الدورة التاسعة عشرة
إمارة الشارقة
دولة الإمارات العربية المتحدة
وقف الأسهم والصكوك
والمنافع والحقوق المعنوية
التأصيل – التطبيق – الأحكام
إعداد
د.عادل بن عبد القادر بن محمد ولي قوته
قسم الشريعة والدراسات الإسلامية – كلية الآداب
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
سم الله الرحمن الرحيم
فهرس الموضوعات الرئيسة
مقدِّمة ... 4
تمهيدٌ في بيان شذرةٍ من المقاصد والمبادئ الشرعية في عقد الوقف ... 6
تعريف الوقف ... 9
ضابط ما يصحُّ وقفه = حدُّ المال الموقوف ... 11
وقف الصكوك والسندات ... 15
تطبيقاتها في تمويل الأوقاف وإعمارها واستثمارها ... 15
تطبيق وقف الأسهم : ... 17
المسار الأول – التكييف والحكم ... 17
المسار الثاني : الوقف الجماعي : التأصيل – والتكييف والحكم ... 20
صور وتطبيقات الوقف الجماعي ... 22
حكم وقف الصكوك والأسهم المحرمة ... 24
تعريف المنافع وتموُّلها ... 27
وقف المنافع وتحبيسها ... 27
تأصيل مشروعية وقف المنافع ، وصحة توقيت الوقف ... 28
المنافع التي يصحُّ وقفها ... 30
حكمة الوقف بين التأبيد والتوقيت ... 30
صور وتطبيقات لوقف المنافع ... 31
مفهوم " الحق المالي " وتموُّله واعتباره ... 33
الحقوق المعنوية : مفهومها وتموُّلها ... 36
وقف الحقوق المعنوية ... 38
صور وتطبيقات وقف الحقوق المعنوية ... 39
تساؤلاتٌ وأجوبة مقترحة ... 42
مشروع قرارٍ مقترحٍ في وقف الأسهم والصكوك والمنافع والحقوق المعنوية ... 44
تمهيد
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فقد كشف تأمل التاريخ الاقتصادي والحضاري والعلمي لنظام الوقف في الإسلام = أن اجتهادات الأئمة الفقهاء في بيان المال الذي يسوغ وقفه ويصحُّ كونه محلاًّ للوقف = اتسمت بالتوسع والمدِّ ؛ لتشمل في كل دورةٍ حضاريةٍ ، أنواعاً جديدةً من الموقوفات والأحباس .(1/1)
فالوعاء الاقتصادي لما يصحُّ وقفه وتحبيسه : بدأ بالأموال الثابتة ، من الأراضي والعقار ، ثم اتسع ليشمل وقف الأموال المنقولة ، ثم دخل " وقف النقود " ، وما يجري به العرف ، ولو كان مما يستهلك .
ثم استحال الوعاء غَرْباً ، فامتدَّ ليشمل كلَّ مملوكٍ ، متموُّلٍِ عرفاً ، متقوَّمٍ شرعاً، فشمل وقف الحصص والأسهم ، ووقف الصكوك المباحة ، ووقف المنافع والحقوق المعنوية ، والوقف الجماعي المشترك .
وبدعوةٍ كريمة مقدَّرةٍ مشكورةٍ من معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، الأستاذ الدكتور عبد السلام العبادي حفظه المولى ، للكتابة في موضوع :
" وقف الأسهم والصكوك ، والمنافع ، والحقوق المعنوية "
جرى إعداد هذا البحث ، تحت هذا الموضوع ، من خلال المذاهب الفقهية ، ونصوص الفقهاء ، ومقاصد الشريعة ، وعلل الأحكام ، والاعتبار ، وتأصيل ذلك ، وذكر الصور والتطبيقات ، والتعرُّض لبعض مشكلاته ، ومحاولة الإجابة الراشدة عليها .
أحمد الله سبحانه وتعالى على ما وفَّق وهدى . اللهم أنت المرجوُّ المسئول أن تبلِّغنا أملنا، وتصلح قولنا وعملنا ، وتجعل سعينا مقرِّباً إليك ، نافعاً برحمتك لديك . اللهم اغفر لي ولوالدي ولمشايخي ولمن له حقٌّ علي ، ولجميع المسلمين . اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا وسيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
وكتبه :
د.عادل بن عبد القادر قوته
قسم الشريعة والدراسات الإسلامية
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
ليلة الخميس 10 صفر 1430هـ
5 فبراير 2009م
تمهيدٌ في بيان
شذرةٍ من المقاصد والمبادئ الشرعية في عقد الوقف
1- من الضروري المقرَّر : أن حفظ الأموال من قواعد كليات الشريعة ، وأن نظام نماء الأموال ، وطرق دورانها ترجع إليه جملة مسائل التشريع المالي .(1/2)
والمقصد الأهم في ذلك كلِّه = حفظ مال الأمة وتوفيره لها ، وحصوله حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه ، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد ، وأساليب إدارتها؛ فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزئياته .
فالمال الذي يتداول بين الأمة وينظر إليه على وجه الجملة ، حقٌّ للأمة ، عائدٌ عليها بالغنى عن الغير .
ومن شأن الشريعة أن تضبط نظام إدارته بأسلوبٍ يحفظه موزَّعاً بين الأمة قدر المستطاع ، وأن تعين على نمائه في نفسه أو بأعواضه ، بقطع النظر عن كون المنتفع به مباشرةً أفراداً خاصة ، أو طوائف أو جماعاتٍ صغرى أو كبرى .
ومن أهم جهات توازن الأمم في السلطان على هذا العالم : جهة الثروة ، فبنسبة ثروة الأمم إلى ثروة معاصريها من الأمم تعدُّ الأمة في درجةٍ مناسبةٍ لتلك النسبة في قوتها ، وحفظ كيانها ، وتسديد مآربها ، وغناها عن الضراعة إلى غيرها (1) .
2- عقود التبرعات قائمةٌ على أساس المواساة بين أفراد الأمة ، الخادمة لمعنى الأخوة ، فهي مصلحةٌ حاجيةٌ جليلةٌ ، وأثر خلقٍ إسلاميٍّ جميلٍ ، فبها حصلت مساعفة المعوزين، وإغناء المقترين ، وإقامة الجمّ من مصالح المسلمين .
ورأس عقود التبرعات وأبعدها مدىً وأثراً وعائدةً هي الأوقاف والحُبُس ، فالمقصود منها : التمليك والإغناء ، وإشاعة البرّ والمعروف ، وإقامة المصالح العامة للأمة .
3- ومن مقاصد الشريعة في الأوقاف والحُبس :
التكثيرُ منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة ، ودلَّت أدلة الشريعة على الترغيب فيها . فجعلتها من العمل غير المنقطع ثوابه بعد الموت : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية ... الحديث " ( مسلم : 1631 ) .
والصدقات الجارية والأوقاف التي كانت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن أصحابه - رضي الله عنهم - كثيرةٌ، انتفع المسلمون بآثارها .
__________
(1) ) ... 1 : مقاصد الشريعة / للإمام ابن عاشور : 455-456 ، مجموعاً باختصار .(1/3)
4- التوسُّع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرِّعين ، ووجه هذا المقصد : أن التبرُّع بالمال عزيزٌ على النفس ، فالباعث عليه أريحيةٌ دينيةٌ ، ودافعٌ خلقيٌّ عظيم ، وهو مع ذلك لا يسلم من مجاذبة شح النفوس تلك الأريحية وذلك الدافع في خطراتٍ كثيرة { الشَيْطَانُ يَعِدُكُمْ الفَقْرَ } [ البقرة 268 ] . وفي التوسُّع في كيفية انعقاد التبرُّعات خدمةٌ للمقصد الأول من التكثير منها (1) .
5- عقود التبرُّعات لا يؤثر في صحتها الجهالة ، ولا يجتنب فيها الغرر ، وتقرير ذلك :
أن ما يجب تجنب الغرر والجهالة في إنشائه من التصرفات هو عقود المعاوضات ، والتصرفات التي يقصد بها تنمية الأموال وتحصيلها .
وأن ما هو إحسانٌ صِرْفٌ لا يقصد به ذلك – هو عقود التبرعات – فاقتضتْ حكمة الشرع وحثُّه على الإحسان : التوسعة فيه بكلِّ طريق ، بالمعلوم والمجهول ، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعاً ، وفي المنع من ذلك وسيلةٌ إلى تقليله .
وأيضاً : أن هذه التصرفات من التبرعات ، إن فاتت على مَن أُحسن إليه بها لا ضرر عليه ، فإنه لم يبذل شيئاً مقابلها .
بخلاف المعاوضات : إذا فاتت بالغرر والجهالة ضاع المال المبذول في مقابلتها (2) .
6- مما ينبغي التذكير به ، واستصحابه – هنا في هذا الموضوع – أن موضوع الوقف في حقيقته وطبيعته : معقول المعنى ، وهو في آثاره ونتائجه : مصلحيُّ المقصد والغرض .
وعليه : فإن معظم أحكام الوقف اجتهاديةٌ ، للرأي فيها مجالٌ ، وللنظر فيها وفي تجديدها مدىً وسبحٌ طويل .
__________
(1) ... 2، 3 ، 4 : مقاصد الشريعة / ابن عاشور ، 487-492 باختصار ، وقد عرَّف المواساة بأنها : " كفاية حاجة محتاج الشيء ، مما به صلاح الحال " ، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام / ابن عاشور : 221 .
(2) ... انظر : الفروق : 1/347-348 ، الفرق : 24 ، البهجة شرح التحفة : 2/250 ، الغرر وأثره في العقود : 585-586 .(1/4)
وجملة أحكام الأوقاف الفقهية ، منها : ما أخذ من النصوص العامة التي تأمر بالإنفاق في سبل الخير ، وبصيانة الحقوق وأداء الأمانات ، ومنها : ما استنبط من بعض نصوص السنة القولية أو العملية .
ومنها – وهو الأغلب الأكثر : أحكامٌ بُنيتْ على القواعد الفقهية العامة ، بطريق القيام على أشباهها في العلل ، أو على المصالح المرسلة المبتدئة ، أو على الأعراف والعوائد وأنواع التعامل (1) .
تعريف الوقف :
لعلَّ أسلم التعريفات لحقيقة الوقف ، وبيان طبيعة عَقده ، وأكثرها صلوحاً لغرض هذا البحث ومقصده ، من التحقيق لفقهه والمدِّ لأثره = هو أحد التعريفين التاليين :
أ " تحبيس الأصل ، وتسبيل الثمرة " (2) :
التحبيس : الإمساك ، من الحَبْس وهو المنع ، والأصل : ما يصحُّ وقفه ، من ذات = عين ، أو منفعة ، ومن كلِّ متموَّلٍ يمكن الانتفاع به ، مباحٍ في الشرع ، ويكون المراد بالأصل – هنا – ما هو أعمّ من أن يكون مادياً حقاً عينياً ، أو معنوياً ، من كلِّ مالٍ متقوَّمٍ .
التسبيل : إطلاق فوائد الأصل الموقوف ، من ريعٍ وغلةٍ ونفعٍ وعائدةٍ ، ونحو ذلك ، وهي المعبَّر عنها بالثمرة في هذا التعريف .
__________
(1) ... انظر : إعمال المصلحة في الوقف / سيدي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه : 18 ، أحكام الأوقاف/ الزرقا : 19-20 ، مع تصرُّفٍ واختصار .
(2) ... هذا التعريف للإمام الموفق في المغني ( 6/184 ) ، وعرَّفه في المقنع بقوله : " .. وتسبيل المنفعة " ( المقنع مع الشرح والإنصاف : 16/361 ) وهو التعريف الذي اختاره وانتهى إليه د.محمد الكبيسي في كتابه أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية ، بعد استعراضه جملة تعريفات المذاهب ومناقشتها ( 1/85-88 ) .(1/5)
وفي هذا التعريف الجمع بين لفظتي التحبيس والتسبيل ، الواردتين في قوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - : " احبس أصلها ، وسبِّل ثمرتها " (1) . والمراد بيان حالتي الابتداء والإنشاء، والاستمرار والدوام ؛ فإن حقيقة الوقف ابتداءً : تحبيسه ، ودواماً : تسبيل منفعته.
