مقدمة الطبعة الثانية
الْحَمد لله، حَمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبده وسوله.
أما بعد:
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن النبِي ج قال: $الصلوات الْخَمس، والْجُمعة إلَى الْجُمعة، ورمضان إلَى رمضان؛ مكفرات لِمَا بينهن إذا اجتنبت الكبائر# اهـ.
ولا يكفر الذنوب إلاَّ العمل الصالح الذي أُريد به وجه الله T، وكان مطابقًا لِهَدي رسول الله ج؛ وإلاَّ كان العمل الذي لَم يتوفر فيه هذان الشرطان ردًّا على صاحبه، يتعب به في الدنيا ويتضرر به أيضًا في الآخرة.
هذا ولِمَا لِهَذه الشعيرة العظيمة من الأهمية البالغة في الدين فقد قصدت إفراد هذا المبحث الْمُختص بالْجُمعة من شرحي على منتقى ابن الْجَارود -رَحِمه الله-، وأضفت إليه ما يسره الله لِي من الأحكام والْمَسائل الْمُتعلقة بِمهمات الْمَوضوع، ثم ذيلته ببيان البدع والْمُخالفات فِي الْجُمعة؛ ليحذرها من يتحرى السنن ويتجنب البدع من عباد الله الصالِحين.
وكنت قدمت هذا الكتاب في طبعته الأولَى لدار ناشئة تسمى دار شرقين باليمن، أهلها ذوو خير وصلاح ومَحبة لنشر السنة فيما نَحسبهم، غير أنهم ليست لَهُم خبره في العناية بطبع الكتب؛ فحصل في الطبعة الأولَى تقديم في بعض الْمَواضيع وتأخير في بعض وسقط وأخطاء مطبعية كثيرة تَمَّ تداركها بِحمد الله في هذه الطبعة الثانية لدى دار نأمل أن يكون حليفها التوفيق في نشر كتب السنة بعناية طيبة، وهي: $دار الإمام أحمد#.
نسأل الله أن يَجعل أعمالنا، وأعمال القائمين عليها خالصة لوجهه الكريم نافعة لعباده الْمُؤمنين
كتبه
أبو عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
في عصر يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شهر صفر
للعام السابع والعشرين وأربعمائة وألف للهجرة النبوية
على صاحبها الصلاة والسلام
والحمد لله رب العالَمين
مقدمة الشيخ العلامة الْمُحدث(1/1)
مقبل بن هادي الوادعي -رحِمه الله-(1)
الْحَمد لله، حَمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يُحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبده وسوله.
أما بعد:
فقد اطَّلعت على كتاب $الْجُمعة# للشيخ يَحيى بن علي الْحَجوري؛ فوجدته كتابًا عظيمًا فيه فوائد تُشد لَها الرحال، مع الْحُكم على كل حديثٍ بِمَا يستحقه، واستيعاب الْمَوضوع؛ فهو كتاب كافٍ وافٍ فِي موضوعه، كيف لا يكون كذلك والشيخ يَحيى -حفظه الله- فِي غاية من التحري والتقى والزهد والورع وخشية الله؟! وهو قوَّال بالْحَق لا يَخاف فِي الله لومة لائم، وهو -حفظه الله- قام بالنيابة عنِّي فِي دروس دار الْحَديث بدماج يلقيها على أحسن ما يرام، وقد رحلت من دار الْحَديث والطلاب فيه نَحو الألف، وكنت أقول: الله أعلم ما الله صانع بِهم!! ولولا ما قدره الله ما كنت أحب أن أفارقهم، ولا أصبر على فراقهم أكثر من شهر.
فوالله ما فارقتكم قاليًا لكم ... ... ولكن ما يقضى فسوف يكون
وبيت آخر:
ما كل ما يتمنى الْمَرء يدركه ... تَجري الرياحُ بِمَا لا تشتهي السفن
وفوق ذلك قوله تعالَى: +وَمَا تَشَاءُونَ إِلاََّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ" [الإنسان: 30].
وقوله تعالَى: +وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا" [الأحزاب: 38]. آمنت بالقدر.
رحلت عنهم وهم قدر ألف طالب، ثُمَّ سألت بعد نَحو تسعة أشهر الأخ الفاضل الشيخ أحْمَد بن عبد الله الوصابي القائم على شئون الطلاب مع تعاون الإخوة أهل دماج الْحُراس معه، قلت له: كم عدد الطلاب؟ قال: نَحو ألف وخمسمائة وهم مقبلون على طلب العلم إقبالاً ليس له نظير.
__________
(1) كانت مراجعتِي الأخيرة لِهذا الكتاب بعد موت شيخنا -رحْمة الله عليه-.(1/2)
وفِي هذه الأيام سألته عن عدد الرجال والنساء من غير الأطفال فقال: نَحو ثلاثة آلاف، فجزى الله الإخوة القائمين على دار الْحَديث بدماج خيرًا على الرعاية والْحِراسة والتدريس فِي جَميع الْمَجالات يدرسون كلاًّ على مستواه.
ولَمَّا وصلنِي كتاب أخينا يَحيى؛ فلمحبتِي له أقرأ الكتاب وأنا مستلقٍ على قفاي لأمور يعلمها الله، ولولا أن عاجلنا السفر لأتْممت قراءة الكتاب من أجل الاستفادة منه.
فجزى الله أخانا الشيخ الفاضل الشيخ يَحيى خيرًا، وهنيئًا له لِمَا حباه الله من الصبر على البحث والتنقيب عن الفوائد الْحَديثية والفقهية، فهو كتاب أحاديث وأحكام، وكتاب جرح وتعديل مع ما فيه من الْمَسائل الفقهية الَّتِي تُشد لَها الرحال.
هذا وآخر دعوانا أن الْحَمد لله رب العالَمين.
كُتب صباح يوم الإثنين تسع عشر خلت من شهر ربيع الأول سنة ألف وأربعمائة واثنين وعشرين للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام.
الْمُقدِّمة
الْحَمد لله رب العالَمين، نَحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيقول ربنا - سبحانه وتعالى - فِي كتابه العظيم آمرًا نبيه الكريم -عليه أزكى الصلاة والتسليم- أن يقول: +قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [آل عمران: 31].(1/3)
فأبان الله T فِي هذه الآية الْمُباركة أن متابعة نبيه مُحَمَّد ص من أجلِّ الطاعات، وأعظم القربات، وأدل الدلالات على صدق مَحبة الله سبحانه، وأن ذلك من أعظم الأسباب الْمُوصلة إِلَى مَحبة الله تعالَى للعبد ومغفرة ذنوبه والسيئات، لذا فكان حقًّا على كل ناصحٍ لنفسه مشفق عليها من عذاب الله، راغبًا لَها فِي مرضاته أن يسعى جادًّا فِي سلوك سبيله والاهتداء بهديه ص مستعينًا بالله T أن يُمده بعونه على ذلك وتوفيقه فِي كل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة من شئون هذا الدين الْحَنيف.
وذلك يتطلب من العبد صدق النية وبذل الوسع واستفراغ الْجُهد فِي الوصول إِلَى معرفة صحيح سنة رسول الله ص؛ فيتبع ما ثبت منها حَتَّى يكون من الْمُفلحين، وعند ربه من الْمَحبوبين، كما دلت عليه تلك الآية العظيمة.
وكان الْحَادي بي إِلَى جَمع هذا الْجُزء هو ما رأيته من احتياج الناس إِلَى بيان أحكام هذه الفريضة الْمُتكررة ولو سبقت فيها كتابات من بعض الْمُتقدمين أو الْمُتأخرين، غير أن منهم من لا يتحرى ثبوت أدلة الاحتجاج، ومنهم من لَمْ يكمل الْمَادة ولَم يعطها حقها من البحث، وهذا الْجُهد الضئيل الذي شاركت فيه سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- أرجو اللهTأن يَجعل فيه بركته لي ولإخواني الْمُسلمين، وقد تَحريت فيه ثبوت ما أحتج به، ثُمَّ أردفته بذكر بعض البدع الَّتِي وقع فيها كثير من الناس، قصدت بذلك النصيحة لي ولإخواني الْمُسلمين؛ ليحذروا الوقوع فيها والتلوث بِمساوئها؛ فإن النَّبِي ص يقول: $كل بدعة ضلالة(1) وكل ضلالة فِي النار#. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وبِمَا أن أساس هذا البحث هو شرح منتقى ابن الْجَارود -رحِمه الله-؛ فنبدأ بذكر أحاديث الْجُمعة منه مع بيان حالِها.
__________
(1) أخرجه مسلم رقم(867)، والزيادة ثابتة عند النسائي -رحِمَه الله- فِي سننه، كما بينته فِي تَحقيق كتاب: $إصلاح الْمُجتمع#.(1/4)
وكان الفراغ من كتابة هذه الْمُقدمة فِي عصر يوم الأربعاء 10 جُمادى الأولَى عام 1421هـ فِي دار الْحَديث بدماج -أطال الله عمر بانيها لنفع الْمُسلمين-، والْحَمد لله رب العالَمين.
* * * * *
أحكام الجمعة
قال الإمام الْحَافظ أبو مُحَمَّد عبد الله بن علي بن الْجَارود -رحِمه الله- (52) باب الْجُمعة:
1- حدثنا ابن الْمُقرئ، قال: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - ، أن النَّبِي ص قال: $إن فِي الْجُمعة ساعة لا يوافقها رجل يصلي فيدعو الله بِخير إلا أعطاه#. اهـ.
سنده عند الْمُصنف صحيح؛ كل رجاله ثقات.
وقد أخرجه الإمام البخاري -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (935)، ومسلم رقم (852).
2- وقال -رحِمه الله-: حدثنا ابن الْمُقرئ قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سالِم، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله ص يقول: $من جاء منكم الْجُمعة فليغتسل#. اهـ.
وأخرجه البخاري رقم (894)، ومسلم رقم (844).
3- قال: حدثنا ابن الْمُقرئ قال: حدثنا سفيان، عن صفوان بن سليم، عن عطاء ابن يسار، عن أبي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - رواية: $الغسل يوم الْجُمعة واجب على كل مُحتلم#. اهـ. وسنده عند الْمُصنف صحيح؛ كل رجاله ثقات أئمة.
وأخرجه البخاري رقم (879)، ومسلم رقم (846).
4- قال -رحِمه الله-: حدثنا عبد الله بن هاشم $العبدي ثقة# قال: حدثنا عبد الرحْمَن –يعنِي: ابن مهدي- عن همام، عن قتادة، عن الْحَسن، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $من توضأ يوم الْجُمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل#. اهـ.(1/5)
وسنده عند الْمُصنف ضعيف، فيه عنعنة قتادة وهو مدلسٌ، وفيه انقطاع بين الْحَسن البصري وسمرة بن جندب؛ فالْحَسن لَمْ يسمع من سمرة إلاَّ حديث العقيقة فِي صحيح البخاري رقم (5472) قال: حدثنِي عبد الله بن أبِي الأسود قال: حدثنا قريش بن أنس، عن حبيب بن الشهيد قال: أمرني ابن سيرين أن أسأل الْحَسن مِمَّن سمع حديث العقيقة: $مع الغلام عقيقته؛ فأهريقوا عنه دمًا وأميطوا عنه الأذى#. فسألته، فقال: من سمرة بن جندب (مرفوعًا).
وقد اختلف أهل العلم فِي سماع الْحَسن من سمرة على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه سمع منه مطلقًا.
الثاني: لَمْ يسمع منه مطلقًا.
الثالث: أنه سمع منه حديث العقيقة فقط، وهذا أرجح الأقوال.
وقد رجحه الإمام النسائي فِي سننه (3/94)، والدارقطنِي فِي سننه، وابن حزم فِي الْمُحلَّى (2/12)، وعبد الْحَق الإشبيلي فِي الأحكام، والبزار فِي مسنده، وانظر ما قرره الزيلعي فِي نصب الراية (1/89-90).
والْحَديث من هذه الطريق يدور على قتادة عن الْحَسن عن سمرة، ومن هذه الطريق أخرجه أبو داود رقم (354)، والترمذي (497)، والنسائي (3/94)، وابن خزيْمَة (3/128)، وأحْمَد فِي أربعة مواضع من مسنده منها برقم (20349)، والبغوي فِي شرح السنة (2/164)، وابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (2/7) طبعة الباز.
ومن ضمن الرواة عن قتادة: شعبة بن الْحَجاج، وقد قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: قتادة، والأعمش، وأبِي إسحاق، فانحصرت العلة فِي الانقطاع بين الْحَسن وسمرة، وساق له الْحَافظ ابن حجر فِي التلخيص الْحَبير (2/134-135)، والزيلعي فِي نصب الراية (1/89-93) عدة طرق وشواهد عن أبِي هريرة وأنس وجابر وابن عباس وعبد الرحْمَن بن سمرة وأبِي سعيد الْخُدري، وكلها ضعيفة جدًّا لا تغنِي من ضعف الْحَديث شيئًا.(1/6)
على أن أصل الْحَديث؛ حديث الْحَسن عن سمرة، وما عدا ذلك من الطرق الْمَذكورة تُعتبر وهمًا، كما رجحه الإمام الدارقطنِي -رحِمه الله-، وتبعه الْحَافظ ابن حجر فِي التلخيص (2/134-135)، والزيلعي فِي نصب الراية (1/93).
وإذا رجع الْحَديث إِلَى تلك الطريق-طريق الْحَسن عن سمرة- كما جزم بذلك الْحُفاظ فقد علمت حال هذه الطريق فيما تقدم فِي بَحثها وأنها منقطعة، والله الْمُستعان.
5- قال ابن الْجَارود -رحِمه الله-: حدثنا ابن الْمُقرئ قال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبِي ص قال: $إن على كل باب من أبواب الْمَسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول، فإذا قعد الإمام طووا الصحف واستمعوا الْخُطبة، فالْمُهجِّر كالْمُهدي بَدَنَةً، ثُمَّ الذي يليه كالْمُهدي بقرة، ثُمَّ الذي يليه كالْمُهدي كبشًا، حَتَّى ذكر الدجاجة والبيضة#. اهـ. وسنده عند الْمُصنف تقدم.
وأخرجه البخاري رقم (929)، ومسلم رقم (850) بنحوه.
6- قال -رحِمه الله-: حدثنا مُحمد بن يَحيى قال: حدثنا يزيد بن خالد بن موهب قال: حدثنا مفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع، عن ابن عمر ب، عن حفصة ل، عن النَّبِي ص قال: $على كل مسلم رواح الْجُمعة، وعلى كل من راح الْجُمعة الغسل#.اهـ.
وسنده عند الْمُصنف صحيح.
فمحمد بن يَحيى هو الذهلي، ويزيد بن خالد بن موهب ثقة، وثقه بقي بن مَخلد، وقال ابن قانع: صالِح، وقال الْحَافظ فِي التقريب: ثقة عابد.
ومفضل بن فضالة هذا هو أبو معاوية الْمِصري، وثقه ابن معين وابن يونس، وقال الْحَافظ فِي التقريب: ثقة فاضل عابد أخطأ ابن سعد فِي تضعيفه.
وعياش بن عباس: هو القتباني ثقة وثقه ابن معين وأبو داود.
وبكير بن عبد الله: إمام ثقة ثبت.(1/7)
7- قال -رحِمه الله-: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يَحيى –يعنِي: ابن سعيد-، عن مُحَمَّد بن عمرو قال: حدثنِي عبيدة بن سفيان، عن أبِي الْجَعد عمرو بن بكر الضمري - رضي الله عنه - وكانت له صحبة- قال: قال رسول الله ص: $من ترك ثلاث جُمع تهاونًا؛ طبع على قلبه#. سنده عند الْمُصنف حسن.
عبد الله بن هاشم: هو العبدي، ثقة، ويَحيى بن سعيد: هو القطان إمام، ومُحمد بن عمرو: هو ابن علقمة، صدوق، حسن الْحَديث، وعبيدة بن سفيان: هو الْحَضرمي؛ قال العجلي: مدني تابعي ثقة، وذكره ابن حبان فِي الثقات. وقال ابن سعد: كان شيخًا قليل الْحَديث روى له مسلم والأربعة، وقال الْحَافظ فِي التقريب: ثقة. وعمرو بن بكر الضمري صحابي مترجم فِي الإصابة وأُسد الغابة.
8- قال -رحِمه الله-: حدثنا إسحاق بن منصور، عن أبي داود، عن فليح، عن عثمان بن عبد الرحْمَن التيمي سمع أنسًا - رضي الله عنه - قال: $كان رسول الله ص يصلي بنا الْجُمعة حين تَميل الشمس#.
رجال سنده كما يلي:
إسحاق بن منصور: هو ابن بهرام الكوسج، ثقة ثبت من الْمُتمسكين بالسنة والزهَّاد فِي الدنيا.
أبو داود: هو الطيالسي صاحب الْمُسند، إمام فارسي الأصل؛ قال ابن الْمَدينِي: ما رأيت أحفظ منه.
فليح: هو ابن سليمان، واسمه عبد الْمَلك، وفليح لقب غلب عليه، وفيه ضعف أخرج له البخاري فِي صحيحه، وقال الْحَافظ فِي مقدمة الفتح: لَم يعتمد عليه كاعتماده على مالك وابن عيينة وأضرابهما. اهـ.
وعثمان بن عبد الرحْمَن التيمي: روى عن أنس، وعنه: فليح بن سليمان وغيره، وثقه أبو حاتِم الرازي.
والْحَديث أخرجه البخاري رقم (904) من صحيحه عن طريق فليح بن سليمان، عن عثمان بن عبد الرحْمَن... به، ولَم أر من الأئمة من انتقده.(1/8)
9- قال -رحِمه الله-: حدثنا مُحمد بن يَحيى قال: حدثنا أبو عثمان عبد الْمَلك ابن عمرو العقدي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال: كان النداء يوم الْجُمعة إذا خرج الإمام وإذا قامت الصلاة فِي زمن النبِي ص وأبي بكر وعمر ب، حتى كان عثمان - رضي الله عنه - فكثرت الْمَنازل، فأمر بالنداء الثالث على الزوراء فثبت حتى الساعة. اهـ.
وسنده عند الْمُصنِّف صحيح؛ كل رجاله ثقات مشاهير، والسائب بن يزيد يعرف بابن أخت النمر صحابي صغير، والنمر هو ابن جَميل خال أبيه يزيد، وُلِدَ السائب فِي السنة الثانية من الْهِجرة، وروى عن النبِي ص عدة أحاديث منها ستة فِي الصحيحين اتفقا على واحد وانفرد البخاري بالباقي منها كما فِي الرياض الْمُستطابة للعامري.
وحديثه هذا أخرجه البخاري فِي أربعة مواضع من صحيحه (2/912 و913 و915 و916).
10- قال -رحِمه الله-: حدثنا مُحمد بن يَحيى قال: حدثنا حسن بن الربيع قال: حدثنا ابن إدريس قال: حدثنِي مُحمد بن إسحاق قال: حدثنِي مُحمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن عبد الرحْمَن بن كعب بن مالك قال: كنت قائدًا(1) لأبي بعدما ذهب بصره فكان لا يسمع الأذان يوم الْجُمعة إلا قال: رحْمة الله على أبِي أمامة. فقلت لأبي: إني ليعجبنِي صلاتك على أبِي أُمامة كلما سمعت الأذان يوم الْجُمعة!! قال: أي بنَي! كان أول من جَمَّع بنا الْجُمعة بالْمَدينة فِي هزم النبيت فِي حرة بنِي بياضة فِي روضة يقال لَها: نقيع الْخضمات. قال: قلت: كم أنتم يومئذٍ؟ قال: أربعون رجلاً. اهـ.
وسنده عند الْمُصنف حسن.
__________
(1) فِي النسخ الْمَوجودة لدينا: قاعدًا، والتصويب من سنن أبِي داود رقم (1069) وغيرها.(1/9)
حسن بن الربيع بن سليمان البجلي روى عن عبد الله بن إدريس، وعنه أصحاب الكتب الستة وغيرهم، قال أبو حاتِم: كان من أوثق أصحاب ابن إدريس. وقال ابن خراش: كوفِي ثقة، وشيخه عبد الله بن إدريس أرفع من ثقة.
ومُحمد بن إسحاق: هو صاحب السيرة، صدوق حسن الْحَديث، وهو وإن كان مدلسًا من الطبقة الرابعة فيما ذكره الْحَافظ فِي مراتب الْمُدلسين لكنه صرح بالتحديث عند ابن الْجَارود وغيره.
ومُحمد بن أبِي أُمامة وثقه ابن معين، وأبوه معدود فِي صغار الصحابة، قال أبو حاتِم: لا يُسأل عن مثله، وعبد الرحْمَن بن كعب ثقة ولد فِي عهد النَّبِي ص.
11- قال -رحِمه الله-: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا ابن فضيل، عن حصين، عن سالِم بن أبِي الْجَعد، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أقبلت عير ونَحن مع رسول الله ص نصلي الْجُمعة؛ فانفض الناس ما بقي غير اثنَي عشر رجلاً فنزلت: +وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" [الْجُمعة: 11].
سند الْحَديث عند الْمُصنف صحيح.
الأشج: هو عبد الله بن سعيد، ثقة وأرفع، وابن فضيل: هو مُحَمَّد بن فضيل بن غزوان، وثقه ابن معين وابن الْمَدينِي وغيرهما، وحصين: هو ابن عبد الرحْمَن السلمي ابن عم منصور بن الْمُعتمر وثقه كثيرون، وسالِم بن أبِي الْجَعد سمع من جابر بن عبد الله ووثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما.
12- قال -رحِمه الله-: حدثنا ابن الْمُقرئ ومُحمد بن آدم قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن جابر - رضي الله عنه - قال: دخل رجل يوم الْجُمعة ورسول الله ص يَخطب قال: صليتَ؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين.ا’.
وسنده عند الْمُصنف صحيح؛ رجاله ثقات.
وعمرو هذا الذي يروي عن جابر: هو عمرو بن دينار الْمَكي، وسفيان: هو ابن عيينة، والباقون قد تكررت تراجِمهم، وعلمت عدالتهم.
والْحَديث أخرجه البخاري رقم (930)، ومسلم رقم (875).(1/10)
13- قال -رحِمه الله-: حدثنا بَحر بن نصر قال: حدثنا ابن وهب قال: وسمعت معاوية بن صالح يُحدث عن أبِي الزاهرية عن عبد الله بن بسر قال: كنت جالسًا إِلَى جانبه يوم الْجُمعة فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الْجُمعة ورسول الله ص يَخطب، فقال رسول الله ص: $اجلس؛ قد آذيت وآنيت# اهـ.
سند الْحَديث عند الْمُصنف حسن.
بَحر بن نصر: هو الْخَولاني، ثقة، وعبد الله بن وهب: أرفع من ثقة، ومعاوية بن صالح: هو ابن حدير الْحَضرمي، وثقه جَماعة كثيرون وغمزه أبو حاتِم، وضعفه النسائي وابن سعد، وقال الْحَافظ فِي التقريب: صدوق، وهو كما قال.
وأبو الزاهرية: هو حُدير بن كُريب الْحَضرمي، وثقه ابن معين وابن سعد كما فِي تهذيب ابن حجر.
عبد الله بن بسر الْمَازني: أبو بسر، له ولأبويه وأخويه عطية بن بسر والصماء بنت بسر صحبة كما فِي الإصابة فِي تَمييز الصحابة لابن حجر.
14- قال -رحِمه الله-: حدثنا مُحَمَّد بن يَحيى قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ب قال: $كان رسول الله ص يَخطب يوم الْجُمعة خطبتين بينهما جلسة#.
سنده عند الْمُصنف كل رجاله أئمة.
وقد أخرجه البخاري رقم (928)، ومسلم رقم (861).
15- قال -رحِمه الله-: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال: حدثنا عبد الرحْمَن بن مهدي، عن سفيان، عن سماك، عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: $كان رسول الله ص يَخطب قائمًا، ثُمَّ يَجلس، ثُمَّ يقوم ويقرأ آيات ويذكر الله، وكانت خطبته قصدًا وصلاته قصدًا#.
وسنده عند ابن الْجَارود حسن، رجاله كلهم ثقات غير سماك وهو ابن حرب صدوق حسن الْحَديث، ومن طريقه أخرجه مسلم رقم (866).(1/11)
16- قال -رحِمه الله-: حدثنا الْحَسن بن مُحمد الزعفراني قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد الْمَجيد الثقفي، عن جعفر بن مُحمد، عن أبيه، عن جابر - رضي الله عنه - قال: $كان رسول الله ص إذا خطب احْمَرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه ينذر جيشًا يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الْحَديث كتاب الله، وخير الْهَدي هدي مُحمد ص، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة. ثم يقول: أنا أولَى بكل مؤمن من نفسه؛ من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ#.
سنده عند الْمُصنف صحيح.
الزعفراني هذا قال ابن عبد البر: كان نبيلاً ثقة مأمونًا، وثقه ابن أبِي حاتِم والنسائي، وعبد الوهاب الثقفي، قال ابن معين: ثقة، وجعفر بن مُحَمَّد هو الصادق ثقة، وأبوه: مُحَمَّد بن علي بن الْحُسين الباقر، وثقه ابن سعد والعجلي وغيرهما.
والْحَديث أخرجه مسلم فِي صحيحه رقم (867) من طريق جعفر عن أبيه ... به.
17- قال -رحِمه الله-: حدثنا أحْمَد بن يوسف قال: حدثنا خالد بن مَخلد قال: حدثنا سليمان -يعنِي: ابن بلال- قال: حدثنِي جعفر بن مُحَمَّد، عن أبيه قال: سمعت جابر بن عبد الله ب يقول: $كانت خطبة رسول الله ص يوم الْجُمعة يَحمد الله ويثنِي عليه، ثُمَّ يقول على إِثر ذلك وقد علا صوته ... # فذكر نَحوه.
خالد بن مَخلد: هو القطواني، فيه كلام وقد أخرج له البخاري حديث: $من عادى لِي وليًّا فقد آذنته بالْحَرب# رقم (6502)، عن سليمان بن بلال.
وقال ابن رجب في ملحق علل الترمذي (2/614): ذكر الغلابي في تاريخه قال القطواني يؤخذ مشيخة المدينة وابن بلال فقط يعنِي: سليمان بن بلال يعنِي بِهذا أنه لا يؤخذ عنه إلا حديثه عن أهل المدينةوسليمان بن بلال، لكنه أفرده بالذكر. انتهى
وأيضًا هو فِي الْمُتابعات لسند الْحَديث الذي قبله، وباقي رجال السند ثقات.(1/12)
18- قال -رحِمه الله-: حدثنا ابن الْمُقرئ قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يبلغ به النبِي ص: $إِذا قلت يوم الْجُمعة والإمام يَخطب: أنصت؛ فقد لغوت#.
سنده عند الْمُصنف صحيح، رجاله ثقات مشاهير.
وأخرجه البخاري رقم (934)، ومسلم رقم (851).
19- قال -رحِمه الله-: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنِي عقبة قال: حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن الْمُنتشر قال: سمعت أبِي يُحدث عن حبيب بن سالِم مولَى النعمان، عن النعمان بن بشير ب أن رسول الله ص: $كان يقرأ فِي الْجُمعة: سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية#.
سنده عند الْمُصنف حسن.
إبراهيم بن مُحَمَّد بن الْمُنتشر: ثقة، وثقه النسائي وابن معين وغيرهما، وأبوه ثقة، وثقه أحْمَد وابن سعد، وحبيب بن سالِم: مولَى النعمان بن بشير، وكاتبه وثقه أبو حاتِم وأبو داود وابن حبان، وقال البخاري: فيه نظر، وقال الْحَافظ: لا بأس به، وهو كما قال.
والْحَديث أخرجه مسلم فِي صحيحه رقم (878)، من طريق إبراهيم بن الْمُنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالِم ... به.
20- قال -رحِمه الله-: حدثنا الْحَسن بن مُحَمَّد الزعفراني قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثنا جعفر بن مُحَمَّد، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبِي رافع أن مروان بن الْحَكم استخلف أبا هريرة - رضي الله عنه - على الْمَدينة فصلى بِهم أبو هريرة الْجُمعة فقرأ بِهم بسورة الْجُمعة فِي الركعة الأولَى، وفِي الثانية إذا جاءك الْمُنافقون، قال عبيد الله: فلما انصرف أبو هريرة مشيت إِلَى جنبه، فقلت: لقد قرأت بسورتين سمعت عليًّا - رضي الله عنه - يقرأ بِهِمَا فِي الكوفة؟! فقال أبو هريرة: $سمعت رسول الله ص يقرأ بهما#.
وسنده صحيح تقدم برقم (16).
وعبيد الله بن أبِي رافع هو الْمَدني كاتب علي بن أبِي طالب ثقة، وثقه ابن سعد والْخَطيب البغدادي وآخرون.
والْحَديث أخرجه مسلم رقم (877).(1/13)
21- قال -رحِمه الله-: حدثنا مُحَمَّد بن يَحيى قال: حدثنا يزيد بن عبد ربه قال: حدثنا بقية، عن شعبة قال: حدثنِي الْمُغيرة الضبِّي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبِي صالح، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - ، عن رسول الله ص أنه قال: $قد اجتمع فِي يومكم هذا عيدان؛ فمن شاء منكم أجزأه من الْجُمعة وإِنا مُجمعون إِن شاء الله#.
سند الْحَديث عند الْمُصنف ضعيف.
يزيد بن عبد ربه: هو أبو الفضل الزُّبيدي الْمُؤذن ثقة.
بقية: هو ابن الوليد الْحِِمصي كان يكتب عمن أقبل وأدبر، كذا قال ابن الْمُبارك، وقال يعقوب: يُحدِّث عن قوم متروكين. اهـ.
قلت: الصحيح أن حديثه مقبول ما لَم يعنعن، وقد عنعن هاهنا، وهو مكثر من التدليس عن الضعفاء والْمَتروكين؛ حتى ذكره الْحَافظ ابن حجر من الطبقة الرابعة فِي الْمُدلسين، لكنه صرح بالتحديث عند أبِي داود وابن ماجه والْحَاكم بالأرقام الآتية بعد سطر.
والْمُغيرة هو ابن مقسم الضبِّي ثقة، ولكنه مدلس من الثالثة، وقد عنعن هنا، وعند أبِي داود رقم (1073)، وابن ماجه (1311)، والْحَاكم (1/288)، فالْحَديث ضعيف لأجل ذلك.
هذا وقد رجح الإمام الدارقطنِي، والإمام أحْمَد إرساله كما فِي التلخيص الْحَبير للحافظ ابن حجر (2/178)، ونيل الأوطار للشوكاني (2/571)، وأقر الشوكاني ذلك فلم يبق لي استدراك قط على ما قاله الإمامان ونقله الْحَافظان، فهم أئمة هذا الشأن، والاعتراض على مثل الإمام أحْمَد والدارقطنِي، وقد سلم لَهما بانتقاد بعض أحاديث الصحيحين فضلاً عن غيرها؛ فأنا أعتبر الاعتراض على مثلهما فِي ذلك شغبًا قليل الْجَدوى.
انتهت أحاديث منتقى ابن الْجَارود، وعددها واحد وعشرون حديثًا، منها حديثان برقم (4) ورقم (21) ضعيفان، والباقي (19) حديثًا بين صحيح وحسن، وقد حوت من أحكام وآداب الْجُمعة الْخَير الكثير، سيأتي بيان ذلك إِن شاء الله.(1/14)
والآن إِلَى توضيح ما يتعلق بغريب لفظة جُمعة، وأحاديث بابها هنا، بداية من الأول فما بعده... إلخ، عدا الْحَديثين فِي الباب.
* * * * *
قوله(1): باب الْجُمعة
سبب تسميتها بِهذا الاسم:
قال الراغب الأصفهاني فِي مفردات القرآن:
قولُهم: يوم الْجُمعة؛ لاجتماع الناس فيه للصلاة، قال تعالَى: +إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]. ويقال: جَمَّعُوا: إذا شهدوا الْجُمعة.
وقال الْحَموي: الْجُمُعة، بضم الْمِيم على الْمَشهور، وقد تسكن، وحكى الواحدي عن الفراء فتحها وسميت جُمعة؛ لاجتماع الناس فيها، وكان يوم الْجُمعة فِي الْجَاهلية يسمى العروبة. اهـ من شرح النووي على صحيح مسلم (6/130).
وقال الْحَافظ ابن حجر (2/353):
واختلف فِي تسمية اليوم بذلك مع الاتفاق على أنه كان يسمى فِي الْجَاهلية العروبة- بفتح العين الْمُهملة وضم الراء الْمُوحدة- فقيل: سمي بذلك لأن كمال الْخَلائق جُمِعَ فيه، وقيل: لأن خلق آدم جُمعَ فيه، ورد ذلك فِي حديث سلمان وله شاهد عن أبِي هريرة موقوفًا بإسناد قوي، وهذا أصح الأقوال، ثُمَّ ذكر أقوالاً أخرى لَمْ نذكرها لعدم قوتها.
قلت: قد وردت أحاديث فِي سبب تسميتها بِهذا الاسم أشار إِلَى بعضها الْحَافظ كما تقدم وهاك نصها:
__________
(1) أي: ابن الْجَارود.(1/15)
أخرج أحْمَد فِي الْمُسند (5/439 و440)، والنسائي (3/104)، وابن خزيْمَة فِي صحيحه (3/118)، والطبراني فِي الكبير (6/237) رقم (6089) كلهم من طريق منصور -وتابعه مغيرة عند أحْمَد والطبراني- عن أبِي معشر زياد بن كليب، عن إبراهيم، عن علقمة، عن القرثع الضبِّي -وكان من القراء الأولين فيما حكاه ابن خزيْمَة والنسائي- عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِي ص: $يا سلمان ما يوم الْجُمعة؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قالَها ثلاثًا وسلمان يقول: الله ورسوله أعلم. فقال: يا سلمان به جُمعَ أبوك -أو أبوكم- أنا أحدثك عن يوم الْجُمعة: ما من رجل يتطهر يوم الْجُمعة كما أُمر، ثُمَّ يَخرج من بيته حَتَّى يأتي الْجُمعة فيقعد فينصت حَتَّى يقضي صلاته؛ إلا كان كفارة لِمَا قبله من الْجُمعة# .اهـ. واللفظ لابن خزيْمَة.
وعند أحْمَد أن سلمان لَمَّا سأله رسول الله: $هل تدري ما يوم الْجُمعة؟ قال: هو اليوم الذي جُمع فيه أبوكم#. فالْمُجيب هنا: هو سلمان، والْمُجيب عند ابن خزيْمَة: هو النَّبِي ص.
وسنده كما يلي:
زياد بن كليب: روى عن: إبراهيم النخعي وآخرين، وعنه: مغيرة ومنصور وشعبة وغيرهم، ووثقه النسائي والعجلي وابن الْمَدينِي.
وإبراهيم النخعي: هو ابن يزيد، قال الأعمش: كان خيِّرًا فِي الْحَديث، وقال الشعبِي: ما تركت أحدًا أعلم منه.
والقرثع: قال الْحَافظ فِي التقريب: صدوق ووثقه العجلي، وقال ابن حبان: روى أحاديث يسيرة خالف فيها الأثبات، لَمْ تظهر عدالته، يسلك به مسلك العدول حَتَّى تَحتج به لكنه عندي يستحق مُجانبة ما انفرد به. اهـ من ميزان الاعتدال للذهبِي.
قلت: ويظهر من هذا أنه يصلح فِي الشواهد دون الاحتجاج.(1/16)
وشاهده من حديث أبِي هريرة: أخرجه أحْمَد فِي مسنده رقم (8088) (ج2/311) قال: حدثنِي هاشم قال: حدثنا الفرج بن فضالة قال: حدثنا علي بن أبِي طلحة، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل للنبِي ص: لأي شيء سمي يوم الْجُمعة؟ قال: $لأن فيها طبعت طينة أبيك آدم، وفيها الصعقة والبعثة، وفيها البطشة، وفِي آخر ثلاث ساعات سقط منها ساعة مَنْ دعا الله T فيها استجيب له#. اهـ
وسنده ضعيف؛ فيه فرج بن فضالة ضعيف، وعلي بن أبِي طلحة قال أبو حاتِم: روى عن أبِي هريرة وابن مسعود مرسل لَمْ يلقهما. اهـ. من جامع التحصيل للعلائي-رحِمه الله-، وجاء موقوفًا عن أبي هريرة قال الْحَافظ فِي الفتح (2/353): إسناده قوي. اهـ
ولَم أعثر عليه.
والْحَافظ إمام هذا الشأن فِي عصره، فقوله: مقبول. من باب تصديق خبر الثقة، فيكون هذا الأثر الْمَوقوف على أبِي هريرة شاهدًا لِحَديث سلمان الْمُتقدم أن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الْجُمعة: هو لأن الله جَمع فيه خلق آدم - عليه السلام - ؛ ولِهذا قال الْحَافظ: هذا أصح الأقوال. وهو كما قال -رحِمه الله-.
* * * * *
فضل يوم الْجُمعة
وأنها تسمّى عند الْمَلائكة يوم الْمزيد
قال تعالَى: +إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].(1/17)
قال الإمام أبو يعلى -رحِمه الله- (7/229) رقم (4228): حدثنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا الصعق بن حزن قال: حدثنا علي بن الْحَكم البناني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله ص قال: $أتاني جبريل بِمثل الْمِرآة البيضاء فيها نكتة سوداء. قلت: يا جبريل ما هذه؟ قال: هذه يوم الْجُمعة جعلها الله عيدًا لك ولأمتك، فأنتم قبل اليهود والنصارى، فيها ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه. قال: قلت: ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه يوم القيامة تقوم يوم الْجُمعة ونَحن ندعوه عندنا يوم الْمَزيد. قال: قلت: ما يوم الْمَزيد؟ قال: إن الله جعل فِي الْجَنة واديًا أفيح وجعل فيه كثبان من الْمِسك الأبيض، فإذا كان يوم الْجُمعة ينزل الله فيه فوضعت فيه منابر من ذهب للأنبياء وكراسي من در للشهداء، وينزلن الْحُور العين من الغرف فحمدوا الله ومَجدوه. قال: ثُمَّ يقول الله: اكسوا عبادي؛ فيكسون، ويقول: أطعموا عبادي؛ فيطعمون، ويقول: اسقوا عبادي؛ فيسقون، ويقول: طيبوا عبادي؛ فيطيبون، ثُمَّ يقول: ماذا تريدون؟ فيقولون: ربنا رضوانك. قال: يقول: رضيت عنكم، ثُمَّ يأمرهم فينطلقون وتصعد الْحُور العين الغرف وهي من زمردة خضراء ومن ياقوتة حَمراء#.
قال ابن أبي حاتِم: سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه الصعق بن حزن عن علي بن الْحَكم، عن أنس، عن النبِي ص. فذكر الْحَديث وقال: قال أبو زرعة هذا خطأ رواه سعيد بن زيد، عن علي بن الْحَكم، عن عثمان بن عمير، عن أنس، عن النبِي ج قال أبي: نقص الصعق رجلاً من الوسط. انتهى. من العلل رقم (571).(1/18)
قلت: وقد تصحف شيخ علي بن الْحَكم إلَى عبيد بن عمير، والصواب أنه عثمان بن عمير أبو اليقظان الكوفي مترجم في التهذيب، قال: ترك ابن مهدي حديثه، وقال ابن معين: ليس بشئ، وقال الدارقطنِي: متروك، وقال البخاري وأبو حاتِم: منكر الحديث، وقال ابن عدي: رديء الْمَذهب، غالٍ في التشيع، يؤمن بالرجعة، وأيضًا قال البخاري -كما في التهذيب-: لَم يسمع من انس، وقال الذهبِي في الميزان: عثمان بن عمير أبو اليقظان الكوفي عن انس وغيره راوي حديث الجمعة، ثم نقل تلك الأقوال فيه.
وساق العقيلي هذا الحديث في الضعفاء (1/292-293) من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس بن مالك به، ثم قال ليست له من حديث قتادة أصل.
هذا حديث عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس حدثنيه جدي ومحمد بن إسماعيل (قالا) حدثنا عارم أبو النعمان، قال حدثنا الصعق بن حزن عن علي بن الحكم عن عثمان عن أنيس.
ومِمَّا يؤيد قول الإمامين الرازيين أن الحافظ المزي ذكر في ترجمة علي بن الحكم البناني من تهذيب الكمال أنه روى عن عثمان بن عمير ولَم نرَ أحدًا ذكر له رواية عن أنس، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التقريب من الطبقة السادسة الذين لَم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كما بيَّن ذلك في مقدمة التقريب.
فصار الانقطاع في هذا الحديث واضحًا وأن الصعق بن حزن أسقط عثمان بن عمير بين علي بن الحكم وأنس ومن طريق عثمان بن عمير أخرجه البزار كما في كشف الأستار (4/3519)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/58- طبعة الباز).(1/19)
وللحديث طريق أخرى عند الطبراني في الأوسط (7/367 رقم 6713) قال حدثنا محمد بن أبي زرعة الدمشقي، قال حدثنا هشام بن عمار، قال حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن سالِم بن عبد الله أن سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله ج: $أتاني جبريل وفي يده كهيئة المرآة البيضاء فيها نكتة سوداء فقلت: ما هذه يا جبريل، قال هذه الجمعة بعثها ربك إليك تكون عبدًا لك ولأمتك ... الحديث.
قال الطبراني: لَم يرو هذا الحديث عن ابن ثوبان إلا الوليد بن مسلم وهذا إسناد ضعيف، هشام بن عمار لا يقبل فيما تفرد به، والوليد بن مسلم مدلس وقد عنعن، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان يحسن حديثه ما لَم يتفرد.
وللحديث عن أنس طريق أخرى أخرجها ابن أبي شيبة في المصنف (2/59 - طبعة الباز) فقال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك فذكره إلَى قوله فيها ساعة ... وسنده ضعيف فيه يزيد بن أبان الرقاشي مترجم في تهذيب التهذيب قال النسائي وغيره متروك، وذكره البوصيري في إتحاف الخيرة (3/6) من طريق بن أبي شيبة به وأعله بالرقاشي.
وجاء من حديث حذيفة بن اليمان عند البزار كما في كشف الأستار (4 رقم 3518) من طريق يحيى بن كثير، قال حدثنا إبراهيم بن المبارك عن القاسم بن مطيب عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: قال رسول الله أتاني جبريل يمثل المآة في وسطها لمعة سوداء ... فذكر الحديث مثله.
وإسناده ضعيف جدًّا، فيه القاسم بن مطيب، قال ابن حبان: يستحق الترك، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (رقم18772) فيه القاسم بن مطيب وهو متروك، وذكر الذهبِي الحديث من مناكيره في الميزان، قلت: لَم أرَ تركه غير ابن حبان، وقال الحافظ في التقريب: فيه لين.(1/20)
وأخرج البوصيري في إتحاف الخيرة (3/6) عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ج: $عُرضت عليَّ الأيام، فعُرض عليَّ فيها يوم الجمعة فإذا هي كالمرآة الحسناء وإذا في وسطها نكتة سوداء، فقلت: ما هذا السواد، فقال: هذه الساعة#. قال البوصيري: روه أبو بكر بن أبي شيبة بسند حسن.
قلت: ولَم يذكر سنده لننظر فيه ولَم أجده في مصنف ابن أبي شيبة.
وحاصل ما في هذا الباب: أن يوم الجمع عيد المسلمين، وكونه المزيد هذا صحيح بطرقه وشواهده، ومنها ما ذكرناه في الباب وهو المقصود من إيراد الحديث هنا، ولله الحمد.
وشاهدنا هنا: أن جبريل - عليه السلام - قال للنبِي ص: هذه الْجُمعة جعلها الله عيدًا لك ولأمتك؛ فسمَّاها الْجُمعة(1).
__________
(1) وكون يوم الجمعة عيد المسلمين ثبت فيه حديث أبي هريرة عند أحمد في المسند (2/303): أن النبِي ج قال: $يوم الجمعة يوم عيد؛ فلا تَجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده# والحديث حسن.
قال ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (2/81): فإن قيل فيوم العيد لا يُصام مع ما قبله ولا بعده. قيل: لَمَّا كان يوم الجمعة مشبهًا بالعيد أخذ من شبهه النهي عن تحري صيامه، فإذا صام قبله أو بعده لَم يكن قد تحراه. انتهى المراد.
قلت: وفي الباب جملة أحاديث في النهي عن صيام يوم الجمعة، منها: حديث أبي هريرة مرفوعًا: $لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا ان يصوم قبله أو بعده# أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (1144).
وحديث جابر عند البخاري رقم (1984)، ومسلم (1143) قال: $نهى النبِي عن صوم يوم الجمعة#.
وحديث جويرية عند البخاري رقم (1986): $أن النبِي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا. قال: فأفطري#.
وانظر حديث أبي هريرة في باب وجوب غسل الجمعة، وفيه: $أن هذا يوم جعله الله لكم عيدًا#.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم (ص304): وقد سمى النبِي ج الجمعة عيدًا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لِمَا فيه من معنى العيد.
وقال الحافظ في الفتح (4/235): واختلف في سبب النهي عن إفراده على أقوال أحدها لكونه عيد، والعيد لا يصام. انتهى المراد.
وكون يوم الجمعة يوم المزيد ثابت في صحيح مسلم رقم (2833) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رسول الله ج قال: $إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلَى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاًا ...# الحديث.(1/21)
وهو الروح الأمين على وحي الله، والنبِي ص سمَّاها الْجُمعة فِي أحاديث كثيرة وهو ما ينطق عن الْهَوى.
ولَم يذكر فِي القرآن يوم من أيام الأسبوع فِي سورة كاملة غير يوم الْجُمعة، فذكرها الله فِي سورة الْجُمعة.
وقد كانت الْجُمعة تسمى فِي الْجَاهلية: العَروبة -بفتح العين-، نقل الاتفاق على ذلك الْحَافظ ابن حجر فيما نقلناه عنه فِي أول الباب:
فيسمون الأحد ... ... ... أول
ويسمون الإثنين ... ... ... أهون
ويسمون الثلاثاء ... ... ... جبارًا
ويسمون الأربعاء ... ... ... دبارًا
ويسمون الْخَميس ... ... ... مؤنسًا
ويسمون الْجُمعة ... ... ... عروبة
ويسمون السبت ... ... ... شبارًا
وقد جَمع بعضهم أسماء أيام الأسبوع فِي بيتين؛ فقال:
أؤمل أن أعيش وأن يومي ... ... بأول أو بأهون أو جبار
أو الثاني دبار فإنه أفته ... ... فمؤنس أو عروبة أو شبار
ذكر هذه الأسماء من فتح الباري (2/353)، وذكرها كذلك مع نظمها ابن الْمُلقِّن فِي الأعلام (4/102)، وسيأتي ذكر أثر ابن سيرين فِي تسمية الْجُمعة يوم العروبة فِي فصل أول من جَمَّع بِهم فِي الْمَدينة وأول جُمعة جُمِّعت في شرح حديث كعب بن مالك الْمُتقدم رقم (10) من أحاديث الْمُنتقى:
ومنه يعرف زمن فريضة الْجُمعة، وأول جُمعة جُمعت، وقول عبد الرحْمَن بن كعب كنت قائدًا لأبي بعدما ذهب بصره.
ويشكل على هذا ما ثبت فِي البخاري رقم (4418)، ومسلم رقم (2769): أن عبد الله بن كعب بن مالك كان قائد كعب بن مالك من بنيه حين عمي.
قال الْحَافظ: ووقع عن الزهري فِي بعض روايات الْحَديث: عبد الرحْمَن بن كعب بن مالك. اهـ الْمُراد.
قلت: فيظهر أن حديث كعب الطويل فِي قصة توبته رواه عنه ابناه الاثنان: عبد الله وعبد الرحْمَن، وأن كلاًّ منهما كان قائدًا لأبيه حين عمي، فهذا يقوده حينًا وذاك آخر، وكلاهما كان قائدًا لأبيه؛ فلم يبق إشكال والْحَمد لله.(1/22)
قوله: رحْمَة الله على أبِي أمامة، هذا الذي ترحم عليه كعب بن مالك هو أسعد بن زرارة أبو أمامة الأنصاري - رضي الله عنه - ، ذكره الْحَافظ فِي الإصابة وذكر هذا الْحَديث عنده، وصرح باسمه عند أبِي داود رقم (1069)، وابن ماجه (1082)؛ فقال عبد الرحْمَن: كان كعب ابن مالك إذا سمع النداء يوم الْجُمعة ترحم لأسعد بن زرارة وقال: لأنه أول من جَمع بنا فِي هزم النبيت.
قوله: $إنه ليعجبنِي صلاتك#، أي: دعاؤك، كما عند أبِي داود ترحم على أسعد، وعند ابن ماجه: استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة؛ فتبيَّن أن الْمُراد بالصلاة هنا معناها اللغوي، أي: الدعاء.
قوله: $أي بُنَي#، أي: حرف نداء، وبنَي: منادى.
قال ابن مالك -رحِمه الله- فِي الألفية:
وللمنادى الناء أو كالناء يا ... ... وأي وآ كذا أيا ثُمَّ هيا
والْهَمز للداني و(وا) لِمَن ندب ... أو يا، وغير والدى اللبس اجتنب
معناه: أن الْمُنادى البعيد ينادى بواحد من خَمسة حروف: يا، أي، آ، أيا، هيا؛ فيقال: يا زيد، أي زيد، آزيد، أيا زيد، هيا زيد.
والْمُنادى الداني القريب ينادى بالْهَمز، فيقال مثلاً :أزيد، والْمُنادى الْمَندوب، ومعناه: الْمُتفجع عليه أو الْمُتوجع منه؛ فينادى بـ: وا، يقال: وا زيداه، وا رأساه.
وربَّما نودي بالياء إذا لَمْ يلتبس بغير الْمَندوب، فإن التبس الْمُتوجع منه أو الْمُتفجع عليه فيتعين أن ينادى بـ: $وا# فقط.
والْهَمز للداني و(وا) لِمَن ندب ... أو يا، وغير وا لدى اللبس اجتنب
أول من جمع
بالْمُسلمين فِي الْمَدينة
قوله: $كان أول من جَمع بنا الْجُمعة فِي الْمَدينة#.(1/23)
قلت: وهذا موضع خلاف، واستدل الإمام البخاري فِي أول كتاب الْجُمعة وقبله الإمام الشافعي فِي الأم استدلا -رحْمَة الله عليهما- بقول الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]. استدلا بِهَا على أن الْجُمعة فرضت بهذه الآية.
ومن الْمُتفق عليه أنها مدنية؛ فالْجُمعة فرضت بالْمَدينة.
قال الْحَافظ ابن حجر: فالأكثر أنها فرضت بالْمَدينة، وهو مقتضى ما تقدم أنها فرضت بالآية الْمَذكورة وهي مدنية. اهـ من فتح الباري (2/354).
ومن أدلة البخاري والشافعي -رحِمَهما الله-:
حديث أبِي هريرة عند البخاري رقم (876)، ومسلم (855) أن النَّبِي ص قال: $نَحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثُمَّ هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله؛ فالناس لنا فيه تبع اليهود غدًا والنصارى بعد غدٍ#(1).
قال الشافعي -رحِمه الله-: فالتنزيل والسنة يدلان على إيْجَابها.
قال الْمُوفق: فالأمر بالسعي يدل على الوجوب؛ إذ لا يَجب السعي إلا إِلَى واجب.
قال الزبير بن الْمُنير: وأما وجه الدلالة من الْحَديث: فهو من التعبير بالفرض؛ لأنه اللازم. اهـ الْمُراد.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/356): فيه أن الجمعة أول الأسبوع شرعًا ويدل على ذلك تسمية الأسبوع كله جمعة، وكانوا يسمون الأسبوع سبتًا كما في حديث أنس، وذلك أنهم كانوا مجاورين لليهود فتبعوهم في ذلك وفيه بيان واضح لمزيد فضل هذه الأمة على الأمم السابقة.(1/24)
قال القرطبِي -رحِمه الله- (18/95) من تفسيره: أما أول جُمعة جَمعها النَّبِي ص بأصحابه؛ فقال أهل السِّير والتواريخ: قدم رسول الله ص مهاجرًا حَتَّى نزل بقباء على بنِي عمرو بن عوف يوم الإثنين لاثنتَي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى..... فأقام بقباء إِلَى يوم الْخَميس وأسس مسجدهم، ثُمَّ خرج يوم الْجُمعة إِلَى الْمَدينة فأدركته الْجُمعة فِي بطن وادٍ لبنِي سالِم بن عوف، وقد اتَّخذ القوم فِي ذلك الْمَوضع مسجدًا، فجمع بِهم وخطب، وهي أول خطبة خطبها بالْمَدينة. اهـ الْمُراد.
وكلامه موافق لكلام البخاري والْجُمهور أنها أول جُمعة جَمعها النَّبِي بالْمَدينة، فلم تكن فرضت عليه بِمكة.
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/159): قال: أخبرنا أبو سعيد أحْمَد بن مُحَمَّد بن زياد البصري قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري قال: قرأنا على عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: جَمع أهل الْمَدينة قبل أن يقدم رسول الله ص وقبل أن تنزل الْجُمعة، وهم الذين سمَّوها الْجُمعة؛ فقالت الأنصار: لليهود يوم يَجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلمَّ فلنجعل يومًا نَجتمع ونذكر الله ونصلي ونشكره فيه!! فجعلوه يوم العروبة وكانوا يسمُّون يوم الْجُمعة العروبة، فاجتمعوا إِلَى أسعد بن زرارة فصلى بِهم يومئذٍ وذكرهم، فأنزل الله بعد ذلك: +إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]. اهـ.
وهذا مرسل سنده صحيح إِلَى ابن سيرين وهو موافق لِحديث كعب بن مالك الذي نَحن فِي شرحه.
وفِي بعض طرق الْحَديث قال كعب: كان أسعد أول من صلى بنا الْجُمعة بالْمَدينة قبل مقدم النَّبِي ص.
وفِي صحيح البخاري رقم (892) من حديث ابن عباس ب أنه قال: إن أول جُمعة جُمِّعت بعد جُمعة فِي مسجد رسول الله ص فِي مسجد عبد القيس بِجواثي قرية من البحرين.(1/25)
وعند النسائي فِي كتاب الْجُمعة (ص23) بلفظ: بعد جُمعة مع رسول الله ص بِمكة.
وفيه اختلاف بين اللفظ الذي عند النسائي والذي فِي الصحيح؛ ففي الصحيح أنها جُمعت بِمسجد رسول الله ص. وعند النسائي: أنها جُمعت بِمكة.
قال ابن رجب فِي فتح الباري (8/63): رواه وكيع وابن الْمُبارك وغيرهما عن إبراهيم بن طهمان بلفظ: بعد جُمعة جُمعت فِي مسجد رسول الله، وخالفهم الْمُعافى بن عمران فرواه عن إبراهيم بن طهمان بلفظ: بِمكة؛ فتبيَّن أنه وهم فِي إسناد الْحَديث ومتنه، والصواب: رواية الْجَماعة عن ابن طهمان.
ومعنى الْحَديث: أن أول مسجد بِجواثي جُمع فيه بعد مسجد الْمَدينة مسجد جواثي، وليس معناه أن الْجُمعة الَّتِي جُمعت بِجواثي، كان فِي الْجُمعة الثانية من الْجُمعة الَّتِي جُمعت بالْمَدينة كما قد يفهم من بعض ألفاظ الروايات؛ فإن عبد القيس إنمَا وفد على رسول الله ص عام الفتح؛ كما ذكر ابن سعد عن عروة بن الزبير وغيره.
وليس الْمُراد به أن أول جُمعة جُمعت فِي الإِسلام فِي مسجد الْمَدينة؛ فإن أول جُمعة جُمعت فِي الْمَدينة فِي نقيع الْخَضمات قبل أن يقدم النَّبِي ص وقبل أن يبنِي مسجده.
ثُمَّ استدل بِحديث كعب بن مالك الذي نَحن فِي شرحه، ثُمَّ ذكر ما يعارض هذا أن النَّبِي ج لَمَّا بعث مصعب بن عمير إِلَى الْمَدينة معلمًا؛ أمَرَهُ أن يُجمِّع بِهم.
قال ابن رجب: وهو موضوع؛ فيه أحْمَد بن مُحَمَّد بن غالب الباهلي الْمَعروف بغلام خليل، مشهور بالكذب.
قلت: قال أبو داود كما فِي ميزان الاعتدال للذهبِي: أخشى أن يكون دجال بغداد، وذكر مرسلاً عن الزهري فِي ذلك وبعض الآثار الضعيفة.
قال ابن حجر فِي التلخيص الْحَبير عند ذكر شيء من ذلك: ويُجمع بينهما أن أسعد بن زرارة كان أمر بالْجُمعة وأن مصعب بن عمير كان إمامًا.(1/26)
وقال ابن رجب: يُحتمل أن تَجمُّع الأنصار كان عن رأيهم واجتهادهم قبل قدوم مصعب، فلما قدم معلمًا لَهم جَمع بِهم بأمر النَّبِي ص .اهـ.
قلت: وإذا كان كذلك فلا تزال الأولوية لأسعد بن زرارة بأمر النَّبِي ص، وعند الْمُحاققة نرى أن تلك الآثار بين ضعيفة وموقوفة على أصحابها لا تقوى على معارضة حديث كعب بن مالك فِي الْمَسألة أن أسعد بن زرارة أول من جَمع بِهم فِي الْمَدينة.
فهذا عندي أرجح وبه قال ابن القيم فِي الزاد (1/372)، ولو صح خبر فِي أن مصعب بن عمير - رضي الله عنه - كان أول من جَمع بِهم فِي الْمَدينة مع حديث كعب؛ لكان الْجَمع ما ذكره الْحَافظ ابن حجر من أن أحدهم أمر والآخر صلَّى فكان كل واحد منهما يطلق عليه أوَّل من صلَّى الْجُمعة بالْمَدينة.
ومثل هذا الْجَمع ما ذكره بعضهم أن أسعد كان فِي موضع ومصعب فِي آخر فكلٌّ صلَّى فِي مكانه جُمعة، ومن مرجحات الذي قبله: أن الْمُسلمين آنذاك كانوا قليلين حَتَّى جاء فِي مرسل ابن سيرين أن أسعد بن زرارة ذبح لَهم شاة فتغدوا منها وتعشوا لقلتهم، وفِي حديث كعب قيل له: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين.
فالراجح -إن شاء الله-: هو ما نص عليه الْحَديث وبه قلنا أن أول من جَمع بالْمَدينة هو أسعد بن زرارة، وربنا أعلم بالصواب.
قوله:$فِي هزم النبيت#
قال ابن الأثير فِي النهاية: هزم -بفتح الْهَاء وسكون الزاي- هو ما انهزم من الأرض -أي: تشقق منها- ويَجوز أن يكون الْمُتطامن من الأرض. اهـ.
وبالأخير فقط قال فِي جامع الأصول، وتبعه الشوكاني -رحِمه الله- فِي نيل الأوطار (2/494)، وصاحب عون الْمَعبود، والْمَنهل العذب الْمَورود شرح سنن أبِي داود: أن هزم معناه: الْمُطمئن الْمُنخفض من الأرض.(1/27)
والنبيت: هو بفتح النون وكسر الباء وسكون الياء التحتية، بعدها مثناة فوقية قال فِي القاموس: هو أبو حي باليمن، واسمه عمرو بن مالك، ونقل هذا الشوكاني وغيره من شراح الْحَديث، والْمُراد: أن هزم النبيت موضع من حرة بنِي بياضة، وهي قرية على بعد ميل من الْمَدينة، وبنو بياضة: هم بطن من الأنصار.
قوله: فِي نقيع الْخَضِمات -بالْخَاء الْمُعجمة وكسر الضاد-.
قال ابن الأثير: هو موضع بنواحي الْمَدينة يتنقع فيه الْمَاء مدة، فإذا نضب عنه نبت فيه الكلأ، وقد حَماه عمر بعد ذلك لِخَيل الْمُسلمين ترعى فيه. اهـ من النهاية وجامع الأصول.
قوله: $كم كنتم؟ قال: أربعون#.
قلت: هذا الْحَديث أقوى ما عند القائلين باشتراط عدد أربعين للجمعة، على أن الاستدلال به هزيل كما سيأتي بيان ذلك فِي فصله -إن شاء الله-.
* * * * *
باب فضل الجمعة وأن الله T اختص بها هذه الأمة
دون غيرها من الأمم
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- برقم (876):
حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن أبِي الزناد، عن الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله ص يقول: $نَحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثُمَّ هذا يومهم الذي فرض عليهم؛ فاختلفوا فيه فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غدٍ#. وأخرجه مسلم رقم (855).
قال النووي: معناه: نَحن الآخرون فِي الزمان والوجود، والسابقون بالفضل ودخول الْجَنة؛ قال القاضي: والظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الْجُمعة. اهـ من شرح مسلم.
وكذا قال ابن بطال قال: لأنه لا يَجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن.
وثبت عن مُجاهد فِي تفسير الطبري أنه قال فِي تفسير قول الله تعالَى: +إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ" [النحل: 124]. قال: أرادوا الْجُمعة، فأخطئوا وأخذوا السبت مكانه. وفِي هذا نظر.(1/28)
فقد روى ابن أبِي حاتِم من طريق أسباط بن نصر عن السدي التصريح بأنهم فرض عليهم يوم الْجُمعة بعينه فأبوا، ولفظه: إن الله فرض على اليهود الْجُمعة فأبوا.
قال الْحَافظ: وليس بعجيب من مُخالفتهم كما وقع فِي قوله تعالَى: +وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ" [البقرة: 58]. فأبوا وقالوا: حنطة، وغير ذلك، وكيف لا وهم القائلون سمعنا وعصينا؟! اهـ من فتح الباري.
قلت: فالكتاب والسنّة يدلان أن بنِي إسرائيل لَمْ يكونوا منقادين لكل ما أمر الله به، وحديث الباب صريح فِي أنه فرض يوم الْجُمعة عليهم فاختلفوا فيه بين قابل ورافض، فحرمهم الله إِياه واختص به هذه الأمة وفقها الله، وقول القاضي عياض وابن بطال وغيرهما يعتبر باطلاً؛ لأنه مُجرد تَخمينات ليس عليها دليل.
ومن الأدلة على اختصاص هذه الأمة بيوم الْجُمعة: حديث أنس بن مالك الذي ذكرناه فِي تسمية الْجُمعة، وفيه أن جبريل - عليه السلام - قال للنبِي ص: $هذه الْجُمعة جعلها الله عيدًا لك ولأمتك؛ فأنتم قبل اليهود والنصارى#.
وتقدم أن ذكرنا أنه اليوم الذي ذكره الله فِي كتابه دون سائر أيام الأسبوع فِي سورة كاملة فقال تعالَى: +إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].
وأخرج البخاري رقم (876)، ومسلم (6/142 و144 نووي) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $نَحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثُمَّ هذا يومهم الذي فُرض عليهم فاختلفوا فيه؛ فهدانا الله، فالناس لنا فيه تَبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غدٍ#.
قال الْحَافظ: فيه دليل على فرضية الْجُمعة، وأن سلامة الإجْمَاع من الْخَطأ مَخصوص بهذه الأمة، وأن الْجُمعة أول الأسبوع شرعًا؛ لقوله: فالناس لنا فيه تبع، وفيه فضل هذه الأمة على الأمم السابقة. اهـ.
وفيه فضل يوم الْجُمعة حيث فرض الصلاة فيها على وجه مَخصوص.(1/29)
* * * * *
باب فضل الجمعة وأنها من مكفرات الذنوب
فقد أخرج مسلم رقم (233) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $الصلوات الْخَمس، والْجُمعة إِلَى الْجُمعة، ورمضان إِلَى رمضان مكفرات لِمَا بينهن؛ إذا اجتنبت الكبائر#.
وأخرج البخاري رقم (883) من حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $لا يغتسل رجل يوم الْجُمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يَمس من طيب بيته، ثُمَّ يَخرج لا يفرق بين اثنين، ثُمَّ يصلي ما كتب له، ثُمَّ ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى#.
وأخرج مسلم رقم (857) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $من توضَّأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ أتى الْجُمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الْجُمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الْحَصى فقد لغا#.
وأخرج مسلم رقم (854) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $خير يوم طلعت عليه الشمس: يوم الْجُمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أُدخل الْجَنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الْجُمعة#.
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $لا تطلع الشمس ولا تغرب على أفضل من يوم الْجُمعة، وما من دابة إلا وهي تفزع من يوم الْجُمعة إلا هذين الثقلين: الْجِن والإنس#.
أخرجه ابن خزيْمَة (3/115)، وابن حبان (7/5) رقم (2770)، وأحْمَد فِي الْمُسند (2/457)، والبغوي فِي شرح السنة (4/233)، وعبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/5563) كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحْمَن عن أبيه، عن أبِي هريرة، والعلاء وأبوه ثقتان، وأبوه أرجح منه.
وكثيرًا ما تَمر بنا هذه السلسلة فِي صحيح مسلم؛ فالْحَديث صحيح.
وجاء عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله ص قال: $يوم الْجُمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله T شيئًا إلا آتاه إياه؛ فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر#.(1/30)
أخرجه أبو داود (1048)، والنسائي (3/99-100)، والْحَاكم (1/279) من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الْحَارث، عن الْجلاح مولَى عبد العزيز أن أبا سلمة بن عبد الرحْمَن حدثه عن جابر بن عبد الله ... فذكر الْحَديث.
ورجاله ثقات إلا الْجَلاح فقال: لا بأس به، وقال ابن عبد البر: هو مصري تابعي ثقة، وقال الْحَافظ فِي التقريب: صدوق.
قلت: فحديثه هذا حسن على أقل الأحوال.
وجاء من حديث أوس بن أوس أن النَّبِي ص قال: $إِن من أفضل أيامكم يوم الْجُمعة؛ فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ. قالوا: كيف تُعرض عليك وقد أرمت -أي: بليت-؟ قال: إِن الله T حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء#.
أخرجه أبو داود رقم (1047)، والنسائي (3/91-92)، وابن ماجه رقم (1636) وغيرهم من طريق حسين بن علي الْجُعفي قال: حدثنا عبد الرحْمَن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن أوس بن أوس الثقفي ... فذكر الْحَديث.
وحسين بن علي الْجُعفي مولاهم: ثقة عابد، قيل لسفيان بن عيينة: قدم حسين، فوثب قائمًا وقال: قدم أفضل رجل يكون قط.
وعبد الرحْمَن بن يزيد بن جابر ثقة، وأبو الأشعث الصنعاني هو شراحيل بن آدة.
ومن تلك الطريق أخرجه أحْمَد (4/104)، والنسائي (3/95-96)، وابن خزيْمَة (3/1758)، وابن حبان (7/19-20) وغيرهم من طريق حسان بن عطية، ويَحيى بن الْحَارث الذماري، وعبد الرحْمَن بن يزيد بن جابر، وكلهم ثقات، يروون هذا الْحَديث عن أبِي الأشعث شراحيل بن آدة الصنعاني، وروى عنه غيرهم، وشراحيل وثقه ابن حبان والعجلي، وروى له مسلم والبخاري فِي الأدب الْمُفرد.(1/31)
وقد اختلف فِي الْحَديث؛ فقيل: عن أوس، وقيل: عبد الرحْمَن بن عمرو بن العاص، والصحيح: أنه عن أوس، وحديثه باللفظ الأول، قال الْمُنذري فِي الترغيب: له علة دقيقة أَشار إليها البخاري وغيره ليس هذا موضعها، وقد جَمعت طرقه فِي جزء، وقال الناجي فِي عجالة الإملاء: وليست هذه العلة قادحة؛ فإن للحديث شواهد من حديث جَماعات.
قلت: وكونه له شواهد لا يدل أن طريقه هذه ليس فيها علة قادحة، لكن كما قال ابن عبد الْهَادي وغيره: إِن له طرقًا يصلح بِهَا حالُه، وهو كما قال، أما حديث الثاني ففيه مبالغات، خالف فيها ما فِي الصحيحين أن من فعل ذلك غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى من حديث سلمان الفارسي وأبِي هريرة وغيرهما.
* * * * *
أيهما أفضل:
يوم الْجُمعة أم يوم عرفة؟
وقد اختلف أهل العلم أيهما أفضل: يوم الْجُمعة أم يوم عرفة؟ لِمَا ثبت فِي صحيح مسلم رقم (1348) من حديث عائشة ل أن النَّبِي ص قال: $ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإِنه يدنو ثُمَّ يباهي بِهم الْمَلائكة فيقول: ما أراد هؤلاء#. اهـ.
وجاء من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة#.
أخرجه ابن حبان كما فِي الْمَوارد رقم (1006 و1045)، وأبو يعلى (4/2090) والبزار رقم (1128- كشف الأستار) من طرق عن أبِي الزبير، عن جابر فذكر الْحَديث، وأبو الزبير مُحَمَّد بن مسلم بن تدرس مدلس، وقد عنعن عن جابر فِي الْمَصادر الْمَذكورة وعنعنته لا تقبل إلا إذا روى عنه الليث أو كانت فِي صحيح مسلم؛ ولِهذا فالْحَديث بِهذا اللفظ ضعيف.
وأخرج البخاري رقم (969) حديث ابن عباس أن النَّبِي ص قال: $ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الْحِجة#. ويوم عرفة من عشر ذي الْحِجة.
ففي حديث عائشة وابن عباس فضل يوم عرفة.(1/32)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلَى أن يوم عرفة أفضل أيام السنة، وأن يوم الْجُمعة أفضل أيام الأسبوع، ذكر هذا الإمام النووي فِي شرح مسلم (6/391).
فقال -رحِمه الله-: لو قال رجل لزوجته: أنت طالق فِي أفضل الأيام. فيه وجهان لأصحابنا، أصحهما: أنها تطلق يوم عرفة، والثاني: أنها تطلق يوم الْجُمعة، وهذا إن لَم يكن له نية، فأما إن أراد أفضل أيام السنة؛ فيتعيَّن يوم عرفة، وإن أراد أفضل أيام الأسبوع؛ فيتعيَّن يوم الْجُمعة، ولو قال: أفضل ليلة؛ تعينت ليلة القدر. اهـ الْمُراد من شرح النووي.
وارتضى هذا التفصيل الْحَافظ ابن حجر فِي فتح الباري (2/460) جَمعًا بين حديث أبي هريرة أن النبِي ص قال: $خير يوم طلعت عليه الشمس: يوم الْجُمعة#. وحديث ابن عباس: إن أفضل الأيام أيام العشر.
قلت: وهذا الْجَمع لا بأس به، وعندي أن أحاديث فضل يوم الْجُمعة أصح سندًا وأكثر عددًا وأصرح دلالة، فلو قال أحد: إن زوجته طالق فِي أفضل الأيام ولَم يقترن لفظه هذا بنية يوم معلوم؛ فتطلق فِي أَقرب يوم جُمعة؛ لأنه خير يوم طلعت عليه الشمس.
وأما قوله فِي حديث أوس بن أوس: إن من أفضل أيامكم يوم الْجُمعة؛ فـ: $مِن# هنا تُحمل أنها لبيان الْجِنس، كقوله تعالَى: +فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ" [الْحَج: 30]. أي: من جنس الأوثان، وليست $مِن# تبعيضية.
والْحَاصل: أن الْجمع الْمَذكور جَمع وجيه، وإنما كلامنا على ما إذا قال لزوجته: أنت طالق فِي أفضل الأيام دون أن يقترن لفظه بنية.
الراجح ما ذكرناه، وقد قال به بعض أهل العلم فيما نقله النووي وابن القيم فِي زاد الْمَعاد (1/375).
* * * * *
خصائص الْجُمعة
ذكر ابن القيم -رحِمه الله- فِي زاد الْمعاد (1/364-421) للجمعة ثلاثًا وثلاثين خصوصية على غيرها من الأيام نُجمل ذكرها هنا، ويأتي التفصيل فِي كل واحدة مِمَّا ثبت منها -إن شاء الله-:
1- قراءة سورة السجدة فِي فجر يومها.(1/33)
2- استحباب كثرة الصلاة على النَّبِي ص فيها.
3- اجتماع الْمُسلمين فيها لصلاة الْجُمعة أكثر الأيام، عدا يوم عرفة وهو من أيام السنة، ومن تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه.
4- الأمر بالاغتسال فِي يومها.
5- التطيب فيه.
6- السواك فيه.
7- التبكير للصلاة.
8- الاشتغال بالصلاة والذكر.
9- الإنصات للخطبة.
10- قراءة سورة الكهف.
11- عدم كراهة الصلاة فِي وقت الزوال قبل الْخُطبة.
12- قراءة سورة الْجُمعة والْمُنافقين، أو سبح والغاشية فِي صلاة الْجُمعة.
13- كونه يوم عيد.
14- استحباب لبس أحسن الثياب لصلاتها.
15- استحباب تَجمير الْمَسجد فيه.
16- عدم جواز السفر فيه لِمَن تَجب عليه الْجُمعة بعد دخول وقتها.
17- أجر الْمَاشي إِلَى صلاتها.
18- كونه يوم تكفير السيئات.
19- كونه لا تسجر فيه جهنم.
20- كونه فيه ساعة الإجابة.
21- كونه فيه صلاة الْجُمعة.
22- كونه فيه الْخُطبة.
23- يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة.
24- يستحب التبكير فيه إِلَى الْمَسجد.
25- مضاعفة الصدقة فيه.
26- يتجلى الله فيه لعبادِهِ يوم القيامة.
27- أنه هو الشاهد الْمَذكور فِي سورة البروج.
28- أنه اليوم الذي تفزع فيه الْخَلائق.
29- أنه اليوم الذي ادَّخره الله لِهَذه الأمة وأضل عنه أهل الكتاب.
30- أنه خيرة الله من أيام الأسبوع.
31- تعارف الْمَوتى فيه.
32- كراهة إفراده بالصوم.
33- أنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالْمَعاد.
هذه الْخَصائص بعد القيام ببحث أدلتها رأينا أن بعضها لا يصفو لابن القيم -رحِمه الله-.
ومن تلك الَّتِي ذكرنا أنها لا تصفو له: الْخَصيصة التاسعة عشرة أن جهنم لا تسجر يوم الْجُمعة؛ فيها عدة أحاديث: حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله ص سئل: ما بال يوم الْجُمعة يؤذن قبلها بالصلاة نصف النهار وقد نهيت فِي سائر الأيام؟ فقال: إن الله تعالَى يسعر جهنم كل يوم فِي نصف النهار ويُخبتها يوم الْجُمعة. اهـ.(1/34)
قال الْهَيثمي: فيه بشر بن عون، قال ابن حبان: روى مائة حديث كلها موضوعة. قال الْمُناوي: فكان على الْمُصنف حذفه. اهـ. من فيض القدير (2/303).
وجاء من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص نهى عن الصلاة نصف النهار حَتَّى تزول الشمس إلا يوم الْجُمعة. أخرجه الشافعي كما فِي زاد الْمَعاد (1/379) من طريق إبراهيم بن مُحمد عن إسحاق بن عبد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة ... فذكر الْحَديث.
وشيخ الشافعي إبراهيم بن مُحمد: هو ابن أبي يَحيى أحد كبار الكذابين عند النسائي.
وإسحاق بن عبد الله هذا: هو ابن أبي فروة مترجم فِي ميزان الاعتدال للذهبِي قال: رُويَ عن الزهري أنه سمع إسحاق يُحدث ويقول: قال رسول الله. فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة! ما أجرأك على الله! ألا تسند أحاديثك؟! تُحدث بأحاديث ليس لَها خطم ولا أزمة! وقال أحْمَد: لا تَحل الرواية عن إسحاق. وقال أبو زرعة وغيره: متروك. اهـ الْمُراد.
وأخرج أبو داود رقم (1083) من طريق ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة عن النبِي ج: $أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة# وضعفه أبو داود فقال: هو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لَم يسمع من أبي قتادة. انتهى.
قلت: وليث بن أبي سليم مختلط.
قلت: فأحاديث هذه الْخُصوصية أن جهنم لا تسجر يوم الْجُمعة كلها ساقطة ليس منها حديث قائم، وقد كان رسول الله ص إذا اشتد الْحَر يوم الْجُمعة؛ أبرد بالصلاة كما فِي صحيح البخاري رقم (906).
وقد عقد الإمام البخاري -رحِمه الله- بابًا فِي كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه فقال: باب الإبراد بالظهر فِي شدَّة الْحَر.
وذكر أربعة أحاديث عن ابن عمرو وأبِي هريرة وأبِي ذر وأبِي سعيد الْخدري أن النَّبِي ص قال: $إذا اشتد الْحَرُّ فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الْحَرِّ من فيح جهنم#.(1/35)
وفِي لفظ حديث أبِي ذر أن النَّبِي ص قال: $اشتكت النار إِلَى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا. فأَذِن لَها بنفسين: نفس فِي الشتاء ونفس فِي الصيف؛ فهو أشد ما تَجدون من الْحَر وأشد ما تَجدون من الزمهرير#. اهـ.
وكل هذه الأحاديث متفق عليها إلا حديث أبي سعيد انفرد به البخاري.
وفيح جهنم: انتشار حرها وغليانها. كما فِي النهاية لابن الأثير.
ففي هذه الأحاديث: أن الله أذن للنار بنفس من الْحَر فِي الصيف بدون تَخصيص يوم الْجُمعة من غيرها.
وفيها: أن النَّبِي ص رخص فِي الإبراد يوم الْجُمعة عند شدة الْحَر.
وفيها: أن شدّة الْحَر لا يكون إلا من تسعير وغليان جهنم.
فهل ينبغي أن يقال بتلك الأحاديث الْمَوضوعة مع معارضتها لِهذه الثوابت الَّتِي كالْجِبال؟! عفا الله عنك يا بن القيم.
ومنها: الْخُصوصية الْخَامسة والعشرون:
إن للصدقة فِي يوم الْجُمعة مزية على سائر الأيام، ثُمَّ استدل -رحِمه الله- لِهذا القول بأثر أخرجه عبد الرزاق -رحِمه الله- فِي الْمُصنف (3/255) قال: عن الثوري، عن منصور، عن مُجاهد، عن ابن عباس ب قال: اجتمع أبو هريرة وكعب، فقال أبو هريرة: إن فِي يوم الْجُمعة لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالَى فيها خيرًا إلا أتاه إيّاه. فقال كعب: ألا أحدثك عن يوم الْجُمعة؟! إذا كان يوم الْجُمعة فزعت السموات والأرض والبر والبحر والشجر والثرى والْمَاء والْخَلائق كلها إلا ابن آدم والشيطان. قال: وتَحُف الْمَلائكة بأبواب الْمَسجد؛ فيكتبون من جاء الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم فمن جاء بعد ذلك جاء بِحق الله (ولَمَا كتب عليه)، وحق على كل رجل حالِم يغتسل فيه كغسله من الْجَنابة، ولَم تطلع الشمس ولَم تغرب على يوم أفضل من يوم الْجُمعة، والصدقة فيه أعظم من سائر الأيام. اهـ.(1/36)
قلت: وسنده صحيح، لكن من الْمَعلوم أن كعب الأحبار مكثر من نقل الإسرائيليات، وهذه الْمَسألة تعتبر أصلاً؛ فلا يصلح أن يعتمد فيها على أثر لكعب الأحبار مع ما علم منه -رحِمه الله-، ولو رجعنا إِلَى الأدلة من القرآن وصحيح السنة لرأينا أن الصدقة الْمُطلقة مندوبة فِي كل يوم من أيام الله على مَمر الأسابيع والشهور والأعوام، وجعل فضيلة لَها فِي يوم من تلك الأيام على مثل أثر كعب هذا قول مردود.
وأما ما نقله ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام أنه كان إذا خرج إلَى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبزًا وغيره فيتصدق به في طريقه سرًّا، قال: وسمعته يقول إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله ج فالصدقة بين يدي مناجاته تعالَى أولَى بالفضيلة، فهذا اجتهاد عظيم منه -رحمه الله-، ولكنه قياس لا دليل عليه كما قدَّمنا، والله أعلم.
وأيضًا ذكر ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد (1/60-61) فضل موافقة يوم الجمعة ليوم عرفة من عشرة وجوه:
أحدها: اجتماع يومين فاضلين.
الثاني: أنهما اليوم الذي فيه ساعة الإجابة وهي بعد العصر، وأهل الموقف كلهم إذ ذاك واقفو للدعاء والتضرع.
الثالث: موافقته ليوم وقفة رسول الله.
الرابع: اجتماع المسلمين في عرفة وغير الحجاج في مساجدهم.
الخامس: أن يوم الجمعة يوم عيد ويوم عرفة عيد أهل عرفة .. إلخ.
السابعة والعشرون:
أنه فسر الشاهد الذي أقسم الله به فِي كتابه بيوم الْجُمعة.(1/37)
قلت: ولكن هذا التفسير غير صحيح؛ جاء عن أبِي هريرة عند الترمذي رقم (3339) فِي تفسير سورة البروج، واستدل به ابن القيم عند هذه الْخَصيصة من زاد الْمَعاد (1/411) من طريق موسى بن عبيدة، وهو الربذي، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $اليوم الْمَوعود: يوم القيامة، واليوم الْمَشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الْجُمعة#. ومداره عند ابن جرير وابن كثير وغيرهما على هذه الطريق.
وهاك القول فِي سند هذا الْحَديث: موسى بن عبيدة الربذي ضعيف جدًّا؛ قال أحْمَد: لا تَحل الرواية عنه. وقال يَحيى بن معين: ليس بشيء. وقال النسائي وغيره: ضعيف. اهـ الْمُراد من ميزان الاعتدال للذهبِي -رحِمه الله-.
وشيخه هنا أيوب بن خالد بن صفوان؛ قال الأزدي: ليس حديثه بذاك، تكلم فيه أهل العلم بالْحَديث، وكان يَحيى بن سعيد ونظراؤه لا يكتبون عنه. وقال الْحَافظ فِي التقريب: لين .اهـ.
أما عبد الله بن رافع؛ فثقة.
وجاء من حديث أبِي مالك الأشعري نَحو حديث أبِي هريرة ذكره الْهَيثمي فِي مَجمع الزوائد (7/135) فِي تفسير سورة البروج وقال: رواه الطبراني وفيه مُحَمَّد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، وذكر عن ابن عباس أنه قال: الشاهد: مُحَمَّد ص والْمَشهود: يوم القيامة. قال: رواه البزار ورجاله ثقات.
وسنده عند البزار كما فِي كشف الأستار (3/79) قال: حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس ... فذكره.
وعمرو بن علي: هو الفلاس، ثقة حافظ، وأبو عاصم: هو الضحاك بن مُخلد ثقة ثبت، وشبيب: هو ابن بشر البجلي وثقه ابن معين، وقال أبو حاتِم: ليِّن، وذكره ابن حبان فِي ثقاته وقال: يُخطئ كثيرًا.
قلت: فالظاهر أن مثله لا بأس بقبول روايته، أما قول الْهَيثمي فِي مَجمع الزوائد: إن رجاله ثقات. فغير صحيح؛ لأن شبيبًا لا يبلغ أن يكون ثقة.(1/38)
قلت: فذلك التفسير الذي نقله الإمام ابن القيم عن أبِي هريرة والأشعري مرفوعًا غير ثابت كما علمتَ، وثبت موقوفًا على أبي هريرة عند البيهقي في الكبرى (3/170).
وأصح منه: ما جاء عن ابن عباس من قوله هنا: والله يقول: +يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا" [الأحزاب: 45].
ويقول: +فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاََءِ شَهِيدًا" [النساء: 41].
ويقول عن يوم القيامة: +ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ" [هود: 103].
فتفسير ابن عباس تدعمه الأدلة من القرآن، ولو قال أحد: إن الآية أعم من ذلك؛ فقد أقسم الله فيها بكل شاهد ومشهود؛ لأن شاهدًا ومشهودًا نكرة فِي سياق الإثبات تقتضي العموم. لكان قولاً وجيهًا، ويدخل تَحت هذا العموم قول ابن عباس - رضي الله عنه - ، وما عدا هذين القولين فمرجوح.
ومنها: الثامنة والعشرون:
أنه اليوم الذي تفزع منه السموات والأرض ... إلخ. أخذها من أثر كعب الأحبار الذي ذكرناه فِي الْخَصيصة الْخَامسة والعشرين، وقد علمت أنه لا يُحتج به؛ فهذه الْخَصيصة تَحتاج إِلَى دليل.
ومنها: الْحَادية والثلاثون: أن الْمَوتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها فِي الْجُمعة فيعرفون زوارهم ومن يَمر بِهم.
قلت: وتَخصيص ذلك بيوم الْجُمعة ليس عليه دليل صحيح قط، وتعميم سماع الأموات مطلقًا فيه خلاف، أرجحه: عدم السماع إلا ما خصه الدليل من سماع أصحاب قليب بدر، وعند انصراف الناس من الْجَنازة بعد دفنها، وقد ألَّف الألوسي -رحِمه الله- كتابًا فِي ذلك سمَّاه: الآيات البينات فِي عدم سماع الأموات، حققه العلامة الألباني -رحِمه الله-، وسلك مسلك الألوسي فِي ذلك.
وأذكر من أدلته قول الله تعالَى: +إِنَّكَ لاََ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاََ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ" [النمل: 80].(1/39)
ومنها قوله تعالَى: +وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ" [فاطر: 22].
وحديث: $إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك#. وهو فِي صحيح البخاري رقم (6576) في الرقاق، باب في الحوض، ومسلم (2297) من حديث المغيرة بن شعبة. والبخاري (6584) من حديث سهل بن سعد، ورقم (6585) عن أبي هريرة، و (6586) عن أصحاب النبِي ج.
فراجع تلك الرسالة إن رمت الزيادة والإفادة.
وقال ابن عبد الْهَادي فِي الصارم الْمُنكي (ص160-161) فِي بيان حديث أوس بن أوس الذي فيه: فإن صلاتكم معروضة عليَّ. وحديث :فإن صلاتكم تبلغنِي. قال فيه: إنه يبلَّغ صلاة من صلى عليه، وليس فيه أنه يسمع ذلك؛ فإن هذا لَمْ يقله أحد من أهل العلم ولا يعرف فِي شيء من الْحَديث، إنمَا يقوله بعض الْجُهال؛ يقولون: إنه يوم الْجُمعة وليلة الْجُمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلَّى عليه؛ فالقول بأنه يسمع ذلك من الْمُصلي باطل وإنما فِي الأحاديث الْمَعروفة أنه يُبلَّغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك السلام تبلغه إياه الْمَلائكة. اهـ الْمُراد باختصار.
وأنصح بِمراجعة ذلك البحث الْمُمتع من أصله بتمامه.
وتالله إن الإمام شيخ الإسلام ابن القيم -رحمه الله- ولكنه تساهل فِي هذه الْمَسألة، وما هي باليسيرة.
فهذه خصائص أخطأ فيها الإمام ابن القيم -رحِمه الله- الصواب؛ إذ لَم يكن فيها نص سنة صحيحة ولا كتاب.
وقد قرأت فِي ذلك كتاب $اللمعة فِي خصائص الْجُمعة# للسيوطي -رحِمه الله- ذكر فيها للجمعة مائة خصيصة وواحدة على عادته فِي لفلفة الضعاف والْمَوضوعات، ولا أرى يصفو له من تلك الْمِائة الْخَصيصة إلا نَحو ربعها أو أكثر قليلاً بنحو ما ذكر هنا، والله أعلم.
* * * * *
صلاة الْجُمعة
فرض عين على كل ذكر
حر بالغ مقيم غير معذور
قال الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].(1/40)
وتقدم ذكر حديث أبِي هريرة فِي فضل الْجُمعة أن النَّبِي ص قال عن الْجُمعة: $هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه؛ فهدانا الله له#.
وقد بوب الإمام البخاري -رحِمه الله- فِي صحيحه: باب فرض الْجُمعة، وذكر هذين الدليلين.
وقال ابن الْمُنذر فِي الإجْمَاع (ص41):
وأجْمَعوا على أن الْجُمعة واجبة على الأحرار البالغين الْمُقيمين الذين لا عذر لَهم. اهـ.
وقال ابن رشد فِي بداية الْمُجتهد (1/379): وجوب صلاة الْجُمعة على الأعيان هو الذي عليه الْجُمهور. اهـ.
وقال ابن العربي: الْجُمعة فرض بإجْمَاع الأمة.
وقال ابن قدامة فِي الْمُغنِي: أجْمَع الْمُسلمون على وجوب الْجُمعة.
وقال العراقي: ما ادعاه الْخَطابي أن الْجُمعة فرض على الكفاية فيه نظر؛ فإن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنها فرض عين لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب.
قال الشوكاني: ومن جُملة الأدلة على أنها من فروض الأعيان: قول الله تعالَى: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].
ومنها: حديث طارق، وحديث حفصة، وحديث أبِي هريرة.
قلت: أما حديث أبِي هريرة؛ فهو الذي استدل به البخاري وذكرناه آنفًا.
وأما حديث حفصة؛ فيعنِي ما تقدم فِي أحاديث ابن الْجَارود رقم (6) أن النَّبِي ص قال: $على كل مسلم رواح الْجُمعة، وعلى كل من راح الْجُمعة الغسل#. وهو صحيح كما بيَّناه هناك.
وأما حديث طارق بن شهاب؛ فأخرجه أبو داود رقم (1067) قال: حدثنا عباس ابن عبد العظيم قال: حدثنِي إسحاق بن منصور قال: حدثنا هريم، عن إبراهيم بن مُحمد بن الْمُنتشر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب أن النبِي ج قال: $الْجُمعة حق واجب على كل مسلم فِي جَماعة إلا أربعة: عبد مَملوك، أو امرأة، أو صبِي، أو مريض#.اهـ.(1/41)
وسنده حسن كل رجاله ثقات إلا إسحاق السَّلولي؛ فصدوق حسن الْحَديث، وعباس بن عبد العظيم أبو الفضل: إمام حافظ، وإسحاق بن منصور وهو السَّلولي: صدوق، وهريم: هو ابن سفيان البجلي ثقة، وإبراهيم بن مُحمد: ثقة وثقه جَمْع كثير.
وقيس بن مسلم: هو الْجَدلي روى عن طارق، وعنه: إبراهيم هذا وغيره، وهو أرفع من ثقة؛ قال الفسوي: ثقة ثقة.
وطارق بن شهاب؛ ذكره الْحَافظ فِي الإصابة، وابن الأثير فِي أُسد الغابة، وابن عبد البر فِي الاستيعاب، قال الْحَافظ: رأى النبِي ص؛ فهو صحابي صغير.
