بسم الله الرحمن الرحيم
جامعة الأزهر الشريف
كلية الشريعة والقانون بدمنهور
الدراسات العليا
قسم الفقه المقارن
رسالة لنيل درجة التخصص (الماجستير )
بعنوان
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة
في الحدود
(دراسة مقارنة)
إعداد الباحث
حسن عبد الله عبد المقصود أبو زهو
إشراف
الأستاذ الدكتور الأستاذ الدكتور محمد حسين قنديل بلال حامد إبراهيم
أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن أستاذ الفقه المقارن المساعد
بالكلية بالكلية
1427 هـ ـ 2006 م(/)
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه و نستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه ..
وبعد
فقد اكتسبت شريعة الإسلام بنصوصها العامة ،وقواعدها الكلية خصائص النماء والازدهار، التي تفي بحاجات الإنسانية في كل زمان ومكان , تفصل بين الخصومات بما تطيب به النفس، ويطمئن إليه القلب، فهي الملجأ والملاذ في كل الأحوال.
تلك الحقيقة آمن بها السلف،فاتخذوا شريعة الإسلام نبراساً يسيرون في ضوئه،يحتكمون إليها في كل ما يعرض لهم من نزاع وخصومة , جاعلين شعارهم { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (1)
وظلت الحياة محكومة بهذه الشريعة أحقاباً من الزمن،لا يعدلون عنها إلى غيرها , ولا يرضون بها بديلاً، إلى أن مضت تلك الأيام الخوالي , وجاء عصر بعُد فيه المسلمون عن تحكيم دينهم، وتتبعوا سنَنَ أعدائهم فبهرتهم الحضارة الغربية،واستحوذت على قلوبهم،فاستبدلوا أحكام شريعتهم بقوانين وضعية خاصة في تطبيق حدود الله ،التي لو نفذت لكانت زجراً للمجرم وإن اعتاد الإجرام,وكفاً للعادي وإن تأصل في نفسه العدوان,وواقع السلف يثبت ذلك ويؤيده,وأصول التشريع تنادي به وتدعمه والله - سبحانه وتعالى - يفرضه ويوجبه.
من هنا بحث الفقهاء الأقدمون تلك الحدود، وتنوعت أقوالهم حسب فهمهم لنصوص الشريعة الإسلامية؛فمنهم من غاص وراء النص ليستنبط منه أحكاما ً ـ حتى ولو لم يدل عليها المنطوق ـ كالفقهاء الأربعة ،ومنهم من أبقى النص على ظاهره، واستخرج منه الأحكام ؛ كالظاهرية , فاختلفت الوجهات وتنوعت المشارب.
__________
(1) النساء آية 65.(1/1)
فأحببت أن أقف بين الفريقين من خلال أقوالهم وآرائهم فاخترت هذا الموضوع.
وكان مما دعاني لاختياره ما يلي: ـ
1 ـ محاولة التقريب بين المذاهب الفقهية ـ خاصة الظاهرية والمذاهب الأربعة ـ وذلك لتخفيف العصبية المذهبية التي ما نادى بها الإسلام في عقيدته و لا في أخلاقه وشريعته.
2 ـ ترسب لدى البعض أن مذهب الظاهرية مذهب شاذ في آرائه , فأردت أن أوضح منهجهم ، وأرفع التهمة عنهم بالحق وبالدليل من أقوالهم.
3 ـ بيان سعة أفاق الفقه الإسلامي،ورحابة صدره لشتى الاجتهادات والآراء، وصلاحيته للتطبيق في كل زمان ومكان , وإن اختلفت الثقافات، وتنوعت المشارب ،ففي المذاهب الفقهية ما يغني عن التماس الخلاص في قوانين وضعية ومذاهب غربية.
4 ـ البون الشاسع ،والاختلاف الشديد في بعض أحكام الحدود بين المذاهب ـ خاصة الظاهرية والمذاهب الأربعة ـ فأردت توضيح الخلاف وأثره في الواقع التطبيقي.
5 ـ جمع الأحكام المختلف فيها في مكان واحد؛ حتى يسهل الرجوع إليها , ووضعها تحت منظار البحث والتحقيق و الترجيح.
6 ـ مقولة لابن حزم (ـ استوقفتني كثيراً ـ ذكرها في مقدمة كتابه المحلى (1)" وليعلم من قرأ كتابنا هذا أننا لم نحتج إلا بخبر صحيح من رواية الثقات مسند , ولا خالفنا إلا خبراً ضعيفاً فبينا ضعفه , أو منسوخاً فأوضحنا نسخه." فأردت تحقيق هذا القول،بعقد هذه الموازنة فيما خالف فيه المذاهب الأربعة ، فكل يأخذ من قوله ويرد إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -.
منهج البحث:
__________
(1) المحلى:1/21.(1/2)
حرصت ـ بعون الله - سبحانه وتعالى - وتوفيقه قدر استطاعتي ـ أن يكون منهجي في البحث علمياً موضوعياً، أعتمد فيه على النصوص الشرعية، أسير على هداها دون تعصب لرأي،أو تقليد بعيد عن الحق، وذلك بالقيام بعرض المسائل الفقهية المتعلقة بموضوع البحث،معتمداً في ذلك على ذكر آراء الفقهاء من المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية، متوخياً الدقة في الفهم والاستنباط،والأمانة في النقل والتصرف، مع الحرص أن تكون الأقوال من الكتب المعتمدة في المذهب ، واستعنت في استخراج قول الظاهرية بكتب ابن حزم (خاصة المحلى بالآثار مع النظر في الكتب الفقهية الأخرى التي تعنى بذكر أقوالهم ،كالمغني لابن قدامة ، والحاوي الكبير للماوردي ،وبداية المجتهد لابن رشد ، وفتح الباري لابن حجر ، ونيل الأوطار للشوكاني ، وغيرها .
ثم تناولت أقوال العلماء في كل مسألة خلافية ،مع ذكر سبب الخلاف إن وُجِد، أو أمكن استنباطه، وبعد ذلك أذكر أدلة كل قول مع بيان وجه الدلالة، بدءاً بأدلة القرآن الكريم، وقد اعتمدت في ذكر وجوه الدلالة فيها على كتب التفسير ـ ما أمكن ذلك ـ، ثم إلى السنة المطهرة ، واعتمدت في ذكر وجوه الدلالة منها على كتب شروح الحديث،مع الاعتناء بالعزو والتخريج ـ ما أمكن ـ فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بذلك ما لم يأت الحديث في مكان آخر يفيد حكماً جديدا فأذكره .
ثم بعد ذلك الإجماع، ثم القياس، ثم الآثار ثم غيرها من الأدلة.
ثم أتبعت ذلك بمناقشة الأدلة، من خلال ما ورد عليها من اعتراضات، وأجوبتها، إن وجدت، ثم أنتقل إلي الترجيح، مبيناً أسبابه ما أمكنني إلى ذلك سبيلا.
هذه هي طريقتي في البحث، فإن وُفّقت للصواب فهذا ما كنت له طالباً من الله العلي الحكيم، وهو محض فضل الله - سبحانه وتعالى - عليّ، وإن أخطأت فإني أسأل الله العظيم أن يغفر تقصيري.
خطة البحث:(1/3)
وقد اقتضت خطة هذا البحث أن يكون في سبعة فصول صدرت بمقدمة، وفصل تمهيدي وأتبعت بخاتمة على التفصيل التالي:
أما المقدمة فقد اشتملت على أسباب اختيار الموضوع،ومنهج البحث وخطته.
أما الفصل التمهيدي: فيشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: المذهب الظاهري وفيه مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالمذهب الظاهري.
المطلب الثاني: نبذة موجزة عن مؤسس المذهب داود الظاهري.
المطلب الثالث: نبذة موجزة عن ناشر المذهب ابن حزم الأندلسي.
المبحث الثاني: مدخل للحدود وفيه مطالب:
المطلب الأول: تعريف الحد لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: حكمة مشروعية الحدود.
الفصل الأول
حد الزنا
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث:
أما التمهيد ففي تعريف الزنا،وحكمة تحريمه و تشريع حده.
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية المذاهب الأربعة في حد الزنا.
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية المذاهب الأربعة في حد الزنا.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: درء الحدود بالشبهات.
المسألة الثانية : تكرر فعل الزنا
المسألة الثالثة: إقامة الحدود في المساجد
المسألة الرابعة: الوطء في نكاح مختلف فيه
المسألة:الخامسة: حد الحر والحرة المحصنين
المسألة السادسة : حد المملوك (العبد و الأمة).
المسألة السابعة:جلد المريض في الحدود.
المسألة الثامنة:صفة الضرب في الحدود وبأي شيء يكون
المسألة التاسعة: الرجوع عن الإقرار بما يوجب الحد.
المسألة العاشرة: إقرار العبد بما يوجب الحد.
المسألة الحادية عشرة: شهادة النساء لإثبات الزنا.
المسألة الثانية عشر ة: شهادة أقل من أربعة في الزنا.
المسألة الثالثة عشرة: شهادة أربعة بالزنا على امرأة أحدهم زوجها.
المبحث الثالث: الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض المذاهب الأربعة وخالفوا البعض الآخر.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أثر التوبة في حد الزنا.
المسألة الثانية:الوطء في الدبر.
المسألة الثالثة: وطء المحارم.(1/4)
المسألة الرابعة: الوطء في النكاح الباطل.
المسألة الخامسة: الوطء بالإكراه.
المسألة السادسة: وطء البهيمة
المسألة السابعة: الاستئجار على الزنا.
المسألة الثامنة: حد الحر والحرة غير المحصنين.
المسألة التاسعة: بكم مرة من الإقرار يثبت حد الزنا.
المسألة العاشرة:شهد أربعة بالزنا على امرأة، وشهد أربع نسوة أنها عذراء.
المسألة الحادية عشرة:أي الأعضاء تضرب في الحدود.
المسألة الثانية عشرة:كيفية الضرب في الحدود.
المسألة الثالثة عشر:كم الطائفة التي تحضر جلد الزاني أو رجمه.
الفصل الثاني
حد القذف
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
أما التمهيد ففي تعريف القذف.
المبحث الأول: الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة.
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: النفي عن النسب.
المسألة الثانية:قذف الكافر للمسلم والعكس .
المسألة الثالثة: قذف الصغير والمجنون والمكره.
المسألة الرابعة: قذف العبيد والإماء.
المسألة الخامسة:قذف الأب ابنه أو أم أبيه.
المسألة السادسة: القذف باستخدام الترخيم.
المسألة السابعة: صفة حد القذف.
المسألة الثامنة: العفة عن الزنا.
المبحث الثالث:أحكام وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة وخالفوا البعض الآخر في حد القذف.
المسألة الأولى: التعريض بالقذف.
المسألة الثانية: القذف باللواط.
المسألة الثالثة: قذف جماعة بكلمة واحدة.
المسألة الرابعة: قذف جماعة كل شخص على حدة.
المسألة الخامسة: عفو المقذوف عن القاذف.
المسألة السادسة:توبة المحدود في القذف.
الفصل الثالث
حد السرقة
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث:
أما التمهيد ففي تعريف السرقة وحكمها والحكمة من تشريعها.
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة.
المبحث الثاني: الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اشتراط الحرز.(1/5)
المسألة الثانية:مقدار ما يجب فيه القطع (النصاب).
المسألة الثالثة: سرقة الأصول من الفروع.
المسألة الرابعة: سرقة أحد الزوجين من الآخر.
المسألة الخامسة: سرقة الصبي.
المسألة السادسة: النباش.
المسألة السابعة: السرقة من بيت المال أو من الغنيمة.
المسألة الثامنة: سرقة المصاحف.
المسألة التاسعة: سرقة الطير والصيد.
المسألة العاشرة: السرقة من الحمام.
المسألة الحادية عشرة: سرقة ما يتسارع إليه الفساد.
المسألة الثانية عشرة: جحد العارية.
المسألة الثالثة عشر: العود في السرقة.
المبحث الثالث: الأحكام التي وافق الظاهرية فيها البعض وخالفوا البعض الآخر في السرقة.
المسألة الأولى: سرقة الصليب والصنم.
المسألة الثانية: سرقة الخمر والخنزير.
المسألة الثالثة:ضمان العين المسروقة.
الفصل الرابع
حد الحرابة
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث:
أما التمهيد: ففي تعريف الحرابة،الأصل فيها، الفرق بين الحرابة والبغي.
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في الحرابة.
المبحث الثاني: الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:التزام أحكام الإسلام في المحارب.
المسألة الثانية:ضمان الصبي والمجنون في حد الحرابة.
المسألة الثالثة: هل يستوفى حق الآدمي بعد استيفاء حق الله - سبحانه وتعالى -.
المسألة الرابعة:العقوبة في الحرابة هل هي على الترتيب أو على التخيير.؟
المبحث الثالث: الأحكام التي وافق الظاهرية فيها البعض وخالفوا البعض الآخر في الحرابة.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الحكم إن كان في قطَّاع الطريق صبي أو مجنون أو ذي رحم.
المسألة الثانية: قطع الطريق في المصر.
المسألة الثالثة: اشتراط القوة والمنعة.
المسألة الرابعة:اشتراط السلاح.
المسألة الخامسة:اشتراط الذكورة.
المسألة السادسة: انعدام المكافأة بين المحارب وغيره.
الفصل الخامس
حد الخمر
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث:(1/6)
أما التمهيد ففي تعريف الخمر،وأدلة تحريمه، وحكمة مشروعيته.
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في الخمر.
المبحث الثاني: الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الخمر.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:تكرر شرب الخمر.
المسألة الثانية: الخليطان.
المسألة الثالثة: الحد الذي يحرم به الشرب.
المسألة الرابعة:إقامة الحد على السكران.
المسألة الخامسة:هل يحد الذميّ في شربه الخمر؟.
المبحث الثالث:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية بعض الأئمة، وخالفوا البعض في حد الخمر.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: حد شارب الخمر.
المسألة الثانية: ما يتناوله اسم الخمر من الأشربة.
المسألة الثالثة:الانتباذ في الأوعية.
الفصل السادس
حد البغي
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث:
أما التمهيد ففي تعريف البغي،وأدلته، وشروط تحقق جريمة البغي،ووسائل دفع أهل البغي،والفرق بين البغاة والخوارج.
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد البغي.
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد البغي.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:ما أصابه الباغي من دم أو مال.
المسألة الثانية: حكم قتل العادل لذي رحمه الباغي
المسألة الثالثة: قضاء قاضي أهل البغي.
المبحث الثالث:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة وخالفوا البعض الآخرفي البغي.
المسألة الأولى: حكم الأسير والجريح والمدبر من أهل البغي.
المسألة الثانية: حكم قتيل أهل البغي.
المسألة الثالثة: حكم استعانة أهل العدل بأهل الذمة على أهل البغي.
المسألة الرابعة: حكم الخروج على الإمام الجائر.
الفصل السابع
حد الردة
وفيه تمهيد و ثلاثة مباحث:
أما التمهيد ففي تعريف الردة، وأدلة تحريمها،حكمة تشريع حد الردة،حكم المرتد.
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الردة.(1/7)
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الردة.
وفيه مسائل:
المسألة الأولي: استتابة المرتد ومدتها.
المسألة الثانية: ميراث المرتد
المسألة الثالثة: وصية المرتد.
المبحث الثالث:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة وخالفوا البعض الآخر في الردة.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:ردة الصبي
المسألة الثانية: ردة السكران.
المسألة الثالثة: حكم من ارتد من كفر إلى كفر.
المسألة الرابعة:عقوبة المرتد.
الخاتمة وفيها أهم نتائج البحث.
* قائمة المصادر والمراجع.
* قائمة الفهارس.
وأخيراً أضع هذا الجهد المتواضع بين يدي أساتذتي الأفاضل ليصوّبوا أخطاءه، ويقوّموا اعوجاجه، وقد بذلت فيه قدر طاقتي وجهدي، فإن كان صواباً فمن الله - سبحانه وتعالى -، وإن كانت الأخرىـ وأسأل الله السلامة منها ـ فحسبي أني بشر غير معصوم، والكمال لله وحده،وأسأل الله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، وأن يتقبل منا ويهدينا إلى سواء السبيل إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
الباحث
حسن عبد الله عبد المقصود أبو زهو(1/8)
المبحث الأول
في المذهب الظاهري
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التعريف بالمذهب الظاهري ومؤسسيه.
الظاهرية مدرسة في الفقه الإسلامي، نشأت في بغداد في منتصف القرن الثالث الهجري على يد داود الظاهري(1)،وقدجعلت محور تفكيرها الوقوف على ظاهر النص، فلا رأي عندهم في حكم من أحكام الشرع .
وقوام هذا المذهب اعتبار أن المصدر الفقهي هو ظاهر النص من الكتاب والسنة، فنفوا الرأي بكل أنواعه، فلم يأخذوا بالقياس(2)،ولا بالاستحسان(3)،ولا بالمصالح المرسلة(4)، ولا بأي وجه آخر من وجوه الرأي، بل يأخذون بالنصوص وحدها، وإذا لم يكن نص أخذوا بحكم الاستصحاب؛ وهو الإباحة الأصلية،الثابتة بقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } (5)وقد أداهم ترك الرأي والتمسك بظواهر النصوص إلى أن يقولوا أحكاما في منتهى الشذوذ.
__________
(1) سيأتي ذكر نبذة عنه بعد قليل.
(2) القياس لغة:من قاس الشيء إذا قدره، لسان العرب: لمحمد بن مكرم بن منظور، 6/185طبعة دار صادر، الطبعة الأولى، القاموس المحيط: محمد بن يعقوب الفيروز آبادي ت 817 هـ، 1/778،طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى.
اصطلاحاً:حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو وصفه، إرشاد الفحول: محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت1250 هـ،1/337 ،طبعة دار الفكر، الطبعة الأولى 1993.
(3) الاستحسان:العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه، الإحكام في أصول الأحكام لعلي بن محمد الآمدي:4/163، تحقيق سيد الجميلي، طبعة دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1404 هـ.
(4) المصالح المرسلة: هي كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين ، وكان ملائماً لتصرفات الشرع ، ومأخوذاً من أدلته الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي،ت790هـ . ط دار المعرفة،الطبعة الأولى 1994,ج 1/37
(5) البقرة من الآية: 29.(2/1)
وقد قام بإنشاء هذا المذهب وبيان أحكامه وتوضيح أدلته عالمان جليلان:
أحدهما: داود الأصفهاني (ويعد منشئ المذهب؛ لأنه أول من تكلم به.
وثانيهما: ابن حزم الأندلسي (فقد كان له فضل بيان المذهب وتوضيحه، وبمشيئة الله تعالى نتكلم عن حياة هذين العالمين الجليلين في إيجاز.
المطلب الثاني: داود الظاهري.
* اسمه ونسبه ومولده (1)
هو داود بن علي بن خلف الأصفهاني، الكوفي الأصل، ولد سنة 202 هـ، يكنى بأبي سليمان، واشتهر بداود الظاهري؛ لأنه أول من أظهر القول بظاهر النصوص من الكتاب والسنة،وألغى ما سوى ذلك من الرأي والقياس.
* نشأته:
__________
(1) سير أعلام النبلاء: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ: ج13/97 وما بعدها،، ط مؤسسة الرسالة،الطبعة التاسعة ، طبقات الشافعية: لأبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبه: 1/303، ط/ عالم الكتب، الطبعة الأولى 1407 هـ، طبقات الفقهاء:لإبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ت 476 هـ،1/102،ط/دار القلم ، الفهرست لمحمد بن إسحاق أبو الفرج بن النديم ت 385هـ،1/301، ط/ دار المعرفة،1398 ،1978.(2/2)
لم تذكر المصادر الفقهية التي ترجمت للإمام داود الظاهري شيئا عن حياته إلا أنه ولد بالكوفة في أوائل القرن الثالث الهجري، حيث كان هذا القرن الذي ولد فيه الإمام داود (من أزهى عصور الإسلام، وكان العراق الذي عاش على أرضه من أبرز مراكز الثقافة في العالم الإسلامي، وأوسعها، وأكثرها علماء؛ لأنها مقر الخلافة الإسلامية، وقد تزعمت المدن الثلاثة في العراق - بغداد والبصرة والكوفة - قيادة النشاط الأدبي، وهي بعينها المدن التي رحل إليها الإمام داود الظاهري، وكانت الدراسات الفقهية مزدهرة بالعراق في تلك الفترة، والمذاهب الأربعة ممثلة هناك، وقد بلغت نهضة علم الحديث ذروتها في ذلك العصر (1)
*صفاته:
كان الإمام داود الظاهري ( إماما ورعا، ناسكا، زاهدا، قوي الحجة، سريع الاستدلال، حافظا للحديث، مدركا لمعناه ومدلوله، جريئا في الحق، لا يخاف النطق به، ولا يخشى فيه لومة لائم.
وكان مع جرأته عف اللسان لا تفرط منه العبارات الجافة القاسية، ولا يشنع على من خالفه، جمًّ التواضع، لا يتعالى على أحد بعلمه ولا بعبادته، ويعرف قدر العلم والعلماء. (2)
* مصنفاته:
__________
(1) الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الجمهور في العبادات والمعاملات، لمحمد منصور - رسالة دكتوراة مقدمة لكلية الشريعة والقانون بطنطا 2004 هـ .ص 12
(2) سير أعلام النبلاء:3/100، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلٍّكان ت 681 هـ :2 /215،تحقيق إحسان عباس، طبعة دار الثقافة، طبقات الحفاظ: لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت 911هـ :1/257، ط دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1403 ، لسان الميزان:2/518، تاريخ المذاهب الإسلامية: لمحمد أبو زهرة: ص532 وما بعدها ، ط دار الفكر العربي.(2/3)
أعطى الله تعالى الإمام داود الظاهري ( عقلًا نيرا، وحافظة قوية، حتى إن كتبه كانت مملوءة حديثا - كما وصفت - آتاه الله قدرة فائقة على التصنيف تنم عن علم جم واطلاع واسع.
ذكر ابن النديم أن له كتباً كثيرة منها، كتاب الإيضاح، كتاب الإفصاح، كتاب الدعوى، كتاب الإجماع، وغيرها. (1)
* وفاته:
توفي الإمام داود الظاهري ( سنة 270هـ ببغداد. (2)
المطلب الثالث:ابن حزم الأندلسي.
اسمه ونسبه وكنيته: (3)
هو الإمام الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد، مولى يزيد بن أبي سفيان، أصل جده من فارس، قطن جده قرطبة ،وهو أول من دخل الأندلس.
* مولده ونشأته:
__________
(1) الفهرست: 1/303.
(2) سير أعلام النبلاء: 13/180، البداية والنهاية: 11/51، طبقات الشافعية للقاضي شهبة: 2/78.
(3) سير أعلام النبلاء:18/184،البداية والنهاية: اسماعيل بن عمر بن كثير ت 774 هـ:12/91، ط مكتبة المعارف، مرآة الجنان: عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي ت 768هـ:3/79، ط دار الكتاب الإسلامي، الوافي بالوفيات:صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي:20/93، تحقيق أحمد الارناؤط، ط دار إحياء التراث.، نفح الطيب: أحمد بن محمد المقري:2/77، تحقيق إحسان عباس، ط دار صادر بيروت.(2/4)
ولد بقرطبة قبل طلوع شمس يوم الأربعاء في آخر يوم من رمضان سنة 384 هـ، وكانت نشأته في بيت عز ومال وجاه عريض،فنشأ ربيب النعمة، حيث كان والده أحمد بن سعيد من كبار الوزراء، ولي الوزارة للحاجب المنصور بن أبي عامر، ثم لابنه المظفر من بعده، فلم يكن ابن حزم في طلبه للعلم باحثاً عن المال، وإنما كان طلبه وليد رغبة نزيهة في المعرفة. (1) يقول فيه الذهبي (:" نشأ في تنعم ورفاهية ورزق ذكاء مفرطا، وذهناً سيالا ً،وكتبا ًنفيسة كثيرة وكان والده من كبراء أهل قرطبة عمل الوزارة في الدولة العامرية،وكذلك وزر أبو محمد في شبيبته وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر وفي المنطق وأجزاء الفلسفة فأثرت فيه تأثيرا ليته سلم من ذلك". (2)
* طلبه للعلم:
__________
(1) البداية والنهاية :إسماعيل بن عمر بن كثير ت 774 هـ:12/93 ، ط مكتبة المعارف ، مرآة الجنان:3/79، طبقات الحفاظ:1/435، ، تاريخ المذاهب الإسلامية: لمحمد أبو زهرة:ص 539، ط دار الفكر العربي، ابن حزم حياته وعصره: لمحمد أبو زهرة:ص 22،ط دار الفكر العربي.
(2) سير أعلام النبلاء:18/186.(2/5)
تعلم ابن حزم (في حياته الأولى ما يتعلمه أبناء أكابر الدولة، من حفظ الأشعار،والخط والكتابة، وحفظ القرآن، وكان تعلمه الأول على أيدي الجواري، وكان أبوه القائم على تربيته معنياً به العناية كلها، فكان لا يني عن مراقبته وملاحظته، فأورثه ذلك عفة ـ مع ملازمته للنساء ـ فكانت حياته مملؤة بالرقباء و الرقائب؛وهن النساء اللائي كن يراقبنه، وما أشد مراقبة النساء عندما يكون الفرد متعرضاً للفتنة بهن، فإنهن يرقبنه في كل شيء، حتى في خلجات الأعين ولمحات الوجه،(1)وقد منعته تلك الرقابة المحكمة المفروضة عليه من السير في دروب الهوى، وطرق الضلال،إلى أن يسر الله له الشيخ أبو الحسين الفاسي، وهو رجل مستقيم النفس والخلق، جعله يشغل فراغه بمجالس العلماء، أعجب به ابن حزم كثيراً، فكان قدوة صالحة أثرت فيه (، ثم بعد ذلك تلقى الحديث على يد شيخه أحمد بن الجسور (وروى عنه الحديث. (2)
وكان أول اتجاهه إلى الفقه المالكي، حيث كان المذهب الرسمي للدولة، ثم انتقل من المذهب المالكي إلى المذهب الشافعي، ولكنه لم يلبث إلا قليلاً في المذهب الشافعي حتى اعتزله وقال: "أنا اتبع الحق واجتهد و لا أتقيد بمذهب." (3)
إلا أن الذهبي وغيره(4) ذكروا بأنه كان أولاً شافعياً ثم تحول ظاهرياً، يقول الذهبي:" قيل إنه تفقه أولا للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال، وصنف في ذلك كتبا كثيرة." (5)
__________
(1) محمد أبو زهرة : ابن حزم حياته وعصره: ص24 وما بعدها باختصار وتصرف يسير.
(2) ابن حزم حياته وعصره: 24.
(3) المرجع السابق:31 ،32 باختصار.
(4) طبقات الحفاظ:1/435، سير أعلام النبلاء:8/186، المعجب: لعبد الواحد المراكشي، تحقيق محمد سعيد العريان،1/46، طبعة مطبعة الاستقامة، الطبعة الأولى 1368 هـ.
(5) سير أعلام النبلاء:18/186.(2/6)
والراجح أنه كان مالكياً ثم تحول شافعياً ثم ظاهرياً ـ كما ذكر ذلك الشيخ أبو زهرة، وذلك لما يلي:
أن المذهب المالكي هو مذهب الدولة حينئذِ كما قال الشيخ أبو زهرة، أيضاً قول ابن حجر ( في لسان الميزان:.. ثم أقبل على العلم فقرأ الموطأ وغيره ثم تحول شافعيا فمضى على ذلك وقت ثم انتقل إلى مذهب الظاهر وتعصب له وصنف فيه ورد على مخالفيه." (1)
* ما الذي دعا ابن حزم إلى اختيار المذهب الظاهري وجهوده فيه.؟
لم يكن ابن حزم ( في بداية طلبه ظاهري المذهب ـ كما سبق ـ وإنما كان مالكياً ثم شافعياً، فما الذي جعله ينتقل إلى المذهب الظاهري.؟
وللإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من معرفة شيء عن شخصية هذا العالم الجليل، فالإمام ابن حز م ( من رزقه الله فقهاً وديناً وعلماً، ولولا ما ركن إليه وحكم به من إنكار القياس، لما اختلف فيه اثنان، لكن لله الأمر من قبل ومن بعد، فطبيعة شخصيته استقلالية؛فلم يكن من النوع الذي يقلد غيره بل كان مبغضاً للتقليد ثائراً على أهله، اختار لنفسه مسلك الاجتهاد ليفرغ ما بين جوانحه من الآراء والأفكار التي هي نتاج طول تفكر وإمعان نظر، كل هذا لم يجعل ابن حزم ( يختار المذهب الظاهري عن تقليد؛وإنما اختاره لأنه رأى فيه العودة إلى ما كانت عليه حال الشريعة قبل حدوث التقليد وإتباع غير النص الشرعي.
فاختياره للمذهب الظاهري إنما هو دعوة للناس للأخذ بالنصوص، وثورة على انسياقهم وراء آراء الفقهاء، فكل حكم لا يستند إلى النص الشرعي بوجه يقيني يعد مما لم يأذن به الله.
فالأخذ بالنصوص هو الأصل المعتمد عند ابن حزم (؛ بنى عليه آراءه ووزن به آراء غيره، فما وافق من الأقوال أصله هذا قبله، وما خالفه منها نبذه بل وذم قائله! حتى ولو كان هذا رأي للظاهرية أو غيرهم بلا تفريق.
__________
(1) لسان الميزان: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني:4/198،الناشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت،الطبعة الثالثة، 1406 - 1986.(2/7)
فابن حزم ( لم يكن مقلداً لمن سبقه من الظاهرية؛بل موافقاً لهم في رأيهم إن وافق قولهم المنهج الذي وضعه لنفسه، فهو بهذا متفق معهم، لا مقلداً لهم، وبناءً على هذا يمكن القول بان لابن حزم( مذهبه الخاص ولكن في إطار ظاهري، حيث جدد المذهب الظاهري برد ما يراه فاسداً فيه.
صفاته ونبوغه.
الإمام ابن حزم ( رجل في أمة، وأمة في رجل، فهو مفسر مع المفسرين، ومحدث مع المحدثين، وحافظ مع الحفاظ، وفقيه مع الفقهاء، ومقرئ مع المقرئين، وأصولي مع الأصوليين، ومتكلم مع المتكلمين، وفيلسوف مع الفلاسفة، وحكيم مع الحكماء، وزاهد مع الزهاد، وعابد مع العباد، وداع إلى الله مع الدعاة، وأديب مع الأدباء، ولغوي مع اللغويين، وكاتب مع الكتاب، وشاعر مع الشعراء، وخطيب مع الخطباء، ومؤرخ مع المؤرخين، ورئيس مع الرؤساء، ووزير مع الوزراء، وحاكم مع الحكام،(1) آتاه الله من الصفات ما مكنه من فتح باب المعرفة والاستنباط منه.
ـ أولى هذه الصفات حافظة قوية مستوعبة، وقد سهلت له حفظ أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،فارتفع بذلك إلى مرتبة الحفاظ الكبار، وحفظ بجوار أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فتاوى الصحابة والتابعين، وكان معاصروه يعجبون من قوة حافظته وعظيم إحاطته، وكان له مع هذه الحافظة الواعية بديهة حاضرة تجئ إليه المعاني في وقت الحاجة إليها، فتسعفه في الجدال وتنصره في النزال. (2)
__________
(1) معجم فقه ابن حزم: لمحمد المنتصر الكتائي، ص 10، منشورات مكتبة السنة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1414 هـ.
(2) محمد أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية: 549.(2/8)
ومن صفاته كذلك الإخلاص في طلب العلم، والإخلاص كان من أخص صفاته، حيث كان سبباً في الصفة التي كانت واضحة فيه كل الوضوح وهي الصراحة، فهو ينطق بما يعتقد أنه الحق، ولقد أجمع الذين عاصروه على أنه كان شديداً في إعلان رأيه بالقول والقلم..، ومع هذه الشدة في الصراحة كان يحب المسالمة مع الناس فيما لا يضر. (1)
* ثناء العلماء عليه.
اعترف لابن حزم ( بالاجتهاد المطلق ـ في الفقه وعلوم الإسلام ـ طائفة من العلماء.
ـ قال فيه ابن كثير (:"... قرأ القرآن،و اشتغل بالعلوم النافعة الشرعية وبرز فيها، وفاق أهل زمانه وصنف الكتب المشهورة،يقال:إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة،وكان أديبا طبيبا شاعرا فصيحا،له في الطب والمنطق كتب،وكان من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة." (2)
ـ و قال فيه السيوطي (:" كان أولا شافعيا ثم تحول ظاهريا، وكان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم،أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم مع توسعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار. (3)
ـ وقال فيه ابن خلكان (: "كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة." (4)
ـ وقال فيه اليافعي (:"... وكان إليه المنتهى في الذكاء،وحدة الذهن،وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل، والعربية والأدب والمنطق والشعر،مع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب ". (5)
ـ وقال فيه العز بن عبد السلام (:"ما رأيت في كتب الإسلام مثل المحلى لابن حزم والمغني للشيخ الموفق." (6)
__________
(1) المرجع السابق: ص 550 ،551 .
(2) البداية والنهاية:12/91 .
(3) طبقات الحفاظ:1/435.
(4) وفيات الأعيان:3/325.
(5) معجم فقه ابن حزم: لمحمد المنتصر الكتائي، ص 10.
(6) الوافي بالوفيات:20/94.(2/9)
مصنفاته، وإحراق كتبه. (1)
ابن حزم ( عالم موسوعي له مصنفات كثيرة تدل على قدم راسخة في شتى العلوم، كتبه كثيرة، منها المطبوع، ومنها المخطوط،ومنها المفقود، ذكرها العلماء في ثنايا استعراضهم لحياة هذا العلم الجليل، ومن بينها:
ـ كتاب الإيصال إلى فهم كتاب الخصال خمسة عشر ألف ورقة.
ـكتاب الخصال الحافظ لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع، أورد في هذا الكتاب أقوال الصحابة والتابعين،ومن بعدهم من أئمة المسلمين، في مسائل الفقه.
ـ كتاب الإحكام لأصول الأحكام.
ـ كتاب المجلى في الفقه.
ـ كتاب المحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار.
ـ كتاب حجة الوداع.
ـ الإملاء في شرح الموطأ.
ـ كتاب الإملاء في قواعد الفقه.
ـ كتاب الإجماع.
ـ كتاب الفصل في الملل والنحل.
ـ تبديل اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل، وبيان تناقض ما بين أيديهم من ذلك مما لا يحتمله التأويل.
ـ التقريب لحد المنطق.
ـ الصادع الرادع على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين.
ـ كتاب الإمامة والخلافة في سير الخلفاء ومراتبها.
ـ كتاب كشف الالتباس ما بين أصحاب الظواهر وأصحاب القياس.
ـ النبذة في أصول الفقه.
وغيرها من الكتب الكثير والكثير، وهذا غيض من فيض بحر هذا العالم الجليل.
ومع هذا الكم الكبير من المؤلفات؛ إلا أنه لم يوجد له من الكتب إلا القليل، وهذا مما امتحن به هذا العالم، ويرجع ذلك إلى اشتداد العداء بين ابن حزم ( وفقهاء عصره، فانقلبوا عليه وكفروه وضللوه وألَّبوا عليه الأمراء، فأحرقوا كتبه.
__________
(1) سير أعلام النبلاء:18/193 وما بعدها، وفيات الأعيان:3/325، معجم الأدباء:لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي:3/549، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411 هـ ، مرآة الجنان:3/79، طبقات الحفاظ:1/435.(2/10)
يقول الذهبي (: " وقد امتحن لتطويل لسانه في العلماء، وشرد عن وطنه فنزل بقرية له، وجرت له أمور وقام عليه جماعة من المالكية، وجرت بينه وبين أبي الوليد الباجي ( مناظرات ومنافرات، ونفروا منه ملوك الناحية؛فأقصته الدولة وأحرقت مجلدات من كتبه." (1)
افتراءات على ابن حزم ( ودحضها. (2)
لم تخل حياة هذا العالم من المحن، فلم يكتف بإحراق كتبه وتشريده ونفيه، بل نسجت حوله الافتراءات؛ ولكن الله تعالى يسَّر له من يدحض هذه الافتراءات ويردها.
ـ الفرية الأولى:
زعم أنه طلب العلم بعد السادسة والعشرين.
فقد زعم مترجموا ابن حزم ( ومنهم ياقوت الحموي ( في معجم الأدباء، والذهبي ( في السير؛ انه لم يطلب العلم إلا بعد السادسة والعشرين،وأنه تنفل يوماً على ملأ من الناس في مسجد جامع، فلم يحسن التمييز بين وقت الفريضة وبين وقت النافلة، فتصايح الناس من أركان المسجد إجلس إجلس ليس هذا وقت صلاة.
ذكر ياقوت الحموي على لسان ابن حزم قوله:
__________
(1) سير أعلام النبلاء:18/198.
(2) المرجع السابق:18/199، معجم الأدباء:3/549.(2/11)
"... إنني بلغت إلى هذا السن (السادسة والعشرين) وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات...ثم ذكر أن سبب تعلمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والخلق فيه،فجلس ولم يركع فقال له أستاذه: يعني الذي رباه بإشارة أن قم فصل تحية المسجد، فلم يفهم فقال: له بعض المجاورين له أبلغت هذه السن ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة،وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عاما، قال:فقمت وركعت وفهمت إشارة الأستاذ إليّ بذلك،قال:فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحباء من أقرباء الميت، دخلت المسجد فبادرت بالركوع؛ فقيل: لي اجلس ليس هذا وقت صلاة، فانصرفت عن الميت وقد خزيت ولحقني ما هانت علي به نفسي، وقلت: للأستاذ دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون،فدلني فقصدته من ذلك المشهد وأعلمته بما جرى فيه وسألت الابتداء بقراءة العلم واسترشدته فدلني على كتاب الموطأ لمالك بن أنس ( فبدأت به عليه قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام وبدأت بالمناظرة. (1)
وقد دحض هذه الفرية العلامة احمد شاكر (2) ( فقال:
__________
(1) معجم الأدباء:3/549 باختصار.
(2) ينظر مقدمة المحلى تحقيق الشيخ أحمد شاكر : ص13، 14 باختصار، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1997، معجم فقه ابن حزم: ص 55 وما بعدها.(2/12)
"وابن حزم يتولى الدفاع عن نفسه، ويصحح تاريخ طلبه لعلم الحديث والفقه؛ حين يروي في المحلى (1) الحديث والفقه عن شيخه أحمد بن محمد بن الجسور،(2) وحين يروي في المحلى (3) الفقه عن شيخه يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود.
ـ وإذا كان ابن حزم ( كما كتب بخطه للقاضي صاعد، ولد في شهر رمضان سنة 384 هـ، وكان شيخه ابن الجسور قد مات في ذي القعدة سنة 401هـ، وشيخه ابن وجه الجنة (4) قد مات في ذي الحجة سنة 402 هـ، فيكون ابن حزم ( قد شرع في دراسة الحديث والفقه على ابن الجسور وهو ابن سبع عشرة سنة لو لم يبتدئ عليه الدراسة إلا في سنة وفاته، وشرع في دراسة الفقه على ابن وجه الجنة وهو ابن ثمان عشرة سنة،فيما لو لم يبتدئ القراءة عليه إلا في سنة وفاته، كيف؟ وابن حزم ( يصرح بأن ابن الجسور أول شيخ سمع منه قبل سنة 400هـ، والحافظ الذهبي ( يحدد هذه القبلية ـ كما ذكر ذلك ابن المقري ( ـ بقوله:"وأول سماع ابن حزم سنة تسع وتسعين وثلاثمائه(5)فتكون السن التي ابتدأ فيها ابن حزم دراسة الحديث والفقه هي عمر الغلام اليافع، سن الخامسة عشر.
ـ الفرية الثانية:
__________
(1) المحلى:1/28.
(2) وابن الجسور:هو أحمد بن محمد بن أحمد بن سعيد بن الحباب بن الجسور أبو عمر القرطبي، مولى بني أمية،حدث عنه الصاحبان وابن عبد البر وغيره، وكان خيرا فاضلا عالي الإسناد مكثرا شاعرا، توفي في ذي القعدة سنة إحدى وأربع مائة. ( ) قال: فيه ابن حزم ( هو أول شيخ سمعت منه قبل سنة أربع مائة
(3) المحلى:1/145.
(4) ابن وجه الجنة : أبو بكر يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود بن موسى القرطبي ، عرف بابن وجه الجنة ،ولد سنة304 هـ ، وتوفي عام 402 هـ .سير أعلام النبلاء :17/204 ، الصلة لابن بشكوال :2/663 .
(5) نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب: لأحمد بن محمد المقري التلمساني ، تحقيق إحسان عباس: 2/78، طبعة دار صادر 1388 هـ.(2/13)
الزعم أنه شايع بني أمية وكان مبغضاً للإمام علي - رضي الله عنه -
زعم المؤرخون لابن حزم (أنه شايع بني أمية وكان مبغضا للإمام علي - رضي الله عنه -، يقول الذهبي ( في السير:(1) " وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم واعتقاده لصحة إمامتهم حتى لنسب إلى النصب (2)."
وابن حزم ( برئ كل البراءة من هذه الفرية؛ إذ كيف يبغض أهل البيت وهو المحب لهم، الذاب عنهم وعن عرضهم، المحب لجدهم - صلى الله عليه وسلم -، المدافع عن سنته، الداعي إلى التمسك بها، فحاشا ابن حزم ( أن يكون كذلك؛وهو القائل في حق الإمام علي - رضي الله عنه -:" فإذ مات عثمان - رضي الله عنه - وهو الإمام ففرض إقامة إمام يأتم به الناس، لئلا يبقوا بلا إمام، فإذا بادر علي - رضي الله عنه -فبايعه واحد من المسلمين فصاعدا، فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة،ولم ينازعه الإمامة أحد، فهذا أوضح وواجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين،فهو الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات - رضي الله عنه - شيء يوجب نقض بيعته،وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى. (3)
*منهج ابن حزم و أسلوبه.
ابن حزم ( فريد في نوعه، فريد حتى في أسلوب بحثه ومنهجه، فهو يعتمد على منهجية استبعاد القياس الأصولي، والتأويل الباطني للنصوص، واعتمد مكانهما منهج الأخذ بظاهر النصوص القطعية، فاللفظ عنده لا حكم له ولا دلالة في أي معنى من المعاني الخارجة عن دلالته اللفظية الظاهرية، وما لم يصرح بحكمه وينص عليه بلفظه الذي وضع له؛فهو على حكمه الأصلي، فلا يثبت له حكم ولا ينفى عنه.
__________
(1) سير أعلام النبلاء:18/201.
(2) النصب: هو بغض الإمام علي كرم الله وجهه وتقديم غيره عليه .
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم:4/122، طبعة مكتبة الخانجي ، القاهرة.(2/14)
واعتمد ترتيب قضايا معلومة ليستخرج منها قضايا مجهولة لازمة عنها، متأثراً في ذلك بالمنهج الأرسطي؛ الذي كان منتشراً في بلاد الأندلس وقتئذِ.
وأعتقد ـ إحقاقاً للحق ـ أن هدفه من ذلك حفظ الشريعة عن تأويل المتأولين، وصيانتها عن التأويل الغير مضبوط والقياس غير السليم، إلا أن إغلاقه الباب تماما واقتصاره على ظواهر النصوص، وإنكار القياس، جعله ينكر الصحيح من التأويل والقياس، حتى ما كان نصاً لكن نزل عن درجة تعين صحته وثبوته؛كالحديث المرسل أنكره كذلك.
وخلاصة القول: أن السمة الظاهرة على منهج ابن حزم ( في الاستدلال والترجيح أنه يميل إلى الأخذ بالنسخ أكثر منه إلى الجمع بين النصوص، كذا يتضح أخذه بدليل الاستصحاب؛ خاصة استصحاب البراءة الأصلية.
* كيفية قراءة كتبه خاصة المحلى. (1)
ابن حزم أوتي قوة في الحجة، فهو إمام في العلم تميز بجرأته في الحق، والحرص على اتباع الدليل، وله علم بالمنطق وجدله؛ لذا فأسلم طريقة للتعامل مع كتبه هي أن لا يجارى ابن حزم في مقدماته؛ فهو يبدأ بذكر مقدمات، ثم يبني عليها نقاشه مع العلماء، فالأسلم أن تراجع مقدماته حرفاً حرفاً، هذا مع الحذر من جزمه،فأحياناً يجزم بقوة كأنه يقسم قسماً مغلظاً بصوابه، مع الحذر كذلك من معارضاته فإنه كثيرا ما يجزم أن هذا الأمر معارض للعقل والنقل والأمر على خلاف ذلك.
ولا يقلل هذا من شأن هذا العالم الجليل والفقيه النحرير، فيحسب له أن كتبه تعطي المطًّلع فيها، المتأني في قراءتها،دربة على الاجتهاد، والنظر إلى الأدلة وتفنيدها وتمحيصها، والنظر في قوتها أو ضعفها،كذلك تعطيه ملكة النظر في الأدلة مجملة بمعنى ربط الأدلة مع بعضها والنظر إليها إجمالاً، مما يسلم القائل من التناقض في الفتوى الذي قد يقع فيه الكثير.
__________
(1) مستفاد من مقال طيب بعنوان كيفية التعامل مع الإمام ابن حزم وكلامه، وقد استفدت منه كثيراً. موقع ملتقى أهل الحديث .(2/15)
* وفاته. (1)
بعد حياة حافلة بالصراع مع الأمراء في ميدان السياسة، ومع الفقهاء في ميدان العلم والبحث، توفي هذا العالم الجليل في نهار الأحد لليلتين بقيتا من شهر شعبان سنة 456 هـ. رحم الله ابن حزم رحمة واسعة جزاء لما خدم به الإسلام والمسلمين.
المبحث الثاني
مدخل إلى الحدود
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الحد لغة واصطلاحاً.
*تعريف الحد لغة:
الحد:هو الحاجز بين الشيئين فيمنع اختلاطهما , والحد المنع , ومنه قيل: للبواب حدادا؛ لأنه يمنع الناس عن الدخول , وللسجان أيضاً؛ لأنه يمنع من الخروج، أو لأنه يعالج الحديد من القيود. (2)
وجمعه حدود , وحد كل شيء منتهاه؛ لأنه يرده ويمنعه من التمادي , وحدود الدار نهايتها؛ لمنعها ملك الغير عن الدخول فيها , أو خروج بعضها إليه , ويسمي اللفظ الجامع المانع حداً؛ لأنه يجمع معنى الشيء , ويمنع دخول غيره فيه.
* سميت العقوبات حدوداً؛ لأنها موانع من ارتكاب أسبابها ومعاودتها , وحدود الله محارمه؛ لأنه ممنوع عنها.(3)
__________
(1) البداية والنهاية:12/92،معجم الأدباء:3/548،مرآة الجنان:3/79.
(2) القاموس المحيط: لمحمد بن يعقوب الفيروزبادي, تحقيق محمد عبد الرحمن المرعشلي. ط دار إحياء التراث العربي الطبعة الأولى،1997, : ج 1 ص 405مختار الصحاح: لمحمد بن أبي الرازي ص 125, 126, ط دار الحديث , فتح الباري بشرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ج12/59..ط دارالريان للتراث,الطبعة الأولى, 1987 .
(3) حاشية رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين.الطبعة الأولى1994, ط دار الكتب العلمية ج 6/3, تبيين الحقائق شرح كنز الرقائق, لفخر الدين عثمان بن على الزيلعي , ط دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية, ج 3/163.(2/16)
وسميت الحدود بذلك إما؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - حدها وقدرها فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها فيزيد عليها أو ينقص منها ,وقيل لأنها تمنع من الإقدام على ما يوجبها,(1) وقيل: لأنها تمنع من الوقوع في مثل ذلك الذنب , أو تكون سميت بالحدود التي هي محارم؛ لكونها زواجر عنها ,أو بالحدود التي هي المقدرات. (2)
* تعريف الحد في اصطلاح الفقهاء:
اختلفت تعريفات الفقهاء للحد إلى ما يلي:
*عرف الحنفية الحد بأنه: عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى. (3)
* وعرفه المالكية بأنه:ما وضع لمنع الجاني من العودة لمثل فعله، وزجر غيره. (4):
* أما الشافعية فلهم تعريفات:
أ ـ الحدود: عقوبات زجر الله - سبحانه وتعالى - بها العباد عن ارتكاب ما حظر ،وحثهم بها على امتثال ما أمر.(5)
__________
(1) الحاوي الكبير لأبي الحسن على بن محمد الماوردي . ط دار الكتب العلمية ،الطبعة الأولى1994 ج13/ 184ا,.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع لمنصور بن يونس البهوتي: ط عالم الكتب 1983 5/77.
(3) الهداية شرح بداية المبتدي : للمرغيناني . ط دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى990 2/381,الفتاوى الهندية للشيخ نظام :ط دار الكتب العلمية2/158, شرح فتح القدير: لابن الهمام:ج5/212,ط دار الفكر , بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : للكاساني.ط دار الكتب العلمية.الطبعة الثانية1986, ج 9/33
(4) أسهل المدارك شرح إرشاد السالك: جمع أبو بكر حسن الكشناوي. ط دار الكتب العلمية 1995, 2/255, المعونة على مذهب عالم المدينة: لأبي محمد عبد الوهاب على بن نصر المالكي: تحقيق: محمد حسن إسماعيل. 1998,ط دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 2/305.
(5) الحاوي الكبير: 13/184.(2/17)
ب ـ الحد :عقوبة مقدرة وجبت على من ارتكب ما يوجبها. (1)
ج ـ ورد في تكملة المجموع:" الحد عقوبة مقدرة لأجل حق الله - سبحانه وتعالى -." (2)
* وعرف الحنابلة الحد بأنه:عقوبة مقدرة شرعا ً؛ لتمنع من الوقوع في مثلها. (3)
* أما الظاهرية: فلم يذكروا تعريفا محدداً للحد ،إلا أنه يمكن تعريفه عندهم بأنه "عقوبة محددة حقا ً لله تعالى في النفس أو الأعضاء أو البشرة.
ورد في المحلى(4)" لم يصف الله - سبحانه وتعالى - حداً من العقوبة محددا لا يتجاوز في النفس أو الأعضاء أو البشرة.."
وقفه مع هذه التعريفات
من خلال العرض السابق يبدو لي أن الفقهاء اختلفوا في ماهية الحد ، مع قصور يشوب بعض هذه التعريفات يظهر فيما يلي:ـ
أولاً : تعريف المالكية ، والتعريف الأول للشافعية ،غير مانع؛ لأنه يشمل التعزير؛ لإنتفاء كون العقوبة مقدرة , ومن شرط التعريف أن يكون جامعا مانعا ً.
__________
(1) حاشية العلامة إبراهيم البرماوي على شرح الغاية لابن قاسم الغزي : طبعة محمد أفندي مصطفى 1314 هـ , حاشية العلامة إبراهيم البيجوري على متن العلامة ابن القاسم الغزي على متن أبي شجاع 1280,ط دارالطباعة الكبرى الطبعة الثانية 2/383.
(2) , تكملة المجموع شرح المهذب: محمد نحيب المطيعي 22/3, ط مكتبة الإرشاد جدة، نيل الأوطار :لمحمد بن على الشوكاني .ط دار التراث 7/87.
(3) المبدع شرح المقنع :لابن المفلح الحنبلي, ط دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1997 7/365, الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف لعلى بن سليمان المروادي .ط دارإحياء التراث العربي ،الطبعة الأولى1998 10/114.
(4) المحلى بالآثار لأبي محمد على بن أحمد الأندلسي: تحقيق عبد الغفار البنداري ط دار الكتب العلمية 1988/1408هـ, ج 12/3.(2/18)
ثانياً:أما تعريف الحنابلة ،والتعريف الثاني للشافعية ، فهو وإن كان كل منهما قد نص على كون العقوبة مقدرة، إلا أنهما غير مانعين ؛ لأنه يدخل فيهما العقوبات التي يحق للعبد العفو فيها كالقصاص , ومن خصائص الحدود أنها إذا وصلت لولي الأمر , وثبتت عنده فلا يصح فيها العفو ، أو الشفاعة.
ثالثاً: تعريف الحنفية فهو جامع مانع , لذا استحق أن يكون هو الراجح , ويترتب على رجحانه خروج القصاص والتعزيرات من دائرة الحدود.
المطلب الثاني: حكمة تشريع الحدود.
يهدف الإسلام إلى إصلاح المجتمع ، وطهارة نفس أفراده , فوضع ضروريات خمس: هي حفظ الدين , والنفس , والنسل , والمال ,العقل(1)وأطلق عليها مقاصد أصلية.(2)
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق ٍ الشاطبي: 2/326 ، ط دار المعرفة ـ بيروت. الطبعة الأولى 1994
(2) قال الشاطبي (:بعد أن ذكر أنواع المقاصد "فأما المقاصد الأصلية فهي التي لاحظ فيها للمكلف ,وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة , وإنما قلنا إنها لا حظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية؛ ولأنها قيام بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال , و لا بصورة دون صورة , و لا بوقت دون وقت , لكنها تنقسم إلى ضرورية عينية , وإلى ضرورية كفائية , فأما كونها عينية:فعلى كل مكلف في نفسه. فهو مأمور بحفظ دينه اعتقاداً وعملاً , وبحفظ نفسه قياما ً بضرورية حياته , وبحفظ عقله حفظاً لمورد الخطاب من ربه إليه , وبحفظ نسله التفافا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار , ورعياً له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائه ,وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة....." الموافقات : 2/476, 477.(2/19)
والإسلام حينما عني بهذه الضروريات الخمس لم يكتف بالعمل على احترامها وعدم مخالفتها بالأجزية الأخروية , كما هو الشأن في بعض التشريعات الأخلاقية في الشرائع السماوية ,ولا بالعقوبات الدنيوية غير الرادعة ولا الزاجرة عن معاودة الجريمة ،كما هو الشأن في القوانين الوضعية ,ولكنه جمع بين الأمرين الجزاء الأخروي الذي توجل منه القلوب وتقشعر منه الأبدان ,والعقوبة الدنيوية الزاجرة الرادعة التي تحول بين الجاني وبين الجريمة، أو بينه وبين محاولتها. (1)
ومن المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم الآراء ,وتشعبت بهم الطرق ولعظم الاختلاف واشتد الخطب فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك وأزال عنهم كلفته ,وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعا ً وقدراً ،ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النكال (2) ،فالحدود شرعها الله - سبحانه وتعالى - لتحمي مقاصد الشريعة الأساسية؛ ولذلك فهي منحصرة في الاعتداء على الدين والنفس والنسل والمال؛ لأنه لا يمكن للحياة أن تستقيم وتسير سيرها الطبيعي إلا بالحفاظ على هذه المقاصد وصيانتها.
__________
(1) الحدود في الإسلام ومقارنتها بالقوانين الوضعية: محمد أبو شهبة: طبعة الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية 1974,ص 129.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين لإبن قيم الجوزية: تحقيق:عصام الدين الصبابطي, 2/100، ط دار الحديث، الطبعة الأولى 1993.(2/20)
ـ فالدين هو المقصد الأول من مقاصد الشريعة ، وبدون هذا المقصد ينفرط عقد الأمة ويختل أمرها وتصبح شيعاً وأحزاباً، لا تلتقي على رأي واحد ولا يجمع بينها جامع، من أجل هذا كان نهج الإسلام في حماية الدين محكماً، فحرم كل ما من شأنه أن يمس هذا الدين، وعلى وجه خاص الخروج منه إلى الكفر ـ والعياذ بالله ـ فوضع الإسلام عقوبة مشددة لهذه الجريمة ،وهي قتل المرتد مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((من بدل دينه فاقتلوه."))(1) فالردة اعتداء على النظام الاجتماعي للجماعة؛ لأن النظام الاجتماعي لكل جماعة إسلامية هو الإسلام، والردة معناها الكفر بالإسلام والخروج على مبادئه والتشكيك في صحته، ولا يمكن أن يستقيم أمر الجماعة إذا وضع نظامها الاجتماعي موضع التشكيك والطعن؛ لأن ذلك يؤدي في النهاية إلى هدم هذا النظام. (2)
__________
(1) صحيح: البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب لا يعذب بعذاب الله، رقم 2854، ج2/1098.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي: عبد القادر عودة، ج 1/618، طبعة مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة عشر 1994.(2/21)
ـ ونفس الإنسان هي أعز ما يملكه، والحياة هبة من الله ينبغي المحافظة عليها؛ ولذلك حرصت الشريعة على صيانتها ،فحرمت كل اعتداء بغير حق يقع عليها قال تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ.. } (1) فحرمت وجرمت الاعتداء على الإنسان بالقتل أو إتلاف عضو من أعضائه، فجعلت القصاص هو الجزاء الرادع لمن يعتدي على الإنسان بالقتل، قال تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (2).
ـ وعرض الإنسان وشرفه هو تاج الكرامة الذي لا يستطيع العيش إلا به، فلا يبقى للإنسان إذا ضاعت كرامته وشرفه إلا الضياع والضلال، وقد تمثل حرص الإسلام على صيانة نسل الإنسان وعرضه في أمرين:
الأول: صيانة الأنساب ومنع اختلاطها وذلك عن طريق تحريم الزنا، ووضع عقوبة عادلة تتناسب مع ظروف المجرم وحالته، بالجلد إن كان غير محصن ،والرجم إن كان محصناً، قال تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } (3)
__________
(1) الأنعام من الآية151.
(2) المائدة آية 45.
(3) النور آية 2.(2/22)
الثاني: صيانة الإنسان من السب وإنقاص الكرامة بين الناس فليس هناك أقدح من أن يرمى الإنسان بهذه النقيصة الكريهة التي تجعله يتواري خجلاً أمام الأعين الشامتة أو اللائمة فجعل الإسلام عقوبة القذف هي الجلد ثمانين جلدة، ورد شهادة القاذف لأن عدالته قد سقطت بعدما ثبت كذبه وبهتانه، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1)
ـ ومال الإنسان عزيز عليه؛ إذ به فخره وزينته في الحياة الدنيا، قال تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } (2) فحرم الإسلام أخذ المال بغير حق ،ووضع الجزاء الرادع لمن تدفعه نفسه إلى الاعتداء على مال الغير وممتلكاته، ليسلبها دون وجه حق ،فكانت عقوبة القطع، إذ لو لم يعاقب عليها لكان لكل امرئ أن يشارك غيره طعامه وشرابه وكساءه ومسكنه وأداة عمله ،وكانت الغلبة آخر الأمر للأقوياء، وكان الجوع والعري للضعفاء، قال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (3).
__________
(1) النور أية 4.
(2) الكهف آية 46.
(3) المائدة آية38.(2/23)
ثم بينت الشريعة أن السرقة إذا اعتمدت على القهر والمغالبة والسطو المسلح على المجني عليه، فإن لها عقوبة أشد من قطع اليد؛ لأن الجاني لا يبالي بمن يقابله في طريقه ويكون عازماً على تنفيذ ما سولته له نفسه مهما كلفه ذلك من إراقة الدماء وترويع الآمنين وإشاعة الخوف والرعب في الطريق، قال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1).
ـ والعقل هو ميزان الإنسان ،وزمام أمره ،كرَّمه الله - سبحانه وتعالى - وميَّزه به عن سائر المخلوقات، فنهاه أن يهمل عقله، ولا يستخدمه فيما خلقه الله من أجله،ووضع العقوبة ا لزاجرة لمن يعرض عقله للضياع، فكانت عقوبة شارب الخمر هي الجلد. (2)
__________
(1) المائدة آية 33.
(2) محاضرات في الفقه الشافعي: السيد طلبة السيد وآخرون، مذكرة لطلبة كليةالشريعة بطنطا، ص 21 وما بعدها بتصرف .(2/24)
ـ ومن عدل الإسلام أن الحدود لم تشرع زجراً للجاني وغيره فقط ،كما ذهب البعض(1) ،بل فيها رحمة بالجاني وتكفيراً لذنبه، قال ابن القيم (:"و من سعة رحمة الله وجوده، أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطهرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة ،فرحمهم بهذه العقوبات أنواعا من الرحمة في الدنيا والآخرة وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتل ،وقطع ،وجلد ،ونفي ،وتغريم مال ،وتعزير." (2)
فهي تشتمل على مقصد أصلي يتحقق بالنسبة إلى الناس كافة ،وهو الانزجار عما يتضرر به العباد، وغير أصلي وهو الطهارة عن الذنوب ، وذلك يتحقق بالنسبة إلى من يجوز زوال الذنب عنه لا بالنسبة للناس كافة. (3)
فالصحيح أنه في حق المسلم جوابر؛لسقوط عقوبتها في الآخرة إذا استوفيت في الدنيا، وفي حق الكافر زواجر. (4)
__________
(1) ورد في حاشية رد المحتار،6/3 ما نصه "قوله زجرا بيان لحكمها الأصلي وهو الانزجار عما يتضرر به العباد من أنواع الفساد، وهو وجه تسميتها حدوداً، قال في الفتح والتحقيق ما قاله بعض المشايخ أنها موانع قبل الفعل، زواجر بعده:أي العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على العقل، وإيقاعها بعده يمنع من العود إليها ."
(2) إعلام الموقعين:2/100.
(3) حاشية البيجوري :2/382.
(4) شرح العناية على الهداية للبابرتي مطبوع مع شرح فتح القدير،5/212، طبعة دار الفكر، حاشية البرماوي:248.(2/25)
لما ورد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال:"((قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في مجلس: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ،ولا تسرقوا، ولا تزنوا ،ولا تقتلوا أولادكم ،ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ،ولا تعصوا في معروف ،فمن وفى منكم فأجره على الله ،ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ،ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله ،فأمره إلى الله ،إن شاء عاقبه ،وإن شاء عفا عنه ،فبايعناه على ذلك.")) (1)
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الأحكام، باب بيعة النساء، رقم 6787،ج6/6273، أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم1709،ج 3/1333.(2/26)
تمهيد
تعريف الزنا لغة: (1)
من زْنِي زِنىً وزِناءً بكسرهما : فَجَرَ . وزانَى مُزاناةً وزِناءً : بمعناهُ ،و فلاناً : نَسَبَه إلى الزِنَا ،وهو إتيان المرأة من غير عقد شرعي , ويقال: زنا بالمرأة فهو زانٍ, وهى زانية،والزنا يمد ويقصر، فالقصر لغة أهل الحجاز ،فيكتب بالياء،والمد لغة أهل نجد، فيكتب بالألف.
الزنا في اصطلاح الفقهاء: وردت تعريفات للزنا الموجب للحد:
* فعرفه الحنفية: بأنه وطء الرجل المرأة في القبل, في غير الملك وشبهته،أو وطء مكلف ,طائع, مشتهاة, حالاً أو ماضياً ,في القبل بلا شبهة ملك, في دار الإسلام . (2)
وأورد البابرتي تعريفا فقال :"الزنا قضاء المكلف شهوته ,في قبل امرأة خالية عن الملكين وشبهتهما(3)؛لا شبهة الاشتباه (4)وتمكين المرأة من ذلك" .(5)
__________
(1) القاموس المحيط للفيرورأبادى:3/1695، المعجم الوسيط :1/418.
(2) الاختيار لتعليل المختار:لعبد الله بن محمود الموصلي، ج3/79،ط دار المعرفة،الطبعة الثالثة1975، شرح فتح القدير 5/247. تبين الحقائق 3/163.
(3) المراد بالملكين: ملك النكاح ,وملك اليمين،وبشبهة ملك النكاح ما إذا وطئ امرأة تزوجها, بغير شهود, أو بغير إذن مولاها, وما أشبهه.
(4) المراد بشبهة الاشتباه: ما إذا وطئ الابن جارية أبيه على ظن أنها تحل له.العناية على الهداية 5/231.
(5) شرح العناية علي الهداية: لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي،ط دار الفكر،ج5 /213 مطبوع مع شرح فتح القدير.(3/1)
وورد في الدر المختار:(1)" الزنا الموجب للحدهو: إدخال الحشفة من ذكر مكلف (خرج الصبي والمعتوه) ناطق (خرج وطء الأخرس فلا حد عليه مطلقا للشبهة) طائع، في قبل مشتهاة حالاً أو ماضياً(ليخرج المكره والدبر ونحو الصغيرة) خالٍ عن ملك الواطئ، وشبهته (أي في المحل لا في الفعل) في دار الإسلام (لأنه لا حد في الزنا في دار الحرب) أو تمكينه من ذلك ،بأن استلقى فقعدت على ذكره فإنهما يحدان لوجود تمكينه أو تمكينها.
* وعرفه المالكية: بأنه وطء مكلف مسلم؛فرج آدمي, لا ملك له فيه،باتفاقٍ عمداًًًًًًًًًً وإن لواطاًً. (2)
* وعرفه الشافعية:بأنه إيلاج قدر الحشفة من الذكر، في فرج محرم يشتهي طبعاً،لا شبهة له فيه. (3)
أو هو" أن يطأ الرجل المرأة, بغير عقد، ولا شبهة عقد, ولا ملكٍ ،ولا شبهة ملك،ولا شبهة فعل, عالماً بالتحريم. (4).
__________
(1) الدر المختار:للحصفكي6/6،5.مطبوع بأعلي رد المحتار علي الدرالمختار6/6.
(2) حاشية الخرشي: للإمام محمد بن عبد الله بن على الخرشي المالكي ت 1101هـ ج8 /278،علي مختصر سيدي خليل ت 767هـ ط دار الكتب العلمية, الطبعة الأولي 1997، الشرح الصغير: للدردير 4/448،447، جواهر الإكليل شرح مختصر خليل:للعلامة الشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري، ج2/422 ،ط دار الكتب العلمية الطبعة الأولي 1997.
(3) مغني المحتاج لمعرفة معاني ألفاظ المنهاج: لشمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشريني ج 5/422، روضة الطالبين: للنووي: 10/86،تحفة المحتاج: للهيثمي:4/118.
(4) مغني المحتاج: لمعرفة معاني ألفاظ المنهاج لشمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشريني ج 5ص422، روضة الطالبين :للنووي: 10/86،تحفة المحتاج: للهيثمي4/118، الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي: لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي؛تحقيق: الشيخ علي معوض،الشيخ عادل عبد الموجود ، ج13ص217،طبعة دار الكتب العلمية،الطبعة الأولي 1994.(3/2)
*وعرفه الحنابلة: بأنه فعل الفاحشة في قُبُلٍ أو دبر. (1)
*وعرفه الظاهرية:بأنه:وطء امرأة لا يحل له النظر إلي مجر ودها, وهو عالم بالتحريم.(2)
وقفة مع هذه التعريفات
يظهر من خلال هذه التعريفات أن الفقهاء مختلفون في ماهية الزنا؛وإن كانوا قد اتفقوا علي أنه عبارة عن وطء محرم،ً تعمداً لا إكراه فيه, ولا شبهه،واختلفوا في معني الفرج (3) هل يطلق علي القبل والدبر أو على القبل فقط؟فمنهم من اعتبر الوطء في الدبر زنا، كما هو واضح من تعريف المالكية والحنابلة السابقين, ومنهم من لم يعتبره كذلك.
حكمة تحريم الزنا وتشريع حده: ـ
اهتم الشارع الحكيم بحد الزنا أكبر اهتمام ،لما فيه من إفساد للمجتمعات ,وإشاعةٍٍ للفاحشة فيها، ومثل هذه المجتمعات التي لا تجعله جريمة ، هي مجتمعات فاسدة, متحللة من الدين والأخلاق،لا يأمن فيها الإنسان علي عرضه ,ولا علي أهله وزوجه وولده،والزناً فيه فساد للصحة ؛لأنه وسيلة من وسائل نقل العلل والأمراض التناسلية ، فلا عجب وفيه كل هذه المفسدات أن نَفّّر منه الإسلام غاية التنفير, وأوعد عليه غاية الوعيد، وجعله من أكبر الكبائر فشدد في عقابه. (4)
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الزنا
__________
(1) نيل المآرب شرح الطالب : للإمام عبد القادر بن عمر التغلبي الشيباني، ج2ص379، ط عيسي الحلبي ، المبدع شرح المقنع: لابن مفلح7/380.
(2) المحلى :12/167.
(3) يقصد بالفرج:عند الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد القبل والدبر،وعلي هذا يعتبر اللواط وكذلك وطء المرأة ـ غير الزوجة في دبرها ـ زناً موجب للحد عندهم، أما أبو حنيفة والظاهرية: فالفرج عندهم هو القبل فقط،فاللواط ليس زناً وإن كان يوجب التعزير، وكذلك وطء المرأة الأجنبية في الدبر ليس بزناً.شرح فتح القدير5/26,الشرح الصغير:4/447،تحفة المحتاج:4/118،المبدع: 7/380 .
(4) الحدود في الإسلام: لأبي شهبة:ص143.(3/3)
لم يقع الخلاف بين الظاهرية والأئمة الأربعة في كل جزئيات حد الزنا ، بل هناك أحكام اتفقوا عليها جميعاً تظهر فيما يلي :
أولاً: اتفقوا على أن الزنا حرام (1) ؛لقوله تعالي" { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } (2)و يجب الحد بثبوته مع تنوعه بحسب أحوال الزناة ، من بكارة وثيوبة .
ثانيا:اتفقوا على أنه لا يقام الحد علي الصبي، ولا المجنون ؛لارتفاع التكليف عنهما(3) ؛لقوله - صلى الله عليه وسلم - (ر"فع القلم عن ثلاث:عن الصبي حتى يبلغ، وعنى النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق"))(4)
ثالثاً:اتفقوا على أن الزنا يثبت بالبينة، وبالإقرار ،ولا بد في الشهود من العدالة والتكليف، وفي المقر من التكليف وكونه قادراً على فعل ما أقر به، وأن يكون الإقرار مفصلاً.(5)
__________
(1) الإجماع لابن المنذر 1/112.
(2) سورة الإسراء آية 32.
(3) مراتب الإجماع1/130,129،المغني والشرح الكبير : 10/91.
(4) حديث صحيح: أخرجه البخاري في الحدود ، باب لا يرجم المجنون والمجنونة ، موقوفاً على الإمام علي - رضي الله عنه - ،سنن الترمذي : كتاب الحدود ، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد رقم 1433 ج4 /33عن الإمام علي مرفوعاً ,سنن أبى داود : كتاب الحدود ، باب في المجنون يسرق او يصيب حداً رقم 4403 ج 4 /141، عن الإمام علي مرفوعاً وفيه " وعن المبتلى حتى يبرأ" ،مسند الإمام أحمد 1/116،رقم940,ابن ماجة:كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم ، رقم 2051 ، عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها مرفوعاً،الدارمي: كتاب الحدود ، باب رفع القلم عن ثلاثة ، رقم 2296 ،عن عائشة،المستدرك علي الصحيحين2/68 رقم2350 وقال الحاكم صحيح علي شرط أخرجه مسلم ولم يخرجاه.
(5) مراتب الإجماع: 1/130, المغني والشرح الكبير :10/95،قال ابن قدامة " كل زناً أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء"(3/4)
رابعاً: اتفقوا على أن حد الزاني البكر الحر مائة جلدة، وحد الزاني الحر المحصن الرجم حتى الموت.(1)
خامساً: اتفقوا على أن الحد لا يقام علي الحامل حتى تضع حملها سواء أكان الحمل من زناً أو غيره، وذلك حفظاً لحياة الجنين من أن تنتهك أو تتلف.(2)
سادساً:اتفقوا على أن العلم بالتحريم شرط من شروط إقامة الحد(3) ،فلا حد مع الجهل بالتحريم،والعذر بالجهل لا يقبل من كل مدع ٍفمن ادعى الجهل في الأمور المعلومة ،لا يقبل ادعاؤه إلا بقرينة تؤكد صدقه؛ كأن يكون حديث عهد بالإسلام ،أو بإفاقة من جنون ،أو نشأ بمكانٍ بعيد عن المسلمين.
سابعاً:واتفقوا على أن الحدود لو كانت من أجناس مختلفة لا تتداخل، بل يقام كل حد على حدة وتتداخل كلها في القتل .(4)
__________
(1) مراتب الإجماع :131 ، الإقناع في مسائل الإجماع :لأبي الحسن القطان ت628 ، ط الفاروق الحديثة ،الطبعة الأولى 1424 هـ /2004 ، ج 2/254 ، المغني والشرح الكبير :10/63.
(2) الإجماع لابن المنذر : 1/112,مراتب الإجماع:131.
(3) ،حاشية رد المحتار لابن عابدين:6/8،حاشية الخرشي8/282,البيان 12/360 المغني والشرح الكبير:10/80.المحلى: 12/107.
(4) مراتب الإجماع 1/129.(3/5)
ثامناً: اتفق الظاهرية مع المذاهب الأربعة (1) كذلك علي أن المساحقة"وتسمي السحق والتدالك"(2)وهو إتيان المرأة المرأة حرام ؛ لقوله تعالي:" { إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } (3) وبما رواه أبو سعيد الخدري عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد."))(4) وهذا نص صريح في تحريم السحاق؛ لأنه إفضاء المرأة إلي المرأة .
واتفقوا كذلك علي أنه لا حد في السحاق, وأن عقوبته التعزير؛لأنه معصية لا حد فيها لعدم الإيلاج كما لو باشر الرجل المرأة دون الفرج.
__________
(1) حاشية الدسوقي 6/306,جواهر الإكليل 2/423,حاشية الخرشي :8/283,مغني المحتاج :5/413,روضة الطالبين:10/91,البيان للعمراني:12/369,المغني والشرح الكبير :10/93, الكافي:4/135,المبدع:7/388,الإنصاف:10/137, والمحلى:12/407.
(2) المساحقة: بضم الميم أي محاكّة امرأة امرأة أخرى حتى ينزلا . أو هو أن تفعل المرأة بالمرأة مثل صورة ما يفعل بها الرجل والسحق فعل النساء بعضهم ببعض.حاشية الدسوقي:6/306،منح الجليل :9/251،الموسوعة الفقهية:24/251 ،الإقناع :2/253 .
(3) المؤمنون آية 6.
(4) حديث صحيح:رواه الإمام مسلم : كتاب الحيض ، باب تحريم النظر إلى العورات رقم 338، ج1/267.(3/6)
هذا ولا يموه قائل بمثل ما رواه أبو موسى الأشعري - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ((إذا أتي الرجل الرجل فهما زانيان ,وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيان)) (1) فكما أن إتيان الرجل الرجل وهو اللواط ،يطلق عليه زنا وفيه الحد ـ كما هو مذهب الجمهور ـ كذلك إتيان المرأة المرأة نص الحديث علي أنه زنا فيجري فيه ما يجري في اللواط.
* يرد عليه:بأن هذا حديث ضعيف الإسناد قال فيه ابن حجر ( :وفيه محمد ابن عبد الرحمن القشيري كذبه أبو حاتم ,ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء ,والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن الفضل البجلي وهو مجهول ,وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه"(2)
وحتى علي فرض صحته فان وصف الفعل بأنه زنا لا يلحقه بالزنا المعاقب عليه بالحد لأن السحاق مباشرة دون إيلاج والزنا المعاقب عليه بالحد يقتضي الإيلاج.(3) أو أنه زنا بالمعني اللغوي ومن ذلك قوله ـ - صلى الله عليه وسلم -"((إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ,فزنا العين النظر ,وزنا اللسان المنطق ,والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه."))(4)
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الزنا
ويندرج تحته مسائل: ـ
المسألة الأولي: درء الحدود بالشبهات.
__________
(1) ضعيف : سنن البيهقي الكبرى : باب ما جاء في حد اللوطي ،8/233رقم 16810,وذكر أنه منكر بهذا الإسناد، إرواء الغليل :8/16 .
(2) تلخيص الحبير: 4/55.
(3) التشريع الجنائي الإسلامي:عبد القادر عودة :2/369,368.
(4) حديث صحيح :أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان ، باب زنا الجوارح دون الفرج ،ج5/2305رقم 5889,أخرجه مسلم :كتاب القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره ، ج 4/2047رقم 2657.(3/7)
* الشبهة لغة(1):من شبه عليه الشيء أي ُلبّس ومن اشتبه عليه ؛أي اختلط ،والشبهة الالتباس.
وعرفت بأنها:"ما التبس أمره حتى لا يمكن القطع فيه؛أحلالُُُ هو أم حرام وحقُُ هو أم باطل؟ (2)
* شرعاً:عني بتعريف الشبهة فقهاء الحنفية خاصة ، ؛فالشبهة عندهم:(3)" ما يشبه الثابت وليس بثابت " وهذا التعريف غامض ومبهم ؛لأنه يثير سؤالاً آخر؛ما هو الذي يشبه الثابت وليس بثابت؟ والهدف من التعريف هو الإيضاح والتبيين، فهذا التعريف أشد غموضا ًمما يراد تعريفه.
وعرفها البعض بأنها:التباس يحدث خللا ًفي إرادة الفاعل، أو أركان الجريمة المادية ، أو أدلتها الشرعية أو قواعد إثباتها فيثير شكاً يأخذ حكم اليقين في درء العقوبة الحدية.(4)ولعل هذا التعريف الأخير هو الراجح؛ لأنه جمع الأركان والجزئيات التي تمرق الشبهة منها إلي الأحكام.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء علي أن الحد لا يثبت بشبهة(5)؛ لأن الأصل براءة الذمة ,وإنما اختلفوا في درء الحد بالشبهة .
سبب الخلاف.
__________
(1) المعجم الوسيط : 10/490.
(2) معجم لغة الفقهاء :محمد رواس قلعة جي، ص 257.
(3) البحر الرائق شرح كنز الرقائق: للعلامة زين الدين نجيم الحنفي, طبعة دار المعرفة الطبعة الأولي1993 ،5/12, شرح فتح القدير: لابن الهمام,5/249.
(4) مسقطات العقوبة الحدية :للقاضي محمد إبراهيم محمد ، ص102 ، طبعة دار الأصالة للصحافة والنشر ، الطبعة الأولى 1989
(5) شرح فتح القدير:5/ 248, حاشية الخرشي:8/285, المهذب :2/344, الكافي:4/137,المحلي:12/57.(3/8)
يرجع سبب الخلاف بين الفقهاء إلي مدي ثبوت قوله - صلى الله عليه وسلم - "ادرؤا الحدود بالشبهات.(1)"فمن أثبت هذا النص أخذ به واعتبره قاعدة في الحدود كلها ؛قال :بدرء الحد بالشبهة, ومن لم يثبت عنده هذا النص ذهب إلي عدم الأخذ بهذا المبدأ، ومن هنا اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين :ـ
* الرأي الأول: وهو لجمهور الفقهاء من الحنفية(2)والمالكية(3)والشافعية(4)والحنابلة(5).
ويرون أن الحدود تدرأ بالشبهات.
* الرأي الثاني: و هو للظاهرية (6).
ويرون أنه لا يجوز درأ الحدود بالشبهة.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والإجماع والمعقول.
__________
(1) تحفة الأحوذي 4/573،الدراية :2/101 وقال لم أجده مرفوعاً، تلخيص الحبير :4/56، نصب الراية :3/333 ، نيل الأوطار:7/272.
(2) البحر الرائق:5/12,حاشية المختار :6/25,الاختيار لتعليل المختار:3/9,شرح فتح القدير:5/248.
(3) أسهل المدارك :2/262,المعونة :2/315,حاشية الدسوقي:6/307,حاشية الخرشي:8/285,المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد عن الإمام عبد الرحمن بن قاسم عن الإمام مالك بن أنس:طبعة دار الفكر,ج4ص381.
(4) المهذب:2/344,روضة الطالبين:10/93,92.
(5) العدة شرح العمدة:2/811,الكافي:4/137,المبدع:7/389.
(6) المحلى:12/58,57.(3/9)
من السنة: ما روي عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.))(1)
وجه الدلالة:في هذا الحديث دلالة في موضعه ،حيث يدل علي أن درأ الحدود بالشبهات موافق لمبدأ التيسير في الشريعة الإسلامية فلأن يخطئ الإمام في العفو خير من الخطأ في العقوبة،فحد الزنا لا يحتاط له بالتحرير والتنفير عنه بل الاحتياط في دفعه. (2)
أما الإجماع:
فقال ابن المنذر (:"أجمع كل من نحفظ من أهل العلم عنه علي أن الحدود تدرأ بالشبهة ".(3)
أما المعقول فمن جهتين :
الأولى: أن الحد عقوبة كاملة فتستدعي جناية كاملة ووجود الشبهة ينفي تكامل الجناية.(4)
الثانية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقن ماعزاً - رضي الله عنه - لعلك لمست , لعلك قبلت ,لعلك كذا , لعلك كذا, وفعل علي - رضي الله عنه - ذلك مع شراحة، أفلا يكون مقصوداً به الاحتيال للدرء بعد الثبوت لأنه كان بعد صريح الإقرار, وأن لم يكن هذا فلا فائدة إذن من التلقين.
__________
(1) صحيح الإسناد :سنن الترمذي : كتاب الحدود ، باب درء الحد 4/33 رقم 1424 قال الترمذي : حديث السيدة عائشة ـرضي الله عنها ـ لا نعرفه مرفوعا ًإلا من حديث محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري عن عروة عن عائشة , وقد روي نحو هذا عن غير واحد من أصحاب النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـأنهم قالوا مثل ذلك ,ويزيد زياد الدمشقي ضعيف في الحديث ويزيد بن أبي زياد الكوفي أثبت من هذا وأقدم، سنن البيهقي : كتاب الحدود ، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات ،ج 8 /238رقم 16834,سنن الدار قطني: كتاب الحدود،ج 3/84 رقم 8 ،إرواء الغليل :8/25
(2) عمدة القاري: 20/259.
(3) المغني والشرح الكبير :10/80, الإجماع :لابن المنذر,1/113.
(4) الفقه الإسلامي وأدلته :وهبه الزحيلي, 6/30.(3/10)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة والمعقول.
من الكتاب:قوله تعالي: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (1)
وجه الدلالة: في الآيات دلالة علي النهي عن تعدي أوامر الله و نواهيه، التي منع الشرع من مجاوزتها (2)، فالحدود إذا درأت فهذا تعدٍ وقد نهي عنه.
أما السنة:فقوله - صلى الله عليه وسلم - ((إن دماءكم وأموالكم قال محمد و أحسبه قال: وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا..))(3)
وجه الدلالة: في الحديث دلالة علي أن الحدود لا تثبت مع شبهة؛ لأن الدماء والأعراض و الأبشار مبناها علي التحريم.
أما المعقول:فإن درء الحدود إن استعمل أدي إلي إبطال الحدود جملة , وهذا خلاف إجماع أهل الإسلام , وخلاف الدين وخلاف القرآن والسنن؛ لأن كل واحد مستطيع أن يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه ،فبطل أن يستعمل هذا اللفظ وسقط أن تكون فيه حجة.(4) خاصة والشبهة خاضعة لتقدير العقول.
__________
(1) سورة البقرة: من الآية 229.
(2) تفسير البغوي:1/208.
(3) صحيح : أخرجه البخاري: كتاب العلم ، باب يبلغ العلم الشاهد الغائب ،ج 1/52رقم 105، أخرجه مسلم : كتاب القسامة والمحاربين ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض ، ج3/1305 رقم 1679 .
(4) المحلى:12/60.(3/11)
ـ أنه إن شغب مشغب بمثل ما رواه البخاري(" الحلال بين والحرام بين وبينها مشتبهات.."(1) فهذا الحديث لنا لا له؛ لأنه ليس فيه إلا ترك المرء ما اشتبه عليه فلم يدرأ ما حكمه عند الله في الذي تعبدنا فيه , وهذا فرض لا يحل لأحد مخالفته , فمن جهل أحلال الشيء ، أم حرام فالورع له أن يمسك عنه , ومن جهل أفرض هو أم غير فرض فحكمه ألا يوجبه ,ومن جهل أوجب الحد أم لم يجب ففرضه ألا يقيمه, أما إذا تبين وجوب الحد فلا يحل لأحد أن يسقطه لأنه فرض من فرائض الله.(2)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:وقد نوقش دليلهم من السنة من جهتين :
الجهة الأولى : ذكر الترمذي (أنه روي مرفوعاً من طريق محمد بن ربيعة عن يزيد بن زياد الدمشقي عن الزهري , ويزيد بن زياد ضعيف في الحديث , ورواه وكيع موقوفاً ،والوقف أصح وقد روي هذا عن غير واحد من الصحابة.(3)
وقد أجيب عن هذا من جهات: ـ
الأولي: أن الحديث له حكم الرفع ؛لأن إسقاط الواجب بعد ثبوته بالشبهة خلاف مقتضي العقل.
الثانية: أن في إجماع فقهاء الأمصار علي الحكم كفاية؛ ولذا قال بعضهم : إن الحديث متفق عليه , وقد تلقته الأمة بالقبول.
__________
(1) متفق عليه : أخرجه البخاري : كتاب الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه ، 1/28 رقم 52 ، وأخرجه مسلم : كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الحرام ،3/1219 رقم 1599 .
(2) المحلى:12/61,60.
(3) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي : 4/579.(3/12)
الثالثة: أنه في تتبع المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه - رضي الله عنهم - من تلقين ماعز وغيره الرجوع احتيالاً للدرء بعد الثبوت, وهذا مما يفيد القطع بثبوت الحكم؛لأنه ليس لذلك فائدة إلا أن كونه إذا قالها ترك و إلا فلا فائدة, ولم يقل لمن اعترف عنده بدين لعله كان وديعة عندك فضاعت ونحوه؛ وكذا قال علي - رضي الله عنه - لشراحة لعله وقع عليك وأنت نائمة , لعله استكرهك,لعل مولاك زوجك منه وأنت تكتمينه , فالحاصل كون الحد يحتال في درئه بلا شك لأن هذه الاستفسارات المفيدة لقصد الاحتيال للدرء كلها بعد الثبوت؛ لأنه كان بعد صريح الإقرار وبه الثبوت,وهذا هو الحاصل من هذه الآثار ومن قوله " ادرؤا الحدود بالشبهات " فكان هذا المعنى مقطوعاً بثبوته من جهة الشرع فكان الشك فيه شكاً في ضروري، فلا يلتفت إلي قائله ولا يعول عليه.(1)
الرابعة:القول بأن الحديث موقوف لا يضر ذلك كما قال الزيلعي: وعندنا لا يضر ذلك إذا صح الرفع لاسيما فيما لا يدرك بالرأي فإن الموقوف فيه محمول علي السماع لأنهم كانوا يرفعونه تارة ويقفون به أخري.(2)
الجهة الثانية : أن أحاديث درء الحدود بالشبهات كلها جاءت من طرق ليس فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص ولا كلمة,وإنما هي عن بعض أصحابه من طرق كلها لا خير فيها.... واللفظ الذي تعلقوا به وهو ادرؤا الحدود بالشبهات لم يرد عن أحد أصلاً لا صاحب ولا تابع إلا رواية ساقطة من طريق إبراهيم بن الفضل بن عبد الله بن دينار عن ابن عمر وإبراهيم ساقط.(3)
وقد أجيب عن هذا من وجوه:
__________
(1) شرح فتح القدير :5/248,حاشية رد المحتار: 6/26.
(2) تبين الحقائق الزيلعي:3/175.
(3) المحلى:12/59, باختصار.(3/13)
الوجه الأول: أن لفظ ادرؤا الحدود بالشبهات لم يرد عن أحد أصلاً، لا عن صاحب ولا تابع إلا الرواية الضعيفة عن ابن عمر؛ فهذا قول فيه تعسف شديد , فقد روي عن ابن مسعود بطريق صحيح , وروى عن عقبة بن عامر ومعاذ بن جبل.
قال ابن حجر (: " وأصح ما فيه حديث سفيان الثوري عن عاصم عن أبى وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال(ادرؤا الحدود بالشبهات , ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم) وروي عن عقبة بن عامر ومعاذً - رضي الله عنهم - أيضاً موقوفاً, وروي منقطعا وموقوفاً علي عمر. (1)
الوجه الثانيً: أن ما ذهب إليه ابن حزم في تضعيف هذه الأحاديث، صحيح ذكره غير واحد(2)وليست هذه الروايات بالساقطة كلها , وإنما هي ضعيفة يعضد بعضها بعضاً ،وتصلح في الجملة شاهداً, أو دليلاً علي المبدأ.
قال الشوكاني:( معلقاً على هذا الحديث :" هذا وإن كان فيه المقال المعروف (التضعيف) فقد شد من عضده ما ذكرناه بعد ذلك للاحتجاج به علي مشروعية درء الحد بالشبهات المحتملة لا مطلق الشبهات." (3)
الوجه الثالث: سلمنا أن هذه الأحاديث ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها، أفلا يكون تلقين النبي- صلى الله عليه وسلم - ماعزاً لعلك قبلت لعلك لمست لعلك كذا ،يقصد بها الاحتيال للدرء بعد الثبوت؛ لأنه كان بعد صريح الإقرار.
وقد اعترض علي هذا:
__________
(1) تلخيص الحبير : 4/56 .
(2) نصب الراية لأحاديث الهداية: للعلامة جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي,ت 726 هـ طبعة دار الحديث ج3 ص309, وتلخص الحبير :ص56, الدراية في تخريج أحاديث الهداية : لابن حجر العسقلاني ت 852 هـ,طبعة دار المعرفة أ/94 رقم 640, ارواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: للعلامة محمد بن ناصر الدين الألباني طبعة المكتب الإسلامي, الطبعة الثانية 1985ص 25 ،26 رقم 2356, 2355.
(3) نيل الأوطار:7/105.(3/14)
أنه إنما رده لأجل أنه شك في عقله، أو ظن أنه لا يدرك ماهية الزنا , ويؤكد هذا ما ورد في بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم -أقر بأن يستنكه (تشم رائحة فمه).
وقد أجيب عن هذا:
بأنه إذ ا انطبق هذا علي ماعز- رضي الله عنه -، فهل ينطبق علي الإمام عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما لقن شراحة العذر.
الوجه الرابع: أنه وإن كان موقوفاً فإنه في حكم المرفوع لأنه لا يظن أن يقول الصحابة مثل هذا بالرأي دون سماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب :بأن الاستدلال بالآية في غير محله؛ لأنها ذكرت عقب آيات الطلاق و الاستدلال بها عليهم لا لهم؛ لأنه في درء الحد إلزام لحدود الله بالستر علي المسلم , وكذلك التثبت من
الأمر قبل توقيع العقوبة علي المسلم. (1)
وقد نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
ـ نوافقكم على أن الحدود لا تقام بشبهة للعصمة في الحديث الصحيح,لكن لا نوافقكم علي أن الحدود لا تدرأ بشبهة,والحديث حجة عليكم لا لكم, لأن عصمة الأبدان و الأعراض والأموال تقتضي حمايتها, إذا حدث التباس وثار شك فقد وجدت الشبهة ،والعدالة توجب عدم إقامة الحد. (2)
وقد نوقش دليلهم من المعقول بما يلي:
ـ القول بأن درء الحدود إن استعمل سيؤدي إلي إبطال الحدود جملة؛ قول غير صحيح؛ لأن كل ما فيه أنه يؤدي إلي التثبت و التيقن من وقوع الفعل و استحقاق العقاب , وليس كل واحد يستطيع درء الحد؛ لأن الذي يقيم الحد ويدرأه هو الإمام أو نائبه فإذا ثبت الحد عنده و لا شبهة أقام الحد وإذا كانت هناك شبهة قوية أسقط بها الحد
__________
(1) مسقطات العقوبة الحدية :ص108.
(2) المرجع السابق :108.(3/15)
ـ القول بأن الشبهة خاضعة لتقدير العقول فقد يقول قائل: هذه شبهة ،ويري آخر أنها ليست بذلك؛قول غير مسدد؛ لأن الشبهة خاضعة لمفاهيم الصحابة وتعريفات الفقهاء مع وضع الضوابط لهذه الشبهات , فالشبهة لا تثبت أو تنفي بالنفي بل بالأدلة و الشواهد.(1)
ونوقش دليلهم الرابع: بأن حديث (الحلال بين والحرام بين) لا دلالة فيه على ما قاله ابن حزم ( بل إنه رد فيه علي نفسه حيث قال :فمن جهل أوجب الحد أم لم يجب؟ففرض ألا يقيمه,والشبهات معناها الشك في ثبوت الحد ووجوبه.
الرأي الراجح
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن منها، يبدو لي أن رأي جمهور الفقهاء القائل: بدرء الحدود بالشبهات هو الأولي بالقبول للأسباب الآتية:
1ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
__________
(1) مسقطات العقوبة الحدية : ص 109.(3/16)
2ـ أن في العمل به تيسير علي المسلمين وموافقة لروح الشريعة في درء الحد عن المسلمين قدر الاستطاعة , ثم علي افتراض عدم صحة الحديث كما يقول ابن حزم (، فهناك قاعدة أصولية (1)
__________
(1) هذه القاعدة خلافية:حيث يري جمهور الفقهاء أن المثبت مقدم علي المنفي . البرهان في أصول الفقه, وجاء فيه 2/780" إذا تعارض لفظان متضمن أحدهما النفي ومتضمن الثاني الإثبات فقد قال جمهور الفقهاء الإثبات مقدم , وهذا يحتاج إلي مزيد تفصيل عندنا فان كان الذي نقله النافي إثبات لفظ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقتضاه النفي فلا يترجح علي ذلك اللفظ الذي متضمنه الإثبات لأن كل واحد من الراويين مثبت فيما نقله,وهو مثل أن ينقل أحدهماأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -أباح شيئاً وينقل الثاني أنه قال لا يحل وكل نافٍ في قوله مثبت , فأما إذا نقل أحدهما قولاً أو فعلاً ونقل الثاني أنه لم يقل ولم يفعل فالإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلي المصغي المستمع " وينظر أصول السرخسي2/21, إرشاد الفحول 1/465" وقال بعد أن ذكر رأي الجمهور وقيل يقدم النافي وقيل هما سواء " أما الظاهرية فيرون أن النافي مقدم, وجاء في إرشاد الفحول 1/410,409لا خلاف أن المثبت للحكم يحتاج إلي إقامة الدليل عليه أما النافي له فاختلفوا فيه علي مذاهب ...المذهب الثاني أنه لا يحتاج إلي إقامة الدليل وإليه ذهب أهل الظاهر إلا ابن حزم فإنه رجح المذهب الأول . قالوا لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم فمن نفي الحكم له أن يكتفي بالاستصحاب وهذا المذهب قوي جداً فان النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها , ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل "وينظر الأحكام 1/72, الإبهاج 3/235, نصب الراية 1/360.ورجح الآمدى في الأحكام تقدم النافي علي المثبت فقال 4/271"والنافي مرجح علي المثبت خلافاً للقاضي عبد الجبار في قوله أنهما سواء , والمثبت و إن كان مترجحاً علي النافي لاشتماله علي زيادة أن النافي لو قدرنا تقدمه علي المثبت كانت فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس وفائدة التأسيس أولي.(3/17)
تقرر أنه إذا اجتمع المْثبِت ُوالنافي قدم النافي ،و الشبهة نافية فصح لها التقدم، وقد أخذ بهذه القاعدة الظاهرية إلا ابن حزم (.
3ـ أن حديث درء الحدود بالشبهات وإن كان ضعيفا،ً إلا أنه يصلح للاحتجاج به ؛لأنه جاء من طرق كثيرة يعضد بعضها بعضاً.
قال القرافي (:" قلت لبعض الفضلاء الحديث الذي يستدل به الفقهاء وهو ما يروى درء الحدود بالشبهات لم يصح ,وإذ لم يكن صحيحاً ما يكون معتمدنا في هذه الأحكام قال لي :يكفي أن نقول حيث أجمعنا علي إقامة الحد كان سالما عن الشبهة وما قصر عن محل الإجماع لا يلحق به عملا بالأصل حتى يدل دليل على إقامة الحد في صور الشبهات "(1)
المسألة الثانية :تكرر فعل الزنا
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء علي أن من زنا مرة وأقيم عليه الحد ثم زنا أخرى أنه يجب عليه حد آخر، واختلفوا فيما إذا تكرر منه الزنا ولم يقم عليه الحد ،هل يقام حد واحد أو يقام عليه لكل مرة حد؟ اختلف الفقهاء في ذلك علي رأيين.
* الرأي الأول:وهو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية(2)والمالكية(3) والشافعية(4)، والحنابلة .(5)
ويرون أن من زنا مراراً ولم يقم عليه الحد فلا يجب عليه إلا حد واحد.
* الرأي الثاني:وهو لابن حزم ( .
__________
(1) الفروق للقرافي:4/174.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم:ص160,الاختيار لتعليل المختار:3/96,شرح فتح القدير:5/340.
(3) الذخيرة لشهاب الدين أحمد بن محمد بن إدريس القرافي ت 684هـ تحقيق محمد بوخبزه, ج12/84.دار الغرب الإسلامي , الطبعة الأولي 1994.
(4) روضة الطالبين:10/166, المهذب للشيرازي 2/368, تكملة المجموع للمطيعي:22/263,الأشباه والنظائر لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911هـ ،ص126.دار الكتب العلمية ط الأولي 1993
(5) المغني والشرح الكبير :10/98,الإنصاف للمر داوي 10/125,المبدع لا بن مفلح7/375,نيل المآرب 2/278.(3/18)
ويرى أنه إذا ثبت الحد عند الإمام ولم يحد، ثم واقع حد آخر أنه يقام عليه الحدين.(1)
* الرأي الثالث:وهو لبعض الظاهرية.(2)
ويرون أن من زنا مراراً وجب عليه لكل مرة حد.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالإجماع والمعقول: ـ
أما الإجماع : فقد حكاه ابن قدامة (فقال:"قد أجمعوا أنه إذا تكرر الحد قبل إقامته أجزأ حد واحد.(3)
أما المعقول فمن جهات :
ـ أن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل وهو حاصل بالحد الواحد لأن الغرض هنا من جنس واحد فوجب التداخل كالكفارات.(4)
ـ أنها طهارة سببها واحد فتداخلت.(5)
ـ أن تكرار الزنا كتكرار الإيلاج و الاجتراع جرعة بعد جرعة لأن ذلك كالأحداث إذا تواترت قبل الطهارة.(6)
استدل أصحاب الرأي الثالث بالكتاب والمعقول: ـ
__________
(1) المحلى :12/28.
(2) ورد في المحلى:12/ 27,26"وقالت طائفة عليه لكل مرة حد ... فمتي زنا ثانية وجب عليه حد ثانِ وإذا سرق ثانية وجب عليه بالسرقة الثانية قطع ثانِ إذا قذف ثانية وجب عليه حد ثانِ,وإذا شرب ثانية وجب عليه حد ثانِ ولابد وهكذا في كل مرة." وقد وافقهم ابن حزم في ذلك في حالة تضييع الإمام أو نائبه ذلك لغير ضرورة ثم شرع في إقامة الحد فوقعت ضرورة منعت من إقامته أنه يجب إتمام الأول ثم يبدأ في الثاني .
(3) المغني والشرح الكبير:10/95,المبدع لابن مفلح:7/375.
(4) المغني والشرح الكبير:10/95.
(5) الكافي في الفقه :لشيخ الإسلام بن قدامه المقدسي؛ تحقيق إبراهيم أحمد عبد الحميد،4/162 ط عيسي الحلبي ،الذخيرة 12/84.
(6) المعونة للقاضي عبد الوهاب علي بن نصر:2/326.(3/19)
أما الكتاب: فقوله تعالي: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (1)وقوله تعالي: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (2)، وقوله تعالي: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.. } (3)
وجه الدلالة :أنه إذا زنا مرة أو سرق أو قذف أطلق عليه زان أو سارق أو قاذف ووجب عليه الحد ،وذلك لارتكابه الفعل الموجب للحد ، دون نظر لثبوت الحد أو عدم ثبوته.
أما المعقول: فلأنه وجب بنص كلام الله- سبحانه وتعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - علي من زنا الجلد المأمور به، وعلي من سرق قطع يده، وعلي من قذف الجلد المأمور به وعلي من شرب الخمر الجلد المأمور به فاستقر ذلك فرضاً عليه فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أنه متي زنا ثانية وجب عليه حد ثانِ، وإذا سرق ثانية وجب عليه بالسرقة الثانية قطع ثانِ,وإذا قذف ثانية وجب عليه حد ثان, وإذا شرب الخمر ثانية وجب عليه حد ثانِ ولابد ,وهكذا في كل مرة.(4)
المناقشة"
مناقشة أدلة الرأي الثالث القائل: بأنه يجب عليه لكل مرة حد.
