الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
وقف الأسهم والصكوك والحقوق والمنافع
إعداد
أ.د. محمود السرطاوي
كلية الشريعة - الجامعة الأردنية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم ، واقتدى بهديهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فإنّ الشريعة الإسلامية أعلت من شأن الإنسان وكرَّمته ، وشرعت من الأحكام ما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة ، وجعلت التكافل بين أبناء المجتمع سبيلاً من سبل تحقيقها ؛ وذلك بتوفير البيئة المناسبة في إطار الأسرة والمجتمع ، وسواء في ذلك البيئة الثقافية أو الاقتصادية أو الصحية أو الأمنية أو الوقائية .
وللتكافل سبله الوجوبية ؛ كالزكاة والصدقات الواجبة ، والاختيارية المندوبة ، ومنها : الهبات والوصايا والوقف والصدقات المندوبة ، ولمّا كان الوقف من أكثرها أثراً ، وأعظمها ثواباً عند الله تعالى ، فقد حرص المسلمون من السلف والخلف على إقامة بنيانه ، وتنظيم أركانه وشروطه ، حتى غدا معلماً من معالم الحضارة الإسلامية عبر العصور ، وكانت مقاصد الشارع من تشريعه هي قبلة الفقهاء من أئمة الاجتهاد وأتباعهم عند تقنين أحكامه .
ويمكن القول إنّ أحكام الوقف الإسلامي اجتهادية مرنة ، تستجيب للتطورات والظروف التي تمرُّ بها المجتمعات مع مراعاتها لأحكام الشريعة الثابتة ، يدلُّ لذلك تطور الوقف عبر العصور الإسلامية ؛ فأجاز الفقهاء وقف المنقول وتوسعوا فيه ، كما أجازوا وقف المشاع ، وعملوا على التوفيق بين قولهم بوقف المنقول وتأبيد الوقف .
ولمّا اقتضت حاجة المجتمع القول بوقف النقود لما يعود عليه بالنفع ؛ قال كثير من الفقهاء بوقف النقود ، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ، كما أجازه فقهاء المالكية للسَّلَف ، وهذا يدل على سعة إدراكهم لمقاصد التشريع ومراميه .(1/1)
ولمَّا كانت الظروف الاقتصادية في مفهوم الأموال قد اتسعت في زماننا ، فوجدت الشركات المساهمة ، وأُقرَّت أدوات استثمارية أخرى تُعتبر عصب الاقتصاد في زماننا ؛ كالأسهم، والصكوك ، والحقوق المالية والمنافع ، كان من الواجب بيان الحكم الشرعي في وقف هذه الصيغ الاستثمارية ، وذلك تعظيماً للوقف ، وتنويعاً لمصادره ، وإفساحاً لكثير من المحسنين لنيل الثواب بوقف شيء ممَّا يملكونه ، وقد أصبحت ملكية كثير من الناس لاتكون في العقار ، وإنما في الأسهم ، والصكوك ، والحقوق المالية ، والمنافع .
وقد تصدَّى لبحث هذه المسائل عدد كبير من أهل العلم ، وألَّفوا في ذلك الكتب ، وكتبوا الأبحاث القيمة ، وأقيمت مؤتمرات تبحث في هذا الأمر ، وقد أتى كثير منهم على الغاية ، ولازال الأمر في حاجة إلى مزيد من البحث قَصْدَ التأييد والتثبُّت من الحكم في المسألة ، وقد حاولت أن أدلي مع الزملاء بسهم ، ولهم أجر السبق ، وللقائمين على الأمر أجر القصد والعمل الصالح ، خدمةً لديننا ومجتمعنا .
وقد جاء هذا البحث في مبحثين ومقدمة وخاتمة : أمّا المقدمة ففي تعريف الوقف في اللغة والاصطلاح .
المبحث الأول : في شروط الوقف التي لها علاقة مباشرة ببناء الحكم في المسائل المستجدة (لا في جميع الشروط تجنّباً للإطالة) . وفيه ثلاثة مطالب .
المطلب الأول : في تأبيد الوقف .
المطلب الثاني : في وقف المنقول .
المطلب الثالث : في وقف المشاع .
خلاصةٌ في الموجهات المستفادة من مقاصد الشارع في الوقف وشروطه .
المبحث الثاني : في وقف الأسهم والصكوك والحقوق والمنافع ، وذلك في ثلاثة مطالب .
المطلب الأول : في وقف الأسهم .
المطلب الثاني : في وقف الصكوك .
المطلب الثالث : في وقف الحقوق والمنافع .
الخاتمة : وتتضمن التوصيات .(1/2)
والله العليَّ العظيمَ أسأل أن يوفقني لما فيه خدمة ديننا ومجتمعنا ، وأن يغفر لي زلاّتي ، فحسبي أني أردت الخير ، وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين .
الأستاذ الدكتورمحمود السرطاوي
5/2/2009م
مقدمةفي معنى الوقف :
الوقف لغة : الحبس ، ومنه قولهم : وقَفَ الأرضَ على المساكين أو للمساكين وقفاً : حبسها (1) .
وبه جاء الحديث : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " .
الوقف اصطلاحاً : عرّفه جمهور الفقهاء بألفاظ متقاربة في المعنى ، وأدخل بعضهم الشروط في التعريف ، ومن ذلك :
عرّفه الشافعية بأنه :" تحبيس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ، بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته، يُصرف في وجه خير تقرباً إلى الله تعالى " (2) .
وعرّفه المالكية بأنه :" إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ، ولو تقديراً " (3) .
وعرّفه بعض المالكية بأنه :"جعل منفعة مملوك أو غلته لمستحق بصيغة مدة مايراه المحبّس " (4) .
وعرّفه الحنابلة بأنه :" تحبيس الأصل ، وتسبيل الثمرة أو المنفعة " (5) .
أمّا الحنفية فهو على رأي الإمام أبي حنيفة :" حبس العين على ملك الواقف ، والتصرف بالمنفعة " (6) .
وعند الصاحبين:" حبس العين على حكم ملك الله تعالى على وجه تعود منفعته إلى العباد، فيلزم ولا يباع ، ولا يوهب ، ولا يورث " (7) .
__________
(1) ... لسان العرب : ابن منظور (9/359) ، والمعجم الوسيط : مجمع اللغة العربية (2/1063) .
(2) ... تحرير ألفاظ التنبيه : للنووي (ص464) .
(3) ... مواهب الجليل شرح مختصر خليل : محمد الحطاب (6/18) .
(4) ... حاشية الصاوي على الشرح الصغير : أحمد الصاوي (4/97) .
(5) ... شرح منتهى الإرادات : منصور البهوتي (2/480) .
(6) ... البحر الرائق شرح كنز الدقائق : لابن نجيم (5/202) .
(7) ... الفتاوى الهندية (2/355) ، والبحر الرائق ( 5/202) .(1/3)
ومن التعريفات السابقة يظهر التباين في بعض شروط صحة الوقف عند الفقهاء ، ويمكن أن نجمل شروط الموقوف عند جمهور الفقهاء فيما يأتي :
يشترط الحنفية في الموقوف أن يكون عقاراً ، فلا يجوز وقف المنقول عندهم إلا تبعاً للعقار ؛ كوقف المزرعة ببقرها ، أو أن يكون المنقول ممّا ورد النص بجواز وقفه ؛ كوقف السلاح والكراع في سبيل الله للنّص ، أو جرت العادة بوقفه .
ويشترط عندهم قسمة الأرض المملوكة على سبيل الشيوع إذا أراد أحد الشركاء وقف حصته فيها على تفصيل سيأتي بيانه ، ولا يجوز وقف المشاع ليكون مسجداً أو مقبرة إلا بعد الفرز (1) .
ولا يشترط المالكية لجواز الوقف أن يكون المال الموقوف عقاراً ؛ حيث يجوز عندهم وقف المنقول أيضاً، كما يجوز وقف المشاع (2) .
وذهب الشافعية إلى اشتراط دوام الانتفاع بالموقوف ، وتعتبر مدة الانتفاع لكل شيء بحسبه ، فيجوز عندهم وقف المنقول بهذا الشرط ، كما يجوز عندهم وقف المشاع (3) .
ويشترط الحنابلة في الموقوف أن يكون عيناً معلومة يصح بيعها ، ويمكن الانتفاع بها دائماً مع بقاء عينها عرفاً ، فيجوز وقف العقار كالأرض والبناء ، ويجوز وقف المنقول إذا كانت له منفعة موجودة مقصودة كالحيوان ، والأثاث للمسجد ، والسلاح ، والمصاحف ، وكتب العلم ، ويصح وقف المشاع من عين يصح وقفها) (4) .
وسأقتصر الحديث في هذا البحث على الشروط ذات الصلة المباشرة بموضوع البحث وهي :
تأبيد الوقف أو تأقيته ، ووقف المنقول ، ووقف المشاع ، أمّا ما عدا ذلك من الشروط ممّا لا علاقة له مباشرة بموضوع البحث ، فيمكن الرجوع إليه في كتب المذاهب الفقهية .
المبحث الأول
__________
(1) (1 ... البحر الرائق (5/202) ، والفتاوى الهندية (6/355) .
(2) 2 ( ... مواهب الجليل : للحطاب (6/18-20) .
(3) 3) ... مغني المحتاج : للشربيني (2/377) .
(4) 4) ... كشاف القناع : البهوتي (2/443) ، والمغني : لابن قدامة (5/524 ،526 ،527) .(1/4)
في شروط الوقف ذات الصلة المباشرة في المسائل المستجدة موضوع البحث
المطلب الأول
تأبيد الوقف
ذهب الحنفية (1) إلى أنه يشترط في الوقف أن يكون مؤبداً ، ولايجوز النص على تأقيته ، قال الخصاف:"لو وقف داره يوماً أو شهراً لايجوز ؛ لأنه لم يجعله مؤبدا ، وكذا لو قال على فلان سنة : كان باطلاً ، وفصّل هلال بين أن يشترط رجوعها إليه بعد الوقت فيبطل الوقف أو لا فلا ، وظاهر ما في الخانية اعتماده " (2) .
وهذا فيما يكون قابلا للتأبيد ، بأن تكون العين الموقوفة صالحة للبقاء ليُمكنَ تنفيذ حكم التأبيد فيها ، ولذا قرّروا أنّ الأصل في الوقف أن يكون عقاراً ، وجواز وقف غير العقار يجيىء على خلاف الأصل ، فيجوز وقف المنقول في أحوال استثنائية ، فإذا خشي على المنقول الفناء فقد أجازوا استبداله ليكون الاستبدال طريقاً لبقاء الانتفاع به ، وبذلك جمعوا بين تأبيد الوقف وجواز وقف المنقول في صور استثنائية ، حتى إنهم قالوا : لو جرى العرف بجواز وقف الدراهم والدنانير ، وهي لايمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها ، استبدل بها عقاراً أو نحوه ممّا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه (3) .
