذه الآية : أن المرأة إذا تحجبت بانت عفتها فلم تؤذ ؛ لأن الحجاب قاطع لمطامع الطامعين ، وأنها إذا أبدت زينتها وحسرت عن ثيابها فقد استجلبت لنفسها أذيتها ، وسيأتي الكلام عن فوائد الحجاب والحشمة .
وهذه الآية كالمتممة لآية الحجاب التي أبانت أن المرأة في بيتها لا تُسأل متاعاً إلا من وراء حجاب ، فأوضحت هذه الآية أنها إذا غادرت بيتها فعليها أن تتحجب بثيابها . فالستر كما يكون بالبيوت والجدر يكون بالثياب ، وقد جمع الله تعالى بين الحجابين في آية امتن بها علينا: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) } .([(2)])
فواجب على المرأة إذا خرجت من بيتها أن تضرب بحجابها على نفسها ، قال السيوطي رحمه الله :" وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في قوله { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } قال : يسدلن عليهن من جلابيبهن ، وهو القناع فوق الخمار ، ولا يحل لمسلمة أن يراها غريب إلا أن يكون عليها القناع فوق الخمار وقد شدت به رأسها ونحرها ". ([(3)])
وحديث أم عطية رضي الله عنها في الصحيحين الذي سبق ذكره يدل لذلك .
__________
(1) / راجع : التسهيل لعلوم التنزيل : 3/144 ، والدر المنثور : 6/659 ، والمحرر الوجيز : 4/399 ، وجامع البيان للطبري : 22/46 ، وأحكام القرآن لابن العربي : 3/625 .
(2) / سورة النحل ، الآية : 81 .
(3) / الدر المنثور : 6/661 .(1/91)
فماذا فعل نساء الصحابة - رضي الله عنهن - بعدما نزلت هذه الآية ؟ تقول أم سلمة رضي الله عنها ([(1)]): " لما نزلت { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية ". ([(2)])
جاء في اللسان:" شَبَّهت الخُمُرَ في سوادها بالغربان ".([(3)])
وإن تعجب من سرعة استجابتهن وانقيادهن لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فعجيب هذا الأثر الذي ازدان به مسند أبي يعلى ([(4)]) : أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما دُفن في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تجلببت عائشة رضي الله عنها ، فقيل لها : مالك وللجلباب ؟ قالت: " كان هذا زوجي وهذا أبي فلما دفن عمر تجلببت " .
لقد أتعبت من بعدك يا أم المؤمنين !!
ومن أدلة القرآن على فرض الحجاب قول العزيز الوهاب : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } .([(5)])
والجيب ما فُتح من أعلى القميص ،فقد كان النساء إذا لبسن خماراً جعلنه من الخلف ، فيبقى الجيب مظهراً للنحر والصدر ، ويبقى العنق والوجه والقرط وبعض الشعر بلا غطاء ، فأمر الله تعالى أن تستر المرأة بخمارها ذلك . ([(6)])
__________
(1) / أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله ، ابنة عم خالد بن الوليد سيف الله وأبي جهل عدو الله ، من المهاجرات الأُوَل ، كانت زوجة أخِ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع ، عُمِّرت إلى مقتل الحسين رضي الله عنها وغُشي عليها لذلك، لها جملة من الأحاديث تربو على الثلاثمائة ، توفيت سنة إحدى وستين . انظر سير أعلام النبلاء : 2/201 .
(2) / سنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب في قوله تعالى { يدنين عليهن من جلابيبهن } ، برقم : 4101.
(3) / لسان العرب : 1/645 .
(4) / 8/372 .
(5) / سورة النور ، الآية : 31 .
(6) / انظر التسهيل : 3/64 .(1/92)
ويجوز أن يكون الجيب الصدر تسميةً للشيء بما يلابسه ([(1)]). والضرب ضُمِّن معنى الإلقاء لأنه تعدى تعديته ؛ ولذا قال الرازي رحمه الله " والضرب مبالغة في الإلقاء ، والباء للإلصاق ". ([(2)])
و " إذا كانت المرأة مأمورة بسدل الخمار من رأسها على جيبها لتستر صدرها فهي مأمورة ضمناً بستر ما بين الرأس والصدر ، وهما الوجه والرقبة ، وإنما لم يُذكر هاهنا للعلم بأن سدل الخمار إلى أن يُضرب على الجيب لابد أن يغطيهما ".([(3)])
وهذا الكلام يقود إلى مسألة لا بد من الإشارة إليها هنا ، وهي أن بعض الناس ينكر على المرأة المحجبة تغطية وجهها ، ويدعي أن ذلك ليس من شرع الله في شيء لِلَّهِ { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) } ([(4)]). وقد سبقت بعض الآثار التي تدمغ هذه الفرية وتذهب بأثرها ، ولكن طلباً للفائدة أذكر هنا ما يدل على مشروعية تغطية المرأة لوجهها :
أولاً :
قوله تعالى : : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ؛ لأن الخمار يُطلق على ما تغطي به المرأة وجهها ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو يتحدث عن الخَمْر :" ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها ". ([(5)])
وقال ابن تيمية رحمه الله : " الخُمُر التي تغطي الرأس والوجه والعنق ، والجلابيب التي تُسدل من فوق الرؤوس حتى لا يظهر من لا بسها إلا العينان ". ([(6)])
__________
(1) / انظر جامع القرطبي : 12/230 .
(2) / التفسير الكبير : 23/179 .
(3) / عودة الحجاب ، د. محمد أحمد إسماعيل المقدم ، دار هند ، الطبعة الثانية ، 1410هـ : 3/285.
(4) / سورة الكهف ، الآية : 5 .
(5) / فتح الباري : 10/48 .
(6) / مجموع الفتاوى : 22/146- 147 .(1/93)
وتفسير الصحابيات عملياً لهذه الآية يدل على أن المراد منها تغطية الوجه ، فقد قالت عائشة رضي الله عنها :" يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شققن مُرُوطهن ([(1)]) من قبل الحَواشي ([(2)]) فاختمرن بها ". ([(3)])
قال الحافظ في الفتح :" (فاختمرن بها) : أي : غطين وجوههنَّ ". ([(4)])
ثانياً :
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القُفَّازين )). ([(5)]) والنقاب : ما يُغطى الوجه به ولا يُظهر إلا العين ، وكان اسمه قديماً البرقع والوَصْوَصة ([(6)]) ، وأما القفَّاز فـ "ما تلبسه المرأة في يدها فيغطي أصابعها وكفيها" . ([(7)])
فهذا الحديث يدل بمفهومه على أن غيرها تنتقب وتلبس القفازين ، يقول ابن تيمية رحمه الله :" "وثبت في الصحيح أن المرأة المحرمة تنهى عن الانتقاب والقفازين ، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن". ([(8)])
فكيف يتجاسر أحد على مثل هذا الافتراء ؟!
ثالثاً :
__________
(1) / "جمع مِرْط ، وهو الإزار ". الفتح : 8/490 .
(2) / "حاشية الشيء : طرفه وجانبه ". النهاية : 1/392 .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } ، برقم : 4480 ، 4481.
(4) / 8/490 .
(5) / صحيح البخاري ، كتاب في الإحصار وجزاء الصيد، باب ما ينهى من الطيب للمحرم والمحرمة ، برقم : 1714.
(6) / راجع النهاية في غريب الحديث والأثر : 5/102 .
(7) / فتح الباري : 4/53 .
(8) / مجموع الفتاوى : 15/371-372 .(1/94)
أن المرأة تغطي وجهها وهي محرمة بغير النقاب فدل على أن غيرها أولى بهذا الحكم ، فعن عائشة رضي الله عنها:" كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات ، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزنا كشفناه ". ([(1)])
وليس لأحد أن يظن أن هذا خاص بأمهات المؤمنين ؛ لما يلي :
- جاء في عون المعبود ([(2)]):" يمرون بنا أي : علينا معشر النساء".
- ولقول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ([(3)]):" كنا نغطي وجوهنا من الرجال ، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ".([(4)])
- وقول عائشة رضي الله عنها قالت :" المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلا ثوباً مسه ورس أو زعفران ، ولا تتبرقع ، ولا تتلثم ، وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ". ([(5)])
فاتضح بهذا أن تغطية المحرمة لوجهها ليس مختصاً بأمهات المؤمنين ، وأن المرأة تُنهى عن النقاب وليس عن تغطية وجهها ، بل لها أن تسدل من ثيابها عليه وتغطيه، وقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن المنذر رحمهما الله الإجماع على ذلك فقال :" قال ابن المنذر : أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كلَّه ، والخفاف ، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال ولا تُخَمِّره ". ([(6)])
رابعاً :
__________
(1) / المسند : 6/30. وسنن أبي داود ، كتاب المناسك ، باب في المحرمة تغطي وجهها ، برقم : 1833 .
(2) / عون المعبود : 5/201 .
(3) / أم عبد الله القرشية التيمية المكية ثم المدنية ، والدة الخليفة عبد الله بن الزبير وأخت أم المؤمنين عائشة وآخر المهاجرات وفاة ، روت عدداً من الأحاديث ، وعمرت دهراً ، وتعرف بذات النطاقين . انظر : سير الأعلام للذهبي : 2/287-288.
(4) / صحيح ابن خزيمة : 4/203، ومستدرك الحاكم : 1/624 .
(5) / سنن البيهقي : 5/47 .
(6) / فتح الباري : 3/406 .(1/95)
ما دل من النصوص على وجوب ستر القدمين ([(1)]) ؛ لأنها إذا أُمرت بتغطية قدميها فمن باب أولى أن تغطي وجهها لكونه عنوان جمالها .
خامساً :
أقوال العلماء الدالة على مشروعية هذا الأمر ([(2)]) :
فقد دلت أقوالهم على مشروعيته مستندين على مثل هذه الآثار التي مر ذكرها ، فمن أقوالهم ما قاله الجصاص الحنفي رحمه الله في تفسير الآية السابقة :" في هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين وإظهار الستر والعفاف عند الخروج ؛ لئلا يطمع أهل الريب فيهن ".([(3)])
وقال ابن العربي رحمه الله : " قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر (( لا تنتقب المرأة)) ؛ ذلك لأن سترها وجهها بالبرقع فرض إلا في الحج ، فإنها ترخي شيئاً من خمارها على وجهها ". ([(4)])
فالإمام ابن العربي بهذا يرى أن تغطية المرأة لوجهها فرض ، وقد مرَّ بك أن النقاب كان يُسمى البرقع . ([(5)])
وجاء في مواهب الجليل لشرح مختصر خليل :" واعلم أنه إن خُشي من المرأة الفتنة يجب عليها ستر الوجه والكفين ". ([(6)])
__________
(1) / انظر ص : 150 الآتية .
(2) / ليس مقصودي هنا الحديث عن وجوب أو استحباب ستر الوجه والكفين ، وإنما أردت الرد على من يفتات على دين الله بزعمه عدم مشروعية ذلك .
(3) / أحكام القرآن : 5/245 .
(4) / عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للإمام ابن العربي المالكي ، دار الوحي المحمدي بالقاهرة ، الطبعة الثانية : 4/56.
(5) / أما البرقع المعروف اليوم فليس من النقاب في شيء ؛ وذلك لأنه يبدي أجزاء كبيرة من الوجه ، ولربما كانت المرأة دميمةً لا تُرجِع بصراً فإذا أبدت عينيها وما فوقهما وأسفل منهما افتُتن بها .
(6) / مواهب الجليل لشرح مختصر خليل : 1/499 .(1/96)
ونص علماؤنا من المالكية على أن للمرأة ستر وجهها في الإحرام ، ويجب الستر إذا ظنت الفتنةَ بها .([(1)])
سادساً :
أن تغطية الوجه سنة ماضية درج النساء عليها في مختلف العصور ، فقد جرى العمل على خروج النساء من بيوتهن منتقبات ؛ لئلا يراهن الرجال . ([(2)])
فمن أحق بأن يكون من المبتدعين : المحرِّمون له أم الآمرون به ؟!
ومن الأدلة القرآنية على فرض الحجاب قوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) } .([(3)])
فهذه الآية ترخص للقواعد من النساء وضع الحجاب ، والقواعد جمع قاعد وهي العجوز التي لا تُشتهى ولا مطمع لها في النكاح . ([(4)]) وقيل :" هنَّ العجَّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن ، فأما من كانت فيها بقية من جمال وهي محل الشهوة فلا تدخل في هذه الآية " .([(5)])
فمثل هذه لا حرج عليها ولا إثم يلحقها من وضع جلبابها - مع شد خمارها - عند القريب والغريب ، قال القرطبي رحمه الله :" وقال قوم : الكبيرة التي آيست من النكاح لو بدا شعرها فلا بأس ، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار، والصحيح أنها كالشابة في التستر إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار ، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما ".([(6)])
__________
(1) / راجع الشرح الكبير ، للشيخ أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير ، دار الفكر ببيروت ، تحقيق محمد عليش: 2/55 .
(2) / راجع فتح الباري : 9/337 ، و إحياء علوم الدين ، للإمام أبي حامد الغزالي ، دار الشعب بالقاهرة ، 4/729 .
(3) / سورة النور ، الآية : 60 .
(4) / راجع أنوار التنزيل للبيضاوي : 4/200 .
(5) / معالم التنزيل للبغوي : 3/365.
(6) / الجامع : 12/309 .(1/97)
ولكن لا يجوز ذلك إلا بشرط : أن لا تقصد إبداء ما بها من زينة " فرب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق".([(1)])
ومع أنه يجوز لهن ذلك فعدمه أفضل ، فخير للمرأة المسنة أن ترتدي الحجاب فتلتزمه ولا تضعه .
فهذه الآية دلت على وجوب الحجاب ، ووجه دلالتها عليه : أن الله تعالى رخص للمسنة في ذلك فدل على أن الشابة التي ترجو نكاحاً ويُطمع فيها أولى بهذا الحكم . ولذا قال الطبري رحمه الله عندها :" وأما كل امرأة مسلمة حرة فعليها إذا بلغت المحيض أن تدني الجلباب على الخِمار ". ([(2)])
وقال الكلبي رحمه الله :" أباح الله لهذا الصنف من العجائز ما لم يُبح لغيرهن من وضع الثياب ... والأولى لهن أن يلتزمن ما يلتزمه شباب النساء من السِّتر ". ([(3)])
وقال الرازي رحمه الله :" وإنما خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنِّهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع الثياب ". ([(4)])
هذا ، وقد دلت السنة أيضاً في كثير من نصوصها على فرض الحجاب على النساء ، ومن ذلك :
1/ قوله عليه الصلاة والسلام :(( المرأة عورة )) . ([(5)])
__________
(1) / المحرر الوجيز : 4/195 .
(2) / جامع البيان : 18/165 .
(3) / التسهيل : 3/72 .
(4) / التفسير الكبير : 24/30 .
(5) / جامع الترمذي ، كتاب الرضاع ، الباب الثامن عشر ، برقم : 1173 .(1/98)
والعورة من شأنها أن تُستر فلا تُظهر ، وتغطى فلا تُبدى ، وما اختلف أهل العلم إلا في مسألة الوجه والكفين للمرأة ، فنص بعضهم على أن جميع جسدها عورة ما عدا الوجه والكفين ، قال ابن عبد البر رحمه الله : " لأن المرأة عورة فيما عدا وجهها وكفيها"، ([(1)])ومنهم من يرى أن جميع جسدها عورة كالإمام أحمد رحمه الله القائل :" كل المرأة عورة حتى الظفر ". ([(2)])
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :" وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة ، وما جاء فيه من كون المرأة عورة يدل على الحجاب ؛ للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة". ([(3)])
2/ وما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((من جر ثوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )). فقالت أم سلمة : فكيف يصنع النساء بذيولهن ؟ قال :((يرخين شبراً)). فقالت : إذاً تنكشف أقدامهن ؟ قال : (( فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه )) . ([(4)])
وهذا الإرخاء يكون من نصف الساق .
فدل هذا الحديث على وجوب الحجاب وستر القدمين ، وهو من أدلة من يوجب على المرأة أن تغطي وجهها لأنه أولى بالتغطية من الأقدام .
قال الترمذي رحمه الله :" وفي هذا الحديث رخصة للنساء في جر الإزار " ([(5)]) .
__________
(1) / التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر ، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب ، سنة الطبع : 1387هـ ، تحقيق : مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري: 16/229 .
(2) / نقله ابن مفلح في الفروع : 1/534 .
(3) / أضواء البيان : 6/251 .
(4) / سنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب في قدر الذيل ، برقم : 4117 . وسنن الترمذي ، كتاب اللباس ، باب ما جاء في كراهية جر الإزار ، برقم : 1730 . وسنن النسائي ، كتاب الزينة ، باب ذيول النساء ، برقم : 5336 .
(5) / السنن : 4/224 .(1/99)
وفيه " دليل على وجوب ستر قدميها ". ([(1)])
وفي المسند ([(2)]) وسنن أبي داود ([(3)]) قال ابن عمر رضي الله عنهما :" رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً ، ثم استزدنه فزادهن شبراً . فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذراعاً ". وهذا الحديث دليل على مسألتين :
الأولى : أن الخطاب المتوجه إلى أمهات المؤمنين لا يختص بهن دون سائر النساء إلا بدليل . ولهذا ثبت أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر فاطمة بنته وأم سلمة رضي الله عنهما أن يجرا الذيل ذراعاً . ([(4)])
الثانية : أن الذراع شبران ، قال الحافظ رحمه الله :" وأفادت هذه الرواية قدر الذراع المأذون فيه وأنه شبران بشبر اليد المعتدلة" . ([(5)])
ولا يشوش على ما سبق أنه ربما أفضى ذلك إلى تعلُّق بعض القاذورات بثيابها ؛ لما جاء عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمَّ ولدٍ قالت لها : إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ؟ : فقالت لها : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( يُطَهِّرُه ما بعده)) . ([(6)])
__________
(1) / سنن البيهقي : 2/233 .
(2) / 2/18 .
(3) / كتاب اللباس ، باب في قدر الذيل ، برقم : 4119 .
(4) / المسند : 2/263 .
(5) / فتح الباري : 10/259.
(6) / المسند : 6/290 . وسنن أبي داود ، كتاب الطهارة ، باب في الأذى يصيب الذيل ، برقم : 383 . وسنن الترمذي ، كتاب أبواب الطهارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في الوضوء من الموطأ ، برقم: 143 . وسنن ابن ماجه ، كتاب الطهارة وسننها ، باب الأرض يُطهِّر بعضها بعضاً ، برقم : 531 . والموطأ : 1/24 .(1/100)
3/ وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - ([(1)]) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :((إياكم والدخول على النساء )) . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله أرأيت الحمو ؟ قال :((الحمو الموت)). ([(2)])
قال النووي رحمه الله :" والمراد بالحمو هنا أقارب آبائه وأبنائه ، فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت ، وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم ، وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه ، فهذا هو الموت وهو أولى بالمنع من أجنبي لما ذكرناه ". ([(3)])
فـ " الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين ، فجعله كهلاك الموت ، فورد الكلام مورد التغليظ ". ([(4)])
ويبين الشنقيطي رحمه الله وجه الدلالة من الحديث بقوله :" فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحذير الشديد من الدخول على النساء ، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعاً إلا من وراء حجاب ؛ لأن من سألها متاعاً لا من وراء حجاب فقد دخل عليها والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذره من الدخول عليها ... وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما ، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريماً شديداً بانفراده ". ([(5)])
__________
(1) / الإمام المقرئ ، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان عالماً مقرئاً فصيحاً فقيهاً فرضياً شاعراً ، ولي إمرة مصر ، مات سنة ثمان وخمسين . .سير الأعلام : 2/468 .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب النكاح ، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المُغِيْبة، برقم : 4934. وصحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، برقم : 2172.
(3) / شرح النووي على مسلم : 14/154 .
(4) / نقله عن القاضي عياض الإمام النووي في شرحه على مسلم : 14/154 .
(5) / أضواء البيان : 6/248-249 .(1/101)
4/ وعن عائشة رضي الله عنها قالت :" استأذن علي أفْلح أخو أبي القُعَيْس بعد ما أُنزل الحجاب ، فقلت : لا آذن له حتى أستأذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت له : يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتى استأذنك ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( وما منعك أن تأذني عمك ))؟ قلت : يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس ؟ فقال :(( ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ([(1)]) )) . قال عروة : فلذلك كانت عائشة تقول : "حرموا من الرضاعة ما تحرمون من النسب".([(2)])
قال الحافظ :" " وفيه وجوب احتجاب المرأة من الرجال الأجانب ، ومشروعة استئذان المحرم على محرمه" . ([(3)])
5/ وقالت أم سلمة رضي الله عنها :" قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( إن كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدى فلتحتجب منه)). ([(4)])
ومعنى الحديث أن المرأة إذا ملكت عبداً وأراد العبد مكاتبتها وأُعطي قيمة ذلك فالواجب عليها أن تحتجب منه وإن لم يدفعه .
__________
(1) / " افتقرت وصارت على التراب وهي من الألفاظ التي تطلق للزجر ولا يراد بها ظاهرها" الفتح : 1/229
(2) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : { إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } ، برقم : 4518 ، وفي كتاب النكاح ، باب لبن الفحل ، برقم : 4815، وفي كتاب الأدب، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - تربت يمينك وعقرى حلقي ، برقم : 5804 . وصحيح مسلم ، كتاب الرضاع ، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل ، برقم : 1445 .
(3) / الفتح : 9/152
(4) / سنن أبي داود ، كتاب العتق ، باب في المكاتب يؤدي بعض كتابته فيعجز أو يموت ، برقم : 3926.(1/102)
ولذا ورد عن نبهان ([(1)]) مكاتب أم سلمة رضي الله عنها أنه قال : إني لأقود بها ([(2)])بالبيداء أو بالأبواء فقالت : من هذا ؟ فقلت : أنا نبهان . فقالت : إني قد تركت بقية كتابتك لابن أخي أعنته به في نكاحه . قال : فقلت : لا والله لا أوديه إليه أبداً . قالت : إن كان ما بك لتدخل علي أو تراني فوالله لا تراني أبداً ؛ أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إذا كان للمكاتب ما يؤدي فاحتجبن منه )). ([(3)])
فالحديث واضح الدلالة في وجوب الاحتجاب من الأجنبي ؛ لأنه مفاد الأمر إذ لا صارف له .
6/ وعن أم عطية رضي الله عنها قالت أمرنا أن نُخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور([(4)]) فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة : يا رسول الله إحدانا ليس لها جلباب ؟ قال :((لتلبسها صاحبتها من جلبابها )). ([(5)])
قال الحافظ :" وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب ". ([(6)])
وسبق أن الجلباب ثوب يستر جميع بدن المرأة .
__________
(1) / أبو يحيى ، كانت أم سلمة كاتبته فأدى فعتق ، مقبول الحديث . انظر تقريب التهذيب : 1/559 .
(2) / يعني : أمّ سلمة .
(3) / سنن البيهقي : 10/327 .
(4) / الخِدْر : " ناحية في البيت يُترك عليها ستر فتكون فيه الجارية البكر ". النهاية في غريب الحديث: 2/13.
(5) / مضى تخريجه ص : 141 .
(6) / الفتح : 1/424.(1/103)
7/ وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ([(1)]) قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له امرأة أخطبها ، فقال :((اذهب فانظر إليها ؛ فإنه أجدر أن يؤدم بينكما )). فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وأخبرتهما بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنهما كرها ذلك، قال : فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها فقالت : إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تنظر فانظر وإلا فأنشدك . كأنها أعظمت ذلك ، قال : فنظرت إليها فتزوجتها . فذكر من موافقتها.([(2)])
8/ ولما طلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفصة تطليقة أتاها فدخل عليها فتجلببت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((أتاني جبريل عليه السلام فقال : راجع حفصة ؛ فإنها صَوَّامة قوامة ، وإنها زوجتك في الجنة)).([(3)])
والشاهد منه فعلها رضي الله عنها .
__________
(1) / المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك ، صحابي جليل ، شهد الحديبة وما بعدها وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وشهد اليمامه وفتوح الشام والقادسية ، كان من دهاة العرب ، مات سنة خمسين . انظر تهذيب التهذيب : 1/243.
(2) / سنن ابن ماجه ، كتاب النكاح ، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ، برقم : 1866 . ومعجم الطبراني الكبير : 20/433 . والمصنف ، للإمام أبي بكر بن عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المكتب الإسلامي ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1403هـ ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي : 6/157 .
(3) / معجم الطبراني الكبير : 18/365 ، ومستدرك الحاكم : 4/16 .(1/104)
9/ ودخل أحباش المسجد يلعبون بحرابهم فأرادت عائشة أن تنظر فسترها النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى انصرفت بعدما سئمت ، وفي هذا تقول : فاقدُروا قدر الجارية الحديثة السن تسمع اللهو ". ([(1)])
فهذا الحديث يدل على وجوب الحجاب .
فإن قيل : كيف نظرت عائشة إلى الأحباش والنظر محرم ؟ فالجواب ما قاله النووي رحمه الله " وفيه جواز نظر النساء إلى لعب الرجال من غير نظر إلى نفس البدن، وأما نظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي فإن كان بشهوة فحرام بالاتفاق ، وإن كان بغير شهوة ولا مخافة فتنة ففي جوازه وجهان لأصحابنا أصحهما تحريمه ... و ليس فيه أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم وإنما نظرت إلى لعبهم وحرابهم ، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن وإن وقع النظر بلا قصد صرفته في الحال". ([(2)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب النكاح ، باب حسن المعاشرة مع الأهل ، برقم : 4894 ، وفي باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم بلا ريبة ، برقم : 4938 . وصحيح مسلم ، كتاب صلاة العيدين ، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد ، برقم : 892 .
(2) / شرح النووي على صحيح مسلم : 6/184 .(1/105)
10/ قالت أم سلمة رضي الله عنها: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم ([(1)]) وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( احتجبا منه )). فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي :((أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ؟)) .([(2)])
فهذه الأحاديث تؤكد ما دل عليه القرآن الكريم من فرض الحجاب على النساء ، وأنه ليس لامرأة أن يراها غريب بغيره .
ومع صراحة هذه الأدلة ووضوحها يأبى الشيطان اللعين أن ينبذ عهده ، فإنه يغوي كثيراً من النساء بشتى الحيل ، ويُلبِّس عليهن بمختلف الوساوس ، وهذه بعض الأعذار التي يتعذرن بها عن ارتداء الحجاب ([(3)]):
1/ عدم الاقتناع بالحجاب !!
ومن انطلت عليها هذه الحيلة عليها أن تسأل نفسها : هل هي على قناعة من اعتناقها لدين الإسلام ؟ فإن الإجابة بلا ريب : نعم . إذاً أليس من دين الله فرض الحجاب ؟ ألا تدل كل تلك النصوص على وجوبه ؟! إن من تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله تقرر أن الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة ، فلا بد أن تلزم نفسها بأمر الله فإنما المؤمنون عبيد لله خاضعون لأمره ونهيه .
__________
(1) / صحابي جليل، كان كفيف البصر ، اسمه عمرو بن قيس ويقال عبد الله ، عُوتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بسببه في سورة عبس ، استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في كثير من الغزوات .انظر تهذيب التهذيب:12/340 .
(2) / أخرجه الإمام أحمد في المسند : 6/296 . و أبو داود في كتاب اللباس ، باب في قوله عز وجل: { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } ، برقم : 4112 . والترمذي في كتاب الأدب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في احتجاب الرجال من النساء ، برقم : 2778 .
(3) / أخذتها من استبانة نشرها موقع صيد الفوائد saaid.net.(1/106)
2/ ومنهنَّ من تقول : أنا على قناعة بالحجاب .. ولكن أمي تنهاني عنه وتزجرني إذا ارتديته ، وقد أوجب الله عليَّ طاعتها ؟
فعلى من جاءها الشيطان بهذا المدخل أن ترد عنها كيده بقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )) . ([(1)])
وهذا لا يمنع من الإحسان إليها كما أدبنا القرآن بذلك : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) } ([(2)])
ولذا بعدما بين الإمام الترمذي وجوب طاعة الإمام قال بعد ذلك :" باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". ([(3)])
3/ وبعضهن ربما اعتذرت لتبرجها وسفورها بأنها لا تُطيق حرارة الجو ، ولبسها للحجاب مما يزيد عليها ذلك !!
فلمثلها يُقال : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) } . ([(4)])
__________
(1) / مسند الإمام أحمد : 1/131 . وسنن الترمذي ، كتاب الجهاد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، برقم : 1707 .
(2) / سورة لقمان ، الآيتان : 14 ، 15 .
(3) / سنن الترمذي : 4/209 .
(4) / سورة التوبة ، الآية : 81 .(1/107)
إن حرارة شمس الدنيا لا ينبغي أن تحمل على المعصية وإنما على طاعة الله؛ لأنها تذكر بنار الآخرة ، فعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ؛ فإن شدة الحر من فَيْح ([(1)]) جهنم ، واشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً ، فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير)). ([(2)])
وتأمل كيف ختم الله الآية بقوله : { لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : لو فقهوا أمرها " لما اختاروها بإيثار الدَّعة على الطاعة ". ([(3)])
4/ ورفض بعضهن الحجاب بحجة خوفهن من لبسه ثم تركه !! وهذه علة عليلة، يكفي إيرادها لدحرها .
5/ وبعضهن اعتذرن عن تبرجهن بخوفهن من إطلاق اسم جماعة عليهن إن التزمن به لِلَّهِ فيامن مكر عدوها بها بهذه المكيدة الواهية اعلمي أن إرضاء الناس غاية لا تُدرك ، والواجب على المرء أن يعمل بالطاعة لوجه الله ولسان حاله :
إذا صحَّ منك الودُّ فالكلُّ هيِّنٌ وكلُّ الذي فوق التراب ترابُ
6/ وطائفة أخرى منهن نبذنه لأن ارتداءه يعطل أو يمنع زواجهن ، إذ كيف يراهن الخُطَّاب بحجابهنَّ !!
وإلى هؤلاء : وكيف تزوج كثير من المحجبات وتأطَّرت ([(4)])السافرات وعَنَسَت المتبرجات ؟!!
وما قولكن في العاتقات من الكاسيات العاريات ؟
__________
(1) / الفَيْح : فوران الحر .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر ، برقم : 512 ، وفي كتاب بدء الخلق ، باب صفة النار ، برقم : 3087 . وصحيح مسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه ، برقم : 617 .
(3) / أنوار التنزيل للبيضاوي : 3/162 .
(4) / تَأطَّرت : بقيت في بيت أبيها بلا زواج .(1/108)
لقد أباحت الشريعة الإسلامية للرجل إذا رام خطبة امرأة أن يذهب وينظر إليها بحضرة محرمها كما سبق في حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - . ([(1)])
وكما أن الحلواء إذا سُترت تاقت النفوس إليها وإذا كُشفت وحطَّ الذباب رحله عندها عيفت فإن المرأة المحجبة يتمنى الأيامى الصالحون زواجها ، فإذا ما تبرجت وتبذلت مُجَّت .
7/ ومنهن من ترجئ أمره إلى أن يكبر سنها لِلَّهِ وهي تعلم أن الموت لا يفرق بين صغير وكبير .
8/ وزمرة منهن ترد على من يأمرها به بأن الله لم يهدها بعد !!
وهذه حيلة إبليسية لا تنطلي إلا على من خف عقله وضعف دينه ؛ لأن أمثال هؤلاء المحتجين بالقدر يتخذون سائر الأسباب في أمورهم الدنيوية . فإذا أراد أحدهم أن يجتاز امتحاناً ما فإنه يسهر الليالي ليحقق هدفه ، وإذا رام كسباً من تجارة كان كالذي يصُبُّ فوه بعدما اكتظ الحَشى ([(2)]) لِلَّهِ باذلاً ما أمكنه وأضناه من أسباب قد تحقق عزمه وقد تُخيِّب مسعاه !! أما في أمور الآخرة فلا يسلك أسباب رضاء الله محتجاً بقدر الله لِلَّهِ ولو صدق في دعواه لبذل ما يُبلِّغُه رضاه:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
__________
(1) / ص : 154 .
(2) / مثل يُضرب للحريص على الشيء .(1/109)
وليُعلم أن الله تعالى ردَّ على المشركين قولهم عندما احتجوا بالقدر على شركهم ، قال تعالى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) } ([(1)]) . ([(2)])
فالعاقل من اجتهد في طاعة مولاه ، واجتنب ما عنه نهاه ، وداوم على سؤاله الثبات على دينه ورِضاه .
وإذا آثرت المرأة المسلمة طاعة ربها فلتعلم أن للحجاب شروطاً لا بد من توفرها فيه ، وهي :
الشرط الأول : استيعاب البدن .
وقد مضت الأدلة التي توجب ذلك .
الشرط الثاني : أن لا يكون زينة في نفسه .
وأدلة النقل على هذا الشرط تأتي في الفصل الثالث عند مسألة التبرج ([(3)])، وأما دليل العقل عليه فهو أن الحجاب شُرع لستر الزينة فلا يمكن أن تُستر الزينة بنفسها ، فالستر يقتضي ساتراً ومستوراً فإذا اتحدا فسد الأمر .
الشرط الثالث : أن يكون ثخيناً لا يشف .
وإلا لم يكن للحجاب معنى .
__________
(1) / سورة الأنعام ، الآية : 148 .
(2) / من أراد الاستزادة من أوجه رد هذه الشبهة فليراجع كتاب الإيمان بالقضاء والقدر ، محمد بن إبراهيم الحمد ، دار الوطن ، الطبعة الثانية ، 1416هـ ، ص : 89- 96 .
(3) / ص : 262 .(1/110)
فعن دِحية بن خليفة الكَلْبي - رضي الله عنه - ([(1)]) قال : أُتي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِقَبَاطِيَّ ([(2)]) فأعطاني منها قُبْطِيَّة فقال :(( اصْدَعها صَدْعَين ([(3)]) فاقطع أحدهما قميصاً وأعط الآخر امرأتك تختمرُ به )). فلما أدبر قال :((وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفُها)) ([(4)])
ودخلت امرأة على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق ، فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً. ([(5)])
وقالت عائشة رضي الله عنها : " إنما الخمار ما وارى البشرة والشعر ". ([(6)])
قال في المهذَّب :" ويجب ستر العورة بما لا يصف لون البشرة من ثوب صفيق أو جلد أو رق ([(7)])، فإن ستر بما يظهر منه لون البشرة عن ثوب رقيق لم يجز لأن الستر لا يحصل بذلك ". ([(8)])
الشرط الرابع : أن يكون فضفاضاً لا يصف .
لأن الفتنة حاصلة بالثوب الذي يحجم البدن ، فإذا كان الثوب لا يصف ما تحته لغِلَظِه وكان يُحجِّمُ البدن لضيقه فليس بحجاب .
__________
(1) / دحية بن خليفة بن فروة ، صحابي جليل ،مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - . انظر تقريب التهذيب : 1/200 .
(2) / نوع من الثياب .
(3) / شقها نصفين .
(4) / سنن أبي داود، كتاب اللباس ، باب في لبس القباطي للنساء ، برقم : 4116 .
(5) / موطأ الإمام مالك : 2/913 ، وسنن البيهقي : 2/235 .
(6) / سنن البيهقي : 2/235 .
(7) / نوع من الجلود .
(8) / انظر المجموع شرح المهذب للإمام النووي ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1417هـ ، تحقيق محمود مطرحي : 3/173 .(1/111)
وقد ورد في مسند الإمام أحمد ([(1)])عن أسامة بن زيد قال : كساني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبطيَّة كثيفة كانت مما أهداها دِحية الكلبي فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((مالك لم تلبس القبطية ))؟ قلت : يا رسول الله كسوتها امرأتي . فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((مرها فلتجعل تحتها غِلالةً ([(2)]) إني أخاف أن تصف حجم عظامها)) .
فهذا يدل على أن الثوب الذي يلتصق بالبدن لا يكون حجاباً . ويحدث التصاق الثوب بأحد أمرين :
- أن يكون الثوب ضيقاً .
- أن يكون فضفاضاً ولكنه ينجذب بشدة إلى لحم البدن لفرط نعومته ، فهذا يجب أن يُجعل شعار تحته .