وقد تعقب ابن حزم (هذا الرأي وناقشه من وجوه: ـ
__________
(1) المائدة آية 38 .
(2) النور من الآية 2.
(3) النور من الآية 4.
(4) المحلى:12/27,26.(3/20)
الوجه الأول: قولهم :استقر ذلك فرضاً عليه ـ أي علي من ارتكب الحد ـ وهم من أصحابنا ولسنا نقول به؛ لكن نقول: أنه لا يجب شيء من الحدود المذكورة بنفس الزنا ،ولا بنفس القذف ،ولا بنفس السرقة ولا بنفس الشرب، لكن حتى يستضيف إلي ذلك معني آخر وهو ثبوت ذلك عند الحاكم بإقامة الحدود إما بعلمه وإما ببينة عادلة وإما بإقراره، أما ما لم يثبت عند الحاكم فلا يلزمه حده لا جلد ولا قطع..لأنه لو وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل لكان فرضاً علي من أصاب شيئاً من ذلك أن يقيم الحد علي نفسه ليخرج مما لزمه؛أو أن يعجل المجيء إلي الحاكم فيخبره بما عليه ليؤدي ما لزمه فرضاً في ذمته لا في بشرته وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف.
الوجه الثاني:أن إقامته الحد علي نفسه حرام عليه، ذلك إجماع الأمة كلها. ولو كان الحد فرضاً واجباً عليه بنفس فعله لما حل ّ له الستر علي نفسه ولا جاز له ترك الإقرار طرفة عين فالأئمة وولاتهم مأمورين بإقامة الحدود المذكورة علي من جناها وبيقين ندري أن الله لم يأمرهم بذلك إلا إذا ثبت ذلك عندهم وصح ّيقيناً أن لكل زنا يزنيه قبل علم الإمام بذلك لم يجب عليه شيء.(1)
مناقشة الرأي الأول:
وقد ناقش ابن حزم ( أصحاب هذا الرأي في حالة ما لو ثبت الحد عند الحاكم وقدر علي إقامة الحد ثم لم يحد حتى واقع زنا آخر أنهم لم يوجبوا إلا حداً واحداً بأن قياساتهم متناقضة وذلك في حالة تعدد الكفارات ؛لأنه ما الفرق بين ما ذكر وبين المفطر عامداً في رمضان ووطئ أياماً أنه يجب عليه لكل يوم كفارة ,وبين من حلف أيماناً متعددة علي أشياء مختلفة فعليه لكل يمين كفارة.(2)
وقد يجاب عن هذا:
__________
(1) المرجع السابق: 12/ 28
(2) المحلي:12/28.(3/21)
ـ بأن جمهور الفقهاء قالوا: بالتداخل بين الكفارات ،ثم إن قياس الحدود علي تعدد الكفارات قياس مع الفارق؛ إذ الحدود لا يقيمها الإنسان علي نفسه , ولابد من ثبوتها عند الإمام , والمندوب فيها الستر وتسقط بالتوبة عند البعض , أما الكفارات، فتجب بمجرد الفعل لا بثبوتها عند الإمام ,ويقيمها الإنسان علي نفسه ولا تبرأ ذمته إلا بفعلها,والأصل فيها أنها جوابر فيحتاج كل فعل إلي جبره بكفارته وعند العجز لها بدل ,أما الحدود فالأصل أنها زواجر , والزجر يتحقق بإقامة الحد مرة واحدة إذا كانت الحدود من أجناس واحدة.
الرأي الراجح
من خلال العرض السابق يظهر أن الإمام ابن حزم( وافق الجمهور في حالة ما إذا زنا الشخص أكثر من مرة ولم يقم عليه الحد؛ ولم يثبت أي من الحدود السابقة عند الإمام أنه يقام عليه حد واحد, ووافق ابن حزم (أصحاب الرأي الثاني القائلين :بالتعدد في حالة ما إذا ثبت الحد عند الإمام ولم يحد أو شرع في إقامته وحدث مانع ،يقام عليه الحد السابق مع الحد الثابت الجديدعنده ,فالرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أنه لو زنا مراراً وجب عليه حد واحد وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن ما استدل به أصحاب المذهب الثاني من أدلة يحمل علي العموم، ويحتمل كونه في حالة ما إذا أقيم عليه الحد ثم فعله ثانيا ًو بالاحتمال يسقط الاستدلال.
ـ أن جمهور الفقهاء قالوا: بالتداخل بين الكفارات فبطل بذلك اعتراض ابن حزم (.
ـ أن مسئولية إقامة الحد من واجب الإمام وإذا حدث تقصير فهو عليه ولا ذنب فيه علي غيره.
وقد ورد في شرح فتح القدير(1)" وإذا بلغ الإمام ـ أي الحد ـ فلا عفا الله عنه إن عفا , وهذا لأن الوجوب قبل ذلك لم يثبت فالوجوب لا يثبت بمجرد الفعل بل علي الإمام عند الثبوت عنده "
__________
(1) شرح فتح القدير:5/212(3/22)
ـ أن الشريعة الإسلامية لم تشرع العقوبة إلا لمصلحة ٍ وهي الإنزجار والجبر وهذا يتحقق بإقامة الحد مرة واحدة فلا حاجة إذن لتكراره. لذا كان هو الرأي الراجح. والله أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة: إقامة الحدود في المساجد(1)
تحرير محل النزاع:
وافق الظاهرية الأئمة الأربعة على أن الحدود التي فيها قتل وقطع ،لا تقام في المسجد، وذلك لتنزيه المسجد عن ذلك،واختلفوا في الجلد هل يقام في المسجد أو لا؟ على رأيين:
* الرأي الأول: و هو للحنفية (2)والمالكية (3)والشافعية (4)والحنابلة .(5)
ويرون أنه لا يجوز إقامة الحدود في المساجد، سواء أكانت قتلاً أو قطعاً أو جلداً.
*الرأي الثاني: وهو للظاهرية.(6)
ويرون أنه يحرم إقامة ما فيه قطع وقتل في المسجد، ويجوز إقامة حد الجلد في المسجد إلا أن إقامته في الخارج أفضل.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة و الآثار و المعقول.
أما السنة: فما جاء عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - أنه قال:"((نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد(7)في المسجد , وأن تنشد فيه الأشعار , وأن تقام فيه الحدود."))(8)
__________
(1) ويقصد بالمساجد هنا : المسجد الجامع
(2) الاختيار لتعليل المختار:3/87,بدائع الصنائع: مرجع سابق ,7/60.
(3) الشرح الصغير : 4/201, المدونة الكبرى:4/385.
(4) الحاوي الكبير:13/441,440, البيان 12/393, روضة الطالبين10/173.
(5) المغني والشرح الكبير :10/41, الإنصاف :10/118, الكافي:4/161.
(6) المحلي:12/11.
(7) من القود وهو القصاص .
(8) حسن : سنن أبو داود : كتاب الحدود، باب في إقامة الحد في المسجد،رقم 4490.المستدرك :4/378 ،إرواء الغليل :7/361.(3/23)
ـ وما وردعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((لا تقام الحدود في المساجد "))(1)
وجه الدلالة: أنه نهي عن إقامة الحدود بعمومها سواء المتعلقة بالله أو بالآدمي لأن في ذلك نوع هتك لحرمته ولاحتمال تلوثه بجرح أو حدث (2) وقد قال ابن حجر( (3)في حديث حكيم بن حزام لا بأس بإسناده.
أما الآثار:
ـ فما ورد أنه أتي برجل إلي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في حد فقال:"((أخرجاه من المسجد ثم اضرباه."))(4)
وجه الدلالة: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر بإخراج الرجل من المسجد وفي هذا دلالة علي النهي عن إقامة الحدود في المساجد , و إلا لو كان جائزاً لما أمر عمر - رضي الله عنه - بإخراجه من المسجد وقوله " اضرباه " دلالة علي أن الحد هو الجلد , وفيه رد علي ما قاله الظاهرية من جواز إقامة حد الجلد في المسجد .
ـ وما ورد عن علي - رضي الله عنه - "((أن رجلا جاء إلى علي - رضي الله عنه - فساره فقال: يا قنبر أخرجه من المسجد فأقم عليه الحد."))(5)
أما المعقول فمن وجوه:ـ
__________
(1) حسن :سنن الترمذي : كتاب الديات ، باب الرجل يقتل ابنه يقاد به ، رقم 1401 ، ج 4/19 ، سنن ابن ماجة : كتاب الحدود ، باب النهي عن إقامة الحدود في المساجد ، رقم 2599 ، ج2/867 ، الدارمي : كتاب الديات ، باب القود بين الوالد والولد ، رقم 2357 ، ج 2/250 ، المستدرك : 4/ 410 رقم 8104 ، الدارقطني : 3/141 رقم 180 ، مصنف عبد الرزاق :باب هل تقام الحدود في المسجد رقم 1710 ، ج 10/437 .
(2) عون المعبود: 12/129.
(3) تلخيص الحبير لابن حجر : 4/78, إرواء الغليل للألباني : 7/361.
(4) إسناده صحيح: فتح الباري :13/157، مصنف بن أبي شيبة : باب من كره إقامة الحدود في المساجد، رقم 28646،ج5/526.
(5) مصنف بن أبي شيبة : باب من كره إقامة الحدود في المساجد، رقم 28645،ج5/526 .(3/24)
الأول ـ أن تعظيم المسجد واجب وفي إقامة الحد ترك تعظيم خاصة أنه بني للصلاة والذكر لا لإقامة الحدود، وذلك ربما يؤذي المصلين.
الثاني:أنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود حدث فينجس المسجد ويؤذيه , وقد أمر الله بتطهيره فقال تعالى: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول :
ـ أنه لو كان إقامة الحدود بالجلد في المساجد حرام لفصل الله لنا ذلك مبيناً في القرآن علي لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - (2).
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:وقد نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
ـ أن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ضعيف؛ لأن فيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.(3)
وقد أجيب عن هذا:بأن له طرق أخري يقوي بعضها بعضاً وعليه عمل الصحابة. (4)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
نوقش دليلهم بأنه عام ، إذ ليس كل حرام ورد في القرآن ,بل السنة اختصت بأحكام ٍ لم يأت بها القرآن , وأمرنا بإتباعها؛ لقوله تعالي: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (5)وقد نهانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن إقامة الحدود في المساجد , فصح أن هذا محرم علينا علي لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ـ ولو أجابوا بأن النهي محمول علي الرجم والقطع فقط، لا علي الجلد؛ بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعز بالبقيع خارج المسجد.
و قد أجيب عن هذا:
__________
(1) البقرة: من الآية125.
(2) المحلى: 12/11.
(3) المرجع السابق :12/10.
(4) سبل السلام: 4/32.
(5) الحشر : من الآية 7.(3/25)
بأنه لا دليل علي هذا التفريق بل الأدلة تعضد عدم التفريق , ثم إن ّ رجم ماعز خارج المسجد ليس دليلاً علي جواز الجلد داخله , خاصة وقد ورد دليل آخر بأن عمر - رضي الله عنه - أمر بإخراج رجل في حدٍ من المسجد, وقال: ثم اضرباه " والضرب لا يحمل إلا علي الجلد(1) ثم إنكم تقولون: بأن حد المحصن الجلد والرجم وقد صح أن رسول - صلى الله عليه وسلم - أمر برجم ماعز خارج المسجد بالبقيع فأين كان جلد ماعز بناء علي قولكم؟
ـ ثم إنه قد نهي عن رفع الأصوات في المسجد , وعن البيع وعن الشراء وفي حالة الجلد أفلا يكون هناك رفع صوت مع احتمال تقذير المسجد الذي أمرنا بتنظيفه وتطيبه؛لذا كان النهي عن إقامة الحدود أولي.
الرأي الراجح
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته فالرأي الراجح هو رأي جمهور الفقهاء القائلين: بالنهي عن إقامة الحدود في المسجد مطلقاً قتلاً كانت أو جلداً؛للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلة القائلين بذلك وسلامتها من المناقشة,
ـ أنه لا دليل للمخالفين إلا أدلة مطلقة ولم تسلم من المناقشة ،وعلي فرض سلامتها فإنها مطلقة يمكن أن تكون قيدت بالأدلة الدالة علي عدم إقامة الحد في المسجد
أثر هذا الخلاف:
الواقع أنه لا أثر لهذا الخلاف في التطبيق ؛إذ هو من قبيل الخلاف اللفظي , فلو أقيم الحد داخل المسجد فبناء علي قول المانعين لذلك ـ وهم الجمهور ـ فالحد أقيم ولا يعاد مرة أخري.
ـ ولو أقيم خارج المسجد فبناء علي قول الظاهرية هذا جائز , بل قد صرح ابن حزم ( بأن خارج المسجد أحب إليه.
ورد في البيان (2)" فإن أقيم الحد في المسجد سقط به الفرض لأن النهي يعود إلي المسجد لا إلي الحد , ويسقط به الفرض كالصلاة في الدار المغصوبة."
__________
(1) هذا معني من معاني اضرباه , ولكن صرفه صارفه وهو أنه أتي به لعمر بن الخطاب في حد فيحمل الضرب علي الجلد, أنه لو كان المقصود به ضرب العنق لجاء مقيدا ًبالعنق.
(2) البيان للعمراني: 12/393.(3/26)
وورد في المغني والشرح الكبير(1) "وإن أقيم فيه ـ أي الحد ـ سقط الفرض لحصول المقصود وهو الزجر , ولأن المرتكب للنهي غير المحدود فلم يمنع ذلك سقوط الفرض عنه كما لو اقتص بالمسجد"
المسألة الرابعة: الوطء في نكاح مختلف فيه
* تحرير محل النزاع:
ـ اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة(2) في عدم إقامة حد الزنا إذا لم يكن الناكح عالماً بالتحريم, واتفقوا كذلك علي نسبة الولد إليه من هذا النكاح.
واختلفوا في حالة ما لو كان عالماً بالتحريم , أو كان النكاح فاسدا (أي مختلف فيه)(3) فقال الظاهرية: الحد واجب , وقال الجمهور ـ عدا رأي للشافعية مرجوح ـ: أن النكاح فيه شبهة يدرأ بها الحد.
سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف إلي الأخذ بمبدأ درء الحدود بالشبهات من عدمه , فمن اعتبر الوطء في النكاح المختلف فيه شبهة يدرأ بها الحد قال بعدم الحد فيه , ومن لم يعتبر هذا المبدأ قال بوجوب الحد.
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 10/41.
(2) البحر الرائق 5/4, تبصرة الحكام :2/150,مواهب الجليل :3/415, أسني المطالب :3/150المغني والشرح الكبير :10/80 ,المحلي:12/62, الموسوعة الفقهية : 24/28.
(3) النكاح المختلف فيه:هو ما أجازه أحد الفقهاء لافتقاد شرط فيه كالنكاح بلا ولى فقد أجازه الحنفية , أو النكاح بلا شهود .(3/27)
*الرأي الأول:وهو للحنفية(1)والمالكية(2)والشافعية(3) والحنابلة. (4)
ويرون أنه لا يجب الحد بالوطء في النكاح المختلف فيه.
*الرأي الثاني: وهو للظاهرية (5) والشافعية في قول (6).
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/260 وجاء فيه :" وإن كان النكاح مختلفا فيه كالنكاح بلا ولي وبلا شهود، فلا حد عليه اتفاقا لتمكن الشبهة عند الكل ..",بدائع الصنائع :7/35,البحر الرائق شرح كنز الدقائق:5/17.
(2) حاشية الدسوقي: 6/302, وجاء فيها :" النكاح المختلف فيه أي :كبلا ولي فإذا وطىء فيه فلا يسمى زنا شرعا فلا حد فيه حاشية الخرشي: 8/279.
(3) روضة الطالبين:10/93" كل جهة صححها بعض العلماء وأباح الوطء بها لا حد فيها على المذهب وإن كان الواطىء يعتقد التحريم وذلك كالوطء في النكاح بلا ولي كمذهب أبي حنيفة وبلا شهود كمذهب مالك ونكاح المتعة وقيل يجب في النكاح بلا ولي على من يعتقد تحريمه دون غيره وقيل يجب على من أعتقد الإباحة أيضا"تعليق : من هذا النص نستشف أن الشافعية فرعوا هذه المسألة وقسموها إلي من اعتقد التحريم , وذلك كالوطء في النكاح بلا ولي كمذهب أبي حنيفة , وبلا شهود كمذهب مالك , ونكاح المتعة وقيل يجب في النكاح بلا ولي علي من اعتقد تحريمه دون غيره , وقيل يجب علي من اعتقد الإباحة أيضاً, البيان :12/363, مغني المحتاج : 5/445, حاشية قليوبي علي كنز الراغبين : 4/275.
(4) المغني والشرح الكبير:10/80, الإنصاف:10/138وجاء فيه :" وطىء في نكاح مختلف في صحته فلا حد عليه كنكاح متعة ونكاح بلا ولي وهذا المذهب سواء اعتقد تحريمه أو لا وعليه جماهير الأصحاب وعنه عليه الحد إذا اعتقد تحريمه اختاره بن حامد. الكافي :137, المبدع لابن مفلح:7/390.
(5) المحلي:12/195 ، وجاء فيه :" ونكاح فاسد فإن وطىء فيه فإن كان عالما أن ذلك لا يحل فعليه الرجم والحد لأنه زنى وعليها إن كانت عالمة مثل ذلك."
(6) البيان:12/363, مغني المحتاج : 5/445.(3/28)
ويرون أنه يجب الحد بالوطء في النكاح الفاسد (1).
الأدلة.
استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي: أن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة و الحدود تدرأ بالشبهات، قال ابن المنذر(:أجمع كل من نحفظ من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات.(2)
استدل أصحاب الرأي الثاني بما يلي:
ـ قوله- صلى الله عليه وسلم -" ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))" (3)
وجه الدلالة:أن الولد منسوب إلى صاحب الفراش سواء كان زوجا أو سيدا أو واطىء شبهة وليس للزاني في نسبه حظ إنما الذي جعل له من فعله استحقاق الحد. (4)
ـ أنه ليس إلا فراش أو عهر , والعهر لا يلحق فيه ولد والحد واجب.(5)
المناقشة
__________
(1) النكاح الفاسد عند الظاهرية : هو كل نكاح عقد على صداق فاسد , أو على شرط فاسد , مثل أن يؤجل إلى أجل مسمى أو غير مسمى , أو بعضه إلى أجل كذلك , أو على خمر , أو على خنزير , أو على مالا يحل ملكه , أو على شيء بعينه في ملك غيره , أو على أن لا ينكح عليها , أو أن لا يتسرى عليها , أو أن لا يرحلها عن بلدها , أو عن دارها أو أن لا يغيب مدة أكثر من كذا أو= =على أن يعتق أم ولده فلانة , أو على أن ينفق على ولدها , أو نحو ذلك - فهو نكاح فاسد مفسوخ أبدا وإن ولدت له الأولاد , ولا يتوارثان ولا يجب فيه نفقة , ولا صداق ولا عدة . وهكذا كل نكاح فاسد 9/86.
(2) الإجماع لابن المنذر :1/113.
(3) متفق عليه :رواه البخاري :كتاب الحدود ، باب للعاهر الحجر،6/2499رقم 6432، أخرجه مسلم: كتاب الرضاع ، باب الولد للفراش ، 2/1181 رقم 1458 .
(4) تحفة الأحوذي:6/259.
(5) المحلي: 9/87, 12//195.(3/29)
أن الوطء في مثل هذا النكاح ليس زنا ، وإن كان لا يطلق عليه نكاح صحيح ،إلا أنه ليس باطلاً , حتى وإن اعتبره البعض باطلاً فهو عند البعض ليس كذلك, والشبهة هذه دارئة للحد , ثم إن هذا الحديث ليس وارداً في بيان الزنا، بل هو وارد لبيان انتساب الولد لأبيه وأنه ينسب للفراش، قال النووي:" الحديث إنما ورد في نفي الولد عنه وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -"الولد للفراش" فمعناه أنه إذا كان للرجل زوجه أو مملوكه صارت فراشا له فأتت بولد لمدة الإمكان منه لحقه الولد، وصار ولدا يجرى بينهما التوارث وغيره من أحكام الولادة سواء" (1) والاستدلال بالحديث في غير محل النزاع.
الرأي الراجح
بعد العرض السابق فالرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم إقامة الحد بالوطء في النكاح المختلف فيه؛ لموافقته لروح الشريعة الإسلامية من درء العقوبة عن المسلم ما أمكن ذلك إذا كان هناك شبهة , وهذا النكاح فيه شبهة.
وثمرة هذا الخلاف تظهر في أنه لو وطئ في نكاح فاسد فعند الجمهور لا يقام عليه الحد وينسب إليه الولد , وعند الظاهرية هو زانٍ ويجب عليه الحد , ولا انتساب للولد لأنه ليس ثمة زواج.
__________
(1) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج:لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي، ج 10/27، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1392.(3/30)
المسألة الخامسة: حد الحر والحرة المحصنين(1)
__________
(1) الإحصان لغة: من أحصن إحصاناً, والحصن موضع حريز لا يوصل إلي ما فيه فهو حصين ؛ومن معانيه أيضا َالدخول في الحصن أو المنع قال تعالي "لتحصنكم من بأسكم " الأنبياء من الآية 8و وجاء الإحصان في القرآن بمعان متعددة فجاء بمعني التزويج قال تعالي " والمحصنات من النساء "النساء من الآية 24, وجاء بمعني الحرية في قوله تعالي " ومن لم يستطع منكن طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " النساء من الآية 25,وجاء بمعني العفة كما في قوله تعالي " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها " التحريم من الآية 12, وجاء بمعني الإسلام والزواج في قوله تعالي " فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب " النساء من الآية 25, شرح فتح القدير : 5/236, معجم لغة الفقهاء مرجع سابق ص 47,التشريع الجنائي الإسلامي : مرجع سابق 2/389.وفي الاصطلاح : هو مجموع الصفات الواجب توافرها في الشخص ليستحق الرجم في الزنا , ويستحق قاذفه حد القذف , وهذه الصفات هي الإسلام والحرية والعقل والبلوغ الدخول في نكاح صحيح ويضاف إليها في القذف العفة من الزنا . معجم لغة الفقهاء :ص 47, أو هو أن يكون الرجل عاقلاً بالغاً مسلماً دخل بامرأة عاقلة حرة مسلمة بنكاح صحيح . التعريفات لأبي الحسن علي بن محمد الجر جاني : طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الأولي 2000م ص 16,وهذه الشروط منها ما متفق عليه ومنها ما هو موضع اختلاف .فقد ورد في الإفصاح : 2/ 191وأجمعوا علي أن شرائط الإحصان هي الحرية والبلوغ والعقل وأن يكون تزوج امرأة علي مثل حاله تزوجاً صحيحاً ودخل بها وهي علي هذه الصفة , فهذه الصفات الخمسة مجمع عليها واختلفوا في شرائط الإحصان بعد الخمسة في الإسلام هل هو من شرائط الإحصان أم لا ؟ والإحصان قسمان ك إحصان رجم وإحصان قذف , وإحصان الرجم هو عبارة عن اجتماع صفات أعتبرها الشارع لوجوب الرجم وهو مجموعة من الشروط إذا توفرت في الزاني كان عقابه الرجم بدلاً من الجلد. وإحصان القذف هو توافر شروط في المقذوف حتى يعاقب قاذفه بالحد فإحصانه بأن يكون بالغاً عاقلاً أخرجه مسلماً عفيفاً عن الزنا . التشريع الجنائي الإسلامي :مرجع سابق2/390, 474.(3/31)
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء علي أن حد الحر المحصن هو الرجم حتى الموت(1) ـ ولا اعتبار بخلاف من خالف من الخوارج ـ؛لأنه - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعز و الغامدية,لكنهم اختلفوا هل يجلد قبل الرجم أو لا.؟
سبب الخلاف.
يرجع الخلاف بين الفقهاء إلي التعارض حيث ورد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "..والثيب بالثيب جلد مائة و الرجم ")) (2) فقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الجلد والرجم في حد الثيب , ورغم هذا النص فلم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد قبل أن يرجم , فمن هنا جاء الخلاف فمن أخذ بحديث عبادة - رضي الله عنه - قال بالجمع
بين الجلد والرجم ,ومن حمل هذا الحديث علي أنه منسوخ ,وأن آخر الفعلين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجلد بل
__________
(1) أورد ابن حزم ( في مراتب الإجماع:" واتفقوا انه إذا زنى كما ذكرنا وكان قد تزوج قبل ذلك وهو خصي، وهو بالغ مسلم حر عاقل حرة مسلمة بالغة عاقلة نكاحا صحيحا ووطئها وهو في عقله قبل أن يزني ولم يتب ولا طال الأمر أن عليه الرجم بالحجارة حتى يموت.". مراتب الإجماع 1/129.
(2) صحيح: أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب حد الزنا، رقم 1690،ج3/1316.(3/32)
حتى لم يثبت أنه جلد قبل الرجم قال: بعدم الجلد , لذا فقد انقسم الفقهاء رأيين:(1)
*الرأي الأول:وهو للحنفية(2)والمالكية (3) والشافعية(4)و رواية عن الإمام أحمد(5)
ويرون أنه لا يجمع بين الجلد والرجم.
*الرأي الثاني: وهو للظاهرية(6) ورواية أخري عن الإمام أحمد(7).
ويرون أنه يجمع بين الجلد والرجم.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والآثار والمعقول .
__________
(1) وفي المسألة قول ثالث ذكره ابن حزم وهو أن الثيب إن كان شيخاً جلد ورجم وإن كان شاباً رجم ولم يجلد , واستدل له بما روى عن أبي ذر قال الشيخان يجلدان ويرجمان والثيبان يرجمان , والبكران يجلدان وينفيان . وما روى عن أبي بن كعب قال : يجلدون ويرجمون ولا يجلدون , ويجلدون ولا يرجمون و فسره قتادة فقال : الشيخ المحصن يجلد ويرجم إذا زنا , والشاب= =المحصن يرجم إذا زنا , والشاب إذا لم يحصن جلد . المحلى: 12/175.تعليق : هذا قول ضعيف لا دليل عليه غير ما ذكر ولم يأت به قرآن و لا سنة وفوق هذا يعارض ما ثبت بالسنة ولا يزيد عن أن يكون قول صحابي , وقول الصحابي إن ثبت ليس بحجة إذا عارض ما هو أقوى منه , وورد في فتح الباري : 12/122" قال عياض شذت طائفة من أهل الحديث فقالت بالجمع علي الشيخ الثيب دون الشاب ولا أصل له , وقال الثوري هذا مذهب باطل .
(2) الهداية : 2/386.
(3) المدونة الكبرى : 4/397, المعونة : 2/305, حاشية الدسوقي : 6/312, جواهر الإكليل : 2/425.
(4) الأم للشافعي 12/582،البيان :12/349,الحاوي الكبير:13/192,191,
(5) المغني والشرح الكبير: 10/65, المبدع : 10/381, الكافي : 4/140.
(6) , شرح فتح القدير:5/240 ، المعونة:2/307, المحلى: 12/173، المبدع : 7/381, تحفة الأخوذي: 4/587
(7) المبدع 7/381, المغني والشرح الكبير:10/65، الكافي: 4/140.(3/33)
من السنة:ما ورد في الصحيحين أن أعرابياً أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله"((أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله , فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: صدق , اقض بيننا بكتاب الله و ائذن لي يا رسول الله , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قل، فقال: إن ابني كان عسيفاً في أهل هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم وإني سألت رجالا ً من أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام وأن علي امرأة هذا الرجم , فقال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله , المائة والخادم رد عليك وعلي ابنك جلد مائة وتغريب عام، ويا أنيس اغد علي امرأة هذا فسلها فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت المرأة فرجمها " (1)
وجه الدلالة: هذا دليل قوي في مورده؛لأن فيه إقسامه - صلى الله عليه وسلم - بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتب عليه الرجم و ولا يخلو هذا الحديث من أمرين: إما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اقتصر علي قوله فارجمها , أو يكون قال مع ذلك فاجلدها وترك الراوي الجلد , فان كان قد اقتصر علي الرجم فذلك يدل علي نسخ الجلد؛ لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده؛ لأن ربط الجزاء بالشرط يدل علي ذلك دلالة لفظية لا سكوتية، وإن قال :مع الرجم واجلدها، وحذف الراوي الجلد، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع؛ لأن حذف بعض الشرط مخل بالمعني وموهمُ غير المراد.إن كان كذلك فهو ممنوع ولا يجوز للراوي أن يفعله , والراوي عدل ولن يفعله.
__________
(1) حديث صحيح : رواه البخاري: كتاب المحاربين من أهل الردة،باب هل يأمر الإمام رجلا فيضرب الحد غائبا عنه ج6/2517 رقم 6467, أخرجه مسلم 3:كتاب الحدود ، باب باب من اعترف على نفسه بالزنى 3/ 1326 رقم 1698.(3/34)
ثم إنه - صلى الله عليه وسلم -فرق بينه وبينها فقال: (علي ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس إلي امرأة هذا فان اعترفت فارجمها) فدل علي أن الجلد في حقه دونها , فكان هذا آخر الأمرين من رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فوجب تقديمه ولو كان الجمع حداً لما تركه.(1)
ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تكرر الرجم (2) في زمانه فرجم ماعزاً و الغامدية،ورجم أصحابه معه ولم يرد أنه جمع بينه وبين الجلد، ول كان الجلد معتبراًمع الرجم لجلده - صلى الله عليه وسلم - فقطعناً أن حد المحصن لم يكن إلا الرجم لا غير , ورجم ماعز متأخر عن أحاديث الجلد، فيكون ناسخاً لحديث عباده ابن الصامت - رضي الله عنه -.(3)
أما الآثار:فبما ورد عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - أنه رجم ولم يجلد. (4)
أما المعقول فمن وجوه:
ـ أن الزنا جناية واحدة فلا يوجب إلا عقوبة واحدة ,والجلد والرجم كل منهما عقوبة علي حدة فلا يجبان لجناية واحدة.(5)
__________
(1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن : محمد الأمين الشنقيطي، 6/47 ،طبعة مكتبة ابن تيمية 1992,المغني والشرح الكبير:10/65, تبين الحقائق :3/173,المعونة :2/307.
(2) المقصود بتكرر الرجم أنه وقع مرتين كما حدث لماعز والغامدية وكلاهما في أخرجه البخاري , وليس المقصود شيوع فاحشة الزنا ؛ لأن هذا المجتمع طاهر منقي عن الرذائل , وحدوث هذه الواقعة لا يقلل من شأنه وإنما وقعت لبيان الجزاء وهي وقعت لآحاد من الناس والواحد والاثنين لا ينسحب حكمهما علي الجماعة ولا أدل علي طهارة هذا المجتمع بل طهارة من وقع منه فعل الزنا أن الحد ثبت بالاعتراف لا بشهادة الشهود , فمعاذ الله أن تكون الفاحشة فيهم منتشرة وحاشاهم أن يكونوا كذلك فهم أطهر قلوب عرفتها البشرية إلي قيام الساعة .
(3) روائع البيان: 2/27, نيل الأوطار : 7/91.
(4) مصنف عبد الرزاق: باب الرجم والإحصان، ج 7/328 رقم 13357.
(5) بدائع الصنائع : 7/39.(3/35)
ـ أنه لا فائدة في الجلد مع الرجم؛ لأن الحد شرع زاجراً , وزجره بالجلد لا يتأتى مع هلاكه , وزجر غيره يحصل بالرجم؛ لكونه أبلغ العقوبات , ولا داعي للجلد معه؛ لاندراج الأصغر في الأكبر إذاً انتفت الفائدة، فلا يشرع.(1)
ـ القياس علي الردة بجامع أنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد؛ لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه فالحد أولي.(2)
استدل أصحاب الرأي الثاني القائل: بالجمع بين الجلد والرجم بالكتاب والسنة:
أما الكتاب :فقوله تعالي: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } "(3)وجه وجه الدلالة:أن الآية عامة فإن أل للجنس والعموم فيشمل جميع الزناة, وجاءت السنة بزيادة حكم في حق المحصن وهو الرجم فيزاد علي الجلد ,فعموم هذه الآية يقتضي وجوب الجلد, والخبر المتواتر يقتضي وجوب الرجم ولا منافاة فوجب الجمع.(4)
أما السنة: فحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :" الثيب بالثيب والبكر بالبكر الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة "(5)
وجه الدلالة: أن هذا الحديث في مقام البيان والتعليم لأحكام الشرع , وقد أوضح أن حد البكر إذا زنا الجلد والنفي , وحد المحصن إذا زنا الجلد والرجم.
__________
(1) تبين الحقائق :3/173, أضواء البيان : 7/48.
(2) المغني والشرح الكبير:10/65, المبدع : 7/382.
(3) النور آية 2
(4) مفاتيح الغيب : للإمام فخر الدين الرازي ت 604هـ ، ج 23/118 طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الأولي1421.
(5) صحيح : أخرجه مسلم : كتاب الحدود ، باب حد الزنا ، 3/1316 رقم 1690 .(3/36)
ـ وما جاء أن سيدنا علياً - رضي الله عنه - "((أنه ضرب شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال:أجلدك بكتاب الله وأرجمك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -))" (1) فكيف يجوز ادعاء أن ذلك منسوخ وقد عمل به علي - رضي الله عنه - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)
ـ وما ورد عن جابر - رضي الله عنه -أن رجلا زنا فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلد , ثم أخبر أنه قد كان أحصن فأمر به فرجم.(3)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول وقد نوقش دليلهم الأول:
ـ بأنه لم يثبت ما يدل على هذا التأخير وبالتالي لا يكن ذلك الترك مقتضياً لإبطال الجلد الذي أثبته القرآن علي كل من زنا , والمحصن يصدق عليه أنه زان وقد انضم إلي ذلك من السنة ما هو صريح في الجمع بين الجلد والرجم للمحصن.(4)
__________
(1) صحيح الإسناد: النسائي الكبرى:كتاب الرجم، باب عقوبة الزاني الثيب، ج 4/269 رقم 7141، أحمد 1/107 رقم 839،المستدرك:4/405 كتاب الحدود،رقم 8087 وقال فيه الحاكم:صحيح الإسناد.
(2) شرح معاني الأثار : 3/140.
(3) ضعيف الإسناد :سنن البيهقي الكبرى :كتاب الحدود ، باب من جلد في الزنا ثم علم بإحصانه ، ج 8/217 رقم 16726 ، سنن الدارقطني: كتاب الحدود والديات، ج 3/169 رقم 52 ،شرح معاني الآثار: كتاب الحدود ، باب حد الزاني المحصن ، ج3 /138 رقم 4481 ، الدراية 2/100 ، نصب الراية :3/329 وقال فيه :" قال النسائي لا نعلم أحدا رفعه غير بن وهب ووقفه هو الصواب ورفعه خطأ انتهى واختار المصنف الجواب الأول أنه منسوخ وسيأتي في الحديث الذي بعد هذا الحديث ."
(4) نيل الأوطار : 7/91.(3/37)
وقد أجيب عن هذا: بأن خبر جلد ماعز متأخر عن حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لقرينة وهي أنه ورد في حديث عبادة قوله - صلى الله عليه وسلم -" قد جعل الله لهن سبيلا" التي دل عليها قوله تعالي { فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } (1), وقد جعل الله لهن سبيلا في حديث عبادة - رضي الله عنه - فبقرينة العقل يكون حديث عبادة ناسخاً لحكم الحبس , من هنا بيقين ندري أن خبر جلد ماعز متأخر عن حديث عبادة وأنه من باب نسخ القول بالفعل.(2)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
نوقش دليلهم من الكتاب :بأن ادعاء العموم في الآية غير مسلم؛ لأن الآية خاصة بالبكرين وليست عامة بدليل خروج العبيد والإماء منها , وحديث إن حد العبد خمسون جلدة لا مائة جلدة ،وهذا يدفع العموم.(3)
وقد نوقش دليلهم الثاني من السنة:
بأن حديث عبادة - رضي الله عنه - منسوخ ،والناسخ له ما ثبت في قصة ماعز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمه ولم يذكر الجلد,فدلت السنة على أن الجلد ثابت على البكر وساقط عن الثيب, والدليل على أن قصة ماعز متراخية عن حديث عبادة أن حديث عبادة - رضي الله عنه - ناسخ لما شرع أولا من حبس الزاني في البيوت فنسخ الحبس بالجلد وزيد الثيب الرجم , وذلك صريح في حديث عبادة ثم نسخ الجلد في حق الثيب وذلك مأخوذ من الاقتصار في قصة ماعز على الرجم و كذا الغامدية والجهنية واليهوديين و لم يذكر الجلد مع الرجم.(4)
__________
(1) النساء آية 15.
(2) العناية علي الهداية : 5/240, فتح الباري : 12/122.
(3) روائع البيان : 2/28.
(4) فتح الباري : 12/122, العناية علي الهداية : 5/240,شرح معاني الأثار:3/139.(3/38)
وقد أجيب عن هذا:بأن الجلد ثابت في كتاب الله والرجم ثابت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سيدنا علي - رضي الله عنه - وقد ثبت الجمع بينهما في حديث عبادة وعمل به علي - رضي الله عنه - وليس في قصة ماعز ومن ذكر معه تصريح بسقوط الجلد عن المرجوم؛لاحتمال أن يكون ترك ذكره لوضوحه، ولكونه الأصل فلا يرد ما وقع التصريح به بالاحتمال.(1)
وقد نوقش هذا: بأن قصة ماعز والغامدية جاءت من طرق متنوعة وبأسانيد مختلفة لم يذكر في شيء منها الجلد , فقال - صلى الله عليه وسلم - : في حق ماعز اذهبوا به فارجموه, وكذا في حق غيره ولم يذكر الجلد فدل ترك ذكره علي عدم وقوعه ودل عدم وقوعه علي عدم وجوبه.(2)
وقد نوقش خبر سيدنا علي - رضي الله عنه - مع شراحة من جهات:
الأولى: أن فعله هذا محمول علي أنه لم يثبت عنده إحصانها حيث جلدها لأنه ظنها بكراً بدليل تأخيره الرجم إلي يوم الجمعة لأن تأخير الرجم بعد وجوبه لا يجوز , وقوله جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الجمع مشروع في واحد , بل بيان لمصدر كل منهما فالجلد بالقرآن والرجم بالسنة.(3)
الثانية : أن هذا لا يقاوم إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ،وما ورد عن علي - رضي الله عنه - فهو رأي صحابي , ورأي الصحابي إذا عارض ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يؤخذ به؛لأن قول الصحابي ليس بحجة عند المخالفة .(4)
__________
(1) فتح الباري : 12/122, نيل الأوطار : 7/91.
(2) فتح الباري: 12/122.
(3) البيان للعمراني: 12/350.
(4) تبيين الحقائق :3/172 ,شرح فتح القدير 5/241 ,روح المعاني للألوسي ج 17 /119,طبعة دار الفكر 1997 ..(3/39)
الثالثة : أن هذا و إن كان روي عن علي - رضي الله عنه - ،فإن غير علي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد روي عنه في ذلك خلاف ما روي عن الإمام علي - رضي الله عنه - ,كما روي عن ابن شهاب ( قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن أبا واقد الليثي ثم الأشجعي أخبره - وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: بينما نحن عند عمر - صلى الله عليه وسلم - مقدمة الشام بالجابية(1)أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين , إن امرأتي زنت بغلامي فهي هذه تعترف بذلك , فأرسلني في رهط(2) إليها نسألها عن ذلك فجئتها فإذا هي جارية حديثة السن. فقلت: اللهم أفرج فاها اليوم عما شئت , فسألتها وأخبرتها بالذي قال زوجها , فقالت: صدق , فبلغنا ذلك عمر - رضي الله عنه -فأمر برجمها. (3)
وقد نوقش الدليل الرابع :
بأنه يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - رجمه لما أخبر أنه محصن ؛لأن الجلد الذي كان جلده إياه ليس من حده في شئ؛لأن حده كان الرجم دون الجلد. (4)
الرأي الراجح
بعد العرض السابق يظهر أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائل: بأنه لا يجمع بين الجلد والرجم للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن روايات الاقتصار على الرجم كلها متأخرة بلا شك عن حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - .
__________
(1) الجابية :فاعلة من جبى موضع بالشام وهو جابية الملوك ,وباب الجابية بدمشق معلوم وهو ساحل المدينة وهي قرية كثيرة القصور كثيرة الأهل على شاطئ البحر فيما يوازي المدينة , ترفأ إليها السفن من مصر و أرض الحبشة ومن البحرين وأرض الصين ونصفها في جزيرة البحر ونصفها في الساحل . معجم ما استعجم : 1/355 .
(2) الرهط :مادون العشرة من الرجال لايكون فيهم امرأة والجمع أرهط وأرهاط وأراهط . مختار الصحاح :1/109
(3) شرح معاني الأثار : 3/141,140.
(4) المرجع السابق :3/138.(3/40)
ـ أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة.
ـ أن الحد الأدنى يدخل في الحد الأعلى، والرجم هو الأعلى بلا شك، حتى إن كل الحدود لو تجمعت معه لكان كافياً، فيدخل فيه الجلد بلا شك؛لأنه لا هدف من إقامته.
ـ ما جاء في صحيح ابن حبان (تحت عنوان "ذكر خبر قد يوهم غير المتبحر في صناعة الحديث أنه مضاد للأخبار التي تقدم ذكرها،وذكر حديث عبادة - رضي الله عنه - "خذوا عني 000"وعلق عليه فقال:" قال أبو حاتم (: هذا الخبر دال على أن هذا الحكم كان من الله جل وعلا على لسان صفيه - صلى الله عليه وسلم - في أول ما أنزل حكم الزانيين، فلما رفع إليه - صلى الله عليه وسلم - في الزنى وأقر ماعز بن مالك - رضي الله عنه - وغيره بها، أمر - صلى الله عليه وسلم - برجمهم ولم يجلدهم فذلك ما وصفت على أن هذا آخر الأمرين من المصطفى- صلى الله عليه وسلم - وفيه نسخ الأمر بالجلد للثيبين والاقتصار على رجمهما."
ـ أن خبر شراحة وجلدها الوارد عن علي - رضي الله عنه - ذكره البخاري ( ولم يذكر فيه الجلد.(1)
المسألة السادسة: حد المملوك (العبد و الأمة) (2)
تحرير محل النزاع:
__________
(1) صحيح :أخرجه البخاري : كتاب المحاربين ، باب رجم المحصن ، 6/2497 .
(2) يقصد بالمملوك من كان قناً أو مدبراً أو مبعضاً أو مكاتباً .(3/41)
الإناث من الرقيق: اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة (على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة (1) لقوله تعالى " { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } (2) وإذا لم تتزوج فاتفق ابن حزم (مع الجمهور علي أن حدها خمسون جلدة (3)وخالفهم سائر الظاهرية , ففي رواية عليها جلد مائة وتغريب نصف عام وفي أخري لا حد عليها (4)
ـ أما الذكور من الرقيق: فاتفق الفقهاء علي أن حد المماليك في الردة والحرابة كحد الأحرار , واختلفوا فيما عدا ذلك من الحدود.(5)
__________
(1) ورد في الإفصاح : 2/192 "واتفقوا على أن العبد والأمة لا يكمل حدهما إذا زنيا ، وأن حد كل منهما خمسون جلدة، وأنه لا فرق بين الذكر و الأثنى وأنهما لا يرجمان ، وأنه لا يعتبر في وجوب الجلد عليهما أن يكونا تزوجا بل يجلدان سواء كانا تزوجا أم لا " وورد في مراتب الإجماع : 1/129 " اتفقوا على أن الأمة المحصنة بالزواج خاصة إذا ثبت زناها كما قدمنا في الحرة ، أنه ليس عليها إلا خمسون جلدة واختلفوا في التغريب و الرجم ".
(2) سورة النساء من الآية25
(3) المحلى: 12/68, الحاوي الكبير: 13/243, بداية المجتهد ط دار الكتب العلمية و 6/131. ورد في مراتب الإجماع ص 1/129 " واختلفوا في العبد غير المحصن بالزواج وفي المحصن أيضاً إذا زنا كما قدمنا عليه خمسون جلدة أم تمام المائة والتغريب والرجم ومقدار التغريب أم لا حد عليه .
(4) وهناك قول ثالث لأبي ثور "بأن الأمة المحصنة والعبد المحصن عليهما الرجم "المحلى:12/182, البيان :12/350 وقول للأوزاعي إذا أحصن العبد بزوجة حرة فعليه الرجم وأن لم يعتق فان كان تحته أمة لم يجب عليه الرجم أن زنا وان عتق وكذلك الأمة إذا أحصنت بزوج حر فعليها الرجم وان لمم تعتق لا تكون محصنة بزوج عبد المحلى12/181.
(5) المحلي: 12/182,181.(3/42)
سبب الخلاف:هل النصوص الواردة في الجلد والرجم تعم الحر والعبد إلا ما استثني من الإماء أو لا؟ وهل العبد كالأمة في الحكم أو لا؟ فمن ذهب إلى أن النصوص الواردة في الجلد و الرجم استثني منها الإماء وكذا العبيد قياساً عليهم، قال بأن حد العبد نصف حد الحر في الجلد، والرجم لا ينتصف فلا يقام عليهم،وهم أصحاب الرأي الأول ومعهم ابن حزم، وهو إن كان وافقهم في الحكم إلا أنه خالفهم في الطريق، حيث لا يقول بالقياس بل ثبت الحد عنده بقوله - صلى الله عليه وسلم - " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " ولا نص بوجوب الرجم، ولا بإيجاب أزيد من خمسين جلدة، ومن ذهب إلى عموم النصوص الواردة في الرجم والجلد وعدم تخصيصها حراً من عبد وعدم قياس العبيد على الإماء، ذهب إلى أن حد العبد كحد الحر(1)وكان خلافهم على رأيين: ـ
* الرأي الأول: وهو للحنفية(2)والمالكية،(3)و الشافعية(4) والحنابلة (5) وابن حزم من الظاهرية. (6)
ويرون أن حد العبد نصف حد الحر من الجلد والنفي والرجم.
* الرأي الثاني: و هو للظاهرية (7) ـ عدا ابن حزم (.
ويرون أن حد العبد كحد الحر من الجلد والنفي والرجم.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة والمعقول .
من الكتاب : فقوله تعالي { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } (8)
__________
(1) بداية المجتهد : 6/132 .المحلى : 12/184 .
(2) الهداية : 2/385 ،شرح فتح القدير :5/233 ،بدائع الصنائع :7/57.
(3) جواهر الإكليل : 2/425 ، المعونة : 2/311،312 ، حاشية الدسوقي : 6/314 ، فتح المالك : 9/ 64 وما بعدها
(4) البيان : 12/350, المهذب : 2/342, الحاوي الكبير : 13/ 205, 206.
(5) المغني والشرح الكبير:10/74, المبدع : 7/385, الكافي: 4/141.
(6) المحلي: 12/184.
(7) المحلي: 12/ 180 ، 181
(8) سورة النساء من الآية 25.(3/43)
وجه الدلالة: أن على الإماء نصف ما على الحرائر الأبكار إذا زنين من الحد فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة، ويقاس عليهم العبيد، ولم يجعل الإحصان شرطا لوجوب الحد لإفادة انه لا رجم عليهن أصلا. (1)
أما السنة :فقوله - صلى الله عليه وسلم - " ((أقيموا الحدود علي ما ملكت أيمانكم))"(2)
وجه الدلالة:
ـ في هذا النص بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد (3)، فهذا النص عام وفيه بيان لإقامة الحد علي العبد المحصن وغير المحصن فكان حدهما واحداً , حيث جاءت الآية ببيان حد المحصن وسكتت عن غير المحصن وظهر حده في هذا الأثر , وفيه رد أيضاً لقول من قال بإقامة الحد علي المحصن دون غيره لمخالفته للحديث الذي رواه البخاري (عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: إذا زنت فاجلدوها)) " (4)
أما المعقول فمن جهتين :
الأولى: أنه لا نص ولا إجماع بوجوب الرجم علي العبيد , ولا إيجاب أزيد من خمسين جلدة ونفي نصف سنة , فوجب الأخذ بما أوجبه النص والإجماع وإسقاط ما لا نص فيه و لا إجماع.(5)
__________
(1) تفسير الجلالين:لجلال الدين محمد بن أحمد المحلي وجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي،ج 1/104 طبعة دار الحديث – القاهرة،الطبعة الأولى.
(2) ضعيف:السنن الكبرى للنسائي : كتاب الرجم ،باب إقامة الرجل الحد على وليدته إذا زنت 4/799 رقم 7239, سنن البيهقي:كتاب الحدود ، باب حد الرجل أمته إذا زنت ،ج 8/245 رقم 6882، مصنف بن أبى شيبة 7/280 رقم 36088, مسند الإمام أحمد :1/95 رقم 738 ،الدارقطني :كتاب الحدود والديات وغيره ، 3/158 رقم 228 ، تلخيص الحبير:4/59 ، إرواء الغليل :7/359 .
(3) عون المعبود:12/108.
(4) صحيح : أخرجه البخاري كتاب البيوع ، باب العبد الزاني 2/756 رقم 2046, أخرجه مسلم كتاب الحدود ، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى3/1328 رقم 1704.
(5) المحلي:12/184.(3/44)
الثانية:أن حدهما إنما نقص للرق , والرق منقص للنعمة فيكون منقصا ًً للعقوبة؛ لأن الجناية عند توافر النعم أفحش, فيكون أدعي للتغليظ , والرجل والمرأة في ذلك سواء؛ لأن النصوص تشملهما.(1)
استدل أصحاب الرأي الثاني القائل :بأن حد العبد كحد الحر بالكتاب والمعقول:
من الكتاب:فقوله تعالي { ٍَ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } (2)
وقوله تعالي { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مائة جلدة } (3)
وجه الدلالة: أن حد الزاني مائة جلدة حراً كان أو عبداً , وخرجت الأمة المحصنة بقوله تعالي " فإذا أحصن " فيبقي العبد والأمة ـ التي لم تحصن ـ علي مقتضى العموم , ومن الباطل أن يريد الله تعالي أن يخص العبيد مع الإماء فيقتصر علي ذكر الإماء ويمسك عن ذكر العبيد. (4)
وفي الرجم وجدنا أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءت به علي من أحصن , وكذلك جاء عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة الرجم علي من أحصن جملة حراً كان أو عبداً, واستثنيت الأمة بأن جلدها نصف جلد الحرة ونفيها نصف الحرة. (5)
أما المعقول:
ـ أن الذكر أجرأ علي الزنا من الأمة لزيادة ما عندها من الحياء عادة علي ما عند الذكر.(6)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
__________
(1) الهداية: 2/385, بدائع الصنائع : 7/57, جواهر الإكليل : 2/425.
(2) سورة النساء: من الآية 25
(3) النور من الآية 2.
(4) مفاتيح الغيب : 23/121 ،المحلى: 12/71, 181.
(5) المرجع السابق: 12/182.
(6) الميزان الكبرى الشعرانية:لأبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن احمد الشافعي المصري المعروف بالشعراني ، ت 973 هـ، ج 2 ص 216،طبعة دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى1998 م(3/45)
ـ إنكم قد قررتم وأجمعتم علي أن حد العبد كحد الحر في الردة وفي المحاربة وفي قطع السرقة , فيلزمكم علي أصولكم أن تردوا ما اختلف فيه من حكمه في الزنا إلي ما اتفقتم فيه من حكمه في الردة والمحاربة والسرقة.(1)
مناقشة أدلة الرأي الثاني
وقد نوقش دليلهم من الكتاب:
ـ بأن الإماء هم المستثنون فقط من الحكم العام للحد دون العبيد قول غير مسلم , فالعبيد أيضاً مستثنون من الحكم العام بقوله - صلى الله عليه وسلم -(("إذا أصاب المكاتب حداً أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه , وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه"))(2) فاقتضى لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وحكمه في هذا الخبر حكم المماليك في الحد بخلاف حكم الأحرار جملة , إذ لو كان ذلك سواء لما كان لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -معني أصلاًً ولكان المكاتب الذي عتق بعضه كأنه حر كله، ثم إن هذا خلاف ما شرع الله تعالى , فإن الله ضاعف عقوبة المحصنة على غيرها , فجعل الرجم على المحصنة , والجلد على البكر، وداود ( ضاعف عقوبة البكر على المحصنة , واتباع شرع الله أولى.(3)
و نوقش دليلهم من المعقول :
بأنه لو كان كذلك لاختلف الحكم في الذكور الأحرار عن النساء , وهذا باطل إذ حكمهما واحد.
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم، يتضح أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن حد العبد خمسون جلدة ولا يرجم، للأسباب الآتية:
__________
(1) المحلى: 12/182.
(2) صحيح الإسناد:سنن الترمذي: كتاب البيوع ، باب المكاتب إذا كان عنده ما يؤدى ، 3/561رقم 1259 وقال الترمذي حديث حسن ,سنن البيهقي :: كتاب المكاتب ، باب ما جاء في المكاتب يصيب حدا، 10/325 رقم 21441 ، الدارقطني :كتاب المكاتب ، 4/121 رقم 2 ، سنن النسائي الكبرى : كتاب الفرائض ، باب توريث المكاتب بقدر ما أدى ، 4/84 رقم 6390 ، إرواء الغليل :6/162 .
(3) المغني والشرح الكبير :والشرح الكبير : 10/74.(3/46)
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من الكتاب والسنة والمعقول،وضعف أدلة المخالفين لهم.
ـ أن هذا هو الموافق للنصوص؛إذ قد فرقت بين الحر و العبد في المعاملة نظرا ًلكمال الحرية في الحر، ونقصانها في العبد.
ـ أن التفريق بين العبد والأمة قول يعوزه الدليل، حيث لا فرق بينهما لاشتراكهما في العلة التي نقص لأجلها الحد وهي الرق.
ـ أن التفريق بين المحصنة وغير المحصنة بتخفيف العقوبة في الأولى وتشديدها في الثانية قول مخالف للمنقول، وأيضاَ لا تقتضيه العقول؛نظراَ لكمال النعمة في الأولى ـ أي المحصنة ـ عن غير المحصنة.
تعقيب
هذا وقد اختلف الجمهور القائلون بتنصيف الحد على العبد و الأمة، هل على المملوك تغريب(1)أو لا؟
* الرأي الأول:وهو للحنفية(2) والمالكية(3) والشافعية في قول(4) والحنابلة(5).
ويرون عدم التغريب على المملوك أصلاً، عبدا ًكان أو أمة.
لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((إذا زنت الأمة فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها في الثالثة أو الرابعة بيعوها ولو بضفير "))(6)
__________
(1) التغريب:هو النفي عن البلد والإبعاد عنها . أصله غرب . يقال : غربت الشمس غروبا : بعدت وتوارت . وغرب الشخص : ابتعد عن وطنه فهو غريب . مختار الصحاح : 1/488 .
(2) أحكام القرآن للجصاص :3/378.
(3) منح الجليل :9/262، الفواكه الدواني :4/206 ،المنتقى شرح الموطأ : 7/146.
(4) الأم:6/168.
(5) المغني والشرح الكبير :10/74 ،كشاف القناع :6 /94.
(6) صحيح : أخرجه البخاري : كتاب البيوع ، باب بيع العبد الزاني ، ج 2/756 رقم 2046 ،أخرجه مسلم :كتاب الحدود ، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى 3 /1328 رقم 1703 .(3/47)
ـ احتج بهذا الحديث من لم ير نفي الإماء بعد إقامة الحد عليهن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولم يقل:فانفوها. (1)
ـ أنه - صلى الله عليه وسلم - كرر ذكر الجلد، فلو كان التغريب واجباً في الحد لكان الأولى أن يذكر.(2)
ـ أن المملوك لا يغرب؛ لأنه مال وفي تغريبه إضرار بمالكه، وهو لا ذنب له، ويستأنس له؛بأنه لا يرجم ولو كان محصناً؛لأن إهلاكه بالرجم إضرار بمالكه.(3)
ـ أن التغريب يكون على الحر؛لينقطع عن وطنه ومعاشه، ويلحقه ذلة بذلك فيرتدع، والعبد لا وطن له ولا معيشة ينقطع عنها بتغريبه، ثم إن التغريب في حق العبد عقوبة لسيده دونه، فلم يجب في الزنا كالتغريم.(4)
* الرأي الثاني:وهو للشافعية(5) والظاهرية (6).
ويرون التغريب على العبد والأمة نصف عام (ستة أشهر).
واستدلوا بقوله تعالي { فعليهن نصف ما علي المحصنات من العذاب } (7) فقالوا: بأن حد الأمة المحصنة علي النصف من حد الحرة المحصنة , وحد الحرة المحصنة الرجم وهو لا يتنصف , فانتقل إلي الجلد فعليها النصف من الجلد وهو خمسون والتغريب ستة أشهر والعبد كالأمة.
ـ ما ورد أن ابن عمر - رضي الله عنه -حد مملوكة له في الزنا ونفاها إلي فدك.(8)
وقد نوقش هذا الرأي بما يلي:
__________
(1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد،لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرالنمري تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي , محمد عبد الكبير البكري،ج9/106، طبعة وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية 1387 هـ.
(2) المعونة : 2/312 ،313 .
(3) أضواء البيان للشنقيطي :5/413.
(4) المعونة : 2/313 ، المغني والشرح الكبير :10/75 .
(5) الأم 6/168 .
(6) المحلى :12/173 .
(7) النساء من الآية 25.
(8) مصنف عبد الرزاق : كتاب الطلاق ، باب هل على المملوكين نفي أو رجم7/312 رقم 13316.(3/48)
أن العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير فينصرف التنصيف إليه دون غيره، بدليل أنه لم ينصرف إلي تنصيف الرجم.(1)
وأجيب عن هذا:
1 ـ أنكم قلتم أن العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير، ومع ذلك جعلتم الحد في الحر مائة جلدة مع التغريب؛ وزدتم التغريب بالسنة , وحد المملوك علي النصف من العبد , فلما أخذتم بالغريب هناك ولم تأخذوا به ههنا.
2 ـ أن هذا تفريق لا دليل علي صحته ؛لأن قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره قد ورد عاما ًبالنفي على كل من زنى ولم يحصن , ولم يخص الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -امرأة من رجل , ولا عبدا من حر.(2)
أن ما فعل ابن عمر- رضي الله عنه - ففي حق نفسه وإسقاط حقه؛ وله فعل ذلك من غير زنا ولا جناية , فلا يكون حجة في حق غيره.(3)
الرأي الراجح
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها يتبين أن أدلة كلا الفريقين لا تخلو من المناقشة , لذا فلعل ما ترتاح النفس إلي ترجيحه والقول به , هو أن العبد لا يغرب ولا تغريب علي الأمة كذلك , ومما دعى إلي ترجيحه الأسباب الآتية:
ـ أن العبد لا ضرر عليه في تغريبه , بل الذي يتضرر هو السيد بتفويت خدمته ،والخطر بخروجه من تحت يده , والكلفة في حفظه والإنفاق عليه من بُعْدِِه عنه، فيصير الحد مشروعاً في حق غير الزاني , والضرر في غير الجاني.(4)
ـ أن في القول به مراعاة لحق السيد, وحق العبد مقدم علي حق الرب ،وحق السيد في الأمة الاستمتاع , ولم يسقط الحد؛ لأنه الأصل والنفي الفرع.(5)
ـ أن النص وارد بعدم التغريب في الأمة ـ وهذا استثناء لها ،وفيه إعمال للنص في مجاله.
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/75.
(2) المحلى: 12/173.
(3) المغني والشرح الكبير:10/75.
(4) المغني والشرح الكبير:10/75.
(5) المرجع السابق 10/75.(3/49)
ـ أن الإمام البخاري(قد رجح هذا الرأي فقد بوَّب لذلك فقال: باب لا يثرب(1)علي الأمة إذا زنت ولا تنفي.(2)
ـ أن أدلة التغريب عامة واستثني منها الأمة بالنص (3) ويقاس العبد علي الأمة لاشتراكها في العلة وهي الرق.
ويتفرع على هذا مسألة بيع الأمة .
فقد ذهب الظاهرية (4) في رأي مرجوح، إلي القول بوجوب بيع الأمة إذا زنت بعد الرابعة ـ خالفوا في ذلك الأئمة الأربعة (ـ وقالوا: ّ إذا امتنع السيد عن البيع يجبره السلطان علي بيعها , حتى إنهم جعلوا عتقه لها باطل ومردود.
واستدلوا بما يلي:
ـ حمل الأمر في قوله - صلى الله عليه وسلم -" فليبعها " علي الوجوب وهذا في الأمة لا في العبد لورود النص علي الأمة فقط.
ـ أن الأمر بالجلد واجب , فكذلك الأمر بالبيع لعطف أحدهما علي الأخر.
وقد ناقش البعض هذا الرأي بما يلي:
ـ أن الأمر بالبيع في الحديث محمول علي الندب , ويجوز عطف الأمر المقتضي للندب علي الأمر المقتضي للوجوب؛ لأن الأمر بالجلد واجب والأمر بالبيع مندوب
ـ أن هذا القول لا سلف له من الأمة فلا يستقل به.(5)
ـ ادعى بعض الشافعية أن الذي صرف الأمر عن الوجوب هو النسخ.(6)
ـ وقد يجاب علي هذا الادعاء بأنه لا دليل عليه.
ـ أن الذي صرف الأمر عن الوجوب إلى الندب، النهي عن إضاعة المال؛ إذ كيف يجب بيع الأمة ذات القيمة بحبل من شعر لا قيمة له، فدل على أن المراد الزجر عن معاشرة من تكرر منه ذلك(7) وكذلك إجماع السلف على عدم وجوب البيع.(8)
المسألة السابعة:جلد المريض في الحدود.
__________
(1) التثريب: التعبير والاستقصاء في اللوم , وثرب عليه تثريباً قبح عليه فعله . مختار الصحاح: 1/35.
(2) فتح الباري: 12/171.
(3) سبل السلام :4/5, فتح الباري :12/171 .
(4) المحلى: 12/78
(5) فتح الباري:12/170, نيل الأوطار: 7/123.
(6) فتح الباري: 12/170 .
(7) المرجع السابق :12/170.
(8) نيل الأوطار :7/123.(3/50)
تحرير محل النزاع.(1)
اتفق الفقهاء على أن الحامل لا يقام عليها الحد حتى تضع حملها، واتفقوا كذلك على أن المريض سواء أكان يرجى برؤه أم لا،إذا وجب عليه الرجم فإنه يقام عليه الحد؛لأن الإتلاف مستحق عليه، فلا معنى للتأخير،(2) واختلفوا في المريض الذي حده الجلد هل يقام عليه الحد أو لا؟(3) واتفقوا كذلك على أن المريض الذي لا يرجى شفاؤه أن حده الجلد (4).واختلفوا في كيفية جلده علي آراء :
سبب الخلاف .
يرجع سبب الخلاف إلي معارضة الظواهر للمفهوم من الحد , وهو أنه يقام حيث لا يغلب علي ظن المقيم له فوات نفس المحدود ,فمن نظر إلي الأمر بإقامة الحدود مطلقاًً من غير استثناء قال: يحد المريض. ومن نظر إلي المفهوم من الحد قال:لا يحد المريض حتى يبرأ, وكذا الأمر في شدة الحر أ والبرد.(5)
.وقد اختلف الفقهاء فيه علي رأيين.
* الرأي الأول: وهو للحنفية (6) والمالكية(7) والشافعية(8) وجمهور الحنابلة.(9)
__________
(1) الإجماع لابن المنذر:1/112،مراتب الإجماع :1/131 ،بدائع الصنائع :7/59 ،المعونة :2/231 ،المهذب :2/346 ،المبدع :7/371 ،المحلى :12/91 .
(2) وهناك رأي للشافعية يقول إن ثبت زناه بالبينة رجم ، وإن ثبت بإقراره وجهان : أحدهما كمذهب الجمهور ، والثاني: يؤخر رجمه إلى أن يبرأ من مرضه ويعتدل 000 البيان :12/390
(3) المغني والشرح الكبير :: 10/72.
(4) شرح فتح القدير : 5/245,تبيين الحقائق:3/174, أسنى المطالب :3/134, مغني المحتاج:5/458 ، المغني والشرح الكبير : 10/73,كشاف القناع :6/ 83 ,.
(5) بداية المجتهد :7/133.
(6) بدائع الصنائع 7/59.
(7) المعونة: 2/312, الذخيرة: 12/82.
(8) البيان :12/385,المهذب : 2/346 ,347, الحاوي الكبير: 13/213.
(9) المبدع: 7/371, المغني والشرح الكبير :10/73, الكافي : 4/143 , 145.(3/51)
ويرون عدم جلد المريض حتى يشفى من مرضه. أما إن كان لا يرجى شفاؤه فيقام عليه الحد في الحال ولا يؤخر ,مع اشتراط أن يقام عليه الحد بسوط يؤمن معه التلف ,كالقضيب الصغير، و شمراخ النخل. فإن خيف عليه من ذلك؛ فإنه يعدل عن جلده إلي أشكال النخل فيجمع منها مائة شمراخ يضرب بها ضربة واحدة , ولا يعتبر في جلده السوط ولا العدد. قال بن حزم: الواجب أن يجلد كل واحد على حسب وسعه الذي كلفه الله تعالى أن يصبر له , فمن ضعف جدا جلد بشمراخ فيه مائة عثكول (1) جلدة واحدة.(2)
*الرأي الثاني:وهو للظاهرية (3) و بعض الحنابلة.(4)
ويرون أنه يقام علي المريض الحد ولا يؤخر رُجي برؤه أم لا , ويضرب كل على قدر تحمله .
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والمعقول :
أما السنة: فما رواه الإمام مسلم ( عن سعد بن عبيد الله عن أبي عبد الرحمن قال: (("خطب الإمام علي - رضي الله عنه -فقال:يا أيها الناس أقيموا علي أرقاء كم الحد، من أحصن منهم ومن لم يحصن , فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -زنت , فأمرني أن أجلدها , فإذا هي حديث عهد بنفاسِ فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها , فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: أحسنت."))(5)
__________
(1) العِثْكالُ والعُثْكول والعُثْكُولة العِذْق وعِذْقٌ مُعَثْكَلٌ ومُتَعَثْكِلٌ ذو عَثاكِيل ، والعُثْكُولُ والعُثْكُولة ما عُلِّق من عِهْنٍ ،أَو صُوف ، أَو زِينة فَتَذَبْذَب في الهواء ، 00والعَثْكَلة الثَّقِيل من العَدْو، والعُثْكُول والعِثْكال الشِّمْراخ وهو ما عليه البُسْرُ من عِيدانِ الكِباسة ، وهو في النخل بمنزلة العُنْقود من الكَرْم. لسان العرب :11/425
(2) المحلي: 12/91.
(3) المحلي : 12/91.
(4) المغني والشرح الكبير:10/73, المبدع : 7/371.
(5) صحيح : أخرجه مسلم : كتاب الحدود ، باب تأخير الحد عن النفساء ، ج 3/1330 رقم 1705 .(3/52)
وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعجل بجلد الأمة التي عليها دم حتى يجف عنها دمها , بل قال: للإمام علي - رضي الله عنه -ما يدل علي استحسانه ما فعل - رضي الله عنه -.
وجه الدلالة: في الحديث دلالة على أن المريض إذا لم يحتمل الجلد ضرب بعثكال فيه مائة شمراخ أو ما يشابهه. (1)
ـ وما جاء عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف فلم يرع إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال: اجلدوه ضرب مائة سوط ، قالوا: يا نبي الله هو أضعف من ذلك ،لو ضربناه مائة سوط مات،قال: فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ،فاضربوه ضربة واحدة.))(2)
قال فيه ابن حجر (: رواه الدار قطني(3) من حديث فليح عن أبي حازم عن سهل بن سعد، وقال :وهم فيه فليح، والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل، ورواه أبو داود(4) من حديث الزهري عن أبي أمامة عن رجل من الأنصار ورواه النسائي(5) من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ،فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله مرة. (6)
أما المعقول فمن وجوه:
__________
(1) عون المعبود:12/111.
(2) صحيح :سنن ابن ماجة : كتاب الحدود ،باب الكبير والمريض بجب عليه الحد 2/859 رقم 2574،,مسند الإمام أحمد:5/222 رقم 21985 .
(3) سنن الدارقطني : 2/100 رقم 67 .
(4) سنن أبي داود : 2/567 رقم 4472 .
(5) السنن الكبرى للنسائي :4/313 رقم 7309.
(6) تلخيص الحبير:4/58 ،59.(3/53)
الأولى :أن المقصود من الحد الردع والزجر دون الإتلاف , يبين ذلك أن الله فرق بين الحدود , فجعل في بعضها الرجم , وفي بعضها الجلد ؛ ولأن الإمام يقيم الحد بسوط بين السوطين خيفة القتل , فان ثبت ذلك ثم خيف علي المريض القتل وجب تأخيره.(1)
الثانية :أنه لا يجتمع عليه وجع المرض وألم الضرب فيخاف الهلاك , وجلده في هذه الحالة قد يؤدي إلي هلاكه , وهو غير مستحق عليه.(2)
الثالثة : أن المريض الذي لا يرجى شفاؤه لا يمكن ضربه بالسوط؛لأنه يؤدي إلي تلفه , ولا يمكن تركه لأنه يؤدي إلي تعطيل الحد.(3)
الرابعة: أنه لا يخلو أن يقام عليه الحد علي ما ذكرنا ,أولا يقام أصلا ً, أو يضرب ضرباً كاملاً ، ولا يجوز تركه بالكلية؛ لأنه يخالف الكتاب والسنة , ولا يجوز جلده جلداً تاماً؛لأنه يفضي إلي إتلافه مستعين ما ذكرناه, والضربة الواحدة تقام في حال العذر مقام مائة, كما قال تعالى :في حق أيوب - عليه السلام - { وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } (4)وهذا أولى من ترك حده بالكلية أو قتله بما لا يوجب القتل.(5)
الخامسة : أن المريض الميئوس من شفائه إما أن يترك لمرضه فلا ينفذ عليه الحد , أو ينفذ كاملاً , فيفضي ذلك إلي موته , فتعين التوسط في الأمر، وجلده جلدة واحدة بمائة شمراخٍ, وليس ثمة ما يمنع من أن تقام الضربة الواحدة بمائة شمراخ مقابل المائة ضربة.(6)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة .
أما الكتاب: فقوله تعالي " { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } (7)
وجه الدلالة:
__________
(1) المعونة : 12/321.
(2) بدائع الصنائع : 7/95, شرح فتح القدير : 5/245, البيان : 12/385.
(3) البيان: 12/386.
(4) سورة ص آية 44.
(5) المغني والشرح الكبير:10/73.
(6) التشريع الجنائي الإسلامي: 2/453.
(7) البقرة من الآية 286.(3/54)
نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية شيئاً من أعمال القلب أو الجوارح حتى تكون في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته(1)وفي هذا دليل علي أنه لا يجلد أحد إلا علي حسب طاقته من الألم.
ـ و بقوله تعالي { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (2)
وجه الدلالة:
أن من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهو حر بكر غير محصن بزوج فاجلدوه ضربا مائة جلدة عقوبة لما صنع. (3)
أما السنة: فما جاء عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -من الأنصار :"أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني(4) فعاد جلدة على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني قد وقعت على جارية دخلت علي، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقالوا:ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم،فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة "))(5)
وجه الدلالة:
__________
(1) تفسير القرطبي:3/429.
(2) النور من الآية 2.
(3) تفسير الطبري:9/256.
(4) يقال تضنى الرجل إذا تمارض و أضنى إذا لزم الفراش من الضنى وفي الحديث في الحدود إن مريضا اشتكى حتى أضنى أي أصابه الضنى وهو شدة المرض حتى نحل جسمه.لسان العرب :14/486.
(5) صحيح : سنن أبي داود كتاب الحدود باب في إقامة الحد على المريض :4/161 رقم 4472 ،السنن الكبرى للنسائي : كتاب الرجم ،ا لضرير في الخلقة يصيب الحدود 4/313 رقم 7301،سنن البيهقي : كتاب الأيمان ، باب من حلف ليضربن عبدة مائة سوط10/64 رقم19815 .(3/55)
في الحديث دلالة علي إقامة الحد علي المريض دون تأخير فإذا لم يحتمل الجلد ضرب بعثكال فيه مائة شمراخ أو ما يشابهه. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
وقد نوقش دليلهم الأول من السنة:
بأنه لا حجة فيه؛ لأن الدم كان أثر الولادة , وفي حالة سيلانه شغل شاغل لها ومثلها أن لا تجلد في تلك الحالة،كَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ , أَوْ هُوَ فِي حَالِ الْغَائِطِ , أَوْ الْبَوْلِ , وَلَا فَرْقَ , وَانْقِطَاعُ ذَلِكَ الدَّمِ قَرِيبٌ , إنَّمَا هِيَ سَاعَةٌ أَوْ سَاعَتَانِ - وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ إذَا طَهُرَتْ , إنَّمَا قَالَ: إذَا جَفَّتْ مِنْ دَمِهَا.(2)
وقد أجيب عن هذا:
بأن الأمر مطلق ولا دليل على هذا التخصيص.
وقد نوقش دليلهم الثاني من السنة بما يلي:
أنه قال: فيه ابن المنذر (في إسناده مقال. (3)
وقد أجيب عن هذا:
بأنه ورد من عدة طرق كلها محفوظة , قال ابن حجر: رواه الشافعي عن سفيان عن يحيي بن سعيد وأبي الزناد وكلاهما عن أبي أمامة ,ورواه البيهقي وقال: هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلا ً, وراه أحمد وابن ماجة.(4)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب :
بأن هذا ليس فيه تعطيل للحد , وإنما فيه تأخير لحين البرء المرجو لئلا يؤدي الحد إلي التلف , ودرء المفسدة في هذا ـ وهي التلف ـ مقدم علي جلب المصلحة وهو التطهير من الحد.
ونوقش دليلهم من السنة:
بأن هذا المريض لا يرجى برؤه فأقيم عليه الحد مع التخفيف؛ لئلا يتعطل الحد , فنحن لا نمنع هذا ـ ويدل علي كونه لا يرجى برؤه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما يبقي الضرب من هذا شيئا فدل هذا علي أنه مريض مرضاً مزمناً.
الرأي الراجح
__________
(1) عون المعبود:12/111.
(2) المحلى :12/89 ،90 .
(3) المغني والشرح الكبير:10/73.
(4) تلخيص الحبير: 4/58 , 59.(3/56)
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة يبدو لي أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول القائل :بعدم جلد المريض حتى يشفى من مرضه، و بإقامة الحد على المريض الذي لا يرجى شفاؤه بسوط يؤمن معه التلف وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وموافقتها لمشروعية الحدود في الإسلام.
ـ أن الهدف من إقامة الحد هي الردع والزجر لا الانتقام والإتلاف , وفي الأخذ بهذا إظهار لهذا الهدف.
ـ أن في تأخير الحد ليس تعطيلا له ,بل صونا للنفس عن الإتلاف .
ـ لما في هذا الرأي من الحفاظً علي المريض من الإتلاف , ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -هذا.
المسألة الثامنة: صفة الضرب في الحدود وبأي شيء يكون.
* صفة الضرب:
اتفق الفقهاء في صفة الضرب بأنه لا يكسر عظماً, ولا يشق جلداً,ولا يسيل دماً , بل يكون ضرباً بين ضربين ليس بالمبرح , لكن لا يفضي إلي الهلاك , ولا غير مؤلم؛ لأنه لا يحدث به الإنزجار. (1)
واتفقوا في أن الضرب بالسوط جائز , واختلفوا فيما عداه إلي ما يلي:
* الرأي الأول: و هو للحنفية(2)و المالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة (5)
ويرون أن الضرب يكون بسوط لا ثمرة له، ليس بالجديد ولا بالخلق.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية. (6)
ويرون أن الضرب بالسوط جائز،ولكن لا يشترط أن يكون إقامة الحد بسوط بعينه، بل تجوز بسوط، أو بحبل،أو كتان أو صوف وكذا حد الخمر يجوز أن يكون بسوط لا يكسر ولا يجرح.
الادلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة:
__________
(1) الهداية :2/384 ,المدونة الكبرى: 4/404, , البيان: 12/384, الحاوي:13/214, المبدع:7/399, المحلي:12/83.
(2) الهداية:2/384،شرح فتح القدير:5/230.
(3) المدونة:4/404،الذخيرة:12/ 80،81.فتح المالك:9/52 وما بعدها.
(4) المهذب:2/368،البيان:12/383، الحاوي الكبير 13/203.
(5) المبدع:7/368.
(6) المحلى:12/86،85.(3/57)
ـ بما رواه زيد بن أسلم - رضي الله عنه - "((أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى , فدعا رسول - صلى الله عليه وسلم - بسوط , فأتي بسوط مكسور , فقال: فوق هذا , فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته , فقال: بين هذين , فأتي بسوط قد ركب به ولان , فأمر به فجلد ")) (1)
وجه الدلالة: قال ابن عبد البر:"وفي هذا الحديث من الفقه أن الحدود لا تقام إلا بسوط قد لان." (2)
ـ قال القرطبي (: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين لا شديدا ولا لينا. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ } (4)، وأيضاً قوله تعالى: { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } (5)
أما السنة: فقوله- صلى الله عليه وسلم - "((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد 000")) (6)
وجه الدلالة: أن هذه الآيات والأحاديث مطلقة في وصف الجلد، ولم تخص سوطاً دون سوط.
__________
(1) حسن لغيره :البيهقي:كتاب الأشربة والحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط والضرب:8 /326،رقم 17352، الموطأ: 2/826 رقم 1508، تلخيص الحبير:4/77 وقال فيه: وهذا مرسل وله شاهد عند عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير نحوه وآخر عن بن وهب من طريق كريب مولى بن عباس بمعناه فهذه المراسيل الثلاثة يشد بعضها بعضا.
(2) التمهيد:5/327.
(3) تفسير القرطبي:12/143.
(4) النور من الآية 2.
(5) النور من الآية 4.
(6) صحيح: سنن النسائي الكبرى: كتاب الرجم باب إقامة الرجل الحد على وليدته .(3/58)
أما المعقول:فإن الله - سبحانه وتعالى - لو أراد أن يكون الجلد في شئ من الحد بسوط دون سوط لبينه لنا على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن،وفي وحي منقول إلينا ثابت؛ كما بيَّن صفة الضرب في الزنا، وكما بين حضور طائفة من المؤمنين للعذاب؛ فإذا لم يفعل ذلك فبيقين ندري أن الله لم يرد قط أن يكون الضرب في الحدود بسوط خاص دون سائر ما يضرب به. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
وقد نوقش دليلهم الأول من السنة من جهتين:
الأولى: أن هذا الحديث مرسل(2)ولا حجة في مرسل.(3)
وقد أجيب عن هذا:بأن الأحاديث المرسلة يقوي بعضها بعضا، كما قال ابن حجر ((4)وحديث زيد بن أسلم - رضي الله عنه - وإن كان مرسلاً إلا أن له شاهد عند عبد الرزاق (عن معمر عن يحي بن أبي كثير(نحوه، وآخر عند ابن وهب من طريق كريب مولى ابن عباس - رضي الله عنهم -،فهذه المراسيل الثلاثة يشد بعضها بعضاً. (5)
الثانية: هذه الآثار لو صحت لما كان لهم في شئ منه حجة؛لأنه ليس في شئ منها أن لا تجلد الحدود إلا بسوط هذه صفته، وإنما فيه أن الحد جائز أن يضرب بسوط هذه صفته. (6)
وقد أجيب عن هذا: أن هذا القول غير مسلم؛لأنه لم يرد في الجلد إلا كونه بسوط هذه صفته، ولا دليل على غيره، ولا أدل على هذا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
__________
(1) المحلى: 12/ 85.
(2) المرسل: قول التابعي الكبير قال رسول الله (كذا، أو فعل كذا. تدريب الراوي: 1/195.
(3) المحلى: 12/84.
(4) تلخيص الحبير: 4/77،" وقد علق الألباني على قول ابن حجر (فقال: وفيه نظر لاحتمال رجوع هذه المراسيل إلى شيخ تابعي واحد ويكون مجهولاً" إرواء الغليل:7/364.
(5) تلخيص الحبير: 4/77.
(6) المحلى:12/85.(3/59)
نوقش دليلهم من المعقول بما يلي: أن هذا الإطلاق في وصف الجلد والسوط خصص بالأحاديث التي تبين صفة هذا السوط، وورود هذا عن الصحابة - رضي الله عنهم -، والأحاديث وإن كانت مرسلة إلا أنها يقوي بعضها بعضا كما قال ابن حجر(.
ثم إنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم -أنه جلد في أي من الحدود ـ عدا الخمر ـ بالحبال والصوف بل والوارد عنه بالسوط فيقتصر عليه دون غيره , ولا نص في غير ذلك , والقول بالحبال والكتان وغيرها من قبيل القياس علي السوط , وهم لا يقولون به.
الرأي الراجح
الواقع أن الخلاف يسير بين الظاهرية والجمهور؛ لأن الظاهرية قالوا: بجواز السوط لا بوجوبه، فاتفقوا مع الجمهور في هذا القدر , ومع هذا فالرأي الراجح هو أن الضرب في الحدودـ عدا الخمر ـ لا يكون إلا بالسوط , وصفته بينتها الأحاديث , هذا إذا كان المحدود صحيحاً،أما إذا كان مريضاًَ فيكون بما لا يسبب له التلف؛ كقضيب صغير , أو عثكال نخل.
ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤثر عنه أنه ضرب في الحدود ـ عدا الخمر ـ بغير سوط ولا جاء هذا عن الصحابة - رضي الله عنهم -.
ـ قوة أدلتهم من المنقول والمعقول , وسلامتها من المناقشة , وضعف دليل المخالفين. قال القرطبي (: أجمع العلماء على أن الجلد بالسوط يجب والسوط الذي يجب أن يجلد به يكون سوطا بين سوطين لا شديدا ولا لينا. (1)
المسألة التاسعة: الرجوع عن الإقرار بما يوجب الحد.
تحرير محل النزاع و سبب الخلاف:
اتفق الظاهرية مع الجمهور، في أن الحر البالغ إذا أقر بحق من حقوق الآدميين أنه يلزمه إقراره،ولم يكن له الرجوع فيه، واختلف الفقهاء فيمن اعترف بالزنا ثم رجع أيقبل منه الرجوع ويسقط عنه الحد،أم أنه يقام عليه الحد ولا يترك؟ خلاف بين الفقهاء. (2)
__________
(1) تفسير القرطبي:12/143.
(2) الإفصاح لابن هبيرة:2/11، مراتب الإجماع:214، المحلى: 7/103.(3/60)
ويرجع سبب الخلاف إلى اختلاف وجهة نظر الفقهاء في فهمهم للنصوص الواردة من ناحية،واختلافهم في اشتراط ثبوت المقر على إقراره وعدم رجوعه عنه إلى تمام الحد ،من ناحية أخرى. (1)
* الرأي الأول: وهو للحنفية(2) والمالكية في الرواية الراجحة(3) الشافعية(4) والحنابلة.(5)
ويرون أنه إذا أقر الشخص بما يوجب الحد من حقوق؛ كالزنا والشرب والسرقة ثم رجع عنه قبل إقامة الحد أو في أثنائه، سقط عنه الحد.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية.(6)
ويرون أنه إذا رجع عن الإقرار بما يوجب الحد لا يقبل رجوعه إلا إذا وصل الإقرار بما يفسده كزوال العقل والإكراه، فلا يلزمه شئ، ورأي ذلك المالكية(7) في حالة ما إذا رجع بغير شبهة.
الأدلة:
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والمعقول و القياس.
__________
(1) إثبات الزنا: د/محمد حسين قنديل، بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والقانون بدمنهور ، العدد الثامن عشر . الجزء الأول ، عام 1424هـ / 2003 م ، ص740.
(2) الهداية:2/382، بدائع الصنائع:7/61، شرح فتح القدير: 5/222، 223.
(3) المدونة:2/383، حاشية الدسوقي: 6/33، بداية المجتهد:6/135، المعونة:2/314.
(4) الأم: 6/167، البيان:12/374، المهذب: 2/348، الحاوي الكبير: 13/210 وما بعدها.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/88، المبدع: 7/374.
(6) المحلى:7/100.
(7) المعونة: 2/314،بداية المجتهد: 6/135.(3/61)
أما السنة : فما روي أن ماعزاً - رضي الله عنه - لما أقر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقنه الرجوع بقوله لعلك قبلتها، لعلك مسستها، ثم إنه لما هرب و تبعه الصحابة - رضي الله عنهم - حتى قتلوه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه.(1) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل هروبه رجوعا وقال فهلا تركتموه.(2) هذا أوضح الدلائل على أن المقر بالحدود يقبل رجوعه إذا رجع؛لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل هروبه وقوله ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجوعا وقال: فهلا تركتموه.(3)
وجه الدلالة:أن قوله - صلى الله عليه وسلم - يعتبر من قبيل التلقين بالرجوع، فلو لم يكن محتملاً للسقوط بالرجوع لما كان للتلقين معنى , وتقيد ذلك أن المقر بالزنا إذا رجع عن إقراره قبل منه، وكان ذلك توبة له , ولا يقام عليه الحد حيث إن الإسلام يحب الستر ويكره إشاعة الفاحشة , قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (4)
__________
(1) ونص الحديث كما أخرجه البخاري:6/2502 رقم 6438، باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست أو غمزت،" عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال لما أتى ماعز بن مالك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال لا يا رسول الله قال أنكتها لا يكني قال فعند ذلك أمر برجمه.
(2) التمهيد:12/113.
(3) الاستذكار:لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري تحقيق: سالم محمد عطا، علي محمد معوض،ج 7/503،طبعة دار الكتب العلمية - بيروت،الطبعة الأولى، 1421 - 2000،تحفة الأحوذي:4/576.
(4) النور آية 19.(3/62)
أما المعقول: فالرجوع خبر يحتمل الصدق , وليس أحد يكذبه فيه فتتحقق به الشبهة في الإقرار السابق عليه فيندرئ بالشبهة ; لأنه أرجح من الإقرار السابق(1)، والحدود تدرأ بالشبهات.
ـ أنه حد من حدود الله يثبت بقوله فجاز أن يسقط برجوعه، كالردة؛لأن ما ثبت من حدود الله بالقول يجب أن يسقط بالقول، قياسا على رجوع الشهود. (2)
أما القياس: فقياس الرجوع عن الإقرار برجوع الشهود عن شهادتهم قبل إقامة الحد؛ لأنه إذا رجع عن إقراره صار منكراً له، ومحال أن يقام عليه حد وهو منكر له بغير بينة. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والقياس.
أما السنة : فما جاء عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:"((كنت فيمن رجم الرجل إنا لما خرجنا به فرجمناه ،فوجد مس الحجارة صرخ بنا يا قوم ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير قاتلي، فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به ليستثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأما لترك حد فلا.")) (4)
__________
(1) الهداية: 2/382.
(2) الحاوي الكبير: 13/210.
(3) فتح العلي المالك:9/53.
(4) حسن: سنن أبو داود:كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك 4/145 رقم 4420، مسند الإمام أحمد:3/381 رقم15130، السنن الكبرى للنسائي:كتاب الرجم، إذا اعترف بالزنا ثم رجع،ج 4/291 رقم 7207، 38781، إرواء الغليل: 7/354.(3/63)
وجه الدلالة: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لأجل الاستيتاب، أو لأجل الاستثبات ،و الاستفصال، فإن وجد شبهة يُسقط بها الحد أسقطه لأجلها، وإن لم يجد شبهة أقام عليه الحد، وليس المراد أن النبي أمرهم أن يدعوه، وأنَّ هرب المحدود من الحد من جملة المسقطات(1) ؛ إذ لو سقط لصار ماعز- رضي الله عنه - مقتولا قتلاًخطأ فتجب الدية على عواقل القاتلين. (2)
أما المعقول:فإن الحد قد لزمه بإقراره فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به.
المناقشة
ـ نوقشت أدلة الرأي الأول بما يلي:
ـ أن حديث ماعز - رضي الله عنه - لا حجة لهم فيه أصلا , لأنه ليس فيه: أن ماعزا - رضي الله عنه - رجع عن الإقرار البتة , لا بنص , ولا بدليل، ولا فيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن رجع عن إقراره قبل رجوعه أيضا البتة , فكيف يستحل مسلم أن يموه .. بخبر ليس فيه شيء مما يزعم؟ وإنما روي عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أنه قال: كنا نتحدث أن ماعزا , والغامدية - رضي الله عنهم - لو رجعا بعد اعترافهما , أو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، 0000 , وقد قال جابر - رضي الله عنه -: أنا أعلم الناس بأمر ماعز - رضي الله عنه - إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلا تركتموه وجئتموني به "؟ ليستثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -منه , فأما لترك حد فلا. (3)
وقد أجيب عن هذا: بأن مجرد تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعزٍ- رضي الله عنه - هو في ذاته تلقين بالرجوع، و لو لم يكن فيه تصريح، وخبر جابر - رضي الله عنه - لنا لا لكم و إلا ما الفائدة من طلب الني - صلى الله عليه وسلم - له واستثباته منه إلا إسقاط الحد خاصة أنه قد ظن في عقله شئ لما أقر على نفسه، وهذا دليل أكيد على درء الحد بالشبهة، وقد ورد في أخري هلا تركتموه.
__________
(1) عون المعبود:12/68.
(2) تحفة الأحوذي:4/577.
(3) المحلى :7/103 .(3/64)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:نوقش دليلهم من السنة من جهتين:
أ ـ ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم وغيرهم - رضي الله عنهم - أن ماعزا ً لما هرب قال لهم: ردوني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -:هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه، ففي هذا أوضح دلالة على أنه يقبل رجوعه، وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه؛ لأنه لم يرجع صريحا لأنه هرب وبالهرب لا يسقط الحد(1)،هذا كله فيمن كلفه السلطان بإقامة حد من الحدود فلا يضمن ما لم يكن متيقنا ً أن السلطان جائر في حكمه، وعلى هذا فلا ضمان على الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنهم مكلفون من النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2)
ب ـ أن طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - له لعله دلالة على أن الذي يأمر بإقامة الحد هو الإمام، والذي يأمر كذلك بإسقاطه هو الإمام أو نائبه.
وقد نوقش دليلهم الثاني بما يلي :
ـ أن الحد لزمه بإقراره هو وقد رجع، وكلاهما خبر يحتمل الصدق والكذب، فأصبح شبهة يندرج بها الحد،(3)والأدلة على سقوط الرجوع بالإقرار كثيرة منها: تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً - رضي الله عنه - بالشبهة التي يندرأ بها الحد، وإذا لم يكن كذلك فما الفائدة من التلقين، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة - رضي الله عنهم - هلا تركتموه لعله يتوب، وما معنى الترك إلا قبول رجوعه.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، يظهر أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول : بقبول رجوع المقر عن إقراره ، وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم من المنقول والمعقول.
ـ أن الحد ثبت بإقراره، والرجوع خبر يحتمل الصدق والكذب، فتتحقق الشبهة؛ لأنه ليس أحد القولين أولى بالقبول من الآخر.
__________
(1) تحفة الأحوذي:4/577.
(2) نيل الأوطار:7/103، إثبات الزنا: 743.
(3) تبيين الحقائق:3/167.(3/65)
ـ أن الأخبار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -، كلها تؤيد مثل هذا القول ضمنا أو صراحة.
المسألة العاشرة: إقرار العبد بما يوجب الحد
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:ـ
* الرأي الأول: وهو للحنفية(1) والمالكية(2) والشافعية (3)والحنابلة (4) وابن حزم من الظاهرية .(5)
ويرون أنه يصح إقرار العبد بما يوجب الحد.
قال ابن المنذر:(6)"وأجمعوا على أن العبد إذا أقر بالزنا أن الحد يجب عليه، أقر بذلك المولى أو أنكر."
* الرأي الثاني: وهو لبعض الظاهرية (7)
ويرون القول بعدم قبول إقرار العبد بما يوجب الحد.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي: ـ
ـ قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } (8)
وجه الدلالة: أمر الله بقبول شهادة المرء على نفسه وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها. (9)
ـ أن العبد مبقي على أصل الحرية فيما هو من خواص الآدمية؛ وذلك لأن وجوب العقوبة بناء على الجناية , والجناية بناء على كونه مكلفاً , وكونه مكلفاً من خواص الآدمية. (10)
ـ أن الحق في الإقرار دون المولى بموجب آدميته وتكليفه ـ ولهذا لا يصح إقرار المولى عليه؛لأن المولى لا يملك من عبده إلا المال. (11).
استدل أصحاب الرأي الثاني بما يلي:
__________
(1) الهداية: 3/200,تبيين الحقائق:: 5/30, بدائع الصنائع: 7/50.
(2) المدونة الكبرى: 4/384.
(3) تحفة المحتاج:2/346.
(4) المغني: 5/151 , 152 طبعة دار البصائر.
(5) المحلى: 12/64.
(6) الإجماع:112.
(7) المحلى: 12/63.
(8) النساء من الآية 135.
(9) تفسير القرطبي:5/410.
(10) حاشية الشلبي على تبين الحقائق: 5/3.
(11) المغني: 5/151 , 152 طبعة دار البصائر.(3/66)
ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى َ } (1)
وجه الدلالة في هذه الآية من جهتين: ـ
1ـ أن العبد وإن كان شاهداً على نفسه إلا أنه كاسب على غيره؛ لأنه بذلك يؤدي إلي نقص مال سيده. (2)
2ـ أن العبد مال وبإقراره على نفسه يكون مقراً في مال سيده. (3)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الثاني بما يلي:
أولاً: أن العبد كاسب على نفسه بإقراره , قال القرطبي (:فإن أقر العبد بالزنى وأنكره المولى فإن الحد يجب على العبد لإقراره ولا التفات لما أنكره المولى. (4)
ثانياً: أنه لو صح هذا القول لوجب ألا يجلد العبد في زنا ولا في سرقة ولا في خمر ولا في قذف , ولا في حرابة , وإن قامت بذلك بينة , وأن لا يقتل في قود؛ لأنه في ذلك كاسب على غيره , وفي إقامة الحد عليه إتلاف لمال سيده , وهذا ما لا يقول به أحد.. (5)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة أدلة الرأي الثاني، يتبين أن الرأي الراجح منها هو رأي الجمهور القائل: بصحة إقرار العبد، وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة .
ـ أن العبد وإن كان ملكاً لسيده إلا أنه آدمي مكلف , تجري عليه أحكام ديانته
ـ أن إقامة الحد بإقراره تطهير له من الذنب , وملكية السيد له لا تمنعه من طلب هذا الأمر خاصة وأنه لا خطر على السيد في ذلك , وبناء على هذا لو أقرّ العبد بسرقة موجبها القطع وجب قطعه , ولم يجب رد المال سواء أكان ما أقر بسرقته باقياً أو تالفاً, في يده أو في يد سيده.
المسألة الحادية عشرة: شهادة النساء لإثبات الزنا
* تحرير محل النزاع:
__________
(1) الأنعام من الآية 164.
(2) المحلى: 12/64.
(3) المحلى: 7/105.
(4) تفسير القرطبي:5/145.
(5) المحلى: 7/105, 12/64.(3/67)
من المتفق عليه أن حد الزنا لا يثبت إلا بأربعة رجال من المسلمين عدول(1)، وذلك لأن ما يتوقف ثبوته على أربعة شهود أندر مما يتوقف ثبوته على ما دونه ، إذ كلما كثرت شروط الشيء قل وجوده , وهذا مما يؤدي إلى عدم إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي , أما بقية الحدود فتثبت بشهادة اثنين.
ـ واختلفوا هل يقبل مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عادلتان؟ خلاف بين الفقهاء على رأيين:
* الرأي الأول:وهو للحنفية(2)والمالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة. (5)
ويرون عدم قبول شهادة النساء لإثبات حد الزنا.
*الرأي الثاني:وهو للظاهرية . (6)
ويرون قبول مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عادلتان، فعلى هذا تقبل شهادة النساء عندهم في إثبات حد الزنا.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب و السنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ } (7)
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/214،المعونة:2/316، المغني والشرح الكبير: 10/89، تحفة المحتاج: 4/420، المحلى: 8/476،رحمة الأمة ص 499،مراتب الإجماع :ص 53، الإجماع لابن المنذر:112، وفيه "وأجمعوا على أن الشهادة على الزنا،أربعة لا يقبل أقل منهم ".الإقناع في مسائل الإجماع :2/257 .
(2) الاختيار لتعليل المختار:3/80، شرح فتح القدير: 5/214، تبيين الحقائق: 3/164، حاشية رد المحتار: 6/8.
(3) المعونة:2/ 316، المدونة الكبرى: 4/405، حاشية الدسوقي: 6/311،أحكام القرآن لابن العربي:1/459.
(4) الأم:6/137، تحفة المحتاج: 4/420، الأحكام السلطانية للماوردي: 280.
(5) المغني :10/89 ، كشاف القناع :6/101 .
(6) المحلى: 8/476.
(7) النساء من الآية15(3/68)
وجه الدلالة: أن الله - سبحانه وتعالى - جعل الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد وتعديل الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن. (1)
وبمعنى آخر: إن النصوص قاطعة في أن عدد الشهود لا يقل عن أربعة، وأن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتين، عملا ً بقوله تعالى: { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } (2)، فإذا كان لفظ الأربعة اسم لعدد الشهود، فإن ذلك يقتضي الاكتفاء بشهادة أربعة،ولا شك أن الأربعة إن كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم؛إذ أقل ما يجزئ في هذه الحالة خمسة على فرض أن بينهم امرأة واحدة. (3)
أما السنة : فما روي عن الزهري ( قال: " مضت السنة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،والخليفتين من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود. (4)
أما من المعقول :فإن في شهادتهن شبهة، لتطرق الضلال إليهن،قال تعالى: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } (5)والحدود تدرأ بالشبهات. (6)
ـ أنه حكم يثبت في البدن، لا يختص النساء بالإطلاع عليه، فلم يقبل فيه إلا الرجال؛ كالطلاق و العتاق والقتل.(7)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والمعقول.
__________
(1) القرطبي:5/83 روح المعاني:لأبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي ت270 هـ،ج4/234 طبعة دار إحياء التراث.
(2) البقرة من الآية 282.
(3) شرح الزركشي:6/299،التشريع الجنائي الإسلامي:2/410.
(4) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الحدود، باب شهادة النساء في الحدود، ج 5/533 رقم 28714، تلخيص الحبير:4/207، نصب الراية:4/101.
(5) البقرة من الآية 282.
(6) المغني والشرح الكبير:10/89،الكافي:4/139.
(7) المعونة:2/316.(3/69)
أما السنة :فما جاء عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال :خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال:يا معشر النساء تصدقن ، فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها.)) (1)
أنه - صلى الله عليه وسلم - قطع بأن شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فوجب ضرورة أنه لا يقبل حيث يقبل رجل ـ لو شهد ـ إلا امرأتين. (2)
ـ ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"((شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل.")) (3)
أما المعقول : أ نه لا فرق بين امرأة وبين رجل , وبين رجلين , وبين امرأتين , وبين أربعة رجال , وبين أربع نسوة , في جواز تعمد الكذب والتواطؤ عليهم , وكذلك الغفلة - ولو حينا - إلى هذا , لكن النفس أطيب على شهادة ثماني نسوة منها على شهادة أربعة رجال. (4)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
نوقش دليلهم من الآثار:بأنه منقطع من طريق إسماعيل بن عياش ،وهو ضعيف. (5)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الحيض،باب ترك الحائض الصوم 1/116 رقم 298.
(2) المحلى:8/487.
(3) صحيح: أخرجه مسلم: كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات،ج 1/86، رقم 79.
(4) المحلى:8/488.
(5) المرجع السابق:8/488.(3/70)
نوقشت أدلتهم من السنة:بأنها نصوص عامة جاءت لبيان أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ولا دليل فيها على قبول شهادة المرأة أو عدمها في الحدود،وهذا العموم مخصص بالآثار الواردة بعدم قبول شهادتهن في الحدود.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يتضح أن ما قال به الجمهور من رد شهادة النساء في الزنا هو الأولى بالقبول ؛للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن القول به يتفق مع صريح الآيات والسنة الشريفة.
