الاستهلاك الاقتصادي في القرآن الكريم
( د. عبد الواحد عثمان مصطفى (1)
يقع هذا البحث في أربعة مباحث، سيتم عرض المفاهيم الأساسية للاستهلاك في المبحث الأول، وذلك مما يجعل عرض الموضوع أكثر يسراً من حيث التعريف. أما المبحث الثاني فسيتناول موضوع الاستهلاك من حيث التعريف .أما المبحث الثالث فسيعرض توازن المستهلك، وفي المبحث الرابع فسيتم عرض توجيه الاستهلاك في الإسلام .
المبحث الأول
المفاهيم الاقتصادية للمفردات الاستهلاكية
المقدمة:
سيعرض هذا المبحث المفاهيم الأساسية للاستهلاك وهي : الحاجات الاقتصادية، والمنفعة، والسلعة الاقتصادية، وأخيراً مفهوم الرشد الاقتصادي .
الحاجات الاقتصادية :
الحاجة في الاقتصاد هي: "كل شيء يرغب الفرد أن يحصل عليه، بصرف النظر إذا كان هذا الشيء ضاراً أو نافعاً أو ممنوعاً من وجهة النظر الصحية أو الأخلاقية أو سواها" (2) .
وهذا يعني أنَّ الحاجة هي حالة نفسية توضح شعور الفرد أو ميله نحو شيء معين. ولكي تكون الحاجة اقتصادية لا بُدَّ أنْ يكون هذا الشيء الذي يرغب فيه الإنسان من الأموال الاقتصادية، وأنَّ الفرد قادر على شراء هذا الشيء.
وتوفُّر هذين الشرطين مهم من وجهة النظر الاقتصادية، قال تعالى
[الأعراف: 31-32].
قال الإمام ابن كثير (3) : "كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة، والزينة: اللباس، وهو ما يواري السوأة.. وللإمام أحمد وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (عليكم بثياب البياض فألبسوها، فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم) (4) . وقوله تعالى .
__________
(1) (() رئيس قسم الاقتصادبكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بالجامعة.
(2) د. خالد الحامض، د. محمد كامل ريحان: مدخل الاقتصاد، العين، 1981م، ص 29.
(3) تفسيره، 2/281.
(4) تفسير ابن كثير، 2/281.(1/1)
وقال البخاري: قال ابن عباس: "كل ما شئت، و البس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة (1) . وقال الإمام أحمد : حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، من غير مخيلة ولا سرف فإنَّ الله يحب أنْ يرى نعمته على عبده) (2) . وقوله تعالى ... ردٌّ على من حرَّم شيئاً من تلقاء نفسه من غير شرع الله" (3) .
ومن هنا يتضح أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أمر عباده بالتزيُّن والتمتُّع بمباهج الحياة لكن في حدود الشرع. عليه فإنَّ الحاجة في الإسلام هي الشيء الطيب النافع للإنسان من الوجهة الصحية والأخلاقية التي تنصب على الأموال الاقتصادية المشروعة.
قال الإمام الجويني: "إنَّ الحرام إذا طبق الزمان وأهله ولم يجدوا إلى طلب الحلال سبيلاً، فلهم أنْ يأخذوا منه ـ أي الحرام ـ بقدر الحاجة" (4) .
ويقول أيضاً : "فالحاجة لفظة مبهمة لا يضبط فيها قول ... ولسنا نعني بالحاجة تشوق الناس إلى الطعام وتشوفها إليه ، فرب مشتهٍ لشيء لا يضيره الانكفاف عنه، فلا يعتبر بالتشهي والتشوُّق، فالمرعى إذا دفع الضرار و استمرار الناس على ما يقيم قواهم" (5) .
إذن الحاجة هي فطرة الإنسان، و لكن بالتربية والعلم تصبح هذه الحاجات جميعها مشروعة قال تعالى [الروم: 30].
__________
(1) المرجع نفسه، والصفحة نفسها.
(2) المرجع نفسه، والصفحة ذاتها.
(3) الإمام ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، المجلد الثاني، سورة الأعراف، الأزهر، 2001م، ص 212-213.
(4) الإمام الجويني: الغياثي، فقرة (742)، ص 478.
(5) المصدر السابق، فقرة (744)، ص 460.(1/2)
الدين الحنيف هو الإسلام وهو دين الفطرة ( حنيفاً مسلماً ، مطيعاً ثابتاً على الحق ، خلقة الله التي خلق الناس عليها ، وهو أنْ يعلموا أنَّ لهم رباً وفطرة الله دين الله ، وإنَّما سمى الدين فطرة لكون الناس خلقوا عليه. لحديث البخاري: (كل مولود يولد على الفطرة ) (1) .
ما سبق يوضح أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق على الفطرة، فأي مولود ولد على الفطرة، كما أنَّ الله سبحانه وتعالى هدى الناس إلى الخير بما جعل لهم من العقل والقلب، وبما أرسل إليهم من رسل يحملون تعاليمه إلى الناس كافة قال تعالى [العلق: 1-14].
وقد يعرض الإنسان عن الخير ويحب الحياة الدنيا ويركن إلى ملذاتها ونعيمها والحال هذه فإنَّ الحاجة هي رغبة الإنسان نحو الشيء، ولا تكون هذه الحاجة أو الرغبة صالحة إلاَّ بصلاح الإنسان نفسه . فالحاجة إذن هي الحلال من السلع و الخدمات المتاحة للإنسان في هذه الحياة الدنيا .
المنفعة:
المنفعة هي شعور نفسي يتولَّد عند الفرد بسبب استهلاكه لسلعة معينة . ويعتقد الاقتصاديون أنَّ الفرد يستطيع أنْ يقيس الشعور بوحدات كمية . ويقول ابن تيمية أيضاً: "الرزق يُراد به شيئان:
أحدهما: ما ينتفع به العبد.
والثاني: ما يملكه العبد ..." (2) .
هذا يوضح أنَّ للمنفعة جانبان في الإسلام، هما: الجانب الروحي، والجانب المادي.
ويقول ابن تيمية أيضاً: "إنَّ بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين أو الدنيا وهذا أصل متفق عليه بين العلماء" (3) .
__________
(1) أ. د. أحمد علي الإمام: مفاتح فهم القرآن، سورة الروم، دمشق، الطبعة الثانية، 2003م، ص 407.
(2) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، جمع وترتيب محمد بن قاسم الحنبلي وابنه محمد، ص 540.
(3) المصدر السابق، ص 541.(1/3)
ويستخدم ابن تيمية المنفعة الترتيبية منحنيات السواء كما ـ يسميه الاقتصاديون – في قياس توازن المستهلك ويقول في هذا الخصوص: "فإنَّها تختلف بكثرة المطلوب وقلته ، يرغب فيه ما لا يرغب فيه عند الكثرة .." (1) .
والمقصود بهذه العبارة أنَّه كلما كانت السلعة نادرة كلما كانت الرغبة إليها أكبر . فإذا كان الورق متوفراً بكميات كبيرة، فإنَّ الفرد لا يرغب في حيازة كميات كبيرة من الورق. وسيكون سعره منخفضاً أيضاً وهناك مثل اقتصادي يقضي بأنَّ الندرة سبب التكلفة . وعليه فإنَّ ابن تيمية يرى أن هناك علاقة بين المنفعة وكمية السلعة. كما أنَّ هناك علاقة بين المنفعة وكل من المكان الجغرافي، من ذلك أنَّ دولة يوغندا ليس لها منفعة في امتلاك السفن، لأنَّها ليست دولة بحرية ، بينما السُّودان له منفعة في امتلاك السفن، لأنَّه دولة مطلة على البحر الأحمر . والوقت له علاقة بالمنفعة – مثلاً في زمن الحرب فإنَّ البندقية تزاحم الخبز الأولوية . قال تعالى ... [البقرة: 219].
مما سبق يلاحظ أنَّ المنفعة مقياس لإشباع الحاجات، وباستخدامه يتمكن الفرد من وضع الأولويات يقول تعالى: [البقرة:
267-268].
قال مالك: "وإنَّه ليقع في قلبي أنَّ الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمر يدخله الله في القلوب رحمة منه وفضلاً، ومما يبيِّن ذلك أنَّك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها وتجد أخر ضعيفاً في أمر دنياه .." (2) . ويقول تعالى:
[البقرة: 274].
__________
(1) المصدر السابق، ص 514.
(2) الإمام ابن كثير، مصدر سبق ذكره، ص 316.(1/4)
"وهذا منه تعالى للمنتفعين في سبيله ابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل ونهار، والأحوال من سر وعلانية حتى النفقة على الأهل تدخل في ذلك، كما ثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح ـ وفي رواية عام حجة الوداع ـ: (وأنَّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاَّ ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في فيّ امراتك) (1) .
وضد المنفعة في الإسلام هو الضرر، سواء كان هذا الضرر ينتج عن استعمال سلعة أو طلب خدمة، يقول الله تعالى ... [البقرة: 173]، التحريم وقع على ثلاثة أشياء مادية تضر الجسد، بينما الرابعة ضررها معنوي.
السلعة الاقتصادية :
يقسّم الاقتصاديون السلع إلى نوعين :
الأول: السلع الاقتصادية، وتشير إلى "أي شيء يكون نادراً و مرغوباً من الأفراد، مما يجعل الفرد يضحي بكمية من سلعة أخرى أيضاً مرغوب فيها من أجل أنْ يحصل على كمية من هذه السلعة أو الشيء) (2) .
وهكذا فإنَّ كل شيء يرغب فيه الفرد ويريد أنْ يحصل عليه مقابل تقديم تضحية يعتبر سلعة، بصرف النظر عن الحل أو الحرمة، لذا فإنَّ لحم الخنزير سلعة عند غير المسلمين، وليس كذلك عند المسلم.