ب-" حبس متموَّلٍ مباحٍ ، ولو لمدةٍ ، على المقاصد المعتبرة " (2) :
الحبْس : المنع ، يقال : حَبستُ أحبس حبساً ، وأَحبستُ أحبس أحباساً ، أي : وقفتُ، فهو محبَّسٌ وحبيسٌ ، يقع على كلِّ شيءٍ وقفه صاحبه وقفاً محرَّماً ، والجمع : حبائسُ وأحباسٌ وحُبُس .
متموَّلٍ : أي جرى العرف بعدِّه مالاً ، مباحٍ : أي أن الشرع أباحه ، أو لم يأت بالمنع منه.
ولو لمدَّةٍ : ليدخل فيه صحة الوقف المؤقت ، ويأتي تفصيله .
المعتبرة : أي المعتبرة شرعاً ، على اختلاف وتنوع جهات البرِّ وصنائع المعروف .
هذا . ويندرج في التعبير بـ " الأصل " في الحدِّ الأول ، والمتموَّل المباح في الثاني : وقفُ الأسهم والصكوك والمنافع والحقوق المعنوية ؛ لأن لها غلَّةً وريعاً ، ولأنَّ لها معنىً اعتبارياً في حكم الأصل ؛ فإن أثر الملك الأول – وهو القدرة على التصرُّف - قائمٌ فيها ، وهي مما يعبَّر عنه بـ " المنقولات المعنوية " أو " القيم المنقولة " .
__________
(1) ... هذه رواية النسائي ( 6/232 ) وابن ماجه ( 2396 ) ، وأصل الحديث متفقٌ عليه من حديث سيدنا عمر - رضي الله عنه - ، البخاري ( 2737 ) ، مسلم ( 1632 ) ، وانظر : فتح الباري : 5/400-401 .
(2) ... هذا التعريف من إنشاء راقم هذا البحث ، مقتبساً من جملة ما وقفتُ عليه من تعريفات ، مشيراً إلى الأقوال المرجَّحة ، من اتجاه الموسِّعين فيما يصحُّ وقفه ، وفي شرح التعريفين السابقين – انظر : المصادر السابقة ، مطالب أولي النهى : 4/271 ، حاشية ابن قاسم على الروض : 4/97-98 ، حاشية الدسوقي : 4/76 ، شرح منح الخليل : 4/34 .(1/6)
ضابط ما يصحُّ وقفه = حدُّ المال الموقوف (1) :
المبدأ الفقهي المقرَّر : أن محلَّ التصرف المشروع ينبغي أن يكون قابلاً لثبوت حكم التصرف المراد وأثره ، ومقاصد الشرع منه .
وبناءً عليه : كانت الشرائط المطلوبة في المال الموقوف تُستمد من الحكم المترتب على الوقف ومقاصد الشرع فيه ، التي عبر عنها أوضح تعبيرٍ وأوفاه ، قوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - " احبس أصلها ، وسبِّل ثمرتها " .
واستصحاباً لمقصد هذا البحث ، ورعياً لما سبق ، فإن أوسع المذاهب الفقهية في بيان ما يصحُّ وقفه – هو المذهب المالكي – وقد ذكرت مدوَّناتُه جملة تعريفاتٍ وحدودٍ لما يصحُّ وقفه (2) – لعل أوجزها وأجمعها ، وأسلمها من الانتقاد ، إضافةً إلى نصاعته ووضوحه – هو التعريف التالي :
" الموقوف : ما مُلِكَ " (3)
__________
(1) ... في تفصيل المذاهب والاختيارات ، انظر : حاشية ابن عابدين : 3/370-375 ، شرح فتح القدير: 5/35-37 ، روضة الطالبين : 5/314-315 ، مغني المحتاج : 2/377 ، كشاف القناع : 4/243-244 ، وجملة ذلك ، مع مناقشته في : أحكام الوقف / الكبيسي : 1/351-392 ، والموسوعة الفقهية : 24/161-172 ، وانظر أيضاً : المصادر الآتية .
(2) ... أشهرها تعريف الإمام ابن عرفة ، انظره مع شرح الرصاع على حدوده : 2/539-542 ، راجع مناقشته في المصادر الآتية .
(3) ... هذا التعريف المختار هو للعلامة الدردير في متنه أقرب المسالك : 165 ، وفي شرح هذا التعريف انظر الشرح الصغير مع حاشية الصاوي : 4/97-102 ، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي : 4/75-77 ، البهجة شرح التحفة : 2/224-225 ، شرح منح الجليل : 4/35-38 ، الفواكه الدواني : 1/244 ، 225 ، 227 ، وما كتب على قول صاحب المختصر : " صحّ وقف مملوكٍ .. ولو حيواناً ورقيقاً .. ، وفي وقف كطعامٍ ترددٌ " ص 285 .(1/7)
... وبيان ذلك : أن ما يصحُّ وقفه هو كلُّ ما يملك ، سواءٌ أكان من الذوات = الأعيان، من أرضٍٍ ، أو دارٍ ، أو حانوتٍ ، أو قنطرةٍ ، أو مصحفٍ ، أو كتابٍ ، أو ثيابٍ ، أو دابةٍ ، وكذا ما يجعل مسجداً أو رباطاً أو مقبرةً ، ويصحُّ أيضاً : وقف المثليات ، ووقف الطعام ، ووقف النقود : للسلف ، إن احتاج إليه محتاجٌ ، وينزل ردُّ مثله أو بدله منزلة بقاء عينه ، وأيضاً : يصحُّ وقف كلِّ ما مُلِك ، ولو كان ذلك المملوك مما لا يجوز بيعه ، ويمثَّل له : بجلد الأضحية وكلب الصيد والعبد الآبق . وأيضاً : ولو كان ذلك المملوك جزءاً مشتركاً شائعاً ، فيما يقبل القسمة (1) .
... وشمل قوله : " ما مُلِك " : التعليق ، كإن ملكت دار فلانٍ فهي وقفٌ .
__________
(1) ... ويجبر عليها الواقف إن أرادها الشريك ، وأما ما لا يقبل القسمة ففيه قولان مرجَّحان ، وعلى الصحة : يجبر الواقف على البيع إن أراد شريكه ، هل يجبر على جعل الثمن في مثل وقفه ، أو لا يجبر على ذلك ؟ قولان ، انظر : الشرح الكبير مع الدسوقي : 4/76 ، وحاشية البناني على شرح الزرقاني : 7/74 ، ومذهب الجمهور صحة وقف المشاع ، على تفصيلٍ في ذلك ، انظر : الموسوعة الفقهية : 44/169-172 ، ويأتي أيضاً .(1/8)
وأراد بـ " ما مُلِك " : ملك الذوات – كما سبق – وملك المنافع : سواءٌ أكانت منفعة عينٍ يملكها الواقف ، كتحبيسه منفعة داره ، أم كانت منفعة عينٍ لا يملكها الواقف ، كمن استأجر داراً مدةً معلومة ، فله وقف منفعتها في تلك المدة ، وينتهي الوقف بانتهائها ؛ لأنه لا يشترط في الوقف التأبيد ، كما يأتي ، ولو اتخذ الموقوف مسجداً ، ففي المدونة : " ولا بأس أن يُكرِي أرضه أن تتخذ مسجداً عشر سنين ، فإذا انقضتْ كان النُّقض للذي بناه " (1) .
هذا. وقد نبَّه العلامة الفقيه الشيخ محمد أبو زهرة إلى أن مذهب مالك بيع الهواء = أي الفراغ ، فوق أرضٍ أو فوق البناء .
وعليه : هل يجوز وقف الهواء في مذهب مالكٍ ، وأجاب : الظاهر أنه يجوز ، وتكون منافع البناء مقسومةً بين مالك الأرض ، والجهة الموقوفة عليها الأرض ، والوقف الذي يتبعه البناء ، وإذا كان في الموضوع نظرٌ فهو من جهة القبض ، فإذا أمكن تمام القبض في هذا فإن الوقف يجوز " (2) .
ومن نصوص الأئمة واختياراتهم ، التي تشهد لهذا الاتجاه الموسِّع ، فيما يصح وقفه :
__________
(1) ... أي : فالمكتري يوقفها مسجداً ، فإذا انقضت العشر سنين ، كان النُّقض ، أي : البناء المنقوض إذا هدم ، للذي بناه ، وظاهره : يفعل به ما شاء ؛ لكون الوقف انتهى أجله ، فلا يعطى حكم أنقاض المسجد المؤبدة ، ونصُّ المدونة نقله في الشرح الصغير : 4/101 ، وشرح منح الجليل : 4/36 .
(2) ... محاضرات في الوقف ص 118 ، ومذهب مالك هو صحة بيع الهواء ، وبيع الهواء فوق الهواء ، انظر ما كتب على قول صاحب المختصر ص 189 : " وهواءٍ فوق هواءٍ ، إن وصف البناء " .(1/9)
1- قول الإمام الفقيه الكبير محمد بن الحسن الشيباني – رحمه الله تعالى - : " ما تعارف الناس وقفه من المنقول فإنه يجوز ؛ استحساناً ، وما لم يتعارف الناس وقفه لا يجوز " (1) .
2- قول الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – لما سئل عن وقف الماء ، فقال : " إن كان شيئاً قد استجازوه بينهم جاز ذلك " (2) .
3- ومن اختيارات شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين – رحمه الله تعالى – في ذلك :
__________
(1) ... هناك نصوصٌ متعددةٌ عن الإمام محمد في هذا التأصيل، انظر : المبسوط : 12/45 ، والهداية : 2/927 ، وجملتها في الرسالة القيمة في جواز وقف النقود ، لشيخ الإسلام في عصره أبي السعود العمادي : 24-27 ، وعلَّق عليها بقوله : " ولا يخفى على أهل الإنصاف أن كلمة " ما " الواقعة في عبارة الإمام محمد - رحمه الله تعالى – ليست عبارةً عن بعض المنقولات المعهودة ولا مخصَّصة بما ذُكر في الأمثلة ، بل هي محرابٌ على عمومها ، حسب عموم ما وقع في حيِّز الصلة من التعارف والتعامل .
... وتخصيص بعض أمثلة الجواز بالذكر ليس لحصر القول بالجواز ، كما أن إفراد بعض أمثلة عدم الجواز بالإيراد ليس لحصر القول بعدم الجواز عليها قطعاً ، بل المراد توضيح حال القسمين بالتمثيل ، على حسب ما اتفق في عصره من التعارف وعدمه .
فلذلك أخذ مشايخ كلِّ عصر ممن سلك مسلكه يعملون بموجب ذلك العموم ، ويجيبون في كلِّ مادةٍ بالإيجاب والنفي حسبما عاينوا في أعصارهم من التعارف وعدمه ، من غير تفرقةٍ بين منقول ومنقول ، حتى إنهم صرحوا بالجواز فيما صرَّح فيه محمد – رحمه الله تعالى – بعدمه – كما في وقف الحيوان والثياب " .
(2) ... قال في أوله : " وأقرب الحدود في الوقف .. " ، وعلَّق عليه صاحب الإنصاف : 16/363 : " فأدخل في حدِّه أشياء كثيرة لا يجوز وقفه عند الإمام أحمد والأصحاب " .(1/10)
- " كلُّ عين تجوز عاريَّتها يصحُّ وقفها " (1) ، وبناءً عليه ، قال بصحة الوقف فيما يلي :
??يصحُّ وقف الكلب المعلَّم والجوارح المعلَّمة .
??وقف ما لا يقدر على تسليمه .
??وقف الدهن على المسجد ليوقد فيه ، والريحان ، ومثلُه : كلُّ طيبٍ ؛ ليشمه أهل المسجد (2) .
??واختار صحة وقف النقود ، لينتفع بريعها في المضاربة ، وتحصل التوسعة بها بالإقراض (3) .
??واختار صحة وقف المنافع (4) .