ـ أن هذا لا يعني ضعف مكانة المرأة في المجتمع الإسلامي، وعدم اعتناء الشرع الحنيف بشهادة المرأة في الحدود، وإنما طبيعة المرأة وتكوينها هي التي تحتم هذا الأمر، لما عرف عن المرأة من رقة المشاعر وتقلب العاطفة في تصرفاتها. (1)
ـ أن الفروج والدماء يحتاط فيها مالا يحتاط في غيرها، والمرأة ربما يعتريها نسيان،فأغلق هذا الباب صونا ً لدماء المسلمين وأعراضهم.
المسألة الثانية عشر ة: شهادة أقل من أربعة في الزنا.
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء أن من كانت عنده شهادة في حد من حدود الله، فالمستحب أن لا يشهد به؛ لأنه مندوب إلى الستر لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهزال - رضي الله عنه - "((يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيراً لك ")) (2)
__________
(1) إثبات الزنا:ص 762.
(2) صحيح الإسناد: السنن الكبرى للنسائي: كتاب الرجم،باب ذكر الاختلاف في هذا الحديث على يحيى بن سعيد 4/306 رقم 7276، المستدرك على الصحيحين:4/43،وقال فيه الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه،سنن البيهقي:كتاب الحدود، باب من أجاز أن لا يحضر الإمام المرجومين ولا الشهود:8/219رقم 16735،تلخيص الحبير:4/68، نصب الراية:3/313.(3/71)
واتفقوا كذلك على انه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة،(1)جاء في المغني (2) " أجمع المسلمون على أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود."، واتفقوا كذلك على أن القاذف الذي يجئ منفردا ً لا يخلص من الحد إلا أن يأتي بأربعة شهداء غيره.
واختلفوا في معاملة الشهود إذا قل عددهم عن أربعة فذهب فريق إلى اعتبارهم قذفة، ومن ثم يحدون حد القذف، والقذف عندهم يتقرر في حالتين:
ـ حالة مجيء الشاهد منفردا،أو مجيء أكثر من واحد ولكن في مجالس متعددة فمثل هذا قاذف لا شاهد.
ـ حالة عدم اكتمال نصاب الشهود أربعة فلا يطلق عليهم لفظ بينة ـ أي شهود ـ بل هم قذفة.
وذهب فريق إلى أنهم لا يحدون للقذف.
* سبب الخلاف:
ـ يرجع سبب الخلاف إلى التفرقة بين القاذف والشاهد(3)
__________
(1) الإقناع في مسائل الإجماع :2/257 .
(2) المغني:9/147، ط/دار البصائر.
(3) القاذف:هو الرامي ومن قذف المحصنة فقد رماها، فهناك خيط غير مدرك بين القاذف والشاهد، فالقاذف للمرأة هو ذلكم الذي أخرج اتهاما من فمه يدل على زناها وهو ما يسمى بالرمي، وهو حتما وليد الرؤية أو البهتان؛ أما الشاهد فهو الرجل الذي لم يعلن ما شاهده ورآه إلا عندما يدعى إلى الشهادة، فمن دعي إلى شهادة ليس كمن بادر بإعلانها،فالشاهد ليس بقاذف لأنه ملزم بإبداء الشهادة على وجهها حين الدعوة إليها عملاً بقوله تعالى:{ وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ }البقرة من الآية 282.
الخلاصة:أن القاذف شاهد لكنه مجاهر بإعلان ما رأى ويلزمه لصحة دعواه وإعلانه أن يدعوا أربعة غيره لم يسبقوه بالإعلان إلا عند الطلب، والشاهد هو رجل مدعو لاستخراج ما رآه ولم يعلنه أو يتكلم به إلا حين طلبه، فحينها لا يعاقب على شهادته ـ ولو تفرد ـ؛لأن عذره طلبه إليها، ولذلك يسمى الزوج الذي رأى زوجته تزني و أعلن رؤيته قاذفا ً، وشاهدا ً إذا دعي إلى إبرازها باليمين (اللعان)، فسمي قاذفا وشاهدا. هامش المحلى:12/212، باختصار يسير
تعقيب: القول بأن الشاهد لا يعاقب ـ ولو تفرد ـ كلام منطقي، إلا أنه يخالف ما جاء عن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -؛ حيث أقام الحد على الشهود، ولا نملك حيال ذلك إلا الخضوع للنص إن صح ـ وهو صحيح ـ وترك ما أدي إليه العقل إن لم يكن ثمة وسيلة للجمع بينهما، ثم إن القياس على حالة الزوج قياس غير صحيح؛لأن الزوج له حالة خاصة لا يشاركه أحد فيها.(3/72)
فمن اعتبر هذا الفرق قال: بعدم حد الشاهد، ومن لم يعتبر هذا الفرق فالكل عنده قذفة إذا لم يكمل عدد الشهود أربعة، و يحدون للقذف .أما الذي بادر فأعلن ما رأى فهو القاذف، فعليه أن يأتي بأربعة شهداء،فإن كانا اثنين فهما قاذفان،وإن كانوا ثلاثة فهم كذلك، وإن كانوا أربعة قام الدليل على صحة قذفهم واستوى بهم حد الشهادة ووجب إقامة الحد على المقذوف .
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية(1) والمالكية(2) والشافعية في الأظهر(3) والحنابلة في رواية. (4)
ويرون أن الشهود يحدون حد القذف إذا طلب المشهود عليه ذلك.
الرأي الثاني:وهو للشافعية في قول(5) والحنابلة في رواية أخرى(6)والظاهرية.(7)
ويرون عدم حد الشاهد بالزنا أصلاً، سواء أكان معه غيره أم لا.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والآثار والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (8)
__________
(1) الهداية:2/107،شرح فتح القدير:5/289، الاختيار:3/81، المبسوط:9/65، نصب الراية:3/344.
(2) المعونة:2/317،المنتقى شرح الموطأ:7/142، التاج والإكليل:8/206.
(3) الأم:6/137، الأحكام السلطانية للما وردي: 280.
(4) المغني والشرح الكبير:10/47، الإنصاف:10/191.
(5) الحاوي الكبير:13/31، مغني المحتاج:5/462.
(6) المغني والشرح الكبير:10/47، الإنصاف:10/191.
(7) المحلى:12/210.
(8) النور آية 4.(3/73)
وجه الدلالة : في الآية دليل على وجوب الجلد إذا لم يكمل الشهود أربعة فيكونوا قذفة يحدون حد القذف. (1)، وقال ابن كثير ( " فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام أحدها أن يجلد ثمانين جلدة الثاني أنه ترد شهادته أبدا الثالث أن يكون فاسقا ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس. (2)
أما الآثار :أنه لما شهد على المغيرة - رضي الله عنه -، أبو بكرة ونافع بن علقمة وشبل بن معبد - رضي الله عنهم -، ولم تكمل شهادتهم بشهادة زياد - رضي الله عنه -حد سيدنا عمر - رضي الله عنه - الثلاثة الشهود بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا ً. (3)
ـ ما رواه الفضل بن ذكين (قال:حدثنا الوليد ( حدثنا أبو الطفيل( , قال: أقبل رهط معهم امرأة حتى نزلوا مكة , فخرجوا لحوائجهم , وتخلف رجل مع المرأة , فلما رجعوا وجدوه بين رجليها , وعلى مكة يومئذ نافع بن عبد الحارث الخزاعي , فشهد ثلاثة منهم أنهم رأوه يهب فيها , كما يهب المرود في المكحلة وقال الرابع: لم أر المرود في المكحلة , ولكن رأيت إسته يضرب إستها , ورجلاها عليه , كأذني الحمار , فكتب نافع - رضي الله عنه -إلى عمر - رضي الله عنه - , فكتب إليه عمر- رضي الله عنه -: إن شهد الرابع بما شهد الثلاثة فارجمهما , إن كانا أحصنا, وإلا فاجلدهما , وإن لم يشهد إلا بما قال , فاجلد الشهود الثلاثة , وخلى سبيل المرأة. (4)
أما المعقول فمن جهات :
الأولى :أن في سقوط الحد عنهم ذريعة إلى تسارع الناس إلى القذف إذا أرادوه وأن يخرجوه مخرج الشهادة حتى لا يحدوا، فتتخد صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس؛ ولأن في حدهم صيانة الأعراض عن توقي القذف، فكان أولى وأحق. (5)
__________
(1) فتح القدير للشوكاني:4/8.
(2) تفسير ابن كثير:3/265.
(3) تلخيص الحبير:4/63.
(4) نصب الراية:3/344.
(5) الحاوي الكبير: 13/232، مغني المحتاج: 5/462.(3/74)
الثانية :اللفظ لاشك أنه قذف، وإنما يخرج عن حكم القذف إذا اعتبر شهادة، ولا يعتبر شهادة إلا إذا كانوا نصاباً. (1)
الثالثة :أن الشاهد مخير بين حسبتين و لم يوجد منه حسبة الستر, ولا حسبة أداء الشهادة أيضا؛ لنقصان عددهم , وإذا لم توجد الحسبة ثبت القذف؛ لأن خروج الشهادة عن القذف إنما كان باعتبار الحسبة. (2) ـ احتج لهم ابن حزم (: بما رواه عمرو بن شعيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(( قضاء الله ورسوله أن لا تقبل شهادة ثلاثة , ولا اثنين , ولا واحد, على الزنى ويجلدون ثمانين جلدة , ولا تقبل لهم شهادة أبدا حتى يتبين للمسلمين منهم توبة نصوح وإصلاح ."))(3)
الرابعة :أن الموجود من الشهود كلام قذف حقيقة؛ إذ القذف هو النسبة للزنا , وقد وجد من الشهود حقيقة فيدخلون تحت آية الزنا , إلا إذا اعتبرنا تمام عدد الأربع إذا جاء مجيء الشهود فقد قصدوا إقامة الحسبة واجباً حقاً لله تعالى فخرج كلاهما عن كونه قذفا وصار شهادة شرعاً فعند النقصان بقي قذفاً حقيقة فوجب الحد. (4)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب و السنة و المعقول.
أما الكتاب:فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (5)
__________
(1) شرح فتح القدير:5/290، الحاوي الكبير: 13/230.
(2) شرح العناية على الهداية: 5/290.
(3) مصنف عبد الرزاق:كتاب الطلاق، باب :قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا،ج7/387 رقم 13571.
(4) بدائع الصنائع: 7/48.
(5) النور: آية 4.(3/75)
وجه الدلالة: ذكر الله - سبحانه وتعالى - الذين يشتمون العفائف من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنا، ثم لم يأتوا على ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون عليهن بذلك؛ فاجلدوا الذين رموهن ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها،(1) فظاهره يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي.(2)
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - للقاذف "((البينة أو حد في ظهرك ")) (3)
ـ وقوله - صلى الله عليه وسلم - "((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا من شهر كم هذا.")) (4)
أما المعقول:أن الله - سبحانه وتعالى - فرق بين القذفة والشهود، فدل على افتراقهم في الحدود , ثم إن القذف معرة والشهادة إقامة حق؛ لذلك إذا كثر القذفة حدوا, ولو كثر الشهود لم يحدوا فاقتضى ذلك وقوع الفرق بينهم إذا قلوا , كما وقع الفرق بينهم إذا كثروا فصح بنص كلام الله تعالى أن الحد إنما هو على القاذف الرامي لا على الشهداء ولا على البينة , والفرق بين الشهداء والبينة: أن الشهداء يطلق إذا لم يتموا أربعة , ويطلق لفظ البينة إذا أتموا أربعة وثبت الحد. (5)
ـ أنهم جاءوا مجيء الشهود , وكان قصدهم إقامة الشهادة حسبة لله تعالى لا القذف , فلم يكن جناية وعلى هذا لم يكن قذف. (6)
__________
(1) تفسير الطبري:5/515 ط/ دار القلم.
(2) القرطبي:12/190.
(3) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة، ج2/950 رقم 2526.
(4) صحيح: أخرجه البخاري:كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى،ج2/620 رقم 1652,أخرجه مسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم 1679.
(5) الحاوي الكبير: 13/ 232،المحلى: 12/211.
(6) بدائع الصنائع: 7/47.(3/76)
ـ أن الحد شرع للقاذف الرامي ولم يشرع للشهداء أو البينة , وقد فرق القرآن والسنة بين الشاهد من البينة وبين القاذف الرامي ,فلا يحل البتة أن يكون لأحدهما حكم الآخر. (1)
ـ أن لا حد على الشهود إذا نقص عددهم عن أربعة؛ أنهم شهود تقدموا للشهادة حسبة لله تعالى؛ ولأن العقاب في حالة نقص الشهود عن أداء الشهادة يؤدي إلى امتناع الشهود عن أدائها خشية أن يتوقف أحد الشهود عن الشهادة فيحل العقاب بالباقين. (2)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول: وقد نوقش قولهم :أن الشاهد مخير بين حسبتين، بأنه لا خلاف في أن القاذف يحد إذا لم يأت بأربعة شهداء , وهناك فرق بين الشاهد والقاذف فلا يكون الشاهد قاذفاً؛ لأنه لم يتبرع بالإعلان , والقاذف لا يطلق عليه شاهد إلا إذا اكتمل نصاب الشهادة , وحيث لا يكتمل نصاب الشهادة فهو قاذف.
ـ ونوقش قولهم: أن الموجود من الشهود كلام قذف حقيقة ،بأنه لو كان الأمر كذلك لما صح في الزنا شهادة أبداً؛ لأنه إذا كان الشاهد الواحد إذا شهد بالزنا صار قاذفاً عليه الحد, فإذا صار قاذفاً فليس شاهداً , فإذا شهد الثاني يصير قاذفاً , وهذا رأي فاسد؛لأنه مخالف للقرآن في إيجاب الحكم بالشهادة و بالزنا وخلاف السنة الثابتة بقبول البينة في الزنا , وخلاف الإجماع المتيقن بقبول الشهادة في الزنا, وخلاف الحس والمشاهدة في أن الشاهد ليس قاذفاً , والقاذف ليس شاهداً. (3)
وقد أجيب عن هذا:
ـ بأنهم بعد تمامهم أربعة صاروا شهودا لاكتمال نصابهم في مجلس واحد، ولو شهدوا واحداً تلو الآخر فهم إذا تم النصاب قذفة ـ لأنهم جاءوا في مجالس ـ ولو كانوا مثل ربيعة ومضر، ثم إن البينة لا يطلق عليهم ذلك إلا إذا كانوا أربعة , وليس كل شاهد يطلق عليه أنه بينة.. (4)
ـ مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب والسنة:
__________
(1) التشريع الجنائي: 2/419.
(2) المهذب: 2/332.
(3) المحلى: 12/212.
(4) بدائع الصنائع: 7/48.(3/77)
بأنها نصوص عامة خصصتها النصوص الواردة بإقامة الحد إذا لم يكتمل الشهود أربعة.
ونوقش دليلهم من المعقول : بأن الثابت من قضاء سيدنا عمر - رضي الله عنه - أنه حد الشهود الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -،حينما لم يكمل الرابع الشهادة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - فلم ينكر أحد. (1)
الرأي الراجح
قد يبدو من الوهلة الأولى وجود بون شاسع بين الرأيين، وفي الواقع هناك قدر مشترك اتفق عليه الطرفان،فقد ظهر بعد عرض آراءهم أنهم متفقون ـ أي الجمهور والظاهرية ـ على أن من بادر بإعلان ما رآه من واقعة الزنا، ولو كان واحداً أو اثنان أو ثلاثة فهم قذفة و يحدون حد القذف إن لم يأتوا بأربعة شهداء.
ـ أما الشهود الذين جاؤا بعد رفع الدعوى وطلب منهم الشهادة ولم يتموا أربعة فقد اختلف فيهم، فالجمهور على أنهم يحدون حد القذف، والظاهرية على عدم حدهم.
ـ والراجح أنهم يحدون للقذف؛لأنهم بعدم اكتمال نصاب شهادتهم انتقلوا من كونهم شهود إلى كونهم قذفة،قال صاحب روضة الطالبين:(2) " الرمي بالزنى لا في معرض الشهادة يوجب حد القذف فأما في معرض الشهادة فينظر إن تم العدد وثبتوا أقيم حد الزنى على المرمي ولا شيء عليهم، وإن لم يتم العدد بأن شهد اثنان أو ثلاثة فهل يلزمهم حد القذف؟ قولان: أظهرهما: نعم وهو نصه قديماً وجديداً؛ لأن عمر - رضي الله عنه -جلد الثلاثة الذين شهدوا، ولئلا تتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس."
__________
(1) تلخيص الحبير:4/63، التشريع الجنائي الإسلامي:2/419.
(2) روضة الطالبين:10/107،108.(3/78)
ومما يدل على هذا أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - بعدما جلد أبا بكرة ونافع وشبل بن معبد - رضي الله عنهم - قرأ قوله تعالى: { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } (1)،ثم قال للمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -:اسكت.أسكت الله نأمتك (2)، أما والله لو تمت الشهادة لرجمتك بأحجارك(3) وجاء في رواية أخرى، قال عمر- رضي الله عنه -: لزياد - رضي الله عنه - أرى وجه رجل لا يفضح رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4) وما ورد أن أبا بكرة - رضي الله عنه - قال: إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟قال عمر - رضي الله عنه -:إي والذي نفسي بيده، وليس في هذا تعطيلاً للحد بل فيه تثبت من الشهادة قبل إقامة الحد، ثم إن القاذف هو من يجئ وحده،فإن جاء أكثر من واحد فإما أن يكملوا أربعة أو لا،فإن كملوا أربعة فهي شهادة، وإن لم يكملوا النصاب اعتبروا كالواحد في عدم اعتبار شهادتهم وحدوا للقذف.
ـ وقد يخطأ البعض فيظن أن جلد سيدنا عمر - رضي الله عنه - لأبي بكرة - رضي الله عنه -؛ لأنه كان كاذبا ً، وحاشا واحدا من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون كاذباً، فالصحابة - رضي الله عنهم - كلهم عدول، وجلد سيدنا عمر - رضي الله عنه - له ليس تكذيباً له؛ بل تطبيقاً لحد الله- سبحانه وتعالى - عند عدم اكتمال نصاب الشهادة.
__________
(1) النور من الآية 13.
(2) النَّأْمَةُ: النَّغْمَةُ والصَّوْتُ. وأسْكَتَ الله تعالى نأْمَتَه ويقالُ: نامَّتَه مُشددةً أي: أماتَه.القاموس المحيط:2/1528.وقيل: عرق منشؤه من الرأْس ويمتد إِلى القدم وله شرايين تتصل بأكثر الأَطراف والبدن فالذي في الرأْس منه يسمى النَّأْمَةَ ومنه قولهم أَسْكَتَ اللهُ نَأْمَتَه أَي أَماته.لسان العرب:4/81.
(3) ينظر تمام هذه القصة في أحكام القرآن لابن العربي:3/348.
(4) تلخيص الحبير:4/64، المغني والشرح الكبير: 10/91.(3/79)
ـ وكذا لا يظن بالمغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - إلا الخير، وسكوته ليس إقراراً بهذا الفعل؛ فالمرأة التي رمي بها هي أم جميل بنت محجن بن الأفقم الهلالية،قيل:بأن المغيرة - رضي الله عنه - كان قد تزوجها سراً، وكان عمر - رضي الله عنه - لا يجيز نكاح السر ،ويوجب الحد على فاعله فلهذا سكت المغيرة - رضي الله عنه -. (1)
ـ أو أن المغيرة - رضي الله عنه - كان يفعل هذا مع زوجته، وكانت تشبه أم جميل هذه؛ ولذا ظنها أبو بكرة ومن معه - رضي الله عنهم - هذه المرأة ـ أي أم جميل ـ ويدل على هذا قول المغيرة - رضي الله عنه - 0000 وكيف رأوا المرأة؟ وهل عرفوها؟ فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شئ استحلوا النظر إليّ على امرأتي، والله ما أتيت إلا زوجتي، وكانت تشبهها. (2)
وقد ورد في أسنى المطالب"(3) و الجواب عن قصة المغيرة أنه كان يرى نكاح السر وفعله في هذه القصة، ويروى أنه كان يتبسم عند شهادتهم فقيل: له في ذلك فقال: إني أعجب مما أريد أن أفعله بعد شهادتهم، فقيل: وما تفعل , قال: أقيم البينة أنها زوجتي.
المسألة الثالثة عشر: شهد أربعة بالزنا على امرأة أحدهم زوجها.
تحرير محل النزاع:(4)
اتفق الفقهاء على قبول شهادة الأربعة في الزنا ـ إن كانوا عدولا ً ـ وأنها يقام بها الحد،(5) واتفقوا على أنه إذا لم يتم الشهود أربعة فإنهم يحدون للقذف، وإن كان الزوج أحدهم فلا يحد للقذف بل يلاعن، فإن أبى حد، واختلفوا هل يصح كون الزوج واحد من هؤلاء الأربعة؟
__________
(1) المرجع السابق:4/64.
(2) أحكام القرآن لابن العربي:3/348.
(3) أسنى المطالب: 4/136.
(4) شرح فتح القدير:5/214، بدائع الصنائع: 7/48، المدونة الكبرى: 4/383، كفاية الأخيار:629، المبدع:7/397، المحلى:12/214.
(5) الإقناع في مسائل الإجماع :2/257 .(3/80)
سبب الخلاف: هل شهادة الزوج على زوجته مقبولة أو لا؟ فمن رأى أنها مقبولة لعدم التهمة اعتبرها، ومن رأى أنها غير مقبولة للتهمة لم يعتبرها، ومن فرق بين الشاهد والقاذف لم يعتبرها في حالة القذف واعتبرها في حالة الشهادة.
آراء الفقهاء
* الرأي الأول: وهو لجمهور الحنفية. (1)
ويقولون بجواز كون الزوج أحد الشهود الأربعة.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية(2) والشافعية(3) والحنابلة(4) وبعض الحنفية. (5)
ويرون عدم قبول شهادة الزوج على زوجته، ويحد الشهود للقذف، ويلاعن الزوج.
* الرأي الثالث: وهو للظاهرية. (6)
وقد ذهبوا إلى التفصيل، فقالوا: إن جاء الزوج قاذفا ً فلا بد من أربعة شهود غير الزوج وإلا حد أو لاعن، وإن جاء شاهداً فإن كان عدلاً ومعه ثلاثة عدول فهي شهادة تامة، و على المشهود عليه حد الزنا.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ } (7)
وجه الدلالة : أن هذه الآية عامة في الشهود ولم تفرق بين كون الزوج أحد الأربعة، أو أنهم كلهم أجانب،فكل من رمى محصنا أو محصنة بالزنا فقال له زنيت أو يا زاني فيجب عليه جلد ثمانين جلدة إن كان حرا، وإن كان عبدا فيجلد أربعين وإن كان المقذوف غير محصن فعلى القاذف التعزير. (8)
أما المعقول:
ـ فإن شهادة الزوج على زوجته يؤخذ بها في سائر الحقوق، وفي القصاص والحدود، فوجب أن تكون في الزنا كذلك. (9)
__________
(1) شرح فتح القدير:5/214، بدائع الصنائع: 7/48.
(2) المدونة الكبرى: 4/383.
(3) كفاية الأخيار:629.
(4) وهناك رواية أخرى للحنابلة بحد الثلاثة ولا حد ولعان على الزوج، المبدع:7/397.
(5) بدائع الصنائع: 7/48.
(6) المحلى:12/214.
(7) النساء من الآية 15.
(8) تفسير البغوي:3/323.
(9) إثبات الزنا:د/ محمد قنديل:ص 755.(3/81)
ـ أن الزوج أولى بقبول شهادته؛ لأنه يلحقه العار وخلو الفراش، خصوصا إذا كان له منها أولاداً صغاراً. (1)
ـ استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة .
من الكتاب : قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } (2)
وجه الدلالة: أن ظاهر الآية يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود. (3)
من السنة : قوله - صلى الله عليه وسلم - "((البينة وإلا حد في ظهرك.")) (4)
وجه الدلالة :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح لهلال بن أمية - رضي الله عنه - (5) أن الحد لا يسقط إلا بإحضاره البينة ـ وهم أربعة شهود يشهدون بالزنا ـ ولم يجعل الزوج واحدا منهم.
استدل أصحاب الرأي الثالث بالكتاب والمعقول .
أما الكتاب : فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (6)
وجه الدلالة في الآية:أن ظاهرها يقتضي أن يأتي بأربعة شهداء سوى الرامي والزوج رام لزوجته فخرج عن أن يكون أحد الشهود. (7)
أما المعقول :
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/214، البحر الرائق:5/5.
(2) النور آية 6.
(3) القرطبي:12/190.
(4) صحيح: أخرجه البخاري : كتاب الشهادات ، باب إذا ادعى أو قذف ، 2/949 رقم 2526 .
(5) هو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعظم بن عامر، من بني واقف، شهد بدراً، وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك،ف، الذين نزل فيهم قوله تعالى " وعلى الثلاثة الذين خلفوا 000"وهو الذي قذف زوجته بشريك بن السحماء، الإصابة:6/546، الاستيعاب:4/1542
(6) النور أية 4.
(7) القرطبي:12/190.(3/82)
ـ فإن شهادة الزوج مقبولة ـ إن كان عدلاً ـ؛ لأنه لم يخص زوج من غيره، ولو أراد الله - سبحانه وتعالى - أن لا يكون الزوج أحد هؤلاء الشهود لبين ذلك ولما كتمه ولا أهمله، فإذ عم الله - سبحانه وتعالى - ولم يحص، فالزوج وغير الزوج في ذلك سواء بيقين لاشك فيه. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب :بتعداد أيمان اللعان الأربعة على عدد الشهود بما يلي:
أولاً: أن هذا باطل بيمين القسامة،(2)يقول ابن العربي ( " يمين القسامة تكرر , وليست بشهادة إجماعا. والحكمة في تكرارها التغليظ في الفروج والدماء على فاعلها , لعله أن يكف عنها فيقع الستر في الفروج والحقن في الدم , والفيصل في أنه يمين , لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواها , وتخليصه عن العذاب ; وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره؟ (3)
ثانيا :أن ادعاء التهمة غير مسلم به؛ لأنه لو كانت هناك تهمة في شهادة الزوج ما شرع في حقه اللعان؛ أنه شرع تغليباً لعدم التهمة في حفه، وعدم اكتمال البينة.
ونوقش الدليل من الكتاب والسنة أيضا:
__________
(1) المحلى:12/214.
(2) القسامة لغة: اسم من القسم، أقيم من أسم إقساما وقسامة وهي الحلف، وهي عند الحنفية أيمان يقسم بها أهل المحلة أو دار وجد بها قتيل به أثر، البحر الرائق:8/446، وعند الحنابلة:هي الأيمان المكررة في دعوى القتل،المبدع 9/31.
(3) أحكام القرآن لابن العربي: 3/353.(3/83)
ـ بأن هذين النصين نزلا في الزوج إذا كان رامياً قاذفا، وشرط الله - سبحانه وتعالى - على القاذف أن يأتي بأربعة شهداء لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1) فإن لم يأت فعليه الحد، ولم يخص الله - سبحانه وتعالى - زوجاً من أولئك الأربع الشهود. (2)
مناقشة أدلة الرأي الثالث.
وقد نوقشت أدلتهم:بأن الحكم عام في كل من قذف استنادا إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية - رضي الله عنه -"البينة وإلا حد في ظهرك "؛بأنه مخصص في الزوج بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } (3) فشرع في حقه اللعان.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته فالرأي الراجح منها هو القائل:بعدم قبول شهادة الزوج على زوجته وذلك للتهمة؛ولأنه لا يتصور إلا كون الزوج قاذفاً؛ لأنه هو الذي يبدأ ويرفع الدعوى , واعتباره شاهداً أمر بعيد , وعلى اعتبار صحة كونه شاهداً فهو إذن منخرم العدالة ملعون , وذلك لرضاه الدياثة في أهله , ولا يتصور هذا من عدل.
__________
(1) النور أية 4.
(2) المحلى:12/214.
(3) النور أية 6.(3/84)
وقياس الزنا على سائر الحدود في اعتبار الزوج شاهد، قياس مع الفارق؛لأن الزوج قد يستر على زوجته في القتل والسرقة وغيرها , ولا يؤدي الشهادة إلا إذا طلب منه أداءها , أما في الزنا فلا يفعل ذلك بل إنه يدلي بشهادته إذا رآها تزنى ولو لم يكن معه غيره , كما عبر القرآن الكريم في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } (1) , ومع هذا وبرغم عدم قبول شهادته على زوجته فإنه لا يحد للقذف , بل إنه يلاعن وذلك الأمر خصوصية في حقه فقط , فإذا امتنع عن اللعان صار كأنه مكذب لنفسه وخرج من هذا التخصيص وانسحب إلى عموم أحكام القذف , فيقام عليه الحد هو ومن معه؛وذلك لعدم اكتمال نصاب الشهادة.
المبحث الثالث
أحكام وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة وخالفوا البعض الآخر
ويندرج تحت هذا المبحث مسائل:
المسألة الأولى: أثر التوبة في حد الزنا.
التوبة: مصدر تاب، وهي الندم على فعل الذنب، وعقد العزم على عدم الرجوع إليه، والتوجه إلى الله - سبحانه وتعالى - طلباً للمغفرة.(2)والتوبة: مكفرة للذنب ماحية للخطيئة إن كانت نصوحاً ؛لقوله تعالى: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (3)
وقد اختلف الفقهاء في أثر التوبة في الحدود على آراء.
* تحرير محل النزاع :
__________
(1) النور أية 6.
(2) معجم لغة الفقهاء: 150.
(3) المائدة آية 39.(3/85)
اتفق الفقهاء على أن التوبة مسقطة لحد الحرابة فقط ـ إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم(1) ؛لقوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (2)
ورد في الإفصاح(3)"واتفقوا ـ أي الأئمة الأربعة ـ على أن من تاب منهم قبل القدرة عليه سقط عنه حقوق الله - سبحانه وتعالى -،إلا أن أبا اسحاق ( ذكر في التنبيه عن الشافعي أن في سقط قطع اليد عن قاطع الطريق قولان: أحدهما يسقط قطع اليد عنه كغيره مما يسقط عنه، والقول الآخر لا يسقط قطع اليد خاصة عنه،واتفقوا على أن حقوق الآدميين من الأنفس والأموال والجراح يؤخذ بها المحاربون إلا أن يعفى لهم عنه (من أصحابها)".
واختلفوا فيما عداها من الحدود هل تقاس على الحرابة أولا؟ واختلفوا كذلك هل إقامة الحد تسقط الذنب،أو لابد من التوبة؟.
* سبب الخلاف: يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى اختلاف الأفهام في قوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (4)هل التوبة خاصة في المحارب فقط أو أنها هي عامة في كل الحدود؟، فمن ذهب إلى أن التوبة خاصة بالمحارب فقط أعمل النص في الحرابة فقط، وجعل التوبة غير مسقطة للحدود الأخرى، ومن قاس سائر الحدود على الحرابة جعل التوبة مسقطة لكل الحدود إذا تاب منها صاحبها قبل القدرة عليه إذا كان حقا لله - سبحانه وتعالى -، وأما إن كان فيها حقاً للآدميين فيسقط حق الله في إقامة الحد، ويؤخذ بحق الآدميين إلا أن يعفوا .
آراء الفقهاء
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/429،المعونة: 2/318، المغني والشرح الكبير:10/150، مغني المحتاج: 5/503، المحلى: 12/22.
(2) المائدة آية 34.
(3) الإفصاح:2/217.
(4) المائدة آية 34.(3/86)
الرأي الأول:وهو للحنفية(1)والمالكية(2) والشافعية في الأظهر(3)ورواية عند الحنابلة.(4) والظاهرية. (5)
ويرون أن التوبة لا تسقط شيئاً من الحدود إلا الحرابة، والقذف عند البعض.
الرأي الثاني: وهو قول عند الشافعية(6) ورواية عند الحنابلة . (7) .
ويرون أن الحدود تسقط بالتوبة قبل ثبوتها عند الحاكم.(8)
ويشترط هؤلاء الفقهاء لسقوط العقوبة أن تكون الجريمة مما يتعلق بحق الله - سبحانه وتعالى - ،أي أن تكون من الجرائم الماسة بحقوق الجماعة كالزنا والشرب, وألا تكون مما تمس حقوق الأفراد؛ كالقتل والضرب , واشترط بعضهم شرطاً آخر، وهو أن تكون التوبة مصحوبة بإصلاح العمل , وبعضهم الآخر لا يشترط ذلك.(9)
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب : فقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } (10) ، وقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (11)
__________
(1) شرح فتح القدير:5/429.
(2) المعونة:2/318، 319.
(3) كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين:4/306، مغني المحتاج: 5/503، تكملة المجموع:22/301.
(4) المغني والشرح الكبير:10/150، الإنصاف:10/226 وما بعدها، الكافي:4/118.
(5) المحلى:12/22.
(6) كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين:4/307, الحاوي الكبير: 13/370, والمحلى: 12/15.
(7) المغني والشرح الكبير: 10/150.
(8) نيل المآرب: 2/30.
(9) التشريع الجنائي الإسلامي: 1/353.
(10) النور آية 2.
(11) المائدة آية 38.(3/87)
وجه الدلالة :أن هذا عام في التائبين وغيرهم ، فالسارق والسارقة والقاذف، متى تابوا وقامت الشهادة عليهم أقيمت عليهم الحدود.(1)
من السنة:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برجم ماعز و الغامدية - رضي الله عنهم - وذلك بعد توبتهما، ولو كانت التوبة مسقطة للحد لأوجب فيه الدية، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب شيئاً على الراجم، فظهر أن التوبة غير مسقطة للحد،إلا الحرابة للنص.
أما المعقول فمن وجوه:
الأول : أن النصوص قد وردت جملة بإقامة الحدود في السرقة ،والخمر ،والزنا ،والقذف، ولم يستثن الله تعالى تائبا من غير تائب، ولم يصح نص أصلاً بإسقاط الحد عن التائب، فإذا كان الأمر كذلك فلا يحل أن يخص التائب من عموم أمر الله - سبحانه وتعالى - بإقامة الحدود بالرأي والقياس دون نص ولا إجماع، وحديث ماعز والغامدية والجهنية - رضي الله عنهم - مؤيد لذلك. (2)
الثاني : أن الحد تحصين للإنسان ، ففي إسقاطه بلا نص زوال ذلك المعني. (3)
الثالث :أن العقوبة هي التي تزجر المجرم عن الجريمة، والقول بمنع العقاب بسبب التوبة يؤدي إلى إبطال العقوبات كلها؛ لأن كل مجرم لا يعجز عن ادعاء التوبة. (4)
الرابع: أن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل؛ لأنه مقدور عليه فلم يسقط الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه. (5)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة والمعقول :
__________
(1) تفسير القرطبي:5/91.
(2) المحلى:12/19.
(3) المعونة:2/319.
(4) في أصول النظام الجنائي الإسلامي , محمد سليم العوا:107.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/151.(3/88)
أما الكتاب : فقوله تعالى: { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } (1) ،وقوله تعالى عقب حد السارق: { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (2)
وجه الدلالة :أن الله - سبحانه وتعالى - نص على أن التوبة مانعة للحد في عقوبتي الزنا والسرقة ، وقد صح النص من القرآن والإجماع بأن حد الحرابة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم، فوجب آن تكون جميع الحدود من الزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر كذلك؛ لأنها كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها. (3)
__________
(1) النساء آية 16.
(2) المائدة آية 39.
(3) عون المعبود:12/16.(3/89)
أما السنة :فما جاء عن يزيد بن أسلم عن زيد بن نعيم عن أبيه - رضي الله عنهم - قال: جاء ماعز بن مالك - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((إني زنيت فأقم فَّيَّ كتاب الله فأعرض عنه حتى جاء أربع مرات قال: اذهبوا به فارجموه فلما مسته الحجارة جزع فاشتد قال: فخرج عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - من باديته فرماه بوظيف حمار(1) فصرعه ،ورماه الناس حتى قتلوه ،فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فراره فقال: هلا تركتموه لعله يتوب و يتوب الله عليه.، يا هزال(2) لو سترته بثوبك كان خيراً لك.")) (3)
أما المعقول فمن وجوه :
الوجه الأول :أن حد الحرابة أغلظ من غيره من الحدود، فلما سقط بالتوبة أغلظها كان أولى أن يسقط أخفها.
الوجه الثاني :أن الحدود موضوعة للنكال والردع، والتائب غير محتاج إليها فسقط عنه موجبها. (4)
__________
(1) الوظيف لكل ذي أربع ما فوق الرسغ إلى مفصل الساق، ووظيف يدي الفرس ما تحت ركبتيه إلى جنبه، ووظيف رجليه ما بين ركبتيه إلى جنبه، قال الجوهري: الوظيف مستدق الذراع والساق من الخيل والإبل ونحوهما، والجمع أوظفة.لسان العرب:9/358.
(2) هزال بن زباب الأسلمي بن يزيد بن حرثان بن كلب بن عامر بن حذيفة بن الحارث بن سلامان بن أسلم، معجم الصحابة:3/208
(3) صحيح: السنن الكبرى للنسائي:4كتاب الرجم،باب إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه، 4/290 رقم 7205، المستدرك:كتاب الحدود4/404 رقم 8082، وقال فيه الحاكم:هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه، مسند الإمام أحمد:5/217.
(4) الحاوي الكبير: 13/370.(3/90)
الوجه الثالث :أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس، وقد قال تعالى في تحقيق معنى التوبة (1): { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } (2)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
وقد نوقش دليلهم الثاني من السنة بما يلي:
ـ أن ماعزاً و الغامدية - رضي الله عنهم - ثبت الحد بإقرارهما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي إسقاطه حينئذٍ، والتوبة هنا لا تثبت قبل الحد، والطريق المتيقن لذلك هو الفراغ من الحد، أما قبله فلا، ولا أدل على ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصحابته - رضي الله عنهم -: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه.
وبعبارة أخرى: الحد مطهر والتوبة مطهرة، وماعز و الغامدية اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة، وأبيا إلا ذلك؛ لأن الإثم حاصل على كل حال، والتوبة يخاف ألا تكون نصوحا ً، فأرادا حصول البراءة بطريق متيقن وهو إقامة الحد. (3)
وقد نوقش دليلهم الخامس: بأن العقوبة لم تمنع بالتوبة، بل لو رفعت إلى الحاكم وثبتت عنده لأقيمت، وليس فيها إبطال للعقوبات.
ونوقش دليلهم السادس:
__________
(1) العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي، السيد صادق المهدي، ص 65،طبعة الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولى 1987،.
(2) النساء آية 17.
(3) إعلام الموقعين:2/85.،مسلم بشرح النووي:11/129.(3/91)
ـ سلمنا أن الحدود كفارة بيقين، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ((ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له "))(1)، أما لو ستر على نفسه وتاب وأحسن التوبة يكفيه ذلك وهو قول أبي بكر وعمر - رضي الله عنهم - كما ذكره الترمذي ( وهو الظاهر كما قال الشافعي ( (2)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب بما يلي:
ـ أن الآية الواردة في الزنا منسوخة، وإنما كان ذلك في أول الأمر، فكانت عقوبة المرأة الحبس في البيت وعدم الإذن لها بالخروج منه، وعقوبة الرجل التأنيب والتوبيخ بالقول والكلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } (3) أما الآية الواردة في حد السارق لا دليل فيها على أن التوبة مسقطة للحد. (4)
و نوقش دليلهم الثاني من الكتاب:
ـ بأن القياس على الحرابة قبل القدرة وعلى الردة، قياس مع الفارق وذلك؛ لأن مفسدتهما عظيمة، فرغب في ترك ذلك بأن جعلت توبتهما تزيل حدهما ترغيباً في التوبة منهما بخلاف الزنا والسرقة والخمر. (5)
__________
(1) البخاري : كتاب الأحكام ، باب بيعة النساء ، رقم 6787 ،ج6/6273 ، مسلم : كتاب الحدود ، باب الحدود كفارات لأهلها ، رقم1709 ،ج 3/1333 .
(2) تحفة الأحوذي:4/601.
(3) النور آية 2.
(4) الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز، وما فيه من الفرائض والسنن لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، ت 224 هـ، تحقيق:محمد بن صالح المديفر، مكتبة الرشد، الطبعة الثانية 1997، ص 132،القرطبي:5/90، روائع البيان:2/40.
(5) الذخيرة:12/135، العقوبات الشرعية للسيد الصادق المهدي:ص 66.(3/92)
ـ سلمنا أن القياس صحيح، فإن الذي يسقط عن المحارب بالتوبة هي العقوبات المختصة بقاطع الطريق من تحتم قتله وصلبه وقطع يده ورجله، ولا يسقط باقي الحدود التي لله تعالى كزنا وسرقة بعد التوبة. (1)
ونوقش الدليل من السنة بما يلي:
ـ ناقش ابن حزم ( دليلهم هذا بأنه مرسل يسقط التعلق به. (2)
وأجيب عن هذا :بأن الحديث ليس مرسلا ً، فنعيم بن هزال - رضي الله عنه - صحابي نزل المدينة، وماله راوٍ إلا ابنه يزيد(3)،ويقول ابن حجر ( في تلخيص الحبير: إسناده حسن. (4)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يتبن أن أدلة كلا الفريقين لم تخل من المناقشة، وإن كان ما تطمئن النفس إليه هو رأي القائلين: بعدم سقوط الحد بالتوبة ـ حاشا الحرابة فقط للنص ـ للأسباب الآتية:
أولاً: أن في ذلك صوناً للحدود عن الانتهاك والتعطيل، وسداً لباب التحايل على إسقاط الحد؛ حيث يستطيع كل من ارتكب حدا أن يخرج منه بلا عقوبة حدية بادعائه التوبة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الستر مندوب إليه، أما إذا رفع للإمام فلا يسقط الحد إلا بإقامته على الجاني، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((من أصاب منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله - سبحانه وتعالى -، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله.")) (5)
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 10/330.
(2) المحلى:12/18.
(3) تقريب التهذيب:2/310.
(4) تلخيص الحبير: 4/58.
(5) صحيح: المستدرك:4/425 رقم 8158، سنن البيهقي:8/329، نصب الراية:3/323 ، السلسة الصحيحة :2/271(3/93)
ثانيا: يضيف كثير من الذين يرون أن التوبة تسقط الحدود جملة (قبل وصول الأمر للقضاء)،وهذا رأي الشافعية والحنابلة (1)، فظهر أن ما بين المذهبين من قبيل الاختلاف وليس الخلاف ولا أثر له في الواقع التطبيقي، يظهر هذا فيما إذا ثبت الحد عند الحاكم وادعى الزاني التوبة هل يسقط عنه الحد أو لا؟
فبناء علي الرأي الأول يقام عليه الحد؛لأن التوبة غير مسقطة للحد.
وبناء على الرأي الثاني يقام عليه الحد أيضا ً؛ لأنه ثبت عند الحاكم، ولا يسقط بالتوبة إلا في حالة عدم الثبوت.
ورد في الروض المربع(2) " ومن وجب عليه حد سرقة أو زنا أو شرب فتاب منه قبل ثبوته عند حاكم سقط ولو قبل إصلاح عمل. "
وورد في المحرر(3) "وإذا تاب من زنى أو شرب أو سرق قبل ثبوت حده عند الإمام سقط عنه بمجرد توبته وعنه لا يسقط كما بعد ثبوته."
__________
(1) المحرر في الفقه:2/161، الروض المربع: 497.
(2) الروض المربع للبهوتي بشرح زاد المستقنع لأبي النجا الحجاوي ص497، تصحيح أحمد محمد شاكر، طبعة دار التراث.
(3) المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد، للإمام مجد الدين أبي البركات،ت 652هـ، ج 2 ص 161، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية 1984،.(3/94)
هذا وقد ذهب الظاهرية(1) إلى أن إقامة الحد تسقط الذنب تاب أولم يتب،إلا المحاربة،فإن إثمها يبقى وإن أقيم حدها، ولا يسقط الذنب إلا بالتوبة،وقال بعض الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إن إقامة الحد كفارة للذنب، ويرى البعض الأخر من الحنفية،(2) أن إقامة الحد ليس مطهرا بل المطهر التوبة حتى في قطاع الطريق،(3)هذا وما ترتاح النفس إلى القول به أنه إن أقيم الحد بناء على إقراره ففي إقامة الحد تطهير له من ذنبه؛لأن الإقرار توبة، يؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الغامدية - رضي الله عنه - "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم."وكان حدها الرجم حتى الموت فمتى تابت؟!، أما إن أقيم الحد بالشهود فإقامة الحد ليست مطهرة بل لابد من التوبة؛ لأن الحد ليس إلا عقوبة على الذنب وفاءً بحق العباد، أما التوبة فهي التي تطهره من الإثم لمخالفته أحكام الله - سبحانه وتعالى -.
المسألة الثانية:الوطء في الدبر
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على حرمة اللواط(4)،واتفقوا على أن من وطء زوجته أو مملوكته وطء ً محرماً في الدبر،أو هي حائض أو نفساء فهو آثم ولا حد عليه؛ لوجود الملك أو شبهته، واتفقوا فيمن وطء أجنبية في القبل أنه يقام عليه حد الزنا عند توافر الشروط ، واختلفوا فيمن وطء أجنبياً في الدبر هل يقام عليه الحد أولا؟
__________
(1) المحلى:12/22.
(2) البحر الرائق: 5/18.
(3) البحر الرائق: 5/18، الفواكه الدواني:1/77، تحفة المحتاج:4/420.
(4) اللواط: من لاط الرجل لواطاً ولاوط أي: عمل عَمَلَ قوم لوط، ومنه لاط الشيء بالشيء إذا لصق به، واللواط هو إتيان الذكر في دبره. لسان العرب:7/397، الإقناع في مسائل الإجماع :2/253 ، مراتب الإجماع :131 .(3/95)
الرأي الأول:وهو للمالكية(1) والشافعية(2) و الحنابلة(3) وأبو يوسف ومحمد من الحنفية.(4)
ويرون أنه يجب في اللواط الحد، واختلفوا فيما بينهم في صفة الحد، فمنهم من قال حد اللواط الرجم مطلقاً وهو للمالكية(5)،والحنابلة في المشهور عندهم(6)، وقول للشافعي(7)، ومنهم من قال اللواط حده كحد الزنا وهو مشهور مذهب الشافعية(8)،وقول للحنابلة(9)،وقول للصاحبين من الحنفية. (10)
الرأي الثاني: أبو حنيفة(11)والظاهرية(12).
ويرون أنه يجب في اللواط التعزير.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والآثار والمعقول.
__________
(1) المعونة:2/326، حاشية الدسوقي:6/302، حاشية الخرشي:8/279، المدونة الكبرى:4/385، جواهر الإكليل 2/422.
(2) مغني المحتاج:5/443، روضة الطالبين: 10/90،91،البيان:12/368.
(3) الكافي:4/134،135، المبدع:7/386، الإنصاف:10/134،المغني والشرح الكبير:10/82، شرح الزركشي:6/288
(4) بدائع الصنائع:7/34، شرح فتح القدير:5/262،البحر الرائق:5/17.
(5) المعونة:2/326، حاشية الدسوقي:6/302،حاشية الخرشي:8/279.
(6) الكافي:4/134،135.
(7) مغني المحتاج:5/443، روضة الطالبين: 10/90،91،البيان:12/368.
(8) مغني المحتاج:5/443، روضة الطالبين: 10/90،91،البيان:12/368.
(9) الكافي:4/134،135، المبدع:7/386، الإنصاف:10/134.
(10) بدائع الصنائع:7/34، شرح فتح القدير:5/262،البحر الرائق:5/17.
(11) الهداية:2/389، بدائع الصنائع:7/34،،البحر الرائق:5/17،18.
(12) المحلى:12/388،396.(3/96)
أما السنة: فما رواه ابن عباس- رضي الله عنهم - قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -:"((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.)) (1)
وجه الدلالة: هذا الحديث صريح في أن اللوطي يرجم محصنا كان أو غير محصن. (2)
أما الآثار: فما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه -: أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء , فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ،فكان من أشدهم يومئذ قولا ًعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - و قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة ،صنع الله بها ما قد علمتم , نرى أن نحرقه بالنار , فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر - رضي الله عنه -إلى خالد بن الوليد - رضي الله عنه - يأمره أن يحرقه بالنار. (3)
__________
(1) صحيح الإسناد: سنن أبي داود:كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط،ج4/158 رقم 4462، سنن الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي،ج 4/57 رقم 1456، مسند الأمام أحمد:1/300 رقم 2732، ابن ماجه:كتاب الحدود باب من عمل= =قوم لوط، ج 2/856 رقم 2561، المستدرك:كتاب الحدود،ج 4/395 رقم 8047،وقال فيه الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تلخيص الحبير:4/54، نصب الراية:3/339.
(2) عون المعبود:12/99.
(3) ضعيف: سنن البيهقي الكبرى:كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي:8/232،رقم 16805، الدراية:2/103،نصب الراية:3/342،نيل الأوطار:7/117.(3/97)
ـ وما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في البكر يؤخذ على اللوطية،قال :يرجم" (1)
أما المعقول فمن وجوه:
ـ أنه أغلظ من الزنا، والمزني بها من جنس المباح وطئها،وإنما أتيت على خلاف الوجه المأذون فيه،والذكر ليس بمباح وطئه فكان فيه أغلظ من حد الزنا. (2)
ـ أن الله عذب الله - سبحانه وتعالى - قوم لوط بالرجم، فينبغي أن يعاقب مرتكب هذه الفاحشة بمثل ذلك. (3)
ـ أن مقارف هذه الرذيلة الذميمة يجب أن يعاقب عقوبة شديدة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب عذابا شديداً يكسر شهوة الفسقة المتمردين، فحقيق بمن أتى فاحشة قوم سابقين أن يَصْلَى من العقوبة ما يكون في الشدة مشابهاً لعقوبتهم، وقد خسف الله - سبحانه وتعالى - بهم واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم. (4)
استدل القائلون أن حده كحد الزنا بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } (5), وقوله تعالى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } (6)
فالوطء في الدبر زنا، بدليل أن الله - سبحانه وتعالى - سوى بين الفعلين في التسمية بالفاحشة , فوجب أن يكون العقاب واحداً , فيرجم المحصن ويجلد ويغرب غيره , (7)
__________
(1) صحيح الإسناد موقوف :سنن أبوداود :كتاب الحدود ، باب من عمل عمل قوم لوط 4/159 رقم 4463، سنن النسائي الكبرى:كتاب الرجم، باب من عمل قوم لوط،ج4 /322 رقم 7338،مصنف عبد الرزاق:كتاب الطلاق، باب من عمل قوم لوط،ج7/364 رقم 1349، سنن البيهقي:كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي،ج8/232 رقم 16800،الدارقطني:كتاب الحدود،ج3/125.
(2) المعونة: 2/327.
(3) الكافي: 4/135.
(4) نيل الأوطار:7/118.
(5) الإسراء آية 32.
(6) الأعراف: آية 80.
(7) مغني المحتاج: 5/443, المبدع: 7/386.(3/98)
أما السنة: ما ورد من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "((إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان.")) (1)
وجه الدلالة: أن التلوط نوع من أنواع الزنا؛لأنه إيلاج فرج في فرج، فيكون اللائط والملوط به داخلين تحت عموم الأدلة الواردة في الزاني المحصن والبكر. (2)
أما المعقول فمن وجوه:
1 ـ أن اللواط في معنى الزنا؛ لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى علي سبيل الكمال على وجه تمحض حراماً لقصد سفح الماء. (3)
2 ـ أن الزنا عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا ً محرم شرعا, والدبر أيضاً فرج؛ لأن القبل إنما سمي فرجا لما فيه من الانفراج , وهذا المعنى حاصل في الدبر، فيكون مثله في الحكم. (4)
3 ـ أنه حد بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب كالزنا بالمرأة. (5).
4 ـ أنه فرج مقصود بالاستمتاع فوجب فيه الحد كفرج المرأة.
5 ـ أن التلوط نوع من أنواع الزنا ; لأنه إيلاج فرج في فرج فيكون اللائط ذلك والملوط به داخلين تحت عموم الأدلة الواردة في الزاني المحصن والبكر , وعلى فرض عدم شمول الأدلة المذكورة لهما فهما لاحقان بالزاني بالقياس. (6)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والمعقول.
__________
(1) ضعيف :سنن البيهقي الكبرى: باب ما جاء في حد اللوطي،8/233رقم 16810,وذكر أنه منكر بهذا الإسناد،تلخيص الحبير:4/55 .وقال فيه الحافظ : " و فيه محمد بن عبد الرحمن القشيرى كذبه أبو حاتم , و رواه أبو الفتح الأزدى فى " الضعفاء " , و الطبرانى فى " الكبير " من وجه آخر عن أبى موسى , و فيه بشر ابن الفضل البجلى و هو مجهول , و قد أخرجه أبو داود الطيالسى فى " مسنده " عنه
(2) نيل الأوطار:7 /117 ، 118.
(3) الهداية: 2/389, بدائع الصنائع: 7/34.
(4) روائع البيان: 2/43, مفاتيح الغيب: 23/115.
(5) الكافي: 4/134, المبدع: 7/386.
(6) نيل الأوطار: 7/117 , 118.(3/99)
أما السنة: فما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"((لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة.")) (1)
وجه الدلالة :حظر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المسلم،إلا بإحدى هذه الثلاث، وفاعل ذلك خارج عنها؛ فلا يسمى فعله زنا ثم لو كان بمنزلة الزنا لفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حكمه بين المحصن وغير المحصن، عندما قال: فاقتلوا الفاعل والمفعول به، فلما لم يفرق دل ّ على أنه لم يوجبه على وجه الحد، إنما أوجبه على وجه التعزير، وللحاكم في باب التعزير سعة في الأمر. (2)
أما المعقول فمن جهتين:
الأول : أنه ليس في معنى الزنا لاختلاف الصحابة - رضي الله عنهم -في موجبه من الإحراق بالنار، وهدم الجدار ،والتنكيس من مكان مرتفع باتباع الأحجار ،وغير ذلك.(3)
ولو كان هذا زنا لم يكن لاختلافهم - رضي الله عنهم - معنى؛ لأن موجب الزنا معلوما لهم بالنص، فثبت أنه ليس بزنا.
الثاني : أنه ليس بزنا لما يلي :
ـ أن الزنا فيه اشتباه الأنساب وتضييع الولد،ولم يوحد ذلك في هذا الفعل،إنما فيه تضييع الماء المهين الذي يباح مثله بالعزل.(4)وبمعنى آخر:أن المعنى المحرم في الزنا ليس إضاعة الماء من حيث هو إضاعته لجواز إضاعته بالعزل، بل إفضاؤه إلى إضاعة الولد، الذي هو إهلاك معنى، فإن ولد الزنا ليس له أب يربيه، والأم بمفردها عاجزة عنه فيشب على أسوأ الأحوال.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الديات،ج6/25222 رقم 6484.
(2) روائع البيان:2/45.
(3) الهداية:2/389، البحر الرائق: 5/18.
(4) الهداية:2/290، بدائع الصنائع:7/34.(3/100)
ـ أن الحد شرع للزجر، والحاجة إلى شرع الزجر فيما يغلب وجوده، ولا يغلب وجود هذا الفعل؛ لأنه وجود يتعلق باختيار شخصين، ولا اختيار إلا لداع يدعو إليه، ولا داعي في جانب المحل أصلا،وفي الزنا وجد الداعي من الجانبين جميعا ،وهو الشهوة المركبة فيهما جميعا، فلم يكن في معنى الزنا، فورود النص هناك ليس في معنى ورود النص هنا.(1)
ـ أنهما مختلفان اسماً، واختلاف التسمية دليل على اختلاف المعاني، ويستقيم أن يقال: لاط وما زنا، وزنا وما لاط، ويقال: فلان لوطي وفلان زان.
المناقشة
مناقشة أدلة القائلين بأن حده الرجم.
نوقش دليلهم من السنة : بأن اسناده ضعيف؛ لأنه انفرد به عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف. (2)
وقد أجيب عن هذا:
بأن الحديث صحيح ،قال فيه الترمذي(: إنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا الوجه(3) ،وقال الحاكم((4):صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي (.(5)وقال فيه ابن حجر ( في التقريب في ترجمة عمرو بن أبي عمرو ( ثقة ربما وهم.(6)،وقال البيهقي ( إن تفرد عمرو بن أبي عمرو لا يقدح في الحديث؛ فقد احتج به الشيخان، ووثقه يحيي بن معين (، وقال البخاري (: صدوق ولكنه روى عن عكرمة - رضي الله عنه - مناكير. (7)
و نوقش القول بالرجم: بأنه يحمل على السياسة أو على المستحل. (8)
وقد أجيب عن هذا :
بأن الأدلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقا مخصصة لعموم أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها للوطي، وعلى فرض عدم شمولها فهي مبطلة للقياس المذكور.
وقد اعترض على أثر أبي بكر - رضي الله عنه - باعتراضين:
__________
(1) بدائع الصنائع:7/34.
(2) المحلى:12/393.
(3) سنن الترمذي:4/57 رقم 1456.
(4) المستدرك:4/395 رقم 8047.
(5) إرواء الغليل:8/17.
(6) تقريب التهذيب 2/81.
(7) نيل الأوطار:7/119، نصب الراية:3/345.
(8) الهداية:2/390، شرح فتح القدير: 5/262.(3/101)
1ـ أن الروايات كلها منقطعة، فليس منهم أحد أدرك أبا بكر - رضي الله عنه -. (1)
2ـ أن الإحراق بالنار قد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، فيما رواه أبو الزناد( قال حدثني محمد بن حمزة الأسلمي - رضي الله عنه - عن أبيه أن رسول - صلى الله عليه وسلم - أمره على سرية، قال: فخرجت فيها، وقال: إن وجدتم فلانا فأحرقوه بالنار، فوليت فناداني فرجعت إليه، فقال: إن وجدتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. (2)
مناقشة أدلة القائلين بأن حده كحد الزنا:
ونوقش دليلهم من السنة:
بأن في إسناده محمد بن عبد الرحمن , كذبه أبو حاتم , وقال البيهقي: لا أعرفه والحديث منكر بهذا الإسناد، ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول. (3)
ونوقش المعقول من جهتين:
الأولى: أن القياس على القبل بعيد؛لأن الفرج وإن كان سمي فرجاً لما فيه من الانفراج، فلا يجب أن يسمى كل ما فيه انفراج بالفرج،وإلا كان الفم والعين فرجا، وأيضاً فهم سموا النجم نجماً لظهوره، ثم ما سموا كل ظاهر نجماً، وسمو ا الجنين جنينا لاستتاره وما سموا كل مستتر جنيناً. (4)
الثاني: الاستدلال بتسميتها فاحشة مدفوع بأن الفاحشة لاتخص الزنا لغة، بل تطلق على غيره كذلك (5) قال تعالى: { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ َ } (6)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
__________
(1) المحلى:12/392.
(2) صحيح: سنن أبي داود:3/54 رقم 2673.
(3) تلخيص الحبير:4/55، نيل الأوطار:7/117.
(4) مفاتيح الغيب للرازي:22/424.
(5) شرح فتح القدير:5/265.
(6) الأنعام من الآية 151.(3/102)
ـ أن قتل اللوطي إنما هو بحق وبنص، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط،فاقتلوا الفاعل والمفعول به "(1)وذلك بعد أن ثبت صحة النص؛لعدم تضعيف عمرو بن أبي عمرو، وقد انعقد إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية القتل لا أصل القتل. (2)
نوقش دليلهم من السنة:
ـ بأن تضعيف ابن حزم ( للروايات الواردة عن أبي بكر وعلي وابن عباس - رضي الله عنهم -، مثل هذا لايصح دافعا للقتل؛لأنها كلها في كيفية القتل، وقد سلمنا باختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في كيفية القتل لا في أصله.
و نوقش دليلهم من المعقول بما يلي:
ـ أن ما ذكره الإمام أبو حنيفة ( والظاهرية، مخالف للأدلة المذكورةبخصوص اللوطي، وهذا أيضاً مخالف لما أجمع عليه الصحابة.
ـ أن قول الإمام أبي حنيفة ( بأنه ـ أي اللواط ـ لا يفضي إلى فساد النسب.
يناقش:بأن العلة فيه هتك الحرمة، وفساد النسب تابع قد يكون وقد لا يكون، وهذا أعظم في هتك الحرمة. (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يظهر أن الرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه القائلون :بقتل اللوطي ،وذلك لقوة أدلتهم ، وورود نص في هذا، ثم إجماع الصحابة، واختلافهم لم يكن في القتل ولكن في كيفية القتل.
المسألة الثالثة: وطء المحارم
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن من وطء ذات محرم منه بغير عقد، فالحد واجب عليه، واتفقوا على أنه إن عقد عليها أن العقد باطل، واختلفوا في وجوب الحد بهذا الوطء، ثم اختلف القائلون بالحد،هل حده حد الزنا،أو أن حده القتل.؟(4)
* سبب الخلاف:
__________
(1) صحيح :سبق تخريجه ص 91.
(2) المغني والشرح الكبير:10/83، الاختيار:3/91.
(3) الحاوي الكبير: 13/221.
(4) حاشية رد المحتار: 6/33،الذخيرة:12/50، روضة الطالبين: 10/94، المغني والشرح الكبير:10/79، المحلى:12/205.(3/103)
أولاً: سبب الخلاف بين القائلين بالحد وعدمه:
هل العقد على ذات المحرم شبهة في درأ الحد أو لا.؟ فمن ذهب إلى أنه شبهة قال :لا يحد ولكن يعزر،ومن ذهب إلى أن الشبهة غير متحققة؛أنها ليست قوية، قال: بوجوب الحد وأن الشبهة غير حقيقية.
ثانيا:سبب الخلاف بين القائلين بوجوب الحد،هل حده حد الزنا، أو أنه يقتل؛ لشناعة فعله؟، ذلك تبعاً لصحة حديث من وقع على ذات محرم فاقتلوه، وكذا خبر أنه - صلى الله عليه وسلم - "((أمر أن يقتل من نكح زوجة أبيه ")) (1)،فمن اعتبر شناعة الفعل قال: بالقتل، ومن تأولها قال: يحد كالزاني.
أقوال الفقهاء
الرأي الأول:وهو للمالكية(2) والشافعية(3)والحنابلة(4)
__________
(1) صحيح الإسناد:سنن الترمذي:كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن يقول لآخر يا مخنث4/62 رقم 1462،سنن البيهقي: كتاب الحدود، باب من أتى بهيمة، 8/234 رقم16841،المستدرك:كتاب الحدود،ج 4/397 رقم 8054،وقال فيه الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه،الدار قطني:كتاب الحدود والديات وغيره3/234 رقم 16814.
(2) المدونة الكبرى:4/380، الذخيرة:12/50، جواهر الإكليل: 2/422، حاشية الخرشي:8/280، 284.
(3) روضة الطالبين: 10/94، مغني المحتاج:5/445، البيان:12/362.
(4) المغني والشرح الكبير:10/79، الكافي:4/137، المبدع 7/392، الإنصاف:10/135، وعند هم روايتان في كيفية حده: أحدهما: حده كحد الزاني، الثانية: يقتل بكل حال، وبذا قال الظاهرية في الناكح زوجة أبيه سواء أكانت أمه أم لا؟ ورد في الإنصاف:10/135 " الزاني بذات محرمه كاللواط:على الصحيح من المذهب.وعليه جماهير الأصحاب 000،ونقل جماعة عن الإمام أحمد (: يقتل ويؤخذ ماله."
وورد في المحلى:12/204، 205 " و من وقع على امرأة أبيه - بعقد أو بغير عقد أو عقد عليها باسم نكاح وإن لم يدخل بها - فإنه يقتل ولا بد - محصنا كان أو غير محصن - و يخمس ماله , وسواء أمه كانت أو غير أمه , دخل بها أبوه أو لم يدخل بها. وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه - كأمه التي ولدته من زنى أو بعقد باسم نكاح فاسد مع أبيه - فهي أمه وليست امرأة أبيه , أو أخته , أو ابنته , أو عمته , أو خالته أو واحدة من ذوات محارمه بصهر , أو رضاع - فسواء كان ذلك بعقد أو بغير عقد: هو زان , وعليه الحد فقط."(3/104)
والظاهرية(1)وأبو يوسف ومحمد (. (2) ويرون أن من وطء ذات محرم منه وجب عليه الحد، واختلفوا في تكييف الحد، هل هو كحد الزنا، أو أن حده القتل؟
الرأي الثاني:وهو رأي أبو حنيفة (.(3)
ويرى أن من وطء ذات محرم منه لا حد عليه، وفيه التعزير، ويجب فيه المهر والعدة وثبوت النسب.
الأدلة
احتج القائلون بأن حده كحد الزاني بالمعقول من أوجه:
الأول:أنه عقد لم يصادف محله فيلغوا،كما إذا أضيف إلى الذكور؛ ولأن محل التصرف يكون محلا ً إذا كان حكمه الحل،أما هؤلاء فهن من المحرمات فلسن محلاً لهذا العقد، فلم يورث شبهة فإن علم بالحرمة حد. (4)
الثاني : أنه عقد ورد في غير محله، وجه ذلك أن محل النكاح هي المرأة المحللة لقوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } (5)و المحارم محرمات على التأبيد لقوله تعالى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْت ..ِ } (6)
الثالث : أنه وطء في غير ملك محرم بدواعيه، غير مختلف فيه، فإن تعمده وجب عليه الحد كالزنا.(7)
واحتج القائلون بقتله بالسنة والآثار والمعقول.
__________
(1) المحلى:12/202، 205.
(2) الهداية:2/289 البحر الرائق:5/16،حاشية ردالمحتار:6/33.
(3) بدائع الصنائع:7/35، شرح فتح القدير:5/259.
(4) الهداية:2/389،روضة الطالبين: 10/94.
(5) النساء من الآية 24.
(6) النساء آية 23.
(7) البيان:12/363، المغني والشرح الكبير:10/79.(3/105)
من السنة: ما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (("من وقع على ذات محرم فاقتلوه " ))(1)
ـ وما ورد عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "((بينا أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه.")) (2)
ـ ما ورد أنه "(( رفع إلى الحجاج رجل قد اغتصب أخته على نفسها فقال :سلوا من هنا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله بن المطرف - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: من تخطى الحرمتين (3)فخطوا وسطه بالسيف
فكتبوا إلى ابن عباس - رضي الله عنهم - فكتب إليهم بمثله.))(4)
ـ أن أحاديث القتل أخص ما ورد في الزنا , فتقدم (أي على غيرها). (5)
__________
(1) ضعيف:سنن الترمذي:كتاب الحدود،باب ما جاء فيمن يقول لآخر يا مخنث4/64رقم 1462، وقال أبو عيسى هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإبراهيم بن إسماعيل يضعف في الحديث والعمل على هذا عند أصحابنا، سنن ابن ماجة:كتاب الحدود، باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة2/856 رقم 2564، المستدرك:4/397 رقم 8054،وقال فيه الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ،إرواء الغليل :8/22.
(2) صحيح: سنن أبو داود:كتاب الحدود،باب في الرجل يزني بحريمه،4/157، رقم 4456،البيهقي:كتاب الحدود، باب من وقع على ذات محرم له،8/237 رقم 16831.
(3) يقصد بالحرمتين:أي تزوج امرأة أبيه بعقد على صورة الشرع، فيض القدير:6/100
(4) ضعيف:شعب الإيمان:4/379، رقم 5473،مجمع الزوائد:6/269 فتح الباري:12/118 وقال فيه ابن حجر ( ضعيف ويوضح ضعفه قوله فكتبوا إلى بن عباس وبن عباس مات قبل أن يلي الحجاج الإمارة بأكثر من خمس سنين.
(5) المغني والشرح الكبير:10/79.(3/106)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والمعقول:
أما السنة:
فما ورد عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال:"((بينا أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه.")) (1)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالرجم , وإنما أمر بالقتل ، فثبت بذلك أن ذلك القتل ليس حداً للزنا , ولكنه لمعنى خلاف ذلك، وهو أن ذلك المتزوج ,فعل ما فعل من ذلك على الاستحلال كما كانوا يفعلون في الجاهلية فصار بذلك مرتدا , فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل به ما يفعل بالمرتد. (2)
أما المعقول من وجوه:
الأول :أن العقد صادف محله؛لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده، والأنثى من بنات سيدنا آدم عليه السلام قابلة للتوالد، ثم إنها محل لنفس العقد، لا بنظر إلى خصوص عاقد لقبولها مقاصده من التوالد فأورث ذلك شبهة. (3)
الثاني : أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد؛ كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذي هو سبب للإباحة، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد. (4)
الثالث : أنه وطء لا يحدبه الكافر، فوجب أن لا يحد به المسلم كالنكاح بلا ولي. (5)
الرابع : أن اسم الزنا غير اسم الزواج ، فوجب أن يكون له حكم غيره فما لم ينطلق عليه اسم الزنا لم يجر عليه حكم الزنا؛لأن الحكم تابع للاسم. (6)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
وقد نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
__________
(1) صحيح : سبق تخريجه ص98 .
(2) شرح معاني الآثار:3/ 149.
(3) الهداية:2/389، حاشية رد المحتار:6/33.
(4) المغني والشرح الكبير:10/79.
(5) الحاوي الكبير:13/218.
(6) المحلى:12/201، الحاوي الكبير:13/218.(3/107)
أ ـ أنه قد اعترض على حديث ابن عباس - رضي الله عنه -،الذي رواه ابن ماجة( بأن فيه إبراهيم بن إسماعيل، وهو ضعيف، قال ابن حجر ( في التقريب "ابراهيم بن اسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي، مولاهم،أبو إسماعيل المدني ضعيف من السابعة.(1)وإذا بطل الاستدلال بهذا النص، فلا يعمل به ههنا، ومن ثم فيرجع إلى أصله ،وهو أنه إذا وطء محرم في غير ملك يكون زنا يوجب الحد.
ب ـ على فرض أنه صحيح فهو محمول على المستحل لهذا العقد العالم بالتحريم،؛ لأنه خالف قطعيا من قطعيات الشريعة، وهو قوله تعالى { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً } (2)والاستحلال مع العلم بالتحريم من موجبات الكفر.(3)،
ويدل على أن المقصود به الاستحلال أن من وطء بغير عقد فحده حد الزنا، فما الفرق بين هذا وبين الواطئ بالعقد وكلا الفعلين حرام، فدل على أن الناكح مستحل.
ج ـ في الحديث أنه بعثه إلى رجل تزوج امرأة أبيه، وليس فيه أنه دخل بها، فإذا كانت هذه العقوبة وهي القتل، مقصوداً بها المتزوج لتزوجه دل ذلك على أنها عقوبة وجبت بنفس العقد لا بالدخول، ولا يكون ذلك إلا والعاقد مستحل لذلك. (4)
وقد أجيب عن هذا:بأنه قد دخل بها فترتب العقاب على الدخول ولم يرد في الحديث الاستحلال.
ونوقش هذا:أنه إن جاز أن يحمل معنى الحديث على دخولٍ غير مذكور في الحديث ،فيجوز كذلك أن يحمل على استحلالٍ غير مذكور في الحديث، وليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر. (5)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
__________
(1) تقريب التهذيب:1/47،إرواء الغليل:8/22.
(2) النساء آية 22.
(3) نيل الأوطار:7/116.
(4) شرح معاني الآثار:3/150.
(5) شرح معاني الآثار:3/150.(3/108)
وقد نوقش دليلهم من السنة :بأن جَعْل القتل للاستحلال زيادة ممن زادها، ولم تردعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم - ،ولو كان ذلك لقال الراوي: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل ارتد فاستحل امرأة أبيه , فقتلناه على الردة , فإذا لم يقل ذلك الراوي , فهو كذب مجرد , وهذه الزيادة ظن ما ليس فيه. (1)
ـ القياس على الكافر قياس مع الفارق؛ لأن الكافر يرى نكاح المحارم مباحاً، والزنا لا ينطلق على هذا النكاح عند المجوس لاعتقادهم إباحته، وينطلق عليه عند المسلمين للنص والإجماع على تحريمه. (2) ـ القول بأن اسم الزنا غير اسم الزواج حق لاشك فيه، إلا أن الزواج الذي أمر الله- سبحانه وتعالى - به وأباحه هو الحلال الطيب وأما كل عقد أو وطء لم يأمر الله - سبحانه وتعالى - به ولا أباحه بل نهى عنه فهو فهو الباطل الحرام، وإن وطء فيه فإن كان عالماً بالتحريم عالماً بالسبب المحرم فهو زانٍ مطلق. (3)
ـ الادعاء بأن مثل هذا النكاح شبهة سقط من أجلها الحد، إدعاء بعيد؛ لأن الشبهة إنما تكون في أمر يشبه الحلال من بعض الوجوه، وذوات المحارم لاتحل بوجه من الوجوه، ولا في حال من الأحوال وإنما هو زنا محض، وإن لقب بالنكاح، فمن استأجر أمة فزنا بها فهو زناً وإن لقب باسم الإجارة ولم يكن ذلك مسقطاً عنه الحد، وإن كانت المنافع قد تستباح بالإجارات.(4)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها، فما تطمئن النفس إلى ترجيحه منها هو رأي جمهور الفقهاء القائلين: بإقامة حد القتل على من وطء ذات محرم منه، وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المنقول والمعقول.
__________
(1) المحلى:12/204.
(2) الحاوي الكبير: 13/219.
(3) المحلى:12/201،202،باختصار.
(4) معالم السنن للخطابي:3/284.(3/109)
ـ أنه عقد في غير محله مع علم العاقد بذلك وعدم جهالته فاستوجب الحد بذلك.ـ أن العالم بالتحريم المستحل للعقد يعاقب بالقتل، وليس ذلك حداً بل سياسة، وذلك لشناعة فعله وعظم جرمه.
المسألة الرابعة: الوطء في النكاح الباطل.
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة إلى ما يلي:ـ
الرأي الأول:وهو للمالكية(1) والشافعية(2) و الحنابلة(3) والظاهرية. (4)
ويرون أن كل نكاح مجمع على بطلانه إذا وطئ فيه فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد، إذا كان عالماً بالتحريم.
الرأي الثاني: وهو للحنفية.(5)
ويرون أنه لا حد في هذا النكاح ،ولكن يعزر لوجود الشبهة.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالآثار والمعقول.
أما الآثار: فما روي عن عبيد بن نضلة قال: رفع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -امرأة تزوجت في عدتها فقال لها: هل علمت أنك تزوجت في العدة؟ قالت: لا، فقال لزوجها: هل علمت؟ قال: لا، قال: لو علمتما لرجمتكما، فجلدهما أسياطا وأخذ المهر فجعله صدقة في سبيل الله، قال لا أجيز مهرا لا أجيز نكاحه وقال لا تحل لك أبدا. (6)
__________
(1) المدونة الكبرى:4/380،حاشية الدسوقي: 6/303، حاشية الخرشي: 8/281، جواهر الإكليل: 2/422، الذخيرة:12/50.
(2) روضة الطالبين: 10/94، مغني المحتاج: 5/445، البيان:12/362.
(3) المغني والشرح الكبير:10/79،المبدع:7/392، الكافي:4/137.
(4) المحلى:12/202.
(5) تبيين الحقائق:3/180، شرح فتح القدير:5/260، البحر الرائق: 5/17،حاشية رد المحتار: 6/33.هذا والصاحبان على أن هذا النكاح فيه شبهة، أما نكاح المحرمات فلا شبهة فيه عندهما؛أن الحد عندهما يجب بشرطين:أحدهما:إذا كان النكاح مجمعاً على تحريمه،الثاني:أن تكون الحرمة على التأبيد فإن كانت على التأقيت فلا حد لوجود الشبهة.
(6) صحيح :سنن البيهقي الكبرى: كتاب العدد، باب الاختلاف في مهرها وتحريم نكاحها على الثاني،ج7/441 رقم 15320.(3/110)
أما المعقول :أن هذا نكاح أضيف إلى غير محله فيلغوا؛لأن المحلية عندهم ليست لقبول الحل بل لقبول المقاصد من العقد ،ودليل عدم المحلية أن محل النكاح هي المرأة المحللة؛ لقوله تعالى: { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } (1) والمحارم محرمات على التأبيد ويلحق بالمحرمات، النكاح المجمع على بطلانه. (2)
ـ أنه وطء في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك، والواطئ من أهل الحد عالم بالتحريم، فيلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد. (3)
ـ أن العقد هنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت إلى الزنا، فلم تكن شبهة كما لو أكرهها وعاقبها ثم زنا بها.(4)
ـ أنه وطء محرم بدواعيه غير مختلف فيه، فوجب أن يكون مع العلم بتحريمه موجبا للحد، إذا لم يصادف ملكا ً..، ولا يعترض عليه بأن العقد شبهة؛ لأن الشبهة ما اشتبه حكمه بالاختلاف في إباحته، كنكاح المتعة، وهذا غير مشتبه ، للنص على تحريمه فلم يكن شبهة. (5)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول من جهات :
الجهة الأولى : أن العقد صادف محله؛لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده، والأنثى من بنات سيدنا آدم عليه السلام قابلة للتوالد، ثم إنها محل لنفس العقد لا بالنظر إلى خصوص عاقد، لقبولها مقاصده من التوالد فأورث شبهة. (6)
الجهة الثانية : أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد،كما لو اشترى أخته من الرضاع ثم وطئها، وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح.
الجهة الثالثة :أن اسم الزنا غير اسم النكاح (الزواج) فوجب أن يكون له حكم غيره فما لم ينطلق عليه اسم الزنا لم يجر عليه حكم الزنا؛ لأن الحكم تابع للاسم. (7)
المناقشة
__________
(1) النساء من الآية 24.
(2) بدائع الصنائع:7/35.
(3) المغني والشرح الكبير:10/79.
(4) المغني والشرح الكبير:10/79.
(5) الحاوي الكبير: 13/219.
(6) الهداية:2/389، حاشية رد المحتار: 6/33.
(7) الحاوي الكبير: 13/218، المحلى:12/201.(3/111)
نوقشت أدلة الرأي الثاني بما يلي:
1ـ إدعاء أن هذا النكاح شبهة فسقط من أجلها الحد إدعاء بعيد؛لأن الشبهة إنما تكون في أمر يشبه الحلال من بعض الوجوه، وهذا النكاح ليس بحلال؛ إذ كيف يكون كذلك والعقد باطل وما ترتب على باطل فهو باطل، فكيف يعد مثل ذلك العقد شبهة دارئة للحد ؟.
2ـ القول بأن اسم الزنا غير اسم الزواج ،حق لاشك فيه،إلا أن الزواج هو الذي أمر الله - سبحانه وتعالى - به وأباحه وهو الحلال الطيب، والعمل المبارك , وأما كل عقد أو وطء لم يأمر الله - سبحانه وتعالى - به و لا أباحه بل نهى عنه فهو الباطل والحرام , وإن وطئ فيه فإن كان عالماً بالتحريم عالماً بالسبب المحرم فهو زان مطلق. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول القائل :بأن الوطء في النكاح الباطل زنا موجب للحد، للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن العقد في أصله باطل,والباطل لا ينبني عليه شيء,والقول بأن في العقد شبهة غير معتبر؛ لأنه لا يشبه بالحلال في شيء حتى يعتبر دارئا للحد، فلا عبرة بوجود العقد و لا أثر له.
المسألة الخامسة: الوطء بالإكراه.
تحرير محل النزاع وسبب الخلاف:
اتفق الفقهاء على أن المرأة المكرهة على الزنا لا يجب عليها حد ولها المهر ــ عدا ما ورد عند أبي حنيفة ( من أنه لا مهر لها ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه."))(2) واختلفوا في الرجل المكرَه هل يجب حده أو لا؟(3)
__________
(1) ؛ المحلى: 12/210, 202 باختصار.
(2) صحيح: المستدرك: 2/296 رقم 2851, وقال فيه الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه , سنن البيهقي:كتاب الإقرار، باب من لا يجوز إقراره 6/84 رقم 11236.
(3) حلية العلماء: 8/13 , 14.(3/112)
ويرجع سبب الخلاف إلى أن الإكراه هل يتأتى مع الزنا أو لا؟ وهل الانتشار والإمناء من فعل الرجل أو طبيعتان؟ فمن ذهب إلى أنه من فعله قال: بوجوب الحد , ومن ذهب إلى أنه طبيعة فيه قال: بدرء الحد.
أراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو رأي أبو يوسف ومحمد ((1) والمالكية في المختار عندهم(2) والشافعية في الأصح(3) والحنابلة (4) والظاهرية .(5)
ويرون أن الرجل إذا أكره على الزنا فلا حد عليه , ووافق هذا الرأي الإمام أبو حنيفة ( إذا كان المكره هو السلطان لا غير.
الرأي الثاني:وهولأبي حنيفة(6) والمالكية في قول(7) والشافعية في قول(8) و الحنابلة في رواية .(9)
ويرون أن الرجل إذا أكره على الزنا ففعل يجب الحد عليه, واشترط أبو حنيفة أن يكون الإكراه من غير السلطان فإن كان منه فمذهبه أنه لا يحد.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والقياس والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.")) (10)
وجه الدلالة:أن رفع إثم الخطأ والنسيان والإكراه من مزايا هذه الأمة، وهذا يعم الرجل والمرأة على السواء ولم يخص واحد منهما دون الآخر، فكما يرفع الخطأ والنسيان والإكراه عن المرأة فكذا يرفع عن الرجل ولا دلالة على التفريق بينهما.
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((ادرؤا الحدود بالشبهات.")). (11)
__________
(1) الهداية: 2/391,.البحر الرائق: 5/20, بدائع الصنائع: 7/34, حاشية رد المحتار: 6/26.
(2) حاشية الخرشي: 8/286, 287, حاشية الدسوقي: 6/309, جواهر الإكليل: 2/424.
(3) روضة الطالبين: 10/95, البيان: 12/359.
(4) الكافي: 4/136, المبدع:7/391, الإنصاف: 10/138.
(5) المحلى: 7/204, 205, 212.
(6) الهداية: 2/391,.البحر الرائق:5/20.
(7) الذخيرة: 12/49,حاشية الخرشي: 8/286.
(8) البيان: 12/359.
(9) المبدع: 7/391, الكافي: 4/136.
(10) صحيح: سبق تخريجه أعلى الصفحة .
(11) سبق تخريجه ص25 .(3/113)
وجه الدلالة:أن الإكراه من أعظم الشبهات فيمنع الحد؛ كما لو كانت امرأة. (1)
أما القياس: فقياس الرجل المكره على المرأة المكرهة بجامع الإكراه في كل. (2)
أما المعقول:
ـ فإن الانتشار والإنزال فعل الطبيعة عند ملاقاة الملتذ، فلا يمنعهما الإكراه،كاللذة بالشم والذوق؛لأن الزنا لا يتوقف إلا على إيلاج الحشفة في الفرج، وهو غير متوقف على الانتشار. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول من جهتين:
الأولى :أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة والاختيار، والإكراه ينافي ذلك. (4)
الثاني :أن السبب الملجئ قائم ظاهر، وهو قيام السيف على رأسه، والانتشار دليل محتمل؛ لأنه قد يكون من غير قصد كما في النائم، فلا يزول اليقين بالمحتمل.
واستدل أبو حنيفة ( للتفريق بين إكراه السلطان وغيره بما يلي:
أن الإكراه من غير السلطان لا يدوم؛ لتمكنه من الاستعانة بالسلطان أو بجماعة المسلمين، ويمكنه دفعه بالسلاح، والنادر لا حكم له فلا يسقط به الحد، بخلاف السلطان؛ لأنه لا يمكنه الاستعانة بغيره ولا الخروج بالسلاح عليه فافترقا. (5)
ـ أن إكراه السلطان فسق يخرج به عن الإمامة فيصير الوقت خالياً من إمام كزمان الفترة، ويصير عنده كدار الحرب التي لا يجب فيها حد عنده، وكلا الأمرين فاسد. (6)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الثاني :بأن التفريق بين السلطان وغيره لا يقبل؛لأنه في كلا الحالتين مكره على الوطء فلم يجب عليه الحد، كما لو أكرهه السلطان.
__________
(1) الحاوي الكبير: 13/241،المغني والشرح الكبير:10/82.
(2) البيان:12/359.
(3) الذخيرة:12/49،الحاوي الكبير:13/241، المحلى:7/205.
(4) البيان:12/359، حلية العلماء للقفال:8/14.
(5) الهداية:2/392، تبيين الحقائق:3/185.
(6) الحاوي الكبير: 13/241.(3/114)
ـ أن الزنا لا يتوقف إلا على إيلاج الحشفة في الفرج، وهو غير متوقف على الانتشار، ثم إن اللذة والانتشار طبيعتان عند ملاقاة الملتذ فلا يمنعهما الإكراه. (1)
ـ أن الشهوة مركوزة في الطباع لا يمكن دفعها ،و إنما يمكن دفع النفس عن الانقياد لها بدين أو تقية (2) فصار الإكراه على الفعل لا على الشهوة، والحد إنما يجب في الفعل دون الشهوة. (3)
……………الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يظهر أن الرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول: بعدم الحد للرجل المكره؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه."))(4)؛ولأنه لا وجه للفرق بين الرجل والمرأة فكلاهما مكره.
المسألة السادسة: وطء البهيمة.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على حرمة وطء البهيمة(5)؛ لشناعة هذا الفعل؛ لقوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } (6) واختلفوا في حد واطئ البهيمة على أراء (7):
__________
(1) الذخيرة:12/ 49.
(2) التّقيّةوالتقاة: بمعنى أنهم يتقون بعضهم بعضاً ويظهرون الصلح والاتفاق وباطنهم بخلاف ذلك.لسان العرب:15 /404.
(3) الحاوي الكبير: 13/241.
(4) صحيح : سبق تخريجه ص 105 .
(5) الإقناع في مسائل الإجماع :2/253 ،مراتب الإجماع :131 .
(6) المؤمنون أية 5, 6.
(7) الإفصاح: 2/195, رحمة الأمة: 501،وجاء فيه:"ومن أتى بهيمة ، قال أبو حنيفة ومالك (:يعزر ، وعند مالك ( في رواية أخرى انه يحد ، وللشافعي ( ثلاثة أقوال :أحدهما : يجب عليه الحد ، ويختلف بالبكارة والثيوبة ، والثاني : يقتل بكراً كان او ثيباً ، والثالث : يعزر ، وهو المرجح ، وعن أحمد ( روايتان ، والتي اختارها جماعة من أصحابه أنه يعزر ."(3/115)
الرأي الأول: وهو للحنفية(1),و المالكية(2), والشافعية في الأظهر(3)و الحنابلة في رواية(4) والظاهرية .(5)
ويرون عدم حد في وطء البهيمة,وإنما فيها التعزير فقط. (6)
الرأي الثاني:الشافعية في قول (7)، الحنابلة في رواية ثانية.(8)
__________
(1) الهداية: 2/3910, وجاء فيه "ومن وطئ بهيمة فلا حد عليه لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية وفي وجود ا لداعي لأن الطبع السليم ينفر عنه.."، شرح فتح القدير: 5/265, بدائع الصنائع:7/34, البحر الرائق: 5/18, حاشية رد المحتار: 6/36.
(2) المعونة: 2/327, وجاء فيها :"ومن أتى بهيمة فلا حد عليه ، خلافا ًلمن قال :إنه يقتل ."المدونة الكبرى: 4/386, الذخيرة: 12/53, جواهر الإكليل: 2/423, حاشية الدسوقي: 6/306 حاشية الخرشي: 8/283.
(3) البيان: 12/370, مغني المحتاج: 5/445 وجاء فيه :"ولا يحد بوطء بهيمة في الأظهر ؛ لأن الطبع السليم يأباه ، فلم يحتج إلى زاجر بحد ، بل يعزر .."
(4) الكافي: 4/135, وإن وطئ بهيمة ففيه روايتان إحداهما يحد لما روى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه رواه أبو داود ولما ذكرنا فيما تقدم والثانية لا يحد ولكن يعزر لأن الحد يجب للزجر عما يشتهى وتميل إليه النفس وهذا مما تعافه وتنفر عنه.." شرح الزركشي: 6/289.
(5) المحلى: 12/400.
(6) الإفصاح:2/195، الميزان الكبرى الشعرانية:2/218.
(7) روضة الطالبين: 10/92, وجاء فيه " وإتيان البهيمة حرام ، وفي واجبه أقوال أظهرها التعزيز والثاني القتل محصنا كان أو غيره والثالث حد الزنى فيفرق بين المحصن وغيره وقيل واجبه واجب اللواط وقيل التعزيز قطعا، البيان: 12/370.
(8) المغني والشرح الكبير: 10/83،وجاء فيه "اختلفت الرواية عن أحمد في الذي يأتي البهيمة فروي عنه أنه يعزر ولا حد عليه روي ذلك عن ابن عباس وعطاء والشعبي والنخعي والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي وإسحاق وهو قول للشافعي
والرواية الثانية حكمه حكم اللائط سواء وقال الحسن حده حد الزاني الإنصاف:10/135.(3/116)
ويرون أنه يقام عليه الحد، واختلفوا في صفة الحد، ففي الأظهر عند الشافعية، وفي رواية عند الحنابلة حده القتل محصناً كان أو غير محصن(1)وفي أخرى يحد حد الزنا،(2) فيفرق بين المحصن وغيره.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة والمعقول .
أما السنة : فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة. (3)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأشياء التي يستوجب بها القتل فقال: (الثيب الزاني) أي زنا الثيب (والنفس بالنفس) أي قتل النفس بالنفس، والذي ترك جماعة المسلمين، (4)وكل هذا ينعدم في واطئ البهيمة.
ـ وما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أنه قال: "((ليس على الذي يأتي البهيمة حد")). (5)
أما المعقول فمن وجوه :
الأول :أنه لم يصح فيه نص، ولا يمكن قياسه على الوطء في فرج الآدمي؛لأنه لا حرمة له، ولأنه ليس بمقصود يحتاج في الزجر عنه إلى الحد فإن النفوس تعافه، وعامتها تنفر منه فيبقى على الأصل في انتفاء الحد. (6)
__________
(1) روضة الطالبين: 10/92، البيان:12/370، مغني المحتاج: 5/445، المغني والشرح الكبير:10/83، الكافي:4/135، المبدع:7/87، الإنصاف 10/135.
(2) روضة الطالبين: 10/92،البيان:12/370.
(3) متفق عليه:أخرجه البخاري:كتاب المحاربين، باب قول الله تعالى (أن النفس بالنفس،ج 6/2521،أخرجه مسلم:كتاب القسامة والمحاربين، باب ما يباح به دم الأخرجه مسلم،ج3/1302.
(4) تحفة الأحوذي:4/547 بتصرف.
(5) حسن :سنن أبو داود: كتاب الحدود، باب فيمن أتى بهيمة،ج4/159 رقم 4465،تلخيص الحبير:4/55،نصب الراية:3/ 342 ،إرواء الغليل :8/12 ،13 .
(6) المغني والشرح الكبير:10/83.(3/117)
الثاني : أن الحد شرع للزجر، وإنما يحتاج إلى الزجر فيما وجوده منفتح سالك وهذا ليس كذلك؛ لأنه لا يرغب فيه العقلاء ولا السفهاء، وإن اتفق لبعضهم لغلبة الشبق فلا يفتقر إلى الزاجر، لزجر الطبع السليم عنه. (1)
وبمعنى أخر:أن الحد يجب للردع عما يشتهى وتميل إليه النفس، ولهذا وجب في شرب الخمر، ولم يجب في شرب البول وفرج البهيمة لا يشتهى فلم يجب فيه الحد. (2)
ـ أنه وطء في فرج محرم لا شبهة له فيه، فلم يوجب الحد وأوجب التعزير كوطء الميتة. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والمعقول:
أما السنة: ما جاء ابن عباس - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به، ومن وجدتموه يأتي بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه.")) (4)
وجه الدلالة:نص الحديث على أن من وطء بهيمة يقتل، إذ إن إتيان البهائم له حكم خاص وعقوبة خاصة هي القتل.
ـ أن هذا الفرج لا يستباح بحال فغلظ فيه الحد. (5)
استدل القائلون بأنه يحد كحد الزنا:
ـ بما روي عن الحسن ( أنه قال : في الذي يأتي البهيمة إن كان ثيباً رجم، وإن كان بكرا جلد. (6)
ـ أنه حد يجب بالوطء، فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا. (7)
__________
(1) شرح فتح القدير 5/265.
(2) حلية العلماء:8/17.
(3) المغني والشرح الكبير:10/84.
(4) حسن: الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن يقع على البهيمة، ج 4/56 رقم 1455،ابن ماجه: كتاب الحدود، باب من أتى ذات محرم ومن أتى بهيمة،ج 2/856 رقم 2564، السنن الكبرى للنسائي:كتاب الرجم، باب من وقع على بهيمة،ج4/322 =
=رقم 7340،البيهقي: كتاب الحدود، باب من أتى بهيمة،ج8/233 رقم 16812،الدارقطني:كتاب الحدود، ج3/126 رقم 143،المستدرك: كتاب الحدود، ج4/395وقال فيه الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(5) البيان:12/370.
(6) عون المعبود:12/103.
(7) حلية العلماء:8/17.(3/118)
ـ أنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل ففرق بين البكر والثيب كفرج المرأة. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني
وقد نوقشت أدلة القائلين بالقتل بما يلي:
1ـ أن حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - من أتى بهيمة فاقتلوه حديث ضعيف، قال فيه أبو داود ( ليس بالقوي. (2)، ورد في عون المعبود(3)"وأما حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أتى بهيمة فاقتلوه "، في إسناد هذا الحديث كلام رواه أحمد وأصحاب السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو وغيره عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهم -.
2 ـ أن هذا الحديث يخالف ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهم - فقد قال:ليس على الذي يأتي البهيمة حد، وهذا يضعف حديث عمرو ابن أبي عمرو؛لأنه لو كان عند ابن عباس - رضي الله عنهم -في هذا الباب حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خالفه.
3 ـ أنه عارضه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيوان إلا لمأكله. (4)
وقد أجيب عن هذا من جهات:
الأولى: بأن حديث عمرو بن أبي عمرو قد تعقبه البيهقي( فقال:وقد رويناه من غير وجه عن عكرمة - رضي الله عنه - ولا أرى عمرو يقصر عن عاصم بن بهدلة في الحفظ،كيف وقد تابعه على روايته جماعة وعكرمة- رضي الله عنه - عند أكثر الأئمة من الثقات الأثبات. (5)
__________
(1) البيان:12/371.
(2) سنن أبي داود:2/564 رقم 4464.
(3) عون المعبود:12/103.
(4) سنن البيهقي:9/89، عون المعبود:10/252، نيل الأوطار:8/74، المحلى:7/295، تلخيص الحبير:4/56.
(5) نصب الراية:3/343.(3/119)
الثانية:أن عمرو بن أبي عمرو لا يقصر عن عاصم بن بهدلة بل لعله خير منه في الحديث ، يبين ذلك ترجمتهما في التقريب، فقال في عمرو :وهو ابن أبي عمرو مولى المطلب المدني: " ثقة ربما وهم ". وقال في عاصم: " صدوق له أوهام ". وقال الذهبي فيه: " صدوق يهم، روى له البخاري ومسلم. مقرونا ". وقال في عمرو: " صدوق حديثه مخرج في " الصحيحين " في الأصول ". فتبين أنه أقوى من عاصم فحديثه أرجح عند التعارض، زد على ذلك أن حديثه مرفوع، وحديث عاصم موقوف، فتضعيفه بالموقوف ليس جاريا على قواعد أهل الحديث في ترجيح الرواية على الرأي، خلافا للحنفية. ويزداد حديث عمرو قوة بالمتابعات. (1)
الثالثة:أنه لا حكم لرأي ابن عباس إذا انفرد فكيف إذا عارض المروي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من طريقه. (2)
……………الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أنه لا حد على واطئ البهيمة وإنما فيه التعزير،وذلك للأسباب الآتية:
1ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
2ـ أن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ـ إن صح ـ فيحمل على الزجر والتشديد، أو أنه محمول على من استحله. (3)
حكم البهيمة ا لموطوءة.
وقد اختلف الأئمة في حكم البهيمة الموطوءة:
فيرى الحنفية(4)أنه إن كانت البهيمة ملكاً للواطئ تذبح ولا تؤكل؛ لما روي أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - لم يحد واطئ البهيمة، وأمر بالبهيمة حتى أحرقت بالنار، وإنما أمر بقتلها حتى لا تأتي بصورة قبيحة يشبه بعضها الآدمي وبعضها البهيمة، ولا تؤكل بعد ذبحها؛لأن لحمها قد تنجس منه، وإن كانت البهيمة ملكاً لغيره فلا يجب ذبحها. (5)
أما الشافعية فعندهم قولان:(6)
__________
(1) إرواء الغليل:8/14.
(2) نيل الأوطار:7/119.
(3) عون المعبود:12/102.
(4) بدائع الصنائع:7/34.
(5) المعونة:2/328.
(6) الحاوي الكبير: 13/255،مغني المحتاج: 5/445.(3/120)
أحدهما: أنها لا تقتل.
الثانية:أنها تقتل للخبر سواء أكانت البهيمة له أو لغيره، وذلك للستر على من أتاها أن يُرى، فيقذفه الناس بإتيانها، وكذا لئلا تأتي بخلق مشوه.
ـ ثم أن كانت مأكولة اللحم وجهان:
أحدهما: لا تؤكل؛ لأن النفوس تعاف أكلها.
الثانية:تؤكل ؛لأن إتيانها لم ينقلها عن جنسها المستباح
ـ أما الحنابلة فعندهم يجب قتل البهيمة سواء أكانت مملوكة له أو لغيره، مأكولة أو غير مأكولة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة " ولم يفرق بين كونها مأكولة و غير مأكولة، ولا بين كونها ملكه أو ملك غيره.
وفي أكلها وجهان: (1)
1ـ يحل أكلها لقوله سبحانه: { ُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (2)
2ـ لا يحل أكله، لما روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قيل له :ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك , إلا أنه كره أكلها وقد فعل بها ذلك الفعل. (3)
هذا والراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم قتل البهيمة.
ورد في عون المعبود "واكثر الفقهاء ـ كما حكاه الخطابي ـ على عدم العمل بهذا الحديث، فلا يقتل البهيمة ومن وقع عليها،وإنما عليه التعزير." (4)
المسألة السابعة: الاستئجار على الزنا.
تحرير محل النزاع :(5)
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/84.
(2) المائدة من الآية 1.
(3) صحيح : سنن الترمذي:4/56 رقم 1454، سنن أبي داود 4/159 رقم 4464،البيهقي:8/233، الدار قطني:3/126 رقم 143،نصب الراية:3/342.
(4) عون المعبود:12/102 ،وينظر شرح السنة للبغوي :6/219 .
(5) شرح فتح القدير: 5/262, حاشية الدسوقي: 6/303, جواهر الإكليل:2/422, مغني المحتاج: 5/445, المغني والشرح الكبير: 10/97.(3/121)
اتفق الفقهاء على أن من استأجر امرأة للخدمة فزنى بها وجب عليه الحد , واختلفوا فيما لو استأجرها للزنى معها هل يحد أو لا؟
سبب الخلاف: هل الاستئجار شبهة يدرأ بها الحد أو لا؟ وهل العبرة في العقود للألفاظ والمباني أو للمقاصد والمعاني؟
……………أراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للمالكية(1)والشافعية(2) والحنابلة(3) والظاهرية(4)وأبو يوسف ومحمد.(5)
ويرون أن من استأجر امرأة للزنا فوطئها وجب عليه الحد.
الرأي الثاني:وهو للإمام أبي حنيفة (. (6)
ويرى أنه لا حد على من استأجر امرأة للزنا
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول والقياس.
أما المعقول فمن وجوه:
1ـ أن الاستئجار ليس بطريق لاستباحة الأبضاع شرعا فكان لغوا ؛كما لو استأجرها للطبخ أو للخبز ثم زنى بها ؛لأن محل الإجارة المنافع لا الأعيان ،والمستوفى بالوطء في حكم العين لما عرف في موضعه والعقد لا ينعقد في غير محله أصلا.(7)
2 ـ أنه لا شبهة فيه؛ لأن العقد لا ينعقد في غير محله؛ لأنه لا يثبت به النسب ولا تجب به العدة، ولو كان سببه الانعقاد لثبتا (أي النسب والعدة). (8)
3 ـ أن هذه إجارة لا تصح، ولا تأثير لهذا العقد على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم. (9)
__________
(1) حاشية الدسوقي: 6/303, جواهر الإكليل:2/422, حاشية الخرشي: 8/280.
(2) روضة الطالبين: 10/94, مغني المحتاج: 5/.445,.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/97, الكافي: 4/138.
