العلامة القرضاوي: الحكم بأن دية المرأة نصف دية الرجل لا يسنده نص صحيح الثبوت
تاريخ النشر: الإثنين 23 مايو ,2005 تمام الساعة 04:26 صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة الدوحة
عبدالله مهران :
أعد فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بحثا جديدا عن دية المرأة، قال في مقدمته: لقد دعاني المجلس الأعلى لشؤون الأسرة في قطر، إلى المشاركة في «مائدة مستديرة» عقدت في تاريخ 2004/12/22م لمناقشة موضوع «دية المرأة في الشريعة الإسلامية»، وهل تنصيف ديتها بالنسبة إلى دية الرجل: أمر لا يقبل الاجتهاد، أو هو أمر يمكن أن نجدد فيه اجتهادا في عصرنا، اقتضاه تغير الزمان والمكان والإنسان؟
وهذا ما دعاني إلى البحث في القضية من خلال الرجوع إلى مصادرنا الأصلية المعصومة: القرآن الكريم والسنة المشرفة، وما يخدمهما من مصادر التفسير، وشروح الحديث، ومن خلال مراجعنا الفقهية على اختلاف المذاهب والمشارب: فقه الصحابة والتابعين والأتباع، ومن بعدهم من الأئمة المتبوعين وغير المتبوعين.
وقد غصت في كتب التفسير والحديث، وفي كتب السنن والآثار، وفي كتب الفقه والأصول، مناقشا الموضوع من جذوره، وراجعا إلى الأدلة التي تستنبط منها الأحكام، والتي يعتمد عليها أهل الفقه والاجتهاد والفتوى: القرآن والسنة والإجماع والقياس والمصلحة وأقوال الصحابة.
وبعد مناقشة الأمر بحياد وموضوعية، تبين لي: أن هذا الحكم الذي اشتهر لدى المذاهب المتبوعة: أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، والذي استمر قرونا معمولا به: لا يسنده نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، من كتاب ولا سنة، كما لا يسنده إجماع ولا قياس، ولا مصلحة معتبرة، ولا قول صحابي ثابت، وإنْ كان الراجح أن قول الصحابي ليس بحجة في دين الله، لأنه يتوارد عليه الخطأ والصواب، ولا معصوم غير رسول الله، ما لم يجمع الصحابة على شيء...، فيكون إجماعهم هو الحجة الملزمة.(1/1)
وقد تساءلت: لماذا سكت المجتهدون والمجددون طوال العصور عن هذه القضية، ولم تظهر فيها آراء تجديدية، كما ظهر في قضية الطلاق عند الإمام ابن تيمية ومدرسته؟
تبينت أن قتل المرأة خطأ أو شبه عمد في الأزمنة الماضية: كان من الندرة بمكان، وليس كعصرنا الذي يكثر فيه القتل الخطأ في حوادث السير، وتصاب فيها المرأة كما يصاب الرجل، فلم تثر مشكلة حول الموضوع، حتى تستدعي اجتهادا جديدا من العلماء.
هذا، وبعد أن كتبت البحث وجدت أحد الباحثين الجادّين، قد ألف كتابا، أهداه إليّ الأخ الشيخ وليد هادي من علماء قطر، وقال: إنه يتفق مع رأيك، وعنوانه «دية المرأة في ضوء الكتاب والسنة - تمام دية المرأة، وتهافت دعوى التنصيف» تأليف مصطفى عيد الصياصنة، وأشهد أن الباحث الكريم لم يأل جهدا في التدليل على دعواه، ومناقشة دعوى الآخرين وأدلتهم بالتفصيل، والرد عليها ردا علميا موثقا، وخصوصاً فيما يتعلق بالناحية الحديثية والأثرية. وقد اشتققت منه بعض ما أفادني رغم إكمال بحثي.
وأود هنا: أن أشير إلى مسألة مهمة، وهي: أني بهذا البحث، والوصول فيه إلى رأي يخالف رأي جمهور علمائنا وأئمتنا؛ لا يعني هذا بحال: الطعن في فقه السلف أو الخلف من علماء الأمة، الذين استفرغوا وسعهم في طلب الحق، ولم يألوا جهداً في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، بحسب زمانهم ومكانهم وأحوالهم الفكرية والاجتماعية والسياسية وغيرها. وقد تركوا لنا ثروة فقهية رائعة، لا يوجد لها نظير ولا قريب منها عند أي من الأمم. وهم مأجورون على اجتهاداتهم أصابوا فيها أو أخطأوا، وإنما لكل امرئ ما نوى.(1/2)
وليس من مسلكي الفكري قط في أي فترة من حياتي: التنقص من جهود أسلافنا، أو التقليل من قيمة تراثنا، فهذا أبعد شيء عن منهجي الفكري، ومسلكي الخلقي. فأنا أقدر كل القدر، وأكن كل الاحترام للعلماء في سائر عصورهم، وأتتلمذ عليهم، وأقتبس منهم، وأثني عليهم، وأدعو لهم بحسن المثوبة من الله تعالى، ولكنني لا أضفي عليهم العصمة فيما انتهوا إليه من آراء، فإنما هم بشر مجتهدون، يصيبون ويخطئون وإن كان الخطأ هو الأقل، والصواب هو الأكثر، ولهم الحجة، وبحسب المجتهد أن يكون خطؤه مغمورا في بحر صوابه.
وها أنا أقدم بحثي للقارئ الكريم الذي ينشد الحق، ويستفرغ الجهد في تحري الحقيقة والوصول إليها، ناظرا إلى ما قيل لا إلى من قال، متبنيا قول ابن مسعود رضي الله عنه: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، مؤكداً أن هدفي الوحيد هو خدمة الحقيقة العلمية، وإنصاف شريعة الإسلام في موقفها من المرأة وشخصيتها ومكانتها وحقوقها، التي ضاع الحق فيها بين الطغيان والإخسار، أو بين الإفراط والتفريط.
دية المرأة في الشريعة الإسلامية
وأورد فضيلته رأي الجمهور في دية المرأة قائلا:
اشتهر في تراثنا الفقهي: حكم شرعي، شاع بين المسلمين، وهو أن دية المرأة نصف دية الرجل، وقد أخذت به مذاهبهم المتبوعة كلها: المذاهب الأربعة الشهيرة، والمذهب الظاهري والمذهب الزيدي، والمذهب الجعفري، والمذهب الإباضي.
واستقر هذا الحكم طيلة القرون الماضية، حتى ظن الكثيرون: أن هذا من الأحكام القطعية، التي لا يجوز الاجتهاد فيها، وقد نقل بعض الأئمة: أنه مجمع عليه! فهل يجوز لنا أن نجدد اجتهادا في هذه المسألة: بأن ننظر فيها نظرة جديدة من خلال مصادر تشريعنا، وهي: القرآن والسنة والإجماع والقياس، والمصادر التبعية الأخرى: الاستصلاح وغيره، أو لا يجوز لنا مجرد التفكير في البحث والاجتهاد فيها من جديد؟
من المعروف: أن عندنا في الفقه الإسلامي دائرتين متمايزتين:(1/3)
أولاهما: دائرة مفتوحة، يدخلها الاجتهاد والتجديد، وتتغير فيها الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف. وهي دائرة الأحكام الظنية، التي أُِخذ الحكم فيها من نصوص ظنية الثبوت، أو ظنية الدلالة، أو ظنيتهما معاً.أو استنبطت مما لا نص فيه عن طريق القياس والاستصلاح وغيرها.
وهذه الدائرة يدخل فيها معظم أحكام الشريعة. وهذا من فضل الله ورحمته بالأمة: أن جعل في مصادر شريعتها ـ وبالتالي في أحكامها ـ متسعا للاجتهاد واختلاف الآراء، ليتسع صدر الشريعة للمشدد والميسر، والآخذ بالظاهر، والناظر إلى المقصد، ولهذا لم يرد الله أن يثبت الأحكام بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، حتى لا يقطع الطريق على الاجتهادات المتجددة بتجدد الزمان والمكان والإنسان.
ومن هنا وجدت الأحكام المتعددة: والمذاهب المختلفة، والأقوال المتباينة، بين المذاهب بعضها وبعض، وداخل المذهب الواحد.
وربما ضاق بعض الناس بهذا الخلاف المنتشر، ولكنه لو أنصف وتدبر، لوجد في هذا: سعة ورحمه للأمة، فقد يصلح مذهب أو قول لزمن، ولا يصلح لغيره، ويصلح لبلد، ولا يصلح لآخر، ويصلح في حال ولا يصلح في أخرى. ولهذا ألف بعض العلماء كتابا سماه (رحمة الأمة باختلاف الأمة).
ودائرة مغلقة لا تقبل اجتهادا ولا تجديدا
والدائرة الأخرى: دائرة مغلقة، لا يدخلها الاجتهاد ولا التجديد، ولا تتغير أحكامها بتغير الزمان أو المكان أو الحال، لأنها تمثل الثوابت العقدية والفكرية والعملية للأمة، وهي التي تمسكها على الجادة؛ حتى لا تتحول إلى (أمم)، بل تبقى أمة واحدة في الظاهر والباطن.
وهذه الأحكام هي (القطعيات) أي التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهي قليلة جدا، ولكنها مهمة جدا، لأنها التي تحفظ على الأمة وحدتها العقلية والوجدانية والسلوكية.(1/4)
ولهذا يجمع العلماء على أن من أنكر هذه الأحكام القطعية، أو استخف بها: يحكم عليه بالكفر، لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وهو بهذا يكذب الله تعالى ويكذب رسوله، ومثل هذا لا يصدر إلا من كافر.
ففي أي الدائرتين نضع حكم هذه القضية التي نبحث فيها اليوم، وهي: أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؟ هذا ما سنلقي عليه الضوء في الصحائف التالية.
تشريع كان في الجاهلية وأقره الإسلام
وأبدأ هذا البحث بتمهيد يوضح مأخذ التشريع في الديات.
كان تشريع الديات في القتل الخطأ، مما تعارف عليه العرب في الجاهلية، وكان منهج الإسلام مع ما كان عليه أهل الجاهلية يتمثل في واحدة من ثلاث:
1- إما أن يقر ما كانوا عليه، إذا وجده صالحا، كما أقر نظام (المضاربة) أو (القراض) وهو اشتراك العمل والخبرة من جانب، ورأس المال من جانب آخر، للقيام بمشروع مشترك. وهذا يعتبر مما يسميه العلماء: السنة التقريرية.
ومن ذلك: أن يختار أصلح ما عندهم من أنواع المعاملات ويقرها، ويبطل غيرها مما لا يتفق وأهدافه ومبادئه، كما فعل في شأن (النكاح) فقد كان هناك أربعة أنواع، أبطل ثلاثة منها، وأبقى الرابع، وهو النكاح المعروف اليوم، والمتوارث من عهد النبوة.
2- وإما أن يلغيه ويبطله، كما فعل في الأنكحة الثلاثة من نكاحات الجاهلية «الاستبضاع والشغار والبغاء» ومثل إكراه الفتيات (الإماء) على البغاء، ليتكسب سادتهن من وراء بغائهن.
3- وإما أن يدخل عليه من التعديلات، بحذف بعض الأشياء، أو إضافة بعض الأشياء، حتى يستقيم العمل أو التصرف مع ما جاء به الإسلام.
كما في كثير من المعاملات والبيوع وغيرها. فقد كانوا يتعاملون بالسلم، ولكن بغير قيود تضبطه، فقال عليه الصلاة والسلام: «من أسلف فلا يسلف إلا في كيل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم».
وكانوا يتعاملون بمبدأ القصاص من 33»(1/5)
وموضوع الديات من الموضوعات التي أقرها الإسلام من عمل الجاهلية، إلا أنه ضبطه بمجموعة من الأحكام تحدد نطاقه، وتحفظ حدوده.
وقد عُني القرآن الكريم نفسه بهذا الأمر، وجاءت فيه آية محكمة من كتاب الله: {وَمَا كَانَ لمؤمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} «النساء: 92» كما جاءت عدة أحاديث عن الدية ومقدارها، وعلى من تجب، ولمن تجب؟ إلى آخره.
ولابد لمن يريد تجديد الاجتهاد في هذه القضية (دية المرأة) أن ينظر فيها من خلال أدلة الأحكام أو مصادر التشريع كلها: القرآن والسنة والإجماع والقياس. والمصادر التبعية كلها: المصلحة المرسلة والاستحسان وغيرهما.
نظرة في المصدر الأول- القرآن
ومن نظر في القرآن وجد فيه الآية الكريمة التي ذكرناها من سورة النساء، وهي آية بينة محكمة واضحة الدلالة.
والمتأمل في هذه الآية القرآنية: يرى أنها لم تميز في الحكم بين رجل وامرأة في وجوب الدية والكفارة، والدية هي: حق أولياء الدم، والكفارة هي: حق الله.
إنما فرقت بين المؤمن الذي يعيش في دار الإسلام ومجتمع المسلمين، والمؤمن الذي يعيش في دار الأعداء المحاربين، وفي رحاب مجتمعهم، إذا قتله المسلمون أو أحدهم خطأ، فهنا تجب الكفارة على القاتل المخطئ، ولا تجب الدية، لأنها تدفع لأهله المحاربين للمسلمين، فيفتون بها في حرب المسلمين.
فلا فرق في نظر القرآن في العقوبة الدنيوية بين الرجل والمرأة في الدية، كما لا فرق بينهما في القصاص، فإن الذي يقتل المرأة يقتل بها قصاصا، سواء كان قاتلها رجلا أم امرأة.
حتى لو أن قاتلها كان زوجها، يقتل بها، وقد فعل ذلك سيدنا عمر رضي الله عنه، فقتل رجلا اعتدى على امرأته فقتلها.
نظرة في السنة النبوية(1/6)
ولكن الخلاف في تمييز دية الرجل عن دية المرأة: جاء من ناحية النظر في السنة النبوية، وما ورد في ذلك من أحاديث استنبط منها جمهور العلماء ذلك الحكم.
ومن ثم وجب على الفقيه المعاصر الذي يريد تجديد اجتهاد في هذا الحكم الذي انتشر واشتهر العمل به قرونا طويلة، أن ينظر نظرة مستوعبة مستقلة في هذه الأحاديث: هل هي صحيحة الثبوت لا يطعن في سندها؟ وهل هي صريحة الدلالة لا احتمال في دلالتها على الحكم؟
وإذا نظرنا في الصحيحين (صحيحي البخاري ومسلم): لم نجد في أي منهما: أيّ حديث عن التمييز بين دية المرأة ودية الرجل: لا حديثا مرفوعا ولا موقوفا، ولا مسندا ولا معلقا من أحاديث البخاري، ولا من أحاديث الدرجة الأولى في مسلم (أحاديث الأصول) ولا من أحاديث الدرجة الثانية (أحاديث التوابع).
بل إذا نظرنا في كتب السنن الأربعة: سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، لم نجد فيها حديثا يميز في الدية بين المرأة والرجل.
وانتهى عصر أئمة السنن الأربع، وآخرهم النسائي «303 هـ» ثم انتهى القرن الرابع الهجري، ظهر جماعة من الأئمة المحدثين الكبار المكثرين، أمثال: أبي يعلى في مسنده «ت307 هـ» وأبي بكر بن خزيمة في صحيحه «ت 311 هـ» وأبي جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار «ت321 هـ» وأبي حاتم ابن حبان في صحيحه «ت354 هـ» وأبي القاسم الطبراني في معاجمه الثلاثة «ت360 » وأبي الحسن الدارقطني في سننه «ت 385 » وأبي عبد الله الحاكم في مستدركه «ت 404» ولم يرو واحد من هؤلاء أية أحاديث في تنصيف دية المرأة.