وإذا ثبت أنه لَم يسمع منه؛ فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح. اهـ من الإصابة رقم (4245).
فهو بهذه الطريق حسن، وقد جاء عن طارق بن شهاب عن أبي موسى الأشعري عن النبِي ص.
وحكم العلامة الألباني على زيادة ذكر أبِي موسى بالنكارة؛ فقال: رواه جَماعة عن إسحاق بن منصور... به، ولَم يذكروا أبا موسى، وخالفهم عبيد بن مُحَمَّد العجل؛ فزاد ذكر أبِي موسى، وحكم البيهقي على هذه الطريق فِي الكبرى (3/172) بأنها غير مَحفوظة، وقال عن مرسل طارق بن شهاب: إنه مرسل جيد.
وساق العلامة الألباني -رحِمه الله- شواهده فِي الإرواء (3/54) وفِي بعضها زيادة: $والْمُسافر#. وهي زيادة ضعيفة جاءت من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - ، قال الْهَيثمي فِي مَجمع الزوائد (2/173) طبعة الْمَعارف: أخرجه الطبراني فِي الأوسط وفيه إبراهيم بن حَماد ضعفه الدارقطنِي، ومن حديث أبِي الدرداء عند الطبراني فِي الكبير قال الْهَيثمي فِي مَجمع الزوائد: وفيه ضرار، أظنه ابن عمرو الْمَلْطِيَّ ضعيف.
قلت: أما ضرار بن عمرو؛ فذكر عنه الذهبِي فِي الْميزان أنه معتزلي جلد، له مقالات خبيثة، وذكر شيئًا منها.
قال أحْمَد بن حنبل: شهدت على ضرار عند سعيد بن عبد الرحْمَن القاضي، فأمر بضرب عنقه فهرب.
قال ابن حزم: كان ضرار ينكر عذاب القبر.
قال الذهبِي: هذا الْمُدبر لَمْ يرو شيئًا. اهـ.(1/42)
وجاء من حديث جابر وفيه ابن لَهيعة ضعيف، ومعاذ بن مُحَمَّد الأنصاري مَجهول كما فِي ترجَمته من الْمِيزان، وعلى هذه الضعاف وبعض الآثار نُقل الإجْمَاع على أنه لا جُمعة على مسافر.
قال ابن عبد البر فِي الاستذكار (5/76): وأما قوله –أي: مالك- فِي الْمُوطأ (107): ليس على مسافر جُمعة؛ فإجْمَاع لا خلاف فيه.
ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كما فِي مَجموع الفتاوى (24/178) رجحه بكلام نفيس لولا خشية الطول لنقلناه.
وقد ذكرنا هذا الْمَبحث فِي كتابنا: $أحكام السفر# بأوسع من هذا، والفضل لله.
فتبيَّن من ذلك: أن صلاة الْجُمعة فرض عين إلا على من استثنِي فِي حديث طارق بن شهاب - رضي الله عنه - وهم خَمسة:
1- العبد الْمَملوك؛ لأن الوجوب عليه إلزام بِمَا لا يستطيعه، فهو مرغم بالرق فقد لا يستطيع الْحُضور لشغله بعمل سيده.
2- والْمَرأة.
3- والصبِي.
4- والْمَريض.
5- والْمُسافر على الصحيح.
وجُمهور العلماء على عدم وجوب الْجُمعة على هؤلاء الْخَمسة وعلى بعضهم إجْمَاع؛ انظر الْمَجموع شرح الْمُهذب، والْمُغنِي لابن قدامة، والأوسط لابن الْمُنذر (4/17)، فِي كتاب الْجُمعة منها، ولَم نذكر أرقامها لاختلاف النسخ.
ولِمَزيد الاطلاع على أدلة وجوب الْجُمعة؛ انظر ما سنذكره فِي الباب الآتي فِي فصل وعيد من تَخلف عن الْجُمعة لغير عذر.
* * * * *
وعيد من تخلف
عن الْجُمعة لغير عذر
تقدم فِي أحاديث ابن الْجَارود رقم (7)، وأخرجه أبو داود رقم (1052)، وأحْمَد (3/424)، والترمذي رقم (500)، والنسائي (7/26)، وأبو يعلى، والدارمي (1/396)، وابن خزيْمَة (3/1357و1358)، وابن حبان (7/26)، كلهم من طريق مُحَمَّد بن عمرو بن علقمة قال: حدثنا عبيدة بن سفيان الْحَضرمي، عن أبِي الْجَعد الضمري - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $من ترك ثلاث جُمع تهاونًا من غير عذر؛ طبع على قلبه#.
وسنده حسن؛ مُحمد بن عمرو: صدوق حسن الْحَديث.
وعبيدة بن سفيان: ثقة.(1/43)
وأبو الْجَعد الضمري: صحابي، أثبت صحبته الْحَافظ ابن حجر فِي الإصابة رقم (9693)، وأبو نعيم فِي أسماء الصحابة، وكثير من الذين أخرجوا الْحَديث يقولون: عن أبي الْجَعد الضمري وكانت له صحبة.
وجاء من حديث جابر بن عبد الله عند ابن ماجه رقم (1126)، وأحْمَد (3/332)، والْحَاكم (1/292) من طريق أسيد بن أبي أسيد البراد، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله ص قال: $من ترك الْجُمعة من غير ضرورة؛ طبع الله على قلبه#.
وقد اختلف فِي الْحَديث على أسيد هذا؛ فقيل: عنه، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه. وقيل: عنه، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن جابر. وأسيد بن أبي أسيد هذا صدوق، وقد رجح الدارقطنِي طريق أسيد، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن جابر؛ فالظاهر: أن العلة التِي فِي هذا الْحَديث غير قادحة، ثم هو فِي الشواهد كما ترى.
وجاء من حديث مُحمد بن عبد الرحْمَن بن سعد بن زرارة، عن عمه، عن النبِي ص باللفظ الأول وزاد: $طبع على قلبه وجعل قلبه قلب منافق#.
قال الْحَافظ فِي التلخيص الْحَبير (2/109): أخرجه أبو يعلى ورواته ثقات.
وجاء عن ابن عباس موقوفًا عليه.
قال أبو يعلى فِي مسنده (5/102): حدثنا حُميد بن مسعدة قال: حدثنا سفيان بن حبيب بن عوف، عن سعيد بن أبِي الْحَسن، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: من ترك ثلاث جُمع متواليات؛ فقد نبذ الإسلام وراء ظهره.
وأخرجه عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3) رقم (5169) من طريق جعفر بن سليمان، عن عوف العبدي ... به.
وجعفر بن سليمان: هو الضبِّي؛ صدوق حسن الْحَديث، وهو متابع بسفيان بن حبيب فِي السند الذي قبله عند أبِي يعلىـ وهيثم بن بشير عند ابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (2/154) طبعة الباز، فصار مُخرج الأثر عوف، وهو ابن أبِي جميلة العبدي الأعرابي ثقة.(1/44)
وسعيد بن أبِي الْحَسن: هو أخو الْحَسن البصري؛ ثقة كما فِي ترجَمته من تهذيب التهذيب لابن حجر، روى عن ابن عباس وعنه أخوه الْحَسن البصري وعوف الأعرابي ويَحيى بن سعيد وقتادة وأئمة آخرون، وثقهُ أبو زرعة والنسائي وغيرهما، فالأثر عن ابن عباس صحيح إليه.
وأخرج مسلم فِي صحيحه رقم (865) من حديث أبِي هريرة وعبد الله بن عمرو سمعا النَّبِي ص يقول على أعواد منبره: $لينتهينَّ أقوام عن ودْعِهم الْجُمُعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثُمَّ ليكوننَّ من الغافلين#. اهـ.
وأخرج مسلم فِي صحيحه رقم (652) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال لقوم يتخلفون عن الْجُمعة: $لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثُمَّ أحرق على رجال يتخلفون عن الْجُمعة بيوتهم#. اهـ.
أما قوله فِي بعض الأحاديث السابقة ومنها حديث الضمري الذي عند ابن الْجَارود رقم (7) فِي باب الْجُمعة قوله: من ترك ثلاث جُمع؛ فقد جاء ما يفيد أن هذا الوعيد فِي حق من ترك ثلاث جُمع متواليات، بيان ذلك فِي أثر ابن عباس الذي تقدَّم آنفًا أنه صحيح، وفيه: من ترك ثلاث جُمع متواليات... إلخ.
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/165) عن رجل من أصحاب النَّبِي ص أن النَّبِي قال: $من سمع الأذان ثلاث جُمعات ثُمَّ لَمْ يَحضرها؛ كتب من الْمُنافقين#. وإسناده حسن فِي الشواهد.
وجاء من حديث عبد الله بن أبي أوفى ذكره الْهَيثمي فِي الْمَجمع (2/193) وعن جَماعة آخرين ذكر أحاديثهم الْهَيثمي فِي الْمَجمع بالرقم السابق؛ فهذه الأحاديث مع أثر ابن عباس تدل على أن الوعيد فِي حق من ترك ثلاث جُمع متتابعات.
قوله فِي حديث الضمري: تهاونًا؛ قال العراقي: الْمُراد بالتهاون: تركها من غير عذر. وقال عبد الْحَق: التهاون: التكاسل وعدم الْجَد فِي أدائها. اهـ من تُحفة الأحوذي (3/13-14).
قلت: وهذه الْمَعاني كلها متقاربة.(1/45)
وقد جاء الْحَديث عند أحْمَد فِي مسنده (3/332) وغيره بلفظ: $من ترك ثلاث جُمع من غير عذر ...#.اهـ.
فمن كان معذورًا بعذر شرعي كالْخَوف الشديد أو حصول الْمَطر أو مرض أو نَحو ذلك من الأعذار؛ فجائز.
قال البغوي فِي شرح السنة (4/215): أما من ترك الْجُمعة لعذر؛ فجائز بالاتفاق فقد دعي ابن عمر لسعيد بن زيد وهو يَموت وابن عمر يستجمر للجمعة فترك الْجُمعة وأتاه. اهـ.
أخرجه الشافعي فِي الْمُسند رقم (436) فقال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نُجيح، عن إسماعيل بن عبد الرحْمَن بن أبي ذئب قال: دعي ابن عمر لسعيد بن زيد... إلخ.
قال: وأخبرت عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مثله.
قلت: وسنده صحيح كل رجاله ثقات أئمة كما ترى.
قوله: طبع على قلبه
جاء فِي مسلم كما تقدم فِي الباب بلفظ: $ليختمن الله على قلوبهم ثُمَّ ليكونن من الغافلين#.
والله سبحانه يقول عن الْمُنافقين: +خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ" [البقرة: 7]. وفِي هذا الْحَديث طبع على قلبه.
والله يقول عن الْمُنافقين: +اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أنهم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ((( ذَلِكَ بِأنهم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاََ يَفْقَهُونَ" [الْمُنافقون: 2-3].
وجاء بيان ذلك فِي حديث أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $من ترك ثلاث جُمع؛ طبع على قلبه قلب منافق#.
وحاصل ذلك: أن من ترك ثلاث جُمع متتابعات عمدًا من غير عذر شرعي؛ طبع وختم على قلبه فيصير قلبه قلب منافق.
فنسأل الله العظيم الْحَليم أن يعيننا على طاعته ويُجنبنا أسباب سخطه وغضبه؛ فهو مولانا؛ نعم الْمَولَى ونعم النصير.
* * * * *
هل يشترط
لإقامة الْجُمعة عدد مخصوص؟(1/46)
اختلف فِي ذلك على نَحو خسمة عشر قولاً؛ فقيل: تصح بأربعين. استدلالاً بِحديث كعب بن مالك الذي تقدم لنا عند ابن الْجارود حسب ترتيب أحاديث الباب رقم (10): أن أسعد بن زرارة صلَّى بِهم بالْمَدينة وكانوا أربعين.
وقال بعضهم: تصح باثنَي عشر رجلاً لِحديث جابر بن عبد الله الذي تقدَّم ذكره عند ابن الْجَارود فِي الْمُنتقى رقم (11) وهو عند مسلم قال: أقبلت عيرٌ ونَحن مع رسول الله ص نصلِّي الْجُمعة، فانفض الناس ما بقي غير اثنَي عشر رجلاً فنزلت: +وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" [الْجُمعة: 11].
وذكروا أقوالاً أخرى من هذا الاستدلال وأبعد، وحتى لا أطيل عليك بذكر الْخِلاف الذي لا ينتج عنه كبير فائدة؛ فأكتفي بِمَا ذكره عدد من أجلة العلماء الْمُحدِّثين والفقهاء البارزين.
ذكر الْحَافظ ابن حجر فِي بلوغ الْمَرام: حديث جابر بن عبد الله ب قال: مضت السنة أن فِي كل أربعين فصاعدًا جُمعة. رواه الدارقطنِي فِي سننه (2/3-4)، وضعفه الْحَافظ فقال: إسناده ضعيف.
قال العلامة ابن الأمير الصنعاني -رحِمه الله- فِي شرح هذا الْحَديث من سبل السلام (2/476): وذلك أنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحْمَن، قال فيه أحْمَد: اضرب على أحاديثه؛ فإنها كذب أو موضوعة، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطنِي: منكر الْحَديث. وقال ابن حبان: لا يَجوز أن يُحتج به.
قال الصنعاني: فِي الباب أحاديث لا أصل لَها.
وقال عبد الْحَق وهو الإشبيلي: لا يثبت فِي العدد حديث.
قال الصنعاني: وقال أبو حنيفة: وبعض الشيعة: تنعقد الْجُمعة بثلاثة مع الإمام، وهو أقل عدد تنعقد به؛ لأن الْخِطاب فِي الآية +فاسعوا إِلَى ذكر الله" للجماعة، وأقل الْجَمع ثلاثة.(1/47)
قلت: بل أقل الجمع اثنان؛ لقول الله تعالَى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}. وقوله تعالَى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدون}. ونظائر ذلك كثير في القرآن والسنة.
قال الصنعاني: ولا دليل على تعيين العدد من الكتاب والسنة. اهـ الْمُراد.
وقال صاحب حدائق الأزهار، فِي سياق ما تصح به الْجُمعة: إنها تصح بثلاثة مع مقيمها.
فتعقبه الشوكاني فِي السيل الْجَرار (1/297) فقال -رحِمه الله-: أقول: هذا الاشتراط لِهَذا العدد لا دليل عليه قط، وهكذا اشتراط ما فوقه من الأعداد، وأما الاستدلال بأن الْجُمعة أقيمت فِي وقت كذا(1) وعدد من حضرها كذا؛ فهذا استدلال باطل لا يتمسك به من يعرف كيفية الاستدلال، ولو كان هذا صحيحًا لكان اجتماع الْمُسلمين معه ص فِي سائر الصلوات دليلاً على اشتراط العدد.
والْحَاصل: أن صلاة الْجَماعة قد صحت بواحد مع الإمام.
وصلاة الْجُمعة هي صلاة من الصلوات؛ فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الْجَماعة فعليه الدليل ولا دليل، فإثبات مثل هذه الشروط بِمَا ليس بدليل أصلاً فضلاً عن أن يكون دليلاً على الشرطية مُجازفة بالغة وجرأة على التقول على الله وعلى رسوله وعلى شريعته، والعجب من كثرة الأقوال فِي تقدير العدد حَتَّى بلغت خَمسة عشر قولاً وليس على شيء منها دليل يستدل به قط، إلا قول من قال: إنها تنعقد جَماعة الْجُمعة بِمَا تنعقد به سائر الْجَماعات.اهـ.
ثُمَّ إنه كرر ذلك ورجح ما قاله هنا فِي كتابه نيل الأوطار (3/264) طبعة الْحَلبِي.
وقال الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم فِي الْمُحلَّى (5/46) مسألة (522): وأما العدد الذي يصلي الإمام فيه ركعتين؛ فقد اختلف فيه ...
__________
(1) إشارة إِلَى رد قول من استدل بِحديث كعب وحديث جابر الذي ذكرنا أن بعضهم استدل بِهِمَا على اشتراط الأربعين أو الاثنَي عشر.(1/48)
وبعد ذكر الاختلاف أورد تلك الأقوال النائية فِي كلام طويل ثُمَّ رجح أن الْجُمعة تصح بِمَا تصح به الْجَماعة.
ونقل العلامة الألباني -رحِمه الله- بعض كلام الإمام الشوكاني -رحِمه الله- من السيل الْجَرار فِي سلسلته الضعيفة (3/349) عند حديث رقم (1204) ثُمَّ قال: وهذا هو الصواب.
وسمعت تكرارًا ومرارًا من شيخنا العلامة الوادعي الفتوى بِهذا القول وهو منقول عن الطبري والنخعي.
وقال السيوطي: لَمْ يثبت فِي شيء من الأحاديث تعيين عدد مَخصوص. نقل هذا سيد سابق فِي فقه السنة وقال به.
قلت: وبِما أنه لَمْ يثبت نص فِي تَحديد العدد الذي تصح به الْجُمعة؛ فلا مزيد عندي على ما ذكره هؤلاء الأئمة -رحِمَنا الله وإياهم-، ومن قال غيره فلا يقبل منه إلا بدليل صحيح، وهيهات له ذلك.
فنكتفي به عن ذكر الْخِلاف الْمَشهور الذي ألف فيه شمس الْحَق آبادي رسالة مستقلة فِي أنه على أهل القرى جُمعة، وبوب عليها الإمام البخاري فِي صحيحه: الْجُمعة فِي القرى والْمُدن، وذكر حديث ابن عباس أن أول جُمعة جُمعت بعد جُمعة فِي مسجد رسول الله فِي مسجد عبد القيس بِجواثي قرية من البحرين. اهـ.
ونَحن استغنينا عن بسط تلك الْمَسألة؛ لأنا نقول: إذا وجدت جَماعة من الْمُسلمين فِي أي مدينة أو قرية وجبت عليهم الْجُمعة ولو لَمْ يكتمل لَهم عدد اثنَي عشر أو غيره من الأعداد، ما لَمْ يكن لَهم عذر شرعي من سفر أو مطر أو خوف أو نَحو ذلك.
تنبيه: نقل الإجْمَاع على اشتراط الْجَمع من الناس فِي الْجُمعة، واختلفوا فِي قدر العدد؛ انظر الْمَجموع (4/371).
والراجح: أنها تصح بِمَا تصح به الْجَماعة كما تقدم بيان ذلك. والحمد لله.
* * * * *
قراءة سورة الكهف يوم الْجُمعة
تقدم أن جعلها ابن القيم -رحِمه الله-
فِي زاد الْمَعاد الخصوصية العاشرة
من خصوصيات الْجُمعة(1/49)
وقد أخرج الدارمي فِي سننه (2/454)، وسعيد بن منصور كما فِي التلخيص الْحَبير بسنده ورجاله ثقات عن أبِي سعيد موقوفًا عليه أنه قال: من قرأ سورة الكهف يوم الْجُمعة؛ أضاء له نور من تَحت قدميه إِلَى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الْجُمعتين. فالْمَوقوف صحيح، صححه غير واحد من أهل الْحَديث.
وجاء مرفوعًا عند الْحَاكم (2/368)، وعند البيهقي فِي الكبرى من طريق نعيم ابن حَماد وهو ضعيف؛ قال الذهبِي: ونعيم ذو مناكير.
وأخرجه النسائي كما فِي التلخيص الْحَبير (2/146)، وقال: والْمَوقوف أصح.
وقال ابن القيم فِي زاد الْمَعاد: والْمَوقوف أشبه. اهـ.
فعلم أنه موقوف على أبِي سعيد حَتَّى ولو لَمْ ينفرد نعيم بالْحَديث، فالْحُفاظ رجحوا وقفه، وذكر له ابن مردويه شاهدًا فِي تفسيره نقله عنه ابن كثير فِي التفسير وقال: إسناده غريب.
قلت: وفيه خالد بن سعيد بن أبي مريم مترجم في الجرح والتعديل (3/333)، والبخاري في التاريخ الكبير (3/152) ولَم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً.
وذكره الْمُنذري فِي الترغيب والترهيب وقال: إسناده لا بأس به، والْحَافظ ابن كثير فِي الغالب يطلق الغرابة على الضعف.
وشاهد آخر فِي الْمُختارة للمقدسي: من طريق عبد الله بن مصعب بن زيد بن خالد الْجُهنِي، عن علي بن الْحُسين، عن أبيه، عن علي بن أبِي طالب - رضي الله عنه - ، كذا سنده كما فِي تفسير ابن كثير.
وسنده ضعيف، عبد الله بن مصعب بن منظور ضعيف كما في ترجمته من الميزان للذهبِي ولسان الميزان.
فالْحَاصل: أنه لَمْ يثبت رفع الْحَديث لضعف هذه الطرق كما ترى.(1/50)
ومن الْجَدير بالذكر: أن كثيرًا من الْمَسائل نرى لَها آثارًا عن السلف، إما فِي القول بِهَا أو عدمه، بينما هذه الْمَسألة لَمْ نَجد لَها أثرًا ثابتًا عن أحد منهم أنه كان يتحرى ذلك بعد البحث فِي مظانها كمصنف ابن أبِي شيبة، ومصنف عبد الرزاق، والسنن الكبرى للبيهقي، والأوسط لابن الْمُنذر، ومَجمع الزوائد، مِمَّا يدل على عدم انتشار قراءة سورة الكهف فِي يوم الْجُمعة عندهم، لذا فأنا فِي شك من القول باستحباب قراءتها يوم الْجُمعة وجعل ذلك من خصائص الْجُمعة.
والقول بعدم استحباب قراءتها فِي كل جُمعة أقرب عندي؛ لعدم ثبوت ذلك عن رسول الله ص ولعدم انتشاره بين السلف -رضوان الله عليهم-، والله أعلم.
* * * * *
حكم اجتماع
الْجُمعة مع العيد
أخرج أبو داود -رحِمه الله- (3/408- عون)، قال: حدثنا مُحَمَّد بن طريف البجلي قال: أخبرنا أسباط وهو ابن مُحَمَّد، عن الأعمش، عن عطاء بن أبِي رباح قال: صلَّى بنا ابن الزبير فِي يوم عيد فِي يوم جُمعة أول النهار ثُمَّ رحنا إِلَى الْجُمعة فلم يَخرج إلينا، فصلينا وحدانًا، وكان ابن عباس بالطائف، فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال: أصاب السنة. اهـ. وسنده صحيح.
مُحَمَّد بن طريف: هو أبو جعفر الكوفِي، أثنى عليه ابن نُمَيرة، ووثقه الْخَطيب؛ فهو ثقة.
وأسباط بن مُحَمَّد: ثقة، إلا حديثه عن الثوري ففيه شيء، وليس هذا منه.
والأعمش وعطاء: إمامان مشهوران.
ومعناه: أن أصحاب رسول الله ص لَمَّا لَمْ يأت الأمير للخطبة بِهم لَمْ يسقطوا الظهر، بل صلوا ظهرًا(1).
__________
(1) نقل الإجْمَاع أن الْجُمعة لا تصح إفرادًا وإنما تصح بالْجَماعة كما فيث الْمَجموع شرح الْمُهذب (4/371)، فقوله هنا: صلوا وحدانًا. أي: ظهرًا.(1/51)
وجاء فِي الباب حديث زيد بن أرقم عند أحْمَد، وأبِي داود، وابن ماجه، والنسائي، والْحَاكم أن معاوية سأله: هل شهدت مع رسول الله ص عيدين؟ فقال: نعم، صلَّى العيد أول النهار ثُمَّ رخص فِي الْجُمعة، فقال: $من شاء أن يُجمع فليجمع#. وفيه إياس بن أبي رملة، قال ابن الْمُنذر: حديثه هذا لا يثبت، وإياس مَجهول. كذا فِي الْمِيزان للذهبِي.
وجاء من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: قد اجتمع فِي يومكم هذا عيدان؛ فمن شاء أجزأه من الْجُمعة وإنا مُجمعون.اهـ. أخرجه أبو داود رقم (1073)، وابن ماجه رقم (1311)، والْحَاكم (1/288)، والبيهقي (3/318)، ورجح أحْمَد بن حنبل والدارقطنِي إرساله كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر رقم (697).
وجاء من قول عطاء بن أبِي رباح، قال: اجتمع يوم الْجُمعة ويوم الفطر فقال: عيدان اجتمعا فِي يوم واحد، فجمعهما جَميعًا فصلاهما ركعتين بكرة لَمْ يزد عليهما حَتَّى صلَّى العصر. اهـ.
قلت: وهذا مبلغ علم عطاء أنه لَمْ يصل الظهر، وليس فيه أنه لَمْ يصلِّها فِي بيته، إنمَا لَمْ يَخرج إليهم كما تقدَّم قوله بأوضح من هذا فِي أول الباب.
وتابعه وهب بن كيسان بنفس اللفظ وجاء عن ابن عمر نَحو ذلك، وذكره الْهَيثمي فِي مَجمع الزوائد (2/198) وقال فيه: رجلان لَمْ يَجد من ترجَمهما.
مِمَّا يدل على سقوط الْجُمعة إذا اتفقت مع العيد وأن هذا الفعل رخصة على ما جاء به ذلك الْحَديث الْمُرسل الذي صحح أحْمَد والدارقطنِي إرساله مع حديث زيد بن أرقم الضعيف مع احتمال قول عطاء ووهب بن كيسان، ومع فعلهم فِي كونهم صلوا إفرادًا، وقال ابن عباس: هي السنة.
وبِهذا قال أكثر أهل العلم أنه إن اجتمع عيد وجُمعة؛ صارت صلاة الْجُمعة رخصة فِي حق من صلَّى العيد سواء فِي ذلك الإمام وغيره، كما فِي قول ابن عباس: أصاب السنة.(1/52)
قال شيخ الإسلام فِي الفتاوى: هو قول من بلغه من الأئمة كأحْمَد وغيره، والذين خالفوه لَمْ يبلغهم.اهـ. من مَجموع الفتاوى (24/214).
ورجحه العلامة الصنعاني فِي سبل السلام (2/469-470) وأفاد أنه قد حقق ذلك فِي رسالة مستقلة.
ونقل ابن قدامة فِي الْمُغنِي (2/358) عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير والشعبِي والنخعي والأوزاعي كلهم قالوا بسقوط حضور الْجُمعة إذا اتفقت مع العيد، أما صلاة الظهر فلا دليل على سقوطها.
ومن الأدلة على عدم سقوط صلاة الظهر: حديث طلحة بن عبيد الله(1) أن ذلك الرجل الذي سأل النَّبِي ص عن الإسلام قال له: خَمس صلوات فِي اليوم والليلة... الْحَديث؛ فإذا سقط الظهر صارت أربع صلوات لغير دليل يُجيز سقوط ذلك الفرض، وقد قال ص: من ترك صلاة العصر حبط عمله؛ فترك فرض واحد عمدًا كفيل بإحباط الأعمال.
والله سبحانه يقول: +إِنَّ الصَّلاََةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا" [النساء: 103].
فكيف يُجمع الظهر مع صلاة العيد ركعتين بغير دليل.
وفِي حديث ابن عباس فِي الصحيحين أن النَّبِي ص حين بعث معاذًا إِلَى اليمن يعلمهم الإسلام قال: $فأخبرهم أن الله افترض عليهم خَمس صلوات فِي اليوم والليلة#.
وأدلةٌ من هذا الباب كثيرة ليس لَهَا أي مُخصص يسقط منها فرض الظهر.
ولَمَّا شغل النبِي ص عن صلاة العصر قبل نزول آية صلاة الْخَوف صلَّى العصر بعدما كادت الشمس أن تغرب أو قد غربت، وبعد نزول آية صلاة الْخَوف أمر الله بها وأمرهم أن يصلوا رجالاً أو ركبانًا، ولَم تسقط تلك الصلاة التِي حضرت وهم فِي شدة الْخَوف.
ثم إن الله سبحانه حث على ذكر الله فِي يوم العيد فقال: +وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ" [البقرة: 185].
__________
(1) أخرجه البخاري رقم (46) ومسلم رقم (11).(1/53)
وقال: +لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ" [الْحَج: 28].
إلَى غير ذلك مِمَّا يطول ذكره من الأدلة.
فهل هناك ذكر لله تعالَى أفضل من الصلاة التِي تشتمل على التكبير والتسبيح وقراءة القرآن، والتعظيم لله وتنزيهه بقول $سبحان ربي الأعلى# وغير ذلك من الأذكار.
وقد قال النبِي ص: $إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن#. أخرجه مسلم رقم (537) من حديث معاوية بن الْحَكم السلمي - رضي الله عنه - .
فتأمل -وفقنا الله وإياك للصواب- واعلم أن من قال بسقوط صلاة الظهر يوم الْجُمعة إذا اجتمع مع العيد أن قوله هذا يعتبر خطأ صريْحًا ليس له أي دليل، وإنما يؤخذ من الآثار الْمُتقدمة فِي باب اجتماع العيدين جواز سقوط صلاة الْجُمعة وخطبتها كما تقدَّم تقريره، والفضل لله.
* * * * *
استحباب قراءة
سورة السجدة والدهر فِي فجر الْجُمعة
قال الإمام مسلم -رحِمه الله- رقم (879):
حدثنا أبو بكر بن أبِي شيبة قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن مِخْول بن راشد، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ب أن النَّبِي ص كان يقرأ فِي صلاة الفجر يوم الْجُمعة: +الّم ((( تَنزِيلُ" السجدة و+هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ"، وأن النَّبِي ص كان يقرأ فِي صلاة الْجُمعة: سورة الْجُمعة والْمُنافقين. اهـ.
وذكر بعده رقم (880) حديث أبِي هريرة مثله، وحديث أبِي هريرة أخرجه البخاري رقم (891).
قال النووي فِي شرح الْحَديث (ج6/475): فيه دليل لِمَذهبنا ومذهب موافقينا فِي استحبابها فِي صبح الْجُمعة.(1/54)
وأحسن من هذا القول قول الْحَافظ فِي الفتح (2/378): فيه دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين فِي هذه الصلاة من هذا اليوم؛ لِمَا تُشعر به الصيغة مِن مواظبته على ذلك أو إكثاره منه، بل ورد من حديث ابن مسعود التصريح بِمداومته ص على ذلك ولفظه: يديم ذلك. اهـ.
لكن صوب أبو حاتِم إرساله في العلل رقم (586)، والدارقطنِي في العلل (5/329)، وأخرجه الطبراني فِي الصغير (2/80-81) من حديث ابن مسعود بزيادة: ويديم ذلك. وقد رأيت نقل ما قيل فِي هذا الْحَديث بهذه الزيادة.
قلت: وقول الْحَافظ أحسن من قول النووي هنا؛ لأن الْحَافظ وغيره نقلوا استحباب ذلك عن أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، فكيف يكونون كلهم من موافقي الشافعي على حد لفظ النووي كما يتكرر هذا منه كثيرًا -رحمه الله-.
وإنَّما هي السنة الَّتِي كان عليها جل الصحابة والتابعين وأهل الْحَديث كأحْمَد والبخاري وغيرهما، وانظر نيل الأوطار للشوكاني -رحمه الله- (3/315).
قال ابن القيم -رحِمه الله-: وكان ص يقرأ فِي فجر يومها: +الم، تنزيل" السجدة، و +هل أتى على الإنسان" ويظن من لا علم عنده أن الْمُراد تَخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها: سجدة الْجُمعة، وإذا لَم يقرأ أحد هذه السورة استحب قراءة أخرى فيها سجدة؛ ولِهَذا كره من كره الْمُداومة على قراءتها فِي فجر الْجُمعة؛ دفعًا لِهَذا التوهم، وسمعت شيخ الإسلام يقول: إنما كان النبِي ص يقرأ هاتين السورتين فِي فجر الْجُمعة؛ لأنهما تضمنتا ما كان ويكون فِي يومها؛ فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر الْمَعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الْجُمعة وكان فِي قراءتهما فِي هذا اليوم تذكير للأمة بِما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعًا ليست مقصودة، فهذه خاصة من خواص يوم الْجُمعة. اهـ الْمُراد من زاد الْمَعاد (1/375)، وفتح الباري (2/379).(1/55)
قلت: أما السجدة فيها؛ فغير ثابت فِي الْحَديث أن النَّبِي ص سجد فيها مع تكرار قراءتها يوم الْجُمعة.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/379): لَمْ أر فِي شيء من الطرق التصريح بأنه ص سجد لَمَّا قرأ سورة تنزيل السجدة فِي هذا الْمَحل إلا فِي كتاب الشريعة لابن أبِي داود من طريق أخرى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: $غدوت على النَّبِي ص يوم الْجُمعة فِي صلاة الفجر، فقرأ سورة فيها سجدة فسجد...#. الْحَديث، وفِي إسناده من ينظر فِي حاله، ولَم أرَ إسناده حتى أنظر فيه، وقد نقله الشوكاني في النيل (2/572) وصاحب عون المعبود عن الحافظ هكذا بدون بيان سنده.
وللطبراني فِي الصغير من حديث علي: $أن النبِي ص سجد صلاة الصبح فِي تنزيل السجدة#. لكن فِي إسناده ضعف(1) .اهـ.
قال العراقي: قد فعله عمر بن الْخَطاب، وعثمان بن عفان، وابن مسعود، وابن عمر، وعبد الله بن الزبير ي، وهو قول الشافعي وأحْمَد، وقد كرهه فِي الفريضة أبو مِجْلز، وهو قول مالك وأبِي حنيفة وبعض الْحَنابلة. اهـ من النيل (3/316).
وجاء من حديث ابن عمر عند الإمام مسلم رقم (575): $أن النَّبِي ص كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه، حَتَّى ما يَجد بعضنا موضعًا لِمَكان جبهته#.
قال النووي: فيه إثبات سجود التلاوة، وقد أجْمَع العلماء عليه.
__________
(1) أخرجه الطبراني فِي الأوسط كما فِي مَجمع البحرين (2/206)، والصغير (1/170) من طريق ليث بن أبِي سليم، عن عمرو بن مرة، عن الْحَارث الأعور عن علي - رضي الله عنه - ... به، وليث ضعيف مُختلط... والْحَارث بن عبد الله الأعور، قال الشعبِي وعلي بن الْمَدينِي عنه: كذاب.
... وقد جاء عن علي من طريق أخرى في الأوسط (4/6) رقم (3003) والصغير (1/96) وفيه حفص بن سليمان الغاضري متروك كما في ترجمته من ميزان الاعتدال للذهبِي.(1/56)
وذكر ابن حزم فِي الْمُحلى (5/109) قال: ومن طريق سفيان الثوري، عن عاصم ابن أبِي النجود، عن زر بن حبيش، عن علي بن أبِي طالب قال: العزائم أربع: الم السجدة، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك.اهـ.
وهذا سند حسن إِلَى علي - رضي الله عنه - ، وأخرجه عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/336) اهـ.
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/335): قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: سجود القرآن عشر: الأعراف، والنحل، والرعد، وبنِي إسرائيل، ومريم، والْحَج، والفرقان، وطس الوسطى، والم تنزيل، وحم السجدة.
وقال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنا عكرمة بن خالد، عن سعيد بن جبير أخبره أنه سمع ابن عباس وابن عمر يعدَّان كم فِي القرآن من سجدة فقالا: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنِي إسرائيل، ومريم، والْحَج أولُها، والفرقان، وطس، والم تنزيل.
وبوب الإمام البخاري -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (1068) فقال: باب سجدة تنزيل السجدة، وذكر حديث أبِي هريرة: $أن النَّبِي ص كان يقرأ فِي الْجُمعة في صلاة الفجر: الم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان#.
قال ابن بطال: أجْمَعوا على السجود فيها، وإنَّما اختلفوا فِي السجود بِهَا فِي الصلاة. اهـ.
قلت: وبعد أن علمت ثبوت السجود فيها(1) بهذه الآثار والإجْمَاع، يبقى أنه لَمْ يثبت كما قدمنا أن النَّبِي ص سجد فيها فِي الصلاة، مع نقل كلام الْحَافظ ابن حجر -رحِمه الله-.
وحاصله: أن السجود فيها مجمع عليه في خارج الصلاة، واختلفوا في السجود فيها في الصلاة، ولَم يثبت عن النبِي ج أنه سجد فيها وخير الهدي هديه.
* * * * *
وجوب الغسل
على من أتى الْجُمعة
تقدَّم عند ابن الْجَارود رقم (2) وهو فِي الصحيحين من حديث ابن عمر ب قال: قال رسول الله ص: $من أتى الْجُمعة؛ فليغتسل#. وفِي رواية: $من جاء منكم#. والْخِطاب للمسلمين.
__________
(1) أي: سجود التلاوة.(1/57)
وبعده رقم (3) من حديث أبي سعيد وهو فِي الصحيحين أن النبِي ص قال: $غسل الْجُمعة واجب على كل مُحتلم#.
قال النووي -رحِمه الله- فِي رياض الصالِحين: الْمُحتلم: البالغ. اهـ.
وحديث حفصة رقم (7) من أحاديث الْمُنتقى وهو صحيح أن النَّبِي ص قال: $على كل مُحتلم رواح الْجُمعة، وعلى كل من راح الْجُمعة الغسل#.
وعن عبد الله بن عمر أن عمر - رضي الله عنه - بينما هو قائم يَخطب يوم الْجُمعة إذ دخل رجل من الْمُهاجرين الأولين من أصحاب النَّبِي ص فناداه عمر: أية ساعة هذه؟ قال: إني شغلت فلم أنقلب إِلَى أهلي حَتَّى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت. فقال عمر: والوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله ص كان يأمر بالغسل؟!
أخرجه البخاري رقم (878)، ومسلم رقم (845) وسمى هذا الرجل عثمان، وذكر فِي موطأ مالك أنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافًا فِي ذلك أي: أنه عثمان.اهـ من الفتح (2/359).
وأخرج مسلم رقم (849) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $حقٌّ على كل مسلم أن يغتسل فِي كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده#.
وجاء عن ثوبان أن النَّبِي ص قال: $حقٌّ على كل مسلم السواك، وغسل يوم الْجُمعة، وأن يَمس من طيب أهله إن كان#.
أخرجه البزار كما فِي كشف الأستار (1/300) فقال: حدثنا إبراهيم بن الربيع بن نافع قال: حدثنا يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث، عن أبي عثمان، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص... فذكر الْحَديث، وسنده ضعيف.
وقال الْهَيثمي فِي الْمَجمع (2/172): يزيد بن ربيعة ضعفه البخاري والنسائي وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
قلت: قال النسائي: متروك. وقال البخاري: أحاديثه مناكير. اهـ الْمُراد من الْمِيزان للذهبِي.
وشيخه أبو الأشعث؛ هو الصنعاني شراحيل بن آدة، قدَّمنا بَحثه فِي حديث أوس بن أوس فِي باب فضل الْجُمعة.(1/58)
وجاء من حديث أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال فِي جُمعة من الْجُمع: $معاشر الْمُسلمين؛ إن هذا يوم جعله الله لكم عيدًا؛ فاغتسلوا فيه وعليكم بالسواك#.
قال الْهَيثمي فِي الْمَجمع (2/176): رواه الطبراني فِي الأوسط والصغير ورجاله ثقات.
وذكر الْهَيثمي -رحِمه الله- عدة أحاديث فِي الْمَجمع بين صحيح وحسن وضعيف منجبر وشديد الضعف، كلها فيها الأمر والْحَث على غسل الْجُمعة.
وهذه أدلة من قال بوجوب الغسل للجمعة لِمَن استطاع ذلك، وهو قول ابن عمر، وأبِي هريرة، وأبِي سعيد، وعمار بن ياسر، وعمر بن الْخَطاب، نقل ذلك ابن الْمُنذر-رحِمه الله- فِي الأوسط (4) باب الغسل، وبه قال الظاهرية وحكاه عن هؤلاء ابن حزم فِي الْمُحلى، وابن القيم فِي الزاد (1/376)، والشوكاني فِي نيل الأوطار (1/272).
وذهب جُمهور أهل العلم إلَى أن غسل الْجُمعة سنّة مؤكدة يذم تاركها، واستدلوا بِحديث الْحَسن عن سمرة الذي تقدم عند ابن الْجَارود رقم (4)، والصحيح أنه منقطع كما تقدم.
ومن أدلتهم: حديث أبي هريرة عند مسلم: $من توضأ ثم أتى الْجُمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام#.
وأقوى من ذلك: حديث عائشة عند مسلم رقم (847) قالت: كانت الناس ينتابون الْجُمعة من منازلِهم من العوالي فيأتون فِي العباء ويصيبهم الغبار؛ فتخرج منهم الريح فأتى رسول الله ص إنسان منهم وهو عندي، فقال رسول الله ص: $لو أنكم تطهرتُم ليومكم هذا# وفِي رواية: $اغتسلتم يوم الْجُمعة#.
وهو قول أكثر الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وادعى ابن عبد البر الإجْمَاع على أنه مستحب، وهذا الادعاء غير صحيح قطعًا مع ما رأيت من الْخِلاف قديْمًا وحديثًا.
وقد أحسن من قال: احذروا إجْمَاعات ابن عبد البر، واتفاقات ابن رشد، واختلافات الباجي، وأحاديث الغزالي. كما فِي رسالة إيقاظ همم أولي الأبصار للفلاني -رحِمه الله-.(1/59)
وسترى الْخِلاف فِي الْمُغنِي لابن قدامة (2/345)، ونيل الأوطار بالرقم السابق فِي هذه الْمَسألة، وشرح مسلم للنووي عند حديث رقم (847-849) وغيرها.
وقال بعض الْحَنابلة بالتفصيل، وهو قول ثالث ذكره ابن القيم فِي الزاد، وذكره غيره أيضًا، تركنا ذلك اختصارًا: وهو أن من كان به رائحة كريهة من عرق ونَحوه تؤذي الْمُصلين كان غسل الْجُمعة فِي حقه واجبًا، كما فِي حديث عائشة وابن عباس أن النَّبِي أمر من كان يعمل، ويأتي من العوالي للجمعة بالغسل. وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
قلت: والْحَق أن أدلة القول بالوجوب أقوى سندًا وأكثر عددًا وأصرح دلالة؛ فما معنى قول النَّبِي ص: $من أتى الْجُمعة فليغتسل#؟ وما معنى قوله: $غسل الْجُمعة واجب على كل مُحتلم#؟ وما معنى قوله: $حق على كل مسلم أن يغتسل فِي كل أسبوع، وجاء بلفظ: فِي كل أسبوع يوم الْجُمعة#؟
أما أحاديث القائلين بالاستحباب؛ فهي إما صحيح غير صريح كحديث أبي هريرة: $من توضأ يوم الْجُمعة ثم أتى الْجُمعة... غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام#. وهو أقوى أدلتهم مع عدم وضوح دلالته؛ فهو مَحمول على من قد سبق له غسل، كما يقول بعض من قال بالوجوب.
وحديث عائشة: لو أنكم اغتسلتم. فيه الْحَث على الغسل.
ولا ينفي وجوب الغسل؛ فقد جاء الوجوب فِي غيره، والْحَث نوع من الطلب، فكيف إذا أضيف إِلَى مثل حديث: $غسل الْجُمعة واجب على كل مُحتلم#. وغيره من تلك الأحاديث العظام.
وحديث سمرة: $من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل#؟
قالوا: فبالرخصة أخذ، ونعمت الرخصة؛ فهو شبه صريح لكنه منقطع كما تقدم، فهي أدلة لا تثبت أمام النقد حقًّا.
فالراجح: هو القول بوجوب الغسل على من أتى الْجُمعة مِمَّن هي واجبة عليهم.
* * * * *
النية والاحتساب
لغسل الْجُمعة وغيره(1/60)
قال الله تعالَى: +وَمَا أُمِرُوا إِلاََّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاََةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" [البينة: 5].
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (1):
حدثنا الْحُميدي عبد الله بن الزبير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا يَحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني مُحَمَّد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الْخَطاب - رضي الله عنه - على الْمِنبر قال: سمعت رسول الله ص يقول: $إنَّمَا الأعمال بالنيات؛ وإنَّما لكل امرئ ما نوى ... # الْحَديث. وأخرجه مسلم رقم (1907).
وقال الإمام مسلم -رحِمه الله- (663) بالسند الثالث:
حدثنا مُحَمَّد بن أبِي بكر الْمقدمي قال: حدثنا عباد بن عباد قال: حدثنا عاصم، عن أبِي عثمان، عن أُبي بن كعب قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت فِي الْمَدينة فكان لا تُخطئه الصلاة مع رسول الله ص قال: فتوجعنا له، فقلت له: يا فلان لو أنك اشتريت حِمارًا يقيك من الرمضاء ويقيك من هوام الأرض؟! قال: أما والله ما أحب أن بيتِي مطنب ببيت مُحَمَّد ص. قال: فدعاه فقال: فحملت به حِملاً(1) حَتَّى أتيت نبِي الله ص فأخبرته قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو فِي أثره الأجر؛ فقال له النَّبِي ص: $لك ما احتسبت#.
وعن معن بن يزيد - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال له: $لك ما نويت يا يزيد#. أخرجه البخاري رقم (1422).
وعن عائشة ل أن النَّبِي ص قال: $يغزو جيش الكعبة؛ فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولِهم وآخرهم. قالت: قلت: يا رسول الله كيف يُخسف بأولِهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يُخسف بأولِهم وآخرهم ثُمَّ يبعثون على نياتهم#.أخرجه البخاري رقم (2118)، ومسلم رقم (2884) فِي كتاب الفتن من صحيحه.
__________
(1) استعظمه لبشاعة لفظه. اهـ شرح النووي.(1/61)
وعن ابن عباس ب أن النبِي ص قال: $لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية#. أخرجه البخاري رقم (2783) فِي كتاب الْجِهاد باب فضل الْجِهاد، ومسلم رقم (1353) وهو متفق عليه أيضًا من حديث عائشة ل، أخرجه البخاري رقم (3900)، ومسلم رقم (1864) نحوه.
وأخرج مسلم رقم (2564) (34) بالسند الثالث:
قال: حدثنا عمرو الناقد قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $إن الله لا ينظر إِلَى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إِلَى قلوبكم وأعمالكم#.
الغسل إنما هو لصلاة الْجُمعة كما تقدمت الأدلة على ذلك
وليس ليوم الْجُمعة
وهو قول الْجُمهور، وقالت: الظاهرية ومنهم ابن حزم فِي الْمُحلى (1/179): إنمَا الغسل ليوم الْجُمعة، واستدلوا بِحديث أبِي سعيد: $من أتى الْجُمعة فليغتسل -وفِي رواية-: إذا أتى أحدكم للجمعة فليغتسل#. $أتى# هنا بِمعنى: أراد إتيان الْجُمعة، كما فِي حديث عمر لَما أنكر على عثمان، وحديث حفصة وفيه: $وعلى كل من راح الْجُمعة الغسل#.
وحديث سلمان الفارسي الذي سنذكره -إن شاء الله- فِي باب: فضل الغسل يوم الْجُمعة.
وفيه أن النبِي ص قال: $لا يغتسل رجل يوم الْجُمعة ويدَّهن من دهنه، أو يَمس من طيب بيته، ثم يأتي الْجُمعة لا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كُتب له؛ إلا غفر له...# إلخ.
ففيه بيان أن الغسل قبل ذهاب الْجُمعة، وليس بعد الظهر أو العصر، وليس من اغتسل بعد الظهر أو العصر من يوم الْجُمعة أجزأه عن غسل الْجُمعة؛ لأنه لَمْ يأت بالْمَأمور، كذا فِي حديث أبِي هريرة: $من اغتسل يوم الْجُمعة ثُمَّ راح فِي الساعة الأولَى فكأنما قرب بدنة .... #إلخ ففيه تقديم الغسل على الرواح، وسنذكر هذه الأحاديث قريبًا.
فحسبنا الله ونعم الوكيل من بُعد بعض الأقوال عن الْحَق مع حرص أصحابها على بلوغ الْحَق فيما نحسبهم.(1/62)
وانظر لِهذه الْمَسألة: العدة للإمام الصنعاني -رحِمه الله- (3/13) قال عند حديث ابن عمر: $من أتى الْجُمعة فليغتسل#. قال: الْمُراد بالْجُمعة الصلاة اتفاقًا -أي: من أتى الصلاة-. اهـ .
ونَحو ذلك قال صديق حسن خان فِي الروضة (1/168).
هل على من لَمْ يحضر
الْجُمعة من النساء والصبيان غسل؟
بوب الإمام البخاري -رحِمه الله- فِي صحيحه باب (12) من الْجُمعة بِمثل هذا التبويب.
ثُمَّ ذكر قول ابن عمر:$ إنمَا الغسل على من تَجب عليه الْجُمعة#. وقد وصله وكيع فيما ذكر ابن رجب بسند صحيح:
فقال: حدثنا خالد بن عبد الرحْمَن بن بكر، عن نافع، عن ابن عمر... فذكره.
قال ابن رجب: فِي الْمَسألة ثلاثة أقوال:
1- غسل الْجُمعة على من أتى الْجُمعة ولو من النساء والصبيان أو الْمُسافرين والْمَرضى والْمَماليك وغيرهم.
2- غسل الْجُمعة مُختص بِمن تلزمهم الْجُمعة دون من لَمْ تلزمهم من النساء والصبيان وغيرهم مِمَّن لا تلزمه الْجُمعة، وقد تقدم فِي باب فرض الْجُمعة.
3- غسل الْجُمعة لازم فِي يومها كل الْمُكلفين سواء حضرها أو لَمْ يَحضرها أو لَمْ يرد حضورها.
قال: والأول: وجه لأصحابهم الْحَنابلة.
والثاني: قول الأكثرين كمالك والشافعي وأحْمَد وإسحاق، وهم الْجُمهور.
والثالث: قول طائفة من العلماء منهم: سعيد بن جبير ومُجاهد وطاوس وأبو ثور، وهو وجه للشافعية. اهـ.
قلت: وبذكر الأدلة يتبيَّن الصحيح -إن شاء الله- من السقيم من هذه الأقوال.
ولكل قول من الثلاثة أدلته وهي كما يلي:
فالْحَنابلة فِي أحد قوليهم فِي الأول من هذه الثلاثة استدلوا بِحديث ابن عمر: $من أتى الْجُمعة فليغتسل#.
قالوا: و $من# شرطية تعم الذكور والإناث والأحرار والعبيد، وكل من حضر الْجُمعة.(1/63)
واستدلوا أيضًا بزيادة فِي هذا الْحَديث عند ابن خزيْمَة فِي صحيحه (3) رقم (1752)، وابن حبان (4/28) رقم (1226) الإحسان بلفظ: $من أتى الْجُمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لَمْ يأتها فلا يغتسل#. وهذه الزيادة شاذة، روى الْحَديث جَماعة عن نافع، منهم الإمام مالك كما فِي البخاري رقم (877)، والليث بن سعد عند الإمام مسلم رقم (844) كلاهما عن نافع والزهري عن سالِم عن أبيه...
وهذه الروايات كما تراها فِي الصحاح.
ثم أتى عثمان بن واقد العمري وروى الْحَديث عن نافع عن ابن عمر وزاد هذه الزيادة، وعثمان هذا قد ضعفه أبو داود من أجل هذه الزيادة، فقيل له: إن ابن معين وثقه!! قال: هو ضعيف؛ حدَّث بِحديث: $من أتى الْجُمعة من الرجال والنساء#. ولا نعلم قال هذا غيره. وجهله ابن حزم!!
والْحَق: أنه حسن الْحَديث لكنه هنا خالف من لا يكون بِجانبهم شيئًا كمالك والليث والزهري؛ فزيادته هذه شاذة إن لَم نَقُل: منكرة، وقد ردها أبو داود والترمذي وابن حزم فِي الْمُحلى، وآخرون.
وحديث أبي سعيد يدل على أن غسل الْجُمعة على كل مُحتلم، وهذا يشمل النساء والرجال البالغين.
وحديث حفصة: $ على كل مُحتلم رواح الْجُمعة، وعلى كل من راح الْجُمعة الغسل #.
وحديث ابن عمر: $ من أتى الْجُمعة فليغتسل #.
فهذه العمومات تدل على أن من أتى الْجُمعة من الرجال والنساء وغيرهم وجب عليه الغسل؛ أما الصغار فإن لفظ: $على كل مُحتلم# مفهومه: أن غير الْمُحتلم لا يَجب عليه ذلك.
ومثله حديث أبي هريرة الذي عند البخاري رقم (898): $حق على كل مسلم أن يغتسل فِي سبعة أيام، يغسل فيه رأسه وجسده#. زاد النسائي في الكبرى رقم (1681): $فِي يوم الْجُمعة#.
فوجوبه مقيد بِحديث ابن عمر:$ من أتى الْجُمعة فليغتسل#. وأما من لَم يأتها ففي حقه يكون هذا الْحَق غير لازم.(1/64)
وكما فِي حديث أبي هريرة: $ومن حقها حلبها يوم وردها#. أي: ومِما هو أمر مطلوب ومرغب فيه: حلبها يوم وردها. متفق عليه. وسنذكره فِي موضعه -إن شاء الله-.
فالْحَاصل: أن من أتى الْجُمعة من البالغين رجالاً أو نساءً أو أحرارًا أو عبيدًا أو مقيمين أو مسافرين وأمكنهم الاغتسال بغير مشقة؛ فالغسل للجمعة عليهم واجب لِهذه الأحاديث الْمَذكورة، ومن لَم يأتها من البالغين لعذر فيستحب له الغسل؛ لِحديث: $حق على كل مسلم أن يغتسل فِي كل أسبوع #. وهذا الْحَق تقدم بيانه أنه غير واجب.
أما الصبيان: فغسلهم فِي الْجُمعة وغيرها إنما هو للتنظف، وقد حث الله على التطهر والتنظيف فِي كتابه، فقال: +إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" [البقرة: 222].
فالقول الأول أقرب إِلَى الأخذ بالأدلة، وقد رأيت فِي أول الباب أن كل قول من الثلاثة الأقوال قال به السلف.
* * * * *
متى يغتسل للجمعة؟
قال ابن قدامة -رحِمه الله- (2/347):
وقت غسل الْجُمعة: بعد طلوع الفجر، فمن اغتسل بعد ذلك أجزأه، وإن اغتسل قبله لَمْ يُجزئه، وهذا قول مُجاهد والْحَسن والنخعي والثوري والشافعي وإسحاق.
وحكي عن الأوزاعي: أنه يُجزؤه قبل الفجر، وعن مالك أنه لا يُجزيه إلا أن يتعقبه الرواح.
ولنا قول النَّبِي ص: $من اغتسل يوم الْجُمعة#. واليوم: من طلوع الفجر، وإن اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء، وبه قال الشافعي. اهـ الْمُراد من الْمُغنِي.
ومثله فِي الْمَجموع للنووي (4/408). والقول فيه واضح لا يَحتاج إلَى تطويل.
* * * * *
فضل الغسل يوم الْجُمعة وأنه كغسل الْجَنابة.
وفيه حديث ابن عمر: أن النَّبِي ص قال: $إذا جاء أحدكم الْجُمعة فليغتسل#.
وحديث ابن عمر: $أن النَّبِي ص كان يأمر بالغسل ليوم الْجُمعة#.(1/65)
وحديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله ص قال: $من اغتسل يوم الْجُمعة غسل الْجَنابة ثُمَّ راح فِي الساعة الأولَى فكأنما قرب بدنة، ومن راح فِي الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح فِي الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح فِي الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح فِي الساعة الْخَامسة فكأنما قرب بيضة؛ فإذا خرج الإمام خرجت الْمَلائكة يستمعون الذكر#. أخرجه البخاري ومسلم وتقدم رقمه.
وذكره ابن الْجَارود فِي أحاديث الْجُمعة من الْمُنتقى رقم (5) من ترتيب أحاديث الباب بلفظ: $إن على كل باب من أبواب الْمَسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول؛ فإذا قعد الإمام طووا الصحف واستمعوا الْخُطبة، فالْمُهجر كالْمُهدي بدنةً -أي: ناقة-، ثم الذي يليه كالْمُهدي بقرة، ثم الذي يليه كالْمُهدي كبشًا، حتى ذكر الدجاجة والبيضة#.
وفِي الباب حديث سلمان الآتي فِي فضل الطيب، وما بعده من الأحاديث فِي باب الطيب.
وبهذا يعلم أن غسل الجنابة وغسل الجمعة أحدهما مجزئ عن الآخر إذا اقترن بنية لِحديث عمر أن النبِي قال: $إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى#.
* * * * *
استحباب الطيب يوم الْجُمعة
بعد الغسل وقبل الرواح إِلَى الْجُمعة
عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِي ص: $لا يغتسل رجل يوم الْجُمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهنه، أو يَمس من طيب بيته، ثُمَّ يَخرج فلا يفرق بين اثنين، ثُمَّ يصلي ما كتب له، ثُمَّ ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى#. أخرجه البخاري رقم (883)، باب: الدهن للجمعة.
وفِي رواية عند مسلم رقم (846) من حديث أبي سعيد الخدري: $أو يَمس من طيب الْمَرأة#. وفيه من طريق أخرى رقم (648) من حديث ابن عباس: $ويَمس طيبًا أو دهنًا إن كان عند أهله#.(1/66)
قال النووي: هو الْمَكروه للرجال -وهو ما ظهر لونه وخفي ريْحه- فأباحه للرجال هنا لعدم غيره، وهذا يدل على تأكيده(1).اهـ مع شرح النووي على حديث رقم (846) الآتي عن أبِي سعيد الْخدري.
وأخرج البخاري رقم (884) ومسلم رقم (848) عن طاوس قال: قلت لابن عباس: ذكروا أن النَّبِي ص قال: $اغتسلوا يوم الْجُمعة، واغسلوا رءوسكم وإن لَمْ تكونوا جنبًا، وأصيبوا من الطيب#. قال: أما الغسل فنعم، وأما الطيب فلا أدري.
وسيأتي عند أبِي داود أن ابن عباس بعد ذلك أثبت لفظة: (الطيب) بغير تردد.
وعن عمرو بن سليم الأنصاري قال: أشهد على أبِي سعيد - رضي الله عنه - قال: أشهد على رسول الله ص قال: $الغسل يوم الْجُمعة واجب على كل مُحتلم، وأن يستن، وأن يَمس طيبًا إن وجد#. قال عمرو بن سليم: أما الغسل فأشهد أنه واجب، وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا فِي الْحَديث. أخرجه البخاري رقم (880) ومسلم (846).
وقال أبو داود -رحِمه الله- (2/17- عون):
حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: أخبرنا عبد العزيز -يعنِي: ابن مُحَمَّد- عن عمرو ابن أبِي عمرو، عن عكرمة: أن ناسًا من أهل العراق جاءوا فقالوا: يابن عباس، أترى الغسل يوم الْجُمعة واجبًا؟ قال: لا (2)، ولكنه أطهر وخير لِمن اغتسل، ومن لَمْ يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل:
__________
(1) أي: تأكيد استحباب الطيب للجمعة بِحيث لو لَمْ يَجد يَمس من طيب امرأته مع ما فيه من الكراهة فِي غير الْجُمعة.
(2) هذا رأي ابن عباس، وقد شهد فيما ذكرنا قبل حديث أن النَّبِي ص أمر به ورأى وجوبه جمع غيره من الصحابة كما بيناه فِي بابه.(1/67)
كان الناس مَجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقًا مقارب السقف، إنمَا هو عريش، فخرج رسول الله ص فِي يوم حار وعرق الناس فِي ذلك الصوف حَتَّى ثارت منهم رياح، آذى بذلك بعضهم بعضًا؛ فلما وجد رسول الله ص تلك الريح قال: $أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يَجد من دهنه وطيبه#.اهـ الْحَديث.
وسنده حسن في الظاهر، عبد الله بن مسلمة: هو القعنبِي، مدني ثقة عابد، وعبد العزيز بن مُحمد: هو الدراوردي صدوق حسن الْحَديث؛ ومن أجله قيل عن الْحَديث بهذا السند: حسن؛ وإلا فجميع رجاله غير ثقات، وعمرو بن أبي عمرو: هو مولَى الْمُطلب ثقة، وعكرمة: هو ابن البربري مولَى ابن عباس ثقة ثبت، لَم يثبت تكذيبه -كما فِي مقدمة فتح الباري (425)، وتهذيب التهذيب، فقد دافع عنه الْحَافظ، وأبان بطلان تلك الطعون فيه.
قال شيخنا العلامة الوادعي في جامعه الصحيح (20/187) عند هذا الحديث: وهذا فهم ابن عباس لا يدفع به الأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الجمعة. انتهى.
يعنِي قوله ومن لَم يغتسل فليس عليه بواجب، هذا وفي رواية عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة كلام مذكور في ملحق شرح علل الترمذي لابن رجب (2/643) قال البخاري: روى عن عكرمة مناكير ولَم يذكر في شيء منها أنه سمع من عكرمة وقال أحمد كل أحاديثه عن عكرمة مضطربة لكنه نسب الاضطراب إلَى عكرمة لا إلَى عمرو. انتهى.
قال أبو داود -رحِمه الله- (11/220- عون):
حدثنا نصر بن علي قال: أخبرنا أبو أحْمَد، عن شيبان بن عبد الرحْمَن، عن عبد الله بن مُختار، عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: $كانت للنبِي ص وسُكّة يتطيب منها#. اهـ
وسنده صحيح؛ كل رجاله بصريون ثقات.
وقال الإمام النسائي فِي سننه الصغرى (7/61):(1/68)
أخبرنا الْحُسين بن عيسى القومسي قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا سلام أبو الْمُنذر، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله ص: $حبب إلي من الدنيا: الطيب والنساء، وجعلت قرة عينِي فِي الصلاة#.
وأخرجه أحْمَد (3/128) وأبو يعلى فِي مسنده (5/6/199) كلهم من طريق سلام أبِي الْمُنذر، عن ثابت... به، وسلام هو ابن سليمان أبو الْمُنذر القارئ النحوي صدوق فالْحَديث(1).
وقال الإمام البزار (3/376- كشف الأستار): حدثنا مُحَمَّد بن عبد الرحيم قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم، عن أنس قال: أتى النَّبِي ص قوم يبايعونه وفيهم رجل فِي يده أثر خلوق، فلم يزل يبايعهم ويؤخره، ثُمَّ قال: $إن طيب الرجال ما ظهر ريْحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريْحه# اهـ.
وسنده صحيح؛ رجاله ثقات، وهو فِي صحيح شيخنا (4/308).
وقال الإمام أحْمَد -رحِمه الله- (4/34):
حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت مُحَمَّد بن عبد الرحْمَن بن ثوبان، عن رجل من الأنصار من أصحاب النَّبِي ص قال: $ثلاث حق على كل مسلم: الغسل يوم الْجُمعة، والسواك، ويَمس من طيب إن وجد#.اهـ.
وسنده صحيح؛ كل رجاله ثقات.
قلت: ففي هذه الأحاديث:
استحباب الطيب فِي جَميع الأيام، وأنه يوم الْجُمعة أشد استحبابًا منه فِي غيره، وأن طيب الرجال يظهر ريْحه ولا يظهر لونه، وطيب النساء على العكس من ذلك.
__________
(1) فالحديث ظاهر إسناده الحسن رجح الدارقطنِي إرساله كما فِي الْمُختارة للمقدسي (5/113) رقم (1737) قال: قال الدارقطنِي رواه سلام أبو المنذر وسلامة بن أبي الصهباء وجعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس، وخالفهم حماد بن زيد عن ثابت مرسلاً، والمرسل أشبه بالصواب. انتهى
وأخرجه عبد الرزاق رقم (7939) مرسلاً، وأخرجه الْخَطيب البغدادي (14/190) من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق ابن عبد الله ... مرسلاً.(1/69)
فإن كان مع الرجل طيب من طيبه الذي وصفه غير وصف طيب أهله؛ استعمله، وإن لَمْ يَجد إلا طيب أهله؛ مس منه شيئًا يسيرًا إن شاء، ثُمَّ ذهب إِلَى الْجُمعة، ويكون ذلك للحاجة، وإلا فالأصل أنه تشبه بالنساء إلا لإزالة الروائح الكريهة؛ فيمس ما يُذهب تلك الرائحة للحاجة، كما قدمنا.
قال ابن رشد فِي بداية الْمُجتهد (1/398): وآداب الْجُمعة ثلاثة: الطيب والسواك واللباس، لا خلاف فيه؛ لورود الآثار بذلك. اهـ.
* * * * *
ملحق بفضل الطيب
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (5929):
حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عزرة بن ثابت الأنصاري قال: حدثنِي ثمامة بن عبد الله عن أنس - رضي الله عنه - : $كان لا يرد الطيب، وزعم أن النَّبِي ص كان لا يرد الطيب.
وأخرجه البزار -كما فِي كشف الأستار- (3/375) بلفظ: $ما عرض على النَّبِي ص طيب قط فرده#.
وهو عند البزار من طريقين عن الْمُبارك بن فضالة، عن إسماعيل وإسحاق ابنَي عبد الله بن أبي طلحة عن أنس... فذكر الْحَديث.
والْمُبارك بن فضالة فيه ضعف، وأيضًا هو مدلس وقد عنعن، وقد حسَّن الْحَافظ -رحِمه الله- هذا الْحَديث فِي الفتح، والظاهر أنه ليس كذلك.
وأخرج مسلم رقم (2253) فِي كتاب الألفاظ من الأدب، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب -كلاهما عن الْمُقرئ- عن سعيد بن أبي أيوب قال: حدثنِي عبد الله بن أبي جعفر، عن عبد الرحْمَن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: $من عرض عليه ريْحَان فلا يرده؛ فإنه خفيف الْحَمل طيب الريح# اهـ.
وأخرجه ابن حبان -كما فِي الإحسان- (11/510)، وأبو داود رقم (4172)، والنسائي (8/189) بلفظ: $من عرض عليه طيب فلا يرده#. قال الْحَافظ فِي الفتح (10/371): والريْحان: كل بقلة لَها رائحة طيبة.(1/70)
قال الْحَافظ: ومَخرج الْحَديث واحد وهو الأعرج، والذي رواه بلفظ: (الطيب) أكثر عددًا وأحفظ؛ فروايتهم أولَى، وكأن من رواه بلفظ: (ريْحان) أراد التعميم حتى لا يخص به الطيب الْمَصنوع. اهـ.
قلت: ولا مانع من حَمله على الروايتين كلتيهما حال كونهما صحيحة، وحال كون الريْحان طيب الرائحة، والْحَمد لله.
تنبيه: الْمَرأة إذا خرجت من بيتها لصلاة الْجُمعة أو غيرها مِمَّا يشرع لَها الْخُروج إليه لا يَجوز لَها أن تَمس الطيب فيجد الناس ريْحها؛ لِحديث أبِي هريرة: أن النَّبِي ص قال: $لا تَمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات#(1).
وأخرج مسلم رقم (443) من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن النبِي ص قال: $إذا شهدت إحداكن الْمَسجد فلا تَمس طيبًا#.
وأخرج مسلم أيضًا برقم (444) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $أيُّما امرأة أصابت بَخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة#.
وأخرج أحْمَد فِي مسنده (4/414)، وأبو داود (11/230)، والترمذي (8/70- تُحفة)، والنسائي (8/153) من طريق غنيم بن قيس، عن أبِي موسى - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $إذا استعطرت الْمَرأة فمرت على القوم ليجدوا ريْحها؛ فهي زانية#.
وهذا سند صحيح؛ غنيم بن قيس: هو أبو العنبر البصري ثقة؛ وثقه النسائي وابن سعد وغيرهما.
* * * * *
التجمل للجمعة
بأحسن ما يَجد من لباسه الشرعي
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (886):
__________
(1) قال ابن الأثير: $تفلات# أي: تاركات للطيب. اهـ من النهاية.
وقال البغوي فِي شرح السنة (3/438-439): يقال: $امرأة تفلة#: إذا لَمْ تتطيب.(1/71)
حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر ب: $أن عمر بن الْخَطاب رأى حلة سيراء عند باب الْمَسجد؛ فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الْجُمعة وللوفد إذا قدموا عليك؛ فقال رسول الله ص: إنمَا يلبس هذه من لا خلاق له فِي الآخرة#. وأخرجه مسلم رقم (2068).
ووجه الشاهد من الْحَديث: إقرار النبِي ص على أصل التجمل للجمعة، وإنما أنكر عليه الْمَشورة بلبس مثل تلك الْحُلة.
وأخرج أحْمَد فِي مسنده (5/420):
قال: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبِي عن مُحَمَّد بن إسحاق قال: حدثنِي مُحَمَّد بن إبراهيم التميمي، عن عمران بن يَحيى(1)، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبِي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله ص يقول: $من اغتسل يوم الْجُمعة ومس من طيب -إن كان عنده- ولبس من أحسن ثيابه، ثُمَّ خرج حَتَّى يأتي الْمَسجد فيركع إن بدا له، ولَم يؤذ أحدًا، ثُمَّ أنصت إذا تكلم إمامه حَتَّى يصلي؛ كانت كفارة لِمَا بينها وبين الْجُمعة الأخرى#.
وفِي طريق بعده: $ثم خرج وعليه السكينة... # إلخ. وسنده كما يلي:
مُحمد بن إبراهيم؛ هو ابن الْحَارث أبو عبد الله ثقة؛ وثقه ابن معين وغيره، وعمران بن يَحيى؛ ذكره الْحَافظ ابن حجر فِي $تعجيل الْمَنفعة# وقال: عن عبد الله بن كعب، وعنه مُحمد بن إبراهيم التميمي، ذكره ابن أبي حاتِم تبعًا للبخاري، ولَم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وابن حبان فِي $الثقات# وزاد فِي الرواة عنه سعيدًا الْمَقبري.
__________
(1) فِي الأصل: عمران بن أبِي يَحيى، والصواب: عمران بن يَحيى، كما فِي $تعجيل الْمَنفعة#.(1/72)
قلت: فمثله مَجهول حال، ورأيت فِي التعليق على صحيح ابن خزيْمَة (3/1775) أن الألباني -رحِمه الله- حسَّنه، وكذا مُحقق $زاد الْمَعاد#، وله شاهد من حديث أبي ذر عند أحْمَد وابن ماجه، وهو فِي $الترغيب والترهيب# للمنذري، وذكره الألباني -رحِمَه الله- فِي $صحيح الْجَامع#؛ فهو حسن به؛ أما بِمفرده حسب السند السابق فلا ينتهض لذلك. والله أعلم، ولعل من حسنه لأجل شاهده هذا.
وجاء من حديث عائشة ل أن النبِي ص قال: $ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين سوى ثوبي مهنته#.
وهو عند ابن ماجه رقم (1096)، وابن حبان (7/15- الإحسان)، وابن خزيْمَة (3/1765) كلهم من طريق عمر بن أبي سلمة، عن زهير بن مُحمد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.... الْحَديث.
وسنده ضعيف؛ فإن عمر بن أبي سلمة هذا ضعفه أحْمَد وابن معين وغيرهما، وأيضًا روى عن زهير بن مُحمد بواطيل، وزهير هذا شامي، ورواية أهل الشام عنه ضعيفة؛ لكن ذكرنا الْحَديث هنا مع غيره فِي الباب.
وجاء من حديث عبد الله بن سلام عند ابن ماجه رقم (1095) موصولاً، وعند أبي داود رقم (1078) مرسلاً... والْمُرسل أرجح.
وجاء فِي حديث أبي هريرة وأبي أمامة بن سهل بن حُنيف: أخرجهما أحْمَد (3/81)، وأبو داود رقم (243)، والبغوي فِي شرح السنة (4/231)، والْحَاكم (1/283)، وابن خزيْمة (3/1762) كلهم من طريق مُحمد بن إسحاق قال: حدثنِي مُحمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحْمَن وأبي أمامة بن سهل بن حنيف أن النبِي ص قال: $من اغتسل يوم الْجُمعة، واستن، ومس من طيب -إن كان عنده- ولبس أحسن ثيابه، ثم جاء الْمَسجد ولَم يتخط رقاب الناس، ثم ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يصلي؛ كان كفارة ما بينها وبين الْجُمعة التي كانت قبلها#. اهـ، وسنده حسن.
وثبت عن ابن عمر عند ابن أبي شيبة (2/63) -طبعة الباز-: $أنه كان يلبس يوم الْجُمعة أحسن ثيابه #.(1/73)
وثبت عنده بالرقم السابق: أن ابن أبِي ليلى قال: $أدركت أصحاب مُحَمَّد من أصحاب بدر وأصحاب الشجرة إذا كان يوم الْجُمعة؛ لبسوا أحسن ثيابهم، وإن كان عندهم طيب مسوا منه، ثُمَّ راحوا إِلَى الْجُمعة #.
قلت: ففي هذه الأدلة استحباب التجمل يوم الْجُمعة بأحسن اللباس واستعمال الطيب والسواك، وليس من التجمل لبس البناطيل والكرفتات وما إِلَى ذلك من لباس الكفار والتشبه بِهم؛ بل هو تشويه مُخزي.
* * * * *
السواك للجمعة وغيرها
تقدم باب السواك فِي كتاب الطهارة من الْمُنتقى، وذكرنا جُملة أحاديث على فضله تستحق الإفراد؛ لولا أنه قد أفرده جَمع من أهل العلم بالتأليف الْخَاص.
ونذكر هنا شيئًا يسيرًا فِي الباب:
عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $لولا أن أشق على أمتِي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة#. أخرجه البخاري رقم (887)، ومسلم رقم (252).
وجاء بلفظ: $لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء #. ذكره ابن الْجَارود رقم (63)، وبينَّا هناك أنه ثابت بهذا اللفظ.
قلت: وعلقه البخاري في كتاب الصوم من صحيحه باب (27) وهو بهذا اللفظ أعله البيهقي في الكبرى (1/58) بالوقف، وذكره الدارقطنِي في العلل برقم (2047) ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير رقم (65) أنه لَم يصرح برفعه، وقال: قال ابن عبد البر وحكمه الرفع. انتهى.
$وكان النبِي إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك#. أخرجه -بهذا اللفظ- البخاري رقم (889)، ومسلم رقم (255) من حديث حذيفة - رضي الله عنه - .
وعن أنس قال: قال رسول الله ص: $أكثرت عليكم فِي السواك#. أخرجه البخاري رقم (888).
وثبت عن عائشة ل أن النبِي ص قال: $السواك مطهرة للفم مرضاة للرب#. علقه البخاري في كتاب الصوم من صحيحه رقم (47)، وأخرجه أحْمَد فِي الْمُسند (6/124) فقال: حدثنا عفان قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا عبد الرحْمَن بن أبي عتيق، عن أبيه أنه سمع عائشة...فذكر الْحَديث مرفوعًا.(1/74)
وأخرجه النسائي (1/10) فِي الطهارة عن حُميد بن مسعدة ومُحمد بن عبد الأعلى عن يزيد...به.
وأخرجه البيهقي فِي الكبرى (1/34) من طريق مُحمد بن أبي بكر عن يزيد...به.
وتقدم فِي فضل السواك حديث أبي سعيد الْمَذكور فِي باب استحباب الطيب للجمعة... متفق عليه.
وعبد الرحْمَن بن أبي عتيق حسن الْحَديث، وأبوه مَجهول حال، ولَم أره روى عن عائشة؛ لكن رواه أحْمَد فِي الْمُسند (6/47 و62 و2328)، والبغوي فِي شرح السنة (199 و200) من طرق عن ابن إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن مُحمد بن أبي عتيق، عن عائشة... وابن إسحاق قد صرح بالتحديث؛ فسنده ظاهره الْحُسن.
وله طريق أخرى عند أحْمَد (6/146)، وابن أبي شيبة (1/169) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حُيية الأشهلي، عن داود بن الْحُصين، عن القاسم بن مُحمد، عن عائشة....
وأخرجه ابن خزيْمة رقم (135)، والبيهقي (1/34)، من طريق ابن جريج، عن عثمان بن أبي سليمان، عن عبيد بن عمير، عن عائشة...
فهو بهذه الطرق يصلح للاحتجاج، والْحَمد لله.
وحديث أبي هريرة الذي عند أحْمَد (3/81) وهو عندنا فِي باب الطيب بطوله، وسنده حسن، وقد بوب الإمام البخاري -رحِمه الله- السواك للجمعة... وذكر حديث أنس وحذيفة وأبي هريرة التِي ذكرناها هنا.
وذكره ابن القيم رقم (6) من خصائص الْجُمعة، وسبق نقل الاتفاق على استحبابه وأنه من آداب الْجُمعة فِي آخر فصل: فضل الطيب.
* * * * *
البعيد عن البلد إذا كان
يسمع النداء يَجب عليه حضور الْجُمعة
جاء من حديث أبِي هريرة عن النَّبِي ص قال: $الْجُمعة على من آواه الليل إِلَى أهله#(1).
__________
(1) أخرجه الترمذي رقم (502)، والبغوي فِي شرح السنة (4/221)، والْحَافظ فِي الفتح (2/385)، ونقل عن الإمام أحمد أنه لَمْ ير هذا الْحَديث شيئًا. وقال لِمن ذكره له: استغفر ربك!!
قال الترمذي: إنمَا فعل هذا أحمد بن حنبل؛ لأنه لَمْ يعد هذا الْحَديث شيئًا، وضعفه لِحال إسناده. اهـ.
قلت: فيه حجاج بن نصير، ضعيف، ومعارك بن عباد، قال البخاري: منكر الْحَديث، وعبد الله بن سعيد الْمَقبري: متروك.(1/75)
قال فِي $تُحفة الأحوذي#: أي: من كان بين وطنه وبين الْمَوضع الذي يصلي فيه الْجُمعة مسافة يُمكنه الرجوع إِلَى وطنه قبل الليل؛ وجب عليه حضور الْجُمعة. اهـ من $الْمِرقاة شرح الْمِشكاة#، و $الفتح#.
ونقله صاحب $تُحفة الأحوذي# (3/14)، ثُمَّ نقل عن الشافعي وأحْمَد وإسحاق، وحكاه ابن العربي عن مالك وعبد الله بن عمرو -راوي حديث: $تَجب الْجُمعة على من سمع النداء #- وكلهم على أنها تَجب على من سمع النداء.
قال الْجُمهور: أو كان فِي قوة السامع سواء داخل البلد أو خارجه.
ونقل الشوكاني هذا القول فِي النيل (3/256) وبوب عليه وارتضاه فِي كتاب الْجُمعة، وهو أحسن الأقوال وأرجحها -إن شاء الله-.
قال الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].
استدل الإمام البخاري -رحِمه الله- عند حديث رقم (902) بقول عطاء: $إذا كنت فِي قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الْجُمعة؛ فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لَمْ تسمعه#.
ووصله عبد الرزاق فِي الْمُصنف عن ابن جريج، عن عطاء -كما فِي فتح الباري بالرقم الآتي-.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/385): قوله: $سمعت النداء أو لَمْ تسمعه#. يعنِي: إذا كنت داخل البلد، وبِهذه صرح أحْمَد، ونقل النووي أنه لا خلاف فيه، وزاد عبد الرزاق فِي هذا الأثر عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما القرية الْجَامعة؟ قال: ذات الْجَماعة والأمير والقاضي والدور الْمُجتمعة الآخذ بعضها ببعض مثل جدة. اهـ.
وقد علمت عدم الْخِلاف فيه، وإنما الْخِلاف فِي تَحديد القدر الذي يَجب على من سكن خارج القرية أن يأتي إِلَى الْجُمعة منه.
والأصل فِي ذلك:
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النَّبِي ص قال: $الْجُمعة على من سمع النداء#. وهو حديث ضعيف، لكن له شواهد حسنه بها العلامة الألباني -رحِمه الله- فِي $الإرواء# (3) رقم (593).(1/76)
قلت: ويشهد له حديث: أن النبِي ص قال لابن أم مكتوم: $تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة#. وكان ابن أم مكتوم أعمى.
والْحَديث أخرجه أبو داود (2/257- عون)، وابن ماجه (1/260) وسنده حسن، وبنحوه عند أحْمَد (3/423)، وهما مذكوران فِي صحيح شيخنا (2/65).
واستدل البخاري رقم (903) بِحديث عائشة قالت: كان الناس ينتابون يوم الْجُمعة من منازلِهم والعوالي، فيأتون فِي الغبار والعرق، فقال رسول الله ص: $لو اغتسلتم ليومكم هذا#. وأخرجه مسلم رقم (847).
وقولُها: $ينتابون#. قال الْحَافظ: أي: يحضرونها نوبًا والانتياب افتعال من النوبة من منازلِهم ومن العوالي، والعوالي: على أربعة أميال فصاعدًا من الْمَدينة. اهـ من الفتح.
وذكر الإمام الترمذي حديثًا واحدًا فِي الباب عن ثوير، عن رجل من أهل قباء، عن أبيه -وكان من أصحاب النبِي ص- قال: $أمرنا النبِي ص أن نأتي الْجُمعة من قباء #.
وثوير: هو ابن أبي فاختة، قال عنه الثوري: هو ركن من أركان الكذب، وضعفه غيره، ورموه بالرفض، وشيخه فِي هذا السند مبهم.
وقال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا يصح فِي هذا الباب عن النبِي شيء. اهـ.
قلت: كلام الترمذي على أنه لا يصح حديث فِي الباب، وهو كما قال؛ أما بشواهد الباب من هنا وهناك فيثبت بها الحكم -إن شاء الله- كما تقدم.
وذكر الْحَافظ فِي الفتح (2/385) بعض تلك الأحاديث والآثار، فراجعها إن شئت.
أما إذا كان داخل البلد؛ فيجب عليه إتيان الْجُمعة سمع النداء أو لَم يسمعه، ونقل النووي أنه لا خلاف فيه. انظر -إن شئت- الفتح (2/385).
تفسير قول الله تعالى
+إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].
وعلى الآية توجيه إشكالين:(1/77)
قال الإمام ابن كثير -رحِمه الله- (ج4/365) سورة الْجُمعة: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" أي: اقصدوا واعمدوا، واهتموا فِي سيركم إليها، وليس الْمُراد بالسعي هنا: الْمَشي السريع؛ وإنما هو الاهتمام بِهَا؛ كقوله تعالَى: +وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" [الإسراء: 19].
فأما الْمَشي السريع إلَى الصلاة فقد نُهي عنه لِما أخرجاه فِي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبِي ص قال: $إذا سمعتم الإقامة فامشوا إِلَى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتِموا#. اهـ.
وهذا لفظ البخاري رقم (636 و908).
وقال الإمام البخاري -رحِمه الله-: باب الْمَشي إلَى الْجُمعة، وقول الله تعالَى: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" ومن قال: السعي: العمل والذهاب؛ لقول الله: +وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا".
وقال الإمام البخاري -رحِمه الله- عند حديث (907): باب الْمَشي إلَى الْجُمعة، وقول الله -جلّ ذكره-: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" ومن قال: السعي: العمل والذهاب؛ لقوله تعالَى: +وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا".
قال الْحَافظ ابن حجر: والْحَاصل: أن الْمَأمور به سعي الآخرة، والْمَنهي عنه سعي الدنيا، وقد أورد الْمُصنف فِي الباب حديث: $لا تأتوها وأنتم تسعون# إشارة منه إلَى أن السعي الْمَأمور به فِي الآية غير السعي الْمَنهي عنه فِي الْحَديث، والْحُجة فيه: أن السعي فِي الْحَديث فُسر بـ:$العَدو#، والسعي فِي الآية فُسر بـ:$الْمُضي#؛ لِمقابلة الْحَديث للآية بقوله: $فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تَمشون#. اهـ.
وقال الإمام ابن القيم -رحِمه الله- فِي $زاد الْمَعاد#: السعي إِلَى الْجُمعة الْمَأمور به فِي الآية: سعي قلوب بالاهتمام لِحضور الْجُمعة وعدم الغفلة، والسعي الْمَنهي عنه فِي الْحَديث: سعي الأبدان. اهـ.(1/78)
قلت: فهذا توجيه لإشكال الآية: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" مع حديث أبِي هريرة: $إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون#(1).
والإشكال الثاني: ما سيأتي فِي ذكر الأحاديث فِي الْحَث على التبكير إِلَى الْجُمعة، وفِي الآية: +إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]. وسنذكر -إن شاء الله- الأدلة على أن النداء يوم الْجُمعة إنمَا كان إذا صعد الإمام الْمِنبر للخطبة.
وتوجيه ذلك: أن الأحاديث الَّتِي فيها الْحَث على التبكير لا تدل على وجوب التبكير؛ إنمَا هو للاستحباب، والأمر فِي الآية بالسعي للجمعة عند سماع النداء للجمعة للوجوب، فإذا سُمع النداء؛ كان واجبًا على من سمعه أن يَخرج للجمعة، وليس خروجه فِي ذلك الوقت مُجرد مستحب؛ بل واجب؛ للأمر الْمَذكور فِي الآية، ولا يَجوز له التأخر.
ولذلك تقدم فِي فصل وجوب غسل الْجُمعة: أن عثمان - رضي الله عنه - لَما شُغل عن الْجُمعة وتأخر حَتَّى سمع التأذين ترك الغسل وتوضأ وأقبل إِلَى الْجُمعة، والْحَديث عند البخاري رقم (872) ومسلم (845) قال له عمر - رضي الله عنه - وهو يَخطب-: $أية ساعة هذه؟ قال عثمان: شغلت فلم أنقلب إِلَى أهلي حَتَّى سمعت التأذين، فلم أزد أن توضأت#.
__________
(1) قال البغوي فِي شرح السنة (2/318): والسعي قد يكون مشيًا كقوله: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ".
وقد يكون عدوًا؛ كقوله تعالَى: +وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى" أي: يشتد ويعدو.
ويكون عملاً؛ كقوله: +وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
ويكون تصرفًا؛ كقوله سبحانه: +فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" أي: أدرك التصرف فِي الأمور. اهـ. وبنحو هذا من مفردات الراغب الأصفهاني (مادة: سعى).(1/79)
وقوله تعالَى فِي الآية: +وَذَرُوا الْبَيْعَ" [الْجُمعة: 9]. مُشعر بذلك أنه لا يَجوز بعد سماع الأذان للجمعة عند صعود الإمام على الْمِنبر أن يتأخر أحد من غير الْمَعذورين؛ فيحرم فِي ذلك الوقت كل ما يلهي الْمُسلم الْمُكلف عن حضور الْجُمعة: من بيع، وشراء، وصناعة، وكتابة، ورقاد، وإتيان الرجل زوجته...وغير ذلك مِمَّا يشغل عن إتيان الْجُمعة، ويؤدي إِلَى مُخالفة أمر الله T بالسعي إليها.
وبِهذا قال جَماهير أهل العلم، وانظر $فتح الباري# (2/502) عند باب (18) من أبواب الْجُمعة.
وهو الراجح بلا شك وما عدا ذلك من الأقوال: أنه يَحرم فِي ذلك الوقت البيع فقط دون غيره من الصناعات، وغيرها يعتبر جُمودًا على ظاهر آية واحدة دون نظر إِلَى بقية الأدلة، مثل قول الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاََ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" [الْمُنافقون: 9].
فكل ما سبَّبَ للإنسان الْخَسارة فِي دينه فهو حرام، وجَميع الْمُحرمات الَّتِي حرمها الله سبحانه على الإنسان إنمَا حرمها عليه لعلمه أن بِهَا ضررًا وخسارة على الإنسان؛ إما فِي دينه وإما فِي دنياه؛ وإما فيهما جَميعًا.
ومن الْجَدير بالذكر: أن بعض الْمُسلمين يقعون فِي ذلك بعد سماع الأذان وصعود الإمام على الْمِنبر؛ لاسيما الذين يبيعون الطيب والسواك عند أبواب الْمَساجد، وما يشعرون أن ذلك البيع فِي ذلك الوقت يعتبر حرامًا، والأكل والشرب واللباس وغير ذلك من الْمَتاع من ذلك الْمَال يصير حرامًا، والصدقة منه -قليلة كانت أو كثيرة- غير مقبولة عند الله T سواء منه أو من أي مال حرام؛ لِمَا ثبت من حديث أبِي هريرة: أن النَّبِي ص قال: $من تصدق بعدل تَمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله يقبلها بيمينه# أخرجه البخاري رقم (1410)، ومسلم رقم (1014).(1/80)
وقال: $رُبَّ أشعث أغبر يَمد يديه إِلَى السماء: يا رب!! يا رب!! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالْحَرام، فأنى يستجاب له# عن أبي هريرة، أخرجه مسلم رقم (1015).
وأخرج أحْمَد فِي مسنده (3/321 و399)، وعبد الرزاق فِي الْمُصنف (11/345) من طريق عبد الله بن خثيم، عن عبد الرحْمَن بن سابط، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الْجَنة لَحم نبت من سحت، النار أولَى به#.
وعبد الله بن عثمان بن خثيم صدوق حسن الْحَديث، وعبد الرحْمَن بن سابط ثقة، أثبت ابن أبي حاتِم سماعه من جابر -كما فِي جامع التحصيل- فالْحَديث حسن؛ وله بقية.
وجاء من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - . أخرجه الطبراني فِي الأوسط (6/447)، والبزار -كما فِي كشف الأستار- (4/215)، وأبو يعلى (1/85)، ومداره على عبد الواحد بن زيد، وهو ضعيف جدًّا، قال الذهبِي فِي ترجَمته من الْمِيزان: البصري الزاهد، شيخ الصوفية. قال يَحيى: ليس بشيء، وقال البخاري: تركوه، وذكر حديثه هذا من مناكيره فِي الْمِيزان، ومثله لا يصلح فِي الشواهد، وإنما ذكرناه لبيان حاله.
وجاء من حديث حذيفة بن اليمان عند الطبراني فِي الأوسط (7/349) وفيه إبراهيم ابن خلف الرملي، قال الْهَيثمي فِي الْمَجمع (10/293): لَم أجده.
قلت: وشيخه أيوب بن سويد مترجم فِي الْمِيزان، قال النسائي: ليس بثقة.
فاتقوا الله معشر الْمُسلمين: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" [التحريم: 6].
+قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاََ تُظْلَمُونَ فَتِيلاًَ" [النساء: 77].
وقال تعالَى: +مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 96].
* * * * *(1/81)
التبكير إِلَى الْجُمعة
عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $من اغتسل يوم الْجُمعة غسل الْجَنابة ثُمَّ راح فكأنما قرب بدنة، ومن أتى فِي الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن أتى فِي الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن أتى فِي الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن أتى فِي الساعة الْخَامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام طوت الْمَلائكة صحفها وحضروا يستمعون الذكر#. أخرجه البخاري رقم (881)، ومسلم (850).
وروى مسلم رقم (857) عن أبي هريرة أن النبِي ص قال: $من اغتسل ثم أتى الْجُمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه؛ غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام#.اهـ.