الثاني: السلع الحرة، وسميت هكذا لأنَّها متوفرة بكميات كبيرة في الطبيعة. ويمكن أنْ يحصل عليها الفرد دون تقديم أي تضحية، مثل الهواء. إذن لا بُدَّ من ملاحظة الفرق بين أهمية السلعة وندرة السلعة، فالهواء أكثر أهمية من الذهب، لا أحد يجادل في هذا .
__________
(1) الإمام ابن كثير، مصدر سابق، ص 319.
(2) L. C. SOLMON. ECONOMICS, A. WESLEY PUBLISHING COM. 1980, PP. 11(1/5)
ويقسِّم البعض الآخر السلعة إلى نوعين أيضاً: "البضائع نوعان، هما: البضائع النادرة ويتقرَّر سعرها حسب الطلب في السوق ، وبضائع أخرى يتقرَّر سعرها حسب تكلفة الإنتاج" (1) .
هذا التقسيم للسلع الاقتصادية إلى النوعين المذكورين يلاحظ أنَّه اعتمد على قاعدة الندرة . الإسلام قد لا يفرِّق وفق المعيار السابق، لأنَّ الإسلام يضفي على التقسيم الصبغة الروحية، "يستخدم السلع الاقتصادية في الإسلام بمفهومين:
الأول: الطيبات، وذكرت في القرآن الكريم ( 80) مرة.
الثاني: الرزق، وذكرت في القرآن الكريم ( 120) مرة.
والسلع الاستهلاكية في الإسلام هي كل ما لها منفعة مما يجعل لهذه السلعة صبغة روحية" (2) .
قال تعالى [البقرة: 173]. ويقول تعالى [المائدة: 93].
ويقول تعالى [الأنعام: 151].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعاً لآكله في دينه، والخبيث ما كان ضاراً له في دينه" (3) .
كما تم تقسيم السلع إلى ثلاثة أصناف، وهي: الحلال، والحرام، والمكروه.
"ذكر في هذا الباب المباح من الأطعمة والأشربة والمكروه منها والمحرم .... المباح أكلاً وشرباً .. إلخ لشرفه . وينفرد المباح في النجس عند الضرورة .. ومقابله ما روي عن مالك لا يؤكل كل ذي مخلب، ووحش، وفار، وخشاش أرض، لنجاسته. ما لم يصل للنجاسة تحقيقاً أو ظناً وإلاَّ كره أكله" (4) .
__________
(1) JOAN ROBINSON & J. EATWEL. AN INTRODUCTION TO MODERN ECONOMICS, McGROW HILL 1974, PP. 189
(2) MONZIR KAHF, THE ISLAMIC ECONOMY, MSA, OF USA, 1978, PP. 22-23
(3) ابن تيمية، الجزء (19) مصدر سبق ذكره، ص 24.
(4) بلغة السالك لأقرب المسالك: للصاوي، الجزء الأول، باب المباح، الدار السُّودانية للكتب، ص 322-323.(1/6)
هذه الأنواع التي ذكرت باعتبار أنَّها هي رأي الإسلام حول تقسيم السلع إلى سلع اقتصادية وسلع حرة. ينبغي ملاحظة أنَّ الإسلام تحدث عن الحلال، والمكروه، والحرام، وإذا أخذنا الطيبات من الرزق الحلال فإنَّه يقسم إلى سلع مجانية مثل الهواء التي يحصل عليها المسلم وغير المسلم على السواء ودون دفع أي مقابل مادي . أمَّا السلع الاقتصادية فإنَّ غير المسلم يتناول كل ما يتناول المسلم، والعكس غير صحيح.
الإنفاق:
يمكن تقسيم النفقات من عدة وجوه على النحو الآتي :
- نفقات الإنتاج ونفقات الاستهلاك .
- النفقة الخاصة والنفقة العامة .
"نفقات الإنتاج هي كل الأموال التي يتحملها المنتج لإنتاج سلعة
معينة" (1) . ويعرف أيضاً بأنَّه تكاليف الإنتاج .
أمَّا نفقات الاستهلاك فهي: "ماذا نفعل بالراتب عندما نتسلمه؟ هناك سبيلين فقط، هما: إنفاقه أو ادخاره . ويطلق على الإنفاق العائلي الجاري على السلع والخدمات تعبير الاستهلاك" (2) .
ما سبق ذكره من تقسيم للنفقات لا يتعارض مع الإسلام إلاَّ أنَّ الإنفاق في الإسلام أخذ وجهتين هما:
الوجهة الأولى: الإنفاق الاستهلاكي، وهو إنفاق الفرد على نفسه وعلى أهله لإشباع الحاجات وفق الشريعة . قال تعالى : [الطلاق: 7].
الوجهة الثانية: الإنفاق في سبيل الله، قال تعالى [البقرة: 254].
__________
(1) د. خالد الحامض ود. محمد كامل ريحان، مصدر سبق ذكره، ص 62.
(2) جيمس جوارتني، ريجارد ستروب: الاقتصاد الكلي ـ الاختيار العام والخاص، ترجمة جامعة الملك سعود، دار المريخ، ص 237.(1/7)
والإنفاق في سبيل الله ينقسم إلى نوعين على النحو التالي: "لا شك أنَّ الإنفاق في سبيل الله منه ما هو واجب، كما تدلُّ عليه آيات الأمر أو الإنكار أو الوعيد، ومنه ما هو مستحب ... ويدخل في أعظم القربات إلى الله تعالى" (1) ، قال تعالى [البقرة: 267]، وقال الله تعالى [المعارج: 24-25]، ويقول تعالى [إبراهيم: 31].
هذه الآيات توضح أنَّ المسلم يقسِّم دخله الذي يحصل عليه سواء كان أجراً حصل عليه من عمل، أو ربحاً حصل عليه من تجارة، أو كان ريع أرض أو عقار، فإنَّه مأمور بأنْ يقسِّم هذا الدخل إلى ثلاث أقسام على النحو التالي :
القسم الأول: وهو الإنفاق على نفسه وعلى من يعوله، سواء كانوا هم: والديه، أو أولاده، أو إخوانه، أو مَنْ في كفالته. وهذا هو الاستهلاك.
القسم الثاني: وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذا باب عريض يسع الاستهلاك والاستثمار في الدنيا والآخرة.
القسم الثالث: وهو الادخار، ومباح للمسلم أنْ يدخر قوت عامه.
السلوك الرشيد:
من الفروض المهمة في علم الاقتصاد الرأسمالي، الإنسان الاقتصادي: ويُقصد به الإنسان الرشيد الذي يسلك سلوكاً يتصف بالحكمة والعقلانية، وتقضي هذه الفرضية "بأنَّ الإنسان يسعى إلى تحسين وضعه الاقتصادي كهدف أساس، وَفقاً لقانون المصلحة الشخصية سواء تعلُّق التحسين بالدخل أو الإشباع من السلع والخدمات... الخ، وذلك عن طريق اتخاذ أفضل القرارات الاقتصادية التي تحقِّق له ذلك بأقل التضحيات" (2) .
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: دور القيم والأخلاق في الاقتصاد، ص 199.
(2) STAFF OF RESRACH & EDUCATION ASSOCIATION, ECONOMICS PROBLEM SOLVER, REA, 1984, PP 4(1/8)
يتحكّم في سلوك المستهلك قانونان، هما: المصلحة الذاتية، والمنافسة الحرة، قال آدم سميث: "يحدث هذا أولاً لأنَّ المصلحة الذاتية تقوم بدور القوة المحركة التي توجّه الناس إلى عمل ما يريده المجتمع وعلى استعداد أنْ يدفع ثمنه، لسنا نتوقع عشاءنا من كرم الجزار أو الخباز، ولكنا نتوقعه من رعايتهم مصلحتهم الذاتية، ولكن المصلحة الذاتية لا تمثل سوى نصف الحقيقة، ولكن شيئاً آخر يجب أنْ يمنع الأفراد المتعطشين إلى الربح من اقتضاء الثمن الفاحش من المستغلين القساة، هذا العامل هو المنافسة" (1) .
إذن آدم سميث يرى أنَّ المنافسة هي الحارس الأمين للمستهلكين من جشع المنتجين والتجار.
والمستهلك هكذا يحاول أنْ يحصل على أكبر إشباع ممكن من السلع والخدمات المتاحة في السوق أو يحاول أنْ يحصل على أكبر منفعة ممكنة من شراء السلع والخدمات في حدود دخله المخصص لشراء السلع والخدمات. كما أنَّ السلوك الرشيد يقضي بأنَّ المستهلك قادر على القيام بالاختيار العقلاني لما هو متاح من السلع في السوق، كما أنَّ الرشد الاقتصادي يعني أنَّ المستهلك يستطيع قياس وتحديد المنفعة التي يتحصل عليها من استهلاك السلعة المعينة.
أمَّا الرشد أو العقلانية في الإسلام فالمقصود به هو الحكمة، والمبادئ الإسلامية ترفض الصورة الرياضية الصارمة التي وردت في تعريفات الاقتصاديين، لأنَّها جنحت إلى المادية البحتة متأثراً بالفلسفة المادية التي آمن بها الغربيون، لا أحد يطلب المسلم أنْ يكون ملاكاً، بل المسلم بشر يخطئ ويصيب ويكون أنانياً يحب تحقيق مصلحته الذاتية ما وسعه، وكل مسلم "يقضي وقته أو بعضه في تحسين وضعه الاقتصادي، وبعضه في تحسين مجتمعه عن طريق الدعوة إلى الله وبعض وقته في التذكُّر والعبادة وتحرير الإنسان من الجري وراء المأكل والمشرب" (2) .
__________
(1) روبرت هلبرز: قادة الفكر الاقتصادي، مكتبة النهضة المصرية، 1963م، ص 63.