ثم جاء الحافظ الكبير الإمام البيهقي «458 هـ» ليروي لنا في «سننه الكبرى» حديثا عن معاذ بن جبل عن النبي [ قال: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» رواه البيهقي من طريق عبادة بن نسّي، قال: وفيه ضعف، وفي الباب التالي: أشار إلى إسناد هذا الحديث، وقال: لا يثبت مثله.
هذا ما ثبت في الحديث المرفوع عن دية المرأة خاصة، أعني: دية النفس.(1/7)
نظرة في الإجماع
وإذا لم نجد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية: نصا ثابتا يدل على هذا الحكم: أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، فهل يمكن الاعتماد على المصدر الثالث في ذلك، وهو الإجماع؟
ولا نريد أن نناقش هنا قضية الإجماع وما فيها من كلام كثير عند الأصوليين: في إمكانه، وفي وقوعه بالفعل، وفي العلم به إذا وقع، وفي حجيته بعد التأكد من وقوعه. وقد ذكر ذلك الغزالي في «المستصفى» والآمدي في «الإحكام».
وقد قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع فقد كذب: ما يدريه: لعل الناس اختلفوا، وهو لا يعلم. فإن كان ولابد، فليقل: لا أعلم الناس اختلفوا.
ومن تأمل ما كتبه الإمام الشوكاني عن «الإجماع» في «إرشاد الفحول»: وجد أنه يميل مع المخالفين في إثباته أكثر من ميله مع الموافقين، انظر ما قاله في إمكان العلم به إذا وقع. قال: فإذن العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم، وذلك متعذر قطعا، ومن ذاك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب، وسائر البلاد الإسلامية؟ فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم، فضلا عن اختبار أحوالهم، ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم، ومن لم يكن من أهله، ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به، والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد، بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم، فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة، فضلا عن الإقليم الواحد، فضلا عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام. ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس، فضلا عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل، وبكيفية مذهبه، وبما يقوله في تلك المسألة بعينها.(1/8)
وأيضا قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه، كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام، فإنهم قد يعتقدون شيئا إذا خالفهم فيه مخالف خشى على نفسه من مضرتهم.
على ذلك:
هذا ما استند إليه العلامة ابن قدامة الحنبلي في كتابه (المغني) فقال: قال ابن عبد البر، وابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة المسلمة: نصف دية الرجل.
قال: وحكى غيرهما عن ابن عُليه 13 «ت193 هـ» والأصم «ت 201 هـ» أنهما قالا: ديتها كدية الرجل؛ لقوله عليه السلام: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل».
قال ابن قدامة: وهذا قول شاذ، يخالف إجماع الصحابة، وسنة النبي [. فإن في كتاب عمرو بن حزم: «دية المرأة على النصف من دية الرجل». وهو أخص مما ذكروه، وهما في كتاب واحد، فيكون ما ذكرنا: مفسرا لما ذكروه، مخصصا له. انتهى.
ولا يمكن أن يثبت الإجماع، وقد خالف فيه هذان الإمامان، وإنما خالفا الجمهور في ذلك؛ لأنه لم يثبت لديهما دليل على التمييز بين الذكر والأنثى.
وقول ابن قدامة: هذا قول شاذ: مردود، إذ لا وجه لوصفه بالشذوذ، فكثيرا ما ينفرد الإمام الواحد عن جمهور الأمة بالقول المخالف ولا يوصف بالشذوذ، وهذا مروي كثيرا عن فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ومن المعروف: أن الإمام أحمد له (مفردات) في سائر أبواب الفقه قد انفرد بها عن الأئمة الآخرين، ونظمها بعض الحنابلة في كتاب معروف.
ودعوى مخالفة إجماع الصحابة غير مسلّمة، فلم يثبت أنهم أجمعوا، بل لم يثبت عن واحد منهم تنصيف الدية للمرأة بسند صحيح صريح. كما سنبين بعد.
وكذلك دعوى مخالفة سنة النبي (ص) في التفريق بين الرجل والمرأة: فقد بينا من قبل كلام أئمة الحديث المعتبرين: أنه لم تصح سنة عن رسول الله (ص) في التفريق بين الرجل والمرأة.(1/9)
وأما ما قاله ابن قدامة عن حديث عمرو بن حزم، وأن فيه: «دية المرأة على النصف من دية الرجل..» إلخ...، فنقول: قال الحافظ ابن حجر: في التلخيص حديث عمرو بن حزم: أن النبي [ قال: «دية المرأة نصف دية الرجل» هذه الجملة ليست في حديث عمرو بن حزم الطويل، وإنما أخرجها البيهقي من حديث معاذ بن جبل، وقال: إسناده لا يثبت مثله. انتهى.
وهنا نقطة في حديث عمرو بن حزم، أحب أن أنبه عليها وهي: أن هذا الحديث الذي استدل به من استدل، إنما كتبه الرسول ـ إذا صح سنده ـ ليبين فيه الديات «أو العقول» وأنواعها ومقاديرها، وحكم كل منها، فإذا خلا من التمييز بين دية المرأة ودية الرجل، في مقام يجب فيه البيان ؛ لأنه مكانه وأوانه: كان ذلك دليلاً واضحاً على عدم الفرق، فقد اتفق علماء الأصول على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ولعل هذا هو ما دفع بعض المعارضين لتسوية المرأة بالرجل: أن يجعلوا جملة «دية المرأة نصف دية الرجل» من كتاب عمرو بن حزم، حتى لا يخلو الكتاب من هذا الحكم، وقد أنكر ذلك الحفاظ، وعلى رأسهم علامة المتأخرين، وخاتمة الحفاظ المتقنين: ابن حجر العسقلاني، الذي نفى فيما نقلنا عنه في «تلخيص الحبيبر»، وجود هذه الجملة في كتاب عمرو بن حزم، وأنها لا توجد إلا فيما رواه البيهقي عن معاذ بإسناد لا يثبت. وقوله هذا ينفي أن يوجد حديث مرفوع في تنصيف دية المرأة. وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير في «المسألة الثامنة»: مذهب أكثر الفقهاء: إن دية المرأة نصف دية الرجل. وقال الأصم وابن علية: ديتها مثل دية الرجل.
حجة الفقهاء: أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك. ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل، فكذلك في الدية.(1/10)
وحجة الأصم وابن علية: قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية. والله أعلم. انتهى. وكأنه يؤيد هذا الرأي؛ لأنه لم يرد عليه ولم يتعقبه.
وقد عقب بعض الأخوة من القضاة القطريين ممن كتبوا في الموضوع في الصحف القطرية «القاضي سعيد البديوي المري» فركز على أن القول بالتسوية بين دية المرأة ودية الرجل معارض للإجماع.
ومما استند إليه أن الفقيهين اللذين اعتمد عليهما من نقضوا الإجماع، وهما: ابن علية والأصم: مجروحان عند العلماء، لا يعتمد عليهما ولا يعتد بخلافهما.
فابن علية المذكور ليس هو الأب إسماعيل بن علية الإمام العلامة الثبت كما وصفه الحافظ الذهبي وغيره، بل هو ابنه إبراهيم الذي جرحوه واتهموه.
والحق الذي يقتضيه التأمل والإنصاف أن المقصود في هذا السياق هو الأب، وليس الابن، لأن ابن علية حقيقة هو الأب، إسماعيل بن علية، نسب إلى أمه، كما هو معلوم، فإذا قيل: ابن علية انصرف الذهن إليه، لأنها الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا بقرينة. أما إبراهيم المذكور، فليس ابن علية على الحقيقة، وإنما هو ابن ابن علية.
وابن علية الأب هو الفقيه والمحدث، وأما الابن فلم يعرف بالفقه وإنما قيل عنه: المتكلم.
قال الذهبي في «الميزان» عن الأب: كان حافظا فقيها كبير القدر. ونقل المزي في «تهذيب الكمال» عن شعبة قال: ابن علية ريحانة الفقهاء.
على أن هنا مسألة مهمة في الاحتجاج بالإجماع، وهو أن الإجماع لابد أن يكون له مستند شرعي يعتمد عليه من كتاب بين أو سنة محكمة، أو قياس صحيح. أما ما خلا من ذلك كله، وكان مبنيا على مجرد الرأي فمثله قابل للنزاع والمعارضة.
فكيف إذا كان طاهر القرآن، وصحيح السنة، والقياس السليم، كلها تعارضه كما في قضية دية المرأة، على ما بيناه في موضعه.(1/11)
سلمنا أن صاحب هذا القول هو ابن علية الابن، فهل يخرجه اعتزاله أو ابتداعه عن اعتباره في الإجماع، وكذلك الأصم شيخ المعتزلة؟
ونقول: إن الأصوليين قد بحثوا هذه المسألة، واتفقوا على أن من كانت بدعته تقتضي تكفيره لا يعتبر في الإجماع بلا خلاف، لعدم دخوله في الأمة المشهود لها بالعصمة.
وأما إذا اعتقد ما لا يقتضي التكفير بل التضليل والتبديع، فاختلفوا فيه على أقوال، ذكرها الشوكاني:
الأول: اعتبار قوله في الإجماع لكونه من أهل الحل والعقد. قال الصفي الهندي: وهو الصحيح.
الثاني: لا يعتبر كما هو رأي الأستاذ «أبي منصور» وغيره، وحكاه أبو ثور عن أئمة الحديث.
ع وغيرها من شؤون النساء.
وكذلك شهادات النساء وحدهن في باب الجنايات من بعضهن على بعض في المجتمعات التي لا يحضرها الرجال عادة، مثل الأعراس والحمامات، فيشهدن بما رأين، ولا يهدر القضاء شهادتين، حتى لا تضيع الحقوق.
نظرة في أقوال الصحابة
بقى أن ننظر إلى ما جاء عن الصحابة في المسألة، وهنا يحق لنا أن نسأل: هل يعتبر قول الصحابي حجة أم لا؟
نظرة في الحكمة والمصلحة
وإذا نظرنا إلى دليل المصلحة التي يتوخاها الشرع في أحكامه جميعا، ولا سيما أحكام المعاملات، وإلى الحكمة المقصودة من وراء جعل دية المرأة على النصف من دية الرجل: وجدنا من الفقهاء من يقول: إن المنفعة التي تفوت بقتل الرجل أكبر من المنفعة التي تفوت بقتل المرأة ؛ لأن الرجل هو الكاسب والكادح، وهو الذي يعول الأسرة، وينفق عليها، فالخسارة بموته أكبر من خسارة المرأة.(1/12)
وأذكر في ذلك واقعة حدثت منذ بضعة عشر عاما، في عمان عاصمة الأردن، وكنا مجموعة من العلماء منهم: الشيخ محمد الغزالي، والشيخ مصطفى الزرقا، والأستاذ محمد المبارك، ود. معروف الدواليبي، والأستاذ عمر الأميري، والفقير إلى الله تعالى، وقد دار نقاش حول ما أثاره الشيخ الغزالي في كتابه «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» الذي أحدث ضجة كبرى في الأوساط الدينية، وخصوصا السلفية. ومن ذلك ما اختاره في موضوع دية المرأة وأنها مثل دية الرجل، وقد توليت الدفاع عن شيخنا الغزالي في هذا الموقف وأن القول بتنصيف ديتها ليس عليه دليل من كتاب أو سنة أو إجماع.
وكان العلامة الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا يتبنى وجهة نظر الفقه التقليدي في ذلك. وقد أيدها بأن الفقهاء راعوا اعتبارا مهما في الأخذ بتنصيف دية المرأة، وهو أن العائلة بفقد الرجل ينهد ركنها، وتفقد عائلها، بخلاف فقد المرأة التي تعال ولا تعول.
الأمي قتلت: أتكون نصف الرجل؟ أم تكون لها دية كاملة؟
وقال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» قال العلماء: أي يتساوى دماؤهم في القصاص والحرمات، لا بفضل شريف على وضيع. وذلك لأنهم سواء في المكانة، وفي الحرمة والتحريم والحقوق، ومقتضى هذا ألا نفرق هنا بين ذكر وأنثى، فليس دم المرأة أرخص من دم الرجل، حتى تكون عقوبة الاعتداء عليها أقل من عقوبة الاعتداء على الرجل، ولو صح ذلك لم يكن هذا الحديث صحيح المعنى ؛ لأن دماء المسلمين في هذه الحالة غير متكافئة ولا متساوية.
علماء العصر ودية المرأة(1/13)
أحسب أنه قد تبين لنا من خلال مناقشاتنا السابقة لمسألة دية المرأة أهي مثل دية الرجل، أم على النصف منها كما هو المشهور في مذاهب الفقه الإسلامي أن هذا الرأي المشهور الذي أخذ به الجمهور لا يستند إلى نص من القرآن الكريم، ولا من السنة النبوية، ولا من إجماع متيقن، ولا من قياس مسلّم، ولا من مصلحة معتبرة. وبقيت معنا الآية الكريمة من سورة النساء: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} «النساء: 92». وهو عام في قتل كل إنسان مؤمن، رجلاً أو امرأة، وكذلك الأحاديث التي ذكرت أن في النفس مائة من الإبل، وبقى كذلك أن وجهة الشريعة في عقوبة القتل أنها تنظر إلى «النفس الإنسانية» والعدوان عليها، عمداً أو خطأ، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى التي تميز بين الناس بعضهم وبعض. ولهذا كان القصاص من قاتل المرأة كالقصاص من قاتل الرجل، ولا فرق.
وهذا ما اتجه إليه كثير من علماء عصرنا، الذين لهم بصر بالنصوص، وبصر بالمقاصد، وبصر بالعصر.
رأي الشيخ رشيد رضا في المنار
وأولهم العلامة السيد محمد رشيد رضا، الذي قال في تفسيره عندما تعرض لآية قتل الخطأ ؛ وتعرض لرأي الفقهاء في دية المرأة، وأنها مثل دية الرجل، والأصل في ذلك أن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أكبر من المنفعة التي تفوت بفقد الأنثى، فقدرت بحسب الإرث. قال الشيخ رشيد: وظاهر هذه الآية: أنه لا فرق بين الذكر والأنثى 36.
اختيار الشيخ شلتوت(1/14)
وعرض لذلك الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت في كتابه «الإسلام عقيدة وشريعة» فقال رحمه الله تحت عنوان «دية الرجل و المرأة سواء»: «وإذا كانت إنسانية المرأة من إنسانية الرجل، ودمها من دمه، والرجل من المرأة والمرأة من الرجل، وكان «القصاص» هو الحكم بينهما في الاعتداء على النفس، وكانت جهنم والخلود فيها، وغضب الله ولعنته، هو الجزاء الأخروي في قتل المرأة، كما هو الجزاء الأخروي في قتل الرجل، فإن الآية في قتل المرأة خطأ، هي الآية في قتل الرجل خطأ.
ونحن ما دمنا نستقي الأحكام أولاً من القرآن، فعبارة القرآن في الدية عامة مطلقة لم تخص الرجل بشيء منها عن المرأة: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} «النساء:92 »، وهو واضح في أنه لا فرق في وجوب الدية بالقتل بين الذكر والأنثى.
نعم... اختلف العلماء في مقدار الدية، أهو واحد في الرجل والمرأة، أو ديتها على النصف من دية الرجل؟
وقد ذكر الإمام الرازي الرأيين في «تفسيره الكبير» فقال: مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل، وقال الأصم وابن عُلية: ديتها مثل دية الرجل.
وحجة الأكثر من الفقهاء أن علياً، وعمر، وابن مسعود، قضوا بذلك، وأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل فيهما، فكذلك تكون على النصف من الدية.
وحجة الأصم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.
وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتاً بالسوية .37
ترجيح الشيخ أبي زهرة(1/15)
وأيد هذا الرأي العلامة الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي ـ العقوبة» تحت عنوان «دية المرأة» قال: «يقول ابن قدامة في المغني ما نصه: قال ابن المنذر و ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل. وحكى غيرهما عن ابن عُلية و الأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل، لقوله عليه السلام «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن في كتاب عمرو بن حزم «دية المرأة على النصف من دية الرجل» وهي أخص مما ذكروه، وهما في كتاب واحد، فيكون ما ذكرنا مفسراً لما ذكروه مخصصاً له.
هذا نص ما قاله صاحب المغني، وقد ادعى فيه الإجماع، وقال صاحب البدائع في معنى هذا الإجماع: إن آراء الصحابة أعلنت من بعضهم، ولم ينكر سائرهم، فكان إجماعاً سكوتياً، وقد أنكر كثيرون حجية الإجماع السكوتي، وقد زكى ذلك النظر بدليلين آخرين:
أحدهما: أن المرأة في الميراث تأخذ نصف ميراث الرجل، فتكون في الناحية المالية مقدرة في التعويض بنصف دية الرجل.
ثانيهما: أن الدية تعويض عن المفقود، وتقويم لما نقص المجتمع بفقده، وذلك يقتضي أن يكون تعويض فقد المرأة أقل من تعويض الرجل، لأن منافع المرأة دون منافع الرجل، وتقدير هذا التعويض يكون بتقدير الميراث، وهو أن تكون على النصف.
ونرى من هذا النظر أنه نظر إلى المالية، ولم ينظر إلى الآدمية، وإلى جانب الزجر للجاني، والحقيقة أن النظر في العقوبة إلى قوة الإجرام في نفس المجرم، ومعنى الاعتداء على النفس الإنسانية، وهي قدر مشترك عند الجميع لا يختلف باختلاف النوع، فالدية في حد ذاتها عقوبة للجاني، وتعويض لأولياء المجني عليه أو له هو ذاته إذا كان ذلك في الأطراف، وعلى ذلك ينبغي أن تكون دية المرأة كدية الرجل على سواء، إذ هي عقوبة الدماء، ولأن المعتدي بقتل امرأة كالمعتدي بقتل رجل على سواء.(1/16)
ولذلك ترجح كلام عامة، وهي «مائة إبل». انتهى38 .
رأي الشيخ الغزالي
وهذا الرأي: أن دية المرأة مساوية لدية الرجل، هو الذي أبداه الداعية الإسلامي الكبير: الشيخ محمد الغزالي في كتابه: «السنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» حيث قال: فالدية في القرآن واحدة للرجل والمرأة، والزعم بأن دم المرأة أرخص، وحقها أهون: زعم كاذب مخالف لظاهر الكتاب 39.
رأينا الذي اخترناه
وهو الرأي الذي اخترناه، ودافعنا عنه في كتابنا «مركز المرأة في الحياة الإسلامية» وفي كتابنا «الشيخ الغزالي كما عرفته» حيث شددت أزره في رأيه الذي تبناه، ودافعت عنه من منطلق حديثي وفقهي.
وهو ما جليته وألقيت عليه أضواء كاشفة في هذا البحث، وأعتقد أن من قرأه بإنصاف وتأمل، وقارن بين الأقوال بعضها وبعض، ورد الفروع إلى أصولها، وبحث الأمور من جذورها، سينشرح صدره لما وصلت إليه.
وفي ذلك إنصاف للمرأة، وتكريم لها، واعتبار لإنسانيتها، وهو يتفق مع النظرة الإسلامية العامة للمرأة: فقد كرمها الإسلام إنسانا، وكرمها أنثى، وكرمها بنتا، وكرمها زوجة، وكرمها أما، وكرمها عضوا في المجتمع. وهو يتفق كثيرا، مع توجهات العصر، التي تعظم شأن المرأة، وتمنحها 195 » ، ومعنى «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» أن المرأة من الرجل، والرجل من المرأة، هي تكمله وهو يكملها، لا يستغني عنها ولا تستغني عنه. وذلك غاية التكريم.
لماذا لم يظهر اجتهاد جديد خلال القرون الماضية حول دية المرأة؟
وقد تساءلت في نفسي: إذا كان هذا الحكم الذي ذاع واشتهر ـ وهو تنصيف دية المرأة ـ لا يستند إلى دليل معتمد من قرآن أو سنة إجماع أو قياس، أو قول صاحب، أو مصلحة معتبرة، فكيف سكت عنه علماء الأمة طوال اثني عشر قرناً، ولم يبرز عالم بعد ابن علية والأصم، ينقد هذا الرأي ويدعو إلى اجتهاد جديد فيه، ينصف المرأة ويعطيها حقها، كما أعطاها في القصاص مثل الرجل سواء؟!!(1/17)
كما وجدنا من العلماء من نفذ وقوع طلاق الثلاث بلفظ واحد: ثلاثا، وهو ما استقر عليه العمل طيلة قرون، قبل ظهور شيخ الإسلام ابن تيمية، باجتهاده الجديد، الذي خالف فيه من تقدمه من علماء الأمة، حتى علماء مذهبه الحنبلي، وأنكر وقوع الإجماع قبله على ذلك؟
لماذا لم يظهر مثل هذا الاجتهاد في قضية تنصيف دية المرأة؟
والذي تبين لي أن القضية لم تلح على العقل المسلم، وتدفعه إلى البحث فيها من جذورها، ومناقشة أدلتها. لأنها ـ بحكم الواقع ـ حادثة نادرة الوقوع.
ذلك أن الدية تجب في حالتين:
1- حالة مجمع عليها، وهي القتل الخطأ.
2- وحالة مختلف فيها، وهي شبه العمد.
وحالة القتل الخطأ بالنسبة للمرأة نادرة الوقوع. ربما تمر السنون ولا تقتل امرأة خطأ، لعدم وجود ظروف وأسباب تعرضها لذلك.
بخلاف عصرنا الذي كثرت فيه حوادث السيارات ونحوها، مما يسبب قتل الكثيرين والكثيرات، على سبيل الخطأ، وهنا تجب الدية والكفارة.
وحالة شبه العمد: تتمثل في الشجار الذي يقع بين الأفراد أو بين العوائل والقبائل، ويتضاربون بالعصيّ الغليظة ونحوها من المثقّلات وليس بالسيوف والرماح، وهذا يقع عادة بين الرجال بعضهم وبعض. أما المرأة: فالغالب أنها إذا تشاجرت مع المرأة أن تشدها من شعرها، أو تعضها بأسنانها، أو تمزق ثيابها ونحو ذلك.
وإنما يحفز العلماء على الاجتهاد كثرة وقوع الأمر، كما حفز شيخ الإسلام ابن تيمية كثرة وقوع الطلاق ـ وخصوصاً الطلاق بالثلاث ـ وانهيار الأسرة المسلمة، ولجوء الناس إلى «المحلل» وغير ذلك ـ إلى الاجتهاد للخروج من هذه الأزمة في ظل الشريعة الإسلامية، برفض إيقاع هذه الطلاقات التي أوقعت الناس في الضيق.
شهر سيف الإجماع وخطورته على الاجتهاد(1/18)
وأود أن أذكر هنا للاخوة الذين يدافعون بحرارة عن الإجماع في قضية تنصيف دية المرأة ويشهرون هذا السيف في وجه الذين ينادون بالتسوية على ما يقتضيه ظاهر القرآن الكريم والسنة المطهرة: إن هذا السيف نفسه هو الذي شهره رجال المذاهب المتبوعة في وجه ابن تيمية ومدرسته، حين جدد الاجتهاد في مسائل الطلاق، التي كانت توقعها تلك المذاهب، ويفتي بها عامة العلماء: أنها واقعة لا محالة. مثل إيقاع طلاق الثلاث بلفظة واحدة، فتبين بها المرأة بينونة كبرى. ومثل ذلك الحلف بالطلاق، والطلاق المعلق، وكذلك الطلاق البدعي «طلاق الحائض ونحوها» فقد قال ابن تيمية بعدم وقوع الطلاق في ذلك كله، مخالفا مذهبه والمذاهب الأربعة وغيرها. وقد اتهم ابن تيمية من علماء زمنه بأنه خرق الإجماع الذي استمر عليه العمل ستة قرون قبله، ونال العلماء منه، وجرحوه، وعرضوه للمحاكمة، ودانوه، وأدخل السجن... إلى آخر ما هو معروف في سيرة ابن تيمية.
انظر ما قاله الحافظ ابن حجر في «الفتح» في قضية الطلاق البدعي، أو طلاق الحائض، في شرح حديث ابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض، وما فيه من كلام. قال: قال النووي: شذ بعض أهل الظاهر، فقال: إذا طلق الحائض لم يقع الطلاق؛ لأنه غير مأذون فيه، فأشبه طلاق الأجنبية. وحكاه الخطابي عن الخوارج والروافض.
وقال ابن عبد البر: لا يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال. يعني الآن.(1/19)
قال: وروي مثله عن بعض التابعين، وهو شذوذ. وحكاه ابن العربي وغيره عن ابن علية. يعني: إبراهيم بن إسماعيل بن علية، الذي قال فيه الشافعي في حقه: إبراهيم ضالّ؛ جلس في باب الضوّال «موضع كان بجامع مصر» يضل الناس! وكان بمصر. وله مسائل ينفرد بها، وكان من فقهاء المعتزلة، وقد غلط من ظن أن المنقول عنه المسائل الشاذة أبوه. وحاشاه. فإنه من كبار أهل السنة. انتهى ما نقله ابن حجر عن النووي 40. والذي يظهر لنا: أن الإمام النووي ـ رحمه الله ـ المتوفى في القرن السابع الهجري «ت676 هـ» هو أول من قال: إن ابن علية الم المنقول عن الفقهاء: إذا قيل: ابن علية إنه الأمام الكبير إسماعيل.
والحمد لله رب العالمين.
الدوحة - الشرق:
أعد السيد سعيد بن محمد البديوي القاضي برئاسة المحاكم الشرعية سابقاً دراسة حول دية المرأة، ناقش فيها رأي فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي القائل بأن دية المرأة مساوية لدية الرجل.
وننشر في ما يلي نص الدراسة التي بدأها قائلاً:
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:(1/20)
فإني أجد نفسي مضطراً إلى كتابة هذا المقال، حول قضية المساواة في الدية بين الرجل والمرأة، وإنما اضطررت إلى ذلك لما رأيت من كتابة فضيلة الشيخ العلامة يوسف القرضاوي - حفظه الله - في الموضوع، فإن فضيلة الشيخ علم من الأعلام، وكلام مثله جدير بالاحترام، وفي هذا تكمن الخطورة، إذ الزلل من العالم القدوة قد لا يجابه بالردود لمكانته العلمية، ومنزلته الإعلامية، غير أن الخطب ههنا يمنع من السكوت ويوجب الإقدام ولو على الضرغام، فالشيخ وإن كان - والله - حبيباً إلينا إلا أن الحق أحبُّ إلينا منه، ورد طالب العلم أو التلميذ على شيخه وإن كان عظيماً يعسر الإقدام عليه إلا أن المواقف قد تستوجبه، وقد رد العلماء من التلاميذ والأبناء على الشيوخ والآباء، ولم تكن تلك الردود مذمومة، إذ كان الباعث عليها تحقيق الحق، وإرضاء الله ولو سخط الخلق، ولله در محمد مولود في قوله:
رَدُّ الأجلاء على الأجلا
من الشيوخِ والأبينَ دلاّ
معْ قَبولِ كلِّ واحدٍ نَبِهْ
له على جوازِهِ أو طلبِهْ
رَدَّ على مالكٍ ابنُ القاسِمِ
وابنُ ابنِ عاصمٍ على ابنِ عاصمِ
وابنُ ابنِ مالكٍ على ابنِ مالكْ
ولم يَعِبْ ناقلُ علمٍ ذلكْ
وذاكَ عندي أنَّ حقَّ الحقِّ
مُقَدَّمٌ على حقوقِ الخلْقِ
إننا اليوم في عصر قد تكالبت فيه علينا الأمم، وطمع بنا كل من كان يضعُف عن الدفاع عن نفسه، إذ أقبل علينا الغرب يطعن في ديننا، ويشكك في ثوابتنا، بدعوى الحرية والمساواة، فحشد لذلك الحشود، وسن القوانين القائمة على جعل المرأة نداً للرجل، وخصماً لدوداً، لا جزءاً مكملاً، وسكناً ورحمةً، ومن ثم اصطدمت تلك القوانين التي فرضتها سيطرة الدول الغربية على العالم بتعاليم الإسلام، فنُعِتَ الإسلام بظلم المرأة، وعدم احترامها، وسلب حقوقها.(1/21)
فأخذت الدول الإسلامية تتسارع في نفي هذه التهم عنها، وتلمع صورتها عند الغرب تجاه قضية المرأة، بسن القوانين والتشريعات التي تنخر يوماً بعد يوم في ثوابت الأمة، وخضع كثير من علماء المسلمين وعامتهم لهذه الهجمة الشرسة، فمنهم من لم يعد له بالإسلام من العلاقة إلا الانتماء الشكلي أو الاسمي، ومنهم من يقف من ذلك الاتهام موقف المدافع القابع في قفص الاتهام، كلما اتهم بتهمة ساءته وتوجع منها، فإذا ما حاول الانفلات والظهور بمظهر البريء قام إلى ثوبه المشرقي الذي تدرع فيه، والمنسوج من نفيس الحرير فشق منه قطعة، وجعل مكانها رقعة من جلد خنزير أو كلب، والله المستعان.
قد لا يلام كثير من العوام على تنامي الشكوك في أنفسهم تجاه كثير من الثوابت الإسلامية، لما نراه من شدة وطئة الزمان عليهم، بل كيف يلام العوام على التشكك إذا كان العلماء أنفسهم يتنازلون عن الثوابت فضلاً عن غيرها مع مرور الأيام وتوالي الاتهام، وللأسف أننا لا نجد دولة إسلامية تتبنى الإسلام، وتجعل تعاليمه ومبادئه السامية المبنية على الوحي الصادق منطلقها، بينما نجد الغرب مع جعله المرأة سلعة تعرض، ودمية تستغل أسوأ الاستغلال، في الإعلام والصحف والمجلات والأزياء ودور البغاء وغير ذلك، مما يطول ذكره ويعسر استقصاؤه، نجده ينادي بالمساواة والحرية، وكذلك نجد الغرب مع ظلمه للشعوب وسلبه لمقدرات الدول وهتكه للأعراض بغياً وعدواناً يرفع شعار العدالة والديمقراطية.(1/22)
أليس الدين الذي ارتضاه الله لخلقه نظاماً وحياة وعبادة وهو الإسلام أولى برفع الشعارات وتسخير المقدرات من الاستسلام لهذه الشعارات الزائفة، والحرية الصلعاء، والعدالة المزعومة، والديمقراطية المستأجرة. لقد بلغ بنا الأمر إلى حد يستثير الشفقة، ويستنطق العطف، أمة بلا قادة، ودول بلا سيادة، ومقدرات بلا قوة، ودين بلا تقديس، لا أدري في الحقيقة إلى متى ونحن نعطي الدنية في ديننا، إلى متى والمجاملة في الدين، لماذا نجَعلُ الإسلام محكوماً تابعاً نتلمس منه ما يوافق قوانين الغرب الوضعية، لماذا لا نضع الإسلام في موضعه ونجعله الحاكم لا المحكوم.
إن كثيراً من علماء العصر قد بلغ به من فرط التسليم للغرب أن أصبح لا يعوزه حكم غربي إلا ويجعل له من فقه الإسلام دليلاً، بل قد لا يتهيب بعضهم أن ينسف الدليل ليبقى الحكم الغربي غير مخالف للإسلام، ومن أعجب ما رأيت، ما ذكره فضيلة الشيخ القرضاوي في حاشية فتاوى مصطفى الزرقا ص (394 ) عن العلامة أبي زهرة، من إنكاره للرجم وقوله بأنه عقوبة يهودية.
