الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
وقف الأسهم والصكوك
والحقوق المعنوية
إعداد
الدكتور منذر قحف
أستاذ الاقتصاد الإسلامي
مقدمة
... الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنام والمرسلين.
في معرض الحديث عن تنمية الأوقاف، فإن تشجيع إنشاء أوقاف جديدة، وقيامها بدورها الاقتصادي والاجتماعي مسألة تحتل أهمية محورية. وهي تتطلب تهيئة الإطار القانوني والفقهي الملائم، بل المشجع على إنشاء أوقاف جديدة، ويأتي ذلك في إطار ضرورة إعادة صياغة فقه الوقف المعاصر بما يتناسب مع هذا الهدف.
ومن أجل عرض صور مستجدة في الأوقاف، لا بد لنا من البدء بتقديم نبذة مقتطفة من بعض المسائل الفقهية التي تشكل خلفية أو أرضية تقوم عليها هذه الصور المستجدة. ففقهنا الإسلامي - بفضل من الله تعالى - غني، كثير العطاء، بأصوله ومبادئه. الأمر الذي يجعلنا نتجاوز عن بعض التقييدات التي وضعها بعض الفقهاء، مما لا يتناسب مع السعة والتنوع في المبادئ والأصول.
وسيشكل عرض بعض الأفكار الفقهية المبحث الأول في هذه الورقة. حيث نشير إلى النصوص الأساسية التي تشجع على البر والتبرع لأعمال الخير، دون أن تقيد المحسن بأي شكل مخصَّص للإحسان أو صيغة له. كما سنحاول مناقشة الآراء الفقهية التي تؤثر على فقهيات الصور المستجدة من الوقف، واستخلاص النتائج منها.
وسأعمد في المبحث الثاني إلى دراسة العوامل والأسباب التي أدت إلى ظهور الحاجة الملحة إلى صور مستجدة من الوقف بما في ذلك ظهور أشكال تنظيمية جديدة للنشاط الاقتصادي، وتطور أوعية الاستثمار وقنواته وتنوعها الكبير . كما سنقوم في هذا المبحث بمحاولة لفهم الأهداف التفصيلية الجديدة للوقف، مما لم يكن واضحا أو واردا في أشكال الوقف التقليدية المعروفة تاريخيا.(1/1)
أما في المبحث الثالث فسنناقش فيه صورا جديدة للأوقاف، هي فقط تلك التي طلب مني المجمع متفضلا الحديث عنها. منها ما هو معمول به فعلا في التطبيق الفعلي في بعض البلدان والمجتمعات الإسلامية (تحت أسماء غير وقفية عديدة) على الرغم من عدم الإشارة إليه في المجلدات الفقهية، ومنها ما تدعو الحاجة والمصلحة إليه. وكلها مما ينبغي لفقه الوقف المعاصر أن ينظمه ويوضح معالمه وتكييفه الشرعي. وسنصنف هذه الصور بحسب طبيعة المال الموقوف، وهو إما أن يكون جزءا مشاعا من مجموعة أعيان وديون ونقود وحقوق كما في الأسهم، أو حقوقا معنوية متقومة، أو منافع، أو نقودا.
وسأعرض في نهاية البحث أهم النتائج التي نستخلصها منه مع بعض التوصيات.
المبحث الأول
أعمال البر في الشريعة تسع الأوقاف وغيرها. وقد بوب الفقهاء في أعمال البر عناوين عديدة أهمها: الصدقة، الهبة، والعارية، والمنيحة، والعُمرى، والرُقبى، والعرايا، والوصية، والوقف، والقرض، وغيرها.
وسنعرض سريعا بعض النصوص الشرعية التي ترتبط بعلاقة ما بموضوع بحثنا، وهو بطبيعته صور مستجدة من الوقف، دون أية محاولة منا للشمول أو الاستقصاء، أو للإحاطة بجميع النصوص وعرضها ومناقشتها وإبراز الحجج والمرجحات، لأننا لا نقصد في هذا الفصل سوى الاستشهاد، دون الاستقراء الكامل لها.
أ - النصوص الأصلية من القرآن والسنة
أما النصوص فهي كثيرة جداً في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة، في باب الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى بشكل عام. على أن لدينا نصوصاً تتعلق بمعنى خاص من معاني البر، وهو البر ذي الأجل الطويل مما تناسب بحثنا بشكل محدد نرى من المفيد التذكير بها.(1/2)
فآيتا التعاون والماعون مثلاً هما مما يكثر الفقهاء الاستشهاد بهما، بل والاستفتاح بهما، عند الحديث عن العارية والمنيحة والوقف. فآية "وتعاونوا على البر والتقوى" تحث على العمل الجماعي المتضافر في فعل الخيرات وجميع أعمال البر. ومن أعمال البر ما هو دائم مؤبد لا ينقطع، ومنها ما يستمر لفترة من الزمن ينتهي بعدها، ومنها ما هو آني لا يمتد خلال الزمان. وآية "ويمنعون الماعون" تدعو بالويل على الذين يتصفون بهذه الصفة الخبيثة، فيمسكون العواري عمن يحتاجها دون أن يكونوا هم أنفسهم بحاجة إليها.
أما في السنّة المطهرة فهناك أحاديث كثيرة منها ما يتحدث عن الصدقة الجارية بشكل عام، نحو حديث أبي هريرة، عند مسلم وأصحاب السنن "أن رسول الله (ص) قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". (1) وقصة ندب الرسول (ص) عثمان للزيادة في المسجد النبوي ولشراء بئر رومة وتسبيلها. (2)
ب- ... الآراء الفقهية
__________
(1) ... انظر قحف، النصوص الاقتصادية والمالية، النص رقم 673.
(2) ... الحديث أخرجه النسائي بإسناد حسن، انظر قحف، نفسه، النص رقم 567(1/3)
أما آراء المذاهب والفقهاء، مما له تأثير في البحث الراهن فكثيرة نستخلصها من أبواب العارية، والمنيحة، والعمرى، والعرايا، والوصية، والوقف. وقبل بحث الآراء الفقهية لا بد لنا من التأكيد مع فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا أن "تفاصيل أحكام الوقف المقررة في الفقه هي جميعاً اجتهادية، قياسية، للرأي فيها مجال." (1) ولم تجمع الأمة في أحكام الوقف إلا على اشتراط كون غرضه "قربة إلى الله تعالى". (2) وليس يهمنا الخوض في اختلاف الفقهاء، وإنما نهتم بأن لا تغلق أبواب للخير، فتحها الشارع بعموم النصوص التي تدعو للبر والإحسان، بسبب الخلاف أو بسبب الأسماء التي وضعها الفقهاء لبعض أبواب الخير. والبر والمعروف والإحسان ما عليها من قيود في الشرع. فلا ينبغي لنا أن نحقر من المعروف شيئا، ولا أن نقيده بقيد يحد من انتشاره وشيوعه، "ما على المحسنين من سبيل". [التوبة 91] وسنذكر من الأحكام والآراء الفقهية ما له علاقة بموضوعنا دون تقصٍ قصداً للاختصار .
__________
(1) ... الشيخ مصطفى الزرقا: أحكام الأوقاف - الجزء الأول - مطبعة الجامعة السورية 1947، ص 15.
(2) ... نفسه.(1/4)
ب- 1 العارية هي إباحة المنفعة للمستعير. (1) وهي جائزة بالنص والإجماع والقياس. أما الإجماع فلأنها من القربات المندوب إليها. وأما القياس فلما جازت هبة العين جازت هبة المنفعة. (2) ويشترط في الشيء المعار أن يكون مما يبقى أصله وأن تكون منفعته مباحة. (3) كما يمكن إعارة "الدور والأرضين والحيوان وجميع ما يعرف بعينه". (4) فيعار الحيوان لخدمته أو لدره وتعار الدور للسكنى والأرضين للدفن أو للزرع أو للغرس أو لغير ذلك من الاستعمالات المباحة. (5) "ليس من شرطها (أي العارية) أن يكون المقصود مجرد المنفعة بخلاف الإجارة" (6) إذ أن إعارة الشاة لدرها جائزة على أحد وجهين، "فهي عارية لاستيفاء عين" (7) وليس منفعة.
ب-2 ... والمنيحة هي الناقة أو البقرة أو الشاة ذات اللبن يدفعها إلى من يشرب لبنها مدة ثم يردها إليه. (8) وللمنيحة أحكام العارية عند الشافعية، فهي عارية من أجل الدر، مضمونة على المستعير. ولا يضمن قيمة اللبن لأنه هو المقصود منحه. وحكمها الاستحباب. (9) وتصح في ثمر الشجر وتسمى العرية. (10)
__________
(1) ... فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، مطبوع في حاشية المجموع، طبعة دار الفكر، بيروت، بدون تاريخ، ج 11، ص 209. وانظر أيضا الموسوعة الفقهية - وزارة أوقاف الكويت - ج 5، ص 181-195.
(2) ... تكملة المجموع، ج 14، ص 199.
(3) ... الرافعي، ص 213، وابن رشد، بداية المجتهد، دار المعرفة، بيروت، ج2 ص 313.
(4) ... ابن رشد، ج2 ص 313.
(5) ... الرافعي، ص 225.
(6) ... الرافعي، ص 213.
(7) ... الرافعي، ص 213.
(8) ... المجموع للنووي ج6، ص 243.
(9) ... نفسه.
(10) ... مواهب الجليل للحطاب، الجزء السادس - دار الفكر، بيروت، ص 61.(1/5)
ب-3 ... أما العمرى فهي باب آخر من أبواب البر "يجعل فيه المالك شيئا يملكه لشخص آخر عمر هذا الشخص". (1) وهي جائزة عند المالكية، للمعمَر فيها المنفعة فقط. فهي تمليك منفعة مؤقتة بعمر من أعطيت له. (2) وحكمها الندب وتعود بعد موت المنتفع إلى مالكها أو إلى ورثته. وظاهر كلام الحطاب صحتها سواء أكانت طيلة عمر المنتفع أو لأجل محدد مضروب لأنه قال "أو فرس لمن يغزو سنين... ولا يبيعه أي المالك المعمِر إلا لبَعد الأجل". (3) وينقل الحطاب عن مالك صحة الهبة في نخل بعد عشر سنين تبقى خلالها النخل بيد الواهب يسقيها ويقوم عليها فيكون "إنما وهب نخله بعد عشر سنين، فذلك جائز للموهوب له إن سلمت النخل إلى ذلك الأجل، ولم يمت ربها، ولا لحقه دين. وله أخذها بعد الأجل." (4) والعمرى (أو هبة المنفعة) التي تقبض فيها العين قبل الموت لا تسقط بموت المعمِر إذا كانت لمدة محددة وقبض المستفيد العين قبل موت المعمِر. ويكون حق المستفيد ثابتاً في منفعة العين "إلى انقضاء المدة المذكورة". (5) ويجوز استثناء الواهب منافع الشيء الموهوب بقية حياته، "فتكون (المنفعة) بعد الموت داخلة في الهبة بلفظ الهبة الأول". (6)
__________
(1) ... الموسوعة الفقهية، ج 30، ص 311.
(2) ... نفسه، ص 313.
(3) ... مواهب الجليل، ص 61.
(4) ... نفسه، ص 62.
(5) ... المعيار المعرب للونشر يسي، طبعة دار الغرب الإسلامي، بيروت، ج 9، ص 138-140.
(6) ... الونشر يسي، ج 9، ص 153.(1/6)
ب-4 ... والعرايا، ومفردها عريّة هي النخلة تكون في أرض شخص يهب ثمرتها لآخر. (1) وقد تكون لسنة أو سنوات أو أكثر من ذلك، وقد تكون عمرَ الموهوب له، فتكون عمرى. فيبيع المعرِّي (أو المعرَّى على الخلاف في من له الرخصة) كيلا معلوما من التمر الجاف بخرص النخلة من الرطب. فهي رخصة (من ربا الفضل والنساء على قول خلاف الأقوال) لما فيها من عون لمحتاج إلى الرطب في موسمه. وقد اتفقت المذاهب على أن فيها إرخاص (2) . فقالت الشافعية والحنابلة إنها استثناء من بيع التمر رُطَبا بجاف حالَّيْن.
__________
(1) ... ابن رشد، ج2، ص 216.