(2) M. KAHF, OP, CIT, PP. 19-20(1/9)
قال تعالى [طه: 124]، ويقول تعالى [نوح: 10-12].
لقد وُلِدَ الإنسان بحاجات عديدة ويسعى لإشباعها، وكلما كبر ما أشبع منها كان في وضع أفضل ويكون في سعة من العيش ورغد.. المسلم يؤمن بالآخرة، ويعرف أنَّ هناك علاقة بين الدنيا والآخرة.
وهذا الإيمان له أثران:
الأول: الاختيار يتكون من جزءين:
[أ] الأثر العاجل في الدنيا.
[ب] الأثر اللاحق في الآخرة (1) .
إذن الرشد في الإسلام هو العمل الصالح "العمل الذي ينفع صاحبه" (2) ، قال تعالى [الجن: 10]، ويقول تعالى [الجن: 21]، قال تعالى ... [المائدة: 93]، قال أنس بن مالك: "بينا أنا أدير الكاس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي دجانة، ومعاذ بن جبل، وسهيل ابن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من الخمر، وثملوا إذ سمعنا منادياً ينادي: ألا أنَّ الخمر قد حرّمت، قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى المسجد" (3) .
كان العرب يعشقون الخمر حتى كانوا يتغزلون في لونها وشكلها.. الخ، ولكن ما إنْ سمعوا نداء التحريم حتى أراقوها دون تأخير "وعظمة هذا الخاصية في الاقتصاد الإسلامي أنَّها تضع بذرة الرشد في قلب كل مسلم بينما يملك من الناحية الاعتبارية التمتُّع كما يريد من الحلال" (4) .
__________
(1) M. KAHF, OP. CIT. PP. 17
(2) ابن تيمية، مصدر سبق ذكره.
(3) الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، الجزء الخامس، أهم الخصائص المميزة للاقتصاد الإسلامي، 1983م، ص 179-180. والنص في تفسير الطبري، 5/37، وتفسير ابن كثير، 2/125.
(4) المصدر السابق، ص 180.(1/10)
الإسلام يدعو إلى التكاتف بين الفرد والمجتمع، ويعتبر أنَّ هذا هو العقلانية والرشد، قال تعالى [الزخرف: 32]. وأشار القرآن إلى الأخوة الصادقة بين المسلمين، قال تعالى [الحجرات: 10]، "فالإيمان بالله، وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين، وهو ثمرة العقل ومنتهى الحكمة، والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة" (1) .
ما يوضِّح أنَّ الرشد الاقتصادي في مفهوم الإسلام يعود إلى الإيمان بالله وكتابه، وهو يخشى الله في أفعاله وتصرُّفاته مستهلكاً أو منتجاً، بائعاً أو شارياً، كما أنَّ الإسلام يدعو إلى التكافل وروح الجماعة، وهذا ما يتحقق في الاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي باعتماده على الحساب المادي الرياضي لتصرُّفات الناس.
المبحث الثاني
تعريف الاستهلاك والعوامل التي تؤثر عليه
في هذا المبحث سوف يتم التعرُّض إلى مفهوم الاستهلاك في الاقتصاد والإسلام، كما سوف يعرض المبحث العوامل التي تؤثر على الاستهلاك، مثل: السعر، وحجم السكان، والدخل ...الخ، وهذه المقارنة سوف يتيح للدارسين والباحثين التعرُّف على المفهوم الإسلامي للاستهلاك، والطريقة المتطورة التي يقدم بها الإسلام للاستهلاك.
تعريف الاستهلاك:
تعريف الاستهلاك لغة:
عرَّفه قاموس "مختار الصحاح" بأنَّه: "هلك الشيء يهلك هلاكاً وهلوكاً... وأهلكه واستهلكه" (2) .
أمَّا ما جاء في "لسان العرب": "استهلك المال: أنفقه وأنفده، وأهلك المال: باعه، والهلكى الشرهون من النساء والرجال، ومنه قوله: لم أهلك إلى اللبن أي لم أشربه" (3) .
مما سبق يلاحظ أنَّ المفهوم اللُّغوى للاستهلاك هو إفناء السلع والبضائع وإهلاكها.
__________
(1) الإمام الغزالي: إحياء علوم الدين، الجزء الثالث، ص 89.
(2) الإمام محمد بن أبي بكر الرازي: مختار الصحاح.
(3) ابن منظور: لسان العرب، المجلد العاشر.(1/11)
أمَّا في قواميس اللُّغة الإنجليزية فإنَّه ورد في قاموس وبستر الأمريكي: "الإفناء أو عملية التحويل إلى طاقة" (1) . كما ورد في "قاموس أكسفورد" بأنَّه: "شراء واستعمال السلع" (2) .
تعريف الاستهلاك اصطلاحاً:
الاختلاف واسع في الاقتصاد حول كلمة "الاستهلاك"، والسبب في هذا الاختلاف الواسع يعود إلى اختلاف العقيدة، بالإضافة إلى التطوُّر الحضاري الكبير الذي أدَّى إلى تطوُّر الحاجات الإنسانية بدرجة كبيرة.
ولقد عُرِّف الاستهلاك عام 1995م بأنَّه: "اختيار، وشراء، واستعمال، وصيانة، وإصلاح، وإحلال لأي من المنتجات أو الخدمات" (3) .
لفترة طويلة من الزمان كان الاستهلاك ناتجاً عرضياً للإنتاج، حيث كان الاعتقاد السائد بأنَّ الإنتاج هو القطاع المؤثر على الاستهلاك وليس العكس. وسيادة هذا المفهوم أدت إلى تأثُّر التركيبة الاجتماعية وطبقات المجتمع بالعملية الإنتاجية، ومن ثم تأثرت الكتابات الفلسفية، والاجتماعية، والفكرية، والاقتصادية.
ولكن مع التطور الكبير فإنَّه أصبح من الصعب تجاوز الأبعاد الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية لظاهرة الاستهلاك. وهكذا أصبح الاستهلاك يلعب الدور الأساس في تطور النظام الرأسمالي وليس العامل المحفز كما كان في العصور الوسطى حتى القرن العشرين.
__________
(1) NEW WEBSTER,S DICTIONARY, CB. 1975
(2) OXFFORD DICTIONARY
(3) ستيفن ميلز: النزعة الاستهلاكية كأسلوب حياة، ترجمة د. علي الدجوي، المكتبة الأكاديمية، 2002م،
ص 9.(1/12)
يلاحظ أنَّ أهمية الاستهلاك ظهرت مع اختلاف التركيبة الاجتماعية، أي تقسيم المجتمع إلى أغنياء وفقراء وطبقة وسطى، مما أدَّى إلى ظهور أنماط استهلاكية مختلفة، "وذلك كسلوك منفصل لرجل محترم مرتاح الدخل، ذو ذوق دقيق، وأصبح ذو منصب يميّزه التصرُّف العقلاني النبيل، فيترفع بتلك الخصائص والصفات عن التدني الاستهلاكي للسلع والبضائع... ولهذا فقد خلق نظام جديد من الرتبة والدرجات كعلامات للاستهلاك والمستهلكين في السلم الاجتماعي تتميّز بالصنفية" (1) .
ثم أصبح الاستهلاك يشكِّل دوراً مهماً بسبب التفوُّق الحضاري، "وفي حقبة التسعينات ـ من القرن العشرين ـ بدأ الاستهلاك يأخذ شكلاً تفاوضياً بين المنتجين والمستهلكين، أدّت إلى هيمنة أدبيات جديدة مثل: الخبرة، والهوية، والحرية، ونمط الاستهلاك، والإعلام، والدعاية... ورأس المال الثقافي، ورأس المال الرمزي" (2) .
ما سيق يوضِّح الرابط بين الاستهلاك والكميات المستهلكة من السلع والثقافة، وما يلائم هذه الثقافة من الحياة اليومية، أدّى هذا إلى أنْ ينادي علماء الاجتماع إلى ضرورة قيام علم الاستهلاك الاجتماعي.
"وظهرت مفاهيم جديدة مع استهلال الألفية الثانية، مثل: استهلاك الفضاء، واستهلاك المكان، واستهلاك التكنولوجيا، واستهلاك الصناعة الفائقة، واستهلاك الحسابات المنزلية ...الخ" (3) .
__________
(1) المصدر السابق، ص 10.
(2) المصدر السابق، ص 23-24.
(3) المصدر السابق، ص 26.(1/13)
وهذا يوضِّح أنَّه "كلما ارتقينا في مدارج الحضارة؛ كلما ضغطت العوامل النفسية على حياتنا الفسيولوجية... في المجتمع البدائي الذي يكون الاستهلاك بسيطاً، لأنَّ الحاجات ذاتها بسيطة، بعكس الحضارة تؤدي إلى تنوُّع وتعقُّد الحاجات الإنسانية" (1) . وفي هذا يقول ابن خلدون: "وذلك أنَّ الأُمَّة إذا تغلبت وملكت بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها، فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله، ورقته، وزينته" (2) .
ويواصل ابن خلدون قوله في هذا الخصوص: "... وآثروا الراحة والسكون والدعة، ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن.. ويغرسون الرياض، ويستمتعون بأحوال الدنيا.. ويتأنقون في الملابس والمطاعم والآنية والفرش.. ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أنْ يتأذن الله بأمره وهو خير الحاكمين" (3) .
ويرى ابن خلدون أنَّه في الطور الأخير لهذا الترف ـ أي طور الإسراف والتبذير ـ: "الطور الخامس طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة متلفاً لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والملاذ.. واصطناع أخوان السوء وخضراء الدمن.." (4) .
ويورد ابن خلدون نص الآية التي يقول فيها سبحانه وتعالى [الإسراء: 16-19]، ويقول تعالى [الأعراف: 34]، ويقول تعالى [الحجر: 4].