وأمعن النظر أخي القارئ في هذا الأثر الجليل : قالت فاطمة رضي الله عنها : يا أسماء إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء ؛ أنه يُطرح على المرأة الثوب فيصفها . فقالت أسماء : يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا أريكِ شيئاً رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوباً ، فقالت فاطمة رضي الله عنها : ما أحسن هذا وأجمله ، يُعرف به الرجل من المرأة ، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعلي ولا تدخلي علي أحداً . فلما توفيت جاءت عائشة تدخل فقالت أسماء : لا تدخلي . فشكت لأبي بكر فقالت : إن هذه الخثعمية تحول بيني وبين ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد جعلت لها مثل هودج العروس لِلَّهِ فجاء أبو بكر فوقف على الباب وقال : يا أسماء ما حملك على أن منعت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلن على ابنته ، وجعلت لها مثل هودج العروس ؟ فقالت : أمرتني أن لا أدخل عليها أحداً وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها . فقال أبو بكر : فاصنعي ما أمرتك . ثم انصرف ، وغسلها علي وأسماء رضي الله عنهما . ([(3)])
__________
(1) / 5/205 .
(2) / لباس يكون تحت الثياب .
(3) / سنن البيهقي : 4/34 .(1/112)
لله درها لِلَّهِ ما أكمل حياءها !! وليس هذا مما يُستغرب منها فهي من قد عرفنا .
ولذا لما كسا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس القباطي قال : لا تدَّرعها نساؤكم . فقال رجل : يا أمير المؤمنين قد ألبستها امرأتي فأقبلت في البيت وأدبرت فلم أره يشف ؟ فقال عمر : إن لم يكن يشف فإنه يصف . ([(1)])
أي يلتصق بالجلد .
الشرط الخامس : أن لا يكون مبخراً أو مطيباً .
يدل عليه الأحاديث التي نهت النساء عن الخروج بطيبهن ، من ذلك ما جاء عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((إذا شهدت ([(2)]) إحداكن المسجد فلا تمس طيباً)). ([(3)])
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((أيما امرأة أصابت بَخُوراً فلا تشهدنَّ معنا العشاء الآخرة)).([(4)])
فكيف بمن أرادت شهود غير المساجد ؟!
وجاء النص على صلاة العشاء لأنها تكون بظلام ، وهذا مظنة الفتنة فلا تأمن أن تُمس بسوء ، ولا يعني ذلك أن غيرها من الصلوات بخلافها ؛ لحديث زينب السابق ذكره.
الشرط السادس : أن لا يشبه ثوب الرِّجال .
__________
(1) / مصنف ابن أبي شيبة : 5/164 ، وسنن البيهقي : 2/234.
(2) / أي : أرادت شهوده ، راجع شرح النووي : 4/163 .
(3) / صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة ، برقم: 443 .
(4) / صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة ، برقم: 444.(1/113)
وذلك للوعيد الشديد الذي جاء في حق المرأة التي تلبس لبسة الرجل ، والرجل يلبس لباسها ، قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يلبس لِبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل " ([(1)]) ."وأصل اللعن : الطرد والإبعاد من الله " ([(2)]) .
وقد جاء الوعيد في تشبه أحد الجنسين بالآخر مطلقاً ، قال - صلى الله عليه وسلم - :((ليس منا من تشبه بالرجال من النساء ولا من تشبه بالنساء من الرجال)) .([(3)])
الشرط السابع : أن لا يشبه لباس الكافرات .
والآيات والأحاديث المرغبة في مخالفة سبيل الكافرين المرهبة من مماثلتهم والتشبه بهم أكثر من أن تُحصر .
وأكتفي هنا بإيراد حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((من تشبه بقوم فهو منهم)) . ([(4)])
الشرط الثامن : أن لا يكون لباس شهرة .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله تلهب فيه النار)). ([(5)]) وفي طريقٍ :((ألبسه الله ثوب مذلة ([(6)]) يوم القيامة)) ([(7)])
ومعنى ثوب الشهرة : " ثوب يلبسه حتى يشهره الناس " . ([(8)])
__________
(1) / مسند أحمد : 2/325. وسنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب لباس النساء ، برقم : 4098.
(2) / النهاية ، مادة (لعن) : 4/255 .
(3) / مسند الإمام أحمد : 2/199
(4) / مسند الإمام أحمد : 2/50 . وسنن أبي داود، كتاب اللباس ، باب في لبس الشهرة ، برقم : 4031 .
(5) / سنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب في لبس الشهرة ، برقم : 4029 .
(6) / يُكسى ثوباً يُذل به .
(7) / مسند الإمام أحمد : 4/44 . وسنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب في لبس الشهرة ، برقم : 4030 . وسنن ابن ماجه ، كتاب اللباس ، باب من لبس شهرة من الثياب ، برقم : 3606 .
(8) / النهاية ، مادة (شهر) : 2/515 .(1/114)
قال الشوكاني رحمه الله :" والمراد أن ثوبه يشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم فيرفع الناس إليه أبصارهم ، ويختال عليهم بالعجب والتكبر ... والحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة ، وليس هذا الحديث مختصاً بنفيس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوباً يخالف ملبوس الناس من لباس الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه منهم ... وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في النار فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها ، والموافق لملبوس الناس والمخالف ؛ لأن التحريم يدور مع الاشتهار ، والمعتبر القصد ". ([(1)])
وإن مما يعين المرأة على التزامها بالحجاب الذي أوجبه الله تعالى عليها أن تقف على فضائله وتتعلمها ، ومن ذلك :
1. أنه طاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فعلى المسلمة أن تحتسب أجره ولا يكن لبسها له على سبيل العادة ؛ لئلا يضيع ثوابها .
2. أنه من سمات المؤمنات ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) } .([(2)])
3. أنَّ الحجاب طهر ونقاء : قال الله عز وجل : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } .([(3)])
__________
(1) / نيل الأوطار : 2/111 .
(2) / سورة الأحزاب ، الآية : 59 .
(3) / سورة الأحزاب ، الآية : 53 .(1/115)
4. وفيه تجسيد حي ظاهر لمعاني العفة ، ودليل ذلك قول ربنا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) } .([(1)]) يُعرفن : يُعلم أنهن حرائر عفيفات فلا يُتعرض لهن ، فالآية تدل على أن من أخذت به سلمت من تعرض الفساق لها وهذا - وربي- دأب القانتات العفيفات ، ومن لم تأخذ به ألمَّ بها الأذى رضيت أم سخطت .
5. وبه تنقطع أطماع المرضى والمنافقين والفاسقين .
6. وهو ستر وحشمة به تغطي المرأة عورتها ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إنا نُهينا أن تُرى عوراتنا )). ([(2)])
7. وفيه يتجلى الحياء فهو قرين التستر ، والتبرج لا يكون إلا بعد أن يتخرق ثوب الحياء ، وانظر إلى ارتباط الستر بالحياء في قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - :((إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يُرى من جلده شيء ؛ استحياءً منه)). ([(3)]) ودخل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على نبينا عليه الصلاة والسلام فسوى ثيابه وقال :(( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة )). ([(4)])
8. وبه تُصان الأعراض وتُحفظ فلا تُدنس ؛ وذلك لدفعه أسباب الفتنة والفساد.
__________
(1) / سورة الأحزاب ، الآية : 59 .
(2) / مستدرك الحاكم : 3/246 .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب الأنبياء ، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام ، برقم : 3223.
(4) / صحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب من فضائل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، برقم : 2401.(1/116)
9. وهو من صفات أهل الجنة ، قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله ([(1)]): قال لي ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى . قال : هذه المرأة السوداء ، أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني أصرع ، وإني أتكشف فادع الله لي . قال :((إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) ؟ فقالت : أصبر ، فقالت : إني أتكشَّف فادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها . ([(2)])
فرضي الله عن نساء الصحابة ،ما أعظم حرصهن على الستر والحجاب!
وأختم هذا المبحث بشبهة ألقى بها الشيطان في رُوع أوليائه ، ولولا خشية الاغترار بها لما كان لذكرها كبيرُ فائدة .
وهي : أن الحجاب في هذا العصر لباس شهرة ، وقد نُهينا عن لباس الشهرة .
وإني وإن كنتُ الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل !!
والجواب عنها من خمسة أوجه :
أولاً : الشهرة يُعتبر فيها القصد والنية ، فالحديث المحرم لثياب الشهرة في حق من اشتمله لعلة أن يظهر ويشتهر من بين الناس كما مر معنا ، فالمقصود به من لبس ثوباً ؛ ليُشهِر نفسه ، لا من لبس ؛ ليطيع ربَّه.
__________
(1) / أبو محمد القرشي ، حدث عن عائشة وأم سلمة وأم هانىء وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم ، قدم أهل مكة إلى ابن عباس يسألونه فقال : اذهبوا لعطاء . قال أبو حنيفة : ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء بن أبي رباح،مات سنة خمس عشرة وله من العمر نحو مائة سنة . انظر سير الأعلام : 5/78.
(2) / صحيح البخاري ، كتاب المرضى ، باب فضل من يصرع من الريح ، برقم : 5328 . وصحيح مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب ، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها ، برقم : 2576 .(1/117)
ثانياً : من لبس ثوباً اشتهر به لكمال بهائه إظهاراً لنعمة الله فلا حرج عليه فكيف بمن لبس ثوباً للقيام بما أوجب الله !؟ ، فعن أبي الأحوص عن أبيه - رضي الله عنه - ([(1)]) قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثوبٍ دونٍ ([(2)]) ، فقال :((ألك مال )) ؟ قلت : نعم . قال : ((من أي المال))؟ قلت : قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال :((فإذا آتاك الله مالاً فليُر أثرُ نعمة الله عليك وكرامته)). ([(3)])
ووجه الدلالة من الحديث أن (مالاً) نكرة في سياق الشرط ، وهي مفيدة للعموم، فيشمل ذلك الثوب الكريم الذي إذا لبسه تحدث الناس به ، لكن لا يكون قصده الشهرة ولا التكبر .
ثالثاً : أرأيتَ لو أن الجهل ضرب على الأمة بأطنابه يوماً وأحرم الناس لحجٍ بمخيط محيط ، وتمسكت فئة قليلة بالسنة أيكون لباسهم لباس شهرة ؟!! اللهم لا .
رابعاً : مؤدَّى هذه الشبهة تناقض الوحي لِلَّهِ ذلك لأنه لا يمكن أن تأمر النصوص بما فيه مخالفة لدين الله !!
خامساً : لقد رغبت النصوص النبوية في التمسك بالدين في عهد يكون تمسكهم به علامة غربتهم ، وهذا يعني اشتهارَهم بأمور تُنكرها العامة عليهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( طوبى للغرباء )) فقيل : من الغرباء يا رسول الله ؟ قال: (( أناس صالحون في أناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)). ([(4)])
فيا أمَةَ الله :
ويا أولياء النساء :
__________
(1) / أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، أحد التابعين ، ثقة ، سمع عبد الله بن مسعود وأقام بالكوفة ، وأبوه مالك بن نضلة صحابي . انظر التاريخ الكبير : 7/56 .
(2) / دنيء لا يليق بحالي .
(3) / سنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب في غسل الثوب وفي الخلقان ، برقم : 4063 . وسنن النسائي، كتاب الزينة ، باب الجلاجل ، برقم : 5224 .
(4) / مصنف ابن أبي شيبة : 7/83 . ومسند الإمام أحمد : 2/177 ، 2/222 .(1/118)
لتكن هذه الآية منا على بال : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) } . ([(1)])
فعلى المسلمة أن تلتزم في نفسها أمر الله تعالى لها ، وأن لا تغتر بكثرة المخالفين له، والله يقول : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } . ([(2)])
فكل منا يأتي إلى الله تعالى فرداً ما معه من أحد ، ولذا علينا أن نُذعن لنصوص الشرع وإن خالفها كثير من الناس ، والله المسؤول أن يهدي ضال المسلمين .
فاللهم إنا نتوجه إليك متضرعين أن تستر نساءنا ، وتزينهن بالعفة ، وتحبب لهنَّ الحشمة والحجاب ، وتكره إليهنَّ العُري والتبرج والسفور .
المبحث السابع
الصبر عن الفاحشة هو العفة ، فالعفة : الصبر عن الوقوع في الشهوات والرذائل([(3)]) ، يُقال : فلان عفيف المئزر إذا وُصف بالعفة عما يحرم عليه من النساء ([(4)]). والعفة ضد العُهر والزِّنا. ([(5)])
قال النووي رحمه الله :" أما العفاف والعفة فهو التنزه عما لا يُباح ، والكفُّ عنه". ([(6)])
ولكن شاع استعمالها في الكفِّ عن الفاحشة وسؤال الناس .
وهذا المبحث يشتمل على ثلاثة مطالب ، وهي :
المطلب الأول : الأمر بالصبر عن الشهوات .
__________
(1) / الآية : 36 ، من سورة الأحزاب .
(2) / سورة الأنعام ، الآية : 94 .
(3) / انظر مادة (عفف) في اللسان : 9/253 . وفي النهاية في غريب الحديث والأثر : 3/264 .
(4) / اللسان : 4/17 .
(5) / المصدر السابق : 4/612 .
(6) / شرح النووي على مسلم : 17/41 .(1/119)
أمر الله تعالى بالعفة عن الحرام بقوله : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ z يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ([(1)]).
فـ"هذا أمر من الله تعالى بالعفة ". ([(2)])
قال ابن كثير رحمه الله :" وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزِّنا كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } ... الآية ([(3)])، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه".([(4)])
ويشهد لهذا المعنى حديث معاوية بن حَيْدَة - رضي الله عنه - ([(5)]) قال : قلت : يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : ((احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)) . قال : قلت : يا رسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال : ((إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها)) . قال : قلت : يا رسول الله إذا كان أحدنا خالياً؟ قال : ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)). ([(6)])
__________
(1) / سورة النور ، الآيتان : 30 ، 31 .
(2) / أحكام القرآن لابن العربي : 3/378 .
(3) / الآية :(5) من سورة المؤمنون ، و (29) من سورة المعارج .
(4) / تفسير القرآن العظيم : 3/283 .
(5) / معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري ، صحابي نزل البصرة ومات بخراسان ، وهو جد بهز بن حكيم . انظر : تقريب التهذيب : 1/573 .
(6) / أخرجه الإمام أحمد في المسند : 5/3 . وأبو داود في السنن ، كتاب الحمام ، باب ما جاء في التعري ، برقم : 4017. والترمذي في كتاب الأدب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في حفظ العورة ، برقم : 2769 . وابن ماجه في كتاب النكاح ، باب التستر ثم الجماع ، برقم : 1920 .(1/120)
ولذا قال الكلبي رحمه الله :" وحفظ الفروج المأمور به هو عن الزِّنا ، وقيل : أراد ستر العورة . والأظهر أن الجميع مراد ".([(1)])
وبذا قال القرطبي رحمه الله ([(2)]).
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله :" ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزِّنا ، واللواط ، والمساحقة ، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم ". ([(3)])
ومر معنا كلام ابن تيمية رحمه الله :" وحفظ الفرج يتضمن : حفظه عن الوطء به في الفروج والأدبار ودون ذلك، وعن المباشرة ، ومس الغير له ، وكشفه للغير ، ونظر الغير إليه ". ([(4)])
ومما يجب صون الفرج عنه : إتيان المرأة في دبرها ؛ لكثرة النصوص المحرمة لهذا الفعل ، والاستمناء .
فالمرء مأمور بحفظ فرجه عن كل هذه الفواحش التي سبقت الإشارة إليها.
ولما كانت النفوس محبة للشهوات كما قال رب العباد : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمةِ دةO"yè÷RF{$#ur وَالْحَرْثِ } ([(5)]) ناسب أن تُختم هذه الآية بالتذكير بأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية من أعمالنا : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ، فهذا أدعى لأن نكون على حذر فيما نأتي ونذر .
ومن حمل نفسه على الصبر عن الشهوات ورام إعفافها صبره الله وأعفه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((من يستعفف يعفه الله ، ومن يتصبر يصبره الله )).([(6)])
__________
(1) / التسهيل : 3/64 .
(2) / راجع الجامع : 12/223 .
(3) / أضواء البيان : 5/506 .
(4) / مجموع الفتاوى : 15/378 .
(5) / سورة آل عمران ، الآية : 14.
(6) / أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ، باب الاستعفاف عن المسألة ، برقم : 1400 .ومسلم في كتاب الزكاة ، باب فضل التعفف والصبر ، برقم : 1053 .(1/121)
ومن الآيات الآمرة بالعفة قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ([(1)]).
قال السيوطي رحمه الله في هذه الآية :" قال عكرمة : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها فليقض حاجته منها ، وإن لم تكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض حتى يغنيه الله من فضله ". ([(2)])
فهذه الآية تأمر من لا يقدر على الزواج بالاجتهاد في البعد عن الزِّنا والفاحشة ، وقمع الشهوة .
ولأن من ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه ؛ وعد الله من لم يقو على مؤن النكاح لفقره وعف نفسه عن الفاحشة بالغنى والفرج .
قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره ([(3)]) :" { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } عدة كريمة بالتفضل عليه بالغنى ، ولطف لهم في استعفافهم ، وتقوية لقلوبهم ، وإيذان بأن فضله تعالى أدنى من الصلحاء".
والإغناء يتحقق بأمور :
- أن يرزقه ما يتزوج به .
- أو يجد من ترضى باليسير ، وبحاله .
- أو تزول عنه شهوة النساء .([(4)])
والعفة من الأمور التي شاع الأمر بها حتى علم المشركون بذلك ، فإن هرقل لما سأل أبا سفيان - وكان على الإشراك - : بم يأمركم - أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : يأمرنا بالصلاة والزكاة والعفاف والصِّلة ([(5)]).
المطلب الثاني : ثناء الله تعالى على الصابرين العفيفين .
عجيب أمر هذا الإنسان ..
__________
(1) / الآية (33) من سورة النور .
(2) / الدر المنثور : 6/189 .
(3) / 6/172 .
(4) / راجع جامع القرطبي : 12/243 .
(5) / أخرج هذه القصة الإمام البخاري في كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، برقم 7 . والإمام مسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ، برقم : 1773 .(1/122)
ربما ركب ثبج المعاصي والموبقات التي تجرجره إلى الهاوية ..
وربما ارتقى بعمله أعلى الدرجات ، فاستحق المدح والثناء من رب العباد ..
ومن هؤلاء أناس كانت العفة والعفاف عنوان أخلاقهم ، لا سيما من توفرت دواعي الشهوة فيهم ، فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إن ربك ليعجب من الشابِّ ليست له صَبوة)) ([(1)]). والصَّبوة : الميل إلى الهوى . ([(2)])
وقال تعالى مادحاً العفيفين من المؤمنين : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى 4ِNحkجE؛uqn=|¹ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } . ([(3)])
ففي الآية الكريمة بيان أن من أعمل فرجه في غير زوجته أو ملك يمينه فهو من المعتدين الآثمين ، وفيها ثناء على العفيفين ، وأنهم من أهل اليمين ، وفي الفردوس هم من الخالدين .
__________
(1) / أخرجه الإمام أحمد في المسند : 4/151 .
(2) / لسان العرب ، مادة (صبا) :14/451 .
(3) / سورة المؤمنون ، الآيات من : 1-11 .(1/123)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية :" أي : والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنىً ولِواط ، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ماملكت أيمانهم من السراري ، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ، ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ } أي : غير الأزواج والإماء . { فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) } أي : المعتدون ". ([(1)])
وتكرر هذا الثناء عليهم في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ tاجتب وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ ِNحkجE؛y‰"pky¶خ/ tbqكJح !$s% (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى 4ِNحkحEںx|¹ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) } ([(2)])
ووعد الله العفيفين والعفيفات بمغفرة الذنوب والخطيئات ، وبالأجر الجزيل العظيم يوم الموافاة ، قال تعالى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) } ([(3)])
__________
(1) / تفسير القرآن العظيم : 3/240 .
(2) / سورة المعارج ، الآيات : 29-35 .
(3) / سورة الأحزاب ، الآية : 35 .(1/124)
والأجر العظيم : جنة عرضها السماوات والأرض .([(1)])
وقد جاء هذا الوعد الكريم على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، إذ قال :(( من يضمن لي ما بين لحييه ([(2)]) وما بين رجليه أضمنْ له الجنة )) .([(3)])
قال الحافظ رحمه الله :" ((من يضمن)) -بفتح أوله وسكون الضاد المعجمة والجزم - من الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية ، فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه . فالمعنى : من أدى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه ، أو الصمت عما لا يعنيه . وأدى الحق الذي على فرجه من وضعه في الحلال ، وكفه عن الحرام ... أضمن له الجنة ".([(4)])
وتكفل الله تعالى بإعانة من أراد النكاح ليعف نفسه عن الفحش والسفاح، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : ((ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتَب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف )) .([(5)])
__________
(1) / راجع جامع البيان للطبري : 22/9 . ...
(2) / "اللِّحْيان : العَظْمان اللذان فيهما الأسنان" لسان العرب ، مادة (لحا) : 15/243 .
(3) / أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان ، برقم : 6109 .
(4) / الفتح : 11/ 309-310 .
(5) / مضى تخريجه ، ص : 104 .(1/125)
وعَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يستظلون بظلِّ الرحمن يوم القيامة رجلاً دعته امرأة للفاحشة ، ولها من الجمال والشرف ما ييسر تلبية أمرها ، فعفَّ نفسه ؛ خوفاً من الله تعالى ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه : الإمام العادل ، وشاب نشأ بعبادة الله ، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه )) .([(1)])
فحري بكل مسلم أن يسعى لتحقيق هذا الخلق ؛ ليحظى بتلك المكارم .
المطلب الثالث : قصص العفيفين في القرآن الكريم .
أورد الله تعالى قصص العفيفين الصادقين لأخذ العبرة منها ، قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } ([(2)])، وقد خلَّد القرآن الكريم ذكر ثلاثة من ساداتهم الطاهرين .
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة ، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ، برقم : 628. وفي كتاب الزكاة ، باب الصدقة باليمين ، برقم : 1357. وفي كتاب المحاربين ، باب فضل من ترك الفواحش ، برقم : 6421 . وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة ، برقم : 1031 .
(2) / سورة يوسف ، الآية : 111 .(1/126)
أولهم نبي الله يوسف عليه السلام ، فلقد أعلمنا الله تعالى بمراودة امرأة العزيز له ، وعدم صبرها عنه بقوله : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) } ([(1)])
إن المتأمل في قصة يوسف عليه السلام يجد كثيراً من دواعي الفاحشة توفرت فيها، بعضها يتعلق بيوسف عليه السلام ، وبعضها بالمرأة ، وبعضها بمحلهما.
أما ما يتعلق بيوسف عليه السلام فقد :
1. كان يوسف عليه السلام غلاماً للمرأة تحت يدها وتدبيرها ، وهي سيدته .
2. لم يكن يوسف عليه السلام متزوجاً ، ومعلوم أن المتزوج أقدر على كبح جماح شهوته ، ولهذا أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - المتزوج إذا رأى امرأة وقعت في نفسه أن يعمد إلى امرأته ([(2)]).
__________
(1) / سورة يوسف ، الآيات : 23-29 .
(2) / سبق ذكره ص : 102 .(1/127)
3. كان عليه السلام في عنفوان شبابه عندما طلبت المرأة منه ذلك، كما قال تعالى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي ... } الآية . ومن المسلَّم به أن الشاب أعظم شهوة من الشيخ .ولهذا تُوعد الشيخ المنساق وراء شهواته بما لم يُتوعد به الشاب ، كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم: شيخ زان ، وملك كذاب، وعائل مستكبر )). ([(1)]) وأذن - صلى الله عليه وسلم - للشيخ في رمضان أن يقبل ولم يأذن للشاب.
4. وكان غريباً ، والغريب لا يحتشم احتشام غيره ممن يخشى أن يُلَوِّث بالفضيحة رحمَه وأقاربَه .
5. وقد توعدته بالعذاب الأليم إن لم يمتثل أمرها ، ومن تُوعِّد بعقاب ليفعل أمراً كان ذلك من دواعي فعله .
أما ما اجتمع في امرأة العزيز مما يدعو نبي الله لقبول طلبها :
1. أنها هي التي طلبت من يوسف عليه السلام ، ومعلوم أن المرء قد يهم بالفاحشة ويشتهي امرأة ولكن يمنعه خوف رفضها من إفشاء رغبته بها .
2. أنها ألحفت في سؤلها ، وهذا شيء زائد على الأول .
3. وأنها ذات منصب وشرف ، ولشدة هذين الأمرين وعد الله من صبر على بلاء كهذا بظلٍّ ظليل في يوم تدنو فيه الشمس من الخلائق مقدار ميل .
أما ما اجتمع من الدواعي في المكان فقد :
1. كان سكنهما واحداً وهذا مما يُسهِّل أمر ما دعت إليه .
2. وخلا المكان من غيرهما .
3. وانغلقت الأبواب ، فأمنا من دخول أحد عليهما. ([(2)])
فإذا بانت لك هذه الدواعي فتعجب معي من قول الله تعالى حاكياً عنه: { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } .
__________
(1) / مضى تخريجه ص : 22 .
(2) / انظر تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص :396.(1/128)
فما أعظم عفته لِلَّهِ وما أطهر نفسه !! وما أشد رعاية ربه له !!!
إن الأسى ليعتصر المرء وهو يطالع كتب بعض المفسرين - غفر الله لهم - في تفسيرهم لقول الله تعالى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } إذ ألحقوا بيوسف ما لا يليق بآحاد الناس ؛ بسبب أخذهم عن أهل الكتاب الذين لا يتورعون عن الكلام في الله تعالى بما لا يليق فضلاً عن الكلام في أنبيائه ([(1)])
قال ابن تيمية رحمه الله :" وأما ما ينقل من أنه حلَّ سراويله ، وجلس مجلس الرجل من المرأة ، وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده وأمثال ذلك .. فكلُّه مما لم يخبر الله به ولا رسوله ، وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود ، الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء ([(2)]) وقدحاً فيهم ، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حرفاً واحداً ".([(3)])
ولذا كان القول الصحيح في تأويل هذه الآية أنه لم يحدث هم من يوسف عليه السلام أصلاً ، وإنما تقدم خبر (لولا) عليها ، فالتقدير : لولا أن رأى يوسف عليه السلام البرهان من ربه لهمَّ بها ، ولكن أراه الله ذلك فلم يقع منه همٌّ ، بخلاف امرأة العزيز فقد كان همها بالفاحشة كأقوى ما يكون من أحد.
__________
(1) / راجع لإبطال هذه الأقوال التفسير الكبير للرازي : 18/93 فقد أجاد وأفاد رحمه الله رحمة واسعة .
(2) / بل أعظمهم كذباً عليهم .
(3) / مجموع الفتاوى :10/297 .(1/129)
قال الفخر الرازي رحمه الله :" لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها ، والدليل عليه أنه تعالى قال : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } وجواب لولا هاهنا مقدم ، وهو كما يُقال : قد كنتَ من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك ".([(1)])
وقال القرطبي رحمه الله :" واختلف العلماء في همه ، ولا خلاف أن همها كان معصية ، وأما يوسف فهم بها { لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكن لما رأى البرهان ما همَّ؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء ، قال الله تعالى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فإذاً في الكلام تقديم وتأخير ، أي : لولا أن رأى برهان ربه همَّ بها". ([(2)])
وقيل : "همَّ بدفعها عن نفسه" ([(3)]) ، وقيل :"بضربها". ([(4)])
وقيل : همَّ بها أي مال إليها ميلاً طبعياً كالصائم يميل بطبعه للماء البارد ولكن خوف الله يمنعه منه ، وهذا مما لا يقدح ومع ذلك دفعه عن نفسه.([(5)])
ولقد أوضح كلُّ من له تعلق بهذه القصة براءة يوسف عليه السلام ونقاء سريرته:
فقد برأ يوسف عليه السلام نفسه عما اتُهم به ونزه ساحته فقال : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } ([(6)])وقال : { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } ([(7)]).
__________
(1) / مفاتيح الغيب : 18/94 ، ثم أثبت الشيخ أن تقدم جواب لولا سائغ في لغة العرب ورد قول من أنكر هذا كالطبري وابن كثير رحم الله الجميع .
(2) / الجامع لأحكام القرآن للقرطبي : 9/ 165-166 .
(3) / روح المعاني : 12/216 .
(4) / أضواء البيان : 2/208 .
(5) / انظر لهذا القول مفاتيح الغيب : 18/96 ، وأضواء البيان للشنقيطي : 2/207.
(6) / سورة يوسف ، الآية : 26 .
(7) / سورة يوسف ، الآية : 33 .(1/130)
وبرَّأته امرأة العزيز في قولها : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } ([(1)])، وفي قولها : { الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } .([(2)])
وأما تبرئة الشاهد والملك له ففي قوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) } . ([(3)])
وشهد على ذلك النسوة : { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } . ([(4)])
وشهد الله تعالى - وكفى بالله شهيداً - على ذلك بقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } . ([(5)])
وأما إقرار إبليس لعنه الله بذلك ففي قول الله تعالى عنه : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) } . ([(6)])
وسبقت تزكية الله ليوسف عليه السلام بأنه من المخلصين ، الذين لا يقوى عليهم الشيطان اللَّعين .
ثانياً : مريم عليها السلام .
مدحها الله تعالى بالعفة فقال : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) } ([(7)]) .
__________
(1) / سورة يوسف ، الآية : 32 .
(2) / سورة يوسف ، الآية : 51 .
(3) / سورة يوسف ، الآية :26- 28 .
(4) / سورة يوسف ، الآية : 51 .
(5) / سورة يوسف الآية :24 .
(6) / سورة ص ، الآيتان : 82-83.
(7) / سورة الأنبياء ، الآية 91.(1/131)
وقال : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) } ([(1)]).
فمريم عليها السلام لم يمسسها من أحد بحلال ولا بحرام ، ولذا قال الكلبي رحمه الله: " { أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أعفته عن الحلال والحرام ". ([(2)])
ولما تمثل لها جبرائيل عليه السلام في صورة بشر كامل الخلقة وظنت أنه يريد سوءً لجأت إلى ربها واعتصمت به ، مذكرةً إياه بتقواه : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ ygs9 بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) } ([(3)]).
ومع أن هذا المشهد من مشاهد العفة موغل في القدم ، لكن جعله القرآن الكريم حياً كأنما يشخص أمامنا . ولما بشرها بعيسى عليه السلام أوضحت إحصانها لنفسها وعدم مقارفتها شيئاً من هذه الفواحش قائلةً : { ô4'¯Tr& يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) } ([(4)]) .
فهذا يدل على كمال عفتها .
وتتجلى هذه العفة في أبهى صورها وأكمل حالاتها عندما تمنت هذه الصديقة عليها السلام موتها وغياب ذكرها لمَّا تحرك الجنين في أحشائها : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) } ([(5)])
مع أن هذا الأمر لا يد لها فيه ، ولكنه حِس الطهر المتجسد فيها .
__________
(1) / سورة التحريم ، الآية : 12 .
(2) / التسهيل : 3/32 ، 4/133 .
(3) / سورة مريم ، الآيتان : 17-18 .
(4) / سورة مريم ، الآية : 20.
(5) / سورة مريم ، الآية : 23 .(1/132)
ليس غريباً أن يكون هذا حالها ، فقد قال عنها ربها : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) } ([(1)]) .
ولكن الغريب أن تجد في بنات المسلمين من تحمل سِفاحاً ولا يحرك ذلك فيها ولا في أوليائها ساكناً!! { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } ([(2)]).
ثالثاً : أمُّنا عائشة رضي الله عنها .
__________
(1) / سورة آل عمران ، الآية : 42 .
(2) / سورة الحج ، الآية : 46 .(1/133)
فقد برَّأها القرآن الكريم عن الفاحشة التي نسج المنافقون إفكها ، قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) } ([(1)]) إلى قوله تعالى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) } ([(2)])
__________
(1) / سورة النور ، الآيات :11- 16 .
(2) / سورة النور ، الآية : 26 .(1/134)
وتأمل معي قول ربي : { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } ذاكراً أن معنى كلمة سبحان الله تعني تنزيه الله عما لا يليق به ؛ تعلم عظيم مكانة هذه الصديقة رضي الله عنها، فإن معنى الآية :" تنزه الله عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة ". ([(1)]) وأيم الله لو لم يأت في مدحها إلا هذا لكفى .
وقد كانت تظن أن الله تعالى سيبرؤها برؤيا يراها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو بوحي ، ولم يدر في خَلَدِها أن ينزل قرآن بشأنها ، فما أعظم مكانتها . ([(2)])
وإن من العجائب - والعجائب جمة - أنَّ هؤلاء الثلاثة وهم سادات العفيفين اتُّهموا بالفاحشة لِلَّهِ
أما يوسف عليه السلام فاتهمته امرأة العزيز ، قال تعالى : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) } ([(3)]).
وأما مريم عليها السلام فأورد الله بهتان الناس لها في موضعين :
الأول : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) } ([(4)]) .
والثاني : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) } ([(5)]).
وأما عائشة رضي الله عنها ففي آيات الإفك التي سبق سردها .
__________
(1) / التفسير الكبير : 23/157 .وتفسير أبي السعود : 6/163 .
(2) / انظر قصة الإفك بتمامها في صحيح البخاري ، كتاب الشهادات ، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً ، برقم : 2518 .وصحيح مسلم ، كتاب التوبة ، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف ، برقم : 2770 .
(3) / سورة يوسف ، الآية : 25 .
(4) / سورة النساء ، الآية : 156 .
(5) / سورة مريم ، الآية : 27 .(1/135)
وإن هذا ليزج في رُوْع كل مسلم : مخافة الله تعالى من أن يلغ في عرض أخيه المسلم بلا بينة ؛ لأن الناس إذا رموا هؤلاء بما علمت فغيرهم أولى بأن لا يُتورع في حقهم، فليحذر المسلم من أن يكون وعاء للكذب والإفك .
فعلى العاقل أن يسلك سبيل هؤلاء العفيفين ، وألا ينجر وراء شهواته وأهوائه، وليحذر من عاقبة ذلك في الحال والمآل .
المبحث الثامن
الدعاء من أعظم العبادات التي يرجو بها المسلم مرضاة ربه ، ويُحصِّل بها مقاصده وغاياته . وقد أمر الله بها في مواضعَ عديدةٍ من القرآن الكريم ، من ذلك قوله: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) } ([(1)]). قال الطبري رحمه الله :" يقول تعالى ذكره : ادعوا أيها الناس ربكم وحده، فأخلصوا له الدعاء دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام . { تَضَرُّعًا } : يقول تذللاً، واستكانةً لطاعته . { وَخُفْيَةً } يقول : بخشوع قلوبكم ، وصحة اليقين منكم بوحدانيته ، فيما بينكم وبينه ، لا جهاراً مراءاةً وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته فِعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله ". ([(2)])
وقد وعد الله تعالى بإجابة السائلين ، وهذا من عظيم لطفه بعباده ، قال سبحانه وتعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) } ([(3)]).
__________
(1) / سورة الأعراف ، الآية : 55 .
(2) / جامع البيان :8/206 .
(3) / سورة البقرة ، الآية : 186 .(1/136)
وإن من أعظم الفوائد التي تتجلى لمن تدبر سورة يوسف عليه السلام : عظيم أثر الالتجاء إلى الله والدعاء في الوقاية من المنكر والفحشاء ؛ ذلك لأن يوسف عليه السلام لما حلت به هذه الفتنة التجأ إلى الله واستعاذ به وقال : { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) } ([(1)]).
قال أبو السعود رحمه الله :" أي : أعوذ بالله معاذاً مما تدعينني إليه ، وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه ، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه " ([(2)]).
وعدد يوسف عليه السلام في هذه الآية ما يمنعه من هذا المنكر : من تقواه لله ، وحفظه لحق العزيز الذي رباه ، واجتنابه لهذا الفعل الذي لا يفلح من تعاطاه .
فأعاذه الله من شرهن ووقاه ، وصرف عنه السوء واصطفاه : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) } ([(3)]).