... ومن كلامه في ذلك : " ولو وقف منفعة يملكها ... كمنفعة العين المستأجرة ، فعلى ما ذكره أصحابنا لا يصح ، وعندي : هذا ليس فيه فقهٌ ، فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس ، ولا فرق بين وقف ثوبٍ على الفقراء يلبسونه ، أو فرسٍ يركبونها ، أو ريحانٍ يشمه أهل المسجد ، وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها ، فعلم أن الطيب منفعة مقصودة ، لكن قد يطول بقاء مدة التطيب وقد يقصر ، ولا أثر لذلك " .
- واختار صحة تعليق الوقف على شرطٍ ، وإلى صحة اشتراط الواقف في وقفه : أن يبيعه أو يهبه أو يرجع فيه متى شاء (5) .
__________
(1) ... قال في أوله : " وأقرب الحدود في الوقف .. " ، وعلَّق عليه صاحب الإنصاف : 16/363 : " فأدخل في حدِّه أشياء كثيرة لا يجوز وقفه عند الإمام أحمد والأصحاب " .
(2) ... الاختيارات : 170-171 ، والإنصاف : 16/377 ، 379 .
(3) ... قال في أوله : " وأقرب الحدود في الوقف .. " ، وعلَّق عليه صاحب الإنصاف : 16/363 : " فأدخل في حدِّه أشياء كثيرة لا يجوز وقفه عند الإمام أحمد والأصحاب " .
(4) ... قال في أوله : " وأقرب الحدود في الوقف .. " ، وعلَّق عليه صاحب الإنصاف : 16/363 : " فأدخل في حدِّه أشياء كثيرة لا يجوز وقفه عند الإمام أحمد والأصحاب " .
(5) ... مجموع الفتاوى : 31/25 ، نظرية العقد / قاعدة في العقود / له : 226 ، الإنصاف : 16/387، 397 ، 400-401 .(1/11)
وجليُّ بيِّنٌ مما تقدَّم وتقريره ، أن حدَّ المال الذي يصحُّ وقفه بـ " ما مُلِك " يشمل : كلُّ متموَّلٍ عُرفاً ، لم يأت الشرع بالمنع منه ، ومن ذلك ما إليه يساق حديث هذا البحث ، من وقف الأسهم والصكوك والمنافع والحقوق المعنوية .
وسيأتي مزيد تأصيلٍ وتفصيل لكلِّ فردٍ منها في موضعه .
وقف الصكوك والسندات :
الصكوك والسندات المرادة هنا هي الصكوك والسندات المقبولة شرعاً ، وينصرف التبادر في ذلك ابتداءً إلى سندات المقارضة ، وقد انتهى قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في تعريفها إلى أنها :
" أداةٌ استثماريةٌ ، تقوم على تجزئة رأس مال القراض ( المضاربة ) بإصدار صكوك ملكيةٍ ، برأس مال المضاربة ، على أساس وحداتٍ متساوية القيمة ، ومسجلةٍ بأسماء أصحابها ، باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحوَّلُ إليه ، بنسبة ملكية كلٍّ منهم فيه " (1) .
وفضَّل قرار المجمع تسميتها بـ صكوك المقارضة (2) .
تطبيقاتها في تمويل الأوقاف وإعمارها واستثمارها :
__________
(1) ... قرار رقم : 30 ( 3/4) ، وفيه تفصيل ما يلزم توفُّره في سندات المقارضة لتكون مقبولة شرعاً .
(2) ... في صكوك المقارضة ، ووقفها : انظر : قرار المجمع المشار إليه ، ومجلة المجمع : ع:4 ، ج3 ، ص 1809 ، وقرار المجمع رقم : ( 140 ) ( 6/15 ) ، ومجلة المجمع ع5 في موضوع الاستثمار في الوقف وفي غلاَّته وريعه ، الاتجاهات المعاصرة في تطوير الاستثمار الوقفي / د.أحمد محمد السعد، أ. محمد علي العمري : 80-91 ، 131-138 ، الوقف الإسلامي / د.منذر قحف : 275-277 .(1/12)
أن تقوم إدارة الأوقاف بدراسةٍ اقتصاديةٍ لمشروعٍ محدَّدٍ ، تبيِّن فيه الكلفة المتوقعة والربح المتوقَّع ، ثم تقوم عبر هيئةٍ متخصِّصةٍ بإصدار صكوكٍ = سنداتٍ قيمتُها الإجمالية مساويةٌ للتكلفة المتوقعة للبناء ، وتعرض على حاملي الصكوك المموِّلين للبناء اقتسام عائد الإيجار ، بنسبةٍ تحدِّدها هي في ضوء الدراسة الاقتصادية للمشروع ، على أن يخصص جزءٌ من العائد الذي تملكه إدارة الأوقاف لإطفاء السندات أو الصكوك – أي : شرائها من حاملها شيئاً فشيئاً حتى تعود - بعد فترة من الزمن - الملكية الكاملة للبناء إلى إدارة الأوقاف .
مع ملاحظة أن إطفاء هذه السندات مرتبطٌ بمدةٍ من الزمن محددةٍ ، وقد تكون الحكومة ضامنةً أيضاً لإطفاء هذه السندات عند حلول أجلها ، إذا عجزت إدارة الأوقاف عن القيام بذلك ، على أن يكون ما تدفعه الحكومة ديناً بدون فائدة في ذمة إدارة الأوقاف .
وظاهرٌ مما سبق من التعريف والتوصيف وصورة التطبيق ما يلي :
1- أنَّ الأوقاف وجهات العمل الخيري يمكنها الاستفادة من هذا الأسلوب التمويلي في تعمير ممتلكاتها واستثمارها وتمويلها ، من خلال جذب رؤوس الأموال من الجمهور العام ، وإقامة المشاريع الاقتصادية الكبرى ، وأنها - بإذن الله تعالى – قادرةٌ على إحداث آثارٍ تنمويةٍ إيجابيةٍ في مختلف البلدان الإسلامية ، على اختلاف درجات معيشتها وإمكاناتها ، وشأن ذلك وثمرته الأولى : إحياء الأثر الإيجابي لمؤسسة الوقف ، وبعثها في المجتمعات المسلمة من جديد .
2- أنَّ صكوك المضاربة من أدوات التمويل الكبير والطويل الأجل ، يقوم على اجتماع رأس المال والعمل ، كما هو شأن المضاربة ، وتعاون الملاءة من خلال اكتتاب الجمهور ، مع جهات الخبرة والاستثمار .
3- تعمل هذه الصيغة على إشاعة الخير والمشاركة في صنع المعروف ، وابتغاء الأجر والثواب ، بطريقةٍ تنسجم مع اختلاف الإمكانات المتاحة للأفراد .(1/13)
4- أن بناء فكرة صكوك المقارضة وإمكانات تطبيقها ، وإقرار المجامع الفقهية لها ، وتأصيل اعتبارها ، وبيان شروطها وقيود إعمالها هو إبداعٌ علميٌّ فقهيٌّ ، واجتهادٌ معاصرٌ متميِّزٌ .
5- أنَّ تطبيق هذه الصيغة ونظائرها يسمح للمموِّل بالانسحاب تدريجياً من المشروع – بعد مدةٍ معلومةٍ تقريباً – ويسترد ما قدَّمه من تكلفةٍ لإنشائه ، بالإضافة إلى نصيبه من الربح ، مما يلائم مقاصد الشرع ، ورغبات المكتتب .
وهي نموذجٌ من تطبيقات " المشاريع الوقفية " ، وهناك نظيرٌ لها في " الصناديق الوقفية "، فيما يأتي .
وقف الأسهم :
يعرَّف السهم في الاصطلاح المعاصر ، بأنه : " حصةٌ شائعةٌ ، متساوية القيمة ، قابلة للتداول ، يمثله صكٌّ للمساهم من الشركة / المصدر ؛ إثباتاً لنصيبٍ عينيٍّ أو نقديٍّ ، في رأس مال الشركة " .
وأوضحت القوانين التجارية ذات الصلة خصائص الأسهم ، بما خلاصته ما يلي :
- تساوي قيمة السهم في الحقوق والواجبات ، وتساوي مسئولية الشركاء بحسبها كذلك .
- عدم قابلية السهم للتجزئة .
- قابلة السهم للتداول (1) .
هذا . ومن أشهر صيغ تمويل الأوقاف اليوم ، تمويلها من خلال الاكتتاب العام ، المكيَّفة فقهاً واقتصاداً بالأسهم ، والمشاركة فيها بالمساهمة .
والذي يبدو أن تطبيق " وقف الأسهم " واقعٌ بمسارين اثنين :
__________
(1) ... في التعريف بالأسهم ، وبيان خصائصها ، انظر : الأسهم والسندات وأحكامها في الفقه الإسلامي/ د.أحمد الخليل : 45-75 ، أحكام التعامل في الأسواق المالية المعاصرة : 1/113-126 ، وقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 63 ( 1/ 7 ) ، وأشار قراره رقم 28 ( 3/4 ) إلى : أسهم الوقف الخيري ، وأسهم الجهات الخيرية .(1/14)
المسار الأول : أن يوقف شخصٌ أسهمه التي يملكها ، في شركةٍ مساهمةٍ نشاطها مباحٌ، فإذا قال – مثلاً - : أسهمي في شركة كذا وقفٌ ، فهو يريد بذلك تحبيس أسهمه عن التصرُّف ، وتسبيل غلَّتها ؛ لأن لها في كلِّ دورةٍ أو سنةٍ ماليةٍ غلَّةً أو ربحاً ، فيقول : وقفٌ على المساجد أو على الفقراء والمساكين ، فكلما تسلَّم أرباحاً أو غلَّةً تخصُّ أسهمه صرفه حالاً فيما وقفها عليه .
وإذا قدِّر أن هذه الأسهم الموقوفة خسرت أو كسدت ، أو لم تربح في سنةٍ من السنين ، فلا شيء عليه .
المسار الثاني : أسهم المشاركة الوقفية ، أو " الصناديق الوقفية : ، أو ما اصطلح على تسميته بالوقف الجماعي " أو المشترك ، ويأتي تفصيله .
التكييف الفقهي للمسار الأول ، والحكم عليه :
- المتأمل في أسهم الشركات المساهمة – كما سبق في التعريف والتوصيف يرى أنها تمثل حصصاً شائعةً في شخصيةٍ اعتباريةٍ ، ذات ممتلكاتٍ معروفةٍ ، وهي – ما دام نشاطها مباحاً – مالٌ متقوَّم .
- القول المرجَّح المقدَّم لدى جماهير الفقهاء القدامى والمعاصرين : صحة وقف المشاع .(1/15)
وهو مذهب الشافعية والحنابلة ، وقول أبي يوسف من الحنفية ، وهو قولٌ مشهورٌ في مذهب المالكية فيما يقبل القسمة من المشاع ، وقولٌ آخر في صحة وقف المشاع ، ولو كان لا يقبل القسمة ، اختاره ابن الماجشون ، وجرى به العمل (1) .
واستُدلَّ لهذا القول المقدَّم المرجَّح ، بما يلي :
1- في بعض ألفاظ حديث سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المعروف ، في شأن الوقف : قوله : " إن المئة السهم التي لي بخيبر ... " الحديث (2) .
2- حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - المعروف في شأن توبته ، وفيه : " قلتُ يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أَمْسِكْ عليك بعضَ مالك ، فهو خيرٌ لك . قلتُ : أُمْسِكُ سهمي الذي بخيبر " .
وبوَّب عليه الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه بقوله : " بابٌ : إذا تصدَّق أو وقف بعض رقيقه أو دوابِّه فهو جائزٌ " (3) .
__________
(1) ... في وقف المشاع – انظر : روضة الطالبين : 5/714 ، الشرح الكبير مع الإنصاف : 16/372 ، المبسوط : 12/36-37 ، والبحر الرائق : 5/197 ، وفي تفصيل مذهب المالكية : المعيار : 8/53-55 ، في رسالة لأبي عليٍّ الحسن بن عثمان الونشريسي بعنوان : " رفع النزاع في تحبيس الجزء المشاع " ، وحاشية الرهوني : 7/138- 141 ، وحاشية البناني على شرح الزرقاني : 7/47 . ومن المعاصرين : قانون العدل والإنصاف : الفصل 9 ، المواد : 63-75 ، أحكام الأوقاف / الزرقا : 61-63 ، أحكام الوقف / الكبيسي : 1/384-392 ، الأحكام الفقهية للوقف / أبو غدة : 65-66 .