لذلك وغيره مما يطول شرحه رأيت أن أكتب في موضوع دية المرأة الذي أثير من قَبْلُ، وأثاره الشيخ القرضاوي - حفظه الله - هذه الأيام، لأنني أحسب التأصيل الذي ذكره الشيخ في هذه المسألة مدخلاً خطراً وخطأ محضاً ينبغي التنبيه عليه والإشارة إليه، ولا أظن الشيخ - حفظه الله تعالى - إلا طالب حق، وناشد هدى، ومن ثم فإني استسمحه العذر إن شطت العبارة أو ندت الإشارة، إذ المعصوم من عصمه الله، والموفق من هداه الله، غير أني لن آلو جهداً في محاولة بيان ما أراه من الحق، بألطف تعبير وأسلم تصوير، ولا أظن الشيخ إن صدق الظن به إن شاء الله إلا سيتسع صدره لهذا الاعتراض، بل أراه سيعجب به إن شاء الله تعالى، لما أعلمه من محبة الشيخ للنقاشات العلمية التي تنشد الصواب وتثري المعرفة، والحكمة ضالة المؤمن أنا وجدها التقطها.(1/23)
وأما بالنسبة لنقاش القضية فسأجعله في مقالين، المقال الأول في مناقشة أمرين؛ أولهما في التأصيل للاجتهاد، والثاني في أعظم أدلة التنصيف وهو الإجماع، والمقال الثاني سيكون - إن شاء الله تعالى - في بقية أدلة التنصيف، والله ولي التوفيق.
المقال الأول في الاجتهاد والإجماع
الدائرتان مفتوحتان
في الحقيقة لست مخالفاً للشيخ في أن ثمة دائرتين في الفقه؛ دائرة مفتوحة يدخلها الاجتهاد، وأخرى مغلقة لا يدخلها، ولكني - والله - على وجل من سعة فتحة إحداهما، ولست - والله - على يقين من إحكام إغلاق الأخرى.
أقول هذا لأن الشيخ - حفظه الله - قد أدخل في الدائرة الأولى جميع الأحكام الشرعية التي يدخلها الظن من جهة الدلالة أو الثبوت، بينما لم يدخل في الأخرى إلا ما كان قطعي الدلالة والثبوت، وقطعي الثبوت هو ما لا يتصور فيه الخطأ، وذلك لا يصدق عند الجميع إلا على المتواتر، وقطعي الدلالة ما لا يحتمل إلا معنى واحداً.
ومن ثم كانت معظم أحكام الشريعة داخلة عنده في الدائرة الأولى دون الثانية، وهذه - والله - هي القشة التي تكاد أن تقصم ظهر البعير، لأن ما كان قطعي الدلالة والثبوت على اصطلاح الأصوليين لا يوجد منه - كما هو معلوم - إلا النزر اليسير، وعليه فإن معظم أحكام شريعة الإسلام ستكون مع تغير الزمان والمكان والحال والعرف عرضة للتغيير.
الأحكام المعرضة للتغيير
يؤسفني - في الحقيقة - أني لا أرى في كلام الشيخ - حفظه الله - من الضوابط وهو يقرر ما يمكن أن يدخله الاجتهاد إلا ضابطين؛ أولهما: أن تكون الأدلة ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، أو ظنيتهما معاً، والثاني: أن يكون سبب الاجتهاد تغير الزمان أو المكان أو الحال أو العرف.
وعليه يمكن القول بأن مجال الاجتهاد الذي يسع الاختلاف فيه يشمل ما يلي:(1/24)
1- جميع الأحكام التي دليلها القرآن الكريم، إذا لم تكن دلالته قطعية، لأن القرآن وإن كان قطعي الثبوت إلا أنه ليس كله قطعي الدلالة، وليس فيه من الأدلة القطعية الدلالة إلا أشياء معدودة على الأصابع، ولذلك فإننا لا نكاد نجد الأصوليين يمثلون بقطعي الدلالة من القرآن إلا بقوله تعالى: «تلك عشرة كاملة».
2- جميع الأحكام التي أدلتها أحاديث الصحيحين، بل كل الأحكام التي أدلتها من السنة النبوية، لأن السنة النبوية كلها ظنية الثبوت، إلا ما كان منها متواتراً، وهو قليل جداً، بل زعم بعض أهل العلم كابن حبان والحازمي عدم وجوده في السنة النبوية، وما كان منها متواتراً على القول بوجوده فليس بقطعي الدلالة، وعليه فالأحكام الثابتة بالسنة النبوية كلها عرضة للتغيير والتبديل بتغير الزمان أو المكان أو الحال أو العرف.
3-- جميع الأحكام التي دليلها الإجماع لأن الإجماع وإن كان قطعي الدلالة إلا أنه ليس بقطعي الثبوت، ولا يتصور فيه عادة أن يكون قطعي الثبوت، لأنه لا يعرف إجماع نقله أهل عصر واحد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وإذا لم ينقل لنا إجماع على هذا النحو فهذا يعني أنه لا يوجد إجماع قطعي الثبوت، وأما ما يذكره بعض الأصوليين من تقسيم الإجماع إلى قطعي الثبوت وظنيه فلا يعدو - في الحقيقة - كونه تأصيلاً نظرياً فحسب.
ومن هنا ندرك خطورة هذه الدائرة المفتوحة، على النحو الذي ذكره الشيخ - حفظه الله -، إذ قد دخل فيها كل الأحكام التي تثبت بأهم أدلة الإسلام، وأقواها، أعني الكتاب والسنة والإجماع، سوى أشياء قليلة جداً ثبتت بالقرآن، والله المستعان.
أمثلة على الأحكام المعرضة للتغيير(1/25)
الأمثلة الداخلة في الدائرة المفتوحة على النحو الذي جعلها الشيخ عليه كثيرة يعسر استقصاؤها، ويكفي لمعرفة كثرتها ما تقدم من الكلام على أدلتها، إلا أنه لا بد من التنبيه على بعضها زيادة في البيان والتوضيح، وأنا ذاكر هنا مثالين يقاس عليهما غيرهما، ولولا خشية التطويل لأكثرت من الأمثلة.
المثال الأول من الصلاة: فلو بدأنا بأول ركن من أركان الإسلام العملية وهي الصلاة لوجدنا أنه يمكن الاجتهاد في وقتها مثلاً، لأن وقت الصلاة المفروضة لا دليل عليه صريحاً من القرآن، غاية ما يمكن إثباته من القرآن أن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ويمكن تفسير هذا الكتاب الموقوت باليوم والليلة، أي أنه لا بد من خمس صلوات في اليوم والليلة، هذا هو الفرض والتوقيت، وأما ما ورد من الأحاديث في تحديد أوقات الصلوات فليست متواترة، ومن ثم فإن تحديد أوقات الصلوات ظني الثبوت، والقول بأنه تواتر عملي يمكن المنازعة فيه على قاعدة الدائرة المفتوحة، ومن ثم فإنه يجوز ههنا الاجتهاد بتغير الزمان والمكان والحال والعرف.
ومن المعلوم أن الزمان قد تغير، وأن العالم أصبح في تسارع وتسابق نحو زخارف هذه الدنيا الفانية، وأداء الصلوات في أوقاتها قد يكون في نظر الكثيرين من معوقات التنمية، وأسباب التأخر عن الركب، ومن ثم فإنه لا مانع وقد تغير الزمان وتبدل الحال أن يعاد النظر في أوقات الصلوات فتجعل في وقت واحد لتفادي التأخير عن العمل، وهذا النوع من الاجتهاد في اعتقادي لا تأباه الدائرة المفتوحة، بل يسعه صدرها فيما أحسب.(1/26)
المثال الثاني من النكاح: ولو نظرنا في باب من أبواب الفقه كالنكاح مثلاً، لوجدنا أن الاجتهاد هذه الأيام لتغير الزمان بالنسبة لنكاح المتعة ممكن وسائغ، فبعد أن كانت حرمته مشتهرة عند أهل السنة، يكون تغير الزمان موجباً لتغير الحكم فيه بالاجتهاد، لأن حرمة نكاح المتعة إنما ثبتت بدليل ظني من السنة، وقد كان الخلاف فيه في السابق معروفاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أجازه لأصحابه فترة من الزمن لغرض صحيح ثم حرمه عليهم.
ونحن اليوم في زمان كثرت فيه الفتن، وانتشر المجون والخلاعة عبر القنوات الفضائية، بل قد أصبحنا نعايش هذا المجون في الواقع المنظور، وعليه فما هو المانع لأجل حماية شبابنا اليوم والمحافظة عليهم لكي لا يقعوا في الحرام من أن نجتهد ونوسع فتحة الدائرة شيئاً قليلاً - وهي في الحقيقة لا تحتاج إلى توسيع إذ السعة صبغة ظاهرة عليها - ونقول بأن تجويز نكاح المتعة الذي كان جائزاً في السابق لا إشكال فيه هذه الأيام، بل هو من أولى ما ينبغي التجديد فيه، لا سيما وجواز نكاح المتعة، بل استحبابه بحسب قاعدة الدائرة المفتوحة قول معتبر!! لمذهب معتبر!!!، وهو المذهب الجعفري الذي أثمرت لنا بركاتُ الديمقراطية بركات ولادته.
ومن ثم تقوم المؤسسات التجارية بنشر دور البغاء، العفو أقصد دور المتعة، ويكون فيها من الرجال والنساء موظفون لهذا الغرض، وموظفون للشهادة على هذا النكاح المؤقت الذي لا حد لأقله، فقد يكون ساعة وقد يكون أكثر أو أقل. أعتقد أن فتحة الدائرة لن تضيق عن احتواء مثل هذا النوع من الاجتهاد، ومن يدري؟ لعله يكون ذلك في يوم من الأيام.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ
ويأتيك بالأنباء من لم تبع له
بتاتاً ولم تضرب له وقتَ موعدِ
فهم المراد من الدائرتين(1/27)
قد يزعم قائل بأنني أسأت الفهم في المراد من هاتين الدائرتين، وأفرطت في التنفير من القول بهما، وأن للشيخ في تقريرهما ضوابط غير الضابطين اللذين ذكرهما، فأرجو أن يكون هذا الزعم صواباً، وألا أفاجأ بضده.
وإنما أقول ذلك لأن هذا الفهم وإن كنت أجد مرارة عميقة في تقبله لما في النفس من تقدير الشيخ إلا أنه لا يزال يمثل قائماً بقوة بين ناظري، ولا أجد له مدفعاً.
إني أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
والسبب في تبادر هذا الفهم من المراد بالدائرتين هو والله أعلم أمران:
الأمر الأول: أن هذا الفهم هو الظاهر من كلام الشيخ، والظاهر لا يعدل عنه إلا بدليل، لا سيما والشيخ قد ذكر هذه المسألة من باب التقعيد في بحث مقدم للمجلس الأعلى للأسرة، ومن المستبعد أن يقدم الشيخ بحثاً يقعد فيه لمسألة ويكون ذلك البحث أو التقعيد غير محرر المعالم ولا يراد به ظاهر ما يتبادر منه.(1/28)
الأمر الثاني: أن الشيخ قد طبق هذه القاعدة على هذا النحو من الفهم في غير ما مناسبة، ومنها مسألة الدية وسيأتي الكلام عليها، وقد نجد الشيخ أحياناً يميل بسبب هذه القاعدة إلى ما يخالف النصوص وما لم يقل به أحد، باعترافه هو، كميله لكون الرجم ليس حداً بل تعزير، ومن ثم يجوز لولي الأمر إسقاطه، هذا مع علم الشيخ بما ورد في الرجم من إجماع متيقن وأحاديث في الصحيحين وغيرهما، أما الأحاديث فكحديث العسيب، وماعز والغامدية وغير ذلك، حتى خطب عمر بالناس فقال كما في الصحيحين وغيرهما: "لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى، وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده"، وأما الإجماع فقد نقله كثير من أهل العلم وتتابعوا عليه، ومن ذلك قول أبي بكر الجصاص في أحكام القرآن (3/388 قال: "قد أنكرت طائفة شاذة لا تعد خلافا الرجم وهم الخوارج، وقد ثبت الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبنقل الكافة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت الأمة عليه".
ومع هذه الأحاديث المتكاثرة وهذا الإجماع المتيقن الذي لم يخالف فيه أحد يعد خلافه نجد الشيخ يميل إلى كونه عقوبة تعزيرية يمكن عدم العمل بها، حيث قال في حاشية فتاوى مصطفى الزرقا (393-394) كنت مع شيخنا العلامة الزرقا في ندوة التشريع الإسلامي...واستمعت معه إلى العلامة أبي زهرة في رأيه في الرجم الذي كتمه عشرين سنةً، ثم باح به، وردود المشاركين في الندوة عليه، وقد ذكرتُ له توجيه الحكم على أنه تعزير، ...وإن لم يقل به أحد من الفقهاء، ولكنه في رأيي اجتهاد وجيه، وقد كنت كتبت في ذلك شيئاً، ولكني لم أجرؤ على نشره...".(1/29)
وهذا الميل من الشيخ إلى وجاهة الاجتهاد في هذه القضية وإن لم يعلن اعتماده على القول به يدل دلالة واضحة على سعة إطار الدائرة المفتوحة، وعدم وجود ضوابط عند الشيخ لها سوى الضابطين المذكورين سابقاً.
بعض ضوابط الدائرتين
مبدأ الدائرتين؛ الدائرة المفتوحة التي يدخلها الاجتهاد والأخرى المغلقة التي لا يدخلها مبدأ صحيح له وجه من النظر، غير أن الشأن ليس في ذكر هاتين الدائرتين، لأني لست ضد ذلك، وإنما هو في الضوابط التي تنظم ما يدخل في إحدى الدائرتين دون الأخرى، ومن ثم فقد رأيت لزاماً عليّ إذ انتقدت الشيخ فيما يتعلق بالضوابط لهذه المسألة أن أحاول تجلية تلك الضوابط التي ينبغي ألا تغفل من نصوص أهل العلم، فأقول: إن من الضوابط التي ينبغي أن تحاط بها هاتان الدائرتان ما يلي:
الضابط الأول: احترام ظواهر النصوص
من الضوابط التي ينبغي أن تضبط بها الدائرتان ألا يتعارض الاجتهاد في المسائل المراد الاجتهاد فيها مع ظواهر النصوص الشرعية التي لا معارض لها، لأن الأدلة الشرعية كما هو معلوم منها ما هو نص لا يحتمل في المسألة إلا معنى واحداً، وهذا هو ما يسمى بقطعي الدلالة، ومنها ما هو ظاهر وليس بنص وهو المعنى الواضح الذي يسبق إلى الفهم من النصوص مع احتمال معنى آخر، وأهل العلم كافة من الصحابة وغيرهم مجمعون على عدم جواز أن يعارض الاجتهاد ظاهر النص إلا بدليل يصرف ذلك الظاهر إلى المعنى الآخر.
قال الزركشي في البحر المحيط (36/5) مسألة: الظاهر دليل شرعي، يجب اتباعه والعمل به، بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ، وهو ضروري في الشرع، كالعمل بأخبار الآحاد، وإلا لتعطلت غالب الأحكام، فإن النصوص معوزة جداً، كما أن الأخبار المتواترة قليلة جداً".(1/30)
وقال القرافي في الفروق (87/2) الاحتمال المرجوح لا يقدح في دلالة اللفظ، وإلا لسقطت دلالة العمومات كلها لتطرق احتمال التخصيص إليها، بل تسقط دلالة جميع الأدلة السمعية لتطرق احتمال المجاز والاشتراك إلى جميع الألفاظ، لكن ذلك باطل، فتعين حينئذ أن الاحتمال الذي يوجب الإجمال إنما هو الاحتمال المساوي أو المقارب، أما المرجوح فلا".