(2) ... يلاحظ هنا أنه مهما تنوعت تفسيرات المحدثين والفقهاء لوجه الإرخاص في العرية، فإنه بكل تأكيد ليس لضرورة، إذ لا ضرورة غذائية ولا غير غذائية في مبادلة الرطب بالتمر الجاف، ولو كان أمر الضرورة في وصول المعرّى له لنخلته في بستان المعري لألحق ذلك بقواعد الاستئذان التي تحدثت عنها الشريعة. كما لا توجد حاجة (بالمعنى الذي أشار إليه الشاطبي والغزالي) إذ لا توجد مشقة بأكل التمر الجاف ولا بالاستئذان في أوقاته. والذي يبدو لي – والله سبحانه أعلم – أن وجه الإرخاص كان مراعاة لرغبات الناس وعاداتهم الاجتماعية. ففي موسم الرطب، يأكل الناس الرطب، فلماذا لا يستطيع الفقير (المعرّى له) أن يأخذ لأهله الرطب مثل الآخرين ؟ أو لماذا تُعقَّد على الناس حياتهم بقواعد الاستئذان (وهي شرعية أيضا) أو تقيد خصوصياتهم بدخول الآخرين عليهم. فلتكن إذن هذه المبادلة، ولو خالفت بعض القواعد المعروفة، لأنها أولا في إطار أعمال البر، ولأنها ثانيا في أمور صغيرة لا يشكل فيها خرق القاعدة تيارا اجتماعيا أو قانونيا ذا أثر (لذلك يرى مالك رحمه الله أن لا ربا في التوافه من المبادلات مثلاً). فهل ندرك نحن اليوم مثل هذه الحكمة العظيمة في أمورنا ومعاملاتنا؟! (1/7)
وقال مالك هي أيضاً ترخيص من ربا الفضل ومن ربا النسيئة معا فهو يقول بجواز بيع العرية حالاً وآجلاً. وقال أبو حنيفة إنها استثناء من الرجوع في الهبة بعوض. (1)
ب-5 ... وفي الوصية، يقول الشافعية بصحتها في الأعيان والمنافع. (2) مثال المنافع: الوصية بخدمة العبد وبسكنى الدار. وتجوز الوصية بالمنفعة مقدرة بمدة محددة، كما تجوز مؤبدة دون تحديد مدة، وتقع في حدود الثلث. (3) والوصية بالمنفعة، صحيحة عند المالكية أيضاً، سواء أكانت مقيدة بمدة أم مؤبدة دون مدة (4) ، فتكون عندئذ في حكم المقيدة بحياة العبد (في منفعة العبد) "على قول ابن القاسم وهو الراجح أو بحياة الموصى له على قول أشهب". (5) وتقع الوصية بالمنفعة عند المالكية في حدود الثلث أيضاً كالشافعية. (6) كما يرى الونشريسي أن للموصى له بسكنى الدار أن يستغلها فيؤجرها إن شاء. (7) والوصية بالمنفعة جائزة أيضاً عند الأحناف وهي تقبل التوقيت. (8)
__________
(1) ... ابن رشد، ص 217-218.
(2) ... تكملة المجموع، ج14، ص 200-201. وكذلك ج 15، ص 426.
(3) ... تكملة المجموع، ج15، ص 426.
(4) ... الونشر يسي، ج9، ص 256.
(5) ... حاشية الرهوني، طبعة دار الفكر، بيروت 1978، ج 8، ص 274-275.
(6) ... نفسه، ص 275.
(7) ... الونشر يسي، ج7، ص 286.
(8) ... الزرقا، ص 39.(1/8)
ب-6 ... أما في باب فقه الوقف. فقد نص الفقهاء على جواز وقف أنواع من المنقولات. والمنقولات بطبيعتها تؤول إلى الانقضاء والزوال. فقال الشافعية بصحة وقف البناء والحيوان والأثاث والسلاح. منها ما هو على وجه الاستقلال كالسيف والفرس ومنها ما هو تبعا للأرض كالبناء. (1) كما أنهم علقوا وجهاً في جواز وقف النقود على صحة إعارتها للانتفاع بها في الزينة، وعللوا القول بعدم الجواز على الراجح عندهم بعدم إمكان بقاء النقود عند الانتفاع بها، (2) فهو منع معلل يدور مع علته حيث دارت. وكذلك الأمر في وقف المنقول عند الأحناف فإنه يصح تبعاً للأرض. كما يصح فيما ورد في السنة وفقه، كالسلاح والخيل للجهاد. ويصح أيضاً فيما تعامل الناس فيه بالوقف وتعارفوه، نحو وقف الكتب والمصاحف. (3) وقد ذكر الشيخ الزرقا، رحمه الله، أنواعاً من المنقولات التي جرى التعامل والعرف بوقفها، منها ما هو آيل للانقضاء بطبيعته بسبب البلى والموت، كالفأس والقدوم والقدور والجنائز وثيابها والأكسية للفقراء والسفن والشجر والقمح لاستعماله في إقراض البذر للمزارعين والحيوان والعبد. (4)
كما ذكر الزرقا أيضاً جواز وقف الدراهم والدنانير، وهي مما يتعرض للزوال بالسرقة وعدم قدرة المدين على الدفع في حالة وقفها للإقراض كما أنها معرضة للخسارة ولأنواع خيانة الأمانة Moral Hazards في حالة وقفها لتستثمر بالمضاربة ليكون إيرادها للموقوف عليهم (5) . كما تحدث المالكية عن وقف البقرة للبنها، وأنه لا يجوز تحويل عينها عمن حبست عليه إذا كانت البقرة خرجت من حوز الواقف (6) . وكذلك نجد عندهم حبس الفرس. (7)
__________
(1) ... تكملة المجموع، ج 15، ص 320 وما بعدها.
(2) ... نفسه، ص 330.
(3) ... الزرقا، ص 47-48.
(4) ... نفسه، ص 48-49.
(5) ... نفسه، ص 49.
(6) ... الونشر يسي، ج7، ص 76.
(7) ... نفسه، ص 104.(1/9)
كما أن ابن عرفة يعرف الوقف على أنه " إعطاء منفعة شيء مدة وجوده..." (1) وهذا التعريف يدل على جواز وقف أشياء ذات طبيعة موقوتة.
وقال غير الأحناف بصحة وقف المنقول عموماً - دون قيد التبعية أو العرف، إذا لم يكن مما لا ينتفع به إلا بالإتلاف كالطعام. فالشافعية والحنابلة أجازوا وقف المنقول باعتبار "أن التأبيد يعتبر في كل عين بما يناسبها، فما لا يكون قابلاً للبقاء فإن معنى التأبيد فيه مقدر بمقدار بقائه". (2) وهم بذلك رجعوا في الحقيقة إلى تعريف ابن عرفه. أما المالكية، فيقولون أصلاً بعدم اشتراط التأبيد ويجيزون توقيت الوقف، سواءٌ أكان التوقيت بسبب عمر الشيء الموقوف، أم بإرادة الواقف نفسه. (3)
والحقيقة أن فقهاء المذاهب جميعاً قد أجمعوا على جواز وقف أشياء منقولة ذات عمر محدود بطبيعتها، كالفرس، والسلاح، والكتب، والمصاحف، وغيرها من المنقولات. لذلك يعلق الشيخ الزرقا على معنى التأبيد فيقول" إن شرط التأبيد يعود في الحقيقة إلى شرائط الجهة الموقوف عليها لأن الدوام وعدمه إنما هما من أحوالها، وليس معنى تأبيد الوقف إلا دوام الموقوف عليه". (4)
ج - مناقشة للآراء الفقهية ونتائج
... لا بد لنا بعد هذا التمهيد الفقهي من مناقشة سريعة لهذه الآراء الفقهية وتصنيفها بما يضعها في مواضعها بالموازين القسط، وذلك في ضوء النصوص الأصلية من الكتاب والسنة والواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاصر، وبخاصة ما يتعلق بفنون تجميع الأموال (أعياناً ونقوداً) وأشكال استعمالاتها. نُتبع ذلك بتصنيف نقترحه لأعمال البر ينسجم مع ما أراده الشرع الحنيف وما تدل عليه النصوص الأصلية والفقهية السابقة.
__________
(1) ... الخالد، ج1، ص 67.
(2) ... الخالد، ج 1، ص 175.
(3) ... أبو زهرة، محاضرات في الوقف، ص 111.
(4) ... الزرقا، ص 42.(1/10)
... فمن الواضح أن نصوص الكتاب والسنة تحث على الصدقة بعمومها وكل أشكالها وصورها. وقد وردت الصدقة الجارية في السنة كما رأينا. ومن الواضح أيضاً أنه لا قيد على أعمال البر المالية، فيما عدا القيود المعروفة من حيث الملك، والأهلية، والقُربة، وعدم تعلق حقوق للغير، إلخ. فللمسلم أن يتصدق بالقليل أو الكثير، أو العين أو المنفعة، أوالأصل أو الدر، إلخ. فكل ذلك من الإحسان، و"ما على المحسنين من سبيل". ولقد نص الفقهاء على جواز أعمال من البر، مأخوذة من صور عرفت في مجتمعاتهم، مما عرفوا وألفوا. حتى إنهم ليؤكدون أنه في أعمال البر يتساهل الشارع الحكيم، فيترخص من كثير من القيود التي لا يترخص بها في المعاوضات. (1) كل ذلك يدل على سعة آفاق الفقه الإسلامي وقدرته على استيعاب أشكال عديدة من أعمال البر.
__________
(1) فمالك مثلا يقول بأن القياس - بل نص حديث ربا البيع - ينبغي أن يكون على حرمة القرض لأنه حالّ بآجل في المثليات، وأنه إنما أبيح تساهلاً في التبرعات، لما فيه من الرفق والتوسعة على الناس، إذ القرض من أعمال البر. وقد أجمع المسلمون على جواز القرض كما أكدت السنة المطهرة على أجره الكبير. والعرايا إنما أرخصت تيسيراً على الناس، لما فيها من البر، فهي تتضمن - على اختلاف بين الفقهاء في تفسير موطن الرخصة فيها كما رأينا - هبة تقوم على معاني البر بالمال، فأُرخص فيها ما لم يرخص في البيوع. كما قالوا بجواز استيفاء أعيان في المنيحة والعارية، نحو لبن الشاة، رغم أن قياسهما على الإجارة لا يجعل ذلك جائزاً، لأن الإجارة لا تصح لاستيفاء أعيان. [انظر أبو زهرة، الإمام مالك ص 297 وابن رشد ج 2، ص 216-219](1/11)
... ويمكن - بناء على ما سبق - أن تصنف أعمال البر المالية في الشريعة في نوعين عريضين هما: الصدقة بالمستهلكات والصدقة الجارية. وهي صدقة بأشياء معمرة. فالصدقة بالمستهلكات معروفة، وهي ما كان المتصدَّق به مواد استهلاكية، يستعملها من يأخذها فتنقضي أو تتلف باستعمالها، وهي معروفة وكثيرة الذكر في النصوص الأصلية والفقهية.
... أما الصدقة الجارية فتشمل أعمال بر مالية ذات أجل يطول أو يقصر. منها ما هو مؤبد نحو وقف الأرض على سبيل التأبيد. ومنها ما تجري فيه الصدقة ما بقي المال المتصدق به. فالبر في القرض، ما دام المال المقرض في ذمة المقترض، والبر في النظِرة حتى وفاء الدين، والبر في وقف المنقولات حياتها أو عمرها الاستعمالي. والبر في المنيحة ما دامت يستفيد منها من منحت له، وكذا في الإعارة، والبر في هبة المنقولات المعمرة ما عاشت، إلخ.
... وفي الوقف قال جمهورالفقهاء بتأبيده، رغم تفسيرهم غير التأبيدي لوقف المنقول. وهو نوع من البر عرفه الناس وألفوه وأكثروا منه. ولا نريد أن نناقش جواز توقيت الوقف بإرادة الواقف فالزرقا يعلق عليه بقوله "وأنت ترى أن اجتهاد المالكية (بالقول بالتوقيت) أقوى دليلاً، وأرجح مقصوداً وأكثر تسهيلاً في مقاصد الخير.” (1) ولكننا نريد أن نعتذر للجمهور أنه كان يصعب في الماضي تصور التوقيت في مصالح كثيرة.
__________
(1) ... الزرقا، ص 38.(1/12)
... فبعد أن وازن الإمام أبو زهرة بين أدلة من يقول باشتراط التأبيد وأدلة من يرون جواز التوقيت في الوقف عقب بقوله "فرأيتَ أن الأكثرين عدداً قد قالوا إن التأبيد جزء من معنى الوقف ومفهومه. وأن القلة من الفقهاء رأت أن التأبيد ليس جزءاً من معنى الوقف، فيجوز مؤقتاً ومؤبداً معاً. وقد علمتَ أن القلة تستمد رأيها من معاني الشريعة ومغزاها ومرماها. وهي بهذا قد استعاضت عن قلة عددها بقوة دليلها. وكان من هذه القلة إمام جليل هو من أئمة الرأي وعلماء السنة: الإمام مالك. فجواز توقيت الوقف - مع قوة دليله- قد زاده قوة فوق قوته أنه قول من لا يحيد عن السنة قيد أنملة ومن يدرك وجوه الرأي السليم". (1)
المبحث الثاني
أولا- عوامل أدت إلى ظهور صور جديدة من الوقف
... مع تطور الحياة البشرية والتغيرات الكثيرة التي حصلت في الممارسات والنشاطات المالية والاقتصادية للمجتمعات الإسلامية وغيرالإسلامية، تميزت حاجات ومصالح جديدة في ميدان أعمال البر استدعت ظهور أشكال جديدة من البر، لم تكن معروفة ولا مألوفة من قبل، كما أدت أيضا إلى ظهور أهداف جديدة تفصيلية للأوقاف لم تكن ظاهرة فيما مضى من العصور.