__________
(1) / سورة يوسف ، الآية : 23 .
(2) / تفسير أبي السعود : 4/265 .
(3) / سورة يوسف ، الآية : 24 .(1/137)
ويوضح القرآن الكريم شدة تعوذه بالله من هذه الجريمة بكلمة واحدة جرت على لسان صاحبة القصة : { N|ء÷ètFَ™$$sù } . يقول عنها الإمام أبو السعود موضحاً ما يتقاطر عنها من معان بليغةٍ :" { N|ء÷ètFَ™$$sù } امتنع طالباً للعصمة ، وهو بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ ، والتحفظ الشديد ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، كما في استمسك ، واستجمع الرأي . وفيه برهان نير على أنه لم يصدر عنه - عليه السلام - شيء مخل باستعصامه بقوله معاذ الله من الهمِّ وغيره ، اعترفت لهنَّ أولاً بما كنَّ يسمعنه من مراودتها له ، وأكدته إظهاراً لابتهاجها بذلك ، ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يمل إليها قط ، ثم زادت عليه أيضا أنها مستمرة على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت : { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) } ([(1)]) ".([(2)])
وأنَّى لنبي الله عليه السلام أن يرضخ لهذا ..
لما رأى يوسف عليه السلام هذا الإصرار دعا مرة أخرى ، وزاد من تمسكه بحبل نجاته من كربه وعنائه ، فقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) } ([(3)]).
أيُّ طهر هذا ؟! دخول السجن أحب إليك يا نبي الله من النزول عند رغبة المرأة لِلَّهِ ومالي أتعجب ؟ أما يكفي أنه نبي من أنبياء الله تَحوطه عنايته ، وتُحدق به رعايته ؟
قال القرطبي رحمه الله :" وكأنه قال : اللهم اصرف عني كيدهن . فاستجاب له دعاءه ، ولطف به ، وعصمه عن الوقوع في الزِّنا ".([(4)])
__________
(1) / سورة يوسف ، الآية : 32 .
(2) / تفسير أبي السعود : 4/273 .
(3) / سورة يوسف ، الآية : 33 .
(4) / الجامع : 9/185 .(1/138)
وهكذا كل من التجأ إلى الله واستعاذ به أعاذه ، وأمنه مما يخاف ويحذر ، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما استعاذ بالله من أن يقتله أتباع فرعون بقوله : { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) } ([(1)])كانت العاقبة أن أغرق الله عدوهم ، وأورثهم أرضهم .
ولما أمر - عليه السلام - قومه بذبح البقرة وقالوا له : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } ([(2)]) استعاذ بالله فقال : { أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) } ([1])فأحيا الله القتيل له ، وزالت التهمة عنه .
ولما أعاذت أم مريم عليها السلام بنتها من الشيطان تقبلها ربها كما قال تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } ([(3)]) .
وقد مضى معنا أن أول ما لجأت إليه مريم عليها السلام عندما ظنت أن جبريل عليه السلام - وقد تمثل في صورة بشر - يريد بها سوء الاستعاذة بالله : { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) } ([(4)]).
__________
(1) / سورة الدخان ، الآية : 20.
(2) / سورة البقرة ، الآية : 67 .
(3) / سورة آل عمران ، الآية : 37 .
(4) / سورة مريم ، الآية : 18 .(1/139)
ومن قبلها سطر التاريخ هذا الموقف لسارة ([(1)]) زوج إبراهيم عليه السلام ، ففي الصحيحين ([(2)]) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كَذَبات ثنتين منهن في ذات الله عز وجل ([(3)
__________
(1) / زوج إبراهيم الخليل وأم إسحاق عليهم السلام ، بُشرت بإسحاق وبحفيدها منه بعدما كبرت سنها، ولما ولدت هاجر إسماعيل عليهما السلام أخذتها غيرة النساء ، فتحول إبراهيم بهاجر إلى مكة المكرمة .
(2) / البخاري في كتاب البيوع ، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه ، برقم : 2104 ، وفي كتاب الأنبياء ، باب قول الله تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } ، برقم : 3179 ،وفي كتاب النكاح ، باب اتخاذ السراري ، برقم : 4795. ومسلم في كتاب الفضائل ، باب من فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - ، برقم : 2371 .
(3) / كلها في ذات الله ، وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنتين لأن الثالثة وإن كانت في ذات الله إلأ أنَّ لنفسه حظاً فيها ، ولذا جاء في بعض الروايات :(( كلها في ذات الله )) . راجع فتح الباري : 6/392 .
وهذه الرواية التي أشار إليها الحافظ وجدتها في مسند أبي يعلى : 10/426 . ووقع عند الترمذي -5/308- :(( ما منها كذبة إلأ ماحلَ بها عن دين الله )) . أي : جادل .(1/140)
]) : قوله : إني سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم هذا ، وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس . فأرسل إليه فسأله عنها فقال : من هذه ؟ قال أختي . فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني . فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده ، فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر ، فأُخذ . فقال : ادعي الله ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق ، ثم تناولها الثانية فأُخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق . فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان . فأخدمها هاجر فأتته وهو يصلي ، فأومأ بيده مَهْيَم ([(1)]) ؟ قالت : رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر)).
__________
(1) / أي : ما شأنك .(1/141)
ولما استحكمت الشهوة بأحد الشباب جاء إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - يطلب منه أن يأذن له في الزِّنا قائلاً : يا رسول الله ائذن لي في الزِّنا . فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه لِلَّهِ فقال - صلى الله عليه وسلم - :((ادن)) ، فدنا منه قريباً ، قال : ((أتحبه لأمك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) . قال :((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)) . قال: ((أفتحبه لأختك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)) . قال :((أفتحبه لعمتك ؟)) قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)) . قال : ((أفتحبه لخالتك ؟)) . قال : لا والله جعلني الله فداءك . قال : ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال : فوضع يده عليه وقال : ((اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه)). فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء .([(1)])
ولو أن كل امرئ تحركت الشهوة فيه وتلاعب الشيطان بخطراته وفكره أعمل هذا الحديث برجوعه إلى نفسه بهذه الأسئلة ، وبدعاء الله أن يطهر قلبه ويحصن فرجه لسادت العفة مجتماعتنا ، ولكان الطُّهرُ عنوان أمتنا .
ولهذا كله كان من هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بالعفة ، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول :((اللهم إني أسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف ، والغنى)) ([(2)]).
__________
(1) / أخرجه أحمد في المسند : 5/256 .
(2) / أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، برقم : 2721 .(1/142)
وعلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً دعاءً فقال له : ((قل : اللهم إني أعوذ بك من شرِّ سمعي ، ومن شرِّ بصري ، ومن شرِّ لساني ، ومن شرِّ قلبي ومن شرِّ منيي )) ([(1)]).
ومعنى الحديث :" تعوذ من أن يغلب المني عليه حتى يقع في الزِّنا أو في مقدماته ، يعني : من شر فرجه ، وغلبة المني عليه ؛ حتى لا يقع في الزِّنا ، والنظر إلى المحارم ". ([(2)])
فعلى من رام العفة أن يعلم أن هذا من أعظم سبلها ، فليكثر من دعاء الله تعالى ؛ فإنه لا ملجأ من الفتن إلا إليه .
المبحث التاسع
الذرية زينة الحياة الدنيا كما أخبر ربنا بذلك في قوله : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) } ([(3)]).
__________
(1) / أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب في الاستعاذة ، برقم 1551 . والترمذي في كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب رقم 74 ، حديث رقم : 3492 . والنسائي في كتاب الاستعاذة ، باب الاستعاذة من السمع والبصر، برقم : 5456.
(2) / عون المعبود : 2/286 .
(3) / سورة الكهف ، الآية 46 .(1/143)
وهي مسؤولية عظيمة سنُسأل عنها أمام الله تعالى يوم القيامة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته )).([(1)])
"قال العلماء الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه ، وما هو تحت نظره ". ([(2)])
فمن آكد الأمور على الآباء : إحكام تربية الناشئة ، وذلك له كبير الأثر في تحقيق عفتهم وصلاحهم ، ونظمهم في سلك الصالحين المتقين .
ألا ترى إنكار قوم مريم عليها بقولهم : { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) } ([(3)])
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الجمعة ، باب الجمعة في القرى والمدن ، برقم : 853 . وفي كتاب الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس ، باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه ، برقم : 2278 . وفي كتاب العتق ، باب كراهية التطاول على الرقيق ، برقم : 2416 . وفي كتاب الوصايا ، باب تأويل قول الله تعالى { من بعد وصية يوصي بها } ، برقم : 2600. وفي كتاب النكاح ، باب { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } ، برقم : 4892 ، وباب المرأة راعية في بيت زوجها ، برقم : 4904 . وفي كتاب الأحكام ، باب قول الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ، برقم : 6719 . وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية والنهي عن إدخال المشقة عليهم ، برقم : 1829.
(2) / شرح مسلم للنووي : 12/213.
(3) / سورة مريم ، الآية : 28 .(1/144)
ففي هذه الآية بيان اتهامهم لها بالزِّنا ، وإنكارهم عليها أن يقع ذلك منها- حسب ظنهم- مع استقامة والديها ، قال ابن عطية رحمه الله ([(1)]) :" والمعنى ما كان أبوك ولا أمك أهلا لهذه الفعلة فكيف جئت أنت بها "([(2)]).
وقال السعدي رحمه الله :" أي : لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر وخصوصاً هذا الشر الذي يشيرون إليه ، وقصدهم : فكيف كنت على غير وصفهما وأتيت بما لم يأتيا به ، وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض في الصلاح وضدِّه".([(3)])
{ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) } . ([(4)])
فهذا التعجب والإنكار منهم " تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش ".([(5)])
فهذه الأقوال من علمائنا رحمهم الله في هذه الآية تقرر أن في صلاح الأسرة المسلمة صلاحاً لأبنائها ، وعصمةً لهم من مزالق الردى وسبل الخنا ، وأن القدوة الصالحة خير ما يضمن استقامة الأبناء وعفتهم عن الفواحش .
إن تربية النشء أول ما تبدأ تكون " عن طريق المحاكاة والتلقين ، ذلك أن الطفل ينشا فيرى أبويه يقرآن القرآن ، ويقيمان الصلاة ، ويصومان رمضان ، وغير ذلك من الشعائر الدينية المختلفة ، فتنطبع في ذهنه هذه الصور ، ويترسم خطاها بالتقليد ". ([(6)])
__________
(1) / عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن غالب بن تمام بن عطية ، كان فقيهاً عالماً بالتفسير والأدب ، قال أبو حيان : أجل من صنف في علم التفسير ، توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة .انظر : طبقات المفسرين للداودي : 1/176 .
(2) / المحرر الوجيز : 4/14 .
(3) / تيسير الكريم المنان ، ص : 492 .
(4) / سورة آل عمران ، الآية : 34 .
(5) / تفسير أبي السعود : 5/263 .
(6) / الطفل في الشريعة الإسلامية ، د. محمد بن أحمد الصالح ، مطابع الفرزدق ، الطبعة الثالثة ، 1403هـ ،ص : 248(1/145)
ففي هذه المرحلة يقبل الطفل كل ما يعرض له من خير أو شر ، لا يفرق بينهما إلا من تصرفات أسرته معه .
ولقد سدت الشريعة المطهرة كل ذريعة تؤدي إلى انحراف الأبناء في أخلاقهم ، فمن ذلك :
أمر الله تعالى بأن يستئذن الأطفال قبل دخولهم على والديهم ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) } . ([(1)])
ومن حكم هذا التشريع : أنَّ الطفل إذا رأى أبويه في حالٍ لا ينبغي أن يراهما عليها أحد ارتبك فكره ، وتشوش ذهنه ، وانحرف سلوكه ؛ فجاء هذا الحكم دفعاً لهذه المفاسد .
ومن ذلك أيضاً : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بين الأبناء في المضاجع إذ يقول : (( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع )). ([(2)])
وذلك " حذراً من غوائل الشهوة ".([(3)])
__________
(1) / سورة النور ، الآيتان : 58 ، 59 .
(2) / مسند الإمام أحمد : 2/180 . وسنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب متى يُؤمر الغلام بالصلاة ، برقم : 494 .
(3) / عون المعبود : 2/115 .(1/146)
وإن مما يدل على أثر البيئة في فساد سلوك الشخص أو صلاحه هذه القصة التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه :((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً ، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب ، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً ، فهل له من توبة ؟ فقال : لا . فقتله فكمَّل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء . فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم ، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة )).([(1)])
فالواجب على الآباء أن يغرسوا في نفوس أبنائهم الفضيلة والعفة والطهر ، وبذلك يحققون قول الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) } .([(2)])
المبحث العاشر
جعل الله البيوت سكناً يفيء إليها الناس، فتسكن أرواحهم وتطمئن نفوسهم ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم .
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حَرَماً آمناً لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم وفي الوقت الذي يريدون وعلى الحالة التي يُحبُّون أن يلقوا عليها الناس.
__________
(1) / أخرجه مسلم في كتاب التوبة ، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله ، برقم : 2766 .
(2) / سورة التحريم ، الآية : 6.(1/147)
إنَّ الاستئذان أدب رفيع، يدل على حياء صاحبه وشهامته وتربيته وعفته، والمستأذن قد نزَّه عينه عن رؤية ما لا يحب أن يراه الناس من أمورهم، ونزَّه نفسه عن مفاجأتهم وإحراجهم .
وإن اقتحام هذه البيوت بلا استئذان هتك لحرمتها ، وتطلع على عوراتها،وهو يفضي إلى الاطلاع على أحوال الناس التي يطونها في العادة ، وربما أدى ذلك إلى وقوع جريمة الزِّنا بسبب ما يقع من نظرات آثمة على العورات ، أو بحدوث الخلوة بين الرجل والمرأة ؛ بأن يقتحم الرجل بيتاً مابه إلأ امرأة .
ولذا جاء الأمر من الله تعالى بهذا الخلق الرفيع ، والأدب السامي ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) } . ([(1)])
والمراد بالاستئناس في الآية : الاستئذان ، وبه فسرها الإمام مالك رحمه الله . ([(2)]) وهنا ينقدح في الأذهان سؤال : لم عُبر عن الاستئذان بالاستئناس ؟
والجواب : " لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له استأنس وزال عنه الاستيحاش ، ولما كان الاستئناس لازماً للإذن أطلق اللازم وأريد ملزومه الذي هو الإذن " .([(3)])
__________
(1) / سورة النور ، الأيات : 27-29 .
(2) / انظر جامع القرطبي : 12/213
(3) / أضواء البيان : 5/491-492 .(1/148)
إنه استئذان في استئناس يعبر عن اللطف الذي ينبغي أن يكون عليه الزائر، إذ لا يكون الأنس والاستئناس إلا بانتفاء الوحشة والبغض ، وانتفاء الأول يكون بأخذ الإذن قبل الدخول ، وانتفاء الثاني يكون بإلقاء السلام ، ولذا قال تعالى : { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } .
وقيل : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } أي : تستعلموا أيؤذن لكم أم لا . ([(1)])
__________
(1) / راجع التسهيل لعوم التنزيل : 3/63 .(1/149)
وأما ما جاء به بعض المفسرين من أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يرى أن هذا اللفظ خطأ من الكاتب وأن الصواب في الآية : تستأذنوا . فلا يُعقل ألبتة أن ابن عباس يرى مثل هذا الرأي الساقط ؛ وذلك لإجماع الصحابة رضي الله عنهم - ومنهم ابن عباس - على الرسم العثماني للمصحف ، قال ابن عطية رحمه الله :" مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها { تَسْتَأْنِسُوا } وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان - رضي الله عنه - فهي التي لا يجوز خلافها ، والقراءة بـ (تستأذنوا ) ضعيفة، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب في لفظ أجمع الصحابة عليه لا يصح عن ابن عباس ، والأشبه أن يقرأ (تستأذنوا ) على التفسير ... و قد روي عن ابن عباس أنه قال تستأنسوا معناه تستأذنوا . ([(1)])ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس أن { تَسْتَأْنِسُوا } متمكنة في المعنى ، بيِّنة الوجه في كلام العرب ، وقد قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - :" أستأنس يا رسول الله ؟ قال :(( نعم )) . ([(2)]). وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور .. وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف يُخطِّىء ابنُ عباس - رضي الله عنه - أصحابَ الرسول في مثل هذا ؟! " ([(3)])
__________
(1) / انظر الدر المنثور : 6/171 .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب المظالم ، باب الغرفة والعلية المشرفة في السطوح وغيرها ، برقم : 2335 ، وفي كتاب النكاح ، باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها ، برقم : 4895 . .وصحيح مسلم، كتاب الطلاق ، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى : { وإن تظاهرا عليه } ، برقم : 1479.
(3) / المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : 4/176 .(1/150)
وقال القرطبي رحمه الله :" وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس ، وقد قال عز وجل : { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } . ([(1)]) ، وقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } ([(2)]) ". ([(3)])
ففي هذه الآية دليل واضح على أن الإنسان لا يجوز له أن يدخل غير بيته إلا بإذن سواء كان الزائر قريباً أو غريباً ، ولذا نص العلماء على أن حكم الاستئذان: الوجوب .([(4)])
" وبيت الإنسان هو البيت الذي لا أحد معه فيه ، أو البيت الذي فيه زوجه أو أمَتُه ، وما عداه فهو غير بيته ".([(5)])
ولهذا الأدب الرفيع آداب وأحكام جاء بيانها في سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - :
فأوضحت السنة المطهرة أن الزائر ينبغي أن يجمع بين الاستئذان والسلام كما في الحديث أنَّ رجلاً من بني عامر استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت فقال : ألج ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخادمه :(( اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ))؟ فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل )).([(6)])
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن دخل عليه ولم يستأذن :(( ارجع فقل السلام عليكم ، أأدخل )).([(7)])
__________
(1) / سورة فصلت ، الآية : 42 .
(2) / سورة الحجر ، الآية : 9.
(3) / الجامع : 12/214 .
(4) / التسهيل : 3/63 .
(5) / المحرر الوجيز : 4/175.
(6) / سنن أبي داود ، كتاب الأدب ، باب كيف الاستئذان ، برقم : 5177 .
(7) / سنن أبي داود ،كتاب الأدب ، باب كيف الاستئذان ، برقم : 5176. وجامع الترمذي ، كتاب الاستئذان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في التسليم قبل الاستئذان ، برقم : 2710.(1/151)
قال النووي رحمه الله :" أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة ، والسنة أن يسلم ويستأذن ثلاثاً فيجمع بين السلام والاستئذان كما صرح به في القرآن ". ([(1)])
"والاستئذان واجب ، وأما السلام فلا ينتهي إلى الوجوب ".([(2)])
وله أن يكرر الاستئذان ثلاث مرات ، فإن لم يؤذن له رجع بعد الثالثة لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى ([(3)]) كأنه مذعور فقال : استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت ، فقال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع )). فقال : والله لتقيمن عليه بينة . أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنتُ أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك.([(4)
__________
(1) / شرح النووي على صحيح مسلم : 14/130-131.
(2) / التسهيل : 3/63 .
(3) / عبد الله بن قيس بن سليم ، فقيه مقرئ ، وهو معدود فيمن قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أقرأ أهل البصرة وأفقههم في الدين، وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( قال اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه ، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً)) .انظر سير أعلام النبلاء : 2/381 .
وهذا الحديث في صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، برقم : 4068 . وصحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي موسى الشعري ، برقم : 2497 .
(4) / صحيح البخاري ، كتاب الاستئذان ، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً ، برقم : 5891 . وصحيح مسلم ، كتاب الآداب ، باب الاستئذان ، برقم : 2153 .
بعض المغرضين طعن في حديث الآحاد بهذه القصة، وللرد عليهم أُفسح المجال للإمام النووي رحمه الله ، قال الإمام النووي رحمه الله :" وقد أجمع من يعتد به على الاحتجاج بخبر الواحد ووجوب العمل به ، ودلائله من فعل رسول الله= = - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وسائر الصحابة ومن بعدهم أكثر من أن يُحصر ، وأما قول عمر لأبى موسى : أقم عليه البينة، فليس معناه رد خبر الواحد من حيث هو خبر واحد ، ولكن خاف عمر مسارعة الناس إلى القول على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يقول عليه بعض المبتدعين أو الكاذبين أو المنافقين ونحوهم ما لم يقل ، وأنَّ كل من وقعت له قضية وضع فيها حديثاً على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأراد سد الباب خوفاً من غير أبى موسى ، لاشكاً في رواية أبى موسى " [شرح النووي على صحيح مسلم :(14/131-132)] .
ثم ليسمح لي هؤلاء بسؤالٍ : هل خرج الحديث بخبر الاثنين عن كونه آحاداً ؟
الجواب : لا . فالحديث دليل على قبول حديث الآحاد لأن خبر الاثنين من جملة ذلك .(1/152)
])
وكما دلت السنة القولية على ذلك فقد دل عليه فعله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد استأذن على سعد بن عبادة - رضي الله عنه - ([(1)]) فقال : (( السلام عليكم ورحمة الله )) فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلَّم ثلاثاً ورد عليه سعد ثلاثاً ولم يسمعه ، فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - واتَّبعه سعد ، فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة الا هي بأذني ولقد رددت عليك ولم أُسمِعْك ؛ أحببت أن أستكثر من سلامك ومن البركة . ثم أدخله البيت فقرَّب له زبيباً فأكل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال :((أكل طعامكم الأبرار ، وصلَّت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون)).([(2)])
وقد ذكر بعض العلماء الحكمة من أن يكون الاستئذان ثلاثاً أنهم بالأولى يستنصتون ، وبالثانية يستصلحون ، وبالثالثة يأذنون أو يردون . ([(3)])
ويكون الاستئذان بما ورد في الحديث السابق ، أو بنحنحة ، أو طرق باب ونحوه ([(4)])
وكان عبد الله بن مسعود يستاذن بنحنحة . ([(5)])
وأورد الطبري في تفسيره لقول الله تعالى : { تَسْتَأْنِسُوا } عن مجاهد :" تتنحنحوا أو تتنخَّموا ".([(6)]) وقال أبو داود رحمه الله في سننه ([(7)]):" باب الرجل يستأذن بالدَّق ". وأورد حديث جابر أنه ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدقَّ الباب .
__________
(1) / سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة ، سيد الخزرج ،أبو ثابت المدني ، شهد العقبة وغيرها من المشاهد ، خرج عن المدينة فمات بأرض الشام سنة خمس عشرة. انظر تهذيب التهذيب : 3/412.
(2) / مسند أحمد : 3/138 . وسنن أبي داود ، كتاب الأدب ، باب كم مرة يُسلم في الاستئذان ؟ ، برقم : 5185 .
(3) / انظر الدر المنثور : 6/174 ، والتفسير الكبير : 23/172 .
(4) / انظر فتح الباري : 11/8 .
(5) / مسند أحمد : 1/381.
(6) / جامع البيان : 18/111.
(7) / 4/348.(1/153)
وينبغي أن يكون طرقه للباب بلطف ورفق ([(1)])، لا سيما إن استأذن على ذي رحم أو فضل وعلم ، وقد أُثر عن السلف أنهم كانوا يطرقون الأبواب بالأظافر ([(2)])
" ولكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ". ([(3)])
ومن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا أتى باب قوم لم يستقبله من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر .([(4)])
وجاء رجل يستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقف أمام الباب فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :((هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر)).([(5)]) فلا يستقبل المستأذن الباب ؛ لئلا يرى ما بجوف الدار عند فتح بابها .
وقد جاء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين أن من نظر إلى جوف دار بلا إذن ففقأ أهلها عينه فهي هدر ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - :(( لو أن امرأ يتحقق ([(6)]) عليك بغير إذن فخذفته بحصاه ففقأت عينه لم يكن عليك جناح )). وفي رواية لمسلم :(( من يتحقق في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه))([(7)]) ولأحمد ([(8)]) :(( من يتحقق في بيت قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فلا دية له ولا قصاص )).
__________
(1) / ومثله : الضغط على زر الجرس .
(2) / راجع جامع القرطبي : 12/217 .
(3) / المحرر الوجيز : 4/176 .
(4) / سنن أبي داود ، كتاب الاستئذان ، باب كم مرة يسلم الرجل في لاستئذان ؟ ، برقم : 5186.
(5) / سنن أبي داود ، كتاب الأدب ، باب في الاستئذان، برقم : 5174 .
(6) / يُدقق .
(7) / صحيح البخاري ، كتاب الديات ، باب من يتحقق في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له ، برقم : 6504. وصحيح مسلم ، كتاب الآداب ، باب تحريم النظر في بيت غيره ، برقم : 2158 .
(8) / المسند : 2/385.(1/154)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رجلاً يتحقق من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمِشْقَص ([(1)]) أو مشاقص فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْتِله ([(2)]) لِيَطْعُنَه([(3)]). ([(4)])
وعن سهل بن سعد أن رجلاً اطلع من جحر في دار النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحك رأسه بالمِدْرى فقال لو علمت أنك تنظر لطعنت بها في عينك إنما جعل الإذن من قبل الأبصار )).([(5)])
قال ابن حجر رحمه الله :" واستُدل به على جواز رمي من يتجسس ولو لم يندفع بالشيء الخفيف جاز بالثقيل , وأنه إن أصيبت نفسه أو بعضه فهو هدر , وذهب المالكية إلى القصاص وأنه لا يجوز قصد العين ولا غيرها , واعتلوا بأن المعصية لا تدفع بالمعصية , وأجاب الجمهور بأن المأذون فيه إذا ثبت الإذن لا يسمى معصية وإن كان الفعل لو تجرد عن هذا السبب يعد معصية ... وقال القرطبي في " المفهم " ما كان عليه الصلاة والسلام بالذي يهم أن يفعل ما لا يجوز أو يؤدي إلى ما لا يجوز ".([(6)])
وهذا الحكم خاص " بمن تعمد النظر ، وأما من وقع ذلك منه بلا قصد فلا حرج عليه ".([(7)])
__________
(1) / نصل السهم إذا كان طويلاً.
(2) / الإصابة على غفلة .
(3) / ضم عينها أشهر من فتحها .
(4) / صحيح البخاري ، كتاب الاستئذان ، باب الاستئذان من أجل البصر ، برقم : 5888 ، وفي كتاب الديات ، باب من يتحقق في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له ، برقم : 6504 . وصحيح مسلم، كتاب الآداب ، باب تحريم النظر في بيت غيره ، برقم : 2157
(5) / صحيح البخاري ، كتاب الديات ، باب من يتحقق في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له ، برقم : 6505 .
(6) / فتح الباري : 12/245 .
(7) / فتح الباري : 11/25 .(1/155)
وإذا استأذن الزائر وسئل عن اسمه فلا يقل : أنا ، وإنما يُفصح عن اسمه وكنيته إن كان مشهوراً بها لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي فدققت الباب ، فقال :((من ذا)) ؟ فقلت : أنا . فقال :((أنا أنا ))!! كأنه كرهها .([(1)])
وفي حديث المعراج لما كان جبريل يستفتح السماوات فيُقال له من ؟ كان يقول: جبريل .([(2)])
وقال أبو ذر - رضي الله عنه - ([(3)]): خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده وليس معه إنسان ،فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد ، فجعلت أمشي في ظلِّ القمر فالتفت فرآني فقال :((من هذا)) ؟ قلت : أبو ذر جعلني الله فداءك.([(4)])
وبعد أن يستأذن الزائر فلا يخلو حاله من أحد أمرين :
أن يُرد عليه بأن يدخل أو يرجع ، أو لا يرد عليه بشيء .
فإن طُلب دخوله دخل ، وإن طلب رجوعُه وقيل له : ارجع فليرجع ؛ لقول الله تعالى : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ }
قال السيوطي رحمه الله :" لا تقعدوا بعدها على أبواب الناس". ([(5)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الاستئذان ، باب إذا قال من ذا فقال أنا ، برقم : 5896 . وصحيح مسلم، كتاب الآداب ، باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا ، برقم : 2155 .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب الصلاة ، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء ، برقم : 342 . وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات وفرض الصلوات ، برقم : 162.
(3) / صحابي جليل، اسمه جندب بن جنادة الغفاري، أحد السابقين الأولين ، وهو خامس خمسة في الإسلام . انظر سير أعلام النبلاء : 2/46 .
(4) / صحيح البخاري ، كتاب الرِّقاق ، باب المكثرون هم المقلون ، برقم : 6078 . وصحيح مسلم ، كتاب الزكاة ، باب الترغيب في الصدقة ، برقم : 94 .
(5) / الدر المنثور : 6/175 .(1/156)
وقد ورد عن رجل من المهاجرين أنه طلب عمره كله هذه الآية يريد أن يرده أحد فلم يدركها ؛ لأن الله قال : { هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } ([(1)]) أي أطهر للقلب ؛ لامتثاله أمر الله تعالى وفي ذلك رفعة درجتكم وتكفير ذنوبكم وزيادة حسناتكم ، ولأن الإلحاح و الوقوف والحالة هذه دناءة في الخلق والانصراف كمال في المروءة . ([(2)])
فلا ينبغي للإنسان أن ينزعج من هذا أو يغضب ؛" فإن صاحب المنزل لم يمنعه حقاً واجباً له ، وإنما هو متبرع ، فإن شاء أذن أو منع ، فلا يأخذ أحدكم الكبر والاشمئزاز من هذه الحال ".([(3)])
فإن لم يُرد عليه بشيء رجع بعد الثالثة مطلقاً سواء غلب على ظنه أنهم سمعوه أو لم يسمعوه ؛ لقصة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سعد بن عُبادة سابقة الذكر .
وينبغي أن يستأذن الإنسان على محارمه ؛ لئلا يراهم على حال لا يحبها ، فقد ورد في الموطأ ([(4)]) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله رجل فقال : يا رسول الله أستأذن على أمي ؟ فقال :((نعم)) . قال الرجل : إني معها في البيت ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((استأذن عليها)). فقال الرجل : إني خادمها ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة ))؟ قال : لا . قال : ((فاستأذن عليها)).
قال أبو عمر : "وهذا الحديث مرسل صحيح مجمع على صحة معناه ".([(5)])
__________
(1) / راجع المصدر السابق .
(2) / انظر أنوار التنزيل للبيضاوي : 4/182.
(3) / تفسير السعدي ، ص : 565 .
(4) / 2/963 .
(5) / التمهيد : 16/229.(1/157)
وسأل رجل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أستاذن على أمي ؟ قال : استاذن .([(1)]) وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا بلغ بعض ولده لم يدخل عليه إلا بإذن([(2)]).
و كان الإمام مالك رحمه الله يفتي بالاستئذان على الأخت والوالدة([(3)])
قال ابن حجر رحمه الله :" والاستئذان لا يختص بغير المحارم ، بل يُشرع على من كان منكشفاً ولو كان أماً أو أختاً ".([(4)])
وأما الزوجان فلا يستأذن أحدهما على الآخر ؛ لزوال الحشمة بينهما .
وقد قال الله تعالى بعدما أمر بهذا الأدب : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال ابن كثير رحمه الله :" الاستئذان خير لكم بمعنى هو خير للطرفين للمستأذن ولأهل البيت".([(5)])
وإذا كان الخير في الاستئذان فإن انعدامه يفضي إلى ما لا يُحمد ، ومن ذلك :
- مخالفة القرآن الكريم .
- ربما أدى إلى النظر المحرم والخلوة ، وهما من أسباب الزِّنا .
- تلويث سمعته وعرضه بما يسوؤه ؛ لأن الدخول بلا استئذان يوجب الرِّيبة والشك .([(6)])
- وفيه تصرف في مُلك غيره ، وهذا يشبه الغصب . ([(7)])
فحري بالمسلم أن يصون نفسه وحرمات غيره بأن يحملها على هذه الآداب السامية ، والأحكام الراقية ؛ ليسلم من الفتن ، ويأمن غيره من بوائقه وشرِّه .
المبحث الحادي عشر
__________
(1) / المصنف لابن أبي شيبة : 4/43 .
(2) / الأدب المفرد ، للإمام محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري ، دار البشائر الإسلامية ببيروت ، الطبعة الثالثة ، 1409هـ ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي : 1/364 .
(3) / راجع جامع القرطبي : 12/219 .
(4) / فتح الباري : 12/245 .
(5) / تفسير القرآن العظيم : 3/282 .
(6) / انظر روح المعاني للألوسي : 18/136 .
(7) / المصدر السابق .(1/158)
من النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده : نعمة البصر، إذ يقول تعالى مذكراً بها : { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } ([(1)]).
وقال: { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) } ([(2)]).
وقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) } ([(3)]).
وقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) } .([(4)])
فشكر هذه النعمة يكون بحفظها عما حرم الله تعالى .
ومما لا مرية فيه أن إطلاق النظر فيما حرم الله مفضٍ إلى جريمة الزِّنا ؛ فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلاً فقد يتمكن بسببه حبُّها من قلبه تمكناً يكون سبب هلاكه والعياذ بالله ؛ لأن ما تألفه العين يألفه القلب ، وصدق من قال :
" نظرة ، فابتسامة ، فسلام فكلام ، فموعد ، فلقاء ُ" ([(5)]).
قال القرطبي رحمه الله :" البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ، وأعمر طرق الحواس إليه ، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات ، وكل ما يخشى الفتنة من أجله ".([(6)])
__________
(1) / سورة الإنسان ، الآية : 2.
(2) / سورة النحل ، الآية : 78 .
(3) / سورة المؤمنون ، الآية : 78 .
(4) / سورة السجدة ، الآية : 9. وسورة الملك ، الآية : 23 .
(5) / الشوقيات : 2/112 .
(6) / الجامع : 12/223 .(1/159)
ولذا جاء الأمر بغض البصر للرجال والنساء في قول الله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ([(1)]) .
ومعنى الغض : الكف ، " وكل شيء كففته فقد غضضته ".([(2)])
والإغضاء : إدناء الجفون ، وغضَّ طرفَه : أطبق الجفن على الحدقة . ([(3)])
ولعل ذكر الجنسين على سبيل التفصيل مما يدل على أهمية هذا الأمر ؛ فإننا نجد كثيراً من الآيات يتجه الأمر فيها إلى الرجال ولا يُذكر النساء ؛ لدخولهن في ذلك تغليباً. ([(4)])
قال الرازي رحمه الله :" فإن قيل : فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا : لأن النظر بريد الزِّنا ، ورائد الفجور ، والبلوى فيه أشد وأكثر ولا يكاد يُقدر على الاحتراس منه".([(5)])
وأما تفسير { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فقد قال الكلبي رحمه الله :" (من) للتبعيض ، والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل . وقيل : معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج بها ، ويمنع ما بعدها ... وقيل : هي لابتداء الغاية ؛ لأن البصر مفتاح القلب، والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة ، أو إلى ما لا يحل من النساء".([(6)])
وقال الشوكاني رحمه الله :" وقيل الغض النقصان ، يقال : غض فلان من فلان أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يُمكَّن من عمله فهو مغضوض منه ومنقوص ، فتكون من صلة للغض ".([(7)])
__________
(1) / سورة النور ، الآيتان : 30 ، 31 .
(2) / مختار الصحاح ، مادة : (غضض) ، ص : 199 .
(3) / انظر اللسان ، مادة (غضض) : 15/128 .
(4) / انظر أحكام القرآن لابن العربي : 3/379 .
(5) / التفسير الكبير : 23/178 .
(6) / التسهيل : 3/64 .
(7) / فتح القدير : 4/22 .(1/160)
ولا حاجة هنا إلى إثارة فروع هذه المسألة ونثر الأقوال فيها ؛لأن ذلك يجر إلى ما لا علاقة له بالبحث ، فإن النظر حُرِّم تحريم الوسائل ، وما كان كذلك فقد يُباح للحاجة ، قال ابن القيم رحمه الله :" يحرم النظر إلى الأجنبية لأنه وسيلة إلى غيره ، وما حُرِّم تحريم الوسائل فإنه يباح للحاجة أو المصلحة الراجحة ، كما يباح النظر إلى الأمة المستامة ([(1)]) ، والمخطوبة ، ومن شهد عليها ، أو يعاملها ، أو يطبها ".([(2)])
فهذه الأشياء غير مرادة من البحث .