ويرجع تشديدهم في اشتراط التأبيد في الوقف إلى أنّ الأصل الذي قام عليه الوقف هو حديث سيدنا عمر -رضي الله عنه- ، والموقوف فيه كان عقاراً ، وقد قصروه على ذلك النص .
واختلفوا في اشتراط ذكر التأبيد في الصيغة :
فذهب محمد بن الحسن إلى أنه يشترط ذكر التأبيد في الصيغة (4) .
وذهب أبو يوسف (5) إلى أنه لا يشترط ذكر التأبيد ، ويكفي أن تخلو الصيغة من التأقيت ؛ لأنّ لفظ الوقف دالّ على التأبيد .
__________
(1) ... فتح القدير : ابن الهمام (5/48) ، والبحر الرائق (5/204) .
(2) ... البحر الرائق (5/204) ، فتح القدير (5/51) .
(3) ... محاضرات في الوقف : العلامة الشيخ محمد أبوزهرة (ص117-118) بتصرف .
(4) 4( ... البحر الرائق (5/204) .
(5) 5( ... البحر الرائق (5/204) .(1/5)
وذهب الشافعية (1) والحنابلة (2) إلى أنه يشترط في الوقف أن يكون مؤبداً ، ولا يشترط عندهم ذكر التأبيد في الصيغة .
ولمّا اشترط الشافعية والحنابلة التأبيد في الوقف مع قولهم بجواز وقف المنقول ، وهو لا يتأبد غالباً ، فقد ورد على قولهم إشكال مفاده : كيف يمكن بقاء الوقف مؤبداً مع أنّ المنقول قابل للإتلاف ، وغير صالح للدوام؟
وللشافعية في الإجابة على السؤال وجهان :
الوجه الأول : أن ينتهي الوقف إذا تلف المنقول ، وعليه فإنّ معنى التأبيد عندهم يكون في كل عين بما يناسبها ؛ فما يكون غيرقابل للفناء عادةً ، يكون دوام الوقف فيه إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، وما يكون قابلاً للفناء يكون بمقدار فنائه (3) .
وقد ذهب الحنابلة إلى جواز الاستبدال عند التلف (4) .
الوجه الثاني : يتفق مع ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة من جواز الاستبدال بعين أخرى ، تحلّ محل العين التي ستتلف .
وذهب المالكية (5) والشيعة الإمامية (6) إلى أنه لايشترط في الوقف التأبيد ، فيجوز الوقف لسنة أو أكثر لأجل معلوم ، ثم يرجع ملكاً للواقف أو لغيره .
ولهذا أجازوا وقف العقار ووقف المنقول وإن كانت العين غير قابلة للبقاء الدائم ، وإذا كان المنقول عندهم يجوز أن يكون منقولاً -غيردائم البقاء- فإنّ طريق بقائه هو الاستبدال ، فيحلّ محلّ المنقول عين ثابتة صالحة للبقاء .
رأي الباحث :
__________
(1) ... حاشية البجيرمي على الخطيب : سليمان البجيرمي (3/251) ، وأسنى المطالب شرح روض الطالب : زكريا الأنصاري (2/463) .
(2) ... المغني (6/570) ، وكشاف القناع : البهوتي (2/446) .
(3) ... نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج : للرملي (4/286) ، والمغني : لابن قدامة (5/518) عن المحاضرات في الوقف لمحمد أبوزهرة (ص118) .
(4) ... المغني (5/518) .
(5) ... حاشية الدسوقي : لمحمد بن عرفة (4/87) .
(6) ... الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية : العاملي (3/175) .(1/6)
من خلال تتبع الأدلة الدالة على مشروعية الوقف ، واستشراف المقاصد الشرعية منها ، نرى أنّ الشارع يهدف من الوقف إلى إقامة مصادر دائمة ومستمرة تدرُّ دخلاً ، لتقديم خدمات اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية للأفراد والمجتمعات في الحاضر والمستقبل ، ولاشك أنّ تأبيد الوقف يحقق هذا المقصد أكثر من تأقيته .
ولهذا كان اتفاق الفقهاء على وقف العقار ؛ لأنه يحقق مقصد الشارع ، واختلفوا في وقف المنقول ؛ لأنه يؤول إلى التلف ، ولا تتحقق منه المنافع على التأبيد ، كما أنّ الفقهاء ذكروا قيوداً على التصرف في أصل الوقف ؛ فمنعوا بيعه ، وتحميله الديون ، كما نصوا على أنّ عمارة أصل الوقف التي يترتب عليها بقاء عين الوقف مقدمة على غيرها من وظائف الوقف ، قصد استمرارية الوقف.
هذا وقد فرّق الشارع الحكيم بين الوقف والصدقة ، مع أنّ كلاًّ منهما يُقصد به وجه البرّ، سواء كان عاماً أو خاصاً ؛ لأنّ المقصود في الوقف هو حبس العين والتصدق بالثمرة ، ولاشك أنّ الذي يحقق هذا هو أن يكون المال الموقوف عقاراً ، وأمّا الصدقة فلا يقصد منها حبس العين والتصدق بما تدرّه من إيرادات كالوقف ، حيث يكون مال الصدقة محلاًّ للتصرف والإنفاق على جهات البرّ (1) .
ومع أنّ الأصل في الوقف العقار كما قرّره الفقهاء ، إلا أنهم أجازوا وقف المنقول إمّا تبعاً أو للنص أو جريان العرف كما ذهب إلى ذلك الحنفية ، أو أجازوه استقلالاً توسعةً في إعمال البرّ والخير كما هو مذهب الشافعية والحنابلة مع قولهم بتأبيد الوقف ، فأجازوا استبدال ما تعرّض للتلف منه طريقاً للوصول إلى المقصد الأصلي الذي لا يحققه إلا التأبيد .
وأمّا المالكية والشيعة الإمامية فقد أجازوا تأقيت الوقف لمدة زمنية محددة إلا فيما لا تقبل طبيعته التأقيت.
__________
(1) ... الوقف الإسلامي : د. منذر قحف (ص106-107) .(1/7)
والمتفحِّص فيما ذهب إليه الفقهاء يرى أنّ الفقهاء أجازوا التأقيت في الوقف وإن لم يسمّوه توقيتاً ، وأدخلوه ضمن الوقف المؤبد ، وقد فتحوا بذلك باباً واسعاً لفعل الخيرات والصدقات الجارية التي لا يستوعبها مبدأ التأبيد (1) .
ونلحظ من خلال التتبع التاريخي لآراء الفقهاء في مسائل الوقف أنهم توسعوا في وقف المنقولات كلّما اقتضت حاجة المجتمع إلى التوسع فيها ، حتى أصبحت المنقولات التي يجوز أن يجري فيها الوقف كثيرة ، فخرجت لكثرتها عن كونها استثناءً من الأصل ، وقد نصوا على جواز وقف ما جرى العرف به .
ولاشك أنّ هذا المنهج الذي يمكن وصفه بالمحافظ على الثوابت ، والمرن في تحقيق مقاصد البرّ حسب الأعراف والمتغيرات الاجتماعية عبر العصور ، هو الذي يحدد ويبيّن حكم ما استجدّ من قضايا في موضوعات الوقف الخيري مثل ؛ وقف الأسهم ، والسندات ، والحقوق ، والمنافع .
__________
(1) ... المرجع السابق (ص106) .(1/8)
أمّا بالنسبة لاشتراط ذكر التأبيد في الصيغة ؛ فأرى أنّ الأصل في الوقف التأبيد مالم ينص الواقف على خلاف ذلك ، وليس ذلك افتئاتاً على إرادة الواقف ؛ لأنّ الأصل في التصرف أن يكون على وفق الشرع، وهو هنا التأبيد ، مالم ينص الواقف على تأقيت الوقف لمدة محددة ، وسواء في ذلك الوقف على الخيرات ، أو وقف شقة أو بناء لمسجد ، وقد دعت الحاجة إلى ذلك في كثير من البلدان ، فقد تكون الحاجة قائمة للصلاة في منزل إلى أن يتمّ إنشاء مسجد (1) .
المطلب الثاني
وقف المنقول
يقصد بالمنقول ما يقابل العقار ، ممّا يمكن نقله من مكان لآخر ، وتحويله من هيئة لهيئة، يستوي في ذلك أن يكون بناءً أو غراساً أو دواباً أو آلات ريّ أو حرث (2) .
__________
(1) ... يرى الدكتور منذر قحف في كتابه القيم (الوقف الإسلامي : تطوره ، إدارته ، تنميته ) اعتبار إرادة الواقف مطلقاً حيث يقول : " لايكفي كون الأصل الموقوف ذا طبيعة مؤبدة حتى يتأبد الوقف ، بل لابد من أن يقصد الواقف معنى التأبيد " . وأنا معه في اعتبار إرادة الواقف ، ولكن ماالحكم إذا قال : وقفت هذا البيت مسجداً أو على جهة برّ دون أن يذكر مدة معينة ؟ أرى في هذه الحال أن يكون مؤبداً ؛ عملاً بأنّ الأصل في الوقف التأبيد ، وليس استدلالاً بطبيعة الشيء الموقوف إن كانت مؤبدة أو مؤقتة كما ذكر الدكتور منذر قحف ، انظر (ص103) .
(2) ... أحكام الوقف والوصايا في الشريعة الإسلامية : د.أحمد فراج حسين (ص267) .(1/9)
ولا خلاف بين الفقهاء في جواز وقف العقار بناءً على أنّ الوقف يقتضي التأبيد عند الجمهور،ويلزم أن تكون العين الموقوفة صالحة للبقاء،وهوما يتصوّر في العقار،وقد ثبت ذلك عن الصحابة الكرام ، قال الحميدي :" تصدق أبوبكر –رضي الله عنه- بداره على ولده.وعمر –رضي الله عنه- بربعه عند المروة على ولده ، وعثمان –رضي الله عنه- برومة ، وعلي –رضي الله عنه- بأرضه بينبع ،وتصدق الزبير –رضي الله عنه- بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده،وتصدق سعد –رضي الله عنه- بداره بالمدينة وداره بمصر على ولده ، وعمرو بن العاص –رضي الله عنه- بالوهط وداره بمكة على ولده ، وحكيم بن حزام –رضي الله عنه- بداره بمكة والمدينة على ولده فذلك كله إلى اليوم ". قال جابر –رضي الله عنه- :" لم يكن أحد من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- ذو مقدرة إلا وقفَ ، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد ، فكان إجماعاً " (1) .
أمّا وقف المنقول فقد اختلفت آراء الفقهاء في جواز وقفه على تفصيل نبيّنه فيما يلي :
ذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز وقف المنقول إلا تبعاً للعقار ، فلا يجوز وقف البناء ، والشجر ، والمعدات والآلات الزراعية التابعة للأرض ، إلا إذا تمّ وقف الأرض ، فتلحق بها .