وأهم هذه التطورات ذات العلاقة بغرض هذا البحث هو ما حصل في ثلاثة جوانب هي : أولا- ابتكار مفهوم المؤسسة Corporation وما رافق ذلك من ظهور تجمعات سكانية كبرى أدت إلى اتساع وتضخم حجم المنشأة أو المؤسسة، وما جاء من ابتكار تكنولوجيات مناسبة للإنتاج الكبير والاتصالات الواسعة ثم الفصل بين الإدارة والملكية؛ وثانيا– شيوع الضرائب المتنوعة على أنواع الأموال المختلفة من ثروات ودخول بشكل شامل ومنتظم، ومع الضرائب ظهرت الإعفاءات والاستثناءات؛ وثالثا وأخيرا - ابتكار أساليب جديدة في الاستثمار يمكن للأموال الوقفية الاستفادة منها. وسنذكر بسرعة تأثير كل من هذه التغيرات.
__________
(1) ... أبو زهرة، محاضرات في الوقف، ص 77.(1/13)
1- نشوء المؤسسة Corporation (1)
... نشأت المؤسسة وتطورت في البلدان الغربية، وبخاصة بريطانيا والولايات المتحدة، ثم ألمانيا وفرنسا. وكان ذلك على مسار عدة قرون. فمنذ أواخر القرن السادس عشر بدأ يظهر نوع من الشركات، سمي شركات الأسهم المتحدة Joint Stock Companies. وهي نوع من الشركة يتجمع رأس مالها من عدد يتجاوز الآحاد ويتوزع بينهم على طريقة الحصص. ثم بدأت فكرة الحاجة إلى توسيع رأس المال ومساهمة ممولين لا يعملون في الشركة. وأخيرا اتخذت شكلها الحالي خلال الثلثين الأولين من القرن التاسع عشر.
وأهم ما تتميز به المؤسسة خصائص ستة هي على وجه كبير في الأهمية. وهذه الخصائص هي: 1) الشخصية القانونية المستقلة وما لحق بها من ذمة مالية ، 2) المسؤولية المحدودة، 3) عدم محدودية مدة الشركة، 4) تداول أسهمها، 5) كثرة عدد المساهمين في العادة، 6) الفصل بين الإدارة والملكية في العادة أيضا. وقد نشأت مؤسسات مغلقة تنعدم فيها الخصائص الثلاثة الأخيرة.
ولعل أهم وصف للمؤسسة هو وجود مجموعة أموال تدار لتحقيق هدف معين. وهي بهذا تشبه الوقف الذي يُستثمر ماله من أجل تحقيق فائض يوزع على الموقوف عليهم. ويلاحظ أن هناك أوجه شبه أخرى بين المؤسسة والوقف من حيث وجود ذمة مالية لكل منهما مستقلة عن ذمة المدير وعدم محدودية عمر كل منهما والفصل بين الإدارة والملكية.
__________
(1) ... يراجع في موضوع المؤسسة عنوان Corporation في كل من New Encyclopedia Britanica ... طبعة 1995، الجزء الثالث، و Encyclopedia Americana طبعة 1994، الجزء الثامن.(1/14)
... ولقد توسع تطبيق مفهوم المؤسسة إلى غير القطاع الإنتاجي أو الاقتصادي البحت، حتى صار صنوا للشخصية المعنوية ونموذجا لفصل الإدارة عن الملكية. فحيثما يحتاج الناس إلى وجود هذه الشخصية المعنوية، جعلوا حاملها مؤسسة. فمجالس التعليم، والبلديات والجمعيات الخيرية، والنقابات، والجامعات، ومراكز البحث العلمي، والأوقاف لوجوه البر العامة Foundations، كل ذلك وغيره كثير صار مؤسسات، لا بد أن يحمل في نهاية اسمه عبارة Incorporated بشكلها المختصر في الغالب Inc..
... ومع ظهور مفهوم المؤسسة، وجدت شركات المساهمة، بل إنهما ما افترقتا إلا قليلا كما أوضحنا. وشركات المساهمة والمؤسسات أوجدتا ألوانا جديدة من الاستثمار : الأسهم بأنواعها والسندات بأنواعها، يستربح الناس من خلالها، ويستفيد منها بشكل خاص أولئك المستثمرون الذين لا يرغبون بإدارة أموالهم بأنفسهم، وكذلك أشخاص يديرون أموالا لا يملكونها مثل أموال الأوقاف، والهيئات الدينية والاجتماعية والعلمية وغيرها.
... ولقد كان لظهور مفهوم المؤسسة، ثم توسعه، وترسخه، تأثير كبير في تنشيط الأوقاف، والأعمال الاستثمارية التي تقصد وجوه البر بشكل عام، لأنه قدم النموذج الإداري والقانوني الذي تسهل محاكاته من جهة، ويسَّر سبل استثمار الأموال الوقفية من جهة أخرى. غير أن ذلك كان عاملا من جملة عوامل، نتابع دراستها بإيجاز.
2 - توسع النظم الضريبية وتعقدها(1/15)
... النظم الضريبية في مختلف البلدان ظاهرة قديمة قدم التجمعات الإنسانية. (1) والذي يهمنا منها هو أنه مع توسع النظم الضريبية وكثرة تفصيلاتها أدركت معظم الأمم حاجات كثيرة لتشجيع أعمال البر من خلال النظم الضريبية. وقد أدى ذلك إلى ظهور أنواع من الإعفاءات، والتخفيضات الضريبية للأموال المخصصة لوجوه البر، عامة اجتماعية، أو خاصة أهلية، وكذلك إعفاءات وتخفيضات ضريبية للمتبرعين لوجوه البر.
... فالبنية القانونية للإعفاءات والتخفيضات الضريبية في كثير من البلدان تتضمن الإعفاء الكامل للمؤسسات الوقفية ذات البر العام Public Foundations من الضرائب على أموالها التي تملكها، وكذلك الضرائب على ما يأتيها من إيرادات. كما تشمل الامتيازات الضريبية المتبرعين للهيئات الوقفية ذات البر العام، وغيرها أيضا من الهيئات المعفاة من الضرائب، بحيث يحصل الواقف على مزايا ضريبية عديدة تتعلق بالضريبة على الدخل وعلى رؤوس الأموال، كالعقارات والآلات، وبالضريبة على التركات عند التبرع من خلال الوصية. يضاف إلى ذلك مزايا ضريبية عديدة أضفتها النظم الضريبية على أشكال عديدة مما يشابه بعض أشكال الوقف الأهلي أو الذري، يشمل بعض أنواع ما يسمى بإدارة الأموال بالأمانة Trusts أو Trust Funds. ولقد أدت هذه الإعفاءات الضريبية والأشكال القانونية المتعددة لإدارة الأموال الخاصة والعامة إلى نشوء مجموعة من المهن المتخصصة تتمحور حول انتقاء الشكل القانوني الأفضل لتحقيق الأهداف التبرعية الخيرية ذات البر العام و/ أو ذات النفع الأهلي أو الذري، مع الحصول على أكبر قدر من الإعفاء الضريبي لأن في ذلك إكثار للمال نفسه ومحافظة عليه من أن تأكله الضرائب.
3 - التجديد المستمر في أدوات الاستثمار
__________
(1) ... وقد يكون النظام الإسلامي هو الوحيد والسابق في تقييدها في أضيق نطاق، وفي الحد منها ومحاربتها.(1/16)
... شهد الربع الأخير من القرن العشرين تطورا عجيبا وسريعا في أدوات الاستثمار وطرقه قد يزيد عما عرفه الناس خلال قرون عديدة. فمنذ أوائل السبعينات بدأت تظهر أشكال وأوعية استثمارية جديدة، وبدأ يكثر الجديد ويتزايد كل يوم. إن عمليات الابتكار والتجديد في عالم تكنولوجيا الاستثمار صارت فنا تخصص له البيوتات المالية الكبيرة الفنيين المتخصصين، وتجند له العلماء المتفرغين، حتى إنهم ليسمونها "منتجات" استثمارية أو مالية أو مصرفية. وشيوع وكثرة وتنوع هذه المنتجات أدى كله إلى تيسير اتخاذ قرار الاستثمار المالي لنُظّار أو متولي الأوقاف الخيرية والذرية على حد سواء، ولجميع أولئك الذين لا يرغبون بالدخول في ميادين مناطحة الأسواق ومقارعة عناصر الإنتاج الحقيقية ومطارحة المنتجات والسلع والخدمات، أو لا يملكون الخبرة والمعرفة والأدوات اللازمة لذلك.
... كما شهد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ميلاد الصكوك، كأداة استثمار إسلامية بدأت بقرار مجمع الفقه الإسلامي في عام 2000 وتتابعت وتوالت حتى زادت حصيلة الصكوك الصادرة على المائة بليون دولار. والصكوك ذات أنواع متعددة، كثير منها يمثل حصصا في أصول ثابتة من عقارات وآلات مؤجرة بأجرة محددة مع ربطها بأشكال متعددة من انتقال ملكية الأصول إلى المستأجر، وكثير أخر يمثل منافع موقوتة بزمن محدد ينتهي بانقضائه وجود الصكوك نفسها وتنعدم قيمتها. كما أن منها ما يمثل ملكية حصص شائعة في مجموعة من أعيان وحقوق وديون ونقود تشبه بذلك الأسهم المعروفة في شركات المساهمة. وأخيرا فقلة من الصكوك يمثل حصصا في ديون سلم أو مرابحة تستحق في آجال مضروبة معلومة.
... هذه الابتكارات الجديدة في عالم أدوات الاستثمار وأوعيته أدت بدورها إلى ظهور صور جديدة من الأوقاف ما كان لها أن تقوم لولا وجود تلك الأشكال الاستثمارية الجديدة.
ثانيا - أهداف وقفية تفصيلية جديدة(1/17)
... من الواضح أن أهداف الوقف هي وجوه البر والقربات. ومن الواضح أيضا أن الشريعة الغراء قد أقرت، منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم ، أن الصدقة على النفس والأهل والولد هي من أعمال البر. وهذا أمر لم تستطع التشريعات الغربية - وبخاصة الأمريكية - أن تدركه إلا في العقود المتأخرة من القرن الماضي. (1)
... الوقف الأهلي أو الذري هو من أعمال البر الاجتماعية، لأنه يهدف إلى رعاية الأهل والذرية. وهو من أعمال البر الاقتصادية أيضا لأنه يهدف إلى الحفاظ على رأس المال والإبقاء على الأموال المتراكمة في أوعية استثمارية تحافظ على أصولها وتتيح استثمارها وتوزيع عوائدها وتؤكد على عدم إفنائها بالاستهلاك أو الإتلاف. فهي بهذا بر اقتصادي يتضمن المحافظة على ثروات الأمة وأصولها الثابتة الإنتاجية، وعلى استمرارية إنتاجها وعطائها.
... فوجوه البر عديدة ومتنوعة يمكن تصنيفها حسب أهدافها إلى أبواب عدة من دينية وعلمية واجتماعية وصحية وغير ذلك. وليس هذا هو مقصود هذا الجزء من البحث. ولكننا نقصد الأهداف التي تحدد كيفية تنظيم الوقف وشكله القانوني، وبخاصة مع ملاحظة أوعية الاستثمار المعاصرة وما تقدمه من أغراض متعددة. وهذه الأهداف هي التي تتعلق بنيَّة الواقف ورغبته بشكل، ومدى، وكيفية تنظيم الإحسان، أو البر، الذي يرغب بتقديمه.