وجاء من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - عند أحْمَد (5/260) قال: حدثنا زيد قال: حدثنِي حسين قال: حدثنِي أبو غالب قال: حدثنِي أبو أمامة عن النبِي ص قال: $تقعد الْمَلائكة على أبواب الْمَساجد يوم الْجُمعة فيكتبون الأول والثاني والثالث، حتى إذا خرج الإمام رفعت الصحف#. وهذا سند حسن؛ فزيد هو ابن الْحُباب، وحسين هو ابن واقد، وأبو غالب هو حزور حسن الْحَديث.
وأخرج أحْمَد فِي مسنده (2/272)، وعبد الرزاق (3/257) من طريق ابن جريج قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحْمَن، عن أبي عبد الله إسحاق أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله ج: $لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الْجُمعة#. وذكر الْحَديث، وفيه $على كل باب من أبواب الْمَسجد ملكان يكتبان الأول فالأول، فرجل قدَّم بدنة، ورجل قدَّم بقرة...# إلخ.
وسنده عند البغوي (4/233) من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة صحيح.
وذكر السيوطي فِي الْجَامع الصغير حديث سمرة بن جندب أن النبِي ص قال: $احضروا الْجُمعة وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر فِي الْجَنة وإن دخلها#.(1/82)
ورمز لصحته كما فِي فيض القدير للمُناوي، وحسنه العلامة الألباني -رحِمه الله-فِي الصحيحة رقم (365)، وهو من طريق الْحَسن عن سمرة، ولَم يسمع منه، إلا حديث العقيقة، كما تقدم بيان ذلك فِي باب غسل الْجُمعة، ومن طريق يَحيى بن مالك عن سمرة، ويَحيى هذا هو أبو أيوب المراغي، ثقة كما في ترجمته من تهذيب التهذيب، وله طريق أخرى فيها الْحَكم بن عبد الْمَلك قال الْمُناوي فِي فيض القدير: قال ابن معين: ليس بشيء. وضعف الْحَديث الْهَيثمي والْمُنذري كما فِي السلسلة الصحيحة.
وللحديث شواهد منها حديث: $تقدموا؛ فإن رجالاً لا يزالون يتأخرون حَتَّى يؤخرهم الله#. أخرجه مسلم (438) من حديث أبي سعيد الْخدري.
وفِي الباب عدة أحاديث فِي الْحَثَّ على الدنو من الإمام والتقدم فِي الصف الأول فِي الْجُمعة وغيرها، ولا يعنِي ذلك أن يتأخر الْمُصلي ثُمَّ يتخطى رقاب الناس ليدنو من الإمام وإنما الْمُراد منها الْحَث والترغيب فِي التبكير بالذهاب إِلَى الْجُمعة كما تفسرها تلك الأحاديث الَّتِي ذكرها فِي أول الباب، وقد نُقل الإجْمَاع على استحباب الدنو من الإمام؛ كما فِي الْمَجموع شرح الْمُهذب للنووي -رحِمه الله- (4/466) قال: وأما أحكام الفصل ففيه مسائل إحداها أنه يستحب الدنو من الإمام بالإجماع لتحصل فضيلة التقدم في الصفوف واستماع الخطبة محققًا.
* * * * *
فضل الْمَشي إِلَى الْجُمعة
وقد استدل الإمام البخاري -رحْمَة الله عليه- (2/501) بهذه الآية: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9] وبِحديث عباية بن رفاعة قال: أدركنِي أبو عبس -عبد الرحْمَن بن جبر- وأنا ذاهب إِلَى الْجُمعة فقال: سمعت النَّبِي ص يقول: $من اغبرت قدماه فِي سبيل الله حرمه الله على النار#.
وبِحديث أبِي هريرة الذي تقدم قريبًا: $إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تَمشون وعليكم السكينة#.(1/83)
استدل بهذه الأدلة على أن الْمَشي إِلَى الْجُمعة أفضل من الركوب، وكما هو معلوم: أن فقه الإمام البخاري واختياره للقول مترجم فِي تبويباته، قرر ذلك الْحَافظان ابن رجب وابن حجر عند شرح الباب الثاني عشر من كتاب الْجُمعة من صحيح البخاري؛ فعلم أن ذكر الإمام للآية والأحاديث فِي الباب يدل على أنه يرى أن الْمَشي إِلَى الْجُمعة أفضل من الركوب.
قلت: وهذا ليس مُختصًّا بالْمَشي إِلَى الْجُمعة فقط، بل من ذلك تشييع الْجَنازة والذهاب لِمُصَلَّي العيد وصلاة الْجَماعة فِي الْمَسجد وزيارات الْمَرضى وكثير من الطاعات البدنية الَّتِي يَجوز الركوب والْمَشي إليها، والْمَشي أفضل.
وعلى ذلك أدلة كثيرة؛ منها: ما أخرجه البخاري رقم (2989)، ومسلم رقم (1009) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $كل سلامى من الناس عليه صدقة، وكل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل فِي دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تَمشيها إِلَى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة#.
وأخرج مسلم رقم (666) من حديث أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال: $من تطهر فِي بيته ثُمَّ مضى إِلَى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله؛ كانت خطواته إحداها تَحط خطيئة والأخرى ترفع درجة#.
وروى فِي صحيحه رقم (663) من حديث أُبَي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدًا أبعد من الْمَسجد منه وكانت لا تُخطئه صلاة؛ فقيل له: لو اشتريت حِمارًا تركبه فِي الظلماء وفِي الرمضاء؟ قال: ما يسرني من أن منزلي إِلَى جنب الْمَسجد، إني أريد أن يكتب لي مَمشاي إِلَى الْمَسجد ورجوعي إذا رجعت إِلَى أهلي. فقال رسول الله ص: $قد جَمع الله لك ذلك كله#.(1/84)
وروى مسلم فِي صحيحه رقم (665) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب الْمَسجد فقال النبِي ص: $بنِي سلمة، دياركم؛ تكتب آثاركم، دياركم؛ تكتب آثاركم# أي: الزموا دياركم وإن كانت بعيدة؛ تكتب لكم الْحَسنات بآثاركم ومشيكم إلَى الْمَسجد.
ومن حديث أبي موسى أن النبِي ص قال: $أعظم الناس أجرًا فِي الصلاة: أبعدهم إليها مشيًا#. أخرجه البخاري رقم (651)، ومسلم رقم (662).
وفِي مسلم رقم (251) من حديث أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال: $ألا أدلكم على ما يَمحو الله به الْخَطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى. قال: إسباغ الوضوء على الْمَكاره، وكثرة الْخُطا إِلَى الْمَساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط#.
وهنا مسألة متفرعة من الْمَسائل الَّتِي قبلها وهي:
* * * * *
هل الراكب على السيارة إذا أتى صلاة الْجُمعة
أو غيرها من الصلوات يمشي مشيًا هادئًا
أم يَجوز له أن يسرع؟
والذي عليه ظواهر الأدلة: أنه ينبغي أن يأتي إِلَى الصلاة بسكينة وعدم عجلة لقول النَّبِي ص: $وأتوها وعليكم السكينة والوقار#. والسرعة تنافِي السكينة بدليل ما أخرجه البخاري فِي صحيحه رقم (1671) كتاب الْحَج باب (94) من حديث ابن عباس ب أنه دفع مع النبِي ص يوم عرفة فسمع النبِي ص زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل فأشار إليهم النبِي ص بسوطه وقال: $أيها الناس؛ عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس بالإيضاع#.
قال الْحَافظ: قوله: فإن البر ليس بالإيضاع؛ أي: السير السريع، فبيَّن النَّبِي ص أن تكلف الإسراع فِي السير ليس من البر. اهـ الْمُراد.
والشاهد من هذا الْحَديث: أن السرعة والعجلة تنافِي السكينة، فلما أسرعوا فِي ذلك الْمَوضع أمرهم النَّبِي ص بالسكينة.(1/85)
والْمَاشي بسيارته إِلَى الصلاة إذا أسرع شغل باله بشدة الانتباه وكثرة الْحَركات وما إِلَى ذلك، فلم تَحصل عنده سكينة ولا وقار فيقع فِي مُخالفة أمر النَّبِي ص بقوله: $وامشوا وعليكم السكينة والوقار#. بينما إذا مشى على سيارته بتؤدة وهدوء لا ينتفي ذلك الْمَأمور به -إن شاء الله-.
فعلم من هذا: أن الْمَاشي بسيارته إِلَى صلاة الْجُمعة أو غيرها من الصلوات ينبغي له أن يَمشي مشيًا خفيفًا لا يُخرجه عن السكينة والوقار، وإن أسرع حَتَّى خرج عن السكينة كان مكروهًا فِي حقه كما هو مكروه فِي حق الْمَاشي على قدميه لِمَا تقدم تقريره من الأدلة، والْحَمد لله.
* * * * *
من ترك الْجُمعة
من غير عذر هل عليه كفارة؟
أخرج أبو داود رقم (1053):
قال: حدثنا الْحَسن بن علي قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أنبأنا همام، عن قتادة، عن قدامة بن وبرة العجيفي، عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - عن النَّبِي ص قال: $من ترك الْجُمعة من غير عذر؛ فليتصدق بدينار، فإن لَمْ يَجد؛ فبنصف دينار#.
وهذا سند ضعيف، فيه قدامة بن وبرة قال أحْمَد: لا يُعرف. وقال الْحَافظ فِي التقريب: مَجهول. وقال ابن خزيْمَة كما فِي التهذيب: لست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح. وقال الذهبِي فِي الْمِيزان: لا يعرف. ونقل الْحَافظ فِي التهذيب توثيق ابن معين له، لكن قال الإمام البخاري -رحِمه الله-: لا يصح سماعه من سمرة. وقال ابن خزيْمَة: لا أقف على سماع قتادة من قدامة. اهـ.
وأخرج ابن حبان فِي صحيحه (7/28- إحسان)، وأحْمَد فِي الْمُسند (5/14)، وابن خزيْمَة (3) رقم (1861)، والنسائي (3/89)، والْحَاكم (1/280) من طرق عن قتادة بن دعامة، عن قدامة بن وبرة، وقد علمت أنه بهذه الطريق ضعيف؛ فيه عنعنة قتادة وقد قيل: إنه لَم يسمع من قدامة، وفيه عدم سماع قدامة من سمرة بن جندب.(1/86)
وعليه؛ فمن ترك جُمعة من غير عذر لا يُخلصه من هذا الذنب إلا التوبة إلَى الله T، قال الله تعالَى: +قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاََ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر: 53].
وقال تعالَى: +فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ" [الْمَائدة: 39].
وقال تعالَى: +حم ((( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ((( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ" [غافر: 1-3]. والأدلة فِي ذلك كثيرة معلومة.
فعلم أن من ترك جُمعة من غير عذر لو أنفق جَميع ما يَملك فِي هذه الدنيا ما تَخلص من ذلك الذنب العظيم حَتَّى يتوب إِلَى الله T.
* * * * *
إذا حصل مطر
جاز التخلف عن الْجُمعة لعذر الْمَطر
بوب البخاري -رحِمه الله- (2/384): الرخصة إن لَمْ يَحضر الْجُمعة فِي الْمَطر.
حدثنا مسدد قال: حدثنا إسماعيل قال: أخبرني عبد الْحَميد صاحب الزيادي قال: حدثنا عبد الله بن الْحَارث ابن عم مُحَمَّد بن سيرين قال ابن عباس لِمُؤذنه فِي يوم مطير: $إذا قلتَ: أشهد أن مُحمدًا رسول الله؛ فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا فِي بيوتكم، فكأن الناس استنكروا قال: فعله من هو خير منِّي، إن الْجُمعة عزمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون فِي الطين والدحض#.(1/87)
وأخرج أبو داود رقم (1059) قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا سفيان بن حبيب، خبّرنا عن خالد الْحَذاء، عن أبِي قلابة، عن أبِي الْمَليح، عن أبيه: $أنه شهد النَّبِي ص يوم الْحُديبية فِي جُمعة وأصابهم مطر لَمْ يبل أسفل نعالِهم، فأمرهم أن يصلوا فِي رحالِهم#. وزيادة يوم الْجُمعة عند أبي داود، وسنده رجاله ثقات من حديث أبي الْمُليح عن أبيه، وعند ابن ماجه رقم (938) من حديث ابن عباس بسند فيه عباد بن منصور ضعيف مع ما تقدم عن ابن عباس فِي البخاري.
وأيضًا التخلف عن الْجُمعة لعذر الْمَطر الذي يتأذى منه الْخَارجون إليها يدخل تَحت قول الله تعالَى: +فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16].
وقوله: +وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" [الْحَج: 78].
وقوله: +مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ" [الْمَائدة: 6].
وقوله: +فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" [الشرح: 5].
فكل هذه الأدلة تدل على أنه: إن حصل مطر شق على الناس الْخُروج فيه؛ جاز لَهم التخلف عن الْجُمعة والْجَماعة لِهذا العذر؛ وقد دعم هذا القول ابن رجب فِي فتح الباري (6/83).
* * * * *
ما يقول من خرج
من بيته إِلَى الْمَسجد أو غيره
قال الإمام الترمذي -رحِمه الله- (9/385- تُحفة): حدثنا مَحمود بن غيلان قال: أخبرنا وكيع قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن عامر الشعبِي، عن أم سلمة: أن النَّبِي ص كان إذا خرج من بيته قال: $باسم الله، توكلت على الله، اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضِل، أو أَزَل أو أُزَل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو يُجهل عليَّ#.
وهذا سند صحيح؛ كل رجاله ثقات، والشعبِي قد سمع من أم سلمة ل؛ أثبت سماعه منها أبو داود كما فِي سؤالات الآجري له (1/رقم 171).
* * * * *
ما يقول من خرج إِلَى الْمَسجد للصلاة(1/88)
أخرج مسلم فِي صحيحه فِي كتاب صلاة الْمُسافرين باب: صلاة النَّبِي ص ودعائه بالليل رقم (763/191) من حديث عبد الله بن عباس أن النَّبِي ص خرج إِلَى الصلاة وهو يقول: $اللهم اجعل فِي قلبِي نورًا، وفِي لساني نورًا، واجعل فِي سمعي نورًا، واجعل فِي بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تَحتِي نورًا، اللهم أعطنِي نورًا#.
قال الإمام النووي -رحِمه الله- فِي شرح هذا الْحَديث عند الرقم السابق: قال العلماء: سأل النور فِي أعضائه وجهاته، والْمُراد به: بيان الْحَق وضياؤه والْهِداية إليه، فسأل النور فِي جَميع أعضائه وجسمه وتصرفاته وتقلباته وحالاته وجُملته فِي جهاته الست حَتَّى لا يزيغ شيء منها عنها. اهـ.
وهذا اللفظ عام في دعاء الخروج إلى أي صلاة وإن كان النبِي ج قاله في خروجه لصلاة الفجر لكن العبد بِحاجة إلَى ان ينور الله عليه في سائر سيره وحياته، وقد قال ربنا - سبحانه وتعالى - : {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور} ولهذا في بعض رويات الحديث أنه قال هذا الدعاء وهو خارج للصلاة، وفي بعضها أنه قاله في صلاته أو في سجوده.
* * * * *
ما يقول من دخل الْمَسجد
قال الإمام مسلم -رحِمه الله- رقم (713):
حدثنا يَحيى بن يَحيى قال: أخبرنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبِي عبد الرحْمَن، عن عبد الْمَلك بن سعيد، عن أبِي حُميد أو أبِي سعيد قال: قال رسول الله ص: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحْمَتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك#.
وقال أبو داود -رحِمَه الله- (2/132- عون):(1/89)
حدثنا إسماعيل بن بشر قال: حدثنا عبد الرحْمَن بن مهدي، عن عبد الله بن الْمُبارك، عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له: بلغنِي أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبِي ص أنه كان إذا دخل الْمَسجد قال: $أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم#.
قال عقبة: أقط؟ قلت: نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: $حفظ منِّي سائر اليوم#.
وهذا سند حسن؛ إسماعيل بن بشر بن منصور. قال أبو داود: صدوق، وعبد الرحْمَن بن مهدي وابن الْمُبارك إمامان جليلان، وحيوة بن شريح ثقة ثبت. وعقبة بن مسلم ثقة روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعنه حيوة بن شريح وغيره.
وجاء من حديث أبِي هريرة عند النسائي (2/53) أن النَّبِي ص قال: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد فليسلم على النَّبِي ص وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحْمَتك، وإذا خرج فليسلم على النَّبِي وليقل: اللهم اعصمنِي من الشيطان الرجيم#.
وهو بهذا اللفظ عن أبي هريرة فيه علة ذكرها النسائي فِي عمل اليوم والليلة (ص178) وأن الراجح وقفه على أبي هريرة.
وأخرج الحاكم في المستدرك (2/401):
فقال: أخبرنا أبو العباس السياري: قال أنبأنا أبو الموجه: قال أخبرنا عبدان: قال أنبأنا معمر: قال سمعت عمرو بن دينار يحدث عن ابن عباس ب في قوله T: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} قال هو المسجد، إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالِحين، هذا إسناد حسن.
أبو العباس هو القاسم بن القاسم السياري مترجم في سير أعلام النبلاء (15/500)، قال الذهبِي: الإمام الْمُحدث الزاهد شيخ مرو، سمع أبا الموجه وذكر من الرواة عنه الْحَاكم.
وأبو الموجه هو محمد بن عمرو الفزاري مترجم في سير أعلام النبلاء (13/347) قال الذهبي الشيخ الإمام محدث مرو اللغوي الحافظ. انتهى
وباقي رجال الإسناد أئمة مشاهير من رجال التهذيب.(1/90)
وأخرج الترمذي (314)، وابن ماجه رقم (771)، والبغوي في شرح السنة (482) من طريق ابن أبي شيبة: قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم وأبو معاوية عن ليث عن عبد الله بن الحسن عن أمه عن فاطمة بنت رسول الله ج قالت: كان رسول الله ج إذا دخل المسجد يقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج قال: باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك.
وهذا حديث ضعيف، فيه ليث بن أبي سليم مختلط، وفيه انقطاع فاطمة بنت الحسين لَم تدرك فاطمة الزهراء كما في تحفة التحصيل في ذكر رواة المراسيل لأبي زرعة العراقي.
* * * * *
تَحية الْمَسجد
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (444):
حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن عمرو بن سليم، عن أبِي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله ص قال: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد فليركع ركعتين قبل أن يَجلس#. وأخرجه مسلم رقم (714).
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: أتيت النبِي ص وهو فِي الْمَسجد فقال: $صلِّ ركعتين#. أخرجه البخاري رقم (443)، ومسلم رقم (715).
وأخرج البخاري رقم (1166)، ومسلم رقم (875) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إذا جاء أحدكم والإمام يَخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما#. وفِي رواية لِمُسلم قال: جاء سليك الغطفاني يوم الْجُمعة ورسول الله ص يَخطب فجلس؛ فقال له النبِي ص: $قم يا سليك فاركع ركعتين وتَجوز فيهما#.
وأخرج النسائي (5/93) قال: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنِي يَحيى قال: حدثنا ابن عجلان، عن عياض، عن أبِي سعيد: أن رجلاً دخل الْمَسجد يوم الْجُمعة ورسول الله ص يَخطب فقال: $صلِّ ركعتين#. وتقدم أنه سُليك الغطفاني كما فِي صحيح مسلم.(1/91)
وأخرج الْحُميدي (2/326)، وأبو يعلى (2/279) فِي مسنديهما من طريق مُحمد بن عجلان قال: حدثنا عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي شرح قال: رأيت أبا سعيد الْخُدري جاء ومروان بن الْحَكم يَخطب يوم الْجُمعة فقام يصلي الركعتين، فجاء إليه الأحراس ليجلسوه فأبى أن يَجلس حتى صلَّى الركعتين، فلما قضى الصلاة أتيناه فقلنا: يا أبا سعيد كاد هؤلاء أن يفعلوا بك؟ فقال أبو سعيد: ما كنت لأدعهما لشيء بعد شيء رأيته من رسول الله ص. وسند الْحَديث حسن.
ومُحمد بن عجلان؛ صدوق. وعياض بن عبد الله؛ ثقة وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وحديث أبي قتادة فِي أول الباب: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد فليركع ركعتين قبل أن يَجلس#. مفهومه: أنه إذا جلس ليس عليه بعد أن يقوم فيصلي ركعتين. ومنطوق حديث جابر: أن النبِي ص قال لسليك بعد أن جلس: قم فصل ركعتين. ففيهما نوع إشكال.
وجَّهه الْمُحب الطبري فقال: وقتها قبل الْجُلوس أداء وبعد الْجُلوس إذا جلس ثُمَّ قام يصليها قضاء إذا لَمْ يطل الفصل بين الْجُلوس والقضاء. اهـ. من فتح الباري (1/538).
والأمر فِي هذه الأحاديث للوجوب، وهو الصحيح فِي حق غير الإمام إذا دخل الْمَسجد للخطبة؛ فإنه لَمْ يثبت أن النَّبِي ص كان يصلي ركعتين قبل صعود الْمِنبر للخطبة.
وستأتي عدة أحاديث وآثار فِي أنه أول ما يدخل يصعد الْمِنبر وعلى ذلك كان السلف؛ فهذه الأحاديث عامة مَخصوصة بفعل النَّبِي ص عند صعود الْمِنبر يوم الْجُمعة، والله أعلم.
* * * * *
إذا دخل الْمَسجد لا يفرق
بين اثنين ولا يتخطى الرقاب
تقدم فِي ذكر الأحاديث من الْمُنتقى رقم (13) حديث عبد الله بن بسر قال: جاء رجل يوم الْجُمعة يتخطى رقاب الناس فقال له النَّبِي ص: $اجلس؛ فقد آذيت وآنيت#. وسنده حسن.
ومعنى يتخطى رقاب الناس: هو أن يرفع رجله ويُخطي رقبة الْجَالس.(1/92)
وأخرج ابن أبي شيبة (2/52) قال: أخبرنا هشيم، عن منصور، ويونس عن الْحَسن، قال: $بينما النبِي ص يَخطب إذ جاءه رجل يتخطى رقاب الناس يوم الْجُمعة حتى جلس قريبًا من النبِي ص، فلما قضى صلاته قال: ما صليت؟!#.اهـ باختصار، وهو مرسل ضعيف فيه عنعنة هشيم، ومراسيل الْحَسن شديدة الضعف.
وجاء من حديث زيد بن أرقم أن النبِي ص قال: $الذي يتخطى رقاب الناس يوم الْجُمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالْجَارِّ قصبه فِي النار#. أخرجه أحْمَد (3/417) وفيه هشام بن زياد؛ متروك.
وجاء من حديث معاذ بن أنس أن النبِي ص قال: $من تَخطى رقاب الناس يوم الْجُمعة؛ اتَّخذ جسرًا من جهنم#. أخرجه الترمذي رقم (513)، وابن ماجه (1116)، وأحْمَد (3/439) وفيه زبان بن قائد ورشدين بن سعد؛ ضعيفان.
وأقوى ما ورد فِي أحاديث الزجر عن التخطي: حديث عبد الله بن بسر الذي ذكرنا فِي أول الباب؛ كذا قال الْحَافظ فِي الفتح عند حديث رقم (910)، وإنما ذكرنا هذه الضعاف تَحته لِمَعرفة حالِها ولا نبنِي حكمًا -بِحمد الله- إلا على دليل صحيح.
* * * * *
لا يَجوز لأحد أن يقيم
أحدًا من مجلسه ثم يَجلس فيه
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- (911):
حدثنا مُحمد قال: أخبرنا مَخلد بن يزيد قال: أخبرنا ابن جريج قال: سمعت نافعًا يقول سمعت ابن عمر ب يقول: $نهى النَّبِي ص أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويَجلس فيه#. قلت لنافع: الْجُمعة؟ قال: الْجُمعة وغيرها.
وأخرجه مسلم رقم (2178) من حديث جابر بن عبد الله بلفظ: $لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الْجُمعة ثُمَّ يُخالف إِلَى مقعده فيقعد فيه، ولكن تفسحوا#.اهـ.
وكان ابن عمر إذا قام له أحد من مَجلسه لَم يَجلس فيه.
قال الإمام النووي -رحِمه الله- عند الْحَديث: والنهي للتحريم فمن سبق إلَى موضع مباح فِي الْمَسجد وغيره يوم الْجُمعة أو غيره الصلاة أو غيرها؛ فهو أحق به، ويَحرم على غيره إقامته لِهذا الْحَديث. اهـ الْمُراد.(1/93)
وقال الشوكاني: ذكر يوم الْجُمعة فِي حديث جابر للتنصيص على بعض أفراد العام لا من باب التقييد للأحاديث الْمُطلقة ولا من باب التخصيص للعموم ... ثُمَّ ذكر ما ذكره النووي وزاد: إلا أنه يستثنى من ذلك أن يقعد رجل فِي موضع ثُمَّ يقوم منه لقضاء حاجة ثُمَّ يعود إليه؛ فإنه أحق به مِمَّن قعد فيه بعد قيامه فله أن يقيمه لِحَديث أبِي هريرة عند مسلم (2179): $إذا قام أحدكم من مَجلس ثُمَّ رجع إليه فهو أحق به#.
وظاهر حديث جابر وابن عمر: أنه يَجوز للرجل أن يقعد فِي مكان غيره إذا قام له برضاه وأقعده، ولعل امتناع ابن عمر أن يَجلس فِي مَجلس من قام له برضاه كان تورعًا منه؛ لأنه ربَّما استحيا منه إنسان فقام له بدون طيبة نفس، لكن من فعل ذلك فقد أسقط حق نفسه لغيره فله أن يَجلس فيه، ويكره الإيثار بِمحل الفضيلة كالقيام من الصف الأول إلَى الثاني، فمن فعل ذلك فهو من الزاهدين فِي الثواب. اهـ من نيل الأوطار (3/284).
وقد تكلم على مسألة الإيثار بالقربات أهل العلم بِما حاصله على الراجح: كراهة الإيثار بها.
تجمير الْمَسجد يوم الْجُمعة
ذكر ابن القيم فِي الْخَصيصة الْخَامسة عشرة والسيوطي فِي اللمعة (ص44): أن عمر بن الْخَطاب كان يُجمر مسجد الْمَدينة كل جُمعة وأمر بذلك. وعزاه السيوطي لابن أبِي شيبة وأبِي يعلى، وذكره الْهَيثمي فِي مَجمع الزوائد (2/11) وقال: فيه عبد الله العمري (وهو ضعيف).
وذكر السيوطي فِي هذه الْمَسألة مرسلين بغير إسناد.
قلت: فتجمير الْمَساجد وتنظيفها مشروع فِي يوم الْجُمعة وغيرها لِمَا ثبت فِي البخاري رقم (1337)، ومسلم (956) من حديث أبِي هريرة: $أن امرأة كانت تقمُّ الْمَسجد فماتت، فدفنوها بليل ولَم يؤذنوا رسول الله ص، فلما أصبح سأل عنها فأخبروه أنها ماتت وصغروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فصلى على قبرها#.(1/94)
وثبت من حديث جابر بن عبد الله: $أن رجلاً بصق فِي قبلة الْمَسجد فحكها رسول الله ص ثُمَّ دعا بِخلوق وطيب موضعها#.
فليس هذه بِخصوصية للجمعة لكن فِي يوم الْجُمعة ينبغي الاعتناء بالْمَسجد أكثر لازدحام الناس فيه.
وكان نعيم الْمجمِّر التابعي -رحْمَة الله عليه- معتنيًا بالْمَسجد حَتَّى لقب بِهذا اللقب.
التخطي والتفريق بينهما
عموم وخصوص والتخطي أشد
وأخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (910):
حديث سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $من اغتسل يوم الْجُمعة وتطهر ما استطاع من طهره ثُمَّ ادهن من دهنه أو مس من طيب، ثُمَّ راح فلم يفرق بين اثنين، فصلى ما كتب له، فإذا خرج الإمام أنصت؛ غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى#. اهـ.
قال الزين بن الْمُنير: التفرقة بين اثنين يتناول القعود بينهما، وإخراج أحدهما والقعود مكانه، وقد يطلق على مُجرد التخطي، وفِي التخطي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما وربَّما تعلق بثيابهما شيء مِما برجليه. اهـ الْمُراد من الفتح (2/392).
وبه قال النووي والعراقي وغيرهما، ولَم يفرق بينهما ابن قدامة فِي الْمُغنِي (2/230)، والفرق واضح؛ ففي حديث سلمان أن مغفرة الذنوب تَحصل بِمجموع ما ذكر فِي الْحَديث.
* * * * *
حكم تخطي الرقاب
وأذية الناس يوم الْجُمعة
اختلف فِي حكم ذلك؛ فذهب جُمهور العلماء إِلَى أنه مكروه إلا إذا كانت فرجة فِي الْمَسجد لا يصل إليها إلا بالتخطي، أو كان الإمام لا باب له يدخل منه إِلَى الأمام إلا من بين أوساط الناس؛ فلا كراهة حينئذٍ، وكذا قال النووي.
ونقل ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/86) الاختلاف فيه على خَمسة أقوال، من ذلك الكراهة مطلقًا لِحَاجة أو غيرها.
وقال ابن قدامة فِي الْمُغنِي (2/230-231): إلاّ الإمام فلا يكره له.(1/95)
قلت: ثبت فِي صحيح البخاري رقم (851) من حديث عقبة بن الْحَارث: $أن النَّبِي ص صلَّى العصر ثُمَّ قام مسرعًا فتخطى رقاب الناس إِلَى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم فزعوا من سرعته فقال: ذكرت شيئًا من تبر(1) فأمرت بقسمته#. اهـ.
وهذا يدل على جواز تَخطي الرقاب لِحَاجة مثل قضاء الْحَاجة، والوضوء، ودخول الإمام إِلَى الأمام إن لَمْ يكن له مدخل آخر.
ومع ذلك ينبغي له أن يلازم الأدب الشرعي؛ فِي ذلك فلا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما، فيستأذن إذا أراد أن يَمشي بين اثنين ويتحرز عن أذية الناس برجليه أو غيرهما حال الْمُرور، لقول النَّبِي ص: $لا يَحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما#. أخرجه أبو داود رقم (4845)، والترمذي رقم (2753). من طريق أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ وأسامة بن زيد حديثه يصلح للاحتجاج.
ولِمَا أخرجه البخاري رقم (452 و 7074)، ومسلم رقم (2615) من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $من مر فِي شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليأخذ#. وفِي الرواية الأخرى: $فليمسك -أو فليقبض- بكفه على نصالِها؛ أن يصيب أحدًا من الْمُسلمين منها بشيء#.
وفِي البخاري رقم (647)، ومسلم (649) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $صلاة الرجل فِي جَماعة تضعف على صلاته فِي بيته وسوقه خَمسة وعشرين ضعفًا؛ وذلك إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثُمَّ خرج إِلَى الْمَسجد لا يُخرجه إلا الصلاة لَمْ يَخط خطوة إلا رفعت له بِهَا درجة وحطت عنه بِهَا خطيئة، والْمَلائكة يصلون على أحدكم ما دام فِي مصلاه الذي صلَّى فيه ما لَمْ يؤذ فيه ما لَمْ يُحدث فيه، ولا زال فِي صلاة ما انتظر الصلاة#. وإن لَم يلازم الأدب الشرعي فِي ذلك وحصل للمسلمين منه أذًى حال مروره كان آثمًا .
__________
(1) الذهب الذي لَمْ يصنع.(1/96)
ولقول الله تعالَى: +وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا" [الأحزاب: 58].
ويقول الله T فِي الْحَديث القدسي عن أبي هريرة عن النبِي ص فيما يرويه عن ربه: $من آذى لي وليًّا؛ فقد آذنته بالْحَرب#. أخرجه البخاري فِي صحيحه(1) وهذا لفظ أحْمَد كما فِي الفتح.
ولنهي النَّبِي ص ذلك الرجل الذي تَخطى الرقاب وقال له: $اجلس فقد آذيت#.
وثبت من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $يا معشر من أسلم بلسانه ولَم يفض الإيْمان إِلَى قلبه؛ لا تؤذوا الْمُسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتبعوا عورتهم؛ فإنه من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته؛ فيفضحه ولو فِي جوف رحله#.
ثُمَّ نظر ابن عمر إِلَى البيت أو إِلَى الكعبة وقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك!! والْمُؤمن أعظم حرمة عند الله منك. اهـ.
أخرجه الترمذي رقم (2032)، والبغوي رقم (3526)، وابن حبان (13/76) من طريق الفضل بن موسى، عن الْحُسين بن واقد، عن أوفى بن دَلْهم، عن نافع، عن ابن عمر فذكر... الْحَديث، وسنده حسن؛ أوفى بن دَلْهم صدوق والباقون ثقات.
وللمزيد من معرفة حكم ذلك؛ انظر نيل الأوطار (2/528) فقد أبان -رحِمه الله- أنه إن حصل فِي التخطي أذًى فِي أي اجتماع كان سواء الْجُمعة وغيرها من الاجتماع؛ فإن ذلك منهي عنه لِحُصول الأذى، ونقل عنه صديق حسن خان فِي الروضة (1/348) القول بالتحريم وبه قال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/86).
__________
(1) انفرد به البخاري رقم (6502) من طريق خالد بن مَخلد القطواني، قال أحْمَد: له مناكير... وذكر الْحَافظ فِي الفتح تَحت هذا الْحَديث طرقًا وشواهدًا كثيرة عن عائشة وأبِي أمامة وعلي بن أبِي طالب وابن عباس وأنس وحذيفة ومعاذ بن جبل تدل بِمجموعها على ثبوت الْحَديث.(1/97)
قوله فِي حديث ابن بسر عند ابن الْجَارود: -فقد آذيت وآنيت-. والأذى حاصل من التخطي وغيره وهو معروف.
وقوله: آنيت قال الْجَوهري: آناه: أخره وحبسه. وقال ابن الْمُنذر: كل شيء أخرته فقد آنيته. وكذا فسرها الشوكاني فِي النيل؛ قال: آنيت -بهمزة مَمدودة- أي: أبطأت. اهـ.
وكان الْمُتبادر إِلَى الذهن أن معنى آنيت أي: أتعبت نفسك وآذيت غيرك أخذًا من قول الله تعالَى: +تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ" [الغاشية: 5]. أي: فيها حرارة وألَم كما فِي مفردات الراغب الأصفهاني، وكلام أهل اللغة هنا مقدم.
* * * * *
التراص فِي الصفوف
من قبل مجيء الإمام وعدم حجز الأمكنة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية فِي الكبرى (1/137): أما صلاة الْجُمعة وغيرها فعلى الناس أن يسدوا الصفوف الأول فالأول كما فِي الصحيحين(1)
__________
(1) كذا قال شيخ الإسلام، والْحَديث إنمَا أخرجه مسلم فقط رقم (430) من حديث جابر بن سمرة. وإلَى مسلم فقط عزاه النووي فِي رياض الصالِحين رقم (1082)، والْمِزِّي فِي تُحفة الأشراف، والبغوي فِي شرح السنة (3/366)، وقال العامري فِي الرياض الْمُستطابة (46): إن له فِي الصحيحين (25) حديثًا واتفق معه البخاري على اثنين.
قلت: وهما حديث: إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وحديث: يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش. الأول أخرجه البخاري (3120)، ومسلم (2919)، والثاني أخرجه البخاري (7222)، ومسلم (1821).(1/98)
أن النَّبِي ص قال: $ألا تصفون كما تصف الْمَلائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف تصف الْمَلائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأول ويتراصون فِي الصف#. فليس لأحد أن يسد الصفوف الْمُؤخرة مع خلو الْمُقدمة، ولا يصف فِي الطرقات والْحَوانيت مع خلو الْمَسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب، ولِمَن جاء بعده تَخطِّيه ويدخل لتكميل الصفوف الْمُقدمة؛ فإن هذا لا حرمة له، كما أنه ليس لأحد أن يقدم ما يفرش له فِي الْمَسجد ويتأخر هو فما فرش له لَمْ يكن له حرمة، بل يُزال ويُصلَّى مكانه على الصحيح، فإذا امتلأ الْمَسجد بالصفوف صفوا خارج الْمَسجد، فإذا اتصلت الصفوف حينئذٍ فِي الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصفوف طريق يَمشي الناس فيه لَمْ تصح صلاتهم فِي أظهر قولي العلماء. اهـ.
وهكذا قال جُمهور العلماء أن التراص فِي الصف يوم الْجُمعة واجب.
وإذا تركوا فراغًا من الصفوف الأُوَل ولَم يسدوه جاز لِمَن أتى بعدهم أن يتخطى رقابهم لإتْمَام ذلك الفراغ.
وانظر ما ذكروه ونقلنا بعضه عنهم فِي باب النهي عن تَخطي الرقاب يوم الْجُمعة وعلى ذلك أدلة عامة.
فمنها ما أخرجه أبو داود رقم (671)، والنسائي (2/92) بسند صحيح من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $أتِموا الصف الْمُقدم، ثُمَّ الذي يليه؛ فما كان من نقص فليكن فِي الْمُؤخر#. اهـ.
وحديث أبي هريرة فِي مسلم رقم (440) أن النبِي ص قال: $خير صفوف الرجال: أولُها، وشرها: آخرها#.
وحديث أبِي هريرة فِي البخاري رقم (615)، ومسلم رقم (437) أن النَّبِي ص قال: $لو يعلم الناس ما فِي النداء والصف الأول ثُمَّ لَمْ يَجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا#.
ومن الأدلة للجمهور على جواز تَخطي رقاب من لَمْ يصل الصفوف الأول: حديث أنس الذي ذكرناه: أتِموا الصف الأول فالأول. وحديث عائشة ل أن النَّبِي ص قال: $إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف#.(1/99)
أخرجه ابن ماجه (995) من طريق هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
والبيهقي من طريق عبد الله بن عروة، عن عروة ... به. وابن خزيْمَة رقم (1550)، والْحَاكم (1/214).
وابن حبان (5/536- الإحسان) من طريق عبد الله بن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن عثمان بن عروة بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة؛ فالْحَديث صحيح كما ترى وجاء من حديث البراء بن عازب عند الطيالسي رقم (741)، وأحْمَد (4/304)، وابن حبان (5/530-531) بلفظ: $إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول#. اهـ. وهو بهذا اللفظ أيضًا سنده صحيح.
* * * * *
من نعس يوم الْجُمعة
فِي الْمَسجد فليتحول عن مجلسه
ما لَمْ يؤذ أحدًا
لِمَا جاء عن النَّبِي ص أنه قال: $إذا نعس أحدكم فِي مَجلسه يوم الْجُمعة فليتحول منه#.
أخرجه أبو داود (1119)، والترمذي رقم (526)، وأحْمَد (2/22 و32)، وابن خزيْمَة (3/1819)، وابن حبان (7/2792)، والبيهقي (3/237)، والبغوي فِي شرح السنة (4/269) كلهم من طريق مُحَمَّد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر... وذكر الْحَديث.
وابن إسحاق مدلس من الرابعة حسب ما ذكر الْحَافظ فِي مراتب الْمُدلسين، وقد عنعن فِي هذه الْمَصادر كلها إلا عند أحْمَد (2/135) فصرح بالتحديث، وقال البيهقي (3/237) فِي الكبرى: ولا يثبت(1) رفع هذا الْحَديث، والْمَشهور عن ابن عمر من قوله ... ثُمَّ ذكر الْمَوقوف بعده بسند صحيح كل رجاله ثقات ليدلل على رجحانه على الْمَرفوع، وهو كما قال؛ فالْمَرفوع ضعيف فيه عنعنة ابن إسحاق فِي عدة مصادر وذلك التصريح فِي بعض طرق أحْمَد غير معتمد فِي نسخة خالفت عدة نسخ، وعلى فرض تَحسينه بالتصريح فِي ذلك الْمَوضع فإن ابن إسحاق خالف فِي رفعه من أوقفه من الأثبات.
__________
(1) وقال ابن الْمَدينِي: حديث النعاس فِي الْجُمعة من منكرات ابن إسحاق. انظر تاريخ بغداد للخطيب (1/229).(1/100)
وجاء من حديث إسماعيل بن مسلم الْمَكي عن الْحَسن عن سمرة مرفوعًا، وإسماعيل متروك، والْحَسن لَمْ يسمع من سمرة؛ فهذه الطريق لا تصلح لشيء، وجاء عن ابن جريج عن عطاء أنه كان يقول: إذا نعس الإنسان يوم الْجُمعة فليقم من مَجلسه وليجلس مَجلسًا غيره أو ليضرب رأسه ثلاثًا. اهـ. أخرجه عبد الرزاق (3/252).
وعن ابن جريج عن عمرو بن دينار أنه كان يقال: إذا نعس الرجل فِي الْجُمعة والإمام يَخطب فإنه مَجلس الشيطان فليقم منه. اهـ.
وأقول: أما التحول قبل الْخُطبة إِلَى مكان الفراغ فنعم يَجوز؛ لأثر ابن عمر ولعدم الْمَانع منه ما لَمْ يُقم أحدًا من مكانه فلا يَجوز لِمَا ذكر فِي هذا من النهي.
وأما التحول حال الْخُطبة أو ضرب الرأس؛ فمنكر ولا دليل على جوازه غير ما تقدم من بعض الآثار الضعيفة الَّتِي لا ينبنِي عليها حكم.
والأحاديث الصحاح فِي النهي عن مس الْحَصى والأمر بالإنصات يوم الْجُمعة مقدمة على أقوال الرجال، ولو ثبتت عنهم فضلاً عن أن تكون على ذلك الْحَال الذي ذكرناه، وبذلك قال ابن العربي فِي عارضة الأحوذي (2/316) وبنحوه قال الشوكاني فِي النَّيْل (2/524).
* * * * *
وقت الْجُمعة
تقدم فِي الأحاديث الأول عن أنس - رضي الله عنه - قال: $كان رسول الله ص يصلي بنا الْجُمعة حين تَميل الشمس#. وبوب عليه البخاري -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (904): وقت الْجُمعة إذا زالت الشمس، وذكر بعده حديث أنس أيضًا قال: كنا نبكر بالْجُمعة ونقيل بعد الْجُمعة.
قال الْحَافظ -رحِمه الله-: جزم البخاري بهذه الْمَسألة: أن وقت الْجُمعة إذا زالت الشمس مع وقوع الْخِلاف فيها؛ لضعف دليل الْمُخالف. اهـ من الفتح.
قلت: جُمهور العلماء أن وقت الْجُمعة هو وقت الظهر بعد زوال الشمس كما دل عليه حديث أنس بن مالك هذا، وهو نص صريح، لا يقبل الْجَدل.(1/101)
ومن أدلة أحْمَد وإسحاق: ما أخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (4168)، ومسلم رقم (860) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: $كنا نُجمِّع مع النَّبِي ص ثُمَّ نرجع نتتبع الفيء -يعنِي: الظل-#.
وحديث سهل بن سعد فِي البخاري رقم (939)، ومسلم (859) قال: $ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الْجُمعة#.
وحديث جابر فِي مسلم رقم (858) قال: $كان رسول الله يصلي الْجُمعة ثُمَّ نذهب إِلَى جمالنا فنريْحها(1) حين تزول الشمس#.
فهذه الأدلة تدل على أنهم كانوا يبكرون بالصلاة ويفرغون منها فِي وقت الزوال بِحيث يتتبعون الفيء تتبعًا ولا يقيلون ولا يتغدون إلا بعدها.
وأقوى دليل فيها: حديث جابر الذي فيه أنهم كانوا يصلون ثُمَّ يذهبون يفكون عن نواضحهم مشقة العمل حين الزوال.
قال الإمام النووي -رحِمه الله-: هذه الأحاديث مَحمولة على الْمُبالغة فِي التعجيل بالْجُمعة والتبكير إليها، فلا يشغلون عنها بشيء من الأعمال بِحيث لا يريْحون نواضحهم فِي ذلك اليوم إلا بعد الصلاة لشغلهم عن ذلك بالتبكير إِلَى الْجُمعة.
وقوله فِي حديث جابر: حين تزول الشمس، أي: فنريْحها بعد زوال الشمس وبعد صلاة الْجُمعة.
وأما حديث سلمة ففيه أنه كان هناك فَيء لكن لقصر الْحيطان وتبكيرهم بالصلاة بعد الزوال وعدم تأخر الإمام فِي الْخُطبة لا يَجدون فيئًا كافيًا.
وأما حديث سهل؛ فلا إشكال فيه، فإنهم يشغلون عن النوم والغداء فِي ذلك اليوم بالتبكير كما تقدم. اهـ بتصرف فِي الْجَمع بين الأحاديث من شرح النووي على صحيح مسلم (6/461)، وفتح الباري (2/388).
وبقي أن الْحُكم لصريح لفظ حديث أنس الذي عليه جُمهور العلماء كما قدمنا.
__________
(1) يعنِي بالْجِمال: النواضح الَّتِي تنضح الْمَاء يريْحونها عن العمل وتعب السَّقْي. نووي.(1/102)
قال النووي: ولَم يُخالف فِي هذا إلا أحْمَد وإسحاق، فجوزوا الْجُمعة قبل الزوال، قال القاضي: وروي فِي هذا الشيء أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الْجُمهور.
قلت: هذه الأحاديث لا تنفي ما دل عليه حديث أنس الصريح فِي الصلاة بعد الزوال؛ فالْحُكم له قطعًا لأدلة كثيرة تدل على عدم صحة الصلاة قبل وقتها.
الْجَماعة شرط
فِي صلاة الْجُمعة ولا تصح من منفرد
قال الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].
وقال تعالَى: +وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" [الْجُمعة: 11].
وتقدم فيما أخرجه ابن الْجَارود رقم (10) أن أسعد بن زرارة حين جَمَّع بِهم بالْمَدينة كانوا أربعين.
وفيه برقم (11) من حديث جابر: $أن النَّبِي ص لَمَّا أقبلت عير لقريش انفضّ أصحاب رسول الله ص، لَمْ يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً#.
وقد ذكرنا حديث طارق بن شهاب - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $الْجُمعة حق واجب على كل مسلم فِي جَماعة إلا أربعةً: عبد مَملوك، أو امرأة، أو صبِي، أو مريض#.
وقد نقل الإجْمَاع على ذلك الإمام النووي فِي الْمَجموع (4/332)، وابن رشد فِي بداية الْمُجتهد، والصنعاني فِي سبل السلام.
وقال ابن حزم فِي الْمُحلى (5/45م 522): والْجُمعة إذا صلاها اثنان فصاعدًا ركعتان يُجهر فيهما بالقراءة، ومن صلاها وحده صلاها أربع ركعات يسر فيها كلها لأنها الظهر. اهـ.
قال النووي: وخالف الإجْمَاع القاشاني وقال: تصح من الْمُنفرد، والقاشاني لا يَخرق الإجْمَاع ولا يعتد بِمخالفته. اهـ.
وقال صديق حسن خان فِي الروضة (1/342): ولولا حديث طارق بن شهاب فِي تقييد الوجوب على كل مسلم بكونه فِي جَماعة ومن عدم إقامتها فِي زمنه فِي غير جَماعة؛ لكان فعلها فرادى مُجزئًا كغيرها من الصلوات. اهـ.
* * * * *(1/103)
إذا امتلأ الْمَسجد جازت الصلاة فِي الخارج
ولو من وراء جدار إذا كان الجدار
ملاصقًا للمسجد
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (729):
حدثنا مُحَمَّد قال: أخبرنا عبدة؛ عن يَحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عن عائشة قالت: $ كان رسول الله ص يصلي من الليل وجدار الْحُجرة قصير فرأى الناس شخص النَّبِي ص فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام الليلة الثانية فقام معه أناس يصلون بصلاته صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، حَتَّى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله ص فلم يَخرج، فلما أصبح قال لَهم: إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل#. اهـ. وأخرجه مسلم رقم (761).
قال الْحَافظ فِي شرح هذا الْحَديث: أي: هل يضر ذلك بالاقتداء أو لا؟ والظاهر من تصرفه: أنه لا يضر كما ذهب إليه الْمَالكية، والْمَسألة ذات خلاف شهير ومنهم من فرق بين الْمَسجد وغيره. اهـ.
وأخرج من طريق عبد الرزاق (3/230) عن معمر، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبِي هريرة قال: $من لَمْ يصل يوم الْجُمعة فِي الْمَسجد؛ فلا جُمعة له#.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/148-149) من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الْحَسن، عن قيس بن عبادة. وسعيد عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة. وسعيد عن قتادة، عن الْحَسن موقوفًا عليه من قوله.
وطريق معمر عن قتادة فيها ضعف، وأقوى منها طريق معمر عن الْحَسن على ما فيها على أنها لا تَخلو من شيء من الضعف لكنها دون التِي قبلها.
وقد بوب الإمام البخاري فِي صحيحه على الْحَديث السابق: باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو ستر. وقال الْحَسن: لا بأس أن تصلي وبينك وبينه نهر. وقال أبو مجلز: يأتَم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو جدار إذا سمع تكبير الإمام.(1/104)
قال الْحَافظ ابن رجب (6/297): مراد البخاري بهذا الباب: أنه يَجوز اقتداء الْمَأموم بالإمام وإن كان بينهما طريق أو نهر أو جدار يَمنع الْمَأموم من رؤية إمامه إذا سمع تكبيره؛ فهاهنا مسألتان:
1- إذا كان بين الْمَأموم والإمام طريق أو نهر؛ وحكي جوازه فِي صورة النهر عن الْحَسن وفِي صورة الطريق عن أبي مِجلز.
وأخرج عبد الرزاق (3/230-231) عن معمر، عن هشام بن عروة قال: جئت أنا وأبي مرة، فوجدنا الْمَسجد قد امتلأ يوم الْجُمعة فنصلي بصلاة الناس فِي بيت عند الْمَسجد بينهما طريق.
وأخرجه البيهقي فِي الكبرى (3/111) من طريق إبراهيم بن مُحمد، عن هشام... به، ومن طريق إبراهيم قال: حدثنِي عبد الْمَجيد بن سهيل بن عبد الرحْمَن بن عوف، عن صالح بن إبراهيم قال: رأيت أنس بن مالك صلَّى الْجُمعة فِي بيوت حُميد ابن عبد الرحْمَن بن عوف فصلَّى بصلاة الإمام فِي الْمَسجد وبين بيوت حُميد والْمَسجد الطريق.
وأخرجه عبد الرزاق (3/231) عن رجل عن عبد الرحْمَن بن سهيل، عن صالح... به، وما عند البيهقي هو الصواب، وهذا الرجل الْمُبهم فِي السند الثاني هو إبراهيم الْمُتقدم ذكره عند البيهقي.
وإبراهيم هو ابن مُحَمَّد قد تابع معمرًا فِي الطريق الأولَى لكن لا يستفاد من متابعته، وانفرد فِي الطريق الثانية عن أنس، وسند الأثرين ضعيف جدًّا؛ فإبراهيم بن مُحَمَّد هو ابن أبِي يَحيى كذاب، أما عبد الْمَجيد بن سهيل وابن عمه صالح بن إبراهيم ثقتان كما فِي التقريب لابن حجر.
وأخرجه ابن أبِي شيبة (2/223)، وابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/120) من طريق حَماد وهشيم، عن حُميد، عن جبلة بن أبِي سليمان قال: رأيت أنس بن مالك يصلي فِي دار عبد الله فِي الباب الصغير الذي يشرف على الْمَسجد فكان يُجمِّع فيه ويأتَم بالإمام.
وجبلة بن سليمان مترجم فِي الْمِيزان، قال ابن معين: ليس بثقة.(1/105)
وذكر ابن رجب فِي الفتح (6/299) من طريق عطاء بن أبِي ميمونة، عن أنس بن مالك أنه صلَّى فِي دار عبد ربه بن مُخارق وكانت عن يَمين الْمَسجد ما حاله.
قال ابن رجب: فهذا أنس قد صلَّى فِي دار لا تُدخل بغير إذن.
قلت: وفِي الصحيحين أن عائشة وأسماء وغيرهما من النساء صلين فِي حجرة عائشة حين كسفت الشمس وبينها وبين الْمَسجد حائل غير أنها ملتصقة به.
لكن فِي الْحَديث رقم (1046) من البخاري أن عائشة قالت: فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ.
وفيه برقم (1053): أن أسماء لَما دخلت على عائشة قالت: فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي فقلت: ما للناس؟ فأشارت إِلَى السماء وقالت: سبحان الله. فقلت: آية؟ فأشارت أي نعم. وهذه الأوصاف الَّتِي ذكرت هنا فيها أن عائشة ومن معها صلين فِي حجرتها مع الْمُصلين فِي الْمَسجد.
قال ابن رجب: ورخصت طائفة فِي الصلاة فِي الرحاب الْمُتصلة بالْمَسجد منهم النخعي والشافعي ومالك وذكر فِي الْمُوطأ عن الثقة عنده. أن الناس كانوا يدخلون حجر أزواج النَّبِي ص بعد وفاة النَّبِي ص يصلون فيها الْجُمعة، وكان الْمَسجد يضيق على أهله وحجر أزواج النَّبِي ص ليست من الْمَسجد ولكن أبوابها شارعة فِي الْمَسجد.
قال مالك: ولَم يزل ذلك من أمر الناس فلم يُعبه أحد من أهل الفقه. قال: أما دار مغلقة لا تدخل إلا بإذن؛ فإنه لا ينبغي لأحد أن يصلي فيها بصلاة الإمام يوم الْجُمعة وإن قربت فإنها ليست من الْمَسجد.
وروى الأثرم عن مُحَمَّد بن عمرو بن عطاء قال: صليت مع ابن عباس فِي حجرة ميمونة زوج النَّبِي ص بصلاة الإمام يوم الْجُمعة.
قلت: ومُحمد بن عمرو بن عطاء ثقة.
وأخرج عبد الرزاق (3/81) عن ابن التيمي، عن أبيه، عن نعيم بن أبِي هند، عن عمر بن الْخَطاب أنه قال فِي الرجل يصلي بصلاة الإمام قال: إذا كان بينهما نهر أو جدار أو طريق فلا يأتَم به.(1/106)
ورجال السند ثقات إِلَى عمر، لكن نعيمًا لَمْ يدرك عمر - رضي الله عنه - ولَم أر له عنه رواية.
لكن ثبت عند عبد الرزاق (3/81) عن إسرائيل بن يونس، عن عيسى قال: سألت عامرًا الشعبِي عن الْمَرأة تصلي بصلاة الإمام بينهما طريق؟ قال: ليس ذلك لَها.
وهو عند ابن أبِي شيبة من طريق ابن مهدي، عن إسرائيل ... به. وهذا سند صحيح إِلَى الشعبِي.
وثبت عنده رقم (4884) عن ابن التيمي، عن أبيه، عن أبِي مِجلز قال: تصلي الْمَرأة بصلاة الإمام وإن كان بينهما جدار أو طريق بعد أن تسمع التكبير؛ فلا بأس.
وبعد هذا، فإن أقوى ما لدينا فِي الباب: هو فعل عائشة فِي الصحيحين وغيرهما أنَّها صلت مع النَّبِي ص هي وأسماء وبعض النسوة فِي بيت عائشة وكانت حجرتها ملصقة بالْمَسجد، ومن الْمَعلوم أن بيتها كان مستورًا عن رؤية الناس له من داخل الْمَسجد وكان من أتى إِلَى رسول الله ص فيه يستأذن ثُمَّ يدخل؛ مِمَّا يدل على انفصاله بِجدرانه وحواجزه الَّتِي تَمنع لرؤية من فيه لِمَن فِي الْمَسجد إلا إذا تطلع واستشرف كما فعل النَّبِي ص حين مرض وأشرف على الناس فرآهم وهم يصلون، والنبِي ص أمر عائشة وغيرها معها على الصلاة فِي دارها.
وعليه؛ فإنه يشترط لصحة الائتمام بالإمام فِي الْمَسجد شرطان:
الأول: ملاصقة الْجِدار للمسجد كما قال الإمام مالك ونقل عن غيره من الفقهاء عدم إنكار ذلك.
وقد رأيت أن تلك الآثار فِي خلاف هذا القول غير متينة، وما صلح منها لا يتنافى مع هذا القول بل يؤيده.
الشرط الثاني: سماع قراءة الإمام كما تقدم الدليل فِي حديث عائشة وأسماء، وحديثها أيضًا فِي صلاة النَّبِي ص بالناس التراويح وكانوا يسمعون صوته ويرون شخصه؛ فهذا القول هو أسد الأقوال -إن شاء الله- وأرجحها؛ لِمَا عليه من الأدلة.(1/107)
وقد نلاحظ من بعض الْجُهال -هدانا الله وإياهم- عدم إكمال الصفوف الأولَى وجعل صفوف مقطعة؛ وهذا منكر نهى عنه رسول الله ص فِي قوله: $ألا تصفون كما تصف الْمَلائكة عند ربها؟ قلنا: يا رسول الله كيف تصف الْمَلائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأوَل ويتراصون فِي الصف#. أخرجه مسلم رقم (430) من حديث جابر بن سمرة.
وقوله: $أتِموا الصف الْمُقدم ثم الذي يليه، فما كان من نقص فليكن فِي الْمُؤخر#. أخرجه أبو داود (671)، والنسائي (2/93)، وسنده صحيح.
وقوله ص: $من وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله#. أخرجه أبو داود رقم (666) وسنده صحيح.
مسألة من صلَّى ركعة مع الإمام ثم زُحم فخرج فِي الثانية وأخرج من الصف؛ فإن صلَّى خلف الصف منفردًا أو ترك الصلاة فليصل ظهرًا، كما لو سمع الْخُطبة وخرج للوضوء ولَم يأت إلا بعد انقضاء الركعة الثانية، ومن زحم فأخرج من الصف إلَى صف آخر فجمعته صحيحة، وكذا من زحم عن السجود حتى انتهت الركعة الثانية من الْجُمعة.
والدليل على ذلك: قول النبِي ص: $لا صلاة لِمُنفرد خلف الصف#.
وقوله عن الذي سأله أنه صلَّى خلف الصف: $لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت#. وانظر الْمُغنِي لابن قدامة (2/317).
لو زحم إنسان عن السجود على الأرض وأمكنه السجود على ظهر إنسان آخر أو رجله؛ فيجب عليه أن يسجد على ظهره أو قدمه، وتصح صلاته لقول الله تعالَى: + فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: 16]. ولِحَديث أبِي هريرة: $ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم#. متفق عليه مرفوعًا، وبهذا قال جَماهير العلماء، بل نقل عليه الاتفاق كما فِي الْمَجموع للنووي (4/436).
* * * * *
الصلاة على ظهر الْمَسجد
أما الصلاة على ظهر الْمَسجد؛ فصحيحة بشرط ألا يكون الْمَأمومون متقدمين على الإمام: ثبت فعلها عن أبِي هريرة.(1/108)
قال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/122): حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا مُحَمَّد بن الصباح، قال: حدثنا الوليد، قال: حدثنا الأوزاعي، عن مُحَمَّد بن عمرو، عن مُحَمَّد بن عمار قال: كان أبو هريرة بظهر البناء على ظهر الْمَسجد فيصلي بصلاة الإمام معنا. ومُحمد بن عمار: مستور.
وأخرجه عبد الرزاق (3/83)، وابن أبِي شيبة (2/223)، والبيهقي (3/111) من طرق عن صالح مولَى التوأمة أنه رأى أبا هريرة يصلي على ظهر الْمَسجد بصلاة الإمام وهو تَحته. وصالح حسن الْحَديث، فبالطريق الَّتِي قبله يصير جيدًا.
وما عُلم لأبي هريرة مُخالف من الصحابة -رضوان الله عليهم-.
وقد بوب البيهقي -رحِمه الله- فِي الكبرى (3/111) على ذلك وذكر لِحَديث أبِي هريرة شواهد لا بأس بِهَا.
وقال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/121): فأما الصلاة فوق ظهر الْمَسجد بصلاة الإمام؛ فقد كان أبو هريرة وسالِم بن عبد الله يفعلانه، وأجاز ذلك الشافعي وأصحاب الرأي إذا لَمْ يكن أمام الإمام. اهـ.
وهو الراجح -إن شاء الله- لِمَا تقدم من عدم الْمُخالف لأبي هريرة.
* * * * *
صلاة الراتبة بعد الْجُمعة
أخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (1165)، ومسلم رقم (729) من حديث ابن عمر ب قال: $صليت مع رسول الله ص ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد الْجُمعة، وركعتين بعد الْمَغرب، وركعتين بعد العشاء#.اهـ.
وأخرج الإمام مسلم رقم (881) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $إذا صلى أحدكم الْجُمعة؛ فليصل بعدها أربعًا#.
وأخرج مسلم رقم (882) من حديث عبد الله بن عمر ب أن النَّبِي ص كان لا يصلي بعد الْجُمعة حَتَّى ينصرف فيصلي ركعتين فِي بيته.
قال ابن رجب -رحِمه الله-:
وقد اختلف العلماء فِي الْجَمع بين حديث ابن عمر وحديث أبِي هريرة:(1/109)
فقالت طائفة: هو مُخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعًا عملاً بكل واحد من الْحَديثين، وهو قول أحْمَد فِي رواية كما فِي الأوسط لابن الْمُنذر (4/125).
وقالت طائفة: يَجمع بينهما فيصلي ستًّا، نقل هذا عن أحْمَد كما فِي مسائل ابن هانئ (1/89).
وقالت طائفة: يَجمع بينهما على وجه آخر، وهو أن الإمام يصلي فِي بيته ركعتين والْمَأموم يصلي أربعًا فِي الْمَسجد. وهو قول زهير بن حرب والْجُوزجاني.
وقالت طائفة: يَجمع بينهما، أنه إن صلَّى فِي الْمَسجد صلَّى أربعًا، وإن صلَّى فِي بيته صلَّى ركعتين.
قلت: وهذا الأخير هو أحسن الوجوه الْمَذكورة فِي الْجَمع بين الْحَديثين، وقد رجحه الإمام ابن القيم فِي زاد الْمَعاد (1/440) فقال: وكان إذا صلى الْجُمعة دخل منزلة فصلَّى ركعتين سنتها، وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعًا.
وقال شيخنا أبو العباس بن تيمية: إذا صلى فِي بيته صلَّى ركعتين، وإذا صلَّى فِي الْمَسجد صلَّى أربعًا. ويليه القول بأنه مخير أن يصلي ركعتين أو أربعًا؛ لأنها تطوع، اما القول بأنه يصلي ستًا فباطل لا يؤيده الدليل.
وقد ذكر أبو داود فِي سننه رقم (1130) قال: حدثنا مُحَمَّد بن عبد العزيز بن أبِي رزمة الْمَروزي قال: أنبأنا الفضل بن موسى، عن عبد الْحَميد بن جعفر، عن يزيد بن أبِي حبيب، عن عطاء، عن ابن عمر ب قال: كان إذا كان بِمكة فصلَّى الْجُمعة تقدّم فصلَّى ركعتين، ثُمَّ تقدم فصلَّى أربعًا، وإذا كان بالْمَدينة صلَّى الْجُمعة ثُمَّ رجع إِلَى بيته فصلَّى ركعتين ولَم يصلِّ فِي الْمَسجد. فقيل له. فقال ابن عمر: كان رسول الله ص يفعله.
وهذا سند صحيح كل رجاله ثقات معروفون، وشيخ أبِي داود مُحَمَّد بن عبد العزيز وثقه الدارقطنِي والنسائي ومَسلمة كما فِي التهذيب. وعطاء الراوي عن ابن عمر هو ابن أبي رباح قيل أن لَم يسمع من ابن عمر والصحيح أنه سمع منه، فقد ثبت سماعه منه البخاري في التاريخ الكبير (6/464).(1/110)
ونقل الإمام الصنعاني هذا القول فِي سبل السلام وارتضاه، وهو قول مرتضى عند كثير من أهل العلم؛ لأنه أقوى الأقوال؛ والله أعلم.
الفصل بين صلاة
الْجُمعة وبين النافلة بعدها والصلاة فِي الْمَقصورة
قال الإمام مسلم -رحِمه الله- رقم (883):
حدثنا أبو بكر بن أبِي شيبة قال: حدثنا غندر، عن ابن جريج قال: أخبرني عمر بن عطاء بن أبِي الْخوار أن نافع بن جبير أرسله إِلَى السائب ابن أخت النمر يسأله عن شيء رآه منه معاوية فِي الصلاة. قال: نعم، صليت معه الْجُمعة فِي الْمَقصورة، فلما سلم الإمام قمت فِي مقامي فصليت فلما دخل أرسل إلي فقال: لا تعد لِمَا فعلت؛ إذا صليت الْجُمعة فلا تَصِلْها بصلاة حَتَّى تتكلَّم أو تَخرج؛ فإن رسول الله ص أمرنا بذلك ألا نوصل صلاة بصلاة حَتَّى نتكلم أو نَخرج.
قال القاضي عياض فِي شرح مسلم (3/288)، والنووي (6/419): فيه دليل على جواز اتِّخاذ الْمَقصورات فِي الْجَوامع إذا رآها والي الأمر مصلحة.
قال القاضي: وأول من عملها فيما قيل: معاوية بن أبِي سفيان حين ضربه الْخَارجي(1) فاستمر العمل عليها لِهَذه العلة من التحصين على الأمراء، وأما بغير ذلك فلا ينبغي فعلها لتفريقها الصفوف وسترها الإمام عمن خلفه.
واختلف السلف فِي الصلاة فيها؛ فأجازه كثير من السلف وصلوا فيها، منهم: الْحَسن والقاسم وسالِم وغيرهم، وأباه آخرون وكرهوه، منهم: ابن عمر كان إذا حضرت الصلاة وهو فِي الْمَقصورة خرج عنها إِلَى الْمَسجد، وهو قول الشعبِي وأحْمَد وإسحاق إلا أن إسحاق قال: فإن صلى أجزأته. وقيل: هذا إذا كانت مباحة فإذا كانت مُحتجزة إِلا على آحاد من الناس مَمنوعة عن غيرهم لَمْ تَجز فيها صلاة الْجُمعة؛ لأنها بتحجيزها خرجت عن حكم الْجَامع. اهـ من شرحي مسلم للقاضي والنووي.
__________
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير (8/23).(1/111)
قال فِي الْمَنهل العذب الْمَورود فِي شرح سنن أبِي داود (6/300): الْمَقصورة هي الْحُجرة الَّتِي تكون فِي الْمَسجد. اهـ.
وقال فِي لسان العرب: الْمَقصورة: الدار الواسعة الْمُحصنة.
وقال فِي الْمِصباح: مقصورة الدار: الْحُجرة منها، ومقصورة الْمَسجد أيضًا. اهـ.
قال ابن قدامة فِي الْمُغنِي (3/250): يستحب لِمَن أراد الركوع يوم الْجُمعة أن يفصل بينها(1) وبينه بكلام أو انتقال من مكانه أو خروج إِلَى منزله ... وذكر هذا الْحَديث.
وقال الصنعاني فِي سبل السلام (3/182): وليس خاصًّا بصلاة الْجُمعة لقوله: أمرنا ألا نصل صلاة بصلاة ...
قيل: والْحِكمة فِي ذلك: لئلا يشتبه الفرض بالنافلة، وقد ورد أن ذلك هلكة(2)، وقد ذكر العلماء أنه يستحب التحول للنافلة من موضع الفريضة، والأفضل أن يتحول إِلَى بيته وإلا فإلَى موضع فِي الْمَسجد أو غيره. اهـ.
ونعم؛ هو كما قال النهي لا يَختص بنافلة الْجُمعة فقط، بل هو عام لظاهر لفظ الْحَديث.
وقال النووي: يستحب أن يتحول لَها عن موضع الفريضة إِلَى موضع آخر، وأفضله التحول إِلَى بيته، وإلا فموضع آخر من الْمَسجد أو غيره؛ لتفصل صورة النافلة عن صورة الفريضة، وقوله: حَتَّى تتكلم. دليل على أن الفصل بينهما يَحصل بالكلام أيضًا، ولكن بالانتقال أفضل. اهـ كلام النووي، ونقله عنه صاحب عون الْمَعبود (3/338).
قلت: والنهي للتحريم كما قال الصنعاني فِي سبل السلام بالرقم السابق، لكن جُمهور العلماء على أن ذلك مكروه وليس حرامًا، وقولُهم: التحول إِلَى بيته أفضل؛ اعتمادًا منهم على أنه مكروه وليس حرامًا.
__________
(1) أي بين الْجُمعة وبين الركوع بعدها.
(2) كذا قال الصنعاني كما ترى ولَم أر هذه الرواية بلفظة هلكة.(1/112)
اعتمادًا على حديث زيد بن ثابت فِي البخاري رقم (731)، ومسلم رقم (781) أن النَّبِي ص قال: $صلوا أيها الناس فِي بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة الْمَرء فِي بيته إلا الْمَكتوبة#. وهذا يبيِّن ما أُجْمِل فِي حديث ابن عمر عند البخاري رقم (432)، ومسلم رقم (777) أن النبِي ص قال: $اجعلوا من صلاتكم فِي بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا#.
ومثله: حديث جابر بن عبد الله عند مسلم رقم (778) أن النَّبِي ص قال: $إذا قضى أحدكم صلاته فِي مسجده، فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته؛ فإن الله جاعل فِي بيته من صلاته خيرًا#.
ففي هذه الأحاديث: التفريق بين صلاة الفريضة فتؤدى فِي الْمَسجد وأنه يَجعل من صلاته غير الفريضة في بيته.
فهذه نصوص أن صلاة النافلة فِي البيت أفضل من صلاتها فِي الْمَسجد؛ لِحَديث ابن عمر فِي البخاري رقم (649)، ومسلم (650) أن النَّبِي ص قال: $صلاة الْجَماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة#.
وحديث أبي هريرة فِي البخاري رقم (648)، ومسلم (649) أن النبِي ص قال: $تفضل صلاة الْجَميع صلاة أحدكم وحده بِخمس وعشرين جزءًا#.
قال أهل العلم: والْخَمسة والعشرون داخلة تَحت السبعة والعشرين فِي العدد؛ فلا تعارض بينهما.
قلت: وأيضًا فقد ثبت من حديث أبِي ذر عند أصحاب السنن، وقد بينا حاله وشرحه فِي منتقى ابن الْجَارود رقم (403)، وفيه: أن النَّبِي ص صلَّى بِهم ليلة الثالث والعشرين وليلة الْخَامس والعشرين وليلة السابع والعشرين حَتَّى خشوا أن يفوتهم الفلاح أي: السحور.
وهذا يدل أن الْجَماعة فِي صلاة التراويح مشروعة، وإنما تركها النَّبِي ص خشية أن تُفرض عليهم كما فِي حديث عائشة عند البخاري (3/10)، ومسلم رقم (761): أن النَّبِي ص صلَّى بِهم التراويح ليلتين أو ثلاثًا، ثُمَّ لَمْ يَخرج إليهم بعدها فقالوا: يا رسول الله، ما زال الناس ينتظرونك البارحة!! فقال: أما إني لَمْ يَخف علي أمرهم، ولكنِّي خشيت أن يكتب عليهم. اهـ.(1/113)
قال الْحَافظ فِي فوائد هذا الْحَديث من الفتح: فيه ندب قيام الليل لاسيما رمضان فِي جَماعة؛ لأن الْخَشية الْمَذكورة أمنت بعد النَّبِي ص، ولذلك جَمعهم عمر على أُبَي ابن كعب. اهـ.
قال الشيرازي: والأفضل أن يصليها فِي جَماعة.
قال النووي فِي الْمَجموع شرح الْمُهذب (4/40): وقد ذكرنا أن الصحيح عندنا أن فعل التراويح فِي جَماعة أفضل من الانفراد، وبه قال جَماهير العلماء حَتَّى أن علي ابن موسى القمي ادعى فيه الإجْمَاع، وقال مالك وأبو يوسف وآخرون: الانفراد بِهَا أفضل، ودليلنا إجْمَاع الصحابة على فعلها جَماعة. اهـ.
وقال ابن قدامة فِي الْمُغنِي (1/835): والْمُختار عند أبِي عبد الله: فعلها فِي الْجَماعة، ثُمَّ بعض الْخَلاف فِي ذلك وقال: ولنا إجْمَاع الصحابة على ذلك وجَمع النَّبِي ص أصحابه وأهله فِي حديث أبِي ذر وقوله: إذا صلَّى أحدكم مع الإمام حَتَّى ينصرف كتب له قيام ليلة، وهذا خاص فِي قيام رمضان فيقدم على عموم ما احتجوا به وقول النَّبِي ص لَهم ذلك معللاً بِخشية فرضه عليهم، وقد أمن هذا أن يفعل بعده.
قلت: فالراجح عندي: أن صلاة التراويح فِي جَماعة أفضل من صلاتها فرادى؛ لِما تقدم من الأدلة وإجْمَاع الصحابة على ذلك وجَماهير أهل العلم من بعدهم. ولله الْمِنة.
* * * * *
الْخَطيب إذا قرأ فِي الخطبة
آية فيها سجدة هل ينزل ويسجد؟
أخرج الإمام البخاري -رحمه الله- في كتاب سجود القرآن رقم (1077) من صحيحه، والإمام عبد الرزاق -رحِمه الله- (3/341):(1/114)
من طريق ابن جريج قال: أخبرنا أبو بكر بن أبِي مليكة، عن عثمان بن عبد الرحْمَن التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الْهَدير أنه حضر عمر بن الْخَطاب يوم الْجُمعة قرأ على الْمِنبر سورة النحل، حَتَّى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، حَتَّى إذا كانت الْجُمعة القابلة قرأها حَتَّى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس؛ إنمَا نَمر بالسجدة فمن سجد فقد أصاب وأحسن، ومن لَمْ يسجد فلا إثم عليه. قال: ولَم يسجد عمر.
قال ابن جريج: وزادني نافع عن ابن عمر أنه قال: لَمْ يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. انتهى من صحيح البخاري.
وسنده صحيح؛ أبو بكر بن أبِي مليكة: روى عنه جَمع، ووثقه ابن حبان وأخرج له البخاري فِي صحيحه.
وعثمان بن عبد الرحْمَن التيمي: ثقة.
وربيعة بن عبد الله: ثقة روى عن عمر بن الْخَطاب وغيره من الصحابة.
وأخرجه ابن الْمُنذر (4/77) من طريق عبد الرزاق، وأخرجه أبو بكر بن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (2/8).
وقد أخرجه ابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (2/19) قال وكيع: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عمر قرأها وهو على الْمِنبر ثُمَّ نزل فسجد. وعروة لَمْ يسمع من عمر لكن العمدة على ما قبله.
قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس قال: حدثنا بكر بن عبد الله الْمُزني، عن صفوان بن مُحِرز قال: بينما الأشعري يَخطب يوم الْجُمعة إذا قرأ السجدة الآخرة من سورة الْحَج قال: فنزل فسجد ثُمَّ عاد إِلَى مَجلسه.
وسند الأثر صحيح كل رجاله ثقات، والأشعري هو أبو موسى - رضي الله عنه - ؛ فإن صفوان بن مُحِرز هذا روى عن أبِي موسى الأشعري ولَم نره روى عن أشعري غيره.
وأخرج ابن أبِي شيبة ومن طريقه ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/77) من طريق هشيم قال: أخبرنا أبو إسحاق الكوفِي، عن الشيعي، عن النعمان بن بشير أنه قرأ سورة الْحَج وهو على الْمِنبر فسجد ثُمَّ عاد إِلَى مَجلسه.(1/115)
وليس فيه أنه كان يَخطب الْجُمعة، ومع ذلك فالأثر ضعيف؛ فإن أبا إسحاق الكوفِي هذا هو عبد الله بن ميسرة ضعيف كما فِي التهذيب.
وأخرج ابن أبِي شيبة (2/18) ومن طريقه ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/77) قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زر قال: قرأ عمار على الْمِنبر: إذا السماء انشقت ثُمَّ نزل القرار فسجد بِهَا.
وأخرجه عبد الرزاق (3/193)، فقال: عن الثوري، عن عاصم بن أبِي النجود، عن زر بن حبيش، عن عمار بن ياسر قرأ على الْمِنبر يوم الْجُمعة: إذا السماء انشقت، ثُمَّ نزل فسجد. وهذا سند حسن إِلَى عمار بن ياسر.
وأخرج ابن أبِي شيبة (2/19)، وعنه ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/78) عن زيد ابن الْحباب، عن عبد الرحْمَن بن شريح قال: حدثنِي وهب الْمُعافري، عن أوس بن بشر قال: رأيت عقبة بن عامر قرأ على الْمِنبر السجدة فنزل فسجد. وسند هذا الأثر ضعيف؛ فعبد الرحْمَن بن شريح: ثقة، وشيخه وهب بن عبد الله الْمُعافري: ثقة، وأوس بن بشر: هو الْمُعافري مصري كما أن واهبًا مصري، ذكره ابن حبان فِي الثقات، وذكره ابن أبِي حاتِم فِي الْجَرح والتعديل، ولَم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً؛ فهو مَجهول.
وأخرج ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/78) فقال: حدثونا عن مُحَمَّد بن يَحيى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثنِي جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحْمَن بن هرمز، عن السائب بن يزيد أنه كان يقول: كان عثمان بن عفان يقرأ سورة داود - عليه السلام - وهو على الْمِنبر ثُمَّ ينزل فيسجد. اهـ.
وأخرجه البيهقي من طريق أخرى عن إسحاق بن عيسى قال: حدثنا ابن لَهيعة، عن الأعرج ... فذكره؛ فجعفر بن ربيعة يتابع ابن لَهيعة عن الأعرج، وجعفر ثقة؛ فسند هذا الأثر صحيح.
قال أبو بكر بن الْمُنذر: إذا قرأ الإمام على الْمِنبر سورة فيها سجدة أحببت أن ينزل فيسجد.
ونقله ابن الْمُنذر (4/76) إِلَى (77) عن أصحاب الرأي.(1/116)
قلت: أما الأحاديث؛ فلم أجد ما يثبت فِي ذلك(1)، وأما الآثار؛ فكما ترى أنه ثبت عن عمر بن الْخَطاب، وعثمان بن عفان، وعمار بن ياسر.
وسجود التلاوة ليس بواجب فِي الصلاة أو الْخُطبة أو غيرهما.
وعليه؛ فمن نزل عن الْمِنبر وسجد فيستحب له ذلك؛ إذ قد ثبت فيه ما ترى وعمن هو خير منَّا كما تقدم، وإن رأى أن مثل ذلك قد يسبب بين الناس تشويشًا وقلقلة فليترك السجود وليستمر فِي خطبته، وإذا سجد شُرع السجود للمأمومين كما كانوا يسجدون مع النَّبِي ص.
* * * * *
لا بأس بالتفسح
وقت الخطبة وهو جالس بحيث لا يقوم
الْمُستمع من مكانه
لقول الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ" [الْمُجادلة: 11].
وأخرج البخاري فِي صحيحه رقم (6270):
قال: حدثنا خلاد بن يَحيى قال: حدثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النَّبِي ص: $أنه نهى أن يقام الرجل من مَجلسه ويَجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا#. أخرجه مسلم رقم (2177).
__________
(1) بذكر الجمعة، أما بغير ذكر الجمعة فقد أخرج أبو داود رقم (1410) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - بسند صحيح: $أن النبِي ج قرأ وهو على المنبر سورة (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَ الناس -أي: تأهبوا للسجود- فقال رسول الله ج إنما هي توبة نبِيٍّ ولكنِّي رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل فسجد فسجدوا# انتهى.
وهو وإن لَم يكن فيه التصريح بالجمعة بهذا اللفظ لكنه قوي الدلالة على ذلك باقتران ما ذكر في الباب من السجود يوم الجمعة وقد جاء مثله مرسل ضعيف عند عبد الرزاق في المصنف (3) رقم (5866) من طريق السدي عن أبي مالك.(1/117)
ومن حديث جابر عن النبِي ص قال: $لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الْجُمعة ولكن يقول: تفسحوا# أخرجه مسلم (2178) من طريق معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير عن جابر به ورواية معقل عن أبي الزبير فيها كلام كما في شرح علل الترمذي مع الملحق (2/638) لكن لَم أرَ الدارقطنِي انتقد هذا الحديث في العلل.
قال الْحَافظ فِي الفتح (11/75): وذهب الْجُمهور إِلَى أن الآية عامة فِي مَجلس من مَجالس الْخَير. اهـ.
وقال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/87): ذِكْر الأمر بالتفسح والتوسع إذا ضاق الْمَكان، وذَكَر الآية والْحَديث ثُمَّ قال: والآية وإن كانت خاصة فِي مَجلس النَّبِي ص فهي عامة لِمَن بعده، والله أعلم. اهـ.
وقال القرطبِي عند الآية (11) من الْمُجادلة: الصحيح فِي الآية: أنها عامة فِي كل مَجلس اجتمع الْمُسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مَجلس حرب أو ذكر أو مَجلس يوم جُمعة؛ فإن كل واحد أحق بِمكانه الذي سبق إليه. اهـ الْمُراد.
* * * * *
من أدرك من صلاة الْجُمعة
ركعة فقرأ الفاتحة فقد أدرك الْجُمعة
ومن لَمْ يدرك الركعة الثانية صلَّى ظهرًا
أخرج الإمام البخاري رقم (580)، ومسلم رقم (607) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام؛ فقد أدرك الصلاة#.
قال الْحَافظ: وفِي الْحَديث: أن من دخل فِي الصلاة فصلى ركعة وخرج الوقت، كان مدركًا لِجَميعها وتكون كلها أداء، وهو الصحيح. اهـ.
وقد أخرج حديث أبثي هريرة هذا ابن ماجه رقم (1121) وغيره بلفظ: $من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، ومن لَم يدرك الركوع من الركعة الأخيرة فليصل الظهر أربعًا#. ولكن لفظة: $الجمعة# في هذا الحديث معلولة، قال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه: لا أصل لهذا الحديث إنما المتن: $من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها#. وكذا قال الدراقطنِي والعقيلي كما في التلخيص الحبير لابن حجر رقم (593).(1/118)
وقوله:$فقد أدرك الصلاة #؛ ليس على ظاهره بالإجْمَاع؛ لِمَا قدمناه من أنه لا يكون بالركعة الواحدة مدركًا لِجَميع الصلاة بِحيث تَحصل براءة ذمته من الصلاة (فلا يزيد غير تلك الركعة) ففيه إضمار تقديره: فقد أدرك وقت الصلاة أو حكم الصلاة أو نَحو ذلك، ويلزمه إتْمَام بقيتها، ومفهوم التقييد بالركعة: أن من أدرك دون الركعة لا يكون مدركًا لَها وهو الذي استقر عليه الاتفاق.
قلت: وهذا إذا قرأ الفاتِحة قبل الركوع فإنه يكون مدركًا للركعة، أما إذا جاء وهم ركوع وركع معهم فالصحيح: أنه لا يدرك تلك الركعة وأنه يصلي ظهرًا لِحَديث عبادة ابن الصامت فِي البخاري رقم (756)، ومسلم رقم (394) أن النَّبِي ص قال: $لا صلاة لِمَن لَمْ يقرأ بفاتِحة الكتاب#.
قال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/100): وقالت طائفة: من أدرك من الْجُمعة ركعة صلَّى إليها أخرى، وإن أدركهم جلوسًا صلَّى أربعًا، كذلك قال ابن مسعود، وابن عمر، وأنس بن مالك، وسعيد بن الْمُسيب، والْحَسن، والشعبِي، وعلقمة، والأسود، وعروة، والنخعي، والزهري ثُمَّ ذكر آثارهم بأسانيدها.
فأما أثر ابن مسعود؛ فثبت عند عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/235)، وعنه ابن الْمُنذر من طريق الثوري، عن أبِي إسحاق، عن أبِي الأحوص، عن ابن مسعود قال: من أدرك الركعة؛ فقد أدرك الْجُمعة، ومن لَمْ يدرك الْجُمعة؛ فليصل أربعًا.
وهذا سند رجاله ثقات.
وأخرجه ابن أبِي شيبة (2/128) من طريق زكريا بن أبِي زائدة عن أبِي إسحاق به فهو صحيح إِلَى ابن مسعود كما ترى.
وثبت عند عبد الرزاق (3/234) من طريق معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وعبد الله العمري عن نافع، عن ابن عمر، والثوري عن الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا أدرك الرجل يوم الْجُمعة ركعة؛ صلَّى إليها أخرى، فإذا وجدهم جلوسًا؛ صلَّى أربعًا. اهـ وسنده صحيح.(1/119)
وقال ابن أبِي شيبة (2/130)، وعنه ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/101) من طريق عبدة، عن سعيد بن أبِي عروبة، عن قتادة، عن أنس وسعيد بن الْمُسيب والْحَسن قالوا: إذا أدرك من الْجُمعة ركعة؛ أضاف إليها أخرى، فإذا أدركهم جلوسًا؛ صلَّى أربعًا. وهكذا ثبت عن علقمة والأسود وعبد الرحْمَن بن الأسود عند أبِي شيبة (2/130).
قال مالك فِي الْمُدونة الكبرى (1/174): وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا.
ورجح هذا القول ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/102) وغيره.
وأنت ترى ثبوت الْحَديث فِي ذلك مع فهم جَماهير السلف الصالح له -رضوان الله عليهم-؛ فهو قول راجح يقينًا -إن شاء الله-، لكن بالقيد الذي هو فِي حديث عبادة ابن الصامت الْمَذكور آنفًا(1) مع شرح الْحَافظ عليه، وانظر الْمَجموع للنووي -رحِمه الله- (4/389)، والْمُغنِي لابن قدامة (3/183-184).
إذا أدرك الْمُسافر التشهد
من صلاة الْجُمعة هل يصلي أربعًا
أم ركعتين؟
قال ابن الْمُنذر: اختلفوا فقالت طائفة: يصلي أربعًا. كذا قال الأوزاعي، وسفيان، الثوري، وأحْمَد بن حنبل ويشبه ذلك مذهب الشافعي وقالت طائفة: يصلي ركعتين. كذا قال إسحاق بن راهويه. اهـ.
قلت: رجح لنا قول الثوري وأحْمَد ومن وافقهما للأدلة الَّتِي ذُكرت فِي فصل: من أدرك من الْجُمعة ركعة.
وفيها حديث أبِي هريرة الْمُتفق عليه: $من أدرك من الصلاة ركعة؛ فقد أدرك الصلاة#. والْمُسافر إذا أدرك ركعة صحت منه الْجُمعة كما بيناه -بِحمد الله- فِي كتاب $ضياء السالكين في أحكام وآداب المسافرين#.
وإذا لَم يدرك ركعة؛ صلَّى ظهرًا، وإذا كان مؤتَمًّا بِمقيم فالصحيح: أنه يتم كما يتم الْمُقيم، والْمُقيم إذا لَم يدرك الركعة الثانية صلَّى أربعًا.
__________
(1) أن النَّبِي ص قال: $لا صلاة لِمَن لَم يقرأ بفاتِحة الكتاب#.(1/120)
وقول من أدركهم فِي التشهد وهو مسافر فصلى بعد مقيم يصلي أربعًا قول الأكثرين من الصحابة والتابعين منهم: ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وابن الْمُسيب، والْحَسن، والشعبِي، وعلقمة، والأسود، وعروة، والنخعي، والزهري كما فِي الأوسط لابن الْمُنذر (4/100). وهو الصواب المؤيد بالدليل.
* * * * *
إذا كانوا جماعة
وفاتتهم صلاة الْجُمعة لعذر
فهل يصلون جماعة؟
قال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/107):
أجْمَع كل من نَحفظ عنه من أهل العلم: أن من فاتته الْجُمعة يصلي أربعًا، واختلفوا هل يصلون جَماعة؟ وكرهت طائفة أن يصلوا جَماعة.
قال ابن الْمُنذر: ولا معنى لكراهية من كره ذلك ،بل يستحب ذلك ويرجى لِمَن فعل ذلك مِمَّن له عذر فِي التخلف عن الْجُمعة فضل الْجَماعة. اهـ.
قلت: ثبت فِي البخاري رقم (645)، ومسلم رقم (650) من حديث ابن عمر أن النَّبِي ص قال: $صلاة الْجَماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة#. ومن كره ذلك كرهه لتكرر الْجَماعة لفرض واحد فِي مسجد واحد، والصحيح: جواز ذلك لِمَا ثبت عند أبي داود (2/282)، والترمذي (2/6)، وأحْمَد (3/45) من طريق سليمان الناجي عن أبي الْمُتوكل علي بن داود الناجي، عن أبي سعيد الْخُدري أن رجلاً دخل الْمَسجد وقد صلَّى رسول الله ص بأصحابه فقال النبِي ص: $من يتصدق على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل من القوم فصلى معه#.
وهذا سند صحيح؛ فسليمان هو الأسود الناجي ثقة، وعلي بن داود الناجي: ثقة كما فِي ترجَمتهما من التهذيب.
* * * * *
من صلَّى ظهرًا وعليه
جمعة عمدًا كان أو سهوًا(1/121)
الذي تَجب عليه الْجُمعة إذا صلَّى ظهرًا قبل أن يصلي الإمام الْجُمعة، رجح ابن قدامة فِي الْمُغنِي (3/221)، وابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/110) أنه يعيد الْجُمعة ولا يعتد بصلاته الَّتِي صلاها ظهرًا، ونقل ذلك عن جَماعة من أهل العلم قالوا: لأن الذي صلَّى الظهر قبل صلاة الإمام صلَّى ما لَمْ يَجب عليه فِي ذلك الوقت، ولا نزاع أنه مُخاطب بالْجُمعة وقد سقطت عنه الظهر فِي ذلك اليوم، ولا خلاف أنه يأثم بتركها وترك السعي إليها. اهـ من الأوسط والْمُغنِي بتصرف يسير.
وبه قال الشافعي فِي الأم (1/190)، والنووي فِي الْمَجموع، وهو الصحيح لعموم الأدلة في ذلك.
* * * * *
تأخير خطبة وصلاة الْجُمعة
لعذر الإبراد من الحر أو غيره من الأعذار
كالسهو عنها ونحوه
أما الإبراد بصلاة الْجُمعة فِي الأيام الَّتِي يشتد فيها الْحَر؛ فعليه أدلة تقدم ذكرها منها: ما أخرجه البخاري -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (906) وبوب عليه إذا اشتد الْحَر يوم الْجُمعة، ثُمَّ ذكر حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص: كان إذا اشتدّ الْحَر أبرد بالصلاة -يعنِي: الْجُمعة-.اهـ.