(4) المحلى: 12/198.
(5) شرح فتح القدير: 5/262, البحر الرائق: 5/19, الدر المختار: 6/43.
(6) البحر الرائق:5/19، شرح فتح القدير:5/262.
(7) تبيين الحقائق:3/184.
(8) البحر الرائق:5/19، تبيين الحقائق:3/184.
(9) الكافي:4/138.(3/122)
أما القياس:فقياس المستأجرة للزنا على المستأجرة للخدمة، بجامع أن عقد الإجارة لا يستباح به البضع، ولأنه إذا حد في الإجارة الصحيحة فأولى أن يحد في الإجارة الفاسدة. (1)
استدل الإمام أبو حنيفة ( بالآثار والمعقول.
أما الآثار:
ـ فما رواه عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج قال :حدثني محمد بن الحارث بن سفيان عن أبي سلمة بن سفيان أن امرأة جاءت عمر بن الخطاب فقالت: يا أمير المؤمنين أقبلت أسوق غنما فلقيني رجل فحفن لي حفنة من تمر ،ثم حفن لي حفنة من تمر، ثم حفن لي حفنة من تمر، ثم أصابني، فقال عمر :قلت ماذا فأعادت، فقال عمر :ويشير بيده مهر مهر ويشير بيده كلما قال ثم تركها ."(2)
ما جاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال :أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة جهدها العطش فمرت على راع فاستسقت ، فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ،ففعلت فشاور الناس في رجمها فقال علي - رضي الله عنه - هذه مضطرة أرى أن تخلي سبيلها ففعل ."(3)
ـ وما رواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن الوليد بن عبد الله عن أبي الطفيل "((أن امرأة أصابها جوع فأتت راعيا فسألته الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها، قالت: فحثى لي ثلاث حثيات من تمر وذكرت أنها كانت جهدت من الجوع فأخبرت عمر فكبر وقال:مهر مهر مهر، كل حفنة مهر ودرأ عنها الحد.")) (4)
وجه الدلالة:في هذه الآثار ما يدل على أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - اعتبر الأجرة مهراً وأسقط بها الحد.
أما المعقول فمن وجوه :
__________
(1) شرح فتح القدير:5/262، الذخيرة:12/67.
(2) مصنف عبد الرزاق: باب الحد في الضرورة، ج 7/407 رقم 13652.
(3) صحيح :سنن البيهقي الكبرى : كتاب الحدود ، باب من زنى بامرأة مستكرهة ، 8/236 رقم 16827 ، إرواء الغليل :7/341
(4) مصنف عبد الرزاق: باب الحد في الضرورة، ج 7/407 رقم 13653.(3/123)
الأول :أن الله - سبحانه وتعالى - سمى المهر أجرة في قوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } (1)فصار شبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الحقيقة،لا الحقيقة، فصار كما لو قال: أمهرتك كذا لأزني بك. (2)
الثاني :أن المعقود عليه في الإجارة هي المنفعة، والزنا منفعة حقيقية إلا أنه في حكم العين، فبالنظر إلى الحقيقة تكون محلا ً لعقد الإجارة فأورث شبهة. (3)
الثالث : أنه وطء في عقد فاسد فوجب أن يسقط فيه الحد، قياساً على سائر المناكح الفاسدة. (4)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الثاني من عدة وجوه :
الأول: القول بأن تسمية المهر أجرة يورث شبهة ، قول مردود؛لأن إطلاق الأجرة على المهر وتأديته يكون بعد عقد النكاح لا قبله، بدلالة قوله تعالى: { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ً } (5) والاستمتاع بالوطء لا يكون إلا بعد العقد، والعقد هنا هو النكاح لا الأجرة، لقوله - سبحانه وتعالى -: { فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } (6) وإذا تعارض اللفظ مع القصد فالمعتبر هو القصد، ولو اختلف اللسان والقلب فالمعتبر ما في القلب.(7)ثم إنها لو كانت شبهة لثبت بها النسب والعدة ـ ولم يثبتا ـ فدل هذا على أن هذه الشبهة ليست معتبرة.
الثاني:أن ما ورد عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - إن صح فهو محمول على أن هذه المرأة مكرهة ، والإكراه شبهة دارئة للحد ، فسيدنا عمر - رضي الله عنه - أسقط الحد لا للمهر ولكن لشبهة الإكراه .
__________
(1) النساء من الآية 24.
(2) البحر الرائق:5/19، تبيين الحقائق: 3/184.
(3) شرح فتح القدير:تبيين الحقائق:3/184.
(4) الحاوي الكبير: 13/218.
(5) النساء من الآية 24.
(6) النساء من الآية 25.
(7) الأشباه والنظائر:ص 62.(3/124)
الثالث: أن القياس هنا قياس مع الفارق لاختلاف الصورة؛لأن الاستئجار ـ أبداً ـ ما سماه أحد نكاحا، ثم إن العقد الفاسد عند الحنفية ما شرع بأصله ووصفه ولكن جاوره شئ منهي عنه، والاستئجار على الزنا عقد على شئ محرم إضافة إلى أنه لم تجتمع فيه الأركان الأساسية في العقد،لا في عقد الإجارة ولا في عقد النكاح حتى يعتبر الأمر فيه شبهة.
الرابع : أن القياس على العقد قياس مع الفارق أيضا؛لأن النكاح الفاسد لابد أن يختلف في أصل جوازه، وهذا متفق على تحريمه. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته من أدلة الرأي الثاني ، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن الاستئجار على الزنا موجب للحد، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة؛ ولأنه لا تأثير لعقد الإجارة على المنافع في إباحة الوطء فكان كالمعدوم.
المسألة الثامنة: حد الحر والحرة غير المحصنين.
تحرير محل النزاع: (2)
اتفق الفقهاء على آن الزاني إذا كان بكراً (أي لم يسبق له الزواج والوطء في نكاح صحيح) فإن عقوبته حينئذٍ الجلد، لقوله - سبحانه وتعالى -: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (3)،كما اتفقوا على أن التغريب مشروع في الزاني البكر، إلا أنهم اختلفوا هل التغريب جزء من الحد،أو أنه عقوبة تعزيرية توكل لولي الأمر إن رأى إقامتها. (4)
سبب الخلاف:يرجع سبب الخلاف إلى كون الزيادة على النص هل هي نسخ للحكم أو لا؟ فمن رأى أن الزيادة على النص نسخ ذهب إلى عدم اعتبار التغريب جزء من الحد، ومن قال: بكون هذه الزيادة ليست نسخا بل جزء من الحكم قال: باعتبار التغريب جزء من الحد.
آراء الفقهاء
__________
(1) الذخيرة:12/68.
(2) الهداية:2/386، بدائع الصنائع: 7/39،المعونة:2/311، البيان:12/355، المغني والشرح الكبير:10/69، المحلى:12/100.
(3) النور من الآية 2.
(4) بداية المجتهد:6/129.(3/125)
الرأي الأول: وهو للمالكية(1) والشافعية(2) والحنابلة(3) والظاهرية(4)
ويرون أن التغريب جزء من الحد.
الرأي الثاني:وهو للحنفية(5)
و يرون أن التغريب ليس جزءاً من الحد، بل هو للإمام يفعله إذا رأى فيه مصلحة.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والآثار والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة العسيف الأجير "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. (6)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. (7)
__________
(1) المعونة: 2/311، المدونة الكبرى:4/398، جواهر الإكليل:2/425، حاشية الدسوقي:6/314،
(2) البيان:12/355، المهذب:2/342، الحاوي الكبير:13/193:203.
(3) المغني والشرح الكبير:10/69، المبدع:7/384، الكافي:4/141.
(4) المحلى:12/ 100،101.
(5) الهداية:2/386، بدائع الصنائع:7/389، شرح فتح القدير:5/241.
(6) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا:ج 6/2502 رقم 6440،أخرجه مسلم: كتاب القسامة والمحاربين،ج 3/1325 رقم 1697.
(7) صحيح: سبق تخريجه 41.(3/126)
وجه الدلالة: في هذين الحديثين دلالة على أن التغريب جزء من الحد،بدليل ما ذكر من تمام الحد، ثم إن قصة العسيف كانت بعد آية النور وهي قوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (1)؛لأنها كانت في قصة الإفك، وهي متقدمة على قصة العسيف؛ لأن أبا هريرة حضرها، وإنما هاجر بعد قصة الإفك بزمان. (2) ، فقد أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة العسيف أنه يقضي بكتاب الله - سبحانه وتعالى - ، ثم قال :إن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو المبين لكتاب الله - سبحانه وتعالى -، وخطب عمر - رضي الله عنه - بذلك على رؤوس المنابر، وعمل به الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعاً، قال ابن المنذر ( "وأجمعوا على أن على البكر النفي." (3)
ـ و ما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنهم - "((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب وغرب....)) وأن أبا بكر - رضي الله عنه - ضرب وغرب، وأن عمر - رضي الله عنه - ضرب وغرب." ))(4)
وجه الدلالة:أن التغريب وارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أما الآثار: فما ورد أن أبا بكر - رضي الله عنه - ضرب وغرب، وأن عمر - رضي الله عنه - ضرب وغرب." ))(5)
__________
(1) النور من الآية 2.
(2) فتح الباري:12/165، المحلى:12/103.
(3) الإجماع لابن المنذر:ص 111، فتح الباري:12/163، نيل الأوطار:7/89.
(4) صحيح :سنن الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في النفي4/42 رقم 1438،سنن النسائي الكبرى كتاب الرجم، باب ما جاء في النفي:4/323 رقم 7342، المستدرك:كتاب الحدود4/410 رقم 8105،تلخيص الحبير:4/61 ،إرواء الغليل :8/11.
(5) صحيح :سنن الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في النفي4/42 رقم 1438،سنن النسائي الكبرى كتاب الرجم، باب ما جاء في النفي:4/323 رقم 7342، المستدرك:كتاب الحدود4/410 رقم 8105،تلخيص الحبير:4/61 ،إرواء الغليل :8/11.(3/127)
وجه الدلالة:أن صحابته - رضي الله عنهم - قد غربوا ،فقد غرب أبو بكر - رضي الله عنه - من المدينة إلى فدك، وغرب عمر - رضي الله عنه - من المدينة إلى البصرة وإلى خيبر، وغرب عثمان - رضي الله عنه - إلى مصر ولم ينكر أحد فكان إجماعاً. (1)
ـ ما جاء عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد "أن رجلا وقع على جارية بكر فأحبلها، فاعترفت ـ ولم يكن أحصن ـ فأمر به أبو بكر - رضي الله عنه - فجلد مائة ثم نفي. (2)
أما المعقول:فإن في التغريب مصلحة للجاني ،حيث إن التغريب يعينه على التخلص من آثار الجريمة، ويفتح له باب التوبة والندم والرجوع إلى الفضيلة ومكارم الأخلاق، بعيداً عن أعين اللائمين، وألسنة الشامتين.
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ }
وجه الدلالة: أن الله - سبحانه وتعالى - لم يذكر في عقاب الحد إلا الجلد، والتغريب زيادة على نص القرآن، والزيادة نسخ للحكم، والمتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد. (3)
أما السنة: فما رواه الإمام البخاري ( عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه)) " (4)
__________
(1) فتح الباري:12/163، 165، نيل الأوطار:7/9.
(2) صحيح :سنن البيهقي:كتاب الحدود، باب ما جاء في نفي المخنثين، ج 8/223 رقم 16752، مصنف عبد الرزاق باب البكر:7/311 رقم 13311.تحفة الأحوذي :4/592 ،موطأ مالك ،كتاب الحدود ، باب فيمن اعترف على نفسه بالزنا رقم1563، عن مالك عن نافع عن صفيه ، وفيه نفي إلى فدك.
(3) أضواء البيان:4/403.
(4) صحيح: أخرجه البخاري كتاب المحاربين، باب البكران يجلدان وينفيان،:6/2508 رقم 6444.(3/128)
وجه الدلالة:يدل هذا الحديث على أن التغريب ليس جزءاً من الحد ،بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - جعله خارجا عنه، حيث جعل النفي شيئاً وإقامة الحد شئ آخر.
ـ ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال: إذا زنت فاجلدوها،، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير. (1)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر حد الزنا وهو الجلد، ولم يذكر النفي، وقد قال تعالى: { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ٌ } (2) فعلمنا بذلك أن ما يجب على الإماء هو نصف ما على الحرائر إذا زنين، ثم ثبت أن لا نفي على الأمة إذا زنت، فكان كذلك أن لا نفي على الحرة إذا زنت. (3)
ـ ما رواه أبو داود ( عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - "((أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت،فجلده الحد وتركها.")) (4)
وجه الدلالة: لو كان التغريب واجباً لأوضحه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (5)
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه ص 52.
(2) النساء من الآية 25.
(3) شرح معاني الآثار للطحاوي:3/137.
(4) صحيح: سنن أبي داود: كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك 4/150 رقم 4437، المعجم الكبير للطبراني:6/179 رقم 5924.
(5) عون المعبود:12/78.(3/129)
ـ كذا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا مع محرم،(1) فذلك دليل أيضا على النهي أن تسافر المرأة ثلاثة أيام في حد الزنا بغير محرم، وفي ذلك إبطال النفي عن النساء في الزنا، فإذا انتفى أن يكون على النساء غير المحصنات نفي في الزنا، انتفى ذلك أيضا من الرجال، فدرؤه عن الإماء درء عن الحرائر، ودرؤه عن الحرائر دليل على درئه عن الأحرار. (2)
أما المعقول :
ـ آن حديث عبادة - رضي الله عنه - الذي فيه النفي، منسوخ بآية النور؛لأن فيها الجلد بعد نفي. (3)
ـ أن الجمع بين الجلد والتغريب كان في الابتداء ثم انتسخ بنزول آية سورة النور، والمراد بالتغريب الحبس على سبيل التعزير. (4)
ـ أنه لا يجوز أن تنفى الحرة مع المحرم؛ لأن المحرم لم يزن فكيف يقام عليه الحد، وبدون المحرم هي ممنوعة من المسافرة شرعا ً فلا يجوز إقامة الحد بطريق فيه إبطال ما هو مستحق شرعاً. (5)
المناقشة
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الأول:
نوقشت الأدلة من السنة : بأن أحاديث التغريب عقوبة لا حد. (6)
وقد أجيب عن هذا: بأن الحدود كلها عقوبات والنزاع في ثبوت التغريب لا في مجرد التسمية.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش الدليل من الكتاب من جهات:
الأولى: أن القول بهذا ممنوع؛لأن النص ليس فيه تعرض لنفي التغريب إلا من جهة المفهوم، والحنفية لا يقولون به فينكرون تغريب الزاني، ويحملون ما في الأحاديث من التغريب على أنه كان تأديباً لرفع الفساد لا حد،وبالاتفاق متى عارض المفهوم وصفاً قدم عليه. (7)
__________
(1) صحيح ابن حبان:6/433 رقم 2734، سبل السلام 2/39.
(2) شح معاني الآثار:3/137، فتح الباري:12/165، المحلى:12/ 106.
(3) المبسوط:9/45.
(4) المبسوط:9/45.
(5) المبسوط:9/45.
(6) نيل الأوطار:7/89.
(7) أضواء البيان:5/409(3/130)
الثانية: أن الزيادة على النص ليست بنسخ؛لأن حكم النص باقٍ وهو الجلد ، وثبت التغريب بالسنة. (1)
الثالثة: أن الحديث التغريب مشهور لكثرة طرقه، وكثرة من عمل به من الصحابة - رضي الله عنه -، وهم قد عملوا بمثله بل بدونه: كنقض الوضوء بالقهقهة، وجواز الوضوء بالنبيذ وغير ذلك مما ليس في القرآن. (2)
الرابعة:لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ، فالزيادة على النص لا تكون ناسخة له إلا إذا كانت مثبتة شيئاً قد نفاه النص، أو نافية شيئا قد أثبته النص، أما إذا كانت زيادة عن شئ سكت عنه النص السابق ولم يتعرض لنفيه ولا لإثباته، فالزيادة حينئذٍ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية حتى يرد دليل ناقل عنه، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ. (3)
نوقش الدليل الأول من السنة :
ـ بأن الحديث يفسر بعضه بعضاً، وقد وقع التصريح ـ في قصة العسيف ـ من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عليه جلد مائة وتغريب عام، وهو ظاهر في كون حد، ولم يختلف على رواية في لفظه فهو أرجح من حكاية الصحابي مع الاختلاف. (4)
نوقش دليلهم الثاني من السنة بما يلي:
ـ أن الحرة تختلف عن الأمة ؛ لأن أحكام الأحرار تختلف عن أحكام العبيد، فالأمة تجلد خمسين ـ ولو محصنة ـ ولا ترجم، والأحرار بخلاف ذلك. قال ابن القطان : "أجمع العلماء أن الأمة إذا تزوجت فزنت ان عليها نصف ما على الحرة البكر من الجلد ."(5)
نوقش دليلهم الثالث من السنة :
__________
(1) شرح الزرقاني على موطأ مالك:4/142.
(2) فتح الباري:12/163.
(3) أضواء البيان للشنقيطي:6/62.
(4) فتح الباري:12/165.
(5) الإقناع في مسائل الإجماع :2/252 .(3/131)
ـ بأن هذا الحديث ليس فيه ذكر التغريب ، ولا التصريح بعدمه، وبالاحتمال يسقط الاستدلال 000ولم يعلم هل هو قبل حديث العسيف أو بعده ؟ فعلى أن المتأخر حديث العسيف فهذا واضح، وعلى تقدير أن حديث العسيف متقدم ، فذلك التصريح بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله - سبحانه وتعالى - مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل، ولو تكررت الروايات تكرراً كثيراً، وعلى أنه لا يعلم المتقدم .، فالحديث المتفق عليه من صحابيين جليلين هما أبو هريرة - رضي الله عنه - وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله - سبحانه وتعالى -، لاشك في تقديمه على حديث أبي داود ( الذي هو دونه في السند والمتن، أما كونه في السند فظاهر، وأما كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ( ليس فيه التصريح بنفي التغريب، والصريح مقدم على غير الصريح. (1)
نوقش دليلهم الخامس :
ـ بأن النهي جاء في حق النساء فخصصهم من العموم الوارد بالنفي، ولا يصح أن ينسحب الحكم على الرجال.
نوقش دليلهم السادس :
القول بأن حديث عبادة منسوخ بآية النور غير مسلم لأن هذا يحتاج إلى ثبوت التاريخ و العكس أقرب فان آية الجلد مطلقة في حق كل زان فخص منها في حديث عبادة الثيب ولا يلزم من خلو آية النور عن النفي عدم مشروعيته كما لم يلزم من خلوها من الرجم ذلك. (2)
__________
(1) نيل الأوطار:7/89، أضواء البيان:6/64.
(2) فتح الباري:12/165.(3/132)
ـ أن دعواهم أن خبر عبادة - رضي الله عنه - كان قبل نزول الآية فظن منهم , وقد حرم الله تعالى القطع بالظن بقوله تعالى: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ } (1) قال تعالى: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } (2)000فالقول الصحيح في هذا المكان , هو القطع بأن حديث عبادة - رضي الله عنه - كان قبل نزول { الزانية والزاني } أو بأن نزول هذه الآية كان قبل حديث عبادة - رضي الله عنه - , فمن الممكن أن يكون حديث عبادة - رضي الله عنه - قبل نزول الآية المذكورة.
وجائز أن يكون نزول الآية قبل حديث عبادة - رضي الله عنه - .. فإن كان حديث عبادة قبل نزول الآية , فقد صح ما في حكم حديث عبادة - رضي الله عنه - من الجلد , والتغريب , والرجم , وكانت الآية وردت ببعض ما في حديث عبادة - رضي الله عنه - , وأحالنا الله تعالى في باقي الحد على ما سلف في حديث عبادة. ولم تكن الآية مانعة من الرجم الذي ذكر في حديث عبادة قبل نزولها - بزعمهم - ولم يذكر فيها , فكذلك ليست مانعة من التغريب الذي ذكر في حديث عبادة قبل نزولها.
ـ وإن كان حديث عبادة - رضي الله عنه - بعد نزول الآية , فقد جاء بما في الآية من الجلد , وزيادة الرجم , والتغريب , وكل ذلك حق , ولم يكن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة - رضي الله عنه - "((قد جعل الله لهن سبيلا.")) بموجب أن يكون قبل نزول الآية ولا بد , بل قد تنزل الآية ببعض الذي جعله الله تعالى لهن , ثم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة - رضي الله عنه - تمام السبيل , وهو الرجم , والتغريب المضافان إلى ما في الآية من الجلد. (3)
الرأي الراجح
__________
(1) النجم من الآية 23.
(2) النجم من الآية 28.
(3) المحلى:12/106، 107.باختصار وتصرف يسير(3/133)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلين:بأن التغريب جزء من تمام الحد،نظراً لاستنادهم إلى الأحاديث الصحيحة، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - من بعده؛ ولأن التغريب وإن كان زيادة على نص القرآن إلا أن الزيادة ليست نسخاً وفقا لما ذهب إليه الجمهور؛ لأن النسخ رفع الحكم الشرعي والتغريب ليس رفعا وإنما هو ضم له مع الجلد، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى وغرب. (1)
قال الشوكاني (:"الحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة عند الحنفية فيما ورد من السنة زائدا على القرآن فليس لهم معذرة عنها بذلك وقد عملوا بما هو دونها بمراحل كحديث نقض الوضوء بالقهقهة,وحديث جواز الوضوء بالنبيذ وهما زيادة على ما في القرآن , وليست هذه الزيادة مما يخرج بها المزيد عليه عن أن يكون مجزئا حتى تتجه دعوى النسخ. (2)
تتمة
هذا وقد اختلف الجمهور القائلون بالتغريب، في حكم تغريب المرأة:
ـ فيرى الشافعية(3) والحنابلة(4) والظاهرية (5)
بأن المرأة تغرب كذلك لعموم الأدلة ولا فرق بين ذكر وأنثى.
ـ ويرى مالك ((6)
__________
(1) تحفة الأحوذي:4/599، إرواء الغليل 8/11.
(2) نيل الأوطار:7/89.
(3) البيان:12/355، الحاوي الكبير:13/163.
(4) المغني والشرح الكبير:10/69.
(5) المحلى:12/100 ،101 .
(6) المدونة الكبرى:4/391، جواهر الإكليل 2/462، المعونة:2/311.(3/134)
أنه لا تغريب على النساء؛لأن التغريب للرجل عقوبة له فينقطع عن ولده وأهله وعن بلده ومعاشه، وتلحقه كذلك بنفيه إلى غير بلده، وليس فيه ما في المرأة من المراعاة في الحفظ ومنع السفر، والمرأة محتاجة إلى الصيانة والحفظ والمراعاة أكثر من الرجل، ففي تغريبها تعريض لها للتهتك الذي هو ضد الصيانة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى المرأة عن السفر إلا مع محرم أو زوج، فعموم أحاديث التغريب بالنسبة للنساء خصصته أحاديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم أو زوج ،وهذا لا إشكال فيه، وتغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وإن غربت بمحرم أفضى إلى تغريب من ليس بزان ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد به الشرع، والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل.
الرأي الراجح
هذا وقد اطمأنت النفس إلى ما رجحه الشنقيطي ((1) حيث قال:"والذي يظهر لي أنه إن وجدلها محرم متبرع بالسفر معها إلى محل التغريب مع كون محل التغريب محل مأمن لا تخشى فيه فتنة مع تبرع المحرم المذكور بالرجوع معها إلى محلها بعد انتهاء السنة فإنها تغرب؛لأن العمل بعموم الحديث الخاص بالتغريب لا معارض له، أما إن لم تجد محرماً متبرعاً بالسفر معها فلا يجبر؛ لأنه لا ذنب له ولا تكلف هي السفر بدون محرم لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وذلك لأن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الأمر على الأصح، ودرأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
المسألة التاسعة: بكم مرة من الإقرار يثبت حد الزنا.
تحرير محل النزاع: (2)
__________
(1) أضواء البيان: 5/413
(2) بدائع الصنائع: 7/50،شرح فتح القدير: 5/220، المدونة الكبرى:4/383، البيان:12/373، المغني والشرح الكبير:10/85، المحلى:12/93.(3/135)
اتفق الفقهاء على ثبوت الزنا ووجوب الحد رجماً كان أو جلداً،بإقرار الزاني أو الزانية،(1) ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنا بالإقرار مرة واحدة،أولا يكفي ذلك حتى يقرّ به أربع مرات؟ وهل الأربعة في مجلس واحد، أو في مجالس متعددة؟
أراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية، (2)و الحنابلة. (3)
ويرون أنه لا يثبت الزنا حتى يقر به أربع مرات. (4)
الرأي الثاني:وهو للمالكية (5) و الشافعية (6) و الظاهرية. (7)
ويرون أنه يثبت الإقرار بالزنا مرة واحدة.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والمعقول.
أما السنة:
فما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:"((أتى رجل رسول الله - رضي الله عنه -وهو في المسجد فناداه فقال يا رسول الله :إني زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال (أبك جنون). قال :لا ،قال (فهل أحصنت). قال نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اذهبوا به فارجموه.")) (8)
وجه الدلالة من جهتين:
__________
(1) الإقناع في مسائل الإجماع:2/256 .
(2) الهداية:2/382، بدائع الصنائع: 7/50، شرح فتح القدير 5/220، 221.
(3) المغني والشرح الكبير:10/85، المبدع:7/393،394،الكافي:4/139.
(4) ويرى الحنفية:أن الإقرار يكون أربعاً في أربعة مجالس للمقر لا القاضي، بينما يرى الحنابلة أنه لا يضر سواء أكان في مجلس واحد أو في مجالس.
(5) المدونة الكبرى:4/383، المعونة:2/314، حاشية الدسوقي:6/310.
(6) الحاوي الكبير:13/206 وما بعدها، البيان:12/373.
(7) المحلى:12/95، 97.
(8) صحيح:أخرجه البخاري:كتاب الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة 6/2499 رقم 6430، أخرجه مسلم:كتاب القسامة، باب من اعترف على نفسه بالزنا 2/1317 رقم 1619.(3/136)
الأولى:أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أخر إقامة الحد إلى أن تم الإقرار أربع مرات، فلو كان الإقرار مرة واحدة كافياً لم يؤخر؛لأن إقامة الحد عند ظهوره واجبة وتأخير الواجب لا يظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدل هذا على أن إقرار الأربع هي الموجبة. (1)
الثانية: أن الحديث فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه،أي أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط لما تضمنه معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع، ترتيب الجزاء على شرطه، وهذا دليل على اشتراط الأربع المذكورة.(2)فلو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -؛لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى.(3)
ـ ماروى أبو برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال له ـ أي لماعز ـ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إن أقررت أربعاً رجمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وجه الدلالة من جهتين:
الجهة الأولى :أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله؛لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الخطأ.
الجهة الثانية: أنه قد علم هذا من حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه.(4)
أما المعقول فمن جهتين :
الأولى :أن الشهادة اختصت في إثبات الزنا بزيادة العدد فكذلك الإقرار إعظاماً لأمر الزنا وتخفيفاً لمعنى الستر، وإنزال كل إقرار منزلة شاهد واحد. (5)
الثانية: أن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير من الأحاديث تفسره وتبين أن الاعتراف الذي يثبت به كان أربعاً. (6)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والإجماع والمعقول:
__________
(1) العناية على الهداية:5/195، المغني والشرح الكبير:10/85.
(2) أضواء البيان:6/31.
(3) المبدع:7/394.
(4) المغني والشرح الكبير:10/85.
(5) الهداية:2/382،شرح فتح القدير:5/221، الحاوي الكبير:13/207.
(6) المغني والشرح الكبير:10/85.(3/137)
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها." (1)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر تكرار الاعتراف فلو كان شرطاً معتبرا لذكره - صلى الله عليه وسلم -؛لأنه في مقام البيان الذي لا يؤخر عن وقت الحاجة. (2)
ـ ما رواه أبو داود بسنده من حديث خالد بن اللجلاج حدثه: أن اللجلاج أباه أخبره أنه كان قاعدا يعتمل في السوق فمرت امرأة تحمل صبيا فثار الناس معها وثرت فيمن ثار وانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: " من أبو هذا معك؟ " فسكتت فقال شاب حذوها: أنا أبوه يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل عليها فقال " من أبو هذا معك؟ " فقال الفتى :أنا أبوه يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض من حوله يسألهم عنه فقالوا ما علمنا إلا خيرا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " أحصنت؟ " قال :نعم فأمر به فرجم00 " (3)
وجه الدلالة:أنه لو كان تربيع الإقرار شرطاً لما تركه - صلى الله عليه وسلم - حين سفك الدماء وهتك الحرم. (4)
أما الإجماع:
انعقد الإجماع على أن الإقرار في الحقوق يجب بالمرة الواحدة، والحدود تقاس عليها وليس الشهادات من باب الإقرار في شئ لإجماعهم على أن الإقرار في الحقوق لا يجب تكراره مرتين قياساً على الشاهدين، وكذا لا يجب الإقرار في الزنا أربع مرات قياساً على الشهود الأربعة. (5)
أما المعقول فمن وجوه:
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه42.
(2) إثبات الزنا:ص 827.
(3) صحيح:سنن أبي داود كتاب الحدود، باب رجم ماعز:4/150 رقم 4425، السنن الكبرى:4/282، باب الاعتراف بالزنا مرتين رقم 7184.
(4) نيل الأوطار:7/98.
(5) مراتب الإجماع: 1/229، الحاوي الكبير:13/207، فتح العلي المالك: 9/85.(3/138)
1ـ أن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب , وهذا المعنى عند التكرار والتوحد سواء ; لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد رجحانا بالتكرار , ولهذا لم يشترط في سائر الحدود , بخلاف عدد المثنى في الشهادة ; لأن ذلك يوجب زيادة ظن عليه فيها. (1)
2ـ أنه اعتراف حق فيثبت باعتراف مرة كسائر الحقوق. (2)
3ـ أن الروايات في تعدد الإقرار مختلفة فمرة يأتي الإقرار مرة، وأخرى اثنين وغيرها ثلاثة، فدل هذا على أن تعدد الإقرار لسبب آخر غير ثبوت الحد.
المناقشة
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الأول:
وقد نوقشت أدلتهم من السنة بما يلي:
أولاً: تكلم ابن حزم ( في خبر ماعز كلاماً طيباً فقال: صح يقينا أن ترديده - صلى الله عليه وسلم - ماعزا إنما كان لوجهين: أحدهما : ما نص - صلى الله عليه وسلم -من تهمته لعقله فسأل - صلى الله عليه وسلم - قومه المرة بعد المرة هل به جنون؟ وسؤاله - صلى الله عليه وسلم -هل شرب خمراً كما روينا من طريق مسلم (..عن سليمان بن يزيد عن أبيه - رضي الله عنهم -قال:" ((جاء ماعز بن مالك - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: طهرني , قال: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب , قال: فرجع غير بعيد , ثم جاء فقال: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - طهرني؟ فقال له: مثل ذلك , حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فيم أطهرك؟ قال: من الزنى , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبه جنة؟ فأخبر أنه ليس بمجنون , فقال: أشرب خمرا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أزنيت؟ قال: نعم , فأمر به فرجم ,.")) (3)
__________
(1) بدائع الصنائع:7/50.
(2) المغني والشرح الكبير:10/85.
(3) صحيح: أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا:ج 3/1322 رقم 1695.(3/139)
والوجه الآخر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتهمه أنه لا يدري ما الزنى؟ فردده لذلك وقرره، ودليل ذلك ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنهم - "((أن الأسلمي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بالزنى , فقال: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت 0000")) فقد صح يقينا أن ترديد النبي - عليه السلام - لماعز- رضي الله عنه - لم يكن مراعاة لتمام الإقرار أربع مرات أصلا , وإنما كان لتهمته إياه في عقله , وفي جهله ما هو الزنى - فبطل تعلقهم بحديث ابن بريدة - رضي الله عنه - - والحمد لله رب العالمين. (1)
ثانيا:أن حديث الغامدية ليس فيه إقرارها أربع مرات، بدليل قولها: تريد أن تردني كما رددت ماعزا ولم ينكر عليها.
وقد أجيب عن هذا:
القول بأن الغامدية لم تقرّْ إلا مرة واحدة، ممنوع ، بل أقرت أربعاً يدل عليه ما جاء عند أبي داود ( والنسائي ( "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون أن الغامدية وماعز لو جعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما بعد الرابعة فهذا نص في إقرارها أربعة، غاية ما في الباب أنه لم ينقل تفاصليها، والرواة كثيراً ما يتحدثون ببعض صور الواقعة. (2)
وقد نوقش هذا:
__________
(1) المحلى:12/94، 95، باختصار.
(2) ضعيف: سنن أبي داود:4/149 رقم 4434، وفيه كنا أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك - رضي الله عنهم - لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجعا عند الرابعة. وقال فيه الألباني: ضعيف، ضعيف سنن أبي داود 1/441 رقم 955.(3/140)
بأن الحديث الذي جاؤا به ضعيف أخرجه أبو داود ( من طريق أبي أحمد وهو الزبيدي، حدثنا بشير بن المهاجر، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهم - وهو على شرط مسلم وأصله عنده مطولا من طريق أخرى عن بشير بن المهاجر وليس فيه هذا الذي رواه أحمد عن بشير،(1)وبشير بن المهاجر وإن أخرج له مسلم فهو لين الحديث كما في التقريب(2) فلا يحتج به لا سيما عند التفرد. (3)
وأجيب عن خبر ماعز - رضي الله عنه - أيضا بما يلي:
القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - رد ماعز - رضي الله عنه - كان لاسترابة في عقله فإن سلم لا يتوقف علم ذلك على الأربعة، والثلاثة موضوعة في الشرع لإبلاء الأعذار كخيار الشرط جعل ثلاثا؛لأن عندها لا يعذر المغبون....، فلو لم تكن الأربعة عددا معتبرا في اعتبار إقراره لم يؤخر رجمه بعد الثالثة، ومما يدل على ذلك ترتيبه - صلى الله عليه وسلم - الحكم عليها وهو مشعر بعليتها حيث قال في حديث هزال - رضي الله عنه - إنك قد قلتها أربعا ً فبمن زنيت. (4)
ونوقش الدليل من القياس :
بأن القياس على شهادة الزنا في غاية الفساد؛لأنه يلزم من ذلك أن يعتبر في الإقرار بالأموال والحقوق أن يكون مرتين؛لأن الشهادة في ذلك لابد أن تكون من رجلين، ولا يكفي فيها رجل واحد، واللازم باطل بالإجماع، وأيضاً إن المقذوف لو أقر بالزنا مرة لسقط الحد عن القاذف، ولولا أن الزنا ثبت لما سقط؛ كما لو شهد اثنان بالزنا لا يسقط الحد عن القاذف حيث لم يثبت به الزنا. (5)
وقد أجيب عن هذا :
__________
(1) وأصل الحديث أخرجه مسلم 3/1323 رقم 1695.
(2) تقريب التهذيب:1/111.
(3) إرواء الغليل:8/27.
(4) شرح فتح القدير:5/220.
(5) مفاتيح الغيب:22/443، نيل الأوطار 7/98.(3/141)
بأن القياس متروك بالنص ؛لما ورد أن ماعزاً - رضي الله عنه - لما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقر بالزنا أعرض عنه - صلى الله عليه وسلم - بوجهه الكريم إلى الأربع. (1)
و نوقش هذا:
بأنهم عملوا به على خلاف أصولهم من أن الحقوق يقبل فيها الإقرار مرة واحدة ويثبت هذا بخبر الواحد، وخبر الواحد إذا خالف الأصول عندهم لا يعمل به. (2)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:نوقشت الأدلة من السنة بما يلي:
ـ معنى الاعتراف أي المعهود في الزنا بناء على أنه كان معلوماً بين الصحابة خصوصاً لمن كان قريباً من خاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيّن الصحابة ذلك.(3)
ـ أنه يمكن الجمع بين الروايات فرواية مرتين تحمل على أنه اعترف مرتين في يوم، ومرتين في يوم آخر، ويدل على هذا ما أخرجه أبو داود ( عن ابن عباس - رضي الله عنهم -، قال :جاء ماعز - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعترف بالزنا مرتين فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين(4) فلعل الراوي اقتصر على إحداهما أو أن مرادة اعترف مرتين في يومين، فيكون من ضرب اثنين في اثنين(5)، أما رواية الثلاث فكأن المراد الاقتصار على المرات التي رده فيها فإنه لم يرده في الرابعة بل استثبت وسأل عن عقله ثم أمر برجمه.
__________
(1) بدائع الصنائع:7/50.
(2) شرح فتح القدير: 5/221.
(3) الحاوي الكبير:13/208.
(4) عون المعبود:12/71
(5) فتح الباري:12/125، نيل الأوطار:7/ 97.(3/142)
وقد أجيب عن هذا: أنه وقع في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أبي داود ( ما يدل على أن الاستثبات كان بعد الرابعة، وكذا عند مسلم ( ولفظه عند أبي داود(1) "جاء الأسلمي نبي الله فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً كل ذلك يعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل في الخامسة فقال: تدري ما الزنا، والمراد بالخامسة الصفة التي منه عند السؤال والاستثبات؛لأن صفة الإعراض وقعت أربع مرات وصفة الإقبال عليه للسؤال وقعت بعدها. (2)
الرأي الراجح
يظهر مما سبق أن أدلة الفريقين لم تخل من المناقشة،إلا أن الجمع بين الأحاديث أولى من الإلغاء ما أمكن ذلك، فيجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع الأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة.
ووجه الجمع: حمل الأحاديث التي فيها الإقرار أكثر من مرة على كان أمره متلبسا في صحة عقله واختلاله وصحوه وسكره، وتحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر وسلامة إقراره من المبطلات، ومما يؤيد هذا القول أن جميع الروايات التي يفهم فيها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز- رضي الله عنه -، وقد دلت روايات حديثه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان لا يدري أمجنون هو ام لا؟ صاحٍ هو أم سكران بدليل سؤاله: أبك جنون وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - أشرب خمراً فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر.
كل ذلك يدل على أن الراجح الجمع بين الأدلة وهو أولى. (3)
المسألة العاشرة
شهد أربعة بالزنا على امرأة، وشهد أربع نسوة أنها عذراء.
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على رأيين:
__________
(1) سنن أبي داود :4/148 رقم4428 .
(2) المحلى:12/96، فتح الباري:12/125، 126، نيل الأوطار:7/97.
(3) نيل الأوطار:7/99، أضواء البيان:6/32.(3/143)
الرأي الأول:وهو للحنفية(1) والشافعية(2) والحنابلة. (3)
ويرون أن لا حد على الرجل والمرأة، ولا يحد الشهود حد القذف.
الرأي الثاني:و هو للمالكية،(4) والظاهرية. (5)
ويرون أنه يقام الحد على المرأة، ولابن حزم ( تفصيل فيقول: إذا شهد النساء بأن البكارة يبطلها إيلاج الحشفة فقد أيقنا بكذب الشهود ولا يقام الحد، وإن قلن إن البكارة واغلة داخل الفرج لا يبطلها إيلاج الحشفة فقد أمكن صدق الشهود فيجب الحد.
الأدلة
أدلة أصحاب الرأي الأول
استدل القائلون بعدم إقامة حد الزنا بالمعقول من جهات :
ـ أن قول النساء حجة فيما لا يطلع عليه الرجال خصوصاً في إسقاط الحد، فيسقط الحد عن المرأة . (6)
ـ أنه لا بكارة مع الزنا فيدرأ الحد عنها لظهور كذب الشهود. (7)
ـ أن البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهراً؛لأن الزنا لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة؛لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها، وإذا انتفى الزنا يجب الحد كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب.(8)
ـ أن احتمال صدق الشهود وارد لكون المرأة قد وطئت، والبكارة قد عادت، وهذا الأمر شبهة دارئة للحد.(9)
(واستدلوا على عدم إقامة حد القذف على الشهود.
__________
(1) الهداية:2/395، شرح فتح القدير: البحر الرائق: 5/24، الجامع الصغير:284،حاشية رد المحتار: 6/49، الفتاوى الهندية:2/169.
(2) الحاوي الكبير: 13/269.
(3) المغني والشرح الكبير:10/95.
(4) المدونة الكبرى:4/405،حاشية الدسوقي: 6/311.
(5) المحلى:12/216،217.
(6) شرح فتح القدير: 5/288، العناية على الهداية:5/288،تبيين الحقائق:3/190.
(7) شرح فتح القدير: 5/288.
(8) المغني والشرح الكبير:10/95.
(9) الحاوي الكبير: 13/239، المغني والشرح الكبير:10/95.(3/144)
ـ أن عددهم متكامل في الشهادة على الزنا، وإنما امتنع إقامة الحد على الرجل و المرأة؛لقول النساء بالبكارة، فقول النساء حجة في إسقاط الحد لا في إيجابه؛ ولأنه لم يقطع بكذب الشهود؛ لجواز صدقهم وتكون العذرة قد عادت لعدم المبالغة في إزالتها بالزنا، أو لكذب النساء. (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول.
ـ أن البينة قد صحت بما يوجب الحد بنص القرآن، فلا يجوز أن يعارض أمر الله - سبحانه وتعالى - بشيء. (2)
ـ أن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود، فلا تسقط الحدود بشهادتهن. (3)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ أن الحد على كلا الاعتبارين قائم؛ لأن شهادة النساء إما أن تعارض شهادة الرجال أو لا؟ فشهادة النساء إن لم تعارض شهادة الرجال تثبت بشهادتهن بكارتها وهذا لا يستلزم عدم الزنا؛ لجواز أن تعود البكارة (4) ؛لعدم المبالغة في إزالتها فلا يعارض شهادة الزنا، فينبغي أن لا يسقط الحد، وإن تعارضت بأن لا يتحقق عود البكارة يجب أن تبطل شهادتهن؛ لأنها لا تقوى على شهادة الزنا.
أجيب عن هذا:أنه سواء عارضت أم لا، لابد أن تثبت شبهة يسقط بها الحد. (5)
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الثاني بما يلي:
1ـ أن هذه شهادة الرجال ليست حقاً بل هي باطل، ولا يحل الحكم بالباطل؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - أمر بإنفاذ الشهادة إذا كانت حقاً، لا إذا كانت باطلة، وهذه الشهادة باطلة بالقرائن فلا يحكم بها.
2ـ سلمنا أن شهادة النساء غير مقبولة في الحدود إلا أنها مقبولة في إثبات البكارة، وقد أخذ بشهادتهن لا في الحدود بل في إثبات البكارة، ووجود البكارة مع الوطء شبهة دارئة يسقط بها الحد.
الرأي الراجح
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/288.
(2) المحلى:12/216.
(3) المغني والشرح الكبير:10/95.
(4) الحاوي الكبير:13/269.
(5) شرح فتح القدير:5/288.(3/145)
بعد العرض السابق فالرأي المختار هو الرأي الأول القائل: بعدم إقامة الحد ؛لقوة أدلتهم وموافقتها لمقاصد الشريعة وسماحة الإسلام، حيث إن الإسلام جاء بصون الأعراض قدر الإمكان، ولا يتشوف إلى العقاب، وهذا يوافق الأخذ بمبدأ درأ الحدود بالشبهات، ولا شبهة أقوى من وجود البكارة.ثم إنه لا حاجة إلى التكلفات التي أوردها ابن حزم ( فلأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطأ في العقوبة، لذا كان الرأي الأول هو الراجح.
المسألة الحادية عشرة:أي الأعضاء تضرب في الحدود.
تحرير محل النزاع: (1)
اتفق الفقهاء على أنه يجب اجتناب الوجه والمذاكير والمقاتل ، واختلفوا في غيره من الأعضاء على آراء ثلاثة:
الرأي الأول: وهو للحنفية ـ عدا أبو يوسف ( ـ(2) والشافعية في قول(3) والحنابلة.(4)
ويرون تفريق الضرب على الأعضاء ويتقي الرأس والوجه والفرج.
الرأي الثاني: وهو للمالكية(5)
ويرون بأن الحدود لا تضرب كلها إلا في الظهر.
الرأي الثالث: وهو للشافعية في قول(6) والظاهرية(7),وأبو يوسف ( من الحنفية (8)
ويرون أن سائر الأعضاء تضرب في الحدود , ويتقي الفرج والوجه والمقاتل , أما الرأس فلا يلزم اتقاؤه , بينما يري الظاهرية في حد القذف خاصة أنه لا يضرب إلا في الظهر.
الأدلة
أدلة أصحاب الرأي الأول القائل :بوجوب اتقاء الرأس.
استدلوا بالمعقول :
__________
(1) شرح فتح القدير:5/332، بدائع الصنائع: 7/59، المعونة:2/325، البيان:12/382، أسنى المطالب:4/160، مغني المحتاج: 5/522، المبدع:7/369، المحلى:12/80.
(2) الهداية:2/384، شرح فتح القدير:5/231.
(3) البيان:12/383، المهذب:2/346، الحاوي الكبير:13/203.
(4) المبدع:7/369.
(5) المعونة: 2/325, الذخيرة: 12/80, فتح العلي المالك: 9/57.
(6) البيان: 12/382, 383.
(7) المحلى: 12/79.
(8) الهداية: 2/384, شرح فتح القدير: 5/383.(3/146)
ـ أن الرأس مجمع الحواس الباطنة فربما تفسده معنى وهو إهلاك. (1)
ـ أن جمع الضرب في عضو واحد يخشى منه الهلاك والحد شرع زاجراً لا مهلكاً. (2)
أدلة أصحاب الرأي الثاني القائلين :بتحديد الضرب في الظهر.
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - البينة وفلا حد في ظهرك. (3)
وجه الدلالة:أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن إقامة الحد لا تكون إلا في الظهر وهذا في القذف ويقاس عليه بقية الحدود.
استدل أصحاب الرأي الثالث القائلين :بعدم اتقاء الرأس بالآثار والقياس والمعقول:
أما الآثار: فما روي عن الإمام علي - رضي الله عنه - أنه أتي برجل سكران،أو في حد ، فقال :اضرب وأعط كل عضو حقه ،واتق الوجه والمذاكير. (4)
ـ و ما روي عن المسعودي عن القاسم أن أبا بكر - رضي الله عنه - أتي برجل منتف ٍ من أبيه، فقال :اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. (5)
ـ ما روي عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له: ضبيغ قدم المدينة فجعل يسأله عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر - رضي الله عنه - وأعد له عراجين النخل فقال له من أنت؟ قال :أنا عبد الله صبيغ , فأخذ عمر - رضي الله عنه - عرجونا من تلك العراجين فضربه على رأسه , فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، فقد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. (6)
أما المعقول :
__________
(1) الهداية:2/384.
(2) الهداية:2/384، بدائع الصنائع:7/59.
(3) صحيح:سبق تخريجه ص 81.
(4) ضعيف: مصنف ابن أبي شيبة:باب ما جاء في الضرب في الحد،ج 5/529 رقم 28675،تلخيص الحبير:4/ 78،نصب الراية:3/324.
(5) ضعيف: مصنف ابن أبي شيبة:6/5 رقم 29033، الدراية :2/98 ، نصب الراية :3/324 .
(6) منقطع : سنن الدارمي: المقدمة ، باب من هاب الفتيا وكره التنطع ،1/66 رقم 144.(3/147)
ـ أنه لم يرد عن الله تعالى ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - أمر اً بأن يخص عضوا بالضرب إلا في حد القذف لقوله- صلى الله عليه وسلم - "((البينة وإلا حد في ظهرك.")) (1)
ـ أن الرأس يكون مغطى في العادة فلا يخاف تشويهه؛ ولأن ضربه بالسوط لا يخاف منه الموت. (2)
أما القياس: فقياس الرأس على الوجه من ناحيتين:
أولاهما: أن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه، بدليل أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه واحد، مفارقاً سائر الجسد؛ لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه يجب فيها حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه، فوجب استواء الرأس والوجه في وجوب صونهما عن الضرب.
ثانيهما:أن المعنى الذي منع ضرب الوجه لأجله ما فيه من الجناية على البصر، وذلك موجود في الرأس؛ لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث منه الماء في العين واختلاط العقل. (3)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول
نوقش القياس :بأن قياس الرأس على الوجه قياس مع الفارق؛ لأن الضربة إذا وقعت على الوجه فعظم الجبهة رقيق ربما انكسر بخلاف عظم القفا فإنه في نهاية الصلابة، والعين في نهاية اللطافة فالضرب عليها يورث العمى. (4)
وقد أجيب عن هذا:بأن الرأس والوجه في مكان واحد فلا يأمن معه التلف فمن ضرب الرأس لئلا يؤدي إلى التلف للوجه وهذا من باب سد الذرائع.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
ـ أن المأمور به هو الجلد وأنه مأخوذ من الجلد والضرب على عضو واحد ممزق للجلد وبعد تمزيق الجلد لا يمكن الضرب على الجلد بعد ذلك. (5)
مناقشة أدلة الرأي الثالث:
__________
(1) صحيح :سبق تخريجه ص 81.
(2) البيان: 12/383.
(3) مفاتيح الغيب:22/447.
(4) مفاتيح الغيب:22/447.
(5) بدائع الصنائع:7/59.(3/148)
ـ نوقش ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بأن إسناده ضعيف؛ لأن فيه المهاجر بن عميرة،أورده ابن أبي حاتم بهذا السند شيخاً وتلميذا، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً، وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف، وقد اختلف عليه في إسناده. (1)
نوقش دليلهم الثاني:
ـ بأن المسعودي ضعيف، حتى وإن صح فهو وارد في قتال أهل الحرم خصوصا ً قوماً كانوا بالشام يحلقون رؤوسهم. (2)
نوقش دليلهم الثالث:ـ بأنه إنما ورد هذا فيمن أبيح قتله أو ورد في حربي كان من دعاة الكفرة والإهلاك فيه مستحق. (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يظهر أن كلا منها لم تخل من المناقشة، إلا أن ما تطمئن النفس إليه هو الرأي الأول القائل باتقاء الوجه والرأس والمذاكير؛ لأن الضرب على الوجه والرأس ربما يحدث تلفاً، والحد مشروع للزجر لا للتلف.
المسألة الثانية عشرة:كيفية الضرب في الحدود.
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة إلى ما يلي:
الرأي الأول:وهو للحنفية(4) والشافعية(5) والحنابلة(6)
ويرون أنه يضرب الرجل قائماً في الحد والمرأة جالسة.
الرأي الثاني:وهو للمالكية(7)ورواية عن الإمام أحمد.(8)
ويرون أن الرجل في الحد يضرب قاعداً كذا المرأة، ويجرد الرجل في جميع الحدود ويترك على المرأة ما يسترها ، وينزع عنها ما يقيها الضرب.
الرأي الثالث: وهو للظاهرية. (9)
ويرون أن الحد يقام على الرجل والمرأة كيفما يتيسر قياماً وقعوداً،فإن امتنع أمسك، وإن دفع بيده الضرب أمسكت يداه.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة و الآثار والمعقول.
__________
(1) إرواء الغليل:7/365.
(2) بدائع الصنائع:7/59.
(3) البحر الرائق:5/10، بدائع الصنائع:7/59.
(4) الهداية:2/384،شرح فتح القدير:5/ 232.
(5) البيان:12/384
(6) المبدع:7/368، 369، الكافي:4/144، 145.
(7) المعونة:2/325.
(8) المبدع:7/368.
(9) المحلى:12/81.(3/149)
أما السنة: حديث ابن عمر - رضي الله عنهم - في رجم اليهوديين وقوله ":فرأيت الرجل ينحني على المرأة يقيها الحجارة. (1)
وجه الدلالة:أن انحناء الرجل على المرأة لا يكون إلا في حالة كونه قائماً وهي قاعدة.
أما الآثار: فقول سيدنا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - "يضرب الرجال في الحدود قياماً والنساء قعوداً." (2)
أما المعقول:أن مبنى الحد على التشهير زجر للعامة على مثله، والقيام أبلغ فيه، والمرأة مبنى أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط بلا زيادة. (3)
ـ أن القيام وسيلة إلى إعطاء كل عضو حقه من الضرب. (4)
أدلة أصحاب الرأي الثاني:
ـ أن القيام زيادة في الألم، ولم يرد به شرع. (5)
ـ قياس الرجل على المرأة في القعود؛إذ لا فرق بينهما.
أدلة أصحاب الرأي الثالث:
ـ أن الله - سبحانه وتعالى - لو أراد أن يكون إقامة الحد على حال لا يتعدى من قيام، أو قعود،أو فرق بين رجل وامرأة لبينه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ـ أن لا نص ولا إجماع على القيام في الحد. (6)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ قول الإمام علي - رضي الله عنه - إسناده ضعيف؛ لانقطاعه بين الجزار وسيدنا علي - رضي الله عنه -، فإنه لم يسمع منه إلا بضعة أحاديث وليس هذا منها. (7)
__________
(1) صحيح:أخرجه البخاري كتاب المناقب:3 /1330 رقم 3436.
(2) إسناده ضعيف:سنن البيهقي:8/327، نصب الراية:3/325، الدراية:2/98، وقال فيه ابن حجر (:حديث علي - رضي الله عنه - يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا، أخرجه عبد الرزاق بإسناد ضعيف عنه.
(3) شرح فتح القدير:5/232،المبسوط:9/73، البيان:12/384.
(4) المعونة:2/325.
(5) الذخيرة:12/80.
(6) المحلى:12/81.
(7) نصب الراية:3/325،إرواء الغليل:7/366.(3/150)
ـ المأخوذ من حديث ابن عمر - رضي الله عنهم - الجزم بذلك غير مؤكد؛لأن انحناءه عليها وهو قائم، وهي قاعدة ممتنع، وقد ينحني عليها وهو راكع، أو هو منكب قريب من الجلوس، وقد يمكن أن يكونا قاعدين، هذه احتمالات، وبالاحتمال يسقط الاستدلال. (1)
ـ ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فلا دلالة فيه على أن من أوجب عليه أن يقوم قائما، ولأن المرأة بخلاف الرجل. (2)
الرأي الراجح
بعد العرض السابق لأقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها، فالظاهر أن الخلاف بين الأقوال يسير، وما تطمئن النفس إلى ترجيحه، هو رأي الظاهرية من أنه يقام الحد كيفما تيسر لما فيه من الجمع بين الأقوال،ومن التيسير في إقامة الحد.
المسألة الثالثة عشر:كم الطائفة التي تحضر جلد الزاني أو رجمه.
اختلفت الأقوال في بيان مقدار الطائفة التي تشهد الحد ،والسبب في ذلك، الاختلاف في معنى الطائفة، هل هي واحد أو أكثر على آراء:ـ
الرأي الأول:وهو للمالكية (3) والشافعية في قول عندهم.(4)
ويرون أن الطائفة أربعة فصاعدا.
الرأي الثاني:الحنابلة،(5) والظاهرية.(6)
ويرون أن الطائفة واحد فصاعداً.
الرأي الثالث:الشافعية في قول ثان(7)
ويرون أن الطائفة ثلاثة فصاعدا.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول :
ـ أن الأربعة يثبت به حد الزنا، فوجب أن يكونوا هم الذين يحضرون إقامة الحد. (8)
و قد نوقش هذا: بأن هذا فيما لو كان الحد يثبت بالشهود في الحال، لو ثبت بالإقرار وهو الأكثر.
ـ أنه إن قذفه قاذف فطالب بحد قاذفه أمكن قاذفه التخلص من ذلك بإحضار من شهد حده. (9)
استدل أصحاب الرأي الثاني:
__________
(1) المحلى:12/81.
(2) المحلى:12/81.
(3) المعونة:2/ 325، الذخيرة:12/87.
(4) تكملة المجموع:22/81.
(5) المغني والشرح الكبير:10/71.
(6) المحلى:12/218.
(7) البيان:12/377.
(8) المغني والشرح الكبير:10/71، المعونة:2/325، المجموع:22/82.
(9) المعونة:2/325.(3/151)
ـ أن اسم الطائفة يقع على الواحد، بدليل قوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (1) ثم قال - سبحانه وتعالى -: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } (2)
ـ أنه قيل في قوله تعالى: { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ } (3) أنه محسن بن حمير وحده. (4)
أدلة أصحاب الرأي الثالث:
ـ أن الطائفة جماعة،وأقل الجمع ثلاثة، وهناك أقوال أخرى أن الطائفة اثنان فصاعداً، وهو قول عطاء واسحاق بن راهوية،(5)وقيل: خمسة ،وقيل :عشرة.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو القائل :أن الطائفة واحد فصاعداً مع الإمام؛ لأن أقل الجمع اثنان.
وقد اختلفوا في حكم حضور الطائفة ،هل للوجوب أو للاستحباب؟، فقال الشافعي (: إنها للاستحباب ،وقال غيره :بالوجوب ،وهذا الرأي هو الراجح لدلالة قوله تعالى: { ِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } (6)
__________
(1) الحجرات من الآية 9
(2) الحجرات من الآية 10.
(3) التوبة من الآية 66.
(4) المغني والشرح الكبير:10/71.
(5) المحلى:12/217.
(6) النور من الآية 2.(3/152)
تمهيد
* القذف لغة:(1)
من قذف يقذف وهو الرمي، والتقاذف:الترامي، ومنه قذف الشيء قذفاً أي : رمى به بقوة، ومنه قوله تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } (2)، والقذف: السب، وهي القذيفة، والقذف بالحجارة: الرمي بها، يقال:هم بين حاذف وقاذف، وحاذٍ وقاذٍ على الترخيم، فالحاذف بالحصى ،والقاذف بالحجارة، وقذف المحصنة أي رماها بالزنا، فأصله الرمي ،ثم استعمل في الرمي بالزنا حتى غلب عليه.
* القذف في اصطلاح الفقهاء :أورد له الفقهاء تعريفات متعددة:ـ
* فعرف الحنفية القذف بأنه:رمي مخصوص وهو الرمي بالزنا (3) ، أو نسبة من أحصن إلى الزنا صريحاً أو دلالة.(4)
* وعرفه المالكية بأنه:نسبة آدمي غيره حراً عفيفاً مسلماً بالغاً، أو صغيراً يطيق الوطء، لزنا أو قطع نسب.(5)
* وعرفه الشافعية بأنه:الرمي بالزنا في معرض التعيير.(6)
* و عرفه الحنابلة بأنه: الرمي بزنا أو لواط أو شهادة بأحدهما ولم تكمل البينة.(7)،أو هو الرمي بالزنا.(8)
* وعرف الظاهرية القذف الموجب للحد بأنه:هو الرمي بالزنا بين الرجال والنساء.(9)
وقفة مع هذه التعريفات
__________
(1) لسان العرب:9/277،القاموس المحيط:2/1123،المعجم الوسيط:2/749.
(2) سبأ آية 48.
(3) شرح فتح القدير:5/316، الاختيار لتعليل المختار:3/93، البحر الرائق:5/31.
(4) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر :لأبي عبد الله بن الشيخ محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي. طبعة دار إحياء التراث العربي ج 1 ص 604، العناية على الهداية:5/316.
(5) جواهر الإكليل:2/427، حاشية الخرشي:8/298، حاشية الدسوقي:6/320.
(6) مغني المحتاج:5/460، حاشية قليوبي:4/281، حاشية البيجوري:2/392.
(7) نيل المآرب:2/283، الروض المربع:ص 490.
(8) المغني والشرح الكبير:10/99،الكافي:4/147، المبدع:7/401.
(9) المحلى:12/220.(4/1)
من خلال العرض السابق لتعريفات الفقهاء نجد أن الفقهاء جميعاً اتفقوا على أن جريمة القذف التي توجب الحد هي رمي القاذف المقذوف بالزنا، إلا أن التعريف المختار منها هو ما ذهب إليه المالكية؛لأنه جامع للأركان والشروط، وغيره من تعريفات الفقهاء قاصرة؛لأنها عرفت القذف بجزء منه ولم تبين الأركان، ويظهر هذا فيما يلي:
أولاً:بعض الفقهاء يقصرون القذف على الرمي بالزنا فقط، بينما نجد البعض الآخر يرون أن القذف يكون بالرمي بالزنا أو اللواط.
ثانياً:أن فقهاء المالكية ذكروا في تعريفهم أن نفي النسب يعد قذفاً يوجب الحد، بينما ذكره باقي الفقهاء ضمن حديثهم عن أحكام القذف.
ثالثاً:ذكر فقهاء المالكية في تعريفهم الشروط التي يجب توافرها لإقامة الحد مثل التكليف والحرية ،والإسلام، بينما اكتفى باقي الفقهاء بذكر ذلك عند حديثهم عن شروط كل من القاذف والمقذوف.
كذلك ذكر فقهاء الحنابلة في تعريفهم أن عدم اكتمال بينة الزنا ، أو اللواط يوجب حد القذف على الشهود، بينما ذكر ذلك باقي الفقهاء ضمن حديثهم عن الشهادة في الزنا ،وما يتعلق بها من شروط.
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد القذف .
حد القذف خطره عظيم ، وأثره خطير ؛ لذا اهتم الشارع الحكيم به إهتماماً بالغاً ، وجعل عقابه زاجراً للنفوس الحاقدة التي قد يدفعها الحسد والحقد إلى التجني على الناس ، ونظراً لأهميته فقد بحثه الفقهاء في كتبهم ،وجعلوه حداً مستقلاً بنفسه له أركانه وشروطه ، وحققوا كل جزئية فيه طبقاً للأركان والشروط ، ونظراً لاختلافهم في فهم النصوص وكذا الشروط جاء الخلاف بينهم واقعاً وسائغاً طبقاً لما اشترطوه .
إلا أن هناك قدراً متفقاً عليهم بينهم وافق فيه الظاهرية الأئمة الأربعة يظهر فيما يلي :(4/2)
ـ وافق الظاهرية الأئمة الأربعة في أن القذف حرام ,(1) وهو كبيرة من الكبائر , ووافقوهم كذلك في أن الرمي والقذف اسمان لمعنى واحد , ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - "(( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (2)
ـ ووافقوهم كذلك في أن القذف بالزنا موجب للعقوبة , وهي الجلد ،وسقوط الشهادة ، والفسق.
ورد في المحلى " لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن " الرمي " المذكور في الآية المذكورة الموجب للجلد والفسق , وسقوط الشهادة هو الرمي بالزنى بين الرجال والنساء. " (3)
ـ واتفقوا كذلك على أن حد القذف للحر ثمانين جلدة؛ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (4) وحد العبد على النصف من ذلك أي أربعين إلا ما روي عن داود بن علي ( من أن حد العبد كحد الحر.(5)
__________
(1) المبدع: 7/201.
(2) متفق عليه : أخرجه البخاري : كتاب المحاربين ،باب رمي المحصنات6/2515 رقم 6465 ، مسلم : كتاب الإيمان ، باب بيان الكبائر وأكبره 1/92 رقم 89 .
(3) المحلى: 12/220.
(4) النور: آية 4.
(5) حلية العلماء: 8/35, شرح فتح القدير: 5/316, 319, الاختيار: 3/93, الذخيرة: 12/104, 112, البيان: 12/395, 398, مغني المحتاج: 5/492, المغني والشرح الكبير:10/101, 102, الكافي: 4/150, المبدع: 7/401, المحلى: 12/225(4/3)
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة على أن قذف المؤمنات المحصنات البريئات، هو من الكبائر الموجبة للِّعنة في الدنيا والآخرة ؛لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1)
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن شروط المقذوف هي : العقل، والبلوغ ،والعفة عن الزنا ،إلا أنهم اختلفوا في معنى العفة ووقت اشتراطها.(2)
ـ فعند الإمام أبي حنيفة ( العفة عن الزنا هي :ألا يكون المقذوف وطء في عمره وطأ حراماً في غير ملك ولا نكاح أصلاً ، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعا عليه (فمن فعل شيئا من هذا) فقد سقطت عنه عفته، سواء ً أكان الوطء موجبا للحد أم لا؟ وإن كان وطء وطئا حراماً , ولكنه في ملك، أو في نكاح صحيح ،أو في نكاح فاسد غير مجمع عليه ،فلا تسقط عفته.(3)
ـ وعند الإمام مالك ( العفة عن الزنا هي: سلامة المقذوف من فعل الزنا قبل قذفه وبعده , ومن ثبوت حده عليه؛ لأن ثبوت الحد يستلزم فعل الزنا , ولا يقوم إليه العفاف أبدا ولو تاب وحسنت توبته.(4)
ـ وعند الإمام الشافعي ( العفة عن الزنا هي :سلامة المقذوف قبل قذفه وبعده عن فعل ما يوجب حد الزنا عليه , فإن أتى ما يوجب حد الزنا فهو غير عفيف.
__________
(1) النور آية 23.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 2/207, أحكام القرآن لابن العربي: 3/341, بدائع الصنائع: 7/39, نصب الراية: 4/167, الأحكام السلطانية للماوردي: ص 286, شرح حدود ابن عرفة: ص 501, مواهب الجليل: 6/300, كشاف القناع: 6/109, الموسوعة الفقهية: 33/11.
(3) بدائع الصنائع: 7/41.
(4) مواهب الجليل لمحمد بن عبد الرحمن المغربي ت 954. ط دار الفكر 6/300, شرح حدود بن عرفة: ص 503.(4/4)
ـ وعند الإمام أحمد ( لا تشترط العفة مطلقاً , كما يشترطها أبو حنيفة ( , ولا العفة الفعلية عن الزنا , كما يشترطها مالك والشافعي ( , وإنما يكتفي بالعفة الظاهرة عن الزنا , فمن لم يثبت عليه الزنا ببينة أو إقرار , ومن لم يحد للزنا ، فهو عفيف , وإن كان تائبا من زنا أو ملاعنة.(1)
ـ وعند الظاهرية: العفة عن الزنا تكون قبل القذف , فإن قذفه ثم زنا المقذوف لم يسقط الحد عن القاذف..(2)
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن الشروط المعتبرة في القاذف هي :البلوغ ،و العقل ، والاختيار.
ورد في بداية المجتهد " أما القذف فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين وهما :البلوغ والعقل ,سواء أكان ذكرا أو أنثى,عبدا، أو حراً, مسلما ً أو غير مسلم (3), والمكره لا حد عليه في القذف؛ لأن الإكراه سقط به عنه المؤاخذة."
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أنه لا حد على من رمي إنساناً ببهيمة ؛ لأن القذف إنما يستوجب الحد إذا نسبه إلى فعل يلزمه الحد بمباشرته , وليس هذا موجوداً في القذف بالبهيمة.(4)
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن الكافر إذا قذف مسلماً أقيم عليه حد القذف؛ لقوله تعالى: { فاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } (5) ولأن المسلم المحصن يلحقه الشين برميه بالزنا.(6)
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن القاذف لو أقر بالقذف ثم رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه.
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي: 2/476,إعانة الطالبين: 4/150.
(2) المحلى: 12/268.
(3) بداية المجتهد: 6/137.
(4) المبسوط: 9/102, شرح فتح القدير: 5/347, الذخيرة: 12/91, المحلى:12/251.
(5) المائدة: من الآية 48.
(6) المبسوط: 9/118, بدائع الصنائع: 6/272, كشاف القناع: 3/144، المحلى: 12/235.(4/5)
وعلِّة ذلك عند الظاهرية،أنه حق من حقوق الله - سبحانه وتعالى - , ولا يجوز الرجوع عنها، وأخذاً بمبدأهم من أن الرجوع في الإقرار لا يقبل إذا صدر من أهله ،ولم يتطرق إليه ما يفسده. وعند الأئمة الأربعة لا يقبل الرجوع في الإقرار؛ لأن فيه إبطال حق الغير.(1)
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد القذف .
بعد بيان القدر المتفق عليه بين الأئمة الأربعة و الظاهرية في المبحث السابق، فقد وقع خلاف بينهم ، لعل سببه اختلافهم في شروط إقامة حد القذف ، ويظهر هذا الخلاف في المسائل الآتية :
المسألة الأولى: النفي عن النسب.
* تحرير محل النزاع، وسبب الخلاف.
اتفق الفقهاء على أن القذف الصريح بالزنا موجب لحد القذف إذا لم يأت القاذف بأربعة شهداء لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (2)أو لم يصدقه المقذوف.
واختلفوا في نفي الولد عن أبيه أو نسبه، هل هو من قبيل القذف الصريح أو لا؟
والسبب في ذلك: هل النفي عن النسب ـ كأن يقول لست لأبيك , أو لست ابن فلان ـ من قبيل القذف أو لا؟ فمن اعتبره من قبيل القذف للأم ، قال :فيه الحد , ومن لم يعتبره قذفاً، قال :لا حد فيه.
أقوال الفقهاء
__________
(1) الهداية: 2/402, تبيين الحقائق: 3/203, كشاف القناع:4/105, البيان: 12/420.المحلى: 7/100.
(2) النور: آية 4.(4/6)
* الرأي الأول:وهو للحنفية(1)والمالكية(2)والشافعية (3)والحنابلة.(4)
ويرون أن من نفى نسب غيره فعليه الحد إذا كانت أم المنفي نسبه حرة مسلمة ،وهذا عند الحنفية(5) والشافعية ((6) ولم يشترط المالكية (مثل هذا الشرط.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية (7)وبعض الحنابلة.(8)
ويرون أنه لا حد في نفي النسب .
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والآثار والمعقول:
أما السنة:
ـ فما جاء عن يحيي ابن سعيد الأنصاري عن سليمان ابن يسار عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلد رجلاً أن دعا آخر يا ابن المجنون."))(9)
وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتبر نفي نسب الرجل عن أبيه قذفاً ، فأقام بسبب ذلك حد القذف .
أما الآثار:
فقول ابن مسعود - رضي الله عنه -:"((لا حد إلا في اثنتين: قذف محصنة أو نفي رجلاً عن أبيه."))(10)
__________
(1) الهداية: 2/401, فتح شرح القدير: 5/320, المبسوط:9/121. وقيد الحنفية ( ذلك بأن يكون في حالة الغضب , وأن تكون أمة محصنة. ينظر مجمع الأنهر: 1/605, البحر الرائق: 5/36, بدائع الصنائع: 7/44.
(2) المعونة: 2/239, الذخيرة: 12/95, المدونة الكبرى: 4/390.
(3) البيان: 12/147, وقال بعض الشافعية كقول الإمام الشافعي ( , وقال آخرون أن معنى هذا كناية فيحتمل أن يكون أراد أنه ليس بابنه أي لا يشبه في الخلق أو الخلق. البيان: 12/145, تكملة المجموع: 22/ 122.
(4) المغني والشرح الكبير:10/105, الكافي 4/221 .
(5) الهداية: 4/401.
(6) الأم: 7/153.
(7) المحلى :12/221 .
(8) الكافي :4/221 .
(9) المحلى: 12/222.
(10) ضعيف: مصنف عبد الرزاق ج:7/423،13715، البيهقي:8/252،للانقطاع بين القاسم بن عبد الرحمن وجده عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -،إرواء الغليل:8/36.(4/7)
وجه الدلالة: أن ابن مسعود - رضي الله عنه - حصر القذف في شيئين: قذف المحصنات ،ونفي النسب , ومثل هذا القول لا يقوله ابن مسعود إلا عن توقيف،(1) خاصة وأن الأول (قذف المحصنات ) جاء به القرآن , فلا بد وأن يكون الثاني(نفي الرجل عن أبيه) جاءه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ـ قول الزهري ( من نفى المرء عن أبيه أو عن نسبه فالسنة على النافي في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بأربعة شهداء.(2)
أما المعقول فمن جهات:
الجهة الأولى : أن في نفيه عن أبيه معرة له وقذف لأبيه وأمه، فوجب الحد.(3)
الجهة الثانية : أن النافي قاذف لأم المنفي نسبه؛ لأنها وطئت ( على أسوأ الاعتبارات )بشبهة ـ نكاح ـ فولدها يكون ثابت النسب عن إنسان , وإنما لا يكون الولد ثابت النسب من الأب إذا كانت هذه زانية.(4)
الجهة الثالثة :أنه إذا قال ذلك فهو قذف لأمه؛ لأنه إذا ولد على فراش إنسان , ونفاه القاذف عن أن يكون منه ،فقد أثبت الزنا على أمه؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون من أبيه أو من غيره , فإذا نفاه عن أبيه فقد أثبته لغيره , والغير لا يمكن أن يحبلها في زوجية أبيه إلا من زنا , فيكون قاذفا لها لذلك.(5)
* استدل أصحاب الرأي الثاني : بالآثار والمعقول.
__________
(1) الذخيرة: 12/99.
(2) المحلى: 12/222.
(3) المعونة: 2/332.
(4) المبسوط: 9/121, البحر الرائق: 5/36, مجمع الأنهر: 1/605.
(5) نيل المآرب: 2/286.(4/8)
ـ أما الآثار:فما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل عن رجل قال لرجل: يا نبطي(1) أنه لا حد عليه.(2)
ـ ما جاء عن الشعبي أنه سئل عن رجل قال لرجل عربي "((يا نبطي قال: كلنا نبطي ليس في هذا حد")).(3)
ـ ما ورد عن علي - رضي الله عنه - قال:"((إذا بلغ في الحدود لعل وعسى فالحد معطل."))(4)
وجه الدلالة : أن هذه الآثار جميعاً تفيد أن نسبة الرجل إلى غير أبيه ليست قذفاً ، ولا توجب الحد .
ـ المعقول: أن الله - سبحانه وتعالى - حد الحدود وحرم العدوان بقوله تعالى:" تلك حدود الله فلا تعتدوها.."(5) ولم يأت دليل من القرآن ولا السنة يفيد أن نفي النسب موجب لحد القذف ،فإثبات حد بغير برهان تعد لحدود الله تعالى.(6)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول
نوقش دليلهم من السنة بما يلي :
أ ـ بأنه مرسل ولا تقوم بمرسل حجة.
ب ـ بأنه من طريق سالم بن غيلان التجيبي وهو مجهول لم يعدل.(7)
__________
(1) نبطي: منسوب إلى النبط وهم قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين. المبدع: 7/410, ويقال النبطي: نسبة إلى النبط وهم قوم ينزلون بالبطائح بين العراقين والجمع أنباط: يقال:نبطي ونباطي ونباط مثل يمني ويماني ويمان، قال الزمخشري: سموا نبطاً؛ لأنهم يستنبطون الماء ويستخرجونه من الأرض، ومعنى نبطي اللسان أي الذي اشتبه كلامه بكلام العرب والعجم، ونبطي الدار من يقطن بين دور العجم وهو عربي. هامش البيان:12/415، نقلا عن نظم المستعذب:2/91.
(2) الأم:7/153، المحلى:12/221.
(3) مصنف عبد الرزاق: باب القول سوى الفرية 7/427، رقم 13737.
(4) مصنف عبد الرزاق:باب التعريض،7/425،رقم 13727.
(5) البقرة من الآية 229.
(6) المحلى:12/223 باختصار وتصرف .
(7) المحلى:12/223.(4/9)
وقد أجيب عن هذا:بأن سالم بن غيلان التجيبي ليس مجهولاً؛ بل هو مشهور وثقه ابن يونس وغيره، وقال أحمد وابو داود والنسائي ( وغيرهم لا بأس به، وقال فيه ابن حجر (: ليس به بأس من السابعة.(1)
ج ـ بأنه لو صح لم يكن فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - جلده الحد , إنما فيه: أنه جلده , فلا يحل أن يراد فيه: أنه جلده الحد , ونحن لا نأبى من ذلك من سب مسلما , لأنه منكر يغير باليد , فبطل أن تكون لهم فيه حجة , بل هو عليهم. وقد روى هذا الخبر يونس بن عبد الأعلى - وهو أحفظ من سحنون , وأعرف بالحديث منه , فلم يبلغه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لما جاء من طريق آخر عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: إن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلد رجلا أن دعا آخر: يا ابن المجنون.(2)
نوقش ما جاء عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: بأنه ضعيف لانقطاعه بين القاسم بن عبد الرحمن وجده عبد الله بن مسعود.(3)
ونوقش ما جاء عن الزهري ( بما يلي:
ـ بأن هذا الذي ذكره الزهري( أنه في كتاب الله ليس فيه أصلاً، وإنما وجدنا فيه الحد ووجوب أربعة شهداء على من رمى المحصنات، والنافي إنسان عن نسبه لم يرم محصنة.(4)
و قد أجيب عن هذا: بأن نفيه عن أبيه أو نفي نسبه اتهام لأمه وهذا من قبيل القذف.
ونوقش هذا:
__________
(1) تقريب التهذيب :لابن حجر:1/74، فهارس المحلى لابن حزم: ص 272،273، إعداد أشرف بن عبد المقصود بن عبدالرحيم، طبعة مكتبة السنة، الطبعة الأولى 1414 هـ /1994.
(2) المحلى:12/222.
(3) إرواء الغليل: 8/36.
(4) المحلى:12/222.(4/10)
ـ بأن النافي ليس بقاذف؛ لأنه ما قذف أحدا؛لأنه قد ينفيه عن نسبه بالاستلحاق وأنه من غيرهم ابن نكاح صحيح , فقد كانت العرب تفعل هذا ,أو يكون نفيه له بأن أراد الاستكراه لأمه , وأنها حملت به في حالة لا يكون للزنى فيه دخول , كالنائمة توطأ , أو السكرى , أو المغمى عليها , أو الجاهلة , فقد بطل أن يكون النافي قاذفا جملة واحدة.(1)
وأجيب عن هذا:بقول الإمام مالك ( بأن الحد ليس لأمه وإنما لأنه نفى نسبه عن أبيه.(2)
نوقش الدليل من المعقول بما يلي:
ـ بأنكم تقولون لا يحد لو نفى رجلاً من أمه فكذلك لا يحد بنفيه عن أبيه.
وقد أجيب عن هذا: بأن نفيه عن أمه كذب قطعاً ، بمشاهدة الولادة و إمكان البينة عليها، أما نفي النسب عن الأب ،فلا يعلم صدقه من كذبه ، فتلحقه المعرة في نفيه.(3)
مناقشة أدلة الرأي الثاني: نوقشت الآثار بما يلي :
ـ ما جاء عن ابن عباس والشعبي - رضي الله عنهم - ،لا يفيد نفياً صريحاً للنسب عن أبيه، وغاية ما فيه حمله على تشبيهه بهؤلاء القوم، لا لقصد القذف، وبالاحتمال يسقط الاستدلال.
ـ أما ما جاء عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فهو في غير مورده؛ لأن مورد هذا الأثر إفادة درء الحد بالشبة، لا في حكم نفي النسب،ثم إننا نسلم بدرء الحد بالشبهات وانتم لا تقولون بهذا.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها ،هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن نفي الشخص عن نسبه بقوله " لست لأبيك " قذف موجب للحد ،بشرط أن تكون أم المقذوف حرة مسلمة؛ لأنه قذف لها ويشترط فيها الإحصان.
__________
(1) المحلى: 12/222.بتصرف يسير.
(2) المدونة الكبرى:2/390.
(3) المعونة 2/332.(4/11)
ـ أما إن نسبة إلى قبيلة أو إلى بلد؛و كان المقصد التشبيه بهم في الخلق أو الخُلق فهذا ليس قذفاً ، ولا حد فيه، أما إن قصد به نسبته إليهم على سبيل القذف ففيه الحد، ولا عبرة بتوقف الظاهرية عند ظاهر اللفظ دون التفات إلى ما سواه.
المسألة الثانية:قذف المسلم للكافر
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن القاذف إذا كان كافراً أقيم عليه الحد، جاء في بداية المجتهد " أما القاذف فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين؛ وهما البلوغ والعقل، سواء أكان ذكرا أو أنثى، حراً أو عبداً، مسلماً أو غير مسلم."(1) واختلفوا فيما إذا قذف المسلم الكافر هل يقام عليه الحد أم لا ؟؛ وذلك تبعاً لاشتراط الإحصان في المقذوف وعدم اشتراطه فاختلفوا إلى ما يلي:
*الرأي الأول: وهو للحنفية(2)والمالكية(3)والشافعية،(4) و الحنابلة.(5)
ويرون أنه لا حد على قاذف الكافر إذا كان القاذف مسلماً، ويحد الكافر إذا قذف مسلماً.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية.(6)
ويرون أن المسلم إذا قذف كافراً أقيم عليه الحد، والكافر إذا قذف مسلماً فالحد والقتل.
الأدلة
* استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والمعقول.
__________
(1) بداية المجتهد:6/137،المبسوط:9/118، البيان:12/397، الكافي:4/147، المحلى:12/235.
(2) المبسوط:5/118، مجمع الأنهر:1/605، بدائع الصنائع:7/40،41، شرح فتح القدير:5/319،البحر الرائق:5/34.
(3) المعونة:2/330،المدونة الكبرى:4/390، الذخيرة:12/104،جواهر الإكليل:2/427، حاشية الدسوقي:6/321، حاشية الخرشي:8/299.
(4) كفاية الأخيار:628، البيان:12/397، الحاوي الكبير:13/256، تكملة المجموع:22/103.
(5) الكافي:4/147، المغني والشرح الكبير:10/107، الإنصاف:10/154، نيل المآرب:2/283، شرح الزركشي:6/307.
(6) المحلى:12/235.(4/12)
ـ أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1)
وجه الدلالة: في هذه الآية الكريمة بيان لحكم جلد القاذف للمحصنة وهي : الحرة البالغة العفيفة.(2) وغيرها ليس في معناها.
ـ أما السنة: فما رواه ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((من أشرك بالله فليس بمحصن."))(3)
وجه الدلالة:دل الحديث على أن المشرك قد نفي عنه الإحصان؛ لإشراكه ، فلا يحد قاذفه ؛ لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ـ أما المعقول فمن وجوه :
ـ أن الحد إنما وجب بالقذف دفعاً لعار الزنا عن المقذوف، وما في الكافر من عار الكفر أعظم.(4)
ـ أن الكافر حرمته ناقصة فلا تنهض لإيجاب الحد.(5)
ـ أن عرض الكافر لا حرمة له تهتك بالقذف.(6)
استدل أصحاب الرأي الثاني:بالمنقول والمعقول.
__________
(1) النور آية 4.
(2) تفسير القرآن العظيم: إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء ت 774هـ،ج 3/265،طبعة دار الفكر 1401 هـ.
(3) ضعيف موقوف: سنن البيهقي كتاب الحدود، باب من قال من أشرك بالله فليس بمحصن،ج8/216 رقم 16714ووقفه على ابن عمر - رضي الله عنه -، سنن الدارقطني:3/147 رقم 199 وقال فيه ولم يرفعه غير إسحاق، ويقال إنه رجع عنه والصواب موقوف، مصنف ابن أبي شيبة: باب:في الرجل يتزوج المرأة من أهل الكتاب ثم يفجر 5/536 رقم 28754 وأوقفه كذلك، نصب الراية:3/337، تلخيص الحبير:4/54، السلسلة الضعيفة:2/151 رقم 717.
(4) بدائع الصنائع: 7/41.
(5) نيل المأرب:2/283، شرح الزركشي:6/307.
(6) المعونة:2/330.(4/13)
أما المنقول : فقوله تعالى { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1)
ـ وجه الدلالة: هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضا.(2)
أما المعقول:أن الحد واجب بلا شك؛لأنه حكم الله - سبحانه وتعالى - على كل قاذف، والقتل واجب لنقض الذمة، رجلاً كان أو امرأة، فلا بد من قتلهما إلا أن يسلما فيتركا عن القتل لا عن الحد.
ـ الدليل على القتل:أن الله - سبحانه وتعالى - افترض إصغارهم فإذا خرجوا عن الصغار ـ لنقضهم العهد ـ فلا ذمة لهم , وإذا لم تكن لهم ذمة فقتلهم وسبيهم , وأموالهم حلال , وإذا سبُّوا مسلما فقد خرجوا عن الصغار , وأصغروا المسلم , فقد برئت الذمة ممن فعل ذلك منهم , ولا ذمة له.(3)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول: نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
ـ إن حديث ابن عمر - رضي الله عنه - موقوف عليه فيكون قول صحابي.(4)
وقد أجيب عن هذا:بأن هذا الحديث روي موقوفاً ومرفوعاً؛ وإن كان الدارقطني ( قد رجح وقفه (5)وعلى اعتبار كونه موقوفاً على ابن عمر - رضي الله عنه - فمثل هذا القول لا يقوله الصحابي إلا عن توقيف.
فإن قيل: المراد بالإحصان إحصان الذمة لا القذف، أجيب بقول البيهقي ( في المعرفة :المراد بالإحصان في هذا الحديث إحصان القذف.(6)
مناقشة أدلة الرأي الثاني :
نوقش الدليل من الكتاب بما يلي:
__________
(1) النور آية 4.
(2) تفسير ابن كثير:3/354.
(3) المحلى:12/235.
(4) سنن الدارقطني:3/147، تلخيص الحبير:4/54، نصب الراية:3/327.
(5) سنن الدارقطني:3/147.
(6) نصب الراية:3/327.(4/14)
ـ دلت الآية على أن المراد من المحصنات في هذه الآية الحرائر لا العفائف ; لأنه سبحانه وتعالى جمع في هذه الآية بين المحصنات والغافلات في الذكر ،والغافلات العفائف ; فلو أريد بالمحصنات العفائف لكان تكرارا ; ولأن الحد إنما يجب لدفع العار عن المقذوف , ومن لا عفة له عن الزنا لا يلحقه العار بالقذف بالزنا .(1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلين: بعدم إقامة الحد على قاذف الكافر؛ لصحة ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه -، وهو وإن كان موقوفاً إلا انه في حكم المرفوع؛ لأن الصحابي لا يقول هذا إلا عن توقف؛ ولأن الحد إنما وجب لدفع العار عن المقذوف، وما في الكافر من عار الكفر أعظم.
المسألة الثالثة: قذف الصغير والمجنون والمكره.
تحرير محل النزاع و سبب الخلاف :
اتفق الفقهاء على أن القاذف إذا كان صبياً ،أو مجنوناً ،أو مكرهاً ، أنه لا حد عليه، وإنما يعزر الصبي إن كان مميزاً، واتفقوا كذلك على أن قذف الحر ،المسلم ،البالغ ،العاقل ،العفيف موجب للحد(2) واختلفوا في قاذف الصبي والمجنون والمكره .
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/40،41.
(2) ورد في مراتب الإجماع:1/134:" واتفقوا أن الحر العاقل البالغ المسلم غير المكره إذا قذف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا لم يحد قط في زنا، أو حرة بالغة عاقلة مسلمة عفيفة غير ملاعنة لم تحد في زنا قط، بصريح الزنا، وكانا في غير دار الحرب المقذوف أو المقذوفة، فطلب الطالب منهما القاذف هو بنفسه لا غير وشهد بالقذف الآن أو الحر القاذف .. أنه يلزمه ثمانون جلدة.(4/15)
يرجع سبب الخلاف إلى اختلاف وجهة نظر الفقهاء في القاذف و المقذوف , فمن غلب حماية ظهر القاذف قال: بعدم الحد لقذف الصبي والمجنون والمكره؛ لعدم التكليف فيهم , ومن غلب حماية عرض المقذوف قال: بوجوب الحد.(1)
أقوال الفقهاء
* الرأي الأول: وهو للحنفية (2) والمالكية (3) والشافعية (4) ورواية عند الحنابلة.(5)
ويرون اشتراط العقل والبلوغ في المقذوف , فلا يجب حد قاذف الصغير والمجنون ولكن يعزر.
* الرأي الثاني: وهوللظاهرية(6) والرواية الثانية عند الحنابلة.(7)
ويرون وجوب الحد بقذف الصغير والمجنون والمكره , و وافق الحنابلة في روايتهم الثانية مذهب الظاهرية في وجوب الحد بقذف الصبي , وخالفوهم في عدم إيجاب الحد بقذف المجنون و المكره.(8)
…………… الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
__________
(1) أضواء البيان :5/451, أحكام القرآن لابن العربي: 3/334.
(2) مجمع الأنهر: 1/604, شرح فتح القدير: 5/319, الاختيار: 2/93, المبسوط: 9/118, تبيين الحقائق: 3/200.
(3) المدونة الكبرى:4/389, 395, 4/307, الذخيرة: 12/102, المعونة: 2/329, جواهر الإكليل: 2/427.
(4) كفاية الأخيار: ص628, الحاوي الكبير: 13/255, البيان: 12/397, تكملة المجموع: 22/102.
(5) الكافي: 4/147, المغني والشرح الكبير:10/100, شرح الزركشي: 6/38.
(6) المحلى: 12/234.
(7) الروض المربع: ص 491, المغني والشرح الكبير:10/107, شرح الزركشي: 6/38.
(8) الكافي: 4/147.(4/16)
وجه الدلالة:أن الآية الكريمة قيدت المرمي بالزنا بكونه محصناً ، فصار الإحصان شرط في المقذوف ،و الحد إنما وضع للزجر عن الأذي بالمضرة الداخلة على المقذوف، ولا مضرة على من عُدم العقل والبلوغ؛ إذ لا يوصف اللواط فيهما ولا منهما بأنه زنى.(1)
أما المعقول فمن وجوه :
الوجه الأول : نقصانهما عن كمال الإحصان ؛لأنهما لا يجب عليهما بالزنا حد ، فلا يجب لهما بالقذف حد.(2)
الوجه الثاني :أن الذي رموا به من الزنا لو تحقق منهم لم يجب عليهم به حد، فلم يجب على قاذفهم به حد.(3)
الوجه الثالث:أن إحصان المقذوف شرط، والإحصان عبارة عن خصال حميدة؛ أولها كمال العقل وذلك ينعدم بالصغر والجنون.(4)
الوجه الرابع :أن القذف الموجب للحد إنما يكون بزنا يؤثم صاحبه , والصبي والمجنون.ـ وكذا المكره ـ الإثم عنهما مرفوع (5)
الوجه الخامس: أن الزنا لا يتصور من الصبي والمجنون ، فكان قذفهما بالزنا كذبا محضاً يوجب التعزير لا الحد,(6) أما المكره فهو وإن كان يتصور منه الزنا إلا أن الحد مرفوع عن قاذفه؛ لأن الفعل قد تحقق منه, وليس هذا من قبيل الكذب.
أن قذف المطيقة للوطء فيه الحد,وإن لم تبلغ بلوغ التكليف؛ لأن المعرة تدخل عليهما القذف كالبالغ؛ ولأن حكم وطئها حكم البالغ في وجوب الغسل والمهر و النفقة و الإحصان والإحلال , وكذلك في وجوب الحد بالقذف (7)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب:
فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
__________
(1) تفسير القرطبي:12/172 بتصرف.
(2) الحاوي الكبير: 13/255.
(3) البيان: 12/397, تكملة المجموع: 22/102.
(4) المبسوط: 9/118.
(5) شرح فتح القدير: 5/320.
(6) بدائع الصنائع: 7/40.
(7) المعونة: 2/330.(4/17)
قال ابن حزم (: "الإحصان في لغة العرب هو المنع، وبه سمي الحصن حصنا..لقوله تعالى: { لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } (1) والصغار محصونون بمنع الله تعالى لهم من الزنا، وبمنع أهليهم، وكذلك المجانين، وكذلك المجبوب والرتقاء والقرناء والعنِّيين، وقد يكون كل هؤلاء محصنين بالعفة ، فكل هؤلاء يدخلون في جملة المحصنات بمنع الفروج من الزنا، فعلى قاذفهم الحد،ولا سيما القائلون: إن الحرية إحصان،وكل حرة محصنة، فإن الصغيرة الحرة والمجنونة والرتقاء وسائر من ذكرناهم محصنون، وإسقاط الحد عن قاذفهم خطأ محض لا إشكال فيه.(2)
أما المعقول فمن جهتين :
ـ إن فعل هؤلاء ليس بزنا؛ لرفع التكليف عنهم ،فرميهم بالزنا كذب يوجب عليه الحد؛لأن القذف لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة لا رابع لها: إما أن يكون صادقا,وقد صح صدقه (القاذف)فلا خلاف في أنه لا حد عليه - أو يكون ممكنا صدقه , وممكنا كذبه فهذا عليه الحد بلا خلاف لإمكان كذبه فقط ولو صح صدقه لما حد - أو يكون كاذبا قد صح كذبه , فالآن حقا طابت النفس على وجوب الحد عليه بيقين.(3)
ـ إن الصغير عاقل حر عفيف يتعير بالقذف، فأشبه البالغ.(4)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الثاني : وقد نوقش استدلالهم بالكتاب من جهتين :
__________
(1) الحشر من الآية 14.
(2) المحلى:12/234 باختصار.
(3) المحلى: 12/234, 235.
(4) الكافي: 4/147.(4/18)
الجهة الأولى :لا خلاف أن المقصود بالإحصان في اللغة المنع , لكن معناه في الشرع: عبارة عن توافر شروط معينة في المكلف , والصبي والمجنون والمكره ليسا من أهل التكليف بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ , و عن المجنون حتى يفيق...."))(1)
الجهة الثانية :أنه لو وجب الحد على القاذف ههنا لكذبه ،لوجب حد الزنا على المقذوف ـ وهو الصبي والمجنون والمكره ـ في حال صدقه، ولم يقل أحد بهذا، ثم ما بالكم لو قذف الصبي رجلاً بالزنا هل يقام عليه الحد أولا؟ فإن قالوا :يقام عليه الحد فقد خالفوا أصلهم من أنه لا حد على الصبي والمجنون لعدم التكليف، وإن قالوا :لا يقام عليه الحد فقد خالفوا ما ذكروه وغلَّبوا حماية ظهر القاذف على حماية عرض المقذوف، فظهر بهذا بطلان قولهم.
وقد نوقش دليلهم الأول من المعقول بما يلي:
__________
(1) حديث صحيح: البخاري في الحدود، باب لا يرجم المجنون والمجنونة، موقوفاً على الإمام علي - رضي الله عنه - ،سنن الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن لا يجب عليه الحد رقم 1433 ج4 /33عن الإمام علي مرفوعاً ,سنن أبى داود: كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق او يصيب حداً رقم 4403 ج 4 /141، عن الإمام علي مرفوعاً وفيه " وعن المبتلى حتى يبرأ"،مسند الإمام أحمد 1/116،رقم940, وله شاهد عند ابن ماجة: كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم، رقم 2051، عن السيدة عائشة ( مرفوعاً , الدارمي: كتاب الحدود، باب رفع القلم عن ثلاثة، رقم 2296عن عائشة،المستدرك علي الصحيحين2/68 رقم2350 وقال الحاكم صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه.(4/19)
ـ إن الذي يسقط الحد عن القاذف اعتبار صدقه، وهذا يتأتى بواحد من أمرين : الأمر الأول إقرار المقذوف بالزنا، الأمر الثاني شهادة أربعة من الشهداء، فأما إقرار الصبي والمجنون فغير صحيح، وأما إقرار المكره فهو رافع للحد عن القاذف ولا يجب به إقامة حد الزنا على المقذوف؛ لإكراهه على الفعل، وفي حالة كونه بأربعة شهداء لا يقام الحد عليهم أيضاً، فكيف يقام الحد على القاذف في حال كذبه ،ولا يقام على المقذوف حد الزنا في حال صدق القاذف؟! فصح بهذا أن قذف الصبي والمجنون ليس بقذف موجب للحد وإنما فيه التعزير.
وأما قذف المكرَه، ففيه شبهة يسقط بها الحد عن القاذف، ذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات؛ بيان ذلك أنه كما يسقط حد الزنا عن المكرَه لشبهة الإكراه، كذا يسقط حد القذف عن القاذف لشبهة ارتكاب الفعل، ولا يترك القاذف بل يعزر.
ـ نوقش دليلهم الثاني بما يلي:
إن القياس على البالغ قياس مع الفارق، وذلك لافتراقهما في الأحكام، ويظهر هذا فيما لو زنا البالغ فيعاقب بالحد إذا ثبت الفعل أما الصبي فلا.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو القائل:بأنه لا حد على قاذف الصبي والمجنون والمكره للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن العلة في مشروعية حد القذف دفع العار عن المقذوف؛ لئلا تشيع الفاحشة في المجتمع ،وقذف غير البالغ ليس فيه إلحاق العار به، وإذا كانت العلة منتفية كان القول بحد القاذف في هذه الحالة غير محقق لمقصده.
ـ أن الصبي والمجنون لا يلحقهما الشين بالقذف؛ لعدم تكليفهما والمكره يسقط به الحد لوجود شبهة الإكراه.
ـ أن إحصان المقذوف عبارة عن خصال حميدة، وأول ذلك كمال العقل وهذا ينعدم في الصبي والمجنون.(1)
__________
(1) المبسوط:9/118.(4/20)
ـ أن رواية الحنابلة من اعتبار طاقة الصغير للوطء، والمالكية من اعتبار كون الأنثى طائقة ، تفريق لا دليل عليه، فوق أنه أمر غير منضبط؛إذ يختلف حسب تكوين الشخص وبيئته ،والحدود لا تقام باحتمال ظن بل بيقين.
ورد في أحكام القرآن للجصاص:" المجنون والصبي والصبية لا يقع من واحد منهم زنا ; لأن الوطء منهم لا يكون زنا; إذ كان الزنا فعلا مذموما يستحق عليه العقاب ، وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم , فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون؛ لوقوع العلم بكذب القاذف ; ولأنهم لا يلحقهم شين بذلك الفعل لو وقع منهم فكذلك لا يشينهم قذف القاذف لهم بذلك، ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه فيه.(1)
* أثر هذا الخلاف.
وأثر هذا الخلاف واضح جلي، فعند الظاهرية ومن وافقهم من الحنابلة والمالكية قاذف الصبي أو الصبية يقام عليه حد القذف , وأما المجنون والمكره فقد انفرد الظاهرية بإيجاب الحد على قاذفهما , وذلك لتأكد كذب القاذف , أما عند الجمهور ـ وهو الراجح ـ فلا يقام الحد على القاذف ولكن يعزر.
المسألة الرابعة: قذف العبيد والإماء.
تحرير محل النزاع وسبب الخلاف:
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:3/396.(4/21)
اتفق الفقهاء على أن قذف المحصن موجب للحد،واختلفوا في شروط الإحصان(1) وهل يتأتي الإحصان للعبيد؟ فذهب فريق إلى أن الحرية شرط في المقذوف لاعتبار إحصانه , فإذا قذف إنسان عبداً أو أمة فلا حد على القاذف عندهم , وذهب فريق آخر إلى عدم اشتراط الحرية في المقذوف ,ومن ثم قالوا: بوجوب الحد على من قذف عبداً أو أمة.
……………أقوال الفقهاء
* الرأي الأول: وهو لجمهور الفقهاء من الحنفية(2) والمالكية (3)و الشافعية (4) والحنابلة (5).
ويرون اشتراط الحرية في المقذوف لإقامة الحد على القاذف.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية.(6)
ويرون عدم اشتراط الحرية في المقذوف لإقامة الحد على القاذف، فإذا قذف إنسان عبداً أو أمة أقيم عليه حد القذف.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
__________
(1) ورد في مراتب الإجماع:1/134." واتفقوا أن الحر العاقل البالغ المسلم غير المكره إذا قذف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا لم يحد قط في زنا أو حرة بالغة عاقلة مسلمة عفيفة غير ملاعنة لم تحد في زنا قط بصريح الزنا وكانا في غير دار الحرب المقذوف أو المقذوفة فطلب الطالب منهما القاذف هو بنفسه لا غير وشهد بالقذف الآن أو الحر القاذف كما قدمنا أنه يلزمه ثمانون جلدة. شرح فتح القدير:5/316،الاختيار:3/93، الذخيرة:12/104،112، البيان:12/395،مغني المحتاج: 5/492، المغني والشرح الكبير:10/101، الكافي:4/150، المحلى:12/225.
(2) البحر الرائق: 5/34, شرح فتح القدير: 5/319, 346, المبسوط: 9/120.
(3) حاشية الدسوقي:6/321، حاشية الخرشي:8/299، جواهر الإكليل: 2/427.
(4) البيان:12/397، الحاوي الكبير:13/255، تكملة المجموع:22/97،98 ، كفاية الأخيار:628.
(5) المغني والشرح الكبير:10/107،الروض المربع:491،الإنصاف:10/153، الكافي:4/147.
(6) المحلى:12/231.(4/22)
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1)
وجه الدلالة: في الآية بيان لحكم العفائف إذا نسبن إلى الزنا، ويعتبر في الإحصان هنا مع مدلوله الوضعي الذي هو العفة عن الزنا ؛الحرية،والبلوغ ،والإسلام(2) فدل هذا على أن الحرية شرط في الإحصان .