ففي الدرّ المختار :" بنى على أرض ثم وقف البناء قصداً بدونها ، إنْ الأرض مملوكة ، لا يصح " (2) .
وقد أفتى بهذا جمهرة الحنفية ، والعلة أنّ البناء بدون الأرض لا يبقى مدة طويلة .
__________
(1) ... المغني : ابن قدامة (5/490) .
(2) ... حاشية رد المحتار على الدر المختار : محمد ابن عابدين (3/518) .(1/10)
وقد فرّق بعض الحنفية بين الأرض المحتكرة وغيرها ، فإن كانت الأرض إجارة في أيدي القوم الذين بنوها لايخرجهم السلطان منها ، فالوقف جائز فيها ، من قِبَلِ أنّا قد رأيناها في أيدي أصحاب البناء يتوارثونها ، وتقسم بينهم ، لا يتعرض لهم السلطان ، ولا يزعجهم عنها ، وإنما له عليهم غلةً يأخذها منهم، قد تداولتها أيدي الخلف عن السلف ، ومضى عليها الدهور وهي في أيديهم يتبايعونها ويؤجرونها ، وتجوز فيها وصاياهم ، ويهدمون بناءها ، ويغيرونه ، ويبنون غيره ، فكذلك الوقف جائز (1) .
وما جاز وقفه تبعاً للعقار إن كان متصلا بالعقار اتصال قرار ، يدخل في الوقف تبعاً للعقار من غير توقف على النص على وقفه ، أمّا ما كان متصلاً بالأرض لا على وجه القرار ، فإنه لايكون موقوفاً تبعاً للعقار إلا بالنص عليه (2) .
أمّا المنقول غير التابع للعقار ، فالأصل عدم جواز وقفه إلا في حالتين :
الحالة الأولى : يجوز وقفه إذا ورد النص بجوازه ، فيجوز وقف السلاح والكراع وذلك لما ورد عنه –صلى الله عليه وسلم- من قوله :" إنكم تظلمون خالداً ، فقد حبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله " (3) .
وفي الحديث :" مَن احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإنّ شِبَعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات " (4) .
__________
(1) ... أحكام الوقف : للخصاف (ص35) .
(2) ... أحكام الوقف والوصايا : د. أحمد فراج حسين (ص267) .
(3) ... صحيح البخاري (2/156) .
(4) ... أخرجه أحمد واللفظ له (2/375) ، وأخرجه البخاري (2/135) .(1/11)
قال ابن الهمام :" حكم الوقف الشرعي التأبيد ، ولا يتأبد غير العقار ، غير أنه تُرك في الجهاد (السلاح والكراع) ؛ لأنه من سنام الدين ، فكان معنى القربة فيهما أقوى ، فلايلزم من شرعية الوقف فيهما (السلاح والكراع) شرعيته فيما دونهما ، ولايلحق دلالة أيضاً ؛ لأنه ليس في معناهما " (1) . ويفهم من كلام ابن الهمام عدم جواز وقف المنقول إلا ما ورد فيه نص ، ولايقاس غيره عليه .
الحالة الثانية : يجوز وقف ما جرى به العرف ؛ كوقف المصاحف ، والكتب ، وأمتعة المساجد وفرشها ، وأجازوا وقف الثياب على الفقراء ، ووقف السفينة ، إن جرى فيها التعامل مطقا (2) ً .
وذكر في البحر تعليلاً لعدم جواز وقف البناء التابع للأرض إذا لم توقف الأرض ، حيث قال: " إنّ العلة ليست لكونه منقولاً لايدوم ، وإنما لعدم التعارف عليه ، وحينئذٍ لايبقى لإطلاق التعارف وجه ؛ لجريان العرف به " (3) .
ويظهر ممّا سبق خلاف الحنفية في جواز وقف المنقول ، فمنهم مَن منعه ، ومنهم مَن أجازه إذا جرى العرف بوقفه .
وقد رجّح ابن عابدين مسلك المجوّزين ، حيث قال :" ولا يخفى عليك أنّ المفتي به الذي عليه المتون جواز وقف المنقول المتعارف ، وحيث صار وقف البناء متعارفاً كان جوازه موافقاً للمنقول ، ولم يخالف نصوص المذاهب على عدم جوازه ، لأنها مبنيةٌ على أنه لم يكن متعارفاً " (4) .
__________
(1) ... فتح القدير : ابن الهمام (5/51) .
(2) ... حاشية رد المحتار : ابن عابدين (3/518) .
(3) ... أحكام الأوقاف للخصاف (ص35) .
(4) ... حاشية رد المحتار (3/541) .(1/12)
أمّا جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة فقد ذهبوا إلى جواز وقف العقار والمنقول ، أمّا العقار؛ فللأدلة التي سبق ذكرها ، وأمّا المنقول ؛ فيجوز وقفه عندهم سواء كان تابعاً للعقار أم لم يكن ، ورد به النص أم لا ، وذلك لأنّ العبرة بالمالية والانتفاع ، فما ينتفع به يجوز وقفه، وما لا ينتفع به لا يعد مالاً ، ولايجوز وقفه ، وعلى هذا فيجوز وقف الحيوان والأثاث لإمكان الانتفاع به ، لأنّ دوام كلّ شيء رهنٌ ببقائه صالحاً للانتفاع به (1) .
ومع أنّ الأصل في الوقف التأبيد عند الشافعية والحنابلة ، إلا أنهم اعتبروا التأبيدفي كل عين بما يناسبها ، فمالايكون قابلاً للبقاء فإنّ معنى التأبيد فيه مقدر بمقدار بقائه ، ومالا ينتفع به على الدوام كالطعام ، وما يُشمّ كالريحان ، وما تحطم وتكسر من الحيوان ، فلا يجوز وقفه ؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به على الدوام .
كما أنهم أجازوا استبدال الوقف إذا بدا عدم صلاحه ؛ وذلك طريقاً لاستيقاء الوقف وتأبيده ما أمكن ، ويفهم هذا من نصوص الفقهاء في المذاهب المشار إليها .
ففي مغني المحتاج للشربيني :" الأصح جواز بيع حُصُر المسجد الموقوفة إذا بليت ، وجذوعه إذا انكسرت أو أشرفت على ذلك ... ولم تصلح إلا للإحراق ، لئلا تضيع ويضيق المكان بها من غير فائدة ، فتحصيل نزر يسير من ثمنها يعود إلى الوقف أولى من ضياعها ، ولا تدخل بذلك تحت بيع الوقف ؛ لأنها صارت في حكم المعدومة ، وهذا ما جرى عليه الشيخان ، وهو المعتمد ، وعلى هذا يصرف ثمنها في مصالح المسجد" (2) .
__________
(1) ... المهذب : للشيرازي (1/440) ، وحاشية الدسوقي (4/75) ، والمغني (5/524) .
(2) ... مغني المحتاج : للشربيني (2/378) .(1/13)
ويتفق الحنابلة مع الشافعية في اشتراط التأبيد ، وقولهم بجواز وقف المنقول ، ويرون أنّ التأبيد يكون نسبياً مع كل عين على حدة ، وكل ما يشترطونه أن لايكون الانتفاع بالعين لازماً لفناء عينها ؛ كالشمع والطعام (1) .
قال ابن قدامة :" وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل : الذهب ، والوَرِق ، والمأكول والمشروب ، فوقفه غير جائز ، وجملته أنّ ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم ، والمطعوم والمشروب ، والشمع وأشباهه ، لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم ، إلا شيئاً يحكى عن مالك ...؛ لأنّ الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف ، لا يصح فيه ذلك " (2) .
وقد جعلوا الاستبدال في الوقف طريقاً إلى بقاءه على الدوام إن تعذّر بقاء العين في المنقول ، قال ابن عقيل :" الوقف مؤبد ، فإذا لم يمكن تأبيده على وجه يخصصه استبقاء الغرض ، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان ، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض ، و يقرب هذا من الهدي إذا عطب في السفر فإنه يذبح في الحال ، وإن كان يختص بموضع ، فلمّا تعذّر تحصيل الغرض بالكلية ، استوفى منه ما أمكن ، وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذّره ؛ لأنّ مراعاته مع تعذّره تفضي إلى فوات الانتفاع بالكلية ، وهكذا الوقف المعطّل المنافع " (3) .
__________
(1) ... أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية : محمد عبيد الكبيسي (ص383) .
(2) ... المغني : ابن قدامة (5/524) .
(3) ... المغني (5/518) .(1/14)
أمّا المالكية فإنهم لايشترطون التأبيد في الوقف ، فيصح الوقف عندهم لمدة معينة كسنة، ولهذا لم يشترطوا في المال الموقوف أن يكون صالحاً للبقاء على الدوام ، فيجوز وقف العقار والمنقول (1) والمنفعة ، وعليه فيصح وقف الدراهم والدنانير والطعام ، ويعطى الموقوف عليهم من هذه الأشياء سلفاً ، ويصح وقف الثياب والكتب على القول المعتمد .
جاء في حاشية الدسوقي :" وفي جواز وقفٍ ؛ كطعام ممّالايعرف بعينه إذا غُيِّب عليه كالنقد ، وهو المذهب : تردد .وقيل : إنّ التردد في غير العين في سائر المثليات ، وأمّا العين فلا تردد فيها ، بل يجوز وقفها قطعاً ؛ لأنه نص المدونة ، والمراد وقفه للسَّلف ، وينزل ردّ بدله منزلة بقاء عينه ، وأمّا إن وقف مع بقاء عينه ، فلا يجوز اتفاقاً ؛ إذ لا منفعة شرعية تترتب على ذلك " (2) .
رأي الباحث :
لقد توسع الحنفية في جواز المنقول استثناءً ، حيث أجازوه إن جرى به العرف ، ومادام أنّ الأعراف متجددة ، وتختلف زماناً ومكاناً ، فقد جرى وقف السيارات في زماننا لنقل الموتى ، وللعمل في المستشفيات ، كما جرى وقف الدراهم والدنانير ، والثياب ، والكتب ، والسفن ، وغيرها ممّا يمكن القول معه إنّ دائرة الخلاف بين الحنفية والجمهور في وقف المنقول قد تضاءلت ، خصوصاً إذا لاحظنا تطور الأعراف على حسب معطيات كلّ عصر ، وكلّ مكان.
__________
(1) ... ومفهوم العقار عند المالكية يشمل كلّ ما له أصل ثابت لايمكن تحويله ونقله من مكان إلى آخر مع بقاء هيئته وشكله ، وعلى هذا فالشجر والبناء عقار عندهم ؛ لأنّ لهما أصلاً ثابتاً ، ويمكن نقلهما من مكان إلى آخر مع عدم بقاء شكلهما وصورتهما ، والعقار عند الجمهور هو مالايمكن نقله وتحويله من مكان لآخر ، وعليه فإنّ العقار عندهم لايتحقق إلا في الأرض . انظر أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية : محمد عبيد الكبيسي (ص380) .