وقال الرازي رحمه الله :" واعلم أنه لا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض ".([(3)])
وهذه الجملة منه رحمه الله تدل على أنه إن احتاج النظر إليها فلا ينظر إلا إلى وجهها ، لأنه يكفي في الغالب ، ولذا قال بعد ذلك :" ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى غير الوجه لأن المعرفة تحصل به". ([(4)])
فخلاصة ما سبق :
- أنه لا يحل النظر إلى الأجنبية بدون حاجة ، ويكون نظره إليها بقدرها. قال النووي رحمه الله ناقلاً عن العلماء قبله :" ويجب على الرجال غض البصر عنها في جميع الأحوال ، إلا لغرض صحيح شرعي ؛ وهو حالة الشهادة ، والمداواة ، وإرادة خطبتها ، أو شراء الجارية ، أو المعاملة بالبيع والشراء وغيرهما ، ونحو ذلك .وإنما يباح في جميع هذا قدر الحاجة دون ما زاد والله أعلم ".([(5)])
__________
(1) / السَّوم : ما يكون من كلام بين البائع والمشتري في السلعة للاتفاق على ثمنها . انظر النهاية في غريب الحديث ، مادة (سوم) : 2/425 .
(2) / زاد المعاد في هدي خير العباد - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ، مكتبة المنار بالكويت، الطبعة الرابعة عشر ، 1407هـ ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط : 2/242 .
(3) / التفسير الكبير : 23/176 ، وفيه بحث مهم حول هذه المسألة ، فليراجع .
(4) / التفسير الكبير : 23/177 .
(5) / شرح مسلم : 14/139 .(1/161)
- وأنه متى ما وُجدت الشهوة حرُم النظر . قال القرطبي رحمه الله: " وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرم نظر شهوة ".([(1)]) نعوذ بالله من انتكاس الفطر وموت القلب .
فإن وقع النظر على امرأة بلا قصد وجب غضُّه وكفه ؛ لحديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفُجَاءة ، فأمرني أن أصرف بصري.([(2)])
قال النووي رحمه الله :" ومعنى نظر الفجأة : أن يقع بصره على الأجنبية بلا قصد ، فلا إثم عليه في أول ذلك ، ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال . فإن صرف في الحال فلا إثم عليه ، وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث ".([(3)])
وهذا يوضح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - :(( لا تتبع النظرة النظرة ؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة )). ([(4)])
وإن من مكايد الشيطان أن يطيل الإنسان النظرة الأولى بحجة أنه مرخص له فيها لِلَّهِ فعلى من استحوذ عليه الشيطان بذلك أن يعلم أن الله تعالى لا يُخادع ، وأن الواجب صرف النظر مباشرةً عما حرم الله .
وما قيل في الرجل يُقال في المرأة ، فقد ورد عن نبهان مولى أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( احتجبا منه )). فقلنا : يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال النبي :((أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه))؟ ([(5)])
__________
(1) / الجامع : 12/223 .
(2) / صحيح مسلم ، كتاب الآداب ، باب نظر الفجأة ، برقم : 2159 .
(3) / شرح صحيح مسلم للنووي : 14/139 .
(4) / مسند الإمام أحمد : 5/351 . وسنن أبي داود ، كتاب النكاح ، باب ما يؤمر به من غض البصر، برقم : 2148. وسنن الترمذي ، كتاب الأدب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء في نظرة المفاجأة ، برقم : 2777 .
(5) / مضى تخريجه ص : 156 .(1/162)
وجاء في ترجمة هذا الحديث في صحيح ابن حبان ([(1)]): " ذكر الإخبار عما يجب على النساء من غض البصر ، ولزوم البيوت ؛ لئلا يقع بصرهن على أحد من الرجال ، وإن كان الرجال عمياناً".
وبه استدل النووي رحمه الله على تحريم نظر المرأة إلى الرجل وقال : " الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وأكثر الصحابة أنه يحرم على المراة النظر إلى الأجنبي ، كما يحرم عليه النظر إليها ؛ لقوله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } ، ولأن الفتنة مشتركة ، وكما يخاف الافتتان بها تخاف الافتنان به ، ويدل عليه من السنة حديث نبهان مولى أم سلمة ". ([(2)])
ولا يعكر على هذا ما جاء في قصة طلاق فاطمة بنت قيس من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بأن تعتد في بيت أم شريك ([(3)])، ثم قال لها : ((تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدى ثم ابن أم مكتوم ؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)).([(4)])
قال النووي رحمه الله - بعدما صحَّح حديث نبهان - :" وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه إذن لها في النظر إليه ، بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها ، وهي مأمورة بغض بصرها ، فيمكنها الاحتراز عن النظر بلا مشقة ، بخلاف مكثها في بيت أم شريك ".([(5)])
__________
(1) / صحيح ابن حبان ، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن جعفر البستي المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، مؤسسة الرسالة ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1414هـ ، تحقيق شعيب الأرنؤوط : 12/389 .
(2) / شرح مسلم : 10/96.
(3) / أنصارية ، واسمها غزية بنت داود بن عوف بن عمرو بن عامر، قيل : هي التي وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل غيرها . انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 10/96.
(4) / أخرجه مسلم في كتاب الطلاق ، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ، برقم : 1480.
(5) / شرح مسلم : 10/96 .(1/163)
وبهذا جمع الإمام ابن العربي بينهما .([(1)])
وقال ابن عبد البر رحمه الله :" وكما لا يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة فكذلك لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل ". ([(2)])
وقال ابن العربي رحمه الله :" فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ، ولا المرأة إلى الرجل ؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها ، وقصدها منه كقصده منها ".([(3)])
ولا يُشكل على هذا -كذلك- حديث عائشة : " أن الحبش كانوا بالمسجد يلعبون بحرابهم ، فسترني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنظر ، فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، فاقدُروا قدر الجارية الحديثة السنِّ تسمع اللهو" . فقد سبقت الإجابة عنه ([(4)])
وأما الأمر في هذه الآية بحفظ الفروج فقد سبق في مبحث العفة أن المراد حفظها من الفاحشة ومن إبدائها .([(5)])
ثم بين الله تعالى بقوله : { ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } أن في غض البصر وكف النظر عن المحرمات طهراً وتزكية للنفس من دنس الريبة وشوائب التهم .
وختم الآية بما يحملهم على الغض ويعينهم على امتثال الأمر فقال : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أي لا تخفى عليه خافية من أعمالهم ، ومنها إجالة الأبصار فيما حرم عليهم .
ولذلك كان من الآيات التي تحمل على غض البصر كذلك قوله تعالى : { يَعْلَمُ spuZح !%s{ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) } ([(6)]).
__________
(1) / راجع أحكام القرآن : 3/381 .
(2) / التمهيد: 19/155 .
(3) / أحكام القرآن : 3/380 .
(4) / ص : 155 .
(5) / سبق ص : 100 .
(6) / سورة غافر ، الآية : 19 .(1/164)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية :" الرجل يكون في القوم ، فتمر بهم المراة ، فيريهم أنه يغض بصره عنها ، وإذا غفلوا لحظ إليها ،وإذا نظروا غض بصره عنها ، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها ".([(1)])
وأوضح الله تعالى أنه سائل عباده عن البصر وسائر الجوارح بقوله : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } .([(2)])
قال الطبري رحمه الله :" إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحق ".([(3)])
فينبغي على العاقل أن يبيض صحائف عمله بحفظ جوارحه لئلا يجابه بما يسوؤه .
وذكَّر الله تعالى عباده بأنه المالك لنعمة البصر التي يتمتعون بها ، ولو شاء لحجب نورها ، وأذهب ضياءها ، فقال : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } .([(4)])
قال ابن كثير رحمه الله :" أي : الذي وهبكم هذه القوة السامعة ، والقوة الباصرة ، ولو شاء لذهب بها ، ولسلبكم إياها ".([(5)])
فلا ينبغي أن تُعمل هذه النعمة فيما حرم الله تعالى ، ومن أجل ذلك خُتمت الآية بقوله : { أَفَلَا تَتَّقُونَ } .
وجاءت الأحاديث مستفيضة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - تأمر بغض البصر ، فمن ذلك :
__________
(1) / الزهد ، لهناد بن السري الكوفي ، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي بالكويت ، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق : عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي : 2/652 .
(2) / سورة الإسراء ، الآية 36 .
(3) / جامع البيان : 15/87 .
(4) / سورة يونس ، الآية : 31 .
(5) / تفسير القرآن العظيم : 2/417 .(1/165)
أنه نهى عن الجلوس في الطريق ثم رخص فيه إذا راعى الجالس حقه ، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :((إياكم والجلوس بالطرقات)) . فقالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد ؛ نتحدث فيها. فقال : ((فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)) . قالوا وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال : ((غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) .([(1)])
وذلك خوفاً من افتتان الرجل بالمرأة التي تمر بطريقه .([(2)])
وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر المحرم زنىً ؛ لأنه طريق إليه ، وتبشيعاً له ، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزِّنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذِّبه )) ([(3)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب السلام ، باب قول الله تعالى { ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } ، برقم 5875 . وصحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب من حق الجلوس على الطريق رد السلام ، برقم : 2121 .
(2) / انظر فتح الباري : 11/11 .
(3) / أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان ، باب زنا الجوارح دون الفرج ، برقم 5889 . وفي كتاب القدر ، باب : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } ، برقم : 6238 . ومسلم في كتاب القدر ، باب قدر على ابن آدم حظه من الزِّنا وغيره ، برقم : 2657 .(1/166)
قال النووي رحمه الله :" معنى الحديث : أن ابن آدم قُدر عليه نصيب من الزِّنا ، فمنهم من يكون زناه حقيقياً بإدخال الفرج في الفرج الحرام ، ومنهم من يكون زناه الحرام بالاستماع إلى الزِّنا وما يتعلق بتحصيله ، أو بالمس باليد بأن يمس أجنبية بيده ، أو يقبلها ، أو بالمشي بالرجل إلى الزِّنا ، أو النظر ، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية ونحو ذلك ، أو بالفكر بالقلب . فكل هذه أنواع من الزِّنا المجازي ، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه معناه : أنه قد يحقق الزِّنا بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يولج الفرج في الفرج وإن قارب ذلك والله أعلم"([(1)])
فهذه الأشياء سميت زناً ؛ "لأنها تدعو إلى الزِّنا الحقيقي ". ([(2)])
وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء إذا وقفن للصلاة خلف الرجال ألا يرفعن رؤوسهن في الصلاة حتى يرفع الرجال لئلا يبصرن بهم في تلك الحال ، فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كان الناس يصلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم عاقدوا أزرهم من الصغر على رقابهم،فقيل ([(3)]) للنساء : ((لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوساً)) .([(4)])
وفي رواية أخرى عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((من كان منكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رؤوسهم)) كراهة أن يرين من عورات الرجال .([(5)])
__________
(1) / شرح مسلم : 16/206 .
(2) / فتح الباري : 11/26 .
(3) / القائل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - . انظر الفتح : 1/473 .
(4) / أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة ، باب عقد الثياب وشدها ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته ، برقم : 781.
(5) / أخرجه الإمام أحمد في المسند : 6/348 . وأبو داود في كتاب الصلاة ، باب رفع النساء إذا كن مع الرجال رؤوسهن من السجدة ، برقم : 851 .(1/167)
وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - منع من منكر النظر إلى الأجنبية بيده ، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كان الفضل رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجاءت امرأة من خثعم ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ".([(1)]) وفي رواية : أن العباس قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لم لويت عنق ابن عمك ؟ فقال : (( رأيت شاباً وشابةً فلم آمن عليهما الشيطان )).([(2)])
وقال البخاري رحمه الله في كتاب السلام :" وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء : لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يُشتهى النظر إليها وإن كانت صغيرة . وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يُبعن بمكة إلا أن يريد الشراء ".([(3)])
ودخل رجل مع ابن مسعود - رضي الله عنه - بيت رجل ، فجعل الرجل ينظر إلى امرأة في البيت ، فقال له ابن مسعود: " لئن تفقأ عيناك خير لك مما أراك تصنع".([(4)])
وخرج سفيان الثوري رحمه الله مع جماعة يوم عيد فقال :" أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض البصر ".([(5)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب وجوب الحج وفضله ، برقم : 1442. وفي باب حج المرأة عن الرجل ، برقم : 1756. وفي كتاب الاستئذان ، باب قول الله تعالى : { يآأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً ... } ، برقم : 5874.
(2) / مسند أبي يعلى : 1/264 .
(3) / صحيح البخاري : 5/2299 .
(4) / الزهد لهناد : 2/650 .
(5) / حلية الأولياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ، دار الكتاب العربي ببيروت ، الطبعة الرابعة ، 1405هـ : 7/23 .(1/168)
وقال العلاء بن زياد رحمه الله ([(1)]) : "لا تتبع بصرك رداء المرأة ؛ فإن النظر يجعل في القلب شهوة ".([(2)])
إن التذكير بمثل هذه النصوص من الأهمية بمكان في هذا العصر ؛ لكثرة أسباب الإخفاق في تحقيق هذه العبادة ، ومنها :
انتشار المجلات التي أُغْلِفت بصور خليعة يندى وجه الكريم لها ، وظهور المرأة في الطرقات متبرجة بكامل زينتها، ولهذا الانفتاح الإعلامي الذي لم يُسبق له مثيل وفيه من الفتن ما لا يخفى ، ولكثرة الاختلاط بين الجنسين .
ومن ذرائع ذلك أن تصف الزوجة امرأة لزوجها ؛ لأن نفسه ستتوق إلى رؤيتها، ولذا جاء النهي عن ذلك ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تباشر المرأة المرأة ([(3)]) فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها )).([(4)]) وذلك لئلا يُفتن بالموصوفة .([(5)])
ومن المعلوم أن هناك بعض الأخلاق الحميدة كانت موجودة قبل الإسلام ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مكملاً لها ، ولذا قال :(( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )). ([(6)]) وإن من الأخلاق التي كانوا يعرفونها : غض البصر ، فقد جاء في شعرهم :
وأغضُّ طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها ([(7)])
__________
(1) / القدوة العابد أبو نصر العدوي البصري ، كان ربانياً تقياً قانتاً لله بكاءً من خشية الله ، حدث عن عمران بن حصين وعياض بن حمار وأبي هريرة ومطرف بن الشخير وغيرهم .. انظر : سير أعلام النبلاء : 4/202.
(2) / حلية الأولياء : 2/244 .
(3) / لا تلامس المرأة ببشرتها بشرة أختها ؛ لئلا تتحرك الشهوة . انظر فتح الباري : 9/339 .
(4) / أخرجه البخاري في كتاب النكاح ، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها ، برقم : 4942 .
(5) / انظر فتح الباري : 9/338 .
(6) / أخرجه البيهقي في السنن :10/191 .
(7) / من شعر عنترة بن شداد .(1/169)
وهو من خلق الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم ، فإن موسى عليه السلام لما جاءت إليه بنت شعيب تخبره بدعوة أبيها له كانت تمشي أمامه ، فأمرها أن تكون من خلفه لئلا يقع بصره عليها ([(1)])، ولذا نعتته لأبيها بنعتيْن جليلين ، وخُلقيْن فاضلين ، لا يكونا إلا عند من عزَّ عنصره : القوة ، والأمانة . فعرفت بغض بصره أمانته ، وبحمله الصخرة قوته، وعندها التمست من أبيها أن يستأجره قائلة : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) } ([(2)]).
وينبغي على كل مسلم أن يعلم أن لغض البصر عما حرم الله ثماراً نافعةً ، وفوائد عظيمةً ، فمن ذلك :
1. أن في غضه طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وتخليصاً للقلب من أسر الشهوة والشيطان .
2. وهو من أسباب دخول الجنة ، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اكفلوا لي بست أكفل لكم الجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا وعد فلا يخلف ، وإذا اؤتمن فلا يخن ، وغضوا أبصاركم ، واحفظوا فروجكم ، وكفوا أيديكم )).([(3)])
قال ابن تيمية رحمه الله :" فقد كفل بالجنة لمن أتى بهذه الست خصال ، فالثلاثة الأولى تبرئة من النفاق ، والثلاثة الأخرى تبرئة من الفسوق ، والمخاطبون مسلمون ، فإذا لم يكن منافقاً كان مؤمناً ، وإذا لم يكن فاسقاً كان تقياً فيستحق الجنة ".([(4)])
__________
(1) / انظر تفسير الطبري : 20/63 .
(2) / سورة القصص ، الآية : 26 .
(3) / أخرجه الطبراني في الكبير : 8/262 .
(4) / مجموع الفتاوى : 15/397 .(1/170)
3. الحكمة ونور القلب . قال أبو الحسين الورَّاق ([(1)]) :" من غضَّ بصره عن محرَّم أورثه الله بذلك حكمةً على لسانه يهتدي بها سامعوه ". ([(2)]) فإن من كفَّ المرء بصره عن الحرام ناسب أن يُطلق الله نور حكمته ، والجزاء من جنس العمل .
4. حلاوة الإيمان ، ولذا قال أهل العلم :" النظر إلى محاسن المرأة سهم من سهام إبليس مسموم ، فمن غمض بصره مخافة الله عز وجل أعقبه الله بذلك عبادة يجد حلاوتها في قلبه". ([(3)])
وإنَّ مما يعين على تحقيق غض البصر أموراً منها :
1. مراقبة الله تعالى في السر والعلن .
2. العلم بأن المرء لا يجني شيئاً من إطلاق بصره إلا الحسرات والآلام ، ومن درر الحسن البصري رحمه الله :" من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ، ومن أطلق بصره طال أسفه ، ومن أطلق أمله ساء عمله ، ومن أطلق لسانه قتل نفسه ". ([(4)]) ، فمن أطلق بصره لن يصل إلى ما يريده، ولن يجني إلا الحسرة المحرقة ، فهو كمن يشرب من البحر المالح ولا يزداد بشربه إلا عطشاً !
3. إذا أُعجب بجمال امرأة فليذكر مناتنها ، قال في الفروع : " وليحذر العاقل إطلاق البصر ... وربما وقع من ذلك العشق فيهلك . فمن ابتلى بشيء منه فليتفكر في عيوب النساء ".([(5)]) ثم ذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قريباً من هذا .
__________
(1) / من الفقهاء المعروفين بالحكمة ، كان ذا باع في فقه المعاملات . انظر البداية: 11/167 .
(2) / المصدر السابق .
(3) / الزهد لهناد : 2/651 ، وهي من كلام عبد الملك بن عتاب رحمه الله .
(4) / البداية والنهاية : 10/141 .
(5) / الفروع لأبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1418 هـ ، تحقيق أبي الزهراء حازم القاضي : 5/108 .(1/171)
4. أن يختار لزواجه امرأة جميلة ؛ لأن غيرها لا تعين على غض البصر ، " فالجميلة أسكن لنفسه وأغض لبصره ".([(1)]) ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء : المرأة الصالحة ، إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته )).([(2)])
5. أن يسأل المرء نفسه : ماذا لو وجده أهل الديانة من معارفه يقلب مقلتيه في أعراض المسلمين بلا حياء ، فإن أحس بقبيح فعله وسيء عمله فليعلم أن الله أحق من يُخشى ، وأنه مطلع عليه ، لا يخفى عليه شيء من أمره .
6. ومما يسهل غض البصر أن يذكر الإنسان أنه لا يحب أن يرى الناس عرضه ويتلذذون بذلك ، ومن حفظ الله في أعراض المسلمين حفظه الله في عرضه وصانه .
فالواجب حفظ هذه الجوارح لأنها من عظيم نعم الله علينا ، ومن حباه الله نعمة وسخرها في طاعته فقد شكرها ، ومن شكرها فقد حفظها ، ومن عصىالله بها فقد جحدها ، ومن جحدها فقد تعجَّل زوالها .
تنبيه : إذا كان النظر إلى المرأة حراماً فمن باب أولى ملامستها ، ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَطٍ ([(3)]) من حديد خير له من أن يَمَسَّ امرأة لا تحل له)) ([(4)])
__________
(1) / منار السبيل ، لإبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان ، مكتبة المعارف بالرياض ، الطبعة الثانية، 1405هـ ، تحقيق عصام القلعجي : 2/122 .
(2) / أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة ، باب في حقوق المال ، برقم : 1664 .
(3) / الإبرة وما يُخاط به . انظر اللسان ، مادة (خيط) : 7/298 .
(4) / معجم الطبراني الكبير : 20/211 ، 212 .(1/172)
وتقول عائشة رضي الله عنها :" والله ما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى ، وما مست كفُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفَّ امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن :((قد بايعتكن كلاماً)) . ([(1)])
وقد أشار الحافظ رحمه الله ([(2)]) إلى أنَّ سبب قسم عائشة رضي الله عنها قد يكون لما يُتوهم من قول أم عطية رضي الله عنها في المبايعة لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر إليهنَّ : " فمد يده من خارج البيت ، ومددنا أيدينا من داخل البيت ". ([(3)]) وبيَّن أنَّ مدَّ الأيدي إشارة إلى وقوع البيعة ، ولم تحدث مصافحة .
المبحث الثاني عشر
مدح الله تعالى في القرآن الكريم بنت شعيب وذكر حياءها فقال :
{ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِن أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) } ([(4)])
" وهذا يدل على كرم عنصرها ، وخلقها الحسن ؛ فإن الحياء من الأخلاق الفاضلة وخصوصاً في النساء " ([(5)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الشروط ، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة ، برقم : 2564 . وفي كتاب التفسير ، باب { ذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } ، برقم : 4609. وفي كتاب الطلاق ، باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو المشرك ، برقم : 4983 . وفي كتاب الأحكام ، باب بيعة النساء ، برقم 6788 . وصحيح مسلم ، كتاب الإمارة ، باب كيفية بيعة النساء ، برقم : 1866.
(2) / انظر فتح الباري : 8/636 .
(3) / سنن البيهقي : 3/184 .
(4) / سورة القصص ، الآية : 25 .
(5) / تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن ، ص : 614 .(1/173)
قال الرازي رحمه الله :" على استحياء في موضع الحال ، أي : مستحية... ماشية على بعد، مائلة عن الرجال " ([(1)]) . إن هذه الآية الكريمة دالة على كمال حياء هذه المرأة من وجهين :
الأول :
جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل ، ولا تبجح ، ولا إغواء .
الثاني :
كلماتها التي خاطبت بها موسى عليه السلام ، إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها ، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه وهذا من إيحاء الفطر النظيفة السليمة والنفوس المستقيمة .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :" فأقبلت إليه ليست بِسَلْفَعٍ ([(2)])من النساء ، لا خرَّاجة ولا ولاَّجة ، واضعةً ثوبها على وجهها ". ([(3)])
ومن المعلوم أن قصص الأنبياء والصالحين التي تُتلى في كتاب الله تعالى إنما تهدف إلى التأسي بأصحابها ؛ فإنه يسهل على النفس البشرية فعل ما سُبقت إليه من مكارم الأخلاق ونبيل الصفات ، ولذا لما أراد الله تعالى من عباده القيام بفرض الصيام ذكرهم بكَتْبه على الأمم السابقة في غابر الأزمان فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) } ([(4)]) ومما سُلِّي به نبيُّنا عليه أفضل صلاة وأتم سلام : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) } ([(5)]).
__________
(1) / التفسير الكبير : 24/206 .
(2) / السَلْفع : الجريئة .
(3) / مصنف ابن أبي شيبة: 6/334 .
(4) / سورة البقرة ، الآية : 183 .
(5) / سورة فصلت ، الآية : 43 .(1/174)
وهذا الخلق يحمل على التحلي بنبيل الخلال ، والتخلي عن قبيح الفعال ؛ فنجد أن موسى عليه السلام حمله الحياء على التستر حال الاغتسال ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً استحياءً منه ، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده )) ([(1)]). فظن بنو إسرائيل أنه مريض ، فبرأه الله من ظنهم ، وبين إفكهم ، فهذا قول الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) } ([(2)]).
ولما أكل أبونا آدم عليه السلام من الشجرة التي نُهي عنها وبدا منه ما كان مستوراً استحيا وأخذ يغطيه بورق الشجر ، قال تعالى في ذلك : { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) } ([(3)]).
فالعُري وإبداء العورات لا يكون إلا بعد ذهاب الحياء .
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الأنبياء ، باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام ، برقم : 3223.
(2) / سورة الأحزاب ، الآية : 69 .
(3) / سورة الأعراف ، الآية : 22 .(1/175)
ومنع الحياء ابن عمر رضي الله عنهما من إجابة سؤال سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ؛ لوجود من هو أكبر منه سناً في ذاك المجلس ، قال ابن عمر : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( مثل المؤمن كمثل شجرة خضراء ، لا يسقط ورقها ولا يتحات ))؟ فقال القوم : هي شجرة كذا ، هي شجرة كذا . فأردت أن أقول : هي النخلة وأنا غلام شاب فاستحييت . فقال : ((هي النخلة )) .([(1)])
بل إن الحياء ربما منع بعض الكفرة من التلبس بالصفات الذميمة ، فهذا أبو سفيان لما سأله هرقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره ألا يكذب عليه - وكان أبو سفيان على ملة الكفر - قال أبو سفيان :(( والله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت )). ([(2)])
وفي غزوة حنين تبع أبو موسى الأشعري أحد الكفار فولى هارباً ، فقال له أبو موسى - رضي الله عنه - :" ألا تستحي ؟! ألست عربياً ؟! ألا تثبت ؟!" فوقف وتقالا فقتله أبو موسى .([(3)])
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب ما يُستحا من الحق للتفقه في الدين ، برقم : 5771 . ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار ، باب مثل المؤمن مثل النخلة ، برقم : 2811.
(2) / أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقول الله جل ذكره { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ، برقم : 7 .ومسلم في كتاب الجهاد والسير ، باب كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ، برقم : 1773 .
(3) / أخرجها مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما ، برقم : 2498 .(1/176)
ومن أوضح ما يدل على أثر الحياء في البعد عن القبائح قول نبينا عليه الصلاة والسلام :(( إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).([(1)])
فالحياء مما ندبت إليه جميع الشرائع ، ومن لم يستح صنع ما شاء مما تنكره العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، فقوله :((اصنع)) أمر بمعنى الخبر.([(2)])
وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ماهية الحياء من الله تعالى ، موضحاً أثره في تحقيق العفة والبعد عن الفاحشة بقوله :(( استحيوا من الله حق الحياء . فقالوا : يا رسول الله إنا نستحيي والحمد لله . قال : ليس ذاك ، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء : أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا . فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء )) .([(3)])
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((والبطن وما حوى)) :" ما اتصل اجتماعه به من الفرج والرجلين واليدين والقلب ، فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف . وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي بل في مرضاة الله تعالى )).([(4)])
__________
(1) / أخرجه البخاري في كتاب الأدب ، باب إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، برقم : 5769 .
(2) / انظر الفتح : 6/523 .
(3) / جامع الترمذي ، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، برقم : 2458 .
(4) / تحفة الأحوذي : 7/131.(1/177)
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح شارحاً حديث (( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )) ([(1)]) :" يحتمل أن يكون الذي نقص من إيمان المذكور الحياء ، وهو المعبر عنه في الحديث الآخر بالنُّور ، وقد مضى أن الحياء من الإيمان ، فيكون التقدير : لا يزني حين يزني وهو يستحي من الله ؛ لأنه لو استحى منه وهو يعرف أنه مشاهد حاله لم يرتكب ذلك . وإلى ذلك تصح إشارة ابن عباس تشبيك أصابعه ثم إخراجها منها ثم إعادتها إليها . ويعضده حديث من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى انتهى ". ([(2)])
ولهذه الآثار العظيمة التي تنبعث من خلق الحياء جاء فيه قول سيد الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - : ((الحياء شعبة من شعب الإيمان)) ([(3)])
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللِّحاء
المبحث الثالث عشر
من أكبر ما يضمن سلامة المجتمعات الإسلامية من الرذيلة : قرار المرأة في بيتها، ولذا جاء أمر الله تعالى به في قوله : { bِچs%ur فِي بُيُوتِكُنَّ } ([(4)]) .
فمعنى الآية : " لا تخرجن من بيوتكن " ([(5)])
وأصل هذا الفعل " (اقررن) فحذفت الراء الأولى ، وأُلقيت فتحتها على ما قبلها، كما في قولك (ظلن) " ([(6)]).
__________
(1) / مضى تخريجه ص : 21 .
(2) / نقله في الفتح عن الطيبي : 12/62 .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، باب الحياء من الإيمان ، برقم : 24 .وصحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها وفضيلة الحياء وكونه من الإيمان ، برقم : 35.
(4) / سورة الأحزاب ، الآية : 33.
(5) / الدر المنثور : 6/595 . وراجع التسهيل للكلبي : 3/137 ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير:3/483 .
(6) / تفسير أبي السعود : 7/102 .(1/178)
وإذا كانت هذه الآية تخاطب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ من هنَّ عفافاً وتقىً وطهراً وديناً ، فغيرهن من النساء أولى بأن تتجه إليهن هذه الآية ، وما إخال أحداً يقول بغير هذا([(1)])، ولذا قال القرطبي رحمه الله : " معنى هذه الآية : الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى ، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ما تقدم في غير موضع . فأمر الله تعالى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بملازمة بيوتهن وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن".([(2)])
ويقول ابن العربي رحمه الله :" ولقد دخلت نيفاً على ألف قرية ([(3)])من برية فما رأيت نساءً أصون عيالاً ولا أعف نساءً من نساء نابلس التي رمي فيها الخليل عليه السلام بالنار ، فإني أقمتُ فيها أشهراً فما رأيت امرأةً في طريق نهاراً إلا يوم الجمعة ([(4)])، فإنهنَّ يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن ، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهم إلى الجمعة الأخرى ، وسائر القرى ترى نساءها متبرجات بزينة وعطلة ، متفرقات في كل فتنة وعضلة" .([(5)])
فما حال نسائنا اليوم يا إمامنا ؟!
وهذا يدل بوضوح على أن الآية لا يقتصر حكمها على أمهات المؤمنين، ولذا قال الإمام الشافعي : " وقد أمرت المرأة بالقرار في بيتها ، وقيل لها: صلاتك في بيتك أفضل ؛ لئلا تعرضي أن تفتتني ، ولا يفتتن بك أحد ".([(6)])
__________
(1) / انظر لتقرير هذه المسألة ص : 136 .
(2) / الجامع لأحكام القرآن : 14/179 .
(3) / أي : ما يزيد على ألف قرية .
(4) / تأمل ربطه - رحمه الله - بين القرار في البيت وتحقيق العفة .
(5) / أحكام القرآن : 3/569 .
(6) / الأم ، للإمام محمد بن إدريس الشافعي ، دار المعرفة ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1393هـ : 6/134.(1/179)
وقال الجصاص رحمه الله :" وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيوت ، منهيات عن الخروج ".([(1)])
وقد طفحت السنة- كما عبر القرطبي - بأمر النساء بالقرار في البيوت ، والنهي عن الخروج لغير حاجة ، فمن ذلك :
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حج بأمهات المؤمنين حجة الوادع قال لهنَّ فيها:(( هذه ثم ظهور الحُصُر )) ([(2)
__________
(1) / أحكام القرآن : 5/229-230.
(2) / مسند أحمد : 5/218 ، وسنن أبي داود ، كتاب المناسك ، باب فرض الحج ، برقم : 1722.
تنبيه : اعلم - وفقك الله - أن بعض مرضى القلوب قد جعل من هذا الحديث مدية يهتك بها عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ؛ بخروجها إلى الجمل ، وقد وقفت على كلام للإمام ابن العربي رحمه الله بلغ في الحسن منتهاه فأحببت إيراده كاملاً ، قال رحمه الله :" وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ، ولكن تعلق الناس بها ، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس ، ورجوا في الإصلاح ، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق ، وظنت هي ذلك ، فخرجت مقتدية بأمر الله في قوله : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ، وبقوله : { وَإِنْ بb$tGxےح !$sغ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } . والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، فلم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح ، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان ، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه ، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة فاحتملها إلى البصرة ، وخرجت في ثلاثين امرأة قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة برة تقية مجتهدة مصيبة ثابتة فيما تأولت ، مأجورة فيما تأولت وفعلت ، إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب ،وقد بينا في كتب الأصول تصويب الصحابة في الحروب وحمل أفعالهم على أجمل تأويل ". (أحكام القرآن :3/570)(1/180)
]).
قال في عون المعبود ([(1)]) :" ((هذه)): أي هذه الحجة مفروضة عليكن ((ثم)): بعد ذلك ((ظهور)): جمع ظهر ((الحُصُر)): بضمتين وتسكن الصاد تخفيفاً جمع الحصير الذي يُبسط في البيوت ،أي عليكن لزوم البيت ولا يجب عليكن مرة أخرى بعد ذلك الحج ".
ويخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدها ، مرغباً بذلك النساء في لزوم بيوتهن ، فقد جاءت إليه امرأة ([(2)]) فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك . قال :((قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي)) ، فأمرت فُبنى لها مسجدٌ في أقصى شيء من بيتها وأظلمه ،فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل )). ([(3)])
فأي شيء يفضل الصلاة والحج ؟؟
مع أن الصلاة في المسجد النبوي مضاعفة الأجر ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)).([(4)])
فهذا كله يدل على أهمية لزوم النساء بيوتهن .
__________
(1) / 5/271 ، وانظر لسان العرب : 4/196 .
(2) / هي أم حميد امرأة أبى حميد الساعدي .
(3) / المسند: 6/371 .
(4) / صحيح البخاري ، أبواب التطوع ، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، برقم : 1133. وصحيح مسلم ، كتاب الحج ، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة ، برقم : 1394.(1/181)
ولكن ليس لأحد أن يمنع المرأة من المسجد إذا رغبت في الصلاة فيه ؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال :" كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها : لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار ؟! قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال : يمنعه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )).([(1)]) وفي رواية لأبي داود : (( وبيوتهن خير لهنَّ )).([(2)])
ورحم الله الإمام مسلم ؛ فقد قال قبل أن يروي هذا الحديث :" باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة ". ([(3)])
فإن أراد النساء أن يخرجن إلى المسجد فلابد من مراعاة الأحكام التالية :
- أن تؤمن الفتنة عليها ، وبها - كما أشار إليه الإمام مسلم رحمه الله .
- أن لا تزاحم الرجال في الطريق .
- أن تخرج تفلةً بدون طيب ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً )).([(4)]) . ومعنى : إذا شهدت : أرادت ذلك.([(5)]) ووقع عند أبي داود :(( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ، ولكن ليخرجن وهن تفلات )).([(6)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الجمعة ، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم ، برقم : 858. وصحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة ، برقم : 442 .
(2) / سنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد ، برقم : 566.
(3) / صحيح مسلم : 1/326 .
(4) / .صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة ، برقم : 443.
(5) / شرح النووي على مسلم : 4/163.
(6) / سنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد ، برقم : 565 .(1/182)
- أن تتحرى الصلاة في آخر الصفوف ؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) ([(1)]) .
- أن تخرج متحجبة .
- أن لا ترفع المرأة رأسها في الصلاة قبل الرجال .([(2)])
- أن تدخل من باب النساء وتخرج منه إن كان لهن باب يخصهنَّ، فقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بقوله : (( لو تركنا هذا الباب للنساء )) قال نافع ([(3)]): "فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات ".([(4)])
- إذا قُضيت الصلاة أسرعن بالخروج ، قالت أم سلمة رضي الله عنها : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه ، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم ". قال ابن شهاب ([(5)]) : فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال".([(6)])
__________
(1) / صحيح مسلم ، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام ،برقم : 440.
(2) / انظر ص : 215 .
(3) / أصابه عبد الله بن عمر في بعض المغازي ،من ثقات التابعين ، ومن أثبت الناس في ابن عمر ، توفي سنة سبع عشرة ومائة . انظر الجرح والتعديل : 8/451 .