(2) ... أخرجه النسائي ( 6/232 ) ، وابن ماجه : ( 2396 ) .
(3) ... الصحيح مع الفتح : 5/386 .(1/16)
قال الحافظ ابن حجر : " ويؤخذ منها جواز وقف المشاع ، وشاهد الترجمة منه قوله : " أمسك عليك بعض مالك " ؛ فإنه ظاهرٌ في أمره بإخراج بعض ماله ، وإمساك بعض ماله ، من غير تفصيلٍ بين أن يكون مقسوماً أو مشاعاً ، فيحتاج من مَنَع وقف المشاع إلى دليل المنع " (1) .
3- ما علَّقه الإمام البخاري مجزوماًَ به حيث قال : " وجعل ابن عمر نصيبه من دار عمر سكنى لذوي الحاجات من آل عبد الله " (2) .
4- أن مقاصد الشرع من الوقف والحبس تحصل في المشاع كحصولها في المفرز ، بل هي مع التطبيقات المعاصرة لوقف المشاع قد تكون أكثر تحققاً ، وأجلى ظهوراً .
وعلى هذا الرأي المختار جاءت جملة التشريعات المنظمة لأحكام الوقف ، قال العلامة الفقيه الجليل الشيخ محمد أبو زهرة – رحمه الله تعالى – ناقلاً معلِّقاً ، ومؤصِّلاً معلِّلاً : " يجوز وقف حصص وأسهم شركات الأموال المستغلَّة استغلالاً جائزاً ومشروعاً، وأن هذه الأسهم وتلك الحصص ، وإن كانت تدلُّ على ملكيةٍ شائعةٍ ، فيما لا يقبل القسمة = لا يؤدي الشيوع فيها إلى نزاع .
وهي مما يجري فيه البيع والشراء ، وهي في عرف التجار أموالٌ قائمةٌ بذاتها ، تشبه عروض التجارة ؛ إذ يُتجَّر فيها ، وهناك رجال مالٍ عملهم الاتجار فيها ، فهي في ذاتها تشبه الأموال المنقولة ولا يلتفت فيها عند البيع والشراء إلى كونها حصصٌ شائعةٌ إلا بقدر مركز الشركة المالي والاستغلالي ، وقوة ميزانيتها " (3) .
المسار الثاني : الوقف الجماعي / المشترك :
__________
(1) ... فتح الباري : 5/386 .
(2) ... الصحيح مع الفتح : 5/106 .
(3) ... محاضرات في الوقف : 109 .(1/17)
صورةٌ رائعةٌ راقيةٌ من صور التعاون على البر والتقوى ، تتجلَّى فيها إشاعة الخير ، والإعانة على صنائع المعروف ، وتتمثَّل في نقل إمكانية التحبيس والقدرة على الوقف إلى عموم المسلمين ، عبر المساهمة في وقفٍ خيري ، بشراء سهمٍ أو عدة أسهمٍ ، حسب القدرة وحسب الفئات المحدَّدة ، في مشروعٍ معين ، ينفق ريعه على أوجه الخير المحددة ، وفقاً للسهم ، ونشرة الإصدار ، وشروط الجهات المصدرة ، مما يلائم رغبة المساهم .
فيها إحياءٌ لسنة الوقف ، وتجميع الحصص الصغيرة ، والأنصبة المحددة ، لخدمة مشروعات العمل الخيري ، وتمويل وتنمية موارده .
أصبح يطلق عليها في الاصطلاح الفقهي المعاصر بـ " الوقف الجماعي " أو " المشترك " ، ويقصد به : الوقف الذي يشترك فيه جماعةٌ من الناس أو جهاتٌ متعدِّدةٌ ، يسهم كلٌّ منها فيه بما يقدر عليه .
تأصيل مشروعية الوقف الجماعي / المشترك :
تأصيل مشروعية الوقف الجماعي يشهد له كل ما يذكر في مشروعية الوقف ، بوجهٍ عام ، وأيضاً صحة الوقف المشاع ، مضافاً إليه ما سبق ذكره من مقاصد الشريعة في التبرعات .
لكن بخصوص شأن الوقف الجماعي المشترك ، يذكر ما يلي :
- حديث أنسٍ - رضي الله عنه - قال : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببناء المسجد ، فقال : " يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا ، قالوا : لا والله ، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل " .
وقد بوَّب عليه الإمام البخاري – رحمه الله تعالى – : " بابٌ : إذا وقف جماعةٌ أرضاً مشاعاً فهو جائز " (1) .
__________
(1) ... الصحيح مع الفتح : 5/398-399 .(1/18)
- حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من بنى لله مسجداً ، قدر مفحص قطاةٍ، وفي رواية : لو كمفحص قطاةٍ ، بنى الله له بيتاً في الجنة " (1) .
وموضع الشاهد منه : " ولو كمفحص قطاةٍ " ؛ لأن المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه لا يكفي مقداره للصلاة ، فالمعنى : أنه يزيد في مسجدٍ قدراً يحتاج إليه ، ولو كانت الزيادة هذا القدر ، أو يشترك جماعةٌ في بناء مسجد ، فتقع حصة كلِّ واحدٍ منهم ذلك القدر " (2) .
التكييف الفقهي والحكم الشرعي للصناديق الوقفية :
__________
(1) ... الحديث أخرجه : ابن حبان ، الإحسان ( 1611 ) ، والطبراني في الصغير : 2/138 ، والبزار : ( كشف : 401 ) ، والبيهقي : 2/437 ، وغيرهم ، عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - ، وأصله متفقٌ عليه : البخاري ( 450 ) ، مسلم ( 533 ) .
(2) ... انظر : نيل الأوطار : 1/690 .(1/19)
تتنزَّل مشروعية الصناديق الوقفية على مسألة " وقف النقود " (1) ، وهو مذهب المالكية ، والمرجَّح للتعامل والعرف عند الحنفية ، ووجهٌ عند الشافعية ، وإليه ميل الشيخ تقي الدين بن تيمية ، وإليه انتهى قرار المجمع الفقهي الدولي في قراره رقم 140 ( 6/15) بشأن الاستثمار في الوقف وغلاَّته وريعه ، حيث جاء فيه ما يتعلَّق بوقف النقود ما يلي :
1- " وقف النقود جائز شرعاً ؛ لأن المقصد الشرعي من الوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة فيها ؛ ولأن النقود لا تتعين بالتعيين وإنما تقوم أبدالها مقامها.
2- يجوز وقف النقود للقرض الحسن ، وللاستثمار إما بطريق مباشر ، أو بمشاركة عدد من الواقفين في صندوقٍ واحدٍ ، أو عن طريق إصدار أسهمٍ نقديةٍ وقفيةٍ تشجيعاً على الوقف ، وتحقيقاً للمشاركة الجماعية فيه .
3- إذا استثمر المال النقدي الموقوف في أعيان كأن يشتري الناظر به عقاراً أو يستصنع به مصنوعاً ، فإن تلك الأصول والأعيان لا تكون وقفاً بعينها مكان النقد ، بل يجوز بيعها لاستمرار الاستثمار ، ويكون الوقف هو أصل المبلغ النقدي " .
__________
(1) ... في مسألة " وقف النقود " انظر : أبحاث مجلة الفقه الإسلامي الدولي ، الدورة 15 ، حاشية الدسوقي : 4/77 ، وحاشية ابن عابدين : 3/374 ، 375 ، والرسالة القيمة المؤصَّلة لشيخ الإسلام أبي السعود العمادي " في جواز وقف النقود " ، روضة الطالبين : 4/380 ، ومجموع الفتاوى : 31/234-240 ، وفيه تأصيلٌ وتوجيه لأقوال الأئمة ونصوصٌ نادرة ، ووقف النقود صحيحٌ سواءٌ للقرض ، أو القراض = المضاربة ، أي : للتنمية والاستثمار ، كما في قرار المجمع ، وتعليلات الأئمة . راجع : الوقف الإسلامي / د.منذر قحف : صورٌ جديدة من الأوقاف النقدية والمختلطة : 193-203 .(1/20)
صور وتطبيقات للوقف الجماعي (1) :
1- الصكوك الوقفية ، ويقصد بها : " وثائق محددة القيمة ، يتم إصدارها بأسماء مموِّليها ، لصالح الجهة الموقوف عليها ، أو من يمثِّلها قانوناً ، وذلك لتغطية الحاجات المنوطة بها ، مع الالتزام بأحكام الشريعة تمويلاًَ واستثماراً وإنفاقاً " .
... وهي في هذا المفهوم تنصرف إلى سندات الملكية الوقفية .
2- السندات الوقفية : وهي قائمة على تمويل مشروع وقفيٍّ خيري ، يتم تحديد حجم التمويل اللازم له ، وتصدر الجهة المعنية سنداتٍ بقيمة اسمية مناسبة ، ثم تطرحها للاكتتاب العام ، لتجميع الأموال اللازمة لتمويل هذا المشروع .
... وذلك يكون في عدة صيغ منها :
أ-سندات المشاركة الوقفية .
ب-سندات الأعيان المؤجرة .
ج-أسهم التحكير .
د-حصص الإنتاج .
هـ-سندات المقارضة .
ومن أجلى تطبيقات الوقف الجماعي " الصناديق الوقفية " التي غدت تبتكرها وترعاها مؤسسات العمل الخيري في البلدان المختلفة ، ويراد " بالصندوق الوقفي " : ذلك القالب التنظيمي الذي تنشئه الدولة أو مؤسسة العمل الخيري ، وفقاً للنظم المعتمدة ، لتنفيذ أهدافٍ محددةٍ مدروسةٍ ، والقيام بمشروعات تنموية في مجالٍ محدَّدٍ ، أو مجالاتٍ خيريةٍ مختلفةٍ ، تحقيقاً لأغراض الواقفين ، وتلبيةً لشروطهم .
ومن أمثلة هذه " الصناديق الوقفية " :
1- الصندوق الوقفي للقرآن الكريم وعلومه .
2- الصندوق الوقفي للتنمية العلمية .
3- الصندوق الوقفي للتنمية الصحية .
4- الصندوق الوقفي لرعاية المساجد .
5- الصندوق الوقفي لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة .
6- الصندوق الوقفي لرعاية الأيتام .
7- الصندوق الوقفي لرعاية الأسر المنتفعة . وغير ذلك كثير .
__________
(1) ... انظر في هذه التطبيقات : بحث : أ.د. مصطفى عرجاوي " الضوابط الشرعية والقانونية للوقف الجماعي" : 35-36 ، بحث د.راشد العليوي " الصيغ الحديثة لاستثمار أموال الأوقاف" : 30-33 ، الوقف الإسلامي / د.منذر قحف : 265-277 .(1/21)
كما أن من أمثلة الوقف الجماعي وصوره :
- الوقف الجماعي للمشتركين في تأليف كتابٍ ، أو موسوعةٍ ، وفرق العمل التي اشتركت في ابتكارٍ أو اختراعٍ علميٍّ ، صناعيٍّ ، هندسيٍّ ، إذا اتفقوا ونظائرهم على استثمار عوائد ابتكاراتهم في وقفٍ جماعيٍّ على جهة برٍّ وعملٍ خيريٍّ ، وهذا يتأتَّى بعد تقرير وقف الحقوق المعنوية ، ويأتي .