هذه بعض أقوال أهل العلم، ولولا خشية التطويل لأفضت في سرد أقوال العلماء في هذا المعنى، غير أن ما ذكر فيه كفاية، فالزركشي يدلل على حجية الظاهر ووجوب اتباعه بإجماع الصحابة، وبأن تركه يفضي إلى تعطل غالب أحكام الشريعة، لأن النصوص القطعية الدلالة والثبوت عزيزة، ونحو قوله قول القرافي، حيث علل بطلان ترك الاحتجاج بالظاهر لعدم قطعية دلالته بأنه يفضي إلى عدم الاحتجاج بالأدلة السمعية كلها يعني القرآن والسنة، لأنه ما من دليل سمعي إلا والاحتمال يتطرق إليه، وهذا هو قول كافة العلماء، فلا تكاد تجد عالماً من أهل الأصول إلا ويذكر هذه القاعدة، ويقررها، أعني عدم ترك ظاهر النص بلا دليل، ولست أظن الشيخ يعارضهم في ذلك.
وعليه فإنه لا يجوز الاجتهاد في معارضة ظواهر النصوص، لأنه لا معنى لوجوب العمل بظواهر النصوص الذي يقرره العلماء إذا كنا نقول بجواز مخالفته من باب الاجتهاد بسبب تغير الزمان أو المكان أو العرف، دون دليل يسند ذلك الاجتهاد، ولهذا فإن ظاهر النص القرآني أو السنة النبوية الذي لا معارض له البتة ولا دليل يصرفه عن ظاهره لا يدخل في الدائرة المفتوحة، بل هو من الدائرة المغلقة، سواء تغير الزمان أم لم يتغير.
الضابط الثاني: احترام الإجماع
ومن الضوابط أيضاً ألا يتعارض الاجتهاد مع الإجماع، لأن الإجماع حجة من الحجج القاطعة للنزاع، ونصوص العلماء على حجية الإجماع وعدم جواز الاجتهاد معه أكثر من أن تحصر، غير أني أكتفي من ذلك بما أراه يغني عن التطويل، من ذلك ما يلي:(1/31)
قال الشافعي في الأم (216/6): ومعنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بعد أن لا يكون فيما يرد القضاء في كتاب ولا سنة ولا أمر مجتمع عليه، فأما وشيء من ذلك موجود فلا"، وقال أبو بكر الجصاص في كتابه الفصول في الأصول (178/1) خبر الواحد يسع الاجتهاد في مخالفته، ولا يسع الاجتهاد في مخالفة الإجماع"، وقال ابن حزم في مراتب الإجماع ص (12 ): «إذا صح الإجماع فقد بطل الخلاف ولا يبطل ذلك الإجماع أبدا»، وقال أبو المعالي الجويني في كتاب الاجتهاد ص(126 وهو يعدد ما يشترط للمجتهد: "ومما يشترط: أن يحيط علماً بمعظم مذاهب السلف، فإنه لو لم يحط بها لم يأمن من خرق الإجماع في الفتاوى"، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/20): «وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة»، وقال في الفتاوى الكبرى (162/6): «وإجماعهم حجة قاطعة يجب اتباعها، بل هي أوكد الحجج، وهي مقدمة على غيرها»، وقال السيوطي في كتاب تفسير الاجتهاد ص (39) وهو يعدد ما ينبغي على المجتهد معرفته: "ثم معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين من السلف الصالحين حتى لا يقع اجتهاد في مخالفة الإجماع".
هذه أمثلة من نصوص الأئمة على أن مواطن الإجماع لا يجوز فيها الاجتهاد، فهي من الدائرة المغلقة، لا من الدائرة المفتوحة، ولست أرى الشيخ - حفظه الله - يخالف في ذلك من حيث النظر، وسوف يأتي ما يدل على ذلك من كلامه عند ذكر الإجماع في المسألة، ومع ذلك لم نجده يجعل مواطن الإجماع عند تقريره لمبدإ الدائرتين من الدائرة المغلقة.(1/32)
هذا ما أحببت التنبيه عليه في مسألة الضوابط التي ينبغي أن تضبط بها الدائرتان، لئلا تتركا هكذا هملاً ومرتعاً مشاعاً لكل من لم يوافق هواه أو محيطَه شيءٌ من الدين، ولم أرد بذكر هذين الضابطين الاستقصاء، وإنما أردت التنبيه على اختلال مبدإ الدائرتين بهذه الطريقة التي طرح بها فحسب، وإلا فإن ثمة ضوابط أخرى يجري فيها الخلاف وتحتاج إلى بسط ليس هذا مقامه، والله تعالى أعلم.
الدوحة - الشرق:
نستكمل اليوم نشر الدراسة التي أعدها السيد سعيد بن محمد البديوي القاضي برئاسة المحاكم الشرعية سابقاً حول «دية المرأة» والتي ناقش فيها رأي العلامة الدكتور يوسف القرضاوي القائل: «إن دية المرأة مساوية لدية الرجل» وفي ما يلي بقية الدراسة:
كثرة الأحكام التي لا يدخلها الاجتهاد
مما تقدم يتبين أن الأحكام التي لا يدخلها الاجتهاد كثيرة بحمد الله تعالى، لأن الأحكام والمسائل التي تدل عليها ظواهر النصوص من الآيات والأحاديث وكذلك الإجماع كثيرة بحمد الله تعالى، على خلاف ما يرى الشيخ حفظه الله، وإنما الشأن في العلم بنصوص الكتاب والسنة وبمواطن الإجماع، واستنباط الأحكام من ذلك كله، والتتبع والاستقراء يدلان على ذلك، ولذلك قال أبو إسحاق الإسفراييني كما في التقرير والتحبير لابن أمير الحاج «111/3» نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة، ولهذا يرد قول الملحدة إن هذا الدين كثير الاختلاف، ولو كان حقا لما اختلفوا، فنقول: أخطأت، بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة، ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها، وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول، أكثر من مائة ألف مسألة، يبقى قدر ألف مسألة، هي من مسائل الاجتهاد والخلاف، ثم في بعضها يحكم بخطأ المخالف على القطع من نفسه، وفي بعض ينقض حكمه، وفي بعضها يتسامح، فلا يبلغ ما بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة.
تغير الزمان والمكان والحال والعرف(1/33)
ما من شك في أن تغير العادات بتغير الزمان أو المكان أو الحال أمرٌ ينبغي مراعاته عند الإفتاء، حتى عرف عند الفقهاء قاعدة «العادة محكّمة»، غير أن القول بمراعاة العادات أو الأعراف بسبب تغير الزمان ليس على إطلاقه في كل الأحكام، بل هو مختص بما يتوقف الحكم فيه أصلاً على معرفة العادات والأعراف، كالعيوب في البيع والنكاح، فما كان يعد عيباً في الماضي قد لا يعد عيباً في الحاضر فتتبع العادة في ذلك، قال القرافي في الفروق «45/1» انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام كما نقول.. في نفقات الزوجات والذرية والأقارب وكسوتهم.. وغير ذلك مما هو مبني على العوائد، مما لا يحصى عدده، متى تغيرت فيه العادة تغير الحكم بإجماع المسلمين، فقصر تحكيم العادة على ما هو مبني على العوائد، وهذا القول من القرافي لم يعارضه أحد جاء بعده بل تلقفه عنه كثير من العلماء ونقلوه في كتبهم، فتغير العادة بتغير الزمان إنما يراعى في المسائل المبنية على تلك العادة في الأساس، وأما الأحكام الثابتة بالأدلة الشرعية كالكتاب والسنة والإجماع والقياس فلا دخل لتغير العوائد فيها، ولذلك قال النفراوي في الفواكه الدواني «306/2» والعوائد لا يجوز العمل بها إلا عند عدم نصٍ عن الشارع مخالفٍ لها، وإلا كانت فاسدة يحرم العمل بها، ألا ترى لو اعتاد الناس فعل الزنا أو شرب الخمر لم يقل أحد بجواز العمل بها.
التشكيك في حجية الإجماع لا داعي له
إن القارئ لكلام الشيخ - وهو يناقش قضية الإجماع في هذه المسألة - لا يمكنه في الحقيقة أن يتغافل عما يقفز ماثلاً بين يديه من ضرورة التساؤل عن مراد الشيخ بإيراد ما نقله من التشكيك في أصل حجية الإجماع ههنا، لأن ما نقله الشيخ - حفظه الله - ههنا يوهم المطلع عليه أن الشيخ لا يقول بحجية الإجماع، أو يشكك فيه على الأقل، ولا يعتبره مصدراً موثوقاً به، بينما نجد في عبارات الشيخ هنا وهناك ما يدل على أنه يعتبر الإجماع حجة.(1/34)
بل إن للشيخ - حفظه الله - كلاماً من أبدع ما يكون، لا يسعني - في الحقيقة - معه إلا أن أقر بإعجابي له في صياغته إياه، وذلك قوله في أول كتاب الزكاة ص «25» فإن اتفاق علماء الأمة جميعاً على حكم شرعي - خاصة القرون الأولى - يدل دلالة واضحة على أنهم استندوا فيما أجمعوا عليه إلى اعتبار شرعي صحيح من نص أو مصلحة أو أمر محسوس، فينبغي أن يحترم إجماعهم، لتبقى مواضع الإجماع في الشريعة هي الضوابط التي تحفظ التوازن، وتمنع من البلبلة والاضطراب الفكري.
فإذا كان الشيخ يقر بحجية الإجماع وأنه أحد أدلة الفقه الإسلامي فما هو الداعي لنقل كلام يوهم التشكيك في أصل حجية الإجماع ههنا، لا سيما وهو كلام قديم معروف عند كل من قرأ شيئاً من الأصول، ينقله الأصوليون في كتبهم من باب التحقيق وجمع أطراف العلم ثم يردون عليه ولا يعتدون به في إنكار حجية الإجماع.
وشيء آخر لم يكن ثمة داعٍ لذكره، وهو قول الإمام أحمد من ادعى الإجماع فقد كذب، لأن نقل مثل هذا الكلام دون بيان معناه ومراد الإمام منه يوهم إنكار حجية الإجماع، مع أن الشيخ يعلم أن الإمام أحمد يحتج بالإجماع ولا ينكر وقوعه، وقد ذكر العلماء من الحنابلة وغيرهم معنى هذا القول المنقول عن الإمام أحمد، وأنه ليس إنكاراً للإجماع، بل الشيخ نفسه قد ذكر ذلك في غير هذا الموطن، في فقه الزكاة «ص25 » حيث لم يجعل قول الإمام أحمد هذا إنكاراً للإجماع وإنما هو إنكار على أناس يدعون الإجماع غير المتيقن.(1/35)
وشيء آخر وهو أعجب من سابقه حيث ذكر الشيخ - حفظه الله - أن للإمام أحمد تفردات عن الأئمة الآخرين، وهذا الكلام في الحقيقة يوهم المطلع عليه أن الإمام أحمد لا يحتج بالإجماع ويخالفه، مع أن الشيخ يعلم أن هذه التفردات إنما هي تفردات عن المذاهب الثلاثة الأخرى فقط، لا أن الإمام أحمد خرق بها إجماعاً ما، لأن الإمام أحمد لا يعدم في تلك المسائل موافقاً له ممن تقدم عليه من الصحابة والتابعين وتابعيهم، والسؤال هو ما دخل هذا الذي ذكره الشيخ في مسألة الإجماع ههنا؟ وما الداعي لذكره؟
في الحقيقة لا أجد ثمة داعياً لنقل مثل هذا التشكيك في أصل حجية الإجماع ههنا، ولا أجد غضاضة في القول بأن الشيخ كان ينبغي له الإعراض عن ذلك، لئلا نتوجس من كلامه عدم الموضوعية، وإرادة المغالطة، ومحاولة الانتصار للقول ولو خالف الحق.
الإجماع في مسألتنا متيقن
إن الإجماع في كون دية المرأة على النصف من دية الرجل قد توارد عليه العلماء قرناً بعد قرن طوال أربعة عشر قرناً، وقد سقت في المقال الأول ما كان ينبغي أن يكون مقنعاً، حتى فوجئت برده من قبل الشيخ - حفظه الله وعفا عنه - لمجرد احتمالات لا أساس لها، ومن ثم تبين لي أن ذلك الكلام الذي ذكرتُه لم يكن ناجعاً وكافياً في احترام موطن من مواطن الإجماع التي تحفظ التوازن وتمنع من البلبلة والاضطراب الفكري، لذا رأيت أن أعيد البيان عن قوة هذا الإجماع ووجوب المصير إليه بشيء يسير من التفصيل الذي يوفي بالغرض، فأقول:
الإجماع في هذه المسألة إجماعٌ متيقن يجب المصير إليه وترك الاجتهاد معه لما يلي:
عشرون إماماً ينقلون الإجماع على التنصيف(1/36)
إن هذا الإجماع قد توارد على نقله والاحتجاج به الأئمة والفقهاء عبر القرون المختلفة من قرن الشافعي إلى اليوم، ولم يقدح فيه أحد تقدم على هذا القرن، وها أنا أسوق عدداً مهماً من أهل العلم الذين ذكروا الإجماع في المسألة واحتجوا به من غير استقصاء لجميعهم، فممن ذكر الإجماع على تنصيف دية المرأة من يلي:
1- الشافعي في الأم «261/7».
2- وابن جرير الطبري في تفسيره «209/5».
3- والطحاوي في كتاب اختلاف العلماء نقله عنه الجصاص في اختصار اختلاف العلماء «106/5».
4- وابن المنذر في كتاب الإقناع «ص 189»، وكتاب الإجماع «ص 72».
5-وابن عبد البر في التمهيد «358/17»، والاستذكار «63/25».
6- وابن حزم في مراتب الإجماع «140»، وفي المحلى
«64/11».
7- وأبو بكر الجصاص في كتاب الفصول في الأصول «279/3».
8- وعلاء الدين السمرقندي في تحفة الفقهاء «170/3».
9- وأبو بكر القفال في حلية العلماء «543/7».
10- وابن رشد في بداية المجتهد «310/2».
11- والوزير ابن هبيرة في الإفصاح «171/2».
12- والقرطبي في تفسيره «325/5».
13- وابن قدامة في المغني «314/8»، وفي الكافي «77/4».
14- وابن تيمية في منهاج السنة النبوية «238/4».
15- وأبو عبد الله الدمشقي في كتاب رحمة الأمة في اختلاف الإئمة «ص 271».
16- وشمس الدين المنهاجي في جواهر العقود «222/2».
17- والشعراني في الميزان «201/2».
18-والصنعاني في سبل السلام «351/13».
19- والشوكاني في السيل الجرار «439/4».
20- صديق حسن القنوجي في فتح العلام «1324/3».(1/37)
فهذه نقول عن عشرين إماماً من أئمة الإسلام، الذين لهم علم ودراية تامة بالاتفاق والاختلاف، عبر قرون مختلفة من القرن الثاني للهجرة النبوية إلى اليوم، وقد تركت خلقاً غير هؤلاء نقلوا الإجماع وتواردوا عليه، في كتب المذاهب الفقهية، المختصة بالفروع، كالكاساني في بدائع الصنائع «254/7»، والسرخسي في المبسوط «79/26»، وأبي الحسين العمراني في البيان «494/11»، وابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج «456/8» والرملي في نهاية المحتاج «219/7»، وأبي بكر الحصني في كفاية الأخيار «ص 553»، والمرداوي في الإنصاف «63/10» والبهوتي في الكشاف «20/6» وغيرهم كثير يعسر استقصاؤه، ولو تتبع متتبع نقول أهل العلم واتفاقهم على ذكر الإجماع في هذه المسألة، ثم ذكر عباراتهم وحلل مضامينها لخرج من ذلك بمجلد لطيف.