(2) ... حاشية الدسوقي (4/77) .(1/15)
وأرى أنّ ما ذهب إليه الجمهور من جواز وقف المنقولات ، وتأصيل الاستبدال فيها ، وصولاً إلى معنى التأبيد ، بغية تحقيق مقصد الشارع في الوقف،يستحق التقدير ، وأن يكون أصلا يمكن تخريج المسائل المستجدة في الوقف عليه ، وإذا انضمّ إلى هذا رأي المالكية القائل بجواز التأقيت في الوقف ؛ فإننا نحقق قدراً أكبر من فتح أبواب البرّ والخير ، ورفد المجتمع بما يحتاج إليه من إيرادات ومنافع يستكمل بها ما يحتاج إليه في الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية .
المطلب الثالث
وقف المشاع
من شروط صحة الوقف أن يكون المال الموقوف مفرزاً غير شائع ، والشيوع هو ما تعلقت الملكية فيه بجزء نسبي غير محدد من شيء مملوك لأكثر من واحد ، كما لو اشترك اثنان في ملكية دار ، لكلّ واحد منهما النصف ، ولم يتفقا على إفراز نصيبهما ، ولكلّ منهما حصة شائعة في الشيء المملوك ، وينتهي الشيوع بالقسمة والإفراز أحياناً ، أو ببيع أحد الشريكين نصيبه من الآخر ، أو ما إلى ذلك من التصرفات الناقلة للملك (1) .
وقد اتفق الفقهاء (2) على أنه لا يصح وقف المسجد أو المقبرة إلا بعد الإفراز والقسمة ؛ لأنه لايمكن الانتفاع به فيما وقف له إلا بتخليصه من ملك الغير له ، وذلك بالقسمة ، ولاتصلح المهايأة الزمانية أو المكانية فيهما ؛ لأنها تؤدي إلى أن يصبح ما كان مسجداً أو مقبرةً في هذا العام مزرعةً في العام القادم .
قال ابن الهمام :" وإنما اتفقوا على منع الوقف المشاع مطلقاً مسجداً ومقبرةً ؛ لأنّ الشيوع يمنع خلوص الحق لله تعالى ، ولأنّ اجواز وقف المشاع فيها لا يحتمل القسمة ؛ لأنه يحتاج إلى التهايؤ ، والتهايؤ فيه يؤدي إلى أمر مستقبح ، وهو أن يكون المكان مسجداً سنة ، واصطبلاً للدواب سنة ، ومقبرةً عاماً ومزرعةً عاماً" (3) .
__________
(1) ... أحكام الوقف في الفقه والقانون : د. محمد سراج (ص69) .
(2) ... مغني المحتاج (2/378) .
(3) ... فتح القدير : ابن الهمام (5/46) .(1/16)
والمشاع نوعان :
النوع الأول : يقبل القسمة وهو الأعيان التي ينتفع بها بعد قسمتها الانتفاع المقصود بها قبل القسمة ؛ كالأراضي الزراعية ، والبيت المؤلف من شقق وطوابق .
النوع الثاني : مالايقبل القسمة مع بقاء الانتفاع به على حالته المقصودة ؛ كالبئر ، والحمّام، والحصة في البيت الصغير ، أو في آلات الحرث أو الريّ ، أو السيارة (1) .
واختلف الفقهاء في جواز وقف المشاع قبل الإفراز والقسمة في غير المسجد والمقبرة ، وأوجز آراء الفقهاء في المسألة فيما يأتي :
اتفق الحنفية على جواز وقف المشاع الذي لا يقبل القسمة ، كما اتفقوا على صحة الوقف المشاع فيما يقبل القسمة وما لا يقبل القسمة إذا حكم القاضي بصحة وقف المشاع ؛ لأنه أمر مجتهد فيه ، ورأي الحاكم فيه يرفع الخلاف ، فإذا قضى القاضي بجوازه صح (2) .
وكذلك لايبطل الوقف بالشيوع الطارىء ؛ كما لووقف شخص أرضه المعلومة المفرزة ، ثم ظهر استحقاق الغير في جزء منها كربعها ،لايبطل الوقف ، ويستمر في الثلاثة أرباع (3) ، فلا يبطل الوقف إلا في الجزء المستحق للغير ؛ لأنه تبيّن أنه لم يكن على ملك الواقف حين وقفه .
أمّا المشاع الذي يقبل القسمة ، فقد ذهب محمد بن الحسن إلى عدم صحة وقفه إلا بعد قسمته ؛ وذلك لأنّ القبض عنده شرط لتمام الوقف ، لأنّ المطلوب عنده فيما يمكن قسمته وقبضه القبض الكامل ، ولايتمّ إلا بالقسمة ، وأسقط اعتبار تمام القبض عند عدم الإمكان، وذلك فيما لا يحتمل القسمة ؛ لأنه لو قسم قبل الوقف فات الانتفاع كالبيت الصغير والحمّام ، فاكتفى بتحقق التسليم في الجملة (4) .
__________
(1) ... أحكام الوقف في الفقه الإسلامي : د. محمد سراج (ص69) . وانظر المنهل الصافي في الوقف وأحكامه : محمد أسعد الإمام الحسيني (ص28) .
(2) ... حاشية رد المحتار (3/517) .
(3) ... حاشية رد المحتار (3/504) .
(4) ... فتح القدير (5/46) ، وحاشية رد المحتار (3/504) .(1/17)
وذهب أبويوسف إلى صحة الوقف المشاع الذي يقبل القسمة كالذي لا يقبلها ؛ وذلك لعدم اشتراطه القبض لتمام الوقف ، قياساً على حالة العتق ؛ فإنّ الشيوع لايمنع من العتق ، فكذلك لايمنع من الوقف (1) .
قال السرخسي :" ولو وقف نصف أرض ، أو نصف دار مشاعاً على الفقراء ، فذلك جائز في قول أبي يوسف –رحمه الله- ؛ لأنّ القسمة من تتمة القبض ، فإنّ القبض للحيازة ، وتمام الحيازة فيما يقسم بالقسمة، ثم أصل القبض عنده ليس بشرط في الصدقة الموقوفة ، فكذلك ما هو في تتمة الوقف ؛ وهذا لأنّ الوقف على مذهبه قياس العتق ، والشيوع لايمنع العتق ، فكذلك لايمنع الوقف " (2) .
وذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة (3) إلى صحة وقف المشاع ، وذلك لأنهم لا يشترطون القبض لتمام الوقف عند بعضهم ، واستدلوا لرأيهم بما رواه النسائي وابن ماجه والشافعي عن ابن عمر –رضي الله عنهما- قال عمر للنبي –صلى الله عليه وسلم- :" إنّ المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إليَّ منها ، وقد أردت أن أتصدّق بها ، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- : احبس أصلها وسبّل ثمرتها " (4) . وهذه صفة المشاع ، وقد أمره النبي –صلى الله عليه وسلم- بوقفها (5) .
__________
(1) ... البحر الرائق : ابن نجيم (5/211) .
(2) ... المبسوط : للسرخسي (12/37) .
(3) ... مغني المحتاج (2/277) ، وتكملة المجموع : للمطيعي (15/323) ، والمفصًل في أحكام المرأة : د.عبدالكريم زيدان (10/424) .
(4) ... نيل الأوطار : الشوكاني (6/21) .
(5) ... تكملة المجموع (15/323) .(1/18)
واستدل البخاري على صحة الوقف المشاع بحديث أنس في قصة بناء المسجد ، وأنّ النبي – صلى الله عليه وسلم- قال :" ثامنوني حائطكم ، قالوا : لانطلب ثمنه إلا إلى الله –عزَّ وجَلّ- ، وهذا ظاهر في جواز وقف المشاع ، ولو كان غير جائز لأنكر عليهم النبي –صلى الله عليه وسلم- قولهم هذا ، وبيّن لهم الحكم (1) .
ولايرد على هذا الدليل ما ذكره الواقدي من أنّ أبابكر دفع ثمن الأرض لمالكها منهم ، وقدره عشرة دنانير ؛ لأنّ هذا الإيراد إن ثبت فإنه مردود بأنّ الاستدلال بالحديث إنما هو من جهة تقرير النبي –صلى الله عليه وسلم- على ذلك ، وعدم إنكاره قولهم ، فلو كان وقف المشاع لايجوز لأنكره عليهم ، وبيّن لهم الحكم ، فلمّا لم يفعل ، دلّ ذلك على صحة وقف المشاع في الجملة (2) .
وأمّا المالكية فقد أجازوا وقف المشاع عموماً ، وقد شدد مالك في اشتراط القبض ولم يكتف بالتمكين ، بل اشترط الحيازة سنة ، فمنع وقف المشاع قبل قسمته ؛ لأنّ الحيازة لا تتمّ مع الشيوع .
وقد ذكر الدردير الأقوال في المذهب ، قال :" أو كان مشتركاً شائعاً فيما يقبل القسمة (يعني يصحّ وقفه) ، ويجبر عليها الواقف إن أرادها الشريك ، وأمّا مالايقبلها ففيه قولان مرجحان : وعلى الصحة يجبر الواقف على البيع إن أراد شريكه ، ويجعل ثمنه في مثل وقفه " (3) .
القانون المصري يأخذ بوقف المشاع :
__________
(1) ... فتح الباري : ابن حجر (5/263) . وانظر أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية (ص390) .
(2) ... فتح الباري : ابن حجر (5/263) .
(3) ... الشرح الكبير : الدردير (4/76) .(1/19)
كان العمل قبل صدور القانون 48 لسنة 1946م على جواز وقف العقار مطلقاً ، والمنقول إذا كان تابعاً للعقار ، أو ورد به نص ، أو جرى به العرف وفق مذهب الحنفية ، وما عدا ذلك من المنقول لايصح وقفه ؛ لأنّ الوقف يراد به الدوام والتأبيد ، والمنقول لايؤدي هذا الغرض ، فلمّا صدر قانون 48 لسنة 1946م عدل عن المذهب الحنفي ، فأجاز وقف المنقول أخذاً بالمذهب المالكي ورأي الجمهور ، وأجاز وقف المشاع القابل للقسمة ؛ وذلك لإمكان رفع النزاع بالقسمة .
أمّا المشاع غير القابل للقسمة ، فقد كان القانون يأخذ بمذهب الحنفية الذي يقول بجواز وقفه على غير المسجد والمقبرة ؛ وذلك لأنّ الإفراز يؤدي إلى إتلاف المال وعدم الانتفاع به ، وهذا لا خلاف فيه بين أبي يوسف ومحمد بن الحسن .