حكم وقف الصكوك والأسهم المحرمة :
مما يتعلَّق بوقف الأسهم والصكوك ، السؤالُ عن وقف الأسهم والصكوك التي يحرم الاشتراك فيها ، حال عزم مالكها التخلِّي عن ملكيَّتها ، وإرادته التبرُّع بها أصلاً وريعاً لجهة برٍّ لا تنقطع ، وقصده وقفها وتحبيسها ، فهل يصحُّ وقفه لها ؟
جليٌّ - في مبلغ العلم - أن هناك اتجاهاً مقدَّماً مرجَّحاً لدى جملة من الأئمة والمحققين (1) :
__________
(1) ... في هذه المسألة الجليلة ، وأبعادها وتأصيلها وذكر نظائرها وبيان فروعها – انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية : 28/592-599 ، 29/307-309 ، 321 ، وكلامه فيها وفي نظائرها كثيرٌ منتشرٌ ، ومن ذلك : فصل : فيمن أوقع العقود المحرمة ، ثم تاب منها ، وقاعدة : الأموال التي يجهل مستحقها مطلقاً أو مبهماً ، وقال فيها : " ... ويتفرع على هذه القاعدة ألفٌ من المسائل الواقعة" ، زاد المعاد : 5/778 ، وقال عنها : " .. قاعدة عظيمةٌ من قواعد الإسلام " ، وجامع العلوم والحكم : 1/263-269 ، وفيه وفيما سبق الإشارة إلى الاتجاهات الأخرى ، فتاوى الشيخ ابن إبراهيم : 7/178 ، فتاوى الشيخ القرضاوي : 1/527 ، أحكام المال الحرام / د.عباس الباز : 166-182 ، 355 – 365 ، 369 ، 371 – 385 ، 387-396 ، 397 ، 412 ، وفي خصوص التحلُّل من المال الحرام بالوقف – انظر : الأحكام الفقهية للوقف / د.عبد الستار أبو غدة : 64-65 ، وما يأتي .(1/22)
أن للإنسان التصدُّق بالمال المحرَّم ، إرادة التخلُّص من خبث الحرام والتحلُّل من إثمه ، لا بقصد ابتغاء الأجر والثواب ، " فالمعصية لا تكون سبباً للنعمة والرحمة " (1) .
لكن هل يشمل هذا الاتجاه أمر الوقف لها ، فإن فيه - مضافاً إلى ما سبق - : عدم صدور الوقف لها عن مالك ؛ لفَقْد التقوم الشرعي للتصرُّف الذي قبضها به ، فهو يخرجه على أنه خَبَث لحق بماله وذمَّته ، ويريد وقفه ليطهِّر ماله ويبرئ ذمته .
لكن هذا الاتجاه المرجَّح مقيَّدٌ بألا يكون في إقامة المساجد أو دور القرآن الكريم ، وطباعة المصحف الشريف ، وسائر ما يقصد به التعبُّد المحض (2) .
وفعله هذا يسمى صدقةً وحَبْساً بالنظر إلى أثره ومن وُقِف عليه من الفقراء والمساكين، أو المصالح العامة للمسلمين ، لا بالنظر إلى المعطي أو الواقف ، فهو إنما يخرجه لأجل أن تقبل توبته ، " فخبثه لخبث مكسبه ، لا لظُلم مَن أُخِذ منه ، وطريقه : التخلص منه ، وتمام التوبة : الصدقة به " (3) .
وقد وقفتُ على نصوصٍ نادرةٍ عن الإمام الجليل أحمد - رضي الله عنه - في وقف المال المحرَّم .
ولكونها لعلَّها تجلَّى لأول مرةٍ أمام الباحثين ، وحاسمةً في شأن وقف المال الحرام بخصوصه ، لا بعموم التحلُّل من المال المحرَّم ، فإني أقتصر عليها ، وأحيل إلى نظائرها .
عقد الإمام الخلاَّل في " كتاب الوقوف " من جامعه الكبير لمسائل الإمام أحمد ، باباً بعنوان : وقف ما تنزَّه عنه من الأموال (4) .
وفيه جملة مسائل وجِّهت إلى الإمام أحمد ، في هذا المعنى ، ألخِّصها وأجوبتها فيما يلي :
__________
(1) ... مجموع الفتاوى : 21/486 .
(2) ... انظر : أحكام المال الحرام : 302 – 313 .
(3) ... زاد المعاد : 5/779 ، ر.أ : أحكام المال الحرام : 405-411 .
(4) ... كتاب الوقوف / الإمام الخلاَّل : 1/442-444 .(1/23)
- سئل عن رجلٍ مات وترك ضياعاً ، وقد كان يدخل في أمورٍ تكره ، فيريد بعض ولده التنزُّه ؟ فأجاب الإمام : إذا أوقفها على المساكين ، فأيُّ شيءٍ بقي عليه؟ واستحسن أن توقف على المساكين .
- وسأله رجلٌ قال : إن أبي مات ، وقد دخل لهؤلاء ، وقد ورثتُ أرضين , أو قال : أرضاً – يعني من السواد – فقال له الإمام : أوقفها على قرابتك ، أو قال : على أهل بيتك ، ومَن عرفتَ من أهل الستر .
- وسئل عن رجلٍ في يده أرضٌ أو كرْمٌ ، يعلم أن أصله ليس بطيب ، ولا يعرف صاحبه؟ فقال الإمام : يوقفه على المساكين .
- وسئل : مَن كان له دار في الرَّبض أو القطيعة ، فأراد أن يخرج منها ويتنزَّه عنها ، كيف يصنع ؟ فقال الإمام : يوقف ، قال السائل : لله ، قال : نعم ، قال السائل : وسألته عن القطائع توقف ؟ قال الإمام : نعم ، إذا كان للمساكين ، ترجع إلى الأصل ، إذا جعلها للمساكين (1) .
__________
(1) ... في بيان هذا النص الأخير بخصوصه – انظر : المبدع : 5/316 . وقد كنتُ متردِّداً كثيراً في الميل إلى هذا الاتجاه ، مع النصوص الجليلة ، من مثل قوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ } ، وقوله تعالى : { قُلْ لاَ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً " ( مسلم 1015 ) ، وأعددتُ رأيي وقلمي لمناقشته وتقوية المنع ، إلى أن وقفتُ على نصوص الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – هذه ، فكففتُ ، فهو إضافةٌ إلى إمامته في الفقه إمامٌ في الورع .(1/24)
ثم إن هناك صيغةٌ أخرى من صيغ التبرُّع مشابهةٌ للوقف هي الإرصاد عبَّر عنها الفقهاء ؛ لتكييف ما يوقفه السلاطين من الأموال العامة ؛ لأن مالكها غير محدّد ، فلم يتحقق فيها شرط ملكية الواقف لما يقفه ، وهي تصلح لوقف الأموال الخبيثة (1) .
كما يشهد لذلك أيضاً ، ما جاء في قرار هذا المجمع الموقر ( 13/1/3 ) ، حول استفسارات البنك الإسلامي للتنمية ، بخصوص التصرُّف في فوائد الودائع التي يضطر البنك الإسلامي للتنمية لإيداعها في المصارف الأجنبية ، جاء في هذا القرار ما يلي :
" .. يجب أن تصرف تلك الفوائد في أغراض النفع العام ، كالتدريب والبحوث ، وتوفير وسائل الإغاثة ، وتوفير المساعدات المالية للدول الأعضاء ، وتقديم المساعدة الفنية لها ، كذلك للمؤسسات العلمية والمعاهد والمدارس ، وما يتصل بنشر المعرفة الإسلامية " .
تعريف المنافع ، وتموُّلها :
جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يختارون أن " المنافع " مالٌ متقوَّمٌ ، وهو الاتجاه المرجَّح المقدَّم لدى جملة الفقهاء المعاصرين (2) .
فالعرف العام المطَّرد اعتبر المنافع أموالاً ، وجعلها محلاًّ للاستثمار ، وجملةٌ من العقود قائمةٍ على المنافع ، كالإجارة والجعالة والاستصناع .
وتبذل الأموال في تحصيلها ، بل هي أصل التموَّلات وثمرتُها ، وفي عدم اعتبارها مالاً ضياعٌ لكثير من المصالح .
__________
(1) ... الأحكام الفقهية للوقف / د.عبد الستار أبو غدة : 65 ، وفي معنى الإرصاد – انظر : معجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء : 49-50 ، أحكام الوقف / د. الكبيسي : 1/ 363 ، وندوة حوار الأربعاء ، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي ، جامعة الملك عبد العزيز 1/8/1425هـ ، " الإرصاد ، هل يختلف عن الوقف؟ " ، د.رفيق المصري .
(2) ... انظر تحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في : الملكية / أ.د. عبد السلام العبادي : 1/180-184 .(1/25)
وتعرَّف المنفعة بأنها : " الفوائد العرضية التي تستفاد من الأعيان بطريق استعمالها " .
وقد تشمل في الاختيار والاستعمال الفقهي لدى بعض المحققين : الفوائد بنوعيها العرضية والمادية .
وقف المنافع وتحبيسها (1) :
كان توقُّع تأصيل مالية المنافع لدى جمهور الفقهاء أن يطَّرد ذلك في صحة وقفها وتحبسها = لكن مذاهب الفقهاء اختلفت في ذلك ، وتقاصر جمهورها عن صحة وقف المنافع ، فكانت كما يلي :
الاتجاه الأول : لا يصحِّح وقف المنافع دون الأعيان = الرقاب .
وهو مذهب الحنفية ، والمنع عندهم لأن المنافع ليست أموالاً ، وهو مذهب الشافعية والحنابلة ، والمنع عندهم لاشتراطهم أن يكون الموقوف عيناً ، ينتفع بها مع بقاءها ، كما أنهم جميعاً يشترطون تأبيد الوقف .
الاتجاه الثاني : ذهب المالكية إلى صحة وقف المنافع ، كالركوب والحمل والخدمة ، ويصحُّ عندهم وقف منفعة العين المستأجرة .
تأصيل مشروعية وقف المنافع ، وصحة توقيت الوقف = الوقف المؤقت :
بنى المالكية مذهبهم في صحة وقف المنافع على أصلهم في عدم اشتراط التأبيد في الوقف ، وأنه يصح تأقيت الوقف .
وإذا صح الوقف مؤقتاً غير مؤبد ، فإنه لا يشترط أن يكون الموقوف صالحاً للبقاء الدائم الذي لا يتغير ، وعليه : صحة وقف المنافع والحقوق ، وأيضاً : لتموُّلها بين الناس .
ومذهب جماهير الفقهاء اشتراط التأبيد في الوقف ، والدوام والاستمرار في المال الموقوف ؛ تحقيقاً لمعنى " الصدقة الجارية " .
__________
(1) ... راجع لزاماً ما تقدَََم بسطه وتحقيقه فيما يصحُّ وقفه ، وانظر – هنا : بدائع الصنائع : 6/220 ، حاشية ابن عابدين : 3/365-367 ، مغني المحتاج : 2/382-383 ، شرح منتهى الإرادات : 2/497 ، الإنصاف : 16/375-376 .(1/26)
وذهب المالكية إلى صحة الوقف المؤقت ، سواءٌ أكان هذا الوقت قصيراً أم طويلاً ، وسواءٌ أكان مقيَّداً بمدةٍ زمنيةٍ ، كقوله : وقفتُ حديقتي أو أسهمي على الفقراء مدة سنةٍ ، أم كان مقيداً بحدوث أو تحقق أمرٍ معيَّنٍ ، كقوله : داري موقوفة على الفقراء ما دمتُ في الوظيفة ، أم قيِّد بحياة شخصٍ معيَّن .
فيرجع الوقف بعد انتهاء المدة ، أو انتفاء القيد أو موت المعيَّن ، يرجع ملكاً للواقف إن كان لا يزال حياً ، أو لورثته إن كان ميتاً ، ويجوز التصرُّف فيه – عندها – بكلِّ ما يجوز فيه التصرف في غير الموقوف .
والقول بصحة توقيت الوقف وجهٌ لدى الحنابلة ، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف في المذهب الحنفي ، وينسب لأبي العباس بن سريج من الشافعية .
واستدلَّ أصحاب هذا الاتجاه المرجّح ، بما يلي :
- أن حقيقة الوقف " تسبيل المنفعة " ، وقد حثَّ الشرع الشريف عليها ، كحثِّه على سائر الصدقات ، والصدقات تجوز مؤقتةً وتجوز مؤبَّدة ، ولا دليل يوجب كون الصدقة مؤبَّدة .