وهنا يمكن أن نميز بين الأهداف الخمسة التالية مع ملاحظة أن بعضها قد يتداخل - في التطبيق الواقعي - مع البعض الآخر، وبشكل أدق فإن هدف تخفيض الضريبة أو الإفادة من الإعفاءات الضريبية التي يوفرها القانون قد يسير جنبا إلى جنب مع جميع الأهداف الأخرى. وكذلك فإننا قد نجد في النماذج التطبيقية محاولة لتحقيق هدف التنمية، وهدف الكفاية، وهدف خفض الضريبة بوقت واحد معا :
__________
(1) محمد الكبيسي، " مشروعية الوقف الأهلي ومدى المصلحة فيه، ضمن وقائع ندوة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 1983، ص 44.(1/18)
1 - ... هدف تنمية مال الوقف نفسه، ثم بعد ذلك توزيع إيراداته على وجوه البر
... وهنا يكون قصد الواقف تنمية مال الوقف أولا حتى يبلغ مقدارا يظن فيه الواقف أن إيراداته - عندئذ - تسع الأغراض التي حددها له. قد يرغب الواقف بهذا لإدراكه أن ما يريده من أغراض لا يغني فيها المال الذي يوقفه إلا قليلا. وهو يعتقد أنه لا بد أولا من تنمية هذا المال وزيادته، حتى تستطيع إيراداته بعد فترة من الزمن الوفاء بالأغراض التي وضعها للوقف. ويتم ذلك بتخصيص إيراداته لتضم إلى رأس المال لبضع سنوات.
وقد يرغب الواقف أيضا بالاستمرار في تنمية المال حتى بعد انقضاء الفترة الأولية بحيث لا يوزع جميع إيراداته الصافية على أغراض الوقف، بل يخصَّص جزءاً منها ليضاف إلى رأس مال الوقف، وعندئذ يوزَّع جزء فقط من مجموع الإيرادات. وهدف النماء هذا صار في عصرنا متيسرا لأنه صار من الممكن القيام بتقديرات علمية للنماء المتوقع في كثير من أنواع الاستثمارات، وبخاصة ما كان منها بواسطة البنوك الإسلامية وصناديق الاستثمار التي تتوافق مع الأحكام الشرعية. يضاف إلى ذلك أن هدف النماء نفسه هو من أعمال البر الاقتصادية، لأن التنمية هي من البر، لما لها من منافع اقتصادية عامة للمجتمع على عمومه.
2 - ... هدف تحقيق إيرادات معينة للموقوف عليه يعود بعدها المال مع إيراداته المستقبلية للواقف
... يتجسد هذا الهدف عندما يكون غرض الوقف من النوع الذي يحتاج إلى إيراد لفترة محددة من الزمن، لا يحتاج بعدها إلى ذلك العون. وهناك أحوال كثيرة من هذا النوع. منها مثلا أيتام يكبرون، أو مسجد يحتاج إلى نفقات إدارته وصيانته وغير ذلك ريثما تتم عمارة أوقافه التي ستكفي غلالها للقيام بذلك، وغير ذلك من الأهداف الموقتة التي تزول بعد وقت معين. وهي كثيرة لا تحصى.. فيرغب محسن في وقف يحقق هذا القدر من البر، وبعد انتهاء الحاجة إليه تعود الأموال الموقوفة إلى الواقف.(1/19)
3 – هدف تحقيق دفعات نقدية للموقوف عليهم لمدة معينة
... وهنا يكون هدف الواقف تأمين دفعات نقدية، متساوية في معظم الأحيان، وقد تكون متناقصة أو متزايدة، للموقوف عليه بحيث ينتهي الوقف بما فيه من رأس مال عند انتهاء زمن محدد. كأن يكون هدف الوقف رعاية أيتام حتى يكبروا، فيخصص الواقف لهم مبلغا يستثمر، ويوزع رأس المال مع الإيرادات على دفعات متساوية لعدد من السنين يفنى في نهايتها مال الوقف، وتنقضي الحاجة إليه أيضا. ولا يرغب الواقف باسترداد أي شيء عند نهاية مدة الوقف.
4 – هدف الكفاية وتأمين الشيخوخة والورثة أو بعضهم
... وقد يكون هدف الوقف تأمين ورثة الواقف أو بعضهم، خوفا عليهم من ضياع، مع تأمين دخل مناسب للقيام بحاجات الواقف في شيخوخته وعجزه عن الكسب. ... وهذا النوع من الوقف، قد لا يقصد له البقاء الطويل، وقد يكون البر فيه هو كفاية نفسه عند عجزه وأرذل عمره، أو كفاية من يخاف عليهم الضياع، نحو زوج مع أولاد قليلي البر أو فقراء غير قادرين، أو أطفال صغار يحتاجون إلى رعاية، أو مريض أو معتوه يحتاج إلى دخل مستمر للعلاج ولوازم الحياة. وقد يضاف إلى ذلك، حب لوجوه البر العامة ورغبة في خصها بالباقي بعد حاجته وحاجة من يخاف ضياعه، اقتناعا من الواقف أنه أحوج إلى ادخار حسناته عند الله تعالى، بجعل مآل الوقف إلى وجوه البر العامة من رد المال إلى ورثته. وقد يكون ذلك طاعة لنصح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور : أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "مالُك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت". ومن خير ما يبقى الصدقة الجارية.(1/20)
... وينبغي أن نلاحظ أن جميع هذه الأهداف أو معظمها هي مما يتحقق من خلال الشروط الخاصة التي يتحدث الفقهاء عن حرية الواقف في تحديدها، وذلك دون غض النظر عن الخلافات المعروفة حول الوقف على النفس، أو اشتراط المنفعة للنفس، وحول جواز التوقيت في الوقف، وكذلك حول قضية الوقف على بعض الورثة دون بعض. ولكن كل هذه القضايا هي مسائل اجتهادية، للمصلحة فيها مجال كبير في التأثير على الحكم الشرعي. والمصلحة قائمة في تشجيع الوقف باعتباره وجها مهما من وجوه البر.
5 – هدف تحقيق أكبر قدر من التخفيض والإعفاء الضريبيين
... لاحظنا أن معظم الحكومات المعاصرة - إسلامية أو غير إسلامية - صارت تعتمد على الضرائب التي تجبيها من الناس كمصدر رئيسي لتمويل نشاطاتها وأجهزتها. ورأينا أن معظم الأنظمة الضريبية أقرت أهمية العطاء لوجوه البر وأهمية الأوقاف ذات النفع العام Foundations Public والأوقاف الأهلية أو الذرية التي تتخذ شكل وضع المال بالأمانة Trust، وعملت على تشجيعها من خلال تقديم تنازلات ضريبية سخية للواقفين، وللأموال الموقوفة على حد سواء. ونعتقد أن وجود الإعفاءات الضريبية وقصد الانتفاع بها لا يتعارض مع قصد البر في الأوقاف، ولعله لا ينقص من الأجر شيئا بإذن الله، لأن الإعفاء الضريبي هو جزء من البنية الضريبية، تتحقق من خلالها أهداف اجتماعية واقتصادية كثيراً ما تحرص عليها الحكومات. فإذا كانت الضريبة بقانون، فالإعفاء منها والتخفيض فيها هما أيضا بقانون. وكل ذلك يعبر عن الاختيارات والأولويات الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع، وليس في قصد نوالها إلا تحقيق لتلك الأولويات. وبخاصة أننا نلاحظ في واقع الحال أن البلدان التي تجود قوانينها بهذا النوع من الإعفاءات، مثل الولايات المتحدة، يكثر فيها العطاء لوجوه البر، العام والأهلي معاً، في حين نرى عكس ذلك في البلدان التي لم تنْمُ فيها الإعفاءات الضريبية.
المبحث الثالث
...(1/21)
... إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الجديدة والمتغيرة دائما تنشأ عنها حاجات لا حصر لها. وتتنوع الصور الجديدة للوقف بتنوع هذه الحاجات التي يُطلب تلبيتها. وقد أوجدت المجتمعات المعاصرة حاجات عامة كثيرة من وجوه البر منها ما هو دائم بطبيعته ومنها ما هو غير دائم، إما بسبب طبيعة الحاجة التي يلبيها، وإما لأنه لا حاجة أو لا رغبة عند الواقف بديمومته. كما أن من هذه الأوقاف ما ينتهي بفناء مال الوقف نفسه كما سنرى، ومنها ما يعود فيه مال الوقف إلى الواقف بعد انقضاء المدة التي وقِّت الوقف لها، ومنها ما يبقى وقفا على سبيل التأبيد.
... ومما ينبغي أن يذكر أن لمسائل الضرائب والإعفاءات منها أو التخفيضات فيها علاقة كبيرة بصور الأوقاف الحديثة. بحيث يخترع الناس من الصور الوقفية بقدر ما تجود به أذهان المخططين الماليين Financial Planners الذين يبتكرون دائماً صوراً جديدةً تتناسب مع البنية الضريبية في كل بلد. وسنعرض في هذا المبحث لبعض صور مستجدة للوقف في الأسهم والصكوك والحقوق والمنافع.
أولا- وقف النقود(1/22)
عرف فقهاؤنا التراثيون وقف النقود، فمنهم من قال بجواز ذلك ومنهم من منع. ومدار خلافهم، هو إمكان استعمالها دون استهلاك عينها أم لا. فمنهم من أجاز وقف النقود لاتخاذها زينة قياساً على جواز تأجيرها لهذا الغرض على خلافٍ في ذلك. (1) ومنهم من قال بجواز وقفها لإقراضها، لأن ما يرد في القرض يقوم مقام ما استهلك من قبل المقترض عند أخذ القرض. (2) ومنهم من قال بوقفها لتستثمر مضاربة، ثم يوزع ربحها على أغراض الوقف (3) . كل ذلك قد يعني أن الجديد في وقف النقود، وما يعبر عنه في العادة بوحدات النقود، ليس كثيراً. فقد أغنانا فقهاؤنا رحمهم الله عن كثرة الخوض في هذا الصنف من الأوقاف.
... ولكن الحقيقة هي أكثر من ذلك، إذ يمكن أن توجد صور جديدة لوقف النقود وما هو في مقامها، بل إن بعضها قد وجد فعلا فيما لدى الناس من أنواع المعاملات. وإن سبب ظهور الصور الجديدة إنما هو تطور أنماط جديدة من أساليب استثمار، وأشكال مؤسسية في النشاط الاقتصادي.
صور جديدة من وقف النقود
... فلقد أدى الواقع المعاصر في وسائل وأدوات الاستثمار إلى إمكان نشوء أشكال جديدة من وقف النقود. سنناقش منها وقف النقود في محافظ استثمارية، ووقف الإيراد النقدي ووقف الاحتياطي لدى شركات المساهمة.
1- وقف النقود في محافظ استثمارية
__________
(1) ... المجموع، ج15، ص 320 وما بعدها.
(2) ... الزرقا، ص 48، وانظر كذلك حاشية ابن عابدين، ج4. باب الوقف.
(3) ... الزرقا، نفسه، وهو عند المالكية أيضا، انظر الحطاب والمعيار المعرب.(1/23)
... وأول هذه الصور وقف النقود في محافظ أو صناديق استثمارية. وهي تقوم أساسا على فكرة المضاربة نفسها أو على فكرة الوكالة (إجارة المدير) وكلاهما تحدث عنهما الفقهاء، مع ملاحظة أنه تقوم إدارة واحدة لأموال مجموعة من أرباب أموال عديدين، وهو أمر أشبعه بحثا الفقهاء المعاصرون، من الذين اهتموا بالمعاملات المالية المعاصرة وبخاصة معاملات البنوك الإسلامية. فتكون النقود موقوفة عند الهيئة أو المؤسسة التي تستلمها مضاربة، أو عند المؤسسة التي تديرها إجارة، وما ينشأ عنها من أرباح هو الذي يوزع على جهات البر المقصودة بالوقف.
... ويمكن أن يتخذ هذا الوقف واحدة من ثلاث صور فرعية. أولها أن تنتدب هيئة وقفية نفسها لاستقبال الصدقات الجارية النقدية لتمويل إنشاء مشروع وقفي معين، نحو مصنع لديسكات الكمبيوتر، ثم إنفاق إيراداته على غرض وقفي معين، وليكن الإنفاق على دور للأيتام مثلا. ويمكن أن تتعدد الأغراض فتشمل عدداً من وجوه البر معاً. (1) ويمكن أن تكون الهيئة الوقفية حكومية، أو شبه حكومية، أو أهلية. كما يمكن أن يفوض الواقفون الهيئة التي تستلم النقود باستثمارها في أي شكل تراه مناسباً، وبذلك فقد تتنوع المشاريع الوقفية الاستثمارية عند الهيئة. ويلاحظ أن هيئة الوقف في هذه الصورة تكون هي الناظر على الوقف، وهي بنفس الوقت المستثمر. ويحق لها في العادة أن تستثمر النقود بنفسها مباشرة، أو بصورة غير مباشرة عن طريق مؤسسات استثمارية متخصصة نحو البنوك الإسلامية والمؤسسات والصناديق الاستثمارية الأخرى، على أساس عقد المضاربة المعروف أو عقد الإجارة المعروف أيضا. ومن الواضح أنه إذا استعملت النقود في تملك أصول عينية تتغير بذلك طبيعة الوقف من نقدية إلى عينية.