وأما إذا سها الإمام عنها أو غير ذلك من الأعذار؛ فليصلها جُمعة عند أن يذكرها ما دام وقت الظهر باقيًا، هذا هو الصحيح؛ لقول النبِي ص فِي حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه: أتاني جبريل... وذكر الْحَديث، وفيه: أن جبريل صلَّى به فِي أول الوقت وأتاه فِي اليوم الثاني فصلى به الْخَمسة الفروض فِي آخر الوقت وقال له: الصلاة ما بين هذين الوقتين.
وعليه؛ فالذي يدرك ركعة من الْجُمعة قبل العصر؛ كانت له جُمعة لِحَديث أبِي هريرة فِي الصحيحين كما تقدم وفيه: $من أدرك ركعة من الصلاة؛ فقد أدرك الصلاة#. أي: أدرك وقتها... إلخ، وفرضهم يوم الْجُمعة أن يصلوا ركعتين مع الْخُطبة.
وبهذا قال الإمام أحْمَد، حكاه عنه ابنه فِي الْمَسائل (125)، ونقله ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/107).
* * * * *(1/122)
السلطان
إذا كان إمام الْمَسجد هو السلطان وتَخلف لعذر؛ فلا يصلون جُمعة إلا معه وإلا صلوا ظهرًا، وإن كان الإمام فِي ذلك الْمَسجد غير السلطان وجب أن يصلوا جُمعة ولو لَمْ يأذن لَهم السلطان.
دليلنا على هذا التفصيل: ما أخرجه أبو داود (3/408) بسند صحيح تقدم تَخريْجه فِي باب اجتماع الْجُمعة والعيد عن عطاء بن أبِي رباح قال: صلَّى بنا ابن الزبير فِي يوم عيد فِي يوم جُمعة أول النهار ثُمَّ رحنا إِلَى الْجُمعة فلم يَخرج إلينا فصلينا وحدانًا، وكان ابن عباس بالطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له، فقال: أصاب السنة.
وشاهِدُنا فِي الْحَديث أن ابن الزبير لَما كان إمام الصلاة -وهو الأمير- تَخلف عنهم لَمْ يَجعلوا من يَخطب بِهم بدله فيقيموا جُمعة وهو غائب؛ ولِهَذا قال ابن الْمُنذر فِي الأوسط (4/113): مضت السنة أن الذي يقيم الْجُمعة السلطان أو من قام بِهَا بأمر السلطان. اهـ.
أما إن كان إمام الصلاة غير الأمير؛ فيجب على الناس أن يقيموا جُمعة ولا يشترط إذنه بذلك، كما أن غير الْجُمعة من الفروض لا يشترط فِي إمامتها إذنه؛ قال تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9].
والنبِي ص: يقول: $لا طاعة لِمَخلوق فِي معصية الْخَالق#. اتفق عليه البخاري رقم (7257)، ومسلم (1840)..
ويقول: $إنما الطاعة فِي الْمَعروف#. وترك الْجُمعة منكر وليس بِمعروف.
قال النووي فِي الْمَجموع (4/404): ذكرنا أن مذهبنا: أنها تصح بغير إذنه -السلطان- وحضوره،، وسواء كان السلطان فِي البلد أم لا، وحكاه ابن الْمُنذر عن مالك وأحْمَد وإسحاق وأبي ثور... ثم ذكر أن القائلين باشتراط السلطان احتجوا بأنه لَم يصل الْجُمعة على عهد النبِي ص إلا معه أو بإذنه. اهـ.(1/123)
وهذه حجة واهية فكونهم لَمْ يصلوا إلا معه لا يدل على أنه لا يصلى إلا مع الأمير أو بإذنه كما هو واضح، وفعل بعض السلف مع ابن الزبير ليس فيه أن أهل غير ذلك الْمَسجد لَمْ يصلوا جُمعة أو انتظروا حَتَّى يأذن لَهم الأمير، وقد رد هذه الْحُجة النووي -رحِمه الله- فِي الْمَصدر السابق.
ومن أدلتهم: حديث ابن عمر فِي الصحيحين أن النَّبِي ص قال: $كلكم راع ومسئول عن رعيته#. أي: أن الأمير هو الْمَسئول عن رعاية الْمُسلمين فِي دينهم ودنياهم.
وقد استدل بهذا الْحَديث على عدم اشتراط إذن السلطان وهو كذلك.
قال ابن الْمُنير: فيه أن الْجُمعة تنعقد بغير إذن السلطان إذا كان فِي القوم من يقوم بِمَصالِحهم، والظاهر أن وجه الدلالة منه على عدم اشتراط إذن السلطان: أن الأمير يعتبر راعيًا ومسئولاً عن رعيته؛ فيجب عليه رعاية مصالِحَهم، ومن أهمها أمور دينهم فيزجر من فرط فيها وأهملها، ويَحمد ويعين من أقامها، وليس فِي الْحَديث أنهم يتوقفون عن إقامة شيء من أهم دين الله حتى يأذن فِي إقامته؛ فهذا قول باطل ترده الأدلة وينكره أهل العلم.
* * * * *
كراهية التحلق(1)
قبل صلاة الْجُمعة
لِحَديث مُحَمَّد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النَّبِي ص: $نهى عن البيع والشراء فِي الْمَسجد، وأن تنشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق يوم الْجُمعة قبل الصلاة# .اهـ.
أخرجه أبو داود رقم (1079)، والترمذي رقم (322)، والنسائي رقم (714)، وابن ماجه رقم (766 و1133)، وأحْمَد (2/179)، وابن خزيْمَة (3/158)، وابن أبي شيبة فِي الْمُصنف (2/137) كلهم من تلك الطريق الْمَذكورة وسندها حسن.
__________
(1) الْحِلَق- بكسر الْحَاء وفتح اللام-: جَمع حلقة، وهي الْجَماعة من الناس مستديرون كحلقة الباب.اهـ من النهاية لابن الأثير.(1/124)
قال الطحاوي -رحِمه الله-: النهي عن التحلق فِي الْمَسجد إذا عُم الْمَسجد، وعليه فهو مكروه وغير ذلك لا بأس. كذا فِي عون الْمَعبود شرح سنن أبي داود (3/294).
وقال الْمُباركفوري فِي تُحفة الأحوذي (2/272): قوله: نهى أن يتحلقوا أي: أن يَجلسوا متحلقين حلقة واحدة أو أكثر، وإن كان لِمُذاكرة علم، وذلك أنه ربَّما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الْجُمعة والتراص فِي الصفوف الأول فالأول، والتقييد بيوم الْجُمعة يدل على جوازه فِي غيره .اهـ.
قلت: أما التحلق فِي غير يوم الْجُمعة بالْمَسجد؛ فعلى شرعيته أحاديث كثيرة.
وقد عقد الإمام البخاري -رحِمه الله- لذلك بابًا فِي صحيحه قبل حديث رقم (472) فقال: باب الْحِلق والْجُلوس فِي الْمَسجد، وذكر حديث ابن عمر أن رجلاً سأل النَّبِي ص وهو على الْمِنبر ما ترى فِي صلاة الليل؟ قال: $مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلَّى واحدة فأوترت له ما صلَّى#.
وذكر أصرح منه حديث أبِي واقد الليثي قال: بينما رسول الله ص فِي الْمَسجد فأقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إِلَى رسول الله ص وذهب واحد، فأما أحدهما فرأى فرجة فِي الْحَلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله ص قال: $ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟! أما أحدهم: فأوى إِلَى الله فآواه الله، وأما الآخر: فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الآخر: فأعرض فأعرض الله عنه#.
وأخرجه مسلم رقم (2176)، واللفظ للبخاري رقم (66)، ولو ذهبنا نذكر أحاديث التحلق فِي الْمَسجد للعلم والْمُذاكرة والآثار فِي ذلك بأسانيدها لصار سفرًا مستقلاًّ.
وأما التحلق فِي الْمَسجد لذكر أمور الدنيا الْخَاصة؛ فإن ذلك مكروه؛ لِمَا أخرجه مسلم برقم (569) من حديث بريدة - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إنما بنيت الْمَساجد لِمَا بنيت له#.اهـ.(1/125)
والْمَساجد بنيت لذكر الله، قال تعالَى: +فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" [النور: 36].
وأما التحلق يوم الْجُمعة قبل الصلاة فِي الْمَسجد الْجَامع؛ فمكروه من أول النهار إلَى نهاية الْخُطبة؛ لظاهر لفظ الْحَديث فِي قوله: $نهى عن التحلق يوم الْجُمعة قبل الصلاة#.
وبعض العلماء يرى اختصاص الكراهة بوقت اجتماع الناس، أما قبل اجتماعهم فلا كراهة، وهذا التفصيل يَحتاج إِلَى دليل يُخصص عموم هذا الْحَديث الذي بنيت عليه هذه الْمَسألة، ثُمَّ إن التحلق يوم الْجُمعة فِي الْمَسجد الْجَامع ولو من أول النهار يعتبر سببًا لتأخر الناس عن الْحُضور؛ لِحُصول التشويش عليهم ومدعاة لاتِّخاذ ذلك من شعائر الْجُمعة فيصير الأمر عند العامة سنة يصعب إبعادهم منها.
وأما التحلق للعلم يوم الْجُمعة خارج الْمَسجد أو فِي مسجد لا تقام فيه جُمعة بِحَيث لا ينشغل الناس عن التبكير إِلَى الْجُمعة؛ فلا بأس به، فإن شغلهم عن التبكير فهو مكروه لقول الله تعالَى: +وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ" [آل عمران: 133].
ولقوله تعالَى: +فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" [البقرة: 148].
ولقول النَّبِي ص: $بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل الْمُظلم...# رواه مسلم(1)، وقد ذكرنا فصلاً فِي فضل التبكير إلَى الْجُمعة؛ فانظره إن شئت.
هذا وإنَّا لَم نر من السلف -رضوان الله عليهم- من كان يقيم دروسًا علمية يوم الْجُمعة قبل صلاة الْجُمعة، وإنما كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة من غسل وتطيب ولباس وسواك وذهاب إلَى الْمَسجد والتنفل قبل الْجُمعة وذكر لله.
__________
(1) رقم (118) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - .(1/126)
وقد تقدم حديث سهل بن سعد وأنس بن مالك أنهم كانوا لا ينامون القيلولة إلا بعد صلاة الْجُمعة لاشتغالِهم بالتبكير إليها، انظر صحيح البخاري باب (41) من كتاب الْجُمعة.
* * * * *
تفصيل الخطيب فِي الخطبة وعدم الإجمال وعدم استعمال
الكلمات الغريبة الَّتِي لا يفهمها إلا بعض الناس فلربما كان هذا
الصنيع سببًا لإضلال بعضهم لعدم فهمه للمعنى الصحيح
أخرج الإمام مسلم فِي صحيحه رقم (870) من حديث عدي بن حاتِم - رضي الله عنه - أن رجلاً خطب عند النَّبِي ص فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال رسول الله ص: $بئس الْخَطيب أنت؛ قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى#.
قال الإمام النووي -رحِمه الله- (6/469): قال القاضي وجَماعة من العلماء: إنمَا أنكر عليه لتشريكه فِي الضمير الْمُقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيمًا لله تعالَى بتقديم اسمه.
والصواب: أن سبب النهي أن الْخُطب شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز؛ ولِهَذا ثبت فِي الصحيح(1): $أن رسول الله ص كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا ليفهم#.
وأما قول الأولين فيضعف بأشياء منها: أن مثل هذا الضمير قد تكرر فِي الأحاديث الصحيحة من كلام النبِي ص كقوله: $أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما#. وغيره من الأحاديث.
ومِمَّا يؤيد هذا: ما ثبت فِي سنن أبي داود(2) بإسناد صحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: علمنا رسول الله ص خطبة الْحَاجة: $الْحَمد لله، نَحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله، أرسله بالْحَق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا#. اهـ.
__________
(1) صحيح البخاري رقم (95).
(2) رقم (2119).(1/127)
فهذا الْحَديث فيه أن النَّبِي ص لَمْ يفصل بين الضميرين؛ فعلم أن الراجح -إن شاء الله- هو ما قاله النووي -رحِمه الله-: أن زجر النَّبِي ص لذلك الْخَطيب إنمَا كان لأجل عدم إيضاحه فِي الْخُطبة، أما تشريك الضمير فالأدلة تدل على جوازه كما تقدم بعضها.
* * * * *
الْخَطيب يشير
بأصبعه ولا يحرك يديه
أخرج الإمام مسلم -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (874) من حديث عمارة بن رويبة - رضي الله عنه - أنه رأى بشر بن مروان على الْمِنبر رافعًا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله ص ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه الْمُسبحة.
وجاء من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: ما رأيت رسول الله ص شاهرًا يديه قطُّ يدعو على منبر ولا غيره، وما كان يدعو إلا يضع يده حذو منكبيه ويشير بأصبعه إشارة. أخرجه أبو داود رقم (1105)، وأحْمَد (5/337) كلاهما من طريق عبد الرحْمَن بن إسحاق، عن عبد الرحْمَن بن معاوية، عن ابن أبِي ذباب، عن سهل بن سعد، وعبد الرحْمَن ابن معاوية فيه ضعف ليس بشديد، وذكرنا حديثه هذا مع الذي قبله فِي مسلم.
قال الإمام النووي -رحِمه الله- فِي شرح صحيح مسلم (6/411) عند حديث عمارة بن رويبة قال: فيه أن السنة ألا يرفع اليدين فِي الْخُطبة.
وقال الشوكاني بعد ذكر الْحَديثين من نيل الأوطار (2/555): والْحَديثان الْمَذكوران يدلان على كراهة رفع الأيدي على الْمِنبر حال الدعاء، وأنه بدعة.
وقال الطيبِي فِي شرح الْمِشكاة (4/286) عند حديث عمارة قال: قوله: رافعًا يديه يعنِي: عند التكلم، كما هو دأب الوعاظ إذا حموا، ويشهد لذلك قوله: وأشار بأصبعه الْمُسبحة، وقوله: ما يزيد أن يقول بيده، أي: يشير عند التكلم فِي الْخُطبة بأصبعه يُخاطب الناس وينبههم على الاستماع. اهـ.(1/128)
وتبعه على هذا القول علي القاري فِي مرقاة الْمَفاتيح (3/511)، ورجح ذلك شرف الْحَق(1) العظيم آبادي فِي عون الْمَعبود (3/319) بكلام علمي نفيس حاصله: أن حديث عمارة اختلف فِي إسناده على حصين بن عبد الرحْمَن راويه عن عمارة بن رويبة؛ فرواه عبد الله بن إدريس وأبو عوانة وسفيان الثوري عن حصين بلفظ يدل على النهي عن رفع اليدين فِي الْخُطبة وعن تَحريكهما؛ ولذلك بوب النسائي وابن أبِي شيبة: باب الإشارة فِي الْخُطبة، وهكذا فهم الطيبِي كما تقدم.
ورواه هشيم وزائدة وابن فضيل عن حصين بلفظ يدل على أن النهي عن رفع اليدين للدعاء، ثُمَّ رجح رواية سفيان الثوري ومن وافقه أن النهي هو عن الإشارة.
قلت: ولا يَمنع أن يُحمل الْحَديثان على النهي عن الأمرين: عن تَحريك اليدين والعبث بِهِمَا على الْمِنبر يَمينًا وشمالاً وأسفل وأعلى، وعن رفع اليدين للدعاء أثناء الْخُطبة فِي غير استسقاء كما هو ظاهر لفظ حديث سهل، والإشارة باليدين كلتيهما أثناء الْخُطبة ينافِي الوقار والسكينة الَّتِي هي من هدي رسول الله ص، وهديه خير هدي وأكمله؛ فلذا نهى عن تلك الصفة الدالة على خفة الْخَطيب وطيشه.
وأخف منه من يكثر الالتفات برأسه أو بكل جسده على الْمِنبر يَمينًا وشمالاً وبِحركات سريعة تذهب الْهَيبة، وقد كره هذه الصفة جَمع من السلف الصالح -رضوان الله عليهم- منهم: الإمام الشافعي -رحِمه الله- فِي الأم (1/230)، وانظر كتاب الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي -رحِمه الله- (ص247-248).
__________
(1) تنبيه: بعض الناس ينسبون عون الْمَعبود شرح سنن أبِي داود لشمس الْحَق كما على ظاهر الكتاب، وشمس الْحَق هو شيخ شرف الْحَق، وكتابه اسمه: غاية الْمَقصود، وطبع منه الآن بعض الأجزاء، وكنية صاحب الأصل الذي اختصر منه عون الْمَعبود: أبو الطيب، وكنية صاحب عون الْمَعبود: أبو عبد الرحْمَن، يعرف هذا كل من قرأ مقدمة عون الْمَعبود، والله الْمُستعان.(1/129)
فاللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
* * * * *
إلزام الراعي لرعيته بصلاة الْجُمعة طوعًا أو كرهًا
أخرج الإمام مسلم فِي صحيحه رقم (652) من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس، ثُمَّ أحرق على رجال يتخلفون عن الْجُمعة بيوتهم#.
قال النووي -رحِمه الله- فِي شرح مسلم (5/160): ثم إنه جاء فِي رواية أن هذه الصلاة التِي هم بتحريقهم للتخلف عنها هي صلاة العشاء، وفِي رواية: أنها صلاة الْجُمعة، وفِي رواية: أنها الصلاة مطلقًا، وكله صحيح ولا منافاة بين ذلك. اهـ.
وقال ابن القيم -رحِمَه الله-: ومن جحد وجوبها كفر؛ ولِهَذا قاتل الصديق مانعي الزكاة، وأيضًا: فإن هذه الْمَباني من حقوق الإسلام، والنبِي ص لَمْ يأمر برفع القتال إلا عمن التزم كلمة الشهادة وحقها، وأخبر أن عصمة الدم لا تثبت إلا بِحَق الإسلام، فهذا قتال للفئة الْمُمتنعة، والقتل للواحد الْمَقدور عليه إنمَا هو لتركه حقوق الكلمة وشرائع الإسلام، وهذا أصح الأقوال. اهـ من كتاب الصلاة (ص13).
* * * * *
وضع منبر فِي الْمَسجد لخطبة الْجُمعة وغيرها
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (917):
حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحْمَن القاري قال: حدثنا أبو حازم $سلمة# بن دينار: أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - وقد امتروا فِي الْمِنبر مم عوده؟ -وعند مسلم: وقد تَماروا فِي الْمِنبر من أي عود هو؟- فسألوه عن ذلك، فقال: والله إنِّي لأعرف من أي عود هو، ولقد رأيته يوم وضع وأول يوم جلس عليه رسول الله ص أرسل رسول الله ص إلَى فلانة امرأة من الأنصار -قد سمَّاها سهل-:$مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس# فأمرته؛ فعملها من طرفاء الغابة.
وعند مسلم بلفظ: فعمل هذه الثلاث الدرجات. وعند البخاري رقم (377): هو من أثل الغابة.(1/130)
ثم جاء بها فأرسلت إلَى رسول الله ص فأمر بها فوضعت هاهنا، ثم رأيت رسول الله ص صلَّى عليها وكبَّر وهو عليها ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى فسجد فِي أصل الْمِنبر ثم عاد، فلما فرغ أقبل على الناس فقال: $أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتَموا بي وتتعلموا صلاتي# .اهـ.
وأخرجه مسلم رقم (544)، وأخرجه الإمام البخاري برقم (918) من حديث جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم إليه النبِي ص فلما وضع الْمِنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبِي ص فوضع يده عليه.
وأخرج برقم (919) من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله ص يَخطب على الْمِنبر فقال: $من جاء منكم الْجُمعة فليغتسل#.
وأخرج مسلم فِي صحيحه رقم (565) من حديث أبِي هريرة وابن عمر سمعا رسول الله ص يقول على أعواد منبره: $لينتهين أقوام عن ودعهم الْجُمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثُمَّ ليكونن من الغافلين# .اهـ.
وفيما يتعلق بالْمِنبر عدة مسائل:
1- إن منبر رسول الله ص على حوضه:
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (6588) فِي كتاب الرقاق: حدثنِي إبراهيم ابن الْمُنذر، قال: حدثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله، عن خبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ص قال: $ ما بين بيتِي ومنبري روضة من رياض الْجَنة، ومنبري على حوضي# . وأخرجه مسلم رقم (1391).
قال النووي -رحِمه الله-: قوله: ما بين بيتِي ومنبري روضة من رياض الْجَنة؛ ذكروا فِي معناه قولين:
أحدهما: أن ذلك الْمَوضع بعينه ينقل إلَى الْجَنة.
والثاني: أن العبادة فيه تؤدي إِلَى الْجَنة.
وقوله: بيتِي، قال الطبري: فيه قولان:
أحدهما: أن الْمُراد به القبر.
والثاني: بيت سكناه على ظاهره، والقولان متفقان؛ لأن قبره فِي حجرته وهي بيته.
وقوله: $ومنبري على حوضي#. قال القاضي عياض: قال أكثر العلماء: الْمُراد منبره بعينه الذي كان فِي الدنيا، قال: وهذا هو الأظهر.(1/131)
وقيل: إن له هناك منبر على حوضه، وقيل: إن قصد منبره والْحُضور عنده لِمُلازمة الأعمال الصالِحَة يورد صاحبه الْحَوض ويقتضي شربه منه، والله أعلم .اهـ
قلت: والأخذ بظاهر الْحَديث أولَى، وهذا الْحَديث حديث أبِي هريرة قد جاء من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم الْمَازني فِي صحيح البخاري رقم (1195)، ومسلم رقم (1390).
2- منبر رسول الله × ترعة من ترع الْجَنة:
قال الإمام أحْمَد -رحِمه الله- فِي الْمُسند (2/360):
حدثنا مكي قال: حدثنا عبد الله بن سعيد، عن عبد الْمَجيد بن سهيل بن عبد الرحْمَن ابن عوف، عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال: منبري هذا على ترعة(1) من ترع الْجَنة.
ذكر هذا الْحَديث بِهذا السند شيخنا -رحْمَه الله عليه- فِي الصحيح الْمُسند مِمَّا ليس فِي الصحيحين (2/317) وقال: رجاله رجال الصحيح، وعبد الله بن سعيد: هو عبد الله بن سعيد بن أبِي هند. اهـ
وقد أخرجه ابن سعد فِي الطبقات الكبرى (1/249) من طريق مُحَمَّد بن عبد الرحْمَن بن أبِي الزناد، عن عبد الْمَجيد بن سهيل ... به.
وأخرجه أحْمَد فِي الْمُسند (2/450) فقال: حدثنا يزيد قال: أخبرنا مُحَمَّد، عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة، عن رسول الله ص ... الْحَديث. وهذا سند حسن بذاته وصار مُخرج الْحَديث أبو سلمة بن عبد الرحْمَن عن أبِي هريرة ... به؛ فهو فِي غاية الصحة.
وقد جاء من حديث جابر بن عبد الله؛ أخرجه أحْمَد فِي الْمُسند (3/389)، وأبو يعلى فِي الْمُسند (1784 و1964)، وفيه علي بن زيد بن جدعان، ومن حديث ابن عمر فِي شرح مشكل الآثار رقم (2871) فيما ذكر مُحقق مسند أحْمَد.
__________
(1) قال ابن الأثير فِي النهاية الترعة: الروضة فِي الْمَكان الْمُرتفع، فإذا كانت فِي الْمَكان الْمُطمئن فهي روضة. اهـ وكذا قال أبو عبيد كما فِي شرح السنة للبغوي (2/340).(1/132)
وجاء من حديث سهل بن سعد عند أحْمَد (5/335 و339) من طريق عمران ابن يزيد القطان ومُحمد بن مطرف كلاهما عن أبِي حازم سلمة بن دينار، عن سهل بن سعد فذكر الْحَديث، وهذا السند صحيح بل سنده بالرقم الأول رجاله: حسين الْمُؤدب عن مُحَمَّد بن مطرف أبِي غسان، عن أبِي حازم به، وهؤلاء كلهم ثقات أئمة.
3- منبر رسول الله ص من شجر الأثل كما تقدم فِي حديث سهل فِي أول هذا الباب أن الْمِنبر من الأثل (طرفاء الغابة).
4- من حلف عند منبر رسول الله ص فجورًا تبوأ مقعده من النار:
أخرج أحْمَد فِي الْمُسند (2/329) فقال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا الْحَسن بن يزيد بن فروخ الضمري -من أهل الْمَدينة- قال: سمعت أبا سلمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: أشهد لسمعت النَّبِي ص يقول: $ما مِن عبد أو أمة يَحلف عند هذا الْمِنبر على يَمين آثمة ولو على سواك رطب إلا وجبت له النار#.
وهذا حديث صحيح رجاله كلهم ثقات.
وأخرجه ابن ماجه رقم (2326)، والْحَاكم (4/297) من هذه الطريق.
وأخرج أبو داود رقم (3246)، وابن ماجه (2325)، وابن الْجَارود (927)، والْحَاكم (4/296)، والنسائي فِي الكبرى رقم (6018)، وابن حبان رقم (4368)، وابن أبِي شيبة (7/2-3)، والبيهقي (7/398) من طرق عن هاشم بن هاشم بن عتبة ابن أبِي وقاص قال: سمعت عبد الله بن نِسطاس يُحدث عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ص: $لا يَحلف أحد على منبري كاذبًا إلا تبوأ مقعده من النار#.
وهذا سند صحيح؛ هاشم هذا قال ابن معين والنسائي: ثقة، وعبد الله بن نِسطاس روى عن جابر هذا الْحَديث وعنه هاشم بن هاشم، قال النسائي: ثقة (تهذيب).
قال ابن عبد البر فِي الاستذكار (7/128): جامع ما جاء فِي اليمين على الْمِنبر، ولا يعرف مالك اليمين عند الْمِنبر إلا منبر رسول الله ص فقط يَحلف عنده فِي ربع دينار فأكثر ولا تكون عند الْمِنبر فِي كل جامع.(1/133)
قال الشافعي: واليمين على الْمِنبر ما لا خلاف فيه عندنا بالْمَدينة ومكة فِي قديم ولا حديث.
قلت: والْحَق أن الأدلة قد جاءت بتخصيص عِظَم اليمين عند منبر رسول الله ص، فلا يلحق به غيره، ومن رأى اليمين عند أي منبر من سائر الْمَساجد الشافعي وأتباعه.
وقال صاحب عون الْمَعبود (9/53): وقد استدل به على جواز التغليظ على الْحَالف بِمَكان معين كالْحَرم والْمَسجد ومنبره ص، وبالزمان كبعد العصر ويوم الْجُمعة ونَحو ذلك، وإليه ذهب الْجُمهور كما حكاه فِي الفتح. اهـ.
قلت: قد علمت أنه لا دليل على غير منبر رسول الله إلا القياس، وبعدم الزيادة على ما ورد. قال الشوكاني... كما فِي عون الْمَعبود.
5- الْخُطبة على الْمِنبر فِي غير الْجُمعة:
ففي حديث عائشة فِي قضية الإفك عند البخاري رقم (4750) وهو حديث طويل وفيه: قالت: فقال رسول الله ص وهو على الْمِنبر: يا معشر الْمُسلمين، من يعذرني فِي رجل قد بلغ أذاه فِي أهلي؟! فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه. فقام سعد بن عبادة فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله... الْحَديث، وهو دليل واضح أن هذه الْخُطبة على الْمِنبر مع هذا الْحِوار حَتَّى سكت رسول الله على الْمِنبر فلم يزل يُخفضهم حَتَّى سكتوا.
وأخرج مسلم رقم (2892) فِي كتاب الفتن من حديث عمرو بن أخطب - رضي الله عنه - وليس له فِي الصحيحين سوى هذا الْحَديث انفرد به مسلم كما فِي تُحفة الأشراف للحافظ الْمِزي -رحِمه الله-، قال: صلَّى بنا النَّبِي ص الفجر وصعد الْمِنبر فخطبنا حَتَّى حضرت العصر، ثُمَّ نزل فصلى، ثُمَّ صعد الْمِنبر فخطبنا حَتَّى غربت الشمس، فأخبرنا بِمَا كان وبِمَا هو كائن، فأعلمنا أحفظنا .اهـ.(1/134)
وأخرج البخاري رقم (1465) ومسلم رقم (1052) من حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص جلس ذات يوم، قال: وجلسنا حوله، فقال: إن مِمَّا أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ...
وفِي الباب حديث عائشة فِي قصة بريرة. أخرجه البخاري (456)، ومسلم (1075) وفيه: أنه صعد الْمِنبر فِي العشي.
وأخرج البخاري رقم (917)، ومسلم (377) كما تقدم هاهنا فِي الباب من حديث سهل بن سعد: أن النَّبِي ص أرسل إِلَى فلانة امرأة من الأنصار: مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس؛ فأمرته فعملها من طرفاء الغابة.
قلت: وأحاديث الباب كثيرة لَمْ نرد هنا استيعابها، وإنما ذكرنا جُملة من ذلك دلالة على ما بوبنا عليه، والْحَمد لله.
6- قراءة القرآن على الْمِنبر قيامًا وقعودًا:
أخرج مسلم فِي صحيحه رقم (871) من حديث يعلى بن أمية - رضي الله عنه - أنه سمع النَّبِي ص يقرأ على الْمِنبر: ونادوا يا مالك.
وأخرج أيضًا رقم (873) من حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان ل قالت: ما أخذت +ق والقرآن الْمَجيد" إلا من فِي رسول الله ص يقرؤها كل جُمعة على الْمِنبر.
7- لَمْ يَخطب النَّبِي ص خطبة العيد على منبر:
أخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (956) من حديث عبد الله بن أبِي سرح، عن أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله ص يَخرج يوم الفطر والأضحى إِلَى الْمُصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة .... وذكر الْحَديث، وفيه: فلم يزل الناس على ذلك حَتَّى خرجت مع مروان وهو أمير الْمَدينة فِي أضحى أو فطر، فلما أتينا الْمُصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب فقلت له: غيرتُم والله ....(1/135)
وقد بوّب الإمام البخاري على هذا الْحَديث: الْخُروج إِلَى الْمُصلى بغير منبر، ورجح الْحَافظ فِي شرح هذا الْحَديث من الفتح فِي بَحث نفيس حاصله: أن الْمِنبر لِخطبة العيد مُحدث.
8- السنة أن يكون الْمِنبر من خشب، ولو احتيج إِلَى منبر من حديد جاز ذلك لِمَا ذكرناه فِي باب: يَجوز للإمام أن يقطع الْخُطبة، وهو عند مسلم رقم (876) من حديث أبِي رفاعة أن النَّبِي ص أتي بكرسي، قال: حسبت قوائمه حديدًا، فقعد عليه وجعل يعلمنِي... الْحَديث بتمامه مذكور فِي ذلك الْمَوضع من هذا الكتاب؛ فانظره إن شئت.
9- الْمِنبر يكون بينه وبين الْجِدار مَمر شاة ولا يكون ملتصقًا بالْجِدار:
أخرج الإمام البخاري رقم (497) فقال:
حدثنا الْمَكي (بن إبراهيم)، قال: حدثنا يزيد بن أبِي عبيد بن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: كان جدار الْمَسجد عند الْمِنبر ما كادت الشاة تَجوزها.
وأخرجه مسلم رقم (509) بلفظ: أن النَّبِي ص كان يتحرى مكان الْمُصحف يسبح فيه.
قال: وكان بين الْمِنبر والقبلة قدر مَمر شاة.
قال فِي هذا: أنه لا بأس بإدامة الصلاة فِي موضع واحد إذا كان فيه فضل، أما النهي عن إيطان الرجل موضعًا من الْمَسجد يلازمه فهو فيما لا فضل فيه ولا حاجة إليه.
وأما من يَحتاج إليه لتدريس علم أو للإفتاء أو سماع الْحَديث ونَحو ذلك؛ فلا كراهة فيه، ونقل القاضي كراهة الإيطان لغير حاجة والاتفاق عليه لِحَاجة، وقوله: بين الْمِنبر والقبلة، الْمُراد بالقبلة: الْجِدار. اهـ.
* * * * *
كم درجات الْمِنبر؟
تقدم لنا من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - فِي رواية مسلم رقم (544) من طريق عبد العزيز بن أبِي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد أن سهلاً قال: فعمل للنبِي ص هذه الثلاث الدرجات.(1/136)
ولفظ الثلاث الدرجات فِي هذا الْحَديث؛ أفاد الشيخ الفاضل مُحَمَّد بن عبد الوهاب العبدلي -حفظه الله- فِي رسالته $الْجَوهر فِي عدد درجات الْمِنبر#. أنها شاذة، زادها عبد العزيز بن أبِي حازم عند مسلم، والْمَسعودي عند الدارمي (1/305)، وأبِي نعيم فِي الدلائل (2/307)، وخالف ستة من أصحاب أبِي حازم وهم: سفيان بن عيينة عند البخاري ومسلم، ويعقوب بن عبد الرحْمَن الإسكندراني عند البخاري ومسلم، وأبو غسان الْمَسمعي عند البخاري، ومُحمد بن جعفر عند ابن الْجَارود، وهشام بن سعد وعبد الله بن جعفر بن نُجيح عند الطبراني فِي الكبير (6/5752 و5814).
والْحَق: أنه كما قال؛ فجزاه الله خيرًا على هذا التحقيق فِي الْحَديث، لكن لِهَذه الزيادة: $ثلاث درجات# شواهد عديدة بين صحيحة وحسنة وضعيفة مذكورة فِي دلائل النبوة للبيهقي (2/556) وما بعدها، ودلائل النبوة لأبي نعيم (2/306) وما بعدها ومصادر غيرها.
من تلك الأحاديث:
حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عند الترمذي (5) رقم (3627)، وابن خزيْمَة (3/140) من صحيحه، والدارمي رقم (41)، والبيهقي فِي الدلائل (2/558) من طرق عن عمر بن يونس بن القاسم، عن عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبيد الله بن أبِي طلحة، عن أنس بن مالك: أن النَّبِي ص كان يقوم يوم الْجُمعة فيسند ظهره إِلَى جذع منصوب فِي الْمَسجد فيخطب الناس، فجاءه رومي فقال: ألا أضع لك شيئًا تقعد عليه وكأنك قائم؟! فصنع له منبرًا له درجتان يقعد على الثالثة، فلما قعد نبِي الله ص على ذلك الْمِنبر خار الْجِذع كخوار الثور حَتَّى ارتج الْمَسجد حزنًا على رسول الله ص، فنزل إليه رسول الله ص من الْمِنبر فالتزمه وهو يَخور، فلما التزمه رسول الله ص سكن ثُمَّ قال: أما بعد؛ والذي نفسي بيده لو لَمْ ألتزمه لَمَا زال هكذا إِلَى يوم القيامة حزنًا على رسول الله ص، فأمر به رسول الله ص فدفن.اهـ.(1/137)
وسنده صحيح؛ عمر بن يونس بن القاسم ثقة؛ وثقه ابن معين وأحْمَد والنسائي وغيرهم، وعكرمة بن عمار وثقه جَمع من الْمُحدثين منهم: أحْمَد وابن معين وابن الْمَدينِي وأبو زرعة والدارقطنِي وأبو داود، وإنما هو مضطرب فِي روايته عن يَحيى بن أبِي كثير خاصة، كما قالوا، وهذه الطريق ليس منها كما ترى فهو ثقة، وإسحاق بن عبيد الله بن أبِي طلحة قال ابن معين: ثقة حجة.
ومنها: حديث ابن عباس عند أبِي داود رقم (353)، وأحْمَد (1/268 و269)، وابن خزيْمَة (3/127 و128) وفيه قال: وكان منبر رسول الله ص قصيرًا إنمَا هو ثلاث درج، وتقدم أن ذكرناه بسنده وأنه حسن.
ومن حديث ابن عمر - رضي الله عنه - عند أبِي داود رقم (1081) قال: حدثنا الْحَسن بن علي قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن أبِي رواد، عن نافع، عن ابن عمر أن تَميمًا الداري قال للنبِي ص: ألا أتخذ لك منبرًا يَحمل عظامك يا رسول الله؟ قال: بلى. فاتخذ له منبرًا مرقاتين.
وسنده عند أبِي داود حسن؛ ابن أبِي رواد هذا هو عبد العزيز روى عن نافع وعنه أبو عاصم وغيره، ووثقه ابن معين وابن القطان وأبو حاتِم، وضعفه ابن حبان وهو متشدد فِي التضعيف، وقال ابن عدي: فِي بعض أحاديثه ما لا يتابع عليه. اهـ.
قلت: مثل هذا حديثه يَحسن يقينًا ما لَمْ ينص إمام على أنه وهم فِي ذلك الْحَديث.(1/138)
وجاء من حديث أُبي بن كعب عند أحْمَد (5/137)، وابن ماجه رقم (1414)، والدارمي رقم (36) قال أحْمَد: حدثنا زكريا بن عدي قال: أخبرنا عبيد الله بن عمرو، وقال ابن ماجه: حدثنا إسماعيل بن عبد الله الرقي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عن الطفيل بن أُبي بن كعب، عن أبيه قال: $كان رسول الله ص يصلي إِلَى جذع إذ كان الْمَسجد عريشًا، وكان يَخطب إِلَى ذلك الْجِذع، فقال رجل من أصحابه: هل لك أن تَجعل لك شيئًا تقوم عليه يوم الْجُمعة حَتَّى يراك الناس وتسمعهم خطبتك؟ قال: نعم، فصنع له ثلاث درجات.
وعبيد الله بن عمرو الرقي ثقة فقيه، وابن عقيل حديثه حسن فِي الشواهد، والطفيل بن أبَي ثقة ولد فِي عهد النَّبِي ص؛ فالْحَديث حسن فِي الشواهد؛ لأن ابن عقيل قال الْحَافظ عنه: صدوق، فِي حديثه لين.
فهذا أحسن ما ذكره الشيخ الفاضل مُحَمَّد بن عبد الوهاب -حفظه الله- فِي رسالته $الْجَوهر فِي عدد درجات الْمِنبر#.
وهي كافية شافية فِي أن منبر رسول الله ص كان من ثلاث درج يقف على الثانية ويقعد على الثالثة منها.
ولا يشكل على ذلك ما أخرجه ابن حبان (3) رقم (907) الإحسان فقال: حدثنا أبو يعلى قال: أخبرنا أبو معمر قال: حدثنا حفص بن غياث، عن مُحَمَّد بن عمرو، عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة أن النَّبِي ص صعد الْمِنبر فقال: $ آمين آمين آمين. قيل: يا رسول الله إنك حيث صعدت الْمِنبر قلت: آمين؟! فقال: إن جبريل أتاني، فقال: من أدرك رمضان ولَم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين#. وأخرجه البخاري فِي الأدب الْمُفرد (ص225).(1/139)
وجاء من حديث جابر بن عبد الله، ومالك بن الْحُويرث، وكعب بن عجرة فِي الأدب الْمُفرد، وذكرها الْمُنذري فِي الترغيب والترهيب يشهد بعضها لبعض أن النبِي ص لَمَّا رقي الدرجة الأولَى قال: آمين، ولَمَّا رقي الثانية قال: آمين، ورقي الثالثة فقال: آمين، وهذا على ما فيه من الكلام على فرض الاحتجاج به يُحمل أنه حين جلس على الثالثة قال: آمين، وهو يعتبر رقاها أو أنه صعدها ذلك اليوم ثم نزل إلَى الثانية فخطب بالناس؛ جَمعًا بين الأحاديث.
والتوجيه الأول أقرب؛ لأن النبِي ص لو رقي الدرجة الثالثة لنقلوا إلينا ذلك، وبِمَا أنهم لَم ينقلوه علم ضعف التوجيه الثاني للحديث، والله أعلم.
ومن الْمُلاحظ فِي هذه الأحاديث: أن النبِي ص لَم يأمر بتحديد درجات الْمِنبر بثلاث، وأنه ص قد خطب إلَى جذع نَخلة(1).
وذكرنا فِي حديث خطبة عرفة أنه خطب على ناقته، وكان فِي العيد يَخطب على الأرض دون منبر.
__________
(1) قلت الأحاديث الَّتِي ذكرناها هنا بعضها فيها أن ذلك الْجِذع الذي استند إليه رسول الله ص خار كخوار الثور، وبعضها فيها أنه أن أنين الصبي، وبعضها فيها أنه كان له مثل صوت العشار، والْجَمع بينها -والله أعلم- أن كلاًّ نقل ما تبادر إِلَى ذهنه من ذلك الصوت، أو يُحمل على تعدد الْحَالة، والأول أقرب إِلَى الصواب؛ إذ إنه قد جاء فِي الْحَديث أن النَّبِي ص أمر بذلك الْجِذع فدفن، هذا وكل الأحاديث الَّتِي رأيناها فِي هذا فيها أن النَّبِي ص استند إِلَى ذلك الْجِذع ولَم يقف عليه حال الْخُطبة، وانظر كلام ابن القيم بعد هذا.(1/140)
وأول من خطب على الْمِنبر لصلاة العيد هو مروان بن الْحَكم كما فِي صحيح البخاري رقم (956)، ومسلم (889) من حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله ص يَخرج يوم الأضحى والفطر فيبدأ بالصلاة، فإذا صلى صلاته وسلم؛ قام فأقبل على الناس وهم جلوس فِي مصلاهم... فذكر الْحَديث، وفيه: فلم يزل الناس على ذلك حَتَّى خرجت مع مروان بن الْحَكم وهو أمير الْمَدينة، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرًا من طين ولبن فإذا مروان ينازعنِي فجذبت بثوبه فجذبنِي، فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتُم والله. فقال الناس: قد ذهب ما تعلم يا أبا سعيد. قلت: ما أعلم والله خير مِمَّا لا أعلم. فقال: إن الناس لَمْ يكونوا يَجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
قال الْحَافظ: ومقتضى ذلك أن أول من اتّخذ الْمِنبر لِخطبة العيد مروان.
قال ابن القيم فِي الزاد (1/181): خطب النَّبِي ص على الأرض، وعلى الْمِنبر، وعلى البعير، وعلى الناقة. اهـ.
وهذا قول الشافعي فِي الأم (1/173).
وإنما ذكرنا هذه الأدلة على جواز خطبة الْجُمعة وغيرها على منبر أقل أو أكثر -عند الحاجة- من ثلاث درجات، أو بغير منبر إن لَم يَجد منبرًا.
لكن تعمد إطالة الْمِنبر بإصلاحه على أكثر من ثلاث درجات هذا خلاف ما اختاره الله T لنبيه، وقد صار بعد ذلك سنة تقريرية أقرها رسول الله ص على ذلك التحديد.
قال البيقوني -رحِمه الله-:
وما جرى فِي عصره ثم اطلع ... عليه إن أقره فليتبع(1/141)
قلت: وهذا هو مذهب الْجُمهور فِي مثل هذه الْحَالة الْمُشتهرة، وعلى ذلك أدلة مذكورة عند الأصوليين. منها: حديث أبِي قتادة فِي صحيح مسلم رقم (1885): $أن رجلاً قال: يا رسول الله؛ أرأيت إن قتلت فِي سبيل الله تكفر عنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله ص: نعم، إن قُتلت وأنت صابر مُحتسب مقبل غير مدبر. ثُمَّ قال له: أعد عليَّ قولك، فأعاد عليه، فقال: نعم، إن قُتلت وأنت صابر مُحتسب مُقبل غير مدبر إلا الدَّيْن؛ فإن جبريل أخبرني بذلك#.
قال النووي -رحِمه الله- فِي شرح مسلم (13/28): مَحمول أنه أوحي إليه فِي الْحَال ولِهَذا قال: فإن جبريل قال لي ذلك.
وأصرح من هذا: حديث أبي سعيد الْخُدري أن النبِي ص صلَّى فِي نعليه ثم نزعهما، فخلع أصحابه نعالَهم، فلما انصرف قال لَهم: لِمَ خلعتم نعالكم؟! فقالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت نعالك فخلعنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا؛ فإذا جاء أحدكم الْمَسجد فليقلب نعليه فلينظر فيهما فإن رأى بهما خبثًا فليمسحه بالأرض، ثم ليصلِّ فيهما.
فيه: أن جبريل - عليه السلام - أخبره فِي الْحَال أن فِي نعليه خبثًا.
فهذه بعض الأدلة على أنه إن حصل منه شيء من الْخَطأ لَم يقره الله على ذلك، وسرعان ما ينزل الوحي بتعديله، ولِهَذا فما أقره رسول الله ص سنة تقريرية.
ولقد سمعت لبعض إخواننا من طلبة العلم الْمُعاصرين من ساكنِي نَجد كلامًا فِي شريط، من ضمنه: أن جعل الْمِنبر ثلاث درجات لا ينتهض أن يكون سنة، وفِي نظري أن فِي هذا القول شيئًا من التساهل، وعدم إعطاء البحث حقه.
+وَلَوْلاََ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ" [النور: 21].
* * * * *
الإمام إذا صعد الْمِنبر
يقف على الدرجة الثانية منه ويتوجه
إِلَى الناس ثمَّ يسلم ثمَّ يجلس
وعلى ذلك كله أحاديث مسندة ومرسلة.(1/142)
أما الْمُسندة: فعن عبد الله بن عمر: أن النَّبِي صكان إذا دخل الْمَسجد يوم الْجُمعة سلم على من عند منبره من الْجُلوس، فإذا صعد الْمِنبر توجه إِلَى الناس فسلم عليهم.اهـ. أخرجه الطبراني في الأوسط (7) رقم (6673).
وأعله الزيلعي فِي نصب الراية (2/205-206)، كما أعله ابن عدي فِي الكامل بعيسى بن عبد الله الأنصاري الراوي عن نافع؛ فقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن القطان: منكر الْحَديث. وقال ابن حبان: روى عن نافع ما لا يتابع عليه، لا يُحتج به إذا انفرد. اهـ.
ومعناه: أنه يصلح فِي الشواهد، وضعفه الْهَيثمي فِي الْمَجمع (2/184).
وجاء عن جابر بن عبد الله نَحوه أخرجه ابن ماجه رقم (1109)، والبغوي فِي شرح السنة (4/242) وفيه عبد الله بن لَهيعة، ومن أجله ضعفه به البوصيري فِي مصباح الزجاجة، وقال أبو حاتِم: حديث موضوع. كما في العلل لابن أبي حاتِم (1/205).
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/192) عن ابن جريج، عن عطاء: أن النبِي ص كان إذا صعد الْمِنبر أقبل بوجهه على الناس فقال: السلام عليكم. وهذا سند صحيح إلَى عطاء، فهو مرسل يذكر فِي الشواهد.
وأخرج ابن أبي شيبة فِي الْمُصنف (2/114) عن أبِي أمامة قال: حدثنا مُجالد، عن الشعبِي: أن النَّبِي ص كان إذا صعد الْمِنبر يوم الْجُمعة استقبل بوجهه الناس وقال: السلام عليكم. ومُجالد هو ابن سعد ليِّن الْحَديث كما فِي ترجَمته، وانظر التحقيق لابن الْجَوزي (4/107) قال: مُجالد ليِّن، والْحَديث مرسل. اهـ.
وقال الشافعي فِي الأم (1/200): وبلغنا عن سلمة بن الأكوع أن النبِي ص وقف على الدرجة الَّتِي تلي الْمُستراح، ثُمَّ سلم، ثُمَّ جلس حَتَّى فرغ الْمُؤذن، ثُمَّ قام فخطب. ونقله الْحَافظ ابن حجر فِي التلخيص الْحَبير وسكت عليه.(1/143)
وأخرج ابن أبِي شيبة (2/23) قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجر الدمشقي أن عمر بن عبد العزيز -رحِمه الله- كان إذا استوى على الْمِنبر سلم على الناس وردوا عليه السلام. اهـ.
وهذا سند حسن إِلَى عمر بن عبد العزيز؛ فإسماعيل شامي حسن الْحَديث فِي روايته عن أهل بلده، وعمرو بن مهاجر دمشقي ثقة.
وجاء عن عثمان - رضي الله عنه - عند ابن أبِي شيبة -رحِمه الله- (2/23) وسنده منقطع بين أبِي نضرة الْمُنذر بن مالك وعثمان بن عفان؛ فإن أبا نضرة لَمْ يسمع من عثمان ولا من كبار الصحابة.
تنبيه: تبويب ابن أبِي شيبة على هذين الأثرين يفهم منه أن السلام بعد الْجُلوس على الْمِنبر، والصحيح: أن السلام قبل الْجُلوس كما تبيَّن من خلال ما فِي الباب من الأدلة.
وأخرج أبو داود رقم (5200) من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثُمَّ لقيه فليسلم عليه#. اهـ. وسنده حسن.
وفِي الصحيحين قصة الْمُسيء صلاته أنه كرر السلام على النَّبِي ص ثلاث مرات وهو يصلي، ثُمَّ يعود؛ فيسلم على النَّبِي ص فيقول له: $وعليك السلام، ارجع فصلِّ؛ فإنك لَمْ تصلِّ#.
وتقدم حديث السائب بن يزيد وهو عند البخاري رقم (912) قال: كان النداء يوم الْجُمعة أوله إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله ص وأبي بكر وعمر.
فهذه الأحاديث والآثار يقوي بعضها بعضًا؛ ففيها صحاح وحسان وضعاف لَم يشتد ضعفها.
وأما حكم ابن أبي حاتِم على حديث جابر بالوضع فلا أظنه كذلك.
والْحَاصل: أن هذا الباب أدلته عامة وخاصة يثبت بها الحكم الذي بوبنا عليه، والْحَمد لله، وبه قال جُمهور العلماء عدا مالك وأبي حنيفة. انظر الأوسط لابن الْمُنذر (4/63)، ونيل الأوطار (2/540).(1/144)
والأفضل أن يأتي بالسلام كاملاً فيقول: السلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته؛ لِمَا أخرجه الإمام البخاري فِي الأدب الْمُفرد (ص342) قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنِي مُحمد بن جعفر بن أبي كثير، عن يعقوب بن زيد التميمي، عن سعيد الْمَقبري، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - : $أن رجلاً مر على رسول الله ص وهو فِي مَجلس فقال: السلام عليكم. فرد عليه فقال: عشر حسنات، فمر رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحْمَة الله. فقال: عشرون حسنة، فمر آخر فقال: السلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته. فقال: ثلاثون حسنة، فقام رجل من الْمَجلس ولَم يسلم فقال رسول الله ص: ما أوشك ما نسي صاحبكم، إذا جاء أحدكم الْمَجلس فليسلم، فإن بدا له أن يَجلس فليجلس، وإذا قام فليسلم؛ ما الأولَى بأحق من الآخرة#. اهـ.
وسنده صحيح؛ رجاله ثقات معروفون إلا يعقوب بن زيد وهو أبو يوسف قاضي الْمَدينة، قال أبو زرعة والنسائي: ثقة. اهـ.
* * * * *
تفخيم أمر الخطبة وقول الخطيب: أما بعد؛ فإن خير الْحَديث كتاب الله
وخير الهدي هدي مُحَمَّد ص وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
أخرج مسلم فِي صحيحه (867) -وهو عند ابن الْجَارود رقم (16) فِي باب الْجُمعة- من حديث جابر بن عبد الله: أن النَّبِي صكان إذا خطب احْمَرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه ينذر جيشًا يقول: $صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الْحَديث كتاب الله، وخير الْهَدي هدي مُحَمَّد ص، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثُمَّ يقول: أنا أولَى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ# اهـ.
وثبت من حديث النعمان بن بشير أن النبِي ص خطب فقال: $أنذرتكم النار، فسمع صوته من فِي السوق#. وسيأتي تَخريْجُه.(1/145)
قال النووي فِي شرح مسلم (6/405)، والشوكاني فِي النيل (2/554) -رحَِمهما الله-: فيه أنه يُستحب للخطيب أن يفخم أمر الْخُطبة، ويرفع صوته، ويُجزل كلامه، ويُظهر الغضب والفزع؛ لأن تلك الأمور إنما تكون عند اشتدادها.
قلت: نعم، لكن لا ينبغي أن يتكلف رفع الصوت فوق طاقته، فلربما بح صوته وتعب، وبعد أن يتعب من رفع الصوت يكون معرضًا لكثرة اللحن وسوء التعبير، وعدم استحضار الأدلة، أو عدم أدائها على الوجه الْمَطلوب، أو التلفظ بكلام لا يريد التلفظ به، ونَحو ذلك.
والأمر الثاني: أنه لا ينبغي له أن يتكلف تَجزيل كلامه وتفخيمه على غير ما هو معروف به، من تقليد أصوات الآخرين ونَحو ذلك؛ فيصير موضع سخرية، ولا يكون لكلامه تأثير فِي نفوس الناس لعلمهم أن هذا الكلام أو الصوت إنمَا استلفه استلافًا وتشبع به.
وهذا يدل على عدم اقتناع الْخَطيب بِمَا أعطاه الله من الصوت والأوصاف.
ومِمَّا ينبغي إنكاره بهذه الْمُناسبة: ما يفعله الْخُطباء من الشهيق أثناء الْخُطبة وشدة استرجاع الأنفاس، فتسمعه كبعض الْمُتسولين الذين يسمون فِي بعض البلاد اليمنية بـ: الْحُوبان.
وليس هذا من هدي رسول الله ص؛ فقد كان كلامه فصلاً يفهمه كل من يسمعه، كذا ثبت عنه من حديث عائشة ل فيما أخرجه أبو داود رقم (4839) وسنده حسن كل رجاله ثقات إلا أسامة بن زيد الليثي فيحسن حديثه.
ثُمَّ إن ذلك الشهيق فيه تكلف، والله T يقول لنبيه: +قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" [ص: 86].
وثبت فِي صحيح البخاري عن عمر بن الْخَطاب - رضي الله عنه - قال: $نُهينا عن التكلف#.
وفِي هذا الْحَديث: أن من قال: إن البدعة فِي الدين تنقسم إلَى حسنة وسيئة؛ فقد شاق الله ورسوله، فالله سبحانه أخبر أن الدين مكتمل فقال: +الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" [الْمَائدة: 3].(1/146)
والنبِي ص يقول فِي هذا الْحَديث وفِي حديث العرباض بن سارية الذي ذكرناه فِي خطب النَّبِي ص يقول: كل بدعة ضلالة. و$كل#. من ألفاظ العموم تشمل أي بدعة فِي دين الله، انظر الاعتصام للشاطبِي -رحِمه الله- (1/142).
وقوله: أنا أولَى بكل مؤمن من نفسه؛ قال ابن كثير عند قول الله تعالَى: +النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ" [الأحزاب: 6]. قال: قد علم الله شفقة نبيه على أمته ونصحه لَهم، فجعله أولَى بِهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدمًا على اختيارهم: +فَلاََ وَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65]. اهـ.
وفِي الصحيح: $لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجْمَعين#. متفق عليه.
وقوله: $من ترك مالاً فلأهله#: فيه أن الورثة من الأهل خاصة؛ فكل وارث يعتبر من الأهل.
وقوله: $من ترك دينًا أو ضياعًا#: الدَّين معروف، والضياع: قال أهل اللغة: هو بفتح الضاد: الأطفال والعيال، كذا قال ابن الأثير فِي جامع الأصول (5/680)، والنووي فِي شرح مسلم (6/404)؛ فالْمَعنى: من ترك أطفالاً وعيالاً ذوي ضياع فعلي كفالتهم، وقد كان النبِي ص لا يصلي على من مات وعليه دين لَم يُخلف به وفاء؛ لئلاَّ يتساهل الناس فِي الاستدانة ويهملوا الوفاء، فزجرهم على ذلك بترك الصلاة عليهم، فلما فتح الله على الْمُسلمين مبادئ الفتوح قال: $من ترك دينًا فعلي قضاؤه#.
واختلف هل هذه من الْخَصائص أم لا؟
فقال بعضهم: هو من خصائصه، ولا يلزم الإمام أن يقضي من بيت مال الْمُسلمين دين من مات وهو مديون.
قلت: هذا والظاهر أن ذلك من الْخَصائص؛ لقوله: $أنا أولَى بكل مؤمن من نفسه#. وليس هذا لأحد بعده، ولكن هذا من مكارم الأخلاق.(1/147)
وفيه تفصيل: فأما قضاء الديون: فالذي ينبغي لوالي بيت مال الْمُسلمين إن استطاع قضاء الديون أن يفعل لقول الله تعالَى: +وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [الْحَج: 77]. ولأن لذلك الْمُسلم فِي بيت الْمَال حقًّا مشتركًا فيه مع غيره، وأما إن مات أحد الْمُسلمين وترك أطفالاً وضياعًا وعلم بهم على هذا الْحَال فيجب عليه أن يقوم برعايتهم وتعليمهم دينهم، لقول النبِي ص: $كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته#.
وهذا التفصيل مضى عليه خلفاء رسول الله ص؛ فعمر بن الْخَطاب - رضي الله عنه - كان يقول: لئن أحياني الله لأجعلن أرامل العراق لا يَحتجن إلَى غيري.
وأما الديون: فقد كان بعضهم يَموت وهو مديون، ولَم نعلم أن الْخَلفاء كانوا يتحرون قضاء ذلك عنهم من بيت مال الْمُسلمين، والله أعلم.
ومن لا يستطيع رعاية العيال والأطفال؛ فقد ثبت فِي صحيح مسلم رقم (1826) من حديث أبِي ذر - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال عن الولاية: $إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بِحقها وأدى حق الله الذي عليه فيها#.
الأذان أوله بعد جلوس الإمام على الْمِنبر
والإقامة إذا نزل عن الْمِنبر للصلاة
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (912):
حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبِي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد - رضي الله عنه - قال: $كان النداء يوم الْجُمعة أوله إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر ب#.
ولفظ النسائي فِي سننه (3/101): $ كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله ص على الْمِنبر يوم الْجُمعة، فإذا نزل أقام#. اهـ.
فلما كان عثمان - رضي الله عنه - وكثرت الْمَنازل، فأمر بالنداء الثالث على الزوراء فثبت حتى الساعة. اهـ.
وقوله: النداء الثالث: لقول النبِي ص: $بين كل أذانين صلاة#. فجعل الإقامة أذانًا مع الأذان الشرعي عند جلوس الإمام على الْمِنبر، وأذان عثمان يكون ثالثًا.(1/148)
قوله: على الزوراء، بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء مَمدودة، كذا فِي الفتح، والزوراء: دار فِي السوق على أصح الأقوال؛ لِمَا جاء عند ابن ماجه رقم (1135)، وابن خزيْمَة (3/1837)، والطبراني فِي الكبير (7/145) من طريق مُحمد بن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد بلفظ: $فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على دار فِي السوق يقال لَها: الزوراء#. وابن إسحاق مدلس وقد عنعن، ولَم يعزه الْحَافظ فِي الفتح إلا إلَى هؤلاء الذين ذكروا.
واختلف فِي تَحديد الزوراء؛ فقيل: صخرة فِي السوق، وقيل: دار فِي السوق، وهذا صحيح لوجود هذا الْحَديث الضعيف عليه وبعض الآثار، وبه قال أكثر أهل العلم.
قال ياقوت الْحَموي فِي $معجم البلدان#: والزوراء دار لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالْمَدينة.اهـ.
وقال الْحَافظ عند الْحَديث: والزوراء بالْمَدينة عند السوق. اهـ.
أما حكم هذا الأذان الذي زاده عثمان - رضي الله عنه - ؛ فمحدث بنص الْحَديث.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/394): والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان فِي جَميع البلدان إذ ذاك، لكونه خليفة مطاعًا. اهـ الْمُراد.
قلت: هذا الإطلاق غير صحيح؛ فقد أنكر هذا الأذان الذي قبل صعود الإمام على الْمِنبر جَماعة من السلف -رضوان الله عليهم-، وإليك ذكر ذلك بالأسانيد:
قال الإمام ابن أبِي شيبة -رحِمه الله- فِي الْمُصنف (2/48): حدثنا شبابة قال: حدثنا هشام(1) بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر ب قال: الأذان الأول يوم الْجُمعة بدعة. اهـ.
زاد ابن رجب فِي فتح الباري (8/219): عن ابن عمر: وكل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنًا، وعزى هذه الزيادة عن ابن عمر إِلَى وكيع فِي كتابه، وهذا سند صحيح إِلَى ابن عمر؛ فشبابة: هو ابن سوار ثقة حافظ، وهشام بن الغاز: ثقة أيضًا، ونافع: مولَى ابن عمر إمام مشهور.
__________
(1) فِي الأصل: هشيم، والتصويب عندنا من تهذيب التهذيب.(1/149)
وقال ابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (2/48): حدثنا هشيم، عن منصور، عن الْحَسن أنه قال: النداء الأول يوم الْجُمعة الذي يكون عند خروج الإمام، والذي قبل ذلك مُحدث. وهذا سند صحيح إِلَى الْحَسن البصري -رحِمه الله-.
وقال ابن أبِي شيبة (2/48): حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الزهري قال: أول من أحدث الأذان الأول للجمعة عثمان، ليُؤْذن أهل السوق. وهذا سند لا بأس به إِلَى الزهري؛ فهشيم ثقة، وأشعث: هو ابن عبد الْمَلك الْحمراني ثقة، وعنعنة هشيم لا تضر؛ لأنه فِي الباب مع آثار أخرى.
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/205) قال: لعله عن ابن جريج، عن ابن الأعرابي قال: أخبرنا عطاء قال: إنمَا كان الأذان يوم الْجُمعة حين يطلع الإمام، وذلك حين يَحرم البيع، فأما الأذان الذي يُؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على الْمِنبر فهو باطل. وفِي سند الأثر تردد بقوله: لعله، فهذا يهون من شأنه؛ لكنه فِي الباب لآثار أخرى.
وأخرج عبد الرزاق (3/206) عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار قال: أول من زاد الأذان الأول يوم الْجُمعة عثمان، فكانوا يؤذنون على الزوراء، أما ببلادنا مكة فالْحَجاج، ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حَتَّى يَجلس على الْمِنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الْجُمعة.
وذكره ابن رجب فِي فتح الباري (8/218) وسنده صحيح إِلَى عمرو بن دينار؛ فابن جريج قال: أخبرني عمرو، وعمرو هذا هو الْجُمحي إمام، قال عنه تلميذه سفيان ابن عيينة: ثقة ثقة ثقة.(1/150)
قال ابن رجب: وقد دل الْحَديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله ص وأبي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على الْمِنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء، ولِهَذا قال أكثرهم: إنه الأذان الذي يَمنع البيع، ويوجب السعي إِلَى الْجُمعة، حيث لَمْ يكن على عهد النَّبِي ص سواه، فإن زعم أحد أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام؛ فقد أبطل، ويكذبه هذا الْحَديث وإجْمَاع العلماء.
وقال القاضي أبو يعلى: الْمُستحب ألا يؤذن إلا أذان واحد، وهو بعد جلوس الإمام على الْمِنبر.
وقال إسحاق بن راهويه: إن الأذان الأول يوم الْجُمعة مُحدث أحدثه عثمان.اهـ الْمُراد من فتح الباري لابن رجب (ج8) عند شرح حديث السائب بن يزيد.
وقال الإمام الشافعي -رحِمه الله-: واجب أن يكون الأذان يوم الْجُمعة حين يدخل الإمام الْمَسجد ويَجلس على موضعه الذي يَخطب عليه خشب أو جريد أو منبر أو شيء مرفوع له أو الأرض، فإذا فعل أخذ الْمُؤذن فِي الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، واجب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على الْمِنبر لا جَماعة.
ثُمَّ استدل بِحديث السائب بن يزيد الذي نَحن فِي شرحه، قال: وقد كان عطاء ينكر أن يكون أحدثه عثمان ويقول: أحدثه معاوية وأيهما كان فالأمر الذي على عهد رسول الله ص أحب إِلَي. اهـ من الأم (1/173).(1/151)
وقال مَحمود السبكي -أحد الشافعية- فِي الْمَنهل العذب الْمَورود شرح سنن أبِي داود (6/246) قال: وأما ما يُفعل الآن من وقوع الأذانين فِي مكان واحد أو أحدهما فوق الْمَسجد والآخر داخل الْمَسجد؛ فليس موافقًا لِمَا كان عليه سيدنا عثمان ولا ما كان عليه النَّبِي ص وأبو بكر وعمر؛ فإن الغرض الذي زاد سيدنا عثمان الأذان لأجله هو لَمَّا كثر الناس وانتشرت الْمَنازل، وكان من عند الزوراء لا يسمع الأذان الذي عند الْمَسجد زاد أذانًا على الزوراء لإسماعهم، فإذا اجتمع الناس فِي الْمَسجد وجلس الْخَطيب على الْمِنبر أذن الْمُؤذن أذانًا ثانيًا خارج الْمَسجد على الباب أو على السطح كما كان فِي زمن النَّبِي ص وأبِي بكر وعمر.
وهذا الغرض الذي أحدث سيدنا عثمان الأذان من أجله ليس موجودًا فِي زماننا؛ فإننا لَمْ نر أذانًا يفعل بعيدًا عن الْمَسجد، فإذن يطلب الاقتصار على أذان واحد فِي الْجُمعة فِي زماننا كما فِي زمن النَّبِي ص وصاحبيه أبِي بكر وعمر؛ لعدم الغرض الذي أحدث الأذان الأول لأجله، ومن لَمْ يقتصر على أذان واحد فقد خالف سيدنا عثمان فضلاً عن غيره، وهذا معلوم لِمَن اطلع على ما هو مقرر فِي كتب السنة.
وعلى فرض أنه وجد الغرض الذي أحدث سيدنا عثمان الأذان الأول من أجله، فيطلب أيضًا أن يقتصر على أذان واحد كما صرح بذلك الشافعي فِي الأم ... ثُمَّ ذكر كلام الإمام الشافعي الذي ذكرناه قبل هذا وفيه: فأيهما كان فالأمر الذي كان على عهد النَّبِي ص أحب إلي.
وقال ابن رشد الْحَفيد الْمَالكي: وأما الأذان؛ فإن جُمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على الْمِنبر .اهـ من بداية الْمُجتهد (1/382) فِي فصل شروط الْجُمعة.(1/152)
وقال ابن قدامة الْحَنبلي فِي الْمُغنِي (3/162 و163): أما مشروعية الأذان عقب صعود الإمام؛ فلا خلاف فيه فقد كان على عهد النَّبِي ص وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء، والأذان الذي يَمنع البيع ويلزم السعي هو الذي كان على عهد النَّبِي ص فتعلق الْحُكم به دون غيره. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (24/188) من مَجموع الفتاوى ومن الفتاوى الكبرى (1/139) قال: أما النَّبِي ص فإنه لَمْ يكن يصلي قبل الْجُمعة بعد الأذان شيئًا ولا نقل هذا عن أحد؛ فإن النَّبِي ص كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على الْمِنبر يؤذن بلال، ثُمَّ يَخطب النَّبِي ص، ثُمَّ يقيم بلال الصلاة، فيصلي النَّبِي ص بالناس، فما يُمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من الْمُسلمين الذين كانوا يصلون معه. اهـ.
قلت: وإنما تولدت بدعة الراتبة قبل الْجُمعة من بدعة الأذان الأول؛ فإنه حين يقوم ذلك الْمُؤذن الْجَاهل فِي أوساط الناس يؤذن قبل مَجيء الإمام يظن العوام أن هذا الأذان بعده راتبة كبقية الأيام الَّتِي فيها راتبة بعد الأذان، ثُمَّ اعتادوا ذلك واتّخذوه سنة حَتَّى اضطر أهل العلم لبيان بدعية ذلك والإنكار على من فعله، وأنه ليس من هدي النَّبِي ص، ولا من فعل أحد من الْمُسلمين السابقين، كما فعل شيخ الإسلام وغيره.
فانظر كيف تَجرُّ البدع بعضها بعضًا، وهذا مصداق قول ابن عمر: فإنها ضلالة وإن رآها الناس حسنًا؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.(1/153)
وقال ابن العربي فِي عارضة الأحوذي (2/305) عند شرح حديث السائب قال- وما أحسن ما قال-: الأذان الأول أول شريعة غيرت فِي الإسلام على وجه طويل ليس من هذا الشأن، وكان كما ذكر الأئمة على عهد رسول الله ص أذانان: الأذان الأول عند صعود الإمام على الْمِنبر للخطبة، والثاني هي الإقامة يقال لَها: أذان تغليبًا، كالقمرين يقال للشمس والقمر، والعمرين يقال لأبي بكر وعمر، فأما بالْمَشرق فيؤذنون كأذان قرطبة، وأما بالْمَغرب فيؤذنون ثلاثة من الْمُؤذنين بِجهل الْمُفتين فإنهم لَما سمعوا أنها ثلاثة لَم يفهموا أن الإقامة هي النداء الثاني فجمعوها وجعلوها ثلاثة. اهـ.
قال ابن الْحَاج فِي الْمَدخل: وكانوا ثلاثة يؤذنون واحد بعد واحد، فتحصَّل من هذا وجود تعدد الْمُؤذنين لصلاة الْجُمعة. اهـ.
وكذا قال الْحَافظ فِي الفتح عند حديث (913).
وهذه البدعة وغيرها من البدع سيأتي ذكرها فِي باب مفرد من آخر هذا الكتاب، مع ذكر من أنكر تعدد الْمُؤذنين هناك -إن شاء الله-.
قلت: وهذه البدعة متولدة من بدعة الأذان الأول، ومن سوء فهم وجهل أولئك الْمُفتين الذين ذكرهم ابن العربي الْمَالكي الإمام -رحْمَة الله عليه-.
وقد يقال: إن هذه البدعة -بدعة الأذان الأول يوم الْجُمعة- من فعل الْخَير لأنها تذكر الناس بالاستعداد للجمعة.
قلت: ومتى جاء من البدع خير؟! النبِي ص يقول: $كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فِي النار#. أي: صاحبها مستحق بفعلها النار على حسب تفاوتها، والدليل على أن هذا الأذان ليس من فعل الْخَير، وكذلك ما يسمى بالأولَى والثانية: هو التسبيح قبل مَجيء الإمام بصوت مرتفع وملحن يقول: سبحان الله والْحَمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أو بقول: والصلاة والسلام على رسول الله أو غير ذلك من الألفاظ الْمُخترعة حسب عادة كل بلد؛ فإن ذلك كله منكر وضلال وليس من الْخَير فِي قليل ولا كثير، ولو كان خيرًا لدلنا عليه رسول الله ص.(1/154)
فقد روى الإمام مسلم -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (1844) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إنه لَم يكن نبِي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لَهم، وينذرهم شر ما يعلمه لَهم#.
والله سبحانه يقول: +لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" [التوبة: 128].
* * * * *
شبهة القائلين بالأذان الأول والرد عليها
فإن قيل: إن أمير الْمُؤمنين عثمان أحد الْخُلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم- وهم:أبو بكر وعمر وعثمان وعلي!!
قلت: نعم، وهذا معتقد عامة أهل السنة -رضوان الله عليهم- كما فِي الطحاوية (ص484) وغيرها من كتب العقيدة الصحيحة.
فإن قيل: إذا كان كذلك فقد روى أبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2678)، وأحْمَد فِي مسنده (4/126 و127)، وابن ماجه (42)، والدارمي (1/44 و45)، والطبراني فِي معاجِمه الثلاثة،وغيرهم من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة#.زاد النسائي من حديث جابر: $وكل ضلالة فِي النار#.
قلت: نعم، والْحَديث بِمَجموع طرقه حسن كما بينته فِي تَخريج إصلاح الْمُجتمع.
قال أبو مُحَمَّد بن حزم: ... وهكذا فِي كل ما اختلفوا فيه، فبطل هذا الوجه لأنه ليس فِي استطاعة الناس أن يفعلوه. فهذا وجه أول ذكره ابن حزم -رحِمه الله-.
ومعنى هذا: أن كل ما اختلف فيه وجب الرجوع إِلَى سنته ص، وأما الرجوع إِلَى ما فعله جَميع الأربعة فليس بِمَقدور؛ لأنهم قد اختلفوا كما سيأتي.(1/155)
وقال: الثاني: أن يكون مباحًا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شئنا، وهذا خروج عن الإسلام(1) لأنه يوجب أن يكون دين الله تعالَى موكولاً إِلَى اختيارنا، فيحرم كل واحد منا ما يشاء ويُحل ما يشاء، ويُحرم أحدنا ما يُحله الآخر.
وقول الله تعالَى: +الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" [الْمَائدة: 3]. وقوله تعالَى: +تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاََ تَعْتَدُوهَا" [البقرة:229]. وقوله تعالَى: +وَلاََ تَنَازَعُوا" [الأنفال: 46]. يبطل هذا الوجه الفاسد ويوجب أن ما كان حرامًا حينئذٍ فهو حرام إِلَى يوم القيامة، وما كان واجبًا يومئذٍ فهو واجب إِلَى يوم القيامة، وما كان حلالاً يومئذٍ فهو حلال إِلَى يوم القيامة.
وأيضًا، فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم.
ولابد من ذلك؛ فلسنا حينئذٍ متبعين لسنتهم، فقد حصلنا فِي خلاف الْحَديث الْمَذكور وحصلوا فيه شاءوا أو أبوا.
ولقد ذكرنا هذا مفتيًا كان عندنا بالأندلس -وكان جاهلاً- فكانت عادته أن يتقدمه رجلان مدار الفتيا عليهما فِي ذلك الوقت، فكان يكتب تَحت فتياهما: أقول بِمَا قاله الشيخان، فحصل أن ذينك الشيخين اختلفا فلما كتب تَحت فتياهما ما ذكرنا -أقول بِمَا قاله الشيخان-، قال بعض من حضر: إن الشيخين اختلفا. فقال: وأنا أختلف باختلافهما!!
__________
(1) قلت: لا يكون خروجًا فِي هذه الْمَسألة الَّتِي مثل بِهَا الإمام بذاتها، وإنما مراده -رحِمه الله-: أن الإنسان إذا كان يأخذ من الدين ما وافق هواه دون رجوع إِلَى شرع الله واستباح ذلك هذا هو الذي يكون خروجًا عن الإسلام، فهو عنى ذلك بدليل قوله: أو يكون مباحًا لنا... فما بعدها.(1/156)
قال أبو مُحَمَّد: فإذا قد بطل هذان الوجهان، فلم يبق إلا الوجه الثالث وهو أخذ ما أجْمَعوا عليه وليس ذلك إلا فيما أجْمَع عليه سائر الصحابة -رضوان الله عليهم- معهم(1) فِي تتبعهم سنن النَّبِي ص والقول بِهَا.
وأيضًا، فإن رسول الله ص إذا أمر باتباع سنن الْخُلفاء الراشدين لا يَخلو ضرورة من أحد وجهين:
إما أن يكون أباح أن يسنوا سننًا غير سننه، فهذا ما لا يقوله مسلم، ومن أجاز(2) هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله؛ لأن الدين كله إما واجب أو غير واجب، وإما حرام وإما حلال، فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لَمْ يسنها رسول الله ص فقد أباح أن يُحلوا حرامًا أو يوجبوا ما لَمْ يوجبه رسول الله ص، أو يسقطوا فريضة فرضها رسول الله ولَم يسقطها إِلَى أن مات وكل هذه الوجوه من جوز منها شيئًا فهو كافر مشرك بإجْمَاع الأمة كلها بلا خلاف، فهذا الوجه قد بطل ولله الْحَمد.
وإما أن يكون أمر باتباعهم فِي اقتدائهم بسنة رسول الله ص، فهكذا نقول ليس يَحتمل الْحَديث وجهًا غير هذا أصلاً.
ويقال لَهم فِي احتجاجهم بِمَا روي فِي الْحَديث من الأمر بالتزام سنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين: هذا حجة عليكم؛ لأن سنة الْخُلفاء الراشدين كلهم بلا خلاف منهم ألا يقلدوا أحدًا، وألا يقلد بعضهم بعضًا، وأن يطلبوا سنن رسول الله ص حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بِهَا. اهـ.
__________
(1) أي: أجْمَع الصحابة مع الْخُلفاء جَميعًا فِي ذلك.
(2) قوله: ومن أجاز هذا، يشعر بأن الْمُجيز لذلك يعلم خطر ذلك وليس بِمكره ولا ناسٍ، وأما التأويل فمحتمل أنه متأول، وكان الأولَى أن يقول: فقد ضل. ليشمل الْمُتأول وغيره.
... وإنما أجْمَع السلف على تكفير من انتفت عنه موانع التكفير الَّتِي ذكرناها، وهي: الْجَهل بذلك الشيء حَتَّى يعلم حكمه، والْخَطأ، والنسيان، والإكراه، والتأويل الصحيح، فهذه موانع التكفير.(1/157)
قلت: نعم، وعلى ذلك أدلة يطول ذكرها نذكر بعضًا منها فِي أن أصحاب رسول الله ص كانوا يبحثون عن سنة رسول الله ص فيعملون بِهَا.
روى الإمام البخاري فِي صحيحه رقم (6245)، ومسلم رقم (2153) من حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - قال: $ كنت فِي مَجلس من مَجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت. فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله ص: إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع. فقال عمر: والله لتقيمن على هذا الْحَديث بينة، فهل منكم أحد سمعه من النبِي ص؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبِي ص قال ذلك#. اهـ.
وأخرج الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (3092 و3093)، ومسلم رقم (1759) من حديث عائشة ل أن فاطمة ل ابنة رسول الله ص سألت أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعد وفاة رسول الله ص أن يقسم لَها ميراثها مِمَّا ترك رسول الله ص مِمَّا أفاء الله عليه؛ فقال لَها أبو بكر: إن رسول الله ص قال: $لا نورث، ما تركنا صدقة#، وأبَى أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله ص يعمل به إلا عملت به؛ فإني أخشى إذا تركت شيئًا من أمره أن أزيغ.
وهكذا قال عمر كما فِي صحيح مسلم رقم (1757)، ثم قال لعلي وعباس: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله ص وذكر الْحَديث... إلخ.(1/158)
وأخرج البخاري رقم (6736) قال: حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو قيس قال: سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت وبنت ابن وأخت؟ فقال: للابنة: النصف، وللأخت: النصف، وأت ابن مسعود فاسأله، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبِي موسى فقال: لقد ضللت وما أنا من الْمُهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله ص: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتي أبو موسى فأخبر بذلك فقال: لا تسألوني ما دام هذا الْحَبر.
وأخرج الإمام البخاري فِي صحيحه (ج12) (ص120) تعليقًا، وأبو داود (12/74) مع عون الْمَعبود: قال: حدثنا عثمان بن أبِي شيبة قال: أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبِي ظبيان، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أتي عمر بِمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا، فأمر بِهَا عمر - رضي الله عنه - أن ترجم، فمر بِهَا علي - رضي الله عنه - ، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مَجنونة بنِي فلان زنت؛ فأمر بِهَا عمر - رضي الله عنه - أن تُرجم، فقال علي: ارجعوا بِهَا، ثُمَّ أتاه فقال: يا أمير الْمُؤمنين، أما علمت -وفِي رواية: أما تذكر- أن رسول الله ص قال: $رفع القلم عن ثلاث: عن الْمَجنون حَتَّى يبرأ، وعن النائم حَتَّى يستيقظ، وعن الصبِي حَتَّى يعقل#؟ فما بال هذه الْمَجنونة؟ فقال عمر: لا شيء. قال: فأرسلْها. قال: فأرسلها عمر وجعل يكبر.(1/159)
وأخرج الإمام البخاري رقم (5729)، ومسلم رقم (2219) أن عمر بن الْخَطاب - رضي الله عنه - خرج إِلَى الشام حَتَّى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الْجَراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فاستشار عمر الْمُهاجرين والأنصار هل يرجع أم يقدم على ذلك البلد الذي فيه الوباء (غازيًا)؟ فاختلفوا، فقال: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه -أي: أنه راجع- فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله يا أمير الْمُؤمنين؟ فقال: لو غيرك قالَها يا أبا عبيدة! نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، فجاء عبد الرحْمَن بن عوف وكان متغيبًا فِي بعض حاجته فقال: إن عندي فِي هذا علمًا؛ سمعت رسول الله ص يقول: $إذا سمعتم به -وفِي رواية: بالطاعون- بأرض قوم فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تَخرجوا منها#. فحمد الله عمر ثم انصرف. اهـ باختصار.
وفِي الصحيحين: أن ابن عمر لَمَّا أُخبر أن من تبع الْجَنازة حَتَّى تدفن فله قيراطان، تَحسر ابن عمر وقال: كم ضيعنا من قراريط!!
وأخرج البخاري رقم (6117)، ومسلم رقم (37) أن أبا سوار العدوي قال: سمعت عمران بن حصين قال: قال النَّبِي ص: $الْحَياء لا يأتي إلا بِخير#. فقال بشير بن كعب: يا أبا نُجيد إنا لنقرأ فِي الكتب الْمُتقدمة أن منه ما يكون وقارًا وخيرًا، ومنه ما كان ضعفًا؛ فأنكر عليه عمران - رضي الله عنه - وقال: أحدثك عن رسول الله ص وتُحدثنِي عن صحفك؟! اهـ الْحَديث.
وهذا باب واسع جدير أن يفرد بِمُؤلف مستقل، لولا كثرة الأشغال، وإنما ذكرنا هذا القدر منه برهانًا على ما قاله الإمام ابن حزم -رحِمه الله- أن أصحاب رسول الله ص كانوا يطلبون سنن رسول الله حيث وجدوها، فيعملون بِهَا.
قلت: وتالله ما وصلتنا إلا عن طريقهم لاهتمامهم البالغ بِها.(1/160)
قال ابن حزم: فمن كان متبعًا للخلفاء الراشدين؛ فليتبعهم فيما أجْمَعوا عليه من اتباع سنن النَّبِي ص، وفيها نهوا عنه من التكلف. اهـ باختصار من إحكام الأحكام الباب السادس والعشرين.
قلت: وحديث العرباض - رضي الله عنه - الذي اتَّخذوه شبهة لِجَواز الأذان الأول الْمَذكور، فيه قيد مهم يهدم كل ما بنوه، ويشتت كل ما جَمعوه حول هذه الْمَسألة: ألا وهو قوله ص فِي آخر الْحَديث: $وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة#.
فنقول لِمَن عنده أدنى علم بسنة رسول الله ص من القائلين بالأذان الأول: هل هذا الأذان من هدي رسول الله ص الذي هو خير الْهَدي كما فِي صحيح مسلم من حديث جابر، أم أنه مُحدث أحدثه عثمان بن عفان، كما فِي حديث السائب فِي صحيح البخاري وكما نقل الإجْمَاع فيما قدمنا عن أهل العلم أنه مُحدث؟!
فإن قال: إنه من هدي رسول الله ص؛ فهو الكذاب الأشر ولَم يَجد من علماء الْمُسلمين من يوافقه على هذه الكذبة الْمَفضوحة.
وإن قال كما قال جَميع علماء الأمة: إنه ليس من فعل رسول الله ص، وإنه مُحدث كما أجْمَع على ذلك علماء الإسلام.
قلنا له: ألا ترى فِي الْحَديث أن رسول الله ص يُحذرك من مُحدثات الأمور ويقول: إنها ضلالة.
وقد يقول بعض الْمُعاندين: هل كان عثمان - رضي الله عنه - لَمَّا فعل ذلك مبتدعًا ضالاًّ؟
قلنا: معاذ الله!! فهو خليفة راشد وزوج ابنتَي رسول الله ص، وقد قال عنه رسول الله ص: من يشتري بئر روما وله الْجَنة؟ فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين، وقال لأبي موسى: ائذن له وبشره بالْجَنة مع بلوى تصيبه.
ولكنه اجتهد -رضوان الله عليه- حيث جعل مؤذنًا بالسوق وليس بالْمَسجد، ليشعر الناس بقرب وقت الصلاة.(1/161)
وتقدم أن نقلنا عن السبكي اختلاف تلك الْحَالة على زمننا هذا ومع ذلك فقد أخطأ - رضي الله عنه - فِي هذا، وهو - رضي الله عنه - فِي ذلك معذور وعلى اجتهاده وحسن قصده مأجور، وله مثل هذا الْخَطأ فِي إتْمَام الصلاة بِمنىً، وقد كان رسول الله ص وأصحابه يقصرون بِمنىً.
وانظر بابًا عقده الإمام البخاري فِي صحيحه (2/563) الثاني من كتاب تقصير الصلاة فقال: باب الصلاة بِمنىً، ثم ذكر حديث ابن عمر، وحارثة بن وهب، وعبد الله ابن مسعود أن النبِي ص وأبا بكر وعمر وعثمان فِي أول أمره كلهم كانوا بِمنىً يقصرون الرباعية ركعتين، وهذا هو الواجب على الْمُسافر؛ لِحَديث عائشة ل أن النَّبِي ص قال: $فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد فِي الْحَضر#.
ثم إن عثمان - رضي الله عنه - فِي آخر أمره كان يتم الصلاة بِمنىً، فقيل لابن مسعود فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله ص وأبي بكر وعمر بِمنىً ركعتين.
وأخرج البيهقي وآخرون: أنه قيل له يعنِي لِمَاذا يسكت عن ذلك؟ فقال: الْخِلاف شر .وانظر فتح الباري (2/564 و565).
والْحَاصل: أن أمير الْمُؤمنين عثمان وغيره من أصحاب رسول الله ص غير معصومين من الوقوع فِي الْخَطأ، وتعداد ذلك يطول، ومعركة صفين ومعركة الْجَمل دليل على ذلك، لكن خطأهم مغفور وفِي حسناتهم مغمور؛ قال تعالَى: +وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة: 100].
ولا يَجوز لأحد عرف الْخَطأ أن يعمله؛ قال تعالَى: +يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاََ يُظْلَمُون" [النحل: 111].(1/162)
وقال تعالَى: +وَلاََ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاََّ عَلَيْهَا" [الأنعام: 164].
وقال تعالَى: +وَلاََ تَزِرُ وَازِرَةٌ وَزْرَ أُخْرَى" [فاطر: 18].
شبهة ثانية لِمَن قال بالأذان الأول، قالوا: يقول النَّبِي ص: $أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم#.
والْجَواب: أن هذا حديث مكذوب على رسول الله ص وباطل سندًا ومتنًا.
أما من حيث السند؛ فإن فيه سلام بن سليم كذاب وضاع، والْحَارث بن غصين مَجهول.
وأما من حيث الْمَتن؛ فقد قال أبو مُحمد -رحِمَه الله- فِي الإحكام (6/244) قال: قد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلاً، وبلا شك أنها مكذوبة؛ لأن الله تعالَى يقول عن نبيه: +وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ((( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3-4].
فمن الْمُحال أن يأمر رسول الله ص باتباع كل قائل من الصحابة -رضوان الله عليهم- وفيهم من يُحلل الشيء والآخر يُحرمه، ولو كان ذلك لكان بيع الْخَمر حلالاً اقتداء بسمرة بن جندب، وحرامًا اقتداء بغيره، ولكان بيع الثمر قبل ظهور الطيب فيه حلالاً اقتداء بعمر، وحرامًا اقتداء بغيره.
وقد كان أصحاب النبِي ص فِي عصره يقولون برأيهم فِي بعض الْمَسائل ثم يبلغون النبِي ص فيصوب الْمُصيب ويُخطئ الْمُخطئ، ومن ذلك فتيا أبي السنابل لسبيعة الأسلمية بأن عليها العدة آخر الأجلين(1)، فأنكر ص ذلك وأخبر أن فتياه باطل.
__________
(1) يعنِي: إذا مات زوجها وهي حامل، عليها أن تعتد بأطول الأجلين، فإن كان الْحَمل أطول اعتدت بالولادة، وإن كان الْحَمل قريبًا أقل من أربعة أشهر وعشر بقيت أربعة أشهر وعشرًا، فتصير معتدة بآخر الأجلين وهذا غير صحيح.
والصحيح: أن الْحَامل إذا مات زوجها أن عليها أن تعتد بوضع الْحَمل ولو بعد يوم أو بعد ثمانية أشهر أو أكثر، فمتى وضعت حَملها انتهت عدتها؛ لقول الله تعالَى: +وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ".(1/163)
ثم ذكر جُملة من الأمثلة على ذلك أنهم ي قد يُخطئون فِي بعض الأمور لعدم عصمتهم كما قدمنا، واكتفينا بذكر معركة الْجَمل وصفين.
ومعنى ذلك: أنهم إن كان كل واحد منهم نَجم من اقتدى به فهو مهتدٍ، فإن هذه الأخطاء كلها صواب.
وقد كانوا يبحثون عن الْحَق والسنة ولَم يقل كل واحد: أنا نَجم وفعلي هدىً، والآخر كذلك؛ فهذا يدل على بطلان هذا الْحَديث الْمَكذوب، قاتل الله من وضعه.
وانظر لذلك سلسلة الأحاديث الضعيفة للعلامة الألباني -رحْمَة الله عليه- (ج1) (ص78) الْحَديث (58).
شبهة ثالثة ساقطة:
وأما بعض عميان البصيرة فيستدلون بِحديث جرير بن عبد الله البجلي عند مسلم أن النَّبِي ص قال: $من سن فِي الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بِهَا إِلَى يوم القيامة#. وهذا الفهم لا يكون إلا من مَمسوخ الفطرة.
وإلا فإن السنة شرع من عند الله، قال تعالَى عن نبيه: +وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ((( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3-4].
فهل يَجوز لِمُسلم أن ينصب نفسه مشرعًا سننًا من الدين لَم يأذن بها الله فِي كتابه أو فِي سنة نبيه؟!
قال تعالَى: +أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ" [الشورى: 21].
وقال تعالَى: +وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" [النساء: 115].
وإنما الْمُراد من الْحَديث: من أحيا طريقة من الدين قد أميتت؛ لأن السنة فِي اللغة: الطريقة، وسبب ورود الْحَديث يبيِّن ذلك: أن أصحاب مضر لَمَّا جاءوا عراة ليس لَهم لباس قام النبِي ص فِي أصحابه فحثهم على الصدقة، فجاء رجل بِصُرَّةٍ من ذهب أو فضة فتصدق بها وتبعه الناس على ذلك؛ فقال النبِي ص: $من سن فِي الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلَى يوم القيامة#.(1/164)
وأنت تعلم أن ذلك الرجل الذي أتى بتلك الصَّرة وبدأ فتصدق بِهَا فتبعه الناس على ذلك لَمْ يكن أول من سن الصدقة فِي الإسلام، بل إن الصدقة مشروعة قبل ذلك من أول البعثة وفِي كل ملة من الْمِلل.
وانظر لذلك حديث سلمان الطويل فِي قصة إسلامه وفيه: أنه كان عند نصراني راهب وكان ذلك الراهب يأمر الناس بالصدقة ويَحثهم عليها، فإذا تصدقوا اكتنزها لنفسه ولَم يعط الفقراء، وعرف ذلك منه سلمان فلما أن مات الراهب أخبر قومه أن تلك صفته، فبحثوا فوجدوا الكنز؛ فتركوا راهبهم ذاك ولَم يدفنوه، وقالوا: والله لا ندفنه ما دام فعل ذلك. والقصة بطولِها فِي مسند أحْمَد (ج5/441)، وسندها حسن ذكرها شيخنا العلامة الوادعي فِي صحيحه الْمُسند (1/313) رقم (434).