__________
(1) د. منصور إبراهيم التركي: الاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق (دراسة مقارنة)، المكتب المصري الحديث، 1976م، ص 38.
(2) عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، الفصل 11، دار الجيل، بيروت، ص 184.
(3) المصدر السابق، الفصل 12، ص 185.
(4) المصدر السابق، الفصل 17، ص 194.(1/14)
وهكذا يلاحظ أنَّ المفهوم الرأسمالي للاستهلاك والوصول إلى قمة الرفاهية المادية هي مجرّد وهم وخرافة لا يمكن تحقيقها، وذلك وَفق تفسير ابن خلدون للتاريخ. "ثم إنَّ الله تعالى خلق أولاد آدم - عليه السلام - خلقاً لا تقوم أبدانهم إلاَّ بأربعة أشياء: الطعام، والشراب، واللباس، والكن أي المسكن" (1) .
أمَّا الطعام فقال تعالى [الأنبياء: 8]، وقال عزَّ وجلَّ [البقرة: 57].
أمَّا الشراب فقال تعالى [الأنبياء: 30]، ويقول تعالى [البقرة: 60].
أمَّا الملبس فقال تعالى بالأعراف: 26]، وقال تعالى [الأعراف: 31].
أمَّا المسكن فقال تعالى [الأعراف: 74].
هذه هي السلع الاستهلاكية الأساسية التقليدية في الاقتصاد، وهي: المأكل، والملبس، والمسكن. وقد جمعت في سورة قريش، فقال تعالى [قريش: 1-4]. " : في مكة حيث تجبى إليها ثمرات كل شيء رزقاً من الله تعالى إحساناً إليهم، : جعل لهم الأمن، فصاروا آمنين، حيث جعل لهم مكة حرماً آمناً ومَنَّ الله عليهم بذلك" (2) .
بعد أنْ نزل آدم - عليه السلام - من الجنة علَّمه ربه أنْ يلبس، وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها ما يلي:
? ليواري سوءته، وستراً له في الدنيا، والإنسان مأمور بهذا.
? زينة للإنسان، فيلبس أفضل ما عنده من كل أنواع الملابس، فقط دون مخيلة ولا تكبُّر.
? يقي نفسه من الظروف الطبيعية المختلفة، من برد الشتاء، ومن حر الصيف، وكذلك من الأمطار في الخريف.
? يأمن نفسه من الهوام والحشرات، وهذا هو جانب من جوانب الأمن الذي ورد في الآية الكريمة ، وفي الحرب أيضاً اللباس يحقق الأمن للجندي من ضربات السيوف وطعنات السهام والرماح. وهذا أيضاً جانب آخر من جوانب الأمن في الملبس.
__________
(1) محمد بن الحسن الشيباني: كتاب الكسب، دار البشائر، بيروت، 1997م، ص 162-163.
(2) أ. د. أحمد علي الإمام، مصدر سبق ذكره، ص 602.(1/15)
أمَّا المسكن فإنَّه يحمي الإنسان من الاعتداءات التي يمكن أنْ تقع من اللصوص أو الحيوانات المفترسة أو أيّاً من الاعتداءات المختلفة التي يمكن أنْ تقع للإنسان في هذه الدنيا، وكذلك علَّم الله آدم كيف يبني المساكن، سواء من الوبر أو الجلود أو التراب أو الأشجار، فيكون ذلك قمة الأمن، بلد آمن وبيت آمن.
وكذلك جعله ربه يأكل ويشرب ليتقوّى على العبادة ويقوم بأمر الخلافة، فلولا الطعام لما سعى الإنسان في هذه الدنيا إلى العمل والكدح، فالجوع يحرّك الإنسان إلى طلب الطعام والشراب، فيقوم بشق الترع، وإصلاح الأرض، ومن ثم يزرع الزرع، ويغرس الأشجار، ويربي الحيوانات المختلفة، فتتزيّن الأرض وتأخذ زخرفها، وهذا كله يرجع في الأساس إلى طلب الإنسان إلى الطعام والشراب للاستهلاك.
العوامل التي تؤثر على الاستهلاك:
العوامل التي تؤثر على الاستهلاك يمكن تسميتها بدالة الاستهلاك (دالة المستهلك)، لأنَّ هذه العوامل تؤثر على طلب المستهلك على السلعة. وأهم هذه المتغيرات أو العوامل، هي: سعر السلعة، والدخل، والحجم، والسكان، والعوامل الطبيعية... الخ.
وفيما يلي عرض لأثر تغيُّر كل عامل على حده، علماً بأنَّه لا يمكن دراسة كل المتغيرات في دالة واحدة بسهولة، لذا يفضَّل استخدام قاعدة مع ثبات العوامل الأخرى، أي تجزئة الدالة المركبة للاستهلاك إلى دوال بسيطة يسهل تناولها.
[1] السعر:
قال تعالى [يوسف: 19-20].
والسعر هو التضحية الذي يقبل أنْ يقدمها المستهلك للحصول على السلعة المعينة "الثمن ما يكون بدلاً للمبيع ويتعيَّن في الذمة" (1) .
وهذا يوضِّح أنَّ السعر يختلف عن الثمن، "السعر هو الثمن الذي تقف في الأسواق، والسعر تقدير ما يباع به الشيء، ويكون غلاء ورخصاً بأسباب من الله تعالى" (2) .
__________
(1) يوسف كمال "وآخرون": مصطلحات الفقه المالي المعاصر (معاملات السوق)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1997م، ص 263.
(2) المصدر السابق، ص 266.(1/16)
وتغيُّر السعر يؤدي إلى تغيُّر الكميات التي يشتريها المستهلك، باعتبار أنَّ المستهلك رجل عقلاني، وهو يسعى لإشباع حاجاته بأقل التكاليف في ظل دخله المحدود، لذلك فإنَّ المستهلك يتحوّل إلى سلعة بديلة عندما يرتفع سعر السلعة التي هو بصددها. لذا يقول الاقتصاديون بأنَّ العلاقة بين سعر السلعة والكميات التي يستهلكها الفرد منها علاقة عكسية، وسبب هذه العلاقة العكسية يمكن إرجاعها إلى الأسباب الآتية:
? وجود سلع بديلة مما يسهِّل على المستهلك تغيير السلعة التي ارتفع سعرها، والتحوُّل إلى البديل، مثال ذلك: اللحم البقري واللحم الضأني.
? الدخل المحدود يجعل المستهلك غير قادر على الاستمرار في شراء سلعة ارتفع سعرها.
? العقلانية التي وصف بها المستهلك في البداية، أي أنَّ المستهلك يطبِّق القاعدة الذهبية: (الحصول على أكبر إشباع ممكن بتناول الطيبات، وتحمُّل أقل النفقات).
ويمكن القول بأنَّ هناك علاقة بين القوة الشرائية للنقود وسعر السلعة يجعل المستهلك غير قادر على شراء السلعة في حالة ارتفاع الأسعار، وزيادة الكميات التي يشتريها من نفس السلعة عند انخفاض الأسعار، وهذا هو التفسير الاقتصادي للعلاقة العكسية بين السعر والكمية المشتراة من السلعة. وهذا الذي قيل يتعارض مع الرغبة أو الحاجة لدى الفرد لإشباع أكبر قدر ممكن من هذه السلع والخدمات. مثال ذلك فإنَّ الرغبة كبيرة لدى فرد متوسط الدخل يريد أنْ يسافر إلى بلده لكي يزور أهله أو أقاربه، وتوجد أمامه عدة وسائل للسفر يمكن أنْ يختار من بينها، منها الطائرة، والحافلات السياحية المريحة، والبصات، واللواري السفرية. وهو يرغب أنْ يسافر بالطائرة ولكن دخله لا يسمح له بذلك، لذلك فهو مضطر أنْ يسافر بالبصات.(1/17)
"والوجه في تعرُّف القيمة المتوسطة أنْ تسأل الثقات عن سعر ذلك في بلدهم، والزيادة والنقص، مضاف إلى نسبة الأموال التي هم عليها من خوف أو أمن، ومن توفر وكثرة أو اختلاف... فإنَّ لكل بضاعة مما يمكن بيعه قيمة متوسطة، فما زاد عليها سُمِّيَ بأسماء مختلفة على قدر ارتفاعه، فإذا كانت الزيادة بسيطة قيل: قد تحرَّك سعره، فإنْ زاد شيئاً قيل: قد نفق،فإنْ زاد أيضاً قيل: قد ارتقى، فإنْ زاد قيل: قد غلا، فإنْ زاد قيل: قد تناهى، فإنْ كان مما الحاجة إليه ضرورية كالأقوات سُمِّيَ الغلاء العظيم.
وبإزاء هذه الأسماء في الزيادة أسماء النقصان، فإنْ كان النقصان يسيراً قيل: تدهور السعر، فإنْ نقص أكثر قيل: كسد، فإنْ نقص قيل: قد اتضع، فإنْ نقص قيل: قد رخص، فإنْ نقص قيل: قد بار، فإنْ نقص قيل: قد سقط السعر" (1) .
قال تعالى [التوبة: 24].
ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (نزعت البركة من الشيء الغالي والشيء الرديء) (2) .
وفيما يُروى عن السلف الصالح: "العلم يحرس صاحبه، والمال يحرسه صاحبه".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، الله سعَّر لنا؟ فقال: بل ادعو، ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله، الله سعَّر لنا، فقال: (بل الله يرفع ويخفض، وإني لأرجو أنْ ألقى الله وليس لأحدٍ عندي مظلمة) (3) .
__________
(1) أبي الفضل جعفر علي الدمشقي: الإشارة إلى محاسن التجارة، دار صادر، بيروت، 1999م، ص 22-24.