__________
(1) ... مثال ذلك ما تعرضه الهيئة الإسلامية العالمية للإغاثة التابعة لرابطة العالم الإسلامي في المملكة العربية السعودية باسم مشروع سنابل الخير.(1/24)
... والصورة الفرعية الثانية لوقف النقود تتم بأن يحدد الواقف نفسُه الجهة التي تُستثمر فيها النقود، فيكون الوقف لنقود مستثمرة بشكل وديعة استثمارية في بنك إسلامي معين، أو وحدات في صندوق استثمار مؤسس على طريقة الوحدات. وفي هذه الصورة يحدد الواقف ناظراً للوقف تكون مهمته تحصيل أرباح النقود الموقوفة وتوزيعها على الموقوف عليهم. كما يمكن أن يعطَى الناظرُ الحق بنقل مال الوقف من وعاء استثماري إلى آخر في نفس البنك الوديع (المضارب)، أو في جهة أخرى مشابهة. ولكن الناظر - في جميع الأحوال - ليس هو الذي يتخذ قرار استغلال النقود نفسها، إذ أن صلاحيته بالنسبة للاستثمار تقتصر على اختيار الجهة المستثمرة، إن كان له من صلاحية في هذا الشأن على الإطلاق. ومن المعلوم أن الصناديق الاستثمارية بأنواعها لا تعمل كلها على أسلوب المضاربة. إذ أن أكثرها يعمل بأسلوب الإجارة فيكون المدير فيها أجيراً أو وكيلا بأجر متعاقد عليه.
... أما الصورة الفرعية الثالثة لوقف النقود فهي مألوفة كثيراً في عالم اليوم، ويمارسها الكثيرون في إنشاء المشروعات الوقفية. وقد يرغب البعض في عدم تسميتها وقفا للنقود، لأنها تتحول بالمآل إلى أعيان معمرة تخصص لأغراض وقفية عامة. والشكل البسيط لهذه الصورة الفرعية هو لجان جمع التبرعات لبناء وقف خيري. فعندما تحتاج مجموعة من المسلمين إلى وقف ما، كثيرا ما تشكل لجنة لجمع النقود تبرعات من المحسنين لبنائه. وكثير من المشروعات الوقفية من بناء مساجد ومستشفيات ودور أيتام وغيرها صارت اليوم مكلفة بحيث لا يستطيع في معظم الأحيان محسن واحد القيام بها. وللنقود المجموعة حكم الوقف منذ تاريخ جمعها من قبل لجنة المشروع. وآلية عمل اللجنة تتضمن في الحقيقة توكيلاً لها باستعمال هذه النقود في شراء الأرض وإنشاء البناء المطلوب وكل مرافقه، فهي بحكم هذه الوكالة تحول النقود - بعملها - إلى أعيان من خلال القيام بالأعمال الإنشائية.(1/25)
... أما الشكل المتطور لهذه الصورة فتعبر عنه الطروحات السودانية والكويتية في هذا المجال. فالهيئة العامة للأوقاف في السودان والأمانة العامة للأوقاف في الكويت أقامت مؤسسات أسمتها الأولى: "مشروعات وقفية" وأسمتها الثانية "صناديق وقفية". بحيث يقوم المشروع أو الصندوق باستدراج التبرعات الوقفية لمشروع معين، أو لغرض معين. ثم يستعمل النقود المحصلة التي تتحصل بهذه الطريقة في بناء الوقف الذي يتمثل به غرض المشروع أو الصندوق. فهناك مثلاً مشروع _ أو صندوق - وقفي لمستشفى أو لمسجد، أو لناد للشباب. وقد يتخصص المشروع - أو الصندوق - الواحد ببناء المستشفيات، أو المساجد، أو النوادي في عموم القطر، فلا يكون لبناء واحد فقط بحيث يكون المشروع - أو الصندوق - دائماً مستمراً، يقوم بتغذية الغرض الوقفي الذي حدد له، ويتغذى هو نفسه بالنقود التي يوقفها المحسنون للمشروع أو الصندوق.
2- وقف الإيراد النقدي
... ومن صور وقف النقود أيضاً وقف إيراد نقدي، دون وقف أصله، أي دون وقف العين التي ينشأ عنها الإيراد. ويمكن أن يكون لهذا النوع من وقف النقود في التطبيق صور عديدة لا حصر لها، ولكنها تدور حول محورين هما: وقف إيراد عين معمرة لفترة زمنية محددة. ومثاله أن يوقف شخص الإيراد، الإجمالي أو الصافي، الذي ينشأ عن استثمار عقار للأيام العشرة الأولى من المحرم من كل عام. أو أن يوقف محسن يملك موقفاً للسيارات، إيراد موقفه مما يدفعه أصحاب السيارات التي تقف فيه كل يوم جمعة، أو أن يوقف صاحب حديقة حيوانات إيرادها لمدة شهر معين في كل سنة.(1/26)
... ويمكن لوقف الإيراد هذا ن يكون موقوتا أو مؤبدا. ولا شك أن معنى الوقف لا يتحقق إلا بالتكرار، لأنه هو المعنى الذي تتضمنه "الصدقة الجارية" فلو تبرع شخص بإيراد متجره لشهر المحرم 1430هـ، وكان يحسب إيراداته شهريا فليس هذا وقفا، بل هو صدقة عادية، تنقضي بدفعها عند نهاية الشهر. أما لو حبَّس إيراد شهر المحرم من كل عام لمدة عشر سنوات أو على سبيل التأبيد، فإنه ينشئ بذلك وقفا إيرادياً نقديا. ومثل ذلك لو وقف إيراد يوم واحد كل سنة لأي عدد من السنوات فهو وقف، أما لو تصدق بإيراد يوم واحد دون تكرار فهو صدقة عادية ليس فيها معنى الجريان. ومثل ذلك وقف حصة محسوبة بنسبة مئوية، كل سنة، من الإيرادات النقدية، الإجمالية أو الصافية، لهيئة أو مؤسسة استثمارية، لغرض من أغراض البر، غير الزكاة المفروضة التي لا بد أن توزع في مصارفها الشرعية.
... وقد تتوجه إرادة الواقف لجعل الوقف في وجه من وجوه البر العامة، أو أن يكون لصالح أشخاص بأعيانهم وذريتاتهم، أو بأوصافهم حتى لا يكون الوقف منقطعا بانقراض الموقوف عليه.
... والحقيقة أن حساب احتياطي مخاطر الاستثمار في البنوك الإسلامية هو قريب جداً من هذا النوع من الوقف. وهو لا يختلف عن الوقف الذي نتحدث عنه إذا اعتبرنا الوقف موقتا بانتهاء وجود البنك نفسه، وذلك لأن النصوص المألوفة في عقد تأسيس البنك، في أمر هذا الحساب، أن يُجعل رصيده المتبقي في مثل مصارف الزكاة عند انعدام البنك الإسلامي.. أما إذا أردنا أن يكون الوقف فيه مؤبداً فينبغي أن نضيف إليه موقوفاً عليه لا ينقطع، كأن ينص أنه عند انعدام البنك يبقى أصل المال المتراكم في هذا الحساب ليستثمر في عقار أو مضاربة أو غير ذلك وتكون غلاته أو أرباحه في الفقراء والمساكين مثلاً.(1/27)
... ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن إرادة الواقف قد تتوجه إلى معنى الوقف، لما يتضمنه من صدقة جارية، عمر المال أو المشروع الاستثماري الذي يخصَّص جزء من إيراده وقفاً. وهو قد يرغب فعلاً أن يلزم نفسه وورثته بذلك، دون أن يخرج العين نفسها أو المشروع الاستثماري نفسه من ملكه ومن كونه ميراثا يورث بعد موته.
... وقد ترد في هذه الحالة مسألة الوصية بالإيراد أو الغلة أو الربح وقفاً. وهي مسألة جديرة بالنظر الفقهي. إذ لا خلاف بحق المتبرع بتجاوز الثلث فيما ينشأ من إيرادات دورية كل عام خلال حياته لأن ذلك تصرف من مالك في ملكه، ليس للورثة فيه أي حق. فهل له مثل ذلك بعد موته طالما أن نيته وصيغة الوقف نفسها توجهتا إلى أن ذلك وقف وليس وصية؟ أم أنه عند الموت يصبح من نوع الوصية بالمنفعة، فيتحدد بما لا يتجاوز الثلث كما قال المالكية والشافعية؟ وإن كان لا بد من حساب الثلث فكيف يكون تقدير هذه الإيرادات المستقبلية؟ أيكون ذلك بتقويمها على طريقة حساب القيمة الحالية بتاريخ الوفاة حتى تمكن مقارنتها مع باقي التركة ؟ ولا بأس أن تكون الفتوى في ذلك على حدود الثلث عند موت الواقف، إذا تبين أن ذلك هو الأولى والأرجح فقهاً وشرعاً، فالثلث كثير كما قال المصطفى عليه صلوات الله تعالى وسلامه وبركاته. ولهذا النوع من الوقف أيضاً مزايا قانونية وضريبية لا تخفى.
3- وقف احتياطي شركات المساهمة
... ومن الصور التي تنزل منزلة الوقف النقدي كما ذكرنا سابقاً وقف الاحتياطي في شركات المساهمة. وقد ذكرنا فيما سبق أن شركات المساهمة هي نموذج تنظيمي جديد نشأ في الغرب وتطور خلال القرن الغريغوري التاسع عشر بشكل خاص، وأن هذا النموذج في تنظيم النشاط الاقتصادي يقوم على أساس مفهوم المؤسسة التي تتمتع من جملة ما تتمتع به بمزايا الشخصية الاعتبارية، والمسئولية المحدودة، وإمكان تجاوز عمر المؤسسة لأعمار مؤسسيها و/أو مالكيها بما في ذلك تأبيدها.(1/28)
... وقد رأينا أن هذه المزايا مهمة وأساسية في نجاح هذه الشركات. وبسبب هذه المزايا القانونية ولكثرة ارتباط شركات المساهمة - في العادة - بالمصالح العامة وبالكثير من الناس، سواء ما تعلق بتكوين رأس مالها وتجميعه من عدد كبير من الأفراد، أو ضخامة مشاريعها وعلاقاتها الوثيقة بالمصالح الوطنية العامة، أو كثرة عدد عمالها، فإن القوانين تتدخل كثيراً في تنظيم هذه الشركات وكثير من أعمالها. فمفهوم المؤسسة نفسه هو شيء اخترعه أو أوجده القانون.
ومن أشكال تدخل القوانين في شركات المساهمة إلزامها بتكوين احتياطي عام عن طريق حجز جزء من أرباحها سنوياً لتغذية هذا الاحتياطي الإلزامي أو القانوني. والهدف الأول من هذا الإلزام هو تقوية المركز المالي لشركة المساهمة، وبخاصة تجاه دائنيها، لتحسين قدرتها على الوفاء بالتزاماتها أخذا بعين الاعتبار لمسئوليتها المحدودة.
... وإننا لنرى بأن موضوع المسئولية المحدودة موضوع مهم. وهو أمر لم يرد في الفقه الإسلامي التراثي. وقد أقره مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السابعة المنعقدة بجدة 7-12/11/1412هـ (9-14 مايو 1992) بقوله "لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسئولية محدودة برأسمالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة، وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة". (القرار رقم 65/1/7). وإن إقرار مبدأ المسئولية المحدودة لا يتعارض أبداً مع مبدأ تكوين احتياطي للقيام بأعباء هذه المسئولية، وبخاصة أن طبيعة مفهوم المؤسسة Corporation يشبه مفهوم الوقف، من حيث أن المؤسسة هي أموال (ثابتة ومتداولة) مرصودة لأغراض معينة (إنتاج سلعة ما مثلاً كالبترول) لا تتأثر بحياة مالكيها وتتمتع بشخصية قانونية وذمة مالية مستقلة وخاصة بها.(1/29)
... لذلك نرى أنه بما أن المؤسسة Corporation هي نفسها من صنع القانون، الذي منحها مزايا عديدة حتى إن دائرة المعارف الأمريكية لتقول بأن "المؤسسة تستمد وجودها وقوتها ومميزاتها من شيء واحد فقط هو ما تمنحه لها السلطة السيادية للحكومة" (1) ، فإن من حق المجتمع عليها - في مقابل ذلك - أن تحتجز المؤسسة جزءاً من أرباحها وقفاً لصالح دائنيها - عند الحاجة - ولصالح البيئة الاجتماعية والطبيعية التي تعمل الشركة من خلالها، ولترميم ما يمكن أن تحدثه فيهما من آثار ضارة نتيجة نشاطها الاستثماري.