العلم بهذا الإجماع ضرورة
إن العلم بهذا الإجماع يعد في الحقيقة ضرورة بالنسبة لأهل العلم، كالعلم بأعداد الصلوات ووجوب إتمام الصيام إلى الليل وغير ذلك من العبادات، بالنسبة لعوام المسلمين، وذلك لأن أهل العلم من القضاة والفقهاء والمحدثين وغيرهم قد توارثوا القول بتنصيف الدية والعمل به جيلاً إثر جيل، في القضاء، والفقه، منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فكما أن عامة الناس قد علموا ضرورة أن صلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات، والمغرب ثلاثٌ والفجر ركعتان، وليس بإمكانهم التشكيك في ذلك، لكونهم قد تناقلوه عملياً جيلاً بعد جيل، عن آبائهم وأقربائهم وعموم المسلمين، فكذلك الأمر بالنسبة لأهل العلم فيما نحن بصدده، إذ إن أهل العلم من القضاة والفقهاء قد علموا ضرورة أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وليس بإمكانهم التشكيك في ذلك، لكونهم قد تناقلوا الحكم به عملياً، فكانت الكتب الفقهية تتناقله جيلاً بعد جيل، وكذلك المحاكم والقضاة، فما من قاض في التاريخ الإسلامي إلا وقد استقر عنده ذلك الحكم، وأخذه عمن سبقه.(1/38)
فحكم كل جيل من القضاة والفقهاء بالتنصيف في الدول الإسلامية المتعاقبة، لا يمكن إلا أن يكون مأخوذاً من الجيل الذي كان قبله، إلى أن يصل الأمر إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأننا إما أن نتصور بأن جيل القضاة والفقهاء الذي يحكم بالتنصيف اليوم قد وافق في حكمه الجيل الذي قبله أو خالفه، وتصور المخالفة في العادة غير ممكن، لأنه لو كان الجيل اليوم مخالفاً للجيل الذي قبله في حكمه لوجدنا من أهل العلم المعاصرين لهذا الجيل مَنْ يعارض في ذلك، بسبب أن هذا الجيل قد خالف الجيل الذي قبله بلا دليل، فلما لم نجد من أهل هذا الجيل من يعارض جيله في حكمه دل ذلك على أن عمل هذا الجيل موافق لعمل الجيل الذي كان قبله، وهكذا يقال في كل جيل، إلى أن نصل إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم أن العلم بهذا الإجماع على التنصيف يعد ضرورة بالنسبة لأهل العلم، والله تعالى أعلم.
المحتاطون في نقل الإجماعات ينقلونه
إن هذا الإجماع لم يتردد في نقله أحد من أئمة الإسلام، فلم ينفرد بنقله من يوصف بالتساهل في نقل الإجماع كابن المنذر وابن عبد البر، بل وافقهما على نقله أكثر الناس احتياطاً في نقل الإجماع، ولم يعبأوا بمخالفة أبي بكر ابن الأصم وابن علية فيه، ومن أولئك النفر: ابن جرير الطبري حيث قال في تفسيره «209/5» لأن دية المؤمنة لا خلاف بين الجميع إلا من لا يعد خلافاً أنها على النصف من دية المؤمن، فنص على أن من خالف في تنصيف الدية لا يعد خلافه ولا يعتبر.(1/39)
ومنهم ابن حزم الظاهري حيث قال في المحلى «64/11» صح الإجماع على أن في أربعة أصابع من المرأة فصاعداً نصف ما في ذلك من الرجل بلا خلاف، فها هو أبو محمد ابن حزم يجزم بصحة الإجماع ويؤكده بقوله بلا خلاف، مما يعني أنه جازم بصحة هذا الإجماع، مع ما علم عنه من تشدده في إثبات الإجماع، بحيث يشنع أحياناً على مدعي الإجماع بعبارات فيها بعض الجفاء، من ذلك قوله في المحلى «210/1» ودعوى الإجماع بغير يقين كذب على الأمة كلها نعوذ بالله من ذلك، بل قد يصل به التشنيع إلى درجة الاستهزاء بما يدعي بعض الفقهاء أنه إجماع كقوله في المحلى «269/8» «لا شيء أسهل من الكذب المفضوح عند هؤلاء القوم، ثم كذبهم إنما هو على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى جميع أهل الإسلام، وعلى العقول والحواس، ليت شعري متى أُجمع معهم على هذا، ومن أجمع معهم على هذا، أبقية الجندل والكثكث؟! وأين وجدوا هذا الإجماع، بل كذبوا في ذلك. الجندل: هو الحجارة والكثكث هو التراب».
ومنهم محمد بن علي الشوكاني الذي أورد الشيخ - حفظه الله - كلامه في إرشاد الفحول الموحي بالتشكيك في أصل حجية الإجماع، وقبل أن يورد الشيخ كلامه قال: ومن تأمل ما كتبه الإمام الشوكاني عن الإجماع في إرشاد الفحول وجد أنه يميل مع المخالفين في إثباته أكثر من ميله مع الموافقين، وهذا الكلام من الشيخ يظهر منه إرادة الدعم لما ذهب هو إليه في هذه المسألة من جهة أن الشوكاني - وهو من هو في الإمامة - قد مال مع قول المخالفين أي النافين لحجية الإجماع.(1/40)
وهذا في الحقيقة عجب من الشيخ، إذ كيف يورد ما لا يعتقد صحته، إلا أن يقال إن اعتراف الشيخ بحجية الإجماع لا يعدو كونه تقعيداً نظرياً، وأما من الناحية العملية، فالشيخ لا يعترف بكون الإجماع حجة، وهذا وإن كان أمراً مستبعدا لتصريح الشيخ بخلافه إلا أن إيراد الشيخ لهذا الكلام في هذا المقام مع عدم اعتداده بكثير من مواطن الإجماع يبعث على التشكك في ذلك.
وعجبٌ آخر، وهو ما استنبطه الشيخ بعد التأمل في كلام الشوكاني من أنه يميل إلى عدم الاحتجاج بالإجماع، إذ كيف يستنبط الشيخ ذلك وكتب الشوكاني مشحونة بأقوال له يحتج فيها بالإجماع، ولا أظن الشيخ قد عدم وقوفاً على قول للشوكاني بهذا الخصوص في كتبه، بل هو من أيسر الأمور في اعتقادي على الشيخ، وأما نقل الشوكاني لكلام النافين لحجية الإجماع فإنما هو مجرد ذكر لأطراف العلم ومناقشة للأقوال فحسب، وهو في ذلك كغيره من أهل العلم ممن توسعوا في الأصول، ولا يظهر من كلامه أي ميل مع النافين أصلاً، بل إن في كلامه عن الإجماع في الكتاب نفسه «ص135 » ما يدل على كونه حجة عنده، وذلك حين قال في البحث الموفي عشرين: الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة.(1/41)
ثم ما دام أن الشوكاني عند الشيخ بهذه المنزلة والمكانة العلمية بحيث يكون ميله المستنبط من لا شيء نحو قول شاذ أعني عدم الاحتجاج بالإجماع جديراً بالاحترام والتقدير، لنسف دليلٍ عظيمٍ من أدلة الفقه الإسلامي فليكن قوله الصريح بنقل الإجماع فيما نحن بصدده جديراً بالاحترام والتقدير أيضاً، لأن الشوكاني قد نقل الإجماع ضمن من نقله أيضاً على التنصيف، حيث قال في السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار «439/4» وأما المرأة فقد وقع الإجماع إلا عمن لا يعتد به أنها نصف دية الرجل، فها هو الشوكاني على تشدده في نقل الإجماع والاحتجاج به وعلى مكانته عند الشيخ الآنفة الذكر ينقل الإجماع على التنصيف مع علمه بخلاف الأصم وابن علية لكون خلافهما لا يعتد به، والله تعالى أعلم.
مخالفة الإجماع بعد وقوعه لا يعتد بها
من المعلوم أن الإجماع هو إجماع العلماء في العصر الواحد، ومخالفة الواحد والاثنين من أهل العلم كافية بأن تقدح في انعقاد الإجماع، هذا على قول الجمهور، وإلا فإن ثمة من يقول بأن مخالفة الواحد والاثنين لا تقدح.
غير أن من شرط اعتبار مخالفة الواحد والاثنين قادحة في الإجماع أن يكونا من أهل ذلك العصر الذي زعم فيه انعقاد الإجماع، أي أن انعقاد الإجماع لا يقدح فيه مخالفة من جاء بعد انعقاده، لأننا لو اعتبرنا مخالفة كل أحد جاء بعد العصر الذي انعقد فيه الإجماع لما ثبت إجماع أبداً، لأن من أراد مخالفة الإجماع حينئذٍ فما عليه إلا أن يخالف وتكون مخالفته قادحة في صحة ذلك الإجماع، ومن ثم لا يكون للقول بحجية الإجماع معنى، لذا اشترط أهل العلم في اعتبار المخالف أن يكون من أهل العصر، لا ممن جاء بعدهم، وأقوال العلماء في ذلك كثيرة، منها: قول الآمدي في الأحكام «296/1» لو أجمعت الأمة على حكم ثم جاء من بعدهم مجتهد يرى في اجتهاده ما يخالف إجماع الأمة السابقة لم يجز له الحكم به، بل وجب عليه الرجوع إلى الأمة.(1/42)
وهذا القول في الحقيقة إجماع من المحتجين بالإجماع، لأنهم إنما اختلفوا في اشتراط انقراض العصر أو عدم اشتراطه لاعتبار الإجماع، أما إذا أجمع أهل عصر على مسألة إلى أن انقرضوا فهذا الذي لم يجوز أحد ممن يحتج بالإجماع مخالفته، ولذلك لما ذكر الجويني الخلاف في اشتراط انقراض المجمعين أو عدم اشتراطه، قال كما في البرهان في أصول الفقه «444/1» وإنما يمتنع الخلاف إذا استمروا على الوفاق حتى انقرضوا.
ومن ثم فإن مخالفة الأصم وابن علية لا تعتبر، لأنهما ليسا من الصحابة، ولا من التابعين، سواء كان ابن علية هو الابن أو الأب أو الجد حتى، على أن المنازعة في كون ابن علية هو الابن غريبة من الشيخ، ولولا تطويل المقال لبينت ما في منازعة الشيخ - حفظه الله - في ذلك من الغرابة، وأما نقل الإجماع على التنصيف عن الصحابة فقد أثبته غير واحد من أهل العلم ممن تقدم نقل الإجماع عنهم، حيث ينص كثير منهم على أنه إجماع من الصحابة، ولولا خشية التطويل لسقت أقوالهم، فمن أرادها فليرجع إلى مصادرها المشار إليها سابقاً، غير أنه يمكن التدليل عليه عند الكلام عن آثار الصحابة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وعليه فإجماع الصحابة لا يجوز خرقه ممن جاء بعدهم، وهو أمر متفق عليه، ذكر الاتفاق عليه غير واحد من أهل العلم، منهم ابن حزم حيث قال في الإحكام «539/4» اعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة إجماع صحيح، ومنهم الشوكاني نفسه، حيث قال في إرشاد الفحول «539/4»: البحث السابع: إجماع الصحابة حجة بلا خلاف.(1/43)
وكذلك التابعون فإنهم على ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك أتباع التابعين، وهذا الشافعي ينقل الإجماع عمن تقدم على عصره، حيث يقول كما في الأم «261/7» لم أعلم مخالفاً من أهل العلم قديماً ولا حديثاً في أن دية المرأة نصف دية الرجل، والشافعي لم يدرك عصر الصحابة ولا عصر التابعين، إنما يروي عن أتباع التابعين، ومن ثم فإنه يحكي هذا القول عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، لأن قوله: حديثاً) يقصد به العصر الذي أدركه، وهو عصر أتباع التابعين، وقوله: قديماً) يقصد به من قبلهم، وهم الصحابة والتابعون، والله تعالى أعلم.
الاعتداد بالمخالفة اللاحقة مخالفة
لا أدري - وقد علمنا أن الشيخ يقول بحجية الإجماع من حيث النظر - هل يشترط حفظه الله للقول بحجية الإجماع عدم المخالف مطلقاً، بحيث يعتد بكل مخالفة ولو كانت لاحقة أم أنه كبقية أهل العلم لا يعتد من المخالفات إلا بما كان منها في عصر المجمعين؟، أقول هذا لأن الشيخ يصرح بأن الإجماع المتيقن أي الذي يحتج به هو الإجماع الذي لم يعرف فيه خلاف، كما في فقه الزكاة «ص 26»، فلا أدري هل يريد بقوله «لم يعرف فيه خلاف» أي خلاف، سواء كان من معاصر للمجمعين أم من متأخر عنهم، أم أن الشيخ لم يقصد هذا الإطلاق. الظاهر من قول الشيخ أنه يقصد الأول، لأنه لم يقيد وجود الخلاف بشيء، ولأنه يقول في مقاله المشار إليه: ولا يمكن أن يثبت الإجماع وقد خالف فيه هذان الإمامان، يقصد بالإمامين هما إماما الاعتزال الأصم وابن علية، مع أن الإجماع متقدم عليهما.(1/44)
وعليه فإن كان المقصود بالخلاف أي خلاف ولو لاحقاً، فهو مخالفة لا يمكن قبولها بحال، لما فيها من إبطال للإجماع وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، لأن القول بهذا لا يجوز معه الاحتجاج بالإجماع على أي مخالف، لأن مخالفة المخالف - حينئذٍ - كافية في عدم انعقاد الإجماع، ومن ثم فلا إنكار على من جوز الربا المصرفي هذه الأيام لوجود الخلاف من مفتي الأزهر الشيخ الطنطاوي، ولا إنكار على إمامة المرأة لوجود المخالف في أمريكا، ولا إنكار.. ولا إنكار.. وهلم جرا.
مستند الإجماع
وأما مستند الإجماع فليس بالضرورة أن يكون معروفاً إذا ما صح الإجماع، نعم لابد أن يكون للإجماع مستند إلا أن الناس يتفاوتون في إدراك ذلك المستند، ولو جعلنا عدم إدراك العالم لمستند الإجماع حجة لما ثبت إجماع قط، لأن مدارك الناس تختلف في ذلك، ومن ثم كان الإجماع المتيقن مقدماً على فهم العالم من النصوص، وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة لولا خشية التطويل لسقتها، ولعلي أكتب في ذلك في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى، على أن ثمة مستنداً لهذا الإجماع من الكتاب والسنة والآثار والقياس، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله في المقال القادم.
القول بتنصيف دية المرأة ثابت عن ابن مسعود بإسناد كالشمس في رابعة النهار
الشيخ القرضاوي يعترف ضمناً بأن الأمة أجمعت على التنصيف ثم يرى جواز مخالفتهم
الدوحة - الشرق:
يختتم القاضي سعيد البديوي اليوم سلسلة مقالاته للرد على فتوى فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بشأن أن دية المرأة مساوية لدية الرجل.. ويتابع القاضي البديوي رده قائلاً: وأما آثار الصحابة فكثيرة يطول استقصاؤها، ولذلك فسأكتفي منها بثلاثة آثار هي في الحقيقة من أصح الآثار، أثرين عن أميري المؤمنين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.
عمر بن الخطاب(1/45)
ورد عن أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب آثار كثيرة، أكتفي منها هنا بذكر أثر واحدٍ عنه، وهو أثر عبيد الله بن عمر عن أيوب بن موسى عن ابن شهاب وعن مكحول وعطاء قالوا أدركنا الناس على أن دية الحر المسلم على عهد رسول الله (ص) مائة من الإبل فقوم عمر بن الخطاب تلك الدية على أهل القرى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم ودية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل" رواه الشافعي والبخاري في التاريخ، وقد تقدم تخريجه، وذكر ما يشهد له عن عمر بن عبدالعزيز.