(4) / سنن أبي داود ، كتاب الصلاة ، باب في اعتزال النساء في المساجد عن الرجال ، برقم : 462.
(5) / هو الزهري .
(6) / صحيح البخاري ، كتاب الأذان ، باب التسليم ، برقم : 802 . وفي باب صلاة النساء خلف الرجال ، برقم : 832 .(1/183)
وقال النووي رحمه الله : " قوله - صلى الله عليه وسلم - :(( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله )). هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد ، لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث ، وهو أن لا تكون متطيبة ، ولا متزينة ، ولا ذات خلاخل يُسمع صوتها ، ولا ثياب فاخرة ، ولا مختلطة بالرجال ، ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها ، وأن لا يكون في الطرق ما يخاف به مفسدة ونحوها . وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد ووجدت الشروط المذكورة ، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حَرُم المنع إذا وجدت الشروط ".([(1)])
فإن أبت الخروج بهذه القيود فله منعها ؛ قال الترمذي رحمه الله :" وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : أكره اليوم الخروج للنساء في العيدين ؛ فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطمارها ([(2)]) الخُلْقَان ([(3)])، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها عن الخروج ... ويروى عن سفيان الثوري أنه كره اليوم الخروج للنساء إلى العيد".([(4)])
قال ابن عبد البر رحمه الله :"ولقد كره أكثر العلماء خروجهن إلى الصلوات فكيف إلى المقابر ؟! وما أظن سقوط فرض الجمعة عنهن إلا دليلاً على إمساكهن عن الخروج فيما عداها ، والله أعلم ". ([(5)])
والقول بالكراهة مذهب الإمام مالك رحمه الله، وقد أورد ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد قول جماعة من الفقهاء كرهوا خروج النساء للمساجد ؛ فراجعه لأهميته.([(6)])
__________
(1) / شرح النووي على مسلم : 4/161-162.
(2) / الطِّمْر : الثوب البالي .
(3) / الباليان ، فهذا تأكيد لما سبق .
(4) / جامع الترمذي : 2/420 .
(5) / التمهيد : 3/233 .
(6) / 23/401-403 . وراجع : نيل الأوطار : 3/354 .(1/184)
قال الإمام مالك :" وأرى أن تصلي المرأة صلاة الخسوف في بيتها ، ولا أرى بأساً أن تخرج المتجالات ([(1)]) من النساء في صلاة خسوف الشمس".([(2)])
فهذا يدل على أنه يرى حرجاً من خروج غير هنَّ .
وهذه أم المؤمنين تقول - وآنية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تُكسر - :" لو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل ".([(3)])
فما قول أمِّنا إن رأت اليوم من حالنا ؟! فاللهم لا تعذبنا بذنبنا .
ولعل هذا وغيره جعل بعض العلماء يقول - معلقاً على حديث إخراج النساء في الأعياد -:" . يحتمل أن يكون ذلك والمسلمون يومئذ قليل ؛ فأريد التكثير بحضورهن إرهاباً للعدو ، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك".([(4)])
وعلى كل حال فإن قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا يُقدم عليه قول غيره ، وأيما قول خالف قوله - صلى الله عليه وسلم - فمردود ولا عبرة به ، ولكن إذا كان فقهاؤنا قد تكلموا بهذا في شأن خروج النساء إلى الصلاة فما قولهم إذا عايشوا واقع يومنا ؟!
__________
(1) / العجائز .
(2) / المدونة الكبرى ، لإمام الدنيا مالك بن أنس رحمه الله ، دار صادر ببيروت : 1/164
(3) / صحيح البخاري ، كتاب صفة الصلاة ، باب انتظار الناس قيام الإمام العالم ، برقم : 381 . وصحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها لا تخرج مطيبة ، برقم : 445.
(4) / نقله في التمهيد : 23/404 ، عن الإمام الطحاوي .(1/185)
ومن الطرائف أن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - تزوج امرأة اشترطت عليه أن لا يمنعها من صلاة العشاء في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أرادت أن تخرج إلى العشاء شق ذلك على الزبير، فلما رأت ذلك قالت : ما شئت أتريد أن تمنعني ؟ فلما عيل صبرُه خرجت ليلة إلى العشاء فسبقها الزبير فقعد لها على الطريق من حيث لا تراه، فلما مرت جلس خلفها فضرب بيده على عجزها ، فنفرت من ذلك ومضت ، فلما كانت الليلة المقبلة سمعت الأذان فلم تتحرك ، فقال لها الزبير : مالك ؟ هذا الأذان قد جاء . فقالت : والله لقد فسد الناس في هذا الزمان .([(1)])
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يطمع في المرأة إذا غادرت بيتها ، وذلك بقوله :(( المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان )).([(2)])
" أي هي موصوفة بهذه الصفة ، ومن هذه صفته فحقه أن يستر ، والمعنى : أنه يستقبح ظهورها للرَّجل ، والعورة : سوأة الإنسان وكل ما يستحي منه ، كنى بها عن وجوب الاستتار في حقها ومعنى ذلك أن المرأة ينبغي أن تُُُستر ببيتها كما تُستر العورة".([(3)])
" والأصل في الاستشراف : رفع البصر للنظر إلى الشيء ، وبسط الكف فوق الحاجب ، والمعنى : أن المرأة يستقبح بروزها وظهورها فإذا خرجت أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ، ويغوي غيرها بها ؛ ليوقعهما أو أحدهما في الفتنة. أو يريد بالشيطان شيطان الإنس من أهل الفسق سماه به على التشبيه ".([(4)])
"والمعنى المتبادر من الحديث : أن المرأة ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس ، فإذا خرجت طمع "([(5)]).
__________
(1) / التمهيد : 23/406-407.
(2) / جامع الترمذي ، كتاب الرضاع ، الباب الثامن عشر ، برقم : 1173 .
(3) / فيض القدير : 6/266 .
(4) / تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي : 4/283.
(5) / نقله المناوي في فيض القدير عن الطيبي : 6/266 .(1/186)
وخير عمل تقوم به المرأة عمل بيتها ، وإصلاح شؤونه ، والقيام على بعلها وولدها ، والمرأة بقدر خروجها تُضيِّع من واجبها في بيتها ، وإن قرارها في بيتها يعينها على أدائه في أحسن صورة وأكملها ، فلقد جاءت وافدة النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له : إني رسول النساء إليك ، وما منهم امرأة علمت أو لم تعلم إلا وهي تَهْوي مخرجي إليك ، الله رب الرجال والنساء وإلههن ، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء ، كتب الجهاد على الرِّجال فإن أصابوا أثروا ، وإن استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم ، فما يعدل ذلك من أعمالهم ؟ قال : ((طاعة أزواجهن ، والمعرفة بحقوقهم . وقليل منكن تفعله)).([(1)])
وفي رواية ([(2)]) أن النساء أتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلن : يا رسول الله : ذهب الرجال بالفضل ؛ يجاهدون ولا نجاهد ؟ فقال :((مهنة إحداكن في بيتها تدرك جهاد المجاهدين إن شاء الله )).
فأي إكرام للمرأة خير لها من هذا ؟
وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابنته فاطمة رضي الله عنها بخدمة البيت ، وقضى على علي - رضي الله عنه - بما كان خارجَه من الخدمة ([(3)]).
__________
(1) / المعجم الكبير للطبراني : 11/410 .
(2) / لأبي يعلى في المسند : 6/140 .
(3) / مصنف ابن أبي شيبة :6 /10 ، والزهد لهناد : 2/386 .(1/187)
وكان الصحابيات رضي الله عنهن يلزمن بيوتهن ، ويقمن بواجباتهن فيها خير قيام ، فهذه بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول عنها زوجها علي - رضي الله عنه - : إن فاطمة أحبُّ أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وإنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها ، واستقت بالقربة حتى أثر في نحرها ، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها ، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خدم فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً ، فأتته فوجدت عنده حداثاً فرجعت ، فأتاها من الغد فقال : ((ما كان حاجتك؟)) فسكتت ، فقلت : أنا أحدثك يا رسول الله : جرت بالرحى حتى أثرت في يدها ، وحملت بالقربة حتى أثرت في نحرها ، فلما أن جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حرَّ ما هي فيه . قال:((اتقي الله يا فاطمة ، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك ، فإذا أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين واحمدي ثلاثاً وثلاثين وكبري أربعاً وثلاثين ، فتلك مائة ، فهي خير لك من خادم)) قالت : رضيت عن الله عز وجل وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - .([(1)])
__________
(1) / سنن أبي داود ، كتاب الخراج ، باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى، برقم : 2988 . وأصله في الصحيحين عند البخاري ، كتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن - رضي الله عنه - ، برقم : 3502. وفي كتاب النفقات ، باب عمل المرأة في بيت زوجها ، برقم : 5046 .وفي كتاب الدعوات ، باب التسبيح أول النهار وعند المنام ، برقم : 5959. ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب التسبيح أول النهار وعند النوم ، برقم : 2727 .(1/188)
وهذه أسماء بنت خير الأمة بعد رسولها ؛ أبي بكر - رضي الله عنه - تحدثنا عن أعمالها ومهامها قائلة : " تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا ناضح ([(1)]) غير فرسه ، فكنت أعلف فرسه ، وأستقي الماء ، وأخرز غَرْبه ([(2)])، وأعجن ، ولم أكن أحسن أخبز ، وكان يخبز جارات لي من الأنصار ، وكن نسوة صدق ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ ، فجئت يوماً والنوى على رأسي فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال : ((أخ أخ)) ؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد استحييت فمضى ، فجئت الزبير فقلت : لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسي النوى ، ومعه نفر من أصحابه ، فأناخ لأركب ، فاستحييت منه وعرفت غيرتك . فقال : والله لحملك النوى كان أشدَّ علي من ركوبك معه . قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس ، فكأنما أعتقني " . ([(3)])
فمن من الناس زعم أن المرأة عُطُلٌ عن العمل حتى تتعالى الصيحات من الغرب بأن الإسلام يدعو لشل النصف الآخر للرجل ، وبأن حقوقها مهضومة ؟!
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) } ([(4)]).
__________
(1) / الناضح : البعير .
(2) / دلوه .
(3) / صحيح البخاري ، كتاب النكاح ، باب الغيرة ، برقم :4926 . وصحيح مسلم ، كتاب السلام، باب جواز إرداف المرأة الأجنبية إذا أعيت في الطريق ، برقم : 2182 .
(4) / سورة الكهف ، الآية :5.(1/189)
ولقد امتثل أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن هذا الأمر الرباني ، وكثرت الوصايا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به ، فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يأتي إلى أم سلمة قبل أن يخرج إلى البصرة فتقول له :" سر في حفظ الله وفي كنفه ، فو الله إنك لعلي الحقِِّ والحقُّ معك ، ولولا أني أكره أن أعصي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه أمرنا أن نقر في بيوتنا -لسرت معك ، ولكن والله لأرسلن معك من هو أفضل عندي وأعز عليَّ من نفسي : ابني عمر".([(1)])
وهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول :" ما صنعت امرأة خيراً من أن تقعد في قعر بيتها؛ تعبد ربها . تقول إحداهن أذهب إلى أهلي فيستشرفها الشيطان ، حتى تقول: ما رآني أحد إلا أعجبتُه ".([(2)])
وحلف مرةً فبالغ في اليمين ثم قال :" ما من مصلى لامرأة خير من بيتها".([(3)])
ومما أُثر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :" استعينوا على النساء بالعُري ؛ إن إحداهن إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتا أعجبها الخروج ".([(4)])
وسئل الحسن البصري عن امرأة نذرت : إن خرج زوجها من السجن أن تعمد إلى مساجد البصرة تصلي ركعتين في كل واحد ؟ فقال :" تصلي في مسجد قومها ؛ فإنها لا تطيق ذلك ، لو أدركها عمر بن الخطاب لأوجع رأسها ".([(5)])
(أوجع رأسها ) !! لأنها أكثرت من التنقل للصلاة ونأى بها الممشى لِلَّهِ فما تقول يا إمام فيمن تخرج من بيتها بلا سبب وتمكث خارجه أكثر من مكثها به؟!! فاللهم إنا نشكو إليك غربة ديننا .
ومن لطائف القرآن الكريم فيما يتعلق بهذه القضية :
أن الله تعالى أضاف البيوت إلى النساء في ثلاثة مواضع :
__________
(1) / مستدرك الحاكم : 3/129 .
(2) / معجم الطبراني الكبير : 9/294 .
(3) / معجم الطبراني الكبير : 9/294 .
(4) / مصنف ابن أبي شيبة : 4/53 .
(5) / المصنف لابن أبي شيبة : 2/157 .(1/190)
في قوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } ([(1)])، وفي قوله: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } ([(2)])، وفي قوله : { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } ([(3)]) " وإنما حصلت هذه الإضافة - والله أعلم- مراعاة لاستمرار لزوم النساء للبيوت ، فهي إضافة إسكان ولزوم للمسكن والتصاق به ، لا إضافة تمليك ".([(4)])
ويؤيده أن المرأة لا تملك البيت ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } ([(5)]).
قال القرطبي رحمه الله :" قوله تعالى : { بُيُوتَ النَّبِيِّ } دليل على أن البيت للرجل ويُحكم له به ؛ فإن الله تعالى أضافه إليه ، فإن قيل : فقد قال تعالى : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إنَّ اللهَ كانَ لَطِيْفَاً خَبِيْرَاً } قلنا : إضافة البيوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إضافة ملك ، وإضافة البيوت إلى الأزواج إضافة مَحَلٍّ".([(6)])
__________
(1) / سورة الأحزاب ، الآية : 33 .
(2) / سورة الأحزاب ، الآية : 34 .
(3) / سورة الطلاق ، الآية : 1.
(4) / حراسة الفضيلة ، ص :90 .
(5) / سورة الأحزاب ، الآية : 53.
(6) / الجامع للقرطبي : 14/225 .(1/191)
ومن لطائفه كذلك قوله تعالى : { فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) } . ([(1)]) فقد أسند الله تعالى الخروج إليهما ، والشقاء إليه دونها ؛ وذلك " لأن المراد بالشقاء : التعب في طلب المعاش ، وذلك وظيفة الرجال ، ويؤيده قوله : { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى } ([(2)]) فإنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية وأقطاب الكَفاف ، التي هي الشبع والري والكسوة والسكن ، مستغنياً عن اكتسابها".([(3)])
ومن ذلك قوله تعالى في شأن موسى للمرأتين عند ماء مدين : { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) } ([(4)])فكأنهما اعتذرتا عن خروجهما للسقي بكِبَر والدهما . ([(5)])
إن القرار في البيت للمرأة موافق لفطرتها ، فقد أجرى الله تعالى عليها أموراً تمنع أو تقلل من خروجها ، فمن ذلك :
1. المحيض : وهو دم البويضة غير المخصبة ، ويكون ذلك من البلوغ إلى اليأس كل شهر . وهذه أمور تعتري بعض النساء أثناء الحيض : آلام أسفل الظهر ربما احتاجت المرأة معها إلى أخذ بعض المسكنات ، ضيق وكآبة في بدايته مما يجعلها سريعة الاهتياج قليلة الاحتمال ، ضعف البدن نتيجة فقده للدم ، انخفاض درجة الحرارة . ومن رحمة الله بها أن خفف من أعمالها فترة حيضها ؛ لضعف بدنها فيه ، فالحائض لا تصلي ، ولا تصوم ، ولا تُجامع ، ولا تطوف بالبيت .
__________
(1) / سورة طه ، الآية : 117 .
(2) / سورة طه ، الآيتان : 118 ، 119 .
(3) / أنوار التنزيل : 4/74 .
(4) / سورة القصص ، الآية : 23.
(5) / انظر أنوار التنزيل : 4/289 ، والجامع للقرطبي : 13/269.(1/192)
2. الحمل : وأكثر النساء يصاحبهن الغثيان والقيء في أشهره الأولى ، ويزيد من ضعفها فيه مشاركة جنينها لها فيما يتغذى به جسمها ولو كان الجسم في أشد الحاجة إليه ، ويتناقص دمها بصورة ملاحظة ؛ ولهذا تؤمر بمعاهدة نفسها دورياً لمعرفة نسبته عندها ، ومما يضعف بدنها أن القلب يقوم بدورتين دمويتين لها ولجنينها ، وكلما نما جنينها وكبر في بطنها عانت من صعوبة في التنفس ؛ لأنه يضغط على حجابها الحاجز ، فيضيِّق على القلب والرئتين لا سيما إذا استلقت على ظهرها ، ولضغط الرحم على الأوردة العائدة من الساقين تمتلئ بالدماء فتسبب لها في أواخر الحمل ما يُعرف بدوالي الساقين ، وأحياناً تُعاني المرأة فيه من ارتفاع ضغط دمها ، ذلك وغيره مما فاتني يدل عليه قول الله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } .([(1)])
3. النفاس : فتبقى المرأة فترة جريان دمه عليها كالمريضة بعد معاناتها من آلام مخاضها . ([(2)])
4. الرَّضاع : وبين الله مدته في قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } .([(3)]) ولا تسأل عن كثرة النشرات الصادرة من الجهات الطبية المختلفة التي تنادي بأهمية مباشرة الأم لإرضاع أبنائها، وأن لا تلتفت إلى بدائل شركات أغذية الأطفال .
وبهذا يتبين أن قرار المرأة في بيتها موافق لفطرة الله لها .
وأحببت في هذا المبحث أن أُشير إلى أقوال بعض الغربيين الذين أصبحوا ينادون بقرار المرأة في بيتها ، وخطورة خروجها منه .
ولك أيها القارئ الكريم أن تسأل : ما فائدة ذكر هذه الأقوال ولسنا مأمورين باتباع أصحابها ؟
والجواب : أني ذكرتها لثلاثة أمور :
__________
(1) / سورة لقمان ، الآية : 14.
(2) / المَخاض : الطلق عند الولادة .
(3) / سورة البقرة ، الآية : 233.(1/193)
الأول : لأنها تبين أنهم تجرعوا مرارة انحلالهم ومخالفتهم لدين نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فبيان حالهم مما يجسد قول ربنا تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) } .([(1)])
ثانياً : كثير من الناس -أصلحهم الله - بهرتهم حضارة الغرب ، فسلبتهم عقولهم، وأسرت أفئدتهم ، وجعل منهم قدوة لنفسه وأسوة له ، فتعريف هؤلاء بما آل إليه أمرهم فيه عون على هدايتهم من غيِّهم .
ثالثاً : قال ابن مسعود - رضي الله عنه - :" السعيد من وُعظ بغيره ".([(2)])
وغيرُه من اعتُبر به .
فمن أقوالهم في هذا :
" تقول كاتلين ليند - زوجة رائد الفضاء الأميركي د . دون ليزي ليند، القائد الثاني للمركبة الفضائية (أبو للو) - : " إنني كربّة بيت أقضي معظم وقتي في البيت ، وكامرأة فإنني أرى أن المرأة يجب أن تعطي كل وقتها لبيتها وزوجها وأولادها ، أي يجب أن تعطي منزلها الاهتمام الأول ، ويجب ألا تغادر منزلها إذا كان منزلها في حاجة ماسة لها. ولا زلت أذكر حديثاً لأحد رجال الدين رداً على سؤال : إذا كان مصير المرأة بيتها فلماذا إذن تتعلم ؟ لقد قال يومها لصاحبة السؤال : إذا علمت رجلاً فإنك تعلم فرداً ، وإذا علمت امرأة فأنت تعلم جيلاً أو أمةً ([(3)]). ثم تقول : وأنا مسرورة جداً من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي ، حتى في الأيام العصيبة ـ وأقصد الأيام التي كنا في حاجة فيها إلى المال- لم يطلب مني زوجي أن أعمل ، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر احتياجاتنا الضرورية لكننا لا نستطيع أن نربي أولادنا إذا أفلت الزمام من بين أيدينا .
__________
(1) / سورة طه، الآية : 124 .
(2) / صحيح مسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ، برقم : 2645.
(3) / هذا كلامٌ يُنقش بماء العين على جدار القلب !(1/194)
وأخيراً : أشعر بالأسف على هؤلاء الأمهات اللاتي يتركن أطفالهن ويخرجن للعمل لجمع المال تاركين حياة الأسرة السعيدة مع أبنائهن ". ([(1)])
ما أنصحها لبنات جنسها ! وما يمنعني أن أقول ذلك والله العظيم في القرآن الكريم أقرَّ بكلام امرأة كانت حينها من المشركين : { ôMs9$s% ¨bخ) x8qè=كJّ9$# #sŒخ) (#qè=yzyٹ ؛ptƒِچs% $ydrك‰|،ّùr& (# qè=yèy_ur no¢oدمr& !$ygخ=÷dr& \'©!دŒr& } قال الله مصدقاً قولها : { y7د9؛xx.ur ڑcqè=yèّےtƒ اجحب. } ([(2)])
" ويقول الأمير البريطاني شارلز في مجلة (البيت السعيد) : " إن هؤلاء النساء اللائي يطالبن بالمساواة مع الرجال أعتقد أنهن يردن أن يصبحن رجالاً ، ناسيات أن تنشئة النسل أعظم مهمة يقمن بها ". وهذا الكلام يقوله ولي عهد لإمبراطورية كبرى تشكل قوة المرأة العاملة فيه نصف مجموع سكانها ومواطنيها " ([(3)]).
وتقول زوجة رئيس جمهورية جنوب أفريقيا مبينة أن البيت هو المكان الأنسب للمرأة : " إن هذه وظيفتنا في المجتمع ، وهي وظيفة يجب أن نفخر بها ؛ لأنها تصنع رجالاً ناجحين وأجيالاً سوية ".([(4)])
وقد كشف استطلاع للرأي أجرته إحدى المؤسسات الاجتماعية الأكاديمية شمل عينات من الرجال والنساء في عشرين ولاية أمريكية عن أن ثمانين بالمائة من الأمريكيات يفضلن البقاء في البيت ؛ لرعاية الأبناء والأسرة ([(5)])
__________
(1) / رسالة إلى حواء ، محمد رشيد العويد ، دار السبيل للطباعة والنشر ، الطبعة الثانية : 2/99.
(2) / سورة النمل ، الآية : 34 .
(3) / مكانك تحمدي ، أحمد محمد جمال ، دار الصحافة ، 1985م ، ص : 118 .
(4) / جريدة المسلمون ، العدد : 328.
(5) / راجع : جريدة المسلمون ، العدد : 663 ، جمادى الآخرة 1418هـ .(1/195)
وفي مقال بمجلة (الأسرة) ([(1)]) ورد ما يلي :" تحت عنوان (عصر المرأة الخارقة ولّى) هذا ما وصفت به الصحف البريطانية ما فعله نساء مشهورات قررن الانحياز إلى الفطرة، وتفضيل الأمومة والأنوثة على الوظائف المجزية التي تدر الملايين، فـ(براندا بارنيس) قررت أن تتخلى عن وظيفتها كرئيسة تنفيذية لشركة (بيبسي كولا) وعن راتب سنوي قدره مليونا دولار، وتوصلت إلى قناعة مفادها : أن راحة زوجها وأولادها الثلاثة أهم من المنصب ومن ملايين الدولارات، وأن المنزل هو مكانها الطبيعي الأكثر انسجاماً مع فطرتها وتكوينها، وقبل رئيسة البيبسي كانت (بيني هاغنيس) رئيسة (كوكاكولا ) قد اتخذت القرار نفسه، لأنها تريد أن تنجب طفلاً وتصبحَ أماً، ومثل ذلك فعلت (لنداكيسلي) رئيسة تحرير مجلة (هي) المعروفة بدفاعها عن خروج المرأة للعمل ، وكذلك نساء كثيرات يشغلن مناصب مرموقة ويتقاضين أجوراً عالية. (براندا بارنيس) أطلقتها صيحة مدوية عندما صرحت : لم أترك العمل بسبب حاجة أبنائي ، بل بسبب حاجتي لهم. فهل يقرأ بعض نسائنا ممن يحاولن محاكاة الغربيات في سلوكهن هذا الكلام، ويخففن من إصرارهن على العمل وترك بيوتهن، رغم أنهن لسن رئيسات لا لبيبسي كولا ولا لكوكا كولا ؟ ".
__________
(1) / العدد 76 ، رجب 1420هـ ،ص : 26-27.(1/196)
وفي جريدة عكاظ ([(1)]) " أكدت نتائج الدراسات الاجتماعية لمعهد الأبحاث والإحصاء القومي الأوربي تفضيل المرأة الإيطالية للقيام بدور ربة البيت على أي نجاح قد يصادفها في العمل، وأوضحت نتائج الأبحاث التي أجريت في خمس دول أوربية وهي (إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وأيضاً أسبانيا) بأن سعادة الإيطالية بخدمتها للأسرة أكثر من سعادتها بالتقدم في أي عمل مهني ، أو الوصول إلى مكانة وزيرة أو سفيرة أو رئيسة بنك ، كما يفضلن أن يكن أمهات صالحات ولسن عاملات ناجحات . و أشارت الدراسات إلى أن المرأة العاملة في إيطاليا تتخذ من العمل وسيلة للرزق فقط، وترفضه في أول مناسبة اجتماع عائلي أو عندما يتمكن زوجها من الإنفاق على الأسرة ... وأجمع أكثر من 95% من السيدات في إيطاليا على إيمانهن العميق بقيمة الأسرة كأساس حقيقي للسعادة والاستقرار، والتأكيد على أن إصرار المرأة على العمل هو هروب من أزمات أسرية ".
هذا نذر يسير من اعترافاتهم المتمخضة عن تجارب مريرة خاضوا غِمَارها ، فهل نعقل ما عقلوه ؟
__________
(1) / العدد : 10823 .(1/197)
وليس معنى ما مر بنا أنه يحرم على المرأة أن تخرج من البيت على وجه الإطلاق ، فقد قالت عائشة رضي الله عنها : خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها -وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها - فرآها عمر بن الخطاب ، فقال : يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين . قالت : فانكفأت راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا ؟ قالت : فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال:(( إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن )).([(1)])
وهو يدل على أن القرار في البيت هو الأصل.
ولا يمكن لأحد القول بتحريم عمل المرأة مطلقاً ، فإنها إن احتاجت للعمل أو احتاج المجتمع لعملها جاز ذلك ؛ فقد كان نساء الصحابة يخرجن في الحروب لمداواة الجرحى ([(2)])، ولكنها تتقيد بالضوابط الشرعية التي مرت معنا .
أما خروجها لسفر فلا يكون إلا مع محرمها ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) . فقال رجل : يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج ؟ فقال :((اخرج معها )). ([(3)])
وقد جاء في بعض الروايات التقييد بثلاث ليالي ، وفي أخرى بيوم وليلة ، وفي ثالثة بمسيرة يومين ... إلى غير ذلك .
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } ، برقم :4517. وصحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان ، برقم:2170.
(2) / وهذا يدل على الحاجة إليها وليس على حاجتها .
(3) / صحيح البخاري ،كتاب الحج ، باب حج النساء ، برقم : 1763. وصحيح مسلم ، كتاب الحج ، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره ، برقم : 1341.(1/198)
قال النووي رحمه الله جامعاً بين هذه الروايات :" قال العلماء اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين واختلاف المواطن ، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أو البريد . قال البيهقي : كأنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم فقال : لا ، وسئل عن سفرها يومين بغير محرم فقال : لا ، وسئل عن سفرها يوماً فقال : لا ، وكذلك البريد ، فأدى كل منهم ما سمعه . وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحد فسمعه في مواطن فروى تارة هذا وتارة هذا ، وكله صحيح ، وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع عليه اسم السفر ، ولم يُرد - صلى الله عليه وسلم - تحديد أقل ما يسمى سفراً .اهـ ([(1)]) فالحاصل أن كل ما يسمى سفراً تُنهى عنه المرأة بغير زوج أو محرم ؛ سواء كان ثلاثة أيام أو يومين أو يوماً أو بريداً ([(2)]) ؛ ذلك لرواية ابن عباس المطلقة وهي آخر روايات مسلم السابقة ". ([(3)])
وارتضى هذا الجمع الإمامان المالكيان: القرطبي في تفسيره ([(4)]) ،وابن عبد البر في تمهيده ([(5)]) ، ونصا على تحريم كل سفر طويل أو قصير يُخشى على المرأة فيه من الفتنة .
قال الحافظ رحمه الله :" وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق ؛ لاختلاف التقييدات ". ([(6)])
فإذا طبق النساء هذا الأصل تحقَّقت المقاصد التالية ([(7)]):
1. القيام بوظائفها في بيتها على أتم وجه ، ومر بنا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها )) .([(8)])
__________
(1) / انظره في سننه : 3/139 .
(2) / البريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل اثنا عشر ألف قدم .
(3) / شرح مسلم : 9/103 .
(4) / انظر الجامع لأحكام القرآن : 5/355 .
(5) / راجع التمهيد : 21/55 .
(6) / فتح الباري : 4/75 .
(7) / انظر حراسة الفضيلة للدكتور بكر عبد الله أبي زيد ، ص : 90-94 .
(8) / انظر ص : 191 .(1/199)
2. صيانتها من ذوي القلوب المريضة والأعين الفاجرة .
3. تحسن أداء الرجال لأعمالهم .
4. امتناع الاختلاط بين الجنسين .
وكلما كثر خروج النساء كثر الاختلاط بين الجنسين ، وهو من أسباب الزِّنا كذلك؛ ولذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - منه في أطهر البقاع ، وهي المساجد بيوت الله فقال : ((خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها ، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها )). ([(1)]) قال الإمام النووي رحمه الله :" وإنما فضَّل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم، ثم رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك ، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك ، والله أعلم ". ([(2)])
وكان من هديه أن يمكث مع أصحابه بعد الصلاة حتى يخرج النساء كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم قام النساء حين يقضي تسليمه ، ويمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم ". قال ابن شهاب : فأرى والله أعلم أن مكثه لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن أحد من الرجال".([(3)]) مع أنَّه كان للنساء باب يخصهن ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى ذلك بقوله: (( لو تركنا هذا الباب للنساء )) ([(4)]) ،ولا أشك في أنَّ أصحابه رضي الله عنهم حققوا هذه الرغبة النبوية ، ومع ذلك كان هذا المكث لئلا يحدث اختلاط بين من اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه في الطرقات .
__________
(1) / صحيح مسلم ، كتاب الصلاة ، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول منها والازدحام على الصف الأول والمسابقة إليها وتقديم أولي الفضل وتقريبهم من الإمام ، برقم : 440 .
(2) / شرح مسلم : 4/159-160.
(3) / مضى تخريجه ص : 230 .
(4) / مضى تخريجه ص : 230 .(1/200)
ومن أصرح الأحاديث الناهية عن الاختلاط ما جاء عن أبي أُسَيْدٍ الأنصاري ([(1)]) - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق -:(( استأخرن ؛ فإنه ليس لكنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريق ([(2)])، عليكنَّ بحافات الطريق)) ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. ([(3)])
وليكن في بالك أن الاختلاط بين الجنسين أمر معيب حتى في الأمم السابقة، أوما قرأت قوله سبحانه وتعالى عن بنتي شعيب : { $tGs9$s% ںw 'إ+َ،nS 4س®Lym u'د‰َءمƒ âن!$tمجhچ9$# $tRqç/r&ur س‡ّx© ×ژچخ7ں2 اثجب } ([(4)]) ، فلم يختلطا بالرجال .
فهذه المأمورات القرآنية يفضي التزامها إلى سيادة العفة ، وفشو الفضيلة.
وإن من التدابير القرآنية للوقاية من الزِّنا : النهي عن كل ما يؤدي إليه. وهذا ما سأتكلم عنه في الفصل الثالث - مستلهماً التوفيق من الله مستعيناً به - وهذا أوانُ الشُّرُوعِ فيه .
- - -
__________
(1) / أبو أسيد الأنصاري صحابي جليل ، من البدريين ، اسمه مالك بن ربيعة ، من بني ساعدة بن كعب ، توفي سنة ستين. انظر التاريخ الكبير : 7/299 .
(2) / أي : تتوسطن الطريق . انظر الفائق للزمخشري : 1/299 .
(3) / سنن أبي داود ، كتاب الأدب ، باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق ، برقم : 179 .
(4) / سورة القصص ، الآية : 23.(1/201)
(د. مهران ماهر عثمان نوري )
الفصل الثالث
النهي القرآني عن ذرائع الزِّنا
ويشمل خمسة مباحث :
الأول : الخمر والمسكرات .
الثاني : التبرج .
الثالث : الخضوع بالقول .
الرابع : انعدام الغيرة على الأعراض .
الخامس : ضرب النساء بأرجلهن لإبداء صوت زينتهن .
المبحث الأول
كرَّم الله الإنسان بخلال كثيرة ، وآلاء جسيمة ،تميز بها عن غيره من الجماد والحيوان والنبات وغير ذلك ..
وإن من أعظم نعم الله على الإنسان أن كرمه بالعقل ، وزينه بالفهم ، إذ به يميز بين الخير والشر، والضار والنافع، وبه يسعد في حياته، وبه يدبر أموره وشؤونه ويتمتع ويهنأ ، وبه ترقى الأمم وتتقدم الحياة وينتظم المجتمع الإنساني العام ، وهو مناط التكليف، ومن فَقد عقله فلا نفع فيه ولا يُنتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه .
فمن العجيب أن تجد هناك من يفرط في هذا العقل، ويتبع شهوته . يبدو هذا جلياً فيمن يتعاطى كأس خمر أو جرعة مخدر ، تُفقده عقله ؛ فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة؛ فتُشَل الحياة، ويُهدَّم صرح الأمة، ويَنسى بذلك ربه، ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه، ويقتل إرادته، ويمزق حياءه .
إن العقل لو كان مما يُباع لتغالى الناس فيه ، فكيف يشتري الإنسان بماله ما يُفسده !!
وقد ذمَّ الله تعالى من عطَّل عقله ولم يُعمل فهمه فقال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) } . ([(1)])
ولذا كان من الضرورات التي دعا الإسلام إلى الحفاظ عليها : العقل ؛ فحرم الخمر ؛ لما يترتب على شربها من فساد عريض لا يكاد أوسع الناس إدراكاً وأفصحهم لساناً أن يحصره .
__________
(1) / سورة الأعراف ، الآية : 179 .(1/1)
وسأتحدث في هذا المبحث -بحول الله تعالى - عن تعريفها ، وأدلة تحريمها ، وبيان صلتها بالزِّنا .
فالخمر عرَّفها في اللِّسان بقوله: " ما أَسْكَرَ من عصير العنب ". ([(1)]) والصحيح أنها قد تكون من عصير العنب ، وقد تكون من غيره ؛" لأَنَّها حُرِّمت، وما بالمدينةِ خَمْرُ عِنَبٍ، وما كانَ شَرَابُهُم إلا البُسْرَ ([(2)]) والتَّمْرَ " ([(3)])
ومما يدل على هذا العموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( كلُّ مسكرٍ خمر)). ([(4)]) وهذا نص في أن الخمر لا تختص بما كان من العنب ، ولا عبرة بقولٍ يخالف قولَ سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه .
ومما يدل على ذلك أيضاً ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن أبيه : أنه قال على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - :" أيها الناس : إنه نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحِنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل ". ([(5)])
ووجه الدلالة منه : العموم في قوله : (ما خامر) .
__________
(1) / اللسان ، مادة (خمر) : 4/255 .
(2) / التمر في بعض مراحله ، أوله طَلْع ، ثم خَلال ، ثم بَلَح ، ثم بُسر ، ثم رُطَب ، ثم تَمْر . راجع مختار الصحاح ، ص : 21 .
(3) / القاموس المحيط ، للعلامة الفيروز آبادي ، مؤسسة الرسالة ببيروت، باب الراء ، فصل الخاء ، مادة (خمر) : 1/495 .
(4) / صحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام ، برقم : 2003.