ونعتقد أن هذا الوقف ينبغي أن يشمل كل، احتياطيها الإلزامي القانوني، أو جزءا كبيراً منه على الأقل. فيعتبر هذا المال وقفاً، بتعديل في النصوص القانونية ذات العلاقة، موضوعا تحت يد إدارة الشركة نفسها، بصفتها ناظرا عليه، يتراكم بالطريقة التي اقترحتها القوانين، وهي الاقتطاع السنوي لنسبة من الأرباح. أما ما يستحق لهذا الاحتياطي من أرباح فيحسب بنسبة مساهمة الاحتياطي في مجموع الأموال المستثمرة لدى الشركة، باعتبار أنه مال موضوع عندها مضاربة. ويصرف الربح سنوياً في وجوه البر التي يحددها القانون. وأما أصل مال الاحتياطي وما يتراكم فوقه كل سنة فيبقى لمساعدة الشركة في القيام بمسئوليتها تجاه الدائنين في حالة تصفية أموالها تصفية الغرماء.
... وهذا النوع من الوقف، يتمثل ولا شك بجزء من الموجودات الثابتة والمتداولة، شأنه في ذلك شأن أي مال مضاربة، ولكنه ينظر إليه في العادة تحت عنوان الاحتياطي الإلزامي في جانب الخصوم من الميزانية، فهو يدخل بهذا المعنى فقط ضمن الأوقاف النقدية.
ثانيا - وقف الأموال مختلطة ووقف الأسهم والصكوك
__________
(1) ... Encyclopedia Americana, V 8, p. 3.(1/30)
... وقف مجموعة من الأموال العينية، والحقوق المالية المتقومة، والمنافع، والنقود معا، أمر حديث لم يكن مألوفا في الماضي. وقد تأثر ظهور هذا النوع من الوقف بشكل كبير بتطور ونضج مفهوم المؤسسة Corporation، وبخاصة ديمومتها وعدم ارتباطها بحياة مؤسسيها أو مالكيها. فمع وجود مفهوم المؤسسة، لم تعد هنالك حاجة لاقتصار الوقف على نوع واحد من الأموال لتوفر وجود شخصية معنوية أو قانونية تمتلك عملا أو مشروعا استثماريا بكل ما له من أعيان وحقوق وديون ونقود صافياً مما عليه من التزامات نحو الغير. فيكفي إذن وقف أو تحبيس هذه المؤسسة نفسها، أو إنشاء مؤسسة لجمع أشكال متعددة من الثروة، ليتم تحبيسها معا كوحدة متميزة، أو ضم مجموعة من ذلك كله إلى مؤسسة وقفية قائمة.
... وبناء على ما تقدم، يتميز أربعة أنواع من الصور الجديدة من الوقف نذكرها فيما يلي :
1- وقف عمل استثماري بأكمله Business أو أعمال استثمارية بمجموعها ...
وهو يعني وقف مؤسسة بجميع مالها من أموال وما عليها من التزامات. وهذا النوع من الوقف مألوف في بعض البلدان الغربية. وهو كثيرا ما يتم من خلال الوصية. فيتم عن طريق الوصية تحويل المؤسسة إلى وقف، أو ضمها إلى وقف قائم موجود. ولكن ذلك لا يمنع إنشاء الوقف في حياة الواقف أيضا، دون أن يكون له أية علاقة بوصيته. ويمكن لهذا الوقف أن يكون لوجه من وجوه البر العامة فيتخذ شكل ما يسمى Foundation في القانون الأمريكي. كما يمكن له أن يكون لصالح ذرية الواقف أو ورثته أو بعضهم، أو لصالح أشخاص بأعيانهم، فيتخذ عندئذ شكل أمانة وقفيةTrust (1) .
__________
(1) ... سنتحدث عن الأمانة الوقفية Trust في النظام الأمريكي تحت عنوان أنواع الوقف من حيث أهدافه في الفقرة التالية.(1/31)
وقد يختلط وجه البر العام مع الهدف الأهلي فتكون المؤسسة وقفا موقتا، موضوعة تحت تصرف مؤسسة وقفية خيرية عامة، لتأخذ عوائدها فتستعملها في وجوه البر العام، ثم يعود أصل المؤسسة بعد فترة زمنية معينة للواقف أو ورثته، باعتبار أصلها قد وضع أمانة Trust (1) ، بيد المؤسسة الوقفية الخيرية العامة Foundation (2) .
... ومن الواضح إذن أن هذا النوع من الوقف يمكن أن يكون مؤبدا أو موقتا، طالما سمحت طبيعة الأموال (والحقوق والمنافع والنقود) الموقوفة بذلك وتوجهت إليه إرادة الواقف.
2- وقف مجموع أملاك الواقف
... وهذا يشبه وقف عمل أو أعمال استثمارية. وقد يتم عن طريق إنشاء مؤسسة تتملك كل أملاك الواقف ثم تحبيس تلك المؤسسة، أو عن طريق إقامة أمانة وقفية Trust ثم تحويل أملاك الواقف إليها. وقد يتم هذا النوع من الوقف بتحويل أموال الواقف إلى وقف خيري عام موجود، أو إلى وقف ذري موجود فعلا. ويمكن هنا أيضا أن يكون الوقف مؤبدا أو موقوتا، حسبما تتوجه إليه إرادة الواقف.
3 - وقف الأسهم وصكوك المضاربة والمشاركة
__________
(1) ... انظر المعنى الوقفي الأهلي للأمانة Trust في : Encyclopedia Americana, V.27.
(2) ... انظر في معنى الوقف لوجوه البر العامة Foundation في: Encyclopedia Americana, V. 11(1/32)
... الأسهم حصص متساوية في ملكية شركات المساهمة تعطي مالكها الحق في التصويت في اجتماعات الجمعية العامة التي هي السلطة النهائية بالمآل في إدارة الشركة والتصرف بِأموالها كما تعطيه الحق بالأرباح وبنصيب أسهمه النسبي في صافي أموال الشركة عند التصفية. وقد استقر رأي مجمع الفقه الإسلامي على أنها تتمثل بما تتألف منه الشركة من أموال عينية وديون وحقوق ونقود محسوما منها ما عليها من ديون والتزامات. فهي بهذا المعنى ملكية لأموال وحقوق مختلطة. ومثل الأسهم صكوك المشاركة والمضاربة منحيث كونها تتمثل بملكية حصص متساوية في أموال مختلطة. غير أن الأسهم تصدر في العادة دائمة في حين جرى العرف (وهو مقتضى نص معيار هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية) على توقيت الصكوك.
... فوقف الأسهم أنما هو وقف لما يمثله السهم. وهو يثير مسائل تحتاج إلى ملاحظة نعرضها فيما يلي:
أ. حكم وقف المشاع، وهو الجواز فقد ورد المشاع في الوقف من خلال الوصية وغيرها .
ب. شروط الواقف من حيث ما يوزع على الموقوف عليهم، فلو شرط الواقف توزيع الزيادات على رأسمال الوقف قد يصعب تنفيذ هذا الشرط بالنسبة للزيادة الرأسمالية (ارتفاع أسمعار الأسهم) الناتجة عن زيادة الطلب على أسهم الشركة الموقوف أسهمها. ذلك لأن ما تم وقفه هو في الحقيقة حصة من تلك الأموال المختلطة وليس مبلغا من المال هو ثمن الأسهم الموقوفة يوم وقفهازأما لو شرط توزيع ما يوزع من أرباح فلا حرج ولا صعولة في تنفيذ هذا الشرط.(1/33)
ج. التغير في بنية/تركيب موجودات الشركة وخصومها وفي عدد الأسهم المصدرة، وهو من الناحية الحَرْفية يعني تغيرا في أصل المال الموقوف، فهل يثير ذلك أي تساؤل بالنسبة للوقف؟ في اعتقادنا أن ذلك لا يثير أية مشكلة فقهية لأن أحكام الوقف التفصيلية منوطة بإرادة الواقف وقد اتجهت إرادة الواقف إلى مال خاضع بطبيعته لهذه التغيرات. فهي مثل التغير في خصوبة الأرض أو انتقال استعمالها من زراعة لبناء أو صناعة وهو ما عاينته معظم الأراضي الموقوفة في كل البلاد الإسلامية.
د. تنوع حكم الأسهم من حيث تملكها والتصرف بها حسب نشاط الشركة، وهو أمر معروف قد تحدثت عنه قرارات مجمع الفقه ومعايير هيئة المحاسبة والمراجعة. والذي أراه جديرا بالطرح هو أن ما يباح تملكه من أسهم بشروطه يباح وقفه بنفس الشروط. فلو قلنا بإباحة تملك أسهم الشركات الملتزمة بأحكام الشريعة والشركات التي يكون مجال نشاطها الرئيسي مباحا ولا تزيد مخالفاتها عن نسبة معينة مع شرط التطهير لكان القول بجواز وقف أسهم هذين النوعين من الشركات من باب أولى لأن الوقف من أعمال البر التي يغض النظر فيها عما لا يغض في المعاوضات.
4- وقف الصكوك التي تمثل حصصاً متساوية في أعيان مؤجرة ومرتبطة بنفس الوقت بشكل من أشكال انتقال الملكية إلى المستأجر على مدى سنوات عدة. وهو أمر ينطبق عليه ما ينطبق على وقف المشاغ الموقت الذي لا نجد في الشريعة ما يمنعه أو يقيده. فهو في حقيقته وقف للعين والمنفعة معا حيث يقصد منه حبس كل من إيرادات الإجارة وتوزيعات بدل انتقال الملكية معاً على أغراض الوقف الموقوف عليها. ولكننا نلاحظ في هذا النوع من الوقف أن عينه تنعدم بانقضاء مدته بحيث تنتقل العين إلى مالك هو الذي كان مستأجراً. فهو من نوع الوقف الموقت الذي لا نجد في الشريعة سببا لمنعه.
ثالثا- وقف الحقوق والمنافع(1/34)
... وهي أوقاف يكون الموقوف فيها حقاً متقوماً أو منفعة مملوكة لغير مالك العين، كما في الإجارة، والوصية بالمنفعة منفصلة عن العين. وهناك صور متعددة لوقف الحقوق والمنافع نذكر فيما يلي أهمها.
1 - وقف الحقوق المعنوية
... ولعل من أهم الصور الجديدة للحقوق التي يمكن وقفها هو حق استغلال الأملاك المعنوية. ومن أهم هذه الأملاك المعنوية حق التأليف، (1) وحق الابتكار، وحق الاسم التجاري. ويكون تحبيس حق استغلال الملك المعنوي بتصريح المؤلف أو المبتكر بذلك، كما نجده في مقدمات كثير من الكتب. حيث يصرح المؤلف أنه "يترك حق نشر كتابه أو أي جزء منه صدقه لله تعالى". فإن ذلك النص يعني أن الواقف يبيح لأي شخص أن ينتفع من ذلك الكتاب - ولو بنشره وتوزيعه - شريطة أن لا يحصل من ذلك على أي ربح، أو أن أي ربح يحصِّله، ينبغي أن يتصدق به نيابة عن الواقف. لأن هذا هو معنى الصدقة لله تعالى. ويمكن كذلك أن تُحمل عبارة الواقف على أنه إنما يحبس حقه كمؤلِّف، فتنصرف الصدقة لله تعالى إلى إيراد هذا الحق، وهو ما يتحدد في السوق من ثمن لهذا الحق لطبعة واحدة، أو أكثر، أو لجميع الطبعات، حسبما هو مألوف في بلد المؤلف أو الناشر أو كليهما. وبهذا التفسير لشرط الواقف يمكن للناشر الاسترباح بنشر الكتاب شريطة أن يتصدق بغلة حق المؤلف في وجوه الخير العامة أو بما حدده المؤلف من وجوه خير، إن كان قد حدد شيئا منها بالوصف.
__________
(1) ... إن حق التأليف نفسه، وحق الابتكار مثله، ليس حقاً مالياً، لأنه غير قابل للتحويل من شخص إلى آخر، لحرمة ذلك لأنه كذب، فهو بالتالي غير متقوم، لأن التقويم لا يكون إلا بين أشخاص متعددين، أي هو ما يقصد إلى التعرف على ما يسمى بالقيمة التبادلية Exchange Value. أما حق استغلال المؤلَّف أو المبتكَر فهو حق آخر يملكه صاحب التأليف أو صاحب الابتكار. وهو حق قابل للتقويم لأنه قابل للتداول.(1/35)
... أما إذا نص الواقف على أنه "يسمح لأي ناشر أن ينشر كتابه وأن يتكسب بعمله هذا وأن المؤلف يسامح الناشر بأية حقوق تستحق له"، وهو نص غير مألوف في العادة، فإن مثل هذا الشرط فقط هو الذي يبيح حق التكسب لأي شخص من نشر هذا الكتاب.