(2) أبي الفضل جعفر علي الدمشقي، مصدر سبق ذكره، ص 24. قال أبو الفضل: "لم أقف عليه فيما بين يدي من المصادر والمراجع".
(3) رواه أبو داود من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، باب التسعير، برقم 3450، ومسند الإمام أحمد، برقم 8429.(1/18)
"والمسألة الثانية التي تنازعوا فيها من التسعير فهي أنْ يحد لأهل السوق حداً لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجب، فهذا منع منه الجمهور حتى مالك نفسه في المشهور عنه، وروى أشهب عن مالك في صاحب السوق يسعّر على الجزارين: لحم الضأن بكذا، ولحم الإبل بكذا، وإلاَّ أخرجوا من السوق قال: إذا سعَّر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به، ولكن أخاف أنْ يقوموا من السوق" (1) .
قال تعالى [البقرة: 188]، وقال تعالى [النساء: 29].
ما سبق يوضِّح ضرورة عدم تدخُّل السلطات في التسعير وترك السوق حراً، تتحدَّد الأسعار وَفقاً لقوانين السوق. وذلك لمصلحة الناس، سواء تجار، بائعون، أو مستهلكون، مشترون، كما أنَّ الإسلام يضع بنداً مهماً لا يوجد في الاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي، وهو التراضي.
[2] السكان:
ذهب القسيس مالتوس إلى أنَّ الزيادة السكانية سوف تقضي على الغذاء في العالم، وبنظريته السكانية رسم عالماً متشائماً، "إنَّ أحد العواقب الرئيسة لنمو السكان والدخل هو طلب كلي متزايد على الغذاء، وهو ما يبرر الدور المهم الذي يمنح لهذا القطاع في هذا النموذج العالمي.
إنَّ نمواً غير كافٍ في الإنتاج الزراعي قد يعرِّض التنمية الاقتصادية والاجتماعية للخطر بالنسبة لكثير من البلدان النامية، ويتسبّب في الموت جوعاً في أكثر المناطق فقراً إذا كانت الواردات المطلوبة لا يمكن شراؤها وتوزيعها" (2) .
__________
(1) ابن القيم الجوزية: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار الحديث، 2002م، ص 218.
(2) تحرير، جاست فالاند: السكان والاقتصاد العالمي في القرن الواحد والعشرون، ترجمة د. دويدار، المقال رقم (5)، النمو الاقتصادي، فاسلي ليونتيف، وأيرا سوهن، القاهرة، 1988م، ص 115.(1/19)
ويقول ابن خلدون: "اعلم أنَّ الأسواق كلها تشتمل علة حاجات الناس، منها الضروري وهي الأقوات من الحنطة...، والحاجي والكمالي مثل الأدم والفواكه...، فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضروري من القوت وغلت أسعار الكمالي، وإذا قلَّ ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس" (1) .
وتفسير ما ذهب إليه ابن خلدون أنَّ الزيادة السكانية سبب في زيادة الطلب على الغذاء، مما يؤدي إلى زيادة الأسعار، وهذا يحفز المنتجين على زيادة الكميات المزروعة عن طريق زيادة المساحات المزروعة أو عن طريق زيادة إنتاجية الفدان، وهكذا حتى تستقر الأسعار في الأجل الطويل، وهو الذي عناه ابن خلدون.
كما يرى ابن خلدون أنَّ قوة الدولة في كثرة سكانها، ليس عسكرياً هنا، بل المقصود هنا هو القوة الاقتصادية، بمعنى أنَّ كثرة السكان تؤدي إلى تولُّد ضغوط لزيادة الإنتاج سواء نتجت هذه الزيادة عن طريق التوسُّع الأفقي أو الرأسي.
ويرى آدم سميث أنَّ زيادة العُمَّال يترتب عليه انخفاض الأجور، وهو يعتبر العُمَّال مثل القفازات، فزيادة أسعارها تؤدي إلى زيادة إنتاجها فيرخص سعرها (2) . وهذا يعني أنَّ الزيادة السكانية ليست شراً.
فزيادة الأجور تؤدي إلى زيادة السكان، من ثم زيادة الإنتاج، ومن ثم القوة الاقتصادية للدولة، يقول تعالى [الأنفال: 60]، انظر كيف ربطت الآية بين قوة الدولة وقوة الاقتصاد بقوله ، وقوله .
[3] العوامل الأخرى:
هناك عدة عوامل أخرى تؤثر على الاستهلاك، يمكن ذكرها ـ باختصار ـ على النحو الآتي:
? حجم الدخل المتاح للفرد.
? التكافل بين أفراد الأسرة، باعتبار أنَّ هذا دخل إضافي للأسرة يؤدي إلى زيادة القدرة الشرائية.
? التكافل الاجتماعي للفرد مع جيرانه ومجتمعه الذين هم في طبقته.
__________
(1) عبد الرحمن بن خلدون، الفصل (4)، من الكتاب الأول الفصل (12)، ص 401.
(2) روبيرت هيلبرز، مصدر سبق ذكره، ص 72.(1/20)
? الإنفاق في سبيل الله لمن هم دونه في المستوى المعيشي.
? الصدقات والقربات إلى الله.
في الإسلام كل مسلم مأمور أنْ يسعى ويبذل الجهد ليحصل على دخله لمقابلة حاجاته الخاصة والتزاماته تجاه أسرته وأقاربه ومجتمعه الإسلامي الكبير.
قال تعالى [المعارج: 24-25]، هذا يجعل مسألة الدخل في الإسلام يختلف عن الاقتصاد الرأسمالي أو الاقتصاد الاشتراكي، لوجود مبدأ التكافل بين المسلمين باعتبار أنَّهم إخوة، "استدلوا على وجوب نفقة الأقارب بقوله تعالى [النساء: 36]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : (ابدأ بنفسك فتصدَّق عليها، فإنْ فضَّل شيء فلأهلك، فإنْ فضَّل عن أهلك شيء، فلذي قرابتك، فإنْ فضل عن ذي قرابتك... فهكذا وهكذا) (1) .
وقد ابتدأ الإسلام في ذلك بتنظيم العلاقة بين الفرد ونفسه، لأنَّ الفرد هو الخلية الأولى، فجعل الفرد مسؤولاً عن نفسه، وألزمه القيام بإصلاحها وتهذيبها وتزكيتها دون أنْ يكبت حاجتها وميولها الفطرية.
وهذا التهذيب النفسي الذي ينبع من داخل الفرد هو التكافل في مجال الأسرة.. وبعد ذلك انتقل إلى التكافل في مجال المجتمع، فدعا إلى التعاون بين أفراده على جلب الخير ودفع الشر (2) ، قال تعالى [الحديد: 11]، وفي أحاديث كثيرة دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى التعاضد والتكافل بين المؤمنين، قال - صلى الله عليه وسلم - : (مَثَلُ المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (3) .
__________
(1) أخرجه النسائي، برقم 2546، 5/69.
(2) د. محمد فاروق النبهان: الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي، مؤسسة الرسالة، 1983م، ص 324-326.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، الجزء الرابع، برقم 2589.(1/21)
وهكذا يدعو الإسلام إلى تكاتف المسلمين وتعاونهم وتراحمهم وتوادّهم فيما بينهم، حتى تكون الحياة بينهم مختلفة عما سواها من المذاهب الاقتصادية الأخرى، فلا يكون الاستهلاك مظهراً من مظاهر الحضارة المادية فقط، بل تعبُّد وخشية من الله مما يجعل للاستهلاك لذة خاصة لا يجدها الآخرون في مذاهبهم.
المبحث الثالث
توازن المستهلك
سبق عرض المفاهيم الأساسية للاستهلاك في المبحث الأول، كما تم عرض تعريف الاستهلاك في المبحث الثاني، عليه يمكن عرض مفهوم توازن المستهلك في هذا المبحث. وسوف يتم عرض توازن المستهلك في الاقتصاد أولاً، ومن ثم إيراد الآيات القرآنية، حتى يمكن استخلاص مفهوم التوازن وَفق رأي الإسلام.
توازن المستهلك في الاقتصاد:
سبق تعريف المنفعة بأنَّها "شعور نفسي يتولَّد عند الفرد بسبب استهلاكه للسلع". وهي تستعمل أيضاً كمقياس لتحديد وضع التوازن للمستهلك، يحدث أنْ تتراكم المنفعة الكلية لدى المستهلك كلما تناول وحدات أكثر من السلعة محل البحث حتى يصل إلى الإشباع. ويمكن تصوير ذلك بشخص يتناول الطعام، كلما زاد عدد اللقيمات التي يتناولها هذا الشخص كلما زاد إشباعه، وفي نفس الوقت قلّت شهيته للطعام حتى يصل مرحلة الشبع، وعندها يتوقف عن تناول الطعام. إذا زاد عن الشبع فإنَّه سوف يتضرر غاية الضرر، وقد يصل به الحال إلى نقله للمستشفى.
وهناك طريقتان لقياس توازن المستهلك في الاقتصاد:
الطريقة الأولى: أسلوب المنفعة العددية:
يقال: إنَّ المستهلك في حالة توازن، عندما ينفق كامل دخله المخصص للاستهلاك على مختلف السلع المتاحة في السوق، محققاً بذلك أقصى منفعة ممكنة، ولكن هل المستهلك يستطيع أنْ يحصل على كل ما يرغب؟ الإجابة بطبيعة الحال: لا. والسبب هو: هناك قيدان هما:
? الدخل المتاح للمستهلك محدود.