غير أنّ القانون عدل عن هذا الرأي ، وأخذ برأي عند المالكية يقول بعدم جواز وقف المشاع الذي لا يقبل القسمة ؛ لأنه وكما جاء في المذكرة التفسيرية للمادة الثامنة ( أن الحوادث قد دللت على أنّ الشيوع بين وقفين ، أو وقف وملك فيما لا يقبل القسمة كثيراً ما يعطل مصالح الوقف ، وقد نتج عنه مضار عديدة ، ومنازعات كثيرة ، قد تؤدي إلى خراب الوقف ، وقد تباع العين المشتركة عند طلب القسمة وتكون الظروف غير ملائمة فيبقى مال البدل معطلاً ، فمن المصلحة أن يمنع من وقف العمل بهذا القانون وقف الحصة الشائعة في العقار الذي لا يقبل القسمة ، إلا في أحوال ثلاثة لا توجد فيها الأسباب التي دعت إلى المنع وهي :
الحالة الأولى : أن يقف كل من الشريكين حصته في هذا العقار على جهة واحدة ، أو أن تكون حصته من هذا العقد موقوفة من قبل على جهة معينة ، فيقف المالك لبائعها هذا الباقي على نفس الجهة التي وقفت عليها الأخرى .(1/20)
الحالة الثانية : أن تكون العين غير قابلة للقسمة ، ولكن منفعتها مرتبة للوقف وغيره ، فيقف أحد الشركاء حصته الشائعة منها على الجهة التي وقف عليه الوقف الذي ينتفع به ، وذلك كالسواقي وآلات الريّ ، وغير ذلك من المرافق التي ينتفع بها الوقف .
الحالة الثالثة : وقف حصص وأسهم شركات الأموال صناعية كانت أو زراعية أو تجارية ؛ لأنها تمثل قسماً من هذه الأموال التي قد تكون عقاراً أو منقولاً أو خليطاً من العقار والمنقول، وإنما اعتبرت ممّا لا يقبل القسمة ؛ لأنّ نظام الشركات لا يسمح بالقسمة ، غاية الأمر أنّ وقف هذه الحصص والأسهم لا يجوز ، إلا إذا كانت الشركات تستغلّ أموالها استغلالاً جائزاً شرعاً، كالشركات الصناعية والزراعية والتجارية ، أمّا إذا كانت الشركة تستغلّ أموالها استغلالاً غير جائز ، كالشركات التي يكون من أغراضها استثمار الأموال من طريق الربا، فإنه لا يجوز وقف حصصها وأسهمها (1) .
رأي الباحث :
__________
(1) ... أحكام الوصايا والأوقاف في الشريعة الإسلامية : د. أحمد فراج حسين (ص266 ، 267 ) . وأحكام الوقف في الفقه الإسلامي : د.محمد سراج (ص70-71) . ومحاضرات في الوقف : للعلامة الشيخ محمد أبوزهرة (ص124) .(1/21)
يرى الباحث مع جمهور الفقهاء رجحان القول بجواز وقف المشاع مطلقاً ، مايقبل القسمة ومالايقبل القسمة في العقار والمنقول ؛ وذلك تشجيعاً على أعمال البرّ ، وتحقيقاً لمقصد الواقف في البذل بقصد التقرب إلى الله تعالى ، ولأنّ الأدلة النصية التي ذكرها الجمهور لايقوى القياس على معارضتها ، وما أثير في القانون المصري لسنة 1946 م من أنّ بعض صور الشيوع فيما لايقبل القسمة يعطل مصالح الوقف ، وينتج عنه مضارّ عديدة ، ومتازعات كثيرة ، قد تؤدي إلى خراب الوقف ، يمكن التغلب على هذه الصعوبات بتشريعات إدارية ، وأيّاً كان الأمر ففي عدم جواز الوقف سدٌّ لباب من أبواب الخير ، والمتأمل في نصوص الشريعة يدرك أنّ الشارع يحثّ على التبرعات ومنها الوقف ، ويرتب على ذلك الأجر والثواب الجزيل .
خلاصةٌ في الموجهات المستفادة من مقاصد الشارع في الوقف وشروطه
... نستنتج من العرض السابق لآراء الفقهاء في شروط الوقف الموجهات المستفادة التالية :
1. أنّ مسائل الوقف اجتهادية تتصف بالمرونة ، وتتأثر بالظروف والأعراف الاجتماعية ، فقد توسع فقهاء الحنفية في وقف المنقولات عملاً بالعرف .(1/22)
2. أنّ المقصد الرئيسي هو تحقيق قدر من التكافل الاجتماعي في المناحي المتعددة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية وغيرها ، ولمّا كان التكافل مبدأً كلياً في الشريعة، فقد حثّت الشريعة الإسلامية على تحقيقه بوسائل متنوعة منها الإلزامي ومنها الاختياري ، ومنها ما يحقق أغراضاً فردية أو أسرية ، ومنها ما يحقق أغراضاً اجتماعية ، ولاشك أنّ الوقف يسهم بشكل فاعل في تحقيق قدر من التكافل والبناء الاجتماعي قد لاتفي الوسائل الإلزامية بتحقيقه ، وقد رتب الشارع الحكيم على هذا العمل أعظم الجزاء ، وجعله طريقاً لتحقيق معان سامية تترقى بمفهوم الإنسانية إلى مرتبة التكريم الذي أرادها الله تعالى في قوله { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } (1) .
ولهذه المعاني أجاز جمهور الفقهاء وقف الأموال سواء كانت عقاراً أو منقولاً ، وتوسع الحنفية في المنقولات حتى يمكن القول بجواز وقف المنقول عندهم ، وأجاز الجمهور وقف المشاع ما يقسم وما لا يقسم ، كما أجاز كثير من الفقهاء وقف المنافع ، وتقاس عليها الحقوق المالية .
3. نلحظ من خلال تتبع الأحكام الخاصة بالتبرعات اختلافاً عن الأحكام الخاصة بالمعاوضات والمشاركات ، وعلى سبيل المثال : يغتفر الغرر في التبرعات وإن لم يكن يسيراً ، ولا يغتفر في المعاوضات والمشاركات إلا ما لايمكن الاحتراز عنه وهو اليسير، وما ذلك إلا تشجيعاً وتوسعةً من الشارع للمشاركة في أعمال البرّ على قدر الوسع والطاقة .
__________
(1) ... سورة الإسراء : آية 70 .(1/23)
لهذا أن نقول في المسائل المستجدة وهي موضوع البحث في ضوء هذه الموجهات والمقاصد الكلية التي تغياها الشارع الحكيم ، وأرى أنّ فيما أسلفت من بيان لآراء الفقهاء في شروط الوقف ما يحقق هذا المعنى ، فمع قول الجمهور بتأبيد الوقف إلا أنهم أجازوا وقف المنقول ، وتوسعوا فيه على مدى العصور ، وأجازوا استبدال الوقف وصولاً لتحقيق معنى التأبيد وفق ضوابط محددة ، حتى تبقى الغاية من الوقف ، والتي قصد منها التكافل الاجتماعي لا بين أبناء العصر ، وإنما بين أبناء العصور المتعاقبة .
4. إنّ المقصود من الوقف تحقيق حاجات الأفراد والمجتمعات وفق أدوات وآليات الاستثمار المتوافرة في تلك العصور ، فإذا تمّ تطوير هذه الأدوات وتنوعت آليات الاستثمار ، وأصبحت عصب الاقتصاد في الدول ، وهي أكثر أموال الناس إذا قورنت بالأراضي والعقارات ، فلا ينبغي أن يمنع المالكون لهذه الأدوات من الإسهام في أعمال الخير ، فالأسهم والصكوك في المؤسسات الانتاجية (الزراعية والصناعية والتجارية والتعليمية) هي الغالبة في زماننا، وأصبحت الأسواق المالية تشكل عصب الاقتصاد للدول ، وتدرّ دخلاً كبيراً على أصحابها ، وإذا كان من أمرٍ يُخشى منه عند وقفها من الضياع أو التلف ، فإنّ القوانين والأنظمة كفيلة بتسديد الأمر وتصويبه ، هذا مع العلم بأنّ ما هي عليه الآن من الضمانات قد يكون كافياً لطمئنة مَنْ يَخشى عليها الضياع والتلف إذا تمّت إدارتها واستثمارها وفق الضوابط التي رسمتها الشريعة الإسلامية .
5. إنّ الوقف يقوم على أساس التبرع ، وليس فريضة واجبة على المكلفين كالزكاة وصدقة الفطر ، وإنّ سدَّ الباب أمام الواقفين المتبرعين الذين لا يملكون العقار أو المنقول الذي يجوز وقفه ، يعني حرمان هذه الفئة من الأجر والمثوبة ، ومنعهم من الإسهام في تحقيق مبدأ التكافل مع مجتمعهم.
وبعد هذا الإيجاز يتناول الباحث الرأي في وقف الأسهم والسندات ، والحقوق والمنافع .(1/24)
المبحث الثاني
وقف الأسهم والصكوك والحقوق والمنافع
المطلب الأول
وقف الأسهم
ممّا استحدث في المعاملات التجارية الأسهم ، فما معنى السهم في اللغة والاصطلاح ؟
السهم في اللغة : النصيب (1) . وفي الاصطلاح : حصة معينة من مجموع حصص متساوية في حجم الشركة، مشاعة في عمومها (2) .
لقد أصبحت قيمة الأسهم وأرباحها تشكل عصب الاقتصاد ؛ لما تحتله من قوة اقتصادية بعد استحداث الشركات المساهمة وإقرارها من المجامع الفقهية ، وأصبح السهم بمنزلة رأس المال الثابت يدرّ أرباحاً ؛ كالعقار يدرّ دخلاً ، وهو بذلك يفتح المجال واسعاً للتشجيع على أعمال الخير ومنها الوقف ؛ حيث يمكن أن يشكل مورداً ثابتاً لبعض المؤسسات الخيرية ، كما أنه يشجع المحسنين على وقف أسهمٍ من ممتلكاتهم في المؤسسات المالية (3) .
السهم قد يكون حصة في شركة مالية : زراعية أو صناعية أو تجارية ، وهذه الأسهم تعدّ من قبيل المشاع الذي لا يقبل القسمة ؛ لأنّ قوانين الشركات المساهمة لا تجيز إفراز أيّ سهم منها ، على الرغم من أنّ هذه الشركات قد تكون عقاراً أو منقولاً أو خليطاً منهما .
__________
(1) ... لسان العرب : ابن منظور (12/308) .
(2) ... حكم تداول أسهم الشركات المساهمة:د.حمزة حسين الفعر(ص293)،العدد 15سنة 2001م الأزهر مركز صالح كامل للاقتصادالاسلامي.
(3) ... المفصل في أحكام الربا : علي الشحود الباب (4/187) .(1/25)
وقد سبق القول بترجيح جواز وقف المنقول ، وترجيح جواز وقف المشاع مطلقاً ، وبناءً عليه فإنّ الباحث يرى جواز وقف الأسهم ، وقد نصّ القانون المصري لسنة 1946م على جواز وقف الأسهم مع أنها من المشاع الذي استثناه القانون من جواز الوقف ، وهو المشاع الذي لا يمكن فرزه كما سبق بيانه ؛ وذلك لأنّ الشيوع في الأسهم لا يُخشى منه ضرر ، ولا يؤدي إلى نزاع من جهة أنّ قوانين الشركات تضمن تنظيم العمل بها ، ومحاسبة القائمين على النشاط فيها ، وهو ما يؤدي إلى إمكان الانتفاع بالموقوف على الوجه المناسب .