وهو خبر له جزءان؛ جزء مرفوع إلى النبي (ص) وقد تقدم الحديث عنه، وجزءٌ موقوف على عمر وهو ذكر تقويم دية الحر بألف دينار أو اثني عشر ألف درهم، وتقويم دية الحرة نصف ذلك أي بخمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم.
وقد تكلم الأستاذ الصياصنة في هذا الأثر بسبب راويه وهو مسلم بن خالد الزنجي، فضعف الأثر لكون الزنجي ضعيفا، والزنجي وإن كان أقرب إلى الضعف منه إلى القبول إلا أن أهل العلم مطبقون على الاعتبار به، أي أنه إذا ما توبع على روايته كان حديثه محتجاً به، بل إن من أهل العلم من يحتج بحديثه، وقد احتج بحديثه هذا الشافعي رحمة الله عليه.
والزنجي لم يتفرد برواية هذا الحديث بل تابعه يحيى بن سليم على رواية هذا الخبر عن عبيد الله بن عمر به، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الأحاديث النبوية، فهذا الخبر قائم بنفسه برواية راوييه، مسلم بن خالد الزنجي ويحيى بن سليم الطائفي، فكيف وقد اعتضد بعدد من الشواهد، وأنا أذكر هنا شاهداً واحداً آخر غير حديث عمر بن عبدالعزيز المتقدم ذكره.(1/46)
والشاهد هو ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه (68/2) قال: "حدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال كان فيما جاء به عروة البارقي إلى شريح من عند عمر رضي الله عنه: أن الأصابع سواء الخنصر والإبهام سواء، وأن جروح الرجال والنساء سواء في السن والموضحة فما خلا فعلى النصف، وأن في عين الدابة ربع ثمنها، وأن أحق أحوال الرجل أن يصدق عليها عند موته في ولده إذا أقر به، قال مغيرة: وأنسيت الخامسة حتى ذكرني عبيدة أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا ورثته ما دامت في العدة".
وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (411/5) قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن شريح قال أتاني عروة البارقي من عند عمر أن جراحات الرجال والنساء تستوي في السن والموضحة وما فوق ذلك فدية المرأة على النصف من دية الرجل".
وهذا الشاهد صحيح الإسناد لاسيما الرواية الثانية، والفرق بين الروايتين أن الأولى، وهي رواية هشيم ظاهرها الانقطاع، لأن إبراهيم النخعي فيها لم يبين من أخبره بقصة الكتاب، وإنما قال: "كان فيما جاء به عروة البارقي إلى شريح من عند عمر" وهذا الأسلوب إنما هو حكاية لقصة وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإبراهيم النخعي لم يدرك عهد عمر، فلا ندري من الذي أخبره أهو شريح أم غيره، ولذلك قال البيهقي في الكبرى (97/8): "وفي هذا انقطاع"، وقال الحافظ بن حجر في الفتح (214/12) عقب رواية هشيم هذه: "سنده صحيح إن كان النخعي سمعه من شريح"، فعلق الحافظ ابن حجر صحتها على سماع إبراهيم من شريح، لأن ظاهر الرواية عدم السماع، وسماعه منه فيها محتمل.(1/47)
وأما رواية جرير بن عبدالحميد فهي متصلة لأنه بين الواسطة فقال: "عن شريح"، ولفظة (عن) كما هو معلوم عند أهل الحديث محمولة على السماع، ولذلك عقب الحافظ بن حجر كلامه السابق عن رواية هشيم بقوله: "وقد أخرجه بن أبي شيبة من وجه آخر فقال عن إبراهيم عن شريح"، وصححها الشيخ ناصر الدين الألباني في إرواء الغليل (307/7).
أما الأستاذ الصياصنة فقد تعنت كعادته وضعف هذا الخبر، وعزا تصحيح الألباني إلى تساهله، وأوهم أن كلام الحافظ ابن حجر في رواية جرير وهو كما رأيت في رواية هشيم.
ثم إن الأستاذ الصياصنة لم يراع ورود الأثر من هذين الطريقين، وإنما تكلم في كل طريق منهما على حدة، ولم يراع الشواهد في الباب، وهذا تعنت واضح، وخلاصة نقمته على هذا الأثر تظهر في ثلاثة مطاعن؛
(المطعن الأول): أنه من رواية هشيم، فنقل في هشيم كلاماً لا علاقة له بروايته لحديثنا، وأكثر ما نقله إنما هو مما قيل في تدليسه، ومثل هذا النقل لا داعي لذكره، لأن هشيماً قد صرح بالتحديث، ولم يتفرد بالرواية عن مغيرة، بل تابعه جرير بن عبدالحميد، وكلاهما من رجال الكتب الستة، متفق على جلالتهما، وقد تكلم في جرير أيضاً فنقل فيه أشياء لا علاقة لها بروايته لهذا الحديث، والرجل متفق على الاحتجاج به، وقد اعترف هو بذلك غير أنه عقب هذا الاعتراف بكلام لا معنى له، فقال في ص (79): "إلا أن ما ذكرناه لا يعني أن الرجل منزوع الثقة، فقد وثقه غالب أهل العلم بالرجال، واحتجوا بما رواه ولكنا أردنا توضيح ما بهذا الإسناد من مغامرة تحيط به عن أن يكون سليماً معافى".(1/48)
وهذا كلام ليس من التحقيق العلمي في شيء، إذ كيف يكون الاحتجاج بمن وثقه غالب الأئمة - على زعمه - واحتجوا بحديثه، والحقيقة أنه متفق على توثيقه والاحتجاج به، كيف يكون ذلك مغامرةً تحيط بالإسناد أن يكون سليماً معافى، وإذا كان مثل جرير يقال فيه ذلك فما عساه يبقى للأمة من الأحاديث يا ترى إذا ركبنا هذه الجادة من التحقيق، وهل سيكون عندنا حديث سليم معافى لا يعد الاحتجاج به مغامرة، الله تعالى أعلم.
ثم العجب من الأستاذ الصياصنة - وهو يدعي التحقيق العلمي - أنه ينقل كلاماً عن ابن معين في هشيم ثم يحذف جزءً من الكلام ليستقيم له الطعن في هشيم، على سبيل الإطلاق، مع أن الكلام في واقعة معينة، وذلك أن عباس الدوري قال في تاريخه (389/4): "سألت يحيى عن أحاديث يرويها هشيم عن مغيرة عن إبراهيم: النظر في مرآة الحجام دناءة، وإذا بلي المصحف دفن، وأشباه هذه الأحاديث، فقال سمعها هشيم من إبراهيم بن عطية الواسطي عن مغيرة، قلت ليحيى إبراهيم هذا سمع من المغيرة هذه الأحاديث، قال كان إبراهيم هذا لايساوي شيئاً، وينبغي أن يكون قد سمع من مغيرة، فهشيم إنما سمع هذه الأحاديث منه عن مغيرة، وكان يقول: مغيرة، هكذا قال يحيى أو شبيه بهذا".
هذا الكلام من ابن معين لا علاقة له بحديثنا هنا لأمرين؛ (الأول): أن هذا الكلام إنما هو في أحاديث معينة، وهي أحاديث مستنكرة على هشيم، وهي حديث النظر في مرآة الحجام، وحديث دفن المصحف، وأمثال هذه الأحاديث المستنكرة، وهذه الأحاديث معروفة عند النقاد، ولذلك قال عباس الدوري في كلامه: "وأشباه هذه الأحاديث"، (والثاني): أن ابن معين بين طريقة هشيم في هذه الأحاديث، وأنه لا يذكر سماعه فيها من مغيرة، بل يبتدئ الكلام بقوله: (مغيرة) هكذا بدون أن يقول سمعت مغيرة أو أخبرنا مغيرة، وحديثنا مختلف، لأن هشيما قد صرح فيه بالسماع حيث قال: أخبرنا مغيرة.(1/49)
أما الأستاذ الصياصنة فقد نقل كلام ابن معين وحذف منه ما يفيد تحديد المشكلة في رواية هشيم، فحذف التمثيل بالأحاديث المستنكرة، وجملة: (وأشباه هذه الأحاديث)، وجملة: (وكان يقول: مغيرة)، ليتعمم بعد ذلك القول بضعف حديث هشيم عن مغيرة عن إبراهيم، والله المستعان.
(المطعن الثاني): أن الحديث من رواية مغيرة، ومن ثم نقل فيه كلام الإمام أحمد في تضعيف روايته عن إبراهيم خاصة، وذلك من أجل التدليس، وهذا في الحقيقة مؤثر، إلا أنه معارض بأمرين؛ (الأمر الأول): أن رواية مغيرة عن إبراهيم محتج بها في الصحيحين، فقد أكثرا من إخراج روايات معنعنة بهذا الإسناد، ولذلك قال الذهبي في ترجمة المغيرة في الميزان (496/6): "إمام ثقة، لكن لين أحمد بن حنبل روايته عن إبراهيم النخعي فقط، مع أنها في الصحيحين"، (والأمر الثاني): أن أحمد إنما ضعف رواية مغيرة عن إبراهيم من أجل أن عامتها قد أخذها من حماد أو عبيدة أو غيرهما كما ذكر ذلك في كتاب العلل ومعرفة الرجال (207/1)، وفي رواية مغيرة هنا ما يدل على انتفاء التدليس، وهو قول مغيرة: (وأنسيت الخامسة حتى ذكرني عبيدة أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا ورثته ما دامت في العدة)، فقوله أنسيت الخامسة حتى ذكرني عبيدة دليل على أنه سمع هذا الحديث من إبراهيم مباشرة، وإنما ذكره عبيدة بما نسيه من الحديث فقط، والله تعالى أعلم.(1/50)
(المطعن الثالث): أنه من رواية إبراهيم النخعي، وهذا من أعجب ما يكون، أن يطعن في حديث من أجل إبراهيم النخعي، فهو - والله - إمام قليل نظراؤه، وإذا لم يكن مصدراً موثوقاً به، فلا ثقة - والله - بأحد من رجالات هذه الأمة، أما الكلام عن كثرة إرساله فلا داعي للطعن به هنا، لأنه قد روى الحديث عن شريح في رواية جرير بن عبد الحميد، وقد تعاصر هو وشريح في الكوفة سنين طويلة، وعنعنته محتج بها بإطلاق كما في الصحيحين، ولا عبرة لوصف بعضهم إياه بالتدليس، ولذلك جعله الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين من المرتبة الثانية، وهم: "من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح، لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى"، على أنه لو كان مرسلاً لكان معتضداً بما قبله، لاسيما ومراسيل إبراهيم قد صححها جماعة من الأئمة كما يقول العلائي في جامع التحصيل ص (141).
عثمان بن عفان
أما أمير المؤمنين وثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان فقد ورد عنه في المسألة أثر هو في غاية من الصحة، وهو ما أخرجه الشافعي في الأم (106/6) قال: أخبرنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن أبيه: "أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقضى فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه بثمانية آلاف درهم، دية وثلث"، ثم قال الشافعي رحمه الله: "ذهب عثمان رضي الله عنه إلى التغليظ لقتلها في الحرم".
هذا الأثر صحيح رواته ثقات أثبات، وفيه أن عثمان غلّظَ دية المرأة الموطوءة في الحرم فجعلها دية وثلث دية، وهي ثمانية آلاف درهم، ومن المعلوم أن دية الرجل اثنا عشر ألف درهم، وإذا كانت الثمانية آلاف درهم تعتبر دية وثلث، فالدية المقصودة هي ستة آلاف درهم، وثلث الدية ألفان، ومن ثم فإن دية المرأة هنا نصف دية الرجل، وهي ستة آلاف درهم، وإنما أصبحت ثمانية آلاف من باب تغليظ الدية لكون القتل وقع في الحرم.(1/51)
ومع صحة هذا الحديث فقد قام الأستاذ الصياصنة - عفا الله عنه وغفر له - بجولة هنا وهناك لتضعيف هذا الخبر، حتى بدا منه كثير من الاضطراب، بحيث أورد في الشافعي كلام من تكلم فيه، فلما رأى أن ذلك غير مجدٍ وقد يجر عليه من الملام ما لا يحتمله استدرك فقال: "ومع هذا فإن الإمام الشافعي أحد أعلام الإسلام..."، وعليه انتقل الأستاذ الصياصنة من الشافعي إلى تلميذه الربيع بن سليمان، وقلده في ذلك الشيخ يوسف القرضاوي، فأخذ الأستاذ الصياصنة ينقل فيه ما يمكن أن يكون مدخلاً له في عدم الاحتجاج بالحديث، وما درى أنه بذلك ينسف مذهباً قد توالت القرون على الأخذ به، وهو المذهب الشافعي، إذ إن الربيع بن سليمان هو راوية ذلك المذهب، ولم نجد أحداً تردد في الاحتجاج بروايته عن الشافعي.
ثم انتقل الأستاذ الصياصنة خوفاً من أن يسلم الحديث إلى عبد الله بن أبي نجيح فأخذ ينقل فيه كل ما قيل عن اتهامه بالقدر، مع علمه بأن الأئمة قد احتجوا بحديثه ولم يلتفتوا إلى بدعته لصدقه وأمانته.
غير أنه لما رأى ضعف موقفه حيال هذا الأثر لجأ إلى الاعتراف بقوته وبلوغه عنده بصعوبة بالغة درجة الحسن، لئلا يظهر بمظهر المتعنت، ثم عقب هذا الاعتراف بما يُعْدِمُهُ، حيث قال ص (92): "إن إسناد هذا الأثر - في ظاهره حسن -، لكنه إلى الضعف أقرب منه إلى الصحة، وذلك لسببين؛
1 - وجود متهم بالقدر والتدليس معاً فيه، وهو عبدالله بن أبي نجيح.
2 - عدم وجود طريق أخرى لهذه الرواية تدعمها بالزيادة التي فيها، والتي تنص على أن مقدار دية المرأة الذي قضى به عثمان رضي الله عنه كان ثمانية آلاف درهم".
ثم قال الأستاذ الصياصنة بعد ذلك: "ولو أن مثل هذه الطريق الأخرى قد وجدت لكان لنا مع هذا الأثر شأن آخر، وقول مختلف".(1/52)
وإنما ذكر الأستاذ الصياصنة ذلك لوقوفه على طريقين عن ابن أبي نجيح ليس فيهما ذكر مقدار الدية، وإنما فيهما أن عثمان غلظ الدية فحكم بدية وثلث، وهذا اللفظ كما هو ظاهر ليس مخالفاً للفظ الشافعي بل هو مختصر منه، ثم جاء الشيخ يوسف القرضاوي - حفظه الله - وقلده في ذلك، بل زاد عليه أن حكم بشذوذ رواية الشافعي لمخالفتها - في نظره - لذينك الطريقين.
وأنا أقول: أما السبب الأول وهو التدليس فغير متجه، لأن ابن أبي نجيح غير مشتهر بالتدليس، وإنما يفتش عن السماع في رواية المشهورين بالتدليس كما ذكر ذلك مسلم في مقدمة صحيحه، ثم النسائي قد قيد وصفه لابن أبي نجيح بالتدليس بكونه عن مجاهد، ومن ثم فإن مثله لا يفتش عن سماعه من كل أحد بإطلاق، وإنما يفتش عن سماع مثله إذا قامت قرينة على عدم السماع، وحيث لا قرينة - كالحال هنا - فلا يفتش عن سماعه، لاسيما وروايته هنا عن أبيه، وهو مشهور بالرواية عنه.