وأنت إذا قرأت القرآن ترى أن الله سبحانه قد حث على الصدقة مطلقًا، وأثنى على الْمُتصدقين فِي كل زمان، وكان من صفات النَّبِي ص كما فِي حديث سلمان الْمَذكور أنه يأكل الْهَدية ولا يأكل الصدقة، وهذا الوصف متصف به من قبل البعثة وبعدها؛ فلم يعرف أنه أكل صدقة قط، وإنما ذكرنا هذا لتعلم أن ذلك الصحابي سلك طريقًا مشروعًا من قبل ومسنونًا من أول الإسلام، وحتى قبل البعثة.
فكان معنَى $من سن فِي الإسلام سنة حسنة#: أي: أحياها وجددها بعد أن أهملت واندثرت، وليس معنى الْحَديث أنه يأتي بِمُحدثات من لدن نفسه ويشرعها للناس على أنَّها سنن.
واقرأ ترجَمة جنكيزخان من البداية والنهاية للإمام ابن كثير، كيف كفره أهل العلم بسبب أنه ألف كتابًا سماه: إلياسا(1)، جعله بِمَنزلة القرآن، وسن فيه سننًا من عنده، وأحكامًا وشرائع لا دليل عليها من كتاب ولا سنة؛ فكفره بذلك ابن كثير وغيره.
$ألا لله الدين الْخَالص#.
وهنا أصل مهم تَجب معرفته: وهو أن الله T أمر جَميع الْمُسلمين وألزمهم بطاعة نبيه مُحَمَّد ص طاعة مطلقة.
__________
(1) وقيل: إلياسق.(1/165)
فقال تعالَى: +لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ" [الأحزاب: 21].
وقال تعالَى: +قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ" [آل عمران: 31].
وقال تعالَى: +وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا" [الْحَشر: 7].
وقال تعالَى: +قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاََّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" [النور: 54].
ففي هذه الآيات أن الله T أمرنا أن نتأسى بنبيه ص، وأن هذا فعل حسن يُحبه الله سبحانه ويرضاه، وأن من كان يُحب الله فليتبع رسوله.
وأن ما آتانا رسول الله ص من سنته وجب علينا قبوله والرضا به: + فَلاََ وَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65]، وأن طاعته فيها الْهِداية.
ولَم يأمر الله أحدًا من الْمُسلمين أن يتبع سوى رسول الله ص، بل إن الله سبحانه قد ذم ذلك وحذر منه غاية التحذير؛ فقال تعالَى: +اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاََ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاًَ مَّا تَذَكَّرُونَ" [الأعراف: 3].(1/166)
وقال تعالَى: +إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ((((( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ" [البقرة: 166-167]. والآية عامة فِي كل تابع ومتبوع على غير كتاب الله ولا سنة رسوله.
وقال تعالَى: +وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاًَ (((( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاًَ (((( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاًَ" [الفرقان: 27-29].
ألا ترى أخي الْمُسلم أن الله T أمر باتباع ما أنُزل إلينا من ربنا من كتابه وسنة رسوله، فإنها وحي يوحى؛ كما قال تعالَى: +وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ((( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3-4].
ألا ترى أن الله T نهانا أن نتبع سوى ذلك، وأن التابع والْمَتبوع إن كانوا على غير كتاب ولا سنة أنهم يَختصمون يوم القيامة ويتبرأ بعضهم من بعض.
$والأصل الثاني#:
أن قول الصحابي مُختلف فِي الاحتجاج به أصلاً، ومن قال بأنه حجة اشترط ألا يُخالف نصًّا من القرآن أو السنة، وألا يُخالفه غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم-، فإذا خالف نصًّا من الكتاب أو من السنة كان مردودًا عليه، وإذا خالفه غيره من الصحابة لَم يكن قوله حجة بلا خلاف بين العلماء فِي ذلك.
قال صاحب مراقي السعود:
رأي الصحابي على الأصحاب لا ... ... يكون حجة فِي قول من خلا(1/167)
وقد قرر هاتين الْمَسألتين أهل أصول الفقه، ونقلوا الإجْمَاع على ذلك، انظر إعلام الْمُوقعين للإمام ابن القيم -رحِمه الله- (4/155)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (ص164-166)، ومعالِم أصول الفقه للجيزاني (ص222-227).
فهل توفر فِي الأذان الأول هذان الشرطان أو أحدهما؟!
الْجَواب الْمُتفق عليه بين جَميع أهل العلم: أن هذين الشرطين لَمْ يتوفرا.
فقد خالف فعل عثمان - رضي الله عنه - نصًّا صريْحًا من فعل النَّبِي ص أنه لَمْ يكن يفعل هذا الأذان، بل ولا أبو بكر ولا عمر كما فِي صحيح البخاري.
الثاني: أن عثمان قد خالفه فِي هذا الفعل جَمْع من الصحابة كابن عمر وابن الزبير وآخرون من التابعين وغيرهم.
* * * * *
توجه الناس إِلَى الإمام حال الخطبة مستحب
قال الإمام البخاري رقم (921): يستقبل الإمامُ القومَ، واستقبال الناس الإمام إذا خطب، واستقبل ابن عمر وأنس ب الإمام، ثُمَّ ذكر حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - قال: $إن النَّبِي ص جلس ذات يوم على الْمِنبر وجلسنا حوله#. وأخرجه مسلم (1052).
قلت: أما أثر ابن عمر؛ فأخرجه عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/217) قال: أخبرنا عبد الله بن عمر، عن نافع أن ابن عمر كان يستقبل الإمام يوم الْجُمعة.
عبد الله بن عمر شيخ عبد الرزاق هو العمري ضعيف.
وأخرجه البيهقي كما فِي الفتح من طريق الوليد بن مسلم قال: ذكرت لليث بن سعد فأخبرني عن ابن عجلان أنه أخبر عن نافع أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته(1) يوم الْجُمعة قبل خروج الإمام، فإذا خرج لَمْ يقعد الإمام حَتَّى يستقبله بوجهه حَتَّى يفرغ من الْخُطبة.
ورواه ابن الْمُنذر من وجه آخر عن أنس: أنه جاء الْجُمعة فاستند إِلَى الْحَائط واستقبل الإمام، قال ابن الْمُنذر: لا أعلم خلافًا فِي ذلك بين العلماء.
__________
(1) صلاة السبحة وهي النافلة.(1/168)
قال الْحَافظ: ووجه الدلالة من حديث أبِي سعيد الذي ذكره البخاري -رحِمه الله-: أن جلوسهم حوله يقتضي نظرهم إليه. اهـ الْمُراد من الفتح (2/402).
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري عن استقبال الناس الإمام يوم الْجُمعة فقال: كانوا يفعلون. ثُمَّ نقل عبد الرزاق وغيره جُملة آثار فِي ذلك.
وأخرج الترمذي -رحِمه الله- (3/23) رقم (507): حدثنا عباد بن يعقوب الكوفِي قال: أخبرنا مُحَمَّد بن الفضل بن عطية، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله ص إذا استوى على الْمِنبر استقبلناه بوجوهنا. اهـ.
وسنده ضعيف؛ فعباد بن يعقوب هو الرواجنِي رافضي خبيث، كان يعتقد أن الذي حفر البحر هو علي بن أبِي طالب، والذي أجرى فيه الْمَاء هما الْحَسنان، ومُحمد ابن الفضل بن عطية كذاب كما فِي ترجَمته من التهذيب.
قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث مُحَمَّد بن عطية، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النَّبِي ص وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب.
قال أبو عيسى: ولا يصح فِي هذا الباب عن النَّبِي ص شيء. اهـ.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/402): يعنِي: صريْحًا. اهـ.
وتلك الآثار الَّتِي لا يوجد لَها خلاف أنهم كانوا يستقبلون الإمام حال الْخُطبة كافية فِي استحباب استقبال الإمام، أما الأحاديث الْمَرفوعة فقد جزم الإمام الترمذي بعدم صحة شيء منها، وأَقر هذا الْجَزم الْحَافظ ابن حجر فِي الفتح كما ترى قوله يعنِي صريْحًا، أما غير الصريح مِمَّا يصلح دليلاً في الباب فحديث أبي سعيد في أول هذا الباب من ذلك.
ونقل الشوكاني-رحِمه الله- جُملة من الأحاديث الضعاف فِي استقبال الإمام حال الْخَطبة ثُمَّ قال: وأحاديث الباب وإن كانت غير بالغة إِلَى درجة الاعتبار، فقد شد عضدها عمل السلف والْخَلف، قال ابن الْمُنذر: وهذا كالإجْمَاع. اهـ من نيل الأوطار (2/298).(1/169)
قلت: وهل الْمُراد من استقبالِهم للخطيب الاتجاه إليه بالوجه والْجِسم، أم الاتجاه وأيضًا النظر إليه؟ لا شك أن الأفضل الاتجاه والنظر إليه؛ حيث إنهم كانوا ينقلون عن الْخَطيب حركاته فِي الْخُطبة من إشارة ونَحوها، ولو لَمْ يكونوا كذلك لَما نقلوا مثل هذا لكونهم منكسي رءوسهم إِلَى أسفل، وهذا من أدب التخاطب، فكونه يَخطب فيهم وهم لا ينظرون إليه مِمَّا يشير إِلَى عدم اهتمام الناس بالْخُطبة وإشعار الْخَطيب بعدم الْمُبالاة بكلامه، وهذا ليس من الأدب، وانظر الْمَجموع شرح الْمُهذب (4/400) نشر دار الإحياء، والْمُغنِي لابن قدامة (2/303)، وزاد الْمَعاد لابن القيم (1/430).
* * * * *
حكم الحبوة (1) يوم الْجُمعة والإمام يخطب
قال الإمام أبو داود -رحِمه الله- برقم (1110):
حدثنا مُحَمَّد بن عوف قال: حدثنا الْمُقرئ: حدثنا سعيد بن أبِي أيوب، عن أبِي مرحوم، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه: أن رسول الله ص نهى عن الْحِبوة يوم الْجُمعة والإمام يَخطب.
وأخرجه أحْمَد (3/439)، والترمذي (514)، والبيهقي (3/235)، وذكره الذهبِي فِي الْمِيزان عند ترجَمة أبي مرحوم، كلهم من طريق سعيد بن أبِي أيوب عن أبِي مرحوم ... به، وسعيد بن أبِي أيوب: ثقة ثبت، وأبو مرحوم: هو عبد الرحيم بن ميمون إنمَا يصلح فِي الشواهد فقط، ومثله سهل بن معاذ قد ضعفه ابن معين؛ فالْحَديث ضعيف.
وقد جاء من حديث ابن عمر عند ابن ماجه رقم (1134) وفِي إسناده بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن، وشيخه عبد الله بن واقد مَجهول كما فِي التقريب.
__________
(1) الْحِبوة -بكسر الْحَاء وسكون الباء-: هي أن يضم الإنسان رجليه إِلَى بطنه بثوب يَجمعهما فيه مع ظهره ويشده عليه، وقد يكون الاحتباء باليد عوضًا عن الثوب، وإنما نُهي عنه لأنه إذا لَمْ يكن عليه إلا ثوب واحد إذا تَحرك تبدو عورته. اهـ من النهاية لابن الأثير.(1/170)
وجاء فِي الكامل لابن عدي من حديث جابر كما فِي النيل، وفيه عبد الله بن ميمون القداح، قال أبو حاتِم: متروك. وقال البخاري: ذاهب الْحَديث. كما فِي الْمِيزان.
وقد ثبت عن سعيد بن الْمُسيب، والْحَسن البصري، وعطاء بن أبِي رباح، وشريح، والنخعي، ومكحول.
وقال أبو داود -رحِمه الله- رقم (1111):
حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا خالد بن حيان الرقي قال: حدثنا سليمان بن عبد الله بن الزبرقان، عن يعلى بن شداد بن أوس قال: شهدت مع معاوية بيت الْمَقدس فجمّع بنا، فنظرت فإذا جل من فِي الْمَسجد أصحاب النَّبِي ص، فرأيتهم مُحتبين والإمام يَخطب، قال أبو داود: وكان ابن عمر يَحتبِي والإمام يَخطب... ولَم يبلغنِي أن أحدًا كرهها إلا عبادة بن نُسَيٍّ. اهـ.
قلت: وداود بن رشيد ثقة، وخالد بن حيان حسن الْحَديث، وسليمان بن عبد الله هذا فيه لين، ويعلى بن شداد صدوق؛ فالأثر صالح فِي الشواهد.
أما عن ابن عمر فأخرجه ابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (1/453) رقم (5238)، قال: حدثنا أبو خالد الأحْمَر، عن مُحَمَّد بن عجلان، عن نافع ووكيع، عن العمري وأبِي أسامة قال: حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يَحتبِي يوم الْجُمعة والإمام يَخطب. اهـ.
وانظر الآثار الَّتِي ذكرناها عن سعيد بن الْمُسيب وغيره فِي مصنف عبد الرزاق (3/254)، ومصنف ابن أبِي شيبة (1/453) باب (351) فِي الْجُمعة، وسنن البيهقي الكبرى (3/235).
فعلم يقينًا جواز الاحتباء يوم الْجُمعة والإمام يَخطب؛ لضعف النهي عنها وثبوت الاحتباء عن جَمع كبير من السلف -رضوان الله عليهم-.
قال العراقي: ذهب أكثر أهل العلم إِلَى عدم الكراهة، وأجابوا عن أحاديث الباب أنَّها كلها ضعيفة. اهـ من نيل الأوطار (3/285-286).
قلت: وهذا مقيد بما إذا لَم يخف كشف العورة، أما إذا خيف انكشاف العورة فواجب تجنب ما يكون ذريعة لكشفها في الجمعة وغيرها في حق من يَخشى أن يَحصل منه ذلك.
* * * * *(1/171)
من السنة أن يعتمد الخطيب حال خطبته قائمًا على عصا
لِحَديث الْحَكم بن حزن الكلفي الذي ذكرناه فِي باب القيام للخطبة وفيه قال: لبثنا عند النَّبِي ص أيامًا، شهدنا فيها الْجُمعة، فقام رسول الله ص متوكئًا على قوس -أو قال: على عصا- فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات. وذكر الْحَديث... إلخ، وسنده حسن.
وذكر الْهَيثمي -رحِمه الله- فِي مَجمع الزوائد (2/190) ثلاثة أحاديث:
1- عن عبد الله بن الزبير أن النَّبِي ص كان يَخطب بِمخصرة، وقال: أخرجه الطبراني والبزار. اهـ
وأخرجه البغوي فِي شرح السنة (4/243) كلهم من طريق ابن لَهيعة، وهو ضعيف.
2- وعن ابن عباس عند الطبراني فِي الكبير قال: وفيه أبو شيبة ضعيف.
3- وعن سعد القرظي مؤذن رسول الله ص أن النَّبِي ص كان إذا خطب فِي الْجُمعة خطب على عصا. قال الْهَيثمي: وإسناده ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/183)، والبيهقي فِي الكبرى (3/206) من طريق جعفر بن عون وعبد الرزاق، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أكان النَّبِي ص يقوم إذا خطب على العصا؟ قال: نعم؛ كان يعتمد عليها اعتمادًا.
وقال النووي فِي الْمَجموع: يسن أن يعتمد على قوس أو سيف أو عصا؛ لِمَا سبق فِي حديث الْحَكم بن حزن، قال القاضي حسين والبغوي: يستحب أن يأخذه فِي يده اليسرى، ولَم يذكر الْجُمهور اليد التِي يأخذ فيها، فإن لَم يَجد يضع يده اليمنى على اليسرى أو يرسلها ولا يُحركها ولا يعبث بواحدة منها. اهـ من الْمَجموع (4/399).
وقال ذلك ابن قدامة فِي الْمُغنِي (2/309) واستدل بِحديث الْحَكم بن حزن، وكذا الشوكاني فِي نيل الأوطار.
ولا مستند للقول بالاعتماد على السيف بل إنه لَمْ يرد فِي حديث ولا أثر صحيح، وإنَّما الْمُستحب للخطيب هو الاعتماد على عصا كما تقدمت الأدلة على ذلك.
وأخرج ابن أبِي شيبة رقم (5561):(1/172)
قال: حدثنا وكيع، عن أبِي جناب، عن يزيد بن البراء، عن أبيه: أن النَّبِي ص خطبهم يوم عيد وفِي يده قوس أو عصا. اهـ.
ومن طريق أبِي جناب هذا أخرجه أبو داود رقم (1145)، وهذا السند ضعيف فيه أبو جناب يَحيى بن أبِي حية ضعيف.
فهذه الأحاديث وأولُها حديث الْحَكم بن حزن وهو حسن بذاته مع تلك يصير صحيحًا، وأخذ بِهَا جُمهور العلماء فاستحبوا للخطيب أن يعتمد حال خطبته على عصا.
قال الإمام ابن القيم -رحِمه الله- فِي زاد الْمَعاد (1/429): ولَم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا قبل أن يتخذ الْمِنبر، وكان فِي الْحَرب يعتمد على قوس، وفِي الْجُمعة يعتمد على عصا. اهـ.
قال الشيرازي فِي الْمُهذب: ويستحب أن يعتمد على قوس أو عصا، ثُمَّ استدل بِحَديث الْحَكم بن حزن الذي ذكرناه هنا، فعلم استحباب اتخاذ العصا للخطيب حال خطبته كما قدمنا، والْحَمد لله.
* * * * *
من السنة
تقصير خطبة الْجُمعة
لِمَا تقدم فِي أحاديث الْمُنتقى رقم (15) حسب ترتيب أحاديث الباب، وهو عند مسلم (866) من حديث جابر بن سمرة: أن النَّبِي ص كانت خطبته قصدًا وصلاته قصدًا(1).
وجاء فِي مسلم رقم (869) عن عمار بن ياسر أن النَّبِي ص قال: $إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة على فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الْخُطبة#(2).
قال النووي: ظاهر الأمر بإطالة الصلاة فِي هذا الْحَديث مُخالفة لقوله: كانت صلاة رسول الله ص قصدًا.
قال النووي: ولا مُخالفة؛ لأن الْمُراد بالأمر بإطالة الصلاة بالنسبة إِلَى الْخُطبة لا التطويل الذي يشق على الْمُؤتَمين.
__________
(1) أي: بين الطول الظاهر والتخفيف الْمَاحق/ النووي.
(2) علامة ومظنة/ نووي.
وحديث عمار بن ياسر قد انتقده الدارقطنِي فِي التتبع إلا أنه لَمْ يتم فيه الانتقاد، فانظر إن شئت التتبع (219) تَحقيق شيخنا -رحِمه الله-، وكذلك كتاب: بين الإمامين مسلم والدارقطنِي للشيخ ربيع -حفظه الله-.(1/173)
وقال العراقي: أو حيث احتيج إِلَى التطويل لإدراك بعض من تَخلف، قال: وعلى تقدير تعذر عدم الْجَمع بين الْحَديثين يكون الأخذ فِي حقنا بقوله؛ لأنه أدل لا بفعله لاحتمال التخصيص. اهـ من نيل الأوطار (2/553)، وانظر الْمَجموع (4/400)، والْمُغنِي (2/308).
قلت: وقوله ج مئنة على فقهه يدل على أن الكلام كلما كان أخصر وأجمع كان مستوعبًا فيصير للناس أنفع وفي نفوسهم أوقع من كثرة الكلام الذي يختل اتزانه وترابطه ولا يكون مثل ذلك الكلام الجامع على اختصار إلا من ذوي الفقه فهو علامة على فقهه كما في الحديث.
الكلام حين جلوس الإمام
بعد السلام وبين الخطبتين
وبعد الفراغ منهما جائز
لِما تقدم من تقييد النهي فِي حديث أبِي هريرة عند مسلم: $إذا قلت لصاحبك يوم الْجُمعة أنصت والإمام يَخطب فقد لغوت#.
وحديث سلمان عند البخاري وفيه قال: ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له. وذكر الْحَديث .... إلخ.
وكل الأحاديث والآثار الْمَذكورة فِي باب الأمر بالإنصات يوم الْجُمعة من كتابنا هذا ومن مصنف ابن أبي شيبة باب رقم (360) (ص457 إلَى 459) فيها تقييد النهي بوقت الكلام فِي الْخُطبتين، والله سبحانه يقول: +وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف: 204]. والْخُطبة تشتمل على قراءة شيء من القرآن وأما فِي أثناء سكوته عند جلوسه بعد السلام أو عند جلوسه بين الْخُطبتين أو بعد فراغه من الْخُطبتين فالقول بكراهة الكلام فِي تلك الأوقات سواء للإمام أو الْمَأمومين لا دليل عليه.
وانظر الْمُغنِي (2/324-325) والتحقيق لابن الْجَوزي (4/115)، وبه قال الْحَافظ فِي الفتح عند شرح حديث رقم (929).
لكن لا تَجوز إحداث هيشات فِي الْمَسجد لقول النَّبِي ص: $وإياكم وهيشات الأسواق#. أخرجه مسلم (1/323) عبد الباقي، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .(1/174)
وأيضًا أرسل لي أخ طالب باحث فاضل أفاده الله ولَم يذكر اسمه في الرسالة جملة فوائد تتعلق بهذا الكتاب بعد طبعه، منها أن السكوت في ذلك الوقت أفضل للحديث الذي ذكرته في باب التجمل للجمعة وفيه ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يصلي كانت كفارة لِمَا بينها وبين الجمعة التِي كانت قبلها، وسنده حسن.
جواز كلام الإمام للمأمومين على الْمِنبر
واستحبابه إذا كان لأمر بمعروف أو نهي عن منكر
فيه حديث جابر الْمُتقدم فِي باب تَحية الْمَسجد أن النَّبِي ص قال لسليك لَمَّا دخل وجلس: $قم يا سليك فاركع ركعتين#.
وقال لذلك الرجل الذي تَخطى رقاب الناس: $اجلس فقد آذيت#.
وقال عمر لعثمان بن عفان: أية ساعة هذه؟ قال عثمان: إني شغلت فلم أزد أن توضأت ثم جئت. قال: والوضوء أيضًا وقد علمت أن النبِي ص أمر بالغسل!!
وأخرج ابن أبي شيبة فِي الْمُصنف (2/25):
قال: حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن عطاء: $أن النَّبِي ص كان يَخطب فقال للناس: اجلسوا، فسمعه ابن مسعود فجلس على الباب، فقال له: يا عبد الله، ادخل#.اهـ.
وهذا الْمُرسل وصله أبو داود رقم (1091) من حديث جابر، ورجح إرساله فقال: وهذا يعرف مرسلاً عن عطاء عن النبِي ص .اهـ.
قلت: وسند الْمُرسل لا بأس به.
وقال ابن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس وابن نُمير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: جاء أبي والنبِي ص يَخطب، فقام بين يديه فِي الشمس فأمر به فحول إلَى الظل.
والصحيح: أن قيسًا لَمْ ير النَّبِي ص؛ فهذا السند صحيح إِلَى قيس بن أبِي حازم وهو ثقة وأبوه صحابي.
قلت: هذا ثم رأيت في مسند أحمد (3/426-427) أن قيس بن أبي حازم صرَّح أنه روى الحديث عن أبيه من أربع طرق صحيحة إلَى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم البجلي عن أبيه به، فتيقنا من صحة الحديث عن النبِي ج والحمد لله.
وقد عقد الإمام الصنعاني بابًا فِي مصنفه (3/215) وزاد بعض الآثار غير هذه.(1/175)
وقال النووي -رحِمه الله- فِي شرح مسلم (6/412): وفِي هذه الأحاديث جواز الكلام فِي الْخُطبة لِحَاجة. اهـ
وقال ابن قدامة (2/322-323): ولا يَحرم الكلام على الْخَطيب ولا على من سأل الْخَطيب، ثُمَّ ذكر قصة سليك وقصة عمر مع عثمان.
يَجوز للإمام أن يقطع الخطبة ثمَّ ينزل أو يجلس لحاجة
ثمَّ يعود فيكملها
لِمَا أخرجه أبو داود (1109)، والترمذي رقم (3774)، والنسائي (3/108)، وابن ماجه رقم (3600)، وابن أبِي شيبة (12/99)، وأحْمَد (354)، وابن خزيْمَة (3/1801)، وابن حبان (13/402-403) إحسان، من طرق عن الْحُسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبِي -بريدة بن الْحُصيب- يقول: خطبنا رسول الله ص فأقبل الْحَسن والْحُسين عليهما قميصان أحْمَران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فصعد بِهِمَا الْمِنبر ثُمَّ قال: $صدق الله؛ إنَّمَا أموالكم وأولادكم فتنة، رأيت هذين فلم أصبر#. ثُمَّ أخذ فِي الْخُطبة#. اهـ. وهذا سند صحيح؛ فالْحُسين بن واقد وعبد الله بن بريدة ثقتان.
وأخرج الإمام مسلم فِي صحيحه رقم (876) من حديث أبي رفاعة العدوي - رضي الله عنه - قال: انتهيت إلَى رسول الله ص وهو يَخطب فقلت: يا رسول الله؛ رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، فأقبل عليَّ رسول الله ص وترك خطبته حتى انتهى إلَي، فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديدًا فقعد عليه، وجعل يعلمنِي مِمَّا علمه الله، ثم أتى خطبته فأتَم آخرها.
قال النووي -رحِمه الله- (6/414-415): يُحتمل أنها كانت خطبة الْجُمعة واستأنفها، ويُحتمل أن كلامه لِهَذا الغريب كان متعلقًا بالْخُطبة فهو منها ولا يضر الْمَشي فِي أثنائها. اهـ الْمُراد.
قلت: هذا الْحَديث وحديث بريدة الذي تقدم مثله فِي هذا الباب صحيحان ومعناهما واحد فِي جواز النزول عن الْمِنبر، وكلام الإمام فِي غير الْخُطبة لِحَاجة، ثم يرجع فيكمل ما بقي منها، ومن باب أولَى جواز الْجُلوس لِحَاجة.(1/176)
وقد ثبت عن عثمان فيما قدمنا فِي باب الْخُطبة قائمًا أنه لَمَّا كبر كانت به رعدة فكان يَجلس قليلاً ليستريح، ثُمَّ يقوم فيكمل خطبته، ولا يُعلم من الصحابة -رضوان الله عليهم- من أنكر عليه.
كلام الإمام مع غيره بعد نزوله عن الْمِنبر
قبل الإقامة وبعدها
أخرج أحْمَد فِي مسنده (3/120 و127)، وأبو داود رقم (1120)، والترمذي (517)، والنسائي (3/110)، وابن ماجه رقم (1117) من طرق عن جرير، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله ص ينزل عن الْمِنبر يوم الْجُمعة فيكلمه الرجل ويكلمه، ثُمَّ يتقدم إِلَى مصلاه فيصلي.
ورجال السند ثقات، لكن الْحُفاظ أعلوا الْحَديث؛ فقال أبو داود: والْحَديث ليس بِمَعروف عن ثابت، وهو مِمَّا انفرد به جرير بن حازم، وقال الدارقطنِي: تفرد به جرير، وقال الترمذي: سمعت مُحمدًا يقول: وهم جرير فِي هذا الْحَديث، والصحيح: ما روي عن ثابت عن أنس قال: أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النَّبِي ص فما زال يكلمه حَتَّى نعس القوم. اهـ.
قلت: والْحَديث باللفظ الأخير أخرجه البخاري رقم (643)، ومسلم (376) من طريق ثابت عن أنس... فذكر الْحَديث، فعلم أنه باللفظ الأول الذي من طريق جرير بن حازم مُعلٌّ كما قال الْحُفاظ، لكنه وإن كان معلاًّ فليس هناك مانع من الكلام بعد نهاية الْخُطبة؛ كما ذكرنا فِي باب الكلام بعد السلام وبين الْخُطبتين؛ فانظر الأدلة هناك.
* * * * *
حكم رد السلام وتشميت العاطس حال الْخُطبة يوم الْجُمعة
جاء عن طاوس وثبت عن مُحَمَّد بن سيرين وإبراهيم النخعي وسعيد بن الْمُسيَّب فِي مصنف ابن أبِي شيبة (1/455) باب (356): أن من عطس يوم الْجُمعة والإمام يَخطب لا يشمته الْمُستمعون، ومن سلم لا يرد عليه السلام.
وجاء عن قتادة وعطاء فِي مصنف عبد الرزاق (3/226-228).(1/177)
وقد استدل البيهقي -رحِمه الله- فِي الكبرى (3/223) ببعض أدلة وجوب رد السلام مثل حديث أبِي هريرة فِي الصحيحين: $حق الْمُسلم على الْمُسلم خَمس، ومنها: رد السلام، وتشميت العاطس#.
وحديث البراء بن عازب فِي الصحيحين قال: $وأمرنا رسول الله ص بسبع، ومنها: رد السلام، وتشميت العاطس#.
ونقل عن الْحَسن البصري وإبراهيم أنه يرد السلام.
وقال ابن سيرين: إذا سلم عليه يومئ إيْمَاء.
وقال ابن الْمُسيب: يردّ فِي نفسه.
قلت: وتلك أدلة عامة فِي وجوب رد السلام، وأدلة الصمت يوم الْجُمعة وقت الْخُطبة خاصة، والْخَاص مُقَدَّم على العام، فالواجب: السكوت وقت الْخُطبة؛ فلا يرد سلامًا، ولا يشمت عاطسًا، ولا يقرأ قرآنًا، ولا يأمر بِمَعروف، ولا ينهى عن منكر حال الْخُطبة، كما تقدم ذكر الأدلة مع أقوال أهل العلم على ذلك فِي فصل الإنصات للخطبة.
ولا ينبغي السلام على الْمُستمعين لِخطبة الْجُمعة؛ لقول الله تعالَى: +وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاََ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" [الْمَائدة: 2].
لِهَذا لَمَّا قدم عثمان بن عفان وعمر بن الْخَطاب يَخطب لَمْ ينقل أنه سلم على الناس حال دخوله الْمَسجد، وكذا سليك الغطفاني لَمَّا دخل الْمَسجد وأمره النَّبِي ص بتحية الْمَسجد، وكذا الأعرابي الذي قال للنبِي ص: يا رسول الله، هلكت الْمَواشي فادع الله أن يسقينا، وغيرهم لَمْ يُنقل عن أحد منهم أنه كان إذا دخل الْمَسجد يوم الْجُمعة والإمام يَخطب يسلم على الناس مع حرصهم على الْخَير كله ومنه إفشاء السلام، وإنما كان أحدهم يدخل الْمَسجد لا يُسلم على أحد، فيصلي ركعتين خفيفتين ثُمَّ يَجلس ليستمع الْخُطبة.
إطباق الْمَصاحف عند دخول الإمام
وترك الابتداء في النافلة(1/178)
قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (881): حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن سُمَيٍّ مولَى أبِي بكر بن عبد الرحْمَن، عن أبِي صالح السمان، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ص قال: $من اغتسل يوم الْجُمعة غسل الْجَنابة ثُمَّ راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح فِي الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح فِي الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح فِي الساعة الرابعة فكأنّما قرب دجاجة، ومن راح فِي الساعة الْخَامسة فكأنّما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الْمَلائكة يستمعون الذكر#.
وللبخاري رقم (929)، ومسلم رقم (850) بلفظ: $طووا صحفهم، وجاءوا يستمعون الذكر#.
وهذا نص فِي أن الْمَلائكة ينصتون ويطوون صحفهم عند دخول الإمام، وليس عند جلوسه على الْمِنبر، وقد قال الله عنهم: +لاََ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم: 6].
وجاءت روايات تُخالف ذلك؛ فأخرج هذا الْحَديث مسلم فِي صحيحه عزاه إليه الْحَافظ فِي الفتح (2/367) وهي رواية للبخاري رقم (3211) بلفظ: $فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر#.
وفِي حديث سلمان عند البخاري رقم (883) أن النبِي ص قال: $لا يغتسل رجل يوم الْجُمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه أو يَمس من طيب بيته، ثم يَخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غُفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى#.
وأخرجه رقم (910) بلفظ: $ثم إذا خرج الإمام أنصت#.
وفِي حديث أبي هريرة عند مسلم (857) أن النبِي ص قال: $من أتى الْجُمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الْجُمعة وزيادة ثلاثة أيام#. فقرن الإنصات هنا بالاستماع.
والْحَاصل: أن ترك الشروع فِي التنفل وتطبيق الْمَصاحف عند خروج الإمام على الْمُستمعين يعتبر استعدادًا للإنصات كما فِي تلك الروايات؛ فإذا دخل الإمام طوت الْمَلائكة صحفها.(1/179)
ولا يَجب الإنصات إلا إذا تكلم الإمام، كما تقرر فِي فصل جواز الكلام بعد السلام.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/367): كأن ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام، وانتهاؤه بِجلوسه على الْمِنبر، وهو أول سماع الْمَلائكة للذكر.
وذكر الْحَافظ حديثًا عند أبي نعيم فِي الْحِلية عن ابن عمر أن النبِي ص قال: $إذا كان يوم الْجُمعة، بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور# الْحَديث. قال: وهو دال على أن الْمَلائكة الْمَذكورين غير الْحَفظة وظيفتهم كتابة حاضري الْجُمعة.
والْمُراد بالصحف: صحف الفضائل الْمُتعلقة بالْمُبادرة إِلَى الْجُمعة دون غيرها من سماع الْخُطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء ونَحو ذلك؛ فإنه يكتبه الْحَافظان قطعًا. اهـ من الفتح، وبعضه للنووي من شرح مسلم (6/452).
وقال الشيرازي فِي الْمُهذب: وإذا جلس الإمام على الْمِنبر انقطع التنفل؛ لِحَديث ثعلبة بن أبِي مالك قال: قعود الإمام يقطع السبحة، وكلامه يقطع الكلام.
قال النووي -رحِمه الله- فِي شرح الْمُهذب (4/427): وحديث ثعلبة صحيح؛ رواه الشافعي فِي الأم بإسنادين صحيحين، ورواه مالك فِي الْمُوطأ بِمعناه، وثعلبة هذا صحابي. اهـ الْمُراد.
قلت: وسنده عند مالك (1/103) قال: عن ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبِي مالك: أنه أخبره أنهم كانوا فِي زمان عمر بن الْخَطاب يصلون يوم الْجُمعة حَتَّى يَخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على الْمِنبر وأذن الْمُؤذنون جلسنا، فإذا سكت الْمُؤذنون وقام عمر يَخطب أنصتنا فلا يتكلم منا أحد.
قال الزهري: فخروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. ا هـ. وهو هنا من قول الزهري من الْمُوطأ.
وقال النووي: قال أصحابنا: إذا جلس الإمام على الْمِنبر امتنع ابتداء النافلة، ونقلوا الإجْمَاع فيه.
وقال صاحب الْحَاوي: إذا جلس الإمام على الْمِنبر حرم على من فِي الْمَسجد أن يبتدئ صلاة النافلة، وإن كان فِي صلاة جَلَس.(1/180)
وقال البغوي: إذا ابتدأ الْخُطبة لا يَجوز لأحد أن يبتدئ صلاة.
وقال أبو حامد (الغزالي): إذا جلس الإمام على الْمِنبر انقطع التنفل، فمن لَمْ يكن فِي صلاة لَمْ يَجز له أن يبتدئها، فإن كان فِي صلاة خففها.
قال النووي: فإذا خرج الإمام وهو فِي صلاة؛ استحب له أن يُخففها بلا خلاف ولا تبطل. اهـ من الْمَجموع شرح الْمُهذب (4/428).
قلت: فاستبان -بِحمد الله- رجحان ما قلناه بالسنة والإجْمَاع أنه لا يَجوز ابتداء نافلة بعد خروج الإمام على الناس، وأنه ينبغي إطباق الْمَصاحف عند خروجه والتهيؤ للاستماع، وأن من كان فِي نافلة صلاها خفيفة، وذلك فِي غير تَحية الْمَسجد، أما هي؛ فقد تقدمت الأدلة أن من دخل والإمام يَخطب وجب عليه أن يصليها خفيفة ثُمَّ يَجلس.
* * * * *
السنة أن يتولى
الصلاة من يتولى الخطبة
لأن النَّبِي ص كان يتولاهما بنفسه، وهكذا جَميع خلفائه وغيرهم من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- كان الْخَطيب هو الذي يصلي الْجُمعة، ولو صلى غير الْخَطيب لعذر جاز ذلك، وإن كان لغير عذر فالصلاة صحيحة مع مُخالفتهم للسنة. نص عليه الإمام أحْمَد كما فِي الْمُغنِي لابن قدامة (2/307-308).
* * * * *
ذكر جملة من خطب
النَّبِي ص من خلالها تعرف
الخطب الشرعية(1/181)
1- أخرج الإمام البخاري -رحِمه الله- فِي ثلاثة عشر موضعًا من صحيحه منها رقم (1053) من طُرق عن فاطمة بنت الْمُنذر، عن جدتها أسماء بنت أبِي بكر الصديق قالت: $دخلت على عائشة ل والناس يصلون، قلت: ما شأن الناس؟ فأشارت برأسها إِلَى السماء، فقلت: آية؟ فأشارت برأسها أن نعم. قالت: فأطال رسول الله ص جدًّا حَتَّى تَجلاني الغشي، وإلَى جنبِي قربة فيها ماء ففتحتها، فجعلت أصبُّ منها على رأسي، فانصرف رسول الله ص وقد تَجلت الشمس، فخطب الناس وحَمد الله بِمَا هو أهله، ثُمَّ قال: أما بعد.... فإنه ما من شيء لَمْ أكن رأيته إلا قد رأيته فِي مقامي هذا، حَتَّى الْجَنة والنار، وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون فِي القبور مثل أو قريب من فتنة الْمَسيح الدجال؛ يؤتى أحدكم فيقال له: ما علمك بِهذا الرجل؟ فالْمُؤمن -أو قال: الْمُوقن- فيقول: هو رسول الله هو مُحَمَّد ص، جاءنا بالبينات والْهُدى، فآمنا وأجبنا واتبعنا وصدقنا، فيقال له: نَم صالِحًا، قد كنا نعلم إن كنت لتؤمن به.
وأما الْمُنافق -أو قال: الْمُرتاب- فيقال له: ما علمك بِهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته#. وأخرجه مسلم رقم (905).
2- وأخرج -رحِمه الله- رقم (923) من حديث عمرو بن تغلب: $أن رسول الله ص أتى بِمال، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: أما بعد، فوالله إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكن أعطي قومًا لِمَا أرى فِي قلوبهم من الْجَزع والْهَلع، وأكل أقوامًا إِلَى ما جعل الله فِي قلوبهم من الغنى والْخَير فيهم عمرو بن تغلب، قال عمرو: فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله ص حُمر النعم#. اهـ.(1/182)
3- وأخرج رقم (924) من حديث عائشة ل: $أن رسول الله ص خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى فِي الْمَسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل الْمَسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز الْمَسجد عن أهله حَتَّى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثُمَّ قال: أما بعد، فإنه لَمْ يَخف عليَّ مكانكم، لكن خشيت أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها#.
وأخرجه مسلم رقم (761).
4- وأخرج رقم (2597) من حديث أبي حُميد الساعدي قال: $استعمل النبِي ص رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي؛ فقام النبِي ص عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بِما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل فيأتي ويقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا قعد فِي بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، فوالذي نفس مُحمد بيده، لا يغل أحدكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يَحمله على عنقه؛ إن كان بعيرًا جاء به له رغاء، وإن كانت بقرة جاء بها لَها خوار، وإن كانت شاة جاء بها تيعر، ثم رفع يديه حتى إننا لننظر إلَى عفرة إبطيه، فقال: اللهم هل بلغت –ثلاثًا-#. وأخرجه مسلم (1832).(1/183)
5- وأخرج مسلم فِي صحيحه رقم (2359) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: $بلغ النبِي ص عن أصحابه شيء، فخطب فقال: عُرضت علي الْجَنة والنار، فلم أر كاليوم فِي الْخَير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، قال: فما أتى على أصحاب رسول الله ص يومٌ أشد منه، قال: غطوا رءوسهم ولَهم خنين، قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبِمحمد نبيًّا، فقام رجل فقال: أبي. قال: أبوك فلان، فنزلت: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" [الْمَائدة: 101].#. وأخرجه البخاري (6485) مُختصرًا.
6- وأخرج البخاري رقم (3109) من حديث الْمِسور بن مَخرمة: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خطب ابنة أبي جهل على فاطمة -عليها السلام- قال: فسمعت النبِي ص يَخطب الناس فِي ذلك على منبره هذا وأنا يومئذٍ مُحتلم فقال: $إن فاطمة منِّي، وأنا أتَخوف أن تفتن فِي دينها، ثم ذكر صهرًا له من بنِي عبد شمس فأثنى عليه مصاهرته، قال: وعدني فوفى لي، وحدثنِي فصدقنِي، وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حرامًا، ولكن والله لا تَجتمع بنت رسول الله ص وبنت عدو الله أبدًا#. اهـ. وأخرجه مسلم رقم (2449).
أمر الإمام للمأمومين
بالدنو إذا رآهم متباعدين
7- أخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (927) من حديث ابن عباس ب قال: $صعد النَّبِي ص الْمِنبر وكان آخر مَجلس جلسه متعطفًا ملحفة على منكبيه قد عصب رأسه بعصابة دسمة، فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أيها الناس، إليَّ –أي: تقاربوا- فثابوا إليه، ثُمَّ قال: أما بعد، فإن هذا الْحَي من الأنصار يقلون ويكثر الناس، فمن ولي شيئًا من أمة مُحَمَّد ص فاستطاع أن يضر فيه أحدًا أو ينفع فيه أحدًا فليقبل؛ من مُحسنهم ويتجاوز عن مسيئهم#.
* * * * *
بعض صفات الخطبة(1/184)
8- وأخرج رقم (920) من حديث ابن عمر ب قال: كان النَّبِي ص يَخطب قائمًا، ثُمَّ يقعد، ثُمَّ يقوم كما تفعلون. وأخرجه مسلم رقم (861).
9- وأخرج (919) عنه قال: سمعت النبِي ص يَخطب على الْمِنبر فقال: $من جاء منكم الْجُمعة فليغتسل#. وأخرجه مسلم رقم (844).
وفِي رواية: يَخطب خطبتين بينهما جلسة.
10- وأخرج (930) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: $جاء رجل والنبِي ص يَخطب يوم الْجُمعة فقال: أصليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين#.
وأخرجه مسلم رقم (875) بلفظ: جاء سليك الغطفاني وهو الذي أمر النبِي ص أن يتصدق عليه، كما عند النسائي، وعند الترمذي زيادة: فصلى ركعتين والنبِي ص يَخطب، قال: هذا يصرح بضعف ما روي أنه جلس من خطبته حتى صلى الركعتين. اهـ من تُحفة الأحوذي (3/26).
11- وأخرج رقم (932-933) من حديث أنس بن مالك قال: $بينما النبِي ص يَخطب يوم الْجُمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع وهلك الشاء؛ فادع الله أن يسقينا، فمد النبِي ص يديه ودعا# .اهـ مُختصرًا، ومسلم (897) مطولاً.
12- وأخرج البخاري (955) من حديث البراء بن عازب قال: سمعت النبِي ص يَخطب يوم الأضحى بعد الصلاة، فقال: $من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له، فقال أبو بردة بن نيار خال البراء: يا رسول الله، فإني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح فِي بيتِي؛ فذبَحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: شاتك شاة لَحم. قال: يا رسول الله، فإن عندنا عناقًا لنا جذيْمة هي أحب إلي من شاتين، أفتجزي عنِّي؟ قال: نعم، ولن تُجزي عن أحد بعدك#. وأخرجه مسلم رقم (1961).(1/185)
13- وأخرج رقم (956)، ومسلم (889) من حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - : $أن النَّبِي ص كان يَخرج يوم الفطر والأضحى إِلَى الْمُصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثُمَّ ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإذا كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثُمَّ ينصرف#.
14- وأخرج فِي باب (7) من كتاب العيدين عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وابن عباس وأبِي سعيد الْخُدري الْمَعنى: $أن النَّبِي ص كان يصلي العيد ثُمَّ يَخطب بعد الصلاة#.
وفِي حديث أبي سعيد: أن مروان بن الْحَكم أول من نصب له الْمِنبر فِي مصلى العيد وخطب قبل الصلاة، فنازعه أبو سعيد فأبى فقال: له غيرتُم والله، وفِي حديث ابن عباس: أن النبِي ص خطب الرجال ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن ... الْحَديث.
15- وأخرج البخاري رقم (976) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: $خرج النبِي ص يوم أضحى إلَى البقيع فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه...#. وذكر الْحَديث الْمُتقدم رقم (12)، وبوب عليه البخاري: كلام الْخَطيب والناس فِي خطبة العيد، واستقبال الإمام الناس فِي الْخُطبة.
16- وأخرج (979)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس وفيه: $كأني أنظر إلَى رسول الله ص حيث يُجَلِّس بيده#. وفِي مسلم: $يُجَلِّس الرجال بيده#.
17- وأخرج البخاري رقم (1038)، ومسلم رقم (71) من حديث زيد بن خالد الْجُهنِي قال: $صلى بنا النَّبِي ص بالْحُديبية على أثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف النَّبِي ص أقبل على الناس بوجهه فقال: تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحْمَته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب#.(1/186)
18- وأخرج البخاري رقم (1044)، ومسلم (901) من حديث عائشة ل: $أن النَّبِي ص حين مات إبراهيم ابن رسول الله ص وخسفت الشمس؛ قال الناس: خسفت لِمَوت إبراهيم؛ فصلى بِهم النَّبِي ص فلما انصرف وقد انْجَلت الشمس خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لِمَوت أحد ولا لِحَياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثُمَّ قال: يا أمة مُحَمَّد؛ والله ما من أحد أغير من الله من أن يزني عبده أو أمته، يا أمة مُحَمَّد؛ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا#.
19- وأخرج البخاري رقم (3211)، ومسلم رقم (850)، من حديث أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال: $إذا كان يوم الْجُمعة كان على كل باب من أبواب الْمَسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر#.
20- وفِي مسلم رقم (862) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - : $أن النَّبِي ص كان يَخطب قائمًا فمن نبأك أنه كان يَخطب جالسًا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة#.
وبعده رقم (863) حديث جابر بن عبد الله: $أن النبِي ص كان يَخطب قائمًا يوم الْجُمعة، فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حَتَّى لَمْ يبق إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزلت هذه الآية +وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" [الْجُمعة: 11].#.
تقصير الخطبة
21- وأخرج مسلم رقم (866) من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: $كنت أصلِّي مع رسول الله ص فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا#.
وأخرج مسلم (869) من حديث عمار بن ياسر: أن النَّبِي ص قال: $إن من فقه الرجل: طول صلاته وقصر خطبته#.(1/187)
وفيه رقم (876) من حديث جابر بن عبد الله قال: $كان رسول الله ص إذا خطب احْمَرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حَتَّى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الْحَديث كتاب الله، وخير الْهَدي هدي مُحَمَّد، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثُمَّ يقول: أنا أولَى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليَّ وعليَّ#.
وفِي رواية له: أنه يَحمد الله ويثنِي عليه ثُمَّ يقول على إثر ذلك وقد علا صوته... فذكر الْحَديث.
لا تعارض بين هذا الْحَديث وحديث أبِي هريرة عند البخاري أن النَّبِي ص قال لِجَارية بن قدامة: $لا تغضب، فردد عليه مرارًا يقول: أوصنِي، والنبِي ص يقول: لا تغضب#.
فالغضب لله وعند انتهاك حرمات الله مَحمود، وعليه أدلة كثيرة، والغضب للنفس ولِمجرد أغراض الدنيا مذموم كما فِي حديث أبي هريرة وغيره.
22- وأخرج رقم (868) من حديث ابن عباس ب: أن ضمادًا الأزدي قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقي من هذا الريح(1)، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن مُحمدًا مَجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، فلقيه فقال: يا مُحمد إني أرقي من هذا الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟
__________
(1) أي: الْجُنون والْمَس؛ كما فِي شرح مسلم.(1/188)
فقال رسول الله ص: $إن الْحَمد لله، نَحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن مُحمدًا عبده ورسوله، أما بعد: قال: فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء؛ فأعادهن عليه رسول الله ص ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر -أي: لُجته وقعره الأقصى كما فِي شرح النووي- قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه. قال رسول الله ص: وعلى قومك. قال: وعلى قومي.
قال: فبعث رسول الله ص سرية فمروا بقوم، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة. فقال: ردوها فإن هؤلاء من قوم ضماد#. اهـ. والشاهد منه: ذكر خطبة الْحَاجة فِي أول الكلام.
23- وروى مسلم رقم (869) عن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست قليلاً –أي: أطلت-؟ فقال: إني سمعت رسول الله ص يقول: $إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة -أي: علامة- من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة وأقصروا الْخُطبة، وإن من البيان لسحرًا#.
قال النووي: أصل السحر: الصرف، فالبيان يصرف القلوب ويُميلها إلَى ما تدعو إليه، هذا كلام القاضي. اهـ.
24- وأخرج رقم (870) من حديث عدي بن حاتِم: $أن رجلاً خطب عند النبِي ص فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله ص: بئس الْخَطيب أنت؛ قل: ومن يعص الله رسوله فقد غوى#.
* * * * *
قراءة القرآن فِي الخطبة بغير تغنٍّ
25- وأخرج مسلم رقم (871) من حديث يعلى بن أمية: $أنه سمع النَّبِي ص يقرأ على الْمِنبر: ونادوا يا مالك#.(1/189)
26- وأخرج رقم (873/52) من حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: $لقد كان تنورنا وتنور رسول الله ص واحدًا سنتين أو سنة وبضع سنة -إشارة لقرب دارهم من داره- قالت: وما أخذت +ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" [ق: 1]. إلا عن لسان رسول الله ص، يقرؤها كل يوم جُمعة على الْمِنبر إذا خطب#. اهـ.
* * * * *
تعليم الجاهل فِي الخطبة
27- أخرج مسلم فِي صحيحه (876) من حديث أبِي رفاعة قال: $انتهيت إِلَى النَّبِي ص وهو يَخطب قال: فقلت: يا رسول الله؛ رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه. قال: فأقبل عليَّ رسول الله ص وترك خطبته حَتَّى انتهى إلي؛ فأتي بكرسي حسبت قوائمه حديدًا قال: فقعد عليه رسول الله ص وجعل يعلمنِي مِمَّا علمه الله، ثُمَّ أتى خطبته فأتَم آخرها#. اهـ.
* * * * *
الإمام يحث الناس
على التصدق على الغير عند لزوم ذلك
28- أخرج النسائي (5/63)، والترمذي (3/30- تُحفة)، وأبو يعلى (2/279)، وأحْمَد (3/25) من طريق مُحَمَّد بن عجلان عن عياض عن أبِي سعيد - رضي الله عنه - : $أن رجلاً دخل الْمَسجد يوم الْجُمعة ورسول الله ص يَخطب، فقال: صلِّ ركعتين، ثُمَّ جاء الْجُمعة الثانية والنبِي يَخطب فقال: صلِّ ركعتين، ثُمَّ جاء الثالثة فقال: صلِّ ركعتين، ثُمَّ قال: تصدقوا عليه فتصدقوا فأعطاه ثوبين، ثُمَّ قال: تصدقوا، فطرح أحد ثوبيه، فقال رسول الله ص: ألَم تر إِلَى هذا أنه دخل الْمَسجد بهيئة بذيئة فرجوت أن تفطنوا له، فتصدقوا عليه فلم تفعلوا، فقلت: تصدقوا فتصدقتم فأعطيته ثوبين، ثُمَّ قلت: تصدقوا فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك وانتهره#. وسنده حسن.
ومعناه: أنه لَمَّا أمر النَّبِي ص بالصدقة مرة ثانية ظن أنه مِمَّن يشمله الأمر بقوله: تصدقوا، فتصدق مع من تصدق.(1/190)
29- وأخرج أبو داود (13/185- عون)، والترمذي (4/239- تُحفة)، وأحْمَد (9/115) وغيرهم من طريق عبد الواحد بن زياد قال: أخبرنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبِي ص قال: $كل خطبة ليس فيها تشهد؛ فهي كاليد الْجَذماء#. وسنده حسن.
30- وأخرج ابن ماجه (1/454) فقال: حدثنا أبو بكر بن خلاَّد الباهلي قال: حدثنا بهز بن أسد قال: حدثنا حَماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس وثابت، عن أنس: أن النبِي ص كان يَخطب إلَى جذع، فلما اتخذ الْمِنبر ذهب إلَى الْمِنبر فحنَّ الْجِذع، فأتاه فاحتضنه فسكت وقال: $لو لَم أحتضنه لَحَنَّ إلَى يوم القيامة#. اهـ. وسنده صحيح كل رجاله ثقات.
ومن حديث أنس عند الترمذي (10/100- تُحفة): أن النبِي ص لَمَّا حن الْجذع مسه فسكت.
وعند الدارمي (1/32): أن النبِي ص أمر بالْجِذع فدفن، وهذه الثلاثة الأخيرة من جامع شيخنا -حفظه الله-، وكلها صحاح.
31-وأخرج أحْمَد (4/212) من حديث الْحَكم بن حزن الكلفي قال: شهدت مع النبِي ص الْجُمعة، فقام رسول الله ص متوكئًا على قوس -أو قال: على عصا- فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات ثم قال: $أيها الناس، إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتُم، ولكن سددوا وأبشروا#.(1/191)
32- عن أبِي نُجيح العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: $وعظنا رسول الله ص موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة#. اهـ. أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2678)، وابن ماجه (42)، وأحْمَد (4/126-127) وغيرهم من طرق فيها ضعف يقوي بعضها بعضًا، بينا ذلك فِي تَحقيق إصلاح الْمُجتمع للبيحاني.
33- وأخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (4625)، ومسلم رقم (2860) قال: قام فينا رسول الله ص بِموعظة فقال: $يا أيها الناس؛ إنكم مَحشورون إلَى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الناس يكسى يوم القيامة إبراهيم ص، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتِي فيؤخذ بهم ذات الشمال –أي: النار- فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم -إلَى قوله- العزيز الْحَكيم. فيقال لي: إنهم لَم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم#.(1/192)
34- وروى مسلم فِي صحيحه رقم (1017) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا فِي صدر النهار عند رسول الله ص، فجاء قوم عراة مُجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله ص لِمَا رأى ما بِهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثُمَّ خطب فقال: + يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ" إِلَى آخر الآية: +إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء: 1]. والآية الأخرى الَّتِي فِي آخر الْحَشر: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ" [الْحَشر: 18]؛ فليتصدق الرجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تَمره حَتَّى قال: ولو بشق تَمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت ثُمَّ تتابع الناس حَتَّى رأيت كومين من طعام وثياب، حَتَّى رأيت وجه رسول الله ص يتهلل كأنه مُذهَبَةٌ، فقال رسول الله ص: من سن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بِهَا من بعده، ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بِهَا من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء#. اهـ.(1/193)
35- وأخرج البخاري رقم (4402)، ومسلم (ج4/2247) مُختصرًا من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: $كنا نتحدث بِحجة الوداع والنبِي ص بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع، حتى حَمد النبِي ص الله وأثنى عليه، ثم ذكر الْمَسيح الدجال فأطنب فِي ذكره وقال: ما بعث الله من نبِي إلا أنذره أمته؛ أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه إن يَخرج فيكم فما خفي عليكم من شأنه فليس يَخفى عليكم أن ربكم ليس بأعور وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا فِي بلدكم هذا فِي شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم فاشهد ثلاثًا، ويلكم -أو ويْحَكم- انظروا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض#. اهـ.
36- وأخرج البخاري -رحِمه الله- رقم (67) و(1741)، ومسلم (1679) من طريق مُحَمَّد بن سيرين، عن عبد الرحْمَن بن أبِي بكرة قال ابن سيرين ورجل أفضل فِي نفسي من عبد الرحْمَن، عن أبِي بكرة - رضي الله عنه - قال: خطبنا النَّبِي ص يوم النحر، فقعد على بعيره وأمسك إنسان بِخطامه أو بزمامه فقال: $أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حَتَّى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حَتَّى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس ذو الْحِجة؟ قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حَتَّى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلدة الْحَرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فِي بلدكم هذا فِي شهركم هذا إِلَى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم فاشهد، فليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فرب مُبَلَّغ أوعى له من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض#. اهـ.(1/194)
37- وأخرج البخاري رقم (4942)، ومسلم (2855) من حديث عبد الله بن زمعة - رضي الله عنه - : أنه سمع النَّبِي ص يَخطب وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله ص: $+إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا" [الشمس: 12]: انبعث لَها رجل عزيز عارم منيع فِي رهطه، ثُمَّ ذكر النساء فوعظ فيهن فقال: يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد فلعله يضاجعها من آخر يومه، ثُمَّ وعظهم فِي ضحكهم من الضرطة، وقال: لِمَ يضحك أحدكم مِمَّا يفعل؟#.
38- وأخرج مسلم رقم (2408) من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله ص خطيبًا بِماء يدعى خمًّا بين مكة والْمَدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر ثُمَّ قال: $أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتينِي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولُهما كتاب الله فيه الْهُدى والنور؛ فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثُمَّ قال: وأهل بيتِي، أُذكركم الله فِي أهل بيتِي، أُذكركم الله فِي أهل بيتِي، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم#.(1/195)
39- وأخرج البخاري رقم (4750) من حديث عائشة الطويل فِي تبرئة الله T لَها من حادثة الإفك وفيه قالت: $فقام النَّبِي ص فاستعذر يومئذٍ من عبد الله بن أُبي بن سلول، فقال وهو على الْمِنبر: يا معشر الْمُسلمين، من يعذرني فِي رجل قد بلغنِي أذاه فِي أهل بيتِي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيرًا وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله؛ أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الْخَزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الْخَزرج وكان قبل ذلك رجلاً صالِحًا ولكن احتملته الْحَمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه؛ فإنك منافق تُجادل عن الْمُنافقين، فثار الْحَيان: الأوس والْخَزرج حَتَّى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله ص قائم على الْمِنبر فلم يزل رسول الله ص يُخفضهم حَتَّى سكتوا وسكت#. وذكرت الْحَديث بتمامه.
* * * * *
إطالة خطبة غير
الجمعة فِي بعض الأوقات للحاجة
40- وقال الإمام مسلم -رحِمه الله- رقم (2892): وحدثنِي يعقوب بن إبراهيم الدورقي وحجاج بن الشاعر جَميعًا عن أبِي عاصم حدثنا عزرة بن ثابت قال: أخبرنا علباء بن أحْمَد قال: حدثنِي أبو زيد -يعنِي: عمرو بن أخطب - رضي الله عنه - قال: $صلَّى بنا رسول الله ص الفجر وصعد الْمِنبر فخطبنا حَتَّى حضرت الظهر، فنزل فصلَّى ثُمَّ صعد الْمِنبر فخطبنا حَتَّى حضرت العصر، ثُمَّ نزل فصلَّى ثُمَّ صعد الْمِنبر فخطبنا حَتَّى غربت الشمس، فأخبرنا بِمَا كان وبِما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا#. اهـ.
* * * * *
الإمام يخطب قائمًا
يوم الْجُمعة ولا يجلس إلا بين الخطبتين(1/196)
تقدم حديث ابن عمر من الْمُنتقى رقم (14) وهو متفق عليه: $أن النَّبِي ص كان يَخطب يوم الْجُمعة خطبتين بينهما جلسة ، وفِي رواية: قال: كان يَخطب قائمًا ثُمَّ يقعد ثُمَّ يقوم كما تفعلون الآن#.
وذكر بعده حديث جابر بن سمرة: $أن النَّبِي ص كان يَخطب قائمًا ثُمَّ يَجلس، ثُمَّ يقوم ويقرأ آيات ويذكر الله، وكانت خطبته قصدًا وصلاته قصدًا.قال: فمن نبأك أن النَّبِي ص كان يَخطب جالسًا فقد كذب، والله صليت معه أكثر من ألف صلاة #. أخرجه مسلم رقم (862).
وأخرج أحْمَد فِي مسنده (4/212)، وأبو داود رقم (1096)، وأبو يعلى (ج21/204) من طريق شهاب بن خراش قال: حدثنِي شعيب بن رزيق الطائفي قال: $جلست إِلَى رجل له صحبة من رسول الله ص يقال له: الْحَكم بن حزن الكلفي، فأنشأ يُحدثنا قال: قدمت على رسول الله ص سابع سبعة أو تاسع تسعة، فلبثنا عند رسول الله ص أيامًا شهدنا فيها الْجُمعة، فقام رسول الله ص متوكئًا على قوس -أو قال: على عصا- فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ثُمَّ قال: أيها الناس، إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتُم به، ولكن سددوا وأبشروا#. اهـ. وسنده حسن.
فشهاب بن خراش: ثقة، وثقه ابن الْمُبارك وابن الْمَدينِي وابن معين وغيرهم، وشيخه شعيب بن رزيق الطائفي: روى عن الْحَكم بن حزن، وعنه: شهاب بن خراش وغيره؛ قال ابن معين: ليس به بأس. ووثقه ابن حبان، وقال أبو حاتِم: صالِح. اهـ. فهو صدوق حسن الْحَديث.
والْحَكم بن حزن الكلفي من الوافدين على النَّبِي ص، قال الْحَافظ فِي التقريب: صحابي قليل الْحَديث.
وفِي هذا الْحَديث ست صفات من صفات الْخُطبة:
1- القيام.
2- والاتكاء حال الْخُطبة على عصا.
3- والْحَمد والثناء فِي أول الْخُطبة.
4- وقصر الْخُطبة بكلمات خفيفات.
5- قول الْخَطيب: أيها الناس.
6- وحث الناس على التسديد فِي العمل، وتبشير من فعل ذلك الْخَير.(1/197)
41- وأخرج مسلم فِي صحيحه رقم (864) من حديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أنه دخل الْمَسجد وعبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم(1) يَخطب قاعدًا فقال: انظروا إِلَى هذا الْخَبيث، يَخطب قاعدًا وقال الله تعالَى: +وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا". [الْجُمعة: 11].
وعند ابن خزيْمَة بلفظ: ما رأيت كاليوم قط إمامًا يؤم الْمُسلمين يَخطب وهو جالس.
* * * * *
من أول من قعد فِي الخطبة يوم الْجُمعة
قال ابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (2/21) طبعة الباز: حدثنا جرير، عن ليث، عن طاوس قال: $خطب رسول الله ص وأبو بكر وعمر قيامًا، وأول من قعد معاوية#.اهـ.
وهو مرسل ضعيف إلَى طاوس؛ فليث هذا الذي روى عن طاوس وعنه جرير بن عبد الْحَميد هو ابن أبي سليم، مُختلط ضعيف.
وأخرج أيضًا (ص23) من حديث جرير بن عبد الْحَميد، عن مغيرة، عن الشعبِي قال: إنما خطب معاوية قاعدًا حين كثر شحم بطنه ولَحمه. اهـ.
ومغيرة هذا هو ابن مقسم، مدلس وقد عنعن؛ فالأثر لذلك ضعيف.
وأخرج عبد الرزاق فِي الْمُصنف (3/187) عن معمر، عن قتادة: $أن رسول الله ص وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يَخطبون قيامًا حتى شق على عثمان القيام، فكان يَخطب قائمًا ثم يَجلس، فلما كان معاوية خطب الأولَى جالسًا ثم يقوم فيخطب الأخرى قائمًا#. وهذا[من] مرسل قتادة كما ترى.
وذكر بعده مرسلاً لسليمان بن موسى الأشدق الأموي: $أن رسول الله ص كان هو وأبو بكر وعمر وعثمان يَخطبون قيامًا لا يقعدون إلا فِي الفصل بين الْخُطبتين، وأول من خطب قاعدًا: معاوية، فلما كان عبد الْمَلك خطب قائمًا وضرب برجله على الْمِنبر وقال: هذه السنة، فلما طال عليه الأمد جلس. اهـ.
__________
(1) وعند البيهقي فِي الكبرى (3/49) من طريق الْحَاكم قال: ابن الْحَكم، وبقية الْمَصادر كما فِي مسلم ابن أم الحكم، ولعله يقال عنه هذا وهذا.(1/198)
وهو من طريق مُحَمَّد بن راشد الْمَكحولي الْخُزاعي، وهو صدوق؛ فهذا مرسل حسن إِلَى الأشدق، والأشدق صدوق فقيه.
وقال عبد الرزاق: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني جعفر بن مُحَمَّد عن أبيه قال: لَما كان معاوية استأذن الناس فِي الْجُلوس فِي إحدى الْخُطبتين وقال: إني قد كبرت وقد أردت أن أجلس فِي إحدى الْخُطبتين، فجلس فِي الْخُطبة الأولَى. وسند هذا الأثر مرسل لا بأس به.
فهذه مراسيل وآثار كثيرة بين قوية وضعيفة يشد بعضها بعضًا: أن معاوية - رضي الله عنه - هو أول من كان يَجلس فِي الْخُطبة الأولَى، ثُمَّ يقوم فيلقي الْخُطبة الثانية قائمًا، وقد فعل ذلك عبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم كما تقدم فِي صحيح مسلم.
وأما عثمان - رضي الله عنه - فقد ثبت عن عطاء فِي مصنف عبد الرزاق: أن عثمان حين كبر كانت تأخذه رعدة، فكان يَجلس هنيهة ثُمَّ يقوم فيلقي الْخُطبة قائمًا، وإنما يَجلس ليستريح قليلاً وهو حال جلوسه لا يتكلم، وهذا فعل لا شيء فيه.
قال النووي فِي الْمَجموع (4/383): فإن عجز عن القيام استحب له أن يستخلف؛ فإن خطب قاعدًا أو مضطجعًا جاز بلا خلاف كالصلاة. اهـ.
قلت: إنمَا الْحَدث هو ما حصل من معاوية وعبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم؛ فأما معاوية فقد علم أنه كان يفعل ذلك لسمنه وكبره وضعفه، وأما عبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم فلم تُذكر لِجُلوسه علة.
وقد دل القرآن فِي قوله تعالَى: +وَتَرَكُوكَ قَائِمًا". -وهكذا السنة كما فِي الأحاديث الْمُتقدمة الذكر- أن الإمام يَخطب الناس يوم الْجُمعة قائمًا.
أما فِي غير الْجُمعة فقد خطب النَّبِي ص فِي عرفة وغيرها وهو جالس على بعير، فعلى جواز ذلك أدلة كثيرة منها ما ذكرنا وتقدم فصل لذكر بعض خطب النَّبِي ص فِي غير خطبة الْجُمعة.(1/199)
ومنها: حديث أن النَّبِي لَمَّا جاءه ذلك الرجل وهو يَخطب الْجُمعة فقال: يا رسول الله رجل يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، نزل من على الْمِنبر ووضع له منبر فجلس عليه، وجعل يعلمه مِمَّا علمه الله، ثُمَّ رجع وأتَم خطبته قائمًا. أخرجه مسلم وسيأتي ذكره فِي موضع آخر.
قال النووي -رحِمه الله- فِي شرح مسلم (6/398) -بعد ذكر بعض أدلة القيام فِي الْخُطبة يوم الْجُمعة- ومنها حديث سمرة قال: فيه دليل لِمَذهب الشافعي والأكثرين أن خطبة الْجُمعة لا تصح من القادر على القيام إلا قائمًا فِي الْخُطبتين، ولا تصح حَتَّى يَجلس بينهما، والْجُمهور أن القيام لِخُطبة الْجُمعة سنة.
قال الطحاوي -رحِمه الله-: لَمْ يقل غير الشافعي باشتراط الْجَلسة بين الْخُطبتين.
قلت: ليس هناك دليل على أن القيام شرط فِي خطبة الْجُمعة، والصحيح: أنها سنة لفعل النَّبِي ص لَها ولا مزيد على ذلك، وانظر الْمُغنِي لابن قدامة (2/304)، ونيل الأوطار للشوكاني (2/550)، وفتح الباري (2/406).
* * * * *
الاستفتاح بخطبة
الحاجة فِي أكثر الأوقات
لِمَا أخرج أبو داود (2118)، والنسائي رقم (3277)، والترمذي (1105)، وابن ماجه رقم (1892) من طرق عن أبِي الأحوص وأبِي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله ص خطبة الْحَاجة فِي النكاح وغيره:
$إن الْحَمد لله، نَحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله.
+يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاًَ كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء: 1].(1/200)
+يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاََ تَمُوتُنَّ إِلاََّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" [آل عمران: 102].
+يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاًَ سَدِيدًا (((( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا" [الأحزاب: 70-71]. ا هـ.
واللفظ لأبي داود وسنده صحيح؛ فإن أبا عبيدة بن عبد الله وإن لَمْ يكن سمع من أبيه فهو مقرون بأبي الأحوص.
وقلنا: إن الاستفتاح بهذه الصيغة الواردة فِي حديث ابن مسعود يكون فِي أكثر الأوقات لأمرين:
الأمر الأوّل: أن هذه الْخُطبة الأصل أنها تسن فِي خطبة النكاح، ولِهَذا فإن جل أهل الْحَديث يذكرون هذا الْحَديث فِي كتاب النكاح من كتبهم، فالذين سبق تَخريج الْحَديث من كتبهم كلهم ذكروه فِي النكاح.
وقد جاءت زيادة عند أبِي داود رقم (2118): أن ابن مسعود قال: علمنا رسول الله ص خطبة الْحَاجة (فِي النكاح وغيره)، وهذه الزيادة رواها سفيان بن عيينة، عن أبِي إسحاق، عن أبِي عبيدة، عن عبد الله؛ فهي من هذه الطريق عند أبِي داود ضعيفة، وعند النسائي (6/89)، والترمذي (1105) من طريق الأعمش، عن أبِي إسحاق، عن أبِي الأحوص، عن عبد الله، وتابع الأعمش على هذا بدون الزيادة يونس بن أبِي إسحاق عن أبيه؛ فعلم أن الطريق الَّتِي فيها زيادة: فِي النكاح وغيره من طريق أبِي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود وهو لَمْ يسمع من أبيه، قاله أبو حاتِم كما فِي جامع التحصيل للحافظ العلائي -رحِمه الله-.
والطريق الثانية الَّتِي عن الأعمش ويونس، عن أبِي إسحاق ليس فيها هذه الزيادة، هذا على أننا لا نَجرؤ أن نقول: إن سفيان شذ بِهَا فِي هذه الْحَالة؛ لأن سفيان إمام لكنها من قول ابن مسعود موقوفًا عليه وحتى إنها لَمْ تثبت إليه.(1/201)
الأمر الثاني: أن النَّبِي ص لَمْ يكن يبتدئ بِهَا جَميع خطبه فِي الْجُمعة وغيرها، وقد ذكرت فِي باب خطب النَّبِي ص أكثر من أربعين حديثًا ليس فِي خطبة منها أنه ابتدأ بهذه الصيغة الْمَذكورة فِي حديث ابن مسعود، سوى ما جاء فِي حديث ابن عباس عند الإمام مسلم رقم (868): إن ضمادًا الأزدي لَما قال للنبِي ص: إني أرقي من هذا الريح –أي: الْجُنون- وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك أن أرقيك؟ فقال النبِي ص: إن الْحَمد لله... إلَى قوله: عبده ورسوله، فسمع الأزدي هذا الكلام فقال: أعدهُ فأعاده عليه ثلاثًا، فأسلم. اهـ.
وليس فيه أنه قال ذلك فِي خطبة جُمعة ولا فِي غيرها من الْخُطب، وإنما ظاهره أنه أراد أن يبرهن لِهَذا الرجل الذي قد انطلت عليه إشاعات سفهاء مكة أن مُحمدًا مَجنون فجاء ليرقيه، فبيَّن له رسول الله ص بهذه الكلمات أنه موحد لله T بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه عبد الله ورسوله بقوله: وأشهد أن مُحمدًا عبده ورسوله، والواقع أن هذه الكلمات عظيمات جدًّا مع قصرها قد شملت أمورًا عظامًا.
الحمد والثناء على الله
من الْحَمد والثناء على الله، وطلب الإعانة منه، وطلب مغفرة الذنوب مِمَّا قد يَحصل فِي الكلام من خطأ وزلل، والاستعاذة من شرور الأنفس، وما قد تدفع إليه من الغرور والإعجاب، وغير ذلك من سيئات الأعمال والتنصل من الْحَول والقوة فِي أن من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له... إِلَى آخر ما تشتمل عليه تلك الكلمات العظيمة الَّتِي قد لا تكاد تستوعب فِي صيغة أو استفتاح غير هذا الاستفتاح.(1/202)
وقد روى الإمام مسلم -رحِمه الله- فِي صحيحه رقم (867/45) من حديث جابر بن عبد الله: $أن النَّبِي ص كان يَخطب الناس، فيحمد الله ويثنِي عليه بِمَا هو أهله، ثُمَّ يقول: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وخير الْحَديث كتاب الله، وخير الْهَدي هدي مُحَمَّد، وشرُ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعة ضلالة#. اهـ.
فقوله: يَحمد الله ويثنِي عليه فِي هذا الْحَديث، وقوله فِي أحاديث كثيرة أخرى: فحمد الله وأثنى عليه؛ هذا لفظ عام يشمل أي حَمد وثناء على الله، وعدم ثبوت نقل تلك الصيغة الْمَذكورة فِي حديث ابن مسعود فِي خطبة الْجُمعة وغيرها عن أحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- لا ابن مسعود ولا غيره، وعدم نقلها عنهم أنهم كانوا يداومون عليها -رضوان الله عليهم- فِي كل خطبة؛ دليل -إن شاء الله- على ما نقوله أنه لا يداوم عليها فِي كل خطبة، وإنَّما فِي بعض الأوقات أو أكثرها؛ لِمَا تشتمل عليه كما ذكرنا، ولدخولِها تَحت لفظ الْحَاجة، فالْحَاجة تشمل النكاح وغيره كما فِي تُحفة الأحوذي (4/200)، وحاشية السندي على النسائي (6/89).
هذا ما يسر الله لي فهمه وتقريره فِي هذه الْمَسألة، وإن أرشدني أحد من أهل السنة إلَى خطأ فِي هذه الْمَسألة أو غيرها بذكر دليله فوربي إني لا أريد إلا الْحَق، وأتوب إِلَى الله من جَميع الأخطاء والْخَطايا.
الخطيب ينذر الناس
النار فِي خطبة الْجُمعة
قال الإمام أحمد -رحِمه الله- (4/268):
حدثنا سليمان بن داود قال: أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يَخطب وعليه خَميصة له فقال: $لقد سمعت رسول الله ص يَخطب وهو يقول: أنذرتكم النار، فلو أن رجلاً فِي موضع كذا وكذا سمع صوته، وحتى وقعت خَميصةٌ كانت على عاتقه عند رجليه#. وفِي رواية: وسمع أهل السوق صوته وهو على الْمِنبر.(1/203)
وأخرجه الدارمي (2/425) والبزار (4/71) كشف الأستار وابن أبِي شيبة (3/158) وابن حبان (2/411) إحسان. من طرق عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير... فذكر الْحَديث، وسماك صدوق؛ فالْحَديث حسن.
وعن الزبير - رضي الله عنه - قال: $كان رسول الله ص يَخطبنا فيذكِّرنا بأيام الله حتى يعرف ذلك فِي وجهه وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بِجبريل لَمْ يبتسم ضاحكًا حَتَّى يرتفع#. قال الْهَيثمي فِي الْمَجمع (2/191). أخرجه أحْمَد، والبزار، والطبراني فِي الكبير والأوسط بنحوه، وأبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.
* * * * *
الخطبة فِي كل وقت
بِمَا تقتضيه حاجة الْمُخاطبين
كذا قال ابن القيم فِي زاد الْمعاد (1/189):
وهذا الذي تقتضيه الأدلة؛ فقد تقدّم ذكر أنواع خطب النَّبِي ص، وأنه لَمَّا قدم أهل مضر -وكانوا عراة- خطب فحث الناس على التصدّق عليهم، وهكذا لَمَّا دخل ذلك الرجل سليك الغطفاني قال له: $قم فصل ركعتين# ورأى عليه حالة رثة؛ فحث الناس أن يتصدقوا عليه، وأنذر الناس النار، وربَّما وعظ الناس بالرفق بالنساء والإحسان إليهن، ونهاهم عن الضحك من الْحَدث الأصغر، كما فِي حديث عبد الله بن زمعة؛ وهذا يدل أن الْخَطيب كالطبيب يعالج الأمراض الْحَاصلة فِي عبادات الناس وأخلاقهم بأنواعها بعد إصلاح نفسه بكتاب الله وسنة رسوله ومع استحضار قول الله T: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاََ تَفْعَلُونَ ((( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاََ تَفْعَلُونَ" [الصف: 2-3]. وقوله: +أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاََ تَعْقِلُونَ" [البقرة:44]. وقوله عن شعيب - عليه السلام - : +وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ" [هود: 88].(1/204)
ومن عجائب الأمور أن بعض فقهاء القرى يأخذ له خطبة مؤلفة فِي بعض الأزمان أو البلدان الَّتِي كانت الْخُطب فيها حسب ما يتناسب مع حالهم فيخطب منها.
وحصل أن فِي بعض القرى أخذ خطيبهم كتابًا فيه أن مؤلف تلك الْخُطب يُحذر أهل بلده من استقدام الْخَدامات الأجنبيات فِي البيوت، فجعل ذلك الفقيه يقرؤها ويُحذر أهل القرية من اتخاذ الْخَدامات ومن الْخَدامين السائقين بالنساء بغير مَحارم، ومن الرحلة إِلَى دول الغرب فِي العطلة الصيفية وتضييع آلاف الدولارات فِي ذلك وهم أناس حالاتهم متواضعة أحدهم ربَّما يذهب عُمُرُهُ ولا يستطيع أن يحج الفريضة. وبعضهم لا يقدر أن يتزوج إلا بشق الأنفس من ضيق الْحَال عليه، فضلاً من أن يستورد خدامات من الْخَارج، وأكثرهم لا يَجد سيارة يسوقها بنفسه لاحتياجاته الضرورية فضلاً من أن يأخذ سيارة ويستقدم سائقًا يسوق بنسائه، فيكون الخطيب كأنه يَخاطب غير السامعين.
وأفاد أحد إخواننا أن خطيبًا خطب من كتاب وهو لا يعرف أن يقرأ قراءة صحيحة، ومؤلف تلك الْخُطبة كتب فيها: الزِّنا عَمَّ، والبلا عَمَّ، والرِّبا طَمَّ آهٍ - آهٍ، فقرأها الْخَطيب هكذا: (الزِّنَا عِم، والبلا عِم، والربا طِم (51-51) واحد وخَمسون واحد وخَمسون) ومقصود الْمُؤلف فِي الْخُطبة التوجع من انتشار الزنا والربا وكثرة البلاء، فقال: آه - آه.
فقرأها ذلك الْخَطيب قراءة لا يفهمها هو ولا غيره وظن أن لفظة (آه) الَّتِي تقال للتوجع أنها رقم (51) فقرأها واحدًا وخَمسين واحدًا وخَمسين.
وهذا قليل من كثير مِمَّا يذكره أهل البلدان اليمنية وغيرها فِي حلقة شيخنا الْمَاتعة عند أن يقول لَهم: من يعرف شيئًا من عجائب الْخُطباء؟
وإنما ذلك يدل على انغماس الناس فِي الْجَهل بدينهم وعدم الاهتمام بالتفقه فيه، إلا من رحم الله.
* * * * *
قراءة سورة (ق)
فِي خطبة الْجُمعة
لِمَا أخرجه مسلم فِي صحيحه رقم (873):(1/205)
من حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله ص واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت +ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" [ق: 1]. إلا عن لسان رسول الله ص يقرؤها كل يوم جُمُعة على الْمِنبر إذا خطب. وفِي رواية له: يَخْطب بِهَا كل جُمعة(1).
قال النووي فِي شرح مسلم: فيه استحباب قراءة سورة (ق) أو بعضها فِي كل خطبة.
قال الشوكاني -رحِمه الله-: لا خلاف فِي استحباب قراءة شيء من القرآن فِي الْخُطبة إنمَا الْخِلاف فِي الوجوب.
* * * * *
الخطبة بالعربية
قال النووي فِي الْمجموع (4/391): فيه طريقان أصحهما -وبه قطع الْجُمهور- أنه يشترط فِي الْخُطبة أن تكون بالعربية، وإذا لَمْ يكن فيهم من لا يُحسن العربية جاز أن يَخْطب بلسانه مدة التعليم، فإن لَمْ يتعلم أحد منهم عصوا بذلك، ولا تنعقد لَهم جمعة. اهـ باختصار. وانظر التفسير الكبير لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/168-170).
باب خطبة الجمعة وغيرها تصح من المحدث حدثًا أصغر وأكبر
ذكر هذا ابن قدامة فِي الْمُغنِي (2/307) وأن السنة أن يَخْطب على طهارة مع صحة خطبته إن كان على غيرها، وهو قول مالك وأحْمَد وداود ووجه للشافعية كما فِي الْمُهذب مع الْمَجموع (4/385).
وقلنا: إن السنة والأفضل أن يكون على طهارة؛ لأن النَّبِي ص كان يَخْطب يوم الْجُمعة متطهرًا. كذا فِي الْمَجموع.
تشبيك الأصابع في وقت الذهاب للجمعة ووقت الخطبة
سبق فِي باب الإنصات ذكر أدلة كثيرة على وجوب الإنصات، والعبث ينافِي الإنصات الْمَأمور به فِي تلك الأحاديث؛ لهذا قال رسول الله ص: $ومن مس الْحَصى فقد لغا#.
وأخرج عبد الرزاق فِي مصنفه (3/214):
عن جريج، عن عطاء: أنه كره فِي يوم الْجُمعة والإمام على الْمِنبر العبث والتحريك والتثاؤب.
__________
(1) حديثها هذا مذكور في كتابنا: $الرياض المستطابة في مفاريد الصحابة# وفيه جواز تكرار الخطبة الواحدة في أكثر من جمعة.(1/206)
وفيه عن عكرمة: أنه كان ينهى عن تقليب الْحَصى، وتفقيع الأصابع يوم الْجُمعة والإمام يَخْطب.
وقال الشيرازي: ولا يشبك.
قال النووي: اتفق الأصحاب وغيرهم على كراهة تشبيك الأصابع فِي طريقه إِلَى الْمَسجد وفِي الْمَسجد يوم الْجُمعة وغيره وسائر أنواع العبث، ما دام قاصدًا للصلاة أو منتظرها.
قلت: أما حك موضع من جسمه غير مباشرة العورة أو مد رجله وكفتها ونَحو ذلك لِحاجة فلا بأس به -إن شاء الله- لأن ترك تلك الْحَركة قد يشق عليه؛ والله سبحانه يقول: +مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ" [الْمَائدة: 6]. ويقول: +يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر" [البقرة: 185].
وأيضًا تكلف امتناعه عن تلك الْحَركة قد يشغله عن فهم الْخُطبة وتعقلها. أما قول النووي وأصحابهم كراهة تشبيك الأصابع فقد بوب الإمام البخاري -رحِمه الله-، فِي صحيحه (1/565) بابًا يبطل هذا القول وذكر فيه جُملة من أحاديث النَّبِي ص، منها:
عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص صلَّى بِهم إحدى صلاتي العشي ركعتين وقام إِلَى خشبة معروضة فاتكأ عليها وشبك أصابعه.
وحديث عبد الله بن عمر أن النَّبِي ص قال له: $كيف بك إذا بقيت فِي حثالة من الناس هكذا# (وشبك بين أصابعه).
وحديث النعمان بن بشير أن النبِي ص قال: $الْمُؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه#.
قال الْحَافظ فِي الفتح: وقد وردت فِي النهي عن التشبيك مراسيل مسندة غير ثابتة ثُمَّ ذكر بعضها وضعفها.
قلت: فلا ينبغي لِمثلها أن تعارض ما فِي الصحيحين وغيرهما فِي جواز ذلك سواء فِي الْجُمعة وغيرها.
* * * * *
إنصات الحاضرين للخطبة
يوم الْجُمعة والحذر من اللغو فيها
أخرج الإمام مسلم فِي صحيحه رقم (857) من حديث أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال: $من توضأ فأحسن الوضوء ثُمَّ أتى الْجُمعة فاستمع وأنصت؛ غفر له ما بينه وبين الْجُمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الْحَصى فقد لغا#.(1/207)
وفي الصحيحين فيما تقدم تَخريْجه من حديث سلمان أن النبِيّ ص قال -وفيه-: $ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام؛ إلا غفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى#.
وتقدّم فِي أحاديث الْمُنتقى برقم (5) وهو فِي الصحيحين: أن الْمَلائكة إذا حضر الإمام طووا صحفهم واستمعوا الْخُطبة.
وأخرج أبو داود رقم (1051) من طريق عبد الرحْمن بن يزيد بن جابر وأحْمَد فِي مسنده (1/93) من طريق حجاج بن أرطأة كلاهما عن عطاء بن أبي مسلم الْخُراساني أنه حدثه مولَى امرأته عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: $إذا كان يوم الْجُمعة خرج الشياطين يريثون الناس إلَى أسواقهم ومعهم الرايات، وتقعد الْمَلائكة على أبواب الْمَساجد يكتبون الناس على قدر منازلِهم السابق والْمُصلي والذي يليه حتى يَخرج الإمام، فمن دنا من الإمام وأنصت واستمع ولَمْ يلغ؛ كان له كفلان من الأجر، ومن نأى عنه واستمع وأنصت ولَم يلغ؛ كان له كفل من الأجر، ومن دنا من الإمام فلغا ولَم ينصت ولَم يستمع؛ كان عليه كفلان من الوزر، ومن نأى عن الإمام فلغا ولَم ينصت؛ كان عليه كفل من الوزر، ومن قال: صه؛ فقد تكلم؛ ومن تكلم فلا جُمعة له#. ثم قال: هكذا سمعته من نبيكم. وعند أبي داود $ومن لغا فليس له من جُمعته تلك شيء#.
لكن الْحَديث ضعيف فيه مولَى امرأة عطاء الْخُراساني مبهم، ومن أجله ضعفه الْمُنذري فِي الترغيب والترهيب.
وأخرج البخاري رقم (934) ومسلم (851) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إذا قلت لصاحبك يوم الْجُمعة أنصت والإمام يَخطب؛ فقد لغوت#.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/532): اتفقت أقوال الْمُفسرين لقول الله تعالى: +وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا" [الفرقان: 72].
إن اللغو ما لا يَحسن من الكلام، وقال النضر بن شميل: معنى لغوت فِي الْحَديث: خبت من الأجر، وقيل: بطلت فضيلة جُمعتك، وقيل: صارت جُمعتك ظهرًا.(1/208)
قال الْحَافظ: أقوال أهل اللغة متقاربة الْمَعنى، ويشهد للقول الأخير ما رواه أبو داود (347)، وابن خزيْمة (3/156) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا $ومن لغا وتَخطى رقاب الناس كانت له ظهرًا#.
قال ابن وهب -أحد رواته- معناه: أجزأت عنه الصلاة وحرم فضيلة الْجُمعة. اهـ الْمُراد من الفتح.
قلت: سند الْحَديث عند أبِي داود وابن خزيْمة بالرقمين السابقين من طريق ابن وهب قال: أخبرني أسامة -يعنِي: ابن زيد الليثي-، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله ص... فذكر الْحَديث.
وهذا سند يقبل التحسين؛ فأسامة بن زيد الليثي روى له مسلم فِي الشواهد مِمَّا يرويه عنه ابن وهب، وهي نسخة من كتاب صالِحة للحجية، وقال عنه الْحَافظ فِي التقريب: صدوق يهم.
وأخرج أحْمَد (1/230)، والبزار كما فِي كشف الأستار (644)، والطبراني فِي الكبير (12/90) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: $من تكلم يوم الْجُمعة والإمام يَخطب فهو كالْحِمار يَحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت ليست له جُمعة#. والْحَديث ضعيف.
قال الْهَيثمي فِي الْمَجمع (2/184): فيه مُجالد بن سعيد ضعفه الناس.
قلت: وهو كما قال؛ فإن مدار الْحَديث عند من تقدم ذكرهم على عبد الله بن نُمير، عن مُجالد بن سعيد، عن الشعبِي عامر بن شراحيل، عن ابن عباس - رضي الله عنه - ... فذكر الْحَديث.
قال البزار: لا نعلمه بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد تفرد به ابن نُمير عن مُجالد. اهـ.
قلت: ومُجالد هذا ضعيف لكنه يصلح فِي الشواهد فليس الضعف فيه بشديد.
والشاهد من هذا الْحَديث لِمَا قبله قوله: $والذي يقول له: أنصت ليست له جُمُعة#. فهي صالِحة للحجية، وما عداها من اللفظ ضعيف؛ لعدم ما يشهد له.(1/209)
وأخرج البزار (1/308) كشف الأستار قال: حدثنا إبراهيم بن زياد قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا حَماد بن سلمة، عن مُحَمَّد بن عمرو، عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: $خطبنا النَّبِي ص يوم الْجُمعة فذكر سورة فقال أبو ذر لأبُي بن كعب: متى أنزلت هذه السورة؟ فأعرض عنه فلما انصرف قال: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فسأل النَّبِي ص فقال: صدق#.
قلت: وسنده حسن؛ فإبراهيم بن زياد وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم، والأسود بن عامر هو الْمُلقب بشاذان قال ابن الْمَديني: ثقة ومُحمَّد بن عمرو بن علقمة صدوق، وباقي رجال السند ثقات.
وأخرجه عبد الله بن أحمد فِي زوائد الْمُسند (5/143) فقال: حدثنِي مصعب بن عبد الله بن الزبير قال: حدثنا عبد العزيز بن مُحَمَّد، عن شريك بن عبد الله بن أبِي نَمر، عن عطاء بن يسار، عن أُبَِي بن كعب... فذكر الْحَديث من حديث أُبَِي بن كعب.