وقد جاء في المادة الثامنة من القانون اشتراط صحة وقف أسهم الشركات بقيد واحد ، وهو أن تكون الشركات الموقوف بعض أسهمها تستغلّ أموالها استغلالاً مشروعاً جائزاً في الشرع ، أمّا إذا كانت الشركة تستغلّ أموالها استغلالاً غير مشروع ، وذلك كالشركات التي يكون من أغراضها استثمار الأموال من طريق الربا ، فإنه لا يجوز وقف حصصها وأسهمها (1) .
وقد أفتى بجواز وقف الأسهم عدد من العلماء ؛ منهم الشيخ عبدالله بن جبرين عندما سئل : هل يجوز وقف الأسهم التجارية في الشركات ، مع العلم أنها معرضة للخطر من الربح والخسارة ؟ فأجاب : " نرى أنه لا بأس بذلك ؛ لأنّ فيها غالباً غلة ، فإذا قال : أسهمي في شركة كذا وقف ، فهو يريد بذلك غلتها ، لأنها في كلّ سنة يخرج لها غلة ، فيقول : وقف على المساجد، أو وقف على الغزاة ونحوهم ، أو وقف على الفقراء والمساكين ، أو وقف على طبع الكتب والمصاحف ، فكلما أخذت أرباحها في سنة صرفت حالاً في ذلك الشيء ، فإن قُدِّرَ أنها خسرت أو كسدت أو لم تربح في سنة ، فلا شيء عليه " (2) .
__________
(1) ... أحكام الوقف في الفقه والقانون : د. محمد سراج (ص72-73) ، ومحاضرات في الوقف : العلامة محمد أبوزهرة (ص124) . وأحكام الوصايا والأوقاف في الشريعة الإسلامية : د. أحمد فراج حسين (ص266) .
(2) الفتوى متاحة على الموقع الإلكتروني الآتي :
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=145750(1/26)
وأضيف إلى ما ذكره الشيخ عبدالله بن جبرين ، أنّ الكثير من الشركات لها احتياطات نقدية تعمل على تأمينها من الخسارة ، والبنوك الإسلامية على سبيل المثال أسّسَ فيها صناديق مخاطر الاستثمار ، التي تعمل على جبر الخسارة إن وقعت أثناء المضاربة بالمال من غير تعدٍّ أو تقصير ، وقياساً على وقف المنقول يجوز وقف الأسهم ، فالمنقول يتعرض للتلف أيضاً ومع ذلك يجوز وقفه .
وقد صدر عن دار الإفتاء المصرية مايفيد جواز وقف الأسهم ، وذلك تحت رقم مسلسل 5666 تاريخ 13/5/2006م ، إجابةً على السؤال : ما قولكم في رجل يملك أسهماً في عدَّة شركات وبنوك ، ورغب في حبس أصول هذه الأسهم وتسبيل منفعتها للجهات التي ستصرف إليها من وارث، وجهات خيرية من أرحام وفقراء وعمارة مساجد ونحو ذلك من أعمال البرّ ، وفقاً للشريعة الإسلامية ، وحفاظاً على الأصول ، وانتفاعاً مستمراً بعوائد الأسهم لمستحقيها .
أجابت أمانة الفتوى : اطلعنا على الطلب الوارد إلينا بالبريد ، المقيد برقم 1351 لسنة2006م ... وممّا جاء في الإجابة بعد التأصيل للمسألة بذكر نقول نصية عن المذاهب الفقهية قولهم :
" ومن المعلوم أنّ غرض الشرع الشريف في الوقف هو عدم التصرف في محلّ الوقف أي العين الموقوفة ، وديمومة الانتفاع به لأطول مدة ممكنة ، ولذلك رفض الجمهور مسألة وقف الدنانير والدراهم وأمثالها ممّا تذهب عينها مع الانتفاع بها ، ولمّا وجد المالكية نفعاً في الدراهم والدنانير لا يذهب عينهما إلا في الصورة فقط ، أجازوا الوقف فيهما في السَّلف ؛ لأنهما بالسَّلف يبقيان حكماً وإن ذهبت أعيانهما ، نقل الصعيدي العدوي في حاشيته على الخرشي عن اللقاني : الوقف ما ينتفع به مع بقاء عينه حقيقة أو حكماً ؛ كالدراهم والدنانير ا.هـ ، قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير : وينزل ردّ بدله منزلة بقاء عينه ا.هـ .(1/27)
وإذا نظر الفقيه الآن في مسألة حبس الأسهم وتسبيل عوائدها ، يرى باستخدام قاعدة غلبة الأشياء أنّ حبس الأسهم قريب من حبس الدراهم والدنانير التي أباحها المالكية للسَّلف والقرب ، وعدم المشابهة – والمكروه جائز بالمعنى الأعم- فسبب كراهتهم هو احتمال ضياع هذه الدراهم والدنانير ، ولكن في حالة الأسهم تبقى مدة قد تصل إلى خمسين عاماً أو يزيد باستقراء الأحوال المصرفية المستقرة المقننة المعمول بها والمتداولة حالياً ، فتحقق للأسهم الديمومة والبقاء –النسبيين المطلوبين- للشرع الشريف من عقد الوقف ، وهو ما يشجعنا على القول بجواز حبس ووقف الأسهم وتسبيل عوائدها الذي هو محلّ سؤال السائل واستفتائه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وبجواز وقف الأسهم قال الدكتور منذر قحف (1) .
ولابد من الإشارة إلى أنّ الأسهم التي يجوز وقفها هي الأسهم التي تقوّم بالمال في نظر الشرع ، فالأسهم في شركات إنتاج الخمور مثلاً لايجوز وقفها ، وأمّا أسهم الشركات الربوية فإنها تقوّم بالمال في نظر الشرع ، والأصل حرمة بيعها والتعامل معها (البنوك الربوية) أخذاً وإعطاءً ، ولكن إنْ أراد صاحب هذه الأسهم التخلص منها ، والتحلل من الإثم بالتبرع بها وقفاً ، فإنني أرى جواز وقفها ؛ لأنّ الفوائد الربوية طريق الخلاص منها عند عدم إمكانية ردّها لأصحابها هو صرفها على الفقراء والمساكين والمنافع العامة ، وهذه من وظيفة الوقف الخيري، وعلى الجهات المسئولة عن إدارة الوقف العمل على استبدال هذه الأموال واستثمارها بالطرق المشروعة ، وغنيٌ عن البيان أنّ هذا الحكم خاص بالأوقاف التي تُصرَف على المنافع العامة ، أمّا الوقف الذري فلا يجوز وقفها عليه.
وإذا انتهت الشركة أو تمّت تصفيتها فإنّ الأسهم الموقوفة أو مابقي منها يُصرف في وقفيات مماثلة في مقصد الواقف ، فإن تعذّر فيُصرف على الفقراء والمساكين .
__________
(1) ... الوقف الإسلامي تطوره ، إدارته ، تنميته : منذر قحف (ص162) .(1/28)
والمقصود من الأسهم الوقفية ليس تداوها في الأسواق المالية ، وإنما المراد بها الاستفادة من ريعها مع بقاء أصل السهم ملكاً للجهة التي تمّ وقفه عليها ، وليس للواقف الحق في بيع هذه الأسهم ، أو سحبها ، أو التدخل في طريقة استثمارها .
وقد انطلقت فكرة الأسهم الوقفية في عدد من الدول العربية مثل سلطنة عُمان والكويت والإمارات العربية المتحدة ، وقد أشرت إلى سبق القانون المصري لسنة 1946م في النص على مشروعية هذه الأسهم ، وتأصيلها ووضع ضوابط لها .
المطلب الثاني
وقف الصكوك
الصك في اللغة : الضرب ، ومنه قوله تعالى :{فصكت وجهها} (1) أي ضربته ، والصك : الكتاب ، والجمع أصك ، وصكاك ، وصكوك (2) .
الصكوك في الاصطلاح : ( وثائق متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة في ملكية أعيان أو منافع أو خدمات، أو في موجودات مشروع معين ، أو نشاط استثماري خاص ، وذلك بعد تحصيل قيمة الصكوك ، وقفل باب الاكتتاب ، وبدء استخدامها فيما أصدرت من أجله ) (3) .
وتختلف الصكوك الإسلامية عن الصكوك التقليدية التي عرفت في البلاد الغربية بأنّ لها أصولاً يتمّ تصكيكها وليست ديوناً ، كما أنّ لها مواصفات وضوابط تلتزم بها وفق أحكام الشريعة الإسلامية .
وتتنوع الصكوك الإسلامية ؛ فقد تكون صكوك مقارضة ، أو صكوك في أعيان مؤجرة ، أو صكوك في مؤسسات خدمية ، أو صكوك في عقود بيع سلَم أو استصناع .
__________
(1) ... سورة الذاريات : آية 30 .
(2) ... مختار الصحاح : الرازي (ص367) .
(3) ... المعايير الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية : هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الإسلامية (ص311) .(1/29)
وقد ظهرت فكرة الصكوك الوقفية في المملكة الأردنية الهاشمية ، وذلك بقصد إعمار وتنمية الممتلكات الوقفية بأسلوب سندات المقارضة ، فشكلت لجنة لهذا الغرض ، وصدر قانون خاص مؤقت رقم (10) لسنة 1981م ، ثم عرض الأمر على مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره الرابع بجدة سنة 1988م ، فأقرّ المبدأ ، وأجرى التعديل المناسب وفق الضوابط الشرعية ، وعرّف سندات المقارضة بأنها : " أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القراض (المضاربة) ، بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة ، وما يتحوّل إليه بنسبة ملكية كلّ منهم فيه " (1) .
... وقد اشترط المجمع أن تتوافر العناصر التالية لتحقق المشروعية :
1. أن يمثّل الصك حصة شائعة في المشروع .
2. أن تستمر الملكية من بداية المشروع إلى نهايته .
3. أن يكون لمالك الصك جميع حقوق المالك في ملكه .
4. أن يكون التداول بعد فترة الاكتتاب ، وبعد أن تكون غالب الموجودات من الأعيان والمنافع ، وليس ديوناً أو نقوداً .
5. أن يقسّم الربح الناتج بين أصحاب رأس المال (حملة الصكوك) وبين المؤسسة التي تعمل كمضارب في المال بالنسبة المتفق عليها ، وأن يكون نصيب حملة الصكوك من الربح حسب حصصهم.