وأما السبب الثاني وهو عدم وجود طريق أخرى، كما ظنه الأستاذ الصياصنة، والشذوذ كما قاله الشيخ يوسف القرضاوي - عفا الله عنه - فأقول لهما: رويدكما، فقد ورد الأثر بطرق أخرى غير طريق الشافعي لا مرية في صحتها، فيها التنصيص على أن دية المرأة التي قضى بها عثمان كانت ثمانية آلاف درهم، فعسى أن يكون للأستاذ الصياصنة والشيخ القرضاوي - حفظهما الله وعفا عنهما - بعد الاطلاع على هذه الطرق مع هذا الأثر شأن آخر وقول مختلف، فأقول:
أخرج هذا الأثر بالتنصيص على المقدار المذكور عبدالرزاق في مصنفه (298/9) عن معمر والثوري وابن عيينة، وأخرجه أيضاً عبدالله بن أحمد في مسائله لأبيه أحمد بن حنبل ص (423) عن أبيه عن وكيع عن الثوري، ثلاثتهم (معمر والثوري وابن عيينة) عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال أوطأ رجل امرأة فرساً في الموسم فكسر ضلعاً من أضلاعها فماتت فقضى عثمان فيها بثمانية آلاف درهم، لأنها كانت في الحرم جعلها الدية وثلث الدية".(1/53)
فهذه ثلاثة طرق عن ابن أبي نجيح ليس فيها الشافعي ولا تلميذه الربيع، وثمة طرق أخرى فيها التنصيص على ذلك المقدار لم أقف عليها في الكتب المسندة، أشار إليها أبو محمد بن حزم في المحلى (396/10)، وما وقفت عليه من الطرق فيه كفاية، والله ولي التوفيق.
ومع صحة هذا الأثر فإني لا آمن أن يرده الشيخ حفظه الله بسبب أو بآخر، بل قد فعل الشيخ - حفظه الله وعفا عنه - فذكر أنه وإن صح فيحمل على تصرفات الإمام بمقتضى رئاسة الدولة، ثم ذكر الشيخ أن لعلماء الأصول كلاماً مهماً في تصرفات الرسول، وأنواعها، وأن منها تصرفه بمقتضى الإمامة، وأنها لا تكون من الشرع الدائم، ثم قال الشيخ: "وإذا كان هذا الشأن في تصرف الرسول فكيف بتصرف غيره من الأئمة والخلفاء".
وهذا القول من الشيخ في الحقيقة عجب، يثير الدهشة ويبعث على الاستغراب، إذ ما دخل التصرف بالإمامة في شأن تقدير أصل الدية ههنا، نعم يمكن حمل التغليظ في الدية على التصرف بالإمامة، أما أصل تقدير الديات فثابت بتقدير الشارع، لايمكن إخضاعه بحال لتصرفات الأئمة، وإلا فهل يقول الشيخ بجواز إلغاء أئمة العصر للديات مطلقاً، أو الزيادة فيها مطلقاً دون مراعاة لأسعار الإبل، وهل يقول الشيخ بجواز إلغاء الحدود مطلقاً لأي مصلحة يراها الإمام، وما هو الضابط لتصرفات الإمام، على هذا الشكل الذي يطرحه به الشيخ.
عبد الله بن مسعود(1/54)
أما عبدالله بن مسعود فقد وردت عنه روايات كثيرة في المسألة يقوي بعضها بعضاً، غير أن من بينها رواية صحيحة كالشمس في رابعة النهار، وقد أشار لها البيهقي بقوله في السنن الكبرى (96/8): ورواه شقيق عن عبدالله بن مسعود وهو موصول)، وقد وقف على هذا القول من البيهقي الأستاذ مصطفى الصياصنة لأن نقل كلاماً متصلاً به قبله وتركه، ومع ذلك لم يشأ الأستاذ الصياصنة أن يتكلم على رواية ابن مسعود هذه، بل لم يذكرها أصلاً، ولا أدري سبب عدم ذكره لها إلا أن يكون قد أعجزه صحة إسنادها فأعرض عنها لذلك جملة وتفصيلاً، وهي ما أخرجه الشافعي في كتاب الأم (177/7): قال: أخبرنا شعبة عن الأعمش عن شقيق عن عبدالله في جراحات الرجال والنساء: تستوي في السن والموضحة، وما خلا فعلى النصف". فهذا الأثر كما ترى صحيح في غاية الصحة، بل روى الشيخان بإسناد الشافعي هذا أحاديث كثيرة، وأهل العلم بالحديث يعلمون أن هذا الإسناد لايمكن الطعن فيه بحال، لاسيما وهو من رواية شعبة بن الحجاج، والله الموفق.
المعقول
أما المعقول فقد تعلق الشيخ القرضاوي - حفظه الله - منه بأمرين:
(الأول): أن القرآن لم يفرق في العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية بين الرجل والمرأة، فيعاقب قاتل المرأة في الآخرة سواء كان رجلاً أم امرأة، ويقتص منه في الدنيا سواء كان رجلاً أو امرأة، هكذا ذكر الشيخ هذه النقطة في كلامه عن القرآن، غير أنه لم يبين وجه الشاهد من ذلك على مسألة الدية، إلا أن كلامه يؤذن بالمراد، فكما أن القرآن سوى بين الرجل والمرأة في العقوبة الدنيوية والأخروية، فكذلك الدية، لأنها عقوبة، ينبغي التسوية بينهما فيها، هذا هو مقتضى ما أراده الشيخ فيما يظهر.
(والأمر الثاني) أن الشريعة لم تفرق بين الرجال في مقدار الدية، فلا فرق في الشريعة بين حاكم ومحكوم ولا بين غني وفقير ولا بين رفيع ووضيع ولا بين رجل وطفل، بل كلهم في الدية سواء، فكذلك المرأة ينبغي أن تساوي الرجل.(1/55)
والجواب على ذلك من عدة وجوه:
(الوجه الأول) أن الأدلة الشرعية لا تعارض بدليل عقلي محتمل للخطأ والصواب، لاسيما والاحتمال الأقرب إلى العقل هو ما وافقها، كما سيأتي.
(الوجه الثاني): أن تسوية الشارع بالنسبة للقتل بين الرجل والمرأة في العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية إنما هو بالنظر إلى النفس الإنسانية، والمرأة والرجل في الإنسانية سواء، فكانت عقوبتها في ذلك سواء، وأما الدية فتقديرها إنما هو بالنظر إلى مصلحة الوارث.
(الوجه الثالث): أن جعل الدية في مقابل الإنسانية، إجحاف بحق الإنسانية، لأن إنسانية كل من الرجل والمرأة لا تقدر بثمن، ومقتضى قول من يريد التسوية بين الديتين متعللاً بكونهما في الإنسانية سواءً أنه يقوّم إنسانية كل منهما بشيء من هذه الدنيا.
(الوجه الرابع): أن القول بالتسوية بين دية الرجل والمرأة لكونه يقتل إذا قتلها، يلزم عليه القول بأن دية المرأة الواحدة تساوي دية الرجلين والثلاثة والأربعة والعشرة، لأنهم يقتلون بها، وهذا اللازم باطل فكذلك الملزوم.
(الوجه الخامس) أن الدية ليست عقوبة حتى يقال بالتسوية، ولو كانت عقوبة لما تحملتها العاقلة وهي القبيلة في الخطأ، ولما تحملتها هذه الأيام شركات التأمين.
(الوجه السادس): أن المقتول لا مصلحة تلحقه بتقدير الدية، لأنه قد مات، فالدية إذن تعويض روعي فيه مصلحة المضرور، وهم الورثة، بفقد معيلهم، والمعيل في الغالب هو الرجل، دون المرأة، والتسوية في التعويض عن الضرر الذي لحق الورثة بموت معيلهم والضرر الذي لحقهم بموت من ليس كذلك ليس من العدالة في شيء.(1/56)
(الوجه السابع): أن الدية أمر مالي وقد عهدنا المرأة بالنسبة للأمور المالية في الشريعة الإسلامية على النصف من الرجل، ففي الميراث وهو أمر مالي قال تعالى: {للذكر مثل حظ الأنثيين}، وفي الشهادة على الأموال قال تعالى: {فرجل وامرأتان}، وفي العقيقة وهي قربان مالي يعق عن الذكر بكبشين وعن الأنثى بكبشٍ واحدٍ، فكذلك الدية أمر مالي ينبغي أن تكون المرأة فيه على النصف من الرجل، ولذلك قال ابن عبد البر في التمهيد (358/17): "وقد أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل.. وإنما صارت ديتها - والله أعلم - على النصف من دية الرجل، من أجل أن لها نصف الميراث، وشهادة امرأتين بشهادة رجل". أما إعالة المرأة لغيرها فهو أمر نادر، والنادر لا حكم له كما هو معلوم، ولو استدركنا على الشريعة بأفراد النوادر لما سلم لنا حكم، وأما الأطفال فألحق حكم الذكر منهم بالرجل لأنه رجل في المستقبل، وألحقت الأنثى بالمرأة في الحكم لأنها امرأة في المستقبل.
وأما عدم التفريق في هذا التعويض بين الشريف والوضيع ونحوهما فلضبط الأحكام، لأن مراعاة مثل هذه الحيثيات تفضي إلى عدم الانضباط في الأحكام، وإلى المنازعات بين الأنام، بادعاء أولياء المقتول له الشرف والغنى وغير ذلك، واتهام غيرهم له بعدم الأهمية والوضاعة وغير ذلك، مما لا يمكن ضبطه، ولذلك نرى المبالغات الكثيرة في التعويض عند الغرب على أشياء تافهة، بسبب مراعاتهم لمثل هذه الحيثيات، والله تعالى أعلم.
ابن تيمية يشهر سيف الإجماع(1/57)
وفي الختام أحب أن أنبه إلى مسألة، وهي أن الشيخ - حفظه الله تبارك وتعالى - قد أبدى في مخالفته للإجماع ههنا ما يعتقد معه قيام العذر له فيما ذهب إليه، وهو اعتقاده أن له فيما ذهب إليه من مخالفة الإجماع ههنا أسوة، وأنه في منهجه هذا متبع لا مبتدع، حيث قال: وأود أن أذكر هنا للإخوة الذين يدافعون بحرارة عن الإجماع.. ويشهرون هذا السيف في وجه الذين ينادون بالتسوية.. أن هذا السيف نفسه هو الذي شهره رجال المذاهب المتبوعة في وجه ابن تيمية ومدرسته، حين جدد الاجتهاد في مسائل الطلاق.
وهذا الذي أبداه الشيخ - حفظه الله - ليس له بل عليه، وذلك لسببين؛ (السبب الأول): أن ابن تيمية الذي طالما شُهِرَ في وجهه سيف الإجماع، نراه بنفسه يشهر سيف الإجماع في وجه المنادين بالتسوية هذه الأيام، وهذا والله من أكبر الدلائل على صحة هذا الإجماع، حيث قال في منهاج السنة النبوية (238/4): "ولهذا لو شهدت خديجة وفاطمة وعائشة ونحوهن ممن يعلم أنهن من أهل الجنة لكانت شهادة إحداهن نصف شهادة رجل، كما حكم بذلك القرآن، كما أن ميراث إحداهن نصف ميراث رجل، وديتها نصف دية رجل، وهذا كله باتفاق المسلمين".
(والسبب الثاني): أن ابن تيمية في منهجه لا يخالف غيره من الأئمة، فمتى صح الإجماع قال به، وأما إذا كانت المسألة مختلفاً فيها والأدلة محتملة فلا يمنع من الاجتهاد فيها حينئذٍ عنده ادعاء مدعٍ الإجماع فيها، ولذلك فلن نجد مسألة صح فيها إجماع للصحابة ويخالفها ابن تيمية، هذا هو منهجه، ومنهج غيره من العلماء، ولذلك لم يخالف في مسألة تنصيف دية المرأة.(1/58)
وأما ما ذُكر من مسائل الطلاق فإن ابن تيمية فيها على المنهج الذي ذكرته، لم يخالف فيها إجماعاً متيقنا كهذا الذي في مسألتنا، فعلى سبيل المثال قوله في الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يقع واحدة - بغض النظر عن الصواب فيها - نجد ابن تيمية في هذا القول على المنهج الذي ذكرته، فنجده ينقل في هذا القول الذي يرجحه أقوال غير واحد من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، من ذلك قوله في مجموع الفتاوى (73/33): "وأما لو طلقها الثلاث طلاقاً محرما، مثل أن يقول لها: أنت طالق ثلاثاً جملة واحدة، فهذا فيه قولان للعلماء؛ (أحدهما): يلزمه الثلاث، (والثاني) لايلزمه إلا طلقة واحدة، وله أن يرتجعها في العدة، وينكحها بعقد جديد بعد العدة، وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو قول طائفةٍ من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل"، وقال أيضاً في الفتاوى (82/33): "وأما جمع الثلاث فأقوال الصحابة فيها كثيرة مشهورة، روي الوقوع فيها عن عمر.. وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر وعمر صدراً من خلافته وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس أيضاً، وعن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنهم أجمعين" ثم أخذ يعدد نفراً من الفقهاء المتقدمين المتعبدين على مذهب مالك بن أنس، نقلاً عن أبي جعفر أحمد بن محمد بن مغيث، بل ذكر أن التلمساني ذكره رواية عن مالك نفسه، وعن بعض أئمة الحنفية.(1/59)
فابن تيمية - رحمة الله عليه - لا يختار قولاً وهو معترف بأنه مخالف للإجماع، بخلاف الشيخ - حفظه الله - في مسألة تنصيف دية المرأة، فإنه قد اختار فيها قولاً مع اعترافه الضمني بإجماع الأمة على خلافه، ومن اعتراف الشيخ الضمني على خلاف ما يذهب إليه قوله: "وقد تساءلت في نفسي: إذا كان هذا الحكم الذي ذاع واشتهر، وهو تنصيف دية المرأة لايستند إلى دليل معتمد من قرآن أو سنة أو إجماع.. فكيف سكت عنه علماء الأمة طوال اثني عشر قرناً، ولم يبرز عالم بعد ابن علية والأصم ينقد هذا الرأي ويدعو إلى اجتهاد جديد فيه".
فهذا الشيخ يعترف ضمناً بأن الأمة مجمعة على هذا الرأي مع اشتهاره وذيوعه قبل ابن علية والأصم وبعدهما ثم يرى المخالفة فيه جائزة، وهذا في الحقيقة ليس هو منهج ابن تيمية ولا مدرسته، بل منهج ابن تيمية ما ذكرته، وشتان بين المنهجين، بل إنني أزعم أن منهج الشيخ لايمكن أن ينتهجه أحد يؤتسى به من أهل العلم، والله تعالى أعلم، وأحكم.
وأما القول بأن كثرة حوادث السير داع للتجديد فقول لا ينتهض لمخالفة هذه البراهين، على أن كثرة الحوادث إنما سببها الكثرة السكانية في العالم، فتزايد نسبة الوفيات من كلا الجنسين عائد في الحقيقة إلى تزايد الأعداد البشرية عما كان قبل ذلك، هذا بالنسبة للحوادث الطبيعية، وإلا فإنه قد كان يقتل من النساء في السابق - وذلك إذا نظرنا إلى النسبة المئوية لعدد الناس أكثر مما يقتل حالياً - لكثرة ما يحصل من قتال الفتنة في العصور المتقدمة، ومع ذلك لم يكن ما يحصل من كثرة قتل النساء في ذلك الوقت عذراً لأحدٍ في مخالفة حكم مقرر في الدين الإسلامي بأدلة الشرع من القرآن والسنة والإجماع والآثار والمعقول، وهذا هو السر في عدم التجديد الذي استغرب الشيخ - حفظه الله - عدم قيام العلماء به، والله الهادي إلى الصراط المستقيم.(1/60)