? للسلع المتوفرة في السوق أسعار، أي ليست مجانية.(1/22)
لذا فإنَّ على المستهلك أنْ يتصرَّف بعقل، كما أنَّه يعرف كل ما يجري حوله، أي له إلمام كامل بأحوال السوق، أي يستطيع المستهلك أنْ يختار من بين البدائل المتاحة أمامه من السلع والخدمات بما يحقِّق الإشباع الأقصى "ولقد خلت مفاهيم المنفعة ومسألة تعظيمها من كل وصف حسي أو إيحائي، فالقول بأنَّ المستهلك يستخلص أكبر منفعة من امتلاكه سيارة عن امتلاكه لبدلة، يعني أنَّه خُيِّر بين الاثنين واختار السيارة على البدلة. ولكن هذا لا يعني أنْ المستهلك سوف يختار الأشياء التي تعطيه أكثر منفعة في جميع الأحوال، فقد يضطر إلى أنْ يأخذ اللقاح ضد الجدري، إذا كان هناك وباء أو تهديد بظهور أعراض هذا المرض، ويستخلص منها فائدة أو منفعة كبيرة بالرغم من أنَّه لا يحصل على أيّة سعادة من أخذ هذا اللقاح، بل قد يترتب عليه معاناة" (1) .
باستخدام مفهوم المنفعة العددية يمكن قياس حالة توازن المستهلك، "يصل المستهلك إلى حالة التوازن عندما ينفق كل دخله المخصص للاستهلاك على السلع والخدمات حتى تتساوى المنفعة الحدية للوحدة الأخيرة من النقود بالنسبة لمختلف أنواع السلع، أي أنَّ شرط التوازن هو تساوي المنفعة الحدية للنقود لجميع حالات الإنفاق على السلع المتاحة" (2) .
الطريقة الثانية: أسلوب المنفعة الترتيبية:
يقوم المستهلك في هذه الحالة بوضع سلم أفضليات للسلع والخدمات التي يرغب أنْ يحصل عليها، ويضع هذه السلع في شكل قائمة مرتبة وفق رؤاه. الاختلاف هنا هو أنَّه يقارن بين وحدات السلع بصورة دائمة حتى يصل إلى التوليفة المثلى التي تحقق له أكبر إشباع. وهنا أيضاً يوجد قيد الميزانية.
__________
(1) هندرسون وكوندات: نظرية اقتصاديات الوحدة ـ أسلوب رياضي، ترجمة د. متوكل عباس مهلهل، المدينة المنورة، 1983م، ص 19.
(2) د. خالد الحامض، ود. محمد كامل ريحان، مصدر سبق ذكره، ث 138.(1/23)
إذاً هناك منحنى يمثل الأولويات من السلع وفي المقابل هناك خط يمثل الميزانية. يصل المستهلك إلى حالة التوازن إذا استطاع أنْ يكون على نقطة تقع على المنحنى وفي نفس الوقت تقع على خط الميزانية. الشرط الضروري هنا أنْ تكون هذه النقطة هي نقطة تماس بين المنحنى وخط الميزانية. ويقال: إنَّ المستهلك في حالة توازن عندما "يتساوى المعدل الحدي للإحلال بين السلع المتاحة مع النسبة بين أسعار هذه السلع" (1) .
هذه القوانين التي تقيس توازن المستهلك هي حالات نظرية، يصعب تطبيقها في الواقع العملي، لأنَّ المنفعة التي اعتبرت كأداة للقياس لا تتعدى كونها شعوراً نفسياً يتولد عند الفرد. عليه فإنَّ هذا الوضع يعتبر حالة ذاتية لا يعرف قياسها إلاَّ الفرد نفسه، "لعدد من السنوات قام الاقتصاديون النظريون بمعالجة وتحليل سلوك المستهلك، للحصول على أعلى مرتبة للمنفعة.. كما قام علماء الاقتصاد التطبيقي بتقدير طلبات ومصروفات المستهلك، ولكن كانت هناك دائماً هوة بينهما، إلاَّ أنَّه في الآونة الأخيرة، ونسبة لكثرة البحوث وتطوُّر أدوات البحث الرياضي، تم تقديم أمثلة لبعض التطبيقات الهامة لبعض النظريات مما قلص الهوة بين المجالين النظري والتطبيقي" (2) .
مما سبق فإنَّ التوازن الذي يسعى الفرد أنْ يحقّقه لا يعدو أنْ يكون شعوراً نفسياً يقرّره المستهلك بنفسه، والدراسة النظرية للتوازن في الاقتصاد والمحاولات التطبيقية التي جرت تعتبر تحليلاً لهذا الوضع المهم ـ الذي يرغب أنْ يصل إليه الناس ـ ليعطي فكرة لمتخذي القرارات حول السلع المختلفة التي يمكن إنتاجها. وهنا يلعب مفهوم سيادة المستهلك دوراً هاماً، لأنَّ المستهلك هو الذي يقرِّر الإجابة على الأسئلة الثلاثة، وهي: ماذا نتج؟ وكم نتج؟ ولمن نتج؟
توازن المستهلك في الإسلام:
__________
(1) المصدر السابق، ص 157.
(2) هندرسون وكوندات، مصدر سبق ذكره، ص 59-60.(1/24)
توازن المستهلك المسلم يتوقع أنْ يختلف عن توازن المستهلك غير المسلم، بسبب اختلاف الحالة النفسية لكليهما. فالمسلم تمتد حاجاته إلى الآخرة، بينما غير المسلم يسعى أنْ يحصل على مباهج الحياة الدنيا فقط، ولا يلتفت إلى الدار الآخرة.
قال تعالى [الحج: 11-13].
: هو على شك، "وقيل: على وجه واحد، وهو أنْ يعبده في السرّاء دون الضرّاء، ولو عبدوا الله على الشكر في السرّاء والصبر في الضرّاء لما عبدوا الله على حرف" (1) .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "هو المنافق، إنْ صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإنْ فسدت عليه دنياه وتغيّرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلاَّ لما صلح من دنياه، فإنْ أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر.
وقوله أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء، أمَّا الآخرة فقد كفر بالله العظيم، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، ولهذا قال تعالى ، أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة" (2) .
__________
(1) أ. د. أحمد علي الإمام: مفاتح فهم القرآن، مصدر سبق ذكره، ص 333.
(2) الإمام ابن كثير، تفسير سورة الحج، مصدر سبق ذكره، ص 216.(1/25)
ويقول البروسوي في تفسيره: "روح البيان": "وفي الآيات إشارات منها من يعبد الله على طبع، وهوى، ورؤية عرض، وطمع، وكرامات، ومحمدة الخلق، ونيل الدنيا، فإذا أصابته أمانيه سكن في العبادة، وإذا لم يجد شيئاً منها ترك التحلي بتحلية الأولياء، فخسرانه في الدنيا فقدان القبول عند الخلق وسقوطه من طريق السُّنَّة والعبادة إلى الضلالة والبدعة، وخسرانه في الآخرة بقاؤه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنيران البُعد، وأيضاً إنَّ بعض الطالبين ممن لا صدق له ولا ثبات في الطلب يكون من أهل التمني، فيطلب الله في شك، فإنْ أصابه شيء مما يلائم نفسه وهواه أو فتوح من الغيب أدام على الطلب في الصحبة، وإنْ أصابه بلاء أو شدة، وضيق في المجاهدات والرياضات، وترك الشهوات، ومخالفة النفس، وملازمة الخدمة، ورعاية حق الصحبة، والتأدُّب بآداب الصحبة، والتحمُّل من الأخوان، انقلب على وجهه يتبدل الأفراد بالإنكار والاعتراض، والتسليم بالإباء والاستكبار، والإرادة بالارتداد، والصحبة بالهجران، خسر ما كان عليه من الدنيا بتركه، وخسر الآخرة بارتداده... المسلمون صنفان: صنف مشتغل بالجهاد الأصغر، وصنف مشتغل بالجهاد الأكبر، فضعفاء الصنف الأول يكونون على طرف الجيش، والثاني على طرف الدين. فإنْ كان الأمر على مرادهم أقبلوا وإلاَّ أدبروا، وفي ذلك خسارة في الدنيا والآخرة، لأنَّهم يضلهم الكفار والنفس الأمارة في الدنيا، ويفوت عنهم درجات السعداء في الآخرة" (1) .
__________
(1) الإمام إسماعيل حقي البروسوي: تفسير روح البيان، المجلد 6، الجزء 17، ص 12-13.(1/26)
كما أنَّ الفرد غير المسلم يجد المنفعة حسب رأيه في لحم الخنزير والخمر، بينما يرى المسلم هذه السلع قد حرمت عليه لما فيها من ضرر الروح والبدن. عليه فإنَّ السلع في الإسلام محددة في الحلال فقط، قال تعالى [البقرة: 173]. ولقد كان سبب جنون البقر هو خلط العلف بالدم، كما ثبت علمياً أنَّ هذه النجاسات التي وردت في الآية الكريمة تسبّب الأمراض.
"العبد مأمور في الإسلام بفعل ما يحتاج إليه من المباحات، وهو مأمور بالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش" (1) ، قال تعالى [المائدة: 87-88]. ولقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الشح في حديث رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إياكم والشح، فإنَّما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا) (2) .
ولا حرج على المسلم أنْ يلبس الملابس الجميلة ما لم يكن محرماً "ولا حرج على المسلم أنْ يتأنق في ملبسه، وأنْ يحرص على أنْ يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، وأنْ يبتغي الجمال في كل شيء، فقد روى مسلم عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر)، فقال رجل: إنَّ الرجل يحب أنْ يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: (إنَّ الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس). وهكذا بيَّنت السُّنَّة النبوية أنَّ الله جميل يحب الجمال، كما أنَّه يحب أنْ يرى أثر نعمته على عبده (3) .
__________
(1) ابن تيمية: الفتاوى، مرجع سبق ذكره، ج 10، ص 462.
(2) أبو داود، باب الزكاة، برقم 1698، ومسند الإمام أحمد، 2/161.