قال القرطبي (:" وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما.(3)
أما السنة: فما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا القاسم- صلى الله عليه وسلم -يقول :" من قذف مملوكه وهو بريء مما قال ،جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال."))(4)
وجه الدلالة فيه:
ـ إنه لو وجب الجلد على السيد في قذف عبده في الدنيا لذكره - صلى الله عليه وسلم -؛ كما ذكرالجلد في الآخرة، و إنما خص الجلد بالآخرة تمييزا للأحرار عن المملوكين في الدنيا ،أما في الآخرة فان ملكهم يزول عنهم ويتكافئون في الحدود، ويقتص لكل منهم إلا أن يعفو، ولا مفاضلة حينئذ إلا بالتقوى.(5)
__________
(1) النور آية 4.
(2) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم: لمحمد بن محمد العمادي أبو السعود ت 951 هـ:6/157، طبعة دار التراث.
(3) تفسير القرطبي:12/174.
(4) متفق عليه: البخاري:كتاب الحدود، باب قذف العبيد،رقم 6466، مسلم كتاب الأيمان، باب التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا،رقم 1660.
(5) فتح الباري:12/192. بتصرف يسير(4/23)
ـ قال النووي ( معلقا على هذا الحديث:" فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعرز قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن فيه، سواء من هو كامل الرق أو فيه شائبة حرية."(1)
أما الإجماع:ادعى بعضٌ الإجماع، كما قال ابن المهلب ( :أجمعوا على أن الحر إذا قذف عبداً لم يجب عليه الحد." (2)
أما المعقول فمن جهات:
الجهة الأولى :أن حرمة العبد ناقصة نقصاً أوجبه الرق؛كالكافر فكل نقص منع أن يقتل به الحر المسلم منع أن يحد في القذف به،(3)
الجهة الثانية: أن كل عبد قد منعه نقص الرق أن تؤخذ بنفسه نفس الحر، فكان أولى المنع من أن يؤخذ بعرضه عرض الحر.(4)
الجهة الثالثة :أنه لا حرمة للعبد ولا للأمة.(5)
الجهة الرابعة : أن آيات القذف وردت في الحرة المسلمة وغيرها ليس في معناها.(6)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالسنة والآثار والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((..فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم و أبشاركم عليكم حرام."))(7)
ذكر ابن حزم( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بين حرمة العرض من الحر والعبد نصاً، خاصة وأن الحنفية الموجبون للقود على الحر للعبد قد أثبتوا حرمتهما سواء.(8)
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم:لأبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي ت 676،ج 11/ 132،طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية.
(2) فتح الباري:12/192، القرطبي:6/474، شرح النووي على صحيح مسلم:11/132.
(3) المعونة:2/331.
(4) الحاوي الكبير:13/255.
(5) المحلى:12/232.
(6) شرح الزركشي:6/207، نيل المآرب:2/283.
(7) صحيح: البخاري،كتاب الفتن،باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض،رقم 6667، ج6/2593.
(8) المحلى:12/231.(4/24)
أما الآثار: فما أورده نافع مولى ابن عمر - رضي الله عنه -"((أن أميراً من الأمراء سأل ابن عمر - رضي الله عنه -عن رجل قذف أم ولد لرجل، فقال:يضرب الحد صاغراً."))(1)
أما المعقول فمن وجوه:
الوجه الأول: أن العبد يحد للزنا، فيحد القاذف له بالزنا ؛كالحر.
الوجه الثاني: أن الحكمة من الحد هي منع الترامي بالفاحشة وتنزيه الرأي العام من أن يسري فيه هذا القول، وتلك حكمة تتحقق في رمي العبيد وغيرهم.(2)
الوجه الثالث:أن للعبد كرامته فيجب أن تصان عن الابتذال؛ كما تصان كرامة الأحرار.(3)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
وقد نوقش دليلهم من الإجماع :بأن ادعاء الإجماع فيه نظر؛ إذ هو منقوض بما رواه نافع ( قال: "سئل ابن عمر - رضي الله عنه - عمن قذف أم ولد لآخر فقال: يضرب الحد".(4)
و نوقش دليلهم من المعقول بما يأتي:
قول ابن حزم (:" قولهم لا حرمة للعبد ولا للأمة " فكلام سخيف , والمؤمن له حرمة عظيمة , ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى , قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍوَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (5) والناس كلهم في الولادة أولاد آدم وامرأته , ثم تفاضل الناس بأخلاقهم وأديانهم , لا بأعراقهم , ولا بأبدانهم.(6)
__________
(1) صحيح:مصنف عبد الرزاق: لأبي بكر عبد الرزاق بن نعمان الصنعاني ت 211هـ، تحقيق:حبيب الرحمن الأعظمي، كتاب الطلاق باب الفرية على أم الولد رقم 13799،ج 7/439،طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403 هـ.
(2) تكملة المجموع:22/98.
(3) المرجع السابق:22/98.
(4) فتح الباري:12/192، المحلى: 12/231.
(5) الحجرات آية 13.
(6) المحلى:12/232.(4/25)
وقد أجيب عن هذا:بأن هذا الاستدلال أورده ابن حزم ( دليلاً لهم، وتكفل بالرد عليه، وليس موجودا في كتبهم ـ التي تحت يدي ـ وما قال أحد منهم بأنه لا حرمة لهم، بل قالوا :إن حرمة العبد والأمة ناقصة ،لا تنتهض لإيجاب الحد.
مناقشة أدلة الرأي الثاني: نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
ـ هذا الحديث الذي استدلوا به صحيح لا مغمز فيه، وحكمه عام ،والعبد يدخل تحته؛ إلا أن حرمة العبد لا تنتهض لإيجاب الحد، فمن قذفه يعزر اعتباراً لحرمته.
و نوقش دليلهم من الآثار:بأنه قد جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - خلاف ذلك؛ حيث قال :بعدم جلد من قذف مملوكه)(1).
ـ إن هذا قول صحابي، ولا حجة في قول الصحابي إذا خالف ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله:" من قذف مملوكه وهو برئ مما قال، جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال."(2)
و نوقش دليلهم من المعقول من جهات:
الجهة الأولى: أن الله - سبحانه وتعالى - شرط في المقذوف الإحصان، وهو منطلق على الحرية والإسلام، فوجب أن يكون شرطا فيه.
الجهة الثانية :أن فعل الزنا أغلظ من القذف، فلما منعه الرق من كمال الحد في الزنا كان أولى أن يمنع إقامة الحد على من قذفه .
الجهة الثالثة: أن قياسه على حد الزنا ،قياس مع الفارق؛ لأن حد الزنا عليه، وحد القذف له، ونقصه مؤثر في الحق الذي له،وإن لم يؤثر في الحق الذي عليه؛كالقصاص لا يستحقه على الحر، ويستحقه عليه الحر.(3)
الرأي االراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فما تميل إليه النفس من هذه الآراء هو أن السيد لا يقام عليه الحد إذا رمى عبده، وحديث أبو هريرة - رضي الله عنه - نص في ذلك.
__________
(1) السنن الكبرى للنسائي: كتاب الرجم، باب قذف المملوك، 4/ 325 رقم 7353.
(2) صحيح سبق تخريجه 158.
(3) الحاوي الكبير:13/256.(4/26)
أما قذف عبد الغير فلم يرد نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما إذا رمى عبد غيره... فيبقى عموم النص ويحد من قذف عبد غيره، وتعليل ذلك أن هناك علاقة تتبع التأديب بالنسبة للمولى على المملوك؛ وإن أساء عزر ولم يحد، والحديث مقصور على هذه الحالة فيبقى ـ ما عداه ـ على عمومه.(1) ،وقول ابن حزم ( قول له وجاهته لو لم يصادم النص المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدم حد قاذف المملوك، والأحكام لا تؤخذ بالآراء؛ وإنما بما ثبت عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله، والحديث ثابت في الصحيحين فلا عبرة بخلافه.(2)
خلاصة القول:أن السيد إذا قذف مملوكه لا يقام عليه الحد؛ لنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما إذا قذف عبد غيره فيقام عليه الحد؛لأن النص يعمل به في مورده ويبقى ما عداه على العموم.
ـ وكذا صحة ما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنه - حينما سئل عن رجل قذف أم ولد لرجل فقال: يضرب الحد صاغراً، ولا يظن بابن عمر - رضي الله عنه - أنه يقول هذا القول من تلقاء نفسه، وهو المقتفي لأثار أقدام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
المسألة الخامسة:قذف الأب ابنه.
سبب الخلاف:يرجع سبب الخلاف إلى كون القذف حقاً لله- سبحانه وتعالى - أم أنه حق للمقذوف؟ فمن ذهب إلى كونه حق الله تعالى؛قال:يقام الحد على الأب، ومن ذهب إلى كونه حق الله تعالى حق للعبد قال: بعدم الحد. من ثم اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين :
أقوال الفقهاء
* الرأي الأول:وهو للحنفية (3)ورواية عند المالكية (4)والشافعية (5)والحنابلة (6).
__________
(1) تكملة المجموع:22/98.
(2) روائع البيان للصابوني:2/61.
(3) تبيين الحقائق:3/203، المبسوط:9/123، البحر الرائق:5/38.
(4) المدونة الكبرى:4/394، الذخيرة:12/97،104.
(5) البيان:12/399، كفاية الأخيار:628.
(6) الكافي:4/147،شرح الزركشي:6/316، الإنصاف:10/154.(4/27)
ويرون أنه لا حد على الوالد في قذف ابنه.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية (1) والرواية الثانية عند المالكية (2).
ويرون أن الأب يحد بقذف ابنه.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب:فقوله تعالى: { . وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } (3)
ـ فليس من الإحسان المطلوب ولا البر بالوالدين ،أن يضرب أحدهما حداً لقذف ابنه، فكان النص نافياً لوجوب حد القذف على الأب.(4)
أما السنة:فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((لا يقاد الوالد بالولد.))"(5)
فلما لم يجب القصاص على الوالد والمغلب فيه حق العبد،وسببه متيقن به،فلأن لا يجب حد القذف والمغلب فيه حق الله، وسببه غير متيقن ،وهو القذف؛لجواز أن يكون صادقاً فيما نسبه إليه أولى.(6)
أما المعقول فمن جهات:
الجهة الأولى : أن الحد يسقط بالشبهة، وما يسقط بالشبهة لا يثبت للوالد على الولد.(7)
__________
(1) المحلى:12/266.
(2) الذخيرة:12/97، المدونة الكبرى:4/394.
(3) الإسراء من الآية 23.
(4) بدائع الصنائع: 7/42، جريمة القذف في الفقه الإسلامي:د/سعد محمد حسن أبو عبده، ص 60.
(5) صحيح:سنن الترمذي: كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه يقاد منه أم لا، رقم 1400، ج4/18، مسند الإمام أحمد: 1/16، الدارمي: كتاب الديات، باب القود بين الوالد والولد رقم 2357، ج2/250، كلهم رواه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ورواه البيهقي في الكبرى:8/39 رقم 5744، سنن الدارقطني:3/141 رقم 182، المستدرك على الصحيحين:4/410رقم 8104، نصب الراية:4/397 عن ابن عباس - رضي الله عنه - بإسناد حسن؛لأن فيه إسماعيل بن مسلم وقال فيه البيهقي فيه ضعف.
(6) العناية على الهداية:5/325.
(7) البيان:12/400، المغني والشرح الكبير:10/102.(4/28)
الجهة الثانية : أن حد القذف عقوبة تجب حقاً لآدمي، فلا تجب للولد على الوالد؛ كالقصاص.(1)
الجهة الثالثة: أن الولد منسوب إلي أبيه بالولادة , ولا يعاقب بجنايته على نفسه وأطرافه , فكذلك لا يعاقب بالتناول من عرضه.(2)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والآثار:
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (3) ،و قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ و َالأَقْرَبِينَ } (4)
وجه الدلالة: أن الآية الأولى عامة في إيجاب الحد على من قذف محصناً ، وفي الثانية أوجب الله - سبحانه وتعالى - القيام بالقسط على الوالدين ،والأقربين ، كالأجنبين ،فيدخل في ذلك الحدود وغيرها.
أما الآثار: فما أخرجه عبد الرزاق ( عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "((لا عفو عن الحدود و لا عن شيء منها بعد أن يبلغ الإمام ،فإن إقامتها من السنة."))(5)
وجه الدلالة: أن سيدنا عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - عمم القول في الحدود ولم يخص والدا من ولد.
……………المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول.
__________
(1) كفاية الأخيار:628، الكافي:4/147، المغني والشرح الكبير:10/102.
(2) المبسوط:9/123.
(3) النور آية 4.
(4) النساء من الآية 135.
(5) ضعيف :مصنف عبد الرزاق: كتاب الطلاق: باب الأب يفتري على ابنه ,7/441 رقم 13816.(4/29)
نوقش دليلهم من الكتاب :بأن وصية الله - سبحانه وتعالى - بالإحسان إلى الأبوين، بأن لا يقال لهما: أف , ولا ينهرا , ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة: فحق لا يحيد عنه مسلم , وليس يقتضي شيء من ذلك إسقاط الحد عنه في القذف لولده ; لأنه لا يختلف الناس في أن إماماً له والد قدم إليه في قذف , أو في سرقة أو في زنا , أو في قود , فإن فرضاً على الولد إقامة الحد على والده في كل ذلك ،وأن ذلك لا يسقط عنه ما افترض الله - سبحانه وتعالى -له عليه من الإحسان والبر , وأن لا ينهره , ولا يقل له: أف , وأن يخفض له جناح الذل من الرحمة , وأن يشكر له ولله عز وجل - وقد قال تعالى { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ... } وقد أمر مع ذلك بإقامة الحد على من أمرنا برحمته..(1)
ـ إن قياس القذف على القصاص قياس باطل ; لأنه قياس للخطأ على الخطأ , ونصر للباطل بالباطل واحتجاج منه لقول لهم فاسد , بقول لهم آخر فاسد , لا يتابعون عليه , ولا أوجبه نص , ولا إجماع(2) ، بل الحدود و القود واجبان على الأب للولد في كل ما ذكرنا.(3)
وقد أجيب عن هذا: ـ
بأن قولكم أنه لم يرد نص قول غير مسلم به؛ لأنه قد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "((لا يقاد والد بولده."))(4) ثم إن في إقامة الحد على الأب شبهة , والحدود تدرأ بالشبهات.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
نوقشت أدلتهم من المعقول بما يلي :
ـ إن الأب إذا قذف ابنه فكأنه قذف بعضه؛ لأن الابن جزء الأب , فكيف يقاد الحد على الشخص بقذف بعضه.
ـ أن قول سيدنا عمر - رضي الله عنه - ـ إن صح ـ فهو في مقام بيان حكم، لا في مقام تفصيل.
__________
(1) المحلى: 12/265.
(2) مسألة القصاص من الوالد للولد فيها خلاف بين الفقهاء ، وفي قول ابن حزم (نظر.
(3) المرجع السابق: 12/265.
(4) ضعيف :مصنف عبد الرزاق ، باب الأب يفتري على ابنه ،7/440 رقم 13810 ، نصب الراية :4/341.(4/30)
…………الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فما تميل النفس إلى ترجيحه من هذه الآراء ،هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول القائل: بعدم إقامة الحد على الأب إذا قذف ابنه للأسباب التالية:
ـ قوة أدلتهم من الكتاب والسنة, وضعف أدلة المخالفين.
ـ أن توقيع الحد على الأصل غير معهود في الشريعة؛ لذا لا يقتص من الوالد في قتل ولده , ومعلوم أن الاعتداء على النفس بالإفناء أشد من الاعتداء على الأعراض بالانتهاك.
ـ أن الاختلاف في هذه المسألة يرجع إلى كون القذف هل يعتبر من حقوق الله - سبحانه وتعالى - , أو من حقوق العبد ؟ والأرجح أنه حق مشترك , وحق العبد فيه غالب.
من هنا قال الفقهاء: إنه لا يستوفى إلا بالمطالبة , و لا يستطيع الولد أن يطالب أباه بحد القذف؛ لذا كان هذا الرأي هو الراجح.
المسألة السادسة: القذف باستخدام الترخيم.
إذا قال: رجل لامرأته يا زاني، أو قالت: المرأة لرجل يا زانية، أو قال: رجل لآخر زنيتِ (بكسر التاء)، أو قال:لامرأة زنيتَ (بفتح التاء)هل يعد هذا قذفاً أو لا؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:
* الرأي الأول:وهو للحنفية (1)والمالكية(2)والشافعية(3)والحنابلة (4)
ويرون أن هذه الأقوال تعد قذفاً موجباً للحد.
ـ وذهب الحنفية (5)إلى التفريق بين قول الرجل لامرأة :يا زاني فاعتبروه قذفاً؛لأنه صرح بإضافة الزنا إليها، أما لو قال: لرجل يا زانية ،لا حد عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف ( ،وعند محمد ( يحد.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية . (6)
__________
(1) المبسوط:7/50، البحر الرائق:5/33، تحفة الفقهاء:3/144.
(2) الذخيرة:12/93، مواهب الجليل:6/304.
(3) المهذب:2/273، البيان:12/408.
(4) المغني والشرح الكبير:10/106، الكافي:4/148.
(5) المبسوط: 9/114،.
(6) المحلى:12/269 باختصار.(4/31)
وقد ذهبوا إلى التفريق بين كون القاذف فصيحاً أو لا، فإن كان غير فصيح حد؛ وإن كان فصيحاً سئل: من خاطبت؟ فإن قال: خاطبت غيرها , أو قال: خاطبت غيره , فلا شيء عليه ; لأن هذا هو ظاهر كلامه ; لأن خطاب المؤنث لا يكون إلا بكسر التاء , فإذا خاطبها بفتح التاء فلم يخاطبها , وخطاب الرجل بفتح التاء , فإذا خاطبه بكسرها فلم يخاطبه - وإن أقر: أنه خاطبها بذلك , حد ; لأنه حينئذ قاذف لها .
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول من وجوه:
لو قال: لامرأة يا زانٍ ،أو زنيتَ ـ بالفتح ـ يحد لما يلي:
1ـ أن هذا ترخيم يفهم منه أنه أراد رميها بالفاحشة، فكان قذفاً؛ كما لو قذفها بالعجمية.(1)
2 ـ أن اللفظ صريح في الزنا، وزيادة الهاء وحذفها خطأ لا يغير المعنى؛ كاللحن وفتح التاء فلم يمنع الحد.(2)
3 ـ أن ما كان قذفاً لأحد الجنسين كان قذفاً للآخر؛ كقوله: زنيتِ َ ـ بفتح التاء وكسرها ـ لهما جميعاً.(3)
4 ـ أن هذا اللفظ خطاب لهما، وإشارة إليهما بلفظ الزنا، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها.(4)
5 ـ أن القذف كلمة فهم معناها، ولزم المتكلم حكمها، وإن كان لحناً؛ كما لو قال: لامرأة زنيت يا هذا، أو لرجل زنيت يا هذه.(5)
6ـ أن لها مخرجاً من اللغة ،وذلك أنه يشير إلى نفسه و ذاته، فيكون معناه يا نفساً زانية، ويا ذاتاً زانية، فيصح التأنيث في هذا.(6)
7 ـ أن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا؛ لأن كثيراً من الناس يذكر المؤنث، ويؤنث المذكر.(7)
8 ـ أن التاء إنما زيدت للمبالغة كقولهم: علامة، نسابة، شتامة، نوامة.(8)
أدلة أصحاب الرأي الثاني:
__________
(1) البيان:12/408.
(2) الكافي:4/148.
(3) المغني والشرح الكبير:10/106.
(4) المغني والشرح الكبير:10/106.
(5) البيان:12/409، تكملة المجموع:22/118.
(6) البيان:12/409، تكملة المجموع:22/118.
(7) كشاف القناع:6/109.
(8) المهذب للشيرازي:2/273.(4/32)
ـ أما الظاهرية فلا دليل عندهم سوى التفريق بين كونه فصيحاً، أو غير فصيح، فإن كان غير فصيح حد، وإن كان فصيحاً سئل عن نيته.
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الأول بما يلي:
ـ أن الترخيم إنما يصح بأسماء الألقاب، أما الأسماء المشتقة من الفعل فلا يصح فيها الترخيم.(1)
وقد أجيب عن هذا من جهتين:
ـ أن هذا باطل؛ لترخيمهم حارث ومالك، وهما مشتقان من الفعل. (2)
ـ أن الترخيم إنما يصح بإسقاط حرف من الكلمة، فأما إسقاط حرفين فلا يصح.(3)
وقد اعترض على هذا: بأنه إذا كان الحرف قبل الأخير حرف اعتلال سقط في الترخيم؛ كقولهم :في عثمان يا عثم، وقيل: بأنه إذا كان المراد منه مفهوماً صح الترخيم، وإن سقط حرفان أو أكثر؛(4) لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي هريرة - رضي الله عنه - :يا أبا هر.(5)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فما تميل النفس إلى اختياره منها هو قول جمهور الفقهاء بأن من قال: لذكر يا زانية بصيغة التأنيث، أو قال :لامرأة يا زانِ بصيغة التذكير ،أنه يلزمه الحد، للأسباب الآتية:
ـ أن القاذف بهده الألفاظ لا يخلو من أحد أمرين:
1 ـ إما أن يكون عامياً لا يعرف العربية، أو يكون له علم بالعربية، فإن كان عامياً فهو غير عالم بالفرق بين العبارتين، وقصْد القذف ظاهر في لفظه.
__________
(1) البيان للعمراني:12/408.
(2) المهذب للشيرازي:2/273، البيان:12/408.
(3) البيان للعمراني:12/408.
(4) البيان:12/408.
(5) البخاري: باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفا وقال أبو حازم عن أبي هريرة قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا هر.ج5/2291.(4/33)
2ـ وإن كان عالماً بالعربية؛ فاللغة يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصا، وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف المؤنث باعتبار الشخص ،فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة مذكر باعتبار النسبة أو النفس.(1)
ـ أن ما ذهب إليه الظاهرية من التفريق بين كون القاذف فصيحاً أم لا، لا دليل على هذا التفريق.
ـ أن قول أبي حنيفة وأبي يوسف (بالتفريق بين الرجل و المرأة، فأوجبوا الحد في قذف المرأة ولم يوجبوه في قذف الرجل؛ مثل هذا تفريق بلا دليل. فإن قالوا: أخطأ في الرجل، قيل: لماذا لم يعتبروا هذا الخطأ في قول الرجل زنيتِ.
قال ابن قدامة (:(2) " لنا أن ما كان قذفا لأحد الجنسين , كان قذفا للآخر , كقوله: زنيت. بفتح التاء وبكسرها ،لهما جميعا ; ولأن هذا اللفظ خطاب لهما , وإشارة إليهما بلفظ الزنا , وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها.
المسألة السابعة: صفة حد القذف.
* تحرير محل النزاع :
اتفق الفقهاء على أن حد الزنا حق خالص لله تعالى ، ولا حق فيه للعبد، واختلفوا في تكييف طبيعة حد القذف، هل هو حق لله تعالى خالص كالزنا ،أو أنه حق مشترك(3)
__________
(1) جريمة القذف وعقوبتها في الفقه الإسلامي:سعد محمد حسن أبو عبده ، كلية الشريعة والقانون بأسيوط ، 1993/1994 ص 43،44.
(2) المغني والشرح الكبير:10/106.
(3) قال القرطبي (:" واختلف العلماء في حد القذف هل هو من حقوق الله، أو من حقوق الأدميين ،أو فيه شائبة منهما ،فالأول: قول أبي حنيفة ، والثاني: قول مالك و الشافعي، والثالث: قاله بعض المتأخرين ،وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه وإن لم يطلب ذلك المقذوف ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ويتشطر فيها الحد بالرق كالزنى وإن كان حقا للآدمي فلا يقيمة الإمام إلا بمطالبة المقذوف ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف. تفسير القرطبي:12/177.(4/34)
واختلف القائلون بالاشتراك في تغليب أحد الحقين على الآخر.
* الرأي الأول: وهو للحنفية (1)و المالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة . (4)
ويرون أن حد القذف حق مشترك بين الله- سبحانه وتعالى - وبين عبده، فمن حيث انه شرع للإنزجار وإخلاء الأرض من الفساد صار حقاً لله - سبحانه وتعالى -، ومن حيث أنه شرع لصيانة عرض العبد ،ودفع العار عن المقذوف وأنه هو الذي ينتفع به على الخصوص صار حقاً للعبد.
والفقهاء من حيث تغليب أحد الحقين على الآخر انقسموا إلى قسمين:
ـ فجمهور الحنفية (5) وبعض المالكية (6) ورواية عن الحنابلة (7) ذهبوا إلى تغليب حق الله - سبحانه وتعالى -.
ـ وذهب بعض الحنفية (8)وقول عند المالكية (9) والشافعية (10) والرواية الثانية عند الحنابلة (11) إلى أن المغلب حق العبد، وقول ثالث عند المالكية (12) إلى أنه يغلب حق العبد قبل الشكوى، ويغلب حق الله - سبحانه وتعالى - عند الشكوى.
*الرأي الثاني: وهو للظاهرية.(13)
ويرون أن حد القذف حق خالص لله - سبحانه وتعالى -، ولا حق فيه للعبد.
الأدلة.
*أدلة أصحاب الرأي الأول .
استدل القائلون بأنه حق مشترك وحق الله فيه مغلب بما يلي:
__________
(1) تبيين الحقائق:3/203، الهداية:2/405، بدائع الصنائع: 7/56، المبسوط:9/109.
(2) حاشية الخرشي:8/308، أسهل المدارك:2/266، الفواكه الدواني:2/212، الذخيرة:12/110.
(3) أسنى المطالب:4/136.
(4) الكافي:4/151، الإنصاف:10/153،166.
(5) تبيين الحقائق:3/203.
(6) الذخيرة:12/110.
(7) الإنصاف:10/153.
(8) شرح فتح القدير: 5/327.
(9) الذخيرة:12/111، أسهل المدارك:2/266.
(10) المهذب للشيرازي: 2/245، كشاف القناع:6/86.
(11) الإنصاف:6/153،166، الكافي:4/147، 150.
(12) حاشية الخرشي:8/308.
(13) المحلى:12/256.(4/35)
ـ أن مصلحة الصيانة ودفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد , فكان حق الله - سبحانه وتعالى - على الخلوص كسائر الحدود , إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف , وهذا لا ينفي كونه حقا لله - سبحانه وتعالى - على الخلوص , كحد السرقة فإنه خالص حق الله - سبحانه وتعالى -.,(1)
ـ أن هذا حد يعتبر فيه الإحصان، فيكون حقاً لله تعالى ؛كالرجم،لأن الحدود زواجر مشروعة حقاً لله - سبحانه وتعالى -.(2)
ـ أن ولاية الاستيفاء للإمام بالإجماع ولو كان حق المقذوف لكان ولاية الاستيفاء له كما في القصاص.
- أن الحد يتنصف برق القاذف , وحق الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يحتمل التنصيف بالرق، لا حق العبد ; لأن حقوق الله - سبحانه وتعالى - تجب جزاء للفعل , والجزاء يزداد بزيادة الجناية ،وينتقص بنقصانها.
ـ أن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة , ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة و لا معنى فلا يكون حقه(3) .
ـ وأن العبد يجلد في القذف أربعين , ولو كان حقا لآدمي لما اختلف الحر والعبد فيه , إذا كان الجلد مما ينتصف ,(4) والجناية تتكامل بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله , فأما حق العبد فإنه يجب بمقابلة المحل ولا يختلف باختلاف حال الجاني.(5)
استدل القائلون بأنه حق للعبد بما يلي:
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/56.
(2) المبسوط:9/109،تبيين الحقائق:3/203، الكافي:4/151.
(3) بدائع الصنائع: 7/56.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 3/398.
(5) بدائع الصنائع: 7/57.(4/36)
ـ أن سبب وجوب الحد التناول من عرض المقذوف , وعرض المقذوف حقه (1) بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - "((أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم - رضي الله عنه - إذا أصبح قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك."))(2)
ـ أن المقصود دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه.(3)
ـ أنه حق للآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف، وحقوق الله - سبحانه وتعالى - لا تورث.(4)
ـ أنه لا يستوفى إلا بإذنه ومطالبته، فجاز له العفو عنه، فإذا عفا عنه سقط؛ لأنه محض حقه كالقصاص.(5)
استدل المالكية على روايتهم الثانية بما يلي :
ـ بما جاء عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب."))(6)
ـ أنه قبل بلوغ الإمام حق مخلوق، وبعده حق خالص لله .(7)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار :
__________
(1) المبسوط: 9/109, البيان: 12/417, الكافي: 4/151.
(2) ضعيف مرسل:سنن أبو داود: كتاب الأدب،باب ما جاء في الرجل يحلل الرجل قد اغتابه، رقم 4887، ج 4/272، شعب الإيمان: فصل في التجاوز والعفو وترك المكافأة 6/257 رقم8066 وفيه (على من ظلمني).
(3) المبسوط:9/109.
(4) المعونة:2/336.
(5) كفاية الأخيار: 629.
(6) صحيح الإسناد:سنن النسائي: كتاب قطع السارق، باب ما يكون حرزا وما لا يكون رقم 4886،ج 8/70، سنن أبو داود: كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان، رقم 4376، ج 4/133، سنن النسائي الكبرى: كتاب قطع السارق،باب ما يكون حرزا وما لا يكون، رقم 7372، ج4/330، البيهقي: كتاب الأشربة والحد فيها،باب ما جاء في الستر على أهل الحدود، رقم 17389، ج 8/331،سنن الدارقطني: كتاب الحدود والديات وغيره، رقم 104،ج3/113، المستدرك على الصحيحين:4/424،رقم 8158، وقال فيه الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(7) حاشية الخرشي:8/308.(4/37)
أما السنة: فما جاء عن عمرة بنت عبد الرحمن ـ رضي الله عنها(1) عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت:"((لما نزل عذري قام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فذكر ذاك وتلا( تعني القرآن )فلما نزل من على المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم."(2)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإحضار الرجلين والمرأة وحدهم الحد(3) ولم يشاور السيدة عائشة ـ رضي الله عنهاـ أن تعفوا أو لا.
أما الآثار:فما جاء أن سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جلد أبا بكرة ونافعاً وشبل ابن معبد- رضي الله عنهم -؛إذ رآهم قذفة، .(4)والثابت أنه لم يشاور في ذلك المغيرة، ولا رأى له حقاً في عفو أو غيره
المناقشة
نوقشت أدلة القائلين بتغليب حق الله - سبحانه وتعالى - : بأن القذف ـ كما قالوا ـ حق من حقوق الله- سبحانه وتعالى - فلا يجوز العفو عنه أصلا، وهم قد تناقضوا مناقضة ظاهرة بقولهم :لا حد على القاذف إلا أن يطلبه المقذوف، فجعلوه بهذا القول من حقوق المقذوف.(5)
__________
(1) هي عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية النجارية المدنية، الفقيهة، تربية عائشة ـ رضي الله عنها ـ وتلميذتها، توفيت سنة 98 هـ، وقيل 106هـ. سير أعلام النبلاء:4/507، 508.
(2) حسن: سنن أبي داود: كتاب الحدود، باب في حد القذف،رقم 4474،ج2/567، ابن ماجه: كتاب الحدود، باب حد القذف، رقم 2567، الترمذي:كتاب تفسير القرآن عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة النور، رقم 3181،ج 5/336، مسند الإمام أحمد:6/35 رقم 24112كلهم عن عمرة عن السيدة عائشةوقال فيه أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحق.
(3) عون المعبود:12/113.
(4) نصه في سنن البيهقي: كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف، رقم 20334،ج 10/152، مصنف عبد الرزاق:كتاب الطلاق، باب قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، رقم 13564،ج 7/384.
(5) المحلى:12/256.(4/38)
وقد أجيب عن هذا: أنه إنما شرط فيه الدعوى وإن كان خالص حق الله - سبحانه وتعالى -; لأن المقذوف يطالب القاذف; دفعا للعار عن نفسه ،فيحصل المقصود من شرع الحد كما في السرقة.(1)
مناقشة أدلة القائلين بأنه حق للعبد:
ـ نوقش دليلهم من السنة بأنه حديث ضعيف.(2)
ـ و نوقش قولهم بأنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف:بأن الحد إنما هو حق لله تعالى ،كسائر الحدود كما في الزنا والسرقة وشرب الخمر , والمطالبة به حق لآدمي، لا إقامة الحد, وليس كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمي , فحد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ،ولم يوجب ذلك أن يكون القطع حقا للآدمي؟ فكذلك حد القذف.(3)وقياسه على القصاص قياس مع الفارق؛لأنه لو عفا عن القصاص فيصح أن يصير إلى بدل، أما القذف فلا.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
نوقش دليلهم من السنة بما يلي :
ـ القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقام الحد على قذفة السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ دون طلبها، فكان بذلك حقا لله - سبحانه وتعالى -، قول غير مسلم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام الحد لأنه ثبت عنده وهو الإمام، وبمثل هذا يقال: فيما جاء عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - من جلده قذفة المغيرة - رضي الله عنه -.
وقد نوقش دليلهم من الآثار:
بأن سيدنا عمر - رضي الله عنه - لم يشاور سيدنا المغيرة - رضي الله عنه -في إسقاط الحد أو العفو عنه؛ لأن الحد قد بلغه، فلا يسقط الحد حينئذٍ ،ولا يعفى عنه، بل نقول :بأن الحد لا يقام في الأصل إلا بطلب من المقذوف.
وقد أجيب عن هذا:
ـ بأن الحد لم يقم عند سيدنا عمر - رضي الله عنه - بناءً على دعوى من سيدنا المغيرة - رضي الله عنه -، وإنما وجب الحد بثبوت القذف عنده - رضي الله عنه - لعدم اكتمال نصاب الشهادة.
الرأي الراجح
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/56.
(2) إرواء الغليل:8/32.
(3) أحكام القرآن للجصاص:3/398.(4/39)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو رأي القائلين :بتغليب حق العبد؛ وذلك تقديماً لحق العباد ـ لحاجتهم إليه ـ فحينئذٍ يصح العفو فيه ما لم يبلغ الإمام ؛لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" تعافوا الحدود فيما بينكم.(1)، أما إذا بلغ الحد الإمام فلا يصح العفو عنه.
يقول الشاطبي (:" ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حق لله خاصة وهو راجع إلى التعبد وما هو حق للعبد ويقولون في هذا الثاني إن فيه حقا لله كما في قاتل العمد إذا عفي عنه ضرب مائة وسجن عاما وفي القاتل غيلة إنه لا عفو فيه وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق.(2)
وأما قول ابن حزم ( ومناقشاته فتحمل على ما إذا وصل الأمر إلى الإمام، أما قبل ذلك فهو كسائر الحدود.
فائدة هذا الخلاف.
ـ أنه إذا كان حقاً لله - سبحانه وتعالى - وبلغ الإمام أقامه، وإن لم يطلب المقذوف ذلك، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله - سبحانه وتعالى -، ويتشطر فيه الحد بالرق؛ كالزنا.
أما إن كان حقاً لآدمي ،فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.(3)
ـ وتظهر الفائدة أيضاً في أنه إذا اعتبر حقاً لله - سبحانه وتعالى - فتتنصف العقوبة إذا كان القاذف عبداً، وقد ذهب إلى هذا الحنفية (4)والمالكية (5)والشافعية (6)و الحنابلة.(7)
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه ص 170
(2) الموافقات:2/598.
(3) تفسير القرطبي:12/177.
(4) شرح فتح القدير:5/316، العناية على الهداية:5/316،البحر الرائق:5/32.
(5) منح الجليل:9/279، بداية المجتهد:6/139.
(6) البيان:12/398، كفاية الأخيار:628.
(7) المغني والشرح الكبير:10/101.(4/40)
ـ أما إذا كان حقاً للعبد خالص فيقام الحد كاملاً، حتى ولو كان القاذف عبداً؛ كما ذهب إلى هذا داود الظاهري وأصحابه (.(1)
المبحث الثالث
أحكام وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة وخالفوا البعض الآخر في حد القذف.
ويندرج تحت هذا المبحث مسائل:
المسألة الأولى: التعريض بالقذف.
القذف بالزنا ثلاثة أقسام: صريح وكناية وتعريض.
ـ أما الصريح: فهو أن يصرح القاذف في كلامه بلفظ الزنا؛ مثل أن يقول يا زاني أو يا زانية، أو أن ينفي نسبه؛كأن يقول:لست لأبيك، وهذا النوع اتفق الفقهاء على أنه يجب فيه الحد.
ـ أما الكناية: فهي مثل أن يقول يا فاسقة، يا فاجرة، فهذه لا تكون قذفاً إلا أن يريده.
ـ أما التعريض:(2) فقد يكون بلفظ وضع لمعنى غير الزنا، والزنا لازم له مع صحة إرادة المعنى الذي وضع له اللفظ، فالتعريض إذن: هو التعبير عن الغرض باللفظ الموضوع لضده؛نحو ما أنا بزان أو يا عفيف، أو يقول لزوجته لم أجدك عذراء، فإنه تعريض بكونها زنت قبل تزوجه بها وذهبت بكارتها.
* تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين الفقهاء في أن القذف باللفظ الصريح يوجب الحد على القاذف؛ مثل قوله : يا زاني، لكنهم اختلفوا في التعريض بالقذف على آراء :(3)
* الرأي الأول: وهو للحنفية (4)والشافعية (5)ورواية عند الحنابلة (6)والظاهرية.(7)
ويرون أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد.
على التفصيل التالي:
الحنفية والظاهرية:يرون أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد مطلقاً حتى ولو نواه.
__________
(1) بداية المجتهد:6/139.
(2) روائع البيان:2/62.
(3) الميزان الكبرى الشعرانية:2/222، رحمة الأمة:504.
(4) بدائع الصنائع: 7/43، المبسوط:9/120.
(5) الحاوي الكبير:13/261، البيان:12/404.
(6) المغني والشرح الكبير:10/104.
(7) المحلى:12/241.(4/41)
أما عند الشافعية ورواية عند الحنابلة: فيرون التعريض بالقذف لا يوجب الحد إلا أن ينويه، ويفسر هذا ما جاء في رحمة الأمة (1) "والتعريض بالقذف لا يوجب الحد عند أبي حنيفة ( وإن نوى به القذف، وقال مالك ( يوجب الحد على الإطلاق، وقال الشافعي ( إن نوى به القذف وفسره، وجب به الحد ، وعند أحمد (روايتان: أظهرهما وجوب الحد على الإطلاق، والأخرى كمذهب الشافعي (.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية (2)والأظهر عند الحنابلة.(3)
ويرون أن التعريض بالقذف يوجب الحد مطلقاً، مع اشتراط المالكية أن يكون القاذف غير أب للمقذوف.(4)
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والقياس والمعقول.
أما الكتاب:
فقوله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ.. } (5)
وجه الدلالة: أن الله - سبحانه وتعالى - رفع الحرج في التعريض في النكاح ،فدل هذا على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد؛ لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح.(6)
أما السنة:
فما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - "((أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :يا رسول الله: ولد لي غلام أسود فقال :هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى ذلك، قال: لعله نزعه عرق، قال: فلعل ابنك هذا نزعه؟"))(7)
__________
(1) رحمة الأمة: ص 55.
(2) جواهر الإكليل: 2/428، بداية المجتهد:6/138، حاشية الدسوقي:6/324.
(3) المغني والشرح الكبير:10/104.
(4) حاشية الدسوقي:6/324.
(5) البقرة من الآية 235.
(6) تفسير القرطبي:3/178.
(7) صحيح: البخاري: كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، رقم 4999، ج 5/2032، مسلم: كتاب اللعان، رقم 1500،ج 2/1137. واللفظ للبخاري (.(4/42)
وجه الدلالة:أن قول الأعرابي محتمل للقذف وغيره، ومع هذا لم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم القذف، وقد قال فيه ابن حجر (وغيره: أن التعريض بنفي الولد ليس نفيا، وأن التعريض بالقذف ليس قذفا،(1)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -:"((.. لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه.."))(2)
وجه الدلالة: أفاد هذا الحديث أن الحد لا يثبت بالاستفاضة وإن قويت الريبة وشاعت الفاحشة وقامت القرائن (3)، وإنما يثبت بما نص عليه الشرع من الإقرار أو الشهود.
ـ ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - " أن رجلا قال: يا رسول الله إن تحتي امرأة لا ترد يد لامس قال: طلقها، قال: إني لا أصبر عنها، قال: فأمسكها." (4)
أما القياس: فقياس التعريض بالقذف على السب؛ فكما أن التعريض بالسب لا يكون سباً ،بدليل أن المشركين كانوا يعرضون بسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون :مذمماً عصينا وأمره أبينا .
__________
(1) فتح الباري: 9/443،شرح النووي:10/134، عون المعبود:6/250، نيل الأوطار:7/75.
(2) صحيح: مسلم:كتاب اللعان رقم 1497، ج 2/1135.
(3) فيض القدير شرح الجامع الصغير:لعبد الرؤوف المناوي، ج 5/320،طبعة المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة الأولى
(4) صحيح الإسناد:سنن النسائي:كتاب الطلاق،باب ما جاء في الخلع، رقم 3465، ج 6/170،أبو داود:كتاب النكاح، باب النهي عن التزويج من لم يلد من النساء، رقم 2049،ج 2/220،ولفظه:.. إن امرأتي لا تمنع يد لامس قال " غربها " قال أخاف أن تتبعها نفسي قال " فاستمتع بها "، سنن البيهقي:كتاب النكاح باب ما يستدل به على قصر الآية على ما نزلت فيه أو نسخها، رقم 13648، ج 7/154،سنن النسائي الكبرى: كتاب النكاح، باب تحريم تزويج الزانية، رقم 3539،ج 3/270، كلهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.(4/43)
فكنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمذممٍ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما ترون كيف عصمني الله منهم، إنهم ليسبُّون مذمماً وإنما أنا محمد - صلى الله عليه وسلم -،كذا التعريض بالقذف لا يكون قذفاً.(1)
أما المعقول فمن جهتين :
الأولى :أن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني,وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين:
ـ أحدهما: أن الأصل أن القائل بريء الظهر من الجلد، فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه.
الثاني: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ادرءوا الحدود بالشبهات " , وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه.(2)
الثانية: أن الأمة كلها لا تختلف على أن من أظهر السوء من رجل , أو امرأة , كانفراد الأجنبيين , ودخول الرجل منزل المرأة تسترا , فواجب على المسلمين إنكار ذلك , ورفعه إلى الإمام , وهذا بيقين تعريض , و إلا فأي شيء ينكرون من ذلك. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالكتاب والآثار والقياس والمعقول :
أما الكتاب: فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا .. } (4)
وجه الدلالة: في هذه الآية دليل على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للنقيض والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض وذلك يوجب الحد.(5)
أما الآثار: فما روي أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال أحدهما: ما أبي بزان , ولا أمي بزانية , فاستفتي في ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؟ فقال قائل: مدح أباه وأمه , وقال آخرون: قد كان لأبيه
__________
(1) البيان:12/403، تكملة المجموع للمطيعي:22/114.
(2) أحكام القرآن للجصاص:3/395.
(3) المحلى:12/244.
(4) البقرة آية 104.
(5) تفسير القرطبي:2/56.(4/44)
وأمه مدح سوى هذا , نرى أن يجلد الحد , فجلده عمر- رضي الله عنه - ثمانين.(1)
ـ ما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز قال :من عرض عرضنا له بالسياط وكان يجلد في التعريض.(2)
__________
(1) إسناده صحيح:الموطأ: كتاب الحدود،باب الحد في القذف والنفي والتعريض، رقم 1515،سنن البيهقي الكبرى:كتاب الحدود، باب من حد في التعريض، رقم 16924، ج 8/252، نصب الراية:2/355 كلهم عن عمرة بنت عبد الرحمن، إرواء الغليل:8/39
(2) مصنف عبد الرزاق:كتاب الطلاق باب التعريض، رقم 13718، ج7/423.(4/45)
ـ ما جاء عن معاوية بن قرة:"((أن رجلا قال لرجل يا بن شامة الوذر،(1) فاستعدى عليه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال: إنما عنيت به كذا وكذا فأمر به عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فجلد الحد. "))(2)
وجه الدلالة من هذه الآثار:أن الصحابة - رضي الله عنهم - جلدوا الحد في التعريض بالقذف.
أما القياس:فقياس التعريض بالقذف على وقوع الطلاق ،والعتق ،والظهار بالتصريح والكناية، والعلة كون الكل ألفاظاً يمكن أن يفيد غير الصريح منها ما يفيده الصريح.(3)
__________
(1) الشامة: بالتشديد اسم فاعل شمه, والمراد بالوذر:القطعة من اللحم، وهذه العبارة كناية عن القذف، فكأن المرأة مكثرة لشم المذاكر، والمذاكر قطعة من اللحم فكأن هذه كناية عن الزنا، فقائل هذا كأنه يزعم أن المرأة تشم ذكر الذكر؛ كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أنثاه، وشمها لمذاكر الرجال كأنه مقدمة للمواقعة، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكر، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة؛ لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع. أضواء البيان للشنقيطي:5/439. بتصرف ، هذا القَولُ من سِباب العَرب وذَمِّهم. ويُريدون به يا ابن شامَّة المَذاكِير يَعْنون الزِنا كأنها كانت تَشَمُّ كَمَراً مُخْتَلِفة. والذَّكَر: قِطْعَة من بَدَن صاحبه،وقيل: أراد بها القُلَفَ جمع قَلَفَة الذَّكَر لأنها تُقْطع.، النهاية في غريب الحديث والأثر:أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي،ج5/374،طبعة المكتبة العلمية - بيروت، 1399هـ - 1979م
(2) ضعيف: سنن الدارقطني: كتاب الحدود والديات وغيره ج 3/208 رقم 375،مصنف ابن أبي شيبة: باب من كان يرى في التعريض عقوبة، رقم 28377، ج 5/500، إرواء الغليل:8/39.
(3) صحيح فقه السنة وأدلته، أبو مالك كمال بن السيد سالم،ج 4/62، طبعة دار الكتب التوفيقية.(4/46)
أما المعقول من وجوه:
الأول : أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد احتمالاتها؛ كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى(1)؛ كما حكى القرآن الكريم عن السيدة مريم:" { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } (2)
الثاني :أن من التعريض بالقذف ما هو أوجع أنكى من التصريح ،وأبلغ في الأذى ،وظهوره عند كل سامع مميز له؛ كظهور الصريح، والعبرة في الشريعة بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني.
الثالث :أن النص عام في عقاب القذف،فإذا ثبت القذف فقد وجب الحد، سواء أكان القذف صريحاً أو كناية.(3)
الرابع :أنه لفظ يفهم منه القذف كالصريح.(4) ،وبمعنى آخر أن موضوع الحد في القذف إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف وإذا حصلت المعرة بالتعريض وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم .(5)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول: نوقش دليلهم من الكتاب من جهتين :
بأن التعريض كلام يحتمل معنيين ،فلم يكن قذفا ؛كقوله :يا فاسق.(6) وبمعنى آخر: أنه كلام يحتمل القذف والشتم , وهذا الاحتمال شبهة تسقط الحد؛ لأن الأصل براءة الذمة، فلا يرجع عنه بالظن , ثم إن هذا الكلام محتملا للقذف وغيره , فلم يجعل قذفا بظاهره كما لو قاله حال الرضا.(7)
ـ أن هذا الاستدلال ساقط؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف، والأعراض تجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرض؛ لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض، الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.(8)
وقد نوقش دليلهم من السنة بما يلي: ـ
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/104.
(2) مريم آية28.
(3) التشريع الجنائي:2/267.
(4) المعونة:2/334.
(5) أضواء البيان: 5/436.
(6) المغني والشرح الكبير:10/104.
(7) البيان: 12/404.
(8) تفسير القرطبي:3/178.(4/47)
ـ أن قول الأعرابي ولدت غلاما أسود، ليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية , وإنما أخبره النبي- صلى الله عليه وسلم - بالواقع ، حينما سأل مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لون الولد للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي- صلى الله عليه وسلم - وقرب له الحكم بالشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله ،وانشراح صدره له , فأين في هذا ما يبطل حد القذف , ثم إن حد القذف متوقف على الدعوى، و المرأة لم تدع.(1)
و نوقش ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه -:
ـ بأن للعلماء في تفسير لفظ (لا ترد يد لامس) أقوال: فقيل: معناه الفجور وأنها لا تمتنع ممن يطلب منها الفاحشة..،وقيل: معناه التبذير وأنها لا تمنع أحدا طلب منها شيئا من مال زوجها..،وقال بعض حذاق المتأخرين:قوله - صلى الله عليه وسلم - له: أمسكها معناه أمسكها عن الزنا، أو عن التبذير؛إما بمراقبتها أو بالاحتفاظ على المال أو بكثرة جماعها.
قيل: والظاهر أن قوله: (لا ترد يد لامس)أنها لا تمتنع ممن يمد يده ليتلذذ بلمسها، ولو كان كنى به عن الجماع لعد قاذفا،أو أن زوجها فهم من حالها أنها لا تمتنع ممن أراد منها الفاحشة، لا أن ذلك وقع منها . انتهى كلام الحافظ (.
وقال العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام بعد ما ذكر الوجهين في قوله لا تمنع يد لامس، الوجه الأول: في غاية من البعد بل لا يصح للآية ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر الرجل أن يكون ديوثا فحمله على هذا لا يصح.
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/318.(4/48)
والثاني: بعيد؛ لأن التبذير إن كان بمالها فمنعها ممكن وإن كان من مال الزوج فكذلك ولا يوجب أمره بطلاقها على أنه لم يتعارف في اللغة أن يقال فلان لا يرد يد لامس كناية عن الجود فالأقرب المراد أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب لا أنها تأتي الفاحشة، وكثير من النساء والرجال بهذه المثابة مع البعد من الفاحشة،ولو أراد أنها لا تمنع نفسها عن الوقاع من الأجانب لكان قاذفا لها.(1)
قلت(2) الإرادة بقوله: لا تمنع يد لامس أنها سهلة الأخلاق ليس فيها نفور وحشمة عن الأجانب غير ظاهر،والظاهر عندي ما ذكره الحافظ.(3)
وقد نوقشت الأدلة من المعقول بما يأتي: ـ
إن القرائن مع اللفظ تصير كالصريح ، بخلاف مجرد الغيبة؛ لذلك تقول العرب: رب إشارة أفصح من عبارة, والتعريض عندهم أبلغ موقعاً.(4)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب بأنه لا دلالة فيه من وجوه:
الأول: لا نخالفهم في أن " التعريض " لا يجوز , فيحتجوا بهذا , وإنما خالفناهم في هل فيه حد أو لا؟ وليس في هذه الآية ـ لو صح استدلالهم بها ـ إلا النهي عن التعريض فقط ،وليس فيها إيجاب حد فيه أصلا
الثاني: أن الله تعالى لم يحد الذين عرضوا بهذا التعريض فكيف يحتجون بها في إيجاب الحد.
الثالث: أن الله - سبحانه وتعالى - إنما نهى عن قول " راعنا " من لا يظن به تعريض أصلا , فصح يقينا أنه لم ينه عز وجل عن لفظة " راعنا " من أجل التعريض , بل كما شاء تعالى , لا لعلة أصلا , والحد في ذلك ساقط لا ينسند أصلا. فبطل تعلقهم بالآية جملة , وصح أنها حجة عليهم.(5)
__________
(1) سبل السلام :3/195 .
(2) أي العظيم أبادي. صاحب عون المعبود
(3) عون المعبود:6/32،33.
(4) الذخيرة: 12/95.
(5) المحلى:12/242.(4/49)
وقد نوقش دليلهم الأول من الآثار:بأن هذا اجتهاد من عمر - رضي الله عنه -، و مشاورته للصحابة - رضي الله عنهم - دليل على أنه لم يكن فيه توقيف، وأنه قاله اجتهاداً ورأياً، فالخلاف حاصل بين السلف، وعمر - رضي الله عنه - لم يشاور إلا الصحابة الذين خالفوا قُبل خلافهم.(1)
و نوقش دليلهم الثالث من الآثار:بأنه لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ورد في الإرواء تعقيباً على هذا الحديث ما نصه:"أن إسناده واه؛(لأن فيه خالد بن أيوب) وخالد هذا بصري، قال:ابن معين لاشيء يعني ليس بثقة، وقال: أبو حاتم هو مجهول منكر الحديث.(2)
ونوقش دليلهم من القياس بما يلي:
ـ أن هذا القياس غير صحيح؛ لأن هذه الألفاظ لا تسقط بالشبهة، أما القذف فهو حد يسقط بالشبهة.
ـ نوقش دليلهم من المعقول :
ـ بأنه لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس ،وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف، وذلك معدوم في التعريض.(3)
الرأي الراجح
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 3/395، مفاتيح الغيب:22/459.
(2) إرواء الغليل:8/39،40.
(3) أحكام القرآن للجصاص:3/395.(4/50)
من خلال العرض السابق لأقوال الفقهاء وأدلتهم، والمناقشات التي وردت عليها، فالذي تطمئن النفس إلى ترجيحه أن التعريض بالقذف فيه الحدبشرط قيام القرائن على قصد ذلك؛ أو إقرار المعرٍّض، فيفهم من التعريض أن الغرض منه القذف فهماً واضحاً لا لبس فيه ولا احتمال، بحيث تكون القرائن دالة على هذا،وليس للمعرض تأويل وقبول يصح حمل الكلام عليه، وفي هذا إعمال لقاعدتي:العبرة في الشريعة للمقاصد والمعاني، وقاعدة درء الحدود بالشبهات، وفي هذا صيانة لأعراض الناس فلا يتذرع واحد لقذف غيره بالتعريض الذي يفهم منه القذف بالزنا، ولم تكن هناك قرينة أو دلالة قوية على إرادة القذف فيعزر،وإنما قال ذلك لأن في التعريض إيذاءً واحتقاراً للمعرض به وانتهاكاً لعرضه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:"إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم وأعراضكم عليكم حرام.(1)
ـ ثم إن الظاهر على قول من قال من أهل العلم: إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض.(2)
………
المسألة الثانية: القذف باللواط .
إذا قال الشخص لآخر يا لوطي,أو لطت بفلان , أو لاط بك فلان باختيارك , فقد اختلف الفقهاء هل هذا قذف موجب للحد أو لا؟
سبب الخلاف: ـ
يرجع سبب الخلاف إلى: هل اللواط زنا أو لا؟ فمن ذهب إلى أنه زنا قال: بإقامة الحد , ومن ذهب إلى عدم اعتباره زنا قال: بعدم إقامة الحد , ولكن يعزر.
……………أقوال الفقهاء
* الرأي الأول: وهو للجمهور من المالكية،(3) الشافعية،(4) الحنابلة,(5)وأبو يوسف ومحمد ( من الحنفية.(6)
__________
(1) صحيح:سبق تخريجه ص 158.
(2) أضواء البيان:5/439.
(3) الذخيرة: 12/91, الثمر الدواني: 1/597, المدونة الكبرى: 4/386.
(4) المهذب: 2/273, البيان: 12/404.
(5) المغني والشرح الكبير:10/102, شرح الزركشي: 6/313, الروض المربع ص 491.
(6) بدائع الصنائع: 7/44, المبسوط: 9/102.(4/51)
ويرون أنه لو قال شخص لآخر :يا لوطي فعند المالكية(1) عليه الحد,وعند الشافعية(2) يرجع إليه فيسأل عن قوله , وعند الحنابلة ,(3) لا يرجع إليه إلا في حالة الغضب , وعند أبو يوسف ومحمد ( لا حد عليه؛ لأنه نسبه إلى قوم لوط.
* الرأي الثاني:وهو لأبي حنيفة(4)،والظاهرية.(5)
ويرون أنه لا حد فيه ،وإنما فيه التعزير.
……………الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالآثار والمعقول:
أما الآثار:
فما جاء عن عبد الحميد بن جبير "((أن رجلا قال لرجل: يا لوطي فرفع إلى عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فجعل يقول: يا لوطي يا محمدي، قال: فضربه بضعة عشر سوطا ثم أخرجه من الغد فأكمل له الحد.")) (6)
ـ أن رجلا قال لرجل يا لوطي فسأل الحسن ومحمدا فقالا: ليس عليه حد،وقال الحسن:إلا أن يقول إنك تعمل بعمل قوم لوط.(7)
أما من المعقول:
ـ فإنه نسبه إلى فعل يجب الحد بمباشرته , فيجب الحد بالقذف به.(8)
ـ إن اللواط زنا، أو مقيس على الزنا، فكما يجب عليه حد الزنا بفعله , كذا يجب حد القذف بالرمي به (9)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالآثار والمعقول:
أما الآثار: فما جاء عن عكرمة في رجل "((قال لآخر يا لوطي؟ قال عكرمة: ليس عليه الحد."))(10)
أما المعقول:
__________
(1) الذخيرة: 12/91.
(2) المهذب: 2/273, البيان: 12/404.
(3) شرح الزركشي: 6/313.
(4) بدائع الصنائع: 7/44, البحر الرائق: 5/34, المبسوط: 9/102.
(5) المحلى: 12/250.
(6) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الحدود، باب من قال عليه الحد إذا قال يا لوطي، رقم 28361، ج 5/498.
(7) مصنف ابن أبي شيبة،باب في الرجل يقول للرجل يا لوطي من قال لا يحد، 5/498، رقم28355.
(8) المبسوط:9/102, البيان:12/404.
(9) شرح الزركشي: 6/312, الروض المربع: ص 491 المحلى:12/50.
(10) مصنف ابن أبي شيبة، باب من قال عليه الحد إذا قال يا لوطي، 5/499، رقم28362.(4/52)
فإن فعله ليس بزنا , ولا يجب الحد فيه ،فلا يجب الحد كذلك بالقذف به.(1)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
ـ ناقش ابن حزم ( أدلة الرأي الأول بقوله.. أما مالك ( والأشهر من أقوال الشافعي ( فهو عندهم خارج من حكم الزنا ; لأنهما يريان فيه الرجم - أحصن أو لم يحصن - فإذ هو عندهم ليس زنا , وإنما حكمه المحاربة أو الردة ; لأنه لا يراعى فيه إحصان من غيره , فكان الواجب - على قولهما - أن لا يكون فيه حد الزنا - وهو مما تناقضوا فيه أفحش تناقض , فلم يتبعوا فيه نصا ولا قياسا. فإن قالوا: إن الرمي بذلك حرام؟ قلنا: نعم , وإثم , ولكن ليس كل حرام , وإثم: تجب فيه الحدود , فالغصب حرام ولا حد فيه , وأكل الخنزير حرام ولا حد فيه , والرمي بالكفر حرام ولا حد فيه.(2)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فما تطمئن إليه النفس منها هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني القائل: بعدم إقامة حد القذف على من قال ذلك,وإنما يعزره الحاكم؛ لأن المقصود هو المحافظة على الأنساب واللواط لا يترتب عليه اختلاط أنساب.
المسألة الثالثة: قذف جماعة بكلمة واحدة.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن مَنْ قذف شخصاً واحداً مراراً فعليه حد واحد، إذا لم يحد لواحد منها , وإنما اختلفوا فيما إذا قذف جماعة بكلمة واحدة ؛كأن قال: هم زناة ،فهل يقام عليه حد واحد أو يحد بعدد مَنْ قذفهم؟.(3)
سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى: هل حد القذف حق الله تعالى أو أنه حق العبد؟ , فمن ذهب إلى أن الغالب فيه حق الله تعالى قال: بتداخل الحد فيحد لهم جميعا حداً واحداً , ومن ذهب إلى أن الغالب فيه حق العبد قال: بعدم التداخل بل يحد لكل واحد حد.(4)
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/44, المبسوط: 9/102.
(2) المحلى: 12/250.
(3) شرح فتح القدير: 5/327, المحلى: 12/271, الميزان الكبرى: 2/222.
(4) تفسير القرطبي:12/177.(4/53)
……………أقوال الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية(1)و المالكية في الأصح(2) والشافعي في القديم (3) والحنابلة في رواية ,(4) والظاهرية (5)
ويرون أن من قذف جماعة بكلمة واحدة يقام عليه حد واحد لهم جميعا.
الرأي الثاني: وهو للشافعي في الجديد (6) والحنابلة في رواية ثانية ,(7)
ويرون أن من قذف جماعة بكلمة واحدة، فعليه لكل واحد حد.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والمعقول والقياس:
أما الكتاب: فقوله تعالى: ْ { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (8)
وجه الدلالة: أن الله - سبحانه وتعالى - لم يفرق بين قذف واحد أو جماعة في الحد(9)، فقاذف الجماعة كقاذف الواحد، يقام عليه حد واحد.
أما السنة: ما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((جلد قذفة عائشةـ رضي الله عنها ـ ثمانين ثمانين."))(10)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام الحد مرة واحدة على قذفة السيدة عائشة مع أنهم قذفوها وصفوان بن المعطل.
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/327, بدائع الصنائع: 7/56, المبسوط: 9/71.
(2) الذخيرة: 12/105, حاشية الدسوقي: 4/324.
(3) المهذب: 2/275, روضة الطالبين: 8/346.
(4) الكافي: 4/322, المغني والشرح الكبير:10/111.
(5) المحلى: 12/271.
(6) المهذب: 2/275.
(7) وللحنابلة رواية ثالثة أنهم إن طلبوه جملة فحد واحد؛ لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم , وإن طلبوه متفرقا أقيم لكل مطالب مرة؛ لأن استيفاؤه المطالب الأول له خاصة فلم يسقط به حد الباقين. الكافي: 4/323, المغني10/111.
(8) النور آية 4.
(9) أضواء البيان:5/443.
(10) ضعيف: المعجم الكبير:23/163 رقم 262، وفيه حمد بن السائب الكلبي وهو كذاب.، الكامل في الضعفاء:6/118.(4/54)
ـ أن هلال بن أمية رمى امرأته بشريك بن سحماء، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم - :حد في ظهرك أو تلتعن، ولم يقل حدان.(1)
أما المعقول:ـ أن كلمة القذف واحدة، فوجب حد واحد؛ كما لو قذف امرأة واحدة.(2)
ـ أن القذف حق الله فصح التداخل.(3)
ـ أن حد القذف إنما هو لأجل دفع المعرة عن المقذوف، وحصل الغرض المطلوب للشارع، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تكرار الحد.(4)
ـ انه بالحد الواحد يظهر كذبه ويزول عار القذف من جميعهم، فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم، وإن طلبه واحد أقيم له أيضاً، ولا مطالبة لغيره، وإن أسقط أحدهم حقه لم يسقط حق غيره.(5)
أما القياس: فقياسه على الزنا، فلو زنا مرات عديدة يقام عليه حد واحد.(6)
ـ أنه ثابت لهم على سبيل البدل ؛فأشبه ولاية النكاح إذا قام بها أحد الأولياء، سقط عن الباقين.(7) استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول من جهات :
الأولى : أنه قذف جماعة؛ فلا تداخل كما لو قذف زوجاته الأربع يلاعن أربع لعانات .
الثانية : أنه حق لآدمي فلا يقاس على الحدود؛لأنها لا تسقط بالرجوع فلا تتداخل ؛كالإقرار بالمال.(8)
__________
(1) صحيح: ونصه " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم (البينة أو حد في ظهرك). فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول (البينة وإلا حد في ظهرك).. البخاري:كتاب:الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة وينطلق لطلب البينة، رقم 2526، ج 2/949.
(2) المهذب للشيرازي: 2/275، الكافي:4/322.
(3) المبسوط:9/71، الذخيرة:12/105.
(4) المبدع:7/414، الثمر الداني:1/597،أضواء البيان:5/444.
(5) المغني والشرح الكبير:10/111، الكافي:4/323.
(6) الذخيرة:12/105.
(7) المغني والشرح الكبير:10/111.
(8) الذخيرة:12/105.(4/55)
الثالث:أن القاذف ألحق العار بقذف كل واحد منهم، فلزمه لكل واحد منهم حد؛ كما لو أفرد كل واحد منهم.(1)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الأول:
بأن حديث السيدة عائشة ضعيف؛ لأن فيه محمد بن السائب الكلبي وهو كذاب.(2)
نوقشت أدلة الرأي الثاني بما يلي:
ـ أن القياس على اللعان قياس مع الفارق، لأن اللعان أيمان، والأيمان لا تتداخل.(3)
ـ أن القول بعدم التداخل قول غير مسلم؛لأنه لا يتكرر في الشخص ثم إنه لو تكرر في شخص تتداخل في الحدود، ولو غلب فيه حق الآدمي لتكرر فيه لتكرر الإتلاف، ثم إن الإقرار لا يتداخل في المتباينات، ولو قال له يا لائط يا زاني تداخل.(4)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم والمناقشات التي وردت على أدلة الرأي الثاني، فما تطمئن النفس إلى اختياره هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول القائل: بأنه يكفي حد واحد ،للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن في الأخذ بهذا الرأي تطبيق لقاعدة إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر.(5)
ـ أن القول بهذا الرأي يتفق مع الواقع، فلو طبقنا ما قال أصحاب الرأي الثاني مثلا،لأدى ذلك إلى أمر لا يقره صاحب رأي، فلو فرضنا أن شخصاً قذف بلداً؛ فلو طبقنا عليه الحد لكل واحد لأدى ذلك إلى إهلاكه ،وهذا أمر لا يتحمله أي شخص، ولا يتفق مع تيسير الشريعة الإسلامية وسماحتها.
المسألة الرابعة: قذف جماعة كل شخص على حدة.
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على انه إذا قذف شخص آخر وأقيم عليه الحد ثم قذف آخر وجب عليه الحد، واختلفوا فيما إذا قذف واحداً ثم قذف آخر قبل أ يقام عليه الحد الأول؛ هل يقام عليه حد واحد أم أكثر؟
أقوال الفقهاء
__________
(1) المهذب للشيرازي: 2/275، الكافي:4/323.
(2) مجمع الزوائد: 6/118.
(3) الذخيرة:12/106.
(4) الذخيرة:12/106.
(5) فقه السنة لإبراهيم رفعت الجمال: ص 299.(4/56)
الرأي الأول: وهو للحنفية (1)والمالكية في الأصح (2)والظاهرية.(3)
ويرون أنه لو قذف رجلُ جماعة ً كل شخص على حدة، يجب حد واحد.
الرأي الثاني: وهو للشافعية (4)، ورواية عند المالكية (5)والحنابلة.(6)
ويرون انه إذا قذف واحد جماعة وجب لكل واحد حد.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول:بالكتاب والمعقول:
أما الكتاب:
فقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (7)
وجه الدلالة: أن هذه الآية تقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين، فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية.(8)
أما المعقول فمن وجوه:
الأول :أن سائر ما يوجب الحد إذا وقع فيه مراراً لم يجب إلا حد واحد؛ كمن زنا مراراً، أو شرب مراراً، أو سرق مراراً وكذا هنا، والمعنى الجامع دفع مزية الضرر.
الثاني : أنه حق الله تعالى فصح فيه التداخل كسائر الحدود .(9)
الثالث :أن حد القذف إنما هو لأجل دفع المعرة عن المقذوف، وتكدير القاذف فإذا حد القاذف فقد ارتفعت المعرة عن المقذوف وحصل الغرض المطلوب للشارع، وحينئذٍ لا يحتاج إلى تكرار الحد.(10)
استدل أصحاب الرأي الثاني:
ـ أنها حقوق آدميين فلم تتداخل؛ كالديون والقصاص.(11)
ـ أنه ألحق العار بقذف كل واحد منهم، فلزمه لكل واحد منهم حد؛ كما لو أفرد كل واحد منهم بالقذف.(12)
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/56.
(2) الذخيرة:12/105،حاشية الدسوقي:4/324.
(3) المحلى:12/271.
(4) الأم: 7/154، المهذب للشيرازي: 2/275.
(5) حاشية الدسوقي:4/325.
(6) المغني والشرح الكبير:10/111، الكافي:4/323.
(7) النور آية 4.
(8) تفسير الرازي:23/134.
(9) الذخيرة:12/105.
(10) الثمر الداني:1/597.
(11) المبدع:7/414.
(12) المهذب للشيرازي: 2/275.(4/57)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
نوقش الاستدلال من الآية الكريمة :بأن قوله (والذين) صيغة جمع، وقوله (المحصنات) صيغة جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل الفرد بالفرد، فيصير المعنى كل من رمى محصناً واحداً وجب عليه الحد؛ ولأن قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء } (1) يدل على ترتيب الجلد على رمي المحصنات، وترتيب الحكم على الوصف؛ لا سيما إذا كان مناسباً مشعراً بالعليِّة، فدلت الآية على أن رمي المحصن من حيث إن هذا المسمى يوجب الحد.(2)
وقد أجيب عن هذا:لا نخالفكم بأنه يجب لكل واحد حد،وإنما هذه الحدود من جنس واحد، و موجبها واحد،فتتداخل كالزنا والسرقة.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
ـ القول بأنها حقوق آدميين قول غير مسلم؛لأن سائر الحدود فيها حق الله - سبحانه وتعالى - لما فيها من مصلحة الجميع ودفع الفساد عنهم بإقامة الحدود.
ـ إن لحوق العار بهم إنما ينتفي بظهور كذب القاذف، وقد ظهر بإقامة الحد عليه، فلا حاجة إلى التداخل خاصة وأن الموجب واحد ،وهو القذف.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها؛فالرأي الراجح منها هو مذهب القائلين بالتداخل، وأنه لا يقام عليه إلا حد واحد، للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة .
ـ أن الموجب للحد واحد وهو القذف، فتتداخل العقوبة كما لو زنا مرات أو سرق مرات.
ـ أن المقصود من الجلد الزجر، وقد حصل بإقامة الحد فلا حاجة للتكرار إذن، أن هذا هو ما يساير روح الشريعة؛فالمقصود من الحد الزجر، وظهور براءة المقذوف، وهذا يتأتى بإقامة حد واحد.
المسألة الخامسة: عفو المقذوف عن القاذف.
سبب الخلاف.
__________
(1) النور آية 4.
(2) جريمة القذف وعقوبتها في الفقه الإسلامي:147.(4/58)
يرجع سبب الخلاف إلى أحد وجهين:إما أن يكون الحد في القذف من حقوق الله؛ كالحد في الزنا، والخمر والسرقة و الحرابة ،وإما أن يكون من حقوق الناس؛كالقصاص في الأعضاء والجنايات على الأموال (1)، فمن قال: حق الله لم يجز العفو؛كالزنا، ومن قال :حق الآدميين أجاز العفو، ومن قال :بكليهما وغلب حق الإمام إذا وصل إليه، قال :بعدم الفرق بين أن يصل للإمام أو لا يصل إليه.
أقوال الفقهاء
الرأي الأول:وهو للحنفية (2) ورواية عند المالكية (3)والظاهرية.(4)
ويرون أنه لا يجوز العفو عن الحد في القذف.
الرأي الثاني:وهو للمالكية في رواية ثانية (5)و الشافعية (6)والحنابلة (7)، وأبو يوسف من الحنفية.(8)
ويرون أنه يجوز العفو عن الحد مطلقاً.
الرأي الثالث:المالكية في رواية ثالثة (9)
وقد ذهبوا إلى التفصيل، فقالوا بجواز عفو المقذوف عن القاذف قبل بلوغه للإمام، فأما بعده فاشترطوا أن يريد المقذوف ستراً على نفسه، أو يكون القاذف أباه أو أمه فيجوز حينئذٍٍ العفو.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول:بالسنة و الآثار والمعقول .
__________
(1) المبسوط:9/109.
(2) شرح فتح القدير:5/327، الاختيار:3/95، تبيين الحقائق:3/203 وقد قيد الحنفية عدم جواز العفو بعد القضاء، أما قبل القضاء فلو عفا المقذوف فلا يحد القاذف لا للعفو ولكن لترك الطلب.مجمع الأنهر:1/606، البحر الرائق:5/285.
(3) الذخيرة:12/109، بداية المجتهد:6/140.
(4) المحلى:12/254.
(5) الذخيرة:12/109، بداية المجتهد:6/140.
(6) البيان:12/417.
(7) الروض المربع:491، نيل المأرب:2/285.
(8) البحر الرائق:5/39، المبسوط:9/109، شرح فتح القدير: 5/327.
(9) المدونة الكبرى:4/403، الذخيرة:12/109، حاشية الدسوقي:6/331، جواهر الإكليل: 2/431.(4/59)
أما السنة: فقول السيدة عائشةـ رضي الله عنها ـ:"((لما نزل عذري قام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فذكر ذاك وتلا تعني القرآن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين و المرأة فضربوا حدهم."(1)
وجه الدلالة:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام حد القذف ولم يشاور السيدة عائشةـ رضي الله عنها ـ أن تعفو أم لا، فلو كان لها حق لما عطله - صلى الله عليه وسلم - وهو أرحم الناس وأكثرهم حضاً على العفو؛ فيما يجوز العفو فيه، فصح أن الحد من حقوق الله لا مدخل للمقذوف فيه أصلاً ولا عفو له عنه.
أما الآثار: أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - جلد أبا بكرة ونافعا ً وشبل بن معبد - رضي الله عنهم - إذ رآهم قذفة (2)ولم يشاور في ذلك المغيرة - رضي الله عنه - ولا رأى له حقاً في عفو أو غيره.
أما المعقول:
ـ فإن المغلب فيه أنه حق الله - سبحانه وتعالى -؛لأنه حد يعتبر فيه الإحصان لمعنى النعمة , وذلك فيما هو من حق الله تعالى , وما ذكره الخصم لا ينفي معنى حق الله تعالى ; لأن في عرضه حقه وحق الله تعالى , وذلك في دفع عار الزنا عنه ; لأن في إبقاء ستر العفة معنى حق الله تعالى.(3)
__________
(1) حسن:سنن أبي داود: كتاب الحدود، باب في حد القذف،رقم 4474،ج2/567، ابن ماجه: كتاب الحدود، باب حد القذف، رقم 2567، الترمذي:كتاب تفسير القرآن عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة النور، رقم 3181،ج 5/336، مسند= =الإمام أحمد:6/35 =رقم 24112كلهم عن عمرة عن السيدة عائشةوقال فيه أبو عيسى هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحق.
(2) سبق تخريجه ص 170
(3) تبيين الحقائق:3/203، المبسوط:9/110.(4/60)
ـ أنه يتنصف بالرق , وإنما يتنصف بالرق لانعدام نعمة الحرية في حق العبد , لا لأن بدنه دون بدن الحر في احتمال الضرب فاحتمال بدن العبد للمهانة والضرب أكثر , وإنما يتكامل بتكامل النعم ما كان حقا لله تعالى ; لأن شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة حق للمنعم.(1)
ـ أنه لو كان من حقوق الناس لكان العفو المذكور في ذلك لا يجوز ألبتة إلا من المقذوف فيما قذف به , لا فيما قذف به غيره من أبيه , وأمه ; لأنه لا خلاف في أنه لا يجوز عفو أحد عن حق غيره - وهم يجيزون عفو المرء عن قاذف أبيه الميت , وأمه الميتة - وهذا فاسد , وتناقض من القول.(2)
ـ أن المغلب فيه حق الشرع؛لأن ما للعبد من حق يتولاه مولاه، فيصير حق العبد مرعياً به، ولا كذلك عكسه؛ لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حق الشرع إلا نيابة.(3)
ـ قياس حد القذف على سائر الحدود في عدم جواز العفو.
استدل أصحاب الرأي الثاني:بالسنة والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم - رضي الله عنه - إذا أصبح قال: اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك."))(4)
ـ وقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((..فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم و أبشاركم عليكم حرام."))(5)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضاف العرض إلينا ،والحد إنما يجب بتناول العرض، فإذا كان العرض للمقذوف، وجب أن يكون ما وجب في مقابلته وهو الحد للمقذوف أيضاً.
__________
(1) المبسوط:9/110.
(2) المحلى:12/257.
(3) البحر الرائق:5/39، مجمع الأنهر:1/606.
(4) ضعيف مرسل:سنن أبو داود: كتاب الأدب،باب ما جاء في الرجل يحلل الرجل قد اغتابه، رقم 4887، ج 4/272، شعب الإيمان: فصل في التجاوز والعفو وترك المكافأة 6/257 رقم8066 وفيه (على من ظلمني).
(5) صحيح: البخاري،كتاب الفتن،باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض،رقم 6667، ج6/2593.(4/61)
أما المعقول فمن وجوه :
الأول : أن المقصود دفع الشين عن المقذوف وذلك حقه.(1)
الثاني: أن حد القذف من حقوق الآدميين بدليل انه يورث عن المقذوف، وحقوق الله - سبحانه وتعالى - لا تورث.(2)
الثالث:أنه لا يستوفى إلا بإذن القاذف ومطالبته، فجاز له العفو عنه، فإذا عفا عنه سقط؛لأنه محض حقه كالقصاص.(3)
الرابع : أنه حد يستوفى بالبينة بعد تقادم العهد، ولا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار، وذلك دليل ظاهر على أنه لا يستوفى إلا بخصومته، وإنما يستوفى بخصومته ما هو حقه ـ أي العبد ـ (4)
* أدلة الرأي الثالث:
ـ استدل المالكية بقوله - صلى الله عليه وسلم -:" تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب."))(5)
ـ وبأنه قبل بلوغ الحد للإمام حق مخلوق ،وبعده حق خالق.(6)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول
وقد ناقش ابن حزم ( قول الإمام أبي حنيفة ( بما يلي:
ـ أن القذف عند أبي حنيفة ( من حقوق الله تعالى , ولم يجز العفو عنه أصلا , فأصاب في ذلك - ثم تناقض مناقضة ظاهرة فقال: لا حد على القاذف إلا أن يطالبه المقذوف , فجعله بهذا القول من حقوق المقذوف , وأسقطه بأن لم يطلبه.(7)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:نوقش دليلهم من السنة:
ـ بأن حديث أبي ضمضم - رضي الله عنه - حديث ضعيف.(8)
نوقش المعقول من جهتين:
الجهة الأولى: انه حق الله - سبحانه وتعالى -؛ لأن الحدود زواجر، و الزواجر مشروعة حقاً لله تعالى، فأما ما يكون حقاً للعبد فهو في الأصل جائز.
__________
(1) المبسوط:9/109.
(2) المعونة:2/336.
(3) كفاية الأخيار:629.
(4) المبسوط:9/109.
(5) صحيح الإسناد: سبق تخريجه 170.
(6) حاشية الخرشي:8/308.
(7) المحلى:12/256.
(8) إرواء الغليل:8/32.(4/62)
الجهة الثانية: أن حقوق الله - سبحانه وتعالى -مبنية على القصاص والمساواة؛لقوله تعالى: { . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.. } (1) ولا مناسبة بين النسبة للزنا وبين ثمانين جلدة لا صورة ولا معنى، فمشروعيه الحد لتعفيه أثر الزنا وحرمة إشاعة الفاحشة، وهذا من حقوق الله - سبحانه وتعالى -.
و نوقش دليلهم الثالث من المعقول:
ـ بأنه لو عفا عن القصاص يصير إلى بدل، أما القذف فلا يصير إلى بدل.
و نوقش دليلهم الرابع من المعقول:
ـ بأنه لا نخالف أن فيه حق للعبد؛لذا اعتبرت فيه خصومته، أما كونه لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار؛ فلأن الخصم مصدق له في الإقرار مكذب له في الرجوع بخلاف ما هو محض حق الله تعالى ,فليس هناك من يكذبه، ففيه حق لله وحق للعبد؛ لأنه إنما يملك إسقاط ما تمحض حقا له، فأما حق الله تعالى لا يملك إسقاطه. وإن كان له فيه حق؛ كالعدة , فإنها لا تسقط بإسقاط الزوج لما فيها من حق الله تعالى.(2)
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء و أدلتهم فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه المالكية من القول بجواز العفو ما لم يصل الأمر إلى الإمام؛ فإذا وصل فلا عفو وذلك لأن قياس القذف على سائر الحدود في جواز العفو عنها ما لم تبلغ السلطان؛ يؤيد هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - " تعافوا الحدود فيما بينكم."(3).
وأما ما قاله ابن حزم ( فمحمول على إذا ما وصل الأمر إلى الإمام، فأما قبل ذلك فهو كسائر الحدود.
المسألة السادسة:توبة المحدود في القذف.
تحرير محل النزاع و سبب الخلاف:
__________
(1) البقرة من الآية 194.
(2) المبسوط:9/110 بتصرف يسير.
(3) صحيح: سبق تخريجه ص 170(4/63)
اتفق الفقهاء (1) على أن القاذف بعد الحد إذا لم يتب لا تقبل شهادته، وأن هذا من تمام الحد؛لأنه يتحقق بالجلد عقوبة بدنية، وعدم قبول شهادته ـ قبل توبته ـ عقوبة معنوية، وذلك لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (2)واختلفوا فيما إذا تاب حد أو لم يحد، أتقبل شهادته في كل شيء، أم لا تقبل في شيء أصلاً؟ أم تقبل في شيء وتُرًدُّ في شيء.
ويرجع سبب الخلاف إلى الاختلاف في تفسير قوله تعالى: { . وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً.. } (3) فالذين قالوا: لا تقبل شهادته جعلوا الاستثناء من الحكم بالفسق، والذين قالوا: إنها تقبل جعلوا الاستثناء من النهي عن قبول الشهادة والحكم بالفسق..(4)
قال ابن كثير ((5) :"واختلف العلماء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالث؟(6)
أقوال الفقهاء
* الرأي الأول:وهو للمالكية (7)والشافعية (8) والحنابلة (9)والظاهرية.(10)
ويرون أن القاذف إذا تاب بعد الحد قبلت شهادته.
أما قبل الحد، فالمالكية قالوا:بعدم سقوط شهادته أصلاً قبل الحد، أما بعد الحد فتسقط الشهادة، وتقبل إذا تاب ،أما الشافعية فالشهادة عندهم تسقط بمجرد القذف لا بإقامة الحد.
__________
(1) مراتب الإجماع:220، بداية المجتهد:6/141.
(2) النور آية 4.
(3) النور آية 4.
(4) تكملة المجموع للمطيعي:22/101.
(5) تفسير ابن كثير:12/154.
(6) تفسير القرطبي:12/181.
(7) المدونة الكبرى:4/403، بداية المجتهد:6/141.
(8) الروضة الندية:2/609، تكملة المجموع:22/99.
(9) المغني:9/197 ط /دار البصائر.
(10) المحلى:8/529.(4/64)
* الرأي الثاني: وهو للحنفية.(1)
ويرون أن شهادة القاذف لا تقبل بعد الحد و إن تاب، ووافقوا المالكية في أن شهادته لا
تسقط ما لم يحد ،يقول الإمام العيني(:" وعند أبي حنيفة رد شهادته يتعلق باستيفاء الحد فإذا شهد قبل الحد ،أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادته، فإذا استوفى لم تقبل شهادته أبدا وإن تاب وكان من الأبرار الأتقياء .(2)
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والآثار و المعقول والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ن إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } (3)
وجه الدلالة: أن الاستثناء مذكور عقب جمل فوجب عوده إليها بأسرها ، فقوله فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون صار الجمع كأنه ذكر معا لا تقدم للبعض على البعض، فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من رجوعه إلى الباقي؛إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى فوجب رجوعه إلى الكل.(4)إذ أن علة منع الشهادة هي الفسق فإذا زالت العة وهي الفسق بالتوبة قبلت الشهادة كما في سائر المعاصي .(5)
__________
(1) الهداية:2/405، شرح فتح القدير: 5/338، أحكام القرآن للجصاص:3/399 ،عمدة القاري للعيني:13/207 .
(2) عمدة القاري :13/207 .
(3) سورة النور آية4،5]
(4) تفسير الرازي:23/141 بتصرف يسير.
(5) أحكام القرآن للجصاص :3/346 .(4/65)
أما السنة: فما جاء عن الشافعي ( قال: أخبرنا ابن عيينة (قال: سمعت الزهري ( يقول: زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز , فأشهد لأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عنه قال: لأبي بكرة - رضي الله عنه - تب تقبل شهادتك , أو إن تبت قبلت شهادتك."(1).
ـ ما جاء عن بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"((التائب من الذنب كمن لا ذنب له."))(2)
وجه الدلالة:أن التائب عن الكفر والقتل و الزنا مقبول الشهادة ؛فكذا التائب عن القذف لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا.(3)
أما الآثار: ما جاء عن بن المسيب ( قال: "((شهد على المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ثلاثة بالزنى ونكل زياد فحد عمر - رضي الله عنه - الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة - رضي الله عنه - فكان لا يقبل شهادته.(4)
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى:كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف، رقم 20332، ج 10/152، مسند الشافعي محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي، ج 1/151 رقم 733. طبعة دار الكتب العلمية
(2) إسناده ضعيف:البيهقي: كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف، رقم20348،ج 10/ 154، وقال هذا إسناد فيه ضعف وروي من وجه آخر ضعيف عن أبي سعدة الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي10 0/328 رقم 17519، طبعة دار الفكر، بيروت - 1412 هـ، وفيه قال ابن حجر ( رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه.
(3) تفسيرالرازي:23/141.
(4) سنن البيهقي: كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف، رقم 20334،ج 10/152، مصنف عبد الرزاق:كتاب الطلاق، باب قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، رقم 13564،ج 7/384.(4/66)
أما المعقول: أن الأبدية في الآية مقيدة بحال الاستمرار على الفسق؛ولذلك ذكر بعدها الحكم عليه بأنه فاسق، فكان دوام عدم قبول الشهادة مقروناً باستمرار وصف الفسق.(1)
أما القياس:
ـ فقياس توبة المسلم المحدود في القذف على الذمي إذا تاب، فقد اتفقنا على أن الذمي المحدود تقبل شهادته إذا أسلم وتاب، فدل ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف، أحدهما: أنه قد ثبت أن الاستثناء راجع إلى بطلان الشهادة ; إذا كان الذمي مرادا بالآية , وقد أريد به كون بطلان الشهادة موقوفا على التوبة.
الثاني: أنه لما رفعت التوبة الحكم ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه لوجود التوبة منه. (2)
ـ قياسه على الزاني إذا حده الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة.(3)
استدل أصحاب الرأي الثاني:بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب:فقوله تعالى: { . وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (4)
وجه الدلالة: أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد وهذا باطل بالإجماع فوجب أن يختص الاستثناء بالجملة الأخيرة.(5)
أما السنة: فما رواه الحجاج بن أرطأه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"((المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في فرية."))(6)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثني الذي أقيم عليه حد القذف من قبول شهادتة ولم يذكر إتيانه بالتوبة أم لا.
__________
(1) تكملة المجموع:22/100.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 3/408 بتصرف يسير،تفسير الرازي:23/141.
(3) المغني:9/198 ط/ دار البصائر،أحكام القرآن للجصاص:3/411.
(4) النور من الآية 4.
(5) تفسير الرازي:23/142.
(6) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب البيوع، باب من قال لا تجوز شهادته إذا تاب، رقم 20657، ج 4/325، نصب الراية:4/103، الدراية:2/171 .(4/67)
وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطل شهادة المحدود , فظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد قذف أو غيره ; إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه , ولم تقم الدلالة على المحدود في القذف , فهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب ; وإنما قبلنا شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب لأن بطلان شهادته متعلق بالفسق فمتى زالت عنه سمة الفسق كانت شهادته مقبولة , والدليل على ذلك أن الفعل الذي استحق به الحد من زنا أو سرقة أو شرب خمر قد أوجب تفسيقه قبل وقوع الحد به , فلما لم يتعلق بطلان شهادته بالحد كان بمنزلة سائر الفساق إذا تابوا فتقبل شهاداتهم , وأما المحدود في القذف فلم يوجب القذف بطلان شهادته قبل وقوع الحد به لأنه جائز أن يكون صادقا في قذفه , وإنما بطلت شهادته بوقوع الحد به فلم تزل ذلك عنه بتوبته.(1)
أما المعقول فمن جهتين :
الأولى : أن التوبة لا تسقط الحد , ولم يرجع الاستثناء إليه , فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله؛ لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف , فمن حيث لم يرجع الاستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة.(2)
الثانية: أن كل كلام حكمه قائم بنفسه، وغير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة ،و في حمله على ما ادعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال حكمه بنفسه , وذلك خلاف مقتضى اللفظ. (3)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول: وقد نوقش دليلهم من الكتاب بما يلي:
ـ أن الاستثناء في الآية يرجع إلى أقرب مذكور وهو الفسق خاصة، ولا يرجع إلى جميع ما تقدم بما فيها قبول الشهادة؛ لأن من جملة ما ذكر جلد القاذف وهو لا يرتفع بالتوبة مطلقاً.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:3/411 وما بعدها.
(2) أحكام القرآن للجصاص:3/409.
(3) أحكام القرآن للجصاص:3/407.(4/68)
وقد أجيب عن هذا: بأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحد في واقعة شرعية من متكلم واحد، خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيد لها لا تنفي كونه لما قبلها، غاية الأمر أن تقييد الجملة الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها؛ ولهذا كان مجمعاً عليه، وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهراً.(1)
ـ أن الصحيح رجوعه إلى الجميع لغة وشريعة , أما لغة فلأن الواو للجمع ،قال تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } فصار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على الآخر , فلما أدخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى شيء من المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر ; إذ لم يكن لتقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب , فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا , فليس رجوع الاستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد,ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا وزواله عنه بالتوبة.(2)
وقد اعترض على هذا: بأن (الواو) قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف , وهي في قوله: { وأولئك هم الفاسقون } للاستئناف ; لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معا ,..وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر , ولا يجوز أن ينتظمهما جملة واحدة ; فلذلك كانت (الواو) للاستئناف ; إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر.(3)
وأجيب عن هذا:
__________
(1) جريمة القذف وعقوبتها في الفقه الإسلامي:159.
(2) أحكام القرآن للجصاص:3/407.
(3) أحكام القرآن للجصاص: 3/407 باختصار وتصرف.(4/69)
لا يجوز أن نجعل الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط كأنه قيل ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين.(1)
و نوقش دليلهم من الآثار بما يلي:
بأن ما ذكرتموه عن عمر - رضي الله عنه - في ثبوته نظر؛لأن ابن المسيب (لم يأخذ عن عمر - رضي الله عنه - إلا بلاغاً؛إذ لم يصح له عنده سماع، ثم إن ابن المسيب ( كان يذهب إلى خلافه؛ فقد كان يقول: لا تقبل شهادة القاذف وتوبته بينه وبين ربه عز و جل، وهذا يدل على أن ما بلغه عن عمر - رضي الله عنه - لم يكن عنده بالقوي؛لأن سعيد ( لا يمكن أن يسمع عن شيء قاله سيدنا عمر - رضي الله عنه - بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - ثم يتركه إلى خلافه.(2)
وقد أجيب عن هذا: بأن الطعن في ثبوتها ضرب من المكابرة الممقوتة، فكيف وقد أخرجها الإمام البخاري ( في صحيحه، وشهرتها قد عمت الآفاق.
والقول بأن سيدنا سعيد ( كان يذهب إلى خلافه؛ قول غير مسلم، فقد قال ابن حزم ( كل من روى عنه أن لا تقبل شهادته وغن تاب فقد روي عنه قبولها إلا الحسن والنخعي فقط.(3)
وأورد ابن كثير ( قوله:" ذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته وارتفع عنه حكم الفسق ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين وجماعة من السلف أيضا.(4)
__________
(1) مفاتيح الغيب:22/473، الكشاف للزمخشري:3/218.
(2) المسائل التي بناها الإمام مالك ( على عمل أهل المدينة: محمد المدني بوساق، ج 2/974، دار البحوث للدراسات الإسلامية، الطبعة الأولى 2000.
(3) المحلى:12/532.
(4) تفسير ابن كثير:3/354.(4/70)
و نوقش دليلهم الأول من القياس: بأن القياس على توبة الكافر قياس مع الفارق؛ فالتائب من الكفر يزول عنه القتل ،ولا يزول عن التائب من القذف حد القذف، فكما جاز أن تزيل التوبة من الكفر القتل عن الكفار جاز أن تقبل توبته، ولا يلزم علي التائب من القذف لأن توبته لا تزيل الجلد.
ـ ثم إن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد، والقاذف بالزنا يجب عليه الحد، فغلظ أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر القذف في أحكام الدنيا وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم.(1)
و نوقش دليلهم الثاني من القياس : بأن قياس المسلم على الذمي في قبول شهادته بعد التوبة؛قياس مع الفارق؛ لأن الذمي داخل في الآية من ناحية المعنى لا اللفظ وجواز شهادة الذمي المحدود في القذف بعد إسلامه وتوبته من قبل أن الحد في القذف يبطل العدالة من وجهين:
ـ أحدهما: عدالة الإسلام ، والآخر :عدالة الفعل: فالذمي لم يكن مسلما حين حد، فيكون وقوع الحد به مبطلا لعدالة إسلامه، وإنما بطلت عدالته من جهة الفعل، فإذا أسلم فأحدث توبة فقد حصلت له عدالة من جهة الإسلام، ومن طريق الفعل أيضا بالتوبة فلذلك قبلت شهادته، أما المسلم فإن الحد قد أسقط عدالته من طريق الدين ولم يتحدث بالتوبة عدالة أخرى من جهة الدين، إذ لم يتحدث ديناً بتوبته وإنما استحدث عدالة من طريق الفعل فلذلك لم تقبل شهادته إذ كان شرط قبول الشهادة وجود العدالة من جهة الدين والفعل جميعا.(2)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:3/410.
(2) المرحع السابق:3/409.(4/71)
وقد نوقش الدليل الثالث من القياس :بأن القياس على الزاني قياس مع الفارق؛ لأن الزاني لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم؛ وإنما بطلت بزناه قبل أن يحده الحاكم لظهور فسقه , فلما لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله ،جازت عند ظهور توبته وشهادة القاذف لم تبطل بقذفه لما بينا فيما سلف لأنه جائز أن يكون صادقا , وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأما قبل ذلك فهو في حكم من لم يقذف.(1)
وقد أجيب عن هذا: القول بأن ما سوى القذف من الحدود لم تقترن بما يوجب كون الرد من تمام الحد فكان قياساً في مقابلة النص؛هذا القول مردود؛لأن النص لم يقض بارتباط دائم لا ينفك بين إقامة حد القذف ورد الشهادة، بل دل النص على قبولها بعد ارتفاع المانع بالتوبة.(2)
مناقشة أدلة الرأي الثاني: نوقش الدليل من الكتاب من جهتين:
1ـ أن المراد ب (أبداً )أي ما دام مصراً على قذفه؛لأن أبد كل شيء على ما يليق به؛ كما لو قيل: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن المراد ما دام كافراً.(3)
2 ـ القول بأن الاستثناء في الآية من صفة الفسق لا من قبول الشهادة، تخصيص للآية بلا دليل، بل الاستثناء راجع إلى المنع من قبول شهادتهم من أجل فسقهم , وإلى الفسق , وهذا لا يجوز تعديه بغير نص.(4)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:3/411.
(2) المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة:2/978.
(3) فتح الباري:5/255.
(4) المحلى:8/531.(4/72)
و نوقش دليلهم الأول من السنة :بأنه خبر لا يصح؛لأنه انفرد به عباد بن منصور , وقد شهد عليه يحيى القطان: بأنه كان لا يحفظ ولم يرضه - وقال ابن معين: ليس بذلك. ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه: أنه إن تاب لم تقبل شهادته , ونحن لا نخالفهم في أن القاذف لا تقبل شهادته. وأيضا: فليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -ولا حجة إلا في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وأيضا - فإن ذلك القول منهم ظن لم يصح , فما ضرب هلال , ولا سقطت شهادته - وفي هذا كفاية..(1)
و نوقش الدليل الثاني من السنة:بأنه حديث ضعيف، قال ابن عبد البر ( :لم يرفعه من روايته حجة، وقد روي من غير طريقه، ولم تذكر فيه هذه الزيادة؛ فدل هذا على أنها من غلطه..، ثم لو قدر صحته فالمراد به من لم يتب بدليل كل محدود تائب سوى هذا.(2)
ـ وقال ابن حزم (هذه صحيفة وحجاج هالك - ثم هم أول مخالفين له ; لأنهم لا يقبلون الأبوين لابنيهما , ولا الابن لأبويه , ولا أحد الزوجين للآخر ولا العبد وهذا خلاف مجرد لهذا الخبر. وأيضا - فقد يضاف إلى هذا الخبر " إلا إن تاب " بنصوص أخر..(3)
و نوقش الدليل الثالث من السنة : بأنه يجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه , كالجلد ; ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة , وتثبت به المعصية الموجبة لرد الشهادة , والحد كفارة وتطهير , فلا يجوز تعليق رد الشهادة به , وإنما الجلد , ورد الشهادة حكمان للقذف , فيثبتان جميعا به , وتخلف استيفاء أحدهما , لا يمنع ثبوت الآخر. وقولهم: إنما يتحقق بالجلد. لا يصح ; لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه , فلا يستوفى قبل تحقق القذف , وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقق سببه , ويصير متحققا بعده.(4)
الرأي الراجح
__________
(1) المحلى:8/531.
(2) المغني:9/199 ط/ دار البصائر.
(3) المحلى:8/532.
(4) المغني:9/199 ط/ دار البصائر.(4/73)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو الرأي الأول القائل :بقبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة ، وذلك للأسباب الآتية:
1ـ قوة أدلتهم وموافقتها لقواعد الإسلام السمحة.
2ـ أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته- رضي الله عنهم - أنهم ردوا شهادة واحد ممن حصل منه القذف؛ بعد الحد والتوبة، بل خاطبهم الله - سبحانه وتعالى - بقوله: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً. } ولا شك أن التزكية من الله - سبحانه وتعالى - أرفع من قبول شهادتهم.
2 ـ يقول ابن تيمة (:" انه كان من جملتهم(أي جملة الذين قذفوا السيدة عائشة ـ رضى الله عنهاـ مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت - رضي الله عنهم - كما في الصحيح عن عائشة، وكان منهم حمنة بنت جحش ـ رضى الله عنهاـ وغيرها ، ومعلوم أنه لم يرد النبى- صلى الله عليه وسلم - ولا المسلمون بعده شهادة أحد منهم لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها ومن لم يتب حينئذ فإنه كافر مكذب بالقرآن وهؤلاء مازالوا مسلمين وقد نهى الله عن قطع صلتهم ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر - رضي الله عنه - شهادة أبى بكرة - رضي الله عنه - وقصة عائشة كانت أعظم من قصة المغيرة.(1)
3ـ أن كون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع، أي خارج عن الأصول؛لأن الفسق متى ارتفع قبلت شهادته.(2)
4 ـ أن اتفاق الفقهاء على قبول شهادة المحدود في غير القذف بعد التوبة، ولا فرق بين حد وحد.
__________
(1) مجموع الفتاوى:15/354.
(2) بداية المجتهد:6/141.(4/74)
5 ـ أن تأويلات المخالفين لآية القذف تأويلات بعيدة، وما ذكروه من أخبار ـ لو صحت وخلت من المعارض ـ ما قامت بها حجة لتناقضها وإمكانية توجيهها بما يوافق مذهب الجمهور؛ فكيف وهي غير صحيحة ومعارضة للنصوص الصريحة مع الأخذ في الاعتبار أن توبته ليست بينه وبين ربه فحسب؛ بل لا بد من تكذيبه نفسه والإقرار بأنه قال البهتان فيما قذف، فحينئذِ تقبل شهادته لما فيه من إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف وبذلك يمحى آخر أثر للقذف، ويدل على ذلك ما جاء أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وهو أبو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته، ومن لم يفعل لم أجز شهادته، فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا، وكان يقبل شهادتهما، و أما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته، وما أنكر عليه أحد من الصحابة فيه.(1)
المسألةالسابعة: العفة عن الزنا
* تحرير محل النزاع.