... كما أننا نرى أن جميع الكتب التي ألفت قبل شيوع أشكال جديدة من الاستغلال للأملاك المعنوية، لم تكن شائعة عند ظهور هذه الكتب، نحو التحويل إلى فيلم سينمائي أو ديسكات كمبيوتر أو أي شكل آخر من أشكال الاستغلال، وأشار مؤلفوها إلى تحبيس حق النشر، دون ذكر أشكال الاستغلال الأخرى، فإن الوقف يطول أشكال الاستغلال الأخرى أيضا، ولا يقتصر على النشر من دونها، لأن هذه الأشكال داخلة في معنى التحبيس وإن لم تكن معلومة الإمكان عند نشوء الوقف.
... ونرى أنه ينبغي على إدارات الأوقاف في البلدان الإسلامية التي نشأت فيها هذه الأوقاف المعنوية أن تعنى برصدها، وتسجيلها، وحمايتها ممن قد يعتدون عليها، وتحصيل حقوق الأمة (أو حقوق الموقوف عليهم) من الناشرين الذين ينشرونها ويحمِّلون المستهلك أكثر من كلفتها، إلا إذا توجهت إرادة الواقف إلى السماح بذلك، وهو ما يندر في العادة كما ذكرنا.
2- وقف الحقوق المعنوية التراثية(1/36)
... ومثل حق استغلال الأملاك المعنوية المعاصرة، حق استغلال الأملاك المعنوية التراثية. وهذا أمر يحتاج إلى شيء من التفصيل. فكتّاب التراث الفقهي وغيرِه، كثير منهم قد صرح في مقدمة مؤلَّفه أنه يضع ذلك بين يدي طلاب العلم ابتغاء وجه الله، بل منهم من صرح بمعنى التحبيس، وإن كان الأغلب أن ذهنه (أو ذهن مالك النسخة المخطوطة عن نسخة المؤلَّف التي ذكر فيها التحبيس) قد انصرف إلى نسخة معينة بين دفتين وليس إلى الحق أو الملك المعنوي نفسه، لأن نظرية الحقوق المعنوية المتقوَّمة لم تكن معروفة في ذلك الوقت. فلم يُعرف أبداً أن أخذ مؤلفٌ عوضاً عن السماح باستنساخ نسخة من كتابه. كما أن كثيراً من المؤلفين - ممن لم يصرح بمعنى الوقف - قد لمح إليه واتجهت نيته إليه؛ وذلك يتبين من الفتاوى الكثيرة بعدم جواز أخذ ثمن للفتوى، أو ثمن للعلم مما هو معروف ومنتشر في كتب الفقه.
... ولا شك أن حركة نشر التراث التي بدأت منذ حوالي قرن من الزمان، وما تزال في نهضتها، حركة طيبة ومباركة، وأنها أعادت صلة الأمة بتراثها وماضيها. ولا شك أن الناشرين والمحققين قد قاموا بجهود مشكورة ومفيدة في هذا السبيل. وهي جهود متقومة مشكورة يستحقون عليها العوض، أجراً أو ربحاً بحسب الحال. ولكنه في جميع الأحوال فإن حقوق المؤلفين الأصليين، قلت أو كثرت، من كل كمية تطبع من الكتاب المحقق ينبغي أن توجه إلى حيث انصرفت إراداتهم الوقفية، الصريحة أحيانا أو الضمنية أحياناً أخرى.(1/37)
والأغراض الوقفية التي قصدها المؤلفون هي أن تكون كتبهم ميسرة للعلماء والمتعلمين. وينبغي أن يقدر ذلك دون أي افتئات على حق المحقق والناشر مقابل ما قاما به من جهد، ودون تفريط بحق الأمة وبخاصة المكتبات العامة والجامعات والمدارس والمساجد وغيرها من المراكز العلمية والعلماء والمتعلمين مما يدخل بعمومه في قصد الواقف التراثي فكل بقيمته، ولكل بحسب نصيبه من مبيعات الكتاب التراثي المنشور. ونرى هنا أيضاً أنه ينبغي لوزارات الأوقاف في البلاد الإسلامية أن تحافظ على أوقاف الأمة في هذه الحقوق المعنوية وتصونها. بل قد تكون هذه أولى بالصيانة والمحافظة عليها من حقوق استغلال الأملاك المعنوية الموقوفة التي أوقفها من لا يزالون على قيد الحياة مما لاحظنا في الفقرة السابقة. ومن الواضح في هذه الأوقاف أنها على سبيل التأبيد كما تدل صيغة الوقف بنصها في كثير من الأحيان، أو بمضمونها ومحتواها مع معرفة رأي المؤلف التراثي بمسألة تيسير كتب العلم للمتعلم والعالم.
3- وقف حق الطريق
... ومن الحقوق التي ينبغي أن تكون قابلة للوقف حق الطريق. ومثله حق عبور جسر مثلاً وهو حق ارتفاق. فمن المعروف أن حق الطريق حق مالي قابل للتقويم والمعاوضة. ولقد ورد في الفقه التراثي وقف حق الطريق للمسجد والمقبرة. ويمكن أن يتخذ وقف حق الطريق في عصرنا إحدى صورتين.(1/38)
... الصورة الأولى أن ينشئ مالك عقار حق طريق في عقاره، وهو حق جديد لم يكن موجوداً من قبل. كأن يوجد في منطقته مسجد له طريقه الخاص به. ولكن صاحب أرض ملاصقة للمسجد يرغب أن ينشئ حق ارتفاق في أرضه يكون طريقاً أقرب لهذا المسجد، ولا يريد أن يوقف عين أرض الطريق، ويرغب أن يلزم نفسه وورثته بهذا الحق بحيث لا يستطيع أحد أن يلغيه بعد موته مثلاً. وحق الطريق هذا لا يمنع المالك من التصرف بملكه كل أشكال التصرفات مع المحافظة على الحق لأصحابه (وهم العابرون إلى المسجد). فيمكن مثلاً أن يقيم بناء عظيما ويجعل ضمنه ممراً إلى المسجد.
... والصورة الثانية أن يكون حق الطريق مملوكا لشخص غير مالك الأرض فيرغب في ثواب وقفه في وجه من وجوه البر، نحو عبور أطفال إلى مدرسة يختصر فيه عليهم طريقاً بعيداً.
... وفي كلتا الصورتين يمكن أن يكون الوقف مؤبداً أو موقتاً. ويكون التوقيت إما بزمن محدد، سنة أو عشر سنوات، أو معلقاً على واقعة آيلة للحدوث. كأن يكون وقف حق الطريق للمسجد إلى أن تفتح البلدية الشوارع المحيطة، فيُستغنى عن ذلك المعبر.
... ويتفرع على هاتين الصورتين صور عديدة أخرى تأخذ بعين الاعتبار وقائع مستجدة في حق الطريق أو حق العبور. ففي كثير من البلدان توجد اليوم طرق وجسور مملوكة لشركات خاصة، وأحيانا لبلديات أو لحكومات. ويكون العبور عليها بثمن محدد. فيمكن للشركة المالكة أن توقف حق العبور هذا أو جزءاً منه لوجوه البر.(1/39)
ويمكن أن يتخذ هذا الوقف صوراً فرعية عديدة نذكر منها. العبور مجاناً لجميع السيارات الذاهبة إلى مكان معين، نحو مسجد مثلا. والعبور مجانا لسيارات الإسعاف والإطفاء وسيارات دور العجزة ودور الأيتام وغيرها من سيارات الخدمة العامة الطارئة. والعبور مجاناً لبعض العابرين كالمسنين والمعاقين. والعبور مجانا في ساعات معينة، نحو ساعة ما قبل صلاة الجمعة وساعة ما بعدها مثلا. ومثل وقف العبور المجاني، وقف العبور بثمن مخفض. وكل ذلك يمكن أيضاً أن يكون دائماً أو موقتاً، وبخاصة أن بعض هذه الملكيات نفسها (الطريق والجسر) كثيراً ما تكون في نفسها ذات طبيعة موقتة - تؤول الملكية فيها للحكومة أو البلدية بعد فترة من الزمن - هي سنوات الامتياز الذي تحصل عليه الشركة التي بَنَتْ الطريق أو الجسر. وكثيراً ما يلغى رسم العبور أصلا بعد تملك الحكومة للطريق أو الجسر.
... ولماذا لا تعامل جميع هذه الصور معاملة الوقف، طالما أن المتصدق يرغب بجعلها كذلك؟. فهو يرغب أن يجعلها وقفا يقيد المالكين اللاحقين، من ورثة أو غيرهم، بحق الارتفاق الموقوف هذا، مؤبداً أو إلى مدته، وأن يستفيد أيضاً مما يمكن أن يكون للوقف من مزايا قانونية وضريبية بقدر ما يقدمه لوجوه البر العامة.
4- وقف الخدمات
... ومما يشبه حق الطريق، الحق بمنفعة أو خدمة معينة. مثل وقف خدمة معينة لأشخاص بأعيانهم أو بأوصافهم على سبيل التأبيد أو التوقيت. ويمكن أن يتخذ وقف الخدمة هذا صوراً عديدة نذكر منها ما يلي:
... وقف خدمة نقل أو شحن المصاحف والكتب العلمية مجاناً إلى المساجد والمكتبات. ويمكن أن يقدم هذه الخدمة أي ناقل، نحو شركات الطيران، والسكك الحديدية، والخطوط البحرية، ومؤسسات النقل البري، ومؤسسات البريد، سواء أكان الناقل في القطاع الخاص فيكون فعله وقفاً عادياً، أم في القطاع العام فيكون فعله نوعاً من الإرصاد.(1/40)
وقف خدمة نقل الأشخاص وهو مثل وقف خدمة نقل الأشياء، ويمكن أن يكون ذلك لأشخاص يحدَّدون بأوصافهم كالشيوخ، والمعاقين، والحوامل...
وقف خدمة مجانية بدخول بعض الأمكنة الترفيهية التي يكون دخولها عادة مأجوراً، لأشخاص يعرفون بأوصافهم أيضاً. مثال ذلك وقف خدمة دخول حدائق الحيوان، ودور الألعاب الترفيهية، ودور السينما مجانا للزَّمنى، أو المعاقين، أو الأطفال، أو اليتامى، أو غير ذلك حسبما يشترطه الواقف.
ويشبه وقف الخدمة أيضاً وقف الاشتراك بالنوادي الرياضية والترفيهية. ووقف الاشتراك بالنادي يمكن أن يكون مؤقتاً أو دائماً مؤبداً حياة المستفيد أو قد يورث عنه. كما يمكن تحديد الموقوف له بصفته فيكون لعشرة تلاميذ في مدرسة معينة، أو لعشرة أطفال في ميتم معين مثلا. وبذلك يمكن أن يكون هذا الوقف ذرياً أو خيرياّ حسبما يحدده الواقف من شروط.
5- وقف حقوق ارتفاق أخرى
... وهناك حقوق ارتفاق أخرى تشبه حق الطريق يمكن أيضا وقفها. منها مثلاً وقف حق استعمال أرض كمصلى لصلاة العيد لمدة ساعتين مثلاً في كل من صلاتي الفطر والأضحى. فهذه الأرض لا يحتاجها المصلون إلا لهذه الساعات القليلة في العام كله. فيحبس مالكها حق الارتفاق هذا بقدر الحاجة إليه دون أن يحبس رقبة الأرض ولا حق استعمالها في الأوقات الأخرى، ودون أن يحرم ورثته من التسلط على ما يمتلكون بالإرث، مع مراعاة حق الموقوف عليهم فيها. فتكون للأرض استعمالات أخرى في الأوقات الأخرى لا تتعارض مع كونها مصلى العيد، كأن يستغلوها موقفا للسيارات، أو مكانا للمعارض التجارية، أو ملاعب لكرة القدم، أو حتى يقيمون عليها ناطحات السحاب، ويتركون أحد أدوارها، أو أكثر، قاعة كبيرة لتنفيذ شرط الواقف بحق الارتفاق هذا.