وأخرجه ابن ماجه من طريق عبد العزيز بن مُحَمَّد وهو الدراوردي عن شريك بن عبد الله به، والْحَديث صحيح بِمَا تقدم قبله؛ لأن هذا الطريق منقطعة بين عطاء وبين أُبي فهو لَم يدرك أُبيًّا فقد ولد عطاء في العام الذي مات فيه أُبي، وذكر صاحب $تُحفة التحصيل# أنه لَم يسمع من أبي ذر وعدم سماعه من أُبي من باب أولَى، فتبين أن معنَى $لا جمعة له#. فِي حديث أبِي هريرة، أي: ليس له أجر الْجُمعة، ولا يغفر له ما بينه وبين الْجُمعة الأخرى، وأما صلاته فصحيحة، لكن تكتب له ظهرًا كما تقدم.
قال الْحَافظ: قال العلماء: معناه لا جُمعة له كاملة للإجْماع على إسقاط فرض الوقت عنه. اهـ من الفتح (2/533).(1/210)
وقال النووي فِي شرح مسلم (6/387): ففي الْحَديث النهي عن جَميع أنواع الكلام حال الْخُطبة ونبه بقول (أنصت) على ما سواه؛ لأنه إذا قال أنصت وهو فِي الأصل أمر بِمعروف وسماه لغوًا فغيره أو يسيره من الكلام أولى، وإنما طريقه إذا أراد نهي غيره عن الكلام أن يشير إليه بالسكوت إن فهمه وإن تعذر فلينهه بكلام مُختصر ولا يزد على أقل مُمكن. اهـ.
فقد ثبت فِي حديث أُبَِي بن كعب عند أحْمَد (5/143)، وابن ماجه (1111) فيما قدمنا أن أبيًّا لَمَّا قال له أبو ذر: متى نزلت هذه السورة؟ وكان النَّبِي ص يَخطب أشار له أُبَِي بن كعب أن اسكت، وما وجد لأبي مُخالف ولا منكر، لاسيما وهو فِي زمن نزول الوحي، فلو أن أبيًّا أخطأ لألْهم الله نبيه التنبيه على ذلك الْخَطأ.
فالإشارة جائزة كما قال النووي -رحِمه الله-، وأما الكلام قليلاً أو كثيرًا وإن كان لِحاجة فعموم الأدلة على أنه مبطل لأجر الْجُمعة، ونقل النووي هنا وغيره أيضًا عن عامة العلماء أنه يَجب الإنصات للخطبة.
تنبيه: إذا كان الْخَطيب يهذو من جرائد ومَجلات أو نشرات أخبار ونَحوها بكلام لا ذكر فيه من كتاب الله ولا من سنة رسوله؛ فإن جَمعًا من أهل العلم يرون عدم الإنصات لِمثل هذه الْخُطب. نقل ذلك النووي (6/453) عن النخعي والشعبِي وبعض السلف.
وعقد الإمام عبد الرزاق فصلاً فِي مصنفه (3/212) فقال: باب ما أوجب الإنصات ثُمَّ قال: عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما أوجب الإنصات؟ قال: قوله تعالى: +وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا" [الأعراف: 204].
قال: كذلك زعموا فِي الصلاة وفِي يوم الْجُمعة قال: قلت: الإنصات لمن يستمع الْخُطبة كالإنصات لِمن يستمع القرآن؟ قال: نعم.(1/211)
وقال معمر: سئل الزهري عن التسبيح والتكبير والإمام يَخطب قال: كان يؤمر بالصمت. قال: قلت: إذا ذهب الإمام فِي غير ذكر الله فِي الْجُمعة قال: تكلم إن شئت. قال معمر وقال قتادة: إن أحدثوا فلا تُحدث.
وعن ابن جريج عن عطاء قال: يَحرم الكلام ما كان الإمام على الْمِنبر، وإن ذهب فِي غير ذكر الله. اهـ.
وأنت ترى فِي الْمَسألة خلافًا، والظاهر أن الإنصات لا يَجب إلا لذكر الله، أما اللغو فإن الله سبحانه قد أثنى على من لَمْ يستمعه فقال T فِي سياق مدح الْمُؤمنين: +وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا".
وقال تعالى: +وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاََ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ" [القصص: 55].
ومن صفات الْمُؤمنين الْمَذكورة فِي سورة الْمُؤمنين: +وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" [الْمُؤمنون: 3]. وقال الراغب الأصفهاني فِي تعريف اللغو من كتابه مفردات القرآن: اللغو من الكلام ما لا يعتد به وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مَجرى اللغا وهو صوت العصافير ونَحوها من الطيور.
قال أبو عبيد: ويسمى كل كلام قبيح لغوًا. انتهى كلام الراغب باختصار.
قال الْحَافظ فِي الفتح (2/414): قال الأخفش: لغو الكلام الذي لا أصل له، من الباطل وشبهه، وقال ابن عرفة: اللغو: السقط من القول، وقيل: الْمَيل عن الصواب. وقال ابن الْمُنير: اتفقت أقوال الْمُفسرين على أن اللغو ما لا يَحسن من الكلام. اهـ.
قلت: فما كان من ذلك الكلام الذي فيه ميل عن الصواب وفيه باطل أو شبه باطل؛ فهذا لا ينبغي سماعه فِي جُمعة ولا غيرها؛ للأدلة الَّتِي قدمنا ذكرها مع أقوال بعض السلف فِي ذلك.(1/212)
فإذا ابتلي أحد بِمثل هذا الْخَطيب يومًا من الأيام؛ فليشتغل بذكر الله فِي نفسه ويعرض عن اللغو بسمعه وقلبه قدر الْمُستطاع، فإن مفسدة سماع الباطل أعظم من مصلحة الإنصات، لاسيما لِمثل ذلك الكلام فهو وإن لَمْ يَحصل له أجر الْجُمعة؛ فسلامته من سماع الإثم تعتبر مغنمًا، وعسى الله أن يأجره على إنكار الْمُنكر بقلبه وبغضه للباطل وأهله.
وأذكر بعض الأمثلة على تلك الْخطبة الَّتِي لا ينبغي سماعها:
ما يَحصل من الرافضة من سب أصحاب رسول الله ص وإنكار صفات الله T كالرؤية والعلو والاستواء وغيرها مِمَّا هو على طريقة الْمُعتزلة والقول بِخلود الْمُوحدين فِي النار وعدم الشفاعة فيهم.
والدعوة إِلَى الْحِزبية الْمُنافية للاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله، والنائية عن حزبه الْمُفرد، وكالدعوة إِلَى الانتخابات والديْمقراطيات، فمثل هذه الْخُطب لا ينبغي سماعها كما لا ينبغي سماع خطب فيها الْحَث على فعل الزنا والربا وشرب الْخُمور وغيرها من الْمُحرمات فهي كسماع الْخَوض فِي آيات الله الَّتِي يقول الله عنها: +وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاََ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [الأنعام: 68].
* * * * *
قول أما بعد فِي الخطبة بعد الحمد والثناء
ذكرنا فِي باب خطب النَّبِي ص حديث أسماء رقم (1)، وفيه: أن النَّبِي ص خطب الناس فحمد الله بِمَا هو أهله ثُمَّ قال: أما بعد فإنه ما من شيء لَمْ أكن رأيته إلا قد رأيته فِي مقامي هذا.... إلخ.
وحديث عمرو بن تغلب رقم (2) وفيه: أن النَّبِي ص لَما بلغه أن الذين لَمْ يعطهم عتبوا، حمد الله وأثنى عليه ثُمَّ قال: أما بعد، وهكذا فِي جَميع خطبه الَّتِي ذكرناها هنا وغيرها.
قال ابن القيم -رحِمه الله- فِي زاد الْمَعاد (1/186):(1/213)
وكان لا يَخطب خطبة إلا افتتحها بِحمد الله، وأما قول كثير من الفقهاء أنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيدين بالتكبير، فليس معهم فيه سنة عن النَّبِي ص ألبتة، وسنته تقتضي خلافه: وهو افتتاح جَميع الْخُطب بالْحَمد لله. اهـ.
وقال الشافعي -رحِمه الله-: لا تصح الْخُطبتان إلا بِحمد الله والصلاة على رسوله فيهما، والوعظ، وقراءة شيء من القرآن.
وقال جمهور العلماء: يكفي فِي الْخُطبة ما يقع عليه الاسم أنه خطبة.
وتَحقيق القول فِي الْمَسألة:
أن الله سبحانه أمر بالسعي إِلَى ذكر الله فقال تعالى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]. وحرم عليهم بعض الْمُباحات الَّتِي تشغل عن حضور الْجُمعة كالبيع ونَحوه مِمَّا تقدم ذكره.
وما أوجب الله T السعي إِلَى ذلك الذكر إلا لوجوبه، ولأن من أجله شرعت صلاة الْجُمعة، وهذا الذكر الذي أوجبه الله بوجوب السعي إليه والإنصات له وتَحريم ما يشغل عنه أبانه رسول الله ص بفعله؛ فكان لا يَخطب خطبة إلا حَمد الله وأثنى عليه وقرأ شيئًا من القرآن ووعظ.
فهذه الأمور فِي الْخُطبة واجبة، فهي الذكر الْمَأمور به فِي الْخُطبة كما أبانه رسول الله ص بفعله، فمن القرآن ما يبينه الله فِي القرآن، ومنه ما يترك بيانه لنبيه ص ليدلل على نبوته. راجع لذلك كتاب الرسالة للإمام الشافعي -رحِمه الله- باب البيان.
وقد كان -عليه الصلاة والسلام- يقول فِي الْحَج: $خذوا عنِّي مناسككم#.
وقال: $صلوا كما رأيتموني أصلي#، فهذه الأمور لا تقوم الْخطبة إلا عليها:
الْحَمد والثناء، والوعظ، وقراءة شيء من القرآن هذا هو الراجح --إن شاء الله-- وانظر شرح النووي على صحيح مسلم (6/399)، وزاد الْمَعاد لابن القيم (1/398).
أما قول الْخَطيب: أما بعد:(1/214)
فهذه سنة قالَها رسول الله ص فِي أكثر خطبه، وانظر الأحاديث التي ذكرناها فِي فصل: خطب النبِي ص، وليست هي من الذكر الذي تقوم به الْخُطبة حتى يشملها القول بالوجوب.
إعرابها ومعناها:
أما: حرف تفصيل على غالب أحوالِها؛ قال تعالَى: +فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهَُ بِهَذَا مَثَلاًََ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاََّ الْفَاسِقِينَ" [البقرة: 26]. ومن ذلك قوله تعالَى: +فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ" [النساء: 175]. وقوله: +وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا" [البقرة: 26].
وذكر ابن هشام -رحِمه الله- أمثلة كثيرة من القرآن على $أما#. هذه التفصيلية فِي كتابه الْمَاتع مغنِي اللبيب (1/56-57).
وبعد ظرف مكان مبني على الضم إذا حذف الْمُضاف إليها ونوي معناه، وهكذا إعراب كل الْجِهات الست، وهي: فوق وتَحت وقبل وبعد ويَمين وشمال.
قرر هذا ابن هشام -رحِمه الله- فِي قطر الندى (ص29) بتعليق مُحَمَّد مُحيي الدين.
فإذا قيل أما بعد: فأما تكون نائبة عن $مهما# الشرطية الْمحذوفة وفعلها، و$بعد#. ظرف مكان كما تقدم، والتقدير: مهما يكن من شيء بعد، فإني أذكر لكم كذا وكذا، فهي يؤتى بِهَا للانتقال من الْحَمد والثناء على الله T إِلَى الْمَوضوع. انظر شرح الْمتممة (24).
وهم يقولون: يؤتى بِهَا للانتقال من أسلوب إِلَى أسلوب آخر، والتعبير بِمَا قدمنا أولى، لأن الْحَمد والثناء ليس مُجرد أسلوب وإنما هو ذكر وعبادة لفظية ليست مُجرد أسلوب من أساليب اللغة.(1/215)
أما أول من قالَها ففيه خلاف، قيل: هو فصل الْخِطاب الذي أوتيه داود -عليه الصلاة والسلام- وقيل: أول من قالَها: يعرب بن قحطان، وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: غير ذلك، ولَم أجد دليلاً أرجح به قولاً من تلك الأقوال، فالله أعلم بأول من قالَها. وانظر لذلك فتح الباري للحافظ ابن حجر (2/520).
قال الإمام ابن رجب -رحِمه الله- فِي فتح الباري شرح صحيح البخاري -بعد ذكر جملة من الأحاديث عن النَّبِي ج فِي كتاب الْجُمعة من صحيح البخاري فِي ذلك- قال: فدلت هذه الأحاديث كلها أن الْخُطب كلها سواء كانت للجمعة أو لغيرها وسواء كانت على الْمِنبر أو على الأرض أو كانت من جلوس أو قيام، فإنها تبتدئ بِحمد الله والثناء عليه بِمَا هو أهله، ثُمَّ يذكر بعد ذلك ما يَحتاج إِلَى ذكره، ويفصل بين الْحَمد والثناء وبين ما بعده بقوله $أما بعد#. اهـ.
قلت: وعلى هذا عمل جَميع الْمُسلمين أنهم يفتتحون خطبهم ومواعظهم فِي الْجُمعة وغيرها بِحمد الله والثناء عليه.
وللأسف فإن بعض الناس الآن من جهلة الْمُسلمين والببغاوات الْمُقلدين -هداهم الله- قد تأثروا بسماع خطب الْمَلاحدة من شيوعية وغيرهم؛ فتراه يفتتح خطابه للناس ومُحاضراته لَهم بقوله: باسمي وباسمكم، أو باسمي وباسم الشعب، أو نَحو تلك الألفاظ الْمُنكرة البتراء.
وقد ثبت فِي سنن أبِي داود (13/185) عون الْمَعبود، وسنن الترمذي (4/239) تُحفة الأحوذي ومسند الإمام أحْمَد (2/342) وابن أبِي شيبة فِي الْمُصنف (9/115) من طريق عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الْجَذماء#.(1/216)
والباء: تأتي هنا للاستعانة، كما فِي إعراب القرآن للدرويش (1/9)؛ فإذا قلت قبل كلامك: باسم الله. فالتقدير: أتكلم مستعينًا باسم الله؛ فيكون معنى كلام ذلك الْجَاهل: باسمي وباسمكم وباسم الشعب ونَحو ذلك أتكلم مستعينًا باسمي وباسمكم، فهذا لفظ شركي؛ فإن الاستعانة فِي مثل هذا لا تكون إلا بالله T، فهي عبادة من أجل العبادات؛ قال تعالَى: +إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" [الفاتحة: 5].
ومن خطب النَّبِي ص الَّتِي قدمنا ذكرها أنه قال: $الْحَمد لله نَحمده ونستعينه#. وغالب من يستفتح بذلك الاستفتاح الْمَقبوح من الْمُسلمين هم الْجُهال الذين يهرون بِمَا لا يدرون، فهذا اللفظ وإن كان شركًا لكن قائله مِمَّن هذا حاله لا نَحكم عليه بذلك، إنَّمَا نقول عنه كما فِي الْمَثل الْمَضروب: (أضل من حِمار أهله).
* * * * *
قول الخطيب: أيها الناس
كما تقدم من حديث الْحَكم بن حزن رقم (32):
من باب خطب النَّبِي ص أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: $أيها الناس، إنكم لن تفعلوا ولن تطيقوا كل ما أمرتُم به، ولكن سددوا وأبشروا#.
وفِي حديث ابن عباس رقم (35) من باب خطب النَّبِي ص أن النَّبِي ص قام فيهم بِموعظة فقال: $أيها الناس؛ إنكم مَحشورون إِلَى الله حفاة عراة غرلاً#. وذكر تَمام الْحَديث.
وفِي حديث زيد بن أرقم رقم (40) أن النَّبِي ص قام فيهم خطيبًا فقال: $أيها الناس؛ إنمَا أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتينِي رسول ربي فأجيب#.
وما اعتاده بعض الْخُطباء من قولِهم: أيها الإخوة، أو أيها الأحباب لَمْ أجد له دليلاً، ولسنا نرى هذا اللفظ بدعة لقول الله تعالى: +إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الْحُجرات: 10]. وقول النبِي ص: $الْمُؤمن أخو الْمُؤمن#. ولكن ينبغي للخطيب أن يتحرى هدي رسول الله ص؛ فإن خير الْهَدي هديه.
* * * * *
هل يستغفر الخطيب
إذا جلس من الخطبة الأولى(1/217)
أخرج ابن حبان (9/137) رقم (3828) من الإحسان قال: حدثنا مكحول ببيروت قال: حدثنا مُحَمَّد بن عبد الله بن يزيد قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا موسى بن عقبة(1)، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر ب قال: $طاف رسول الله ص على راحلته القصوى يوم الفتح، واستلم الركن بِمحجنه، وما وجد لَها مناخًا فِي الْمَسجد، حَتَّى أخرجت إِلَى بطن الوادي فأنيخت، ثُمَّ حَمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عُبَّية الْجَاهلية، أيها الناس إنمَا الناس رجلان بر تقي كريم على ربه، وفاجر شقي هين على ربه، ثُمَّ تلا: +يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا" [الْحُجرات: 13]. ثُمَّ قال: أقول قولي هذا واستغفروا الله لي ولكم#.
وأخرجه البغوي فِي شرح السنة (13/123) وفِي تفسيره عند آية (13) من سورة الْحُجرات.
من طريق الضحاك بن مَخلد، عن موسى بن عبيدة الربذي، عن عبد الله بن دينار... به، وأورده ابن كثير فِي تفسيره عند الآية، عن الربيع بن سليمان قال: حدثنا أسد بن موسى قال: حدثنا يَحيى بن زكريا القطان قال: حدثنا موسى بن عبيدة الربذي... به.
__________
(1) كذا قال موسى بن عقبة، وهو كذلك فِي تفسير ابن مردويه فيما ذكره الْحَافظ، وقد روى موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار وروى عنه عبد الله بن رجاء، لكن الْحَافظ انتقد هذه الطريق فقال: رواية عبد الله بن رجاء عن موسى بن عقبة؛ وَهْمٌ فِي قوله موسى بن عقبة، إنمَا هو موسى بن عبيدة، وابن عقبة ثقة وابن عبيدة ضعيف، وهو معروف برواية موسى بن عبيدة، كذلك أخرجه ابن أبِي حاتِم وغيره. اهـ. من الفتح (6/527) فِي أول كتاب الْمَناقب.(1/218)
وأخرجه الترمذي (5/389) فقال: حدثنا علي بن حجر قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر... فذكر الْحَديث بدون زيادة $أقول قولي هذا واستغفروا الله#.
ثُمَّ ضعف الْحَديث بعبد الله بن جعفر والد علي بن الْمَدينِي وقال: لا نعرفه من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر إلا من هذا الوجه.
فالناظر إِلَى الْحَديث بداية يرى أنه رواه عن عبد الله بن دينار موسى بن عقبة عند ابن حبان. وموسى بن عبيدة الربذي عند ابن كثير والبغوي. وعبد الله بن جعفر الْمدينِي عند الترمذي مُختصرًا بدون زيادة الاستغفار، ولكن الصحيح أنه حديث موسى بن عبيدة الربذي؛ كما أبان ذلك الْحَافظ، وأن قول بعضهم موسى بن عقبة وَهْمٌ، وموسى بن عبيدة الربذي ضعيف حَتَّى قال فيه ابن معين: ليس بشيء، ويشتد ضعفه فِي روايته عن عبد الله بن دينار الَّتِي منها هذا الْحَديث، قال ابن معين ليس بالكذاب، لكنه روى عن عبد الله بن دينار أحاديث مناكير. كذا فِي التهذيب.
وتلك الرواية الَّتِي ذكرها الترمذي فِي جامعه ليس فيها ذكر الاستغفار، وحتى لو ذكر فيها الاستغفار فهي ضعيفة، كما أبانه الترمذي؛ لأنها من طريق عبد الله بن جعفر والد علي بن الْمَدينِي وهو ضعيف حَتَّى قال ابن معين: ليس بشيء كما فِي التهذيب، فلا تصلح أن تكون شاهدة لرواية موسى بن عبيدة الربذي؛ فعلم أن الْحَديث ضعيف من كلتا الطريقين.
ولا يعكر ذلك قول الترمذي -رحِمه الله- أنه لا يعرفه إلا عن عبد الله بن جعفر الْمَدينِي عن ابن دينار عن ابن عمر من هذا الوجه.
فقد عرفه ابن حبان والبغوي وابن أبِي حاتِم -كما فِي تفسير ابن كثير- من تلك الطرق الَّتِي ذكرنا.
ومن ذلك يظهر أن قول بعض الْخُطباء فِي الْجَلسة بين الْخُطبتين للجمعة: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ مُحدث.
فإذا أراد أن يقول ذلك فليقل فِي آخر الْخُطبة الثانية ما أخرجه أحْمَد فِي مسنده (6/77).(1/219)
فقال: حدثنا أبو سلمة قال: حدثنا خالد بن سليمان الْحَضرمي، عن خالد بن أبِي عمران، عن عروة، عن عائشة ل أن رسول الله ص: $كان إذا جلس مُجلسًا أو صلى تكلم بكلمات؛ فسألته عائشة عن الكلمات، فقال: إن تكلم بِخير كان طابعًا عليهن إِلَى يوم القيامة، وإن تكلم بغير ذلك كان كفارة: سبحانك وبِحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك#. وهذا سند صحيح.
وقد ذكر الْحَافظ ابن حجر -رحِمه الله-: أن هذا الْحَديث قد جاء عن خَمسة عشر (شخصًا) من الصحابة. انظر الفتح (13/544-545) عند شرح آخر حديث من صحيح البخاري.
قلت: لكن أكثرها معلة كما بينه الْحَافظ وغيره، وحتى حديث ابن عمر الذي من طريق الربذي ومن طريق عبد الله بن جعفر على ضعفه الْمَذكور ليس فيه أن النَّبِي ص قال ذلك الاستغفار بين الْخُطبتين إنمَا فيه أنه قاله فِي آخر كلامه.
فيكون شاهدًا لِما استدللنا به من حديث عائشة ل: أن الاستغفار إنمَا يكون فِي آخر الكلام، أما ملازمة قوله بين الْخطبتين فهو مُحدث كما سيأتي ذكره -إن شاء الله- فِي فصل بدع الْجُمعة.
ولو قال النَّبِي ص ذلك فِي خطبه لنقل إلينا كما نقلت ما دونها من السنن والآداب وعدم نقل ذلك من طريق صحيح يكفي فِي أنه مُحدث، ولَم أر ثابتًا عن السلف أو عن بعضهم فِي ذلك شيء بعد النظر فِي مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبِي شيبة، والكبرى للبيهقي، والأوسط لابن الْمُنذر، ومَجمع الزوائد للهيثمي، مع ما هو معلوم من عنايتهم بذكر الآثار؛ وهذا مِمَّا يؤكد ما تقرر هنا -إن شاء الله-.
هل الخطبتان شرط
فِي صلاة الْجُمعة فإن لَمْ يخطبوا
صلوا ظهرًا
نقل الإجْمَاع على ذلك ابن عبد البر فِي الاستذكار ونقله النووي فِي شرح مسلم (6/461) عن القاضي عياض.(1/220)
وليس بصحيح فإن فيه خلافًا ذكره أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فِي الْمُحلى (5/57) فما بعدها، وقال: إنها مستحبة وليست شرطًا ولا واجبة وجُمهور أهل العلم أنها شرط فِي صحتها كما فِي بداية الْمُجتهد (1/386)، واستدلوا بالآية: +فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]. وبأنه ص لَمْ يعهد منه بل ولا من أحد من أصحابه ولا غيرهم أنهم صلوا جُمعة بغير خطبة.
ومن الْمَعلوم أن الله سبحانه أوجب السعي والاجتماع يوم الْجُمعة لذكر الله، ولا يوجب شيئًا إلا لِما هو مثله أو أوجب منه، ونهى فيها عن الكلام والعبث، وأمر فيها بالإنصات، ومن تكلم يوم الْجُمعة بطل أجر جُمعته، كما تقدم بيانه، وهذه الأمور قرائن تدل على اشتراط خطبة الْجُمعة لصلاتها.
والْحَق: أنه لا دليل على الشرطية ولا صريح على الوجوب، وإنما الْمَقطوع به من فعل النَّبِي ص ومداومته على ذلك مع قول الله تعالى: +فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63]. فأمره الذي سار عليه: هو عدم صلاة الْجُمعة بغير خطبة؛ ولِهذا لَمَّا كان فِي أسفاره لا يقيم جُمعة كان يصلي ظهرًا فِي يوم عرفة، وهذا واضح عند التأمل.
فالظاهر هو ما قاله جُمهور أهل العلم -رحْمَة الله عليهم-: أن الْخُطبة شرط للجمعة فإن لَمْ تَحصل خطبة صلوا ظهرًا، وسلك الشوكاني فِي النيل (3/302) مسلك الظاهرية فِي عدم الوجوب، ومِمَّا ذكرناه رجح لنا قول الْجُمهور، وانظر شرح النووي على مسلم (6/461) والأوسط لابن المنذر (4/59).
ساعة الإجابة يوم الْجُمعة
تقدم فِي أحاديث الْمُنتقى رقم (1) و(5) وهو عند البخاري رقم (935) ومسلم (852) من حديث أبِي هريرة أن النَّبِي ص قال: $إن فِي الْجُمعة ساعة لا يوافقها رجل يصلي فيدعو الله بِخير إلا أعطاه#. اهـ، وأشار بيده يقللها.(1/221)
وأخرج أحمد فِي مسنده (3/430) وابن ماجه فِي سننه رقم (1084) من حديث أبي لبابة بشير بن عبد الْمُنذر أن النبِي ص قال: $سيد الأيام يوم الْجُمعة قال: وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئًا إلا آتاه الله إياه؛ ما لَمْ يسأل حرامًا#. وسنده حسن فِي الشواهد.
وأخرج ابن ماجه (1/360) من حديث عبد الله بن سلام قال: قلت -ورسول الله ص جالس-: إنا لنجد فِي كتاب الله فِي يوم الْجُمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله فيها شيئًا إلا قضى له حاجته، قال عبد الله: فأشار إِلَى رسول الله ص أو بعض ساعة قلت: أي ساعة هي؟ قال: آخر النهار. قلت: إنها ليست ساعة صلاة. قال: بلى إن العبد الْمُؤمن إذا صلى ثُمَّ جلس لا يَحبسه إلا الصلاة فهو فِي الصلاة#. وسند هذا الْحَديث حسن.
وجاء عند الترمذي (2/360) من حديث أنس بن مالك أن النَّبِي ص قال: $التمسوا الساعة الَّتِي ترجى فِي يوم الْجُمعة بعد صلاة العصر إِلَى غيبوبة الشمس# وضعفه من أجل مُحمَّد بن أبي حُميد، قال البخاري: منكر الْحَديث.
وتقدم فِي تسمية الْجُمعة من حديث أنس أن النبِي ص قال: $فيها ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه#. وسنده حسن بشواهده.
وأخرج الترمذي (2/362) فقال: حدثنِي إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا معن بن عيسى، عن مالك بن أنس، عن يزيد بن الْهَاد، عن مُحَمَّد بن إبراهيم، عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة وذكر الْحَديث الذي تقدم فِي أول الباب من الصحيحين، وزاد الترمذي وابن ماجه رقم (1139) أن أبا هريرة قال: لقيت عبد الله بن سلام فذكرت له الْحَديث. فقال: أنا أعلم بتلك الساعة، فقلت: أخبرني بِهَا. قال: هي بعد العصر إِلَى أن تغرب الشمس. قلت: كيف تكون بعد العصر وقد قال رسول الله ص: $لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي وتلك ساعة لا يصلى فيها#؟(1/222)
فقال ابن سلام: أليس قد قال النَّبِي ص: $من جلس مَجلسًا ينتظر الصلاة فهو فِي صلاة؟# قلت: بلى قال: هو ذاك.
وأخرج أبو داود (1048) والنسائي (3/99-100) من حديث جابر أن النبِي ص قال: $التمسوها آخر ساعة بعد العصر#. وتقدم بيان حال الْحَديث فِي باب فضل الْجُمعة أنه حسن.
وأخرج الأصفهاني فِي ترغيبه رقم (880) من حديث أبي سعيد الْخَدري أن النبِي ص قال: $الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الْجُمعة: آخر ساعة يوم الْجُمعة قبل غروب الشمس#. وذكره الْمُنذري فِي الترغيب (1/554)، وصدره بصيغة التمريض مشيرًا إلى ضعفه.
وذكر العلامة الشوكاني -رحِمه الله- فِي النيل الاختلاف فيها على ثلاثة وأربعين قولاً ثُمَّ قال: ولا شك أن الأحاديث فِي كونها بعد العصر أرجح لكثرتها واتصالِها بالسماع، وأنه لَمْ يُختلف فِي رفعها والاعتضاد كونه قول أكثر الصحابة، ففيها أربعة مرجحات. اهـ الْمُراد من نيل الأوطار (2/514).
قلت: ونَحن بِحمد الله لَمْ نعول على تلك الأحاديث والأقوال الْمُعارضة لِهذا القول، فقد ذكر منها الْهَيثمي -رحِمه الله- جُملة فِي مَجمع الزوائد (2/165-167) أرجحها ما ذكرناه ولله الْمِنة، وقد رجحه الإمام أحْمَد، وابن القيم فِي زاد الْمَعاد (1/390) ونقله الشوكاني فِي النيل بالرقم السابق عن خلق كثير من الصحابة وغيرهم.
* * * * *
بدع ومنكرات الجمعة
بدع ومنكرات الْجُمعة
1- تَخصيص يوم الْجُمعة بصيام من بين الأيام:
قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالى- رقم (1985): باب صوم يوم الْجُمعة وإذا أصبح صائمًا يوم الْجُمعة فعليه أن يفطر: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن عبد الْحَميد بن جبير بن شيبة، عن مُحَمَّد بن عباد قال: سألت جابرًا - رضي الله عنه - : أنَهى النَّبِي ص عن صوم يوم الْجُمعة؟ قال: نعم.
زاد غير أبِي عاصم: أن ينفرد بصومه، زاد مسلم: قال: نعم، ورب هذا البيت.(1/223)
وقال -رحِمه الله- رقم (1985): حدثنا عمر بن حفص بن غياث: حدثنا أبِي: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالِح، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النَّبِي ص يقول: $لا يصومن أحدكم يوم الْجُمعة، إلا يومًا قبله أو بعده#.
وأخرجه مسلم رقم (1144)، وله بلفظ: أن النَّبِي ص قال: $لا تَخصوا يوم الْجُمعة بصيام من بين الأيام إلا من له صوم يصومه#(1).
وأخرج البخاري رقم (1986) من حديث جويرية بنت الْحَارث ل: أن النبِي ص دخل عليها يوم الْجُمعة وهي صائمة، فقال: $أصُمت أمس؟# قالت: لا، قال: $تريدين أن تصومي غدًا؟# قالت: لا، قال: $فأفطري#.
قلت: فهذه الأدلة فيها النهي الصريح عن تَخصيص يوم الْجُمعة بصيام من بين سائر الأيام، ونقل الإمام النووي -رحِمه الله- الاتفاق على كراهية ذلك فِي $شرح مسلم# (ج7 ص267) رقم (1144).
__________
(1) انتقده الدارقطنِي فِي التتبع (200-201) بتحقيق شيخنا -رحِمه الله- فقال لا يصح عن أبِي هريرة وإنما رواه ابن سيرين، عن أبِي الدرداء فِي قصة طويلة لسلمان وأبِي الدرداء ورواه أبو هشام وغيرهما كذلك... وكل من قال فيه عن أبِي هريرة إنمَا رواه عن ابن سيرين، قيل ذلك عن عوف وقيل عن ابن عيينة عن أيوب، ولا يصح عنهما، وأعله أبو حاتِم وأبو زرعة، كما فِي العلل لابن أبِي حاتِم (1/198)، ورجحا أنه من مراسيل مُحَمَّد بن سيرين عن النَّبِي ص ليس فيه ذكر النَّبِي ص، ولكنه جاء من حديث أبِي الدرداء: أن النَّبِي قال له:$يا أبا الدرداء لا تخص ليلة الْجُمعة بقيام... ولا يوم الْجُمعة بصيام #، لكنه قال أبو حاتِم: ابن سيرين ما أظنه سمع من أبِي الدرداء، كذا فِي جامع التحصيل للعلائي -رحِمه الله-. رجاله ثقات غير عاصم فصدوق.(1/224)
قلت: والكراهية الْمَذكورة هنا إن عُنِي بِهَا كراهية التحريم فنعم، وقد قال بذلك ابن الْمُنذر -رحِمه الله- فيما نقله عنه الْحَافظ فِي $الفتح# قال: ثبت النهي عن صوم يوم الْجُمعة كما ثبت عن صوم يوم العيد، وزاد يوم الْجُمعة الأمر بفطر من أراد إفراده بالصوم. اهـ.
وقال الطبري: يفرَّق بين العيد والْجُمعة: بأن الإجْمَاع منعقد على تَحريم صوم يوم العيد، ولو صام قبله أو بعده بخلاف الْجُمعة؛ فالإجْمَاع منعقد على جواز صومه لِمَن صام قبله أو بعده.
ونقل ابن حزم فِي $الْمُحلى# م(795) القول بالتحريم عن علي، وأبي هريرة، وسلمان، وأبي ذر، ثم لا نعلم لَهم مُخالفًا من الصحابة، وبالتحريم قال الصنعاني فِي $سبل السلام# (ج4 ص170)، وصديق حسن خان فِي $الروضة# (ج1 ص564).
وذهب الْجُمهور إلى أن النهي عن إفراده بالصوم للتَّنْزيه، وعن مالك وأبي حنيفة لا يكره. والراجح: ما ذكرناه بأدلته الثابتة أن النهي عن ذلك للتحريم، وهذا هو الأصل فيه حتى يرد الصارف، ولَم يذكر أهل العلم هنا صارفًا معتبرًا يُخرجه عن ظاهره.
وأما حديث ابن مسعود عند أحْمَد (ج1 ص406)، والترمذي (742)، والنسائي (ج4 ص204) من طرق: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله ص يصوم ثلاثة أيام من غرة كل هلال، وقلما يفطر يوم الْجُمعة، فهو حديث سنده حسن لكنه لا يتعارض مع ما مضى من أدلة النهي، فهو مَحمول على أنه كان يصوم قبله أو بعده جَمعًا بين الأدلة، كما قاله الترمذي وغيره.
وقد جاء بنحوه عن ابن عمر - رضي الله عنه - ذكره الْهَيثمي فِي $مَجمع الزوائد# (ج3 ص200) وفيه ليث بن أبي سليم مُختلط ضعيف.
وقد جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن النبِي ص قال: $من صام يوم الْجُمعة كتب له عشرة أيام غرر زهْرٌ من أيام الآخرة لا يشاكلهن أيام الدنيا#.(1/225)
وفيه رجل من بنِي جشم مَجهول، فأنت ترى أن كل ما احتج به مالك وأبو حنيفة على جواز إفراد الْجُمعة بالصوم بين مُتأوَّل، وضعيف.
وقد ذهب جُمهور العلماء الذين قالوا بكراهيته إِلَى انه يستثنى من النهي عن إفراد صيام يوم الْجُمعة من وافق صومه فِي أيام له عادة أن يصومها، كمن يصوم يومًا معينًا كيوم عرفة أو الأيام البيض، فله أن يصوم يوم الْجُمعة مفردًا لكونه وافق صومه الْمُعتاد، ولَم يَخصه تعمُّدًا دون غيره، واستدلوا بِحديث أبِي هريرة عند مسلم (1144) كما قدمنا هنا بلفظ: $لا تَخصوا يوم الْجُمعة بصيام من بين الأيام، إلا من له صوم يصومه#.
قالوا: فهذا الْحَديث مُخصَّص لعموم أحاديث النهي؛ فيجوز إفراده بِهذا القيد، أما إفراده لغير ذلك العذر فمحرم كما تقدم. وانظر $فتح الباري# عند شرح الأحاديث الْمَرقومة، و$شرح النووي# عنده، و$زاد الْمَعاد# لابن القيم $ج1 ص416#.
فصومه بِخصوصه من بين سائر الأيام يعتبر من البدع الْمُنكرة. انظر $الباعث على إنكار البدع والْحَوادث# للإمام أبي شامة (ص 155-156).
قال ابن حزم مسألة رقم (796) من $الْمُحلى#: فلو نذر الْمَرء صوم يوم يفيق، فوافق يوم جُمعة لَم يلزم؛ لأنه لَم يصم قبله ولا بعده، ولا وافق صومًا كان يصومه. اهـ.
قلت: وكذا إذا نذر صوم يوم قدوم زيد فوافق يوم الْجُمعة فهو أيضًا لا ينعقد ولا يَجوز الوفاء به إلا إذا صام قبله أو بعده، لِمَا أخرجه البخاري رقم (6696) من حديث عائشة ل: أن النَّبِي ص قال: $من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصِهِ#.(1/226)
ولِمَا أخرجه أبو داود -رحِمه الله- رقم (3313) فقال: حدثنا داود بن رشيد: حدثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي عن يَحيى بن أبِي كثير قال: حدثنِي أبو قلابة قال: حدثنِي ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله ص أن ينحر إبلاً ببوانة؛ فأتى النَّبِي ص فقال: إني نذرت أن أنْحر إبلاً ببوانة(1)؛ فقال النَّبِي ص: $هل كان فيها وثن من أوثان الْجَاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال رسول الله ص: $أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر فِي معصية الله، ولا فيما لا يَملك ابن آدم#. وسنده صحيح.
2- تَخصيص ليلة الْجُمعة بقيام من بين الليالي:
قال الإمام مسلم -رحِمه الله تعالَى- رقم (1144): حدثنِي أبو كريب: حدثنا حسين -يعني الْجُعفي- عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبِي ص قال: $لا تَختصوا ليلة الْجُمعة بقيام من بين الليالي#.
وقد تقدم بعض كلام أهل العلم على تَحريم ذلك، ومنهم من قال بالكراهة، والراجح التحريم لظاهر النهي فِي هذا الْحَديث.
وتتفرع من هذه الْمُخالفة بدعة كبيرة، ومنكرة شهيرة، ألا وهي: صلاة الرغائب.
قال النووي -رحِمه الله تعالى- فِي $شرح مسلم# عند هذا الْحَديث برقم (1144): واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة الْمُبتدعة التي تسمى الرغائب -قاتل الله واضعها ومُخترعها- فإنها بدعة منكرة من البدع الَّتِي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة، وقد صنف جَماعة من الأئمة مصنفات نفيسة فِي تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلائل قبحها وبطلانهاـ وتضليل فاعلها أكثر من أن تُحصر. اهـ.
__________
(1) هضبة من وراء ينبع أسفل مكة ودون يلملم. كذا فِي $النهاية# وغيرها.(1/227)
وقال الإمام الذهبِي -رحِمه الله- فِي ترجمة علي بن عبد الله بن جهضم من $ميزان الاعتدال#. قال عنه: شيخ الصوفية بِحرم مكة، ومصنف كتاب $بهجة الأسرار# متهم بوضع الْحَديث، قال ابن خيرون: تكلم فيه، وقيل: إنه يكذب، وقال غيره: اتهموه بوضع صلاة الرغائب. اهـ الْمُراد.
صفة صلاة الرغائب
وقال الإمام الشوكاني -رحِمه الله تعالَى-: حديث $رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتِي# قيل: يا رسول الله ما معنى قولك: $رجب شهر الله!# قال: $لأنه مَخصوص بالْمَغفرة#. ثم ذكر حديثًا طويلاً رغب فِي صومه أي رجب، ثم قال: $لا تغفلوا عن أول ليلة فِي رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة الرغائب#. ثم قال: $وما من أحد يصوم يوم الْخَميس، أول خَميس من رجب، ثم يصلي ما بين العشاء والعتمة -يعنِي ليلة الْجُمعة- اثنتَي عشرة ركعة يقرأ فِي كل ركعة فاتِحة الكتاب مرة، و +إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" [القدر: 1] ثلاثًا، و +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" اثنتَي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة، فإذا فرغ من صلاته صلى عليَّ سبعين مرة، ثم يقول: اللهم صلِّ على مُحمَّد النبِي الأمي وعلىآله، ثُمَّ يسجد، فيقول فِي سجوده: سبوح قدوس رب الْمَلائكة والروح سبعين مرة، ثُمَّ يرفع رأسه فيقول: رب اغفر وارحم وتَجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأعظم سبعين مرة، ثُمَّ يسجد الثانية فيقول مثل ما قال فِي السجدة الأولى، ثُمَّ يسأل الله حاجته فإنها تُقضى ..... # إلخ.
ثُمَّ قال: هو موضوع ورجاله مَجهولون.
وهذه هي صلاة الرغائب الْمَشهورة، وقد اتفق الْحُفاظ على أنها موضوعة، وألَّفوا فيها مؤلفات، وغلَّطوا الْخَطيب فِي كلامه فيها، وإنما أطال الْحُفاظ الْمَقال فِي هذه الصلاة الْمَكذوبة بسبب كلام الْخَطيب، وهي أقل من أن يشتغل بِهَا ويتكلم عليها، فوضعها لا يَمتري فيه من له أدنى إلْمَا بفن الْحَديث.(1/228)
وقال الفيروزآبادي: إنها موضوعة بالاتفاق، وكذا قال الْمقدسي. اهـ من $الفوائد الْمَجموعة فِي الأحاديث الْموضوعة# (ص 47-48) فِي النوع الثاني $صلوات مَخصوصة بأيام الشهور وبليال منها#.
وقال السيوطي -رحِمه الله-: صلاة الرغائب فِي أول جُمعة من رجب، وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم، وقيام تلك الليلة، وسموه صلاة الرغائب. اهـ من كتاب $الأمر بالاتباع# (ص166-167).
وأطال الإمام أبو شامة فِي ردها وإنكارها، وتبديع وتضليل فاعلها فِي كتابه $الباعث على إنكار البدع والْحَوادث# من (ص138-244).
وانظر فِي بدعية صلاة الرغائب $اقتضاء الصراط المستقيم# (ص 283)، و$تبيين العجب بِما ورد فِي شهر رجب# (ص47)، و$الْمَدخل# لابن الْحَاج (ج1 ص193).
وحديث هذه البدعة قد ذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص124)، والسيوطي فِي $اللآلئ المصنوعة# (ج2 ص57)، وابن عراق فِي $تنزيه الشريعة عن الْمَوضوعات الشنيعة# (ج2 ص90-91).
3- بدعية صلاة القضاء العمْري:(1/229)
وهذه البدعة المنكرة يفعلها الْجُهال وأشباههم والمتهوكون وأضرابهم فِي آخر جُمعة من رمضان، يصلون الصلوات الخمس فِي يوم واحد، كل صلاة بأذان وإقامة، فمثلاً يبدءون بالظهر، ثُمَّ بعدها العصر، ثُمَّ بعدها الْمَغرب، ثُمَّ بعدها العشاء، ثُمَّ بعدها الفجر فِي ساعة واحدة، ويعتقدون أنها تقضي ما فاتته من الصلوات الْخَمس فِي سائر السَّنة، أو فِي سائر ما مضى من عمره؛ وهذه بدعة قبيحة -قبح الله من اصطنعها وبين المسلمين وضعها- فلم يفعلها رسول الله ص وأصحابه ولا أحد من خير القرون، ومن بعدهم من الْمُستقيمين على دين الله الْحَق، وهي بدعة تدفع العصاة على التهاون بأداء الصلوات، فإذا كانت آخر جُمعة من رمضان صلوا مثل تلك الركعات المبتدعة، يزعمون أنها تقضي لَهم ما فات من صلاتهم فِي جَميع السَّنة أو السنين الَّتِي أهملوا فيها هذا الركن الثاني من أركان الإسلام، وربنا - سبحانه وتعالى - يقول: +فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ((( الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ" [الْمَاعون: 4-5]. فهذا الوعيد لِمن سها عن أداء صلاته، فكيف بِمن أهمل أداءها؟!.
ويقول - سبحانه وتعالى - : +فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاََةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا" [مريم: 59].
فلو كان ذلك الْجَاهل مدركًا ما فاته من الصلوات بتلك البدعة فِي آخر رمضان، لَمَا توعده الله بويل ولَمَا توعده بغي، ولو كان مدركًا لَها بتلك الصلاة الْمُنكرة لَمَا حبط عمله، فإن النَّبِي ص يقول: $من ترك صلاة العصر فقد حَبِطَ عمله#.
أخرجه البخاري (ج2 ص26) من حديث بريدة بن الحصيب، وأخرجه أحْمَد فِي $مسنده# (ج6 ص442) من حديث أبي الدرداء بإسناد صحيح بزيادة $من ترك صلاة العصر متعمدًا#.
ولو كان مدركًا لَها لَمَا حُكِم عليه بالكفر، فإن النَّبِي ص يقول: $العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر#.(1/230)
أخرجه الترمذي رقم (2623)، والنسائي (ج1 ص231، 232)، وابن ماجه (1079)، وأحْمَد رقم (22937)، وابن حبان رقم (1452) وغيرهم من طرق: عن الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به.
وهذا سند صحيح، وقال المنذري فِي $الترغيب والترهيب# رقم (796): ولا يُعرف له علة.
وأخرج مسلم رقم (530) من حديث جُندب بن عبد الله - رضي الله عنه - : أن النبِي ص قال: $من صلى الصبح فهو فِي ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته يدركه، ثم يكبه على وجهه فِي نار جهنم#.
وأخرج مسلم رقم (82) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : أن النبِي ص قال: $إن بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة#.
وانظر لبدعية هذه الصلاة $الْمَوضوعات# لابن الجوزي (ج 2 ص 132، 136) وكتاب $البدع والْمُحدثات وما لا أصل له# جمع حمود بن عبد الله المطر (ص511).
قال ابن الجوزي -رحِمه الله-: (صلاة لإضاعة الصلاة)، ثُمَّ ذكرها من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: دخل شاب من أهل الطائف على رسول الله ص فقال: يا رسول الله إني عصيت ربي وأضعت صلاتي، فما حيلتِي؟ قال: $حيلتك بعدما تبت وندمت على ما صنعت أن تصلي ليلة الْجُمعة ثمان ركعات تقرأ فِي كل ركعة فاتِحَة الكتاب مرة، وخَمسًا وعشرين مرة +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فإذا فرغت من صلاتك فقل بعد التسليم ألف مرة: صلى الله على مُحَمَّد النَّبِي الأمي، فإن الله T يَجعل ذلك كفارة لصلاتك ولو تركت الصلاة مائتَي سنة#.
قال ابن الْجَوزي: موضوع، واضعه من جهلة القصاص، وأخاف أن يكون قاصدًا لشين الإسلام وكيف تقوم ركعتان(1) يسيرة يتطوع بِهَا مكان صلوات كثيرة مفترضة، هذا مُحال، وفِي سنده مَجاهيل، فليس بشيء أصلاً. اهـ من $الْمَوضوعات# (ج2 ص136).
4- بدعية صلاة الْحَفظ وصفتها.
__________
(1) كذا فِي الْمَوضوعات، ولعل الصواب: (ركعات) لدلالة سياق الْحَديث.(1/231)
عن ابن عباس ب قال: بينما نَحن عند رسول الله ص إذ جاءه علي بن أبِي طالب، فقال: بأبي أنت وأمي تفلت هذا القرآن من صدري فما أجدني أقدر عليه، فقال له رسول الله ص: $يا أبا الْحَسن ألا أُعلِّمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع من علَّمته وَيثبِّت ما تعلمت فِي صدرك؟#.
قال: أجل يا رسول الله، فعلمنِي، قال: $إذا كان ليلة الْجُمعة فإن استطعت أن تقوم فِي الثلث الآخر؛ فإنها ساعة مشهودة والدعاء فيها مستجاب، وقد قال أخي يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي، يقول: حَتَّى تأتي ليلة الْجُمعة، فإن لَمْ تستطع فقم فِي وسطها، فإن لَمْ تستطع فقم فِي أولِها، فصل أربع ركعات تقرأ فِي الركعة الأولى فاتِحة الكتاب وسورة $يس# وفي الركعة الثانية فاتِحة الكتاب و حَم الدخان، وفي الركعة الثالثة فاتِحة الكتاب و الم ((( تَنزِيلُ السجدة، وفي الرابعة فاتِحة الكتاب وتَبَارَك الْمُفصل(1)،
__________
(1) قال ابن كثير -رحمه الله- في أول تفسير سورة (ق) هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح، وقيل من الحجرات، وأما ما يقوله العوام أن من (عم) فلا أصل له ولَم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم..(1/232)
فإذا فرغت من التشهد فاحْمد الله، وأحسن الثناء على الله، وصل علي وأحسن، وعلى سائر النبيين، واستغفر للمؤمنين والْمُؤمنات ولإخوانك الذين سبقوك بالإيْمان، ثم قل فِي آخر ذلك: اللهم ارحَمنِي بترك الْمَعاصي أبدًا ما أبقيتنِي، وارحمنِي أن أتكلف ما لا يعنينِي، وارزقنِي حسن النظر فيما يرضيك عنِّي، اللهم بديع السموات والأرض ذا الْجَلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا رحْمن بِجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبِي حفظ كتابك كما علمتنِي، وارزقنِي أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني، اللهم بديع السموات والأرض ذا الْجَلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا رحْمن بِجلالك ونور وجهك أن تنور بكتابك بصري، وأن تطلق به لساني، وأن تفرج به عن قلبِي، وأن تشرح به صدري، وأن تغسل به بدني، فإنه لا يعيننِي على الْحَق غيرك، ولا يؤتيه إلا أنت، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم، يا أبا الْحَسن تفعل ذلك ثلاث جُمع أو خَمسًا أو سبعًا تُجَبْ بإذن الله، والذي بعثني بالْحَق ما أخطأ مؤمنًا قط#.
قال ابن عباس: فوالله ما لبث عليٌّ إلا خَمسًا أو سبعًا حَتَّى جاء رسول الله ص فِي مثل ذلك الْمَجلس، فقال: يا رسول الله، إن كنتُ فيما خلا لا آخذ إلا أربع آيات نَحوهنَّ فإذا قرأتهن على نفسي تفلتن، وأنا أتعلم اليوم أربعين آيةً ونَحوها فإذا قرأتها على نفسي فكأنما كتاب الله بين عينِي، ولقد كنت أسمع الْحَديث فإذا رددته تفلَّت، وأنا اليوم أسمع الأحاديث فإذا تَحدثت بِهَا لَمْ أخرم منها حرفًا، فقال له رسول الله ص عند ذلك: $مؤمن ورب الكعبة، أبا الْحَسن#.
أخرجه الترمذي فِي $جامعه# (ج10 ص18-21) تُحفة، والْحَاكم (ج1 ص316)، والطبراني فِي $الكبير# (ج11 ص317) من طريق: الوليد بن مسلم قال: أخبرني ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولَى ابن عباس، عن ابن عباس. فذكر الْحَديث.(1/233)
وقال الْحَاكم: صحيح على شرط الشيخين، فتعقبه الذّهبِي فقال: قلت: هذا حديث منكر شاذ أخاف أن يكون موضوعًا وقد حيرني والله جودة إسناده(1). اهـ.
وقال فِي ترجَمة الوليد بن مسلم من $الْمِيزان#: ومِنْ أنكر ما أتى به حديث حفظ القرآن، وقال أبو أحْمَد الْحَاكم: إنه يُشبه أحاديث القصاص، كذا فِي $علل الترمذي# لابن رجب (ج2 ص770).
وذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص138)، والسيوطي فِي $اللآلئ الْمَصنوعة فِي الأحاديث الْمَوضوعة# ثم قال: أما دعاء الْحِفظ فموضوع، وذكره الشوكاني فِي $الفوائد الْمَجموعة فِي الأحاديث الْمَوضوعة# (ص61) وحكم بوضعه.
فعلم أن تلك الصلاة من البدع الْمُنكرة التي تكون فِي الْجُمعة.
5- اعتقاد أن الصلاة ليلة الْجُمعة أفضل من غيرها:
هذا اعتقاد باطل. انظر $الفوائد الْمجموعة# (ص59).
6- بدعية صلاة الفرقان:
انظر $الفوائد الْمَجموعة# (ص53).
7- بدعية صلاة قضاء الْحَاجة وصفتها:
قال ابن عراق فِي $تنزيه الشريعة عن الأحاديث الْموضوعة الشنيعة# (ج2 ص84) قال: حديث $من كانت له إِلَى الله حاجة عاجلة أو آجلة، فليقدم بين يدي نَجواه صدقة، وليصم الأربعاء، والْخَميس، والْجُمعة، ثُمَّ يدخل يوم الْجُمعة إِلَى الْجَامع فيصلي فيه اثنتَي عشرة ركعة، يقرأ فِي عشر ركعات فِي كل ركعة الْحَمد مرة، وآية الكرسي عشر مرات، ويقرأ فِي الركعتين فِي كل ركعة الْحَمد مرة و +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" خَمسين مرة، ثُمَّ يَجلس ويسأل الله حاجته، فليس يرده من حاجته عاجلة أو آجلة إلا قضاها له#.
وذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# من حديث أنس، وفيه: أبان بن عياش متروك، وقال الذَهبِي فِي $تلخيصه#: فيه من يُجهل إلَى أبان.
__________
(1) لعله يعنِي بِجودة إسناده من حيث أن رجاله ثقات وإلا فإن ابن جريج مدلس، وقد عنعن وعنعنته تضر الْحَديث؛ فلا يصير مع وجودها جيدًا. والله أعلم. فيكون ضعيفًا سندًا ومتنًا.(1/234)
فعلم أن هذا الْحَديث واهٍ، وأن تلك الصلاة الْمَذكورة فيه مبتدعة.
8- بدعية صلاة رؤية النَّبِي ص:
قال ابن عراق: حديث: $ما من مؤمن يصلي ليلة الْجُمعة ركعتين يقرأ فِي كل ركعة فاتِحة الكتاب، وخَمسًا وعشرين مرة +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" ثُمَّ يسلم، ثُمَّ يقول ألف مرة: صلى الله على مُحَمَّد النَّبِي الأمي، فإنه يراني فِي الْمَنام، ومن رآني غفر الله له الذنوب#.
من حديث ابن عباس، قال ابن الْجَوزي: ولا يصح؛ فيه مَجاهيل. اهـ الْمُراد من $تنْزيه الشريعة# (ج2 ص97).
وجاء من طريق أخرى مرسلة وفيها مُحمَّد بن عكاشة بن عبد الرزاق، قال الذَهبِي فِي $الْمِيزان#: كذاب، وقال الدارقطنِي: يضع الْحَديث.
9- حديث فِي فضل الْمَنابر:
حديث: $لولا الْمَنابر لاحترق أهل القرى#.
ذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص105).
10- حديث فِي فضل أهل العمائم يوم الْجُمعة:
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $إن الله وملائكته يصلون على أهل العمائم يوم الْجُمعة#.
ذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص105) وقال: لا أصل له والْحَمل فيه على أيوب بن مدرك، قال الأزدي: هذا من وضع أيوب، وقال ابن معين: هو كذاب. اهـ.
11- حديث اطلاع الله إِلَى أهل الدنيا يوم الْجُمعة موضوع:
عن أنس قال: قال رسول الله ص: $ما من يوم جُمعة إلا ويطلع الله تعالَى إِلَى دار الدنيا#. الْحَديث.... إلخ.
قال ابن الْجَوزي: موضوع، والْمُتهم به عبد الله بن أحْمَد بن أفلح القاص، والْخَليل بن عبيد الله العبدي، فعلم أن هذا الاعتقاد مبتدع باطل.
12- حديث موضوع فِي فضل لبس العمائم البيض يوم الْجُمعة:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $إن لله تعالى ملائكة موكلين بأبواب الْجَوامع يوم الْجُمعة، يستغفرون لأصحاب العمائم البيض#.(1/235)
وذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص106) من طريق: يَحيى بن شبيب اليماني، وهو وضاع كما فِي ترجَمته من $ميزان الاعتدال#.
13- حديث باطل فِي فضل الصلاة فِي ليلة الْجُمعة:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $من صلى ركعتين فِي ليلة الْجُمعة فقرأ فيهما بفاتِحة الكتاب وخَمس عشرة مرة +إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ" أمَّنه الله T من عذاب القبر، ومن أهوال يوم القيامة#.
ذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص118).
وفيه عبد الله بن داود الواسطي التمار مترجم فِي $ميزان الاعتدال# وله كثير من الأباطيل فِي $الْمِيزان# منها هذا الْحَديث؛ فعلم أن هذه الصلاة مبتدعة.
14- بدعية صلاة رؤية الله T يوم الْجُمعة:
عن ابن عباس ب قال: قال رسول الله ص: $من صلى يوم الْجُمعة ما بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ فِي أول ركعة بفاتِحة الكتاب و+قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" و+قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" و+قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" خمسًا وعشرين مرة، فإذا سلَّم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله خَمسين مرة، فلا يَخرج من الدنيا حَتَّى يرى ربه T فِي الْمَنام، ويرى مكانه فِي الْجَنة#.
ذكره ابن الْجَوزي فِي $الْمَوضوعات# (ج2 ص119) وقال: هو موضوع وفيه مَجاهيل لا يعرفون.
15- تَخصيص فضل صلاة الفجر فِي جَماعة فِي يوم الْجُمعة:
عن ابن عمر ب عن النَّبِي ص قال: $أفضل الصلوات عند الله T الصبح يوم الْجُمعة فِي جَماعة#.
رجح الدارقطنِي وقفه وهو فِي $العلل الْمُتناهية فِي الأحاديث الواهية# لابن الْجَوزي (ج1 ص458-459).
فهذا اعتقاد غير صحيح أن صلاة فجر يوم الْجُمعة فِي جَماعة أفضل من غيرها، وقد وردت أحاديث فِي فضل صلاة الفجر فِي جَماعة مطلقًا، منها حديث عثمان بن عفان عند مسلم رقم (656)، وحديث أبِي هريرة فِي البخاري رقم (657)، ومسلم رقم (651).
16- حديث فِي فضل قص الأظفار وقص الشارب كل جُمعة:(1/236)
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $من قص أظفاره، وأحدَّ من شاربه كل يوم جُمعة؛ أدخل الله فيه شفاء، وأخرج منه داء#.
ذكره ابن الْجَوزي فِي $العلل الْمُتناهية# (ج1 ص460)، وفيه صالح بن بيان وهو متروك.
فليس لتقليم الأظفار خصوصية فِي يوم من الأيام.
17- حديث فِي كراهية تقليم الأظفار يوم الْجُمعة:
عن ابن عباس أن النَّبِي ص قال: $مثل الْمُؤمن يوم الْجُمعة كمثل الْمُحرم لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حَتَّى يقضي الصلاة# قلت: متى أتهيَّأ للجمعة؟ قال: $يوم الْخَميس#.
ذكره ابن الْجَوزي فِي $العلل الْمُتناهية# (ج1 ص461) وقال: لا يصح وعلته مُحمَّد بن علي بن خلف، قال ابن عدي: البلاء منه.
18- حديث ضعيف فِي زيادة واستحباب فضل الصدقة فِي يوم الْجُمعة:
عن ابن عباس ب قال: كان رسول الله ص يستحب أن يصوم يوم الأربعاء، والْخَميس، والْجُمعة، ويتصدق مِمَّا قل أو كثر من يوم الْجُمعة. اهـ وهو فِي $العلل الْمُتناهية# (ج1 ص464).
وقد ذكر فِي كتاب الْجُمعة فِي فصل خصائص الْجُمعة: أنه لَم يثبت فِي حديث كون الصدقة فيها أفضل من غيرها.
19- تَحري زيارة القبور فِي ليلة الْجُمعة أو يومها:
هذه بدعة مُحدثة فلم يكن رسول الله ص يتحرى ذلك، بل حث على زيارتها مطلقًا فقال: $زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة#.
وتَحديد زمن زيارتها تشريع مُحدث. وانظر كتاب $البدع والْمُحدثات# جَمع حَمود الْمَطر (ص307).
20- الصلاة على الأموات الغائبين فِي كل جُمعة:
هذه بدعة مُحدثة. انظر الْمَصدر السابق.
21- الصلاة على الْمَيت الغائب بعد الْجُمعة ولو مات بين الْمُسلمين وصلوا عليه: بدعة.
قال ابن القيم -رحِمه الله- فِي $زاد الْمعاد# (ج1 ص519): ولَم يكن من هديه وسنته ص الصلاة على كل ميت غائب، فقد مات خلق كثير من الْمُسلمين وهم غُيَّب فلم يصل عليهم.
وصح أنه صلى على النجاشي صلاته على الْمَيت، فاختلف الناس فِي ذلك على ثلاث طرق:(1/237)
إحداها: أن هذا تشريع منه وسنة للأمة الصلاة على كل غائب، وهذا قول الشافعي، وأحْمَد فِي إحدى الروايتين عنه.
وقال أبو حنيفة ومالك: هذا خاص به وليس ذلك لغيره.
وقال أصحابهما: ومن الْجَائز أن يكون رُفِعَ له سريره فصلى عليه وهو يرى صلاته على الْحَاضر الْمُشاهد، وإن كان على مسافة من البعد، والصحابة -وإن لَمْ يروه- فهم تابعون للنَّبِي ص فِي الصلاة.
قالوا: ويدل على ذلك أنه لَمْ يصلِّ على أحد من الغائبين غيره، ولا سبيل لأحد بعده إِلَى أن يعاين سرير الْمَيت الغائب. ا هـ.
قلت: وهذا قول يَحتاج إِلَى دليل ولا يعلم له دليلٌ أنه رأى سريره، وقد انتقد هذا القول ابن دقيق العيد فِي $الإحكام# (ج3 ص231).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أن الغائب إن مات ببلد لَم يصل عليه فيه؛ صُلّي عليه صلاة الغائب كما صلَّى النبِي ص على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولَم يُصَلَّ عليه، وإن صلِّي عليه حيث مات لَم يصلّ عليه صلاة الغائب؛ لأن الفرض قد سقط بصلاة الْمُسلمين عليه.
قال ابن القيم: وأصح الأقوال هذا التفصيل. اهـ.
وقال الْخَطابي فِي $معالِم السنن# (ج1 ص270) عند حديث أبي هريرة: أن النبِي ص نعى النجاشي فِي اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلَى الْمُصلى، فصلى بهم وكبر أربع تكبيرات. اهـ.
والْحَديث أخرجه أصحاب الكتب والستة ومنهم البخاري رقم (1245)، ومسلم (951).
قال الْخطابي: قلت: النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله ص وصدقه على نبوته إلا أنه كان يكتم إيْمانه، والْمُسلم إذا مات وجب على الْمُسلمين أن يصلُّوا عليه، إلا أنه كان بين ظهراني الكفار، ولَم يكن بِحضرته من يقوم بِحقه فِي الصلاة عليه؛ فلزم رسول الله ص أن يفعل ذلك، إذ هو نبيه ووليه، وأحق الناس به، فهذا -والله أعلم- هو السبب الذي دعاه إلَى الصلاة عليه بظهر الغيب.(1/238)
فعلى هذا إذا مات الْمُسلم ببلد من البلدان فإنه لا يُصلي عليه من كان ببلد آخر غائبًا عنه، فإن علم أنه لَم يصلَّ عليه لعائق أو مانع عذر، كانت السنة أن يُصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد الْمَسافة، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولَم يتوجهوا إلَى بلد الْمَيت إن كان فِي غير القبلة. اهـ.
واستحسن هذا القول الروياني، كما فِي $نيل الأوطار# (ج2 ص720)، وترجم بذلك أبو داود فِي $سننه# على حديث رقم (416) فقال: باب الصلاة على الْمُسلم يليه أهل الشرك فِي بلد آخر.
واختار هذا القول من الْمُتأخرين العلامة الْمُقبلي كما فِي $نيل الأوطار# (ج2 ص720)، وهو قول العلامة الألباني -رحِمه الله- كما فِي $أحكام الْجَنائز# (ص 118-119) وبه يفتِي شيخنا العلامة الوادعي -حفظه الله-.
ومِمَّا يؤيد هذا القول السديد: حديث رسول الله ص عند أحْمَد (ج4 ص7)، وابن ماجه رقم (1537)، والطيالسي (1068) كلهم من طريق: الْمُثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أبِي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد أن النَّبِي ص قال: $إن أخاكم مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه#.
وعزاه الشوكاني إِلَى الضياء فِي $الْمُختارة# وإلَى الطبراني، وسنده كل رجاله ثقات كما ترى، وقتادة قد سمع من أبِي الطفيل كما فِي $جامع التحصيل# للعلائي.
فالْحَديث بهذه الزيادة صحيح، والْحَمد لله.
ولَم يثبت أن النَّبِي ص صلى صلاة الغائب على غير النجاشي ألبتة، كما أبان ذلك العلامة الألباني -رحِمه الله- فِي $أحكام الْجَنائز#، والشيخ بكر أبو زيد فِي رسالة له، انظر: $التحديث بِما لا يصح فيه حديث# (ص89).(1/239)
والْحَاصل: أن الصلاة على الْجَنازة الَّتِي توفيت فِي بلد صلى عليها فيه الْمُسلمون قد حصل بذلك الواجب الكفائي، وسقط عن الغير؛ فتكرار صلاة الغائبين عليها تعتبر من الْمُحدثات الَّتِي لا دليل عليها، ولَمَّا مات الْخُلفاء الراشدون وغيرهم لَم ينقل أن أُمراء الأجناد أو أمراء البلدان صلوا أو أمروا الناس بالصلاة عليهم بالغيب.
قال العلامة الألباني -رحِمه الله- فِي $أحكام الْجَنائز# (ص120): فعلم يقينًا أنها من البدع التي لا يَمتري فيها عالِم بسنته ص ومذهب السلف -رضوان الله عليهم-. اهـ.
22- حفائظ آخر جُمعة من رمضان:
فِي بعض البلدان إذا كان آخر جُمعة من رمضان فِي وقت خطبة الْجُمعة يكتبون أوراقًا والإمام يَخطب، ويسمون تلك الأوراق: حفائظ، وكأنهم يريدونها حفائظ وحروزًا من الْجِن والعين، وإما يريدون بِهَا صكوكًا عند الله لِحفظ أعمالِهم كما يفعل بعض جهالة الْحُجاج حيث يركمون حجارة فِي عرفات، ويقولون: يا ملائكة، اشهدي ويا أرض احفظي، وكلا الأمرين منكر وبدعة شنيعة، فإن قصدوا بتلك الأوراق أنَّها تَحفظهم من الْجِن والشيطان فهي شرك أكبر، وإن أرادوا بِهَا أنها تَحفظ أعمالَهم فهي بدعة ضلالة؛ لأن الله سبحانه يقول: +وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاََ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاََ كَبِيرَةً إِلاََّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاََ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا" [الكهف: 49]. ويقول تعالى: +فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ((( وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" [الزلزلة: 7-8]. ويقول: +وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاََ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" [الأنبياء: 47].(1/240)
فالله لا يَحتاج أن يكتبوا له تلك الصكوك البيانية أنهم قد صاموا رمضان وقاموه، فهو يعلم السر وأخفى.
وانظر لِهذه البدعة كتاب $الإبداع فِي مضار الابتداع# لعلي مَحفوظ -رحِمه الله- (ص177).
23- البقاء عند قبر الْمَيت إِلَى ليلة الْجُمعة:
هذه بدعة مُحدثة؛ فقد ثبت فِي $صحيح البخاري# رقم (1374،1448) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن النبِي ص قال: $إن العبد إذا وضع فِي قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالِهم#.
والشاهد فيه $وتولَّى عنه أصحابه#.
وفِي $الصحيحين# من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن النبِي ص قال: $يتبع الْمَيت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله#.
فالْمَيت لا يستفيد من بقاء الناس عند قبره شيئًا، فإن الله سبحانه يقول: +فَلاََ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاََ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ" [يس: 50]. ولا يعلم أهم باقون عند قبره أم ذهبوا.
ففي $الصحيحين# من حديث ابن عباس وغيره: أن النبِي ص يرد عليه أناس الْحَوض فيُدْفعون عنه فيقول: $أمتِي أمتِي#. فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فإذا كان رسول الله ص لا يدري ما يُحدث الناس بعده فغيره من باب أولى.
ولَم يثبت حديث فِي شرعية البقاء عند قبر الْمَيت لا إِلَى ليلة الْجُمعة ولا إِلَى أدنى من ذلك.
وقد نسب إِلَى الشافعي القول بالبقاء عند الْمَيت مدة يقرأ فيها القرآن أو يُخْتم فيها الْمُصحف، وهذا القول مع أنه باطل ولا دليل عليه، أيضًا لَمْ يقله الشافعي فيما نعلم، بل الثابت عنه فيما نقله الإمام النووي فِي $الْمجموع# (ج5 ص294) قال: ويستحب أن يَمكث على القبر بعد الدفن ساعة يدعو للميت ويستغفر له. اهـ.(1/241)
أما ما نقله عنه فِي $رياض الصالِحين# عند حديث رقم (947)، فقد أعلمناك أن هذا القول ثبت عن الشافعي أو لَم يثبت فإنه لا دليل عليه فِي الْمُكث عند القبر لا ساعة ولا نصفها إلا إذا كان الْمَقصود بلفظ ساعة: الزمن القصير على عرف الْمُتقدمين، أي: أنه مقدار ما يقرأ ما تضمنه حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عند أبي داود (ج9 ص41) عون وسنده حسن أن النبِي ص قال: $استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل#.
فيقول كل واحد من الناس بعد دفن الْمَيت الْمُسلم: اللهم اغفر له وثبته، ثُمَّ ينصرف بغير تَحلق ولا جلوس ولا دعاء جَماعي؛ فإن ذلك كله لَمْ يثبت عن رسول الله ص ولا أصحابه، لكن ثبت فِي مسلم عن عمرو بن العاص وفعله ليس بِحجة.
24- اجتماع الصوفية ليلة الْجُمعة:
للرقص والتمايل وذكر بعض الْحُروف المقطعة أو الأشعار الشركية والبدعية كما تفعل الصوفية، كل ذلك ضلال مبين، ولا يتوقع من الصوفية والشيعة خير قط، لأنَّهم ذوو شركيات وبدع وضلالات، ومن كان هذا حاله فأي خير يرجى منه؟! وانظر لِهذه البدع كتاب $السنن والْمُبتدعات# لِمحمد بن عبد السلام خضر الشقيري (ص84-87).
25- تَحري عقد النكاح ووقع العرس يوم الْجُمعة بنية البركة:
هذه بدعة منكرة وقد تزوج النَّبِي ص عددًا من النسوة ومات عن تسع، ولَم يثبت عنه قط أنه تحرى زواج إحداهن فِي ليلة الْجُمعة أو يومها، فتحري العقد أو دخول الْمَرأة فِي بيت زوجها فِي الْجُمعة: هذه من خرافات واختلافات الْمُبتدعة، وتبعهم على ذلك عوام الناس وجهالُهم، نسأل الله أن يهدينا وإياهم لنهج سنة رسول الله ص.
26- تَحرِّي عقد الزواج أو دخول الْمَرأة فِي بيت زوجها فِي ساعة مُحدودة من يوم الْجُمعة أو غيره:(1/242)
يزعمون أنها الساعة الطيبة، وهذه شعوذة، ودجل على الْمُسلمين، وادعاء لعلم الغيب، وتنجيم، وسحر، يُخشى على فاعل ذلك من الكفر بالله العظيم، ومن أتاه لتصديقه فِي ذلك لا تقبل له صلاة أربعين يومًا، كما ثبت ذلك فِي $صحيح مسلم# من حديث إحدى زوجات النبِي ص، أن النبِي ص قال: $من أتى كاهنًا فصدقه بِما يقول لَم تقبل له صلاة أربعين يومًا#.
وجاء فِي خارج الصحيح -وهو حسن بطرقه- أن النَّبِي ص قال: $فقد كفر بِمَا أنزل على مُحمَّد#.
27- قراءة أحد القراء عشر آيات من القرآن عند خروج السلطان لصلاة الْجُمعة:
هذه بدعة مُحدثة. انظر كتاب $الْحَوادث والبدع# للطرطوشي (ص152).
28- شد الرحال يوم الْجُمعة إلى بعض الْمَساجد للصلاة فيها مع وجود مساجد فِي البلد.
لِما فِي $البخاري# رقم (1197)، ومسلم رقم (827) من حديث أبي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - عن النبِي ص قال: $لا تشد الرحال إلا إلَى ثلاثة مساجد: الْمَسجد الْحَرام، ومسجدي هذا، والْمَسجد الأقصى#.
ولِما أخرجه مالك فِي $الْمُوطأ# رقم (93)، وأحْمَد فِي $الْمُسند# (ج6 ص397)، والنسائي فِي $الْمُجتبى# (ج3 ص113)، وابن حبان فِي $صحيحه# (ج4 ص192)، والطيالسي فِي $الْمُسند# رقم (1348).
وقال الإمام مالك --رَحِمَه الله-- (ج1) رقم (93): عن يزيد بن عبد الله بن الْهَاد، عن مُحمَّد بن إبراهيم بن الْحَارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحْمن بن عوف، عن أبي هريرة أنه قال: خرجت إلَى الطور فلقيت كعب بن مالك، وذكر الْحَديث بطوله.
وفيه: أن النبِي ص قال: $لا تعمل الْمُطي إلا إلَى ثلاثة مساجد: إلَى الْمَسجد الْحَرام، وإلَى مسجدي هذا، وإلَى الْمَسجد الأقصى#.
وأخرجه أحْمَد (ج6 ص97)، والنسائي (ج3 ص113)، وابن حبان (ج7 ص7) رقم (2772). وسنده صحيح، كل رجاله ثقات.(1/243)
فعُلِمَ أن شد الرحال إلَى مسجد غير الْمَساجد الثلاثة لقصد زيارته أو الصلاة فيه أن ذلك بدعة، وانظر $السنن والْمُبتدعات# (ص85).
لكن إن وُجِدَ مسجد سنة فِي الْمَدينة نفسها فينبغي الصلاة خلف السنِّي وسماع خطبته لتحريه للحق إن شاء الله، وقد كره السلف الصلاة خلف الْمُبتدع الْمُسلم مع وجود إمام مسجد سنِّي يستطيع الصلاة خلفه بغير سفر وشد رحل، وذلك لأن الصلاة خلفه إقرار لِما هو عليه، والواجب الإنكار عليه فيما خالف فيه السنة، وهجره حتى يدع بدعته إن استطيع ذلك، على حسب ما عنده من الْمُنكر. وانظر شرح ابن أبي العز على الطحاوية (ج2 ص533).
فعُلِمَ أن الصلاة خلف الْمُبتدع الْمُسلم وإن كانت صحيحة، لكن إن وجد غيره من أهل الاتباع استحبت الصلاة خلف السنِّي، وكرهت خلف الْمُبتدع الْمُسلم، وهذا قول جُمهور العلماء.
29- تَحري القراءة فِي صلاة الْمَغرب ليلة الْجُمعة بـ +قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ" و+قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ":
وقد جاء حديث فِي ذلك، قال العراقي: لا يصح مسندًا ولا مرسلاً.
30- صلاة أربع ركعات يوم الْجُمعة قبل مَجيء الإمام، يقرأ فِي كل ركعة +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" خمسين مرة:
يزعمون أن مَنْ فعل ذلك لَمْ يَمت حَتَّى يرى مقعده من الْجَنة! وفيه حديث عن ابن عمر ضعيف جدًّا.
قال العراقي فِي تعليقه على $إحياء علوم الدين# (ج1 ص262) عن الدارقطني: إنه لا يصح، وفيه عبد الله بن وصيف مَجهول. وانظر $السنن والْمُبتدعات# (ص84).
فهي بهذه الكيفية بدعة منكرة.
31- ظن بعضهم أن القراءة بسورة السجدة فِي فجر الْجُمعة من أجل السجدة: هذا ظن خاطئ.(1/244)
قال ابن القيم -رحِمه الله-: ويظن كثير مِمَّن لا علم عنده أن الْمُراد تَخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها: سجدة الْجُمعة، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنمَا كان النَّبِي ص يقرأ هاتين السورتين $السجدة، والدهر# فِي فجر الْجُمعة؛ لأنهما تضمنتا ما كان ويكون فِي يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر الْمَعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الْجُمعة، وكان فِي قراءتهما فِي هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعًا ليست مقصودة حتى يقصد الْمُصلي قراءتها. اهـ. الْمُراد من $زاد الْمَعاد# (ج1 ص375) وانظر $السنن والْمُبتدعات# (ص 85).
ونص شيخ الإسلام فِي $الكبرى# (ج2 ص 360) على أنه لا يستحب أن يقرأ بسورة فيها سجدة غير +الّم" السجدة، من أجل أن يسجد فيها لأن السجدة غير مقصودة فِي يوم الْجُمعة، ثُمَّ نقل الاتفاق على ذلك، قال: فإن هاتين السورتين فيهما ذكر ما يكون فِي يوم الْجُمعة من الْخَلق والبعث. اهـ. بتصرف يسير.
32- تَخصيص زيادة فِي الأذكار لصبح أو عصر الْجُمعة دون بقية الأيام:
هذا التخصيص يَحتاج إِلَى دليل، ولا نعلم دليلاً على التخصيص بِمزيد أذكار للصباح أو الْمَساء للجمعة دون غيرها، فهو مُحدث وبدعة منكرة، لقول النَّبِي ص: $من أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد#. متفق عليه من حديث عائشة ل.
33- ملازمة قول بعض الناس لبعض يوم الْجُمعة: تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال:
ليس فِي هذا دليل صحيح، وإنَّما جاءت بعض الآثار عن بعض السلف، بعضهم كان يقول لبعض هذا الدعاء فِي عيد الفطر فهو دعاء، والدعاء عبادة ولا دليل عليه من السنة بِخصوص يوم الْجُمعة.
34- قول بعض الناس لبعض يوم الْجُمعة (جمعة مباركة):
وهذه أيضًا بدعة مُحدثة لا دليل عليها عن النَّبِي ص ولا أصحابه أنهم كانوا يقولون هذا الدعاء لبعضهم يوم الْجُمعة.(1/245)
35- انشغال كثير من الناس عن التبكير للجمعة بالقيلولة(1).
هذا خلاف الأولَى، فقد روى الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- فِي $صحيحه# رقم (1208): عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا نصلي مع النبِي ص الْجُمعة، ثم نرجع إلَى القائلة فنقيل.
وأخرج أيضًا برقم (939) ومسلم (859) من حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الْجُمعة.
36- ملازمة تقديم عطاءٍ للمسجد يوم الْجُمعة من فراش أو ضريبة مال يَجعلها فِي صندوق الْمَسجد.
هذه بدعة غير معهودة عن النَّبِي ص ولا فِي تلك القرون الْمُفضلة. وانظر كتاب $مدخل الشرع الشريف على الْمَذاهب# لابن الْحَاج.
37- اعتقاد أن الْمَرأة إذا حَملت ليلة الْجُمعة هذا من أسباب كون الولد ذلك ولدًا صالِحًا.
فربَّما ترى بعضهم يتحرى مواقعة زوجته فِي تلك الليلة لهذا الْمَقصد، وهذا يَحتاج إِلَى دليل ثابت على هذا الْمُعتقد، ولا دليل عليه، فهو توهم باطل.
والسبب فِي كون الولد صالحًا أمور منها: الدعاء عند مقاربة أهله بِمَا ثبت عند البخاري رقم (6388) ومسلم رقم (4434): عن ابن عباس ب قال: قال النَّبِي ص: $لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد فِي ذلك، لَمْ يضره شيطان أبدًا#.
38- اعتقاد أن الْمَوت يوم الْجُمعة علامة حسن الْخَاتِمة:
والذين قالوا بذلك اعتمدوا على حديث أخرجه أحمد فِي $الْمُسند# (ج2 ص169) قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا هشام -يعني ابن سعد- عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبِي ص قال: $ما من مسلم يَموت يوم الْجُمعة أو ليلة الْجُمعة إلا وقاه الله فتنة القبر#.
__________
(1) القيلولة والْمَقيل: الاستراحة نصف النهار وإن لَمْ يكن معها نوم. اهـ من $النهاية# لابن الأثير.(1/246)
والْحَديث سنده ضعيف كما بينته فِي بَحث أحكام الْجُمعة، فيؤخذ منه، وقد مات رسول الله ص وجَماعة من خلفائه وأصحابه فِي غير الْجُمعة، مع ما علم لَهم من حسن الْخَاتِمة عند الْمَوت.
39- تَحري قراءة سورة الْجُمعة وسورة الْمُنافقون فِي عشاء ليلة الْجُمعة:
وليس يثبت على هذا التحديد دليل عن رسول الله ص، وقد ذكر هذه البدعة مُحَمَّد بن عبد السلام الشقيري فِي $السنن والْمُبتدعات# (ص84) وغيره.
40- تَخطي رقاب الْمُصلين يوم الْجُمعة:
لغير ضرورة من أذية الْمُسلمين، ومن الْمُنكرات.
41- أذية الْمُصلين بالسؤال وطلب التبرعات قبل مَجيء الْخَطيب للجمعة، وحين الْخُطبة:
والْمَسألة فِي حدِّ ذاتِها مُحرمة إلا لِمن خصه حديث قبيصة عند الإمام مسلم رقم (1044) أن النَّبِي ص قال: $يا قبيصة إن الْمَسألة لا تَحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تَحمل حمالة (1) فحلت له الْمَسألة حَتَّى يصيب قوامًا من عيش، أو سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حَتَّى يصيب قوامًا من عيش، أو سدادًا من عيش، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله حلت له حَتَّى يصيب قوامًا من عيش، -أو قال- سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حَتَّى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانًا فاقة حلت له الْمَسألة حَتَّى يصيب قوامًا من عيش، وما سواهن من الْمَسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا# اهـ.
وأيضًا قد أخرج الترمذي (681) وأبو داود (1639) والنسائي (ج5 ص100) وابن حبان فِي $صحيحه# (842) من طريق عبد الْمَلك بن عمير، عن زيد بن عقبة، عن سمرة بن جندب أن النبِي ص قال: $إن الْمَسألة كد يكد بها الإنسان وجهد إلا أن يسأل سلطانًا أو فِي أمر لابد منه#. وسنده صحيح كل رجاله ثقات.
__________
(1) قال ابن الأثير: الْحَمالة بالفتح: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة ليصلح ذات البين. ا هـ.(1/247)
فإذا عُلِمَ أن الْمَسألة مذمومة على الإطلاق إلا فيما استثناه هذان الْحَديثان، فاعلم أنها فِي ذلك الوقت أشد الناس فِي مصافهم يذكرون الله قبل مَجيء الْخَطيب فيأتي السائلون يشغلونهم، هذا السائل يَجمع على نفسه إثم الْمَسألة، وإثم تَخطي رقاب الناس، وإثم أذيتهم وشغلهم عن ذكر الله. والله الْمُستعان.
42- ملازمة قسمة سورة السجدة فِي الركعتين من صلاة فجر يوم الْجُمعة:
هذه بدعة فقد ثبت فِي $صحيح مسلم# (ج2 ص599) من حديث ابن عباس: أن النبِي ص كان يقرأ فِي صلاة الفجر يوم الْجُمعة +الّم ((( تَنزِيلُ". و+هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ". وأن النبِي ص كان يقرأ فِي صلاة الْجُمعة سورة الْجُمعة والْمُنافقين. ا هـ.
وقد قال ببدعية من تعمد قسمة هذه السورة فِي كل جُمعة ابن القيم فِي $زاد الْمَعاد# (ج1 ص381) قال -رحِمه الله-: ولا يستحب أن يقرأ من كل سورة بعضها، أو يقرأ إحداهما فِي الركعتين، فإنه خلاف السنة، وجهال الأئمة يداومون على ذلك. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فِي $الاختيارات# (ص 121): والسنة إكمال سورتي السجدة و هَلْ أَتَى اهـ.
43- ملازمة قراءة شيء من سورة السجدة، أو شيء من سورة الدهر فِي صلاة الفجر:
انظر $زاد الْمَعاد# (ج1 ص381). و $الاختيارات# لشيخ الإسلام (ص121)، فنعم إن تَحري ذلك بدعة، وتقدم فِي الفقرة رقم (41) ما يدل على خلاف هذا الصنيع.
44- ملازمة قراءة أول سورة الكهف فِي صلاة فجر الْجُمعة:
هذه بدعة، تقدم فِي فقرة (41) ما يدل على خلاف هذا الصنيع، وانظر كتاب $السنن والْمُبتدعات# (ص82-85) ترى كثيرًا من البدع، كهذه.
45- ملازمة قراءة سورة +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فِي الركعة الثانية من الفجر أو من الْجُمعة:(1/248)
ربَّما استدل بعض الشيعة ومن وافقهم بِحديث عائشة ل : $أن النَّبِي ص بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه فِي صلاتهم فيختم بـ +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ص فقال: $سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟# فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحْمن T وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبِي ص: أخبروه أن الله يُحبه#.
أخرجه البخاري رقم (7375)، ومسلم رقم (813).
قال الْحَافظ ابن رجب فِي $فتح الباري# (ج7 ص73) عند حديث رقم (774) قال: ويدل على أنه ليس هو الأفضل؛ لأن أصحابه استنكروا فعله، وإنما استنكروه لأنه مُخالف لِما عهدوه من عمل النَّبِي ص وأصحابه فِي صلاتهم، ولِهذا قال النَّبِي ص: $ما يَمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟#. فدل على أن موافقتهم فيما أمروا به كان حسنًا، وإنما اغتفر ذلك لِمحبته لِهذه السورة.
قلت: ولا يشكل على ذلك جَمع النَّبِي ص بين السور فِي ركعة واحدة، فذلك عليه أدلة كثيرة، وقد بوَّب عليه الإمام البخاري، وأكثر أهل العلم على شرعيته، لكن تَحرِّي ختم الصلاة بهذه السورة بعينها فِي كل صلاة، هذا هو الْمَنكور.
ولِهَذا لَمْ نَجد من الصحابة -رضوان الله عليهم- من فعل بفعل ذلك الصحابي، بل اعترض بعضهم عليه، وأنكر عليه النَّبِي ص فعله ذلك وترك جَميع الناس تَحري قراءة هذه السورة فِي آخر كل ركعتين جهرية إلا الشيعة -سوائم البدع-.
وعلم من سنة رسول الله ص أنه كان يقرأ فِي الْجُمعة فِي الركعة الأولَى بسبح، وفِي الثانية بالغاشية، أو يقرأ فِي الأولَى بسورة الْجُمعة وفِي الثانية بسورة الْمُنافقين، وقد كره قراءة سورة +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فِي آخر كل ركعتين جهريتين الإمام أحْمَد فِي رواية، وكرهه بعض الْحَنفية. انظر $الفتح# لابن رجب كما سبق.
وأنكر الْخَتم بـ +قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" ابن وضاح فِي $البدع والنهي عنها#.
46- اعتقاد أن أرواح الْمَوتى تتزاور يوم الْجُمعة:(1/249)
هذا ذكره ابن القيم فِي $زاد الْمَعاد# (ج1 ص415) وفِي $الروح# (ص5) فما بعدها من الباب، وليس على هذه الْمَسألة حديث صحيح يَجب التعويل عليه فِي أن أرواح الْمَوتى تتزاور يوم الْجُمعة، فهذا اعتقاد غير صحيح، وإنما الثابت من وجوه أنها تتزاور بغير تَحديد يوم الجمعة، والله أعلم.
47- تَخصيص الصدقة بيوم الْجُمعة باعتقاد أنها أفضل من غيرها من الأيام:
ذكر هذا ابن القيم فِي $زاد الْمَعاد# (ج1 ص407) الْخَصيصة الْخَامسة والعشرين، ولَم يذكر دليلاً صحيحًا عليها كما أبنته فِي كتاب $أحكام الْجُمعة#، وهذه دعوى تَحتاج إلى دليل، فالأدلة تقتضي فضيلة الصدقة فِي جَميع الأيام، ولَم يكن السلف يتحرون الإنفاق فِي يوم الْجُمعة فقط، ولو كان فيه مزية على غيره لتحروا ذلك غاية التحري؛ كما هو معلوم من تسابقهم إلَى الْخَيرات.
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ص: $يستحب أن يصوم يوم الأربعاء، والْخَميس، والْجُمعة، ويتصدق مما قل أو كثر من يوم الْجُمعة#. اهـ وهو فِي $العلل الْمُتناهية# (ج1 ص464).
وقد ذكرنا فِي فصل خصائص الْجُمعة: أنه لَم يثبت حديث فِي كون الصدقة فيها أفضل من غيرها.
48- تعميم قراءة القرآن أو الأذان من مسجد واحد من مساجد البلد إلى الْمَساجد الأخرى عن طريق مكبرات الصوت.
هذه بدعة منكرة وفيها تشويش وأذية للقارئين والْمُصلين، وقد ثبت عند أبِي داود رقم (1332)، وعبد بن حُميد فِي $الْمُنتخب# رقم (883)، وأحْمَد (ج3 ص94) وابن خزيْمة (ج3 ص94) والنسائي فِي $الكبرى# رقم (8092) كلهم من طريق عبد الرزاق فِي $الْمُصنف# رقم (4216) عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $ألا إن كلكم يناجي ربه؛ فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة#. وسنده صحيح كل رجاله ثقات.(1/250)
49- جعل قارئ يقرأ فِي مكبر الصوت يوم الْجُمعة والآخرون فِي الْمَسجد يستمعون مع أنهم يقدرون على قراءة القرآن.
بدعة منكرة، انظر $الإبداع فِي مضار الابتداع# لعلي مَحفوظ (ص177).
50- جعل شريط بصوت أحد القراء يقرأ فِي مسجل قبل الفجر أو قبل الْجُمعة على مكبر الصوت والآخرون يستمعون:
هذا أيضًا من البدع الْمُنكرة، ومن أذية الْمُصلين والذاكرين الله، والله الْمُستعان.
51- التزين للجمعة بِحلق اللحية!
حلق اللحية من أصله مُحرم فهو بدعة فِي الدين، وتشبه بالكافرين، وتَميع وتشبه بالنساء، وقد جاءت أدلة كثيرة فِي النهي عن حلقها أو أخذ شيء منها، فقد أخرج البخاري رقم (5892-5893)، ومسلم (259) من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا بلفظ: $خالفوا الْمُشركين؛ وفروا اللحى وأحفوا الشوارب#.
52- التجمل للجمعة بلباس الكفار كالبناطيل والكرفتات، وتسريح الرأس من أحد الْجَانبين.
وهذه الْمُنكرة ظاهرة ومنتشرة فِي أوساط الْمُسلمين، وقد حذر الله - سبحانه وتعالى - عن التشبه بالكافرين فقال تعالى: +وَلاََ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " [آل عمران: 105]. وقال تعالى: +اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ((( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاََ الضَّالِّينَ" [الفاتِحة: 6-7].(1/251)
والْمَغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى، كما ثبتت بذلك أدلة القرآن والسنة، ونقل الإجْمَاع عليه، كما أبان ذلك الإمام ابن كثير عند هذه الآية من $تفسيره#، وقال تعالَى: +ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاََ يَعْلَمُونَ (((( إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ" [الْجَاثية: 18-19].