- كما أن للمرء أن يتقرَّب بماله أو ببعضه = جاز أن يتقرَّب به في كلِّ الزمان ، أو بعضه ، وهو الوقف المؤقت .
- من المقرَّر : أن الواقف له أن يقيِّد بشروطه أوجه الانتفاع بأعيان الوقف وغلاَّته ، فإذا جاز هذا التقييد : جاز تقييد الوقف بمدةٍ ، وهو الوقف المؤقت .
- ويمكن أن يستدل لصحة الوقت المؤقت ، واشتراط الواقف تقييد الوقف بمدةٍ ، بما رواه الإمام مالك - رضي الله عنه - في موطئه ، قال : عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم : أنه سمع مكحولاً الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العُمْرى ، وما يقول الناس فيها ؟ فقال القاسم بن محمد : ما أدركتُ الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم ، وفيما أَعْطَوا " (1) .
__________
(1) الموطأ / رواية يحيى : 2/302-303 ( 2201 ) ، ر.أ : التمهيد : 7/12 ، الاستذكار : 22/317 .(1/27)
- أن في الوقف المؤقت تشجيعاً لسبل الخير وأوجه البرِّ ، وتيسيراً لصنائع المعروف ، والوقف من عمل البر والخير والمعروف ، فيجوز مؤقتاً ومؤبداً ، ولكلٍّ ثوابه .
- النصوص الواردة من الأحاديث والآثار ، التي قد يستدل بها على اشتراط تأبيد الوقف = هي في حقيقتها حكاية أقوالٍ ووقائع كان الوقف فيها مؤبداً ، وقد ارتضى ذلك الواقفون وورثتهم . وليس فيها دليلٌ ناصٌّ على عدم جواز رجوع الواقف في وقفه – حال اشتراطه – ولا على عدم صحة التوقيت .
وقد مال إلى هذا الاتجاه المرجح وتأييده زمرةٌ من كبار الفقهاء المعاصرين ، منهم الأساتذة الأجلاء : أحمد إبراهيم ، ومحمد أبو زهرة ، ومصطفى الزرقا (1) - رحمهم الله تعالى - وغيرهم .
المنافع التي يصحُّ وقفها (2) :
والمنافع التي يصحُّ وقفها في المذهب المالكي هي المنافع المتقوَّمة ، أي : المباحة شرعاً ، ولو كانت مما لا يصحُّ بيعه .
ويصحُّ في المذهب المالكي – وقف منفعة العين المستأجرة – كما سبق ، لكنهم لم يجيزوا وقف المرهون والعين المؤجرة منجزاً حال تعلق حق الغير به ؛ لأن في تصحيح وقفها إبطالاً لحق المرتهن والمستأجر .
هذا. ولا يشترط المالكية كون الموقوف ملكاً للواقف وقت الوقف ، فيصح تعليق الوقف ، ولا يحتاج إلى إنشاءٍ جديدٍ إذا حصل ما علِّق عليه .
حكمة الوقف بين التأبيد والتوقيت :
- إن أهمية مبدأ " التأبيد " في الوقف تأتي من رعي الشرع مصالح الناس ، وحاجتهم إلى قيام مصادر دائمة ؛ لإنتاج آثارٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ عامة .
__________
(1) ... انظر : الوقف وبيان أحكامه / للأستاذ الكبير أحمد إبراهيم : 34 ، محاضرات في الوقف / أبو زهرة : 73 ، شرح قانون الوقف / العلامة محمد فرج السنهوري : 1/83-91 ، أحكام الأوقاف /الزرقا : هامش 49-50 ، أحكام الوقف / الكبيسي : 1/246-252 .
(2) ... راجع - لزاماً - ما سبق ، تحت عنوان ضابط ما يصحُّ وقفه .(1/28)
- كما أنه يسهم في تحرير كثيرٍ من موارد المجتمعات وثرواتها المتمثلة في أفرادٍ ؛ لتنقل - رغبةً في الأجر الدائم الذي لا ينقطع - إلى ملكية المجتمع ، ويصبح الوقف قناةً جاريةً يتدفق عبرها جزءٌ من هذه الموارد ؛ لتحقيق التكافل ، والتغلب على الفقر ، وتخفيف آثار الحاجة والعوز .
ومبدأ " التوقيت " في الوقف ومرانته يفتح أبواباً للخير وفعل المعروف قد لا تستوعبها صرامة " التأبيد " .
والتجارب المعاصرة في العمل الخيري تشهد أن الوقف يمكن أن يقوم على هاتين الدعامتين التأبيد والتوقيت معاً ، فلكلِّ واقفٍ أحواله وقدراته وإمكاناته ، ولكلِّ عمل خير وجهة برٍّ ما يلائمها ، ويقوم بمصالحها { ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } { قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } .
- إن المجتمعات المعاصرة ، والحياة في هذا الزمن الصعب قد أوجد حاجات عامة كثيرة، منها ما هو دائمٌ بطبيعته ، ومنها ما هو غير دائم ، كما أن من الأوقاف ما ينتهي بفناء مال الوقف نفسه ، ومنها ما يعود فيه مال الوقف إلى الواقف عند انتهاء المدة التي وقف لها .
وأيضاً : فإن نطاق الوقف المؤقَّت أشمل وأكثر اتساعاً من نطاق الوقف المؤبَّد ؛ ذلك لأن هذا يتطلب استمرار المادة الموقوفة ودوامها ، بينما الوقف المؤقت الذي يكون لمدة محددة ، قد تنتهي بعدها حياة المادة الموقوفة ، أو يستردُّها الواقف لها .
صور وتطبيقات لوقف المنافع (1) :
- استئجار الشقق أو الدارات ، وجعلها مسجداً ، أو مصليات ، أو مراكز ومدارس إسلامية ، مدةً معلومةً مؤقتةً ، كما هو حال كثيرٍ من الجاليات والأقليات المسلمة في بلاد غير المسلمين (2) .
__________
(1) ... أفدتُ – في بعض هذه الصور والتطبيقات – من : الوقف الإسلامي / د.منذر قحف : 183-192.
(2) ... تقدَّم – في ضابط ما يصحُّ وقفه – نقل نصُّ المذهب المالكي ، على صحة هذا التطبيق .(1/29)
- وقف الأبنية والمساكن – لإيواء الفقراء والمساكين وإسكانهم ، وبخاصة زمن الحروب والكوارث الطبيعية .
- وقف المستشفيات والوحدات الطبية والمراكز الإغاثية والعلاجية ، لمداواة المرضى والمنكوبين ، وقت حاجتهم لذلك ، أو تحديد يومٍ في نهاية الأسبوع – مثلاً – لرسوم مخفضةٍ أو دخول مجاني للمرضى الفقراء .
- وقف وحدات ومراكز تعليمية ، مسائية أو في الإجازات والعطلات ، لتعليم الأيتام وأولاد المحتاجين .
- إفراد وتمييز جملة من الأراضي لإقامة مشروعات زراعية أو صناعية ، إنتاجية محدودة ، لمدة معينة .
- وقف وسائل النقل العامة أو الخاصة ، في المواسم العبادية ، كالحج والعمرة والزيارة، لنقل الفقراء أو تقديمها لهم بأسعار رمزية . وكذا إيقاف وسائل النقل هذه، في أيام العطلات والإجازات لنقل الطلاب الفقراء للفسحة والترويح ، ونحوها من المقاصد المعتبرة .
- وقفٌ لمجانية الاشتراك أو الانتفاع بدخول الأماكن الترفيهية المباحة أو النوادي الرياضية ، والتي عادةً يكون دخولها بأجرةٍ معينةٍ ، مثل مدن الألعاب والترفيه وحدائق الحيوانات ، على الأيتام وأبناء الفقراء ، أو ذوي الاحتياجات الخاصة .
- وقف منافع بعض الأجهزة الطبية والكهربائية ، ومضخَّات المياه والمولِّدات ، ونحوها على الفقراء والمحتاجين ، مدةً معينةً .
- وقف خدمة النقل - بوسائله المختلفة - أو الشحن كذلك ، على الفقراء وذوي الاحتياجات الخاصة ، مجاناً أو برسومٍ مخفَّضةٍ .
- العبور مجاناً – دون أي رسومٍ – لجميع السيارات الذاهبة ، إلى مسجدٍ ، له مخرجٌ من هذه الطريق ، معروفٌ به .
- العبور مجاناً – دون أي رسومٍ – لسيارات الإسعاف والإطفاء ، وسيارات دور الأيتام والعجزة ، ونحوها من وسائل الخدمة العامة .
- وقف حق الطريق لمالكٍ له في عقاره ؛ لنحو عبور الأطفال إلى مدرستهم ، وطريقه التي يملكها أقرب إليهم من غيرها .(1/30)
- وقف حقِّ الانتفاع بأرضٍ فضاء ؛ لتكون مصلَّى للجمعة أو العيدين ، لمدة ثلاث ساعات مثلاً ، في أوقات هذه الصلوات .
- وقف الخدمة الهاتفية المدفوعة أجرتها – مثلاً – لصالح دارٍ للأيتام ، أو نزلاء المستشفى ، أو الطلبة المحتاجين المبتعثين خارج ديارهم .
- وكذا سائر نظائر ذلك من الخدمات العامة الأخرى ، كالكهرباء والماء ونحوها .
مفهوم الحق المالي ، وتموُّله واعتباره (1) :
من أشهر تعريفات " الحق " الاصطلاحية ، التي استقرّ تقديمها لدى جمهرة الباحثين المعاصرين تعريف الأستاذ الكبير مصطفى الزرقا – رحمه الله تعالى - :
في قوله : " الحق هو اختصاصٌ يقرر به الشرع سلطةً أو تكليفاً " (2) .
ومع مشاركتي الاحتفاء والتقديم لهذا الحدِّ ، إلا أنه تعريفٌ عامٌّ شاملٌ لجميع أنواع الحقوق .
والمعنيُّ به هنا في هذا البحث وموضوعه : " هو الحقوق المالية " ، والحق المالي وحده وقد عرفه الأستاذ الزرقا نفسه بقوله : " اختصاصٌ مشروعٌ بمنفعةٍ ذات قيمةٍ مالية بين الناس " (3) .
والاختصاص :
ما يختصُّ بشخصٍ معينٍ أو بفئةٍ ؛ إذ لا معنى للحقِّ إلا عندما يتصور فيه ميزةٌ ممنوحةٌ لصاحبه ، وممنوعةٌ عن غيره .
وأما ما لا اختصاص فيه فهو من قبيل الإباحات العامة ، كالاصطياد والاحتطاب ، لكن إذا منح إنسانٌ امتيازاً باستثمار شيء ، من هذه المباحات ، فانحصر به ، يصبح ذلك حقاً له .
وإنما اشتُرط وقيِّد الاختصاص بإقرار الشرع ؛ لأن حكم الشرع هو أساس اعتباره ، فما اعتبره الشرع حقاً كان حقاً ، وما لا فلا يكون حقاً معتبراً ، ولا حاجة إلى ضمِّ شيءٍ زائد على اعتبار الشرع وإقراره .
__________
(1) ... في مفهوم " الحق " وتقسيماته ، واعتباره بين الشريعة والقانون بما لا مزيد عليه – انظر : الملكية / أ.د. عبد السلام العبادي : 1/92-118 .
(2) ... المدخل إلى نظرية الالتزام العامة : 19 .
(3) ... المصدر نفسه : 21 .(1/31)
ويمكن اختصار هذا التعريف بقولنا : " اختصاصٌ مشروعٌ بمنفعةٍ متموَّلة " .
وتبين مما سبق أن الحق المالي هو في مقابلة الأعيان ؛ لأنها أشياء مادية عينية ، وليست اختصاصاً ، وعليه جمهور الفقهاء ، والحق المالي هو ما يتعلق بالمال .