(5) / صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } ، برقم : 4343. وفي كتاب الأشربة ، باب الخمر من العنب ، برقم : 5259 . وصحيح مسلم ، كتاب التفسير ، باب في نزول تحريم الخمر ، برقم : 3032 .(1/2)
واختلف العلماء رحمهم الله في بيان سبب تسميتها . قال القرطبي رحمه الله -ملخصاً لهذه الأقوال ، وموفقاً بينها -: " فالخمر تُخَمِّر العقل ، أي : تغطيه وتستره ... فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطية سُمِّيت بذلك . وقيل : إنما سميت الخمر خمراً لأنها تُركت حتى أدركت ، كما يُقال : قد اختمر العجين، أي : بلغ إدراكه . وخَمَر الرأي ، أي : تُرك حتى يتبين فيه الوجه . وقيل : إنما سُميت الخَمر خمراً لأنها تخالط العقل ، من المخامرة وهى المخالطة ، ومنه قولهم: دخلت في خَمَار الناس أي اختلطت بهم . فالمعاني الثلاثة متقاربة ؛ فالخمر تُركت وخمرت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، ثم خمرته ، والأصل السِّتر".([(1)])
أما تحريمها فمِما لا خلاف فيه بين أهل القبلة ، قال النووي رحمه الله : " أجمع المسلمون على تحريم شرب الخمر ". ([(2)])
ولكن كان تحريمها بالتدرج ؛ وذلك لشدة تعلقهم بها وشغفهم بشربها ، يعلم ذلك من وقف على قصائدهم فإنها طافحة بذكرها . فلو حُرِّمت بدون ذلك لشق عليهم، وحكمة الله تعالى تأبى ذلك . تقول أم المؤمنين عائشة :" إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام . ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزِّنا أبداً . لقد نزل بمكة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لجارية ألعب : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) } ([(3)]) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده". ([(4)])
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن : 3/51 .
(2) / شرح مسلم : 11/217 .
(3) / سورة القمر ، الآية : 46 .
(4) / صحيح البخاري ، كتاب فضائل القرآن ، باب تأليف القرآن ، برقم : 4707 .(1/3)
فنزل أول ما نزل فيها قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } . ([(1)]) فتركها قوم لقوله فيها : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } ، وشربها آخرون لقوله فيها : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } . حتى نزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } . ([(2)]) فضُيِّق وقتُ شربها ، حتى نزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُم مُنْتَهُونَ } .([(3)])
فكان تحريمها بها ([(4)]) .قال الكلبي رحمه الله :" فاجتنبوه نص في التحريم " ([(5)]).
وقال الرازي رحمه الله مبيناً أوجه الدلالة من الآية على تحريم الخمر : " واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه :
أحدها : تصدير الجملة بإنما ؛ وذلك لأن هذه الكلمة للحصر ، فكأنه تعالى قال لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 219 .
(2) / سورة النساء ، الآية : 43 .
(3) / سورة المائدة ، الآيتان : 90 ، 91 .
(4) / انظر جامع الطبري : 2/361 .
(5) / التسهيل : 1/186 .(1/4)
وثانيها : أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((شارب الخمر كعابد الوثن )) . ([(1)])
وثالثها : أنه تعالى أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب .
ورابعها : أنه قال { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فجعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبةً .
وخامسها : أنه شرح أنواع المفاسد المتولِّدة منها في الدنيا والدين ، وهي : وقوع التعادي والتباغض بين الخلق ، وحصول الإعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.
وسادسها : قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وهو من أبلغ ما يُنتهى به ، كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ .
وسابعها : أنه تعالى قال بعد ذلك : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) } . ([(2)]) فظاهره أن المراد { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر ، وقوله { وَاحْذَرُوا } أي: احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف .
__________
(1) / المسند ، للحارث بن أبي أسامة ، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة ، 1413هـ ، الطبعة الأولى ، تحقيق د. حسين أحمد صالح الباكري : 2/591 .
(2) / سورة المائدة ، الآية : 92.(1/5)
وثامنها : قوله { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وهذا تهديد عظيم ، ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم الله ، وبيانه : يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم ، والرسول [ - صلى الله عليه وسلم - ] قد خرج عن عهدة التبليغ والإعذار والإنذار ، فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى الله تعالى ، ولا شك أنه تهديد شديد . فصار كل واحد من هذه الوجوه الصَّمَانِيَّةِ ([(1)]) دليلاً قاهراً ، وبرهاناً باهراً في تحريم الخمر ". ([(2)])
فإن قيل : لِمَ جعلت هذه الآية ضمن فصل النهي عن ذرائع الزِّنا وكان الأولى أن تُجعل في التدابير الإيجابية بالفصل السابق ؟
فالجواب : أن الآية وإن ورد فيها الأمر باجتناب الخمر إلا أن هذا الفعل مُشرَّب بمعنى النهي ، قال الشوكاني رحمه الله -في الفعل (كُفَّ) -: "فقولنا كف عن الزِّنا باعتبار الإضافة إلى الكفِّ أمر ، وإلى الزِّنا نهي ". ([(3)])
ولذا قال الكلبي رحمه الله في قوله تعالى : { nqç7د^tGô_$$sù } :" نصٌ في التحريم ". ([(4)])
وقال الرازي رحمه الله في قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } :" واعلم أن هذا وإن كان استفهاماً في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة ". ([(5)])
من أجل ذا كان إثباته هنا .
وجاءت السنة النبوية مؤكدة تحريم الخمر ، مرتبةً أنواعاً من الوعيد الشديد لمن قاربها، مانعة من الاستفادة منها بأي وجه ، فمن ذلك :
__________
(1) / القوية . انظر اللسان ، مادة (صما) : 14/469 .
(2) / التفسير الكبير : 12/68-69 .
(3) / إرشاد الفحول إلى علم الأصول ، للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1412هـ ، تحقيق محمد سعيد البدري : 1/192.
(4) / التسهيل : 1/186 .
(5) / التفسير الكبير : 12/68 .(1/6)
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :((كلُّ مسكِرٍ حرام)) . ([(1)])
ولمسلم ([(2)]) :((كلُّ مُسْكر خمر، وكلُّ خمر حرام )).
وقال :(( ما أسكر كثيره فقليلُه حرام)). ([(3)])
ولعن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الخمر عشرةً ..
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( لعن ([(4)]) الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها)) ([(5)]).
فهذا يدل على أنه لا يُنتفع بها بوجه من الوجوه .
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع ، برقم : 4087 . وفي كتاب الأدب ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :((يسروا ولا تعسروا ))، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس ، برقم : 5773 . وفي كتاب الأحكام ، باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا ، برقم : 6751. وصحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام ، برقم : 2001 .
(2) / سبق ص : 249 .
(3) / مسند الإمام أحمد : 2/91 . وسنن أبي داود ، كتاب الأشربة ، باب النهي عن المسكر ، برقم : 3679 . وسنن ابن ماجه ، كتاب الأشربة ، باب ما أسكر كثيره فقليلُه حرام ، برقم : 3392 .
(4) / قد يكون هذا دعاء أو خبراً ، وعلى كلا التقديرين فإنهم ملعونون .
(5) / سنن أبي داود ، كتاب الأشربة ، باب العنب يُعصر للخمر ، برقم : 3674 . وسنن الترمذي ، كتاب البيوع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب النهي أن يُتخذ الخمر خلاً ، برقم : 1295. وسنن ابن ماجه ، كتاب الأشربة ، باب لُعنت الخمر على عشرة أوجه ، برقم : 3380.(1/7)
قال القرطبي رحمه الله في قول الله تعالى : { nqç7د^tGô_$$sù } :" يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه ؛ لا بشرب ، ولا بيع ، ولا تخليل ، ولا مداواة ، ولا غير ذلك . وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب".([(1)])
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - راويةَ خمر ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((هل علمت أن الله قد حرَّمها))؟ قال : لا . فسارَّ إنساناً ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((بم ساررته)) ؟ فقال : أمرته ببيعها . فقال :((إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) . ([(2)])
وشارب الخمر لا يقبل الله صلاته أربعين يوماً ، وهو متوعد بالنار ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من شرب الخمر وسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً وإن مات دخل النار ، فإن تاب تاب الله عليه ، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن مات دخل النار ، فإن تاب تاب الله عليه ، وإن عاد فشرب فسكر لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً ، فإن مات دخل النار ، فإن تاب تاب الله عليه ، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من رَدَغَة الخَبال يوم القيامة )). قالوا: يا رسول الله وما ردغة الخبال ؟ قال : ((عُصارة أهل النار)). ([(3)]) أي : صديدهم والعياذ بالله .
ولمسلم ([(4)]):((إنَّ على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يَسقِيَه من طِينَة الخَبال)) . قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال :((عَرق أهل النار أو عُصارة أهل النار)) .
__________
(1) / الجامع : 6/289 .
(2) / صحيح مسلم ، كتاب المساقاة ، باب تحريم بيع الخمر ، برقم : 1579 .
(3) / سنن ابن ماجه ، كتاب الأشربة ، باب من شرب الخمر لم تُقبل له صلاة ، برقم : 3377 .
(4) / في كتاب الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام ، برقم : 2002 .(1/8)
ولا يجتمع إيمان وشرب خمر ؛ لما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن))([(1)]).
كما نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتماع خمر الدنيا وخمر الآخرة ([(2)]) في جوف امرئ ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(( من شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة)). ([(3)])
ومن أحاديث الوعيد في هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :((لا يدخل الجنةَ مدمنُ خمر)).([(4)])
ومثله :((مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن)). ([(5)])
وشرب الخمر من الذنوب الحَدِّيَّة ، قال النووي رحمه الله :" وأجمعوا على وجوب الحدِّ على شارب الخمر سواء شرب كثيراً أم قليلاً ". ([(6)])
__________
(1) / سبق تخريجه ص : 21.
(2) / قال الله تعالى عنها : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ } [سورة محمد، الآية : 15] . قال القرطبي رحمه الله :" أي لم تدنسها الأرجل ولم تُرنِّقها [تُكدِّرها] الأيدي كخمر الدنيا ، فهي لذيذة الطعم طيبة الشرب ، لا يتكرهها الشاربون . يقال : شراب لذ ولذيذ بمعنى ، واستلذه عده لذيذاً". [الجامع : 16/237] .
(3) / صحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام ، برقم : 2003 .
(4) / سنن ابن ماجه ، كتاب الأشربة ، باب مدمن الخمر ، برقم : 3376 .
(5) / المسند : 1/272 . وسنن ابن ماجه ، كتاب الأشربة ، باب مدمن الخمر ، برقم : 3375 .
(6) / شرح صحيح مسلم : 11/217 .(1/9)
" وأجمعوا على أنه يُحد سواء سكر أم لا ". ([(1)])
وقد جيء لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - برجل تقيأ خمراً فقال : إنه لم يتقيأ حتى شربها . فقال : يا علي قم فاجلده . فأمر علي - رضي الله عنه - عبد الله بن جعفر بذلك فجلده، وعلي يعد حتى بلغ أربعين ، فقال : أمسك . ثم قال : جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ، وجلد أبو بكر أربعين ، وعمر ثمانين ، وكلٌّ سنة ، وهذا أحبُّ إلي . ([(2)])
قوله :" وهذا أحبُّ إلي" يريد الأربعين ؛ لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما زيادة عمر فليست حداً وإنما هي من باب التعزير ، ولو كانت حداً لما تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا قول الشافعي رحمه الله ، وللإمام ذلك إذا رآه . ([(3)])
قال في المغني ([(4)]) :" وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ، ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما ، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزيز يجوز فعلها إذا رآه الإمام".
وإن مما يلحق بالخمر ويجري حكمها فيه : المخدرات ، ولا يجادل في هذا إلا مكابر ؛ لأن تخمير العقل فيها من أبين الواضحات ، وشرع الله يأبى التفريق بين المتماثلات ، ومن وقف على صنائع المدمنين علم يقيناً أنها أخطر من الخمور وأعظم إفساداً للدنيا والدين .
وأما صلة الخمر بالزِّنا وقبائح الأمور فيبينها ما يلي :
__________
(1) / المصدر السابق : 11/218 .
(2) / صحيح مسلم ، كتاب الحدود ، باب حد الخمر ، برقم : 1707 .
(3) / راجع شرح النووي على صحيح مسلم : 11/217 .
(4) / 9/137 .(1/10)
قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - :" كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فأحبته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة، فجاء البيت ودخل معها ، فكانت كلما دخل باباً أغلقته دونه ، حتى وصل إلى امرأة وَضِيئة([(1)]) جالسة، عندها غلام وإناء خمر، فقالت له: إنَّا لم ندعك لشهادة ، وإنما دعوتك لتقع علي أو تقتل الغلام أو تشرب الخمر،فإن أبيتَ صحت بك وفضحتك . فلما رأى أنه لا بد له من أحد هذه الأمور تهاون بالخمر فشرِبه فسكر ثم زنى بالمرأة وقتل الغلام. فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه ". ([(2)])
وهذا قيس بن عاصم المِنْقَرِي ([(3)]) - رضي الله عنه - كان شراباً للخمر مولعاً بها في الجاهلية ،ثم حرَّمها على نفسه وامتنع عن شُربها قبل أن يُسلم ، والسبب في ذلك أنه سكر مرة فغمز عُكْنَة ([(4)]) ابنته وهو سكران، وشتم والديه، وأعطى الخمَّار مالاً كثيراً !! فلما أفاق وأخبروه بما فعل حرَّمها على نفسه وقال:
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها ... خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشرَبها صحيحاً ... ولا أشفي بها أبداً سقيماً
__________
(1) / الوَضاءة : الحسن والبهجة .
(2) / سنن النسائي ، كتاب الأشربة ، باب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر ، برقم : 5666 . ومصنف عبد الرزاق: 9/236 . وصحيح ابن حبان : 12/169 . وسنن البيهقي : 8/287.
(3) / قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس ، أبو علي ويقال أبو قبيصة ويقال أبو طلحة المنقري ، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وفد بني تميم سنة تسع ،وكان عاقلاً حليماً سمحاً جواداً. قيل للأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم ؟ قال : من قيس بن عاصم . انظر تهذيب الكمال للإمام أبي الحجاج المِزي ، مؤسسة الرسالة ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1400هـ، تحقيق د. بشار عواد معروف: 24/58.
(4) / العُكْنة : الطي الذي يكون في البطن من السِّمَن .(1/11)
ولا أُعطي بها ثمناً حياتي ... ولا أدعو لها أبداً نديماً
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم إلى الأمر العظيما " ([(1)])
بل رأيناها تفضي إلى ما هو أشد من ذلك ، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: أصبت شارِفاً ([(2)]) مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغنم يوم بدر ، قال : وأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شارفاً أخرى ، فأنختهما يوماً عند باب رجل من الأنصار وأنا أريد أن أحمل عليهما إذخراً لأبيعه ، ومعي صائغ من بني قينقاع ([(3)]) فأستعين به على وليمة فاطمة . وحمزة بن عبد المطلب يشرب في ذلك البيت معه قَيْنَة ([(4)])، فقالت : ألا يا حمز للشُّرُف النِّوَاء ([(5)
__________
(1) / تهذيب الكمال : 24/63.
(2) / الناقة المسنَّة .
(3) / يريد أن يبيعه الإذخر .
(4) / جارية مُغَنِّيَة .
(5) / في أبيات لها تُحرِّضه على نحر الناقتين ، وتمامها :
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها ... وضرجهن حمزة بالدماء
وعجل من أطايبها لشرب ... قديداً من طبيخ أو شواء
والشُّرُف جمع شارف ، والنِّوَاء : السِّمان . انظر شرح النووي على مسلم : 13/144 .(1/12)
])فثار إليهما حمزة بالسيف ، فجبَّ ([(1)]) أسنمتهما ، وبَقَر ([(2)]) خواصرهما ، ثم أخذ من أكبادهما . فنظرت إلى منظر أفظعني ، فأتيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده زيد بن حارثة ([(3)]) فأخبرته الخبر ، فخرج ومعه زيد فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه . فرفع حمزة بصره وقال : هل أنتم إلا عبيد لآبائي ؟ فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَهْقِر ([(4)]) حتى خرج عنهم،وذلك قبل تحريم الخمر". ([(5)])
والشاهد قول حمزة - رضي الله عنه - لأخيه وابن أخيه ونبيِّه - صلى الله عليه وسلم - : (هل أنتم إلا عبيد لآبائي) ؟
__________
(1) / قَطَع .
(2) / شَقَّ .
(3) / زيد بن حارثة أبو أسامة حِبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومولاه ، شهد المشاهد كلها ، وكان من الرماة المذكورين ، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعنه ابنه أسامة والبراء بن عازب وابن عباس رضي الله عنهم، آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ، تبناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما أعتقه فكان يُدعى زيد بن محمد - صلى الله عليه وسلم - فأبطل الله ذلك بقوله { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله } ، لم يبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جيش قط إلا أمَّره عليهم ، استشهد يوم مؤتة سنة ثمان من الهجرة وهو ابن خمس وخمسين سنة ونعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه في اليوم الذي قتل فيه وعيناه تذرفان ، لم يُذكر صحابي في القرآن باسمه إلا زيد. انظر تهذيب التهذيب : 3/346 .
(4) / القَهْقَرى : الرجوع إلى الخلف .
(5) / صحيح البخاري ، كتاب المساقاة ، باب بيع الحطب والكلأ ، برقم :2246 . وفي كتاب أبواب الخمس ، باب فرض الخمس ، برقم : 2925. وصحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر ، برقم : 1979.(1/13)
قال النووي رحمه الله :" وهذا الفعل الذي جرى من حمزة - رضي الله عنه - من شربه الخمر ، وقطع أسنمة الناقتين ، وبقر خواصرهما ، وأكل لحمها ، وغير ذلك ، لا إثم عليه في شيء منه . أما أصل الشرب والسُّكر فكان مباحاً لأنه قبل تحريم الخمر ، وأما ما قد يقوله بعض من لا تحصيل له أن السكر لم يزل محرماً فباطل لا أصل له ، ولا يعرف أصلاً ، وأما باقي الأمور فجرت منه في حال عدم التكليف فلا إثم عليه فيها ؛ كمن شرب دواء لحاجة فزال به عقله ، أو شرب شيئاً يظنه خلاً فكان خمراً أو أُكره على شرب الخمر فشربها وسكر فهو في حال مكلف ولا إثم عليه فيما يقع منه في تلك الحال بلا خلاف . وأما غرامة ما أتلفه فيجب في ماله ، فلعلَّ علياً - رضي الله عنه - أبرأه من ذلك بعد معرفته بقيمة ما أتلفه ، أو أنه أداه إليه بعد ذلك ، أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّاه عنه لحرمته عنده وكمال حقه ومحبته إياه وقرابته ". ([(1)])
وقال القرطبي رحمه الله :" ثم إن الشارب يصير ضُحْكَة للعقلاء ، فيلعب ببوله وعذرته وربما يمسح وجهه بها ، حتى رئي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين لِلَّهِ ورئي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له : أكرمك الله !! " ([(2)])
وقال الرازي رحمه الله :" الخمر يزيل العقل ، وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل ، وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب ، وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء". ([(3)])
__________
(1) / شرح مسلم : 13/144-145.
(2) / الجامع : 3/57 .
(3) / التفسير الكبير : 12/67 .(1/14)
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله عن آثارها :" تغتال العقل، ويكثر اللغو على شربها، وتستنزف المال، وتصدع الرأس، وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشيطان؛ توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزِّنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين، وتسلبه أحسن الأسماء والسمات، وتكسوه أقبح الأسماء والصفات ، وتسهل قتل النفس وإفشاء السر ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له ، وتهتك الأستار ، وتظهر الأسرار ، وتدل على العورات ، وتهوِّن ارتكاب القبائح والمآثم، وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن، كم هيجت من حرب، وأفقرت من غني، وذلت من عزيز، ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة، وجلبت من نقمة، وفسخت مودة، ونسجت عداوة، وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه وراحت بلبّه، وكم أورثت من حسرة أو جرّت من عبرة ، وكم أغلقت في وجه شاربها باباً من الخير وفتحت له باباً من الشر، وكم أوقعت في بلية وعجّلت من منية ، وكم أورثت من خزية، وجرت على شاربها من محنة، فهي جماع الإثم ومفتاح الشر وسلاّبة النعم وجالبة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد لكفى بها من مصيبة، وآفات الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا". ([(1)])
وإنَّ ما قيل في سبب نزول آية تحريمها ليدل على قبح آثارها ؛ فمن ذلك :
__________
(1) / حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ، لابن القيم ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، ص : 122 .(1/15)
قيل : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا الناس ، فلما أكلوا شربوا الخمر حتى ثملوا ([(1)]) فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقالت الأنصار : نحن أفضل منكم . قال : فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جمل ([(2)]) فضرب به أنف سعد ففَزَره([(3)])، فكان سعد أفزر الأنف .
وقيل : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا فعبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل بي هذا أخي فلان لِلَّهِ - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن - والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما فعل بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن ، فأنزل الله الآية.([(4)])
والحاصل أن آفاتها لا تُحصى ، وفضائحها لا تُستقصى .
فهل ينتهي المدمنون عنها كما انتهى من قبلهم أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - لما حُرِّمت عليهم، فإنهم بمجرد أن سمعوا بذلك سكبوها في طرق المدينة وسككها ([(5)])، وهذا مما يدل على سرعة استجابتهم لأمر ربهم ولقول نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
المبحث الثاني
التبرج من أقوى الذرائع المؤدية إلى الزِّنا ؛ ولذا جاء النهي الصريح عنه في القرآن الكريم ، وامتلأت السنة النبوية بالوعيد لأهله .
قال تعالى ناهياً عنه : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } . ([(6)])
__________
(1) / أخذ الشراب فيهم وسكروا .
(2) / عظم فَكِّه .
(3) / شَقَّه .
(4) / انظر جامع الطبري : 7/34 .
(5) / صحيح البخاري ، باب صب الخمر في الطريق ، برقم : 2332. وفي كتاب التفسير ، باب { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية ، برقم : 4344. وفي كتاب الأشربة ، باب نزل تحريم الخمر وهي من البسر والتمر ، برقم : 5260. وصحيح مسلم ، كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر والبسر والزبيب وغيرها مما يسكر ، برقم : 1980 .
(6) / سورة الأحزاب ، الآية : 33 .(1/16)
" والتبرج : إظهار المرأة زينتها للناس الأجانب " ([(1)])
"والتبرج : الظهور " ([(2)])، ويُطلق على المرأة التي خرجت من بيتها تمشي بتَبَخْتُر([(3)]) .
ولهذا ذكر المفسرون هذين المعنيين للآية .
قال الكلبي رحمه الله :" التبرج إظهار الزينة ". ([(4)])
وقال ابن عطية : " والتبرج إظهار الزينة والتصنع بها ". ([(5)])
وقال أبو السعود :" { وَلَا تَبَرَّجْنَ } أي : لا تتبخترن في مشيكن ". ([(6)])
وقد أشار إلى القولين الإمام أبو جعفر الطبري بقوله :" وقوله : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } قيل : إن التبرج في هذا الموضع التَّبَخْتُر والتكسر... وقيل : إن التبرج هو إظهار الزينة وإبراز المرأة محاسنها للرجال ". ([(7)])
وأما الجاهلية الأولى فاختُلف فيها على أقوال ، يقول الإمام ابن عطية :" والذي يظهر عندي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها ، فأُمرن بالنَّقْلة عن سيرتهن فيها ، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة ؛ لأنهم كانوا لا غَيْرة عندهم، فكان أمر النساء دون حجبة . وجعلها أولى بالإضافة إلى حالة الإسلام ، وليس المعنى أن ثَمَّ جاهلية أخرى . وقد مرَّ اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبيل الإسلام ، فقالوا جاهلي في الشعراء ، وقال ابن عباس في البخاري ([(8)]): سمعت أبي في الجاهلية يقول ". ([(9)])
__________
(1) / لسان العرب ، مادة (برج) : 2/212 . وراجع النهاية في غريب الأثر والحديث : 1/113 .
(2) / التسهيل : 3/72 .
(3) / بتكَبُّر .
(4) / التسهيل : 3/137 . وراجع : تفسير ابن أبي حاتم : 8/2642 ، وتفسير القرآن العظيم : 3/483 .
(5) / المحرر الوجيز : 4/383 .
(6) / تفسير أبي السعود : 7/102 . وراجع : تيسير الكريم المنان ، ص : 664 .
(7) / جامع البيان : 22/4 .
(8) / الصحيح : 3/1395 .
(9) / المحرر الوجيز : 4/384 . وراجع لهذا التفسير الكبير : 25/181 .(1/17)
ومن الآيات المحرمة للتبرج قوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) } . ([(1)]) فإذا كان لا يجوز للمرأة القاعد أن تضع ثيابها بقصد التبرج فتبرج غيرها ممن يُلتفت إليها أولى بالتحريم .
وقد سبق الكلام عنها . ([(2)])
ومنها كذلك قوله: { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ئخgح !$t/#uن أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ ئخgح !$oYِ/r& أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ £`خgح !$|،خS أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } . ([(3)])
__________
(1) / سورة النور ، الآية : 60 .
(2) / انظر ص : 148 .
(3) / سورة النور ، الآية : 31 .(1/18)
فإن الله تعالى نهى فيها عن إبداء الزينة ([(1)]) الباطنة والظاهرة ([(2)]). و" النهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها". ([(3)])
وقد اختلف المفسرون رحمهم الله في قوله تعالى { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } على قولين :
الأول : أن المراد : ما أظهرنه من الوجه والكفين ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ([(4)]).
__________
(1) / جملة ما ذُكر من أنواع الزينة المكتسبة : الكُحل ، والخِضَاب ، والقُرْط ، وهو ما يُعلق في شحمة الأذن ، والخاتَم ، والفَتَخ وهي حلقة فضة لا فصَّ فيه فإن فُصِّصت فهي الخاتم ، والسوار ويكون في معصم اليد ويُسمى القَلْب ، فإن كان السوار من عاج أو ذَبَل فهو المَسَكَة ، وقد تطلق كذلك على سوار الذهب، والعاج سن الفيل ، والذبل ظهر السلحفاة البحرية، والخَلْخَال وهي حلية يلبسنها في الرجل كالسوار في المعصم ، والدُّمْلُج وهو ما شُدَّ في عضدها من الحلي . والعَضد ما بين المرفق إلى المنكب، والقلادة وهي التي تُعلق على الصدر .
(2) / راجع جامع البيان : 18/117 .
(3) / التفسير الكبير : 11/102 ، وتفسير أبي السعود : 3/3 .
(4) / سنن البيهقي : 2/225 .(1/19)
الثاني : ما لا يمكن إخفاؤه . فقيل المراد : ظاهر ثيابها ، وهو لابن مسعود - رضي الله عنه - .([(1)]) أو ما ظهر بغير قصدها . قال الكلبي رحمه الله :" ثم استثنى الظاهر منها وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك ، فقيل إلا ما ظهر منها يعني الثياب " . وقال ابن عطية رحمه الله :" ويظهر لي في محكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي ، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه ". ([(2)]) وقال ابن كثير رحمه الله :" أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : كالرداء والثياب . يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه". ([(3)])
وهذا القولُ هو أصوب القوليْن ، وأصحُّ المذهبيْن ؛ لما يلي :
1. أدلة القرآن الكريم تعضده ، فغالب إطلاق لفظ الزينة في القرآن الكريم على الخارج عن أصل خِلقة المُزَيَّن بها ، ومن ذلك قوله تعالى : { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . ([(4)]) فقد انعقد الإجماع على أن المراد بالزينة فيها : الثوب الذي يستر العورة . ([(5)])
__________
(1) / مستدرك الحاكم : 2/431 ، ومعجم الطبراني الكبير : 9/228 .
(2) / المحرر الوجيز : 4/178 .
(3) / تفسير القرآن العظيم : 3/284 .
(4) / سورة الأعراف ، الآية : 31 .
(5) / راجع التفسير الكبير : 14/51 .(1/20)
وكقوله: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } ([(1)]) فإنها الثياب . ([(2)]) وكقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) } . ([(3)]) فما عليها غيرُها . ومن ذلك : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) } . ([(4)]) وقوله عن لقمان : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } . ([(5)]) أي: " الثياب والدواب ". ([(6)]) وقوله : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } . ([(7)]) وقوله : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } . ([(8)]) والمراد بها زينة الرِّجل .
الثاني : لأن هذا القول هو الأحوط والأسلم .
الثالث : لأن هناك من نازع في أن الزينة لا تُطلق على أصل الخِلقة ، واتفقوا على إطلاقها على ما كان خارجاً عنه ([(9)]) فحمل اللفظ على ما اتُفق عليه أولى .
الرابع : لأن بعض العلماء نص على أن تفسير الزينة بجزء من الجسد خلاف الظاهر ، وحمل النصوص على ظاهرها أولى . ([(10)])
__________
(1) / سورة الأعراف ، الآية : 32 .
(2) / راجع جامع البيان : 8/162 .
(3) / سورة الكهف ، الآية : 7 .
(4) / سورة الصافات ، الآية : 6.
(5) / سورة القصص ، الآية : 79 .
(6) / الجامع للقرطبي : 13/316 .
(7) / سورة الكهف ، الآية : 46 .
(8) / سورة النور ، الآية : 31 .
(9) / انظر التفسير الكبير : 23/179 .
(10) / راجع أضواء البيان للشنقيطي : 5/515 .(1/21)
الخامس : لأن الله تعالى قال: { إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ولم يقل : ما أظهرن ، فهو مشعر بأن الإظهار ليس من كسبهن ولا يد لهنَّ فيه ؛ فإن الفعل (ظهر) " لم يجئ متعدياً، بل جاء لازماً ، ومقتضى هذا أن المرأة مأمورة بإخفاء الزينة مطلقاً غير مخيرة في إبداء شيء منها ، وأنه لا يجوز لها أن تتعمد إبداء شيء منها إلا ما ظهر اضطراراً بدون قصد فلا إثم عليها ، مثل انكشاف شيء من الزينة من أجل الرياح ، أو لحاجة علاج لها ونحوه من أحوال الاضطرار ، فيكون معنى هذا الاستثناء رفع الحرج ، كما في قول الله تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } ([(1)])، وقوله : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ([(2)]) ". ([(3)])
ثم استثنى الله تعالى من يجوز الكشف عندهم ، وهم :
- الزوج .
__________
(1) / سورة البقرة ، الآية : 286 .
(2) / سورة الأنعام ، الآية : 119 .
(3) / حراسة الفضيلة للدكتور بكر عبد الله ، ص : 50 .(1/22)
- والمحارم ؛" لأنهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن ، ولقلة توقع الفتنة بجهاتهن ، ولما في الطباع من النفرة عن مجالسة الغرائب ، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار وللنزول والركوب ". ([(1)]) وللتحريم ثلاثة أسباب : النسب ، والرضاع ، والمصاهرة . أما من يحرم عليها بالنسب فأبوها وأبوه وإن علا ، وابنها وابن ابنها وابن بنتها وإن نزلا ، وإخوانها لأب أو لأم أو لهما وهم الأشقاء ، وأبناؤهم ، وابن أختها لأب أو لأم أو لهما وهي الأخت الشقيقة ، وعمها ([(2)]) لأب أو لأم أو لهما وهو العم الشقيق ، وخالها لأب أو أم أو لهما وهو الخال الشقيق . ويحرم بالرَّضاع ما يحرم بالنسب .وأما من يحرم عليها بالمصاهرة فأب زوجها ، وابنه ، وزوج أمها ، وزوج بنتها.
- سائر النساء ، وقيل : المؤمنات فقط ، وقيل : النساء المؤمنات والإماء المشركات . ([(3)])
- عبيدها ، ويدل لذلك حديث أنس : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى فاطمة بعبد كان قد وهبه لها ، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تَلقى قال :((إنه ليس عليك بأس ؛ إنما هو أبوك وغلامك)). ([(4)])
__________
(1) / التفسير الكبير : 23/180 .
(2) / لم يُذكر العمُّ والخال في هذه الآية لينبه بذكر بعضهم على الجملة ، كما أنه لم يُذكر الرضاع فيها ، وكما لم يُذكر الزوج وأبناؤه في آية الأحزاب المذكورة في الصفحة التالية .
(3) / راجع جامع البيان : 18/121 ، والتسهيل للكلبي : 3/64
(4) / سنن أبي داود ، كتاب اللباس ، باب العبد ينظر إلى شعر مولاته ، برقم : 4106 .(1/23)
- التابعون غير أولي الإربة ، وهم من اجتمع فيهم شرطان : أن يتبع وهمته بطنه ، وأن تنقطع أطماعهم في النساء ألبتة لكبر سنهم ونحوه . ([(1)])
- الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ، قال الإمام الرازي رحمه الله :" الظهور على الشيء على وجهين ؛ الأول : العلم به . كقوله تعالى : { إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) } ([(2)]) أي : إن يشعروا بكم ، والثاني : الغلبة له والصولة عليه . كقوله { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } . ([(3)]) فعلى الوجه الأول يكون المعنى : أو الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ولم يدروا ما هي من الصغر ... وعلى الثاني الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء ". ([(4)]) ولا ريب أن الأحوط هو القول الأول ، ولذا استظهره الطبري والكلبي رحمهما الله تعالى ([(5)]).
قال الرازي رحمه الله بعد ذكر أولي الإربة ، والمملوك ، والطفل :" والسِّتر في هذا كلِّه أولى ". ([(6)])
ومن آيات تحريم التبرج قوله تعالى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا £`خgح !$uZِ/r& وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا £`خgح !$|،خS وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ ´‰خgx© (55) } ([(7)]).
__________
(1) / انظر : جامع البيان للطبري : 18/121 ، والتفسير الكبير : 23/181 ، والتسهيل : 3/64 ، وتفسير أبي السعود: 6/170 ، وتيسير الكريم المنان ص : 566.
(2) / سورة الكهف ، الآية : 20.
(3) / سورة الصف ، الآية : 14 .
(4) / التفسير الكبير : 23/182 .
(5) / راجع جامع البيان : 18/124 ، والتسهيل : 3/64 .
(6) / التفسير الكبير : 23/182 .
(7) / سورة الأحزاب ، الآية : 55 .(1/24)
ففيها دليل على الجناح والحرج في غير هؤلاء .
قال الإمام ابن العربي رحمه الله "من التبرج : أن تلبس المرأة ثوباً رقيقاً يصفها ، وهو المراد بقوله في الحديث الصحيح : ((رب نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها )). ([(1)]) وإنما جعلهن كاسيات لأن الثياب عليهن ، وإنما وصفهن بعاريات لأن الثوب إذا رقَّ يَكشفهن ، وذلك حرام". ([(2)])
فهذا الإمام أصَّل مسألة مهمة ، وهي : أن كل لباس انخرم فيه شرط من شروط الحجاب فإنه يكون ثوب تبرج . ([(3)])
وإبداء العورات والتكشف من الفواحش التي نهانا الله عنها ، فإن المشركين لما كانوا يطوفون بالبيت عراة سمَّى الله فعلهم فاحشة ، قال تعالى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُوْلُوْنَ t'n?tم اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) } . ([(4)])
قال ابن كثير رحمه الله :" كانت العرب ماعدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش -وهم الحُمْس -يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد . ومن لم يجد ثوباً جديداً ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً ، وربما كانت امرأة فتطوف عريانةً ، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول :
__________
(1) / انظر تخريجه ص : 274 .
(2) / أحكام القرآن : 3/419 .
(3) / ليس ثَمَّ إلا حجاب أو تبرج ، فإذا انخرم شرط من شروط الحجاب فلا معنى له ؛ لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ، وإذا غاب وصفٌ منهما - الحجاب والتبرج- تعيَّن الآخر .
(4) / سورة الأعراف ، الآية : 28.(1/25)
اليوم يبدو بعضه أو كلُّه وما بدا منه فلا أحلُّه ([(1)])
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل ، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال : : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } . فقال تعالى رداً عليهم : { قُلْ } أي : يا محمد [ - صلى الله عليه وسلم - ] لمن ادعى ذلك : { إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } . أي : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك . { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } أي : أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته " !؟ ([(2)])
ومن أدلة القرآن على تحريمه قوله عزَّ وجلَّ : : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } ([(3)]) ؛ لأنها تحرِّم إظهار الزينة بطريق الأولى ، وسيأتي الكلام عنها في مبحث مستقلٍ إن شاء الله تعالى . ([(4)])
__________
(1) / أي : لا أحلُّ لأحدٍ أن ينظر إليه .