__________
(1) مفاتيح الغيب:23/142، روائع البيان:2/71، المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة:2/986.(4/75)
اتفق الفقهاء على أن من قذف محصناً وظل المقذوف كذلك؛أقيم الحد على قاذفه، واتفقوا كذلك على أن من قذف زانياً لم يجب عليه الحد؛ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (1) فأسقط الحد عنه إذا ثبت أنه زنا، وفي هذا دليل على أنه إذا قذفه وهو زانٍ لم يجب عليه الحد وإنما يعزر؛ لما فيه من إيذاءٍ للمسلمين، هذا كله إذا قذفه بالزنا الذي وقع منه، فأما إن قذفه بغير الزنا الذي ثبت عليه ؛فالجمهور على أنه لا يحد للقذف أيضاً؛ لانعدام شرط الإحصان.(2)
ويخالف ابن حزم ( في هذا؛ فيرى أن من قذف إنساناً بزنا غير الذي ثبت عليه ،وبين ذلك وصرَّح،فعلى القاذف الحد، سواء أحد المقذوف في الزنا ـ الذي صح عليه ـ أو لم يحد؛ لأنه محصن عن كل زنا لم يثبت عليه.(3)
وقد اختلف الفقهاء أيضاً فيمن قذف محصناً ثم زنا المقذوف قبل إقامة الحد على قاذفه، هل يحد قاذفه أو لا؟ وذلك تبعاً لاختلافهم في اشتراط استدامة عفة المقذوف حتى يقام الحد على قاذفه.
آراء الفقهاء
* الرأي الأول: وهو للحنفية (4)والمالكية (5)والشافعية.(6)
ويرون انه لابد لإقامة حد القذف على القاذف من استدامة العفة للمقذوف حتى يقام الحد، فمن قذف رجلا ولم يقم حد القذف حتى زنا المقذوف فلا حد على القاذف.
* الرأي الثاني: وهو للحنابلة (7)والظاهرية (8)
__________
(1) النور آية 4.
(2) المبسوط:9/116، شرح فتح القدير:5/320، حاشية الدسوقي:4/322، تحفة المحتاج: 3/452، المحلى:12/246.
(3) المحلى:12/247.
(4) المبسوط:9/127، بدائع الصنائع: 7/41.
(5) حاشية الدسوقى:4/322.
(6) تحفة المحتاج: 3/452.
(7) المغني والشرح الكبير:10/107.
(8) المحلى:12/268، المغني والشرح الكبير:10/107.(4/76)
ويرون عدم سقوط الحد وزواله عن القاذف بزنا المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف؛ لأن استدامة العفة ليست بشرط، بل المشترط كونه عفيفا حال القذف.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالمعقول من جهات:
الجهة الأولى :أن الشروط تعتبر استدامتها إلى حالة إقامة الحد ; بدليل أنه لو ارتد أو جن , لم يقم الحد.(1)
الجهة الثانية : أن زناه يدل على سبق مثله؛ لجريان العادة الإلهية بان العبد لا يهتك ستره في أول مرة كما قال عمر - رضي الله عنه -.(2)
الجهة الثالثة :أن وجود الزنا منه يقوي قول القاذف , ويدل على تقدم هذا الفعل منه , فأشبه الشهادة إذا طرأ الفسق بعد أدائها قبل الحكم بها.(3)
أدلة أصحاب الرأي الثاني:
ـ أن الحد قد وجب وتم بشروطه , فلا يسقط بزوال شرط الوجوب , كما لو زنى بأمة ثم اشتراها , أو سرق عيناً , فنقصت قيمتها أو ملكها , وكما لو جن المقذوف بعد المطالبة.(4)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
ناقش ابن قدامة ( ما ذكره الجمهور بقوله:"القول بأن الشروط تعتبر استدامتها. لا يصح ; فإن الشروط للوجوب , فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب , وقد وجب الحد ; بدليل أنه ملك المطالبة .. وأما إذا جن من وجب له الحد , فلا يسقط الحد , وإنما يتأخر استيفاؤه ; لتعذر المطالبة به , فأشبه ما لو غاب من له الحد، وإن ارتد من له الحد لم يملك المطالبة ; لأن حقوقه وأملاكه تزول أو تكون موقوفة. وفارق الشهادة , فإن العدالة شرط للحكم بها , فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها , بخلاف مسألتنا , فإن العفة شرط للوجوب , فلا تعتبر إلا إلى حين الوجوب.(5)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/107.
(2) تحفة المحتاج: 3/452.
(3) المغني والشرح الكبير:10/107.
(4) المرجع السابق
(5) المغني والشرح الكبير:10/107.(4/77)
ـ القياس على حد الزنا بأمة ثم شراؤها غير مسلم؛ لأن المحدود هنا ليس في شرائه الأمة ما يوحي بعفافه، بل إنما هو احتيال، أما هاهنا فإن وقوع الزنا من المقذوف أورث شبهة باحتمال صدق القاذف، فتغير الحال هنا ليس بفعل القاذف فهو هنا غير محتال؛ وكانت هذه الشبهة دارئة للحد عن القاذف.
ـ أما ملك العين المسروقة أو نقصان قيمتها فلا يسلم القياس عليه؛ لأن ملكية العين المسروقة إنما هي احتيال منه لدرء الحد، أما نقصان قيمتها وجنون المقذوف فهو محل خلاف.(1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يتبين أن أدلة كلا الفريقين لم تسلم من المناقشة، و القول بإقامة الحد على القاذف قول له وجاهته؛ وذلك استناداً إلى اعتبار الشروط حتى وقت الوجوب؛ دون نظر إليها بعد ذلك، فقد نظر أصحاب هذا الرأي إلى الشروط وتوافرها فقط.
أما الرأي الثاني: فنظر أصحابه إلى الحكمة من مشروعية حد القذف، وأنه إنما شرع لصيانة عرض المقذوف وإثبات عفافه، والمقذوف قد لطخ عرضه بزناه، فلا معنى لإقامة الحد بعد ثبوت زناه، ثم إن المقذوف قد زال إحصانه قبل إقامة الحد على القاذف، فلا يقام على القاذف؛لأن من الشروط المتفق عليها عند إقامة الحد إحصان المقذوف، والمقذوف بزناه غير محصن.
ـ ثم يقال للقائلين بإقامة الحد على القاذف؛ ما الحكم لو قذف هذا القاذف نفس الشخص المقذوف بعد زناه ـ والاتفاق قائم على التداخل في الحدود ـ هل يقام عليه الحد أولا؟
فإن قالوا يقام الحد يقال: لهم لأي القذفين يقام الحد؟ فإن قالوا: الأول قيل لهم: قد اجتمع موجب ومانع في شخص واحد، والمانع مقدم على الموجب في الحدود؛ لوجود الشبهة.
وإن قالوا: يقام الحد للثاني، قيل لهم: أقمتم حداً وشروط الوجوب فيه منتفية.
__________
(1) جريمة القذف وعقوبتها في الفقه الإسلامي:ص 76،77.(4/78)
وإن قالوا: لا يقام عليه حد أصلاً، قلنا لهم قد خالفتم قولكم من أن الحد إذا وجب فلا يسقط بزوال شرط الوجوب.
لهذا يتضح أن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء القائلين بعدم إقامة حد القذف على القاذف إذا زنا المقذوف قبل إقامة الحد؛ وذلك تبعاً لاشتراط العفة للمقذوف إلى حين إقامة الحد .(4/79)
تمهيد
* تعريف السرقة لغة: (1)
السرقة بفتح السين وكسر الراء،ويجوز إسكانها ، مع فتح السين وكسرها ،من سرق يسرق، والسرقة : أخذ المال خفية ،ومنه استراق السمع والنظر أي: سمع أو نظر مستخفياً، وسارقه النظر أي طلب غفلة لينظر إليه، قال تعالى: { إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } (2) والسارق هو من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ مالاً لغيره، أما الأخذ على سبيل المجاهرة فهو مغالبة ،أو نهبة، أو خلسة أو غصباً لا سرقة.
* السرقة في اصطلاح الفقهاء:
تعددت تعريفات الفقهاء للسرقة فجاءت كما يلي:
* عرفها الحنفية بأنها: هي أخذ العاقل ،البالغ نصاباً محرزاً، أو ما قيمته نصاباً، ملكاً للغير، لا شبهة له فيه على وجه الخفية. (3) وذكر صاحب شرح فتح القدير: تعريفاً موسعاً للسرقة فقال:السرقة هي أخذ العاقل البالغ عشرة دراهم أو مقدارها خفية عمن هو متصد للحفظ ،مما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير ،من حرز بلا شبهة. (4)
* وعرفها المالكية بأنها: هي أخذ مكلف حراً، لا يعقل لصغره، أو مالاً محترما ً لغيره، نصاباً أخرجه من حرزه بقصدٍ واحد خفية لا شبهة له فيه. (5)
*وعرفها الشافعية بأنها: هي أخذ المال، أو الشيء خفية من حرز مثله بلا شبهة. (6)
* وعرفها الحنابلة بأنها: هي أخذ المال ،على وجه الخفية أو الاستتار (7) من مالكه أو نائبه. (8)
__________
(1) القاموس المحيط:2/1186، المعجم الوسيط:1/444، مغني المحتاج:5/465، بدائع الصنائع:7/65.
(2) الحجر آية 18.
(3) الاختيار:3/102، مجمع الأنهر:1/63.
(4) شرح فتح القدير: 5/354.
(5) حاشية الخرشي:8/310، الشرح الصغير:4/469.
(6) حاشيتا قليوبي وعميرة:4/284، كفاية الأخيار:634، مغني المحتاج:5/465.
(7) المغني والشرح الكبير:10/115، الشرح الكبير:10/300، المبدع:7/428، الإنصاف:10/253.
(8) الروض المربع:493، نيل المآرب:2/292.(5/1)
أو هي: أخذ مال محترم لغيره وإخراجه من حرز مثله، لا شبهة له فيه على وجه الاختفاء. (1)
* وعرفها الظاهرية بأنها: الاختفاء بأخذ شيء ليس له، والسارق هو المختفي بأخذ ما ليس له. (2)
وقفة مع هذه التعريفات
من خلال عرض هذه التعريفات يظهر ما يلي:
أولاً: أن هذه التعريفات إنما هي تنصبُّّ على السرقة الكاملة الأركان الموجبة للقطع.
ثانياً: أن الأحناف قد عرفوا السرقة بشروطها، فعرفوا الشيء بجزئه، و يظهر هذا واضحا جلياً في تعريف ابن الهمام (،حيث ضمنوا السرقة كثيراً من القيود.
ـ أن المالكية جعلوا الحر الصغير مالاً يجب بسرقته القطع، وهم بهذا خالفوا جمهور الفقهاء.
ـ أن الظاهرية أطلقوا اسم السرقة على أي شيء أخذ خفية ،على وجه الاستتار ،من حرز أو من غيره، وهم بهذا قد خالفوا الجمهور في اشتراط الحرز، فكان تعريفهم مطلقاً ترد عليه جملة من الردود.
ثالثاً: أن هذه التعريفات ليس بينها فارق كبير، فهي وإن اختلفت في بعض النقاط إلا أنها تلتقي في نقطة واحدة ،وهي أن حقيقة السرقة تتمثل في الأخذ خفية بشروط، وبعض هذه الشروط متفق عليه في الجملة عند جمهور الفقهاء ـ عدا الظاهرية ـ كشرط النصاب والحرز وعدم الشبهة، وبعضها مختلف فيه ؛كشرط عدم التسارع إلى الفساد الذي اشترطه الحنفية، وكون الحر الصغير مالاً كما قال بذلك المالكية.
رابعاً: أن تعريف السرقة في الشريعة موافق لتعريفها في اللغة؛ إذ في كل منهما تطلق على أخذ مال الغير خفية، وإنما زيد على مفهومها في الشريعة قيود لإقامة حكم شرعي. (3)
__________
(1) كشاف القناع:6/129، المحرر في الفقه:2/156.
(2) المحلى:12/311.
(3) جريمة السرقة وعقوبتها في الشريعة الإسلامية: أحمد حامد سبع، رسالة دكتوراه، إشراف د/محمد أنيس عبادة، شريعة القاهرة، 1398 هـ / 1978. ج 1/104.(5/2)
ـ هذا وقد حاول بعض المعاصرين وضع تعريف يكاد يكون متفقاً عليه لدى المذاهب فقال: (السرقة الموجبة للقطع هي: أخذ المكلف الملتزم بحكم الإسلام نصاب القطع من مال الغير خفية ظلماً، من حرز غير مأذون في دخوله بلا شبهة.) (1)
* حكم السرقة :
أما حكم السرقة فهو التحريم وقد اتفق الفقهاء على ذلك ، واستدلوا لذلك بالقرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع :
من القرآن الكريم :قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2)
من السنة: ما رواه الإمامان البخاري ومسلم ( عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده،ويسرق الحبل فتقطع يده.")) (3)
ـ وما رواه ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين سرق وهو مؤمن.")) (4)
__________
(1) : أحمد حامد سبع :جريمة السرقة: 1/104.
(2) المائدة آية 38.
(3) صحيح :أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب توبة السارق 6/2493 رقم 6415، أخرجه مسلم: كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها 3/1314 رقم 1687.
(4) صحيح : أخرجه البخاري:كتاب الحدود، باب السارق حين يسرق،ج 6/2489 رقم 6400، أخرجه مسلم:كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي،ج1/78 رقم 57.(5/3)
ـ وما رواه عروة - رضي الله عنه - عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ "((أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد- رضي الله عنه - حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه أسامة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب ،ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سرقت لقطعت يدها. (1) (وعند مسلم () ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. (2)
* الحكمة من تشريع حد السرقة :
حرص الإسلام حرصاً بالغا على صون الأنفس أن تزهق والأموال أن تؤخذ بغير حق، فاهتم بالأموال اهتماماً عظيماً حتى جعل المال قرين الروح ومساوياً لها في الحرمة، فقال تعالى: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } (3)وقال - صلى الله عليه وسلم -:" كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه. (4) فحماه من أن تمتد إليه أيدي العابثين وتطلعات الطامعين، ونهى - سبحانه وتعالى - عن كل ما يجر إلى أكل أموال الناس بالباطل، سواء أكان عن طريق الكذب أو التحايل أو المماطلة أو السرقة أو غيرها بأي وجه من الوجوه المحرمة.
__________
(1) صحيح: أخرجه البخاري:كتاب المغازي، باب من شهد الفتح 4/1566 رقم 4053.
(2) صحيح :أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره 3/1311 رقم 1688.
(3) الفجر آية 20.
(4) صحيح :أخرجه مسلم: 4/1986 رقم 2564.(5/4)
والمال عزيز على الإنسان فبه فخره وزينته في الحياة الدنيا، قال تعالى: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (1) فشرع المولى - سبحانه وتعالى - العقاب الرادع لمن تدفعه نفسه إلى الاعتداء على مال الغير وممتلكاته ليسلبها دون وجه حق، فكانت عقوبة القطع، ولو لم يعاقب عليها لكان لكل امرئ أن يشارك غيره طعامه وشرابه وكسائه ومسكنه وأداة عمله، وكانت الغلبة آخر الأمر للأقوياء، وكان الجوع والعري والحرمان للضعفاء(2)فكان العقاب للسارق هو قطع يده ،قال تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (3)
ويذكر ابن القيم ( الحكمة في تشريع هذا العقاب فيقول:" 00 السرقة إنما تقع من فاعلها سراً كما يقتضيه اسمها ،ولهذا يقولون: فلان ينظر إلى فلان مسارقة،إذا كان ينظر إليه نظراً خفياً لا يريد أن يُفطن له، والعازم على السرقة مختف كاتم خائف أن يشعر بمكانه فيؤخذ به، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء، واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران؛ ولهذا يقال: وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه، فعوقب السارق بقطع اليد قصاً لجناحه ،وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فعل به هذا في أول مرة بقي مقصوص أحد الجناحين ضعيفا في العدو، ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفا في عدوه فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورجله الأخرى في الرابعة فيبقى لحما على وضم فيستريح ويريح. (4)
__________
(1) الكهف من الآية 46.
(2) التشريع الجنائي الإسلامي: 1/618.
(3) المائدة آية 38.
(4) إعلام الموقعين: 2/ 109وما بعدها بتصرف يسير.(5/5)
ـ ولا يلتفت للقائلين بأن عقوبة القطع عقوبة شديدة لا تناسب الاعتداء على شيء من المال لما فيه من إزالة عضو عليه مدار الحياة؛ لأنهم لو أمعنوا النظر قليلاً وتركوا التعصب جانباً ،ووازنوا بين ما اتخذوه عقوبة للسارق، وبين ما جعلته الشريعة الإسلامية من العقوبة أجدى للمجتمع وأنفع له.
………
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد السرقة
وافق الظاهرية الأئمة الأربعة في حد السرقة في أحكام هي:
أولاً: وافق الظاهرية الأئمة الأربعة في أنه لا قطع إلا على بالغ عاقل. (1) أما الصبي والمجنون فلا قطع عليهما لعدم التكليف؛ وذلك لقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2) ؛ولقوله - صلى الله عليه وسلم - " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق." (3)
ورد في بدائع الصنائع: "00أما ما يرجع إلى السارق فأهلية الوجوب القطع وهي العقل والبلوغ فلا يقطع الصبي والمجنون. (4) ،وجاء في المدونة:"قلت أرأيت إذا شهد على صبي أو مجنون مطبق أو على من يجن ويفيق،أنهم سرقوا أتقطع هؤلاء في قول مالك. (5)
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/356، بدائع الصنائع: 7/67، العناية على الهداية: 5/356، المعونة:2/377، الذخيرة:12/140، حاشية الخرشي: 8/310، تكملة المجموع:22/154، الكافي:4/119، الإنصاف: 10/253.
(2) المائدة آية 38.
(3) صحيح: سبق تخريجه ص 154 .
(4) بدائع الصنائع: 7/67.
(5) المدونة الكبرى:4/534.(5/6)
ثانياً: اتفقوا كذلك على أن المكره على السرقة لا قطع عليه؛ (1) لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا))." (2).
ورد في المحلى:" من أكره على شرب الخمر , أو أكل الخنزير , أو الميتة , أو الدم , أو بعض المحرمات , أو أكل مال مسلم , أو ذمي فمباح له أن يأكل , ويشرب , ولا شيء عليه لأحد , ولا ضمان 00" (3)
ثالثاً: واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة على أن الحر والعبد والذكر والأنثى سواء في القطع؛ لإطلاق النصوص؛ ولأن القطع لا يتنصف ،وأيضاً لأن القطع شرع لحفظ الأموال وصيانتها، ولم يعتبر فيه تكافؤا الدماء بين السارق والمسروق منه فوجب اعتبار عمومه (4) ، ورد في المغني والشرح الكبير:" أما الحر والحرة: فلا خلاف فيهما. وقد نص الله تعالى على الذكر والأنثى بقوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } . ولأنهما استويا في سائر الحدود , فكذلك في هذا ,وقد قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - سارق رداء صفوان , وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة ، ورد في مراتب الإجماع :"واتفقوا على أن المرأة تقطع كما يقطع الرجل ."(5)
__________
(1) العناية على الهداية:9/244، بدائع الصنائع: 7/179، حاشية الدسوقي: 6/354، مغني المحتاج: 5/489، الحاوي الكبير: 13/271، الإنصاف:10/253، المحلى:7/204.
(2) صحيح: ابن ماجه :كتاب الطلاق ، باب طلاق المكره ،1/659 رقم 2045 بلفظ وضع ،ابن حبان : باب ذكر من وضع الله بفضله عن هذه الأمة ،16/202 رقم 7219 ،البيهقي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق المكره، ج 7/356 رقم 14871.المستدرك :2/216 رقم 2801 ، الدارقطني :كتاب النذور 4/170 ، رقم 33 .
(3) المحلى:7/204.
(4) بدائع الصنائع:7/267، شرح فتح القدير:5/360،المعونة: 2/341، حاشية الخرشي: 8/311، الذخيرة:12/142، المغني والشرح الكبير: 10/132.
(5) مراتب الإجماع :136 ،الإقناع في مسائل الإجماع :2/261 .(5/7)
فأما العبد والأمة: فإن جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على أنهما يجب قطعهما بالسرقة. (1)
رابعاً: واتفقوا على أن حد السرقة يثبت بشهادة رجلين عدلين كسائر الحقوق، واتفقواعلى انه يثبت بالإقرار. (2)
خامساً: واتفقوا على أن الإسلام ليس بشرط في السارق، فيقطع المسلم والكافر (3) لعموم قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (4)
سادساً: اتفقوا كذلك على أن القطع في اليد يكون من الكوع ـ وهو مفصل الكف ـ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد السارق من الكوع؛ ولقول أبي بكر - رضي الله عنه - "إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع." ولأن دية اليد تكمل في قطعهما من وفي الزيادة حكومة عدل، واتفقوا كذلك على الحسم بعد القطع. (5)
ورد في المغني والشرح الكبير:"لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع." (6)
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 10/132، 140.
(2) بدائع الصنائع: 7/81، حاشية الدسوقي:6/354، حاشية الخرشي:8/329، الحاوي الكبير:13/334، البيان: 12/483، المغني والشرح الكبير:10/139، المحلى:10/92، 331.
(3) بدائع الصنائع:7/67، الذخيرة:12/141، المعونة:2/337، البيان:12/434، المغني والشرح الكبير:10/133، المحلى: 12/68.
(4) المائدة آية 38.
(5) الهداية:2/416، بدائع الصنائع:7/88، الذخيرة:12/183، المعونة: 2/347، البيان:12/494، الحاوي الكبير: 13/319، الإنصاف: 10/285، الفروع:6/135، المغني والشرح الكبير:10/127، الإقناع في مسائل الإجماع :2/262 .
(6) المغني والشرح الكبير:10/127.(5/8)
سابعا ً: واتفقوا كذلك على عدم القطع في المجاعة؛ لأنه كالمضطر يتناول ما يقيم حياته،(1) وليس معنى هذا أن زمن المجاعة بنفسه هو المسقط للحد عن كل سارق وإنما العبرة في ذلك ترجع إلى حالة كل شخص بذاته فمن دفعته الضرورة والحاجة إلى السرقة لا يجوز قطعه سواء كان ذلك في زمن المجاعة أم لا، ومن لا تقم به ضرورة وجب قطعه حتى وإن كان ذلك في زمن المجاعة، فالمعول عليه هو جوع السارق بالفعل، أو رجوع من تلزمه نفقته، وليس مجرد زمن المجاعة بنفسه مبرراً أو مسوغاً.(2)
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد السرقة
خالف الظاهرية الأئمة الأربعة في مسائل ،يرجع الخلاف في جلٍّها إلى اختلافهم في شروط السرقة، لا سيما شرط الحرز، وهذه المسائل هي: ـ
المسألة الأولى: اشتراط الحرز.
الحرز: هو المكان الحصين الذي يحفظ فيه المال عادة، ويختلف باختلاف الشيء المحرز، (3) أو هو المكان الذي تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها؛ مثل الأغلاق والحظائر وما أشبه ذلك. (4) والواقع أن تحديد معنى الحرز يرجع إلى العرف، فما يكون حرزاً لشيء في مكان قد لا يكون حرزاً له في مكان آخر، وما يكون حرزاً في زمن قد لا يعتبر حرزاً في زمن آخر. (5)
والحرز نوعان: ـ
1 ـ حرز بالمكان كالدور والحوانيت والبيوت والجدران.
__________
(1) المبسوط:9/214،تبيين الحقائق:3/216،شرح فتح القدير:5/368، التمهيد:23/12، أسنى المطالب:4/146، المغني والشرح الكبير:10/139، الفروع:6/139، الإنصاف:10/277، كشاف القناع:6/140،المحلى:12/334، المهذب: 2/282، روضة الطالبين: 10/122.
(2) السرقة الموجبة للقطع: عبد الفتاح أبو العينين ، ط الأمانة ، 1403/01983 ، ص 90
(3) معجم لغة الفقهاء: 178، بدائع الصنائع: 7/76، البحر الرائق:5/62.
(4) بداية المجتهد:6/174.
(5) شرح فتح القدير: 5/80، المغني والشرح الكبير:10/120.(5/9)
2 ـ وحرز بالحافظ وهو بدل عن الأماكن المبنية، كمن جلس في الطريق أو في الصحراء أو في المسجد عنده متاعه فهو محرز به.
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن السارق إذا أخرج المسروق عن حرزه فعليه القطع، واختلفوا فيما إذا ضبط بالمسروق داخل الحرز هل يقطع أو لا ؟ على رأيين: (1)
* الرأي الأول: وهو لجمهور الفقهاء من الحنفية (2) و المالكية (3) و الشافعية (4) و الحنابلة. (5)
ويشترطون لتحقق معنى السرقة أن يكون المسروق في حرز مثله وأن يخرجه منه.
* الرأي الثاني:وهو للظاهرية. (6)
ويرون عدم اشترط الحرز فسواء سرق من حرز أو من غير حرز عليه القطع.
……………الأدلة
استدل الرأي الأول: بالكتاب والسنة والآثار والمعقول.
الكتاب: قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وجه الدلالة: تدل الآية على وجوب القطع لمن أخذ المال من حرز المثل؛ لأن ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة. (7)
__________
(1) الهداية:2/409، المبسوط:9/136، الذخيرة: 12/158، بداية المجتهد: 6/174، روضة الطالبين:10/121، مغني المحتاج:5/474، الكافي:4/124، المحلى: 12/302.
(2) الهداية:2/409، شرح فتح القدير: 5/384، بدائع الصنائع:7/67، 73، المبسوط:9/136،مجمع الأنهر:1/614، الاختيار:3/103، تبيين الحقائق:3/214.
(3) المدونة الكبرى:4/415 , بداية المجتهد: 6/174, المعونة:2/340. جواهر الإكليل:2/434, حاشية الدسوقي: 6/32, الذخيرة: 12/158, حاشية الخرشي: 8/321.
(4) روضة الطالبين: 10/121, البيان: 12/443, تحفة المحتاج: 4/173, مغني المحتاج: 5/474, تكملة المجموع: 22.
(5) المغني والشرح الكبير:10/120,الكافي: 4/124.
(6) المحلى: 12/302, المغني والشرح الكبير:10/120, حلية العلماء: 8/53.
(7) تفسير الرازي: 11/178.(5/10)
وقال القرطبي معلقا على هذه الآية:" اتفق جمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ما يحب فيه القطع.. والحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس وهو يختلف في كل شيء بحسب حالة. (1)
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل (2) فإذا أواه المراح (3)أو الجرين (4) فالقطع فيما بلغ ثمن المجن .))(5)
وجه الدلالة: هذا الحديث يشعر باشتراط الحرز مطلقا؛ وذلك أنه فرق بين أن تكون هذه الأشياء محرزة بإيوائها المراح وبين أن تبقى على أصلها , فدل ذلك على اعتبار الحرز فيما يحرس بالجبل إذا سرق لا قطع فيه؛ لأن الجبل ليس بحرز (6) وأيضا قد نفى - صلى الله عليه وسلم - القطع عمن أخذ شيئا من الثمر المعلق على أشجاره قبل أن يحرز , فإذا ما وضع في حرزه وهو الجرين ففيه القطع , وكذلك منع القطع ممن أخذ شيئا من الدواب التي تسرح في المراعي؛ لأن المرعى ليس حرزا لها فإذا ما آوت إلى مكان مبيتها فأخذت ففيها القطع.
__________
(1) تفسير القرطبي:6/152.
(2) الحريسة: الماشية في المراعي , وقيل حريسة الجبل: الشاه يدركها الليل قبلا أن تصل مأواها.الذخيرة:12/80, التعريفات: 1/240, شرح الزرقاني: 4/189.
(3) المراح: بضم الميم موضع مبيت الماشية , وقيل منصرفها للمبيت. المراجع السابقة.
(4) الجرين: موضع تجفيف الثمار بعد حصادها الذخيرة:12/80, التعريفات: 1/240, شرح الزرقاني: 4/189
(5) صحيح مرسل: سنن البيهقي الكبرى:كتاب السرقة، باب ما يكون حرز أو ما لا يكون 8/266, رقم 17001, نصب الراية 3/367, إرواء الغليل: 8/74 من طريق أبي الحسين المكي.
(6) شرح الزر قاني: 4/189،أحكام القرآن للجصاص: 21/587, المعونة: 2/341. الاختيار: 3/103.(5/11)
ـ وما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - "((أن رجلا من مزينة أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال يا رسول الله: كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال :هي ومثلها والنكال وليس في شيء من الماشية قطع إلا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال ,قال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: هو ومثله معه و النكال ،وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا فيما آواه الجرين فما آخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ,وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال.")) (1)
وجه الدلالة: في الحديث دلالة على اشتراط الحرز في وجوب القطع، فمن سرق من غير حرز فلا قطع عليه بلغ المقدار أو زاد، والحجة على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لا قطع في حريسة جبل حتى يأويها المراح. (2) فدل هذا على أن الحرز شرط. والتمسك بعموم آية السرقة أي على عدم اشتراط الحرز لا ينتهض للاستدلال به؛ لأنها عموم مخصص بالأحاديث القاضية باعتبار الحرز. (3)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((ليس على المنتهب قطع.")) (4)
__________
(1) صحيح:سنن النسائي الكبرى: كتاب قطع السارق،باب القطع في سرقة ما آواه المراح من المواشي 4/344 رقم 7447، سنن النسائي: كتاب قطع السارق،باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين 8 /85 رقم 4959, المستدرك: كتاب الحدود، 4/423 رقم 8151, سنن البيهقي الكبرى: كتاب الزكاة، باب من قال المعدن ركاز فيه الخمس 8/278 رقم 17063.
(2) التمهيد:11/221.
(3) عون المعبود:12/42.
(4) صحيح: سنن أبي داود:كتاب الحدود، باب القطع في الخلسة والخيانة 2/542 رقم 4392, مسند أحمد: 3/380, سنن النسائي الكبرى:كتاب قطع السارق، باب مالا قطع فيه 4/347 رقم 7464, نصب الراية 3/368.(5/12)
فالمنتهب نهبة لا قطع عليه؛ لأنه لم يمنع منه حرز , فكذلك من أخذ من دار غير مقفلة ولا ممنوعة عنه ولا عن غيره. (1)
ـ ما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ خبنة (2) فلا شيء عليه ،ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق شيئا منه بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة.. (3)
أما الآثار: فما جاء عن سليمان بن موسى - رضي الله عنه - أن عثمان - رضي الله عنه - قضى أنه لا قطع على سارق - وإن كان قد جمع المتاع فأراد أن يسرق - حتى يحمله ويخرج به. (4)
__________
(1) المعونة: 2/341.
(2) الخبنة: ما يأخذه الرجل في ثوبه فيرفعه إلى فوق.
(3) حسن: أبو داود: كتاب اللقطة، باب التعريف باللقطة 1/534 رقم 1710، الترمذي:كتاب البيوع، باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها،ج 3/584 رقم 1289 قال فيه هذا حديث حسن، النسائي: كتاب قطع السارق، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، 8/85 رقم 4958، سنن النسائي الكبرى: كتاب قطع السارق، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين 4/344 رقم 7446، نصب الراية:3/367.
(4) مصنف عبد الرزاق، كتاب اللقطة، باب السارق يوجد في البيت ولم يخرج،ج 10/196 رقم 18810.(5/13)
ـ ما جاء عن عمرو بن شعيب - رضي الله عنه - أن سارقا نقب خزانة المطلب بن وداعة وجد فيها قد جمع المتاع ولم يخرج به, فأتي به إلى ابن الزبير - رضي الله عنه - فجلده وأمر به أن يقطع , فمر بابن عمر - رضي الله عنه - فسأل فأخبر فأتى ابن الزبير - رضي الله عنه - فقال: أمرت به أن يقطع؟ فقال: نعم , قال: فما شأن الجلد؟ قال: غضبت , فقال ابن عمر: ليس عليه قطع حتى يخرج به من البيت , أرأيت لو رأيت رجلا بين رجلي امرأة لم يصبها أكنت حاده؟ قال: لا , قال: لعله قد كان نازعا تائبا وتاركا للمتاع. (1)
أما المعقول فمن جهات :
الجهة الأولى :أن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها، قطعا لأطماع السراق عن أموال الناس والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر في القلوب، وغير المحرز لا خطر له في القلوب عادة فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى الصيانة بالقطع؛ ولهذا لم يقطع فيما دون النصاب وما ليس بمال متقوم محتمل الادخار. (2)
الجهة الثانية :أن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء , والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى الاستخفاء فلا يتحقق ركن السرقة. (3)
الجهة الثالثة:أنه إنما روعي الإخراج من الحرز؛ لأنه ما دام في الحرز فلم تتم السرقة لأن هتك الحرز لا يتم إلا بإخراج المسروق. (4)
الجهة الرابعة:أن الجناية تعظم بمخاطرة أخذه من الحرز , فحكم بالقطع زجرا , بخلاف ما إذا جرأه المالك ومكنه من تضييعه. (5)
__________
(1) مصنف عبد الرزاق، كتاب اللقطة، باب السارق يوجد في البيت ولم يخرج،ج 10/196 رقم 18811.
(2) فتح الباري: 12/60، بدائع الصنائع:7/73، أحكام القرآن لابن العربي:2/610.
(3) بدائع الصنائع: 7/73.
(4) المعونة:2/341.
(5) مغني المحتاج:5/474.(5/14)
الجهة الخامسة :أن السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك، وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمرا يكون متعلق الرغبة في محل الشح و الضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير؛ ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل؛ لأن ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة. (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالكتاب والآثار.
أما الكتاب:قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2)
وجه الدلالة: أن الآية عامة فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير فقوله والسارق والسارقة يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من الحرز أو من غير الحرز. (3)
أما الآثار: فما جاء عن سعيد بن مسلم ( قال: ((كان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - يلي صدقة الزبير , فكانت في بيت لا يدخله أحد غيره وغير جارية له , ففقد شيئا من المال؟ فقال للجارية: ما كان يدخل هذا المكان غيري وغيرك فمن أخذ هذا المال؟ فأقرت الجارية , فقال لي: يا سعيد انطلق بها فاقطع يدها , فإن المال لو كان لم يكن عليها قطع.)) (4)
__________
(1) تفسير الرازي:11/178.
(2) المائدة آية 38.
(3) تفسير الرازي:11/177،178، أحكام القرآن لابن العربي:2/107.
(4) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الحدود، باب في العبد يسرق من مولاه ما عليه، ج 5/519 رقم 28571.(5/15)
ـ ما جاء عن خالد بن سعيد بن المسيب , وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة "((أنهما سئلا عن السارق يسرق فيطرح السرقة , ويوجد في البيت الذي سرق منه , لم يخرج؟ فقالا جميعا: عليه القطع.)) (1)
ـ ما جاء عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: بلغ عائشة أم المؤمنين أنهم يقولون: ((إذا لم يخرج بالمتاع لم يقطع؟ فقالت عائشة ـرضي الله عنهاـ : لو لم أجد إلا سكينا لقطعته ." (2)
المناقشة
ناقش ابن حزم ( أحاديث اشتراط الحرز من جهتين:……
الجهة الأولى:أن حديث حريسة الجبل , والتمر المعلق ,لا يصح ; لأن أحد طريقيه عن سعيد بن المسيب ( وهو مرسل , والأخرى: هي أيضا أسقط , مرسلة - من طريق ابن أبي حسين - ولا حجة في مرسل 00وما انفرد به عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - وهي صحيفة لا يحتج بها - فهذا وجه يسقط به و لو صح لكان عليهم لا لهم ; لأن فيه أن من خرج بشيء من التمر المعلق ففيه غرامة مثليه - وهم لا يقولون بهذا. (3)
الجهة الثانية: أن في حريسة الجبل غرامة مثلها ،وفيها غرامة مثليها , وأن فيها - إن آواه المراح فلم يبلغ ثمن المجن - غرامة مثليها , فهم قد خالفوا هذا الخبر الذي احتجوا به في أربعة مواضع من أحكامه 00فإن ادعوا الإجماع فقد نقضه سيدنا عمر بن الخطاب - - صلى الله عليه وسلم - - وذلك بمحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف منهم له مخالف ولا يدرى منهم عليه منكر , حيث أضعف قيمة الناقة المنتحرة للمزني على رقيق حاطب التي سرقوها و انتحروها. (4)
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة:كتاب الحدود،باب في الرجل يسرق فيطرح سرقته خارجا ويؤخذ في البيت ما عليه،ج5/554،رقم 28919، مصنف عبد الرزاق:كتاب اللقطة، باب السارق يوجد في البيت ولم يخرج،ج 10/198 رقم 18819.
(2) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الحدود، في السارق يؤخذ قبل أن يخرج من البيت بالمتاع: ج 5/477 رقم 28124.
(3) المحلى:12/306.
(4) المحلى:12/306، 307 بتصرف يسير.(5/16)
وقد أجيب عن هذا من جهات: بأنه حديث حسن، قال الشوكاني: وحديث عمرو ابن شعيب أخرجه أيضا الحاكم وصححه وحسنه الترمذي .(1)
وقد أجيب عن عدم العمل بمضاعفة الغرامة بقول الشافعي (: (2) لا تضاعف الغرامة على أحد في شيء إنما العقوبة في الأبدان لا في الأموال ،وهذا منسوخ , والناسخ له قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الماشية بالليل , إنما أتلفت فهو ضامن أي مضمون على أهلها.
ـ وما جاء عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - من مضاعفة القيمة على حاطب - رضي الله عنه - فهذا الأمر سياسة منه و تعزير؛ لأن حاطب - رضي الله عنه - عندما أجاع رقيقه نظروا إلى ناقة المزني فكأنه ساهم في سرقته , فعاقبه عمر - رضي الله عنه - على ذلك , ويدل على هذا قوله " وإني أراك تجيعهم والله لأغرمنك غرما يشق عليك."
مناقشة أدلة الظاهرية:
وقد نوقش دليلهم من الكتاب بما يلي :
__________
(1) نيل الأوطار:7/128, المستدرك: 4/423, ارواء الغليل: 8/70.
(2) الأم: 6/223, سبل السلام: 4/25.(5/17)
أن الآية مخصصة بالأخبار التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفيد اشتراط الحرز، قال أبو حاتم (:عموم الخطاب في الكتاب قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } فأمر بقطع السارق إذا ما سرق ثم فسرته السنة بأنه لا قطع على سارق الثمر ولا الكثر (1) ، وأنه يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا. (2) قال الرازي (:" لفظ السرقة لفظة عربية ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون: لمن أخذ حبة من حنطة الغير أو تبنة واحدة أو كسرة صغيرة من خبز إنه سرق ماله، فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة، وأيضا السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك، وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمرا يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير؛ ولهذا الطريق اعتبر في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل؛ لأن ما لا يكون موضوعا في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين، فلا يسمى أخذه سرقة. (3)
__________
(1) الكَثْرُ و الكَثَرُ بفتحتين: جُمَّار النخل وهو شحمه الذي في وسط النخلة في كلام الأَنصار..ويقال الكَثْرُ طلع النخل وقيل الكَثَرُ الجُمَّارُ عامَّةً واحدته كَثَرَةٌ وقد أَكثر النخلُ أَي أَطْلَعَ. لسان العرب 5/131، غريب الحديث:للقاسم بن سلام الهروي أبو عبيد، تحقيق: د. محمد عبد المعيد خان،ج1/287،طبعة دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1396.
(2) صحيح :أخرجه البخاري :كتاب الحدود ، باب قول الله تعالى والسارق والسارقة بدون كلمة (فصاعدا)6/2492 رقم 6407 ، مسلم :كتاب الحدود 3/1312 رقم 1684 .
(3) تفسير الرازي: 11/178.(5/18)
وقد نوقش ما وردعن ابن الزبير - رضي الله عنه -:بأن المروي هذا لا حجة لكم فيه بل هو حجة لنا لا لكم؛ لأن المفهوم أن الجارية أخرجت المال من حرزه فاستحقت القطع، ولا أدل على اشتراط الحرز عنده من قوله، فإن المال لو كان ـ أي لو كان هنا ـ لم يكن عليها قطع.
ونوقش دليلهم الثاني:بأنه يحتمل أنه طرح السرقة خارج البيت، ولعله بهذا أخرجها من حرزها، ولا خالف بأنه في هذه الحالة يقطع حتى ولو كان هو داخل البيت لم يخرج، ويحتمل أنه طرحها داخل البيت وإن كان هذا مستعبد؛ لقوله يوجد في البيت، فالمفهوم من هذا أنه طرحها خارج البيت ولم يتمكن من الخروج حتى أمسك به، وبالاحتمال يسقط الاستدلال.
نوقش ما جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنهاـ:ـ بأنه يتعارض مع المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشأن اشتراط الحرز ويتعارض مع مفهوم معنى السرقة مما تتضمنه من مراعاة معنى الحرز؛ ولذا كانت هذه الرواية محل شك في صحتها، ومن ثم فلا يجوز الاحتجاج بها. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اشتراط الحرز ،وذلك للأسباب الآتية:
1 ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
2 ـ أن المفهوم من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إفادة اشتراط الحرز وهو مراعى في إيجاب القطع.
3 ـ الاعتراض على الأحاديث المروية عن عمرو بن شعيب فقد كفانا ابن عبد البر ( مؤنة الجواب عن هذا بقوله: "أحاديث عمرو بن شعيب ( العمل بها واجب إذا رواها الثقات. (2)
__________
(1) عبد الفتاح أبو العينين: السرقة الموجبة للقطع في الفقه الإسلامي:138.
(2) بداية المجتهد:6/175.(5/19)
4 ـ أن الأدلة الصريحة التي استند إليها الجمهور في عدم قطع السارق، وما استند إليه الظاهرية في قطع السارق داخل الحرز فجميعها آثار عن الصحابة والتابعين وليس من بينها رواية مرفوعة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم فلا مجال لترجيح رواية على أخرى اللهم إلا ما كان منها أقرب لروح الشريعة ومبادئها العامة.
وبناء على هذا فما استند إليه الظاهرية يتعارض مع مبادئ الشريعة العامة إذ أن هذه المبادئ تأبى إقامة عقوبة تامة على جريمة غير تامة؛ لأن الشخص إذا لم يخرج المتاع من الحرز لا يكون قد ارتكب جريمة تامة حتى وإن نقله إلى مكان آخر فيه، ومن ثم فلا تناسبه عقوبة القطع؛إذ أن مثله في ذلك مثل من وضع بين يديه خمراً ليشربها فلم يفعل فليس عليه حد، وأما ما استند إليه الجمهور فهو آثار تتفق في جملتها مع سماحة الإسلام ويسره ومع رحمته بالعصاة، كما أنها تتفق مع أهم مبدأ قرره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شأن الحدود بوجه عام ألا وهو درئها بالشبهات. (1) لأجل ما سبق كان رأي الجمهور هو الراجح .
ـ هذا وقد اختلف الجمهور القائلون :باشتراط الحرز في أمور تتعلق به، منها:
تتمة :هل يشترط لتمام الأخذ أن يدخل المسروق في حيازة السارق أو لا؟
* فيرى الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة (2) أنه لا يشترط في ذلك دخول المسروق في حيازة السارق بل يتم الأخذ عندهم بمجرد الإخراج من الحرز سواء أدخل المسروق في حيازة السارق أم لا؛ لأنه تحقق فيه شرط القطع وهو الأخذ من الحرز، وإخراج السرقة وتحقق خروجها بفعله.
__________
(1) السرقة الموجبة للقطع في الفقه الإسلامي: 166، 167.
(2) بداية المجتهد:6/178، حاشية الخرشي:8/321، المعونة:2/345، مغني المحتاج:5/486، الحاوي الكبير: 13/294، المغني والشرح الكبير:10/124، الكافي:4/126.(5/20)
* ويرى الحنفية(1) أن دخول المسروق في حيازة السارق شرط فلا قطع على السارق لو ضبط بعد إخراج المسروق من حرزه وألقى به في الخارج؛ لأن يده ليست ثابته عليه عند الخروج من الحرز، أما إذا ألقى بالمسروق خارج الحرز ثم ضبط بعد أن أخرج و أخذه فالقطع واجب عند الجميع عدا زفر ( فقال: بعدمه؛ لأن الأخذ من الحرز لا يتم إلا بالإخراج منه، والرمي ليس بإخراج والأخذ من الخارج ليس أخذاً من الحرز فلا يكون سرقة، وقوله مرجوح؛ لأن الأخذ والإخراج من الحرز قد تحقق منه.
المسألة الثانية:مقدار ما يجب فيه القطع (النصاب)
النصاب: هو الحد الأدنى الذي لو سرق أقل منه لم يقطع و إذا سرقه قطع، واختلف الفقهاء في اشتراط بلوغ النصاب في السرقة إلى ما يلي:
آراء الفقهاء
* الرأي الأول: وهو للحنفية (2) و المالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة. (5)
ويرون أنه يشترط بلوغ النصاب في السرقة مطلقاً؛ لوجوب القطع، واختلفوا فيما بينهم في تقويم النصاب وقدره.
* الرأي الثاني: وهو لداود الظاهري (. (6)
ويرى أنه ليس هناك نصاب محدد لوجوب القطع في السرقة فيقطع في القليل والكثير.
* الرأي الثالث: وهو لابن حزم (. (7)
__________
(1) بدائع الصنائع:7/65، شرح فتح القدير: 5/388.
(2) الاختيار:3/103، المبسوط:9/136، شرح فتح القدير: 5/356، بدائع الصنائع: 7/77.
(3) المعونة:2/377، الذخيرة:12/143، المدونة الكبرى:4/412.
(4) البيان:12/436، الحاوي الكبير: 13/269، الأم:6/140.
(5) المغني والشرح الكبير:10/116، كشاف القناع:6/131، الإنصاف: 10/262.
(6) المحلى:12/344، المغني والشرح الكبير:10/ 116، نيل الأوطار:7/126، فتح الباري:12/90.
(7) المحلى:12/344، 345.(5/21)
ويرى أنه يشترط بلوغ النصاب " ربع دينار " فيما لو كان المسروق ذهباً ،وفي غير الذهب لا يشترط النصاب، فيقطع فيما له قيمة ،بلغ النصاب أو لم يبلغ ،ويشترط أن يكون مساوي ثمن مجن أو قوس دون تحديد، فكان ابن حزم ( وافق الجمهور فيما لو كان المسروق ذهباً، ووافق داود الظاهري ( في غير ذلك، إلا إذا كان الشيء تافهاً فلا يقطع.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب : فقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } (1)
وجه الدلالة: أن مطلق السرقة غير موجب للقطع ، بل لا بد وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال..ثم إن لفظ السرقة لفظة عربية ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير، أو تبنة واحدة، أو كسرة صغيرة من خبز إنه سرق ماله، فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة. (2)
أما السنة : فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.")) (3)
وجه الدلالة: أن هذا الحديث وغيره مخصص لآية السرقة على اعتبار عمومها. (4)
ـ أن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على اعتبار النصاب وإنما جرى الاختلاف بينهم في التقدير، واختلافهم في التقدير إجماع منهم على أن أصل النصاب شرط. (5)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة .
__________
(1) المائدة آية 38.
(2) تفسير الرازي: 11/177،178.
(3) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب قول الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما 6/2492 رقم 6407 ، أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها،ج 3/1312 رقم 1684.
(4) شرح النووي على صحيح أخرجه مسلم:11/181.
(5) بدائع الصنائع:7/77.(5/22)
أما الكتاب :فقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } (1)
وجه الدلالة: أن اسم السارق والسارقة يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من الحرز أو من غير الحرز. (2)
ومن جهة أخرى: أن الله - سبحانه وتعالى - قد رتب القطع على السرقة فكانت هي العلة ضرورة ، من غير فرق بين سرقة القليل والكثير؛ لأن اسم السرقة يطلق على أخذ كل منهما. (3)
أما السنة :فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده.")) (4)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق لفظ السارق على من سرق الشيء التافه كالبيضة والحبل، والبيضة قد لا تساوي أكثر من فلس فدل هذا على عدم اعتبار النصاب.
استدل أصحاب الرأي الثالث بما يلي:
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده.."))(5)، وقول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ "((لم يكن يقطع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في التافه."))(6)
__________
(1) المائدة آية 38.
(2) تفسير الرازي:11/177،178.
(3) التهذيب في فقه الإمام الشافعي:5/354.
(4) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب قول الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا6/3493 رقم 6414، أخرجه مسلم:كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3 /1341 رقم 1687.
(5) صحيح : سبق تخريجه ص 206 .
(6) مصنف ابن أبي شيبة : كتاب السرقة ، باب في السارق يؤخذ قبل أن يخرج من البيت بالمتاع :5/477 رقم 28114 .(5/23)
وقد جمع ابن حزم ( بين هذين النصين فقال:"..وهذا نص جلي على أنه لا حد فيما يجب القطع فيه من السرقة، بشرط أن لا يكون تافهاً، ثم استثنى ابن حزم ( من هذا العموم الذهب لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.")) (1)
ـ قال أبو محمد (: فخرج الذهب بهذا الخبر عن جملة الآية , وعن عموم النصوص التي ذكرنا.. , ووجب الأخذ بكل ذلك , وأن يستثنى الذهب عن سائر الأشياء , فلا تقطع اليد إلا في ربع دينار بوزن مكة فصاعدا..., فصح بهذا الخبر أحكام ثلاثة: أحدها:أن القطع إنما يجب في سرقة ما سوى الذهب - فيما يساوي ثمن حجفة أو ترس - قل ذلك أو كثر دون تحديد.
والثاني: أن ما دون ذلك مما لا قيمة له أصلا - وهو التافه - لا يقطع فيه أصلا.
والثالث: بيان كذب من ادعى أن ثمن المجن الذي فيه القطع , إنما هو مجن واحد بعينه معروف , وهو الذي سرق , فقطع فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ; لأن عائشة أخبرت بأن المراعى في ذلك ثمن حجفة أو ترس , وكلاهما ذو ثمن , فلم يخص الترس دون الحجفة , ولا الحجفة دون الترس , وأخبرت أن كليهما ذو ثمن دون تحديد الثمن. فصح ما قلناه يقينا. (2)
ـ ثم إن التحديد في الذهب منصوص عليه، ولم يوجد نص في غيره فيكون داخلا تحت عموم الآية. (3)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الثاني والثالث من جهات:
__________
(1) صحيح:سبق تخريجه ص 219.
(2) المحلى:12 / 346،347 باختصار.
(3) نيل الأوطار:7/126.(5/24)
الأولى: أن عموم الآية التي استدلوا بها مخصص بالأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حجة لهم فيه وذلك أن الآية لما نزلت قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك على ظاهر ما نزل ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا في ربع دينار فكان بيانا لما أجمل فوجب المصير إليه (1)، ثم إن الآية مطلقة في جنس المسروق وقدره، والحديث بيان لها والمراد من حديث البيضة الإخبار بتحقير شان السارق وخسارة مربحه من السرقة، وهو أنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة وصار ذلك خلقاً له، جرأه ذلك على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره ما يقطع به، فليحذر هذا القليل قبل أن تملكه العادة فيتعاطى سرقة ما هو أكثر من ذلك، (2) أو أن المراد به المبالغة في التنفير من السرقة وجعل ملا قطع فيه بمنزلة ما فيه القطع، أو انه محمول على بيضة الحرب وحبل المتاع. (3)
الثانية:سلمنا بحمل اللفظ على حقيقته , ولكن في اسم السرقة ما ينبئ عن صفة الإحراز فصار كون المال محرزا شرطا بالنص , وشرائط العقوبة يراعى وجودها بصفة الكمال لما في النقصان من شبهة العدم , والإحراز إنما يتم في المال الخطير دون الحقير، فالقليل لا يقصد الإنسان إحرازه عادة, وإليه أشارت عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قولها "((كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشيء التافه(4)")). (5)
ويحتمل أن يكون معناه القليل حقيقة؛ لأن مقدار ما تقطع فيه يد السارق في جناية يده قليل. (6)
ـ أن هذا كان في الابتداء لزيادة التغليظ والتشديد ثم انتسخ بالآثار المشهورة باعتبار النصاب في المسروق (7)
__________
(1) شرح النووي:11/181، فتح الباري:12/84.
(2) فتح الباري:12/84.
(3) سبل السلام:4/18، نيل الأوطار: 7/127، الحاوي الكبير: 13/273.
(4) سبق تخريجه ص 219 .
(5) المبسوط: 9/139.
(6) الاستذكار:7/536.
(7) المبسوط: 9/137.(5/25)
ـ أن ما قاله ابن حزم ( من التقدير في الذهب فقط دون غيره يخالف قوله - صلى الله عليه وسلم -"((اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما دون ذلك، وكان ربع دينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثنا عشر درهما.")) (1)
ـ وجه الدلالة: أنه يصدق على ما لم تبلغ قيمته ربع دينار أنه دونه , وإن كان من غير الذهب فإنه يفضل الجنس على جنس آخر مغاير له باعتبار الزيادة في الثمن. (2)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اعتبار النصاب شرطا لوجوب القطع، وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم و سلامتها من المناقشة , وضعف أدلة المخالفين.
ـ القطع عقوبة شديدة في ذاتها فلا ينبغي أن يصار إليها حتى يكون المسروق مما تضن به النفوس ولا تتسامح فيه الطباع , والقليل ليس شأنه كذلك؛ فإن النفوس لا يلحقها بفقده ضرر , بل قد تلام إذا منعته من الغير.
ـ الأحاديث التي استدل بها الجمهور هي أحاديث صحيحة , ولا اعتراض لأحد عليها , ثم هي صريحة في اشتراط نصاب القطع في السرقة.
تتمة
ـ ثم إن القائلين باشتراط النصاب اختلفوا فيما بينهم في مقدار هذا النصاب إلى نواح شتى وآراء كثيرة(3) أشهرها أربعة آراء:
__________
(1) ضعيف بهذا اللفظ:سنن البيهقي الكبرى: كتاب السرقة، باب ما يجب فيه القطع، 8/255 رقم 16941, نصب الراية: 3/ 359، إرواء الغليل: 8/69 رقم 2410، وقال:ضعيف بهذا اللفظ؛ لأن فيه محمد بن راشد المكحولي.
(2) نيل الأوطار: 7/126.
(3) ينظر في سرد هذه الآراء نيل الأوطار:7/126، المغني والشرح الكبير:10/126، فتح الباري:12/109 وما بعدها.(5/26)
ورد في الإفصاح (1) " واختلفوا في نصاب السرقة فقال أبو حنيفة (:النصاب عشرة دراهم أو دينار أو قيمة أحدهما من العروض، وقال مالك (، وأحمد( في أظهر الروايات عنه: نصاب السرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم من العروض، والتقويم بالدراهم خاصة والأثمان أصول لا يقوم بعضها ببعض، وعن أحمد ( رواية ثانية أن نصاب السرقة ثلاثة دراهم أو قيمة ثلاثة دراهم من الذهب أو العروض، والأصل في الرواية الفضة، وهي نوع واحد، وعنه رواية ثالثة أن النصاب ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو قيمة أحدهما من العروض، ولا يختص التقويم بالدراهم، فعلى هذه الرواية أن الأثمان كلها أصول ويقع التقويم بكل واحد منها، وقال الشافعي (: هو ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار من دراهم أو غيرها ولا نصاب في الورق."، ورد في الإقناع في مسائل الإجماع "واتفق الجمع على اختلافهم في مقدار ما يقطع فيه السارق ، وأن حكم ما يجب فيه القطع من العروض حكم الذهب والفضة لأن من قوم ذلك بالذهب حكم له بحكمه ، ومن قوم ذلك بالفضة حكم له بحكمها في مقدار ما يجب فيه القطع ."(2)
* الرأي الأول:وهو للحنفية (3)
ويرون أن النصاب عشرة دراهم أو ما بلغت قيمته عشرة دراهم، فلا قطع فيما دونها.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 ـ ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:"((قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل في مجن(4) قيمته دينار أو عشرة دراهم.")) (5)
__________
(1) الإفصاح لابن هبيرة: 2/205.
(2) الإقناع في مسائل الإجماع :2/260 .
(3) شرح فتح القدير:5/358، بدائع الصنائع: 7/77، المبسوط: 9/137.
(4) المجن: بكسر الميم وفتح الجيم مفعل من الاجتنان وهو الاستتار مما يحاذره المستتر. فتح الباري:12/106، سبل السلام:4/19
(5) ضعيف :سنن أبي داود:2/541 رقم 4387، نصب الراية: 3/360.(5/27)
2 ـ ما جاء عن أم أيمن ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((لا تقطع يد السارق إلا في حجفة، (1) وقومت يومئذٍ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً أو عشرة دراهم.")) (2)
ـ قال الطحاوي(: فلما اختلف في قيمة المجن , الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , احتيط في ذلك , فلم يقطع إلا فيما قد أجمع أن فيه وفاء بقيمة المجن التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , مقدارا لا يقطع فيما هو أقل منها , وهي عشرة دراهم. (3)
ـ أن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن، وقد اختلفت قيمته بين ثلاثة دراهم وعشرة دراهم، فالأخذ بالعشرة أولى احتيالا للدرء. (4)
ـ أن الإجماع قد انعقد على وجوب القطع في العشرة، وفيما دون العشرة اختلف فيه الفقهاء لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال في وجوب القطع فلا يجب مع الاحتمال. (5)
وقد نوقش هذا:
حديث لا قطع إلا في ثمن المجن ضعيف لوجهين:
الأول: أن ثمن المجن مجهول فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى، لا يجوز.
الثاني: أنه إن كان ثمن المجن مقدرا بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا قطع إلا في ربع دينار فكان الترجيح لهذا الجانب. (6)
__________
(1) الحجفة: بفتح المهملة والجيم ثم فاؤه هي الدرقة وقد تكون من خشب أو عظم وتغلف بالجلد أو غيره والترس مثله. فتح الباري: 12/106.
(2) المعجم الكبير:25 /88 رقم 228، نصب الراية:3/360، شرح معاني الآثار:3/163.فتح الباري:12/103.
(3) شرح معاني الآثار:3/163.
(4) شرح فتح القدير: 5/357.
(5) بدائع الصنائع: 7/77.
(6) تفسير الرازي:11/179.(5/28)
ـ بأن التقدير لقيمة المجن بالعشرة جاءت من طريق محمد بن إسحاق، ومن طريق عمرو بن شعيب وفيهما كلام معروف. (1)
ـ أن حديث لا قطع فيما دون عشرة دراهم جاء من طريق الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف مدلس، حتى لو ثبتت روايته لم تكن مخالفة لرواية الزهري (ثلاثة دراهم) بل يصح الجمع بينهما بأنه كان أولا لا قطع فيما دون العشرة ثم شرع القطع في الثلاثة فما فوقها فزيد في تغليظ الحد؛ كما زيد في تغليظ حد الخمر، أو أن العشرة دراهم كانت قيمتها حينئذ ربع دينار؛ لأن النقود كانت مختلفة وأوزانها مختلفة. (2)
ـ أنه لو سلم ثمن المجن في الدراهم لم يسلم في النص الصريح في ربع دينار، ويمكن الجمع في الروايات بالحمل على تعدد الثمن والقيمة، أو على تعدد المجان التي قطع فيها وهو أولى. (3)
قال ابن دقيق العيد(: والاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا قطع في مجن على اعتبار النصاب ضعيف؛ لأنه حكاية فعل ولا يلزم من القطع في هذا المقدار عدم القطع فيما دونه بخلاف قوله " يقطع في ربع دينار فصاعدا " فإنه بمنطوقه يد على أنه يقطع فيما إذا بلغه، وكذا فيما زيد عليه، وبمفهومه على أنه لا قطع فيما دون ذلك. (4)
وقد أجيب عن قولهم أن العشرة أخذ بالأحوط: بأن الآية دلت على القطع في كل قليل وكثير، وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل، ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم. (5)
الرأي الثاني: وهو للمالكية(6) ورواية عن الإمام أحمد. (7)
__________
(1) سبل السلام:4/19.
(2) فتح الباري:12/105، 106، الحاوي الكبير: 13/272.
(3) فتح الباري:12/108.
(4) فتح الباري: 12/108.
(5) المرجع السابق.
(6) بداية المجتهد:6/168، المعونة:2/337، فتح الباري: 12/109.
(7) المغني والشرح الكبير: 10/116.والرواية الثانية:أن التقويم بثلاثة دراهم ولو كان ذهباً. المغني والشرح الكبير: 10/116, الإنصاف: 10/262, فتح الباري: 12/108.(5/29)
ويرون أن النصاب الذي يجب القطع بسرقته ربع دينار من الذهب ,أو ثلاثة دراهم من الفضة , أو ما يعادل ثلاثة دراهم من غيرها , والتقويم يكون بالدرهم. ورد في المدونة (1) """أ رأيت من سرق ما يساوي ثلاثة دراهم ذلك اليوم, وهو لا يساوي ربع دينار اليوم لارتفاع صرف الدينار أيقطع فيه في قول مالك؟ قال: قال مالك: نعم يقطع إذا سرق قيمة ثلاثة دراهم اليوم ,قال مالك: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -قطع في ثلاثة دراهم ,وأن عثمان - رضي الله عنه -قطع في ثلاثة دراهم ,وأن عمر- رضي الله عنه - قوم الدية اثني عشر ألف درهم فلا ينظر إلى الصرف في هذه الأشياء إن ارتفع الصرف أو انخفض, وإنما ينظر في هذا إلى ما مضت به السنة."
واستدلوا بما يلي:
ـ بما روي عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا")) (2)
ـ وبما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - "((قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.")) (3)
فأخذوا بحديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فيما إذا كان المسروق ذهباً فإن كان كذلك يكون النصاب ربع دينار , وبحديث ابن عمر- رضي الله عنه - فيما إذا كان المسروق فضة أو أي سلعة أخرى فيكون النصاب حينئذ ثلاثة دراهم.
جاء في المغني " (4) "ويدل هذا الحديث على أن العرض يقوم بالدراهم؛ لأن المجن قوم بها ولأن ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات."
الرأي الثالث: وهو للشافعية. (5)
__________
(1) المدونة الكبرى: 4/412.
(2) صحيح: سبق تخريجه ص 219.
(3) صحيح: أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها 3 /1311 رقم 1686.
(4) المغني والشرح الكبير:10/117.
(5) الحاوي الكبير: 13/261, البيان: 12/436.(5/30)
ويرون أن النصاب الذي يجب به القطع ربع دينار أو ما قيمته ذلك , فالأصل في التقويم الذهب فلا يقام الحد على من يسرق ثلاثة دراهم , أو ما قيمته ثلاثة دراهم إذا قلت قيمتها عن ربع دينار.
واستدلوا بما يلي:
ـ ما جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا")) (1) فهذا يبطل قول جميع المخالفين. (2)
الرأي الرابع: وهو لابن حزم (. (3)
ويرى أن النصاب في الذهب ربع دينار , وفيما عداه يقطع في القليل والكثير إن كان يساوي ثمن جحفة ,أو ترس دون تحديد.
استدل بما يلي: أن النصوص عامة في قطع يد السارق فوجب الأخذ بها واستثنى الذهب من كل ذلك لخبر السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ " ((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.")) (4) فوجب العمل به في ذلك فعمل بالذهب في مورده وبقي العموم فيما سواه. (5)
……………
الرأي الراجح
بعد عرض جملة هذه الآراء التي وردت في مقدار النصاب نجد أنها متعارضة متباينة لم تقل جزافاً , بل لكل منها دليل شرعي أو أكثر , وليست كل هذه الأدلة على درجة واحدة من القوة و إلا لما حدث بينها هذا التعارض , ومنها كذلك ما هو صريح في تحديد النصاب , ومنها ما غير ذلك.
وفي الترجيح هذه المرة لابد وأن نتحسس الخطى ونمشي الهوينى حتى تطمئن النفس إلى ما وصلت إلى ترجيحه من هذه الآراء , فأبدأ مستعينا بالله بذكر أمور علها تقود إلى الرأي الراجح وهي:
1 ـ أن حديث السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ الذي ينص على قطع يد السارق فيما بلغ ربع دينار فصاعدا حديث صريح وواضح في بيان مقدار نصاب القطع.
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه ص 219 .
(2) البيان: 12/437.
(3) المحلى: 12/247.
(4) صحيح:سبق تخريجه ص 219 .
(5) المحلى: 12/247.(5/31)
2 ـ أن بقية الأحاديث الواردة لا تعطي تحديداً قاطعاً لنصاب السرقة , إنما تعطي تقديرات مختلفة لثمن المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
3 ـ أن الآية الكريمة دلت على القطع في كل قليل وكثير , وإذا اختلفت الروايات في النصاب أخذ بأصح ما ورد في الأقل , ولم يصح أقل من ربع دينار أو ثلاثة دراهم , فكان اعتبار ربع دينار أقوى من وجهين: ـ
أحدهما: أنه صريح في الحصر حيث ورد بلفظ" لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا"وسائر الأخبار الصحيحة الواردة حكاية فعل لا عموم لها.
والثاني: أن المعمول عليه في القيمة الذهب ؛لأنه الأصل في جواهر الأرض كلها. (2)
4 ـ أن الاختلاف في تحديد قيمة المجن أمر طبيعي من وجهة النظر الاقتصادية فالمجن قد يكون ثمنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مقداراً معيناً في المدينة , ومقداراً غيره في مكة , وهكذا بل قد يكون ثمنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المدينة مقداراً معينا عند مجيء قوافل التجار , مقداراً آخر عند غيابها , وكذا في حالتين الحرب والسلم , وذلك أمر طبيعي؛ نظراً لظروف العرض والطلب والجودة والرداءة والندرة والوفرة.
5 ـ أن تقدير النصاب بربع دينار متفق عليه عند الجميع. فيأخذ بالقدر المتفق عليه. (3)
__________
(1) السرقة الموجبة للقطع: ص 127.
(2) فتح الباري:12/108.
(3) شرح حدود ابن عرفة: ص504.(5/32)
6 ـ أنه يمكن الجمع بين روايات العشرة ـ إن صحت ـ والثلاثة ،بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: أولا لا قطع فيما دون العشرة ثم شرع القطع في الثلاثة فما فوقها، فزيد في تغليظ الحد كما زيد في تغليظ حد الخمر ،وأما سائر الروايات فليس فيها إلا الإخبار عن فعل وقع في عهده وليس فيه تحديد النصاب فلا ينافي رواية ابن عمر أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وهو مع كونه حكاية فعل لا يخالف حديث عائشة أن قيمته ربع الدينار فإن ربع الدينار صرف ثلاثة دراهم وليس المراد به مجنا بعينه بل الجنس وأن القطع كان يقع في كل شيء يبلغ قدر ثمن المجن فيكون نصابا ولا يقطع فيما دونه .(1)
بعد هذا العرض فالرأي الراجح الذي تطمئن النفس إلي ترجيحه من هذه الأقوال هو قول الشافعي وأصحابه (؛نظراً لقوة أدلتهم وضعف أدلة المخالفين , ولأن الفضة تختلف قيمتها باختلاف الأزمان والدول , أما الذهب فالأصل أن له قيمة ثابتة لا تختلف غالباً. ولا شك أن التقدير بما هو ثابت يجعل سبب الحكم متخذاً في الأزمان المختلفة والدول المتعددة.
__________
(1) فيض القدير :1/231 .(5/33)
فنصا ب السرقة بناء على هذا لا يقدر إلا بالذهب لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ((لا يقطع يد السارق في ما دون ثمن المجن.")) قيل عائشة ـ رضي الله عنها ـ "((ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار.")) (1) فالنصاب قدٍّر بالذهب , فيجب تقديره عملا بالنص, ويجعل الذهب أساساً في التقدير فتقدر به الفضة , وسائر الأشياء كذلك , وكانت قد قدرت به أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدر به النقود الورقية اليوم , ثم إن الدينار على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -ً كان يساوي اثني عشر درهما ً من الفضة , أما اليوم فتختلف قيمته اختلافاً عظيما ً فليلجأ إلى التقدير الثابت وهو الذهب.
فالنصاب ربع دينار تقدر به الفضة والنقود الورقية , والمال المسروق يقدر على أساس ذلك.
قال البغوي ( :"قال أبو سليمان الخطابي (: المذهب الاول في رد القيمة إلى ربع دينار أصح ، وذلك لأن النقد في ذلك الزمان الدنانير فجاز أن يقوم بها الدراهم ، ولهذا كتبت في الصكوك قديماً عشرة دراهم وزن سبعة ، فعرفت الدراهم بالدنانير ، وحصرت بها ، أما تقويم المجن بالدراهم فقد يحتمل ان يكون ذلك من أجل ان الشيء التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم ، وإنما تقوم الأشياء النفيسة بالدنانير ؛ لأنها أنفس النقود ، فتكون هذه الدراهم الثلاثة التي هي ثمن المجن يبلغ قيمتها ربع دينا ر."(2)
المسألة الثالثة: سرقة الأصول من الفروع
تحرير محل النزاع:
__________
(1) صحيح :سنن النسائي الكبرى :كتاب قطع السارق ، 4/340 رقم 7422 ، سنن النسائي المجتبى :كتاب قطع السارق ،8/80 رقم 4953، سنن البيهقي :كتاب السرقة ، باب اختلاف الناقلين في ثمن المجن وما يصح منه وما لا يصح ،8/256 رقم 16948، سنن الدار قطني:كتاب الحدود والديات 3/189 رقم 315، فتح الباري :12/101 .
(2) شرح السنة للبغوي :6/222 .(5/34)
اتفق الفقهاء على وجوب قطع من سرق من ذي رحم غير محرم من النسب ،أو محرم غير ذي رحم كالرضاع (1) واختلفوا فيما إذا سرق من رحمه المحرمة، ويندرج تحتها سرقة الأصول من الفروع. (2)
وورد في المحلى (3) " واتفقوا كلهم أنه يقطع فيما سرق من ذي رحمه غير المحرمة , وفيما سرق من أمه من الرضاعة , وابنته وابنه من الرضاعة , وإخوته من الرضاعة." وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:
* الرأي الأول:وهو لجمهور الفقهاء من الحنفية(4) والمالكية(5) والشافعية(6) والحنابلة . (7)
ويرون أن لا قطع على الأصل وإن علا أو سفل إذا سرق من الفرع.
* الرأي الثاني: وهو للظاهرية . (8)
ويرون أنه إذا سرق الأصل من الفرع قطع , فالقطع واجب إذا سرق من ولده , أو من والديه أو من جدته أو من جده أو من ذي رحم محرمة أو غير محرمة.
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً اً } (9)
__________
(1) ولم ير أبو يوسف من الحنفية القطع فيما إذا سرق محرمه من الرضاع . بدائع الصنائع : 7/75 .
(2) الهداية: 12/413, المبسوط: 9/151, المعونة:2/349, الذخيرة: 12/156, البيان: 12/473, الحاوي الكبير: 13/347, المغني والشرح الكبير:10/137, المحلى: 12/334.
(3) المحلى:12/334.
(4) الهداية: 12/413, بدائع الصنائع: 7/75, المبسوط: 9/151, الجامع الصغير: ص 296, شرح فتح القدير: 5/380.
(5) المدونة الكبرى: 4/417, الذخيرة: 12/156, المعونة: 2/349, حاشية الخرشي: 8/320, حاشية الدسوقي: 6/41.
(6) البيان: 12/473, الحاوي الكبير: 13/347.
(7) المغني والشرح الكبير:10/137, الكافي: 4/122, شرح الزركشي: 6/352.
(8) المحلى: 12/334.
(9) الإسراء: آية 32, 24.(5/35)
فقدأمرنا الله - سبحانه وتعالى - بطاعة الوالدين ونهى عن الإساءة إليهما , وقطع أيدي الأصول بسرقة مال الفروع يودي إلى قطيعة الرحم وإلى الإساءة إليهما وهذا منهي عنه؛ لأنه مفضي إلى حرام , والمفضي إلى الحرام حرام. (1)
أما السنة:فما جاء عن جابر - رضي الله عنه - "((أن رجلا قال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "((إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال - صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك.")) (2)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح أن الوالد له الحق على ولده، فهو مشارك لولده في ماله فيجوز له الأكل منه سواء أذن الولد أو لم يأذن،ويجوز له أيضا أن يتصرف به كما يتصرف بماله ما لم يكن ذلك على وجه السرف والسفه. (3)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه.")) (4)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح أنه إذا أخذ الرجل من مال ولده فكأنه أخذ من ماله إذ الولد من كسب أبيه, فكيف يقطع الرجل إذا أخذ من ماله؟
أما المعقول فمن جهات :
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/75.
(2) صحيح بمجموع طرق , فقد رواه الإمام أحمد في مسنده 2/104 رقم 6902, وابن ماجة 2/769 رقم 2291, والبيهقي في السن 7/480 رقم , الطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/158. كلهم عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده , ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/158. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - , وكذا مروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وعائشة ( (.
(3) تحفة الأحوذي:4/494.
(4) صحيح : سنن أبي داود :كتاب الإجارة , باب في الرجل يفضل بعض ولده رقم 3528 ،النسائي الكبرى: كتاب البيوع ، باب الحث على الكسب 4/4 رقم 6043 , مسند الإمام أحمد :6/193 ،صحيح ابن حبان: كتاب الرضاع ،باب النفقة 10/72 رقم 4259 ،المستدرك :2/53 كتاب البيوع ، تلخيص الحبير :3/189 ،إرواء الغليل :3/329 .(5/36)
ـ أن الوالد تجب النفقة عليه في حال الإعسار (1) فإذا أخذ من مال ولده فكأنه أخذ ما له حق فيه.
ـ أن لكل واحد من الوالد والولد شبهة في مال الآخر لوجوب نفقته فيه , ولولاية الأب على مال ولده فيسقط القطع بينهما. (2)
ـ أن وجود البعضية بينهما يجري مجرى نفسه فلم يقطع في حق نفسه.
ـ أنه لوقتل ابنه لم يقتل به , ولو زنا بأمة ابنه لم يحد؛ لذلك فكذلك إذا سرق. (3)
ـ أن القطع في المال يجب عند الأخذ له والمأخوذ منه , وولده أحب إليه وأعز عليه من ماله , فعدم فيه معنى القطع فسقط عنه. (4)
استدل أصحاب ا لرأي الثاني: بالكتاب والمعقول.
أما الكتاب:فقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } (5)
وجه الدلالة: أن الآية عامة في إيجاب قطع كل سارق , إلا ما خصه الدليل، (6)
أما المعقول:
أنه لو كان مال الولد للوالد لما ورثت زوجة الولد ولا زوج البنت ولا أولادهما من ذلك شيئاً؛لأنه مال لإنسان حي. (7)
المناقشة
* مناقشة أدلة الرأي الأول:
ناقش ابن حزم ( دليلهم من القرآن بأن لا حجة فيه؛ لأنه لا يدل على ما ادعوا من إسقاط القطع فيما سرقوا من مال الولد , ولا على إسقاط الجلد , والرجم , أو التغريب - إذا زنى بجارية الولد - ولا على إسقاط الحد - إذا قذف الولد - ولا على إسقاط المحاربة - إذا قطع الطريق على الولد. (8)
__________
(1) المعونة:و2/349.
(2) الحاوي الكبير: 13/349.
(3) المحلى: 12/335.
(4) الحاوي الكبير: 13/349.
(5) المائدة آية 38.
(6) أحكام القرآن للجصاص: 2/602.
(7) المحلى:6/390.
(8) المحلى: 6/390.(5/37)
أن الله - سبحانه وتعالى - وإن كان أوجب الإحسان إلى الوالدين في هذه الآية فإنه أوجبه في آية أخرى قال تعالى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ } (1) فإن كانت مقدمة الآية حجة بوجوب الإحسان إلى الأبوين في إسقاط القطع عنهما - إذا سرقا من مال الولد - فهي حجة أيضا - ولا بد - في إسقاط القطع عن كل ذي قربى , وعن ابن السبيل , وعن الجار الجنب , والصاحب بالجنب - إذا سرقوا من أموالنا.
ـ أن الأمر بالإحسان ليس فيه منع من إقامة الحدود , بل إقامتها عليهم من الإحسان إليهم , بنص القرآن , لقول الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى } (2) وقد أمرنا بإقامة الحدود , فإقامتها على من أقيمت عليه إحسان إليه , وإنها تكفير وتطهير لمن أقيمت عليه.. (3)
وقد أجيب عن هذا: بأنه لم يساوي أحد من الأمة بين طاعة الوالدين وبين الإحسان إلى الجار، أو الإحسان إلى اليتامى، بل هناك فرق بين الطاعة وهي التي أمرنا بها للوالدين، و الإحسان الذي ندبنا بعمله مع اليتامى والمساكين والجار ذي القربى.
ـ أن الأمر بالإحسان لا يتعارض مع إقامة الحد، وهذا في الإنسان البعيد عنك الذي لا تربطه بك رابطة الدم، والأب أصل للابن. (4)
وقد ناقش ابن حزم ( الدليل من السنة: أن ذلك خبر منسوخ , قد صح نسخه بآيات المواريث وغيرها فمال الولد للولد لا للوالد , فقد صح أنه كمال الأجنبي ولا فرق. (5)
و نوقش استدلالهم من المعقول:
__________
(1) النساء من الآية 36.
(2) النحل من الآية 90.
(3) المحلى: 12/335, 336 باختصار.
(4) سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي: 3/102.
(5) المحلى: 12/335, 336 باختصار.(5/38)
ـ بأنه لو قتل ابنه قتل به ولو قطع له عضو أو كسره لا يقتص منه، ولو قذفه لحد له، ولوزنا بأمته لحد كما يحد الزاني. (1)
وقد أجيب عن هذا: بأنه لا دليل على النسخ الذي ادعاه ابن حزم، وادعائه بقتل الوالد بالولد يخالف ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدم قود الوالد بالولد.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
ـ نوقش استدلالهم من الكتاب بعموم قوله تعالى:"والسارق والسارقة "بأن العموم مخصص بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عدم قتل الوالد بولده ، وبأن الولد وماله لأبيه .
نوقش استدلالهم من المعقول:
ـ بأن المقصود أن للأب جزء في مال الابن ومثل هذا النصيب لا يمنع إعطاء الورثة حقوقهم.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها، فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة ،القائلين :بعدم قطع الأصل إن سرق من الفرع وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن الولد مأمور بالإحسان إلى الوالدين والإنفاق عليهما، والعمل على سد حاجتهما، وذلك لما لهما من الفضل في تربيته، فكان هذا شبهة دارئة في إقامة الحد .
سرقة الفروع من الأصول
* هذا ويتفرع من هذه المسألة مسألة أخرى ألا وهي سرقة الفرع من الأصل ، أو من ذي رحم محرمة منه؛ كالعمات والخالات.
فيرى الحنفية (2) أن الفروع لا قطع عليهم إذا سرقوا من الأصول، وكذلك لو سرقوا من ذي رحم محرم له مطلقاً، سواء أكان بينهما ولاد أم لا، وهذا باتفاق بينهم، أما لو سرق من ذي حرم لا رحم له بسبب الرضاع فعند الإمام أبي حنيفة و محمد (يقطع، وعند أبي يوسف ( إذا سرق من أمه من الرضاع لا يقطع.
واستدلوا على قولهم بما يلي:
__________
(1) المرجع السابق:12/337.
(2) الهداية: 2/413، بدائع الصنائع: 7/75، المبسوط:9/151، حاشية رد المحتار:6/160، شرح فتح القدير:5/381.(5/39)
ـ قوله تعالى: { .. وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ.. } (1)
فالحرز فيه نقصان إذ رفع الجناح عن الأكل من بيوت الأعمام أو العمات مطلقاً يؤنس إطلاق الدخول، ولو سلم فإطلاق الأكل مطلقاً يمنع قطع القريب، ثم إن هو ترك "الأكل " لقيام دليل المنع بقيت شبهة الإباحة (2) كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - "((أنت ومالك لأبيك.")) (3)
وقد نوقش هذا: بأن الله- سبحانه وتعالى - قال: "أو صديقكم "كما قال:"أو بيوت أخوالكم "والحال انه يقطع بالسرقة من صديقه.
وقد أجيب عن هذا:أنه لما قصد سرقة ماله فقد عاداه، فلم يقع الآخذ إلا في حال العداوة، أما الأخوة فتبقى مع السرقة كالأبوة. (4)
وقد استدل الأمام أبو حنيفة ومحمد ( على قطع السارق من محرمه بسبب الرضاع، أن الثابت بالرضاع ليس إلا الحرمة المؤبدة وأنها لا تمنع وجوب القطع كما لو سرق من أم موطؤته. (5)
واستدل أبو يوسف ( بأن المباسطة بينهما في الدخول ثابتة عرفا وعادة، فإن الإنسان يدخل في منزل أمه من الرضاع من غير إذن، كما يدخل في منزل أمه من النسب , بخلاف الأخت من الرضاع. (6)
نوقش هذا: بأن في الأبوة والبنوة بعضية فارقت ما عداها من الأنساب، فافترقا في حكم القطع كما افترقا في رد الشهادة، وافترقا في القصاص وفي وجوب النفقة. (7)
__________
(1) النور من الآية 61.
(2) شرح فتح القدير:5/381، المبسوط:9/152.
(3) صحيح: سبق تخريجه ص 227.
(4) المبسوط:9/152.
(5) الهداية:2/412، بدائع الصنائع: 7/75.
(6) شرح فتح القدير:5/382،بدائع الصنائع: 7/75.
(7) الحاوي الكبير:13/349.(5/40)
* أما المالكية (1):فلهم تفصيل في المسألة فقالوا:إن سرق أحد الوالدين من مال الولد لم يقطع، وكذا الجد على الاستحباب، ويرى أشهب ( قطع الجد لعدم النفقة في مال الحفيد، وقال ابن القصار: يقطع إن سقطت نفقته، وإلا فلا يقطع، وقال اللخمي عن أشهب: لا يقطع الابن لشبهة الإنفاق كالأب ولا يحد في الزنا.
ـ استدلوا بعموم الآية فلم تفرق بين سارق من ذي رحم و سارق من غيره. (2)
* أما الشافعية: فالقول عندهم أنه إذا سرق الولد من مال أحد آبائه وأمهاته وإن علوا لم يجب عليه القطع، أما إن سرق من مال ذوي رحمه غير الوالدين والأولاد كأن سرق من مال أخيه أو ابن أخيه أو عمه وجب القطع. (3)
ـ واستدلوا بقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (4)
فالآية عامة خصصت بقوله - صلى الله عليه وسلم - "أنت ومالك لأبيك." (5) فيعمل في مجال التخصيص ويبقى سائر ذلك على عمومه.
وبأن هذه القرابة لا تمنع من قبول الشهادة، فلم تمنع القطع في السرقة كقرابة ابن العم. (6)
* أما الحنابلة:
فقد وافقوا الشافعية في قولهم من أن الولد إذا سرق من مال أحد آبائه أو أمهاته لم يجب القطع، أما إذا سرق من مال ذوي رحمه غير الوالدين والأولاد؛كأن سرق من مال أخيه أو ابن أخيه وجب القطع لأنها قرابة لا تمنع الشهادة فلا تمنع القطع كقرابة غيره. (7)
ـ أما الظاهرية:
فرأيهم أنه يقطع الولد بسرقته من والده، والوالد بسرقته من ولده، وكذا سائر الأقارب. (8)
الرأي الراجح
__________
(1) الذخيرة:12/156،حاشية الدسوقي:6/342.
(2) الذخيرة:12/157.
(3) البيان:12/473، الحاوي الكبير:13/347.
(4) المائدة من الآية 38.
(5) صحيح :سبق تخريجه ص 227.
(6) البيان:12/474، الحاوي الكبير:13/347.
(7) المغني والشرح الكبير:10/138، الكافي:4/122.
(8) المحلى:12/335.(5/41)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما قال به الجمهورمن أن الولد إذا سرق من مال أحد أبويه لا يجب القطع، وذلك لقوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة، ولأن مثل هذا الفعل يورث شبهة يسقط بها الحد.
المسألة الرابعة: سرقة أحد الزوجين من الآخر.
* تحرير محل النزاع:
لا خلاف على أن أحد الزوجين إن سرق مما ليس محرزاً عنه فلا قطع لوجود الشبهة،واختلف فيما لو كان محرزاً على آراء:
* الرأي الأول: وهو للحنفية(1) والشافعية في قول (2) والحنابلة في المذهب . (3)
ويرون أنه لا قطع على أحد الزوجين مطلقاً؛ إذ الزوجية مانعة من القطع إذا سرق من مال صاحبه سواء أسرق من البيت الذي هما فيه، أو من بيت آخر .
* الرأي الثاني:وهو للمالكية (4) والشافعية في وجه آخر. (5) والحنابلة في رواية ثانية. (6)
ويرون أن الزوجية لا تمنع القطع في سرقة أحد الزوجين من الآخر، فلو سرق أحدهما من مال صاحبه في غير البيت الذي يسكنان فيه، ففيه القطع، وعن ابن القاسم ( روايتان في قطع أحد الزوجين للآخر، وعدم القطع عنده أحسن.
ورد في حاشية الخرشي (7) " وكذلك يقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه بشرط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله , أما لو سرق من مكان يدخله فإنه لا قطع عليه ; لأنه حينئذ خائن لا سارق."
__________
(1) الهداية:2/414،بدائع الصنائع: 7/75، شرح فتح القدير: 5/382، المبسوط:9/188.
(2) الأم:6/163، البيان:12/476.
(3) الإنصاف:10/280، المغني والشرح الكبير:10/138، الفروع:6/133.
(4) المدونة الكبرى:4/418، المعونة:2/349، الذخيرة:12/156،157.
(5) الأم:6/136، البيان:12/479، الحاوي الكبير: 13/346، روضة الطالبين:10/119.
(6) الإنصاف:10/280، المغني والشرح الكبير:10/138.
(7) حاشية الخرشي:8/323، رحمة الأمة:ص 510.(5/42)
* الرأي الثالث: وهو للشافعية في وجه ثالث. (1)
ويرون أنه يجب القطع على الزوج بسرقة مال الزوجة؛ لأنه لا يستحق حقاً في مالها، ولا يجب القطع على الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة لها حق في ماله؛ كالنفقة والكسوة والصداق وغيره.
* الرأي الرابع: وهو للظاهرية. (2)
ويرون أن القطع واجب على كل واحد من الزوجين إذا سرق من مال صاحبه ما لم يبح أحدهما للآخر أخذه سواء أكان من حرز أو من غير حرز.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالآثار والمعقول.
أما الآثار: فما جاء عن السائب بن يزيد- رضي الله عنه - قال سمعت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - وجاءه عبد الله بن عمرو الحضرمي بغلام له فقال له إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر: ما سرق ؟ قال: مرآة امرأتي قيمتها ستون درهما، قال :أرسله فلا قطع عليه ،خادمكم أخذ متاعكم،ولكنه لو سرق من غيركم قطع " (3)
وجه الدلالة:أن العبد إذا لم يقطع بسرقة مال الزوجة، فالزوج أولى بعدم القطع.
أما المعقول فمن وجوه :
ـ أن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه ويتمتع بماله عادة، وهذا أوجَب خللاً في الحرز وفي الملك أيضاً. (4)
ـ أن كل واحد من الزوجين يرث صاحبه بدون حجب، ولا تقبل شهادته له، ويتبسط في مال الآخر فأشبه الوالد والولد. (5)
ـ أن العادة جرت أن كل واحد من الزوجين لا يحرز ماله عن الآخر، وإن فعل ذلك كان نادراً، فألحق النادر بالغالب. (6)
__________
(1) البيان:12/477، الحاوي الكبير:13/347.
(2) المحلى:12/343.
(3) صحيح:مصنف عبد الرزاق، كتاب اللقطة، باب الخيانة،ج 10/210 رقم18866، تلخيص الحبير:4/ 69، إرواء الغليل:8/75.
(4) بدائع الصنائع: 7/75،شرح فتح القدير: 5/382.
(5) شرح فتح القدير: 5/382، المبسوط:9/189، المغني والشرح الكبير:10/138.
(6) البيان:12/476.(5/43)
ـ أن كل واحد من الزوجين له شبهة في مال الآخر؛أما الزوجة فلاستحقاقها النفقة من مال الزوج،وأما الزوج فلأنه يملك الحجر عليها ومنعها من التصرفات في مالها. (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول من جهات :
ـ أن الزوجية لا تقتضي شبهة في مال ولا شركة فيه؛ لأنه عقد على المنافع كالأجير. (2)
ـ أنه سرق مالاً محرزاً عنه لا شبهة فيه فأشبه الأجنبي. (3)
ـ أن الزوجية عقد يستباح به المنفعة، فلم تؤثر في إسقاط القطع كالإجارة. (4)
استدل أصحاب الرأي الثالث بالمعقول :
ـ أن الزوج لا يستحق حقاً في مال الزوجة، ولا يجب القطع على الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة تستحق حقاً في ماله. (5)
ـ أنها في قبضة الزوج لقوله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ..ً } فصار ما في يدها من سرقة الزوج كالباقي في يده فلم تقطع فيه.
* أدلة أصحاب الرأي الرابع:
ويستدل لهم بعموم آية السرقة فلم تفرق بين الزوج وغيره في السرقة. (6)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ الأثر المروي عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - فهو محمول على أن الخادم سرق من موضع ليس بمحرز عنه. (7)
وقد أجيب عن هذا :بأنه لا دليل على هذا.
ـ أن القول بالتباسط بين الزوجين مردود؛ لأنه لو كان في مال الزوجة تبسط لسقط عنه الحد بوطئه جاريتها.(8)
ـ أن سبب التوارث بين الزوجين لا يمنع القصاص بينهما، فلا يمنع القطع.
وقد أجيب عن هذا: بأن هناك فرق بين القصاص والقطع. (9)
* نوقشت أدلة أصحاب الرأي الثاني:
__________
(1) البيان:12/476.
(2) المعونة:2/349.
(3) المغني والشرح الكبير:10/138.
(4) البيان:12/476، الحاوي الكبير:13/346، رحمة الأمة:510.
(5) البيان:12/477، الحاوي الكبير:13/347.
(6) المحلى:12/343.
(7) البيان:12/476.
(8) أحكام القرآن لابن العربي:2/110.
(9) سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي: 3/96.(5/44)
ـ بأن الجهة في الحكمين منفكة؛ إذ المنفعة في الإجارة محدودة المدة يصح فيها الاشتراك ،بخلاف منفعة البضع، أو أن عقد الزوجية وإن كان عقد على منفعة إلا أنها شبهة كافية لإسقاط القطع. (1)
* مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثالث:
ـ وقد ناقش ابن حزم ( أصحاب هذا الرأي بقوله: " ..المباح، ليس فيه دليل أصلا على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح، ولو كان كذلك , لكان شرب العصير الحلال مسقطا للحد عنه , إذا تعدى الحلال منه إلى المسكر الحرام , ولا فرق بين الأمرين , فإذ ذلك كذلك فلها ما أخذت بالحق , وعليها ما افترض الله تعالى من القطع فيما أخذت بوجه السرقة ،فللحق الواجب حكمه , وللمباح حكمه , وللباطل المحرم حكمه... هذا والزوجة في مال زوجها ـ كالأجنبي؛ لأن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة. (2)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو القائل :بسقوط القطع عن الزوجين إذا كنا في مكان واحد؛ وذلك لما فيه من التباسط بين الزوجين ووجود الإذن، أما إن كان المال محزرا في مكان آخر ففيه القطع لاستقلال المرأة بذمتها المالية، والحجر على الزوج من الأخذ من مالها إلا بإذنها.
أما المودة والسكن التي يقول بها البعض فهي منعدمة في حال السرقة خاصة في حالة دعوى مخاصمة المسروق منه للسارق.
المسألة الخامسة: سرقة الصبي.
الصبي قد يكون مميزا، وقد يكون غير مميز، وإن كان غير مميز فقد يكون معه مال أو حلي يبلغ نصاباً، وقد لا يكون معه شيء من ذلك، أو معه ما دون النصاب، والأمر في كل هذا يحتاج إلى بيان:
* تحرير محل النزاع:
__________
(1) المرجع السابق:3/92.
(2) المحلى:12/343.(5/45)
اتفقت كلمة الفقهاء على وجوب القطع على من سرق عبداً صغيراً من الحرز،(1) واتفقوا كذلك على عدم القطع إن كان كبيراً عاقلاً؛ لأن سرقته غير ممكنة إلا أن يكون نائماً(2) واتفقوا على منع القطع في سرقة الصبي المميز إن كان واعياً، أو لم يكن في حرز مثله. (3)
واختلفوا في الصبي الذي لا يميز وقسّموه إلى قسمين: إما أن يكون معه ما يبلغ نصاباً من مال أو حلي أو لا، فإن لم يكن معه مال فقد اختلفوا فيه على آراء:
* الرأي الأول: وهو للحنفية(4) والشافعية(5) والحنابلة. (6)
__________
(1) الإقناع في مسائل الإجماع :2/259 .
(2) الإجماع لابن المنذر، طبعة دار الدعوة، الطبعة الثالثة 1404 هـ ص 109، الكافي:4/121، كشاف القناع:6/130، المغني والشرح الكبير:10/118، المحلى:12/324.
(3) شرح فتح القدير: 5/370، حاشية الدسوقي:6/335، البيان:12/469، المغني والشرح الكبير:10/118.
(4) واختلفوا فيما لو كان لا يتكلم ولا يعقل فعند أبي حنيفة ومحمد ( يقطع؛ لأنه مال متقوم لا يد له على نفسه فهو بمنزلة الدابة يتعلق القطع بسرقته، وعند أبي يوسف( لا يقطع؛ لأن المملوك من جنس الحر،وإذا كان لا يقطع بسرقة جنسه من الأحرار فيصير ذلك شبهة؛ ولأن احرازه لا يتم فإن الصغير الذي لا يعقل يخرج إلى السكة، وقد يوضع في السكة ويترك ـ حرا كان أم مملوكا ـ وما لا يتم احرازه عادة فهو تافه في حكم القطع.
* نوقش هذا: بان التافه ما يوجد جنسه مباح الأصل في دار الإسلام غير مرغوب وذلك لا يوجد في المملوك خصوصا في الصغار منهم. يراجع الهداية:2/411، بدائع الصنائع: 7/67، المبسوط:9/140، 162، شرح فتح القدير: 5/370، الاختيار:3/107.
(5) الحاوي الكبير:13/303، البيان:12/469، تكملة المجموع:22/196.
(6) المغني والشرح الكبير:10/118، الكافي:4/121، كشاف القناع:6/130.(5/46)
ويرون أنه لا قطع بسرقة الحر الصغير أو العبد الذي يعبر عن نفسه، وإن كان عليه حلي يبلغ نصاباً فلا قطع فيه كذلك عند الحنفية ـ عدا أبو يوسف( ـ وكذا في الراجح عند الشافعية ووجه عند الحنابلة.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية . (1)
ويرون أن سرقة العبد الكبير الفصيح لا قطع فيها (2) وفي الصبي الصغير الذي يخدع حرا كان أو عبدا فيه القطع إن كان من حرز، وهناك رواية عن عبد الملك ( أنه لا قطع مطلقا، وقيد في المعونة بكونه حرا صغيرا، ورد في المعونة:"وإذا سرق حرا صغيرا قطع عند مالك(، وقال عبد الملك: لا قطع عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي (."(3)
* الرأي الثالث: وهو للشافعية في قول (4) وأبو يوسف من الحنفية. (5)
ويرون بقطع سارق الصبي إذا كان عليه حلي يبلغ نصاباً.
* الرأي الرابع: وهو للظاهرية . (6)
موقف الظاهرية غير واضح، ذلك أن ابن حزم ( قد مر على هذه المسألة مرور الكرام، فاقتصر على ذكر آراء الفقهاء لكنه لم يحدد موقفه بصورة قاطعة، وإن كان يُشَّمُ من عرضه للمسألة أنه يميل إلى قطع سارق الصبي ـ كما ذهب المالكية ـ مع مخالفته لهم في عدم اشتراطه الحرز؛ وذلك لأن النص الوارد في قطع سارق الصبيان ضعيف ،ولكن ابن حزم ( لا يري أن يرده لاحتمال كونه صحيحاً.
الأدلة
* أستدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:
__________
(1) المدونة الكبرى:4/420، الذخيرة:12/147، حاشية الدسوقي:6/335، حاشية الخرشي:8/314، المعونة:2/342.
(2) تعليق: وقد أشكل على محقق كتاب الذخيرة مسألة سرقة الفصيح الكبير، فذكر أنه فيه القطع، والصواب لا قطع فيه. الذخيرة:12/147.
(3) المعونة:2/343، المدونة الكبرى:4/420.
(4) البيان:12/469، الحاوي الكبير:13/304، تكملة المجموع:22/196.
(5) الهداية:2/411، شرح فتح القدير: 5/370، المبسوط:9/161. ويرى أبو يوسف بأن العبد الصغير كالكبير في عدم القطع.
(6) المحلى:12/325، السرقة الموجبة للقطع: ص 99.(5/47)
ـ أن الحر ليس بمال وما عليه من حلي تبع له.(1)
ـ أن الحر الصغير ليس بمال فلم يجب عليه القطع كالحر الكبير. (2)
ـ أن يد الصبي ثابتة على ما معه من الحلي، ولهذا لو وجد منبوذاً أو معه حلي كان له الحلي، فلم يجب القطع بسرقته كما لو سرق متاعاً ومالكه نائم عليه. (3)
ـ أن الصبي الحر إذا كان لا يمشي ولا يتكلم فيكون هو المقصود بالأخذ دون ما عليه و إلا لأخذ ما عليه وتركه، فهو ليس بمال، ولا قطع إلا بأخذ المال فلا يقطع، وإن كان إثمه وعقابه أشد من سارق المال. (4)
ـ أنه يتأول في أخذه الصبي اسكاته أو حمله إلى مرضعته.
* استدل أصحاب الرأي الثاني: بالكتاب والسنة والمعقول والقياس.
أما الكتاب: قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا.. } (5)
وجه الدلالة: أن الآية عامة في إيجاب قطع كل سارق , إلا ما خصه الدليل،و الاسم صادق على سارق الصبي وغيره. (6)
أما السنة: فما جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ : (("أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل يسرق (الصبيان) ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى فأمر بيده فقطعت. " (7)
أما المعقول : أن الصبي الصغير نفس مضمونة بالجناية فيقطع بسرقتها كسارق البهيمة، أو بجامع أنه غير مميز سرق من حرزه. (8)
ـ قياس الصبي الحر على المملوك.. (9)
أدلة أصحاب الرأي الثالث:
* وجه أبو يوسف ( في قطع سارق العبد.
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/67.
(2) البيان:12/469.
(3) المرجع السابق:12/469.
(4) شرح فتح القدير: 5/370.
(5) المائدة من الآية 38.
(6) أحكام القرآن للجصاص: 2/602، الذخيرة:12/140.
(7) ضعيف: سنن الدارقطني:3/202 رقم 359،وقال فيه الدارقطني تفرد به عبد الله بن محمد بن يحيى بن هشام وهو كثير الخطأ على هشام وهو ضعيف الحديث، البيهقي:8/268 رقم 17009 عن عبد الله بن محمد بن يحيى.
(8) الذخيرة:12/147.
(9) المرجع السابق:12/147.(5/48)
ـ أن العبد ليس بمال محض بل هو مال من وجه , أدمي من وجه فكان محل السرقة من وجه دون وجه , فلا تثبت المحلية بالشك فلا يقطع , كالصبي العاقل. (1)
ـ أن المقصود الحلي دون الصبي. (2)
ـ أنه سرق الحلي مع الصبي فوجب عليه القطع كما لو سرق الحلي منفرداً. (3)
المناقشة
* مناقشة أدلة الرأي الأول:
ـ بأن العبد الصغير مال من كل وجه؛ لوجود معنى المالية فيه على الكمال , ولا يد له على نفسه فيتحقق ركن السرقة - كالبهيمة - وكونه آدميا لا ينفي كونه مالا , فهو آدمي من كل وجه , ومال من كل وجه ; لعدم التنافي فيتعلق القطع بسرقته من حيث إنه مال , لا من حيث إنه آدمي , أما العاقل ; فهو وإن كان مالا من كل وجه لكنه في يد نفسه , فلا يتصور ثبوت يد غيره عليه ; للتنافي فلا يتحقق فيه ركن السرقة. (4)
* نوقش ما استدل به أصحاب الرأي الثاني:
ـ بأن ما استدلوا به من السنة ضعيف؛ لأنه تفرد به عبد الله بن محمد وهو كثير الخطأ عن هشام وهو ضعيف الحديث. (5)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من منع قطع سارق الصبي الذي ليس معه مال ولا حلي يبلغ نصاباًً؛ وذلك لعدم اعتباره مالا , إذ الحر لا يدخل تحت الملك , والمأخوذ ليس محلا ً للسرقة.