ومما له وثيق الصلة بتعريف الحق المالي ، ويحتاج إليه موضوعُ هذا البحث ، تقسيم الحق المالي إلى حقٍّ عينيٍّ وحقٍّ شخصي ، كما يقع لدى القانونيين :
فالحق المالي الشخصي يعرَّف بأنه : " مطلبٌ يقرُّه الشرع لشخصٍ على آخر " (1) .
وتوضيحه : أن كل علاقة شرعيةٍ بين شخصين ، يكون أحدهما فيهما مكلَّفاً تجاه الآخر أن يقوم بعملٍ فيه مصلحةٌ ذات قيمة للآخر ، أو أن يمتنع عن عملٍ منافٍ لمصلحته ، مهما كان مصدر تلك العلاقة .
فإن ذلك يفسَّر في الاصطلاح ، ويعبر عنه بـ " الحق الشخصي " ، للمستفيد منها ، كما أنه في الوقت نفسه " التزام " على الآخر المكلف بها .
و" الحق العيني " : هو سلطةٌ مباشرةٌ على عينٍ ماليةٍ معينةٍ ، أو على متموَّلٍ معيَّن (2) .
فالعلاقة الحقوقية هنا بين شخصٍ – سواءٌ كان حقيقياً أو حكمياً – وبين شيءٍ متموَّلٍ معيَّنٍ محدَّدٍ .
هذه السلطة معناها متحقِّقٌ بمجرد وجود صاحبها ، ووجود هذا الشيء المتموَّل المعين ، يستطيع صاحبها ممارسة سلطته هذه بالتصرفات المشروعة ، من استعمالٍ أو استغلالٍ ، أو استهلاكٍ ، أو حَبْسٍ ، دون توقفٍ على أحد .
ومما يندرج تحت الحق العيني من أنواع :
حق ملك الرقبة ( الذات ) ، وملك المنفعة ، وحقوق الارتفاق ، وحق الانتفاع ، والحقوق المعنوية ( الفكرية ) .
إذ هي متموَّلاتٌ ذات ميزاتٍ خاصةٍ ، اختصَّ بها صاحبها دون غيره .
فالعلاقة الحقوقية ثابتةٌ بين صاحبها ، وهذا المتموَّل المعنوي والسلطة المباشرة .
__________
(1) ... المصدر نفسه : 26 .
(2) ... انظر : المصدر نفسه : 27-31 .(1/32)
تموُّل الحقوق واعتبارها (1) :
الحقوق – في الواقع – منافع يقرُّها الشرع لفردٍ أو جهةٍ ، وقد تتعلق بالأموال ، كحق الانتفاع وحق الشفعة ، وحق المرور في الطريق ، وحق الشرب وحق المسيل .
وقد تتعلق بما ليس بمالٍ كحق الحضانة وحق القصاص ، وقد تكون أمراً اعتبارياً لا وجود له إلا بفرض من جهة الشرع ، كحق الشفعة وحق الحضانة ، وقد تكون أمراً ذا وجودٍ خارجي ، كحق السكنى ، وحق المرور ، وحق الشرب .
ومعلومٌ أن هناك اتجاهان فقهيان في اعتبار الحقوق والمنافع أموالاً أم لا ؟
- فالحنفية : لا يعدُّون الحقوق والمنافع أموالاً ؛ لعدم إمكان حيازتها ، وهم يشترطون فيما يعدُّ مالاً أن يكون عيناً مادياً موجودةً ، قابلة للادخار والإحراز .
- والجمهور : يعدُّون الحقوق والمنافع أموالاً ، لتموُّلها عرفاً بين الناس ، وبذل الأموال لتحصيلها ، والشرع اعتبر المنافع أموالاً ، بشاهد قوله تعالى - في مهور النساء : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ } ، وفي قصة زواج موسى عليه السلام بابنة الرجل الصالح ، كان المهر عمل موسى عليه السلام عنده مدة عشر سنوات .
لكنَّ الجمهور يقصرون تموُّل الحقوق بما أريد به منفعة متمولة ، كحق المستأجر في العين التي استأجرها ، ولذا أجازوا الاستعاضة عنها ، وحق المرور ، وحق الشفعة ، على تفصيلٍ وخلافٍ ليس محلُّه هذا (2) .
ولا يعدُّونها أموالاً إن أريد بها تلك الأمور المعنوية الشرعية ، التي لا وجود لها إلا باعتبار الشارع ، كحق الحضانة ، وحق الولاية ، وحق القصاص .
__________
(1) ... انظر – في تأصيل ذلك : بحث " بيع الحقوق المجرَّدة " للعلامة الشيخ محمد تقي العثماني ، ضمن بحوث في قضايا فقهية معاصرة 77-126 ، وما يأتي في " وقف الحقوق المعنوية " .
(2) ... انظر – في تفصيل ذلك : الملكية / أ.د. العبادي : 1/186-182 .(1/33)
الحقوق المعنوية : مفهومها وتموُّلها (1) :
نوعٌ حديثٌ من الحقوق المالية أنتجته الأوضاع الحياتية المدنية والاقتصادية والصناعية والفكرية الحديثة ، تعرضت لتنظيمه القوانين العصرية ، وضبطت ملكيته الاتفاقات الدولية .
ومفهوم الحقوق المعنوية هو : " سلطة لشخصٍ على شيءٍ غير مادي " .
ومن أفرادها : حق المؤلِّف في المصنفات العلمية والأدبية والفنية مما قد يطلق عليه براءة الاختراع ، في المخترعات ، وفي برامج الحاسوب ، هو ما اصطلح على تسميته بالملكية الصناعية .
والاسم التجاري والعلامة التجارية ، وامتيازات إصدار الدوريات مما قد يعرف بالملكية التجارية .
فكلُّ مُنتجٍ لأثر مبتكرٍ ، أو جهدٍ متميزٍ مستقلٍّ ، أدبي أو فني أو صناعي أو علمي ، له الحق في نسبة هذا الأثر الفكري والجهد الذهني إليه ، والاحتفاظ بذلك . ويكون مختصاً بالمنفعة المالية التي يمكن الحصول عليها جراء نشر هذا المنتج والأثر وتعميمه .
وظاهرٌ معلومٌ أن صاحب هذا الحقِّ المعنويِّ ، وهذا الأثر قد بذل جهوداً ذهنيةً وأموالاً ، وأوقاتاً ، وربما استعان بخبراء ومراكز أبحاث ، ومختبرات ، ونحو ذلك .
وظاهرٌ أيضاً : أن هذا الحق المعنوي قد يتعلق بمعانٍ ، ومدركاتٍ ذهنيةٍ مجرَّدةٍ ، وقد يتعلق بمصنوعٍ ماديٍّ كان له فائدة ونفع للآخرين .
وجليٌّ مما سبق : أن هذه الحقوق المعنوية توافرت فيها الخصائص التالية :
__________
(1) في أمر " الحقوق المعنوية " وتفصيلها ، وتأصيل تموُّلها – انظر : الملكية / أ.د. عبد السلام العبادي : 1/196-203 ، حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن / أ.د. فتحي الدريني ، ضمن " بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله " 2/5-83 ، بحث " بيع الحقوق المجردة / للشيخ تقي العثماني ، المشار إليه آنفاً ، الحقوق المعنوية وتطبيقاتها المعاصرة / أ.د. علي محي الدين القره داغي ، ضمن " بحوث في فقه المعاملات المالية المعاصرة " 393-440 .(1/34)
1- التموُّل ، ومناط المالية – بعد الإباحة الشرعية – هو : ما له قيمةٌ بين الناس عرفاً ، فالعرف أصل التموُّل ، وهو جارٍ قائمٌ في هذه الحقوق ، ومحلُّ الحق المعنوي ، والذي سمَّاه القانون بالشيء غير المادي ، داخلٌ في حقيقة التموُّل ، ومسمَّى المال في الشريعة ؛ ذلك أن له قيمةٌ بين الناس عرفاً ، ويباح الانتفاع به شرعاً ، فإذا قام الاختصاص به تكون حقيقة الملك له قد وجدت .
2- الاختصاص وهو أثر التموُّل ونتيجته ، فيسع صاحب هذا الحق المعنوي الاختصاص بهذا الإنتاج ، وحقُّ التصرُّف فيه ، ومنع غيره من التعدِّي عليه أو الاستغلال له دون إذنه ، والشرع والقضاء والقانون يحمي ذلك الاختصاص ، فالدول الحديثة يقع فيها ذلك ، من خلال نظام الحماية والتسجيل والإيداع ، تحقيقاً للاختصاص ، وحفظاً للحقوق . والاتفاقات الدولية فرضت العقوبت والغرامات تأكيداً على منع انتحال هذه الحقوق .
3- أن هذا الاختصاص وإحراز كلِّ شيء بما يلائمه من هذه الحقوق المعنوية ، يقوم مقام الحيازة المادية ، فهو حيازةٌ اعتباريةٌ حكميةٌ ، كما أن هذه الحقوق مالٌ اعتباريٌّ .
4- الشرع أيضاً : لا يشترط التأبيد لتحقق معنى الملك ، فإذا كان لا بدَّ أن يوقَّت الحقُّ المعنوي بمدةٍ معينةٍ ، كما في القوانين المنظِّمة لذلك ، فإن هذا التوقيت لا يخرجه عن دائرة الملكية المعتبرة شرعاً . وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، في شأن الحقوق المعنوية ( 43، 5/5 ) ، مؤكِّداً ذلك ، بما يلي :
أولاً : ... الاسم التجاري ، والعنوان التجاري ، والعلامة التجارية ، والتأليف والاختراع أو الابتكار ، هي حقوقٌ خاصةٌ لأصحابها ، أصبح لها في العرف المعاصر قيمةٌ ماليةٌ معتبرةٌ لتموُّل الناس لها . وهذه الحقوق يعتدُّ بها شرعاً ، فلا يجوز الاعتداء عليها .(1/35)
ثانياً : ... يجوز التصرف في الاسم التجاري أو العنوان التجاري أو العلامة التجارية ونقل أي منها بعوضٍ ماليٍّ ، إذا انتفى الغرر والتدليس والغش ، باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً .
ثالثاً : ... حقوق التأليف والاختراع أو الابتكار مصونةٌ شرعاً ، ولأصحابها حقُّ التصرف فيها ، ولا يجوز الاعتداء عليها .
وقف الحقوق المعنوية :
بناءً على هذا القرار المجمعي الموفَّق ، وما في حيثياته وتعليلاته المسدَّدة ، وبناءً على ما سبق تقريره في محلِّ عقد الوقف وما يصحُّ وقفه ، ولنصوص الفقهاء المتعددة في أمثلةٍ من الحقوق والتصرفات ، وسَّعوا دائرة اعتبارها وتموُّلها ، ورعايتها ، وجوَّزوا الاعتياض عنها ، أو النزول عنها بعوضٍ ، على تفصيلٍ وخلافٍ بين المذاهب في ذلك ، من هذه الأمثلة :
1 بيع حق الممرِّ ، وبيع حق التعلِّي ، وحقِّ غرز الخشب على الجدار ، وجواز الاعتياض عن فتح الباب والنافذة ، وحفر البئر في الطريق بعوض ، وبيع حق الشّرب .
2 أو الاعتياض عن بعضها عن طريق التنازل والصلح ، في مسألة الخلو ، وحق الاستمرار في الوظائف السلطانية أو الوقفية .
لكلِّ ذلك : فإن وقف الحقوق المعنوية ، وتحبيسها ، ولو كانت مؤقتةً ، هو أمرٌ مشروعٌ، يصحُّ من واقفه ، ويدخل – بعد فضل الله تعالى – في أجر الصدقة الجارية .
صورٌ وتطبيقات للحقوق المعنوية ، مما يمكن ويصحُّ وقفه (1) :
أ حقوق الملكية الفكرية :
وهي تشمل :
1- المؤلفات المكتوبة في أي فنٍّ أو علم من العلوم ( المؤلفات الأدبية – التاريخية – العلمية – الفقهية – الجغرافية – الفلسفية... ) .
2- الاختراعات والابتكارات .
3- برامج الكمبيوتر وأوعية المعلومات ، من الأسطوانات والأقراص المدمجة .
4- الخرائط والرسوم الهندسية .