(2) / تفسير القرآن العظيم : 2/209 .
(3) / سورة النور ، الآية : 33.
(4) / انظر ص : 290.(1/26)
ومما لا شك فيه أن إشاعة العُري والتبرج إشاعة للفاحشة بين المؤمنين ؛ لأن من تبرجت فقد تسببت في إشاعة زنا النظر ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزِّنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كلَّه أو يكذبه)). ([(1)]) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :((أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية )) ([(2)]) وسُمي النظر زناً ؛ " لأنه طريقه ومقدمته" . ([(3)])
إن التبرج وإبداء العورات انتكاس في الفطر ومسخ في القيم والمثل ؛ لأن ستر العورة هو الفطرة السليمة التي فطر الله عليها آدم عليه السلام ، قال تعالى : { فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } ([(4)]) . وقال: { فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ !َOs9r& أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) } ([(5)])
__________
(1) / صحيح البخاري ، كتاب الاستئذان ، باب زنا الجوارح دون الفرج ، برقم : 5887 . وفي كتاب القدر ، باب { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } ، برقم : 6237 . وصحيح مسلم ، كتاب القدر ، باب قدر على بن آدم حظه من الزِّنا وغيره ، برقم : 2657 .
(2) / صحيح ابن خزيمة ، للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري ، المكتب الإسلامي ببيروت، 1970م ، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي : 3/91 . وصحيح ابن حبان : 10/270 . وسنن البيهقي: 3/246 .
(3) / فتح الباري : 11/504 .
(4) / سورة طه ، الآية : 121 .
(5) / سورة الأعراف ، الآية : 22 .(1/27)
ففي الآيتين دليل على أن التستر طريق الفطرة وأنه خلق الأنبياء ، وفي الثانية من الفوائد : أن التفسخ والتعري سنة يريدها إبليس منَّا .
فإذا عُلم ذلك فعجيب أمر من ينسب الحجاب إلى الرجعية والتخلف !! أيكون ذلك في طريق الأنبياء والمرسلين ، أم فيما توسوس به الشياطين ؟! نبئونا بعلم يا دعاة تحرير المرأة إن كنتم صادقين .
وقد نطقت الأحاديث الكريمة -على قائلها أتم صلاة وتسليم -بتحريم التبرج ، وبيان حقيقته وخطورته .
فنصت السنة على تأكيد حرمته ، قال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - ([(1)]): "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّم سبعة أشياء ، وإني أُبلِّغُكم ذلك وأنهاكم عنه ".. وذكر منها التبرج . ([(2)])
وقُرِن فيها بالكبائر العظام ، فقد جاءت أُمَيمة بنت رُقَيْقة ([(3)]) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبايعه على الإسلام ، فقال :((أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً ، ولا تسرقي ، ولا تزني ، ولا تقتلي ولدك ، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ، ولا تنوحي ، ولا تبرَّجي تبرج الجاهلية الأولى )) . ([(4)])
__________
(1) / معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن ، الخليفة ، خال المؤمنين ، صحابي أسلم قبل الفتح وكتب الوحي ، ومات في رجب سنة ستين وقد قارب الثمانين . انظر تقريب التهذيب : 1/537 .
(2) / مسند الإمام أحمد : 4/101 .
(3) / أميمة بنت عبد الله بن بجاد بن عمير ، صحابية روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أزواجه رضي الله عنهنَّ ، وروت عنها بنتها حكيمة ومحمد بن المنكدر .
(4) / مسند الإمام أحمد : 2/196 .(1/28)
ودلت السنة على عظيم إثمه كما جاء في حديث فضالة بن عبيد ([(1)]) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :(( ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً،وأمة أو عبد أبق فمات ، وامرأة غاب عنها زوجها قد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده ، فلا تسأل عنهم)). ([(2)])
والتَّبُرج مجلبة للَّعن والغضب :
أما اللَّعن فقد ورد في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي قال فيه : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :((سيكون آخر أمتي نساء كاسيات عاريات ، على رؤوسهن كأسنمة البخت ، العنوهن فإنهن ملعونات)). ([(3)])
قال ابن عبد البر : " ((كاسيات عاريات)) : يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف ولا يستر ، فهن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة ". ([(4)])
وأما الغضب فلما جاء في صحيح البخاري ([(5)]) عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((أبغض الناس إلى الله ثلاثة : مُلحدٌ في الحرم ، ومبتغٍ في الإسلام سنةَ الجاهلية ، ومُطَّلِبُ دمِ امرئ بغير حق ليُهْرِيق دمه)).
__________
(1) / فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي ، أول ما شهد شهد أحداً ، ثم نزل بدمشق وولي قضاءها ، ومات سنة ثمان وخمسين . انظر التقريب : 1/445 .
(2) / مسند الإمام أحمد : 6/19 ، ومعجم الطبراني الكبير : 18/306 ، ومستدرك الحاكم : 1/206 .
(3) / معجم الطبراني الصغير : 3/257 .
(4) / التمهيد : 13/204 .
(5) / كتاب الديات ، باب من طلب دم امرئ بغير حق، برقم : 6488 .(1/29)
قال الحافظ مبيناً معنى ((ومبتغٍ في الإسلام سنةَ الجاهلية)) :" وقيل : المراد من يريد بقاء سيرة الجاهلية ، أو إشاعتها ، أو تنفيذها . وسنة الجاهلية اسم جنس يعم جميع ما كان أهل الجاهلية يعتمدونه؛ من أخذ الجار بجاره ، والحليف بحليفه ، ونحو ذلك ، ويلتحق بذلك ما كانوا يعتقدونه . والمراد منه ما جاء الإسلام بتركه كالطِّيَرة والكهانة وغير ذلك ".([(1)])
والتبرج سنة جاهلية بنص القرآن { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } .
والتبرج هتك لستر الله ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :((أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله)).([(2)]) .
جاء في فيض القدير :" " ((وضعت ثيابها في غير بيت زوجها)) كناية عن تكشفها للأجانب وعدم تسترها منهم ، ((فقد هتكت ستر ما بينها وبين اللّه عز وجل)) ؛ لأنه تعالى أنزل لباساً ليوارين به سوءاتهنّ ، وهو لباس التقوى ، وإذا لم يتقين اللّه وكشفن سوءاتهن هتكن الستر بينهن وبين اللّه تعالى ، وكما هتكت نفسها ولم تصن وجهها وخانت زوجها يهتك اللّه سترها ، والجزاء من جنس العمل. والهتك : خرق الستر عما وراءه ، والهتيكة : الفضيحة ". ([(3)])
والتبرج علامة من علامات النفاق ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( خير نسائكم الودود، الولود، المواتية المواسية إذا اتقين الله . وشرُّ نسائكم المتبرجات ، المُتَخَيِّلات . وهنَّ المنافقات ، لا يدخل الجنة منهنَّ إلا مثل الغراب الأعصم ([(4)]) )). ([(5)])
__________
(1) / فتح الباري : 12/211 .
(2) / مسند الإمام أحمد : 6/173 ، 6/198 . وسنن ابن ماجه ، كتاب الأدب ، باب دخول الحمام ، برقم : 3750 . ومستدرك الحاكم : 4/321 .
(3) / فيض القدير : 3/136-137 .
(4) / أبيض الجناحين ، وهذا نادر في الغربان . راجع اللسان : 12/406 .
(5) / سنن البيهقي : 7/82 .(1/30)
فالودود : المتحَبِّبَة لزوجها ، والولود : كثيرة الولادة ، والمُوَاتِية المُوَاسِية : الموافقة للزوج ، والمتخيلات : المتكبرات . ([(1)])
ومن أشد الأحاديث النبوية تنفيراً عنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :((صنفان من أهل النار لم أرهما : قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يَضربون بها الناس ، ونساءٌ كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)). ([(2)])
قال النووي رحمه الله :" هذا الحديث من معجزات النبوة ؛ فقد وقع هذان الصنفان وهما موجودان ، وفيه : ذم هذين الصنفين . قيل : معناه كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها ، وقيل : معناه تستر بعض بدنها وتكشف بعضه ؛ إظهاراً بحالها ونحوه ، وقيل : معناه تلبس ثوباً رقيقاً يصف لون بدنها . وأما مائلات فقيل : معناه عن طاعة الله وما يلزمهن حفظه ، مميلات أي يُعلِّمن غيرهن فعلهن المذموم . وقيل : مائلات : يمشين متبخترات ، مميلات : لأكتافهن . وقيل: مائلات : يمشطن المشطة المائلة وهى مشطة البغايا ، مميلات : يمشطن غيرهن تلك المشطة . ومعنى رؤوسهن كأسنمة البخت : أن يُكبِّرنها ويعظمنها بلف عمامة أو عصابة أو نحوها ". ([(3)])
وإن من أكبر ما يؤدي إلى انتشار التبرج في مجتمعات المسلمين : القنوات الفضائية ، حيث أوفدت لنا أموراً دخيلة كان الناس يمجونها من قديم ، وما كان أحد يتصور أنها ستشيع يوماً من غير أن يحرك ذلك ساكناً أو يثير حفيظةً!!
__________
(1) / انظر فيض القدير : 3/ 106 .
(2) / صحيح مسلم ، كتاب اللباس والزينة ، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات ، برقم : 2128 .
(3) / شرح مسلم : 14/110 .(1/31)
إن المشاهد لهذه الفضائيات لا ينكر أن العُري والتبرج من أبرز سماتها ، فلا يخلو منه برنامج أو مسلسل أو فيلم أو نشرة أو فاصل إعلاني . وهذا بدوره ينعكس على سلوك بناتنا ونسائنا ؛ فكثير منهن أصبحت كالأسفنج تتشرَّب بكل ما يُلقى إليها لِلَّهِ ومما يؤكد ذلك ويوضحه أنَّ كثيراً من الألبسة النسائية الماجنة يكون ظهورها في وقت واحد بين فئات مختلفة لا رابطة بينها إلا مشاهدة الفضائيات .
كل هذا مما يؤدي إلى نشر الفاحشة ، وهذا من أكبر مقاصد أعدائنا ، " لقد قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التنصير في مؤتمر القدس للمنصرين -الذي عقد في القدس عام 1935م -: إنكم إذا أعددتم نشأً لا يعرفُ الصلةَ بالله، ولا يريد أن يعرفَها أخرجتم المسلم من الإسلام، وجعلتموه لا يهتمّ بعظائمِ الأمور، ويحبُّ الراحةَ والكسلَ، ويسعى للحصولِ على الشهواتِ بأي أسلوبٍ، حتى تصبحَ الشهواتُ هدفَه في الحياةِ، فهو إن تعلم فللحصولِ على الشهوات، وإذا جمع المالَ فللشهواتِ، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، إنه يجودُ بكلِّ شيءٍ للوصول إلى الشهواتِ لِلَّهِ
هذا ما قالوه منذ ما يزيدُ على ستين عاماً، ولا يزالون يعملون دون كللٍ أو مَلَلٍ، لأنهم يرون ثمار مخططاتهم الخبيثة تزدادُ يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عامٍ، حتى ظهرت هذه الفضائيات التي استطاعوا من خلالها - وفي أعوام يسيرة - تحقيق ما لم يستطيعوه في قرون طويلة ، لقد استطاعوا من خلال وسائل الإعلام اقتحامَ ديارنا وبيوتنا ، وحتى غرفَ نومِنا بلا مقاومةٍ منا ولا غَضَبٍ، ولا محاولةٍ لمنعهم من ذلك ، بل بموافقةٍ منا ورضىً وترحيب !! فلماذا ترضى لنفسك يا أخي أن تكون ممن يساعدون الأعداء ويُنفِّذون مخططاتهم الرامية إلى ضرب الأمة في عقيدتها وأخلاقها وعزها ومجدها ". ([(1)])
__________
(1) / وسائل الإعلام والرؤية الإسلامية ، يحيى بن موسى الزهراني ، دار الوطن بالرياض ، الطبعة الأولى ، ص : 30 .(1/32)
وإذا أردت أن تعرف مدى تأثير الفضائيات على سلوك المشاهدين لها فتأمل هذا التقرير :" في أمريكا : عرضت شبكة التلفزيون الأمريكي ( إن.بي.سي. N.B.C ) تمثيلية يداهم فيها الإرهابيون من المجرمين ركاب إحدى قطارات الأنفاق ويقتلون أحد هؤلاء الركاب ، فإذا بأحد الصبية يقتل مخبر شرطة في إحدى قطارات الأنفاق بالطريقة نفسها التي شاهدها على شاشة التلفزيون .
و في ألمانيا : قام شابان شقيقان بخطف فتاة صغيرة وطالبا ذويها بفدية قدرها مليونا مارك وذلك إثر مشاهدتهما حادث اختطاف في فيلم تلفزيوني ، وقد أخفيا الفتاة حسب الفكرة التي اكتسباها من الفيلم .
وفي فرنسا : قامت إحدى الطالبات ويبلغ عمرها تسعة عشر عاماً مع صديقها الذي يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً بقتل خمسة أشخاص خلال خمس وعشرين دقيقة؛ تشبهاً ببطل فيلم ( قاتل بطبيعته ) .
وفي الهند أقدمت فتاتان على صب الكيروسين على أجسادهما أملاً في قدوم البطل الخارق لإنقاذهما من الحريق ، فقد ذكرت وكالة الأنباء (يونايتد نيوز) أن شقيقتين بإحدى القرى الهندية حاولتا تقليد مسلسل الرجل الخارق الذي يعرضه التلفزيون الهندي ويقوم البطل خلاله بإنقاذ من هم في ورطة، فقامتا بصب مادة الكيروسين فوق أجسادهما وأخذتا في الصراخ من الألم الفظيع دون أن يظهر البطل .
وفي مصر : دفع طفل في أسوان حياته ثمناً لتقليد بطل المسلسل التلفزيوني الأجنبي (هرقل) الذي انتهى التلفزيون المصري من بثه قبل أيام .
وتبين أن الطفل - ذا العشر سنوات - اتفق وصديقه على تعليق نفسه في سقف الحجرة من رقبته ، على أن يحضر زميله بسيفه فيقطع الحبل لإنقاذه . فوضع رقبته في المشنقة ، ولم يحضر (هرقل) لينقذه ؛ فمات الطفل خنقاً وأمرت النيابة بدفن الجثة .
و في الكويت : قام شاب يعاونه ثلاثة مراهقين باختطاف طفلة في الحادية عشرة واغتصابها ، وكان ذلك نتيجة ما كان يشاهده في الأفلام .(1/33)
وفي الإمارات العربية المتحدة : ظهرت أولى نتائج انتشار استخدام الأطباق المستقبلة للبث التلفزيوني من الأقمار الصناعية بعد أقل من سنتين وهي عبارة عن ظهور عصابة مؤلفة من عشرة من الأحداث يصل عمر بعضهم إلى خمسة عشر عاماً وأكبرهم في العشرين قاموا بقتل حارس باكستاني .
وتقول الشرطة إن الحادث هو جريمة القتل الأولى في البلاد لعصابة منظمة من أحداث .
وفي لبنان : قام شاب بإطلاق النار على شقيقته فأرداها قتيلة ، وعزا أحد أعضاء مجلس النواب اللبناني السبب إلى التلفزيون " . ([(1)])
ومن أسباب انتشار التبرج كذلك : عدم قيام الآباء بواجبهم ، فلو أنهم أنكروا على بناتهنَّ هذه الألبسة الخليعة لانصلح الحال ، وقد حدثنا أحد الدكاترة المحاضرين بجامعة الخرطوم بأنه رأي طالبة في ملابس خليعة فاضحة، فنهاها عن ذلك ، فكان ردها : لو كان في ذلك شيء لأنكر علي والدي !!
هذا ، وإن لهذا الذنب لمفاسد كثيرةً ، منها :
- فشو الزِّنا .
- شيوع النظر المحرم وصعوبة غض البصر .
- انعدام الغيرة .
- اضمحلال الحياء .
المبحث الثالث
نهى الله تبارك وتعالى النساء عن الخضوع بالقول فقال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) } . ([(2)]) ومما لا نزاع فيه أن هذا الحكم يخاطب جميع النساء ، ولا يسع أحداً القولُ بغير ذلك .
قال الجصاص رحمه الله :" وفيه الدلالة على أن ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن ، ويُستدل به على رغبتهن فيهم".([(3)])
وهناك ثلاث صور تندرج تحت هذا النهي القرآني :
__________
(1) / تحقيق بعنوان : الفضائيات وأثرها على مجتمعنا. نُشر بموقع : صيد الفوائد saaid.net .
(2) / سورة الأحزاب ، الآية : 32 .
(3) / أحكام القرآن : 5/229 .(1/34)
الأولى : الكلام الذي يميِّل إليهن ؛ لما يتضمنه من الرُّخوصة والرَّخامة واللين المريب ، فإن مطلق اللين لا يُنهى عنه ، ولذا جاء التعبير القرآني { فَلَا تَخْضَعْنَ } ؛ فالكلام قد يكون ليناً قوياً محكماً كما قال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) } ([(1)])، ولربما كان جبلةً ، أما اللين المُطمِع فهو من سَنن المومسات .
قال الكلبي رحمه الله :" نهى عن الكلام اللين الذي يُعجب الرجال ويُميلهن إلى النساء ". ([(2)])
وقال ابن كثير رحمه الله :" يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ... فلا تخاطبْ الأجانبَ كما تخاطب زوجها ". ([(3)])
الثانية : أن تتحدث المرأة مع الأجنبي بكلام فيه ذكر الرفث والجماع ، فيكون النهي عن ذات ألفاظها لا عن طريقة كلامها .
قال الرازي رحمه الله :" { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي : لا تقلن من أمر الرفث شيئاً؛ فيطمع الذي في قلبه مرض ". ([(4)])
وقال السيوطي رحمه الله :" { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } يعني الرفث من الكلام".([(5)])
الثالثة : مقاربتها للرجل في كلامها والدنو منه بحيث يحرك ذلك كوامن شهوته.([(6)])
والنهي يتجه إلى المرأة التي تخاطب الرجل ، وإلى من يسمع الرجال كلامها وإن لم يكن خطابُها لهم . ([(7)])
__________
(1) / سورة طه ، الآيتان : 43 ، 44 .
(2) / التسهيل : 3/137 .
(3) / تفسير القرآن العظيم : 3/483 .
(4) / التفسير الكبير : 6/113 .
(5) / الدر المنثور : 6/598 .
(6) / راجع الدر المنثور : 6/599 .
(7) / راجع تيسير الكريم المنان ، ص : 663 .(1/35)
ثم بين ربنا تعالى علة هذا النهي وأنه يؤدي إلى طمع الفاجرين فيهنَّ ، والمرض في هذه الآية هو مرض الشهوة والميل إلى الزِّنا ، فانطواء القلب على حبِّ الفاحشة والخبث مرض ينبغي أن يهتم الإنسان بعلاجه وتطهيره ؛ لأن الله تعالى أوضح أن القلب الذي تحركه هذه الأسباب قلب مريض . قال السعدي رحمه الله:" ينبغي للعبد إذا رأى من نفسه هذه الحالة وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه ، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام ؛ فليعرف أن ذلك مرض فليجتهد في إضعاف هذا المرض ، وحسم الخواطر الرديئة ، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر ، وسؤال الله العصمة والتوفيق . وذلك من حفظ الفرج المأمور به ". ([(1)])
وأما تفسير المرض هنا بالنفاق فبعيد يأباه السياق . ([(2)])
وأما القول المعروف المأمور به فهو الذي خلا من المحظورات السابقة . ([(3)]) وهو " الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس ". ([(4)]) ولا يَطمع به أحد .
وإنما جاء هذا الأدب لئلا يظن النساء أنهن مأمورات بالكلام المؤذي .
وإن من الآداب التي تُستل من الآية : أن يكون كلامها مع الأجانب بقدر حاجتها ، قال ابن العربي رحمه الله :" أمرهن الله تعالى أن يكون قولهن جَزِلاً ([(5)]) وكلامهن فَصْلاً ، ولا يكون على وجه يُحْدِث في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين المطمع للسامع ". ([(6)]) " فالقول المعروف وعند الحاجة هو المأمور به ". ([(7)])
وقيل في القول المعروف : " ما يعود إلى الشرع بما أمرن فيه بالتبليغ أو بالحاجة التي لا بد للبشر منها ". ([(8)])
__________
(1) / تيسير الكريم المنان ، ص : 664 .
(2) / راجع التفسير الكبير : 3/137 ، والمحرر الوجيز : 4/382 .
(3) / انظر التسهيل : 3/137 .
(4) / المحرر الوجيز : 4/382 .
(5) / قوياً .
(6) / أحكام القرآن : 3/568 .
(7) / التفسير الكبير : 25/180 .
(8) / أحكام القرآن لابن العربي : 3/568 .(1/36)
وإن من الأخطار التي لا بد أن يُشهر التحذير منها : ما يُشاهد من حال كثير من النساء في الأسواق من خضوع بالقول أمام البائع ؛ من أجل أن يتساهل معها في بيعه !! حري بمن كان هذا حالها أن تُذكر بقول القائل :
وأصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
فالواجب على المرأة أن يكون كلامها مغلَّفاً بالجِد والحَزْم مع الباعة وغيرهم حتى تنقطع الأطماع دونها .
ومن المظاهر الخطيرة كذلك : الخضوع بالقول في الهاتف ، وهذا يؤدي إلى زيادة نسبة المعاكسات الهاتفية ، ولا تسأل عن الآثار الناجمة عن هذه المعاكسات ، ولا عن البيوت التي دُمرت بسببها .
ومما يُطمع - كالخضوع القول - تبادل رسائل الغرام بين الشباب والشابات من المراهقين والمراهقات ، ومن ذلك ما يحدث في غرف الحوار([(1)]) بالشبكة العالمية([(2)]) ، حيث يتبادل الشباب والشابات كلمات الغزل والعشق والغرام ، ثم يختار الشاب فتاة يبادلها الرسائل في غرفة خاصة بهما ، يتم من خلالها تبادل أرقام الهواتف وعناوين البريد (الإلكتروني) ، وربما كانت الفتاة في منطقة قريبة من منطقة هذا الذئب البشري -الذي لا هم له إلا الإيقاع بهؤلاء الساذجات- فيتواعدان ،ثم ينتهي الأمر بما أعلمه وتعلمه !! وإلى الله المشتكى .
المبحث الرابع
الغَيْرة هي : الحَمِيّة والأَنَفَة ، يُقال : رجل غَيُور ، وامرأة غيور وغَيْرى . والمِغْيار : شديد الغيرة . وفلان لا يتغيَّر على أهله : لا يغار عليهم . ([(3)])
قال الحافظ رحمه الله :" الغيرة بفتح المعجمة وسكون التحتانية بعدها راء، قال عياض وغيره : هي مشتقة من تَغَيُّر القلب وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص ، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين". ([(4)])
__________
(1) / وتُسمي بـ(الشات) ، أو ( الدردشة) .
(2) / الإنترنت .
(3) / اللسان ، مادة (غور) : 5/41 .
(4) / الفتح : 9/320 .(1/37)
والغيرة على الأعراض من الأمور الجبلية الفطرية ، وانعدامها دليل على انتكاس في الفطرة ، وهو يفضي إلى انتشار الفواحش .
ولا أدلَّ على ذلك من قصة يوسف عليه السلام ، فإن أهل التفسير رحمهم الله بينوا أنَّ قول العزيز ليوسف عليه السلام : أعرض عن هذا ([(1)]) ، واكتفاءه به دليل على قلة غيرته ، فكان أنْ أعادت امرأته محاولاتها لتحظى بما تريده من يوسف عليه السلام ، فقد قال النسوة : { تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } ([(2)]) فجاء التعبير بالمضارع الدال على استمرارية سعيها ، وقالت بعد ذلك لما طلبت اجتماعهن : { وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) } ([(3)]) . ولو أنَّ زوجها عُرف بغيرته لما حدث شيء من ذلك ؛ لأن الغيور من الرجال تحذر امرأته من فعل ما يهيِّج غيرته ولو أدى ذلك إلى أنْ تترك بعض ما لا إثم فيه ، ولو قُدِّر أن صدر منها بعض ذلك فإنه يزجرها بما لا يجعلها تعاوده ، وإليك أقوالهم التي تبين ما ذكرتُه :
قال ابن عطية رحمه الله : " وذلك أنَّ العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين ، ألا ترى أنَّ الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل : إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم وهذا يدل على قلة الغيرة ، ثم سكن الأمر بأن قال : يوسف أعرض عن هذا ، وأنت استغفري ، وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة فلذلك تُغوفل عنها بعد ذلك ؛ لأن دليل القميص لم يكن قاطعاً وإنما كان أمارة ما ، هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً ". ([(4)])
__________
(1) / أي : لا تذكره لأحد . انظر جامع البيان : 12/197 .
(2) / سورة يوسف ، الآية : 30 .
(3) / سورة يوسف ، الآية : 32 .
(4) / المحرر الوجيز : 3/239 .(1/38)
وقال القرطبي رحمه الله : " وقيل : إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك ، وفيه قولان : أحدهما أنه لم يكن غيوراً فلذلك كان ساكناً ، وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود . الثاني : أن الله تعالى سلبه الغيرة ، وكان فيه لطف بيوسف ". ([(1)])
وقال أبو السعود :" وقيل : كان ([(2)]) قليل الغيرة ". ([(3)])
وقال الرازي رحمه الله - ناقلاً قول غيره مقرراً له - :" إن ذلك الزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار ". ([(4)])
وقال ابن تيمية رحمه الله : " وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها، وكان يحب امرأته ويطيعها ، ولهذا لما أطلع على مراودتها قال : يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين فلم يعاقبها ، ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته ، وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبةً منه لامرأته ، ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة . ومع هذا فشاعت القصة واطلع عليها الناس من غير جهة يوسف ، حتى تحدثت بها النسوة في المدينة ، وذكروا أنها تراود فتاها عن نفسه ، ومع هذا فأرسلت إليهن واعتدت لهن متكئاً وآتت كل واحدة منهن سكيناً وأمرت يوسف أن يخرج عليهن ليُقِمن عذرها على مراودته وهي تقول لهن : فذلكن الذي لمتنني فيه ، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين . وهذا يدل على أنها لم تزل متمكنة من مراودته والخلوة به مع علم الزوج بما جرى ، وهذا من أعظم الدِّيَاثة ".([(5)])
فهذا يبين أنَّ انعدام الغيرة سبب لانتشار الفواحش .
وأما الأدلة على أنَّها تحمل على حفظ الأعراض والذود عن حماها فكثيرة، منها :
__________
(1) / الجامع لأحكام القرآن : 9/175 .
(2) / أي : العزيز .
(3) / تفسير أبي السعود : 4/270 .
(4) / التفسير الكبير : 18/100 .
(5) / مجموع الفتاوى : 15/119-120 .(1/39)
أنَّ ابنة شعيب لما قالت : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) } ([(1)]). " أحفظته ([(2)]) الغيرة أن قال : وما يدريك ما قوته وأمانته ؟ قالت : أما قوته فما رأيت منه حين سقى لنا لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما أمانته فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه ولم ينظر إلي حتى بلغته رسالتك ، ثم قال : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين . فسُرِّي عن أبيها ، وصدقها ، وظن به الذي قالت ".([(3)]) فسؤاله لها دليل على صيانة عرضه ، وسبب سؤاله الغيرة .
ومن غرائب أدلة ذلك : أنَّ أبا بلقيس التي أدركت سليمان عليه السلام كانت أمها من الجنِّ ، وسبب ذلك أنَّ أباها كان وزيراً لملك يغتصب نساء وزرائه، فأملت الغيرة عليه زواج جنية لا يراها ملكه . ([(4)])
__________
(1) / سورة القصص ، الآية : 26 .
(2) / أغضبته .
(3) / جامع البيان للطبري : 20/63 .
(4) / راجع الجامع للقرطبي : 13/211 .(1/40)
ومن الأدلة أنَّ رجلاً دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكاً في عراجين([(1)]) في ناحية البيت فالتفت فإذا حَيَّة ، فوثبت لأقتلها ، فأشار إلي أن اجلس فجلست . فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم . قال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوماً فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة)). فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به وأصابته غَيْرةٌ . فقالت له : اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني . فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار ، فاضطربت عليه ، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتاً الحية أم الفتى ؟ فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا . فقال :((استغفروا لصاحبكم )) . ثم قال : ((إن بالمدينة جِنَّاً قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام ، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان)). ([(2)])
فهذا الفتى - رضي الله عنه - مع شدة تعلقه بأهله لكونه حديث عهد بعرس أراد أنَّ يزجرها برمحه ، حماية لعرضه ، وسبب ذلك غيرته .
__________
(1) / العيدان اليابسة .
(2) / صحيح مسلم ، كتاب السلام ، باب قتل الحيات وغيرها ، برقم : 2236 .(1/41)
ومما يدل لذلك أيضاً قول سعد بن عبادة - رضي الله عنه - : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفَّح ([(1)]) ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :((أتعجبون من غيرة سعد فوالله ؟ لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن )) . ([(2)])
وفي رواية لمسلم ([(3)]): قال سعد بن عبادة : يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتي بأربعة شهداء ؟! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((نعم)) . قال : كلا والذي بعثك بالحق ، إنْ كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((اسمعوا إلى ما يقول سيدكم ، إنه لغيور، وأنا أغير منه ، والله أغير مني)) . وفي رواية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ))؟ قالوا : يا رسول الله لا تلمه ؛ فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته . قال سعد : والله إني لأعلم يا رسول الله إنها لحق وإنها من عند الله ، ولكني عجبت)). ([(4)])
__________
(1) / بحَدِّه لا بعَرْضه .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب الحدود ، باب من رأى مع امرأته رجلاً فقتله ، برقم : 6454. وفي كتاب التوحيد ، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(( لا شخص أغير من الله )) ، برقم : 6980. وصحيح مسلم ، كتاب اللِّعان ، برقم : 1499 .
(3) / كتاب اللعان ، برقم : 1498 .
(4) / مصنف عبد الرزاق : 7/114 ، ومسند أبي يعلى : 5/124 ، وسنن البيهقي : 7/394 .(1/42)
يقول النووي رحمه الله :" ليس قوله رداً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا مخالفةً من سعد بن عبادة لأمره - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما معناه الإخبار عن حالة الإنسان عند رؤيته الرجل عند امرأته واستيلاء الغضب عليه فإنه حينئذ يعاجله بالسيف وإن كان عاصياً".([(1)])
وهذا الكلام من سعد - رضي الله عنه - كان قبل تشريع اللعان . ([(2)])
فهذا يدل على أنَّ الغيور لا يمكن أنَّ يقر سوءً في أهله ، وهذا مما يقلل الشر والفاحشة .
ومن الأدلة - كذلك - سبب غزوة بني قينقاع ؛ فقد جاءت امرأة إلى سوقهم وجلست إلى صائغ هناك ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهودياً، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فكانت الغزوة . ([(3)])
ولما أصَرَّت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد حجة الوداع أنْ تأتي بعمرة بعد قرانها أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم لتُحرم منه ، تقول :" فأردفني خلفه على البعير في ليلة حارة ، فجعلت أحسر عن خماري ، فتناولني بشيء في يده ([(4)])، فقلت : " هل ترى من أحد معنا " ؟! ([(5)])
ولعلَّك - أيها القارئ الكريم - لم تنس أثر الزبير بن العوام - رضي الله عنه - الذي مرَّ معنا في الفصل السابق ، وفيه أنه منع زوجه من المسجد بحيلةٍ غيرةً عليها .
__________
(1) / شرح مسلم : 10/131 .
(2) / انظر المسند : 1/238 .
(3) / انظر السيرة النبوية ، لعبد الملك بن هشام الحميري ، دار الجيل ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد : 3/314 .
(4) / احتملته الغيرة فطعنها بعصاته .
(5) / مسند الطيالسي ، لسليمان بن داود البصري الطيالسي ، دار المعرفة ببيروت : 1/218 .(1/43)
ومن أجمل ما يدل على ذلك وأحسنه ما أورده ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية النهاية ([(1)]) إذ قال :" ومن عجائب ما وقع من الحوادث في هذه السنة([(2)]) أنَّ امرأة تقدمت إلى قاضي الري فادَّعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار ، فأنكره ، فجاءت ببينة تشهد لها به ، فقالوا : نريد أن تُسفرَ لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا . فلما صمَّمُوا على ذلك قال الزوج : لا تفعلوا ، هي صادقة فيما تدعيه . فأقرَّ بما ادَّعت ؛ ليصون زوجته عن النظر إلى وجهها . فقالت المرأة - حين عرفت ذلك منه وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر -: هو في حلٍّ من صَداقي عليه في الدنيا والآخرة ".
إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود أميل
إنَّ المؤمن يحمي عرضه بدمائه لا يتهاون فيه ، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة ، قال عليه الصلاة والسلام :((من قُتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد)) . ([(3)])
__________
(1) / 11/83 .
(2) / أي سنة ست وثمانين ومائتين .
(3) / سنن أبي داود ،كتاب السنة ، باب في قتال اللصوص ، برقم : 4772 . وسنن الترمذي ، كتاب الديات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، برقم : 1421. وسنن النسائي، كتاب تحريم الدم ، باب من قاتل دون أهله ، برقم : 4094 .(1/44)
ومما يدل على أثر تحقيق الغيرة للعفاف أنَّ الناس يراعون للغيور غيرته ، وربما تركوا ما لا جناح فيه مراعاةً له ، فهذه أسماء رضي الله عنها تقول: " تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا ناضح غير فرسه ، فكنت أعلف فرسه ، وأستقي الماء ، وأخرز غَرْبه ، وأعجن ، ولم أكن أحسن أخبز ، وكان يخبز جارات لي من الأنصار ، وكن نسوة صدق ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ ، فجئت يوماً والنوى على رأسي فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال : ((أخ أخ)) ؛ ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت : لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسي النوى ، ومعه نفر من أصحابه ، فأناخ لأركب ، فاستحييت منه وعرفت غيرتك . فقال : والله لحملك النوى كان أشدَّ علي من ركوبك معه . قالت : حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم يكفيني سياسة الفرس ، فكأنما أعتقني " . ([(1)])
ولما قال سعد بن عبادة ما قال ، قالت الأنصار :" إنه رجل غيور ، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته". ([(2)])
__________
(1) / مضى تخريجه ص : 235 .
(2) / سبق تخريجه ص : 286 .(1/45)
وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة ، وسمعت خَشَفَةً ([(1)]) فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال . ورأيت قصراً بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا ؟ فقالوا : لعمر . فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك ، فوليت مدبراً )). فبكى عمر وقال : بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار . ([(2)])
أي " أعليها أغار منك ؟" ([(3)])
قال الشنقيطي رحمه الله :" كثير من البلاد التي تركت الصيانة صار نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله ؛ لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق ومن كل سوء ". ([(4)])
فهذه النقولات تؤكد أنَّ ضياع الغيرة مفض إلى ضياع الشرف والعفة ، مؤذن ببلاء عريض .
ولذا كان الخسران جزاء من فقدها ، قال - صلى الله عليه وسلم - :(( ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والدَّيُّوث ([(5)])، ورجلة النساء)) . ([(6)])
المبحث الخامس
نهى الله تعالى النساء عن إظهار صوت زينتهن فقال : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } ([(7)]).
__________
(1) / أي : حركة .
(2) / صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة ، برقم : 3070. وكتاب فضائل الصحابة ، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي - رضي الله عنه - ، برقم : 3476 . وصحيح مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر - رضي الله عنه - ، برقم : 2395 .
(3) / فتح الباري : 7/45 .
(4) / أضواء البيان : 3/28 .
(5) / " الذي لا يغار على أهله " . النهاية في غريب الحديث : 2/147 .
(6) / معجم الطبراني الكبير : 12/302 ، ومستدرك الحاكم :1/144.