ـ أما إذا كان مع الصبي حلي يبلغ النصاب فالرأي الراجح هو ما قال به المالكية والشافعية في قول، والحنابلة في رواية , وأبو يوسف من الحنفية والظاهرية: من قطع هذا السارق؛ لأنه سرق نصابا ً و لا فرق بين كونه مع صبي أو غيره فصار كما لو سرق الحلي منفرداً. ً
__________
(1) بدائع الصنائع 7/67.
(2) المبسوط: 9/161.
(3) البيان: 12/469, تكملة المجموع: 22/196.
(4) شرح فتح القدير: 5/370, بدائع الصنائع: 7/67.
(5) ارواء الغليل: 8/67, سنن الدارقطني: 3/202 رقم 359.(5/49)
المسألة السادسة: النباش (1)
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين.
* سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف في هذه المسألة إلى اختلاف الفقهاء في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش، أو ليس بحرز فمن اعتبره حرزاً قال: بالقطع، ومن لم يعتبره حرزاً قال : بعدم القطع. (2)
ورد في الإفصاح (3) " واختلفوا في النباش فقال أبو حنيفة وحده :لا قطع عليه، وقال مالك، الشافعي، أحمد: عليه القطع."
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على آراء:
* الرأي الأول:وهو للمالكية(4) والشافعية(5) والحنابلة(6) وأبو يوسف من الحنفية .(7)
ويرون أن القبر حرز، وعلى النباش القطع إن سرق كفناً يساوي نصاباً.
* الرأي الثاني:أبو حنيفة ومحمد. (8)
ويرون القبر ليس بحرز فلا يقطع النباش فيما أخذ من القبور.
* الرأي الثالث: وهو للظاهرية (9)
ويرون القطع على النباش مطلقاً دون اشتراط للنصاب.
__________
(1) النباش: هو الذي يسرق أكفان الموتى بعد الدفن. شرح فتح القدير: 5/374.
(2) بداية المجتهد:6/177.
(3) الإفصاح لابن هبيرة: 2/208، الميزان الكبرى:2/226.
(4) المدونة:4/419،المعونة:2/344،الذخيرة:12/163.
(5) الأم:6/161،البيان:12/447، الحاوي الكبير:13/313، روضة الطالبين:10/129. هذا ويرى أبو إسحاق من الشافعية أنه إن نبش قبراً في برِّية لم يقطع؛ لأنه ليس بحرز للكفن وإن كان في مقبرة تلي العمران قطع.البيان:12/447.
(6) المغني والشرح الكبير:10/135، المبدع:7/442، الكافي:4/126، شرح الزركشي:6/349.
(7) بدائع الصنائع: 7/69، شرح فتح القدير:5/376.
(8) الاختيار:3/109، بدائع الصنائع: 7/69، المبسوط:9/159.
(9) المحلى:12/315.(5/50)
قال ابن حزم (:" والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن كل هذا لا معنى له،لكن الفرض هو ما افترض الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الرجوع إليه عند التنازع , إذ يقول تعالى: { . فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.. } (1) ففعلنا: فوجدنا الله تعالى يقول: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } ووجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب القطع على من سرق بقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها." (2). ووجدنا " " السارق " في اللغة التي نزل بها القرآن وبها خاطبنا الله تعالى: هو الآخذ شيئا لم يبح الله تعالى له أخذه , فيأخذه متملكا له , مستخفيا به - فوجدنا النباش هذه صفته. فصح أنه سارق , وإذ هو سارق , فقطع اليد على السارق , فقطع يده واجب - وبه نقول. (3)
الأدلة
* استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والآثار والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (4)
وجه الدلالة: أن السارق اسم جنس يتناول كل من أخذ الشيء على وجه الاستخفاء،وإن كان كل نوع من السرقة يختص باسم فيقال لمن نقب: نقاب، ولمن أخذ شيئاً من الجيب طرار، ولمن أخذ الكفن نباش. (5)
__________
(1) النساء من الآية 59.
(2) النسائي الكبرى:4/333 رقم 7388.
(3) المحلى:12/315.
(4) المائدة من الآية 38.
(5) البيان:12/448.(5/51)
أما السنة: ما رواه عبد الله بن الصامت - رضي الله عنه - عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: "((قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسعديك، فقال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت(يعني القبر) فيه بالوصيف (الخادم) (1)، قلت :الله ورسوله أعلم أو ما خار الله ورسوله، قال عليك بالصبر أو قال تصبر.")) (2) قال المنذري:استدل به أبو داود على أنه سمي القبر بيتا، والبيت حرز والسارق من الحرز يقطع.(3)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سمى القبر بيتاً. (4)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم -:"((من نبش قطعناه.")) (5)
أما الآثار: ما جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:"سارق موتانا كسارق أحيائنا." (6)
أما المعقول من وجوه:
1 ـ أن القبر حرز مثله؛لأن حرز كل شيء ما يليق به، فحرز الدواب بالاصطبل والشاة بالحظير، فلو سرق من شيء منها قطع. (7)
__________
(1) والمعنى: قال الخطابي البيت ها هنا القبر والوصيف الخادم يريد أن الناس يشتغلون عن دفن موتاهم حتى لا يوجد فيهم من يحفر قبر الميت أو دفنه إلا أن يعطي وصيفا أو قيمته، وقيل معناه: كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد حتى إنه يباع القبر بالعبد.عون المعبود:11/229.
(2) صحيح :سنن أبي داود: كتاب الحدود، باب في قطع النباش ج 4/142 رقم 4409، سنن البيهقي: كتاب السرقة، باب النباش يقطع إذا أخرج الكفن من جميع القبر، 8 /269 رقم 17015،
(7) نصب الراية:3/369.
(8) عون المعبود:11/229
(9 تلخيص الحبير:4/70.
( ) ضعيف: تلخيص الحبير:4/65، نصب الراية:3/369، الدراية :2/110.
(7) شرح فتح القدير: 5/335، الذخيرة:12/164، 165.(5/52)
2ـ أن السرقة أخذ المال على وجه الخفية ,وذلك يتحقق من النباش , وهذا الثوب (الكفن ) كان مالا قبل أن يلبسه الميت فلا تختل صفة المالية فيه بلبس الميت , و الناس تعارفوا منذ ولدوا إحراز الأكفان بالقبور , ولا يحرزونه بأحصن من ذلك الموضع فكان حرزا متعينا له باتفاق جميع الناس , ولا يبقى في إحرازه شبهة. (1)
3ـ أنه سارق للنصاب من مال لا شبهة له فيه من حرز مثله، فلزمه القطع كسائر السراق. (2)
4ـ أن سقوط القطع لا يخلوا أن يكون لعدم الملك أو الحرز، أو لعدم الخصومة، ولا يجوز أن يكون لعدم الملك؛ لأن الملك ثابت على الكفن إما للميت أو لورثته، ولا لعدم الحرز لأن القبر حرز للميت ولكفنه، ولأن حرز كل شيء ما جرت العادة به. (3)
5ـ أن القبر يقاس على المنازل وغيرها؛ لقوله تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً } (4) والكفت الستر، فالدور كفاة الأحياء، والقبر كفاة الأموات.
قال الزمخشري (:" والمعنى تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وقد استدل بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على قطع النباش بأن الله تعالى جعل الأرض كفاتا للأموات فكان بطنها حرزا لهم فالنباش سارق من الحرز." (5)
6ـ أن القطع إنما وجب صيانة للمال، وكفن الميت أحق بذلك؛ لأن الحي إذا أخذت ثيابه استخلف بدلها، والميت لا يستخلف، فكان إيجاب القطع لصيانة ثيابه أولى. (6)
* استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والمعقول.
أما السنة:فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((لا قطع على المختفي.")) (7) والمختفي هو النباش بلغة أهل المدينة. (8)
__________
(1) المبسوط:9/159.
(2) المعونة:2/344.
(3) المعونة:2/344، تكملة المجموع: 22/166، المغني والشرح الكبير:10/135.
(4) المرسلات أية 25.
(5) الكشاف للزمخشري:4/680.
(6) البيان:12/449.
(7) نصب الراية:3/370، الدراية :2/110 وقال فيه ابن حجر لم أجده هكذا.
(8) الهداية: 2/412، المبسوط 9/159، الذخيرة:12/164.(5/53)
أما الآثار: ما جاء عن الزهري ( قال:"((أخذ نباش في زمان معاوية زمان كان مروان على المدينة فسأل من كان بحضرته من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة والفقهاء فلم يجدوا أحدا قطعه قال: فأجمع
رأيهم على أن يضربه ويطاف به")). (1)
وجه الدلالة: أنه لو كان اسم السرقة يتناول النباش مطلقاً لما احتاج مروان إلى مشاورة الصحابة - رضي الله عنهم - مع النص، وما اتفقوا على خلاف النص. (2)
أما المعقول فمن وجوه:
1ـ أن الكفن ليس بمال ; لأنه لا يتمول بحال ; لأن الطباع السليمة تنفر عنه أشد النفار , فكان تافها , وعلى اعتبار أنه مال ففي ماليته قصور؛لأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي , والقصور فوق الشبهة , ثم الشبهة تنفي وجوب الحد , فالقصور أولى، وقد تمكن الخلل في المقصود وهو الانزجار؛لأن الجناية في نفسها نادرة الوجود. (3)
2ـ أن القبر ليس حرزا بنفسه أصلا , أو لا تحفظ فيه الأموال عادة. (4)
3ـ أنه لا يسمى سارقا بل نباشا.
4 ـ أن أركان السرقة مختلة ،أما السرقة فهي: اسم أخذ المال على وجه يسارق عين صاحبه , ولا تتصور مسارقة عين الميت , وإنما يختص النباش باعتبار أنه يرتكب الكبيرة كالزاني وشارب الخمر, والدليل عليه أنه ينفي هذا الاسم عنه بإثبات غيره فيقال: نبش وما سرق .
ـ أما المالية , فإنها عبارة عن التمول والادخار لوقت الحاجة , وهذا المقصود يفوت في الكفن , فإن الكفن مع الميت يوضع في القبر للبلى.
ـ أما انعدام صفة المملوك ؛فلأن المملوك لا يكون إلا لمالك والكفن ليس بملك لأحد ; لأنه مقدم على حق الوارث , ولا يصير مملوكا للميت; لأنه مناف للمالكية.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة: ما جاء في النباش يؤخذ ما حده ج 5/523،نصب الراية:3/367
(2) المبسوط:9/159.
(3) الهداية:2/412 بدائع الصنائع: 7/68،69.
(4) بدائع الصنائع: 7/76, الذخيرة: 12/165.(5/54)
ـ أما الحرزية فالكفن غير محرز; لأن الإحراز بالحافظ والميت لا يحرز نفسه فكيف يحرز غيره والمكان حفرة في الصحراء فلا يكون حرزا. (1)
5 ـ أن الكفن إنما يوضع للبلى لا الحفظ.
6ـ أنه مال مدفون فلا يقطع فيه كالبذر. (2)
7ـ أن مشروعية الحد للانزجار , والحاجة إليه لما يكثر وجوده , فأما ما يندر فلا يشرع فيه لوقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعا. (3)
* أدلة الرأي الثالث: (الظاهرية)
أن السارق في اللغة هو الآخذ شيئا لم يبح له أخذه فيأخذ ه مملوكا له مستخفيا ً به , فوجدنا النباش هذه صفته , فصح أنه سارق و إذا هو سارق فقطع اليد على السارق. (4)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:نوقش دليلهم الأول من السنة بما يلي:
ـ أن الحديث غير مرفوع بل هو من كلام زياد، وإن صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع نباشاً أو أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فإنه يحمل على انه كان ذلك بطريق السياسة، وللإمام رأي في ذلك، (5) أو هو حديث منكر، وإنما أخرجه البيهقي وصرح بضعفه..، ولأن في سنده من يجهل حاله؛ كبشر بن حازم وغيره. (6)
نوقش دليلهم الثاني من السنة:
ـ بأن الاستدلال بتسمية القبر بيتاً بعيد؛ لأن إطلاقه على سبيل المجاز ؛إذ البيت يحوطه أربع حوائط وليس القبر كذلك، ثم إن حقيقة البيت لا تستلزم أن يكون حرزاً فقد يصدق لفظ البيت مع عدم الحرز أصلاً كالمسجد. (7)
ونوقش ما جاء عن ابن الزبير - رضي الله عنه -: بأنه ضعيف ذكره البخاري في التاريخ ثم أعله بسهيل بن ذكوان المكي، قال عطاء :كنا نتهمه بالكذب. (8)
ونوقش قولهم بأن القبر حرز مثله:
__________
(1) المبسوط: 9/159, 160.
(2) الذخيرة: 12/165.
(3) شرح فتح القدير: 5/376.
(4) المحلى: 12/315.
(5) المبسوط:9/159، حاشية رد المحتار:6/156.
(6) شرح فتح القدير:5/375.
(7) المرجع السابق:5/376.
(8) ارواء الغليل:8/75، شرح فتح القدير:5/375.(5/55)
بأن القبر ليس حرزاً للكفن لأنه حفرة في الصحراء مأذون للعموم في المرور به ليلا ونهارا ،ولا غلق عليه ولا حارس متصد لحفظه فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز، وهذه مجرد تسمية ادعائية بلا معنى وهو ممنوع. وعلى فرض التسليم بأنه حرز فلا ينزل عن أن يكون في حرزيته شبهة وبه ينتفي القطع ويبقى ثبوت الشبهة في كونه مملوكاً. (1)
وقد أجيب عن هذا:بأن حرز كل شيء بمثله، فالكفن يحتاج إلى تركه في القبر دون غيره، وقد تعارف الناس على ذلك.
و نوقش هذا: القول بأن الناس تعارفوا إحراز الكفن في القبر،ليس كذلك بل إنما يدفنون الميت للمواراة عن أعين الناس وما يخاف عليه من السباع لا للإحراز , لأن الدفن يكون في ملأ من الناس , ومن دفن مالاً على قصد الإحراز , فإنه يخفيه عن الناس , وإذا فعله في ملأ منهم على قصد الإحراز ينسب إلى الجنون. (2)
وقد أجيب عن هذا:بأن محل الحرز هو الكفن لا الميت والقبر يصلح أن يكون حرزاً له.
مناقشة أدلة الرأي الثاني :نوقش خبر مروان بما يلي:
ـ أنه مذهب له ، وقد عارضه فعل من قولُه وفعله أوكد وهو ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز- رضي الله عنهم - .
ـ أنه يجوز أن يكون سقوط القطع لنقصان قيمته عن مقدار القطع، أو أنه يجوز أن يكون النباش لم يخرج الكفن من القبر، والقطع لا يجب إلا بعد إخراجه من القبر؛ لأن جميع القبر حرز له. (3)
و نوقش قولهم بأن القبر ليس حرزاً لغير الكفن ولا مالك له:
أن الحرز معتبر بالعادة التي لا يقترن بها تفريط، والعادة في الأكفان إحرازها في القبور، ولا ينسب فاعلها إلى تفريط فصار إحرازا، وليس إذا كان حرزاً لها صار حرزاً لغيرها؛ لأن الأحراز تختلف بحسب اختلاف الحرزات. (4)
و نوقش قولهم بأنه موضوع للبلى من جهتين:
__________
(1) شرح فتح القدير:5/376.
(2) المبسوط:9/160.
(3) الحاوي الكبير:13/315.
(4) الحاوي الكبير:13/315.(5/56)
ـ أن الاعتبار بحاله عند أخذه، ولا اعتبار بما تقدم أو تأخر؛ كالبهيمة المريضة إذا شارفت على الموت.
ـ أن تعرضه للبلى لا يمنع وجوب القطع فيه؛ كدفن الثياب في الأرض؛ ولأن ثياب الحي معرضة للبلى باللباس، ولا يوجب ذلك سقوط القطع فيها كذا الأكفان، أو بأن القصد حفظه عليه في القبر حتى يبلى، فكونه لا يبلى لا ينافي قصد الحفظ. (1)
و نوقش قولهم بأنه لا مالك له من جهات:
ـ أنه ملك للميت خاصة لاختصاصه به، وليس يمنع أن يكون مالكاً له في حياته وباقياً على ملكه بعد موته؛ كالدين ثابت في ذمته أثناء حياته، وفي حكم الثابت في ذمته بعد موته.
ـ أن الكفن ملك للورثة، وقد استحق الميت منافعه؛ كالتركة إذا كان عليها دين فكلها للورثة واستحق الميت عليهم قضاء دينه.
ـ على فرض أنه لا مالك له؛ لا الميت والورثة فيقاس على قطع ما لا مالك له كما يقطع في أستار الكعبة وآلات المساجد. (2)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فما تميل النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول بقطع النباش إذا سرق كفنا يساوي نصاباً، وذلك للأسباب الآتية:
1 ـ قوه أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
2 ـ أن فعله يوصف بالسرقة؛ حيث أخذ مالاً متقوماً، متحرزاً، خفية،معلوماً لغيره ولا ملك له فيه، بل إن فعله أشد من السارق لانتهاكه حرمة الميت وهيبة الموت.
3 ـ أن حرز كل شيء بمثله، فلا يشترط كونه مختفياً عن الناس، بل الشرط كونه محرزاً عن استعمال الناس.
3ـ أن عمل السلف على هذا ، قال ابن القطان : "وأجمع التابعون ورجل قبلهم من الصحابة ، لامخالف ،أن النباش يقطع ."(3)
المسألة السابعة: السرقة من بيت المال أو من الغنيمة.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على آراء:
__________
(1) الذخيرة:12/165، الحاوي الكبير:13/316.
(2) الحاوي الكبير:13/316،317 بتصرف يسير.
(3) الإقناع في مسائل الإجماع :2/260 .(5/57)
* الرأي الأول: وهو للحنفية(1) والشافعية(2) والحنابلة. (3)
ويرون أن لا قطع على من سرق من بيت المال أو الغنيمة من الخمس.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية. (4)
ويرون أن من سرق من بيت المال أو الغنيمة بعد حرزها قطع مطلقاً.
* الرأي الثالث:وهو للظاهرية. (5)
وقد قسموا أصول السرقة من بيت المال إلى ما يلي:
ـ إذا لم يكن للسارق في بيت المال نصيب محدد ومعروف المقدار، وأخذ منه ما يجب في مثله القطع ، وجب قطعه، وإن كان له فيه نصيب فهو على أصول:
ـ إن أخذ زائداً على نصيبه مما يجب في مثله القطع قطع إذا لم يمنع من حقه.
ـ إن أخذ أقل من نصيبه فلا قطع عليه.
ـ إذا لم يكن له سبيل لأخذ حقه إلا بسرقته، وأخذ أزيد من حقه فلا قطع عليه ويجب رد الزيادة فقط؛ لأنه مضطر إلى أخذ ما أخذ،
الأدلة
* استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة والآثار والمعقول:
__________
(1) الهداية:2/412، 414، بدائع الصنائع: 7/70، شرح فتح القدير: 5/376، 383.
(2) البيان:12/470، الحاوي الكبير:13/350، روضة الطالبين:10/118. وقد قيد الشافعية هذا الأمر فقالوا:" إذا سرق من مال الغنيمة فلو كان ممن شهد الوقعة أو أحد والديه أو مولوديه لم يقطع؛ لوجود الشبهة، أما إذا لم يكن شهد الوقعة أو أحد من أنسابه نظر فإن كان الخمس باقياً في الغنيمة لم يقطع لشبهته في خمس الخمس، فإن أخرج الخمس منه قطع فيه. " وبمثل هذا قال الحنابلة. الحاوي الكبير:13/350، روضة الطالبين:10/118، الكافي:4/123.
(3) المغني والشرح الكبير:10/138، الكافي:4/123، الروض المربع: 495، الإنصاف:10/279.
(4) المعونة:2/344، حاشية الدسوقي:6/341، حاشية الخرشي:8/320، الذخيرة:12/142، 154." ويرى عبد الملك فيه القطع إن سرق ربع دينار زائدا عن سهمه؛ لأن فيه شبهة، وقال سحنون(: يقطع السارق من بيت المال مطلقاً بخلاف المغم؛ لن بيت المال لا يجب إلا بعد أخذه.الذخيرة:12/154.
(5) المحلى:12/313.(5/58)
أما السنة: فما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - " ((أن عبد من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقطعه وقال: مال الله سرق بعضه بعضاً.")) (1)
وجه الدلالة: هذا الحديث يفيد أن سرقة العبد من مال الغنيمة لا تقطع فيها اليد؛ لأنه سرقة غير تامة لشبهة الملك فيها.
أما الآثار:
ـ فما رواه عبد الرزاق في مصنفه قال:" ((أتي عليً برجل سرق من المغنم فقال :له فيه نصيب ،وهو خائن ،فلم يقطعه وكان قد سرق مغفراً.")) (2)
ـ وما ورد أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - قال لابن مسعود - رضي الله عنه - حين سأله عمن سرق من بيت المال، أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق." (3)
ـ وما جاء عن سيدنا علي - رضي الله عنه - " ليس على من سرق من بيت المال قطع. (4)
أما المعقول:
ـ أنه مال العامة وهو منهم، وله فيه ملكاً وحقاً فكان في ذلك شبهة. (5)
*استدل أصحاب الرأي الثاني:بالكتاب والمعقول .
أما الكتاب : فقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (6)
ـ وجه الدلالة: أن الآية عامة لم تخص سارق من سارق، ولا سرقة دون سرقة.
__________
(1) إسناده ضعيف: سنن ابن ماجه :كتاب الحدود ، باب العبد يسرق ، 2/864 رقم 2590 ، سنن البيهقي الكبرى: كتاب السرقة، باب من سرق من بيت المال شيئا، 8/282 رقم 17084، 9/100 رقم 17980، وقال فيه: إسناده فيه ضعف، ونص ابن حجر و الزيلعي ( على ضعفه: تلخيص الحبير:4/69، نصب الراية:3/368 ، الكامل في ضعفاء الرجال :2/229 .
(2) مصنف عبد الرزاق: كتاب اللقطة، باب الرجل يسرق شيئا له فيه نصيب 10/212 رقم 18871،نصب الراية:3/373.
(3) صحيح الإسناد: سنن البيهقي: 6/347 رقم 12757، إرواء الغليل:5/83.
(4) ضعيف: سنن البيهقي:8/282 رقم 17081، تلخيص الحبير:4/69.
(5) شرح فتح القدير:5/376، المبسوط:9/188، الكافي:4/123.
(6) المائدة من الآية 38.(5/59)
أما المعقول :أن الملك لا يحصل إلا بالقسمة، وللإمام صرف العين عنه بالملكية. (1)
ـ أنه سرق مالاً من حرز لا شبهة له في عينه كغير المغنم. (2)
ـ أن كل مال تقبل شهادته فيه جاز أن يقطع في السرقة منه؛ كمال الأجنبي. (3)
* أدلة أصحاب الرأي الثالث:
ـ قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (4)
وجه الدلالة:أن الله - سبحانه وتعالى - لم يخص سارقاً من بيت المال من غيره، ولا سارقاً من المغنم، ولا سارقاً من مال له فيه نصيب من غيره.
ـ واستدلوا على عدم قطعه إذا اضطر إلى أخذ نصيبه، وليس له طريق إلا ذلك، بأنه مضطر إلى أخذ ما اخذ إذا لم يقدر على تخليص مقدار حقه (5) وذلك لقوله تعالى: { .. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ. { (6)
المناقشة
* نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ أن ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - لا يصلح للاحتجاج به لضعف إسناده (7) وعلى فرض صحته فإنه ليس على عمومه،إنما هو خاص برقيق بيت المال بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - " مال الله سرق بعضه بعضاً."
وقد أجيب عن هذا: بأن الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أن هناك آثار مروية عن الصحابة - رضي الله عنهم - تقوي العمل بمضمون هذا الحديث.
وناقش ابن حزم ( استدلالهم من المعقول بما يلي:
__________
(1) الذخيرة:12/154.
(2) المعونة:2/345.
(3) المرجع السابق:12/345.
(4) المائدة من الآية 38.
(5) المحلى:12/313.
(6) سورة الأنعام من الآية 119.
(7) الكامل لابن عدي:2/229، نصب الراية:3/368.(5/60)
ـ احتجاجهم بأن له في ذلك نصيبا - فهذا ليس حجة في إسقاط حد الله تعالى , إذ ليست هذه القضية مما جاء به القرآن , ولا مما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مما أجمعت عليه الأمة، فلا حجة لهم في غير هذه العمد الثلاث، وكونه له في بيت المال وفي المغنم نصيب لا يبيح له أخذ نصيب غيره ; لأنه حرام عليه بإجماع لا خلاف فيه. (1)
وقد أجيب عن هذا:
ـ بأن كونه له فيه نصيب ليس مسقطاً للحد بل هو شبهة دارئة للحد.
و نوقشت أدلة أصحاب الرأي الثاني بما يلي:
ـ أن المال لم يقسم بعدُ، وذلك يحدث شبهة، والشبهة تدرأ الحد.
ـ أن قياس غير المغنم على المغنم قياس مع الفارق؛ إذ المغنم له نصيب فيه بخلاف غيره.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه الحنفية والشافعية والحنابلة من أنه إذا سرق من مال الغنيمة لم يقطع لشبهة الخمس، وذلك للأسباب الآتية:
1 ـ قوة أدلتهم وموافقتها لسماحة التشريع.
2 ـ أن الحدود يحتال في درئها ما لا يفعل في غيرها.
3 ـ أن ما ذهب إليه المالكية مخالف لحديث " درء الحدود بالشبهات."
4 ـ أن ما ذهب إليه الظاهرية من التفصيل لا دليل عليه، وقد ناقضوا أنفسهم إذ أثبتوا في أول القول عموم السرقة ثم خصُّوا أنواعاً منها بالإسقاط ولا دليل على ذلك.
5 ـ أن الحديث الذي استدل به أًصحاب الرأي الأول وإن كان في سنده مقال، إلا انه لا أقل من أنه يورث شبهة في إقامة الحد.
وبترجيح هذا الرأي لا يظن البعض أن مثل هذا السارق يترك هكذا، بل إنه يعزر تعزيراً شديداً لاعتدائه على مال المسلمين إذ هذه السرقة أمرها عظيم وأثرها خطير.
المسألة الثامنة: سرقة المصاحف
__________
(1) المحلى:12/312.(5/61)
اختلف الفقهاء في هذه المسالة على آراء:(1)
* الرأي الأول:أبو حنيفة ومحمد(2) والحنابلة في رواية. (3)
فيرى الحنفية أن لا قطع في سرقة المصحف مطلقاً وإن كان عليه حلية، وعند الحنابلة كذلك إلا أن تكون عليه حلية،ففيه روايتان بالقطع وعدمه.
* الرأي الثاني:وهو للمالكية (4) والشافعية (5) والحنابلة في رواية أخرى (6) وأبو يوسف. (7) ويرون القطع في سرقة المصحف إذا بلغت حليته نصاباً.
* الرأي الثالث: وهو للظاهرية (8) وأبو يوسف في رواية أخرى عنه. (9)
ويرون أنه يقطع في سرقة المصحف مطلقاً سواء أكانت عليه حلية أم لا.
الأدلة
* استدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول من عدة جهات :
ـ أن المصحف يدخر لا للتمول بل للقراءة، وللوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به. (10)
ـ أن الآخذ متأول؛ إذ الناس لا يضنون ببذل المصاحف الشريفة لقراءة القرآن العظيم عادة، وهذا التأول في أخذه للقراءة والنظر فيه، مسقط للحد. (11)
ـ أن المقصود ما في المصحف لا عين الجلد والبياض، ولا يمكن إيجاب القطع عليه باعتبار هذا المقصود؛ لأن ذلك ليس بمال فيصير ذلك شبهة. (12)
__________
(1) ورد في الإقناع : 2/259 "و أجمعوا أن سارق المصحف إذا ساوى (هكذا في الأصل وأظنها سرق ) ما يجب به القطع ،يقطع إلا أبا حنيفة فإنه قال :لا يقطع فيه استحساناً."
(2) الاختيار:3/107، بدائع الصنائع: 7/68، المبسوط:9/152.
(3) المغني والشرح الكبير:10/119، الإنصاف:10/159.
(4) الذخيرة:12/155، المدونة الكبرى:4/418، المعونة:2/343.
(5) البيان:12/441، الحاوي الكبير:13/304.
(6) المغني والشرح الكبير:10/119، الإنصاف:10/259.
(7) بدائع الصنائع: 7/68، الجامع الصغير: ص 295.
(8) المحلى:12/326.
(9) شرح فتح القدير: 5/369.
(10) بدائع الصنائع: 7/68، الجامع الصغير: 495.
(11) الهداية:2/410، بدائع الصنائع: 7/72، حاشية رد المحتار:6/154.
(12) المبسوط:9/152، المعونة:13/305.(5/62)
ـ أن المقصود منه ما فيه من كلام الله، وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه. (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالمعقول من جهات :
1ـ أنه مال متقوم فيجوز بيعه فتعلق بسرقته القطع كسائر الأموال. (2)
2ـ أنه مال محرز يباع ويشترى. (3)
3ـ أن ورق المصحف مال، وبما كتب فيه إزداد به ولم ينتقص.
4ـ أنه يقطع في ورق المصحف إذا لم يكن مكتوباً،كان القطع فيه بعد كتابته أولى؛ لأن ثمنه أزيد والرغبة فيه أكثر، فلا يجوز أن يقطع فيه قبل الزيادة ويسقط القطع مع الزيادة. (4)
استدل أصحاب الرأي الثالث:
ـ بقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }
وجه الدلالة: أن الآية عامة في كل سارق، سواء أسرق مصحفاً أو غيره، فصح أن القطع واجب في سرقة المصحف، كانت عليه حلية أو لم تكن. (5)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول من جهتين :
الجهة الأولى :
قولهم أن المقصود منه القراءة لا التمول مردود بأنه يجوز بيعه. (6)
وقد أجيب عن هذا:
أن بيع المصحف محل خلاف بين الحرمة والجواز والكراهة. (7)
الجهة الثانية :
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/119.
(2) المبسوط:9/152، البيان:12/141، الحاوي الكبير:13/305.
(3) شرح فتح القدير:5/368، المعونة:2/343.
(4) الحاوي الكبير:13/305.
(5) المحلى:12/326.
(6) الذخيرة:12/155.
(7) الذخيرة:12/155، الفروع:4/15، المحلى:7/554، الموسوعة الفقهية:9/332.(5/63)
الادعاء بأن له فيه حق التعلم مردود, إنما حق المتعلم في التلقين فقط , لا في مصحف الناس أصلا , إذ لم يوجبه قرآن , ولا سنة , ولا إجماع. وإنما فرض على الناس تعليم بعضهم بعضا القرآن - تدريسا وتحفيظا - وهكذا كان جميع الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف من أحد , أنه لم يكن هنالك مصحف , وإنما كانوا يلقنه بعضهم بعضا , ويقرئه بعضهم بعضا , فمن احتاج منهم أن يقيد ما حفظ كتبه في الأديم , وفي اللخاف , والألواح , والأكتاف فقط. فبطل قوله " إن للسارق حقا في المصحف " وصح أن لصاحب المصحف منعه من كل أحد , إذ لا ضرورة بأحد إليه. (1)
وقد أجيب عن هذا:
ـ سلمنا بأن الصحابة كان يلقن بعضهم بعضاً، ولا نسلم أنه ليس للسارق حق فيه , إذ حقه ـ كما تقولون ـ في التلقين , والتلقين يكون بالمكتوب , إذ المصحف لا يطلق عليه مصحف إلا بالمكتوب فيه , والسارق له حق في ذلك ـ كما قلتم ـ فأورث ذلك شبهة , والحدود تدرأ بالشبهات.
مناقشة أدلة الرأي الثاني والثالث :
أنه يجب صون المصحف عن أن يكون في معنى السلع المبتذلة بالبيع والشراء , وقياس القطع في ورق المصحف إذا لم يكن مكتوباً فيه ، على ما كتب فيه، قياس مع الفارق؛ لأن قطع يد السارق بسرقة الورق قبل الكتابة فيه لا يورث شبهة حينئذ؛لأن المقصود به الأوراق , وهي متمولة , أما بعد الكتابة فقد أورث ذلك شبهة في أنه أخذ للقراءة.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يظهر ما يلي: ـ
ـ أن استدلالا ت الفقهاء جميعا ًمن المعقول أو أخذاً بالعموم.
ـ أن ما قال به الحنفية (, ومن وافقهم من عدم القطع مطلقاً رأي له وجاهته , ولكنه لا يستقيم إذا كان على المصحف حلي يبلغ نصاباً؛إذ السرقة حينئذ تكون للحلية والمصحف تبع له , والشبهة هنا غير معتبرة؛ إذ أنها شبهة ضعيفة , وليست كل الشبه مسقطة للحد.
__________
(1) المحلى:12/325 وما بعدها.(5/64)
ـ أن ما قال به الظاهرية من القطع مطلقا ً سواء أكان على المصحف حلية أم لا , غير مسلم؛ لأن الشبهة حينئذ قوية في أنه أخذه للقراءة؛إذ لا مصلحة له فيه غير هذا , واعتباره مال كسائر الأموال يجب صيانة القرآن عن القول بمثل هذا.
لكل ما سبق فما تميل النفس إلي ترجيحه ـ هو أنه إذا كان المصحف مجردا ً عن كل حلية فلا قطع على سارقه , وبالتأمل نجد أن أصحاب الرأي الأول والثاني أقوالهم تكاد تكون متفقة في هذا الأمر. أماإن كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصابا ًفالقطع على سارقه؛ إذ المقصود حينئذ الحلية , واعتبار أنه أخذه ـ ليقرأ فيه شبهة ضعيفة لا يعتد بها , وليست كل شبهة دارئة للحد هي الشبهة القوية لا الضعيفة.
المسألة التاسعة: سرقة الطير والصيد.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين: ـ
* الرأي الأول: وهو للحنفية. (1)
ويرون أن لا قطع في الطير ولا في الصيد المباح الأصل وحشياً كان أو غير ه , وكذلك ما علم من الجوارح فصار صيداً ، فلا قطع على سارقه؛ لأنه وإن علِّم فلا يعد مالا.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية(2) والشافعية.(3)
ويرون أن سرقة الطير فيها القطع إذا بلغت نصاباً ربع دينا ر أو ثلاثة دراهم , وكذا سباع الوحش والصيد إن كانت قيمة جلودها إذا ذكيت قبل أن تذبح نصابا ففيها القطع.
* الرأي الثالث: وهو للحنابلة. (4)
ويرون عدم القطع في سرقة الطير , ووافقوا على هذا الحنفية ( , ويقطع في الصيد إذا كان محرزاً, ووافقوا بهذا جمهور الفقهاء.
* الرأي الرابع: وهو للظاهرية. (5)
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/68, المبسوط: 9/154, الجامع الصغير: ص 295, شرح فتح القدير: 5/364, الفتاوي الهندية: 2/195.
(2) المدونة الكبرى: 4/419, حاشية الخرشي: 8/315, حاشية الدسوقي: 6/337, الذخيرة: 12/417, فتح الجليل: 9/2.
(3) البيان: 12/440, الحاوي الكبير: 13/276.
(4) الإنصاف:10/256, المبدع: 6/124, الكافي: 4/121.
(5) المحلى: 12/320, 321.(5/65)
ويرون أنه يقطع سارق الطير والصيد المتملك مطلقاً سواء أكان محرزا أم لا
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة والآثار و المعقول.
أما السنة:
فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((الصيد لمن أخذه.")) (1)
وجه الدلالة: أن هذا الحديث يورث الشبهة، والحدود تندريء بالشبهات
أما الآثار: فما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن يزيد بن خصيفة قال:أتي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - برجل سرق طيراً , فاستفتى في ذلك السائب بن يزيد - رضي الله عنه - فقال: ما رأيت أحدا قطع في الطير , وما عليه في ذلك قطع , فتركه عمر - رضي الله عنه - ولم يقطعه. (2)
ـ وما جاء عن عبد الله بن يسار قال: أتي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -في رجل سرق دجاجة فأراد أن يقطعه فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن - رضي الله عنه -: قال: عثمان لا قطع في الطير. (3)
وجه الدلالة: أن هذا مما لا مجال للرأي فيه فحكمه حكم السماع. (4)
أما المعقول:
ـ أن الطير مما لا يتمول عادة إذ هو مباح أصلاً. (5)
ـ أن هذا يوجد مباح الأصل بصورته غير مرغوب فيه , ولا يتم إحرازه في الناس عادة والطباع لا تضن به. (6)
ـ أن فعله اصطياد من درجة والاصطياد مباح. (7)
استدل أصحاب الرأي الثاني والثالث: بالكتاب والسنة والمعقول .
أما الكتاب: قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (8)
__________
(1) لا أصل له: الدراية: 2/256، نصب الراية: 4/318.
(2) مصنف ابن أبي شيبة: باب الرجل يسرق الطير أو البازي ما عليه،5/522 رقم 28607، الدراية:2/109، نصب الراية:3/360.
(3) ضعيف : مصنف ابن أبي شيبة:باب ما جاء في النباش يؤخذ ما حده 5/523 رقم 28608.
(4) شرح فتح القدير: 5/365.
(5) بدائع الصنائع: 7/68, الإنصاف:/ 10/256.
(6) المبسوط: 9/145, شرح فتح القدير: 5/365.
(7) المبسوط: 9/145.
(8) المائدة من الآية 38.(5/66)
وجه الدلالة: أن الآية عامة لم تفرق بين سارق وآخر , أو بين سرقة وأخرى , فكل من سرق نصابا يطلق عليه سارق سواء أكان طيراً أو غيره.
أما السنة:فما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -"((قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.")) (1)
وجه الدلالة:أن القطع لم يجب بسرقة المجن بعينه ,وإنما كان ذلك؛لأن قيمته نصاباً , قال ابن عبد البر:"وهو يوجب القطع في كل عرض مسروق يبلغ ثمنه ثلاثة دراهم:. (2)
أما المعقول:
ـ أنه جنس مال متمول فوجب القطع بسرقته كسائر الأجناس. (3)
ـ أن المتعلق بالأموال المأخوذة بغير حق حكمان: ضمان وقطع , فلما كان الضمان عاما في جميع الأموال وجب أن يكون القطع عاما في جميع الأموال. (4)
استدل أصحاب الرأي الرابع:
بقوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (5)
قال ابن حزم ( بعموم الآية حيث لم يخص الله - سبحانه وتعالى - و لا رسوله - صلى الله عليه وسلم - طيرا أو غيره , ولو أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يخص من القطع من سرق الطير لما أغفل ذلك ولا أهمله , فلم يرد الله - سبحانه وتعالى - قط إسقاط القطع عن سارق الطير بل أمر بقطعه نصاً. (6)………………
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول :
نوقش الحديث الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا أصل له. (7)
ونوقش الأثر الوارد عن سيدنا عثمان - رضي الله عنه - بأنه من رواية الزهري عن عثمان - رضي الله عنه - ولم يلقه فكان مرسلا ً. (8)
__________
(1) صحيح:سبق تخريجه 224.
(2) الاستذكار:7/530.
(3) الحاوي الكبير: 13/276.
(4) المرجع السابق: 13/276.
(5) المائدة من الآية 38.
(6) المحلى 12/320 باختصار.
(7) الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/256.
(8) الحاوي الكبير: 13/277.(5/67)
وناقشهم ابن حزم ( بقوله " فإن قالوا أن الصيد يشبه الطير في أنهما حيوان مباح من أصله , قيل لهم فأسقطوا على القياس القطع عمن سرق ياقوتا ً أو ذهبا أو نحاسا أو حديدا أو رصاصاً....؛ لأن هذا كله أجسام مباحة في الأصل غير متمكنة كالصيد , ولا فرق فهذا تشبيه أعم من تشبيهكم , وعلة أعم من علتكم. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فما تميل النفس إلى ترجيحه هو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية ومن وافقهم من أن سرقة الطير والصيد فيها القطع إذا كانت محرزة وتبلغ نصابا ً؛ لأنها حينئذ مالا متملكا متقوما ً
ـ أن الآثار التي استدل بها الحنفية محمولة على كونها مباحة لا مالك لها , أو أن قيمتها لم تبلغ النصاب , والاحتمال يسقط الاستدلال.
ـ أن ما ذهب إليه الظاهرية من القول: بالعموم فمنقوض بأدلة اشتراط الحرز , وبلوغ النصاب؛ لأجل هذا كان رأي الجمهور هو الراجح.
المسألة العاشرة: السرقة من الحمام.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على آراء:
*الرأي الأول:وهو للحنفية(2) والحنابلة في رواية. (3)
ويرون أن لا قطع على من سرق من الحمام مالاً في وقت الإذن فيه بالدخول، أما إن كان ليلاً فيقطع وذلك لأنه بني للحفظ، وهذا عند أبي يوسف ومحمد (، أما رأي الإمام أبي حنيفة ( ففيه القطع حتى في وقت الإذن .
* الرأي الثاني: وهو للمالكية (4) والشافعية، (5) والحنابلة. (6)
__________
(1) المحلى 12: 320.
(2) الهداية:2/414، شرح فتح القدير: 5/385، المبسوط:9/150، حاشية رد المحتار:6/162، أحكام القرآن للجصاص:4/67.
(3) المغني والشرح الكبير:10/121.
(4) المدونة الكبرى:4/416، الذخيرة:12/159، حاشية الدسوقي:6/349، منح الجليل:9/320.
(5) روضة الطالبين:10/141، البيان:12/452، الحاوي الكبير:13/309، نهاية المحتاج:7/450.
(6) المغني والشرح الكبير:10/129، الكافي:4/126.(5/68)
ويرون أن السارق من الحمام نصاباً من آلاته أو من ثياب الداخلين؛ يقطع إن كان دخله للسرقة لا للاستحمام، وإن سرقه من بابه أو دخله مغتسلاً فسرق لم يقطع؛ لأنه خائن، فإن نقب وسرق قطع لعدم الإذن، وعند الحنابلة يقطع سارق الحمَّام إذا كان للمتاع حافظ، فإن لم يكن له حافظ فلا قطع.
* الرأي الثالث: وهو للظاهرية. (1)
ويرون قطع السارق من الحمَّام مطلقاً.
الأدلة
* استدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول من جهتين:
الأولى :أن الحمام صالح لإحراز الأموال، إلا أنه اختل شرط الحرز للإذن في دخولها؛ ولذا يقطع إذا سرق منه ليلاً؛ لأنها بيت لإحراز الأموال، وإنما الإذن يختص بالنهار. (2)
الثانية :أن الإذن موجود في الدخول من جهة مالك الحمام والدار، فخرج الشيء من أن يكون محرزا من المأذون له في الدخول. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني بما يلي :
ـ أن سبب سقوط القطع هو الإذن في لبس ثياب بعضهم بعضاً ،وكذا الإذن في تنحيتها عن أماكنها ووضع ثيابه مكانها. (4)
استدل أصحاب الرأي الثالث بما يلي :
ـ أن السارق من الحمَّام يطلق عليه سارق فالقطع عليه بنص القرآن، ولو أراد الله - سبحانه وتعالى - تخصيص ذلك لما أغفله. (5)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ أن الأحراز معتبرة بالعرف، والعرف جارِ بأن الحمام حرز للثياب داخله، وليس الإذن في دخوله بمانع من أن يكون حرزاً، فإن المسجد أعم دخولاً وأكثر غاشية وهو حرز لمن نام فيه ووضع ثيابه تحت رأسه. (6)
__________
(1) المحلى:12/313.
(2) الاختيار:3/104، شرح فتح القدير:5/385، الهداية:2/414، المبسوط:9/151.
(3) أحكام القرآن للجصاص:4/67.
(4) الذخيرة:12/159.
(5) المحلى:12/313.
(6) الحاوي الكبير:13/313.(5/69)
وقد أجاب عن هذا الحنفية بأن هناك فرق بين الحمام والمسجد؛ إذ الحمام مأذون في دخوله بإذن المالك فهو غير حرز من المأذون له في الدخول وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي فصار كالمفازة والصحراء , فإذا سرق منه وهناك حافظ له قطع. (1)
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الثالث بما يلي :
ـ بأن القول بقطع السارق يخالف معنى الحرز واشتراط النصاب.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها،فما تطمئن النفس إلى ترجيحه ، هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من قطع السارق من الحمام إذا كان مع المتاع من يحفظه , وذلك لقوة أدلتهم , وأنه ليس اعتبار الإذن بالدخول مبيحاً لسرقة الشيء المحرز فبالحرز صار المأذون له ممنوعا من أخذ هذا الشيء , فكأنه أذن له في كل شيء إلا هذا , أما إذا لم يكن ثمة حافظ فلا قطع على السارق لشبهة الإذن.
المسألة الحادية عشر: سرقة ما يتسارع إليه الفساد.
* سبب الخلاف:
يرجع خلاف الفقهاء في هذه المسألة إلى اختلافهم في المفهوم من النصوص ، فقد ورد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((" سئل عن الثمر المعلق فقال :" من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ,ومن أخرج منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة, ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع " [ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة")). (2)
فرأى الحنفية ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة؛ لأن الثمر يتسارع إليه الفسادلرطوبته ,وأوجبه على سارقه من الجرين ليبسه بحيث لا يتسارع إليه الفساد فجعلوه أصلا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه , وأما الجمهور فمدار التعليل عندهم عدم الحرز المكاني لا على اليبس والرطوبة. واختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى ما يلي: ـ
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص 4/68.
(2) صحيح:سبق تخريجه ص 213.(5/70)
* الرأي الأول: وهو للحنفية ـ عدا أبو يوسف ـ (1)
ويرون أنه لا قطع في سرقة مالا يحتمل الادخار ولا يبقى من سنة إلى سنة , بل يتسارع إلية الفساد , أما إن كانت الثمار يابسة , وآواها الجرين ففيها القطع.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية (2) والشافعية(3)والحنابلة(4)وأبو يوسف. (5)
ويرون أنه يقطع إن سرق ما قيمته نصاباً محرزاً من الطعام الذي لا يبقى.
* الرأي الثالث: وهو للظاهرية. (6)
ويرون أنه يقطع في سرقة الطعام سواء أكان محرزاً أم غير محرز؛ إذا سرقه السارق ولم يأخذه معلناً.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((لا قطع في ثمر ولا كثر.")) (7)
__________
(1) المبسوط: 9/139, شرح فتح القدير: 5/366, بدائع الصنائع: 7/69, البحر لرائق: 5/85, الجامع الصغير: ص 295, الفتاوى الهندية: 2/195.
(2) الذخيرة:12/146, حاشية الخرشي: 8/315, المعونة: 2/343, المدونة الكبرى: 4/418.
(3) البيان:12/438، الحاوي الكبير:13/274.
(4) المغني والشرح الكبير:10/119، كشاف القناع:6/39.
(5) شرح فتح القدير: 5/366.
(6) المحلى:12/371.
(7) صححه الألباني:سنن النسائي الكبرى، كتاب قطع السارق، باب مالا قطع فيه ما لم يؤوه الجرين:4/ 344 رقم 7448، سنن الترمذي:4/52 رقم 1449، ابن ماجه: كتاب الحدود، باب لا يقطع في ثمر ولاكثر 2/865 رقم 2593، الدارمي: 2/228 رقم 4466، البيهقي: كتاب السرقة، باب القطع في كل ما له ثمن إذا سرق من حرز وبلغت قيمته ربع دينار، 8/263 رقم 16980، إرواء الغليل:8/73.(5/71)
وجه الدلالة:هذا الحديث نص على منع القطع عن سارق الثمر، وعن سارق الكثر ـ وهو جمار النخل، أو النخل الصغار ـ والنهي عن القطع في سرقة الثمر والعلة فيه هو تسارع الفساد إليه، ومن ثم يقاس على الثمر في منع القطع سرقة كل ما يتسارع إليه الفساد من الأطعمة والفواكه التي لا تقبل الادخار، سواء أخذت من حرز أو من غير حرز.
أما المعقول من وجوه:
الأول :أن في مالية هذه الأشياء نقصانا ; لأن المالية بالتمول , وذلك بالصيانة والادخار لوقت الحاجة , ولا يتأتى ذلك فيما يتسارع إليه الفساد فيتمكن النقصان في ماليتها , وفي النقصان شبهة العدم. (1)
الثاني :أن هذه الأشياء مما لا يتمول عادة , وإن كانت صالحة للانتفاع بها في الحال ; لأنها لا تحتمل الادخار ,والإمساك إلى زمان حدوث الحوائج في المستقبل ;فقل خطرها عند الناس فكانت تافهة... وكذلك ما على رأس النخل والأشجار من الثمار؛لأنه يتسارع إليه الفساد، أما إن كانت مدخرة ففيها القطع. (2)
الثالث :أنه تافه جنسا,والناس يتساهلون به فيما بينهم فيلتحق بالتافه قدرا. (3)
الرابع :أنه معرض للهلاك فأشبه ما لم يحرز. (4)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا }
وجه الدلالة: أن الآية عامة لم تفرق بين سارق الرطب واليابس، فهي عامة ولم تخص.
أما السنة: فما رواه عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " سئل عن الثمر المعلق فقال من سرق منه بعد أن يؤويه الجرين وبلغ ثمن المجن ففيه القطع." (5)
وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - أوجب القطع في سرقة الثمار إذا كانت محرزة في الجرين.
__________
(1) المبسوط:9/153.
(2) بدائع الصنائع:7/69.
(3) المبسوط:9/153.
(4) المغني والشرح الكبير:10/119.
(5) صحيح:سبق تخريجه ص 213 .(5/72)
ـ وما جاء أن سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قطع في الأترجة وقومها بثلاثة دراهم ولم ينكر عليه أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - فكان إجماعاً، ولو كانت ذهباً لم تقوم. (1)
أما المعقول: أنه نوع مال فوجب أن يستحق القطع بسرقته كسائر الأموال، ولا ينتقض بالعبد؛ لأنه يقطع سارقه إذا سرقه وهو صغير أو كبير نائم، ثم إن الطعام الرطب ألذ وأشهى وأن النفوس على تناوله أوعى فكان القطع أولى. (2)
ـ أنه مال يتمول في العادة ويرغب فيه , فيقطع سارقه إذا اجتمعت الشروط كالمجفف؛ ولأن ما وجب القطع في معموله وجب فيه قبل العمل كالذهب والفضة. (3)
أدلة الرأي الثالث:
ـ قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (4)
وجه الدلالة: أن الآية عامة لم تفرق بين سارق وآخر ولم يشترط حرز من غيره. …… المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول: نوقش دليلهم من السنة بما يلي :
ـ بأن المقصود من الثمر ثمار المدينة ،فإنها تكون على رؤوس الأشجار ،وهي لا تكون محرزة لقصر الحيطان. (5)
وقد أجيب عن هذا:
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على المعنى المانع من وجوب الحد والقطع , وهو كون المسروق ثمرا , وفي الحمل على ما قلتم تعطيل هذا السبب وإحالة الحكم إلى سبب آخر , أو إنما لم يجب فيهما القطع على عادة أهل الحجاز؛ لأن بساتينهم لا حوائط لها فهي غير محرزة. (6)
نوقش ما جاء عن الحسن البصري (:
ـ بأنه حديث مرسل ولو صح فيحمل على الطعام الرطب إذا كان في سنبله غير محرز كالثمر. (7)
__________
(1) المدونة الكبرى:4/418،الذخيرة:12/143،الحاوي الكبير:13/275، المغني والشرح الكبير:10/119.
(2) الحاوي الكبير: 13/275.
(3) المغني والشرح الكبير:10/119.
(4) المائدة من الآية 38.
(5) المبسوط: 9/139.
(6) المبسوط:9/139، البيان:12/440.
(7) شرح فتح القدير:5/369، الحاوي الكبير:13/275.(5/73)
وقال فيه ابن حجر ( لم أجده بهذا اللفظ، ولأبي داود في المراسيل عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا قطع في الطعام." وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مرسله أيضا(1)وإن صح هذا الحديث فيحمل على الطعام المهيأ للأكل أما مايزال حباً في سنبله فلا.
نوقش قولهم بنقصان المالية في هذه الأشياء من جهتين:
1ـ أنه إنما يراد الفرق على المثبت بالقياس،أما عمومات النصوص فلا تخصص بالفروق فإنه يمكن أن يقال في قوله تعالى:" ولا تقتلوا أنفسكم."(2) فخصص بالرجل أو بالعلماء لأن من عداهم أنقص رتبة. (3)
2ـ أنه مال متملك كاليابس، والقطع يراد للردع والزجر، والرطب أحوج إلى هذا من اليابس (4) ثم إنه ليس قلة بقائه موجباً لسقوط القطع فيه؛ كالشاة المريضة يجب القطع فيها وإن لم يطل بقاؤها. (5)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني :نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
ـ بأن الذي يؤويه الجرين في العادة هو اليابس من الثمر، والكلام في الرطب الذي يتسارع إليه الفساد، ُم إن هذا معارض بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا قطع في ثمر ولا كثر." وقوله " لا قطع في الطعام."(6)
وقد أجيب عن هذا من جهتين:
الأولى : بأن المقصود بالجرين ليس ما فيه بل اعتبار الجرين حرزا لما فيه سواء كان رطبا ما فيه أم يابساً.وحديث " لا قطع في ثمر ولا كثر " عام خصصه حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الثمر المعلق. فقال :من سرق منه بعد أن يؤويه الجرين وبلغ ثمن المجن ففيه القطع، أو أن حديث " لا قطع في ثمر."إنما يعمل به فيما لو كان المر غير محرز، أما لو كان الثمر محرزاً فيعمل بالحديث الآخر.
__________
(1) الدراية:2/109.
(2) النساء من الآية 29.
(3) الذخيرة:12/146.
(4) المعونة:/343.
(5) الحاوي الكبير:13/275.
(6) شرح فتح القدير:5/367، الهداية:2/410.(5/74)
الثانية: أنه لم يفرق في الجرين بين كونه رطباً أو يابساً ثم إنه أوجب القطع في الجرين عما نفاه عنه قبل الحرز، وهو قبل الجرين رطب فكذلك في الجرين. (1)
مناقشة أدلة الرأي الثالث : وبمثل ما قيل في مسألة الحرز يجاب عليهم هنا؛ إذ قد وافقوا الجمهور في القطع، وخالفوهم في اشتراط كونه محرز.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن سرقة ما يتسارع إليه الفساد فيها القطع، إذا كانت محرزة وبلغت نصاباً للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن الحديث الذي استندوا إليه يدل دلالة قاطعة على أن من سرق من الجرين ثمراً وجب عليه القطع، وهذا يؤكد أن العلة في نفي القطع عن سارق الثمر في حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - " لا قطع في ثمر و لا كثر." هو كون الثمر غير محرز لا كونه مما يتسارع إليه الفساد.ورد في المدونة "... قلت: أرأيت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "((لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع, فيما بلغ ثمن المجن")). هل أريد بالثمر المعلق طعام لا يبقى في أيدي الناس فمن ثم دفع الحد؟ قال:ليس هكذا إنما أريد بذلك الحرز. ألا ترى أن الحريسة في الجبال لا يقطع فيها , فإذا أواها المراح قطع سارقها؟ فهذا يدلك على أنه إنما أريد الحرز ولم يرد الطعام الذي يبقى في أيدي الناس أو لا يبقى.. (2)
المسألة الثانية عشرة: جحد العارية.
* تحرير محل النزاع وسبب الخلاف:
__________
(1) الحاوي الكبير:13/275.
(2) المدونة 4/418.(5/75)
اتفق الفقهاء على أنه ليس على المكابر المغالب قطع (1) ,واختلفوا في جاحد العارية والمختلس و المنتهب (2) فقال البعض :بعدم القطع , وقال الآخرون : بالقطع إذا استعار قدر نصاب السرقة وجحده, فمن قال :بعدم القطع: اعتبر أن هناك شبهة الإذن له , وهذه الشبهة مسقطة للقطع خاصة وأنه أخذ شيئاً باقياً تحت يده , أما من قال : بالقطع: فأخذ اللفظ على ظاهره فأطلق عليه سارق , وكذا اختلاف النصوص الواردة في حكمه ,وكذا اختلافهم في المرأة التي جحدت العارية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل كان سبب القطع هو سرقتها و كان كونها جاحدة صفة لها , أو أن الجحد نفسه هو سبب القطع.
أراء الفقهاء
* الرأي الأول: وهو للحنفية(3) والمالكية (4) و الشافعية(5) ورواية عن الإمام أحمد . (6)
ويرون أنه لا قطع على جاحد العارية ولا المختلس ولا المنتهب.
__________
(1) بداية المجتهد: 6/167, الإجماع لابن المنذر: ص 109, شرح فتح القدير: 5/373, الإنصاف: 10/253, المغني والشرح الكبير:10/116, المحلى: 12/308.
(2) الاختلاس: أن يأخذ من البيت سرعة جهراً , الانتهاب: الأخذ على وجه العلانية قهراً من ظاهر بلده أو قرية.
(3) الهداية: 2/412, المبسوط:9/156, الفتاوي الهندية: 2/197.
(4) حاشية الدسوقي: 6/351, حاشية الخرشي: 8/327.
(5) روضة الطالبين: 10/133, الحاوي الكبير: 13/288, البيان: 12/433.
(6) المغني والشرح الكبير:الكافي: 4/119, الإنصاف: 10/253. وقد اعتبر صاحب المغني هذه الرواية هي الصحيحة فقال... علة لا قطع عليه هو قول الخرقي وأبي اسحاق وابن شاقلا وسائر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله. المغني والشرح الكبير:10/115.(5/76)
* الرأي الثاني:وهو للظاهرية (1) ورواية أخري عن الإمام أحمد. (2)
ويرون قطع جاحد العارية وكذا المختلس والمنتهب عند الظاهرية ,ورواية الحنابلة وافقتهم في قطع جاحد العارية فقط.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والمعقول:
أما الكتاب: قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ }
وجه الدلالة: أن الآية على الظاهر وأنه ليس لأحد أن يخص منها شيئا إلا بحجة يجب التسليم لها،فالآية نصت على إيجاب القطع على السارق والجاحد، للوديعة ليس بسارق. (3)
أما السنة:فما ورد عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ((أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمه أسامة , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ")) (4)
__________
(1) المحلى: 12/362.
(2) المغني والشرح الكبير:10/115, الإنصاف:10/253, الكافي:4/19.وهذا المذهب اختاره صاحب الإنصاف فقال:"ويقطع جاحدا لعارية وهو المذهب." الإنصاف:10/253.
(3) عون المعبود:12/45.
(4) صحيح:رواه أخرجه البخاري:كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان،6/2491 رقم 6406 , أخرجه مسلم: كتاب القسامة والمحاربين، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود:ج 3/131513 رقم 1688.(5/77)
وجه الدلالة: هذا الحديث أوضح دلالة على أن قطع يد المرأة المخزومية إنما كان لأجل سرقتها , ولا أدل على ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - "0إنما لأهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف " قال ابن عبد البر (:" من تدبر هذا الحديث علم انه لم يقطع يدها إلا لأنها سرقت." (1)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع.")) (2)
وجه الدلالة: أن جاحد العارية خائن , والخائن لا قطع عليه بنص حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشبه جاحد الوديعة. (3)
أما المعقول من وجوه :
ـ أن السارق يأخذ المال على وجه الاستخفاء فلا يمكن انتزاع الحق منه بالحكم , فجعل القطع ردعاً له , و المنتهب والمختلس والجاحد يأخذون المال على وجه يمكن انتزاع الحق منهم , فلا حاجة إلى إيجاب القطع عليهم. (4)
ـ لا قطع على جاحد العارية؛ فلكون المقصود في الحرز؛ لأنه كان موجوداً في يد الخائن وحرزه لا حرز مالكه , أما المنتهب والمختلس؛ فلأنه مجاهر بفعله فلم تتحقق السرقة فلا قطع إذن. (5)
ـ أن المخزومية إنما قطعت لأنها سرقت , والقول بأنها كانت تستعير الحلي فتجحده ذكر على سبيل التعريف ،كما قيل : مخزومية ولم يكن قطعها بجحود العارية كما لم يقطعها؛لأنها مخزومية. (6)
__________
(1) الاستذكار:7/569.
(2) حسن صحيح:رواه أبو داود : كتاب الحدود ، باب القطع في الخلسة والخيانة رقم 4393 عن جابر - رضي الله عنه - ، ورواة الترمذي : كتاب الحدود ، باب ما جاء في الخائن والمختلس والمنتهب رقم 1448 ، النسائي : كتاب السارق ، باب ما لا قطع فيه رقم 4986 ، 4987 ،ابن ماجه : كتاب الحدود ، باب الخائن والمنتهب والمختلس ، رقم 2591 .
(3) شرح معاني الآثار:3/171.
(4) البيان: 12/434.
(5) الهداية: 2/412, شرح فتح القدير: 5/373.
(6) الحاوي الكبير: 13/281, المغني والشرح الكبير:10/115.(5/78)
ـ أن القصة الواردة في المرأة المخزومية واحدة , وأنها سرقت فقطعت بسرقتها ,وإنما عرفتها السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ بجحدها للعارية؛ لكونها مشهورة بذلك , ولا يلزم أن يكون ذلك سبباً. (1)
ـ أن القصة في امرأة واحدة , وقصة واحدة , وأنها سرقت ، و من روى " استعارت " قد وهم: أن في جمهور هذه الآثار أنهم استشفعوا لها بأسامة بن زيد , وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنكر ذلك عليه , ونهاه أن يشفع في حد من حدود الله تعالى. ومن المحال أن يكون أسامة بن زيد - رضي الله عنه -قد نهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن يشفع في حد من حدود الله تعالى ثم يعود فيشفع في حد آخر مرة أخرى؟ (2)
ـ أن القول بهذا جمع بين الأحاديث وموافقة لظاهر الأحاديث والقياس.(3)
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالسنة .
أما السنة:
فما ورد أن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:"((كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده , فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد - رضي الله عنه -فكلموه فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فيها , فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أسامة ألا أراك تكلم في حد من حدود الله."))
ـ حديث ابن عمر - رضي الله عنه -"((أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -بقطع يدها.")) (4)
وجه الدلالة:أن الروايتان تدلان على أن القطع إنما كان بسبب جحدها المتاع , ولم تتعرض للسرقة , فدل ذلك على أن القطع إنما كان بسبب جحد العارية. (5)
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/166, شرح فتح القدير: 5/373, فتح الباري: 12/91.
(2) المحلى: 12/358.
(3) المغني والشرح الكبير:10/166.
(4) صحيح: سنن أبي داود: 4/139رقم 4395, سنن النسائي الكبرى 4/330رقم 7374, سنن النسائي (المجتبى)8/70 رقم 4887, مسند الإمام أحمد 2/151 رقم 6383.
(5) سبل السلام: 4/21.(5/79)
أن رواية من روى أنها استعارت أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقطع يدها , ورواية من روى أنها سرقت فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقطع يدها صحيحان لا مغمز فيهما؛ لأن كليها من رواية الثقات التي تقوم بها الحجة في الدين. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
نقل ابن جحر ( قول ابن القيم ( القول بأن ذكر جحد العارية للتعريف لا أنه المؤثر فكلام في غاية الفساد لو صح مثله ـ وحاشا وكلا ـ لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف , وهذه الطريقة لا يرتضيها أئمة أهل العلم , ولا يردون بمثلها السنن , وإنما يسلكها بعض المقلدين من الأتباع ثم بين أن لفظ ابن عمر - رضي الله عنه - يبطل هذا القول فقال: ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة وفي الأخرى على الجحد على حد سواء وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية فكل من الروايتين دال على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده ويؤيد ذلك أن سياق حديث بن عمر ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة من أسامة وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك (2)
__________
(1) المحلى:12/360.
(2) حاشية ابن القيم:لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ت 751 هـ، طبعة دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1415 هـ، ج 12/24.(5/80)
ونوقش قولهم بأن المرأة واحدة ، بما ذكره ابن حزم (أن في هاتين الروايتين اللتين إحداهما: استعارت المتاع فجحدت فأمر - صلى الله عليه وسلم -بقطعها - وفي الأخرى: أنها سرقت فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقطع يدها: لا يخلو من أن يكونا في قصتين اثنتين , في امرأتين متغايرتين , أو يكونا في قصة واحدة , في امرأة واحدة؟ فإن كانت في قصتين , وفي امرأتين , فقد انقطع الهذر , وبطل الشغب جملة , ويكون الكلام في شفاعة أسامة - رضي الله عنه - فيهما جميعا , على ما قد ذكرنا - من البيان - من أنه شفع في السرقة فنهي , ثم شفع في المستعيرة وهو لا يعلم أن حد ذلك أيضا القطع. على أننا لو شئنا القطع , فإنهما امرأتان متغايرتان , وقضيتان اثنتان , لكان لنا متعلق , كما حدثنا ابن جريج , قال: أخبرني عكرمة بن خالد المخزومي أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أخبره أن امرأة جاءت إلى امرأة فقالت: إن فلانة تستعيرك حليا - وهي كاذبة - فأعارتها إياه , فمكثت لا ترى حليها , فجاءت التي كذبت علي فيها فسألتها حليها , فقالت: ما استعرت منك شيئا , فرجعت إلى الأخرى فسألتها حليها , فأنكرت أن تكون استعارت منها شيئا , فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاها , فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا , فقال: اذهبوا فخذوه من تحت فراشها , فأخذ , وأمر بها فقطعت. قال ابن جريج: وأخبرني بشر بن تميم أنها أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد. قال ابن جريج: لا آخذ غيرها , لا آخذ غيرها , قال ابن جريج: وأخبرني عمرو بن دينار قال: أخبرني الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال سرقت امرأة , فأتي بها النبي - صلى الله عليه وسلم -فجاءه عمرو بن أبي سلمة , فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أي إنها عمتي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. قال عمرو بن دينار: فلم أشك حين قال حسن: قال عمر للنبي - صلى(5/81)
الله عليه وسلم -إنها عمتي , إنها بنت الأسود بن عبد الأسد؟. (1) قال أبو محمد (فهذا ابن جريج يحكي عن عمرو بن دينار: أنه لا يشك أن التي سرقت بنت الأسود بن عبد الأسد , ويخبر عن بشر التيمي أن التي استعارت هي بنت سفيان بن عبد الأسد , وهما ابنتا عم مخزوميتان , عمهما أبو سلمة بن عبد الأسد - رضي الله عنه - زوج أم سلمة - رضي الله عنها - قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولكنا نقول - وبالله تعالى التوفيق -: هبك أنها امرأة واحدة , وقصة واحدة , فلا حجة فيها ; لأن ذكر السرقة إنما هو من لفظ بعض الرواة , لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -, وكذلك ذكر الاستعارة , وإنما لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم { لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتها }. فهذا يخرج على وجهين , يعني ذكر السرقة: أحدهما - أن يكون الراوي يرى أن الاستعارة سرقة , فيخبر عنها بلفظ السرقة. والوجه الآخر - هو أن الاستعارة , ثم الجحد سرقة صحيحة لا مجازا ; لأن المستعير إذا أتى على لسان غيره , فإنه مستخف بأخذ ما أخذ من مال غيره , يوري بالاستعارة لنفسه أو لغيره , ثم يملكه مستترا مختفيا - فهذه هي السرقة نفسها دون تكلف , فكان هذا اللفظ خارجا عما ذكرنا أحسن خروج , وكان لفظ من روى " العارية " لا يحتمل وجها آخر أصلا؟ قال أبو محمد رحمه الله: فتقطع يد المستعير الجاحد كما تقطع من السارق - سواء سواء - من الذهب في ربع دينار لا في أقل , لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(( لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا "))(2). وفي غير الذهب في كل ما له قيمة - قلت أو كثرت - ; لأنه قطع في مال أخذ اختفاء لا مجاهرة. وتقطع المرأة كالرجل , لإجماع الأمة كلها على أن حكم الرجل في ذلك كحكم المرأة , ومن مسقط القطع عنها , ومن موجب القطع عليها , ولا قطع في ذلك إلا ببينة تقوم بالأخذ , والتمليك , مع الجحد ,
__________
(1) المحلى 12/360, 361.
(2) صحيح :سبق تخريجه ص 219 .(5/82)
أو الإقرار بذلك , فإن عاد مرة أخرى قطعت اليد الأخرى ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يدها - وهذا عموم ; لأن المستعير طلبه العارية مستخفيا بمذهبه في أخذه , فكان سارقا , فوجب عليه القطع.
وقد أجيب عن هذا:
يجوز أن يكونا قضيتين , وكذا رواية النسائي أنه سارق , يجوز أن تكون قصة أخرى, ويجوز أن تكون القضية واحدة وأن المراد الشخص السارق , وكذلك الاختلاف في كون الشافع لها أسامة - رضي الله عنه - أو أنها عاذت بأم سلمة أو زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ويرد أنهما قضيتان أن أسامة - رضي الله عنه -لا يمكنه الشفاعة في حد من حدود الله تعالى مرة ثانية بعد نهيه - صلى الله عليه وسلم -له عن ذلك أو أنها قصة لمرأة واحدة استعارت وجحدت وسرقت فقطعت للسرقة لا للعارية. (1)
__________
(1) طرح التثريب:8/31, فتح الباري: 12/91.(5/83)
ـ وأما ما رواه ابن جريح عن بشر بن تميم أن المرأة أم عمرو بن سفيان بن عبد الأسد فقد أجاب عن ذلك ابن جحر (: بأن الخبر معضل وهو غلط ممن قاله لأن قصتها أم عمرو مغايرة للقصة المذكورة في الحديث.إذ المرأة هي فاطمة بنت الأسودبن عبد الأسد, وهي التي قطع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يدها؛لأنها سرقت حلياً فكلمت قريش أسامة- رضي الله عنه - فشفع فيها , وقد ساق ذلك ابن سعد (في ترجمتها في الطبقات , وأوردها عبد الغني بن سعيد المصري في المبهمات , وأما قصة أم عمرو فذكرها بن سعد أيضا وبن الكلبي وتبعه الهيثم بن عدي وكانت قصتها في حجة الوداع, أما فاطمة بنت الأسود فكانت قصتها عام الفتح, فظهر تغاير القصتين وأن بينهما أكثر من سنتين ويظهر من ذلك خطأ من اقتصر على أنها أم عمرو كابن الجوزي, ومن رددها بين فاطمة وأم عمرو كابن طاهر وبن بشكوال ومن تبعهما فلله الحمد وقد تقلد بن حزم( ما قاله بشر بن تيم ( ولكنه جعل قصة أم عمرو بنت سفيان في جحد العارية وقصة فاطمة في السرقة وهو غلط أيضاً؛ لوقوع التصريح في قصة أم عمرو بأنها سرقت. (1)
وقول ابن حزم ( من أنهما قصتان لامرأتين مختلفتين.
وقد أجيب عن هذا:بأنه في كل من الطريقتين استشفعوا بأسامة - رضي الله عنه -, وأنه شفع ,وأنه قيل له لا تشفع في حد من حدود الله. فيبعد أن أسامة - رضي الله عنه - يسمع النهي المؤكد عن ذلك ثم يعود إلى ذلك مرة أخرى لا سيما وإن اتحد زمان القصتين. (2)
ونوقش هذا:
بأنه يجوز أنه شفع في السرقة فنهي ثم شفع في المستعيرة وهو لا يعلم أن حد ذلك أيضاً القطع. (3)
وقد أجيب عن هذا:
بأن فيه الحد أيضاً ولا يخفى ضعف الاحتمالين. (4)
__________
(1) فتح الباري: 12/91.
(2) فتح الباري: 12/93.
(3) المحلى: 12/361.
(4) فتح الباري: 12/93.(5/84)
وذكر الشوكاني( استشكال وأجاب عنه فقال: "وجاء في رواية أن المخزومية المذكورة عاذت بأم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وأخرج الحاكم موصولا وأبو داود مرسلا أنها عاذت بزينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واستشكل ذلك بأن زينب ماتت في شهر جمادى من السنة السابعة من الهجرة , وقصة المخزومية في غزوة الفتح سنة ثمان". (1)
وأجيب عن هذا: قيل: المراد زينب بنت أم سلمة ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم -فتكون نسبتها إليه مجازا. وجاء في رواية لعبد الرزاق أنها عاذت بعمرو بن أبي سلمة- رضي الله عنه -. والجمع بين الروايات أنها عاذت بأم سلمة وابنيها فشفعوا لها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يشفعهم , فطلب الجماعة من قريش من أسامة- رضي الله عنه - الشفاعة ظنا منهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل شفاعته لمحبته له. (2)
ـ ولا تنافي بين ذكر جحد العارية وبين السرقة ، فإن ذلك داخل في اسم السرقة, فإن هؤلاء الذين قالوا: إنها جحدت العارية ،وذكروا أن قطعها لهذا السبب قالوا :إنها سرقت فأطلقوا على ذلك اسم السرقة, فثبت لغة أن فاعل ذلك سارق وثبت شرعا أن حده قطع اليد.
وهذه الطريقة أولى من سلوك طريقة القياس في اللغة فيثبت كون الخائن سارقا لغة ،قياسا على السارق ثم يثبت الحكم فيه, وعلى ذلك يكون تناول اسم السارق للجاحد لغة بدليل تسمية ,ونظير هذا سواء ما تقدم من تسمية نبيذ التمر وغيره خمراً لغة لا قياساً , وكذلك تسمية النباش سارقاً. (3)
ـ سلمنا بعدم التنافي بين رواية من روى سرقت , ورواية من روى جحدت؛ إذ يمكن أن المرأة فعلت الأمرين, لكن قطعت في السرقة لا في الجحد, كما شهد به سياق الحديث. (4)
__________
(1) نيل الأوطار: 7/132.
(2) المرجع السابق, فتح الباري: 12/94.
(3) حاشية ابن القيم:12/23, 24.
(4) طرح التثريب: 8/190.(5/85)
ـ القول بأن ذكر جحد العارية للتعريف لا أنه المؤثر فكلام في غاية الفساد لو صح مثله وحاشى وكلا لذهب من أيدينا عامة الأحكام المترتبة على الأوصاف وهذه طريقة لا يرتضيها أئمة العلم ولا يردون بمثلها السنن وإنما يسلكها بعض المقلدين من الأتباع. (1)
ـ سلمنا بأنها امرأة واحدة , وقصة واحدة , فلا حجة فيها ; لأن ذكر السرقة إنما هو من لفظ بعض الرواة , لا من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -, وكذلك ذكر الاستعارة , وإنما لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -((لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتها)).
فيتخرج هذا على وجهين:
أحدهما: أن يكون الراوي يرى أن الاستعارة سرقة , فيخبر عنها بلفظ السرقة.
الوجه الآخر: هو أن الاستعارة , ثم الجحد سرقة صحيحة لا مجازا ; لأن المستعير إذا أتى على لسان غيره , فإنه مستخف بأخذ ما أخذ من مال غيره , يوري بالاستعارة لنفسه أو لغيره , ثم يملكه مستترا مختفيا , فهذه هي السرقة نفسها دون تكلف , فكان هذا اللفظ خارجا عما ذكرنا أحسن خروج , وكان لفظ من روى " العارية " لا يحتمل وجها آخر أصلا؟ (2)
ـ القول بأن المستعير الجاحد خائن , ولا قطع على خائن لحديث جابر - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((ليس على الخائن ولا على المختلس ولا على المنتهب قطع.")) (3) قول غير مسلم , لفساد الخبر؛ لأن ابن جريج لم يسمعه من ابن الزبير , ولم يسمعه من جابر - رضي الله عنه -؛لأنه قد أقر على نفسه بالتدليس. (4)
وقد أجيب عن هذا:
__________
(1) حاشية ابن القيم: 12/ 23 ,24.
(2) المحلى: 12/362, 363.
(3) سبق تخريجه ص 265 .
(4) المحلى: 12/360.(5/86)
بأن تصحيح الترمذي له يدل على أنه تحقق إيصاله , وقد تابعه عليه المغيرة بن مسلم , كما أشار إليه أبو داود , والترمذي , وحديثه أخرجه النسائي عن المغيرة عن أبن - رضي الله عنه - الزبير عن جابر - رضي الله عنه -. (1)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
ـ أن رواية من روي سرقت أرجح, وبالجمع بين الروايتين يضرب من التأويل , فأما الترجيح فنقل النووي أن رواية معمر شاذة مخالفة لجماهير الرواة , قال والشاذ لا يعمل به. (2)
وأجيب عن هذا:
ـ أن معمر لم ينفرد بهذا الرأي , وتابعه شعيب بن أبي حمزة ويونس بن يزيد وأيوب بن موسى , فليس في هذا الاختلاف عن الزهري ترجيح بالنسبة إلى اختلاف الرواة عنه إلا لكون رواية سرقت متفقا عليها, ورواية جحدت انفرد بها مسلم(, وهذا لا يدفع تقديم الجمع إذا أمكن بين الروايتين, ثم قال الحافظ ابن جحر ( وعلى هذا فيتعادل الطريقان ويتعين الجمع فهو أولى من إطراح أحد الطريقين. (3)
ـ أن القطع بجحد العارية محمول على النسخ على اعتبار أنها واقعة واحدة , وكذا لو حمل على أنهما واقعتان , و ما جاء أنه- صلى الله عليه وسلم - قطع امرأة بجحد المتاع , وأخرى بالسرقة يحمل على نسخ القطع بالعارية. (4)
واعترض على هذا:
ـ بأنه لا دليل على النسخ.
أ ـ أن يد المرأة قطعت للسرقة لا لجحد العارية ويدل على ذلك ما يلي: ـ
ـ قوله في آخر الحديث الذي ذكرت فيه العارية "((لو أن فاطمة سرقت ")) فإن فيه دلالة قاطعة على أن المرأة قطعت في السرقة؛ إذ لو كان قطعها لأجل الجحد لكان ذكر السرقة لاغياً , ولقال لو أن فاطمة جحدت العارية.
ب ـ لو كانت قطعت في جحد العارية لو قطع كل من جحد شيئاً إذا ثبت عليه , ولو لم يكن بطريق العارية.
__________
(1) نصب الراية: 3/364, طرح التثريب: 8/32, فتح الباري: 12/92.
(2) فتح الباري: 12/93.
(3) فتح الباري:12 / 93.
(4) شرح فتح القدير: 5/374.(5/87)
ج ـ أنه عارض ذلك حديث "((ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع.")) (1)
د ـ أن الرواية المرتبة للقطع على الجحد قد عارضها ما هو أولى بالتمسك به منها؛ لعدم الاختلاف فيه , وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - "((ليس على خائن ولا مختلس ولا منتهب قطع ")) (2)
وقد أجيب عن هذا:
بأن الحكم المرتب على الوصف معمول به, ويقويه أن لفظ الحديث وترتيبه في إحدى الروايتين القطع على السرقة, وفي الأخرى على الجحد على حد سواء , وترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية, فكل من الروايتين دال على أن علة القطع كل من السرقة وجحد العارية على انفراده, ويؤيد ذلك أن سياق حديث بن عمر- رضي الله عنه - ليس فيه ذكر للسرقة ولا للشفاعة , وفيه التصريح بأنها قطعت في ذلك. (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح الذي تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه الظاهرية ومن وافقهم من الحنابلة بقطع جاحد العارية، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها , ولا غنى لهم عنها , وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا , ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية , ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة وعرفا , ولا فرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها , وهذا بخلاف جاحد الوديعة ; فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه. (4)
ـ أن حديث جاحد العارية صحيح فلولا أن النص ثابت في قطع المخزومية بجحد العارية لتغير وجه الترجيح , ولكن ثبت أن جاحد العارية يقطع.
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه265.
(2) سبق تخريجه 265
(3) فتح الباري: 12 / 92.
(4) إعلام الموقعين:2/48.(5/88)
ـ أن في هذا جمع بين الأدلة إذا تعذر معرفة نسخ أحدهما للآخر , والجمع أولى من الإلغاء ما أمكن , فالسارق يقطع إذا سرق , وجاحد العارية يقطع إذا جحدها , وبلغت قيمتها النصاب فكل يعمل به في مجاله.
ـ وأما حديث لا قطع على خائن فهو عام خصصه حديث جاحد العارية.
ـ أن ضرره مثل ضرر السارق أو أكثر؛ إذ يمكن الاحتراز من السارق بالإحراز والحفظ,
وأما العارية فالحاجة الشديدة التي تبلغ الضرورة ماسة إليها وحاجة الناس فيما بينهم إليها من أشد الحاجات. (1)
ـ إذا علم أن جاحد العارية لا يقطع , فإنه يفضي إلى سد باب العارية في الغالب,وسر المسألة أن السارق إنما قطع دون المنتهب والمختلس؛ لأنه لا يمكن التحرز منه بخلاف المنتهب والمختلس فإنه إنما يفعل ذلك عند عدم احتراز المالك. (2)
المسألة الثالثة عشر: العود في السرقة.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن حد السارق قطع يده (3)؛ لقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (4)، واختلفوا في محل القطع فيما لو تكررت منه السرقة.
الرأي الأول:وهو للحنفية، (5) والحنابلة في المذهب. (6)
ويرون أنه تقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى، وتقطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية، ولا قطع بعد ذلك أصلا، ولكنه يضمن السرقة ويعزر حتى يحدث توبة.
الرأي الثاني:وهو للمالكية(7) والشافعية(8) والحنابلة في رواية. (9)
__________
(1) حاشية ابن القيم: 12 / 24.
(2) حاشية ابن القيم: 12 / 24.
(3) الإقناع في مسائل الإجماع :2/261 .
(4) سورة المائدة آية 38.
(5) الهداية:2/417، المبسوط:9/140،166، بدائع الصنائع:7/86، شرح فتح القدير: 5/395.
(6) كشاف القناع:6/147، الإنصاف:10/286، الفروع:6/135.
(7) المعونة:2/346، الذخيرة:12/181، حاشية الدسوقي:6/334.
(8) البيان:12/491، الحاوي:13/321.
(9) الإنصاف:10/286.(5/89)
ويرون أنه تقطع اليد اليمنى، ثم إن سرق ثانية تقطع رجله اليسرى، ثم إن سرق تقطع يده اليسرى، ثم إن سرق تقطع رجله اليمنى، ثم إن سرق يعزر ويحبس.
الرأي الثالث:وهو للظاهرية(1)
وقالوا بقطع اليد اليمنى، ثم إن سرق ثانية تقطع اليد اليسرى، ثم إن سرق يعزر.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ ما روي عن عبد الله بن مسلمة - رضي الله عنه - عن علي - رضي الله عنه - "قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى فإن عاد قطعت رجله اليسرى فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا إني أستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها ويستنجي بها ورجل يمشي عليها." (2)
ـ ما روي أن - سيدنا - عمر- رضي الله عنه - أتي بسارق أقطع اليد , والرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم , وأراد أن يقطعه فقال له : سيدنا علي - رضي الله عنه -عنه إنما عليه قطع يد ورجل، ولكن احبسه(3) فحبسه - سيدنا - عمر - رضي الله عنه - ولم يقطعه , وسيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما لم يزيدا في القطع على قطع اليد اليمنى , والرجل اليسرى , وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم , ولم ينقل أنه أنكر عليهما منكر ; فيكون إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم. (4)
واستدلوا على إيجاب قطع اليد اليمنى في السرقة الأولى:
__________
(1) المحلى:12/354.
(2) إسناده ضعيف: سنن الدار قطني:3/103 رقم 74، البيهقي الكبرى: كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق ثانيا وثالثا ورابعا،8/275رقم 17046،،نصب الراية:3/374.
(3) إسناده حسن: أخرجه عبد الرزاق:10/186، البيهقي: كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق ثانيا وثالثا ورابعا 8/274 رقم 17045.
(4) بدائع الصنائع:7/86.(5/90)
بقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } وقد قرأها ابن مسعود - رضي الله عنه - " فاقطعوا أيمانهما." وقال ابراهيم النخعي: " إن من قراءتنا " والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما." وهذه القراءة من القراءة المشهورة بمنزلة المقيد من المطلق فيصير كأنه قال:" فاقطعوا أيمانهما من الأيدي" فلا يتناول الرجل أصلًا , ولا يتناول اليسرى , والدليل عليه أنه في المرة الثانية لا تقطع يده اليسرى, ومع بقاء المنصوص لا يجوز العدول إلى غيره , فلو كان النص متناولا لليد اليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد. (1)
واستدلوا على قطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية:
فقالوا: إن الأيدي,وإن ذكرت بلفظ الجمع فالأصل أن ما يوجد من خلق الإنسان تذكر تثنيته بعبارة الجمع , قال تعالى: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (2) فالجمع المضاف إلى الجماعة يتناول الفرد من كل واحد يقال ركب القوم دوابهم , فيصير معنى الآية "فاقطعوا يدا من كل سارق وسارقة." وكان ينبغي بناء على الظاهر أن لا يقطع الرجل اليسرى منهما , ولكن ثبت ذلك بدليل الإجماع ,ولا يجوز الاعتماد على الآثار المروية؛ فقد قال الطحاوي (: تتبعنا هذه الآثار فلم نجد لشيء منها أصلا , ثم يحتمل أنه كان هذا في الابتداء. (3)
واستدلوا على حبس السارق في المرة الثالثة:
ـ أن الحكمة من تشريع الحدود الزجر لا الإتلاف، وفي تفويت منفعة الجنس إتلاف حكمي. (4)
__________
(1) المبسوط: 9/167.
(2) سورة التحريم: من الآية 14.
(3) المبسوط: 9/167 باختصار، تبيين الحقائق:3/225.
(4) المبسوط:9/140، 168، حاشية رد المحتار:6/171.(5/91)
ـ أن في قطع أطرافه الأربع إتلاف،و الإمام مأمور بالتحرز عن الإتلاف عند إقامة الحد بحسب الإمكان,00 بدليل أنه يقطع في المرة الثانية الرجل اليسرى واليد إلى اليد أقرب , ألا ترى أن في باب الطهارة لا يتحول إلى الرجل إلا بعد الفراغ من اليدين. وإنما شرع الترتيب هكذا للتحرز عن الإتلاف الحكمي فدل أنه شرع زاجرا لا متلفا , وفي قطع الأعضاء الأربعة إتلاف للشخص حكما , فإن فيه تفويت منفعة الجنس على الكمال , وبقاء الشخص حكما ببقاء منافعه. (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني:
ـ بقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } (2)
وجه الدلالة: أنه تعالى أوجب قطع الأيدي وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل وبالإجماع لا يجب قطعهما معا فكانت الآية مجملة. (3)
ـ ما جاء عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "((إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا رجله.")) (4)
وجه الدلالة:أنه لو وجب قتله في الخامسة لأبانه - صلى الله عليه وسلم - كما أبان قطعه في الأربع؛لأنه لا يجوز أن يمسك عن بعض البيان كما لا يجوز أن يمسك عن جميعه. قال ابن عبدالبر (5)
ـ أنه إن عاد في السرقة فقد سرق مع وجود بعض الأطراف فجاز أن يجب القطع فيها كالأولى والثانية. (6)
__________
(1) المبسوط:9/168.
(2) المائدة آية 38.
(3) تفسير الرازي:11/177.
(4) سنده ضعيف: الدار قطني:3/181 رقم 292، نصب الراية:3/371.
(5) الاستذكار: 7/547، الحاوي الكبير:13/325.
(6) المعونة:2/347.(5/92)
ـ أن هذا قد فعله سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه -، وكذلك فعله سيدنا عمر - رضي الله عنه - ولا مخالف لهما فكان إجماعا(1) وذلك كما جاء عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل، قدم على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فشكا إليه أن عامل اليمن قد ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر - رضي الله عنه -:وأبيك ما ليلك بليل سارق , ثم إنهم فقدوا عقدا لأسماء بنت أبي عميس رضي الله عنها ـ امرأة أبي بكر الصديق ـ فجعل الرجل يطوف معهم ويقول اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف به الأقطع , أو شهد عليه به، فأمر به أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فقطعت يده اليسرى , وقال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته. (2)
ـ أن كل حكم ثبت لليد اليمنى والرجل اليسرى، ثبت لليد اليسرى والرجل اليمنى. (3)
واستدلوا على الضرب والحبس في الخامسة:
ـ أن الشرع لم يرد بقطع شيء في السرقة سوى الأطراف الأربع فلم يبق إلا تأديبه بالضرب والحبس، ولا يجوز قتله؛ لأن السارق لا يجب قتله كسارق الأولى والثانية. (4)
ـ أن ما ورد فيه قتله فمحمول على أنه قتله بزنا أو ردة. (5)
استدل أصحاب الرأي الثالث:
ـ بقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } ](6)
__________
(1) المعونة:2/347، البيان:12/493، الحاوي الكبير:13/323.
(2) سنن البيهقي: كتاب السرقة، باب السارق يعود فيسرق ثانيا وثالثا ورابعا، 8/273،.
(3) الحاوي الكبير:13/323.
(4) المعونة:2/348.
(5) البيان:12/494.
(6) المائدة آية 38.(5/93)
وجه الدلالة:أن الله - سبحانه وتعالى - قد نص على قطع اليدين ولم ينص على قطع الرجلين فلو كان قطع الرجلين مطلوباً لأمر به الله - سبحانه وتعالى -، والسنة لم يرد فيها من طريق صحيح ما يفيد قطعهما في السرقة، والذي ورد في السنة يتعلق بقطع اليد " لو سرقت فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - لقطع محمد يدها " (1)."وقوله "((لا تقطع اليد إلا في ربع دينار.")) (2) فهذه النصوص الصحيحة جاءت بقطع الأيدي ولم يأت فيها للرجل ذكر. (3)
ـ قول السيدة عائشة رضي الله عنها "((لم يكن يقطع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشيء التافه.")) (4)
وجه الدلالة: أن الآية عامة ذكرت الأيدي ولم تذكر الأرجل فاقتصر عليها.
ـ أنه لم يصح عن رسول الله - رضي الله عنه - في قطع رجل السارق شيء أصلاً ولو صح لقلنا به وما تعدينا. (5)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني :
نوقش استدلالهم بالآية الكريمة بأن نص الآية لا يتناول اليد اليسرى لتقييده باليمنى في قراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.قال الشنقيطي(: وجمهور العلماء على أن القطع من الكوع وأنها اليمنى وكان ابن مسعود وأصحابه يقرؤون فاقطعوا أيمانهما. (6)
و أجيب عن هذا:بأن القراءة الشاذة ليست بحجة عندنا لأننا نقطع أنها ليست قرأنا، إذ لو كانت قرأنا لكانت متواترة. (7)
نوقش ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بأن في سنده الواقدي، وهناك طرق كثيرة متعددة لم تسلم من الطعن.
وقد أجيب عن هذا:
__________
(1) صحيح:النسائي الكبرى:4/333 رقم 7388، النسائي المجتبى:8/74 رقم 4901.
(2) صحيح:سبق تخريجه ص 219.
(3) المحلى:12/352،353.
(4) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب السرقة، في السارق يؤخذ قبل أن يخرج من البيت بالمتاع 5/477 رقم 28114. تلخيص الحبير:3/74،نصب الراية:3/360.
(5) المحلى:12/353.
(6) أضواء البيان 3/32.
(7) تفسير الرازي:11/179.(5/94)
بأن له طرقاً متعددة قال فيها الألباني (: "وهي وإن كانت لا تخلو مفرداتها من ضعف، ولكنه ضعف يسير، فبعضها يقوي، بعضا، كما هو مقرر في " المصطلح " فإذا انضم إليها طريق مصعب بن ثابت - رضي الله عنه - (1) ازداد الحديث بذلك قوة، لاسيما وله شاهد من حديث الحارث بن حاطب مع شيء من المغايرة.. والخلاصة أن الحديث من رواية جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - ثابت بمجموع طريقيه، وهو في المعنى مثل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فهو على هذا صحيح إن شاء الله تعالى. (2)
وقد تُُعقب هذا بأن طرق الحديث كلها شديدة الضعف وبينها اختلاف في المتن فلا يسلم له رحمه الله. (3)
وقد قال الطحاوي (: تتبعنا هذه الآثار فلم نجد لشيء منها أصلا. (4)
نوقشت أدلة الرأي الثالث:
ـ بأن معنى الآية اقطعوا يداً من كل سارق. (5)
الرأي الراجح
__________
(1) نص الحديث: عن مصعب بن ثابت - رضي الله عنه - عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه -عن محمد ابن المنكدر - رضي الله عنه - قال: " جئ بسارق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جئ به الثانية، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما سرق، قال: اقطعوه،... فأتى به الخامسة فقال: اقتلوه، قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة "
(2) إرواء الغليل:8/87، 88.
(3) صحيح فقه السنة:4/133 هامش.
(4) المبسوط:9/167.
(5) المبسوط:9/167.(5/95)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول من أن السارق إذا سرق قطعت يمناه ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، ثم لا قطع عليه وإنما يحبس وذلك لموافقة هذا الرأي لمبدأ تشريع الحدود، وأنها للزجر لا للإتلاف، وكذلك لأنه قضاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
…………
المبحث الثالث
الأحكام التي وافق الظاهرية فيها البعض وخالفوا البعض الآخر في السرقة
المسألة الأولى: سرقة الصليب والصنم.
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن من كسر صنماً من ذهب لا ضمان عليه(1) ، واختلفوا فيما إذا سرقه على آراء:
الرأي الأول: وهو للحنفية(2) ورواية عند الحنابلة. (3)
ويرون أنه لا قطع في سرقة الصليب، وقال أبو يوسف (: إن كان الصليب في المصلى (أي مصلى النصارى)لا يقطع لعدم الحرز؛لأنه بيت مأذون في دخوله، وإن كان في بيت آخر يقطع لكمال المالية والحرز.
الرأي الثاني: وهو للمالكية(4) والشافعية(5) وأصح الروايتين عند الحنابلة، (6) والظاهرية. (7)
ويرون أن الصليب إن كان يبلغ النصاب قطع سارقه، وقيده الشافعية والحنابلة بكونه من ذهب أو فضة، قال ابن حزم (:" وإنما وجب القطع على سارق الصليب؛ لأنه سرق جوهراً لا يحل له أخذه... فإن كان الصليب أو الوثن من حجر لا قيمة له أصلا ً بعد الكسر فلا قطع فيه أصلاً." (8)
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: على عدم القطع بما يلي:
__________
(1) الإفصاح:2/210، الميزان الكبرى:2/223.
(2) الهداية:2/411، شرح فتح القدير:5/369، بدائع الصنائع: 7/72، الفتاوى الهندية:2/196، الاختيار:3/107.
(3) المغني والشرح الكبير:10/136، الإنصاف:10/261.
(4) المنتقى شرح الموطأ:7/157.
(5) الحاوي الكبير:13/307.
(6) الإنصاف:10/261، كشاف القناع:6/129، المغني والشرح الكبير:10/136.
(7) المحلى:12/329.
(8) المحلى:12/327.(5/96)
ـ أنه يتأول أنه أخذه للكسر نهياً عن المنكر.
ـ أنه ليس بمال فلا حرمة له؛لأنه مجمع على تحريمه. (1)
نوقش قول أبي يوسف (: بأنه لا يجب فيه القطع، وإنما الواجب فيه ضمان المالية وذلك لإباحة أخذه
للكسر،والإباحة عامة لا تخص غير الحرز. (2)
استدل أصحاب الرأي الثاني بما يلي:
ـ أنه مال يقر على مالكه ويقوُّم على متلفه. (3)
ـ أنه مال في الجملة وقد يكسره صاحبه ويصوغه حلياً. (4)
المناقشة
ناقش ابن حزم ( أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ بأنه إنما وجب القطع على سارق الصليب ; لأنه سرق جوهرا لا يحل له أخذه. وإنما الواجب فيه كسره فقط , وأما ملك جوهره فصحيح - ولا فرق بينه وبين من سرق إناء ذهب وإناء فضة , والنهي قد صح عن اتخاذ آنية الفضة والذهب , كما صح عن اتخاذ الصليب والوثن ولا فرق - والقطع واجب في كل ذلك ; لأنه لم يسرق الصورة , ولا شكل الإناء , وإنما سرق الجسم الحلال تملكه , وإنما الواجب في الآنية المذكورة , والصلبان , والأوثان , الكسر فقط. " (5)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية من أن الصليب إن كان يبلغ نصاباً قطع سارقه، وذلك للأسباب الآتية:
أ ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ب ـ أن الصليب من الذهب والفضة؛ كالآنية من الذهب والفضة المحرم استعمالها، ولم يقل أحد بحل أخذها من مالكها.
ج ـ أن الواجب في الصليب هو كسره لا أخذه وإتلافه على مالكه.
المسألة الثانية: سرقة الخمر والخنزير.
تحرير محل النزاع و سبب الخلاف:
__________
(1) شرح فتح القدير:5/369، بدائع الصنائع: 7/72،كشاف القناع:6/129، حاشية رد المحتار:6/153.
(2) شرح فتح القدير:5/369.
(3) الحاوي الكبير:13/307.
(4) الميزان الكبرى الشعرانية: 2/229.
(5) المحلى:12/326.(5/97)
أجمع الفقهاء على تحريم الخمر، وعلى أن المسلم إذا سرق من أخيه خمراً لا قطع عليه ولا ضمان(1) واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أنه إذا سرق المسلم خمر الذمي أو خنزيره لا قطع عليه، (2) واختلفوا في الضمان.
يرجع سبب الخلاف إلى اعتبار المالية في الخمر والخنزير عندهم، فمن اعتبر المالية في حق الذمي قال بالضمان، ومن غلب جانب الحرمة في حق المسلم قال بعدم الضمان.
الرأي الأول:وهو للحنفية(3) والمالكية(4) .
ويرون أنه لا قطع في سرقة الخمر والخنزير، وأن فيهما القيمة.
الرأي الثاني: وهو للشافعية (5) والحنابلة (6) والظاهرية (7) وعبد الملك من المالكية. (8)
ويرون أنه لا قطع في سرقة الخمر والخنزير ولا ضمان فيهما.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالآثار والمعقول:
أما الآثار : فما جاء عن سويد بن غفلة - رضي الله عنه - قال: بلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن عماله يأخذون الجزية من الخمر فناشدهم ثلاثاً فقال له بلال - رضي الله عنه -: إنهم يفعلون ذلك، قال: فلا تفعلوا ولّوهم بيعها فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها،وأكلوا أثمانها. (9)
__________
(1) الإجماع لابن المنذر:ص 110، الإقناع في مسائل الإجماع :2/263 .
(2) المبسوط:9/154، الذخيرة:12/152، البيان 12/466، المغني والشرح الكبير:10/136، المحلى:12/321، الموسوعة الفقهية:5/25.
(3) بدائع الصنائع: 7/69، المبسوط:9/154، الفتاوى الهندية:2/196.
(4) المدونة الكبرى:4/419، الذخيرة:12/152، حاشية الدسوقي:6/340.
(5) الأم:4/321، البيان:12/466، الحاوي الكبير:13/350.
(6) المغني والشرح الكبير:10/136، كشاف القناع:6/131.
(7) المحلى:12/321.
(8) الذخيرة:12/152، حاشية الخرشي:8/319.
(9) ضعيف: مصنف عبد الرزاق:كتاب المغازي،باب أخذ الجزية من الخمر: 6/23 رقم 9886، الدراية:2/162، وقال فيه ابن حجر (: وفي إسناده إبراهيم بن عبد الأعلى، نصب الراية:4/55.(5/98)
أما المعقول : أنه لا قيمة للخمر والخنزير في حق المسلم، وأنهما وإن كانا متقومين عندهم فليس كذلك عندنا فلم يكونا متقومين على الإطلاق، وهذه شبهة دارئة للحد، والقطع يندرئ بالشبهات (1) أما من ناحية الضمان فإنهم يعتقدون فيها المالية، وإنما كون المال متقوماً بالإحراز، والإمام مأمور بأن يكف عنهم الأيدي المتعرضة لهم في ذلك لمكان عقد الذمة فيتم إحرازها منهم بذلك. (2)
ـ أن المسلم يضمن قيمة الخمر للذمي؛ لأن المسلم عاجز عن تمليك الخمر من غيره، وعند العجز عن رد المثل يكون الواجب هو القيمة.
ـ أن ما كان مالاً من وجه، وغير مال من وجه فإن أقل أحواله أن يكون شبهة دارئة للحد عن سارقه. (3)
ـ أن من شرط تحقق السرقة أن يكون المسروق معصوماً وحقاً للعبد قبل السرقة، والخمر ليست كذلك فعدم الحكم لعدم شرطه.
استدل أصحاب الرأي الثاني:
ـ ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((إن الله حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه.")) (4)
وجه الدلالة: أن تحريم الشيء تحريم ثمنه، وقد نص الحديث على تحريم بيع الدم والخمر وكذا تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله كذلك،. (5)
__________
(1) بدائع الصنائع:7/70، المبسوط:9/154.