__________
(1) ... في جملة هذه التطبيقات والصور – انظر : المصادر السابقة ، وبحث د.صهيب حسن عبد الغفار عن " وقف المنافع والحقوق وتطبيقاتها المعاصرة " ص 208-214 .(1/36)
5- الأعمال التصويرية ، والتسجيلات المسموعة والمرئية .
6- المراسلات الشخصية ذات القيمة الأدبية أو التاريخية .
7- المواقع الإلكترونية ، تصميماً ومادةً ، سواءٌ أكانت لأفراد أو شركات أو جامعات أو قطاع حكومي ، أو غير ذلك .
ويمكن تحويل هذه الحقوق إلى وقف ، بأحد الأساليب التالية :
??تصريح من صاحب هذا الحق بعدم احتفاظه به = حقوق الطبع والتوزيع غير محفوظة ، وأنه يسوغ لكلِّ شخصٍ طبعه وتوزيعه .
??ما يحصل عليه صاحبه من نسخ ، أو إيقاف عددٍ من النسخ ، يوزع على طلبة العلم ، والمكتبات العامة ، والجامعات ونحوها .
??قد يستفيد صاحب هذا الحق من ريعه مادياً طيلة حياته ، لكن يعلِّق وقفه بحياته ، فإذا مات سرى وقفه ، متنازلاً عن حقِّه فيه ، علماً بأن القوانين العالمية تقرُّ له بهذا الحق إلى خمسين سنةً بعد وفاته .
??يأذن صاحب هذا الحق في وضعه على الشبكة العنكبوتية ( الإنترنت ) بحيث يكون مشاعاً ، لكلِّ من أراد الإفادة منه .
??يأذن بترجمته ونقله إلى لغات أخرى ، دون مقابل ، مريداً بذلك الوقف .
??وقف براءة الاختراع مثل وقف حق التأليف ، بأن يكون موضع نفع جميع الناس ، وقد وقع لكثيرٍ من الأطباء المسلمين المخلصين ، المزاولين لما يعرف بالطب اليوناني، في الهند وباكستان ونحوها أنهم ورثوا وصفات معينة وممارسات علاجية محددة ، ولعدَّة أمراض ، بعضها صعب ، ثم إنهم ورَّثوها لمن بعدهم ، وجعلوها بمثابة الوقف ، لينتفع بها الناس ، دون أن يحتكروها ، أو يمنعوا غيرهم منها .
ب-الاسم التجاري والعلامة التجارية :
الاسم التجاري : هو اللقب المخصص لنشاطٍ تجاري ، اكتسب شهرةً وعرف بهذا اللقب، وهناك شركات عرفت بجودة مصنوعاتها ، وأصالة خدماتها وصار لها رواجٌ بين الناس .(1/37)
والعلامة التجارية : ما اتخذ شكلاً مميَّزاً ، من الكلمات والحروف ، والأرقام والرموز ، والرسوم والنقوش ، أو أية إشارة أخرى ، مما يكون صالحاً لتمييز منتجٍ صناعي أو تجاري أو حِرَفي أو زراعي أو أي نشاطٍ قانوني آخر .
ولا شك أن صاحب الاسم التجاري أو العلامة التجارية ، قد بذل جهوداً ذهنية ، وأموالاً وأوقاتاً ، واستعان بخبراء ، ودفع مبالغ للدعاية والإعلان ، حتى استقرَّ له اعتبار هذا الاسم وهذه العلامة ، وحقوق المواصفات الجيدة لسلعته ، والسمعة الطيبة لنشاطه وتجارته .
ولأجل أن هذا الحق غدا متقوماً محفوظاً جاز لمالكه وقفه على سبيل التنازل عنه ، أو وقف ريعه .
وهذه الحقوق المعنوية – حال وقفها وتحبيسها من مالكيها ، فإنها تنتهي بانتهاء المدة المقررة قانوناً للتمتع بها ، كما أن لمالكيها توقيت وقفها ابتداءً بالمدة التي يرونها .
تساؤلاتٌ فقهية ، حول وقف الصكوك والأسهم ، وأجوبةٌ مقترحة
? ما حكم التصرُّف في الأسهم والصكوك الموقوفة بأنواعها ( القابلة للتداول وغيرها ، وبخاصة بالإبدال والاستبدال ؟
الأصل : بقاء الوقف واستمراره ما دام ظاهر المصلحة في ذلك ، فإذا ظهرت المصلحة ولو لزيادة الريع وتنمية الغلَّة ، فضلاً عن تعذُّر الانتفاع أو محدوديته = جاز الإبدال والمناقلة به ، ومن المعلوم أن الاقتصاديين يختارون الاستثمار الذي يولِّد أكبر عائدٍ مالي ، ما دام في دائرة الحلال .
والإبدال : إخراج الأصل الموقوف ، وهو هنا الأسهم والصكوك ، عن جهة وقفها ببيعها، واستبدالها بشراء أصلٍ آخر يكون بدلاً منها .(1/38)
وعلى رأس هذا الاتجاه المقدَّم المرجَّح ، اختيارُ الشيخ تقي الدين – رحمه الله تعالى – وهو قولٌ لبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة (1) .
لكن ينبغي تقييد ذلك – بخاصة في الوقف الجماعي المشترك – أن يحال أمر الإبدال والاستبدال إلى لجنةٍ من الفقهاء والخبراء ، مستقلةٍ في اتخاذ القرار ، لئلا يتخذ أمر الإبدال والاستبدال ذريعةً إلى إبطال الأوقاف .
قال صدر الشريعة : " يجوز الاستبدال .. ، ونحن لا نفتي به ، وقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يعدُّ ولا يحصى ، فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلةً إلى إبطال أكثر أوقاف المسلمين ، وفعلوا ما فعلوا " (2) .
? ما حكم التصرُّف فيها وفي حال استمرار الخسارة ، وانتهاء وقف الأسهم والصكوك ؟
من المقرَّر أن الخسارة في هذه الحال تكون بحسب الحصص ونصيب المساهم .
وإذا فني المال الموقوف ، ولم يبق منه شيء ، فقد انتهى الوقف . وإذا تحصَّل منه شيءٌ لزم جعله في جنس مصالح الجهة الموقوف عليها أولاً .
ويمكن أن يلجأ الواقف بمفرده لأسهمه وصكوكه ، أو ناظر الوقف = الجهة المشرفة = إلى أمر الإبدال والاستبدال بحسب النظر المصلحي المتوجِّه في مثل هذه الأحوال .
? لمن يؤول بدل ملكية الأسهم في حال تصفية الشركة أو المؤسسة إن وجد ؟
إن كان الواقف قد أبَّد وقف أسهمه أصلاً وريعاً على جهةٍ بعينها ، أو مصرفٍ محدَّدٍ ، فإن بدل ملكية الأسهم ، يؤول إلى هذه الجهة أو المصرف ، في مصالحها ، أو جزءٍ من مصالحها ، فإن تعذَّر ففيما يقرب من جنس مصالحها .
__________
(1) ... الاختيارات : 182 ، مجموع الفتاوى : 31/12-51 ، البحر الرائق : 5/223 ، حاشية ابن عابدين : 4/384 ، المبدع : 5/453 ، الإنصاف : 16/522-525 ، وقد صنِّفت في ذلك رسائل متقابلة في الإجازة والمنع ، ر.أ : رسالة إعمال المصلحة في الوقف / لسيدي العلاَّمة الشيخ عبد الله بن بيه : 26-33 ، في تأصيل ذلك وتفصيله.
(2) ... مجمع الأبحر : 1/736 .(1/39)
هذا إن أبدَّ الوقف ، ولم يشترط شيئاً ، وإلا إن قيَّد ذلك بمدةٍ ، أو حالٍ ، أو اشترط شيئاً صحَّ ذلك كله ، كما تقدَّم .
مشروع قرارٍ مقترح في وقف الأسهم والصكوك والمنافع والحقوق المعنوية
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين , وبعد :
يقرَّر ما يلي :
بناءً على الاتجاه المرجَّح لدى جملة الفقهاء المتقدِّمين والمعاصرين من أن حدَّ المال مرجعه العرف ، وما عدَّه الناس مالاً فهو مالٌ ، ما دام في دائرة الإباحة الشرعية .
وبناءً على الاتجاه المقدَّم في توسيع دائرة ما يصحُّ وقفه ؛ ليشمل كلَّ مملوكٍ متموَّلٍ عرفاً، متقوَّمٍ شرعاً ، ولتحقيق هذا الاتجاه لمقاصد الشرع من التبرعات بوجهٍ عام ، ولمقاصد الشرع من الأوقاف والحُبس على الخصوص – فإن مجلس المجمع قرَّر :
1 صحة وقف الأسهم المباحة ، والصكوك الوقفية ، والمنافع ، والحقوق المعنوية ، مادامت في دائرة الإباحة والتقوُّم الشرعي .
2 صحة وقف ذلك وحبسه فردياً ، أو عن طريق المساهمة في المشاريع والصناديق الوقفية المتنوعة .
3 بناءً على صحة وقف المنافع وحقوق الارتفاق والحقوق المعنوية ، فإنه تصرف غلاَّتها وريعها في وجوه البرِّ ، أو على شرط الواقف من المقاصد المعتبرة .
4 يصحُّ أن يكون ذلك كلَّه على سبيل التأبيد ، أو على سبيل التأقيت ، كما يصحُّ أن يكون وقفاً فردياً ، أو على سبيل الوقف المشترك ( الجماعي ) .
5 لا مانع شرعاً من استثمار أموال الأوقاف المختلفة في وعاءٍ استثماريٍّ واحدٍ ، بحسب المصلحة ، ومما لا يعارض المعتبر للواقف ، مع المحافظة على الذمم المستحقَّة للأوقاف .(1/40)
6 إذا استثمر المال النقدي الموقوف في شراء أسهمٍ أو صكوك ، فإن تلك الأسهم والصكوك لا تكون وقفاً بعينها مكان النقد ، ما لم يقصد الواقف ذلك ، ويجوز بيعها للاستثمار الأكثر عائدة لمصلحة الوقف ، ويكون أصل المبلغ النقدي هو الموقوف المحبَّس .
7 يمكن لمن تلبَّس في أموالٍ مشتبهةٍ أو محرَّمة ، لا يعرف أصحابها ، أن يبرئ ذمَّته ويتمَّ توبته ، ويتخلَّص من خبثها ، بوقفها على أوجه البرِّ العامة ، في غير ما يقصد به التعبُّد ، من نحو : بناء المساجد أو طباعة المصاحف .
ويوصي بما يأتي :
??الترحيب والإفادة من التجارب والابتكارات الرائدة لبعض الدول في تطوير أوعية الأوقاف واستثمار وتنمية الوقف ، مع ضرورة عرضها على المجامع والهيئات الشرعية لإقرارها .
??مع تقرُّر الاحتفاء بإشاعة الخير ، وتطوير وسائل وصيغ تمويل الأوقاف ، وتأصيل ذلك فقهاً إلا أنه لا بدَّ من المحافظة على الحقائق الشرعية والمصطلحات الفقهية ، وإظهار الحدود والفروق بينها . فالتوسع لما يصحُّ وقفه لا يعني إلغاء الحدود والمفاهيم الشرعية المستقرة ، والمدِّ والتطوير لا يراد به تمييع المسائل والفروع .
??نريد للأوقاف الإسلامية ، ونريد منها أن تكون قطاعاً ثالثاً في تنمية المجتمعات المسلمة ، وإقامة المصالح للأمة .
لكن لا نريد لها أن تتحوَّل إلى بدائل عن واجبات ومسئوليات الدول والحكومات ، بحيث تتخفَّف الدول من ذلك كلِّه ، وتضع أعبائها على ظهر الأوقاف ؛ لأنها هي المسئول الأول عن رعاية مصالح العباد والبلاد .
... والحمد لله أولاً وآخراً ، هو وليُّ كلِّ نعمةٍ ومُسدي كلِّ خيرٍ ، وصلَّى الله وسلَّّم وبارك على عبده ورسوله سيدنا ونبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .(1/41)