وقال تعالَى: +وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ" [البقرة: 145].
وقال تعالَى: +وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ" [الْمَائدة: 48].
وقال النبِي ص فيما ثبت عنه من حديث عبد الله بن عمرو قال: $وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم#.
وفِي $الصحيحين# من حديث عائشة وأم سلمة، وهو عند مسلم من حديث جندب بن عبد الله بنحوه أن النبِي ص قال: $لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك#.
وفِي $الصحيحين# من حديث أبي هريرة أن النبِي ص قال: $إن اليهود لا يصبغون، فخالفوهم#.
قال النووي -رحِمه الله- فِي $رياض الصالحين#: الْمُراد: خضاب شعر اللحية والرأس الأبيض بصفرة أو حُمرة، أما السواد فمنهي عنه. اهـ.
قلت: نعم منهي عنه؛ ففي $صحيح مسلم# رقم (2102) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد#.(1/252)
وثبت فِي $سنن الترمذي# وغيره من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $يكون أناس يَخضبون لِحاهم بالسواد كحواصل الْحَمام لا يدخلون الْجَنة ولا يَجدون ريْحها#.
والْحَاصل: أن أدلة تَحريم التشبه بالكافرين من القرآن والسنة كثيرة جدًّا، وقد جَمع فيها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحِمه الله- كتابًا وحيدًا فِي بابه، ننصح كل مسلم حريص على سلامة نفسه من عذاب الله أن يستفيد من تلك الأدلة الْمَذكورة فِي ذلك الكتاب بعنوان $اقتضاء الصراط الْمُستقيم، مُخالفة أصحاب الْجَحيم#.
53- التحلق فِي الْمَسجد الْجَامع قبل الْجُمعة:
أخرج أبو داود (ج3 ص417)، والترمذي (ج1 ص266)، والنسائي (ج2 ص47)، وابن ماجه (ج1 ص359)، وأحْمَد (ج2 ص179)، وابن خزيْمة (ج3 ص158) من طرق عن مُحَمَّد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله ص نهى عن الشراء والبيع فِي الْمَسجد، وأن تنشد فيه ضالة، أو ينشد فيه شعرٌ ونهى عن التحلق. وهذا سند حسن.
وحديث نهي رسول الله ص عن التحلق يوم الْجُمعة، فعلم أن التحلق يوم الْجُمعة فِي الْمَسجد مكروه بسبب تقطيع الصفوف وربَّما اتخذه الناس عادة أو عبادة، فعند ذاك تصعب إزاحتهم عن ذاك الْمُنكر، وقد بينا تفصيل هذا الْمَسألة فِي $أحكام الْجُمعة# باب: كراهية التحلق قبل صلاة الْجُمعة.
54- تهاون بعض الناس من ذوي الأعمال بعدم الغسل للجمعة، وعدم التجمل لَهَا باللباس الشرعي النظيف، وبعدم التطيب والسواك:
كل هذه الأمور مشروعة للجمعة على تفصيل فِي بعضها من حيث الوجوب والندب، فتركها عمدًا يعتبر خطأ يتفاوت بِحسب الْمَتروك من هذه الأمور.
55- تَخلف مشاهدي كرة القدم فِي بعض البلدان عن حضور الْجُمعة:
منكر عظيم.
56- تَخلف العروس عن صلاة الْجُمعة والْجَماعة.
57- جلوس بعض الداخلين للمسجد يوم الْجُمعة وقت الْخُطبة بدون أن يصلي ركعتَي تَحية الْمَسجد:(1/253)
وقد قال النَّبِي ص لسليك حين دخل يوم الْجُمعة وقت الْخُطبة، وجلس ولَم يركع، قال له: $قم فصل ركعتين وتَجوز فيهما#.
أخرجه البخاري رقم (1166)، ومسلم رقم (875) من حديث جابر بن عبد الله.
وأخرج البخاري رقم (444)، ومسلم (714) من حديث أبِي قتادة أن النَّبِي ص قال: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد؛ فليركع ركعتين قبل أن يَجلس#.
58- السعي حال الْمَجيء إِلَى الْجُمعة بسرعة فِي الْمَشي أو على السيارة سرعة تنافِي السكينة:
فقد جاء من حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - أن النَّبِي ص قال: $إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تَمشون وعليكم السكينة والوقار#.
أخرجه البخاري رقم (636)، ومسلم رقم (602)، وقد جاء من حديث أبِي قتادة فِي البخاري رقم (635)، ومسلم رقم (603).
فالْحَديثان متفق عليهما.
ففي هذا الْحَديث: أن الآتي إِلَى الْجُمعة يَجب عليه أن يلازم السكينة والوقار، فمهما اختل هذان الأمران فِي حق راكب أو ماشٍ كان مُخطئًا، وقد بينا ذلك بأدلته فِي الأصل لِهذا الكتاب، وهو كتاب $أحكام الْجُمعة# فراجعه إن رمت الاستزادة.
59- تشميت العاطس ورد السلام والإمام يَخطب:
تقدم بَحث ذلك فِي كتاب $أحكام الْجُمعة# وأنه لغو مبطل لثواب الْجُمعة.
60- النوم وقت الْخُطبة مكروه:
أخرج القرطبِي فِي $تفسيره# (ج18 ص117) عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يكرهون النوم والإمام يَخطب، ويقولون فيه قولاً شديدًا؛ يقولون: مثلهم كمثل سرية أخفقوا، أي: لَم يغنموا شيئًا. اهـ.
61- استدبار الْخَطيب والقبلة والإمام يَخطب:
تقدم القول فِي كراهة ذلك فِي كتاب $أحكام الْجُمعة#.
قال ابن القيم -رحِمه الله-: وكان إذا خطب قائمًا فِي الْجُمعة استدار أصحابه إليه بوجوههم، وكان وجهه قِبَلَهم فِي وقت الْخُطبة. اهـ من $زاد الْمَعاد# (ج1 ص430).
وقال الترمذي فِي $جامعه#: والعمل على هذا عند أهل العلم، وكذا قال البغوي فِي $شرح السنة# (ج4 ص260).(1/254)
62- مس الْحَصى وشم الريْحان، والعبث باللحية والأظفار، واللعب بالسبحة، وتقليب الْمَفاتيح.
كل هذا منهي عنه وقت الْخُطبة، وانظر ما قررنا فِي هذا الفصل من أحكام الْجُمعة، وقد نص على كراهية بعضها شيخ الإسلام (ج2 ص85) $الفتاوى#.
63- سنة الْجُمعة بعد الأذان وقبل الْخُطبة بدعة منكرة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحِمه الله- فِي سؤال وُجِّه إليه فِي الصلاة بعد الأذان الأول يوم الْجُمعة هل فعله النَّبِي ص أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟ فأجاب قائلاً:
الْحَمد لله رب العالَمين.. أما النَّبِي ص فإنه لَمْ يكن يصلي قبل الْجُمعة بعد الأذان شيئًا، ولا نقل هذا عن أحد؛ فإن النَّبِي ص كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على الْمِنبر، فيؤذن بلال ثُمَّ يَخطب النَّبِي ص الْخُطبتين، ثُمَّ يقيم بلال فيصلي النَّبِي بالناس، فما كان يُمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من الْمُسلمين الذين معه، ولا نقل عن أحد أنه صلى فِي بيته قبل الْخُروج يوم الْجُمعة ولا وقت؛ بقوله صلاة قبل الْجُمعة؛ بل ألفاظه كلها فيها الترغيب فِي الصلاة إذا قدم الرجل الْمَسجد يوم الْجُمعة؛ ولِهذا كان جَماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الْجُمعة سنة مؤقتة بوقت مقدَّرة بعدد. اهـ. باختصار من $الفتاوى الكبرى# (ج2 ص351).
وقال الإمام أبو شامة -رحِمه الله-: وإنما الْمُنكر اعتقاد العامة ومعظم الْمُتفقهة أن ذلك سنة للجمعة قبلها، والْجُمعة لا سنة لَهَا قبلها، والدليل على أنه لا سنة لَهَا قبلها: أن الْمُراد من قولنا الصلاة الْمَسنونة أنها منقولة عن الرسول ص قولاً وفعلاً، والصلاة قبل الْجُمعة لَم يأت فيها شيء عن النبِي ص يدل أنها سنة. اهـ. من كتابه $الباعث على إنكار البدع والْحَوادث# (ص 285-286).(1/255)
وقال ابن القيم -رحِمه الله-: وكان إذا فرغ بلال من الأذان أخذ النَّبِي ص فِي الْخُطبة ولَم يقم أحد يركع ركعتين ألبتة، ولَم يكن الأذان إلا واحدًا، وهذا يدل على أن الْجُمعة كالعيد لا سنة لَها قبلها، وهذا أصح قولي العلماء وعليه تدل السنة. اهـ الْمُراد، ولكلامه بقية فِي $زاد الْمَعاد# (ج1 ص431-432).
وقد ذكر هذه البدعة غير واحد من الْمُتقدمين والْمُتأخرين، وانظر $السنن والْمُبتدعات# (ص85).
قال: وصلاة سنة الْجُمعة القبلية بدعة سيئة فاحذروها. اهـ.
64- احتجاز بعض الْمَواضع فِي الصف الأول أو غيره من الْمَسجد بسجادة أو نَحوها، ثم يتأخر عن الْجُمعة ومكانه مَحجوز، فإذا أتى ذهب إلَى مكانه ذلك فيما يزعم.
هذه بدعة منكرة فالنبِي ص يقول: $من سبق إلَى مباح فهو أحق به#.
وأخرج مسلم فِي $صحيحه# من حديث أبي هريرة: أن النبِي ص قال: $من قام من مَجلسه ثم رجع إليه؛ فهو أحق به#.
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية: عمن تَحجَّر موضعًا فِي الْمَسجد بسجادة أو بساط أو غير ذلك؟ فأجاب: ليس لأحد أن يتحجر من الْمَسجد شيئًا، لا بسجادة يفرشها ولا بساطًا، ولا غير ذلك، وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها. اهـ.
من $الكبرى# (ج2 ص79-80).
وانظر $الْمَدخل# (ج2 ص224).
* * * * *
بدع الأذان
من الْمَعلوم بقواطع الأدلة أن الأذان من أعظم شعائر هذا الدين الْحَنيف.
فقد أخرج البخاري فِي $صحيحه# (ج2 ص84) فتح، ومسلم (ج4 ص91) نووي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل، حتى يُخطر بين الْمَرء ونفسه يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لِما لَم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلَّى#.(1/256)
وأخرج مسلم (ج4 ص89) من حديث معاوية - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $الْمُؤذنون أطول أعناقًا يوم القيامة#.
وأخرج البخاري (ج2 ص 87-88) من حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $لا يسمع مدى صوت الْمُؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة#.
وأخرج أبو داود فِي $سننه# (ج1 ص142) من حديث أبي هريرة: أن النبِي ص قال: $الْمُؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس#.
وهذا الْحَديث فيه كلام، لكن يشهد له ما عند النسائي (ج2 ص13) من حديث البراء بن عازب بِهذا اللفظ، وفيه انقطاع؛ فقتادة يرويه عن أبِي إسحاق عن البراء، وقتادة لَمْ يسمع من أبِي إسحاق كما فِي $جامع التحصيل# للعلائي، وللحديث شواهد أخرى يصلح بها الاحتجاج، انظرها فِي $الترغيب والترهيب# للمنذري و$مَجمع الزوائد# للهيثمي (ج1 ص326).
وأخرج مسلم فِي $صحيحه# (ج4 ص84) من حديث أنس - رضي الله عنه - : أن النبِي ص كان يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذانًا أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر، الله أكبر، فقال رسول الله ص: $على الفطرة#، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن مُحمَّدًا رسول الله، أشهد أن مُحمَّدًا رسول الله، فقال رسول الله ص: $خرجتَ من النار#، فنظروا فإذا هو راعي معز.
وفِي البخاري رقم (615) ومسلم (437) من حديث أبِي هريرة: أن النَّبِي ص قال: $لو يعلم الناس ما فِي النداء والصف الأول ثُمَّ لَمْ يَجدوا إلا أن يستهموا عليه؛ لاستهموا#.
وإذا كان كذلك فلابد فيه من تَحري سنة رسول الله ص الَّتِي أقرها ومضى عليها حَتَّى توفِّي.
* * * * *
من السنة الأذان الأول
للفجر سواء فِي ذلك يوم الْجُمعة وغيرها(1/257)
أخرج البخاري فِي $صحيحه# (ج2 ص101)، ومسلم (ج7 ص202) من حديث ابن عمر: أن النبِي ص قال: $إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت#.
وفِي رواية فِي البخاري (ج4 ص136) ومسلم (ج8 ص203): $لا يَمنعنكم من سحوركم أذان بلال، فكلوا واشربوا حَتَّى يؤذن ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حَتَّى يطلع الفجر#.
قال القاسم بن مُحمَّد: ولَم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا.
قال الْحَافظ ابن حجر فِي $الفتح# (ج2 ص104): وإلَى مشروعيته مطلقًا ذهب الْجُمهور. اهـ.
قلت: نعم؛ وقول بعضهم أن الأذان الأول قبل الفجر يشرع فِي رمضان فقط، هذا قول باطل ترده الأدلة؛ ذلك لأن النَّبِي ص لَمْ يُخصص رمضان من غيره فالْحَديث عام، وأيضًا فقد كان أكثرهم كثير الصيام فِي غير رمضان، وأيضًا فقد كان بلال مؤذنًا لرسول الله ص حَتَّى مات.
وفِي الْحَديث أن بلالاً يؤذن بليل، فلم يأت ما يدل أنه كان يؤذن بليل فِي رمضان دون غيره، فقائل ذلك التخصيص لا دليل له عليه، فعلم أن قول الْجُمهور هو الراجح يقينًا، والْحَمد لله.
ونَحن إنمَا ذكرنا الأذان الأول لفجر يوم الْجُمعة وغيرها لتعليم السنة وتعض عليها بالنواجذ، ونُحذر من تلك البدعة الشنيعة الَّتِي يفعلها شيعة اليمن وصوفيته ومبتدعته وخرافيته، واغتر بِهم بعض الْجَاهلين وعن علوم السنة عاطلين.
65- ألا وهي ما تسمى بالتذكير قبل الفجر وقبل حضور الْخطيب لخطبة الْجُمعة:(1/258)
فتراهم للأذان -الأول سنة رسول الله ص- تاركين وللبدع والْمُنكرات الَّتِي زينها لَهم إبليس سالكين، فيقوم أحدهم قبل طلوع الفجر بساعة أو نصفها يزعق ويصرخ بكلمات بدعية وبعضها شركية ومسجوعة، ينسجها ذلك الْمُؤذن الْجَاهل أو يَحفظها من مؤذن مسجد آخر أبعد منه فِي الضلالة وأقدم منه فِي الْجَهالة. ومن تلك الكلمات الباطلة قول بعضهم: سبحان من لا تراه العيون، فهذا الإجْمال الذي اخترعته الشيعة يحذو حذو منهج قدوتهم الْمُعتزلة فِي نفي الصفات، أي: أن الله سبحانه لا يراه الْمُؤمنون يوم القيامة بأعينهم، وأعرضوا فِي ذلك عن مئات الأدلة من القرآن وصحيح السنة فِي إثبات رؤية الْمُؤمنين لربهم يوم القيامة، منها: قول الله تعالَى: +وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (((( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" [القيامة: 22-23]. وقول النَّبِي ص $إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب#.
أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وأخرجا جُملة من أحاديث الرؤية فِي صحيحهما. وللإمام الدارقطنِي مُجلد مستقل حشد فيه الأدلة من القرآن والسنة على ثبوت رؤية الْمُؤمنين لربهم يوم القيامة، وحشد الإمام ابن الوزير -رحِمه الله- جُملة كبيرة منها فِي كتابه $العواصم والقواصم# استغرقت الْمُجلد إلا قليلاً.
وكون الْمُؤمنين يرون ربهم يوم القيامة لا خلاف فِي ذلك بين أصحاب رسول الله ص ومن بعدهم من السلف الصالح إلَى يومنا هذا ألبتة، فكلام ذلك الْمُسبح الْجَاهل مُحتمل أن يعنِي به نفي هذه الصفة الَّتِي تواترت عليها الأدلة، ومُحتمل أن يعنِي به ألاَّ تراه العيون فِي الدنيا وهذا صواب لِحديث: $إنكم لن تروا ربكم حتى تَموتوا#.وأخرجه مسلم.
فهو كلام مُجمل مُحتمل للحق والباطل؛ فيجب تركه ولَم يرد بِهذا التسبيح كتاب ولا سنة، وهذه الكلمة الْمُبتدعة واحدة من عدة كلمات منكرة يقولُها أولئك الْمُذكِّرون -زعموا-.(1/259)
والْحَاصل: أن ذلك التسبيح أو التذكير باختلاف مسمياته وألفاظه بدعة منكرة لَمْ يفعلها رسول الله ص ولا مؤذنوه ولا أحد من أصحابه ولا غيرهم من الْمُستقيمين ألبتة، وهي تعتبر معارضة لسنة رسول الله ص لبَّس بِهَا الشيطان على أولئك الْجَهلة ليصدهم بِهَا عن ذكر الله وعن الصلاة فِي ذلك الوقت الْمُبارك، وقد أنكر هذه البدعة جَماعة كثيرون من أهل العلم منهم ابن الْجَوزي -رحِمه الله- وقال: إنها بدعة كما فِي $فتح الباري# لابن رجب (ج5 ص333) ونقل القول ببدعيته عن جَمع.
قال ابن الْجَوزي -رحِمه الله- فِي $تلبيس إبليس# (ص137): ذكر تلبيسه عليهم فِي الأذان: ومن ذلك التلحين فِي الأذان وقد كرهه مالك بن أنس وغيره من العلماء كراهية شديدة؛ لأنه يُخرجه عن موضع التعظيم إلَى مشابهة الغناء، ومنه أنهم يَخلطون أذان الفجر بالتذكير والتسبيح والْمَواعظ، وقد كره العلماء ما يضاف إلَى الأذان، وقد رأينا من يقوم بالليل كثيرًا على الْمَنارة فيعظ ويذكر، ومنهم من يقرأ سورًا من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم ويَخلط على الْمُتهجدين قراءتهم، وكل ذلك من الْمُنكرات. اهـ.
وقال ابن الْحَاج فِي $الْمَدخل# (ج2 ص248): وينهى الْمُؤذنون عما أحدثو من التسبيح بالليل، وإن كان ذكر الله تعالَى حسنًا سرًّا وعلنًا، لكن لا فِي الْمَواضع الَّتِي تركها الشارع -عليه صلوات الله وسلامه- ولَم يعين فيها شيئًا معلومًا.(1/260)
وقد رتب الشارع -صلوات الله عليه وسلامه- أذانًا قبل طلوع الفجر وأذانًا عند طلوعه، قال -عليه الصلاة والسلام-: $إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم#. بِخلاف ما أحدثوه من التسبيح، وما يقولون فِيه حَتَّى إن بعضهم يندب الأطلال(1). بصوت فيه تَحزين يقرب من النوح فِي كثير من الأحيان.
ثُمَّ مع ذلك لا يعرف الناس فِي الغالب أي وقت هم فيه من الليل بالنسبة إِلَى طلوع الفجر، سيما وهم قد أحدثوا زيادة على ما ذكر أنه إذا قرب طلوع الفجر سكتوا سكتة طويلة ثُمَّ يؤذنون فمن أفاق فِي حال سكوتهم فقد يُخيل إليه أنه فِي الليل بعد؛ فيقع بِهذا الضرر لبعض الناس.
ثُمَّ العجب من أنهم يأتون بالأذان الأول للصبح قبل طلوع الفجر ويُخفون ذلك، فإذا فرغوا منه رفعوا أصواتهم بِمَا أحدثوه من التسبيح، فإنا لله وإنا إليه راجعون، السنة تَخفى، وغير ما شرع يُظهر(2).
فإن قال قائل: إنمَا يَخفون الأذان الأول للصبح خيفة أن يصلي الناس على ذلك الأذان صلاة الصبح؛ فتكون صلاتهم باطلة لإيقاعها قبل دخول الوقت:
فالجواب: إنهم لو امتثلوا السنة فيما تقرر من ترتيب الْمُؤذنين واحدًا بعد واحد، وأن الأول معروف وقته وكذلك الثاني لَما انبهم الوقت على أحد مِمَّن سمعهم وكانوا متبعين لسنة نبيهم ص.
__________
(1) الأطلال ما شخص من الْجَسد يقال: حيَّا الله طللك، وأطلالك أي: ما شخص من جسدك، وربَّما تطلق لفظة الأطلال على الأشراف. اهـ من $لسان العرب# و $تاج العروس# فيكون الْمَعنى: كأنه يندب أشلاء الأموات الشرفاء.
(2) قلت: هذا لعله كان آنذاك فِي بلده يأتون بالأذان الأول بصوت منخفض ثُمَّ بعد ذلك يَجهرون بالتسبيح، أما الآن فإن أكثرهم استبدلوا بدله بتلك البدعة فلا يأتون به ألبتة لا بصوت مرتفع ولا مَخفوض، لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه.(1/261)
وكذلك ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النَّبِي ص عند طلوع الفجر، وإن كانت الصلاة والتسليم على النَّبِي من أكبر العبادات وأجلها، فينبغي أن يسلك بِهَا مسلكها؛ فلا توضع إلا فِي مواضعها الَّتِي جعلت لَها؛ ألا ترى أن قراءة القرآن من أعظم العبادات؛ ومع ذلك، لا يَجوز للمكلف أن يقرأه فِي الركوع ولا فِي السجود ولا فِي الْجُلوس فِي الصلاة؛ لأن ذلك ليس بِمحل التلاوة، فالصلاة والتسليم على النَّبِي ص أحدثوها فِي أربعة مواضع لَمْ تكن تفعل فيها فِي عهد من مضى، والْخَير كله فِي الاتباع لَهم ي مع أنها قريبة العهد بالْحُدوث جدًّا، أقرب مِمَّا تقدم ذكره فيما أحدثه بعض الأمراء من التغنِّي بالأذان، كما تقدم، وهي:
1- عند طلوع الفجر من كل ليلة.
2- وبعد أذان العشاء ليلة الْجُمعة.
3- وبعد خروج الإمام فِي الْمَسجد على الناس يوم الْجُمعة حَتَّى يقر فِي الْمِنبر.
4- وعند صعود الإمام عليه يسلمون عند كل درجة يصعدها، والكل فِي الإحداث قريب، أعنِي فِي زماننا هذا وأصل إحداثه من قِبَلِ الْمَشرق.
وتقدم الْحَديث عنه -عليه الصلاة والسلام- بقوله: $الفتنة من هاهنا# وأشار إلَى الْمَشرق، وقد تقدم فِي أول الكتاب كيف كان خوف الصحابة ي من الْحَدث فِي الدين.
فالصلاة والتسليم على النبِي ص لا يشك مسلم أنها من أكبر العبادات، لكن اتخاذها عادة من الْمُؤذنين على الْمَنابر عند طلوع الفجر وغيره مما تقدم لَم يكن ذلك مشروعًا ولا فعله أحد من السلف الْمَاضين ي، ومع ما ذكر من التعليل ترتب عليه مفاسد، منها:(1/262)
الوجه الأول: ارتكاب نهيه ص بقوله: $لا يَجهر بعضكم على بعض بالقرآن#(1). فنهى -عليه الصلاة والسلام- عن الْجَهر بالقرآن، وتلاوته من أكبر العبادت وما ذاك إلا لِمَا يدخل من التشويش على الْمُتهجدين؛ فلا يبقى أحد منهم إلا وقد وصل له من التشويش ما لا خفاء فيه، فيتفرق أمرهم وتشوش خواطرهم، هذا وجه.
والوجه الثاني: أن بعض العوام يأتون الْمَسجد لأجل سماع التسبيح بتلك الألْحَان والنغمات؛ فيقع منهم أشياء من الزعقات وما يشبهها مِمَّا يُنَزَّه الْمَسجد عنها.
الوجه الثالث: ما أحدثوه فيه من صعود الشبان إذ ذاك على الْمَنابر ولَهم أصوات حسنة ونغمات تشبه الغناء؛ فيرقعون عقيرتهم بذلك؛ فكل من له غرض خسيس يصدر منه فِي وقت سماعه ما لا ينبغي، وقد يكون ذلك سببًا لتعلق قلب من لا خير فيه بالشاب الذي يسمعونه، ويترتب على ذلك من الفتن أشياء لا تنحصر.
فالْحَاصل: أن كل ما جاء على خلاف ما أحكمته الشريعة الْمُطهرة فمفاسده عديدة لا تنحصر. اهـ باختصار من $الْمَدخل# (ج2 ص248-253).
وقال العلامة جَمال الدين القاسمي -رحِمه الله-: وينهى الْمُؤذنون عما أحدثوه من التسبيح بالليل، ثُمَّ ذكر جُملة مِمَّا ذكره ابن الْحَاج فيما ذكرنا آنفًا، وقال أيضًا: وينهى الْمُؤذنون عما أحدثوه من التذكار يوم الْجُمعة؛ لأن النَّبِي ص لَمْ يفعله، ولا أمر به، ولا فعله أحد بعده من السلف الْمَاضين ي، بل هو قريب العهد بالْحُدوث.اهـ الْمُراد من كتابه $إصلاح الْمَساجد من البدع والعوائد# (ص134).
__________
(1) من حديث أبِي سعيد الْخُدري - رضي الله عنه - ، أخرجه أبو داود (ج4 ص213) $عون الْمَعبود#، وعبد بن حُميد فِي $الْمُنتخب# (ج2 ص66) من طريق: عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي سلمة، عن أبِي سعيد الْخُدري، وهذا سند صحيح، كل رجاله ثقات.(1/263)
وقال العلامة فقيه الْحَنابلة منصور بن يونس البهوتي: وما سوى التأذين قبل الفجر ويوم الْجُمعة من التسبيح والتشيد ورفع الصوت بالدعاء ونَحو ذلك فِي الْمَآذن أو غيرها فليس بِمسنون، وما أحد من العلماء قال إنه يستحب، بل هو من جُملة البدع الْمَكروهة؛ لأنه لَم يكن فِي عهده ص ولا عهد أصحابه، وليس له أصل فيما كان على عهدهم يرد إليه، ولا يعلق استحقاق الرزق به؛ لأنه أعانه على بدعة ولا يلزم فعله ولو شرطه واقف(1). اهـ من $كشاف القناع عن متن الإقناع# (ج1 ص243).
وقال الْحَافظ فِي $الفتح#: أما ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الْجُمعة ومن الصلاة على النبِي ص ليس من الأذان لا لغة ولا شرعًا. اهـ.
وقال سيد سابق -رحِمه الله-: الأذان عبادة ومدار الأمر فِي العبادة على الاتباع؛ فلا يَجوز لنا أن نزيد شيئًا فِي ديننا أو ننقص منه، وفِي الْحَديث الصحيح: $من أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد#. أي: باطل، ونَحن نشير هنا على أشياء غير مشروعة درج عليها الكثير حتى خيل للبعض أنها من الدين وهي ليست منه فِي شيء، من ذلك:
1- قول الْمُؤذن حين الأذان أو الإقامة: أشهد أن سيدنا مُحمَّدًا رسول الله.
2- مسح العينين بباطن أُنْملتَي السبابتين بعد تقبيلهما عند سماع قول الْمُؤذن: أشهد أن مُحمَّدًا رسول الله. انظر كتاب $البدع والْمُحدثات# (ص 191).
3- التغنِّي بالأذان واللحن فيه، بزيادة حرف أو حركة أو مد، وهذا مكروه فإن أدى إلَى تغيير معنى أو إبهام مَحذور فهو مُحرم، ثم ذكر أثرًا أن رجلاً قال لابن عمر: إني أحبك فِي الله، فقال: وأنا أبغضك فِي الله! قال: لِم؟ قال: لأنك تتغنى فِي أذانك وتأخذ عليه أجرًا.
قلت: لكنه ذكره من طريق يَحيى البكاء وهو ضعيف، بل قال فيه النسائي: متروك. كما فِي ترجَمته عند هذا الأثر من $ميزان الاعتدال#.
__________
(1) معناه: أن الوقف على من يسبح قبل الفجر لا ينعقد ولا يصح، لأنه بدعة.(1/264)
4- التسبيح قبل الفجر... ثُمَّ ذكر الذي تقدم من كلام البهوتي.
5- الْجَهر بالصلاة والسلام على الرسول عقب الأذان غير مشروع بل هو مُحدث مكروه.
قال ابن حجر فِي $الفتاوى الكبرى#: قد استفتي مشايُخنا وغيرهم فِي الصلاة والسلام على النبِي ص بعد الأذان على الكيفية التي يفعلها الْمُؤذنون، فأفتوا بأن الأصل سنة -أي: أصل الصلاة على النبِي ص- والكيفية بدعة. اهـ باختصار من $فقه السنة# (ج1 ص103-104).
سُئل أبو إسحاق الشاطبِي عن قول: (أصبح ولله الْحَمد) بعد الفراغ من أذان الصبح، فأجاب: إن قولَهم: أصبح ولله الْحَمد زيادة فِي مشروع الأذان للفجر، وهو بدعة قبيحة أحدثت فِي الْمِائة السادسة. اهـ من $الْمِعيار الْمُعرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والْمَغرب# للونشريسي (ج1 ص278).
66- التنعيم قبل الوقت:
يقول: نعم، ويَمد بها صوته إشعارًا بقرب دخول الوقت، بدعة منكرة أنكرها جَماعة من أهل العلم.
67- الاستعاذة والبسملة قبل الأذان:
لَمْ يرد بِهِمَا دليل لكن إذا سمى فِي نفسه تبركًا فلا يصل إلَى حد البدعة، أما إذا اعتاد الجهر بِهِمَا عند كل أذان فهي بدعة منكرة. وانظر كتاب $البدع والْمُحدثات وما لا أصل لَها# (ص487).
68- قراءة بعض الْمُؤذنين قبل الأذان:
قول الله تعالى: +قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاََ تَجْهَرْ بِصَلاَتِك وَلاََ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاًَ ((((( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" [الإسراء: 110-111] ثم بعدها يرفع صوته بالأذان.(1/265)
هذه بدعة منكرة لَم يفعلها أحد من مؤذني رسول الله ص فِي زمنه ولا بعده، ولَم يفعلها السلف الصالح -رضوان الله عليهم- وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: $مَنْ أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد#. متفق عليه، وعند مسلم فِي رواية: $من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد#. وأنظر لِهذه البدعة $البدع والْمُحدثات وما لا أصل لَهَا# جَمع حَمود الْمَطر (ص202).
69- عد الْمُؤذن للحاضرين يوم الْجُمعة بِحجة هل بلغوا العدد الْمَشروط لَهَا:
بدعة، انظر $الأجوبة النافعة# للعلامة الألباني (ص 74)، وقد قدمنا البحث فِي كتاب $أحكام الْجُمعة# أنه لَم يثبت دليل فِي تَحديد العدد الذي تصح به الْجُمعة، وإنما تصح بِما تصح به الْجَماعة.
70- قول الْمُؤذن يوم الْجُمعة بعد الأذان: اسمعوا وأنصتوا فإن الكلام حال الْخُطبتين مُحرم، أثابكم الله:
هذه بدعة منكرة، انظر $الاختيارات العلمية# لشيخ الإسلام ابن تيمية، قال شيخ الإسلام: هو مكروه أو مُحرم اتفاقًا (ص48).
71- دعاء بعض الناس وقت الْجَلسة بين الْخُطبتين.
هذه بدعة لعدم ثبوت حديث فِي شرعية ذلك، وانظر كتاب $إصلاح الْمَساجد من البدع والعوائد# لِجمال الدين القاسمي (ص 70).
72- دعاء بعض الْمُؤذنين قبل الأذان أو الإقامة بقولِهم: اللهم أحسن خاتِمتنا وعاقبتنا فِي الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، أو تَحري غير ذلك من الأدعية.
كل ذلك بدعة لا دليل عليها انظر كتاب $البدع والْمُحدثات وما لا أصل لَهَا# (ص200) وربَّما قالوا هذا الدعاء قبل الإقامة وهو كذلك مُحدث. انظر الْمَصدر السابق.
73- الزيادة على الأذان الْمَشروع بقول: حي على خير العمل:
لَم يثبت فيها حديث عن النَّبِي ص؛ فهي بدعة منكرة من اختلاقات الشيعة الْحَمقى.(1/266)
قال الإمام البيهقي -رحِمه الله- فِي $سننه# (ج1 ص425): وهذه اللفظة لَم تثبت عن النبِي ص ونَحن نكره الزيادة فيه. اهـ وانظر كتاب $البدع وما لا أصل لَهَا# (ص 194).
74- قول الْمُؤذن بعد الأذان: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا مَحمودًا الذي وعدته:
نعم لَمْ يأت صحيح أن مؤذني رسول الله ص كانوا على عهده يقولون ذلك، وإنَّما غاية ما فيه أن الأمر والْحَث فِي ذلك لسامع الْمُؤذن وليس الترديد للمؤذن نفسه.
فقد أخرج مسلم رقم (384) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $إذا سمعتم الْمُؤذن فقولوا مثلما يقول# والترديد إنما يكون عند ألفاظ الأذان، فإذا أذن ثم ردد يكون قد أتى بألفاظ الأذان متكررة، وهذه بدعة منكرة وسواء ردد بعد الفراغ أو أثناء الأذان كله بدعة.
وأما قول الْمُؤذن: اللهم رب هذه الدعوة التامة، فقد أخرج البخاري رقم (614) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت مُحمَّدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا مَحمودًا الذي وعدته؛ حلت له شفاعتِي يوم القيامة#.
الْحَديث استغربه الترمذي فِي $جامعه# رقم (211) وذكر ذلك ابن رجب فِي $فتح الباري# عند الْحَديث ثم ساق له شواهد، وساق له الْحَافظ ابن حجر بعض الشواهد والْمُتابعات لِمُحمَّد بن الْمُنكدر، وكلا الْحَافظين قبلا الْحَديث وأن له أصلاً، كما قبله قبلهما إمام الْحَديث البخاري -رحِمه الله-، فهو صحيح والْحَمد لله.
وبعد بيان ذلك فإن الْخِطاب فيه للمستمعين ولا يشمل الْمُؤذن.(1/267)
قال ابن رجب -رحِمه الله- عند شرح حديث رقم (613) من $صحيح البخاري#: وهل يشرع للمؤذن نفسه أن يُجيب نفسه بين كلمات الأذان؟ ذكر أصحابنا أنه يشرع له ذلك، وروي عن الإمام أحْمَد أنه كان إذا أذن يفعل ذلك، واستدلوا بعموم قوله: $إذا سمعتم الْمُؤذن فقولوا مثلما يقول#. والْمُؤذن يسمع نفسه فيكون مأمورًا بالإجابة، وقاسوه على تأمين الإمام على قراءة الفاتِحة مع الْمُؤُمِّنين وفِي هذا نظر فإن تأمين الإمام وردت به نصوص.
وقوله: $إذا سمعتم الْمُؤذن#. ظاهره يدل على التفريق بين السامع والْمُؤذن فلا يدخل الْمُؤذن. اهـ الْمُراد من $فتح الباري# لابن رجب (ج5 ص257).
قلت: نعم؛ فالفرق واضح فِي لفظ الْحَديث بين الْمُؤذن والْمُستمع، وأما قولُهم الْمُؤذن يسمع نفسه فهذا يعتبر تكلفًا مَحضًا، فإنه يلزم منه أن الْخَطيب يوم الْجُمعة حين يسمع نفسه يَخطب ينصت فِي نفس الوقت، وإلا بطلت جُمعته؛ لأن من سمع الْخُطبة يَجب عليه الإنصات، ويَجب على قارئ القرآن أنه عند أن يقرأ القرآن ينصت؛ لقول الله تعالَى: +وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف: 204]. وهذا عين التناقض أن يكون الْمَرء ناطقًا صامتًا! ولا قائل بِهذا فعُلم فساد هذا القول، وأنه بعيد كل البعد عن لغة العرب ودلالاتها على الْمَعاني، فتأمل.
75- قول بعض الْمُؤذنين بعد الأذان: الفاتِحة إلَى روح النبِي مُحمَّد وآله.
هذه بدعة منكرة فإهداء الفاتِحة إِلَى أرواح الْمَوتى غير مشروع لا بعد الأذان ولا غير ذلك، وكل بدعة ضلالة.
76- قول بعض السامعين للإقامة: أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض.(1/268)
هذه بدعة، قال الطرطوشي -رحِمه الله- فِي كتاب $الْحوادث والبدع# (ص152): وكذا قول من يقول عند قيام الإمام فِي الْمِحراب قبل تكبيرة الإحرام: اللهم أقمها وأدمها ما دامت السموات والأرض، وهذا دعاء الْمُحال؛ لأن ما بقي من قيام الساعة أقل مِمَّا مضى بدليل قوله ص: $بعثت أنا والساعة كهاتين، وقرن السبابة والوسطى# اهـ.
أخرجه البخاري (ج11 ص299) ومسلم (2951) من حديث أنس بن مالك.
77- تبليغ الْمُؤذن لتكبيرات الإمام فِي الصلاة لغير حاجة.
هذه بدعة منكرة سواء كان تبليغًا فرديًا أو جماعيًّا. قال فِي حاشية أبِي السعود: التبليغ عند عدم الْحَاجة إليه بأن يبلغهم صوت الإمام مكروه.
وفِي $السيرة الْحَلبية# قال صاحبها: اتفق الأئمة الأربعة على أن التبليغ حينئذٍ بدعة مكروهة -أي: لعدم الْحَاجة- وعند الْحَاجة إليه مستحب، هذا كله ما لَم يقصد إعجاب الناس بصوته، والتغنِّي به، وزيادة علوِّه كما يقع كثيرًا فِي زماننا، فلا يبعد بطلان صلاته ففي $الدر الْمُختار# أن النبِي ص صلَّى آخر صلاته قاعدًا والناس خلفه قيام، وأبو بكر يبلغهم تكبيره، وبه علم جواز أصل رفع الصوت للمبلغ -أي للحاجة- أما ما تعارفوه فِي زمننا فلا يبعد أنه مفسد.
وقال الْمَالكية: الأفضل أن يرفع الإمام صوته ويستغنِي عن مسمِّع مبلِّغ.
وقال الشافعية: يسن للإمام مثله الْمُبلغ أن يَجهر بالتكبير والتسميع إن احتيج، فإن لَم يَحتج إلَى الْجَهر الْمَذكور كان مكروهًا.(1/269)
قال علي محفوظ -رحِمه الله-: فنحصل أن التبليغ له أصل فِي السنة، وأن غالب الناس وضعوه فِي غير موضعه، واستعملوه على غير كيفيته، بِمَا علمت وبأنك ترى خلف الإمام مأمومًا واحدًا يرفع صوته بكيفية مزعجة، ويقع مثل ذلك إذا كان خلفه اثنان أو ثلاثة مثلاً، وقد يكون الْمَسجد صغيرًا يعمه صوت أضعف إمام، ويقع التبليغ فيه على وجه يشوش على مَن بالْمَسجد، والتشويش حرام بلا خلاف. نسأل الله السلامة والْهداية. اهـ من $الإبداع فِي مضار الابتداع# (ص181-182).
قلت: وأي احتياج الآن للتبليغ مع وجود مكبرات الصوت الَّتِي تَملأ أرجاء الْمَسجد من الداخل والْخَارج، لاسيما فِي مسجدي الْحَرمين الشريفين، فينبغي لذوي الأحلام والنُّهي هناك -وفقهم الله- أن يغيروا هذا الْمُنكر الْحَاصل من ذينك الْمُبلغين الْمُمططين الْمُتكلفين، ولا ينبغي أن تكون الْمَسألة عبارة عن وظيفة، ولو على ابتداع فِي ديننا الْحَنيف.
78- قيام مؤذنين بين الْخَطيب عند جلوسه على الْمِنبر واحد يلقن الآخر بصوت منخفض والآخر يرفع به صوته:
هذه بدعة مُحدثة وإنَّما أمر النَّبِي ص عبد الله بن زيد أن يلقن بلالاً الأذان هذا لَمَّا رآه فِي نومه ورآه عمر - رضي الله عنه - ؛ فقال النَّبِي ص لعبد الله: $إنها لرؤيا حق، فقم إِلَى بلال فلقنه إياه فإنه أندى منك صوتًا#. ففعل ذلك مرة واحدة لقصد التعليم أول مرة، ولَم يتكرر ذلك البتة فِي عهده -عليه الصلاة والسلام-، ولا بعده حتى حدث من هؤلاء الْجُهال -هداهم الله- أنهم يفعلون ذلك كل جُمعة، فالله الْمُستعان.
وقد أنكر هذه البدعة أبو شامة -رحِمه الله- فِي كتابه $الباعث على إنكار البدع والْحَوادث# (ص268)، وعلي مَحفوظ فِي $الإبداع# (ص168) وغيرهما.
79- التمطيط والتطريب والتلحين فِي الأذان:
قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالى- فِي باب رفع الصوت بالنداء من $صحيحه#: وقال عمر بن عبد العزيز: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا.(1/270)
ووصله ابن أبي شيبة فِي $الْمُصنف# (ج1 ص207) فقال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان عن عمر بن سعيد بن أبي حسين الْمَكي: أن مؤذنًا أذن فطرب فِي أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز: أذن أذانًا سمحًا وإلا فاعتزلنا.
وسنده صحيح، وكيع وسفيان الثوري إمامان، وعمر هذا ثقة.
وفي رواية أنه قال له: إنك تَختال فِي أذانك، كأنه يشير على التفخيم فِي صوته والتشادق والتكبر، وقال أحْمَد فِي التطريب فِي الأذان: مُحدث، وقال إسحاق بن راهويه: هو بدعة، نقله عنه إسحاق بن منصور. اهـ الْمُراد من $فتح الباري# لابن رجب (ج3 ص429-430) تَحقيق طارق بن عوض.
وقال الإمام القرطبِي -رحِمه الله-: وحكم الْمُؤذن أن يترسل فِي أذانه ولا يطرب فيه كما يفعله اليوم كثير من الْجُهال، بل وقد أخرجه كثير من الطغام والعوام عن حد الإطراب، فيرجِّعون فيه الترجيعات، ويكثرون فيه التقطيعات، حتى لا يفهم ما يقول ولا بِما به يصول. اهـ من $تفسيره# (ج6 ص230) عند آية (58) من سورة الْمَائدة.
وقال شمس الدين السرخسي -رحِمه الله- فِي $الْمَبسوط# (ج1 ص138): والتلحين فِي الأذان مكروه، وقال ابن الْحَاج فِي $الْمَدخل# (ج2 ص244): وليحذر أن يؤذن بالألْحَان، وينهى غيره عما أحدثوه فيه مِمَّا يشبه الغناء، وهي بدعة قبيحة.
وقال الشيخ علي محفوظ فِي $الإبداع# (ص176): ومن البدع الْمَكروهة تَحريْمًا: التلحين فِي الأذان، وهو: التطريب -أي التغني به- بِحيث يؤدي إلَى تغيير كلمات الأذان، وكيفياتها بالْحَركات والسكنات، ونقص بعض حروفها، أو زيادة فيها مُحافظة على توقيع الألْحَان، فهذا لا يَحل إجْمَاعًا فِي الأذان، ولا يَحل أيضًا سماعه؛ لأن فيه تشبهًا بالفسقة فإنهم يترنَّمون، وخروجًا عن الْمَعروف شرعًا فِي الأذان وفِي القرآن. اهـ.(1/271)
80- تراسل الْمُؤذِّنين واحدًا بعد واحد قبل مَجيء الْخَطيب إِلَى وقت مَجيئه أو تراسلهما بعد مَجيئه؛ فيؤذن واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث شرع الإمام فِي الْخُطبة:
هذه بدعة منكرة، انظر $الباعث على إنكار البدع والْحَوادث# لأبي شامة (ص85)، و$الاختيارات العلمية# لابن تيمية (ص22)، و$الاتباع# للسيوطي (ص249).
81- ضرب الطبول قبل الأذان لإعلام الناس بقرب دخول الوقت، لاسيما فِي صلاة الفجر من رمضان:
هذه بدعة منكرة، انظر $الْمُحدثات وما لا أصل لَها# (ص189)، ومثل ذلك ما يفعله عسكر الْحُكومة اليمنية -هداهم الله- من الضرب بالْمِدفع قبل الأذان إشعارًا بدخول الوقت أو قرب دخوله، فهذه أيضًا بدعة منكرة.
82- قول بعض الْمُؤذنين بعد الأذان: الصلاة يا عباد الله أو الْحقوا الصلاة.
هذه بدعة، وصح فيها أثر عن ابن عمر وقال: هي بدعة، صححه العلامة الألباني -رحِمه الله-. انظر الْمَصدر السابق (ص192).
83- قراءة الْمُؤذن آية +إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [الآحزاب: 56]. يقول ذلك قبل الأذان أو بعده:
بدعة مُحدثة، وانظر $البدع وما لا أصل لَها# (ص190).
84- مُحاولة تقليد الْمُؤذن لصوت مؤذن آخر فِي الأذان.
85- صعود الْمُؤذن الْمِنبر مع الْخَطيب وجلوسه بِجانبه وقت خطبة الْجُمعة:
هذه بدعة منكرة.
86- عدم التفات الْمُؤذن بعنقه عند الْحَيعلتين يمينًا وشمالاً:
هذا تقصير فِي السنة.
87- التفات الْمُؤذن حال الأذان أو حال الْحَيعلتين بجسده كله:
إنمَا السنة الالتفات عند الْحَيعلتين بالعنق فقط يَمينًا وشمالاً.
88- الترقية يوم الْجُمعة:(1/272)
وهي قراءة آية +إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ". يقول ذلك بعد الأذان ثُمَّ يقول: إذا قلت لصاحبك والإمام يَخطب أنصت فقد لغوت. انظر $الإبداع فِي مضار الابتداع# (ص188) و $البدع والْمُحدثات# (ص199).
89- الأذان الأول قبل جلوس الْخَطيب على الْمِنبر يوم الْجُمعة:
بدعة مُحدثة، قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (912): حدثنا آدم قال: حدثنا ابن أبِي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الْجُمعة أوله إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، قال أبو عبد الله: الزوراء موضع: بالسوق بالْمَدينة.
وقال -رحِمه الله-: الْمُؤذن الواحد يوم الْجُمعة.
حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد العزيز بن أبِي سلمة الْمَاجشون عن الزهري، عن السائب بن يزيد: أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الْجُمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل الْمَدينة، ولَم يكن للنبِي ص مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الْجُمعة حين يَجلس الإمام، يعني على الْمِنبر.
ورواية النسائي فِي $سننه# (ج3 ص101) بلفظ: كان بلال يؤذن إذا جلس رسول الله ص على الْمِنبر يوم الْجُمعة، فإذا نزل أقام.
ففي هذه الرواية تعيين اسم الْمُؤذن الواحد أنه بلال، وأن ذلك فِي يوم الْجُمعة دون بقية الأيام كما فِي قوله يوم الْجُمعة، أما غير الْجُمعة فقد كان لرسول الله ص أكثر من واحد، يدل على ذلك حديث ابن عمر فِي البخاري رقم (1918، 1919)، ومسلم رقم (1092) من حديث ابن عمر قال: كان لرسول الله ص مؤذنان بلال وابن أم مكتوم، فقال النبِي ص: $إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإنه لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت#.(1/273)
وقال ابن رجب -رحِمه الله- فِي شرح هذا الْحَديث من كتاب $فتح الباري#: قوله: $لَم يكن لرسول الله ص إلا مؤذن واحد#. يعنِي: يوم الْجُمعة، فإن فِي غير الْجُمعة كان له مؤذنان، وأيضًا استبان من ألفاظ الْحَديث أن ذلك الْمُؤذن الواحد لَم يكن يؤذن إلا أذانًا واحدًا، كما فِي الرواية الثانية للبخاري، ورواية النسائي فِي قوله: لَم يكن للنبِي ص مؤذن غير واحد، وكان النداء، وفِي الرواية الأخرى وكان يؤذن إذا جلس الإمام على الْمِنبر على عهد رسول الله ص وأبي بكر وعمر.
وقوله: فلما كان عثمان زاد النداء الثالث، قال ابن رجب وغيره: الأذانان اللذان كانا على عهد النبِي ص هما الأذان والإقامة. اهـ.
فقد ثبت فِي البخاري رقم (627) ومسلم رقم (838) من حديث عبد الله بن مغفل أن النَّبِي ص سمى الإقامة أذانًا فقال: $بين كل أذانين صلاة#.
قال النووي والْحَافظ ابن حجر وغيرهما عند شرح هذا الْحَديث: الْمُراد بالأذانين: الأذان والإقامة، والْمُراد بالصلاة: صلاة نافلة، ولا يصح حَمله على أن الصلاة الْمَفروضة بين الأذانين، والْخَبر ناطق بأنها نافلة من قوله فِي آخر الْحَديث: لِمن شاء، وقد توارد الشُراح على أن هذا من باب التغليب، كقولِهم القمرين للشمس والقمر، وكقولِهم العمرين لأبي بكر وعمر، وأطلق على الإقامة أذانًا لأنها إعلام بِحضور فعل الصلاة. اهـ الْمُراد من $فتح الباري# لابن حجر -رحِمه الله- (ج2 ص132) عند شرح الْحَديث (624).
وقوله فِي الْحَديث: على الزوراء، بفتح الزاي وسكون الواو وبعدها راء مَمدودة هكذا ضبطها الْحَافظ وغيره، وانظر $الفتح# عند الْحَديث رقم (912).
والزوراء تقدم أن أبا عبد الله البخاري -رحِمه الله- قال: هي موضع بالسوق بالْمَدينة.(1/274)
قال أبو عبد الرحمن: قد اختلف أهل العلم فِي الزوراء، فقيل: هي دار فِي السوق، وقيل: هي صخرة فِي السوق كان يصعد الْمُؤذن فِي زمان عثمان عليها فيؤذن الأول، ولهذا الإمام البخاري -رحِمه الله- قال: موضع بالسوق ولَم يَجزم بأنها دار ولا صخرة.
وقد أخرج ابن ماجه رقم (1135)، وابن خزيْمة (ج3 ص1837)، والطبراني فِي $الكبير# (ج7 ص145) من طريق: مُحمَّد بن إسحاق، عن الزهري، عن السائب بن يزيد فذكر الْحَديث بلفظ فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على دار فِي السوق يقال لَهَا الزوراء.
وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن فِي هذه الطريق.
ثم إن حديث السائب هذا قد رواه جَماعة من أصحاب الزهري، منهم ابن أبي ذئب والْمَاجشون عن الزهري بغير زيادة (على دار فِي السوق) فمما لا شك أن هذه الزيادة منكرة، انفرد بها ابن إسحاق، وهو وإن كان صدوقًا فِي نفسه لكنه مدلس، وقد عنعن فِي هذه الطريق، ومن هنا يتحصل: أن كون الزوراء موضع بالْمَدينة هذا هو الْمُعتمد يقينًا عند أهل العلم.
وعليه دل الْحَديث الذي أخرجه مسلم عن أنس بن مالك أن النبِي ص وأصحابه كانوا بالزوراء، قال: والزوراء بالْمَدينة عند السوق، فعُلم أنها موضع كما قال البخاري ورجحه الْحَافظ فِي $الفتح# وقال: هو الْمُعتمد.
لكن لَم أجد ما يثبت تعيينها أنها دار، أو صخرة، والْحَاصل أنه موضع من الْمَواضع بذلك الْمَكان، وعدم تعيينها لا يضر.
ذكر من حكم بأن الأذان الأول للجمعة محدث وبدعة
1- ابن عمر - رضي الله عنه - :
قال الإمام أبو بكر بن أبِي شيبة -رحِمه الله- فِي الْمُصنف (ج2 ص 140): حدثنا شبابة قال: حدثنا هشام بن الغاز، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: الأذان الأول يوم الْجُمعة بدعة،( وكل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنًا).
وهذا سند صحيح إلَى ابن عمر؛ فشبابة: هو ابن سوار، ثقة حافظ.
وهشام بن الغاز: ثقة.
ونافع مولَى ابن عمر: إمام مشهور.(1/275)
والزيادة التِي بين القوسين من فتح الباري لابن رجب (ج8 ص219)، عزاها إلَى وكيع فِي كتابه، والظاهر أنها من قول نافع.
2- الْحَسن البصري -رحِمه الله-:
قال ابن أبِي شيبة -رحِمه الله- (ج2 ص140): حدثنا هشيم، عن منصور، عن الْحَسن -وهو البصري- قال: النداء الأول يوم الْجُمعة الذي يكون عند خروج الإمام –أي: جلوسه على الْمِنبر- والذي قبل ذلك مُحدث.
وهذا سند صحيح إِلَى الْحَسن البصري -رحِمه الله-، ورجاله ثقات.
3- الزهري -رحِمه الله-:
قال -رحِمه الله- (ج2 ص 140): حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الزهري قال: أول من أحدث الأذان الأول: عثمان ليؤذن أهل السوق. اهـ.
وهذا سند لا بأس به إِلَى الزهري.
فهشيم: ثقة.
وأشعث: هو ابن عبد الْمَلك الْحِمراني ثقة.
أما عنعنة هشيم فهي فِي الباب مع غيرها من الآثار.
4- عطاء بن أبِي رباح -رحِمه الله-:
قال عبد الرزاق فِي الْمُصنف (ج3 ص205) -لعله عن ابن جرير- قال: أخبرنا عطاء قال: إنمَا كان الأذان يوم الْجُمعة حين يطلع الإمام، وذلك حين يَحرم البيع، فأما الأذان الذي يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه فهو باطل. وهذا سند صحيح.
5- عمرو بن دينار -رحِمه الله-:
أخرج عبد الرزاق (ج3 ص206) عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار قال: أول من زاد الأذان الأول يوم الْجُمعة: عثمان، فكانوا يؤذنون على الزوراء، أما ببلادنا مكة فالْحَجاج. وهذا سند صحيح.
6- عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - :
قال عمرو بن دينار بالسند الْمُتقدم: ورأيت ابن الزبير لا يؤذن له حَتَّى يَجلس على الْمِنبر، ولا يؤذن له إلا أذان واحد يوم الْجُمعة. اهـ.
وذكره ابن رجب فِي $فتح الباري# (ج8 ص218)، وسنده صحيح إلَى عمرو بن دينار؛ فابن جريج إمام، وقد صرح بأن عمرًا أخبره، وعمرو بن دينار هذا هو الْجُمحي إمام، قال عنه تلميذه سفيان بن عيينة: ثقة، ثقة، ثقة.
7- عبد الرحْمَن بن زيد بن أسلم -رحِمه الله-:(1/276)
قال ابن رجب فِي الفتح (ج8 ص219): وقال عبد الرحْمَن بن زيد بن أسلم: لَم يكن فِي زمان النبِي ص إلا أذانان: حين يَجلس أعلى الْمِنبر، وأذان حين تقام الصلاة، قال: وهذا الأخير –أي: أذان عثمان- أحدثه الناس بعد. خرجه ابن أبي حاتِم.
8- سفيان الثوري -رحِمه الله-:
قال ابن رجب -رحِمه الله- (ج8 ص219- فتح): وقال سفيان الثوري: لا يؤذن للجمعة حَتَّى تزول الشمس، وإذا أذن الْمُؤذن قام الإمام على الْمِنبر فخطب، وإذا نزل أقام الصلاة، قال: والأذان الذي كان على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر أذان واحد، وهذا الأذان الذي زادوه مُحدث.
9- الإمام الشافعي:
قال -رحِمه الله-: وأحب أن يكون الأذان يوم الْجُمعة حين يدخل الإمام الْمَسجد، ويَجلس على موضعه الذي يَخطب عليه، خشب أو جريد أو منبر أو شيء مرفوع له، أو الأرض، فإذا فعل أخذ الْمُؤذن فِي الأذان، فإذا فرغ قام فخطب، وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على الْمِنبر لا جَماعة، ثُمَّ استدل على قوله هذا بِحديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه من صحيح البخاري فِي أول هذه الْمَسألة، قال: وقد كان عطاء ينكر أن يكون أحدثه عثمان، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان؛ فالأمر الذي على عهد رسول الله ص أحب إلي. اهـ من كتابه الأم (ج1 ص173).
فأنت ترى أن الإمام الشافعي يبيِّن أن هذا الأذان مُحدث، ويقول: سواء أحدثه عثمان - رضي الله عنه - أو غيره فالأمر الذي كان على عهد رسول الله ص أحب إليه، وهذا نص صريح من مصدر موثوق معتمد لِهَذا الإمام.
10- شمس الدين أبو بكر مُحمد بن أبي سهل السرخسي -رحِمه الله-:
فِي كتابه $الْمَبسوط# (ج2 ص31) قال: والأذان يوم الْجُمعة إذا صعد الإمام الْمِنبر، فإذا نزل أقام الصلاة بعد فراغه من الْخُطبة، هكذا كان على عهد رسول الله ص والْخَليفتين من بعده، إلَى أن أحدث الناس الأذان على الزوراء على عهد عثمان - رضي الله عنه - .
11- الإمام الطحاوي -رحِمه الله-:(1/277)
قال السرخسي -رحِمه الله-: واختلفوا فِي الأذان الْمُعتبر الذي يوجب السعي إِلَى الْجُمعة ويَحرم عنده البيع؛ فكان الطحاوي يقول: هو الأذان عند الْمِنبر بعد خروج الإمام؛ فإنه هو الأصل الذي كان على عهد رسول الله ص حين يَخرج فيستوي على الْمِنبر، وهكذا على عهد أبِي بكر وعمر، ثُمَّ أحدث الناس الأذان على الزوراء.اهـ من الْمبسوط (ج1 ص134)، $ومرقاة الْمَفاتيح شرح مشكاة الْمَصابيح#. للملاَّ علي القاري(ج3 ص498).
12- إسحاق بن راهويه:
قال: إن الأذان الأول يوم الْجُمعة مُحدث أحدثه عثمان، ذكر هذا الأثر ابن رجب فِي فتح الباري (ج8 ص220-221).
13- نافع مولَى ابن عمر:
أخرج وكيع من طريق هشام بن الغاز قال: سألت نافعًا عن الأذان يوم الْجُمعة؛ فقال: قال ابن عمر: بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وتقدم ثبوت سندها إِلَى نافع عند أثر ابن عمر برقم (1).
14- مَحمود السبكي:
صاحب $الْمَنهل العذب الْمَورود شرح سنن أبِي داود#. قال -رحِمه الله-: وأما ما يفعل الآن من وقوع الأذانين فِي مكان واحد، أو أحدهما فوق الْمَسجد والآخر داخل الْمَسجد؛ فليس موافقًا لِمَا كان عليه سيدنا عثمان، ولا ما كان عليه النَّبِي ص وأبو بكر وعمر؛ فإن الغرض الذي زاد سيدنا عثمان الأذان لأجله هو لَمَّا كثر الناس وانتشرت الْمَنازل، وكان من عند الزوراء لا يسمع الأذان الذي عند الْمَسجد، زاد أذانًا على الزوراء لإسماعهم، فإذا اجتمع الناس فِي الْمَسجد وجلس الْخَطيب على الْمِنبر أذن الْمُؤذن ثانيًا خارج الْمَسجد على الباب أو على السطح، كما كان فِي زمان النَّبِي ص وأبِي بكر وعمر.(1/278)
وهذا الغرض الذي أحدث سيدنا عثمان الأذان من أجله ليس موجودًا فِي زماننا، فإننا لَمْ نر أذانًا يفعل بعيدًا عن الْمَسجد؛ فإذن يُطلب الاقتصار على أذان واحد فِي الْجُمعة فِي زماننا كما فِي زمن النَّبِي ص وصاحبيه أبِي بكر وعمر، ومن لَمْ يقتصر على أذان واحد فقد خالف سيدنا عثمان فضلاً عن غيره، وهذا معلوم لِمَن اطلع على ما هو مقرر فِي كتب السنة.
وعلى فرض أنه وجد الغرض الذي من أجله أحدث سيدنا عثمان الأذان الأول؛ فيطلب أيضًا أن يقتصر على أذان واحد كما صرح بذلك الشافعي فِي الأم، ثم ذكر كلام الشافعي الذي ذكرناه آنفًا فِي القول رقم (9) من كتاب الأم للشافعي (ج1 ص173)، فدون خوالف مقلدي الإمام الشافعي هذا النص الْمُوثق من مصدره الْمُعتمد عن الإمام الشافعي -رحِمه الله- عسى أن يكون حافزًا لِمَن وفقه الله T منهم لنصح نفسه والتجرد عن الْهَوى، فِي أن يأخذ من حيث أخذ هذا الإمام، فيعمل بسنة رسول الله ص على بصيرة ونور دون عصبية وتقليد: +قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [آل عمران: 31].
15- شيخ الإسلام ابن تيمية:
سُئل -رحِمه الله- عن الصلاة بعد الأذان الأول يوم الْجُمعة، هل فعله النَّبِي ص أو أحد من الصحابة والتابعين والأئمة أم لا؟(1/279)
فأجاب: الْحَمد لله رب العالَمين.. أما النَّبِي ص فإنه لَمْ يكن يصلي قبل الْجُمعة بعد الأذان شيئًا، ولا نقل هذا عنه أحد، فإن النَّبِي ص كان لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على الْمِنبر ويؤذنُ بلال، ثُمَّ يَخطب النَّبِي ص الْخُطبتين، ثُمَّ يقيم بلال فيصلي النَّبِي ص بالناس، فما كان يُمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من الْمُسلمين الذين يصلون معه، ولا نقل عنه أحد أنه صلّى فِي بيته قبل الْخُروج يوم الْجُمعة ... إِلَى أن قال: ولِهَذا كان جَماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الْجُمعة سنة مؤقتة بوقت مقدّرة بعدد. اهـ الْمُراد من مَجموع الفتاوى (ج24 ص 188-189)، و الكبرى (ج1 ص139).
قلت: وهذه البدعة إنمَا وُلدت من تلك الأم، بدعة الأذان الأول ولَها بنيات غير هذه سيأتي ذكرها -إن شاء الله- .
16- الإمام ابن رجب:
ونقل عدم الْخَلاف أنه مُحدث قال -رحِمه الله-: وقد دل الْحَديث على أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر هو النداء الذي بين يدي الإمام عند جلوسه على الْمِنبر، وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء...
إِلَى أن قال: ومن زعم، أن الأذان الذي كان على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر: هو الأذان الأول الذي قبل خروج الإمام فقد أبطل ويكذبه هذا الْحَديث(1) واجتماع العلماء على ذلك. اهـ. الْمُراد من فتح الباري (ج8 ص912).
17- الإمام ابن عبد البر النمري -رحِمه الله-:
ذكر حديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه فِي أول هذه الْمَسألة، ثُمَّ قال: فهذا نص فِي الأذان يوم الْجُمعة بين يدي الإمام، وعلى هذا العمل عند العلماء فِي أمصار الْمُسلمين بالعراق، والْحِجاز وغيرهما من الآفاق.اهـ من $الاستذكار الْجَامع لِمَذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار#.(ج5 ص58).
18- ابن رشد الْحَفيد:
__________
(1) يعنِي: حديث السائب بن يزيد الذي ذكرناه فِي أول هذا الباب.(1/280)
قال -رحِمه الله-: أما الأذان؛ فإن جُمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على الْمِنبر. اهـ الْمُراد من بداية الْمُجتهد (ج1 ص382).
19- ابن عربي الْمَالكي:
صاحب $عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي#، قال -رحِمه الله- عند شرح حديث السائب بن يزيد من سنن الترمذي (ج2 ص305) قال -وما أحسن ما قال-: الأذان الأول أول شريعة غيرت فِي الإسلام على وجه طويل ليس من هذا الشأن، وكان كما ذكر الأئمة على عهد رسول الله ص أذانان:
الأول: الأذان عند صعود الإمام على الْمِنبر للخطبة.
والثاني: الإقامة، قال: فأما بالْمَشرق فيؤذنون كأذان قرطبة، وأما بالْمَغرب فيؤذنون ثلاثة من الْمُؤذنين بِجهل الْمُفتين؛ فإنهم لَما سمعوا أنها ثلاثة لَمْ يفهموا أن الإقامة هي النداء الثالث، فجمعوها وجعلوها ثلاثة غفلة وجهلاً بالسنة؛ فإن الله تعالَى لا يغير ديننا ولا يسلبنا ما وهبنا من نعمة. اهـ.
قلت: وهذه بدعة تراسل الْمُؤذنين الَّتِي سيأتي ذكرها هي من بنات تلك الأم، الَّتِي تقدم ذكرها فِي القول رقم (15) عند قول شيخ الإسلام، وساعد على نشرها أولئك الفقهاء الأنكاد بسوء فهمهم.
20- ابن قدامة الْحَنبلي:
قال -رحِمه الله-: أما مشروعية الأذان عقب صعود الإمام؛ فلا خلاف فيه، فقد كان على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر، فلما كان عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء، والأذان الذي يَمنع البيع ويلزم السعي: هو الذي كان على عهد رسول الله ص فتعلق الْحُكم به دون غيره. اهـ من الْمُغنِي (ج3 ص162، 163).
21- الإمام أبو مُحمد بن حزم:
قال -رحِمه الله- بعد ذكر الآية: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ" [الْجُمعة: 9].(1/281)
قال: فافترض الله تعالَى السعي إليها إذا نودي لَها لا قبل ذلك، والنداء لَها إنمَا هو إذا زالت الشمس، فمن أمر بالرواح قبل ذلك فرضًا فقد افترض ما لَمْ يفترضه الله تعالَى فِي الآية ولا رسوله؛ فصح يقينًا أن الله تعالَى أمر بالرواح إليها إثر زوال الشمس لا قبل ذلك...
إِلَى أن قال: ويبتدئ الإمام بعد الأذان وتَمامه بالْخُطبة، فيخطب واقفًا خطبتين يَجلس بينهما جلسة. اهـ من الْمُحلى (ج3 ص262).
22- أبو عبد الله مُحمد بن مُحمد بن مُحمد بن الْحَاج الْمَالكي:
قال -رحِمه الله-: وينهى الناس عما أحدثوه من الركوع بعد الأذان الأول للجمعة؛ لأنه مُخالف لِمَا كان عليه السلف -رضوان الله عليهم -... ومضى يُحذر من هذه البدعة، ثم عاد إلَى أصلها فقال: على أن الأذان الْمَفعول اليوم أولاً لَم يكن فِي زمن النبِي ص ولا زمن أبي بكر وعمر ب، وإنما فعله عثمان - رضي الله عنه - . اهـ الْمُراد من الْمَدخل (ج2 ص240).
وقال فِي (ص207): إذ إن السنة فِي أذان الْجُمعة إذا صعد الإمام على الْمِنبر. اهـ.
23- العلامة الألباني -رَحْمَة الله عليه-:
فِي الْجَواب على سؤال ورد إليه من لَجنة الْجَامعة السورية، ونصه:
بسم الله الرحْمَن الرحيم، السلام عليكم ورحْمَة الله وبركاته.
وبعد: فامتثالاً لقول الله تعالَى: +فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاََ تَعْلَمُونَ" [النحل: 43].
وقوله: +لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاََ تَكْتُمُونَهُ" [آل عمران: 187].
وقوله ص: $وعن علمه ماذا عمل به# ..
أتينا نسألكم التكرم بتحقيق الْمَسألة التالية ولكم الأجر:(1/282)
هل ترون الاقتداء بِمَا فعله عثمان - رضي الله عنه - يوم الْجُمعة من الأذان الثاني إطلاقًا، أما فقط عندما يتوفر السبب الذي دعا سيدنا عثمان لذلك لَما رأى الناس قد كثروا وانغمسوا فِي طلب الْمَعاش، أو بعبارة أخرى: إذا وجد مسجد لا حي قريب منه ولا سوق، وليس له إمام راتب ولا مئذنة، كالْمَسجد الذي فِي داخل الثكنة(1) فهل ترون أن يَجري فيه على سنة سيدنا عثمان، أو يكتفي بأذان واحد كما هو الْحَال فِي عهد رسول الله ص وصاحبيه؟
ثم ذكروا أسئلة بعد هذا، وقالوا فِي آخرها: نرجو فِي كل ما سبق إيراد النصوص التِي استندتُم إليها فِي تَحقيقكم، ولكم منا الشكر ومن الله الثواب والأجر، وفقنا الله وإياكم إلَى العلم، والفهم والاتباع، وهو الْهَادي إلَى الرشاد؟
فأجاب -رحِمه الله-: لا نرى الاقتداء بِمَا فعله عثمان - رضي الله عنه - على الإطلاق ودون قيد؛ فقد علمنا مِمَّا تقدم أنه إنمَا زاد الأذان الأول لعلة معقولة، وهي كثرة الناس وتباعد منازلِهم عن الْمَسجد النبوي، فمن صرف النظر عن هذه العلة وتَمسك بأذان عثمان مطلقًا لا يكون مقتديًا به - رضي الله عنه - ، بل هو مُخالف له؛ حيث لَمْ ينظر بعين الاعتبار على تلك العلة الَّتِي لولاها لَمَا كان لعثمان أن يزيد على سنته -عليه الصلاة والسلام- وسنة الْخَليفتين من بعده! وذكر كلامًا نفيسًا من جنس هذا.
ثُمَّ قال: والْخَلاصة: أننا نرى أن يكتفى بالأذان الْمُحمَّدي، وأن يكون عند خروج الإمام وصعوده على الْمِنبر؛ لزوال السبب الْمُبرر لزيادة عثمان؛ واتباعًا لسنة رسول الله ص وهو القائل: $فمن رغب عن سنتِي فليس منِّي#(2). اهـ الْمُراد من $الأجوبة النافعة على أسئلة لَجنة الْجَامعة# (ص6-11) باختصار.
24- القرطبِي -رحِمه الله-:
__________
(1) هو مسجد جامعة دمشق.
(2) متفق عليه من حديث أنس بن مالك.(1/283)
قال فِي تفسير سورة الْجُمعة عند الآية (9) منها: وقد كان الأذان على عهد رسول الله ص كما فِي سائر الصلوات يؤذن واحد إذا جلس النَّبِي ص على الْمِنبر، وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة، ثُمَّ زاد عثمان أذانًا ثالثًا على داره الَّتِي تسمى بـ: الزوراء حين كثر الناس بالْمَدينة. اهـ الْمُراد.
25- الْمَاوردي -رحِمه الله-:
قال: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لِحضور الْخُطبة عند اتساع الْمَدينة وكثرة أهلها. اهـ من تفسير القرطبِي (ج18 ص100).
26- الإمام مالك -رحِمه الله-:
قال الإمام أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي -رحِمه الله-: سُئل مالك عن النداء يوم الْجُمعة هل يكون قبل أن يَحل الوقت؟ فقال: لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس.
27- العلامة مُحَمَّد بن إسماعيل الأمير:
قال -رحِمه الله- فِي أثناء كلام متعلق بالنداء الذي يوجب حضور الْجُمعة قال: وأحاديث من سمع النداء فلم يُجب فلا صلاة له وما فِي معناه عدة أحاديث مرفوعة وموقوفة، ذكرها البيهقي فِي السنن؛ فإن الْمُراد بالنداء فيها الْمَعروف شرعًا: هو النداء عند قعود الْخَطيب على الْمِنبر، وهو الْمُراد فِي الآية، وأما هذا النداء الذي أراده الْمُصنف هنا وفِي البحر؛ فإنه شيء مُخالف للشرع الْمَعلوم، والبدعي الذي أحدثه عثمان. اهـ الْمُراد من حاشية $ضوء النهار # للجلال (ج2 ص103).
28- أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي:
قال -رحِمه الله-: وهذا كما قال إن الْجُمعة لا يؤذن لَها قبل وقتها، ووقتها زوال الشمس كالظهر فِي سائر الأيام، ثُمَّ ذكر أن النَّبِي ص لَمْ يكن الأذان فِي عهده إلا إذا جلس على الْمِنبر، وأن عثمان - رضي الله عنه - زاد الأذان الأول، قال: وفعل النَّبِي ص أحق أن يتبع. اهـ من $الْمُنتقى شرح الْمُوطأ#. للباجي (ج1 ص134).
29- شيخنا العلامة الوادعي -رحِمه الله-:
سُئل هل الأذان الأول يوم الْجُمعة سنة؟(1/284)
فأجاب -حفظه الله- بتقرير متين، قال فِي آخره: فعرف من هذا أن الأذان ليس بسنة، ولا ينبغي أن يفعله الْمُسلم، وإنما اجتهد عثمان، والاجتهاد قد يصيب وقد يُخطئ، والرسول ص يقول بعد أن قال: $عليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضوا عليها بالنواجذ#. قال: $وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثة بدعة#.
بل يقول: $إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حَتَّى يدع بدعته#. رواه الطبراني، وابن أبي عاصم من حديث أنس.
وقال الْحَافظ الْمُنذري: إن سنده حسن. اهـ مُختصرًا من كتاب: إجابة السائل على أهم الْمَسائل (ص 414-416).
فهؤلاء نَحو ثلاثين واحدًا من جهابذة علوم هذه الشريعة الْمُطهرة، وهذا الذي ذكرناه هو قليل باعتبار ما فِي الْمَسألة من إجْمَاع متيقن نقله ابن رجب وغيره كما قدمنا، على أن الأذان الأول للجمعة لَمْ يكن على عهد رسول الله ص وأبِي بكر وعمر، كما نص على ذلك حديث السائب بن يزيد - رضي الله عنه - عند الإمام البخاري وغيره، وقد تنوعت عبارات أهل العلم مِمَّن ذكرنا، ومن لَمْ نذكر فِي الْحُكم على هذا الأذان، فمن قائل: إنه مُحدث، ومن قائل: إنه بدعة، ومن قائل: إنه ليس بسنة ولا ينبغي أن يفعله الْمُسلم، ومن قائل غير ذلك من العبارات الَّتِي مؤداها النهي عن فعله.
وأما من يقول: إنه مُحدث ولا بأس بفعله؛ فليس له حجة من كتاب ولا سنة على هذا القول إلا تلك الشبه الْمَوهومة، مثل ما اشتمل عليه حديث العرباض بن سارية وسيأتي لبعضها مزيد بيان، وشأن هذه الشبه وغيرها هو كما يقول ربنا - سبحانه وتعالى - : +كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا" [النور: 39].
وإليك فحص تلك الزيوف.
* * * * *
شبه القائلين
بجواز الأذان الأول والرد عليها(1/285)
1- يقولون: إن أمير الْمُؤمنين عثمان بن عفان كان أحد الْخُلفاء الراشدين وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي -رضوان الله عليهم أجْمَعين-، وقد قال النَّبِي ص: $عليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين#.
والْجَواب: نعم، وهذا معتقد أهل السنة -رضوان الله عليهم- كما فِي شرح الطحاوية (ص484) وغيرها.
والْحَديث الْمَذكور أخرجه أبو داود رقم (4607)، والترمذي رقم (2678)، وأحْمَد فِي الْمُسند (ج4 ص126-127)، وابن ماجه (42)، والدارمي (ج1 ص44، 45)، والطبراني فِي معاجِمه الثلاثة من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله ص موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله؛ كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا، قال: $أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة#.
زاد النسائي من حديث بسند رجاله ثقات: $وكل ضلالة فِي النار#.
وحديث العرباض هذا بِمَجموع طرقه حسن كما بينته فِي تَحقيق: إصلاح الْمُجتمع للبيحاني -رحِمه الله-، لكن ينبغي أن نفهم الْحَديث فهمًا صحيحًا مدعمًا بالأدلة الصحيحة، وتوضيح ذلك يَحتاج إِلَى عدة أمور:
الأول: ما الْمَقصود بسنة الْخُلفاء الراشدين -رضوان الله عليهم-؟
الثاني: أين الأحق بالتقديم: سنة رسول الله ص أم اجتهاد غيره من الْخُلفاء- رضوان الله عليهم- أو غيرهم؟
الثالث: هل لأحد أن يسن سنة من نفسه غير سنة رسول الله ص؟
الرابع: ذم البدع وسبب الوقوع فيها.
وإليك بيان ذلك بعون الله تعالَى:(1/286)
قال الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فِي الباب السادس والثلاثين من كتاب إحكام الأحكام (ج6 ص236): وأما قوله: $فعليكم بسنتِي وسنة الْخُلفاء الراشدين#. فقد علمنا أنه ص لا يأمر بِما لا يُقدر عليه، ووجدنا الْخُلفاء الراشدين بعده ص قد اختلفوا اختلافًا شديدًا، فلابد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لَها:
الوجه الأول: إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه، وهذا ما لا سبيل إليه ولا يقدر عليه، إذ فيه الشيء وضده، فلا سبيل إِلَى أن يورث أحد الْجَد والإخوة بقول أبِي بكر وعائشة، وأبو بكر الْخَليفة الأول بعد رسول الله، ويورثه الثلث فقط والباقي للإخوة على قول عمر الْخَليفة الثاني، ويورثه السدس والباقي للإخوة على قول علي الْخَليفة الرابع، وهكذا فِي كل ما اختلفوا فيه؛ فبطل هذا الوجه؛ لأنه ليس فِي استطاعة الناس أن يفعلوه، فهذا وجه.
الوجه الثاني: أن يكون مباحًا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شئنا؛ وهذا خروج عن الإسلام؛ لأنه يوجب أن يكون دين الله تعالَى موكولاً على اختيارنا، فيحرم كل واحد منا ما يشاء ويُحل ما يشاء، ويُحرم أحدنا ما يُحله الآخر، وقول الله تعالَى: +الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" [الْمَائدة: 3].
وقوله تعالَى: +تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاََ تَعْتَدُوهَا" [البقرة: 229].
وقوله تعالَى: +وَلاََ تَنَازَعُوا" [الأنفال: 46]. يبطل هذا الوجه الفاسد ويوجب أن ما كان حرامًا حينئذٍ فهو حرام إِلَى يوم القيامة، وما كان حلالاً يومئذٍ فهو حلال إِلَى يوم القيامة.(1/287)
وأيضًا؛ فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم ولابد من ذلك، فلسنا حينئذٍ متبعين لسنتهم، فقد حصلنا فِي خلاف الْحَديث وحصلوا فيه شاءوا أم أبوا، ولقد ذكرنا هذا مفتيًا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلاً فكانت عادته أن يتقدمه رجلان مدار الفتيا عليهما فِي ذلك الوقت فكان يكتب فتياهما: أقول بِمَا قاله الشيخان، فحصل أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تَحت فتياهما: أقول بِمَا قال الشيخان. قال بعض من حضر: إن الشيخين قد اختلفا! فقال: وأنا اختلف باختلافهما!
قال أبو مُحَمَّد: فإذا قد بطل هذان الوجهان؛ فلم يبق إلا الوجه الثالث: وهو أخذ ما أجْمَعوا عليه، وليس ذلك إلا فيما أجْمَع عليه سائر الصحابة -رضوان الله عليهم- معهم فِي تتبعهم سنن النَّبِي ص والقول بِهَا.
وأيضًا؛ فإن الرسول ص إذا أمر باتباع الْخُلفاء الراشدين لا يَخلو ضرورة من أحد وجهين: إما أن يكون أباح أن يسنوا سننًا غير سنته! وهذا ما لا يقوله مسلم، ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله؛ لأن الدين كله إما واجب، أو غير واجب، وإما حرام، وإما حلال، فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لَمْ يسنها رسول الله ص فقد أباح أن يُحلوا حرامًا أو يوجبوا ما لَمْ يوجبه رسول الله، أو يسقطوا فريضة فرضها رسول الله، ولَم يسقطها إِلَى أن مات، وكل هذه الوجوه من جوَّز منها شيئًا فهو كافر مشرك بإجْمَاع الأمة كلها بلا خلاف، فهذا الوجه قد بطل ولله الْحَمد.
وإما أن يكون أمر باتباعهم فِي اقتدائهم بسنة رسول الله ص، فهكذا نقول وليس يَحتمل الْحَديث وجهًا غير هذا أصلاً.
ويقال لَهم فِي احتجاجهم بِمَا روي فِي الْحَديث من الأمر بالتزام سنة الْخُلفاء الراشدين الْمَهديين: هذه حجة عليكم؛ لأن جحة الْخُلفاء الراشدين كلهم بلا خلاف منهم: ألا يقلدوا أحدًا وألا يقلد بعضهم بعضًا، وأن يطلبوا سنن رسول الله ص حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بِهَا.(1/288)
قلت: نعم، وعلى ذلك أدلة كثيرة نذكر بعضًا منها فِي أن أصحاب رسول الله ص كانوا يبحثون عن سنة رسول الله ص فيعملون بِهَا.
1- قال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- (ج11 رقم 6245): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبِي سعيد الْخُدري قال: كنت فِي مَجلس من مَجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور فقال: استأذنت على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي؛ فرجعت، وقال رسول الله ص: $إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع#، فقال: والله لتقيمن عليه ببينة، أمِنكُم أحد سمعه من النبِي ص؟ فقال أُبي ابن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبِي ص قال ذلك.
وأخرجه مسلم رقم (2153).(1/289)
2- وقال الإمام البخاري -رحِمَه الله تعالَى- (رقم 3092، 3093): حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة أم الْمُؤمنين ل أخبرته أن فاطمة -عليها السلام- ابنة رسول الله ص سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله ص أن يقسم لَها ميراثها مِمَّا ترك رسول الله ص مِمَّا أفاء الله عليه، فقال لَها أبو بكر: إن رسول الله ص قال: $لا نورث، ما تركنا صدقة#. فغضبت فاطمة بنت رسول الله ص، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله ص ستة أشهر، قالت: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مِمَّا ترك رسول الله ص من خيبر وفدك وصدقته بالْمَدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركًا شيئًا كان رسول الله ص يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ، فأما صدقته بالْمَدينة فدفعها عمر إلَى علي وعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر، وقال: هما صدقة رسول الله ص كانتا لِحُقوقه التِي تعروه ونوائبه وأمرهما إلَى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلَى اليوم.
وأخرجه مسلم رقم (1759) مُختصرًا.
3- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (6736): حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا أبو قيس: سمعت هزيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت وابنة ابن وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتِ ابن مسعود فسيتابعنِي، فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبِي موسى، فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من الْمُهتدين، أقضي فيها بِمَا قضى النَّبِي ص؛ للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود، فقال: لا تسألوني ما دام هذا الْحَبر فيكم.(1/290)
4- وأخرج الإمام البخاري فِي صحيحه (ج12 ص120) تعليقًا، وأبو داود (ج12 ص74- عون الْمَعبود) قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس ب قال: أتي عمر بِمَجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر - رضي الله عنه - أن تُرجم، فمر بها على علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مَجنونة بنِي فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها، ثم أتاه فقال: يا أمير الْمُؤمنين؛ أما علمت -وفِي رواية: أما تذكر- أن رسول الله ص قال: $رفع القلم عن ثلاثة: عن الْمَجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبِي حتى يعقل#؟ قال: بلى. قال: فما بال هذه تُرجم؟ قال: لا شيء. قال: فأرسلها، قال: فأرسلها عمر وجعل يكبر.
5- وأخرج البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (5729): عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الْخَطاب - رضي الله عنه - خرج إِلَى الشام حَتَّى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الْجَراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي الْمُهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ص ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء.(1/291)
فقال: ارتفعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعو لي الأنصار، فدعوتهم، فاستشارهم، فسلكوا سبيل الْمُهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عنِّي، ثُمَّ قال: ادعو لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر فِي الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، قال أبو عبيدة بن الْجَراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالَها يا أبا عبيدة!! نعم نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الْخِصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الْجَدبة رعيتها بقدر الله؟
قال: فجاء عبد الرحْمَن بن عوف وكان متغيبًا فِي بعض حاجته، فقال: إن عندي فِي هذا علمًا، سمعت رسول الله ص يقول: $إذا سمعتم به بأرض؛ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بِهَا؛ فلا تَخرجوا فرارًا منه#. قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجه مسلم رقم (2219).
6- وأخرج البخاري رقم (6117) قال: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي السوار العدوي قال: سمعت عمران بن حصين قال: قال النبِي ص: $الْحَياء لا يأتي إلا بِخير#. فقال بشير بن كعب: مكتوب فِي الْحِكمة: إن من الْحَياء مِمَّا يكون وقارًا، وإن من الْحَياء سكينة، وفِي رواية: ضعفًا، فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله ص وتُحدثنِي عن صحفك!
وأخرجه مسلم رقم (37).
7- وقال الإمام البخاري رقم (1581): حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا همام، عن قتادة قال: حدثنِي مطرف، عن عمران - رضي الله عنه - قال: تَمتعنا على عهد رسول الله ص، فنزل القرآن، فقال رجل برأيه ما شاء.
وأخرجه أيضًا برقم (4518)، وأخرجه مسلم رقم (1226).
وقد هممت أن أكمل مائة حديث أو نَحو ذلك من هذا الباب الذي جل نَقَلَةِ أحاديث رسول الله ص، كان سبب تَحديثهم بها هو هذا السبب.(1/292)
ونسأل الله أن يعيننا على إكمال هذه الْمِائة فِي بَحث آخر، وإنما أردنا هنا الاختصار.
8- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (3401): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الْخَضر ليس هو موسى بنِي إسرائيل، إنما هو موسى آخر، فقال: كذب عدو الله، حدثنا أُبي بن كعب عن النبِي ص: $إن موسى قام خطيبًا فِي بنِي إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لَم يرد العلم إليه، فقال له: بلى لي عبد بِمَجمع البحرين هو أعلم منك، قال: أي رب ومن لي به؟ -وربَّما قال سفيان: أي رب وكيف لي به؟- قال: تأخذ حوتًا فتجعله فِي مكتل حيثما فقدت الْحَوت فهو ثَمَّ...#. وذكر الْحَديث بطوله.
وأخرجه مسلم رقم (2380).
9- وقال الإمام البخاري رقم (1840): حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه: أن عبد الله بن العباس والْمِسور بن مَخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل الْمُحرم رأسه، وقال الْمِسور: لا يغسل الْمُحرم رأسه، فأرسلنِي عبد الله بن العباس إلَى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين أرسلنِي إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله ص يغسل رأسه وهو مُحرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال: هكذا رأيته ص يفعل.
وأخرجه مسلم (1205).(1/293)
10- وقال الإمام البخاري -رحِمه الله تعالَى- رقم (956): حدثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا مُحمد بن جعفر قال: أخبرني زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد الْخُدري قال: كان رسول الله ص يَخرج يوم الفطر والأضحى إلَى الْمُصلى؛ فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف.
قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير الْمَدينة فِي أضحى أو فطر، فلما أتينا الْمُصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة!
فقلت له: غيرتُم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مِمَّا لا أعلم، فقال: إن الناس لَم يكونوا يَجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.
11- وقال الإمام البخاري -رحِمَه الله- رقم (724): حدثنا معاذ بن أسد قال: أخبرنا الفضل بن موسى قال: أخبرنا سعيد بن عبيد الطائي، عن بشير بن يسار الأنصاري، عن أنس بن مالك أنه قدم الْمَدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ يوم عهدت رسول الله ص؟
قال: ما أنكرت شيئًا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف.
12- وقال الإمام مسلم -رحِمَه الله تعالَى- (ج4 رقم 845): حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: حدثنِي يَحيى بن أبي كثير، حدثنِي أبو سلمة بن عبد الرحْمَن، حدثنِي أبو هريرة قال: بينما عمر بن الْخَطاب يَخطب الناس يوم الْجُمعة إذ دخل عثمان بن عفان فعرَّض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟ فقال عثمان: يا أمير الْمُؤمنين ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم أقبلت، فقال عمر: والوضوء أيضًا! ألَم تسمعوا رسول الله ص يقول: $إذا جاء أحدكم إلَى الْجُمعة فليغتسل#؟! وأخرجه البخاري رقم (878).(1/294)
13- وأخرج الإمام مسلم رقم (864) قال: وحدثنا مُحمد بن الْمُثنى وابن بشار قالا: حدثنا مُحمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة أن كعب بن عجرة دخل الْمَسجد، وعبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم يَخطب قاعدًا فقال: انظروا إلَى هذا الْخَبيث يَخطب قاعدًا، وقال الله تعالَى: +وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا" [الْجُمعة: 11].
14- وقال -رحِمه الله- رقم (874): وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن حصين، عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على الْمِنبر رافعًا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين؛ لقد رأيت رسول الله ص ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه الْمُسبحة. اهـ.
وهذا باب واسع كثير الأدلة غزير الفائدة، ولَم نرد الاستطراد فيه هنا، وإنما كان القصد ذكر جُملة من ذلك برهانًا على ما قاله الإمام ابن حزم -رحِمه الله-: إن أصحاب رسول الله ص كانوا يطلبون سنن رسول الله حيث وجدوها فيعملون بها، ولَم يكن أحدهم يقلد الآخر، ولا كان واحد من الْخُلفاء أو غيرهم يعتبر لنفسه سنة مستقلة تكون حجة للناس، وحاشاهم من ذلك.
وكما قال ابن حزم -رحِمه الله-: فمن كان متبعًا للخلفاء الراشدين فليتبعهم فيما أجْمَعوا عليه من اتباع سنن النَّبِي ص وفيما نهوا عنه من التكلف. اهـ باختصار من $إحكام الأحكام#. لابن حزم، الباب السادس والثلاثين.
شبهة ثانية لِمَن قال بالأذان الأول
قال بعضهم: بقول النَّبِي ص: $أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم#.
والْجَواب على هذا الْحَديث من ثلاثة وجوه، كلّها تبيِّن أنه مكذوب على رسول الله ص.
الأول: أن فِي سنده سلام بن سليم، كذاب وضاع، والْحَارث غصين: مَجهول، الله أعلم بِحاله.(1/295)
الثاني: أن متنه منكر باطل كما بينه الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم فِي الإحكام (ج6 ص244)؛ فقال -رحِمه الله-: وقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلاً، وبلا شك أنها مكذوبة؛ لأن الله تعالَى يقول عن نبيه: +وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ((( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 3-4]. فمن الْمُحال أن يأمر باتباع كل قائل من الصحابة -رضوان الله عليهم-، وفيهم من يُحلل الشيء والآخر يُحرمه، ولو كان ذلك لكان بيع الْخَمر حلالاً اقتداءً بسمرة بن جندب، وحرامًا اقتداء بغيره، ولكان بيع التمر قبل ظهور الطيب فيه حلالاً اقتداء بعمر، وحرامًا اقتداء بغيره، ولكانت العمرة فِي أشهر الْحَج مكروهة اقتداء بعمر، ومباحة اقتداء بغيره.