ويمكن لهذا الوقف أن يكون مؤبدا أو موقتا حسب إرادة الواقف. ثم قد تنقضي الحاجة إليه ويوجد بديل عنه بعد سنوات مثلا، فيكون التوقيت بمدى الحاجة، إذا نص على ذلك الواقف ضمن شروطه.(1/41)
... ويشبه حق الصلاة في مصلى العيد تحبيس حق وقوف السيارات في مكان معين لأغراض معينة. فيمكن مثلاً لمالك موقف للسيارات، سواء أكان أرضياً أم في طبقات معمَّرة ضمن عمارة، أن يحبس حق إيقاف سيارات المصلين في مسجد قريب يوم الجمعة لمدة ساعتين، أو حق إيقاف سيارات محددة بأوصافها أو أوصاف سائقيها أو مالكيها، أو ركابها. ويمكن أن يكون هذا الوقف مؤبداً أو موقتا بزمن يحدده الواقف للسنة والسنتين، أو يتحدد بواقعة معينة، نحو توفر موقف محبّسةٌ أرضه لمصلى المسجد، أو فتح شارع، أو انهدام عمارة، الخ.
6- وقف منافع
... وهناك أيضاً وقف المنافع. وقد رأينا جواز الوصية بالمنافع وأنها تحسب من الثلث. أما تحبيس المنافع فلم يرد في أذهان الفقهاء إلا ما يتضمنه معنى الوقف نفسه، لأنه حبس العين وتسبيل المنافع أو الثمرات والغلال. فالوقف مقصوده هو تسبيل المنافع لوجوه البر. وبنفس المقولة فإن حبس المنفعة لمدة محددة من قبل مالك العين ما هو إلا ند للوقف الموقت عند من قال بالوقف الموقت. ولكنه في الحقيقة يختلف عنه من حيث الصيغة القانونية وما قد ينشأ عن ذلك من اعتبارات تتعلق بالضرائب والشخصية المعنوية المستقلة عن العين، ونحو ذلك.
... ولكن المنافع يمكن أن يملكها غير مالك العين كما في الإجارة، وهبة المنفعة، والوصية بالمنفعة، والعمرى عند من يقول بها. فإذا ملك شخص منفعة عين لمدة محددة بالوحدات الزمنية أو بعمر العين أو بعمر مالك المنفعة، دون أن يملك العين نفسها، فإن القول يرد بإمكان حبس هذه المنفعة على وجوه البر، كمن يستأجر بناء لمدة عشر سنوات فيجعل ما ملك مسجداً للناس، أو يملك منفعة حيوان فيجعلها لنقل الحجاج، أو منفعة دارٍ لسنة فيجعلها لمبيت ابن السبيل مثلا.
7- صور للوقف شبيهة بوقف المنافع(1/42)
... وهناك صور أخرى شبيهة بوقف المنافع يمكن تمثيلها بخدمات الهاتف. فيقوم شخص بشراء خدمة هاتف محلي مثلاً من بائع خدمات الهاتف لمدة عشر سنوات أو على سبيل التأبيد، ثم يوقف الخدمة الهاتفية التي اشتراها لصالح مستشفى مثلاً، أو دار للأيتام، أو مكتبة عامة.
... ويشبه وقف الخدمة الهاتفية وقف خدمات أخرى مثل وقف خدمة الماء (1) . بحيث يشتري شخص من شركة توريد المياه مقداراً محدداً دورياً من الماء ويوقفه، مؤبداً أو مؤقتاً، لوجه من وجوه البر العامة. (2) ومثلها ما يمكن أن ينطبق على مقدار معين دوري من كيلواط الكهرباء، فيكون وقفا للكهرباء وكذلك وقف خدمة جمع القمامة والتخلص منها، عندما يتم جمعها والتخلص منها مقابل أجور معلومة كما هو الشأن في مدن كثيرة.
كل ذلك وكثير مما يشبهه ويقاس عليه تكون فيه المنفعة أو الخدمة هي موضوع الوقف وهي وجوه بر كثيرة تتضمن معنى وقفيا - موقتا أو مؤبداً - وينبغي أن تنظم فقهاً حتى يمكن تشجيع أعمال البر، وإتاحة الفرصة للمحسنين ليستفيدوا مما قد تقدمه القوانين من مزايا للأموال الوقفية بما في ذلك ما يتعلق بالإعفاءات والتخفيضات الضريبية.
... وإذا لاحظنا أن مثال وقف كمية معينة من الماء يتضمن عيناً وليس منفعة في الحقيقة، فهو مثل درِّ الشاة، ولكن دون شاة... ويمكن أن يكون مثل ذلك أيضاً وقف أعيان دورية مستقبلية، مما لا ينتجه الواقف، على سبيل التوقيت أو التأبيد. مثاله وقف المجلات العلمية على المكتبات ودور العلم. فيوقف محسن أعداداً مستقبلية لمجلة ما لمدة عشر سنوات، أو على سبيل التأبيد على مكتبة معينة، بحيث يشتري الواقف هذا الحق بمبلغ معين ممن يصدر المجلة الدورية.
النتائج والتوصيات
__________
(1) ... استعملنا تعبير خدمة الماء لما تتضمنه من توصيل الماء إلى مكان استعماله وذلك من خلال الأنابيب والآلات المملوكة لمنتج الخدمة.
(2) ... وهو أمر يمارس فعلاً في بعض بلدان المسلمين، منها دمشق، ويمكن تعميمه في أي مكان آخر.(1/43)
... بينت في هذه الورقة أن الخط العام الذي انتهجته هذه الدراسة يركز على قضية مهمة، هي حاجة مجتمعاتنا إلى تنمية وتوسيع وتعميق الفكرة الوقفية وتطبيقاتها. وإن الانطلاقة الفكرية الفقهية تشكل الدافع الأهم لتطوير نظرتنا إلى الوقف الإسلامي وجعله نبراسا للعمل الاجتماعي العام خارجا عن إطار القطاع الحكومي وبنفس الوقت متعاونا ومكملا له. وإذا أرادت أمتنا للوقف أن يقوم بدور يماثل دوره التاريخي المجيد فلا بد من توسيع الإطار الفقهي للوقف وتطويره بما يناسب العصر نتيجة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الكثيرة التي حصلت خلال القرنين الماضيين.
... ولقد عالجت قضية تطوير فقه الوقف لإيجاد صور وقفية جديدة تتناسب مع الحياة والحاجات المعاصرة، الأمر الذي يعتبر عنصراً مهما في إعادة مسيرة الوقف الإسلامي إلى دورها البنّاء في تحقيق الأهداف الخيرية الاجتماعية التنموية والتشجيع على قيام أوقاف جديدة. ولقد عرضنا صوراً وقفية جديدة كثيرة، هي في حقيقتها من أعمال البر والخيرات والقربات التي تحث عليها الشريعة الغراء وتشجعها، وإن كان الفقه التقليدي لم يعالجها!
... ولا بد من القول أن التطبيق الإسلامي كان سباقا في ابتكار الوقف الأهلي، واعتباره وجها من وجوه البر، يمنحه كل ما يمكن أن يمنحه القانون من رعاية وتشجيع. ولقد نبَغَ في ذلك الفقهُ الإسلامي، فأقام البنيان النظري لذلك السبق التطبيقي.(1/44)
... ولقد تميز الفقه الإسلامي بقضيتين أخريين: أولاهما التفصيل في أنواع البر وأحكام تحبيس الأموال من أجله، وبخاصة ما يؤكده جمهور الفقهاء من إلزام الوقف (1) فالوقف إذا انعقد التصريح به، أو تم حوزه من قبل الناظر، صار ملزما لا رجعة فيه، إلا بقدر ما استثنى الواقف في وثيقة الوقف نفسها. وأما الثانية فهي ما قُيِّد فيه ناظر الوقف أو متوليه من قيود، لا تمكنه من التصرف بعين الوقف، كما تفرض عليه تعظيم انتفاع الغرض الموقوف عليه. بل قد ذهب فقهاؤنا رحمهم الله إلى أبعد من ذلك، فأبطلوا شرط الواقف بعدم عزل الناظر لو أساء، أو بعدم خضوعه لرقابة القضاء وإشرافه عند الحاجة لذلك (2) .
... وفي مقابل ذلك، فإن قوانين أخرى كالقانون الأمريكي مثلا لم تشترط في كثير من أنواع الأوقاف نفس الخصائص الوقفية التي اشترطتها الشريعة الغراء. فالمساجد، والكنائس، ومعظم العقارات، والأموال الثابتة، التي تملكها الجمعيات الدينية والخيرية والعلمية، وغيرها من الهيئات التبرعية غير الحكومية، كلها لا تتمتع بالصفة الوقفية المؤبدة، إلا إذا نص الواقف على ذلك في سجلها العقاري، إذا كانت عقارا، أو أُنشِئت لها Foundation، وذكر في عقد إنشائها أنها لا تملك الأصول الثابتة إلا على سبيل النظارة أو الأمانة. وينتج عن ذلك نتيجة خطيرة هي أنه في الكثرة الغالبة جدا من الحالات تستطيع إدارة الجمعية الدينية - من الوجهة القانونية - أن تبيع المسجد (3) ، وتنفق ثمنه على إقامة الحفلات والمهرجانات مثلا، كما يستطيع دائنوها - ولو بدين ناشئ عن الفعل الضار - مقاضاتها، وحجز المسجد، وبيعه للوفاء بالدين. كما تستطيع الجمعية رهنه أو التصرف به أي تصرف آخر، مما يتصرفه المالك بملكه.
__________
(1) الزرقا، ص 17 ـ 18 و 88 ـ 91.
(2) الزرقا، ص 120.
(3) أو الكنيسة أيضا بالنسبة للجمعيات الكنسية.(1/45)
... وأخيرا، فإننا نعتقد أن تهيئة الإطار الفقهي والقانوني هو من المقدمات الضرورية لنمو الوقف وإنشاء أوقاف جديدة وتوسعها وازدهارها. فإذا أردنا أن يعود للأوقاف دورها التاريخي في رعاية جوانب مهمة من الحاجات التعليمية والاجتماعية وغيرها. وأن نشجع إنشاء أوقاف جديدة تتحمل هذه المسؤولية، ويكون لها دور مهم في استمرارية تقوية النشاط الاقتصادي التنموي نفسه أيضا، فإن من أوائل الخطوات العملية التي لا بد منها وضع نظام قانوني / فقهي جديد للأوقاف يراعي هذه الحاجات والصور المعاصرة.
والله هو الهادي إلى سواء السبيل،،،
... ...
المراجع
1) محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي، القاهرة 1971.
? مالك، دار الفكر العربي، القاهرة 1952.
2) الأمانة العامة للأوقاف ـ دولة الكويت: رؤية استراتيجية للنهوض بالدور التنموي للوقف؛ دراسة مقدمة لمؤتمر وزراء الأوقاف في العالم الإسلامي، ربيع الآخر 1417هـ.
3) حسن عبد الله الأمين، محررا، إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة 1989م.
4) شرح الحطاب لمختصر خليل، دار الفكر، بيروت 1992.
5) محمد عبد الرحيم الخالد، أحكام الوقف على الذرية، الناشر هو المؤلف، مكة المكرمة 1417 ... هـ.
6) الرافعي، فتح العزيز شرح الوجيز مطبوع بحاشية المجموع.
7) ابن رشد، بداية المجتهد ـ دار المعرفة، بيروت 1988.
8) حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، دار الفكر، بيروت 1978.
9) مصطفى الزرقاء، أحكام الأوقاف، مطبعة الجامعة السورية، دمشق 1947.
10) منذر قحف، النصوص الاقتصادية في القرآن والسنة، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة 1995.
? سندات الإجارة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة 1995.
? الوقف وتطبيقاته في أمريكا الشمالية ورقة (باللغة الانكليزية) غير منشورة 1996.(1/46)
? " الوقف " في دائرة معارف العالم الإسلامي الحديث لأكسفورد، 1995م، ج4. (باللغة الإنكليزية).
11) ابن قدامة، المغني، ج5.
12) العياشي الصادق، فداد : "فقه الوقف" بحث قدم في ندوة الزكاة -والأوقاف - الكونغو، رجب 1417هـ بتنظيم المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب.
13) محمد الكبيسي، "مشروعية الوقف الأهلي ومدى المصلحة فيه" ضمن وقائع ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي، معهد البحوث والدراسات العربية، بغداد 1983.
14) مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، جدة مجلة المجمع، العدد السابع، والعدد الرابع.
15) رفيق المصري، "المضاربة بالأصول الثابتة"، مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، المجلد 3، العدد 1، 1405هـ.
16) محمود أحمد مهدي، محررا، دور الأوقاف الإسلامية في المجتمع المعاصر، وقائع ندوة الأوقاف، الخرطوم 20 - 23/5/1415هـ.
17) النووي، المجموع، شرح المهذب.
18) الونشريسي، المعيار المعرب، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1981.
19) زهدي يكن، الوقف في الشريعة والقانون، دار النهضة العربية، بيروت 1388هـ.
20) Encyclopedia Americana,1994, V 7, 8 and 27
21) V 3 1995, Britanica, The New Encyclopedia(1/47)