(3) د. يوسف القرضاوي، مصدر سبق ذكره، ص 207.(1/27)
ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : (اللهم اغفر لي ذنبي، ووسِّع لي في داري، وبارك لي في رزقي)، فقيل له: ما أكثر ما تدعو بهذه الدعوات يا رسول الله، قال: (وهل تركن من شيء؟) (1) .
"ومن سعة الدار أنْ يكون فيها مجال لتطبيق التوجيه النبوي في التفريق بين الأولاد في المضاجع إذا بلغوا عشر سنين، كما يكون للبنين حجرتهم، وللبنات حجرتهنّ، وهذا هو الوضع الشرعي" (2) .
أمَّا التطاول في البنيان الذي ورد في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - "فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشراط الساعة (أنْ ترى الحفاة العراة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان)، الحديث لا ينكر البنيان المتطاول ولو نطح السحاب رأسياً أو أخذ مساحة قرية بكاملها توسُّعاً أفقياً، إنَّما ينكر الحديث الانقلاب الاجتماعي والاقتصادي المفاجئ في حياة الناس، فيهبط الثراء الهائل فجأة على بعض الناس... فيفقدهم هذا التغيُّر السريع التوازن في حياتهم وفي سلوكهم وعلاقاتهم" (3) .
مما سبق فإنَّ هناك مسألتين هما: التوازن المادي، والتوازن الروحي.
المسألة الأولى: التوازن المادي للمستهلك يقضي بأنَّ المستهلك يصل إلى نقطة التوازن عندما ينفق كل دخله المتاح على مجموعة السلع والخدمات المتاحة في السوق، ويحصل على أكبر إشباع ممكن من تصرُّفه هذا الذي يتصف بالعقلانية، وهذه هي أمور الدنيا يتساوى فيها كل الناس.
المسألة الثانية: التوازن الروحي للمستهلك، الكل يسعى إلى تحقيق السعادة من تصرُّفاته، ولكي يجد الإنسان منتهى السعادة عليه أنْ يؤمن بالله، قال تعالى [الأنفال: 2-4]، وقال تعالى [النساء: 38-39].
يقول الله تعالى [البقرة: 261-264].
ويقول تعالى [البقرة: 219]، ويقول تعالى
__________
(1) المصدر السابق، صحيح الجامع الصغير، برقم 1265.
(2) المصدر السابق، ص 213.
(3) المصدر السابق، ص 215.(1/28)
[الحشر: 9]. "وهذا ما صنعه الصِّدِّيق أبو بكر - رضي الله عنه - كما حكى ذلك عمر - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نتصدّق فوافق ذلك مالاً عندي، فقلتُ: اليوم أسبق أبا بكر، إنْ سبقته يوماً! فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أبقيت لأهلك؟ قلتُ: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيتُ لهم الله ورسوله! قلت: لا أسابقك إلى شيء أبداً (1) .
قال الإمام الخطابي: "في الحديث من الفقه أنَّ الاختيار للمرء أنْ يستبقي لنفسه قوتاًـ وألا ينخلع من ملكه أجمع مرة واحدة، لما يخاف عليه من فتنة الفقر، وشدة نزاع النفس إلى ما خرج من يده، فيندم، فيذهب ماله، ويبطل أجره، ويصير كَلاً على الناس" (2) .
مما سبق فإنَّ المستهلك في الإسلام يجد الحلاوة في أنْ يعطي أخاه المسلم من ماله الذي أعطاه الله، لأنَّه يثق بأنَّ الله سوف يعطيه في الدنيا والآخرة، وأنَّه سيجد العائد في الآخرة أفضل وأكثر وأطيب وفوق ذلك كله أضعافاً مضاعفة. لهذا فإنَّ المستهلك المسلم يجد السعادة واللذة في أنْ ينفق كامل دخله لينال ثواب الدنيا والآخرة.
إذن يمكن تعريف توازن المستهلك في الإسلام على ضوء التوازن المادي والروحي الذي تم وصفه على النحو الآتي: [يتحقق توازن المستهلك المسلم عندما ينفق كل دخله على السلع والخدمات لينال ثوابيْ الدنيا والآخرة، ويجد نتيجة لذلك كل السعادة واللذة].
المبحث الرابع
توجيه الاستهلاك في الإسلام وآثاره الاقتصادية
سوف يعرض هذا المبحث الآيات التي وردت في ضبط وتوجيه الاستهلاك، والآثار الاقتصادية لهذه التوجيهات القرآنية على النشاط الاقتصادي في الدولة الإسلامية.
__________
(1) د. يوسف القرضاوي، مصدر سبق ذكره، ص 203-204.
(2) المصدر السابق، ص 204.(1/29)
والتوجيهات التي وردت في هذا الخصوص كثيرة، منها: الآداب العامة للأكل واللبس، واحترام مشاعر المسلمين وعدم التعرُّض لهم بالأذى، كذلك الإنفاق في سبيل الله لرعاية حقوق الأخوة.
بعض هذه الضوابط أوامر، يجب على المسلم تنفيذها، وبعضها توجيهات يقوم بتنفيذها المسلم ليرتقي مدارج الإيمان ويصل إلى مراتب الإحسان، وبعضها قربات إلى الله لا يقدر عليها كل الناس إلاَّ من وفَّقه الله إلى ذلك.
توجيه الاستهلاك:
توجيه الاستهلاك يتطلب انتهاج مجموعة من الإجراءات والبرامج بغرض التأثير على حجم الاستهلاك والمستهلكين لتحقيق أهداف معينة تسعى لها الدولة. والسياسات التي تتخذها الدولة فيما يختص بالاستهلاك نوعان، هما:
التأثير على حجم استهلاك لسلعة معينة:
والإجراءات التي تتخذها الدولة في هذه الحالة تنصب على سعر السلعة أو توزيع السلعة عن طريق البطاقة أو فرض ضرائب أو رسوم جمركية إذا كانت السلعة مستوردة. كما يمكن توعية المواطنين باستخدام وسائل الإعلام أو بعمل محاضرات في الأحياء وأماكن التجمُّعات في الحي أو مكان العمل ..الخ.
التأثير على حجم الاستهلاك الكلي:
ويُقصد بالكلي الاستهلاك على مستوى الدولة وليس على مستوى الفرد، والطرق المتبعة في هذه الحالة هي: إعادة توزيع الدخل عن طريق الزكاة مثلاً أو الضرائب، تغيير حجم الإنفاق العام للدولة، التأثير على حجم الادخار، التأثير على معدل نمو السكان، كما يمكن توعية المواطنين.
"يترتب على هذه السياسات والإجراءات آثار، مثل: تغيير العلاقات القائمة بين مختلف السلع والكيفية التي يتم بها تخصيص الموارد والأعباء التي يتحمَّلها المستهلكون" (1) .
آثار عدم توجيه الاستهلاك:
__________
(1) د. حسن العشري: التخطيط الاقتصادي.(1/30)
المستهلك يسعى إلى تحقيق أقصى إشباع ممكن، لذا فإنَّ النظام الرأسمالي قصر اهتمامه على ظاهرة الاستهلاك دون النظر إلى ظاهرة المخلفات، مما أدّى إلى ظهور مشكلة تلوُّث البيئة وتنامي هذه المشكلة بدرجة كبيرة، مما سبَّب آثاراً بالغة الخطورة، "ومن مظاهر ذلك في الولايات المتحدة أنَّ الشخص الواحد هناك يخلّف أكثر من خمسة أرطال من الفضلات الصلبة يومياً، أي ما يعادل طناً مترياً في العام" (1) .
وفي النظام الاشتراكي ليس الوضع أحسن حالاً، إنْ لم يكن أسوأ، "إنَّ الخصائص الأساسية لهذا النظام هي: إشباع الحاجات الاجتماعية وليس تحقيق الربح، وهو الأمر الذي تحققه الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، إلاَّ أنَّ التطبيق الفعلي لهذا النظام سرعان ما كشف عن وجود مشاكل أهمها مشكلات التلوُّث التي أصابت الموارد" (2) .
مجمل القول: إنَّ النظامين الرأسمالي والاشتراكي أظهرتا آثاراً بيئية ضارة، نتيجة استغلال الموارد المتاحة بغرض الإنتاج أو الاستهلاك.
الجدول التالي يوضح خطورة مشكلة تلوُّث البيئة بسبب استهلاك الطاقة (معادن الفحم) (3) :
السنوات ... 1950 ... 1985 ... 2020 ... 2025
استهلاك الطاقة ... 2.0 ... 9.0 ... 11.0 ... 20.0
(بليون طن متري)
"كما إنَّ آثار تلوُّث البيئة بسبب الاستهلاك الرأسمالي والاشتراكي على الأرض، هي:
? ارتفاع درجة حرارة الأرض.
? تدهوُّر التربة الزراعية، مما يؤدي إلى تدهوُّر إنتاجية الأرض.
? تلوُّث الهواء بالمواد الكيميائية سيؤدي إلى هطول الأمطار الحمضية.
? تلوُّث المياه الجوفية بسبب دفن النفايات، وتلوُّث مياه الأنهار.
? تسمُّم الهواء الجوي.
? تدهوُّر البيئة بسبب القطع الجائر للأخشاب" (4) .
__________
(1) د. محمد صالح الشيخ: الآثار الاقتصادية والمالية لتلوُّث البيئة ووسائل الحماية منها، الإسكندرية، 2002م، ص 35.
(2) المصدر السابق، ص 36-37.
(3) المصدر السابق، ص 38-43.