(7) / سورة النور ، الآية : 33.(1/46)
فقد كانت المرأة تجعل خَلْخَالاً ([(1)]) في مُقَيَّدِها ([(2)]) ، فإذا مرت بالرجال ضربت عليه ؛ ليسمعوا ذلك ، فنهاهنَّ الله تعالى عن إيقاظ ([(3)]) خلاخلهنَّ ([(4)]) ؛ إذ لا يُنكِر أحد أن هذا الفعل محرك لشهوة الرجال .
فمعنى الآية :" ولا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلخالهن ، فيعلم أنهن ذوات خلخال ؛ فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهنَّ ، ويوهم أنَّ لهنَّ ميلاً إليهم"([(5)]).
"ويؤخذ من هذا ونحوه قاعدة سد الوسائل ، وأن الأمر إذا كان مباحاً ولكنه يفضي إلى محرم أو يخاف من وقوعه فإنه يمنع منه . فالضرب بالرجل في الأرض الأصل أنه مباح ولكن لما كان وسيلة لعلم الزينة مُنع منه " ([(6)]) .
وفي هذه الآية دليل على تحريم التبرج وإبداء الزينة ؛ لأن إسماع صوت الزينة إذا كان حراماً فتحريم إبدائها أولى بهذا الحكم . قال البيضاوي رحمه الله :" وهو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة ، وأدل على المنع من رفع الصوت". ([(7)])
وقال أبو السعود رحمه الله :" في النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينها ([(8)]) من المبالغة في الزجر عن إبداء موضعها مالا يخفى ". ([(9)])
وقال الرازي رحمه الله :" لما نهى عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى ". ([(10)])
__________
(1) / زينة تجعلها المرأة في رجلها .
(2) / موضع الخلخال بالرِّجل .
(3) / " استيقظ الخلخال والحُلي : صوَّت ". اللسان : 7/467
(4) / انظر : الكشاف للزمخشري : 3/237، والتفسير الكبير : 23/182 ، والتسهيل : 3/65 .
(5) / تفسير أبي السعود : 6/171 .
(6) / تيسير الكريم المنان ، ص : 567 .
(7) / أنوار التنزيل : 4/184 .
(8) / يشير إلى قول الله تعالى : { ولا يبدين زينتهنَّ ... } .
(9) / تفسير أبي السعود : 6/171 .
(10) / التفسير الكبير : 23/182 .(1/47)
وقال الزمخشري رحمه الله :" وإذا نُهين عن إظهار صوت الحلي بعد ما نهين عن إظهار الحلي عُلم بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ " . ([(1)])
وأما ما جَنح إليه بعض أهل العلم ([(2)]) من أن إسماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها فمحلُّ نظرٍ ، والصواب أن إبداءها أشد كما سبقت الإشارة إليه .
ومن المعاني التي تتناولها الآية بالتحريم : أن تضرب المرأة على الأرض بصوت حذائها ([(3)
__________
(1) / الكشاف : 3/237 -238 .
(2) / كالزجاج رحمه الله ، انظر التسهيل : 3/65 .
(3) / ينبغي أن تعلم المرأة أن مثل هذه الأحذية التي تصدر صوتاً - وهي ما تُسمى بـ (الكعب العالي ) - قد ذكر الأطباء لها أضراراً كثيرة ، منها : دوالي الساقين ، والتقلصات الرحمية المبكرة للحامل، وتأثيره السالب على العمود الفقري ، والتهابات العظام والمفاصل . وقد أجرى فريق من الأطباء دراسة طبية في جامعة هارفارد وشملت الدراسة عشرين سيدة ، متوسط أعمارهن أربعة وثلاثون عاماً ممن اعتدن ارتداء الأحذية العالية أو العادية ، وقد طلب الفريق من المشاركات في التجربة أن يمشين بدون حذاء في ممر ضيق لمسافة عشرة أميال ثم قطع المسافة نفسها وهنَّ يلبسن أحذية ذات كعوب عالية عريضة أو رفيعة ، وقام الباحثون بقياس نوع الضغط الواقع على الركبة من جراء تحريك القدم، فتبين أن الضغط قد زاد بنسبة ست وعشرين في المائة نتيجة للكعوب العالية العريضة وبنسبة اثنتين وعشرين في المائة في حالة الكعوب العالية الرفيعة، ويؤدي ازدياد هذا الضغط إلى أن تعمل العضلة الرباعية للفخذ بصعوبة أكثر ، وهو ما يعزز الضغط على غطاء الركبة . وأظهرت نتائج تلك الدراسة أن الأحذية ذات الكعوب العالية العريضة تسبب ضغوطاً مماثلة أو أكبر مما تسببه الكعوب العالية الرفيعة على المفاصل.
إن التركيبة الهيكلية للعمود الفقري في الإنسان من الناحية الفسيولوجية تشكيلة في منتهى الدقة والروعة والكمال، فقد اتخذ طابعاً تطورياً على صورته الحالية بشكل يتناسب مع كل فعاليات ووظائف الأعضاء الداخلية ، ومع كل الأعمال والحركات والأفعال التي يقوم بها الإنسان ، لذا فإن أي وضع غير معتاد مع الطبيعة الوظيفية له سيؤثر بالتأكيد على هذه الطبيعة ، وسيظهر هذا التأثير على صورة آلام حادة في كثير من الأحيان ، مما يدفع بالكثيرات إلى تناول مسكنات الألم .
من خلال هذا الملحظ العلمي الطبي نستطيع أن نتصور مدى الضرر الذي تحدثه مثل هذه الأحذية الصيِّتة لِلَّهِ أضف إلى ذلك أنه ربما أدى إلى فقدان التوازن والانكباب على الأرض .
وهذان رابطان لموقعيْن على الشبكة العالمية لما سبق من معلومات ، ولمن أراد الاستزادة منها :
www.alarabonline.org/print.asp?fname=/data/
www.tareekalshaab.com/issue(1/48)
]) بقصد لفت النظر إليها ، وربما كان ذلك في بعض البلاد أشد تحريكاً للشهوة من صوت الخلاخل ؛ لعدم المعرفة بها ، الذي قد يؤدي إلى استهجانها واستغرابها.
بعد حمد الله كثيراً على جميع ما أولاه من النِّعَم ، والصلاة والسلام على سيد الأمم ، فإني ألخص من هذا البحث أهم النتائج التي توصلت إليها ، والتوصيات التي ارتأيتها ، وهي :
1. أن جريمة الزِّنا من أكبر الذنوب التي عُصي الله تعالى بها ، وأنَّه مرتب عليها أنواع من البلايا في الدارين ، منها حدّه ؛ زجراً وتنفيراً عنه .
2. وللبعد بالنفوس المؤمنة عن بؤرة هذه الجريمة استفاضت النصوص الآمرة بالعفة ، المبينة لفضل أصحابها ، الموجبة للاتصاف بها .
3. وذكر القرآن الكريم سيرة ثلاثة من سادات العفيفين ؛ ليقتدى بهم ، ويُتحلى بأخلاقهم .
4. وشُرِعَت بعض التشريعات التي من شأنها تزكية النفوس وحملها على مكارم الأخلاق والعفة والطُّهر .
5. وأنَّ من هذه التشريعات تدابير عامةً من شأنها تحقيق خصال البر وسمات الخير من عفة وغيرها ، وذلك كما في التقوى والحياء .
6. وأن من هذه التدابير الإيجابية ما يتعلق بالرجال كالتعدد ، ومنها ما يتعلق بالنساء كالحجاب والقرار في البيوت ، ومنها ما خُوطب به الجنسان وهي بقيتها .
7. وإمعاناً في الحفاظ على الأعراض من هذه الجريمة نَدبت النصوص إلى تنشئة الطفل على العفة ، وأنه يُلقم ثديَها بلا فطام ؛ للتتجذَّر معانيها في نفسه ، ولينشأ عليها من صغره .
8. وأنَّ بعض الذرائع القوية للزِّنا سُدَّ بابها ونُهي عن ما يقرب إليها؛ إيغالاً في المباعدة ، وحملاً للنفوس على معاني الطهر ، ومن ذلك ذريعة النظر التي سُدت ذرائعها كولوج دار بلا استئذانٍ ونحوه
9. ولأن النفوس يسهل عليها فعل ما سُبقت إليه كان من التدابير الإيجابية بعض العبادات التي أُعلمنا بتشريعها لمن قبلنا ؛ كالصوم، والأمر لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجاب والقرار في البيوت .(1/49)
10. وجاء ذكر بعض أسباب تحقيق العفة على سبيل الحكاية في القصص القرآني - كما في قصة يوسف عليه السلام -؛ للمبالغة في التأثر ؛ فإن النفس لا تيأس من فعلٍ امتُثل ولا تخشى من طريقٍ طُرق.
11. ولم يُكتفَ لتحقيق البعد عن هذه الجريمة بمثل هذه التدابير الإيجابية ، وإنما نُهي عن كلِّ طريقٍ يرمي فيها .
12. وما حُرِّم من الفِعال مما هو من ذرائعها فإما أنه حُرِّم لذاته كالخمر، ومع هذا فإنه يؤدي إليها، وإما أنه حُرِّم تحريم الوسائل؛ لئلا يتواجد راعٍ قرب الحِمى .
13. وتوجه النهي عن بعض هذه الذرائع لأمهات المؤمنين ، مع كونهن سيداتِ العفيفات ، ليعلم غيرهنَّ من النساء أنهنَّ بالخطاب أولى .
14. ومن الذرائع ما أُشير إليها في قصةٍ حَيَّةٍ ؛ زيادةً في التنفير عنها .
وختاماً أوصي نفسي وإخواني المؤمنين بالعمل بجميع أسباب العفة ، والبعد عن كل ما يذهب بأثرها أو يُخرِّق ثوبها ؛ لأن الزِّنا دمار الأمم وهلاك الشعوب وموت الحياة.
أخي القارئ :
إنْ بلَّغك هذا البحثُ مَرامَك وأُثلج به صدرُك فلك غنمه ، وإن كانت الآخرة فلي - وحدي - غرمه ، وأعوذ بالله من جهد تكون عاقبة أمره خُسراً.
هذا وإني أتشوف لكل نقدٍ بنَّاء يُقصد به رأبُ نقصِه ، وإصلاح خلله . فمَن أحبَّ دعوةً صادقةً فليدل على ذلك ، وها أنا أذكر عنوانَ مراسلتي :
QQOOPP231@GMAIL.COM
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على خير عبادك وسيِّد أوليائك محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- - -(1/50)
الفهارس
فهرس المراجع والمصادر .
فهرس الموضوعات .
((القرآن الكريم))
(أ)
1. الإتقان في علوم القرآن ، دار الفكر بلبنان ، الطبعة الأولى ، 1426هـ، تحقيق : سعيد المندوب .
2. الإجماع ، لمحمد بن إبراهيم بن المنذر ، دار الجنان للطباعة والنشر، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق وتعليق : عبد الله عمر البارودي .
3. الأدب المفرد ، للإمام محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري ، دار البشائر الإسلامية ببيروت ، الطبعة الثالثة ، 1409هـ ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
4. أحكام القرآن ، أحمد بن علي الرازي الجصاص ، دار إحياء التراث ببيروت ، 1405هـ ، تحقيق : محمد صادق قمحاوي .
5. أحكام القرآن للإمام أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ، دار الفكر للطباعة بلبنان ، تحقيق محمد عبد القادر عطا.
6. إحياء علوم الدين ، للإمام أبي حامد الغزالي ، دار الشعب بالقاهرة
7. إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود محمد بن محمد العمادي ، دار إحياء التراث ببيروت .
8. إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول ، للعلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1412هـ، تحقيق محمد سعيد البدري .
9. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي ، دار الفكر ، 1415، بدون رقم الطبعة ، تحيقي مكتب البحوث والدراسات .
10. الأمراض الجنسية ، للدكتور نبيل صبحي الطويل ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى ، 1990م .
11. إنجيل متى ، دار الكتاب المقدس ، الطبعة الثانية ، 1998م .
12. أنوار البروق في أنواء الفروق ، للشيخ شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي ، دار الفكر بلبنان.
13. أنوار التنزيل ، للقاضي العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي ، دار الفكر ببيروت .
14. الإيمان بالقضاء والقدر ، محمد بن إبراهيم الحمد ، دار الوطن ، الطبعة الثانية ، 1416هـ .
(ب)(1/1)
15. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، للعلامة علاء الدين الكاساني، دار الكتاب العربي ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1982م
16. بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، للإمام ابن رشد القرطبي المالكي، مكتبة نزار مصطفى الباز بمكة المكرمة .
17. البداية والنهاية ، للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، مكتبة المعارف ببيروت ، الطبعة الأولى .
18. البرهان في علوم القرآن ، للشيخ محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي ، دار المعرفة ببيروت ، 1391هـ ، تحقيق : محمد أبو الفضل.
(ت)
19. تاريخ الخلفاء ، للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ، دار الجيل ببيروت، 1408هـ ، تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد .
20. التاريخ الكبير ، للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، دار الفكر ببيروت، تحقيق : السيد هاشم الندوي .
21. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للإمام الحافظ أبي العُلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1410هـ.
22. التسهيل لعلوم التنزيل ، لمحمد بن أحمد بن محمد الغرناطي الكلبي ، دار الكتاب العربي بلبنان ، الطبعة الرابعة ، 1403هـ .
23. التعاريف لمحمد عبد الرؤوف المناوي ، دار الفكر المعاصر ببيروت، الطبعة الأولى ، 1410هـ ، تحقيق د. محمد رضوان الداية .
24. تفسير ابن أبي حاتم ، لعبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي ، المكتبة العصرية ، تحقيق أسعد محمد الطيب .
25. تفسير القرآن العظيم للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، جمعية إحياء التراث الإسلامي ، الطبعة الخامسة، 1420هـ - 2000م .
26. التفسير الكبير المسمَّى : ( مفاتيح الغيب ) ، لفخر الدين محمد ابن عمر التميمي الرازي الشافعي ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1421هـ.
27. تفسير المنار ، للشيخ محمد رشيد رضا ، دار المعرفة بلبنان ، الطبعة الثانية.(1/2)
28. تقريب التهذيب ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، دار الرشيد بسوريا، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق : محمد عوامة .
29. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، لأبي عمر يوسف ابن عبد الله ابن عبد البر ، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، سنة الطبع : 1387هـ ، تحقيق : مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري
30. تهذيب التهذيب ، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، دار الفكر ببيروت، الطبعة الأولى ، 1404هـ .
31. تهذيب الكمال ، للإمام أبي الحجاج المِزي ، مؤسسة الرسالة ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1400هـ ، تحقيق د. بشار عواد معروف .
(ث)
32. الثمر الداني في تقريب المعاني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني ، للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري ، دار الكتب العلمية ببيروت .
(ج)
33. جامع البيان عن تأويل آي القرآن لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، دار الفكر ، 1405هـ -1984م
34. الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثالثة ، 1987م.
35. الجرح والتعديل ، للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم ، دار إحياء التراث العربي ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1952م .
36. جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ، للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري ، دار الفكر بلبنان.
(ح)
37. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ، لابن القيم ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى .
38. الحجة في القراءات السبع ، للإمام الحسين بن أحمد بن خالويه، دار الشروق ببيروت ، الطبعة الرابعة ، 1401هـ ، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم .
39. حراسة الفضيلة ، د. بكر عبد الله أبي زيد ، دار العاصمة للنشر والتوزيع بالرياض ، الطبعة الثالثة، 1421هـ .
40. حلية الأولياء ، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ، دار الكتاب العربي ببيروت ، الطبعة الرابعة ، 1405هـ
(د)(1/3)
41. الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، للشيخ العلامة عبد الرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1993م
(ر)
42. رسالة إلى حواء ، محمد رشيد العويد ، دار السبيل للطباعة والنشر، الطبعة الثانية .
43. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ، للعلامة أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي ، دار الفكر ببيروت ، 1398هـ - 1978م.
(ز)
44. زاد المسير في علم التفسير ، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي المعروف بابن الجوزي ، المكتب الإسلامي ببيروت ، الطبعة الثالثة، 1404هـ .
45. زاد المعاد في هدي خير العباد ، لمحمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية ، مكتبة المنار بالكويت ، الطبعة الرابعة عشر ، 1407هـ، حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه : شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط.
46. الزهد ، لهناد بن السري الكوفي ، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي بالكويت ، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق : عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي
47. الزواج الإسلامي السعيد ، محمود مهدي الإستانبولي ، العالمية للنشر والتوزيع .
48. الزواج الإسلامي المبكر ، للشيخ محمد علي الصابوني ، الطبعة الثالثة ، 1415هـ .
(س)
49. السنن ، للإمام أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
50. السنن ، للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب ، الطبعة الثانية،1406هـ.
51. السنن ، للإمام أبي عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه القزويني ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .(1/4)
52. سنن الترمذي المسمى بـ (الجامع المختصر من السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل) ، للإمام محمد بن عيسى ابن سورة الترمذي ، دار إحياء التراث العربي ببيروت .
53. السنن الكبرى ، للإمام أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي ، مكتبة دار الباز بمكة المكرمة ، 1414هـ
54. السيرة النبوية ، لعبد الملك بن هشام الحميري ، دار الجيل ببيروت، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق : طه عبد الرؤوف سعد.
(ش)
55. الشرح الكبير ، للشيخ أبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير ، دار الفكر ببيروت ، تحقيق محمد عليش.
56. الشوقيات لأحمد شوقي رحمه الله ، دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة الأولى.
(ص)
57. صحيح ابن حبان لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن جعفر البستي المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، مؤسسة الرسالة ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1414هـ ، تحقيق شعيب الأرنؤوط .
58. صحيح ابن خزيمة ، للإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، المكتب الإسلامي ببيروت ، 1970م ، تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمي.
59. صحيح البخاري للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير ببيروت، الطبعة الثالثة ، 1407هـ - 1987م ، تحقيق د. مصطفى ديب البغا .
60. صحيح مسلم ، للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ، دار إحياء التراث العربي ببيروت ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي .
61. صفوة البيان لمعاني القرآن ، للعلامة حسنين محمد مخلوف ، الدار المصرية للكتاب ، الطبعة الأولى
(ط)
62. طبقات المفسرين لأحمد بن محمد الداودي ، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى ، 1417هـ ، تحقيق : سليمان بن صالح الخزي.
63. الطِّفل في الشريعة الإسلامية ، د. محمد بن أحمد الصالح ، مطابع الفرزدق ، الطبعة الثالثة ، 1403هـ .
(ع)(1/5)
64. عارضة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للإمام ابن العربي المالكي، دار الوحي المحمدي بالقاهرة ، الطبعة الثانية.
65. العجاب في بيان الأسباب ، للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد ابن علي بن حجر العسقلاني ، دار ابن الجوزي ، الطبعة الأولى ، 1418هـ .
66. عودة الحجاب ، د. محمد أحمد إسماعيل المقدم ، دار هند السلفية، الطبعة الثانية ، 1410هـ .
67. عون المعبود شرح سنن أبي داود ، للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1410هـ .
(غ)
68. الغيرة على المرأة ، لعبد الله بن عبد الرحمن المانع ، دار الفرقان للنشر والتوزيع ، الطبعة الأولى ، 1420هـ
(ف)
69. الفائق للزمخشري ، دار المعرفة بلبنان ، الطبعة الثانية ، تحقيق : علي محمد البجاوي ، وأبو الفضل إبراهيم .
70. فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، للحافظ أحمد بن علي ابن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي ، دار المعرفة ببيروت ، 1379هـ ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب .
71. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية ، لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الفكر ، الطبعة الأولى ، 1412هـ .
72. الفروع لأبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي ، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى ، 1418 هـ ، تحقيق أبي الزهراء حازم القاضي
73. فيض القدير شرح الجامع الصغير ، للإمام عبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1491هـ .
(ق)
74. القوانين الفقهية ، لأبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي ، مطبعة النهضة الأميرية التونسية ، 1344هـ .
(ك)
75. الكاشف في أسماء الرجال ، للحافظ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ، دار القبلة للثقافة الإسلامية بجدة ، الطبعة الأولى، 1412هـ ، تحقيق : محمد عوامة .(1/6)
76. كتاب الإيمان ، للحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع بالرياض ، الطبعة الأولى ، 1421هـ ، تحقيق : محمد ناصر الدين الألباني .
77. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ، دار إحياء التراث ببيروت ، تحقيق عبد الرزاق المهدي .
78. كشف الظُّنون عن أسامي الكتب والفنون ، لحاجي خليفة ، دار الكتب العلمية ببيروت ، 1413هـ.
(ل)
79. لباب النقول في أسباب النزول لأبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، دار إحياء العلوم ببيروت ، الطبعة الأولى.
80. لسان العرب للعلامة أبي الفضل جمال الدين لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري ، دار صادر ببيروت ، الطبعة الأولى.
(م)
81. المبسوط ، للعلامة محمد بن أبي سهيل السرخسي ، دار المعرفة ببيروت ، 1406هـ
82. مجلة البحوث الإسلامية ، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية بالرياض، عدد : رجب ، شعبان ، رمضان ، شوال 1409هـ.
83. المجموع شرح المهذب للإمام النووي ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1417هـ ، تحقيق محمود مطرحي.
84. مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي ، مكتبة ابن تيمية ، الطبعة الثانية .
85. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، لأبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي ، دار الكتب العلمية بلبنان ، الطبعة الأولى ، 1413هـ
86. المحلى ، للإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت .
87. مختار الصحاح ، للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ، دار الفكر العربي ، ترتيب محمود خاطر .
88. مختصر خليل ، للعلامة خليل بن إسحاق المالكي ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، صححه وعلق عليه : الشيخ طاهر أحمد الزاوي .(1/7)
89. مدارك التنزيل وحقائق التأويل ، للعلامة أبي البركات عبد الله ابن أحمد بن محمود النسفي ، مطبعة السعادة بمصر ، 1326هـ .
90. المدونة الكبرى ، لإمام الدنيا مالك بن أنس رحمه الله ، دار صادر ببيروت.
91. المستدرك على الصحيحين ، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري ، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1411هـ ، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا .
92. المسند ، للإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني ، مؤسسة قرطبة بمصر .
93. المسند ، للإمام أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، دار المأمون للتراث بدمشق ، الطبعة الأولى ، 1404هـ ، تحقيق : حسين سليم أسد .
94. المسند ، للإمام الحارث بن أبي أسامة ، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية بالمدينة ، 1413هـ ، الطبعة الأولى ، تحقيق د. حسين أحمد صالح الباكري .
95. المسند ، للإمام الشافعي ، للإمام محمد بن إدريس الشافعي ، دار الكتب العلمية ببيروت .
96. المسند ، للإمام سليمان بن داود البصري الطيالسي ، دار المعرفة ببيروت.
97. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير ، للشيخ الإمام أحمد بن محمد ابن علي الفيومي ، دار المعرفة ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1403هـ .
98. المصنف ، للإمام أبي بكر بن عبد الرزاق بن همام الصنعاني ، المكتب الإسلامي ببيروت ، الطبعة الثانية ، 1403هـ ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي .
99. معالم التنزيل لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ، دار طيبة، 1411هـ
100. المعجم الكبير ، للإمام سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، مكتبة العلوم والحكم بالموصل ، الطبعة الثانية ، سنة 1404هـ ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد
101. المغني لموفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد ابن قدامة المقدسي الحنبلي ، دار الفكر ببيروت ، الطبعة الأولى، 1405هـ .
102. مكانك تحمدي ، أحمد محمد جمال ، دار الصحافة ، 1985م .(1/8)
103. منار السبيل ، لإبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان ، مكتبة المعارف بالرياض ، الطبعة الثانية ، 1405هـ ، تحقيق عصام القلعجي .
104. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل، للشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المعروف بالحطاب ، مطبعة السعادة ، 1328 هـ.
105. الموطأ، لإمام الأئمة وعالم المدينة مالك بن أنس رحمه الله، دار إحياء التراث العربي بمصر ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
(ن)
106. الناسخ والمنسوخ ، للإمام علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، دار الكتب العلمية ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1406هـ ، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري.
107. الناسخ والمنسوخ ، للشيخ هبة الله بن سلامة بن نصر المقري، المكتب الإسلامي ببيروت ، الطبعة الأولى ، 1404هـ، تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان .
108. النهاية في غريب الحديث ، للإمام مجد الدين المبارك بن محمد الجزري ، دار الفكر بلبنان ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي .
109. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للقاضي محمد بن علي بن محمد الشوكاني ، دار الجيل ببيروت ، 1973م .
(و)
110. الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي ، دار القلم ببيروت ، الطبعة الأولى ، سنة الطبع : 1415هـ، بتحقيق صفوان عدنان .
111. وسائل الإعلام والرؤية الإسلامية ، يحيى بن موسى الزهراني ، دار الوطن بالرياض ، الطبعة الأولى .
فهرس المواضيع
الموضوع ... الصفحة
المقدَّمة ... أ
التمهيد ... ذ
الفصل الأول ... 1
جريمة الزِّنا في القرآن .
المبحث الأول : معنى الزِّنا ... 2
المبحث الثاني : أدلة تحريم الزِّنا
الأدلة القرآنية
النهي عن ذرائع الزِّنا
مفاسد الزِّنا وأضراره ... 7
العلاقة بين جريمتي القتل والزِّنا
الدليل الثاني من القرآن ... 11
الدليل الثالث من القرآن ... 14
الدليل الرابع ... 16
الدليل الخامس ... 16
طريقة الشيطان في إغواء الإنسان ... 17
الدليل السادس ... 18
الدليل السابع : نصوص تحريم الفاحشة ... 18(1/9)
إطلاقات لفظ الفاحشة في القرآن الكريم ... 19
الدليل الثامن ... 21
حدُّ القذف دليل على خبث جريمة الزِّنا ... 22
الأدلة على تحريم الزِّنا وسوء عاقبته من سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ... 23
الزِّنا دمار الأمم وهلاك الشعوب ... 23
الزِّنا يُنقص الإيمان ... 23
عقوبة الزِّنا في البرزخ ... 24
أنواع الزِّنا ... 24
دليل الإجماع على تحريم الزِّنا ... 26
الزِّنا محرَّمٌ في الأديان السابقة
دليل العقل على قبح فاحشة الزِّنا ... 27
المبحث الثالث : عقوبة الزِّنا ... 29
الحبس والإيذاء عقوبته في بداية الأمر ... 29
استقرار الأمر على الجلد والرجم بإجماع العلماء ... 30
أقوال العلماء في ذلك ... 31
فائدة في تقديم الزانية على الزاني في بداية سورة النور
فائدة في جمع الآية بين الزاني والزانية ... 33
أحكام تتعلق بجلد المحدود ... 34
عقوبة التغريب ... 36
النهي عن الرأفة بالزناة ... 38
الحكمة من شهود طائفة إقامة الحد ... 39
تعريف الرَّجم ... 39
أربعة أدلة قرآنية على مشروعية الرَّجم للمحصن ... 40
الأدلة من السنة النبوية
شروط الإحصان ... 45
دليل الإجماع على مشروعية الرَّجم ... 47
شبهات منكري الرَّجم والرد عليها ... 47
هل يُجْمَع بين الرَّجم والجلد ؟ ... 49
متى تُرجم الزانية الحامل ؟ ... 50
المبحث الرابع : حكم نكاح الزاني والزانية ... 52
الدليل القرآني على تحريم هذا النكاح
أقوال العلماء في المسألة
الترجيح ... 56
إشكال وجوابه ... 58
المبحث الخامس : بم يثبت الزِّنا ؟ ... 61
الشهادة وشروطها ... 61
الإقرار وشروطه ... 64
ليس من الإقرار قوله : أصبتُ حداً ... 66
ظهور الحمل ... 66
الامتناع عن الملاعنة ... 67
الفصل الثاني ... 68
التشريعات القرآنية الواقية من جريمة الزِّنَا
المبحث الأول : التقوى ... 71
أثر التقوى في الاستقامة والبعد عن المحرمات ... 73
أثر التقوى في تحقيق العفة ... 75
المبحث الثاني : الصوم ... 79
أثره في تحقيق العفة ... 79
إلماحةٌ قرآنيةٌ تدل على هذا الأثر ... 81
سببان لكون الصوم من أسباب البعد عن الزِّنا ... 81(1/10)
جعله في كثير من الكفارات دليل على قوة تأثيره في السلوك ... 82
كثرة الأكل تُميِّل إلى الشهوات ... 83
المبحث الثالث : التكافل والإنفاق ... 87
الحث على هذه العبادة ... 87
أثر الفقر في انتشار العُهر ... 88
أثر الإنفاق تحقيق الإعفاف ... 90
الإرشاد إلى العناية بالأرامل والأيتام ... 91
أخذ الزوجة ما يكفيها من مال زوجها إذا احتاجت وإن لم يعلم ... 92
المبحث الرابع : حدُّ الزِّنا وعقوبته ... 93
حدُّ الحدِّ
وجوب إقامة الحدود ... 95
الترغيب في إقامة الحدود ... 101
الترهيب من تضييعها ... 102
ترهات العلمانيين ودحضها ... 109
المبحث الخامس : النكاح ... 112
منة الله به على عباده ... 112
أثر الزواج في تقليل نسبة الزِّنا ... 115
المطلب الأول : الأمر بالنكاح ... 122
المطلب الثاني : النكاح سنة الأنبياء ... 126
إشكال في مدح الله تعالى ليحيى عليه السلام بكونه حصوراً ودفعه ... 128
المطلب الثالث : عرض الرجل بناته للصالحين ؛ تسهيلاً للزواج ... 131
المطلب الرابع : التعدد . ... 135
شبهات المعارضين له ... 137
بيان أهمية التعدد ... 138
الحكمة من تعدد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 139
شروط التعدد ... 141
المطلب الخامس جواز نكاح الإماء عند خوف العنت ... 144
المطلب السادس : حرص القرآن على استمرارية العلاقة بين الزوجين ... 146
فرح الشيطان بالطلاق ... 146
الأمر بمراعاة الحقوق الزوجية ... 147
الترغيب في الصبر على المرأة ولو ساءت أخلاقها ... 148
الطلاق حق للزوج ... 150
لا طلاق إلا في حال استقبال العدة ... 152
الإبقاء على المطلقة في بيتها ؛ لتسهل الرجعة ... 153
عدد مرات الطلاق ... 155
ندب القرآن إلى الفيئة من الإيلاء ... 156
أنواع النشوز وعلاجه ... 157
المبحث السادس : الحجاب ... 162
الدليل الأول على فرض الحجاب من القرآن : آية الحجاب ... 162
بيان أن حكمها لا يختص بأمهات المؤمنين ... 163
الدليل القرآني الثاني ... 168
الدليل الثالث ... 172
مشروعية النقاب للنساء ... 173
الدليل الرابع ... 178
نصوص السنة الآمرة بالحجاب ... 179
حيل الشيطان في صدِّ الفتيات عن ارتداء الحجاب ... 187(1/11)
شروط الحجاب ... 191
فضائل الحجاب والحشمة ... 197
شبهة لأدعياء تحرير المرأة ... 199
المبحث السابع : الصبر ... 202
الصبر عن الشهوات هو العفة ... 202
المطلب الأول : الأمر به ... 203
المطلب الثاني : ثناء الله على الصابرين العفيفين ... 207
أهل العفاف أهل الفردوس ... 207
العفيفون من أهل ظلِّ الرحمن ... 210
المطلب الثالث : قصص العفيفين في القرآن الكريم ... 211
يوسف عليه السلام ... 211
ما اجتمع من الدواعي في هذه القصة ... 212
دفاع عن نبي الله يوسف عليه السلام ... 214
تبرئة كل من له تعلق بالقصة ليوسف عليه السلام ... 216
مريم عليها السلام ... 218
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ... 220
من عجائب الكون وغرائب الدنيا ... 221
المبحث الثامن : الاعتصام بالدعاء ... 223
أثر الدعاء في الوقاية من الفاحشة يتجلى في قصة يوسف عليه السلام ... 223
المبحث التاسع : التنشئة الصالحة ... 229
الاهتمام بتربية الصغار من أسباب نشأتهم على العفاف ... 230
القرآن يدعو للنأي بالناشئة عن كل ما يثير غرائزهم ... 232
المبحث العاشر : الاستئذان قبل دخول البيوت
عدم إعمال هذا الأدب ربما أفضى إلى الوقوع في الزِّنا ... 234
الأمر به ... 234
آداب الاستئذان ... 237
عقوبة من تطلع إلى دار قوم بلا استئذان ... 241
الاستئذان على المحارم ... 244
المبحث الحادي عشر : غض البصر ... 246
منة الله على عباده بهذه النعمة ... 246
الأمر بغض البصر ... 247
نظر الفجاءة ... 250
الأدلة على ذلك من السنة المطهرة ... 254
إجالة البصر في المحرمات نوع من الزِّنا ... 255
النظر من أقوى ذرائع الزِّنا ؛ ولذا سُدت ذرائعها ... 255
غض البصر كان معروفاً قبل الإسلام ... 258
فوائد غض البصر ... 259
ما يعين على غض البصر ... 260
أدلة تحريم إطلاق النظر مُحرِّمة لملامسة النساء بطريق الأولى ... 261
المبحث الثاني عشر : الحياء ... 263
قصة في الحياء خلدها القرآن ... 263
الحياء يحمل على التحلي بالفضائل ... 264
الحياء يحمل على العفة والطهر ... 266
المبحث الثالث عشر : القرار في البيوت للنساء ... 268
الأمر به ... 268(1/12)
المراد من آية القرار عموم النساء ... 269
الأدلة على القرار من السنة ... 270
لا تُمنع المرأة من الخروج إلى المسجد وبيتُها خير لها ... 270
أحكام لا بد من مراعاة المرأة لها إذا أرادت الخروج ... 272
من طرائف ما يتعلق بالقرار ... 275
خير للمرأة مراعاة بيتها وشؤون زوجها وولدها ... 277
ترغيب الصحابة في لزوم المرأة بيتها ... 279
ثلاث لطائف قرآنية في ذلك ... 280
القرار في البيوت موافق لفطرة المرأة وتكوينها الفسيولوجي ... 282
مناداة الغربيين بخطر خروج المرأة ! ... 284
تحريم سفر المرأة بدون زوج أو محرم ... 288
الفوائد المتولِّدة عن قرار النساء في بيوتهنَّ ... 290
الاختلاط بين الجنسين نتيجة حتمية لكثرة خروج النساء ، والاختلاط من ذرائع الزنا ... 290
الاختلاط معيب في الأمم السابقة ... 292
الفصل الثالث ... 293
النهي القرآني عن ذرائع الزِّنا
المبحث الأول : الخمر والمسكرات ... 294
العقل من أكبر النعم الربانية ... 294
تعريف الخمر ... 295
الإجماع على تحريمها ... 296
التدرج في تحريمها ... 296
أدلة التحريم ... 297
حدُّها وعقوبتها ... 303
لا فرق بين الخمر والمخدرات ... 304
صلة الخمر بالزِّنا وتضييع الأعراض ... 304
صلتها بقبائح الفعال ... 305
المبحث الثاني : التبرج ... 311
الأدلة القرآنية على تحريمه ... 311
الاختلاف في قوله تعالى : { إلا ما ظهر منها } ... 313
من هم الذين تكشف المرأة عندهم ؟ ... 316
التبرج فاحشة بنص القرآن ... 319
التبرج انتكاس في الفطر ومسخ للقيم ... 321
أدلة تحريمه من السنة النبوية ... 322
سبب انتشار التبرج ... 325
مفاسده ... 328
المبحث الثالث : الخضوع بالقول ... 329
دليل تحريمه ... 329
صور الخضوع القولي ... 329
تبادل رسائل الغرام مُطمِع كالخضوع بالقول ... 332
المبحث الرابع : انعدام الغيرة على الأعراض ... 334
تعريف الغَيْرة ... 334
أثر انعدام الغيرة في فشو الفواحش ... 334
الغيرة تحمل على صيانة الأعراض ... 336
المبحث الخامس : ضرب النساء بأرجلهن لإبداء صوت زينتهن ... 344
دليل النهي عن ذلك ... 344
مما يدخل في النهي الضرب بالحذاء بقصد الإبداء ... 346(1/13)
الخاتمة ... 347
الفهارس ... 350
فهرس المصادر والمراجع ... 351
فهرس المواضيع ... 365(1/14)