6. يمكن إطفاء صكوك المقارضة بأن تقوم المؤسسة بشراء هذه الصكوك بقيمتها الحقيقية وليس الإسمية ، ويحسن أن يتمّ تحديد السعر من قِبَل أهل الخبرة ، ولحامل الصك أن يبيعه لمن يريد ، وليس ملزماً ببيعه إلى المؤسسة .
__________
(1) ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : الدورة الرابعة ، 3/2162 ، جدة 1988م .(1/30)
7. لايجوز أن تشمل نشرة الإصدار ، ولاصكوك المقارضة الصادرة بناءً عليها على نص يلزم مالك الصك بالبيع ، ويجوز أن يتضمن الصك وعداً بالبيع (1) .
وبهذا يكون المجمع قد أجاز صكوك المقارضة بتنمية الأموال الوقفية ، والسؤال الذي يثور هنا هو : هل يجوز وقف صكوك المقارضة بقصد التداول بها في الأسواق المالية للاستفادة من الربح الناتج عن بيع هذه الصكوك أوريعها ؟
ذهب عدد من الباحثين إلى جواز ذلك بأن يتمّ بيع الصكوك إلى واقف آخر أو في السوق المالية ؛ استناداً إلى القول بجواز استبدال الوقف (2) ، وذلك في الوقف الخيري ، ومن المعلوم أنّ جميع الفقهاء أجازوا الاستبدال في الوقف بشروط معينة ؛ أهمها تعرضه للتلف ، أو انقطاع ريعه ، أو تحوّل الناس عن مكان الوقف إلى مكان آخر، ومنهم من جعله في المنقولات فقط ، ومنهم من وسّع الدائرة فجعله في المنقول والعقار ، وما دمنا قد رجحنا جواز وقف المنقول وعدم التأبيد في الوقف ، وجواز وقف المشاع ، فإنه يمكن القول بجواز وقف سندات المقارضة ضمن ضوابط محددة ؛ أهمها ضبط الأسواق المالية بمعاير الشريعة الإسلامية (3) .
__________
(1) ... الاتجاهات المعاصرة في تطوير الاستثمار الوقفي : د. أحمد السعد العمري والأستاذ محمد العمري (ص82) .
(2) ... يقصد بالاستبدال : بيع عين من أعيان الوقف ، وشراء عين أخرى لتحلّ محلها .
(3) ... الصكوك الوقفية دورها في التنمية : د. كمال حطاب (ص15) . وقد نقل د. حطاب القول بالجواز عن د. عبدالحليم عمر : سندات الوقف مقترح لإحياء دور الوقف في المجتمع الإسلامي (ص76) ، مؤتمر الأوقاف الأول في المملكة العربية السعودية 1422هـ . وانظر الوقف الإسلامي : منذر قحف (ص275).(3)(1/31)
ومن الصكوك التي يمكن أن تكون رافداً للوقف الخيري صكوك الأعيان المؤجرة ، وقد صدر عن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عشرة ، المنعقدة في سلطنة عُمان ، جواز صكوك الإجارة بشروطها ، وقرر ما يلي: (1)
يجوز إصدار صكوك تمثل ملكية الأعيان المؤجرة وتداولها ، إذا توافرت فيها شروط الأعيان التي يصح أن تكون محلاً لعقد الإجارة : كعقار ، وطائرة ، وباخرة ونحو ذلك ، ما دام الصك يمثل ملكية أعيان حقيقية مؤجرة من شأنها أن تدرّ عائداً معلوماً .
يجوز لمالك الصك أو الصكوك بيعها في السوق الثانوية لأي مشتر .
يستحق مالك الصك حصته من العائد –وهو الأجرة- في الآجال المحددة في شروط الإصدار ، منقوصاً منها ما يترتب على المؤجر من نفقة ومؤنة على وفق أحكام عقد الإجارة .
وإذا كانت صكوك الإجارة جائزة شرعاً ، فإنه يجوز وقفها والاستفادة من ريعها عملاً بالرأي الراجح الذي يقول بجواز وقف المنافع ، ووقف المنقول والمشاع ، وعدم تأبيد الوقف على ما سبيق بيانه .
المطلب الثالث
وقف الحقوق والمنافع
أولا : وقف الحقوق
تعريف الحق وأقسامه :
يعرف الحق بمعناه العام بأنه :" اختصاص يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفاً " (2) .
وذلك كحق الولي في التصرف على مَنْ تحت ولايته ، وكحق البائع في طلب الثمن من المشتري ، وكحق الإنسان في منفعة العقار الموصى له بمنفعته ، وكحق الوارث في ملكية أعيان التركة الموروثة (3) .
والحق قسمان :
الأول : حق مالي ؛ وهو ما يتعلق بالمال ، كملكية الأعيان أو الديون أو المنافع .
والثاني : حق غير مالي ؛ وذلك كحق الولي في التصرف على الصغير ، والحقوق السياسية، وحق الحرية.
الحق المالي ثلاثة أنواع :
__________
(1) ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : الدورة الخامسة عشرة ، 2004م .
(2) )3( ... المدخل الفقهي العام : العلامة مصطفى الزرقا (3/10) .
(3) )4( ... المرجع السابق : (3/10-20) بتصرف .(1/32)
النوع الأول : حق شخصي ؛ وهو مطلب يقرّه الشرع لشخص على آخر ، وهو علاقة شرعية بين شخصين ، يكون أحدهما فيها مكلفاً تجاه الآخر بالقيام بعمل فيه مصلحة ذات قيمة للآخر ، أو أن يمتنع عن عمل منافٍ لمصلحته .
النوع الثاني : الحق العيني ؛ فإن كانت العلاقة بين شخص وشيء مادي معين بذاته ، بحيث يكون الشخص ذا مصلحة اختصاصية تخوّله سلطة مباشرة على عين مالية معينة ، فإنّ هذه العلاقة تسمى بالحق العيني ؛ وذلك كحق الملكية ، وحق المسيل ، وحق الرهن .
والحق العيني إمّا أصلي أو تبعي ؛ فالأصلي يتحقق بمجرد وجود صاحب الحق ، ومحلّه الجوار ؛ كحق الملكية ، وحقوق الارتفاق (حق الشرب ، حق المرور ، حق المسيل ، حق التعلّي ..) .
والتبعي يثبت ويقرّر لشخص دائن على مال معين لشخص آخر بديون له ؛ ليتمكن الدائن من استيفاء دينه منه عند عدم وفاء المدين ؛ كحق المرتهن في احتباس المال المرهون ، فهو حق توثيقي .
النوع الثالث : حقوق الابتكار أو الحقوق الأدبية ؛ كحق المؤلف ، وحق المخترع ، والحقوق الصناعية والتجارية : كالاختصاص بالعلامة التجارية أو بالملكية الصناعية (1) .
وما يقع تحت دائرة بحثنا هو النوعين الثاني والثالث من الحقوق المالية .
ثانيا : وقف المنافع
إنّ محلّ الوقف هو المال ، ولذا فإنه يحسن أن نبيّن أولاً : هل المنافع تعتبر أموالاً في نظر الشرع أم لا تعتبر مالاً ؟
وهذا يدعونا لتعريف المال :
عرّف الحنفية المال بأنه :" ما يميل إليه الطبع ، ويمكن ادّخاره إلى وقت الحاجة " (2) .
__________
(1) ... المرجع السابق (3/21) .
(2) )2( حاشية ردّ المحتار (4/500) ، وعرفوه أيضاً بتعريفٍ آخر هو : " ما يميل إليه الطبع ، ويجري فيه البذل والمنع " . حاشية رد المحتار (5/51).(1/33)
وبناءً على هذا التعريف تخرج المنفعة ؛ لأنها لا تدّخر ، وليس لها وجود خارجي ، فالمنفعة ليست شيئاً مادياً موجوداً ، وإنما هي أعراض تحدث شيئاً فشيئاً على حسب حدوث الزمن ، فلا تعتبر ثروة من المال ؛ لأنها لايمكن فيها الإحراز والادّخار ، وهم بذلك يفرقون بين الملك والمال ، فهي مملوكة ولكنها ليست مالاً في نظرهم (1) .
وذهب الشافعية والحنابلة إلى اعتبار المنافع أموالاً متقومة في ذاتها ؛ لأنها هي المقصودة من الأعيان ، فإنّ أثمان الحاجات والأشياء تقاس بين الناس بمنافعها (2) .
ويحسن هنا أن أنقل رأي المرحوم الأستاذ مصطفى الزرقا - وهو الفقيه الحنفي - في الترجيح بين الرأيين، وذلك لأنّ المقام لا يتسع لذكر الآراء ومناقشتها ، لأنّ هذا ليس هو الموضوع الرئيسي في البحث ، وإن كان تخريج القول في مسألة وقف المنافع ينبني عليها .
يقول الأستاذ الزرقا :" ومن الواضح أن نظرية الاجتهاد الشافعي والحنبلي في إلحاق المنافع بالأعيان في المالية والتقوّم الذاتي ، هي أحكم وأمتن وأجرى مع حكمة التشريع ، ومصلحة التطبيق ، وصيانة الحقوق من نظرية فقهائنا في الاجتهاد الحنفي ، فإنّ اعتبار المنافع غير ذات قيمة في نفسها ليس عليه دليل واضح قويٌ من أدلة الشريعة ، لا من نصوصها ولا من أصولها ، وإنما هو غلوٌ في النزعة المادية بنظرية المال والقيمة في الاجتهاد الحنفي .. إلى أن يقول :
__________
(1) ... بدائع الصنائع : للكاساني (7/145) .
(2) ... المدخل الفقهي العام : مصطفى الزرقا (3/208) .(1/34)
" وليت أنّ جمعية المجلة ، بما منحته من صلاحية الاختيار المعتبر شرعاً ، أخذت في هذا الموضوع بنظرية الاجتهاد الشافعي والحنبلي ، فعممت ضمان المنافع واعتبرتها أموالاً متقومة بذاتها في سائر الأحوال ؛ رعايةً لمصلحة المجتمع ، وزجراً عن العدوان الذي أصبح معظم الناس لا يتحامونه لمجرد حرمته إذا لم تقترن بالمسؤوليات المدنية " (1) ( .
وممّا سبق يتبيّن لنا أنّ الحنفية لا يجيزون وقف المنفعة ؛ لأنها ليست مالاً ، ومع ذلك فقد أجازوا وقف المنفعة استثناءً في الأحكار وهي : الأرض التي تعطيها الدولة لبعض الناس ينتفعون بها مقابل أجرة يعطيها المنتفعون ، وتستمرّ أيديهم عليها ، ويتوارثونها فيما بينهم ، لا يتعرّض لهم أحد ، ولا تزعجهم الدولة عنها، طالما استمرّوا في الوفاء بالتزاماتهم الكالية تجاه الدولة (2) .
أمّا الشافعية والمالكية فقد أجازوا وقف المنافع ، فقد جاء في مغني المحتاج (3) :" لو وقف بناءً أو غراساً في أرض مستأجرة له ، أو مستعارة لذلك ، أو موصى له بمنفعتها ، فالأصح جوازه " .
وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4) :" يصح وقف كل مملوك ولو بالتعليق ، سواء كان عقاراً أم منقولاً أم منفعة " .
رأي الباحث :
سبق القول بأنّ الأموال التي تكون محلاً للوقف هي العقار والمنقول بصفة عامة ، والعقار هو ما لا يمكن نقله أو تحويله من محلّ إلى آخر عند الحنفية (5) ؛ وعليه فإنّ المنافع تندرج تحت مسمى الأموال المنقولة ، وإذا قلنا بجواز وقفها عملاً برأي جمهور الفقهاء في وقف المنقول ، فإنني أرجّح جواز وقف المنافع وقفاً خيرياً للأسباب التي سبق ذكرها .
__________
(1) ... المدخل الفقهي العام : مصطفى الزرقا (3/209) .
(2) ... أحكام الوقف : للخصاف (ص34) .
(3) مغني المحتاج : الشربيني (2/378) .
(4) حاشية الدسوقي (4/75) .
(5) مجلة الأحكام العدلية (ص128) .(1/35)
وهذا ما ذهب إليه الكثيرون ؛ فقد جاء في مجلة الفرقان :" أمّا بخصوص المحور الثاني وهو وقف المنافع والحقوق وتطبيقاته المعاصرة : فقد قرّر المشاركون أنه يجوز وقف المنافع والحقوق لعموم النصوص الواردة في مشروعية الوقف ، ولتحقيق مقاصد الشارع من الوقف ، ما دامت المنافع والحقوق متقوّمة شرعاً ، ويجوز أن يكون وقف المنافع والحقوق على سبيل التأبيد أو التأقيت " (1) .
وجاء فيها أيضاً :" وكذلك جواز وقف منافع الأشخاص وهي : ما يقدمونه من أوقاتهم في وجوه الخير؛ مثل خبرات الأطباء ، والمهندسين ، والمعلمين ، والمفكرين ..إلخ .
وجاء في نفس المؤتمر القول بوقف حقوق الارتفاق ، وحقوق الملكية الفكرية المشروعة ، وبراءة الاختراع ، وحق التأليف ، وحق الابتكار ، والاسم التجاري ، والعلامة التجارية ، ويُصرَف العائد من استعمالها في وجوه الوقف (2) .
الخاتمة : في التوصيات
لمّا كانت معظم المسائل المتعلقة بمحلّ الوقف اجتهادية تتصف بالمرونة ، وتتأثر بالظروف والأعراف الاجتماعية ؛ تحقيقاً لمبدأ التكافل بين أبناء المجتمع الإسلامي ، وبما يتناسب مع كلّ عصر ، وبما أنّ الأدوات المالية وآليات الاستثمار قد تنوّعت ، ولم تعد محصورة في العقارات والأموال التي كانت سائدة في عصر السَّلف ، حيث أصبحت الأموال التي يملكها الناس اليوم –غالباً- تتمثل في النقود ، والأسهم ، والصكوك ، والحقوق ، والمنافع .
__________
(1) مجلة الفرقان ، صفحة (2) من العدد (5) :
http//www.al-forqan.net/linkdesc.asp?id=36068ino=448p9=8
(2) المرجع السابق .(1/36)
والقول بعدم جواز الوقف إلا إذا كان عقاراً يؤدي إلى تعذّر مشاركة الكثيرين من أبناء المجتمع المسلم في الأوقاف الخيرية ، وحرمانه ممّا يترتب على ذلك من أجر عظيم ، كما يترتب عليه عدم المشاركة الفاعلة في تحقيق مبدأ التكافل لسدّ خلة المحتاجين ، وتحقيق قدر أكبر من الرفاه والسعادة لأبناء المجتمع المسلم ، لذلك فإننا نوصي بما يلي :
أولاً : يجوز وقف الأسهم في المؤسسات الصناعية والتجارية والزراعية والخدمية على وجوه البرّ في الأوقاف الخيرية والذرية ، إذا كانت مناشط هذه الأسهم واستثماراتها جائزة شرعاً .
ثانياً : لايجوز وقف أسهم الشركات التي تعمل في مناشط محرمة ؛كإنتاج الخمور .
ثالثاً : يجوز وقف أسهم البنوك التقليدية (الربوية) في الأوقاف الخيرية لا الذرية ؛ لأنّ رأس المال فيها ليس حراماً ، والمال المستفاد من الفوائد الربوية ؛ مصرفه إلى الفقراء والمساكين ووجوه البرّ ذات النفع العام عند عدم التمكن من ردّه لأصحابه . وعلى متولي الوقف أن يعمل على استبدال هذه الأسهم واستثمارها فيما هو حلال شرعاً . وإذا تعارض شرط الواقف مع شرط الشارع ، فلاعبرة بشرط الواقف .
رابعاً : يجوز وقف الصكوك الإسلامية والاستفادة من ريعها ، وسواء في ذلك صكوك المقارضة ، أو الأعيان المؤجرة ، أو صكوك المؤسسات الخدمية ، أو صكوك عقود بيوع السَّلم أو الاستصناع ، إذا كانت في مؤسسات تعمل فيما هو حلال شرعاً ، واستوفت الشروط الشرعية لتداولها وفق ضوابط محددة ؛ ومن أهمها ضبط الأسواق المالية التي تعمل فيها بمعايير الشريعة الإسلامية .
خامساً : يجوز وقف الحقوق المالية ، والحقوق الأدبية ؛ كحق التأليف ، وحق الابتكار ، والعلامات الصناعية والتجارية ، شريطة أن تكون في المباحات .
سادساً : يجوز وقف المنافع ، سواء كانت منافع مؤسسات خدمية أو منافع أشخاص لفترات زمنية مؤبدة أو مؤقتة ؛ كخدمات الأطباء والمستشفيات وغيرها فيما هو جائز شرعاً .(1/37)
قائمة المراجع
أولاً : كتب اللغة
- المعجم الوسيط : مجمع اللغة العربية ، مطبعة مصر ، سنة 1961م .
- لسان العرب : جمال الدين محمد بن مكرم (ابن منظور الإقريقي) ، ط1، دار صادر-بيروت .
- مختار الصحاح : محمد بن أبي بكر الرازي ، ط1، دار الكتاب العربي-بيروت ،سنة 1967م .
ثانياً : كتب الحديث
- صحيح البخاري .
- فتح الباري بشرح صحيح البخاري : أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، ط.دار الفكر.
- مسند الإمام أحمد .
- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار : محمد بن علي الشوكاني ، ط3،سنة 1961م، مصطفى البابي الحلبي-القاهرة.
ثالثاً : كتب الفقه الحنفي
- أحكام الوقف : أبوبكر أحمد بن عمر الخصّاف .
- البحر الرائق شرح كنز الدقائق : زين الدين بن ابراهيم (ابن نجيم) ،ط.دار المعرفة-بيروت،الطبعة الثانية بالأوفست.
- الفتاوى الهندية : جماعة من علماء الحنفية برئاسة الشيخ نظام
- المبسوط : شمس الأئمة محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي .
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : أبوبكر مسعود بن أحمد الكاساني .
- حاشية رد المحتار على الدرّ المختار : محمد أمين بن عمر (ابن عابدين) ،دار الطباعة المصرية- القاهرة سنة 1272هـ .
- فتح القدير : الكمال بن عبدالواحد (ابن الهمام) ، ط.دار إحياء التراث العربي-بيروت.
رابعاً :كتب الفقه المالكي
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : محمد بن أحمد (ابن عرفة الدسوقي) .
- حاشية الصاوي على الشرح الصغير : أبوالعباس أحمد الصوي .
- مواهب الجليل شرح مختصر خليل : محمد بن محمد بن عبدالرحمن الحطاب ، ط.دار الفكر-بيروت.
خامسا : كتب الفقه الشافعي
- أسنى المطالب شرح روض الطالب : زكريا الأنصاري .
- المهذب : أبواسحاق ابراهيم الشيرازي ، طبعة عيسى البابي الحلبي –القاهرة .
- تحرير ألفاظ التنبيه : يحيى بن شرف النووي .
- تكملة المجموع : محمد نجيب المطيعي ،المكتبة السلفية-المدينة المنورة .(1/38)
- حاشية البجيرمي على الخطيب : سليمان بن محمد البجيرمي .
- مغني المحتاج شرح المنهاج : محمد بن أحمد الشربيني الخطيب ، طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1958-القاهرة .
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج : شهاب الدين الرملي .
سادساً : كتب الفقه الحنبلي
- المغني : موفق الدين عبدالله بن أحمد (ابن قدامة المقدسي) ، مطبعة الإمام- القاهرة .
- شرح منتهى الإرادات : منصور بن يونس البهوتي .
- كشاف القناع عن متن الإقناع : منصور بن يونس البهوتي ، ط.دار الفكر ، 1982م .
سابعاً : كتب الفقه الإمامي
- الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية : زين الدين بن علي العاملي ،ط.دار الفكر-دمشق .
ثامناً : كتب فقهية حديثة
- الاتجاهات المعاصرة في تطوير الاستثمار الوقفي : د.أحمد السعد العمري ود.محمد علي العمري ، سلسلة الدراسات الفائزة في مسابقة الكويت الدولية لأبحاث الوقف لسنة 1999م،طبعة الأمانة العامة للأوقاف /الكويت 2000م .
- محاضرات في الوقف : العلامة الشيخ محمد أبوزهرة .
- المدخل الفقهي العام : الأستاذ العلامة مصطفى الزرقا ، مطابع ألف باء-الأديب،ط9،دمشق،1967م-1968م.
- الوقف الإسلامي : تطوره،إدارته،تنميته : د. منذر قحف ،دار الفكر ، دمشق سنة 2000م .
- أحكام الوقف والوصايا في الشريعة الإسلامي : د. أحمد فراج حسين ، ط.دار الجامعة الجديدة،الاسكندرية،سنة 2003م .
- أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية : محمد عبيد الكبيسي ، مطبعة الإرشاد –بغداد ،سنة1977م .
- أحكام الوقف في الفقه والقانون : د. محمد سراج ، طبعة 1993م ، الإسكندرية .
- المنهل الصافي في الوقف وأحكامه : محمد أسعد الإمام الحسيني .
- المفصل في أحكام الربا : علي الشحود الباب .
- المفصّل في أحكام المرأة : د. عبدالكريم زيدان ، ط1 ، مؤسسة الرسالة-بيروت، 1993م .
- المعايير الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية : هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات الإسلامية ، البحرين 2004م .(1/39)
- الصكوك الوقفية ودورها في التنمية : د. كمال حطاب ،جامعة اليرموك/كلية الشريعة ، بحث سنة 2006م .
تاسعاً : المجلات
- مجلة الأحكام العدلية .
- مجلة مجمع الفقه الإسلامي / جدة /1988م .
- مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي .(1/40)