(4) المصدر السابق، ص 43.(1/31)
بالإضافة إلى هذه المخاطر التي ذكرت فإنَّ التطوُّر التقني الذي أتاح للمستهلك في الآونة الأخيرة قدرات أكبر على الاختيار بإتاحة فرصة واسعة باستخدام الإنترنت، "بالنسبة للمستهلك فإنَّ الحصول على المعلومات وتقييمها كانت عملية استهلاك كبير للوقت في العالم ما قبل الإلكتروني، فكان على المستهلك أنْ يزور مختلف المتاجر واستعراض النشرات المتنوعة أو يتكلم إلى عدد من رجالات المبيعات، وظهور التجارة الإلكترونية غيَّر بشكل درامي مرحلة تقييم المعلومات في عملية الشراء، فالآن بضغط على ذر في المكان المريح بالمنزل يستطيع المستهلك أنْ يدخل على قدر كبير يبدو لا نهائياً من البيانات التي بها يمكن تقييم الجدارة بالنسبة للمنتج أو الخدمة المعروضة" (1) .
ما سبق يوضِّح ضرورة اتخاذ السياسات لتوجيه الاستهلاك، حتى يمكن الاحتفاظ بالأرض صالحة وخضراء، ويصلح ليعيش عليها الإنسان، كما يلاحظ أيضاً أنَّ الإنسان بأسلوب استهلاكه يدمر الأرض التي يعيش عليها دون أنْ يعي خطورة تصرُّفاته.
توجيه الاستهلاك في الإسلام:
الإجراءات التي اتخذها الإسلام لتوجيه الاستهلاك وترشيده على درجة عالية من الكفاءة والفعالية، وأهم هذه الإجراءات هي:
? تحريم بعض السلع، ومنع الفساد في الأرض.
? منع الإسراف والمغالاة في كل الأحوال سواء كان طعاماً أو شراباً أو ملبساً ... الخ.
? الصيام.
? الزكاة والصدقات.
? التكافل والجماعية والأخوة.
[1] منع الإسراف:
قال تعالى [الإسراء: 26-27]، ويقول تعالى [الأنعام: 141].
__________
(1) د. طارق عبد العال حماد: التجار الإلكترونية، جامعة عين شمس، الدار الجامعية، 2003م، ص 465.(1/32)
عن ابن عمرو - رضي الله عنه - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ فقال له: (ما هذا السرف؟)، فقال: أو في الوضوء سرف يا رسول الله؟ قال: (نعم، وإنْ كنت على نهر جار) (1) .
وفي حديث آخر رواه مسلم عن أنس: (إذا سقطت نعمة أحدكم؛ فليمط عنها الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان) (2) .
كما أنَّ هناك آيات وأحاديث كثيرة هددت المسرفين بالوعيد، قال تعالى
[الحجر: 3]، وروى مسلم عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة إنَّما يجرجر في بطنه في جهنم) (3) .
وفي الاستهلاك خاصة ما يخص الطعام فإنَّ المسألة سارت إلى أربعة أوجه:
"ففي مقدار ما يسد به رمقه ويتقوّى به على الطاعة هو مثاب غير معاقب، وفيما زاد على ذلك إلى حد الشبع هو مباح له محاسب على ذلك حساباً يسيراً بالعرض، وفي قضاء الشهوات ونيل اللذات من الحلال هو مرخص له فيه، محاسب على ذلك، مطالب بشكر النعمة وحق الجائعين، وفيما زاد على الشبع هو معاقب، فإنَّ الأكل فوق الشبع حرام" (4) .
[2] العبادات:
ربط الاستهلاك في الإسلام ببعض العبادات مثل: الصيام، والزكاة، والصدقات، والحج إلى البيت الحرام، قال تعالى [البقرة: 183].
__________
(1) سنن ابن ماجة، برقم 425، ومسند أحمد، برقم 7065، 2/221.
(2) صحيح مسلم، برقم 2034.
(3) صحيح البخاري، 1/83، وصحيح مسلم، برقم 2065.
(4) محمد بن الحسن الشيباني: كتاب الكسب، حلب، 1997م، ص 212-213.(1/33)
"قيل: إنَّ الصيام يؤدي إلى انخفاض الإنتاج في رمضان، بفرض أنَّ لرمضان أثر سلبي على الإنتاج، ولكن الموازنة في النهاية ذات أثر إيجابي، لأنَّ الصيام يؤدي إلى الخشية من الله ومن ثم طاعة الله، وطاعة الله أكبر من فقد قليل من الإنتاج، لأنَّه سيكون هناك تغيُّرات أساسية، فالمؤمن صادق في عمله مما سيجعله يعمل بإخلاص لتعويض ما فقده من إنتاج في الشهور الأخرى، وهي أحد عشر شهراً... يقول الأمين العام للأمم المتحدة في 19 سبتمبر 1973م حول منع الجريمة: كثير من الدول تواجه مشكلة الفساد، مما يؤدي إلى تحمُّل الدولة لتكلفة اجتماعية واقتصادية مقدّرة" (1) .
والصيام هو الامتناع عن الطعام والشراب والتمسُّك بكثير من الآداب السمحة، لفترة زمنية تمتد إلى أكثر من نصف اليوم في المتوسط، وفي هذا توفير لكثير من الطاقات والموارد.
أمَّا الزكاة فهي إخراج المال من الأغنياء إلى الفقراء برضا نفس، وذلك عند توافر بعض الشروط، مثل: بلوغ النصاب وحولان الحول.
وقد وردت كلمة الزكاة بعدة معاني "وردت كلمة الزكاة (32) مرة في القرآن الكريم، كما وردت كلمات أخرى تعطي مفهوم إخراج المال، وهذه الكلمات هي: الإنفاق، ووردت في القرآن الكريم (31) مرة، والخيرات (10) مرات، والإحسان (12) مرة، والصدقة (5) مرات، والإطعام (3) مرات، والنذر مرتان. وكلمات أخرى تعطي مفهوم التعاون والمساعدة بين الفقراء
والأغنياء" (2) .
[3] التحريم:
حرَّم القرآن الكريم في عدد من الآيات كثيراً من السلع والبيوع الضارة للمسلم جسدياً أو معنوياً، مثل: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهل به لغير الله، قال تعالى [المائدة: 3]، ويقول تعالى [المائدة: 9].
__________
(1) KHURSHID AHMAD STUDIES IN ISLAMIC ECONOMICS, Dr. ANAS ZARGA ISLAMIC ECNOMICS; ANAPPROACH TO HUMAN WELFARE, ICRIE. 1981, PP. 3-18
(2) AMSS, PROCEEDING, INDIANA, 1974. THE ROLE OF ALZAKAT, ALI IZADI PP. 9-18(1/34)
كما تم تحريم كثير من البيوع الفاسدة التي تضر بالإنتاج والاستهلاك على السواء، قال تعالى [البقرة: 275].
لهذه الإجراءات والسياسات التي وردت آثار اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وعسكرية، تقود إلى بناء قوة الدولة الإسلامية، لأنَّها من الله عزَّ وجلَّ سواء أكانت أوامر واجبة التنفيذ أو حوافز يثاب فاعلها في الدنيا والآخرة.
الآثار الاقتصادية للإجراءات الإسلامية:
الإجراءات التي سبق ذكرها عن الاستهلاك والتي وردت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية ذات آثار إيجابية واضحة، لأنَّها تعاليم سماوية تتعلق بإيمان الفرد المسلم وعقيدته، وأنَّ التنفيذ لا يحتاج إلى رقيب من الدولة، بل هناك رقابة ذاتية، لأنَّ المسلم يعلم أنَّ الله مطلع على القلوب، والسر عنده كالعلانية. كما سبق وأشير إليه فإنَّ النظامين الرأسمالي والاشتراكي لهما آثار استهلاكية ضارة، لأنَّهما وضعا كل اهتمامهما حول النظرة المادية، سواء كان نظام السوق هو الذي يحقِّق أقصى إشباع ممكن للمستهلك أو نظام التخطيط المركزي، في كلا الحالتين فإنَّ هناك كمية لا يستهان بها من الفضلات التي يتم التخلُّص منها مما يكون سبباً في تلوُّث البيئة.
يمكن سرد كثير من الآثار الاقتصادية الإيجابية لتطبيق السياسات الإسلامية التي ورد ذكرها:
[1] استغلال الموارد الاقتصادية:
قال تعالى [الروم: 9].
ويقول تعالى [الروم: 41].
هذه الآيات توضِّح أنَّ عدم انفعال الناس مع الطبيعة بمعنى استغلال الموارد بالصورة المطلوبة وهي الحفاظ عليها بصفة دائمة، حتى تعطي أُكُلها كل حين بإذن ربها. أمَّا الاستغلال الجائر لها، فإنَّها تؤدي إلى تدهوُّر المورد، ومن ثم الفقر، كما حدث لكثير من البلدان والأمصار.
[2] تحقيق التراكم الرأسمالي:(1/35)
تخفيض حجم الاستهلاك بالصورة السابقة يؤدي إلى زيادة حجم المدخرات، وهذا يؤدي إلى توجيه هذه الموارد إلى تنمية المنشآت الأساسية في الدولة، مثل: شق القنوات، وبناء السدود، وإقامة الطرق، وتجهيزات الدولة المختلفة.
[3] تحقيق الاستقرار الاقتصادي:
تقليل الاستهلاك يحقِّق استقرار الأسعار، ومن ثم منع حدوث التضخُّم أو الكساد، بمعنى آخر عدم حدوث الدورات الاقتصادية التي تعتبر من السمات البارزة للنظام الرأسمالي.
وهكذا يتحقق في الدولة الإسلامية الاستقرار الاقتصادي والرفاهية الإسلامية والتي تعني السعادة الحقيقية التي يرجوها كل الناس، المتمثلة في الإيمان بالله تعالى، وصدق الأخوة في الله، وأنْ يكونوا إخواناً متحابين، لا يهمهم عرض الدنيا ولا مباهجها إلاَّ بالقدر الذي أمر به رب الكون.(1/36)