وقد كان بعض أصحاب رسول الله ص يقولون برأيهم فِي بعض الْمَسائل ثم يبلغون النبِي ص، فيصوب الْمُصيب ويُخطئ الْمُخطئ، ومن ذلك: فتيا أبِي السنابل لسبيعة الأسلمية بأن عليها العدة آخر الآجلين(1) فأنكر ص.
__________
(1) يعنِي إذا مات عنها زوجها وهي حامل عليها أن تعتد بأطول الأجلين، الولادة والأربعة الأشهر وعشر؛ فإن كان الْحَمل بقي له أكثر من أربعة أشهر وعشر اعتدت به فتبقى فِي العدة حَتَّى تلد، وإن كان الْحَمل بقي له أقل من هذه الْمُدة اعتدت بأربعة أشهر وعشر، فتكون معتدة بآخر الأجلين، وهذا غير صحيح، والصحيح: أنَّها تعتد بوضع الْحَمل ولو بعد يوم واحد أو بعد ثمانية أشهر أو أقل أو أكثر؛ فمتى وضعت حَملها أنهت عدتها لقول الله تعالَى: +وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ". وللحديث الذي ذكره أبو مُحَمَّد من إنكار النَّبِي ص أبِي السنابل وقصته هذه مع سبيعة فِي البخاري رقم (4909)، ومسلم رقم (1485).(1/296)
قلت: وهكذا قصة العسيف الذي زنى بامرأة سيده؛ كما فِي حديث أبِي هريرة وزيد بن خالد فِي البخاري رقم (2695)، ومسلم رقم (1697)، فجاء والد العسيف إِلَى رسول الله ص فقال: إني أُخْبِرْتُ أن على ابنِي الرجم، فافتديت بِمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابنِي جلد مائة وتغريب عام. فقال رسول الله ص: $والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، والوليدة والغنم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إِلَى امرأة هذا فإن اعترفتْ فارجُمها# الْحَديث.
ففيه كما ترى تصويب لبعض الصحابة وتَخطئة لبعضهم، ثم ذكر ابن حزم -رحِمه الله- جُملة من الأمثلة على أنهم ي قد يُخطئون فِي بعض الأمور.
قلت: وذلك لعدم عصمتهم عن الوقوع فِي الْخَطأ، ومعركة الْجَمل وصفين، وترامي أصحاب قباء بالْحِجارة، ومُخاصمة الزبير لبعض الأنصار فِي ساقية أرض، وقصة شريك بن سحماء مع زوجة هلال بن أمية، وقصة الْجُهنية، وقصة حِمار الذي كان يشرب الْخَمر وأمر رسول الله ص بضربه ثُمَّ قال: إنه يُحب الله ورسوله، وقصة اختلاف عمر مع أبِي بكر بين يدي رسول الله ص حين قدم وفد بنِي تَميم هذا يقول: يا رسول الله أمِّر فلانًا لرجل منهم، والآخر يقول: أمِّر فلانًا.
وحادثة الإفك بِمَا فيها من الاختلاف والْمساببة فيما بينهم حَتَّى سكت رسول الله ص عن الكلام، وجعل يسكتهم ويهدئهم، وبيع ذلك الرجل لبعض الطعام وفِي أسفله أو وسطه بلل، واختلاف الْمُهاجري مع بعض الأنصار حَتَّى كسعهُ وتداعى الفريقان، فقال الْمُهاجرين: يا للمُهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، فقال النَّبِي ص: $أبدعوى الْجَاهلية وأنا بين أظهركم، دعوها إنها منتنة#.
وقتل أسامة بن زيد لرجل كان مشركًا، ثُمَّ قال: لا إله إلا الله، فقتله بعدما قالَها؛ فغضب رسول الله ص عليه وقال: $أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله!فقال: يا رسول الله كان متعوذًا، قال: فتشت عن قلبه#.(1/297)
وقتل الصحابة لِحِسْلِ والد حذيفة بن اليمان فِي الْمَعركة خطأ، وفتوى أبي موسى فِي ميراث الأخت والبنت وبنت الابن خطأ، وابن مسعود قال: لقد ضللت أن أفتِي بفتوى أبي موسى؛ مع أن أبا موسى كان مُجتهدًا.
ولطم عمر لأبي هريرة حتى سقط على استه، وضرب رفاعة بن رافع لامرأته حتى اخضر جلدها لغير ما يبيح ذلك، ومظاهرة أوس بن الصامت من زوجته خولة بنت ثعلبة. وكل هذه الأدلة التِي أشرنا إليها ثابتة لَم نذكر منها شيئًا غير صحيح، وهي قليل من كثير من الْحَالات التِي حصلت للصحابة -رضوان الله عليهم-، وهي برهان جلي أن أفرادهم غير معصومين عن كبار الْخَطايا وصغارها، سواء فِي ذلك عثمان - رضي الله عنه - وغيره، وقد صلّى بِمنًى أربعًا، وتابعه على ذلك الصحابة طاعة لولي الأمر، ولَم يفعل هذا النَّبِي ص ولا غيره من الصحابة قبل عثمان -رضي الله عنه وعنهم أجْمَعين-.
وهذه الأدلة تدمغ ذلك الْحَديث الباطل الذي نَحن فِي صدد ذكر نكارة متنه، وفيه: $بأيهم اقتديتم اهتديتم#.
وقد قال ببطلانه ووضعه أئمة كثيرون، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني -رحِمه الله- رقم (58)، وكتاب: $حسن الأثر#. لِمُحمد بن السيد درويش الْحُوت (546)، و$الْمُشتهر من الْحَديث الْمَوضوع#. لعبد الْمُتعال الْجَبري (57)، و$تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة#.(149)، و$نصحية الداعية فِي اجتناب الأحاديث الضعيفة والواهية#. لِمَجموعة من طلبة العلم (11)، و$الوضع فِي الْحَديث#. لعمر فلاتة (1-3).
أفاد بأكثر هذه الْمَصادر أخونا الشيخ علي الْحَلبِي وصاحباه فِي موسوعة الأحاديث والآثار الضعيفة والْمَوضوعة (ج2 ص56).
وبهذا تعلم سقوط هذه الشبهة الثانية، والْحَمد لله.
* * * * *
شبهة ثالثة أسقط من الَّتِي قبلها
استدل بعض عميان البصيرة بِحَديث: $من سن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها#.(1/298)
والْحَديث بتمامه أخرجه الإمام مسلم رقم (1017) من حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله ص فِي صدر النهار قال: فجاءه قوم حفاة عراة مُجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله ص لِمَا رأى بِهم من الفاقة، فدخل ثُمَّ خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثُمَّ خطب فقال: +يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ" إِلَى آخر الآية: +إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا" [النساء: 1]. والآية الَّتِي فِي آخر الْحَشر: +اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ" [الْحَشر: 18]. تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تَمره حتى قال: ولو بشق تَمرة. قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت!
قال: ثُمَّ تتابع الناس حَتَّى رأيت كومين من طعام وثياب، حَتَّى رأيت وجه رسول الله ص يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله ص: $من سن فِي الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بِهَا بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة؛ كان عليه وزرها ووزر من عمل بِهَا من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء#.
قال القاضي عياض: هذا الْحَديث على نَحو ما تقدم من أن الْمُعين على الفعل كمن فعله. اهـ من شرحه على مسلم عند الْحَديث بالرقم السابق.
ورد هذه الشبهة الساقطة من عدة وجوه:
الأول: أن السنة هي قول النَّبِي ص، أو فعله، أو تقريره، وكتابته، وإشارته، وهمه، وتركه(1)، فأما السنة القولية والفعلية؛ فكثيرة جدًّا، فغالب الأحاديث من هذا الباب إما قوله أو فعله.
وأما التقرير؛ فصورته: أن يسكت عن إنكار قول أو فعل وقع بين يديه، أو اطلع عليه بطريق الإخبار.
__________
(1) ذكر هذا وأوسع منه الزركشي فِي $البحر الْمُحيط#.(1/299)
قال العمريطي -رحِمه الله-: وما جرى فِي عصره ثُمَّ اطلع عليه إن أقره فليتبع، مثال ذلك: إقراره ص لِخَالد بن الوليد - رضي الله عنه - بأكل الضب وهو ينظر ولَم ينكر عليه، وإقراره لأبي سعيد الْخُدري وأصحابه على أخذ الأجرة على رقية ذلك اللديغ الذي لَمْ يعطهم قراهم فرقاه بالفاتِحة على قطيع من الغنم فشفي، ولَمَّا أُخبر النَّبِي ص بذلك قال لأبي سعيد: $من أخبرك أنها رقية؟! اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا#.
وإقرار أبي طلحة على التصدق ببستانه (بيرحاء) كما فِي الصحيحين، وإقراره لزوجته حين أعتقت وليدتها ثم أعلمته بعد ذلك، وإقراره لسلمان حين أمر أخاه فِي الله أبا الدرداء لَما قال له: إن لنفسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حق حقه، قال: $صدق سلمان#. والْحَديث فِي الصحيح.
وأما همُّ النبِي ص: فقد استحب الإمام الشافعي -رحِمه الله- فِي الْجَديد للخطيب فِي الاستسقاء مع تَحويل الرداء تنكيسه، يَجعل أعلاه أسفله، مُحتجًّا بأنه - عليه السلام - استسقى وعليه خَميصة سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه(1).
قال الشافعي: فيستحب الإتيان بِمَا همَّ به الرسول ص.
وأما إشارة النَّبِي ص: فيستدل لذلك بقوله: $الشهر هكذا وهكذا#. ثم أشار فِي الثالثة مثل ذلك: وقبض الإبهام مبينًا بذلك أن الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين.
__________
(1) الْحَديث أخرجه أبو داود رقم (1194)، والنسائي رقم (1507)، وابن حبان (ج7 رقم 2867) إحسان، وأحْمَد فِي الْمُسند (ج4 ص41-42) من طريق عبد العزيز بن مُحمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تَميم، عن عمه عبد الله بن زيد بن عاصم. وهذا سند حسن. وقال صاحب الإلْمَام: هو على شرط الشيخين. كما فِي $التلخيص الْحَبير#.(ج2 ص204).(1/300)
والكتابة: مثل كتابته إلَى عماله فِي الصدقات وسائر الأحكام، ومثال ذلك: حديث أنس بن مالك الطويل فِي أحكام زكاة الأنعام، والْحَديث عند البخاري وفيه: أن أبا بكر كتب به إلَى أنس أن النبِي ص أمر بذلك فِي الأنعام، وأيضًا حديث: $اكتبوا لأبي شاة#.
وأما الترك: فمثل خلعه النعل خلعوا بعده نعالَهم، وخلعه الْخَاتَم فخلعوا بعده خواتِمهم، وانظر لذلك: $البحر الْمُحيط#. للزركشي (ج4 ص168-214)، و$معالِم أصول الفقه#. للجيزاني (122).
وليس لأحد بعد رسول الله ص سنة، قال ابن رجب -رحِمه الله- فِي شرح الْحَديث الثامن والعشرين من جامع العلوم (ص320) قال: والسنة هي الطريقة، فيشمل ذلك التمسك بِما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال. اهـ الْمُراد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما ما فعله النَّبِي ص بِحكم الاتفاق ولَم يقصده، مثل أن ينزل بِمَكان ويصلي فيه؛ لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا ذلك الْمَكان بالصلاة فيه أو النزول لَمْ نكن متبعين، بل هذا من البدع الَّتِي كان ينهى عنها عمر بن الْخَطاب...
إِلَى أن قال: ومن هذا: وضع ابن عمر يده على مقعد النَّبِي ص، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمر بن حريث بالكوفة، فهذا لَما لَمْ يكن مِمَّا فعله سائر الصحابة ولَم يكن النَّبِي ص شرعه لأمته، لَمْ يُمكن أن يقال: هذه سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مِمَّا لا ينكر على فاعله، لأنه مِمَّا يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها رسول الله ص، وهكذا يقول أئمة العلم فِي هذا و أمثاله تارة يكرهونه، وتارة يرخصون فيه إذا لَمْ يتخذ سنة، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، ولا يقول عالِم بالسنة: إن هذا سنة مشروعة للمسلمين؛ فإن ذلك إنمَا يقال فيما شرعه رسول الله ص؛ إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع...(1/301)
إِلَى أن قال: ولا يكون فِي الدين واجبًا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبًّا إلا ما استحبه، ولا مكروهًا إلا ما كرهه، ولا مباحًا إلا ما أباحه. اهـ باختصار من مَجموع الفتاوى (ج1 ص280-282).
قلت: فعلم بِهذا أن السنة الَّتِي أمر الله باتباعها: هي هدي رسول الله ص على ما تقدم من أنواعها، وأنه إن قيل سنة الْخُلفاء الراشدين فإنما الْمَقصود بِهذا اللفظ طريقتهم فِي فهم سنة رسول الله ص؛ كما قال ربنا سبحانه: +وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا" [النساء: 115].
وهل سبيل الْمُؤمنين إلا طريقتهم فِي اتباع كتاب الله وسنة رسوله ليس إلا؟! وارجع بصرك على ما تقدم من الأدلة فِي بيان حديث العرباض بن سارية تر أن جَميع الصحابة كانوا يعودون فيما اختلفوا فيه إِلَى ما أمرهم الله سبحانه به هم وجَميع الْمُؤمنين: +فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاًَ" [النساء: 59].(1/302)
ولَم يكن أحد من الصحابة بِمَا فيهم الْخُلفاء الراشدون من يقول أن له سنة حسنة، أو يريد أن يشرع سنة حسنة! نعوذ بالله من هذا، فإنه يعتبر افتئاتًا على شرع الله T، قال تعالى: +قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [آل عمران: 31]. +فَلاََ وَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65]، +وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاََ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ" [الأحزاب:36]، +لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ" [الأحزاب: 21]، +فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" [النور: 63]. +هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاًَ مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاََلٍ مُّبِينٍ" [الْجُمعة: 2].
فهذه الأدلة كلها وهي غيض من فيض تدل على أن الْخِطاب موجه فيها إِلَى أصحاب النَّبِي ص وهو شامل لِجميع الْمُؤمنين بعدهم، وأنت ترى ما فيها من الوعيد لِمن خالف سنة رسول الله ص، فكيف يسوغ لِمسلم أن يَخترع سننًا يزعم أنها حسنة يشرع بِهَا دينًا لَمْ يأذن به الله؟ فإن السنة: هي وحي من الله تعالَى؛ قال سبحانه: +وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ((( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ((( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ((( إِنْ هُوَ إِلاََّ وَحْيٌ يُوحَى" [النجم: 1-4]. فمن ذا الذي له بعد رسول الله ص وحي ونبوة؟!(1/303)
لا شك أن من أراد أن يسن للناس سننًا من دين الله لَمْ يأت بِهَا الله يعتبر زنديقًا على ما ذكر الإمام أبو مُحَمَّد بن حزم -رحِمه الله- فيما نقلنا عنه فِي هذه الْمَسألة عند حديث العرباض. ومن وجوه رد هذه الشبهة الرديئة: أن السنة فِي تعريفها فِي اللغة هي الطريقة على ما ذكره جمهور الأصوليين ومنه قول لبيد فِي معلقته:
من معشر سنت لَهم آباؤهم ... ... ولكل قوم سنة وإمامها
أي: طريقة يسيرون عليها، فيكون معنى الْحَديث $من سن فِي الإسلام سنة حسنة#. أي: أحيا طريقة من دين الله من كتابه وسنة رسوله قد أهملها الناس؛ فيأتي هو فيجددها ويُحييها، كما ثبت أن النبي ص قال: $إن الله يبعث لِهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يَجدد لها أمر دينها#. معنى أنه يُحيي سننًا وطرقًا سلكها النَّبِي ص ثم أهملت، فهذا له أجرها وأجر من عمل بها من بعده؛ لأنه أحيا سنة لرسول الله قد تركها الناس وأهملوها.
أما أن يأتي بشيء جديد لا دليل عليه ثم يَجعله سنة، فهذا يشمله حديث عائشة ل فِي $الصحيحين#: $من أحدث فِي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد#. فهو مبتدع وسانٌّ بدعًا منكرة وليس بسانٍّ سننًا حسنة؛ فإن البدع مبغوضة إلَى الله بشتى أنواعها، قال النَّبِي ص: $كل بدعة ضلالة#. رواه مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - .
ويزيد بذلك بيانًا أنه لَم يدر فِي خلد أحد من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولا غيرهم من القرون الْمُفضلة أنه يسن للناس سننًا فِي الدين، وأيضًا يزيد ذلك بيانًا أن تلك الصدقة التي فعلها ذلك الرجل قبل قومه، فأتى بصرة كادت يده أن تعجز عنها وتصدق بِها، ثم تبعه الناس على ذلك لَم يكن هو أول من سن الصدقة وشرعها فِي الإسلام، فإن الصدقة مشروعة قبل ذلك من أول البعثة، بل مشروعة فِي كل زمان وملة.(1/304)
وعلى ذلك أدلة كثيرة من القرآن والسنة، منها: أن الله تعالَى بعد أن ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب فِي سورة الأنبياء، قال تعالى: +وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاََةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ" [الأنبياء: 73].
وقال تعالَى فِي سورة مريم: + وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاًَ نَّبِيًّا (((( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاََةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا" [مريم: 54-55].
وقال تعالَى: +وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاََ تَعْبُدُونَ إِلاََّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاَََةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ" [البقرة: 83].
وقال تعالَى بعد ذكر أهل الكتاب من سورة البينة، قال: +وَمَا أُمِرُوا إِلاََّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاََةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" [البينة: 5]. والزكاة: تسمى صدقة، قال تعالَى: +خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ" [التوبة: 103].
وثبت من حديث سلمان فِي قصة إسلامه عند أحمد فِي $الْمُسند# (ج5 ص441): أنه كان عند نصراني راهب وكان ذلك الراهب يأمر الناس بالصدقة ويَحثهم عليها فإذا تصدقوا اكتنزها لنفسه، ولَم يعط الفقراء، وكان سلمان قد عرف ذلك واطلع على خيانة ذلك الراهب، فلما مات الراهب أخبر قومه أن تلك صفته؛ فبحثوا فوجدوا الكنز، فتركوا راهبهم ذاك ولَم يدفنوه، وقالوا: والله لا ندفنه مادام فعل ذلك.(1/305)
وشاهدنا من الْحَديث: أن ذلك الراهب كان يَحث بنِي إسرائيل على الصدقة، مِمَّا يدل أنها مشروعة عليهم ولَمَّا لَم يعطها لِمستحقيها لَم يدفنوه بعد موته.
وفِي حديث سلمان ذاك: أن من صفة النَّبِي ص الَّتِي عرفه رهبان بنِي إسرائيل بِهَا أنه يأكل الْهَدية ولا يأكل الصدقة، وهذا لوصف هو متصف به ص قبل البعثة وبعدها.
وإنما ذكرنا هذا ليُعلم أن ذلك الصحابي - رضي الله عنه - الذي سلك طريقًا مشروعًا ومسنونًا من قبل الإسلام وبعد، وإنما هو أحيا هذه السنة فِي أولئك القوم الذين كانوا عند النَّبِي ص حيث بدأ بالتصدق، ودلَّهم على ذلك الْهَدي، فكان له من الأجر بفضل الله كما لَهم فِي تلك الصدقة لا ينقص من أجورهم شيء.
وهكذا مَنْ علَّم الْمُسلمين علمًا شرعيًّا من كتاب الله وسنة رسوله، وقد اندثرت يكون قد أحيا فيهم سنن رسول الله ص فيشمله هذا الْحَديث، ويَحصل له من الأجر مثل أجور من استفاد من علمه الشرعي.
فقد ثبت فِي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له#.
وقال الله تعالَى: +وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ" [يس: 12].
ومِمَّا يدل على ما قلناه ويدحض كل قول سواه: قوله -عليه الصلاة والسلام- فِي هذا الْحَديث: $من سن فِي الإسلام سنة حسنة فله أجرها#. الْحَديث.
وأنت أيها الْمُسلم الْمُستقيم تعلم أن البدع الْمُخترعة ليست من الإسلام، ولا هو منها، فالإسلام بريء من كل بدعة ومعصية، فهو دين الله الْحَق الذي ارتضاه لعباده؛ قال تعالَى: +إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاََمُ" [آل عمران: 19].
وقال تعالَى: +وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاََمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].(1/306)
وقال تعالَى: +الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [الْمَائدة: 3].
ومِمَّا يؤيد ما قلناه ويدحض كل قول سواه: قوله فِي الْحَديث: $ومن سن فِي الإسلام سنة سيئة#. فهذا اللفظ يدل أن السنة: الطريقة، أي: ومن سلك فِي الإسلام طريقة سيئة ومبتدعة ومُخترعة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، كقوله تعالَى: +لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاََ سَاءَ مَا يَزِرُونَ" [النحل: 25].
وإلا فإن السنة على حد كونها شرعًا مرضيًّا لا تكون سيئة، ولا يتصف بالسيِّئ إلا ما خالف شرع الله، فتأمل هذا واقرأ ما قرره ابن كثير فِي البداية والنهاية عند ترجَمة جنكيز خان حيث ألف كتابًا سماه: $إلياسا#، وبعضهم يقول:$إلياسق#، جَمع فيه بين بعض اليهودية وبعض النصرانية وبعض الاختراعات العقلية فِي الدين التِي يظنها -كما يظن بعض الناس- أنها سنة حسنة، وبعض الأمور من هذا الدين؛ فكفره ابن كثير -رحِمه الله- وهو كما قال؛ لأن هذا الْمُعتدي الأثيم شرع للناس ما لَم يأذن به الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهنا أصل عظيم تَجب معرفته: وهو أن الله T قد قال فِي كتابه الكريم: +وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاًَ (((( يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاًَ (((( لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاًَ" [الفرقان: 27-29]. والذكر: هو كتاب الله وسنة رسوله ص.
قال تعالَى: +وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ" [الزخرف: 44].(1/307)
وقال النَّبِي ص فيما ثبت من حديث أبِي واقد الليثي وغيره: $ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه#. وانظر طرق هذا الْحَديث فِي الكفاية للخطيب -رحِمه الله-.
وقد قدمنا بعض الأدلة الْمُتعلقة بِهذا الأصل فِي مبحث هذه الْمَسألة؛ فراجعها إن شئت.
والأصل الثاني: أن قول الصحابي مُختلف فِي الاحتجاج به، ومن قال بأنه حجة اشترط لصحة هذا القول شروطًا منها: ألا يُخالف نصًّا من القرآن أو السنة، ومنها: ألا يُخالف غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم-، فإذا خالف نصًّا من الكتاب أو السنة كان مردودًا عليه، وإذا خالفه غيره من الصحابة لَمْ يكن قول أحدهما حجة بلا خلاف بين أهل العلم فِي ذلك.
قال صاحب مراقي السعود:
رأي الصحابي على الأصحاب لا ... ... يكون حجة فِي قول من خلا
وقد قرر هاتين الْمَسألتين علماء أصول الفقه، ونقلوا الإجْمَاع عليهما، كما ذكرنا.
وانظر: $إعلام الْمُوقعين#. للإمام ابن القيم -رحِمه الله- (ج4 ص155)، و$مذكرة أصول الفقه#. للعلامة الشنقيطي -رحِمَه الله-، و$معالِم أصول الفقه#. للجيزاني (ص222-227).
وبعد هذا يتوجه السؤال على القائلين بأن فعل أمير الْمُؤمنين عثمان - رضي الله عنه - يعتبر حجة وسنة متبعة.
فنقول لَهم: هل توفر فِي هذا الأذان هذان الشرطان أو حَتَّى أحدهما؟ لا شك أن الْجَواب: لَمْ يتوفر أحدهما، فإن فعله هذا - رضي الله عنه - قد خالف سنة رسول الله ص، وخالفه أبو بكر وعمر وغيرهما كثير، كما قدمنا ذكرهم.
تنبيه: أُشكل على بعضهم في هذه المسألة قول علي - رضي الله عنه - حين جلد شارب الخمر أربعين، قال: جلد النبِي ج في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة وهذا أحب إلَي. أخرجه مسلم رقم (4432).(1/308)
والْجَواب: هو ما تقدم أن السنة لغة هي الطريقة، وأنها إذا تعارضت طريقة رسول الله مع غيره وجب الأخذ بطريقة رسول الله، وإذا لَم يكن إلا طريقة ذلك الصحابي ولا معارض لَهَا من قول غيره فقوله سنة متبعة، ولِهَذا فإن تقرير علي تقرير جميل؛ إذ أبان أن فعل عمر سنة وأخذ بسنة رسول الله، ونَحن نقول لِهَؤلاء الْمُحتجين بقول علي افعلوا كما فعل علي - رضي الله عنه - وهذا لا يعنِي أن السنتين متساويتان وانه يَجوز ترك سنة رسول الله لقول أو فعل غيره فتأمل هذا تنجُ من الْخَلط بين هدي رسول الله المأمور به كل مسلم وبين اجتهاد غيره بعده.
* * * * *
خاتمة بحث الْمَسألة
قد يقول بعض الْمَعانيد: إذا قلتم: إن هذا الأذان بدعة، فهل كان عثمان - رضي الله عنه - لَمَّا فعل ذلك مبتدعًا؟
قلنا: معاذ الله؛ فعثمان - رضي الله عنه - خليفة راشد، وقد قال النَّبِي ص: $ما لي لا أستحيي مِمَّا تستحيي منه الْمَلائكة#.
وقال: $من يشتري بئر روما وله الْجَنة#. فاشتراها عثمان، وجعلها للمسلمين.
وقال لأبي موسى: $ائذن له وبشره بالْجَنة مع بلوى تصيبه#.
وكل هذه الأحاديث ثابتة عن رسول الله ص، منها ما هو فِي الصحيحين، ومنها ما هو صحيح فِي خارجهما، ولعثمان - رضي الله عنه - من الْمَناقب الكثيرة غير ذلك، وحسبه أنه مبشر بالْجَنة، كما تقدم حديث أبي موسى فِي الصحيحين: $ائذن له وبشره بالْجَنة#. وحديث سعيد بن زيد وغيرهما.(1/309)
لكنه - رضي الله عنه - اجتهد فجعل مؤذنًا بالسوق ليشعر الناس بقرب وقت الصلاة، ولَم يكن ذلك الأذان بالْمَسجد كما يفعل بعض الْمُسلمين الآن، ومع اختلاف على حال بعض الناس الآن؛ فإننا أيضًا نعتبر ذلك الأذان من أصله غير مشروع، وأن أمير الْمُؤمنين عثمان أخطأ باجتهاده هذا، فهو على اجتهاده وحسن قصده مأجور، وهو شهيد ومن العشرة الْمُبشرين بالْجَنة وذنبه مغفور، أما من تابعه على ذلك الْخَطأ بعد بيان الْحُجة فهو فِي ذلك مبتدع، لا عذر له فِي مُخالفة سنة رسول الله ص وصاحبيه.
هذا حاصل ما يتعلق بالأذان الأول للجمعة، وقد جهدنا ألا يكون فيه تطويل مُمل ولا اختصار مُخل، وكان قصدنا من ذلك الامتثال لقول الله تعالَى: +وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ" [الذاريات: 55].
والْحَمد لله رب العالَمين.
* * * * *
بدع خطبة الْجُمعة
90- صلاة الْخَطيب ركعتَي تَحية الْمَسجد قبل صعوده الْمِنبر، ثُمَّ يصعد بعدها مباشرة: بدعة؛ لأن النَّبِي ص والْخُطباء من أصحابه لَمْ يكونوا يصلونها.
وقول النَّبِي ص؛ كما فِي حديث أبِي قتادة الْمُتفق عليه: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد فليركع ركعتين#. وما جاء فِي ذلك من الأمر بها لسليك الغطفاني فِي الصحيح هو مَخصوص بفعل النبِي ص هذا، حيث كان إذا دخل جلس على الْمِنبر مباشرة دون أن يركع تَحية الْمَسجد.
91- تَحري الْخَطيب التقدم إلَى الْمَسجد قبل وقت الْخُطبة لغير عذر:
هذا خلاف الْهَدي النبوي، وخلاف عمل خطباء السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من الصحابة وغيرهم، وبعض الناس الآن ربَّما يبقى جالسًا بِجَانب الْمِنبر حَتَّى يأتي الوقت فيقوم من هناك، وتَعَمُّدُ ذلك بدعة.(1/310)
أما إذا كان لا يشعر أنه خطيب ولَمَّا قرب وقت الْخُطبة لَمْ يَجدوا أحدًا فطلبوا منه أن يَخطب، فهذا ليس عليه حرج؛ لأنه إنمَا بكر إِلَى الْمَسجد للصلاة واستماع الْخُطبة، وليس لقصد أنه يَخطب هو، فتكون تلك الأدلة الصحيحة فِي الْحَث على التبكير إِلَى الْمَسجد يوم الْجُمعة عامة فِي حق جَميع الرجال إلا الْخُطباء؛ فقد جاء ما يُخصصه من فعل النَّبِي ص أنه كان إذا دخل صعد على الْمِنبر، ثُمَّ قام الْمُؤذن فأذن، ثُمَّ شرع فِي الْخُطبة، ولَم يكن يتقدم قبل ذلك الوقت، وربنا سبحانه يقول: +لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [الأحزاب: 21].
92- تعمد ترك التسليم على من بالْمَسجد:
ذكر ابن الْحَاج فِي الْمَدخل (ج2 ص266) أن ذلك بدعة، وقال بنحو ذلك السيوطي فِي الأمر بالاتباع (ص247).
لكن هذا عندي فيه تفصيل: فإن كان الْمَسجد متسعًا ومدخل الإمام من أحد جوانبه؛ فإنه يشرع للخطيب أن يُسلم حال دخوله على الناس لقول النَّبِي ص: $إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر، ثُمَّ لقيه فليسلم عليه#.
أخرجه أبو داود (5200) وسنده حسن.
وبنحوه عند أبِي داود (5197)، والترمذي (2695) من حديث أبِي أمامة الباهلي مرفوعًا أنهم قالوا: يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام؟ قال: $أولاهما بالله تعالَى#. ورجال إسناده ثقات.
وإن كان الْمَسجد صغيرًا بِحيث يكون الْمِنبر قريبًا من الباب أو يكون مدخل الإمام من عند الْمِنبر؛ فهنا لا يصلح تكرار السلام من موضع واحد، والله أعلم.
93- التباطؤ عند صعود الْمِنبر:(1/311)
بدعة؛ ذكر ذلك أبو شامة فِي $الباعث على إنكار الْحَوادث#.(ص84)، والسيوطي فِي $الأمر بالاتباع#.(ص247) وغيرهما، وإنما الْمَطلوب من الْخَطيب ألا يتكلف التباطؤ، كحال بعض الْمُتظاهرين بالزهد، ولا يقف على كل درجة من درجاته؛ لعدم ثبوت حديث أن النبِي ص كان يقف على كل درجة من درجتَي الْمِنبر، وغاية ما تثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- صعد يومًا فقال: $آمين#، ثم صعد الثانية فقال: $آمين#، ثم صعد الثالثة، ويُحمل على كونه جلس عليها فقال: $آمين#، فسألوه عن ذلك؟ فقال: $قال لي جبريل: بَعُد من أدرك أبويه أحدهما أو كليهما ولَم يغفر له، قل: آمين. فقلت: آمين، فقال: بَعُد من أدركه رمضان ولَم يغفر له، قل: آمين. فقلت: آمين. فقال: بعُد من ذُكرت عنده ولَم يصل عليك، قل: آمين. فقلت: آمين#.
وليس فيه أنه كان يقف على كل درجة، وإنَّما الْمَطلوب من الْخَطيب أن يصعد على حالته الْمُعتادة بغير تكلف تباطؤ ولا تكلف عجلة وطيش.
94- الدعاء عند الْمِنبر قبل صعوده:
بِحَيث يقف قليلاً يدعو ثُمَّ يصعد، هذه بدعة، انظر: الباعث على $إنكار البدع والْحَوادث#.(ص163)، و$الأمر بالاتباع#.(ص247)، و $الْمَدخل#. (ج2 ص267).
95- الدعاء بعد صعود الْمِنبر وقبل الشروع فِي الْخُطبة:
انظر $الباعث#.(ص (263)، و$الاختيارات#. لشيخ الإسلام ابن تيمية (48)، و$روضة الطالبين#. للنووي (ج2 ص32).
96- الْخُطبة من خطب وأوراق مؤلفة قديْمَة، بِمَا فيها من الغث والسمين، وقد لا يناسب بعض مواضيعها ما يَحتاجه الناس فِي هذا الزمان أو هذا البلد:(1/312)
فالْخُطبة تكون بِمَا تقتضيه حاجة الْمُخاطبين من ترغيب وترهيب وغيره، كذا قال ابن القيم فِي $زاد الْمَعاد#.(ج1 ص189): وهذا الذي تقتضيه الأدلة؛ فالنبِي ص لَمَّا قدم وفد مضر وهم عراة خطب وحث الناس على التصدق عليهم، ولَمَّا دخل سليك الغطفاني الْمَسجد ولَم يركع ركعتين قال له: $قم فاركع ركعتين#. وربَّما وعظ الناس بالرفق بالنساء والإحسان إليهن، ووعظهم مرة فنهاهم عن الضحك من الْحَدث الأصغر. كما فِي حديث عبد الله بن زمعة، وهذا يدل أن الْخَطيب كالطبيب يُعالج الأمراض الْحَاصلة فِي عبادات الناس وأخلاقهم بشتى أنواعها، بعد إصلاح نفسه بكتاب الله وسنة رسوله ص، ومع استحضار قول الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاََ تَفْعَلُونَ ((( كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاََ تَفْعَلُونَ" [الصف: 2-3].
ولِهَذا الكلام بقية ذكرناها فِي أحكام الْجُمعة، و$انظر السنن والْمُبتدعات# (ص91).
97- نشر الأحاديث الضعيفة والْمَوضوعة ونشر العقائد الفاسدة بين العامة:
هذا من منكرات الْخُطباء، وانظر $السنن والْمُبتدعات#.(ص79).
98- قيام الناس للصلاة قبل نزول الْخَطيب من الْمِنبر:
هذا ينافِي الإنصات الْمَأمور به وقت الْخُطبة، ويعتبر خفة عقل! كالذي يسابق الإمام بالركوع والسجود، مع أنه لا يُمكن أن ينتهي من الصلاة إلا مع الإمام.
99- ملازمة قول الْخَطيب بعد نهاية الْخُطبة: وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والْمُنكر، ولذكر الله أكبر:
أو ختمها بقول الله تعالَى: +إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" [النحل: 90].
100- ملازمة ختم الْخُطبة بآية من القرآن، أو تَحري ختمها بِحديث نبوي:(1/313)
كل ذلك بدعة، وانظر $السنن والْمُبتدعات#.(ص89)، ومصادر أخرى ذكرت هذه البدعة.
101- تكلف الْخَطيب للسجع فِي الْخُطبة:
قال الله تعالَى لنبيه: +قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ" [ص: 86].
وقال عمر بن الْخَطاب: نُهينا عن التكلف. أخرجه البخاري (ج13 ص229).
وثبت فِي صحيح مسلم رقم (1681) وغيره من حديث الْمُغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها، فجعل رسول الله ص دية الْمَقتولة على عصبة القاتلة، وغرةً لِمَا فِي بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: كيف نَدِي يا رسول الله من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يُطل؟! فقال النَّبِي ص: $سجع كسجع الكهان، إن هذا من إخوان الكهان، من أجل سجعه#.
قال النووي -رحِمه الله- فِي شرح مسلم (ج11 ص191): قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله، والثاني: أنه تكلفه، وهذان الوجهان من السجع مذمومان.
وأما السجع الذي كان النبِي ص يقوله فِي بعض الأوقات وهو مشهور فِي الْحَديث فليس من هذا، لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلفه. اهـ.
وانظر لِهَذه البدعة: $الْحَوادث# للطرطوشي (ص157)، و $السنن والْمُبتدعات#.(ص91).
102- الضحك أو الابتسام من الْخَطيب حال الْخُطبة:
يُخالف هدي رسول الله ص، فقد ثبت فِي مسلم رقم (867): أنه ص كان إذا خطب احْمَرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم...
103- تكلف تفخيم الصوت بالسلام إذا صعد الْمِنبر على غير صوته الْمُعتاد:
وتقدم ذكر بعض أدلة تَحريم التكلف فِي السجع.
104- التغنِّي بقراءة الآيات فِي الْخُطبة بصوت ملحّن:(1/314)
خلاف هدي رسول الله ص، فقد سبق ذكر حديث جابر بن عبد الله من صحيح مسلم أن النبِي ص كان إذا خطب احْمَرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش؛ يقول: $صبحكم ومساكم#، ومنذر الْجَيش لا يتصور أنه فِي تلك الْحَالة الْمُفزعة يتغنى بصوته ويُحسنه.
وثبت فِي صحيح مسلم رقم (872) من حديث أم هشام بنت حارثة بن النعمان ل قالت: لقد كان تنورنا وتنور رسول الله ص واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذت +ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" [ق: 1] إلا من فِي رسول الله ص؛ يقرؤها كل جُمعة على الْمِنبر إذا خطب.
ولَم تنقل هي ولا غيرها أن النَّبِي ص حسن صوته فِي حرف واحد منها، وقد نقلوا عنه تَحسين صوته فِي قراءته لسورة التين فِي صلاة العشاء كما فِي البخاري (ج2)، ومسلم رقم (464): قال البراء بن عازب - رضي الله عنه - : $سمعت النَّبِي ص قرأ فِي العشاء بـ: +وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" [التين: 1]. فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه#.
بل نقلوا عنه أمورًا أدنى من ذلك بكثير فِي كيفية قضاء الْحَاجة، وعدم استقبال واستدبار القبلة حال الغائط والبول، والنهي عن البصاق إِلَى القبلة فِي الصلاة وغير ذلك، فلم ينقلوا لنا تَحسين الصوت فِي قراءة الآيات وقت الْخُطبة، لا شك أن هذا أمر غير معهود لَهم ألبتة، ولَم يكن يفعله حَتَّى القصاص فِي العصور الْمَاضية، ولا ينبغي قطعًا أن يستند فِي هذا بِمَا ثبت فِي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبِي ص قال: $ما أذن الله لشيء ما أذن لنبِي حسن الصوت يتغنى بالقرآن؛ يَجهر به#.
ولا بِحَديث أبِي موسى فِي الصحيحين أن النبِي ص قال له: $لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود#.
ولا بِحَديث أبي لبابة بشير بن عبد الله أن النبِي ص قال: $من لَم يتغن بالقرآن فليس منا#. أخرجه أبو داود رقم (1471).
وسنده حسن، بل صحيح لغيره.(1/315)
وما إلَى ذلك من الأدلة الصحيحة التِي فيها الْحَث على تَحسين الصوت بقراءة القرآن؛ فهذه أدلة عامة يُخصصها فعل النبِي ص فِي الْخُطبة؛ حيث لَم يتغن فيها، ولا يزال عمل الْمُسلمين على ذلك حتى جاء بعض الْمُستحسنين فجعلوا يترنَّمون بالآيات فِي خطب الْجُمعة بِحُجة أن ذلك يؤثر فِي السامعين، ونعم قد يَحصل شيء من ذلك لكن ضرر البدعة يربو على مصلحة تأثر بعضهم بالصوت الْحَسن، إن كان حسنًا، وإلا فبعضهم يظنه حسنًا وهو قبيح!
ومهما كان؛ فخير الْهَدي هدي رسول الله ص، وكل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة، وتكلف التأثير على الناس ولو بالبدعة أمر غير مشروع، فلم يكلف الله أحدًا من أنبيائه -عليهم السلام- أن يؤثر على الناس فيجعلهم يستجيبون له فضلاً عن غيرهم، قال تعالَى لنبيه مُحَمَّد ص: +إِِنْ عَلَيْكَ إِلاََّ الْبَلاَغُ" [الشورى: 48].
وقال: +فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (((( لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ" [الغاشية: 21-22].
وقال تعالَى: +فَلاََ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" [فاطر: 8].
وفِي الصحيحين من حديث ابن عباس: أن النبِي ص قال: $عُرضت عليَّ الأمم؛ فرأيت النبِي ومعه الرجل، والنبِي ومعه الرجلان، والنبِي وليس معه أحد#.
وقد قال الله T عن نوح - عليه السلام - : +وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاََّ خَمْسِينَ عَامًا" [العنكبوت: 14].(1/316)
وقال تعالَى عنه أنه قال: +قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاًَ وَنَهَارًا ((( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاََّ فِرَارًا ((( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ((( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ((( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا" [نوح: 5-9]. إلخ سورة نوح.
ومع هذا الْجَهد كله قال تعالَى عنه: +وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاََّ قَلِيلٌ" [هود: 40].
ألا فليربع الْحَماسيون على أنفسهم عن مُخالفة السنة لِحُجة تأثر أو قبول الناس لدعوتهم، فإن ذلك ليس إلا إلَى الله وحده؛ فهو الذي سبحانه يقبل بالقلوب على من أطاعه إن شاء، ويصرفها عمن عصاه.
105- ملازمة الدعاء فِي آخر الْخُطبة:
ليس عليه دليل، وإنما دعا النَّبِي ص حين قال له الأعرابي: يا رسول الله، هلكت الْمَواشي فاستسق؛ فادع الله أن يسقينا فرفع يديه وقال: $اللهم اسقنا، اللهم اسقنا...#. إلخ، ولَم يكن يدعو ولا يستسقي فِي كل جُمعة كما يفعل بعض الناس الآن، ولَم يعين ذلك الدعاء فِي آخر الْخُطبة.
106- جعل الْخُطبة الأخيرة من دائرة متكررة:
كما فِي $الفتوحات الرباينة#. للبيحاني، أو خطب ابن نباتة، أو نَحوها.
107- جعل الْخُطبة الأخيرة مقتصرة على الدعاء بالدعاء للسلاطين والغزاة والْمُرابطين:
انظر: $روضة الطالبين#.(ج2 ص32-33)، و$الاعتصام#. للشاطبِي (ج1 ص17-18) و(ج2 ص217)، و$الأجوبة النافعة#. للعلامة الألباني (ص72).
108- جعل الْخُطبة الأخيرة مقتصرة بالترضي على آل البيت كما يفعل أغمار الشيعة:
هذا مُحدث، وانظر: $الأجوبة النافعة#.(71)، و$السنن والْمُبتدعات#.(ص56).
109- تَحري التزين للجمعة بلبس الثياب السود:(1/317)
انظر: $الأمر بالاتباع#. (ص249-250)، و$الباعث على إنكار الْحَوادث#. لأبي شامة (ص187)، و$الْمَدخل#. لابن الْحَاج (ج2 ص166).
110- إكثار بعض الْخُطباء من الأشعار فِي خطبة الْجُمعة:
مُخالف لقول الله تعالَى: +إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ" [الْجُمعة: 9]. فإن الأشعار ليست من ذكر الله.
وقد قال العز بن عبد السلام فِي فتاويه: ذكر الشعر فِي خطبة الْجُمعة من أقبح البدع.
111- تعمد جعل إمام للجمعة غير الْخَطيب من غير ضرورة:
فقد كان النَّبِي ص وجَميع خلفائه والْخُطباء من أصحابه من خطب الناس منهم هو الذي يؤمهم.
112- التمسح بالْخَطيب بعد صلاة الْجُمعة للبركة:
هذه بدعة منكرة؛ فقد ثبت من حديث أبِي واقد الليثي - رضي الله عنه - أنه قال: خرجنا مع رسول الله ص إِلَى حنين ونَحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بِهَا أسلحتهم يقال لَها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لَهم ذات أنواطَ! فقال رسول الله ص: $الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لِمُوسى: اجعل لنا إلَهًا كما لَهم آلِهة، قال: إنكم قوم تَجهلون#.
فهذا الْحَديث فيه أنه لا يَجوز التبرك بِمَا لَمْ يَجعل الله فيه بركة، وليس لنا أن نعلم أن هذا الشيء فيه بركة إلا عن دليل شرعي.
113- كثرة الإشارة من الْخَطيب بيده هكذا وهكذا، أو رفعها للدعاء أثناء الْخُطبة لغير استسقاء:
ثبت فِي صحيح مسلم رقم (874) من حديث عمارة بن رؤيبة: أنه رأى بشر بن مروان على الْمِنبر رافعًا يديه فقال: قبح الله هاتين اليدين؛ لقد رأيت رسول الله ص ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه الْمُسبحة.(1/318)
وقد أنكر هاتين البدعتين جَماعة من أهل العلم، كما فِي شرح مسلم للنووي عند هذا الْحَديث، و$الاختيارات#. لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص121) بتعليق العثيمين -رحِمه الله-، و$الاتباع#. للسيوطي (ص247)، و$الباعث#. لأبي شامة (ص263)، و$بذل الْمَجهود شرح سنن أبي داود#.(ج6 ص105-106)، وابن عابدين فِي حاشية (ج1 ص768) وغيرهم.
114- تغميض العينين فِي الْخُطبة:
خلاف هدي رسول الله ص الْمَذكور فِي حديث جابر عند مسلم أنه كان إذا خطب احْمَرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش.
115- كثرة الْحَركات والالتفات على الْمِنبر يَمينًا وشمالاً:
بدعة، وانظر: $الباعث على إنكار الْحَوادث#. لأبي شامة (ص264-265)، و$الاتباع#. للسيوطي (247-248)، والشافعي فِي $الأم#.(ج1 ص230)، وابن القيم فِي $زاد الْمَعاد#.(ج1 ص430)، و$روضة الطالبين#. للنووي (ج2 ص32)، و$إصلاح الْمَساجد#. للقاسمي (ص48).
116- دق الْمِنبر بالعصا أو بالقدم:
كما يفعل بعض الْخُطباء عند أن يتحمس فِي الْخُطبة، هذه بدعة منكرة مزعجة للمستمعين.
انظر: $الباعث#. لأبي شامة (ص262)، و $الاتباع#. للسيوطي (ص 247)، و$الْمَدخل#. لابن الْحَاج (ج2 ص267)، و$إصلاح الْمَساجد#. للقاسمي (ص48)، و$روضة الطالبين#. للنووي (ج2 ص32).
117- ملازمة الاستغفار فِي الْجَلسة بين الْخُطبتين بقول: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم:
لَم يثبت الْحَديث بذلك كما بينته فِي أحكام الْجُمعة؛ فملازمة ذلك بدعة.
118- القيام بين الْخُطبتين لصلاة تَحية الْمَسجد:
أمر مُحدث، والسنة: أن القادم إِلَى الْمَسجد عند دخوله لقصد الْجُلوس فيه أول ما يبدأ فيصلي ركعتين، كما أمر النَّبِي ص سليكًا الغطفاني بذلك. رواه مسلم، وكما قال ص: $إذا دخل أحدكم الْمَسجد فلا يَجلس حَتَّى يركع ركعتين# . متفق عليه من حديث أبي قتادة.(1/319)
فالسنة للداخل وقت أذان الْجُمعة: أن يباشر الصلاة بتحية الْمَسجد، ولا ينتظر حتى ينتهي الْمُؤذن ويشرع الْخَطيب فِي الْخُطبة ثم لا يصلي، لأن استماع الْخُطبة أولَى من الترديد مع الْمُؤذن.
119- التطويل فِي تَحية الْمَسجد والإمام يَخطب:
يكره؛ لقول النبِي ص: $إذا دخل أحدكم والإمام يَخطب؛ فليركع ركعتين وليتجوز فيهما#. أخرجه مسلم رقم (59، 875).
120- إكثار الْخَطيب من قوله: أو كما قال:
هذا يدل على عدم أهليته، وانظر $السنن والْمُبتدعات#.(ص90).
121- تطويل الْخُطبة تطويلاً مُمِلاًّ، أو الإسراع فيها إسراعًا مُخلاًّ:
خلاف السنة، فقد روى مسلم رقم (869) من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - : أن النَّبِي ص قال: $إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة على فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الْخُطبة#.
قال النووي -رحِمه الله- ما معناه: أطيلوا الصلاة أي: بالنسبة للخطبة؛ فلا يتعارض مع حديث جابر بن سمرة: أن النَّبِي ص كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا. وانظر لِهَذه البدعة $روضة الطالبين#. للنووي (ج2 ص33).
122- تكلف الْخَطيب رفع صوته عند الصلاة على النبِي ص فوق الْمُعتاد فِي باقي الْخُطبة:
انظر: $الباعث#. لأبي شامة (ص 265)، و $الأمر بالاتباع#. للسيوطي (ص248)، والاختيارات لابن تيمية (ص121).
123- قول الْخَطيب: اذكروا الله يذكركم ولا تنسوه فيخذلكم، والاستمرار على ذلك فِي آخر الْخُطبة.
124- وقول الْمَأمومين عند ذلك: لا إله إلا الله، بصوت واحد مرتفع مزعج.
لا دليل عليه فهو بدعة.
125- قول الْخَطيب أثناء الْخُطبة: مُحب النَّبِي يصلي عليه، أو: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
بدعة، ويتفرع منها أن الْمُستمعين الْجُهال يصرخون بالصلاة على النَّبِي ص أو بالدعاء، فيكون هذا الْخَطيب متسببًا فِي بطلان ثواب جُمعتهم، ويصير آمرًا بِمُنكر.
126- بدعية قراءة الفاتِحَة بين الْخُطبين:
انظر $الْمُحدثات وما لا أصل لَها#.(ص515).(1/320)
127- صلاة الاستسقاء بعد صلاة الْجُمعة فِي الْمَسجد:
بدعة؛ وإنما كان النَّبِي ص إذا استسقى يوم الْجُمعة رفع يديه ودعا، ولَم يثبت عنه ص أنه صلى بعد الْجُمعة صلاة استسقاء، بل كان إذا أراد أن يستسقي بِهم خرج بِهم يومًا، فصلى بِهم وخطب، أما بعد الْجُمعة فلا.
128- تعمد الشهيق والترنُّم فِي الْخُطبة:
خلاف هدي النَّبِي ص.
فقد أخرج أبو داود رقم (4839) من حديث عائشة قالت: كان كلام رسول الله ص كلامًا فصلاً يفهمه كل من يسمعه. وسنده حسن.
وأخرج البخاري فِي صحيحه رقم (95) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن النبِي ص كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا؛ حتى تُفهم عنه.
وانظر: $الإبداع فِي مضار الابتداع#. (ص 27)، و$الأجوبة النافعة#.(ص72).
129- تشبيك الأصابع وفرقعتها، وتسريح الرأس، وشم الريْحَان، واستعمال السواك، وتقليب الْمَفاتيح، ومس الْحَصى، ورد السلام، وتشميت العاطس:
هذا كله فعله وقت الْخُطبة منكر؛ كما بيناه فِي أحكام الْجُمعة، ولله الْحَمد.
130- تَحري ختم الْخُطبة بالصلاة على النبِي ص، مثل قول هذا: وصلى الله على نبينا مُحمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، أو نَحو ذلك:
لا دليل على تعمد اختتام الْخُطبة بالصلاة على النَّبِي ص؛ فهو من البدع.
131- التصوير وقت الْخُطبة!
من الْمُنكرات العظيمة؛ فمع ما فِي ذلك من النهي الأكيد والوعيد الشديد فِي تصوير ذوات الأرواح، أيضًا هذا الفعل يشغل الْمُستمعين ويلهيهم عن سماع الْخُطبة، فيحرم نفسه وغيره من أجر الْجُمعة وثواب حضورها واستماع خطبتها.
132- طلب التبرعات بين الْخُطبتين وبعدهما، أو جعل صندوق تبرعات فِي الْمَسجد:
هذا تسول مذموم، انظر كتاب $الْحَوادث والبدع#. للطرطوشي (ص 153) فقد نص على ذم التسول، ولشيخنا العلامة الوادعي فِي ذم التسول كتاب مفيد، أما وضع تلك الصناديق فهي من بدع العصر وحوادثه.(1/321)
ولقد حصل للنبِي ص وأصحابه أزمات شديدة وجوع لاذع حَتَّى كان النَّبِي ص يظل اليوم يلتوي ما يَجد من الدقل(1) ما يَملأ بطنه كما ثبت ذلك فِي صحيح مسلم رقم (2978) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - .
وكان أهل الصفة إذا صلوا خلف النَّبِي ص يَخر أحدهم من قامته من الْخَصاصة، فإذا صلى النَّبِي ص قال: $لو تعلمون ما أعد الله لكم فِي الْجَنة لأحببتم أن تزدادوا فاقة#. ثبت ذلك من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - (2).
ولَمَّا جاء أصحاب مضر وهم عراة ورأى ما بِهم من الْحَاجة قام فِي الناس خطيبًا فحثهم على التصدق عليهم مباشرة، وهكذا كما تقدم حديث جرير البجلي فِي مسلم، ورأى على بعض الأعراب ثيابًا رثة فحث الناس على التصدق عليهم هو مباشرة.
وفِي صحيح مسلم: أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله إني مَجهود –أي: من الْجُوع- فقال رسول الله ص: $من يضيف ضيف رسول الله؟#.
وهذه حالات قليلة من حوادث كثيرة حصلت فِي زمنه ص، فكان مقتضى هذه البدعة العصرية موجودًا مع إمكان جعلهم للصناديق ولَم يفعلوها، وإنما اخترعها فِي عصرنا فِي تيك الْمَساجد جَماعة من الْمُتلصصين باسم دين الله ونصرة الْمَحاويج، والسعي فِي التعاون معهم -زعموا- وقلدهم فِي ذلك آخرون، وكان بذرة هذا ذلك التحزب البغيض الذي تعاني منه هذه الأمة الْمُسلمة الآن، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
133- الْخُطبة من الْجَرائد والْمَجلات، ونشرات الأخبار والقصص والْحزايا الْمُضحكة:
كل ذلك منكر.
__________
(1) هو رديء التمر.
(2) أخرجه أحْمَد (6/18)، والترمذي رقم (2368)، وابن حبان (2/502)، والطبراني فِي الكبير (18/798)، وأبو نعيم فِي الْحِلية (2/17) كلهم من طريق أبي عبد الرحْمَن عبد الله بن يزيد الْمُقرئ قال: حدثنا حيوة بن شريح، قال: حدثنِي أبو هانئ أن أبا علي الْحَنبِي حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد يُحدث ... فذكر الْحَديث، وسنده صحيح.(1/322)
قال الله تعالَى: +يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الْجُمعة: 9]، والْجَرائد والْمَجلات و...إلخ ليست من ذكر الله.
134- تكبير بعض الْمُستمعين إذا سمع من الْخَطيب شيئًا يعجبه، فيرفع صوته بقوله: الله أكبر، مُحدث.
135- إنشاد الشعر بعد الْجُمعة:
انظر: $السنن الْمُبتدعات#.(ص84-85).
136- اعتماد الْخَطيب حال الْخُطبة على السيف:
انظر: $زاد الْمَعاد#.(ج1 ص429)، و$السنن والْمُبتدعات#.(ص89).
137- ارتقاء الْخَطيب درجة عند الصلاة على النبِي ص.
138- تعمد التمطي فِي حال الْخُطبة إلَى أعلى وأسفل.
139- قول بعض الْخُطباء: صلوا على الْحَبيب، طب القلوب ودوائها، ونور الأبصار وشفائها.
إِلَى آخر ذلك السجع.
140- تَحري قول بعضهم فِي آخر الْخُطبة: بارك الله لي ولكم فِي القرآن العظيم، ونفعنِي وإياكم بِمَا فيه من الآيات والذكر الْحَكيم:
141- تَحري قراءة الْخَطيب لآيات فِي الصلاة تناسب موضوع الْخُطبة كالْمُستدل بِهَا على الْمَوضوع، وإنما كان النَّبِي ص يقرأ فِي الصلاة الْجُمعة بـ: سبح والغاشية، أو بـ: الْجُمعة والْمُنافقين.
142- تأمين الْمُستمعين على دعاء الإمام إذا عرض له دعاء لغير تعمد.
143- الْخُطبة جالسًا.
ثبت فِي صحيح مسلم رقم (864): أن كعب بن عجرة أنكر ذلك على عبد الرحْمَن ابن أم الْحَكم إنكارًا شديدًا.
144- قراءة الأسماء الْحُسنى بعد الْجُمعة:
انظر: $الْمُحدثات#. لِحَمود الْمَطر (514).
145- اعتقاد أن الْحَج يوم الْجُمعة أفضل من غيره بسبعين حجة.
انظر: $زاد الْمَعاد#.
بدع فِي الصلاة
146- قول بعض الناس عند تسوية الصفوف: استووا يرحَمنِي ويرحَمكم الله:
فزيادة: يرحَمنِي ويرحَمكم الله، أو غير ذلك من الدعاء لَهم عند تسوية الصفوف يعتبر مُحدثًا.
147- الْجَهر بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم فِي الصلاة:
((1/323)
بدعة) قال الإمام البخاري -رحِمه الله- رقم (743): حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن النَّبِي ص وأبا بكر وعمر ب كانوا يفتتحون الصلاة بـ: +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الفاتِحة: 2].
وأخرج مسلم رقم (390) من طريق: مُحَمَّد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله ص وأبِي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ: بسم الله الرحْمَن الرحيم.
وذكر الْحَديث بعد هذا من طريق الأوزاعي، عن قتادة وإسحاق بن عبد الله بن أبِي طلحة، عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: صلَّيت خلف رسول الله ص وأبِي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ: +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، لا يذكرون بسم الله الرحْمَن الرحيم فِي أول قراءة ولا فِي آخرها.
وقد تابع الأوزاعي على رواية الْحَديث بِهذا اللفظ جَماعة ذكرهم الْحَافظ ابن حجر فِي فتح الباري عند الْحَديث فقال: الأوزاعي لَم ينفرد به؛ فقد رواه أبو يعلى عن أحْمَد الدورقي، والسراج عن يعقوب الدورقي، وعبد الله بن أحْمَد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ: فلم يكونوا يفتتحون القراءة بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم.
وأخرج مسلم رقم (498) من حديث أبي الْجَوزاء عن عائشة ل قالت: كان رسول الله ص يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ: +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
والصحيح: أن أبا الْجَوزاء لَمْ يسمع من عائشة، لكنه أرسل إليها رسولاً يسألها عن هذا الْحَديث. وانظر التهذيب لابن حجر.
وأخرج مسلم رقم (599) من حديث أبي هريرة: أن النبِي ص كان إذا نهض فِي الثانية استفتح بـ:+الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" ولَم يسكت.(1/324)
وأخرج أحْمَد فِي مسنده (ج4 ص85)، والترمذي رقم (244)، والنسائي (ج2 ص135)، وابن ماجه فِي باب افتتاح القراءة رقم (815) وغيرهم من طريق: قيس بن عباية أبي نعامة الْحَنفي، عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعنِي أبي وأنا أقول: بسم الله الرحْمَن الرحيم -أي: فِي الصلاة- فقال: أي بنَي، إياك والْحَدث، صليت مع النبِي ص ومع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقولَها، فلا تقلها أنت إذا صليت، فقل: +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
وسند الْحَديث صالح فِي الشواهد، قيس بن عباية: ثقة، وثقه ابن معين، وابن حبان، وقال ابن عبد البر: هو ثقة عند جَميعهم.
وابن عبد الله بن مغفل، صرح الإمام أحْمَد فِي مسنده (ج4 ص85) باسمه فقال: عن ابن لعبد الله بن مغفل يزيد بن عبد الله بن مغفل، وقال الْحَافظ ابن حجر فِي التهذيب: قيل: اسمه يزيد، ثبت كذلك فِي مسند أبي حنيفة للبخاري.
قال الْحَافظ الْمِزي فِي تهذيب الكمال: ابن لعبد الله بن مغفل عن أبيه فِي الْجَهر بالبسملة، قال أبي: بنَي مُحدث، وعنه أبو نعامة روى له البخاري فِي القراءة خلف الإمام، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ورواه أبو حنيفة، عن أبي سفيان طريف بن شهاب، عن يزيد بن عبد الله بن مغفل، عن أبيه.
وطريف بن شهاب ضعيف، فكيف يقول الْحَافظ ثبت فِي مسند أبي حنيفة؟!
قلت: وسواء عرف اسمه أم لَم يعرف فهو مَجهول، ما روى عنه غير أبي نعامة، أما أبو سفيان، فهو ضعيف فِي نفسه كما ذكرنا، ولَم أر من وثق يزيد بن عبد الله هذا.
لكنه تابعي وأبوه صحابي جليل ولو علم فيه كذبًا أو غير ذلك مِمَّا يقدح فِي حديثه لَهجره وزجره، كما هجر أحد أبنائه حين رآه يَخذف فنهاه ورآه مرة أخرى يَخذف، فقال له: لا أكلمك أبدًا.
والْحَديث فِي البخاري (ج10 ص493)، ومسلم (1954).(1/325)
فهو -إن شاء الله- يصلح فِي الشواهد مع تزكية النبِي ص لأهل هذه الطبقة فِي الْجُملة بقوله: $خير الناس: قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم#.
ويشهد له ما تقدم من حديث أنس وعائشة ب أن النبِي ص وأبا بكر وعمر وعثمان لَم يَجهروا بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم.
هذا، وليس للقائلين بالْجَهر بها فِي الصلاة دليل صحيح ألبتة، وأحسن ما لَهم من الأدلة وأجودها حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وإليك ذكره ومناقشة سنده:
قال الإمام ابن الْجَارود -رحِمه الله تعالَى- رقم (184) من الْمُنتقى: حدثنا مُحمد بن يَحيى قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: أنبأنا الليث قال: حدثنِي خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن نعيم الْمُجمر قال: صليت وراء أبي هريرة - رضي الله عنه - فقرأ: بسم الله الرحْمَن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ: +وَلاََ الضَّالِّينَ" [الفاتِحة:7] فقال: آمين، وقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، فإذا قام من الْجُلوس قال: الله أكبر، ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله ص.
ورجال إسناده كلهم ثقات.
مُحمد: هو ابن يَحيى الذهلي، شيخ البخاري، إمام.
وابن أبي مريم: هو سعيد، إمام معروف.
والليث: هو ابن سعد، أرفع من ثقة.
وخالد بن يزيد: هو الْمِصري، وثقه أبو زرعة والنسائي.
وسعيد بن أبي هلال؛ قال الذهبِي فِي $الْمِيزان#: ثقة معروف، حديثه فِي الكتب الستة، وقال ابن حزم: ليس بالقوي، فتعقبه الْحَافظ ابن حجر فِي التقريب وقال: صدوق لَم أر لابن حزم فِي تضعيفه سلفًا، وشذ الساجي فذكره فِي الضعفاء. اهـ باختصار من مقدمة فتح الباري (ص577).(1/326)
وقد أخرج الْحَديث النسائي (ج2 ص134)، وأحْمَد (ج2 ص497)، وابن خزيْمَة فِي صحيحه (ج1 ص251)، والْحَاكم (ج1 ص232)، والبيهقي (ج2 ص58)، وابن حبان (ج5 ص100- إحسان)، والطحاوي فِي $شرح الْمَعاني#.(ج1 ص19) كل هؤلاء أخرجوه بزيادة: أن أبا هريرة قرأ بسم الله الرحْمَن الرحيم، ثم قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ص.
لكن للحديث علة قادحة، قال الزيلعي -رحِمه الله- فِي نصب الراية (ج1 ص335-336) ملخص ما ذكره ابن عبد الْهَادي مستدركًا به على الْخَطيب قال: وقد أفرد هذه الْمَسألة بالتصنيف جَماعة فذكرهم، ثم قال: وللقائلين بالْجَهر أحاديث، أجودها: حديث نعيم الْمُجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحْمَن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن.
والْجَواب عنه من وجوه:
أحدها: أنه حديث معلول؛ فإن ذكر البسملة فيه مِمَّا تفرد به نعيم الْمُجمر من بين أصحاب أبِي هريرة، وهم ثمانمائة ما بين صاحب وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب أبِي هريرة أنه حدث عن أبِي هريرة أنه - عليه السلام - كان يَجهر بالبسملة فِي الصلاة.
وقد أعرض عن ذكر البسملة فِي الصلاة صاحبا الصحيح؛ فرواه البخاري [(785) من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن أبِي سلمة، عن أبِي هريرة، و (803) من طريق ابن شهاب، عن أبِي بكر بن عبد الرحْمَن، وأبِي سلمة عن أبِي هريرة، ورقم (795) من طريق ابن أبِي ذئب، عن سعيد الْمَقربي، عن أبِي هريرة، وأكثر هذه الطرق اتفق معه مسلم عليها رقم (392)](1)، بغير زيادة أن أبا هريرة قرأ البسملة.
قال -رحِمه الله-: وليس للتسمية فِي هذا الْحَديث ولا فِي الأحاديث الصحيحة عن أبِي هريرة ذكر، وهذا مِمَّا يغلب على الظن أنه وهم على أبِي هريرة، ثُمَّ ذكر زيادة الثقة وأنها إنمَا تقيل من الأرجح أو الْمُماثل وأن هذا الشرط هنا مفقود..
__________
(1) التخريج من بعد القوسين من بَحثنا نَحن، وليس من كلام الزيلعي -رحِمه الله-.(1/327)
ثُمَّ قال: وزيادة نعيم الْمُجمر للتسمية هنا مِمَّا يتوقف فيها، بل يغلب على الظن ضعفه وعلى تقدير صحتها، فلا حجة فيها لِمَن قال بالْجَهر؛ لأنه قال: فقرأ بسم الله الرحْمَن الرحيم وذلك أعم من قراءتها سرًّا أو جهرًا.
الوجه الثاني: أنه يَجوز أن يكون أبو هريرة أخبر نعيمًا أنه قرأها سرًّا.
الوجه الثالث: أن قوله: إني لأشبهكم صلاة برسول الله ص، إنمَا أراد به أصل الصلاة ومقاديرها وهيئتها، وتشبيه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يكون مثله من كل وجه، بل يكفي فِي غالب الأفعال، وذلك متحقق فِي التكبير وغيره، ثُمَّ ألزم القائلين بإلزامات تراجع من نصب الراية (ج1 ص338-339).
الوجه الرابع: أن النبِي ص ذكر قول الله تعالَى فِي الْحَديث القدسي: $قسمت الصلاة بينِي وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الفاتِحة: 2]؛ قال الله تعالَى: حَمدني عبدي...#. وذكر الْحَديث إلخ، وليس فيه فإذا قال: بسم الله الرحْمَن الرحيم.
والْحَديث فِي صحيح مسلم عن أبي هريرة.
قال ابن عبد البر -رحِمه الله- فِي هذا الْحَديث: إنه قاطع تعلق الْمُتنازعين، وهو نص لا يَحتمل التأويل، ولا أعلم حديثًا فِي سقوط البسملة أبيَن منه.
وقال الزيلعي بعده: وهذا الْحَديث ظاهر فِي أن البسملة ليست من الفاتِحة، وإلا لابتدأ بها؛ لأن هذا مَحل بيان واستقصاء لآيات السورة، حتى أنه لَم يخل منها بِحرف، والْحَاجة إلَى قراءة البسملة أمس ليرتفع الإشكال. اهـ الْمُراد من نصب الراية (ج1 ص337-339).
وقال الدارقطنِي -رحِمه الله -: كل ما ورد عن النبِي فِي الْجَهر بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم فليس بصحيح.
نقل هذا الْمَوصلي فِي $الْمُغنِي عن الْحَفظ والكتاب#. مقرًّا له، انظر: $جنة الْمُرتاب#. (ص257).
وقال الفيروزآبادي في رسالته بيان ما لَم يثبت فيه حديث من الأبواب رقم (24) بتحقيقنا، باب الجهر بالبسملة في الصلاة؛ لَم يصح فيه حديث.(1/328)
وقال ابن عبد الْهَادي فِي $الْمُحرر#.(ج1 ص188): وذكر البسملة فِي الْحَديث قد أعل.
وللإمام ابن رجب الْحَنبلي -رحِمه الله- عند الْحَديث رقم (743) بَحث علمي نفيس فِي غاية الْجَودة والإتقان، لولا خشية التطويل لنقلته بنصه وفصه، لكن سأذكر منه نبذًا مهمة -إن شاء الله-:
قال فِي (ج6 ص396) من فتح الباري: فإن قيل: قد روى الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس: أن النبِي ص وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يستفتحون بأم القرآن فيما يَجهرون به، خرجه ابن جوصا الدارقطنِي فِي السنن (ج1 ص316)، وهذا صريح فِي أن الْمُراد ابتداء القراءة بفاتِحة الكتاب.
قيل: ليس الْمُراد الإخبار بأنهم يقرءون أم القرآن قبل سورة سواها، فإن هذا لا فائدة فيه، إنَّما الْمُراد: أنهم كانوا لا يقرءون قبل أم القرآن شيئًا يَجهرون به فِي الصلاة، فدخل فِي ذلك البسملة، فإنها ليست من أم القرآن، ويدل على هذا شيئان:
أحدهما: أن رواية الأوزاعي الَّتِي فِي صحيح مسلم فيها: أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحْمَن الرحيم فِي أول قراءة ولا فِي آخرها، والأوزاعي إمام فقيه عالِم بِمَا يروي، فرواياته كلها متفقة.
والثاني: أن الأوزاعي كان يأخذ بِهذا الْحَديث الذي رواه، ولا يرى قراءة البسملة قبل الفاتِحَة سرًّا ولا جهرًا. اهـ الْمُراد من (ص396-397).
وقال فِي (ص404) مبينًا عدم صلاحية تلك الأحاديث لِمَا فِي الصحيحين قال: ومنها: أنه ليس فِيه تصريح للجهر بالبسملة، وإنَّما فيه اقتداء كلي فِي الصلاة، ومثل هذا لا يثبت به نقل تفاصيل أحكام الصلاة الْخَاصية. اهـ الْمُراد.(1/329)
وقال فِي (ص406): فمن اتقى وأنصف علم أن: حديث أنس فِي الصحيح لا يُدْفَعُ بِمَثل هذه الْمَناكير والغرائب والشواذ الَّتِي لَمْ يرض بتخريْجِها أصحاب الصحاح، وإنما جُمعت هذه الطرق الكثيرة الغريبة والْمُنكرة –أي: فِي الْجهر بالبسملة- لَما اعتنى بهذه الْمَسألة من اعتنى بِهَا، ودخل فِي ذلك نوع من الْهَوى والتعصب، فإن أئمة الإسلام الْمُجتمع عليهم إنمَا قصدوا اتباع ما ظهر لَهم من الْحَق وسنة رسول الله ص، لَمْ يكن لَهم قصد فِي غير ذلك ي، ثُمَّ حدث بعدهم من كان قصده: أن تكون كلمة فلان وفلان هي العليا، ولَم يكن قصد أولئك الْمُتقدمين، فجمعوا وكثروا الطرق والروايات الضعيفة والشاذة والْمُنكرة والغريبة، وعامتها موقوفات رفعها من ليس بِحَافظ، أو ضعيف لا يُحتج به، أو مرسلات وَصَلَها من لا يُحتج به.
والعجب مِمَّن يعلل الأحاديث الصحيحة الْمُخرجة فِي الصحيح بعلل لا تساوي شيئًا، إنمَا هي تعنت مَحض، ثُمَّ يَحتج بِمَثل هذه الغرائب الشاذة الْمُنكرة.
وقد اعتنى بهذه الْمَسألة وأفردها بالتصنيف كثير من الْمُحدثين منهم: مُحَمَّد بن نصر، وابن خزيْمَة، وابن حبان، والدارقطنِي، وأبو بكر الْخَطيب، والبيهقي، وابن عبد البر وغيرهم من الْمُتأخرين.
ومن أقوى ما احتجوا به: حديث خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبِي هلال، عن نعيم الْمُجمر عن أبِي هريرة أنه صلّى بِهم فقرأ: بسم الله الرحْمَن الرحيم، وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله.
وسعيد وخالد وإن كانا ثقتين لكن قال أبو عثمان البرذعي فِي علله: عن أبي زرعة الرازي أنه قال فيهما: ربَّما وقع فِي قلبِي من حُسن حديثهما، وقال أبو حاتِم: أخاف أن يكون بعضها مراسيل عن أبي فروة وابن سمعان. اهـ الْمُراد.
قلت: وأيضًا مع هذا فقد علمت أن زيادة البسملة شاذة يقينًا، كما قدمنا.(1/330)
وقال فِي (ص414): وقال العقيلي فِي كتابه: لا يصح فِي الْجَهر بالبسملة حديث مسند مرفوعًا إِلَى النَّبِي ص، وحكى مثله عن الدارقطنِي، وفِي ترك الْجَهر بِهَا حديث عبد الله بن مغفل وهو شاهد لِحديث أنس، ثُمَّ ذكر حديث ابن مغفل بكلام حاصله: أنه صالح للاحتجاج عنده.
وقال فِي (ص419): وأما الآثار الْمَوقوفة فِي الْمَسألة فكثيرة جدًّا، وإلَى ذلك ذهب أكثر أهل العلم من أصحاب النَّبِي ص أي: بالإسرار.
قلت: وبقوله هذا قال الترمذي والبغوي وغيرهما.
قال: وحكاه ابن شاهين عن عامة أهل السنة الإسرار بِهَا وهم السواد الأعظم، وروى شعبة، عن حصين، عن أبِي وائل قال: كانوا لا يَجهرون بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم.
وقال عروة بن الزبير: أدركت الأئمة ما يستفتحون القراءة [إلا]: بـ +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
وقال الأعرج مثل هذا القول، وقال النخعي: ما أدركت أحدًا يَجهر بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم، وعنه قال: الْجَهر بِهَا بدعة.
وعن عكرمة قال: أنا أعرابي إن جهرت بـ: بسم الله الرحْمَن الرحيم.
وقال وكيع: الْجَهر بِهَا أعرابية، وبِهذا قال جَماعة، أي: أنه ما يفعل ذلك إلاَّ الْجُهال من الأعراب ونَحوهم، أما من عنده علم بصحيح سنة رسول الله ص فلا يفعل ذلك.
وقال وكيع: لا تصلِّ خلف من يَجهر بِهَا.
وقال أحْمَد: إن كان يتأول فلا بأس، وإن كان غير ذلك فلا يصلِّ خلفه.
وقال العلامة الألباني -رحِمه الله- فِي بَحث له حول البسملة قال: والْخُلاصة: أنه لَمْ يصح فِي الْجَهر بالبسملة فِي الصلاة ما تقوم به الْحُجة من الْحَديث، والتفصيل لا يتسع له هذا الْمَكان؛ فليراجع من شاء:$نصب الراية#.(ج1 ص335-336).(1/331)
وللحافظ مُحمد بن طاهر الْمَقدسي رسالة جيدة فِي هذه الْمَسألة اختار فيها الإسرار، قال فِي مطلعها: أما بعد، فإن سائلاً سألنِي عن السبب الْمُوجب لترك الْجَهر بقراءة بسم الله الرحْمَن الرحيم فِي أول الفاتِحة بعد أن كنت أجهر بِهَا؛ فكان الْجَواب: أننِي لَما نشأت كنت على مذهب أخذته تقليدًا، إذ الصبِي يكون مذهبه قبل التمييز مذهب أبويه وأهل بلده، فكنت على ذلك حينًا أعتقد صحته جهلاً منِّي بطرق الأحاديث الَّتِي هي الْمِرقاة الْمُتوصل بِهَا إِلَى معرفة ذلك، فلما رزقنِي الله تعالَى من العلوم أجلها وأنفعها عاجلاً وآجلاً دعاني ذلك إِلَى تناول الصحيح مِمَّا نقل عن صاحب الشريعة وترك ما سواه، وذلك أني تتبعت هذه الْمَسألة وأحاديثها للفريقين فلم أجد فِي الْجَهر بِهَا فِي الصلاة حديثًا صحيحًا يعتمد عليه أهل النقد. اهـ من $التعليق على التنكيل#. للمعلمي -رحِمه الله- (ج1 ص153).
قلت: وقد صنف العلامة الْمُحدث الفقيه أبو الفيض مُحَمَّد بن مرتضى الزبيدي رسالة سماها: $الرد على من أبى الْحَق، وادعى أن الْجَهر بالبسملة من سنة سيد الْخَلق#، رجح فيها قول جَماهير العلماء أن الْجَهر بها غير سنة ولا مشروع.
وألف الغماري رسالة سماها: $الاستعاذة والْحَسبلة(1) مِمَّن صحح أحاديث البسملة#.
وللإمام ابن الْجَوزي -رحِمه الله- بَحث فِي هذه الْمَسألة فِي كتابه:$التحقيق فِي مسائل الْخِلاف#.(ج2 ص220) ذهب فيه: إِلَى أنه لا يسن الْجَهر بِهَا، وتبعه على ذلك الإمام الذهبِي فِي التنقيح تَحت ذلك الرقم.
قال ابن الْجَوزي: لا يُسن الْجُهر بالبسملة.
__________
(1) معنى هذا العنوان: نعوذ بالله مِمَّن صحح أحاديث البسملة وحسبنا الله عليه.(1/332)
وقال الذهبِي: لا يُسن الْجَهر بها خلافًا للشافعي، ثم ذكر ابن الْجَوزي مبحثًا نفيسًا أبان فيه قوة القول بالإسرار لقوة أحاديثه، وضعف القول بالْجَهر لضعف أحاديثه، فقال فِي ذلك: وإن مُجمل ما استدلوا به من تلك الأحاديث تسعة كلها معلة ضعيفة، وأجودها: حديث نعيم الْمُجمر عن أبي هريرة وليس بصريح فِي الْجَهر.
قلت: وهو أيضًا به علة شديدة كما قدمنا، وبعد أن أبان عللها واحدًا واحدًا وأجاب عن شبههم شبهة شبهة، قال (ص 243): وهذه الأحاديث فِي الْجُملة لا يَحسن بِمَن له علم بالنقل أن يُعارض بها الأحاديث الصحيحة، ولولا أن يعرض للمتفقهة شبهة عند سماعها فيظنها صحيحة لكان الإضراب عن ذكرها أولَى، ويكفي فِي أنها هجر: إعراض الْمُصنفين للمسانيد والسنن عن جُمهورها. اهـ الْمُراد باختصار من التحقيق لابن الْجَوزي، مع التنقيح للذهبِي (ج2 ص206-244)، مع ترجيح الإمامين أن البسملة ليست آية من كل سورة سواء فِي ذلك الفاتِحة وغيرها.
قلت: إلا سورة النمل فهي آية منها باتفاق.
ونقل الإمام ابن كثير -رحِمه الله- فِي تفسيره عند تفسير البسملة أن الْخُلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل، وطوائف من سلف التابعين والْخَلف، ومنهم أصحاب الْمَذاهب الأربعة إلا الشافعي -رحِمَهم الله جَميعًا- كلهم يقولون: لا يُجهر بالبسملة، حَتَّى أن مالكًا والأوزاعي كما تقدم يقولان: لا يُجهر بِهَا ولا يُسر، ثُمَّ استدل بِحَديث أنس الذي فِي الصحيحين كما تقدم فِي أول البحث أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بـ: +الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" .
وعند مسلم: أنهم كانوا لا يذكرون بسم الله الرحْمَن الرحيم فِي أول القراءة ولا فِي آخرها، ونَحوه فِي السنن من حديث عبد الله بن مغفل.
ثم قال: فهذه مآخذ الأئمة -رحِمَهم الله- فِي هذه الْمَسألة، وهي قريبة؛ لأنهم أجْمَعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر. اهـ.(1/333)
قلت: ليس الْخِلاف فِي صحة الصلاة وعدم صحتها، وإنما الْخِلاف فِي هل الْجَهر سنة أم بدعة؟
وقد استبان لك ثبوت أحاديث الإسرار بِهَا فِي الصحيحين وغيرهما، وعدم ثبوت أي حديث فِي الْجَهر بها فِي الصلاة، وحَكَمَ جَماعة من السلف منهم الْخُلفاء الأربعة: أنها ليست من السنة، وصرح آخرون أن الْجَهر بها فِي الصلاة بدعة.
وأفتى آخرون بعدم الصلاة خلف من جهر بها لا لأن الصلاة باطلة ولكن لأن الْجَهر بها بدعة، ومن البدع ما يكون صاحبها آثمًا ولنفسه ظالِمًا، لكن لا تبطل بها الصلاة كالْجَهر بالبسملة، وكصلاة الذي لا يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره فِي الصلاة، وكصلاة من يُخصص الفجر بقنوت فِي الركعة الأخيرة، وكصلاة من لا يرفع يديه إلا فِي التكبيرة الأولَى، وكصلاة من صلى فِي ثياب حرير، أو من صلى فِي أرض مغتصبة؛ فإن مثل هؤلاء صلاتهم صحيحة، وهم يعتبرون آثمين، وهذا قول جُمهور العلماء فِي نَحو هذا.
فهل يقول الذين يَجهرون بالبسملة فِي الصلاة: إننا نعترف أننا مُخالفون للسنة آثمون؟
الْجَواب: لا، فلم يقولوا ذلك، بل وصل الْجَهل الْمُطبق ببعضهم أنه يعتقد بطلان صلاة من لَم يَجهر بها، فإذا صلى خلف إمام لا يَجهر بها قام بعد نهاية الصلاة يعيد الصلاة، ووصل الْجَهل ببعضهم أنه يترك الصلاة فِي جَماعة خلف من يُسر بها، ووصل الْجَهل ببعضهم أنه يُخاصم ويشاتِم من لَم يَجهر بها... إلخ تلك العجائب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا مُختصر ما حول هذه الْمَسألة من الأدلة والأقوال، تَحرينا ذكر الراجح فيها والصحيح، وأعرضنا عما سوى ذلك من كل قول طريح.
أسأل الله العظيم، أن يَجعل ذلك لِمَن أراد الْحَق تبصرة وذكرى، وحجة على من أعرض عنه ونأى.
148- الْجَهر بالنية فِي صلاة الْجُمعة وغيرها من الصلوات:(1/334)
أخرج البخاري رقم (1)، ومسلم رقم (1907) من حديث عمر بن الْخَطاب - رضي الله عنه - أن النبِي ص قال: $إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى#.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحِمه الله-: والنية مَحلها القلب باتفاق العلماء؛ فإن نوى بقلبه ولَم يتكلم بلسانه أجزأته النية باتفاقهم، وقد خرج بعض أصحاب الشافعي وجهًا من كلام الشافعي غلط فيه على الشافعي؛ فإن الشافعي إنما ذكر الفرق بين الصلاة والإحرام: بأن الصلاة فِي أولِها كلام، فظن بعض الغالطين أنه أراد التكلم بالنية، وإنما أراد التكبير والنية تتبع العلم، فمن علم ما يريد فعله فلابد أن ينويه ضرورة، كمن قُدِّم بين يديه طعامًا ليأكله فإذا علم أنه يريد الأكل فلابد أن ينويه، وكذلك الركوب وغيره.
بل لو كُلِّفَ العباد أن يعملوا عملاً بغير نية كلفوا ما لا يطيقون، فإن كل أحد إذا أراد أن يعمل عملاً مشروعًا أو غير مشروع؛ فعلمه سابق إلَى قلبه وذلك هو النية.
ثم قال: وقد تنازع الناس هل يستحب التلفظ بالنية؟
فقالت طائفة: يستحب، وقالت طائفة: لا يستحب ذلك، بل التلفظ بها بدعة؛ فإن النبِي ص وأصحابه والتابعين لَم يُنقل عن واحدٍ منهم أنه تكلم بلفظ النية لا فِي صلاة، ولا طهارة، ولا صيام، قالوا: لأنها تَحصل مع العلم ضرورة، فالتكلم بها نوع هوس، وعبث، وهذيان، والنية تكون فِي قلب الإنسان، ويعتقد أنها ليست فِي قلبه فيريد تَحصيلها بلسانه، وتَحصيل الْحَاصل مُحال، فلذلك يقع كثير من الناس فِي أنواع الوساوس، واتفق العلماء على أنه لا يسوغ الْجَهر بالنية لا لإمام، ولا لِمأموم، ولا لِمنفرد، ولا يستحب تكريرها. اهـ الْمُراد من مَجموع الفتاوى (ج18 ص262-263).(1/335)
وقال الإمام ابن القيم -رحِمه الله-: وكان إذا قام إلَى الصلاة قال: الله أكبر، ولَم يقل شيئًا قبلها، ولا تلفظ بالنية ألبتة، ولا قال: أصلي صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إمامًا، أو مأمومًا، ولا قال: أداءً، ولا قضاءً، ولا فرض الوقت، وهذه عشر بدع لَمْ ينقل عنه قط بإسناد صحيح، ولا ضعيف، ولا مسند، ولا مرسل لفظة واحدة منها ألبتة، بل ولا عن أحد من الصحابة، ولا استحسنه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة. اهـ الْمُراد من $زاد الْمَعاد#.(ج1 ص201).
قال صاحب الْمُهذب من الشافعية قال: ومن أصحابنا من قال: ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان، وليس بشيء؛ لأن النية هي القصد بالقلب. اهـ.
وقال فِي $كشاف القناع عن متن الإقناع#. للبهوتي (ج1 ص87): لَمْ يُنقل عن النبِي ص ولا عن أصحابه فِي ذلك شيء، وعلى ذلك درج الْمُتقدمون من الْحَنابلة، وقالوا بأن التلفظ بالنية بدعة. اهـ.
وقال صاحب $مقاصد الْمُكلفين#.(ص123): الْجَاهر بالنية مبتدع مُخالف للشريعة، وإذا فعل ذلك فهو جاهل ضال، يستحق التعزير وإلا فالعقوبة على ذلك إذا أصر عليه بعد البيان له، لاسيما إذا آذى من إلَى جنبه برفع صوته أو كرر ذلك مرة بعد مرة.
وقال مُحمد بن القاسم الْمَالكي: النية من أعمال القلوب؛ فالْجَهر بها بدعة مع ما فِي ذلك من التشويش على الناس.
وقال الشيخ علاء الدين العطار: رفع الصوت بالنية مع التشويش على الْمُصلين حرام إجْمَاعًا، ومع عدمه بدعة قبيحة. اهـ.
وقال ابن الْحَاج فِي $الْمَدخل#.(ج2 ص275): فالْجَهر بها بدعة على كل حال؛ إذ إنه لَمْ يرو أن النبِي ص، ولا الْخُلفاء، ولا الصحابة -رضوان الله عليهم أجْمَعين- جهروا بها، فلم يبق إلا أن يكون الْجَهر بها بدعة. اهـ.
وقد كثرت الأقوال فِي القول ببدعية الْجَهر بها فِي العبادات، وهذا القدر فيه كفاية، والْحَمد لله.
149- الدعاء بعد الصلاة جَماعيًّا:(1/336)
الذكر بعد الصلاة جَماعيًّا بِحيث إن واحدًا يقول: سبحوا؛ فيسبحون، أو هو يسبح وهم يتبعونه، هذا الصنيع قد أنكره ابن مسعود - رضي الله عنه - كما فِي كتاب: $البدع والنهي عنها#. لابن وضاح (ص11)، ومقدمة سنن الدرامي، والقصة ثابتة كما بينا ذلك في تَحقيقنا على مقدمة سنن الدارمي.
وقال ابن القيم -رحِمه الله-: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو الْمَأمومين؛ فلم يكن ذلك من هديه ص أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح، وأما تَخصيص ذلك بالصبح والعصر فلم يفعل ذلك هو ولا أحد من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضًا عن السنة(1) بعدهما. اهـ باختصار من $زاد الْمَعاد#.(ج1 ص257).
وانظر: $البدع والْحَوادث#. للطرطوشي -رحِمه الله- (ص152).
150- تَحري قراءة الْحِزب بعد الْجُمعة فِي جَماعة:
انظر: كتاب $الْحَوادث والبدع#. للطرطوشي (ص 152).
151- تَحري قراءة سورة الكهف بعد العصر فِي الْمَسجد يوم الْجُمعة:
الْمَصدر السابق.
152- قراءة الأسماء الْحَسنى بعد صلاة الْجُمعة:
انظر: $البدع والْمُحدثات#. جَمع حَمود الْمَطر (ص514).
153- تغميض العينين فِي الصلاة:
بدعة؛ فقد ثبت أن النَّبِي ص مرت من أمامه شاة فساعاها إِلَى القبلة.
وثبت أنه قال: $اذهبوا بِخميصتِي هذه، وأتوني بأَنَبِجَانِيَّة أبِي جهم؛ فإنها ألْهَتنِي آنفًا عن صلاتي#.
وثبت أن النَّبِي ص صلّى فجاء الشيطان ليقطع عليه صلاته فخنقه، قال: $حَتَّى وجدت برد لسانه على يدي#.
وثبت أنه قال: $عُرضت علي الْجَنة والنار فِي صلاتي، فلم أر كالْخَير والشر مثل اليوم#.
وكل هذا يدل أن النبِي ص كان يصلي وهو مفتح عينيه، ولو كان مغمضًا لَهما لَمَا رأى شيئًا من ذلك.
__________
(1) يعني بالسنة: أي عمل السنة من ذكر ونَحوه، وليس بعد صلاة الفجر سنة، وكذا العصر إلا من فاتته سنة الظهر فله أن يقضيها بعد العصر؛ وقد ثبت فِي ذلك حديث عائشة ل فِي الصحيح.(1/337)
بل قالوا: إنه تشبه باليهود، كما في مصنف عبد الرزاق (2/271) رقم (3329)، قال -رحمه الله- عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: يكره أن يغمض الرجل عينيه في الصلاة كما يغمض اليهود. اهـ.
وسنده هذا ضعيف؛ فيه ليث بن أبي سليم مختلط.
وقال ابن القيم فِي زاد الْمَعاد (ج1 ص294): وقد اختلف فِي كراهته؛ فكرهه الإمام أحْمَد وغيره، وقالوا: هو فعل اليهود، وأباحه جَماعة ولَم يكرهوه. اهـ الْمُراد.
قلت: ليس مع من أباحه حجة والعبرة بالدليل من القرآن والسنة لا بِمجرد أقوال الرجال.
154- تَحري الْمُصافحة بعد صلاة الْجُمعة وغيرها:
بدعة.
انتهى ما يسر الله جمعه في هذا الكتاب، نسأل الله أن يَجعله خالصًا لوجهه وينفع به.
فِي 29 جُمادى الآخرة 1421هـ.
والْحَمد لله رب العالَمين.(1/338)