(2) المبسوط:11/53.
(3) احكام القرآن للجصاص:2/599.
(4) حسن:سنن أبو داود:كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر والميتة،ج3/279 رقم 3485،البيهقي الكبرى:كتاب البيوع، باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام،ج6/12 رقم 10832،الدارقطني:كتاب البيوع،3/7 رقم 21، تلخيص الحبير:4/73.
(5) التمهيد:4/144.(5/99)
ـ أن الخمر والخنزير غير متقومين فلا يجب ضمانهما، ودليل أنهما غير متقومين في حق المسلم ـ فكذلك في حق الذمي ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"((فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.")) هذا يقتضي أن كل ما ثبت في حق المسلمين ثبت في حق الذميين، لا أن حقهم يزيد على حق المسلمين. (1)
ـ أن عقد الذمة خلف عن الإسلام فيثبت به ما يثبت بالإسلام؛ إذ الخلف لا يخالف الأصل فيسقط تقومهما في حقهم. (2)
* استدل ابن حزم ( على تحريم الخمر والخنزير على أهل الكتاب :بقوله تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } (3)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - "وكل مسكر حرام." (4) وتوجيه النصوص عنده " أن الله - سبحانه وتعالى - حرم شرب الخمر , على كل مسلم وكافر , وحرم بيعها على كل مسلم وكافر , وحرم ملكها على كل مسلم وكافر وإذا ثبت هذا فهي ليست مالا لأحد , وأنه لا قيمة لها أصلا , وكذلك الخنزير - للتحريم الوارد فيه جملة. فإذ قد حرم ملكها جملة , كان من سرقها لم يسرق مالا لأحد , لا قيمة لها أصلا , ولا سرق شيئا يحل إبقاؤه جملة فلا شيء عليه. (5)
المناقشة
ناقش ابن حزم ( أدلة أصحاب الرأي الأول قائلاً:
__________
(1) تبيين الحقائق:5/235، الموسوعة الفقهية:13/170.
(2) تبيين الحقائق:5/235.
(3) الأعراف من الآية 158.
(4) صحيح: الترمذي:4/290 رقم 1861 وقال فيه حديث صحيح، مسند الإمام أحمد:2/16 رقم 4644، مصنف ابن أبي شيبة:5/67 رقم 23750، أبو داود:3/327 رقم 3679، ابن حبان:12/169 رقم 5357.
(5) المحلى:12/322.(5/100)
" 00لا يخلو الخمر , والخنزير , من أن يكونا مالا للذمي له قيمة , أو لا يكونا مالا له , ولا سبيل إلى قسم ثالث أصلا , فإن كانت الخمر , والخنزير , مالا للذمي , لهما قيمة , فالقطع فيهما واجب - على أصولهم - إذا بلغ كل واحد منهما ما فيه القطع. وإن كان الخمر , والخنزير , لا قيمة لهما , وليسا مالا للذمي , فبأي وجه قضوا بضمان ما لا قيمة له , ولا هو مال." (1)
وقد أجيب عن هذا:
بأن الخمر مالا متقوما في شريعة من كان قبلنا , وكذلك في شريعتنا في الابتداء , ثم إن الشرع أفسد تقومه بخطاب خاص في حق المسلمين حيث قال: { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } (2).. فبقي في حق من لم يدخل تحت هذا الخطاب على ما كان من قبل. هذا من حيث الصورة , ومن حيث المعنى أن حرمة العين وفساد التقوم ثبت بخطاب الشرع , وقد أمرنا أن نتركهم , وما يدينون لمكان عقد الذمة فقصر الخطاب عنهم حين لم يعتقدوا الرسالة في المبلغ , وانقطعت ولاية الإلزام بالسيف والمحاجة لمكان عقد الذمة , ويصير في حقهم كأن الخطاب غير نازل فيبقى الحكم على ما كان. (3)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
__________
(1) المحلى:12/321.
(2) المائدة آية 90.
(3) المبسوط: 11/102.(5/101)
ليس معنى أن الشيء ليس له قيمة عند المسلم أنه كذلك عند الذمي , فالخمر كانت حلالاً في أول الإسلام , وهي كذلك عند أهل الكتاب , ثم جاء النص بتحريمها على المسلمين فبقي الحكم على أصله عند النصارى إذ لم يرد دليل يمنع دليل , ثم إن الحديث الذي استدلوا به قال عنه الزيلعي (: لم أعرف الحديث الذي أشار إليه المصنف , ولم يتقدم في هذا المعنى إلا حديث معاذ , وهو في " كتاب الزكاة " , وحديث بريدة , وهو في " كتاب السير " , وليس فيهما ذلك. (1) فالحديث ليس نصه هكذا وليس وارداً في الذميين بل في الكافرين إذا أسلموا ونصه:" عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.")) (2)
__________
(1) نصب الراية: 4/55.
(2) حسن صحيح: سنن الترمذي:كتاب الإيمان،باب ما جاء في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمرت بقتالهم 5/4 رقم 2608 وقال فيه هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه, سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون: 3/44 رقم 2641، ابن حبان: كتاب الذبائح، باب ذكر البيان بأن ذبح المرء الذبيحة باسم الله وملة الإسلام من الإيمان،ج 13/215 رقم 5859،السنن الكبرى للنسائي:كتاب المحاربة،ج 2/279 رقم 3429،النسائي المجتبى:كتاب تحريم الدم،ج 7/76، مسند الإمام أحمد:3/199.(5/102)
قال الطحاوي ( معلقاً على هذا الحديث:" فدل ما ذكر في هذا الحديث على المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين؛ لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها،.. فلا يكون الكافر مسلما محكوما له وعليه بحكم الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويجحد كل دين سوى الإسلام ويتخلى منه. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة أدلة الفريقين والردود الواردة على ذلك فما تطمئن النفس إلي القول به هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول من سقوط القطع عن المسلم في سرقة الخمر والخنزير ووجوب القيمة، وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها وموافقتها لمبدأ من أتلف شيئاً فعليه ضمانه.
ـ أن النصوص الواردة في تحريم الخمر والخنزير واردة في حق المسلمين دون غيرهم , ولم أقف على نص مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرم الخمر والخنزير على أهل الكتاب.
ـ أن الأدلة التي أوردها ابن حزم ( هي أدلة عامة لا دلالة فيها على تحريم الخمر والخنزير على أهل الكتاب البتة , غاية ما فيها رفع التحليل الذي كان في ابتداء الإسلام.
ـ أن الحديث الذي استدلوا به على توحيد المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب ليس في مورد النزاع يدل على ذلك ما يلي:
ـ أنه جعل معاملة الذمي كالمسلم من كل الجهات أمر غير مسلم به إذ هم متفقون على أن قذف المسلم المحصن موجب للحد وليس كذلك للذمي.
ـ أن الإمام ابن حزم ( خالف هذا الأصل الذي قننه في مسألة الذمي إذا حارب فلم يجعل له حكم المسلم المحارب بل جعله ناكثاً للعهد لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف. (2)
__________
(1) شرح معاني الآثار:3/215.
(2) المحلى: 12/279.(5/103)
ـ أن المخاطب في الحديث هم المشركون في حالة إسلامهم وليس أهل الكتاب , فعن أنس ابن مك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , وأن يستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبحتنا. وأن يصلوا صلاتنا , فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.")), ومما يدل على ذلك الرواية الأخرى عن أبي داود "("((أمرت أن أقاتل المشركين."))(1)وأن اليهود كانوا يجاورون النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة , ولم يجلهم عنها حتى نقضوا العهد وأساءوا الجوار.
ـ أن الذي يسقط الضمان في حالة الإتلاف إنما هو عدم المالية والتقوم في المتلَف، والخمر و الخنزير مال عندهم وقد ضمنا لهم الحقوق بموجب عقد الذمة وبإتلافها إخلال بهذا العقد فوجب الضمان.
لكل ما سبق ذكره كان رأي القائلين بوجوب الضمان وهم الحنفية ومن معهم هو الراجح.
سرقة الميتة
هذا وقد خالف ابن حزم ( مذاهب الفقهاء في اعتبار سارق الميتة يقطع.
ـ واستدل بأن الميتة كانت في حياتها متملكه لصاحبها بأسرها فلما ماتت سقط ملكة عن لحمها وشحمها ودمها ومعاها وفرثها ودماغها وغضا فيرها؛ لأن كل ذلك حرام مطلق التحريم وبقي ملكه كما كان على ما أباح الله تعالى له الانتفاع به منها وهو الجلد والشعر والصوف والوبر والعظم فلا يخرج عن ملكه إلا بإباحته إياه للإنسان بعينه أو لمن أخذه، ويعلم ذلك بطرحه الجميع وتبريه منه، فهو ما لم يطرحه مالك، فإن سرق فإنما سرق شيئاً متملكاً ملكاً صحيحاً ومال من مال المسلم أو ذمي فالقطع فيه. (2)
__________
(1) صحيح :سنن النسائي الكبرى : كتاب تحريم الدم ، 2/279 رقم 3428 ، سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون: 3/44 رقم 2642، سنن الدارقطني :1/232 .
(2) المحلى:12/323.(5/104)
وقد نوقش هذا: بأن ابن حزم ( يقول بحرمة هذه الأشياء قبل الدباغ.
ورد في المحلى (1) " وصوف الميتة وشعرها وريشها ووبرها حرام قبل الدباغ حلال بعده , وعظمها وقرنها مباح كله لا يحل أكله ولا يحل بيع الميتة ولا الانتفاع بعصبها ولا شحمها.
ويعترض عليه بأن هذه الأشياء المحرمة هل يحل تملكها أم لا؟فإن قال: لا يجوز تملكها قيل:بأن السارق حين سرقها لم تكن على ملك أحد،فالسرقة غير متحققة إذ من شروطها كون المسروق متقوماً، والحرام لا قيمة له.
وإن قيل يحل تملكها؛ لأنها تصير حلالاً بعد الدباغ،فقد قال بملكية المحرم وناقض أصله، وأوجب الحد بسرقة المحرم.
المسألة الثالثة:ضمان العين المسروقة.
تحرير محل النزاع: (2)
__________
(1) المحلى:1/122.
(2) جاء في الإفصاح:" واتفقوا على أنه إذا كانت العين المسروقة قائمة فإنه يجب ردها، واختلفوا هل يجتمع على السارق وجوب الغرم والقطع معاً مع تلف المسروق فقال أبو حنفية: لا يجتمعان فإن اختار المسروق منه الغرم لم يقطع، وإن اختار القطع واستوفى لم يغرم، وقال مالك: إن كان السارق معسراً فلا يتبع بقيمتها، وإن كان موسراً وجب عليه القطع والقيمة، وقال الشافعي واحمد: يجتمعان عليه جميعاً فيطع ويغرم." الإفصاح:2/209، الإجماع لابن المنذر: 110، الميزان الكبرى:2/228، المبسوط: 9/156، بدائع الصنائع: 7/84، المعونة: 2/350، الذخيرة:12/188، الحاوي الكبير:13/343، الإنصاف: 10/289، المحلى: 12/328، 344.(5/105)
لا خلاف بين الفقهاء في وجوب رد العين المسروقة إن كانت قائمة إلى من سرق منه سواء أكان السارق موسراً أو معسراً، وسواء أقيم عليه الحد أم لم يقم، وسواء وجد المسروق عنده أو عند غيره(1)؛و لا خلاف بينهم كذلك في وجوب ضمان المسروق إذا تلف ولم يقم الحد على السارق بسبب يمنع القطع ؛كأخذ المال من غير حرز، أو كان دون النصاب أو قامت شبهة تدرأ الحد.ورد في الإقناع في مسائل الإجماع :"وأجمعوا أن كل سرقة لا قطع فيها ، فإن الغرم فيها واجب على من سرق ، موسراً كان أو معسراً ."(2)
ولكنهم اختلفوا في وجوب الضمان إذا تلف المسروق وقد قطع فيه سارقه على أقوال:
الرأي الأول: وهو للحنفية، (3) والمالكية. (4)
ويرون أنه لا يجتمع القطع والضمان في سرقة واحدة فلو تلف المسروق في يد السارق بعد القطع أو قبله لا ضمان عليه، أما إن كان حاضراً فيجب رده، وكذا قال مالك ( في حالة إذا لم يكن له شيء، أما إن كان موسراً فيضمن وذلك كله إذا بلغ النصاب، أما إن لم يكن نصاباً فيضمن في حالة العسر واليسر بالاتفاق. (5)
الرأي الثاني: وهو للشافعية(6) والحنابلة(7) والظاهرية. (8)
ويرون انه إذا سرق نصاباً وجب قطع السارق، ووجب عليه رد المال المسروق إذا كان باقياً، فإن كان تالفاً لزمه القطع والغرم.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة والمعقول والقياس .
أما الكتاب:قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ }
__________
(1) الإقناع في مسائل الإجماع :2/263 .
(2) الإقناع في مسائل الإجماع :2/265 .
(3) شرح فتح القدير:5/413، بدائع الصنائع:7/84، 85، المبسوط: 9/156.
(4) المعونة: 2/350، المدونة:4/421، الذخيرة: 12/188.
(5) المعونة:2/351، المدونة: 4/451.
(6) البيان:10/498، الحاوي الكبير: 13/342.
(7) الإنصاف 10/289، المغني والشرح الكبير:10/134.
(8) المحلى:12/328، 344.(5/106)
وجه الدلالة: أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط،ثم إن الله - سبحانه وتعالى - سمي القطع جزاء والجزاء يبنى على الكفاية، فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافياً فلم يكن جزاء. (1)
ـ أن الله - سبحانه وتعالى - جعل القطع كل الجزاء؛ لأنه عز شأنه ذكره ولم يذكر غيره فلو أوجبنا الضمان لصار القطع بعض الجزاء فيكون ناسخاً لنص الكتاب. (2)
أما السنة: فما جاء عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال"((إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم.")) (3)
أما المعقول من وجوه :
ـ أن المضمونات تملك عند أداء الضمان , أو اختياره من وقت الأخذ ،فلو ضمنا السارق قيمة المسروق , أو مثله لملك المسروق من وقت الأخذ فتبين أنه قطع في ملك نفسه , وذلك لا يجوز. (4)
ـ أن الضمان إنما يجب بأخذ مال معصوم ثبتت عصمته حقا للمالك ; فيجب أن يكون المضمون بهذه الصفة ; ليكون اعتداء بالمثل في ضمان العدوانات , والمضمون حالة السرقة خرج من أن يكون معصوما حقا للمالك بدلالة وجوب القطع. (5)
ـ أن القطع عقوبة تندريء بالشبهات، والضمان غرامة تثبت مع الشبهات فلا يجمع بينهما بسبب فعل واحد كالقيمة مع الدية. (6)
ـ أن إتلاف المال لا يوجب عقوبتين. (7)
أما القياس: (8)
ـ أنه فعل يتعلق به وجوب الحد فلم يتعلق به وجوب المال؛ كالزنا بمطاوعة لا يجمع بين الحد المهر.
ـ أنه فعل يتعلق به وجوب الغرم والقطع فلم يجز أن يجمع بينهما؛ كجناية العمد لا يجمع بين القصاص والدية.
ـ أن استهلاك المال يمنع من الجمع بين الغرم والقطع كالغصب
__________
(1) تفسير الرازي:11/176،180.
(2) بدائع الصنائع:7/84، المبسوط:9/157، الذخيرة:12/189.
(3) التمهيد:14/383، الاستذكار:7/556.
(4) بدائع الصنائع:7/85.
(5) المرجع السابق.
(6) المبسوط:9/157.
(7) الذخيرة:12/189.
(8) الحاوي الكبير:13/343.(5/107)
استدل المالكية على إيجاب الغرم مع اليسار بما يلي:
ـ أن موجب القطع حق الله - سبحانه وتعالى - وموجب الغرم الإتلاف والأصل ترتب المسببات على أسبابها؛ كالمحرم يتلف صيداً مملوكاً يلزمه الجزاء والقيمة. (1)
ـ أن الفرق بين اليسار والإعسار أن ابتياع المعسر عقوبة له تشغل ذمته والموسر لا عقوبة فيه لجواز انه باعها وعوضها في ماله. (2)
ـ أن في القول به جمع بين الأدلة. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني:
بقوله - صلى الله عليه وسلم - "((على اليد ما أخذت حتى تؤديه.")) (4)
وجه الدلالة: أن الحديث قد أوجب على الآخذ ضمان المأخوذ إلى غاية الرد. (5)
ـ , أن وجوب الضمان عليه بنفس الأخذ ووجوب القطع بإتمام فعل السرقة بالإخراج والحقان إذا وجبا بسببين فاستيفاء أحدهما لا يسقط الآخر , كما لو قتل إنسانا ومزق عليه ثيابه لا يسقط عنه ضمان الثياب باستيفاء القصاص. (6)
ـ أنهما حقان اختلفا محلا ومستحقا وسببا ; لأن محل القطع اليد ومستحقه هو الله تعالى وسببه السرقة ومحل الضمان الذمة ومستحقه المسروق منه وسببه إدخال النقصان عليه بأخذ ماله فوجوب أحدهما لا يمنع وجوب الآخر كالدية مع الكفارة في القتل والجزاء مع القيمة في الصيد المملوك في الحرم. (7)
__________
(1) الذخيرة:12/189.
(2) الذخيرة:12/189.
(3) المرجع السابق.
(4) حسن صحيح: الترمذي: كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة، 3/526 رقم 1266، وقال فيه هذا حديث حسن صحيح، أبو داود: كتاب الإجارة، باب في تضمين العارية، 3/296 رقم 3561، سنن ابن ماجة كتاب الصدقات، باب العارية:2/802 رقم 2400، مسند الإمام أحمد: 5/80، السنن الكبرى:كتاب العارية، باب المنيحة،3/411،رقم 5783،المستدرك: كتاب البيوع:2/55 رقم 2302،وقال فيه حديث صحيح على شرط أخرجه البخاري ولم يخرجاه.
(5) المبسوط:9/156.
(6) المبسوط:9/156.
(7) المبسوط:9/156،تبيين الحقائق:3/232، الحاوي:13/343.(5/108)
ـ أنه حد لله تعالى بإيقاع فعل في عين، فإذا وجب رد العين مع بقائها جاز ان يجب الحد وغرم العين مع تلفها كما لو غصب جارية وزنا بها وجب عليه الحد بردها إن كانت باقية وبرد قيمتها عن كانت تالفة فيجمع عليه بين الحد والغرم كذا في السرقة. (1)
المناقشة
*نوقشت أدلة الرأي الأول بما يلي:
ـ أن قوله تعالى : { .. جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (2) يعود على الفعل دون المال؛ لأن المال لا يدخل في كسبهما. (3)
ـ أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائما. (4)
ـ أن الحديث الذي استدلوا به ضعيف، قال الماوردي (: ذكر الساجي ( أنه لم يثبته أحد من أهل النقل، ولو صح لكان محمولا على أحد وجهين:
1 ـ إما لأنه لا ظلم عليه لأجرة قاطعة؛ لأنه من بيت المال.
2 ـ أن العقوبات قبل الحدود كانت بالغرامات فلما فرضت الحدود سقط الغرم. (5) قال صاحب المغني والشرح الكبير: (6)"حديثهم يرويه سعد بن إبراهيم , عن منصور , وسعد بن إبراهيم مجهول. قاله ابن المنذر. وقال ابن عبد البر: الحديث ليس بالقوي. ويحتمل أنه أراد , ليس عليه أجرة القاطع.
وقال الزيلعي عنه غريب بهذا اللفظ. (7)
وقال ابن عبد البر (:" قال أبو عمر هذا حديث ليس بالقوي ولا تقوم به حجة. (8)
ـ أما القياس فهو مع الفارق؛ لأن الزانية بذلت نفسها فأسقطت مهرها.
ـ ونوقش قول الإمام مالك ( بأن الغرم إذا وجب لم يسقط بالإعسار إذا أيسر، وإن لم يجب لم يستحق عليه بوجوب اليسار فلم يكن له وجه. (9)
الرأي الراجح
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/134، الحاوي الكبير:13/343، البيان:12/498.
(2) المائدة من الآية 38.
(3) الحاوي الكبير:13/343.
(4) تفسير الرازي:11/180.
(5) المرجع السابق، المغني والشرح الكبير: 10/135.
(6) المغني والشرح الكبير:10/134.
(7) نصب الراية: 4/210.
(8) التمهيد:14/383.
(9) الحاوي الكبير: 13/343.(5/109)
بعد عرض أقوال الفقهاء فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو رأي القائلين :بتضمين السارق مال السرقة مطلقاً وذلك للأسباب الآتية:
1 ـ أنه يتفق مع النصوص الصريحة في هذا الشأن.
2 ـ أن رأي الحنفية غير مسلم به؛ لأنه في القول به أكل أموال الناس بالباطل؛ إذ الحد لحق الله - سبحانه وتعالى -، والضمان لحق العبد، ولا ينبغي أن يترتب على أحد الحقين سقوط الحق الآخر.
3 ـ انه بأي حق يخول للسارق الاستئثار بمال المسروق منه، ثم ماذا يمكن أن يستفيد صاحب المال من قطع يد السارق إن كان سيترتب على القطع حرمانه من ماله.
4 ـ أنه لو كان الأمر كما قال الحنفية، لوجب ألا يلزم السارق رد المسروق عند كونه قائماً عندهم وهم لا يقولون بهذا. (1)
__________
(1) تفسير الرازي: 11/180.(5/110)
تمهيد
الحرابة لغة:
مشتقة من حارب يحارب حرابة، مفردها محارب ، وهو اسم فاعل مشتق من حارب، والحرب تدل على نقيض السلم،وهي مصدر من حاربه محاربة وحراباً قاتله، ويقال: هم يحاربون الله يخالفونه ويعصونه. (1)
وعرفت الحرابة باسم قطع الطريق، ومنه قطع الرجل الطريق إذا أخافه لأخذ أموال الناس ، وهو قاطع الطريق والجمع قطاع الطريق وهم اللصوص الذين يعتمدون على قوتهم. (2)
* وقدأطلق فقهاء الحنفية على الحرابة اسم السرقة الكبرى، وسموها بذلك؛لأن قاطع الطريق يأخذ المال سراً ممن إليه حفظ الطريق وهو الإمام الأعظم،كما أن السارق يأخذ المال سراً ممن إليه حفظ المكان المأخوذ منه وهو المالك أو من يقوم مقامه، وسميت كبرى؛لأن ضرر قطع الطريق على أصحاب الأموال وعلى عامة المسلمين بانقطاع الطريق. (3)
وأطلقوا على قاطع الطريق محارباً؛لأن المسافر معتمد على الله- سبحانه وتعالى - فالذي يزيل أمنه محارب لمن اعتمد عليه في تحصيل الأمن، وأما محاربته لرسوله - صلى الله عليه وسلم - إما باعتبار عصيان أمره، أو باعتبار أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحافظ لطريق المسلمين، والخلفاء والملوك نوابه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قطع الطريق الذي تولى حفظها بنفسه ونائبه فقد حاربه. (4)
الحرابة في اصطلاح الفقهاء:
وبناء على هذا فقد عرف الحنفية الحرابة بأنها:ـ
__________
(1) المعجم الوجيز:142.
(2) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي،لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي،طبعة دار الحديث، الطبعة الأولى 2000، ص 302.
(3) العناية على الهداية:5/422، مجمع الأنهر:1/629، تبيين الحقائق:3/235.
(4) شرح فتح القدير:5/423.(6/1)
ـ الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة ،على وجه يمتنع المارة عن المرور , وينقطع الطريق سواء كان القطع من جماعة , أو من واحد، بعد أن يكون له قوة القطع , وسواء أكان القطع بسلاح أو غيره ،من العصا والحجر , والخشب , 00 وسواء كان بمباشرة الكل , أو التسبب من البعض بالإعانة و الأخذ. (1)
* أما المالكية فلهم تعريفات:ـ
ـ قال ابن عرفة(: (2) الحرابة هي الخروج لإخافة سبيل بأخذ مال محترم بمكابرة قتال أو خوفه ،أو ذهاب عقل أو قتل خفية أو لمجرد قطع الطريق , لا لإمرة (3) ولا لنائرة (4) ولا عداوة.
* وقيل:المحارب هو القاطع للطريق، المخيف للسبيل، الشاهر للسلاح الطالب للمال، فإن أعطي و إلا قاتل عليه كان في المصر أو خارج المصر. (5)
* وقيل:المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك أو أخذ مال مسلم أو غيره على وجه يتعذر معه الغوث، وإن انفرد بمدينة كمسقى السيكران(6) ومخادع الصبي أو غيره ليأخذ ما معه والداخل في ليل أو نهار في زقاق أو دار، قاتل ليأخذ المال. (7)
*عند الشافعية:
الحرابة هي البروز لأخذ مال أو قتل أو إرهاب مكابرة اعتماداً على القوة مع عدم الغوث. (8)
وعرفوا قاطع الطريق بأنه: مسلم مكلف له شوكة لا مختلسون يتعرضون لأخذ قافلة يعتمدون الهرب، والذين يغلبون شرذمة بقوتهم قطاع في حقهم، لا لقافلة في حقهم حيث يلحق الغوث ليسوا بقطاع. (9)
*عند الحنابلة:
__________
(1) بدائع الصنائع:7/90،91.
(2) مواهب الجليل:6/314، حاشية الخرشي:1/334.
(3) الإمرة:طلب الرئاسة والولاية المصباح المنير:1/20.
(4) النائرة :هي الحقد والعداوة.لسان العرب:5/246.
(5) المعونة:2/299.
(6) مسقى السيكران: نبت معلوم وهو المسمى الحشيشة يؤكل حبه.حاشية الدسوقي:6/360.
(7) حاشية الدسوقي:6/359، 360.
(8) تحفة المحتاج:4/150.
(9) حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/303، مغني المحتاج:5/498.(6/2)
أما الحنابلة فهم لم يعرفوا الحرابة وإنما عرفوا المحاربون بأنهم :قطاع الطريق محاربون يتعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو البنيان فيغصبونهم المال مجاهرة لا سرقة. (1)
*عند الظاهرية:
المحارب: هو المكابر المخيف لأهل الطريق , المفسد في سبيل الأرض - سواء بسلاح , أو بلا سلاح أصلا - سواء ليلا , أو نهارا - في مصر , أو في فلاة - أو في قصر الخليفة , أو الجامع - سواء قدموا على أنفسهم إماما , أو لم يقدموا سوى الخليفة نفسه - فعل ذلك بجنده أو غيره - منقطعين في الصحراء , أو أهل قرية سكانا في دورهم , أو أهل حصن كذلك , أو أهل مدينة عظيمة , أو غير عظيمة كذلك - واحدا كان أو أكثر - كل من حارب المار , وأخاف السبيل بقتل نفس , أو أخذ مال , أو لجراحة , أو لانتهاك فرج: فهو محارب , عليه وعليهم - كثروا أو قلوا - حكم المحاربين المنصوص عليهم في الآية. (2)
وقفه مع هذه التعريفات
الواقع أن هذه التعريفات متقاربة فيما بينها وهي تقوم على أمرين أساسيين:ـ
*أحدها: المجاهرة من قاطع الطريق اعتماداً على شوكته ومنعته.
*ثانيها: إرهاب الآدميين وترويعهم، سواء أصحب ذلك أخذ مال أو قتل أو لم يحصل شيء من هذا، وهي بذلك تغاير السرقة، ذلك أن السرقة أخذ مال من الحرز خفية، والحرابة هي الخروج لأخذ المال على سبيل المحاربة، فالسرقة الأساس فيها أخذ المال فعلاً، أما الحرابة فالأساس فيها الخروج لأخذ المال أخذ أو لم يأخذ.
هذا ولعل التعريف المختار هو ما ذهب إليه الحنابلة؛لأنه شمل جميع أنواع قطاع الطريق.
الفرق بين الحرابة والبغي.
الحرابة جريمة تختلط بالبغي اختلاطاً كبيراً، لذا لابد من التفريق بينهما بدقة حتى يتضح الفرق بينهما يظهر الفرق فيما يلي:
__________
(1) المغني والشرح الكبير:10/145، الروض المربع:ص 496.
(2) المحلى:12/283.(6/3)
ـ أن الحرابة والبغي يتشابهان في الخروج إلا أنهما يختلفان في المقصد ،فالحرابة القصد منها إخافة السبيل على المارة العاديين ، أما البغي فالقصد من ورائه خلع الإمام أو الخروج على طاعته بغير حق ، وينبني على ذلك أن المحارب يهدف إلى أخذ المال ولو أدى ذلك إلى قتل المأخوذ منه ، أما الباغي فإنه يهدف أساساً إلى خلع الإمام أو عدم طاعته أو الامتناع عن أداء حق وجب عليه .(1)
ـ أن البغاة قوم لهم تأويل سائغ ـ سواء كان حقا أو باطلا ـ يخرجون به على الإمام بغية عزله،فإن خرجوا ولا تأويل لهم فهم محاربون تسري عليهم أحكام الحرابة.
ـ أن ما أتلفه البغاة أثناء حربهم مع آهل العدل لا يضمنون فيه شيئا من مال أو غيره؛ لأن في إسقاط الضمان ترغيبا ً لهم في الرجوع إلى الحق، وفي تضمينهم تنفير لهم عن هذا الرجوع ،أما المحاربون فما أتلفوه أثناء الحرابة مضمون عليهم.
ـ أن البغاة لا بد أن تكون لهم شوكة ومنعة يخرجون بها على الإمام ،أما المحاربين فهم قوم يخرجون على أفراد من الناس بغية أخذ أموالهم وانتهاك حرماتهم.
ـ أن العقوبة المترتبة على الحرابة متنوعة ، وهذا ثابت بنص آية الحرابة ، أما العقوبة المترتبة على فعل البغي فهي القتل فقط .(2)
* الدليل على عدم مشروعية الحرابة:
الحرابة حكمها الحرمة قطعاً، و الأصل في ذلك الكتاب، والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (3)
__________
(1) جريمة قطع الطريق و أثرها في تشديد العقوبة :د/محمد إسماعيل أبو الريش . ط مطبعة الأمانة ، الطبعة الأولى 1411 ـ1990 ،ص 39 .
(2) جريمة قطع الطريق :40 .
(3) المائدة آية 33.(6/4)
وجه الدلالة: هذه الآية تبين أحكام الحرابة وأنواع قطاع الطريق وعقوباتهم واخذ منها الفقهاء فوائد:
ـ قال الإمام أبو بكر بن الجصاص (:أطلق الله- سبحانه وتعالى - على قطاع الطريق محاربين لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - للأمور التالية:
ـ أنه سمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه , فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس , كما قال تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (1) وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (2) ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يباين صاحبه، ومعنى المحادة أن يصير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة وذلك يستحيل على الله تعالى.
ـ يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهري الخلاف على غيرهم، ومحاربتهم إياهم من الناس. وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح , ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى ; إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المغالبة في أخذ الأموال وقطع الطريق.
ـ ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (3) والمعنى: يؤذون أولياء الله. ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكانوا مرتدين بإظهار محاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (4)
__________
(1) الأنفال من الآية 13.
(2) المجادلة من الآية 5.
(3) الأحزاب من الآية 57.
(4) أحكام القرآن للجصاص:2/570، 571.(6/5)
أما السنة: فما رواه الإمام البخاري ( عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - "((أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكلموا بالإسلام فقالوا يا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف واستو خموا المدينة فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة (1) كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - و استاقوا الذود (2) فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث الطّلَبَ (3) في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم ")). (4)
وكذا الأحاديث التي تنهى عن التعرض للمسلم وغيره في ماله أو عرضه أو نفسه منها قوله - صلى الله عليه وسلم - "((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله ألا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.")) (5) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام." (6)
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على حرمة عرض المسلم وماله، والمحافظة عليه ،وعدم التعرض له إلا بحق.
عقوبة قاطع الطريق.
__________
(1) الحرة:هي أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار والجمع حرات.لسان العرب:4/179، مختار الصحاح:1/55.
(2) الذود:السوق والطرد، والذود يكون من ثلاثة أبعرة إلى عشرة، أو خمس عشرة أو عشرين أو ثلاثين، أو ما بين الثنتين والتسع، ولا يكون إلا من الإناث. القاموس المحيط:1/412.
(3) الطَّلب:هو محاولة وجدان الشيء وأخذه.لسان العرب:1/559،560، مختار الصحاح:1/166.
(4) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب قصة عكل وعرينة:4/1535 رقم 3956.
(5) صحيح:سبق تخريجه ص 93 .
(6) صحيح: سبق تخريجه ص27(6/6)
أما عن عقوبة قاطع الطريق فقد جاءت الآية الكريمة ووضعت لهذه الجريمة عقوبات متنوعة وهي:
ـ القتل.
ـ الصلب.
ـ قطع الأيدي و الأرجل.
ـ النفي من الأرض.
وقد اختلف الفقهاء في عقوبة قاطع الطريق ، هل هي على التخيير ومرجع ذلك للإمام ينتقي من بينها ما شاء تبعاً لما يرى فيه المصلحة، أو أنها مرتبة على قدر جناية المحارب؟ وسيأتي بيان هذه المسألة وغيرها بالتفصيل، وكذا شروط القاطع في مباحث تالية ـ إن شاء الله تعالى ـ.
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في الحرابة.
وافق الظاهرية الأئمة الأربعة في اشتراط كون المحارب مكلفاً أي: عاقلاً بالغاً، حتى يقام عليه حد الحرابة، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ." (1)؛ولأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات و الإثم في المعاصي فالحد المبني على الدرء و الإسقاط أولى.
ـ واتفقوا كذلك على عدم اشتراط الحرية في المحارب، بل يقام عليه حتى ولو كان عبداً؛ لأن قطع الطريق يقع من العبد كما يقع من الحر فيلزمه حكمه كما يلزم الحر، وان المرتد لا يكون محارباً وحكمه غير حكم المحارب. (2)
ـ واتفقوا على أن الأصل في الحرابة قوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (3) وأن المقصود بالمحارب الوارد في الآية هو قاطع الطريق ومخيف السبيل.
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه ص 22
(2) بدائع الصنائع:7/91، المبسوط:9/197،الذخيرة:12/134، مغني المحتاج:5/458، الكافي:4/119، المحلى:12/279.
(3) المائدة الآية 33.(6/7)
ـ واتفقوا كذلك أن الآية نزلت في العرنيين لما قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل (1) لما رواة أنس - رضي الله عنه - " أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكلموا بالإسلام فقالوا يا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف و استوخموا المدينة فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذود وراع وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا الذود فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث الطّلَبَ في آثارهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم "))(2)
ـ واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة على أن من برز وأشهر السلاح ،مخيفاً للسبيل خارج المصر ،بحيث لا يدركه الغوث فهو محارب قاطع للطريق جار عليه أحكام المحاربين. (3)
ـ واتفقوا على أن إقامة حد الحرابة إلى السلطان ولا شيء في ذلك لولي الدم (4)، لما رواه ابن جريج قال:أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم - "إن في كتاب لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والسلطان ولي من حارب الدين، وإن قتل أباه وأخاه فليس إلى طالب الدم من أمر من حارب الدين وسعى في الأرض فساداً شيء. (5)
ـ وما جاء عن الزهري ( قال: عقوبة المحارب إلى السلطان لا تجوز عقوبة ولي الدم ذلك إلى الإمام. (6)
__________
(1) تفسير القرطبي:6/515، المغني والشرح الكبير:10/144، المحلى:12/279.
(2) صحيح: سبق تخريجه ص 294.
(3) المحلى:12/283،الإفصاح لابن هبيرة:2/217،الميزان الكبرى الشعرانية:2/231.
(4) الإقناع في مسائل الإجماع :2/268 . الميزان الكبرى:2/231.
(5) مصنف عبد الرزاق: باب المحاربة10/111 رقم 18554.
(6) المرجع السابق:باب المحاربة ،10/111 رقم18553(6/8)
قال ابن حزم ((1) عقب ذكره الآراء والقائلين بها ليبين أن هذا قول الظاهرية أيضاً " قال أبو محمد وبهذا نقول. (2) "واتفقوا على أن من قتل وأخذ المال منهم وجب عليه إقامة الحد وأن عفو ولي المقتول أو المأخوذ منه ماله غير مؤثر في إسقاط الحد عنه."
ـ واتفقوا على أن من تاب منهم قبل القدرة علبه سقط عنه حقوق الله - سبحانه وتعالى - وأخذ بحقوق الآدميين إلا أن يعفى له عنها، جاء في الإفصاح."واتفقوا على أن من مات منهم قبل القدرة عليه سقط عنه الحد؛لأن الحدود حق الله - سبحانه وتعالى -، وطولب بحقوق الآدميين من الأنفس و الأموال والجراح إلا أن يعفى عنهم فيها. (3)
__________
(1) المحلى:12/288، 289،
(2) تعليق: ولعل ابن حزم ( مع جلالة قدره في العلم وطول باعه قد وهم حيث أنه في موطن آخر يجعل للأولياء الحق في العفو عن القاتل في الحرابة، فقال في المحلى: 11/183 "00 فوجدنا الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ و الأنثى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } البقرة آية 178]، فعم الله تعالى كل قتل، وجعل العفو في ذلك للولي، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ومن قتل له قتيل بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين."فذكر الدية أو القود أو المفاداة، والدية لا تكون إلا بالعفو عن القود بلا شك، فعم - صلى الله عليه وسلم - ولم يخص، ونحن نشهد شهادة الله أن الله تعالى لو أراد أن يخص من ذلك قتل غيلة أو حرابة لما أغفله ولا أهمله ولبينه - صلى الله عليه وسلم -."
(3) الإفصاح:2/217، المحلى:12/289، الميزان الكبرى:2/231، الكافي:4/117.(6/9)
ـ واتفقوا كذلك على أن حفظ المال من الضروريات الخمس، لا يجوز إهداره ويجب الحفاظ عليه حتى ولو قاتل في سبيله، لما رواه الإمام مسلم ( عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال:هو في النار. (1)
ـ وما جاء عن ثمامة بن عبد الله - رضي الله عنه - أن أنساً - رضي الله عنه - حدثه أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب ـ لما وجهه إلى البحرين ـ بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن سئلها على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط. (2)
وجه الدلالة: في الأحاديث دلالة على أنها تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان من غير فرق بين القليل والكثير إذا كان الأخذ بغير حق . (3)
ـ واتفقوا على أنه يقبل في إثبات الحرابة شهادة عدلين.(4) أو الإقرار من المحارب.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق 1/124 رقم 140.
(2) صحيح :أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم 2/527 رقم 1386.
(3) تحفة الأحوذي:4/565.
(4) وقد سبق انفراد ابن حزم ( بقبوله شهادة النساء في الحدود.(6/10)
ـ واتفقوا كذلك على أنه ينبغي مناشدة المحارب أولاًً إذا كان في الأمر مهلة و إلا فلا؛ لقوله تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (1) فهذا أمر بالتعامل بالحسنى متى كان ذلك ممكناً.
قال ابن حزم ( "المعتمد عليه في الأخبار التي صدرنا بها في " كتابنا في المحاربين " من إباحة القتل دون المال وسائر المظالم , لكن إن كان على القوم المقطوع عليهم , أو الواحد المقطوع عليه , أو المدخول عليه منزله في المصر - ليلا أو نهارا - في أخذ ماله , أو في طلب زنا: أو غير ذلك , مهلة , فالمناشدة فعل حسن , لقول الله تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } فإن لم يكن في الأمر مهلة , ففرض على المظلوم أن يبادر إلى كل ما يمكنه به الدفاع عن نفسه - وإن كان في ذلك إتلاف نفس اللص والقاطع من أول وهلة - فإن كان على يقين من أنه إن ضربه ولم يقتله ارتدع , فحرام عليه قتله. فإن لم يكن على يقين من هذا , فقد صح اليقين بأن مباحا له الدفع والمقاتلة، فلا شيء عليه إن قتله من أول ضربة أو بعدها قصدا إلى مقتله أو إلى غير مقتله ; لأن الله تعالى قد أباح له المقاتلة والمدافعة قاتلا ومقتولا. (2)
ونص المالكية ـ في الراجح عندهم ـ على أن مناشدته تكون ثلاثاً. (3)
__________
(1) النحل آية 125.
(2) المحلى:12/291.
(3) مواهب الجليل:6/314، حاشية الدسوقي:6/360.(6/11)
ـ وبعد هذا القدر من الاتفاق فقد خالف ابن حزم ( الجمهور في أنه لو كان المحارب ضعيفاً بحيث يمكن دفعه، فقتله صاحب الدار، فعلى صاحب الدار القود، ورأيه له وجاهته،وذلك بناء ً على اشتراطه الشوكة والمنعة، والمحارب بضعفه افتقد هذا الشرط ، إلا أن قوله بالقود قول مرجوح؛ لأنه وإن كان المحارب ضعيفاً فإن قتله ليس من القود؛ لأن فيه شبهة المدافعة، وقول الأئمة ( بمناشدة المحارب محمول على الاستحباب. ورد في حاشية الدسوقي "000 فيقاتل بعد المناشدة، والمناشدة مندوبة كما في الخطاب، ويندب أن يكون ثلاث مرات." (1)
وعند ابن حزم ( المناشدة على الوجوب.
قال ابن حزم ((2) "فأما لو كان اللص من الضعف بحيث لا يدافع أصلاً، أو يدافع دفاعاً يوقن معه أنه لا يقدر على قتل صاحب الدار، فقتله صاحب المنزل فعليه القود؛ لأنه قادر على منعه بغير القتل فهو مستعد ".
ـ ثم أفلا يقاس هذا على من نظر في بيت قوم بدون إذنهم ففقئوا عينيه حيث أنه لا دية عليهم؟ وابن حزم ( يبدو أنه قد وافق الجمهور في موطن آخر من محلاه حيث ذهب إلى أن أقل توقع ـ توقع وليس مقاتلة ـ من صاحب الدار مدافعة اللص أو المحارب توجب قتله ولا شيء في ذلك.
فيا عجباً! أفلا يكون توقع المدافعة عنده شبهة دارئة للقود، ولعل هذا مما تناقض فيه قول ابن حزم .
قال ابن حزم ((3) "فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من لص , أو غيره , فإن تيسر له طرده منه ومنعه: فلا يحل له قتله , فإن قتله حينئذ: فعليه القود - وإن توقع - أقل توقع - أن يعاجله اللص ـ: فليقتله ولا شيء عليه , لأنه مدافع عن نفسه."
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الحرابة.
خالف الظاهرية الأئمة الأربعة في مسائل:
المسألة الأولى:التزام المحارب أحكام الإسلام .
* تحرير محل النزاع:
__________
(1) حاشية الدسوقي:6/361.
(2) المحلى:12/291.
(3) المحلى :11/211 .(6/12)
اتفقت كلمة الفقهاء على أن المحارب إذا كان مسلماً فيطبق عليه حد قطاع الطريق. (1)
ـ واتفقوا كذلك على أن المرتد لا يكون محارباً، قال ابن حزم ( "فصح يقيناً أن حكم المرتد الذي أوجب الله - سبحانه وتعالى - في القرآن وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هو غير حكمه في المحارب، فصح يقيناً أن المحارب ليس مرتداً ". (2)
واختلفوا في الذي يلتزم بأحكام الإسلام كالذمي إذا حارب هل يطبق عليه حد قطاع الطريق أو لا؟
* سبب الخلاف:
يرجع سبب الخلاف إلى اختلافهم في اشتراط الإسلام، واشتراط التزام أحكام الإسلام، فمن ذهب إلى اشتراط الإسلام قال: بأن الذمي لا يكون محارباً. (3) ،ومن ذهب إلى اشتراط التزام أحكام الإسلام قال: بتوقيع حد قطاع الطريق على الذمي. (4)
ويرجع سبب الخلاف كذلك إلى كون محاربة الذمي ناقض للعهد أم لا؟ فمن ذهب إلى القول بنقض العهد قال: بعدم تطبيق حد الحرابة، ومن قال :بعدم نقضهم العهد قال: بإقامة أحكام الحرابة عليهم.
آراء الفقهاء
*الرأي الأول:وهو لجمهور الفقهاء من الحنفية(5) والمالكية(6)والشافعية(7) والحنابلة. (8)
ويرون بأنه لو حارب الذمي يحد لقطع الطريق؛لأن المشترط التزامه أحكام الإسلام، أما المرتد لو حارب فلا يكون محارباً؛ لأنه قد خرج عن الدين فأصبح كافراً.
__________
(1) بدائع الصنائع:7/97، الذخيرة للقرافي:12/134، مغني المحتاج:5/458، الكافي:4/119، المحلى:12/279.
(2) المحلى:12/279.
(3) الذخيرة 12/123، نيل المآرب:2/298.
(4) المحلى:12/279.
(5) مجمع الأنهر:1/629.
(6) الذخيرة:12/123.
(7) مغني المحتاج:5/498.
(8) نيل المآرب 2/298.(6/13)
واستدلوا بقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1)
وجه الدلالة:أن الآية تنص على حكم قطاع الطريق وهي عامة تشمل المسلم والذمي .
*الرأي الثاني:وهو للظاهرية. (2)
ويرون أن الذمي إذا حارب فهو ناقض لذمته ، منتقل إلى أحكام أهل الحرب، وليس له حكم المحارب، ولا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف، أما المسلم إذا ارتد وحارب فتنطبق عليه أحكام أهل الحرابة.
قال ابن حزم ( "أما الذمي - إن حارب فليس محاربا , لكنه ناقض للذمة ; لأنه قد فارق الصغار , فلا يجوز إلا قتله ولا بد , أو يسلم , فلا يجب عليه شيء أصلا في كل ما أصاب من دم , أو فرج , أو مال , إلا ما وجد في يده فقط ; لأنه حربي لا محارب ". (3)
واستدلوا بقوله تعالى: { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } (4)
وجه الدلالة: أن الذمي إذا طعن في الدين وحارب انتقض عهده وكان ماله وولده فيئا. (5)
وقد نوقش هذا من جهتين:
1 ـ أن المخاطب في هذه الآية هم المشركون لقوله تعالى: { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } (6)
__________
(1) المائدة آية 33.
(2) المحلى:12/279.
(3) المحلى:12/293.
(4) التوبة آية 12.
(5) تفسير القرطبي:8/83.
(6) التوبة آية 4.(6/14)
2ـ أن هذا الحكم قد يكون في اصل الذمة في حالة ما إذا اشتركوا في حرب ضد المسلمين فنقضوا بذلك العهد، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع يهود بني النضير.
أما المرتد لو حارب فتطبق عليه أحكام الحرابة، والدليل على ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين وكانوا مرتدين محاربين.(1)
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ،فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من اعتبار الذمي إذا حارب قاطعاً للطريق، وتسري عليه أحكام المحاربين، وكذا ما ذهبوا إليه من أن المرتد إذا حارب لا تقام عليه أحكام المحاربين للأسباب الآتية:
أ ـ أن آية المحاربة عامة يدخل تحتها المسلم والذمي، وذلك لدخول أهل الذمة تحت أحكام الإسلام في بلاد المسلمين .
ب ـ أن الحرابة حد كسائر الحدود الأخرى تقام على المسلم وعلى الذمي.
ج ـ أن المسلم لو ارتد فقد خرج من دائرة الإسلام إلى الكفر ،ويشترط في المحارب التزامه أحكام الإسلام.
د ـ أن حكم المرتد هو القتل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أهدر دمه إلا أن يتوب فقال - صلى الله عليه وسلم - "من بدل دينه فاقتلوه."
__________
(1) المحلى:12/293.(6/15)
هـ ـ أنه يحمل خبر العرنيين على أنهم قد حاربوا أولاً ثم ارتدوا، لذا أقام - صلى الله عليه وسلم - حد الحرابة عليهم، ويدل على كونهم قد حاربوا أولا ً ما رواه الإمام مسلم ( بسنده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن ناسا من عرينة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجتووها فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام وساقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث في أثرهم فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. (1)
المسألة الثانية:ضمان الصبي والمجنون في حد الحرابة.
*تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على عدم وجوب إقامة حد قاطع الطريق على الصبي والمجنون؛ لعدم تكليفهما إذا باشرا الفعل، واتفقوا على عدم تضمينهما إذا لم يباشرا الفعل أو أحدهما، واختلفوا فيما لو باشر أحدهما الفعل هل يضمن أو لا؟ (2)
أقوال الفقهاء
*الرأي الأول:وهو للحنفية، (3) والمالكية، (4) والشافعية، (5) الحنابلة. (6)
ويرون أن الصبي والمجنون إذا باشرا الفعل في الحرابة يسقط عنهما الحد وعليهما ضمان النفس والمال، على خلاٍف هل الضمان في مالهما أو في مال عاقلتهما.
*الرأي الثاني:وهو للظاهرية.(7)
__________
(1) صحيح:أخرجه مسلم: كتاب القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين 3/1296 رقم 1671.
(2) بدائع الصنائع: 7/67، الذخيرة للقرافي:12/131، المغني والشرح الكبير:10/151، كشاف القناع: 6/151، المحلى:12/216.
(3) شرح فتح القدير:5/429، البحر الرائق:8/428.
(4) الذخيرة للقرافي:12/131.
(5) نهاية المحتاج:8/4.
(6) المغني والشرح الكبير:10/151، كشاف القناع:6/151.
(7) المحلى:10/220.(6/16)
ويرون بأنه لا ضمان على الصبي والمجنون، ولا قود من السكران، وإنما من فعل هذا من الصبيان أو المجانين أو السكارى فيحبس في بيته ليكف أذاه حتى يتوب السكران ويفيق المجنون ويبلغ الصبي.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول على عدم إقامة الحد بما يلي :
1ـ وجه سقوط الحد عنهما :قوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق." (1)
وجه الدلالة:أن الصبي والمجنون مرفوع عنهما المآخذة لعدم تكليفهما.
ـ أن الحرابة حد والصبي والمجنون ليسا من أهل الحدود فلا يقام عليهما الحد. (2)
2ـ وجه تضمينهما: ما جاء عن يحي بن سعيد الأنصاري - رضي الله عنه - أن مروان كتب إلى معاوية - رضي الله عنه - في مجنون قتل رجلاً؟فكتب إليه معاوية - رضي الله عنه - اعقله ولا تقد منه فإنه ليس على مجنون قود. (3)
ـ قياس المحاربة على غيرها، كما لو أتلفا مالاً أو قَتلا في غير الحرابة. (4)
ـ القياس على السارق إذا درئ عنه الحد وجب عليه ضمان المال، وكالزاني إذا سقط عنه الحد وجب عليه المهر. (5)
ـ أنهم لو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض وادعى الخطأ وعدم القصد. (6)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والآثار والمعقول :
أما السنة :فقوله - صلى الله عليه وسلم - " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ."(7)
وجه الدلالة:أن مال الصبي والمجنون حرام كتحريم دمائهم، ولا نص في إيجاب غرامة عليهم أصلاً.
__________
(1) صحيح:سبق تخريجه ص 23.
(2) المغني والشرح الكبير:10/151.
(3) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك للعلامة سيدي محمد الزرقاني ت 1122، طبعة دار المعرفة 1981، ج 4 ص 177، سنن البيهقي الكبرى: كتاب النفقات، باب من عليه القصاص في القتل وما دون8/42 رقم 15757.
(4) كشاف القناع:6/151.
(5) أحكام القرآن للجصاص:2/580.
(6) إعلام الموقعين:2/116.
(7) صحيح: سبق تخريجه ص27.(6/17)
أما الآثار: فما جاء عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنهم -: أنه في كتاب لأبيه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: لا قود ولا قصاص ،ولا حد ولا جراح ولا قتل ولا نكال على من لم يبلغ الحلم ،حتى يعلم ماله في الإسلام وما عليه. (1).
أما المعقول : أن إيجاب الغرامة شرع فإذا كان بغير نص من قرآن أو سنة فهو شرع في الدين لم يأذن به الله. (2)
المناقشة
منا قشة أدلة أصحاب الرأي الأول:نوقش دليلهم من الآثار بما يلي:
أ ـ بأنه لا يصح؛لأن يحيى بن سعيد الأنصاري - رضي الله عنه - لم يولد إلا بعد موت معاوية - رضي الله عنه -، ثم لو صح لم كان فيه حجة؛ لأنه ليس فيه أن الغرامة في مال المجنون، ولا أنها على عاقلته إنما فيه أمر مروان بأن يعقله وظاهر الأمر أن عقله من بيت المال.
ب ـ أن معنى اعقله أي احبسه بالعقال (القيد)كما فسر ذلك الزرقاني ((3) وبهذا لا يكون في الأثر دلالة على تضمين المجنون، بل غاية ما فيه سقوط القصاص عنه ونحن نقول بهذا.
ج ـ أن هذه أقوال بلا دليل , لا من قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا رواية عن صاحب أصلا , ولا قياس , وما كان هكذا فهو باطل متيقن. وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقاس على العامد , وقياسه على الخطأ باطل لو كان القياس حقا ; لأنه لا يقاس عندهم الشيء إلا على نظيره ومشبهه , ولا شبه بين العاقل البالغ وبين الصبي المجنون أصلا - فبطل كل ما قالوه. (4)
وقد أجيب عن هذا:
أن هذا القول غير مسلم ؛ إذ هناك دليل من القياس على تضمين الصبي، وما الفرق بين ضمان الصبي في غير الحرابة وتضمينه في الحرابة.
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:نوقش دليلهم من السنة بما يلي:
__________
(1) مصنف عبد الرزاق:كتاب الشهادات، باب القود ممن لم يبلغ الحلم، ج 9/478 رقم 18064.
(2) المحلى:10/220.
(3) شرح الزرقانى: 4/177.
(4) المحلى:10/217.(6/18)
سلمنا بأن مال الصبي والمجنون حرام بغير نص، أما القول بأنه لا نص في إيجاب غرامة عليهم أصلاً فغير مسلم؛لتضمين متلف الشيء وذلك صيانة لحقوق الناس عن الانتهاك، ثم إن هذا الحديث عام يشمل أموال الصبيان والمجانين والمكلفين، وهي حرام أخذها بغير حق، وإقرار الدية والضمان أخذ بحق.
نوقش دليلهم الثاني بما يلي:
أنه في غير محل النزاع، وذلك لكونه لا يعارض الضمان على الصبي أو المجنون؛إذ كل ما فيه أنه لا قصاص ولا قود على الصبي والمجنون، وهذا مما لا يخالف فيه أحد.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، يتضح أن أدلة كلا الرأيين لم تخل من المناقشة، إلا أن الرأي منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تضمين الصبي والمجنون ،وذلك للأسباب الآتية :
ـ أن في ذلك صيانة لأموال الناس عن الانتهاك، و إلا صار كل من تسول له نفسه أخذ أموال الناس بالباطل أن يسلط صبياً أو مجنوناً لإسقاط الحد و الضمان.
ـ أن أموال الصبيان والمجانين والمكلفين وغيرهم حرام لا يؤخذ منها إلا بالحق، وليس هناك تعارض البتة بين سقوط الحد لعدم التكليف وبين الحكم عليه بتعويض ما أتلفه لغيره.
ـ أن في إسقاط الحد و انعدام الضمان إجحاف بحقوق المقطوع عليهم، وليس في هذا ردع للجاني.
ـ أن الآثار التي استدل بها أصحاب الرأي الثاني ـ إن صحت ـ فلا دلالة فيها على نفي الضمان لما سبق بيانه أثناء مناقشة هذه الأدلة.
المسألة الثالثة: هل يستوفى حق الآدمي بعد استيفاء حق الله؟
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المحارب لو تاب قبل القدرة عليه سقط عنه حق الله- سبحانه وتعالى - وأخذ بحقوق العباد،إلا أن يعفى له عنها. (1)واتفقوا كذلك على أنه لو أخذ قبل توبته يستوفى منه حق الله - سبحانه وتعالى - في الحرابة، واختلفوا هل للولي بعد ذلك حق أو لا؟
__________
(1) الإفصاح:2/217، الميزان الكبرى:2/231، الروض المربع: ص 497، المحلى:12/289.(6/19)
سبب الخلاف:هل القتل في الحرابة حق الله- سبحانه وتعالى - أو للآدمي؟فعند القائلين: بأنه حق الله تعالى ، هل باستيفاء حق الله تعالى يسقط حق العبد،أو أن حق العبد لا يسقط ويستوفيه بنفسه أو بوليه. (1)
آراء الفقهاء
* الرأي الأول: وهو للحنفية(2) والمالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة (5)
ويرون أن القتل في الحرابة حق الله - سبحانه وتعالى - وللآدمي، فإذا اجتمع حق الله وحق العبد في الحرابة، فكان قد قتل ،أو أخذ مالا ،واستوفى الإمام حق الله بالقتل أو القطع فليس للأولياء حق. (6)
__________
(1) العناية على الهداية:5/427،الذخيرة 12/134،البيان:12/505،المحلى:12/289.
(2) شرح فتح القدير:5/427، العناية على الهداية:5/427.
(3) الذخيرة:12/134.
(4) البيان:12/505، الوسيط:6/500.
(5) المغني والشرح الكبير:10/152،154.
(6) تعليق: غير أن الحنابلة يرون أنه إن قتل جماعة في المحاربة قتل بالأول حتماً وللباقين ديات أوليائهم؛لأن قتله استحق بقتل الأول وتحتم بحيث لا يسقط، فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات. (المغني والشرح الكبير:10/152،154.)
ـ ولا يختلط هذا بقول الظاهرية؛لأن الظاهرية يقولون بأنه في القتيل الواحد يستوفى حق الله - سبحانه وتعالى - في المحاربة، ثم ينتقل الأمر إلى الولي بالعفو أو الدية.
ـ ويرى الحنفية أنه إن كان لم يقتل ولم يأخذ مالاً وقد جرح، فما كان من جراحة يجرى فيه القصاص، وذلك بناءً على اعتبار أنه لم يرتكب ما يوجب حد الحرابة، وإن كان قد أخاف السبيل فيعزره الإمام، والجراحة حق العبد، يؤدى ويجري فيه القصاص.(شرح فتح القدير:5/427، العناية على الهداية:5/427.)
ـ والحنابلة والشافعية يرون أنه يضمن آخذ المال كذلك دون غيره وإن أقيم عليه الحد.((المغني والشرح الكبير:10/ 152.)، وإن أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله- سبحانه وتعالى - وكانت الأموال موجودة ردت إلي مالكها، وإن كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على آخذها وهو مذهب الشافعي (.(أسنى المطالب:4/156.(6/20)
وذلك لأنه لما وجب الحد حقاً لله تعالى سقطت عصمة النفس، فلا يكون للأولياء حق إلا إذا سقط الحد فأما إن أقيم بأي صورة كانت فلا حق للأولياء.
واستدلوا بالكتاب والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1)
وجه الدلالة:أن الله- سبحانه وتعالى - ذكر القتل هاهنا وأطلقه ولم يضفه إلى ولي المقتول، فلو كان ذلك إلى اختيار ولي المقتول لأضافه إليه، كما أضاف إليه القتل في غير المحاربة في قوله تعالى: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورا } (2) قال القرطبي (:" وأجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء ولا يجوز عفو ولي الدم والقائم بذلك الإمام، جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى."
المعقول: أن ما أوجب عقوبة في غير المحارب تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة كأخذالمال. (3)
*الرأي الثاني:وهو للظاهرية (4) و الشافعية في قول. (5)
ويرون أنه إذا استوفى الإمام الحد فللأولياء حق بعد ذلك، فإذا اختار الإمام القطع ،كان للولي الخيار في قتله أو الدية أو العفو.
المناقشة
__________
(1) المائدة آية 33.
(2) الإسراء من الآية 33.
(3) البيان:12/505.
(4) المحلى:12/289.
(5) البيان:12/505.(6/21)
وقد ناقش ابن حزم ( أصحاب الرأي الأول قائلاً: ولقد تناقض هاهنا الحنفيون , والمالكيون , أسمج تناقض ; لأنهم لا يختلفون في الحج , والصيام , والزكاة , والكفارات , والنذور , بأن حقوق الناس أولى من حقوق الله تعالى - وأن ديون الغرماء أوجب في القضاء من ديون الله تعالى , وأن شروط الناس مقدمة في الوفاء على شروط الله تعالى - وقد تركوا هاهنا هذه الأقوال الفاسدة , وقدموا حقوق الله تعالى على حقوق الناس. (1)
و يجاب عن هذا:
أنه قد اجتمع حق الله - سبحانه وتعالى - وحق الآدمي، والعقوبة واحدة، فيتداخل أحدهما في الآخر، خاصة وأن السبب واحد وهو القتل، فكان الأصل وهو تحتم القتل عقوبة لكلا الحقين فيتداخلان، ثم إن القتل أصل وقد استوفي فلا حاجة إذن إلى القول بالبدل عنه، فيكون هذا من باب إيجاب الأصل والبدل عن فعل واحد.
ونوقش قول ابن حزم ( بأنه قد قتل كذلك حقاً للآدمي وحق الله في الحرابة هو تحتم قتله، ولم يقل أحد باجتماع القصاص والدية أي الأصل والبدل في قتيل واحد.
الرأي الراجح
بعد العرض السابق، فالرأي المختار هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول بأن الإمام إذا استوفى الحد فلا حق للأولياء في شيء بعد ذلك؛لوقوع الاستيفاء، وذلك لقوة أدلة هذا الرأي، ومسايرته للتشريع الإسلامي وسماحته بعدم اجتماع القتل والدية لفعل واحد.
وقد ذكر الإمام الغزالي ( أثر هذا الخلاف قائلاً:"000وإن تمحض العمد فعلق به حق الله - سبحانه وتعالى - قطعاً فإنه يقتل، وإن عفا ولي القتيل، ولكن هل يثبت للقتيل حق مع الله- سبحانه وتعالى -، للشافعي ( فيه قولان وتظهر فائدته في خمس مسائل:
أحدهما:لو قتل ذمياً أو عبداً أو أمة ـ ومن لا يكافئه بالجملة ـ فإن محضنا حق الله - سبحانه وتعالى -قتل، وإن قلنا فيه قصاص لم يقتل 000
الثانية:إن مات القاتل وقلنا إنه محض حد فلا دية للقتيل، وإن قلنا فيه حق لآدمي فله الدية.
__________
(1) المحلى:12/289، 290.(6/22)
الثالثة:إذا قتل جماعة اكتفى به إن جعلناه حداً، و إلا قتل بواحد وللآخرين الدية.
الرابعة:لو عفا الولي على مال فلا أثر له إن جعلناه حدا، و إلا فله الدية ويقتل حداً.
الخامسة:لو تاب قبل الظفر سقط الحد وبقي القصاص حتى يسقط بعفوه؛ إن جعلناه حقاً و إلا فيسقط بالكلية، ولعل الأصح الجمع بين الحقين ما أمكن، فإن سقط الحد بالتوبة أو القصاص بالعفو فيبقى الآخر خالياً عن الزحمة فيستوفى.
المبحث الثالث
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة في الحرابة.
وفي هذا المبحث أحكام وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة وخالفوا البعض الآخر كالتالي:
المسألة الأولى
الحكم إن كان في قطاع الطريق صبي أو مجنون أو ذو رحم.
*تحرير محل النزاع :
اتفق الفقهاء على أن المكلفين لو قطعوا الطريق وقتلوا وأخذوا مالاً يقام الحد على المباشر، واختلفوا في الردء (التابع)(1)أما لو كان في القطاع صبي أو مجنون فاتفق الفقهاء على أنه لا يقام حد الحرابة على الصبي أو المجنون لعدم التكليف؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق."(2) ،واختلفوا في الباقين هل يقام عليهم الحد أو لا؟
* سبب الخلاف:
__________
(1) ورد في الإفصاح لابن هبيرة: 2/216 "واختلفوا فيما إذا اجتمع محاربون فباشر بعضهم القتل و الأخذ وكان بعضهم ردءا أو عونا ً هل يقتل الردء أو تجري عليه بقية أحكام المحاربين؟ قال أبو حنيفة ومالك وأحمد ( للردء حكمهم في جميع أحوالهم، وقال الشافعي ( لا يجب على الردء سوى التعزير فحسب.: المبسوط:9/198، تبيين الحقائق:3/238، شرح فتح القدير: 5/427، المدونة الكبرى:4/255، الميزان الكبرى الشعرانية:2/233، الأم: 7/349،الإنصاف:10/295، دقائق أولي النهى:3/382، كشاف القناع:6/151،
(2) صحيح : سبق تخريجه ص 23 .(6/23)
ويرجع سبب الخلاف إلى كون الجناية في حقهم تعتبر جناية واحدة، أم أنها جناية كاملة في حق كل منهم، فمن قال: بكونها جناية واحدة قال :بسقوط الحد عن الباقين، وهم الحنفية(1) ومن رأى كونها جناية كاملة في حق كل واحد منهم أسقط الحد عن الصبي والمجنون، واتفقوا على أن الحد يقام على المباشر، واختلفوا في الردء (التابع) فالحنابلة(2)والشافعية(3)قالوا: بعدم إقامة الحد على الردء.
* الرأي الأول:وهو للحنفية. (4)
ويرون إسقاط الحد عن الجميع (المكلف وغير المكلف)، واشترطوا في ذي الرحم أن يكون المال مشتركاً بين المقطوع عليهم وفي القطاع ذي رحم محرم من أحدهم.
بينما ذهب أبو يوسف ( إلى التفصيل فقال:(5)لو باشر العقلاء الأخذ والقتل يحد الباقون، وإن باشر ذلك الصبي أو المجنون فلا يحد الباقين، ووجهه: أن المباشر هو الأصل و الإعانة عليه كالتابع فإن وليه الصبي لم يجب الحد عليه وهو الأصل فيجب عليه الحد ويسقط عن التابع، وسقوطه عن التابع لا يوجب سقوطه عن الأصل.
*الرأي الثاني:وهو للمالكية و الشافعية و الحنابلة والظاهرية . (6)
ويرون أن الحد يسقط عن الصبي و المجنون في كل حد سواء ولي أحدهما قطع الطريق أو ولي غيره , ويقام على المكلف .
واختلفوا في حالة كونه ردءاً أو مباشراً: فالشافعية: أسقطوا الحد عن الردء مطلقاً حتى ولو كان ردءاً للبالغ , واشترطوا لإقامة الحد على البالغ كونه شارك الصبي أو المجنون في الفعل.
__________
(1) شرح فتح القدير:5/429.
(2) المغني والشرح الكبير:10/151.
(3) البيان:12/503.
(4) شرح فتح القدير: 5/429، 430، بدائع الصنائع: 7/67،91، تبيين الحقائق:3/239.
(5) شرح فتح القدير: 5/429، 430.
(6) مواهب الجليل: 6/314, المدونة الكبرى: 4/430, البيان: 12/503, المحرر في الفقه: 2/161, المغني والشرح الكبير: 10/151, المحلى: 10/216.(6/24)
أما الحنابلة: فأسقطوا الحد عن الردء أن كان ردءاً للصبي , أما إن كان ردءاً للبالغ فلا يسقط عنه.
جاء في المغني: (1)" لا حد على الصبي والمجنون وان باشر القتل وأخذ المال؛ لأنهما ليسا من أهل الحدود , وعليهما ضمان ما أخذ من المال في أموالهما ودية قتيلهما على عاقلتهما , ولا شيء على الردء لهما؛ لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى , وإن كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء؛ لأنه لم يثبت في حقهما حكم المحاربة , وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة."
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:
أن قطع الطريق جناية واحدة؛ لأن الموجود من الكل يسمى جناية قطع الطريق ،غير أنها لا تتحقق في الغالب إلا بجماعة فكان الصادر من الكثير جناية واحدة قامت بالكل , فإذا لم يقع فعل بعضهم(الصبي والمجنون) موجبا للحد لشبهة (لكونه ذي رحم محرم) أو عدم التكليف (الصبي و المجنون) لا يوجب في حق الباقين ; لأن فعل الباقين حينئذ بعض العلة , و ببعض العلة لا يثبت الحكم وصار كالخاطئ مع العامد إذا اجتمعا في قتل معصوم الدم يسقط القصاص عن العامد. (2)
استدل أصحاب الرأي الثاني بما يلي:
ـ بقوله - صلى الله عليه وسلم -:"((رفع القلم عن ثلاث.عن النائم حتى يستيقظ, و عن الصبي حتى يبلغ , وعن المجنون حتى يفيق ,.")) (3)
وجه الدلالة: أن الحديث يوضح رفع القلم عن هؤلاء الثلاثة فيبقى الحكم ساريا ً في حق غيرهم.
ـ أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين , كما لو اشتركوا في وطء امرأة. (4)
ـ أن فعلها لا يوصف بالجناية؛ ولهذا لم يجب عليهما سائر الحدود كذا هذا.
الرأي الراجح
__________
(1) المغني والشرح الكبير :10/151 .
(2) شرح فتح القدير: 5/430, بدائع الصنائع: 7/67, تبين الحقائق: 3/239.
(3) صحيح: سبق تخريجه ص23.
(4) المغني والشرح الكبير: 10/151.(6/25)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم فالرأي الراجح منها هو رأي جمهور الفقهاء القائلين :بعدم إقامة حد الحرابة على الصبي والمجنون،وإقامته على غيرهما.
ـ وما ذهب إليه الحنفية من سقوط الحد عن جميع المكلفين وغيرهم , يؤدي إلى الإفلات من العقوبة , فيكون سبباً في إهدار الدماء و الأموال حينما يفطن لذلك المجرمون من قطاع الطريق فيصحبون الصبيان والمجانين عند قطعهم الطريق.
ـ أما ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من سقوط الحد عن المكلفين الذين لم يشتركوا مع الصبي والمجنون في الفعل فقول مردود. بأنه قد ثبت أن الردء والمعاون سواء في وجوب إقامة الحد عليهم. (1)
ـ ومن العجب في هذا الأمر التفريق بين الردء للصبي والردء للمكلف فأسقطوا الحد عن الأول ,وأوجبوه على الثاني , وهو في كلا الحالين غير مباشر، فيحب الاتفاق في الحكم لاتحاد العلة وهي عدم المباشرة.
المسألة الثانية: قطع الطريق في المصر.
*تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أنه من برز أو اشهر السلاح مخيفاً للسبيل، خارج المصر بحيث لا يدركه الغوث فإنه محارب قاطع للطريق جار عليه أحكام المحاربين,واختلفوا فيمن فعل ذلك في المصر هل يكون حكمه حكم من فعل ذلك خارج المصر؟ كما اختلفوا فيما إذا وقع الفعل في دار الحرب هل يطلق عليه حرابة أو لا؟ (2)
أقوال الفقهاء
__________
(1) الحرابة في الفقه الإسلامي: ص 700.
(2) المبدع: 9/141, المحلى: 12/274. الإفصاح: 2/217،الميزان الكبرى: 2/231,(6/26)
*الرأي الأول:وهو للمالكية ،والشافعية ،وجمهور الحنابلة ، ورواية عن أبي يوسف ،و الظاهرية .(1) ويرون بأنه يثبت حكم قطع الطريق في المصر أو غيره إذا منع أهله من الاستغاثة ،فلا يشترط البعد عن العمران,بل يشترط فقد الغوث (2)
كما ذهبوا إلى اعتبار الفعل الواقع في دار الحرب حرابة؛ لأنه يستوي في حق المسلم والذمي ارتكاب الفعل المحرم في دار الإسلام أو في دار الحرب , كما أن اختلاف الدارين لا يؤثر على تحريم الفعل على العقوبة المقررة جزاء اقتراف هذا الفعل المحرم.
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف ( أنهم إن قصدوا المصر بالسلاح فتجري عليهم أحكام قطاع الطريق؛ لأن السلاح لا يلبث فلا يلحقهم الغوث , وإن قصدوا بالحجر أو الخشب فإن كان خارج المصر فكذلك الحكم؛ لأن الغوث لا يلحقهم , وإن كان بقرب منه، وإن كان في المصر فإن كان بالليل فكذلك أيضاً؛ لأن الغوث لا يلحقهم , وإن كان بالنهار لا تجري عليهم أحكام قطاع الطريق. (3)
*الرأي الثاني: وهو رأي أبو حنيفة ومحمد وبعض الحنابلة. (4)
ويرون أنه لا يثبت حكم قطع الطريق إلا أن يكون خارج المصر , وقد استحسن هذا الحنفية ( , وقالوا أيضاً :بأن وقوع الفعل في دار الحرب لا يطلق عليه حرابة؛ وذلك لأن العقاب أساسه الولاية على محل الجريمة وقت ارتكابها,والولاية منعدمة في دار الحرب فلا يقدر على الإقامة.
الأدلة
__________
(1) , شرح فتح القدير: 5/431, الذخيرة: 2/127, بداية المجتهد: 6/191, جواهر الإكليل:2/433 ، كفاية الأخيار: 640, تحفة المحتاج: 4/151, الأم: 12/572 ،الشرح الكبير: 10/329., المحلى: 12/274..
(2) ذكر ابن قدامة ( أن الإمام أحمد توقف في هذه المسألة , ظاهر كلامه أنهم غير محاربين وهو قول الخرقي(.الشرح الكبير: 10/328.
(3) تبيين الحقائق: 3/239, مجمع الأنهر: 1/931.
(4) بدائع الصنائع: 7/92, شرح فتح القدير: 5/431, الكافي: 10/166, المغني والشرح الكبير: 10/144.(6/27)
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والمعقول.
أما الكتاب:
فقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
وجه الدلالة: أن الآية عامة تتناول كل محارب ولم تفرق بين أن يكون في صحراء أو في المصر فيثبت حكم المحاربة في الأمصار والطرق على السواء لعموم قوله تعالى " ويسعون فى الارض فسادا ". (1)
أما المعقول فمن وجوه:
الأول :أن العبرة بانقطاع الغوث، فحيث انقطع في مصر أو صحراء فهو قطع طريق؛ وذلك لتمكنه من الاستيلاء والقهر. (2)
الثاني:أنه إذا وجبت عليهم هذه الحدود إذا فعلوا ذلك في الصحراء وهو موضع الخوف، فلا يجب عليهم ذلك إذا فعلوا ذلك في المصر وهو موضع الأمن أولى.(3)
الثالث :أن سبب الوجوب قد تحقق وهو قطع الطريق فيجب الحد كما لو كان في غير المصر. (4)
أدلة أصحاب الرأي الثاني :
استدلوا بالمعقول من وجوه:
1ـ أن قطع الطريق إنما يكون في الصحراء , ولأن المصر يلحق في الغوث غالباً فتذهب شوكتهم ويكونوا مختلسين والمختلس ليس بمحارب. (5)
2ـ أن القطع لا يحصل بدون الانقطاع , والطريق لا ينقطع في الأمصار وفيما بين القرى؛ لأن المارة لا تمتنع من المرور عادة , فلم يوجد السبب. (6)
__________
(1) أضواء البيان:1/396،397.
(2) مغني المحتاج: 5/499.
(3) البيان:12/501، شرح الزركشي:6/364.
(4) بدائع الصنائع:7/92.
(5) الكافي: 4/116, شرح الزركشي: 6/394.
(6) بدائع الصنائع: 7/92.(6/28)
3ـ ولأن السبب محاربة الله تعالى وهي إنما تتحقق في المفازة لأن المسافر لا يلحقه الغوث فيها فيسير في حفظ الله تعالى معتمدا عليه فمن تعرض له يكون محاربا لله تعالى وأما في المصر وفي القريب منه فيلحقه الغوث من السلطان والمسلمين فيكون اعتماده عليهم فيتمكن النقصان في فعل من يتعرض له من حيث محاربة الله تعالى فلا يحد. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:
ناقش صاحب بدائع الصنائع ( أصحاب هذا الرأي بقوله:
"إ نما أجاب أبو حنيفة - عليه الرحمة - على ما شاهده في زمانه ; لأن أهل الأمصار كانوا يحملون السلاح فالقطاع ما كانوا يتمكنون من مغالبتهم في المصر , و إلا ترك الناس هذه العادة ; فتمكنهم المغالبة فيجري عليهم الحد , وعلى هذا قال أبو حنيفة (فيمن قطع الطريق بين الحيرة , والكوفة: إنه لا يجري عليه الحد ; لأن الغوث كان يلحق هذا الموضع في زمانه ; لاتصاله بالمصر , و إلا صار ملتحقا بالبرية فلا يلحق الغوث، فيتحقق قطع الطريق. (2)
ـ وناقش ابن حزم ( أصحاب هذا الرأي بقوله:وأما قول من قال لا تكون المحاربة إلا في الصحراء، أو من قال لا تكون المحاربة في المدن إلا ليلاً فقولان فاسدان ودعوتان ساقطتان بلا برهان لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من رأي سديد. (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول القائل :بعدم اشتراط البعد عن المصر وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ أن عموم آية الحرابة توافق هذا الرأي.
__________
(1) تبيين الحقائق:3/239.
(2) بدائع الصنائع:7/92، تبيين الحقائق:3/340.
(3) المحلى:12/281.(6/29)
ـ أن في الأخذ به ردع لمن تسول له نفسه ترويع الآمنين في بيوتهم، وسلبهم أموالهم على مرأى ومسمع ولا مغيث، وفي ذلك ضمان لاستقرار أمن المجتمع، وهو الغرض من مشروعية الحرابة.
ـ قال ابن العربي (: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر , وإن كان بعضها أفحش من بعض , ولكن اسم الحرابة يتناولها , ومعنى الحرابة موجود فيها. (1)
ـ أن كل سبب وجب به الحد في غير المصر وجب به الحد في المصر، كالزنا والقذف وشرب الخمر.
ـ أن الحرابة في المصر أغلظ جرماً من الصحراء لما يلي:
1ـ أن المصر في قبضة السلطان دون الصحراء.
2 ـ أن المصر جمع في الأغلب ملك الإنسان، ولا تجمعه الصحراء فكان أحسن أحوالهم أن يكونوا في أغلظ الأمرين كأخفهما.
المسألة الثالثة: اشتراط القوة والمنعة.
* تحرير محل النزاع:
يقصد بالمنعة القوة التي بها يغلب الغير،وقد اتفق الفقهاء على أن قطع الطريق وأخذ المال على سبيل القهر والمغالبة له حكم الحرابة(2) واختلفوا فيما لو كان على سبيل المخادعة هل يعتبر حرابة أو لا؟ (3)
* سبب الخلاف:
لعل سبب الخلاف يرجع إلى اعتبار المخادعة في الحرابة من عدمها.
فالجمهور على عدم اعتبارها، أما المالكية(4) فذهبوا إلى اعتبار كونها تندرج تحت الغوث الحكمي.
ـ أما الاختلاف في العدد فيرجع السبب فيه إلى اعتبار القوة والمنعة، هل تتحقق من الواحد أو لابد فيها من الجماعة، فمن اعتبرها في الواحد قال: بجواز كون الواحد محارباً، ومن اشترط كونها من جماعة قال :لا تتحقق من الواحد.
أقوال الفقهاء
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي:2/95.
(2) تبيين الحقائق:3/235، البيان:12/305، المغني والشرح الكبير: 10/145، المحلى:12/283.
(3) المبدع:9/146.
(4) المدونة الكبرى:4/431، حاشية الدسوقي:6/359.(6/30)
* الرأي الأول: وهو رأي جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية. (1)
وقد ذهبوا إلى اشتراط المنعة في المحارب، فإذا لم يكن ذا قدرة وبأس بحيث يمكن التغلب عليه بلا عناء فلا يصح كونه محارباً.
واستدلوا بما يلي:
ـ ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ليس على خائن ولا منتهب و لا مختلس قطع. " (2)
__________
(1) شرح فتح القدير:5/424، البيان:12/305، شرح الزركشي:6/365، المغني والشرح الكبير:10/235، المحلى:12/283.
(2) حسن صحيح:سنن الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في الخائن والمختلس و المنتهب 4/52 رقم 1448،وقال فيه" قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم."،السنن الكبرى للنسائي: كتاب قطع السارق، باب ما لا قطع فيه،4/347 رقم7462،وقال فيه: ولم يسمعه أيضا بن جريج من أبي الزبير؛ إلا ابن حجر ( قد رد هذا فقال: " وهو حديث قوي قلت أخرجه الأربعة وصححه أبو عوانة والترمذي من طريق بن جريج عن أبي الزبير عن جابر رفعه وصرح بن جريج في رواية للنسائي بقوله أخبرني أبو الزبير ووهم بعضهم هذه الرواية فقد صرح أبو داود بأن بن جريج لم يسمعه من أبي الزبير قال وبلغني عن أحمد أنما سمعه بن جريج من ياسين الزيات ونقل بن عدي في الكامل عن أهل المدينة أنهم قالوا لم يسمع بن جريج من أبي الزبير وقال النسائي رواه الحفاظ من أصحاب بن جريج عنه عن أبي الزبير فلم يقل أحد منهم أخبرني ولا أحسبه سمعه قلت لكن وجد له متابع عن أبي الزبير أخرجه النسائي أيضا من طريق المغيرة بن أخرجه مسلم عن أبي الزبير لكن أبو الزبير مدلس أيضا وقد عنعنه عن جابر لكن أخرجه بن حبان من وجه أخر عن جابر بمتابعة أبي الزبير فقوي الحديث وقد اجمعوا على العمل به. فتح الباري:12/94.(6/31)
وجه الدلالة:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى القطع عن المختلس , والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو غير ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا، وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس و المنتهب؛ كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق. (1)
ـ أن المحاربة لا تتحقق إلا بالقدرة و الامتناع.
*الرأي الثاني:وهو رأي المالكية. (2)
ويرون عدم اشتراط المنعة في المحارب، ويعتبرون أخذ المال على سبيل المخادعة مع استعمال الحيلة أو القوة حرابة.
نوقش هذا:بأن أخذ المال على سبيل المخادعة والحيلة لا يعتبر حرابة؛ إذ المعتبر في الحرابة القوة والمنعة، وهي لا تتحقق إلا في حالة إخافة السبيل، وليس هناك غوث ولو حكمي؛ لأن الغوث لا يكون في حالة المخادعة والتحايل.
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء ،من اشتراط المنعة والقوة في المحاربين؛ لأن أخذ المال على سبيل التحايل والمخادعة يعتبر اختلاساً، وقد نفى - صلى الله عليه وسلم - القطع عن المختلس فدل هذا على اعتبار المنعة في المحارب.
ـ هذا وقد اختلف هؤلاء في اشتراط العدد في المحاربين، فجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية (3) قالوا بعدم اشتراط العدد فيقام الحد على الشخص الواحد إذا أخاف السبيل وقطع الطريق.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:2/581.
(2) المدونة الكبرى:4/431.
(3) بدائع الصنائع: 7/90، البحر الرائق 5/273، البيان:12/305، المغني والشرح الكبير:10/145، شرح الزركشي:6/365، المحلى:12/283.(6/32)
ـ وذهب بعض الحنفية (1) إلى اشتراط كون القطاع جماعة، ودليلهم أن المحاربة لا تتحقق إلا بالقدرة على الامتناع وهي لا تعتبر إلا في الجماعة.
والراجح هو الأول؛ لأنه يشترط في قطع الطريق القهر والغلبة، وهي كما تتحقق من الجماعة تتحقق من الواحد.
المسألة الرابعة:اشتراط السلاح.
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المحارب لو خرج على المارة بسلاح فقتل أو أخذ مالاً، أقيم عليه حد الحرابة، واختلفوا فينا لو أخافهم بغير سلاح كاللكز والضرب و غيرهما. (2)
أقوال الفقهاء
* الرأي الأول:وهو للحنفية وقول عند الشافعية والحنابلة. (3)
ويرون أنه يشترط السلاح أو ما هو في حكم السلاح؛ كالعصا والحجر.
ـ استدلوا بما يلي:
ـ ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" ((من حمل علينا السلاح فليس منا.)) (4)
ـ وما جاء عن ابن الزبير - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ((من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر.))" (5)
قال ابن حزم ( مناقشاً هذه الأدلة:
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/424، تبيين الحقائق: 3/235.
(2) البحر الرائق:5/73، المدونة الكبرى:4/431، مغني المحتاج: 5/498، الكافي:4/116، المحلى:12/283.
(3) شرح فتح القدير: 5/427، المبسوط:9/302، مغني المحتاج:5/498، كشاف القناع: 6/146، الشرح الكبير:10/329.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المحاربين، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص 6/2520 رقم 6280، أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من حمل علينا السلاح فليس منا 1/98 رقم 98.
(5) صحيح: السنن الكبرى للنسائي: كتاب المحاربة،باب من شهر سيفه ثم وضعه في الناس 2/311 رقم 3560، المستدرك على الصحيحين: كتاب قتال أهل البغي، ج 2/171 رقم 2670،وقال فيه الحاكم:حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.(6/33)
ـ هذا كله حق , وآثار صحاح لا يضرها إيقاف من أوقفها , إلا أنه لا حجة فيها لمن لم ير المحارب إلا من حارب بسلاح ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر في هذين الأثرين: من وضع سيفه وشهر سلاحه فقط , وسكت عما عدا ذلك فيها , ولم يقل - صلى الله عليه وسلم - أن لا محارب إلا من هذه صفته , فوجب من هذين الأثرين حكم من حمل السلاح وبقي حكم من لم يحمل السلاح أن يطلب في غيرهما. (1)
*ناقش خبر ابن الزبير - رضي الله عنهم -، بأنه من كلام ابن الزبير - رضي الله عنهم -، قال إسحاق من أرناه عبد الرزاق بهذا الإسناد مثله،ولم يدفعه يريد أنه جعله من كلام ابن الزبير- رضي الله عنهم -. (2)
وقد أجيب عن هذا:
قال الزيلعي (:" وقد روى موقوفا والذي أسنده ثقة. (3) وقال ابن حجر (:" وأخرجه النسائي موقوفا والذي وصله ثقة." (4)
*الرأي الثاني: وهو للمالكية والراجح عند الشافعية، ومذهب الظاهرية. (5)
ويرون عدم اشتراط السلاح ، فيكون بالسيف وبغيره .
ـ استدلوا بما يلي:
ـ ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((00ومن خرج من أمتي على أمتي يضرب برها و فاجرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بذي عهدها فليس مني. (6)
وجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عم الضرب ولم يقل بسلاح ولا بغيره.
__________
(1) المحلى:12/282.
(2) المحلى:12/282.
(3) نصب الراية:4/347.
(4) الدراية:2/267.
(5) المدونة:4/431 وجاء فيه "قلت: أرأيت المحارب يخرج بغير سلاح , أيكون محاربا أم لا؟ قال: لم أسمع من مالك فيه شيئا وأرى إن فعل ما يفعل المحارب من تلصصهم على الناس وأخذ أموالهم مكابرة منه لهم فأراه محاربا."، مغني المحتاج:5/498، الأم:6/164، المحلى:12/283.
(6) صحيح: أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة الأخرجه مسلمين، ج 3/1476 رقم 1848.(6/34)
وقد نوقش هذا:بأنه يحتمل الضرب بالسلاح وغيره، وبالاحتمال يسقط الاستدلال.
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم، فالرأي الراجح منها هو عدم اشتراط السلاح؛ لأن قطع الطريق يكون بقطع المارة وهو يتحقق بالسيف وبغيره؛ كاللكزة فهي قد تؤدي إلى الموت.
المسألة الخامسة:اشتراط الذكورة.
*تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن القطاع لو كانوا رجالا مكلفين أقيم عليهم حد الحرابة، واختلفوا فيما إذا كان في قطع الطريق مع الرجال امرأة فقتلت هي و أخذت المال. (1)
* سبب الخلاف:ويرجع سبب الخلاف إلى كون الذكورة مشترطة في قطاع الطريق أو لا ؟، وذلك نظراً لاعتبار القوة والمنعة وذلك في الذكور دون الإناث، فمن اشترط الذكورة قال: بعدم إقامة الحد على المرأة (2)، ومن لم يشترطها قال :بأنها كالرجل في الحكم فيقام عليها الحد كالرجل (3).
أقوال الفقهاء
*الرأي الأول: وهو لجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية. (4)
ويرون عدم اشتراط الذكورة في قطاع الطريق، فإذا قتلت المرأة وأخذت المال تقتل حدا ًوكذا من معها من الرجال.
ـ استدل هؤلاء بما يلي:
ـ أن آية الحرابة لم تفرق بين ذكر وأنثى، فهذا حد يستوي في وجوبه الذكر و الأنثى كسائر الحدود.
ـ أن من وجب عليه الحد في غير الحرابة وجب عليه حد الحرابة كالرجل. (5)
ـ أن الحد إن كان هو القطع فلا يشترط في وجوبه الذكورة و الأنوثة كحد السرقة، وإن كان هو القتل فكذلك كحد الزنا وهو الرجم إن كانت محصنة. (6)
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/91، البيان:12/3، الإفصاح:2/217.
(2) بدائع الصنائع:7/91.
(3) المدونة الكبرى:4/555، كفاية الأخيار:640، المحلى:12/283.
(4) المدونة الكبرى:4/555، الذخيرة:12/123، حاشية قليوبي:4/304، كفاية الأخيار:ص 640، الروض المربع:ص 496، المحلى: 12/283.
(5) الحاوي الكبير:13/375.
(6) بدائع الصنائع:7/91.(6/35)
*الرأي الثاني:وهو للحنفية في الرواية المشهورة عندهم (1)
ويرون بأنه يشترط لإقامة الحد على القاطع كونه ذكراً، فلو كان في القطاع امرأة فوليت القتال وأخذت المال دون الرجال لا يقام الحد عليها، وفي إقامة الحد على الرجال خلاف، فيرى أبو حنيفة ومحمد (: عدم إقامة الحد عليهم سواء أباشروا معها أو لم يباشروا؛ وذلك لأنهم تبع لها، فلما لم يقم على الأصل (المرأة) الحد فلا يقام على التابع وهم الرجال.
ـ أما أبو يوسف (: فقد فرق بين الصبي وبين المرأة، حيث قال: إذا باشر الصبي لا حد على من لم يباشر من العقلاء البالغين، وإذا باشرت المرأة يحد الرجال. (2)
وروى محمد ( أنه يقام الحد على المرأة ولا يقام على الرجال. (3)
ـ استدلوا بما يلي:
ـ أن ركن القطع هو الخروج على المارة على وجه المحاربة والمغالبة، وذلك لا يتحقق من النساء عادة؛ لرقة قلوبهن وضعف بنيتهن، فلا يكن من أهل الحراب ولذا لا يقتلن في دار الحرب.
ـ قياس المرأة على الصبي والمجنون في عدم إقامة حد الحرابة. (4)
وقد نوقش هذا:
ـ أن الصبي والمجنون يسقط عنهما الحد في غير الحرابة لعدم التكليف، فسقط عنهما في الحرابة لهذا المعنى، و المرأة يجب عليها الحد في غير الحرابة لوجود التكليف فوجب في الحرابة لوجود هذا المعنى. (5)
الرأي الراجح
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/91 " وفي رواية ذكرها الطحاوي ( الرجال والنساء في قطع الطريق سواء، فيقام الحد عليها وعلى الرجال." المبسوط:9/197.
(2) بدائع الصنائع:7/91.
(3) المبسوط:9/197.
(4) الحاوي الكبير:13/375.
(5) المرجع السابق:13/375.(6/36)
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها، فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من إقامة حد قطع الطريق على المرأة إذا اشتركت في الحرابة، سواء أباشرت الجريمة أم لم تباشرها؛ وذلك لأن الآية عامة تعم المكلف ذكراً كان أم أنثى، وكذلك لأن المرأة مطالبة بالتكاليف مأمورات كانت أو منهيات.
ـ وأما رأي أبو يوسف ( من سقوط الحد عنها ولو باشرت الجريمة معللاً بأن بنيتها لا تصلح لذلك، فهو مردود؛ لأنه إذا كانت العادة ألا تحارب المرأة فقد وقعت الجريمة منها، وهي مسئولة عن ذلك، فالنظر حينئذٍ إلى الواقع، ثم إن الحنفية يدينونها إذا قتلت عمداً عدواناً ويوجبون القصاص عليها. (1)
المسألة السادسة: انعدام المكافأة بين المحارب وغيره.
* تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن المحارب إذا قتل من يكافئه قُتل به، واختلفوا فيما إذا قتل من لم يكافئه كالكافر والعبد والولد على أقوال.: (2)
*الرأي الأول:وهو رأي الجمهور من المالكية والشافعية في الصحيح و الحنابلة في رواية والظاهرية.(3)
ويرون عدم اشتراط المكافئة بين المحارب وغيره، فيقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد.
واستدلوا بما يلي:
ـ أن الله - سبحانه وتعالى - نص على حكم من حاربه وحارب رسوله، أو سعى في الأرض فساداً ولم يخص بذلك مسلم ولا كافر ولا ذمي. (4)
ـ وأيضاً لأنه لما سقط في قتل الحرابة خيار الولي سقط فيها أيضاً كفاءة المقتول. (5)
*الرأي الثاني:وهو للحنفية والشافعية في قول والحنابلة في رواية ثانية. (6)
__________
(1) الحرابة في الفقه الإسلامي: عبد الفتاح فايد: ص 703.
(2) الإفصاح لابن هبيرة: 2/218.
(3) حاشية الدسوقي:6/362، المعونة:2/300، البيان:12/505، الحاوي الكبير:13/357، شرح الزركشي:6/368، الكافي:14/116، المحلى:12/292.
(4) المحلى:12/292.
(5) الحاوي الكبير:13/357.
(6) المبسوط:9/198، البيان:12/505، المغني والشرح الكبير:10/146.(6/37)
ويرون أن الكفاءة معتبرة في الحرابة فلا يقتل مسلم بكافر، وذلك بخلاف الذمي؛ لأن الذمي من أهل دارنا على التأبيد فكانت الكفاءة فيه معتبرة.
الرأي الراجح
وما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من إقامة الحد وعدم اشتراط الكفاءة، سواء أكان القطع على المسلم أو غيره؛ وذلك لأن جريمة القطع إفساد في الأرض و الآية عامة لم تخصص مسلماً من غيره.
المسألة السابعة
العقوبة في الحرابة هل هي على الترتيب أو على التخيير.؟
تحرير محل النزاع: (1)
اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة أن آية الحرابة خاصة بالمحاربين من قطاع الطريق ،ومخيفي السبيل الذين يتعرضون للمارة فيأخذون أموالهم ويقتلونهم، واتفقوا كذلك على أن حكم الله - سبحانه وتعالى - فيهم الأحكام الأربعة المذكورة في الآية :أن يقتلوا ،أو يصلبوا ،أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ،أو ينفوا من الأرض، واختلفوا في هذه الأحكام التي جعلها الله - سبحانه وتعالى - عقوبة لهم، هل وجبت على طريق التخيير في أن يفعل الإمام منها ما يراه صالحاً، أو وجبت على طريق الترتيب فتكون كل عقوبة منها في مقابلة ذنب لا يتعداه إلى غيره؟
سبب الخلاف: (2)
__________
(1) المعونة:2/299، الحاوي الكبير:13/353، المغني والشرح الكبير:10/144، المحلى:12/298.
(2) الحرابة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، د/ عبد الفتاح محمد فايد، بحث منشور في المجلة العلمية لكلية الشريعة والقانون بطنطا، العدد التاسع، الجزء الثاني، 1418 هـ، 1998 ص 779، التشريع الجنائي الإسلامي: عبد القادر عودة:2/647.(6/38)
يرجع منشأ الخلاف بين الفقهاء ،إلى اختلافهم في تفسير حرف (أو) الوارد في آية الحرابة، فمن قال إن (أو) جاءت للبيان والتفصيل،قال:إن العقوبات جاءت مرتبة على قدر الجريمة وجعل لكل جريمة بعينها عقوبة بعينها، ومن رأى أن (أو)للتخيير،قال:إن للإمام أن يوقع أي عقوبة من العقوبات المذكورة في الآية على الجاني إذا ارتكب أي فعل من أفعال الحرابة حسب ما يراه مناسباً.
أقوال الفقهاء
*الرأي الأول:وهو رأي الحنفية (1) والشافعية، (2) والحنابلة. (3)
ويرون أن العقوبة في الحرابة على الترتيب فإن قَتَلَ قتِل، وإن أخذ المال فقط قطعت يده ورجله من خلاف، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب وإن أخاف السبيل ولم يأخذ مالاً ولم يقتل نُفٍيً من الأرض.
* الرأي الثاني: وهو للمالكية (4) والظاهرية. (5)
__________
(1) شرح فتح القدير:5/423، بدائع الصنائع: 7/93، المبسوط للسرخسي:9/195، هذا وقد اختلف الحنفية فيما إن قتل وأخذ المال، فيرى أبو يوسف ومحمد ( الأخذ بتأويل الآية على الترتيب في المحارب إذا أخذ المال وقتل أنه يقتل ولا يقطع، أما أبو حنفية ( فقد أخذ بتأويل الآية على أن المقصود منها التخيير بين الأجزية الثلاثة في المحارب الذي جمع بين المال والقتل، وروي عن أبي يوسف ( أن الإمام إن شاء قطع يده ورجله و صلبه، ينظر بدائع الصنائع: 7/94،المبسوط:9/195،196، أحكام القرآن للجصاص:2/574.
(2) الحاوي الكبير:13/353.
(3) المغني والشرح الكبير:10/146، شرح الزركشي:6/365.
(4) المدونة الكبرى:4/552،المعونة:2/299.
(5) المحلى:12/298.(6/39)
ويرون أن العقوبة في الحرابة على التخيير ، وذلك موكول إلى الإمام فيحكم عليهم بأي من الأحكام التي أوجبها الله- سبحانه وتعالى -، من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي، فيجوز قتل المحارب وإن لم يقتل، وهذا القدر متفق عليه بين المالكية والظاهرية ، بينما انفرد المالكية بأن المحارب إن قتل ولم يأخذ مالاً فلابد من قتله ، والإمام مخير بين قتله وصلبه ، أو قتله فقط .
وقد أوضح هذا الإمام القرافي ( فقال:"معنى قول مالك ( في التخيير أنه يفعل ما هو أقرب للصواب، فذو الرأي يقتله؛لأن القطع لا يدفع مضرته، وذو القوة فقط يقطعه من خلاف؛لأن ذلك ينفي ضرره، وأن لم يكن على هذه الوجوه وأخذ عند خروجه فالضرب والنفي، ولي معناه أن يتخير بهواه، ومتى قتل فلا بد من قتله، وينحصر التخيير في قتله وصلبه وقطعه. (1)
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "(( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله ألا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.")) (2)
وجه الدلالة:أن قتل المسلم محصور في هذه الثلاثة، ولم توجد في المحارب ، فلا يقتل، وقد نفى - صلى الله عليه وسلم - قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة، ولم يخصص فيه قاطع الطريق، فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق وإذا انتفى قتل من لم يقطع وجب قطع يده ورجله إذا أخذ المال. (3)
أما المعقول فمن وجوه:
__________
(1) الذخيرة للقرافي:12/126.
(2) صحيح:سبق تخريجه ص93 .
(3) أحكام القرآن للجصاص:2/575، الذخيرة:12/127.(6/40)
1 ـ أن عادة الله - سبحانه وتعالى - في التخيير البداية بالأخف كما في كفارة اليمين وفي الترتيب بالأشد نحو كفارة الظهار، وقد بدأها هنا بالأشد فتكون للترتيب،فدل على أنه قرر ترتيب الجزاء على الأفعال فترتب عليه بالمعنى فمن قتل قتل، فإن زاد وأخذ المال صلب، فإن الفعل جاء أفحش فإن أخذ المال وحده قطع من خلاف وإن أخاف نفي. (1)
2ـ الأصل أن عظم العقوبة يتبع عظم الجناية، فلا يترتب القتل إلا حيث القتل. (2)
3 ـ أن اختلاف العقوبات توجب اختلاف أسبابها. (3)
4 ـ ٍ ومن المقطوع به أن هذه الجناية تتفاوت خفة وغلظا , والعمل بالإطلاق المحض للآية يقتضي أن يجوز أن يرتب على أغلظها أخف الأجزية المذكورة وعلى أخفها أغلظ الأجزية. وهذا مما يدفعه قواعد الشرع والعقل فوجب القول بتوزيع الأغلظ للأغلظ و الأخف للأخف. (4)
5 ـ أن في التوزيع موافقة لأصل الشرع حيث يجب القتل بالقتل , والقطع بالأخذ إلا أن هذا الأخذ لما كان أغلظ من أخذ السرقة حيث كان مجاهرة ومكابرة مع إشهار السلاح جعل المرة منه كالمرتين , فقطع في الأخذ مرة اليد والرجل معا من غير اشتراط كون النصاب فيه عشرين , لأن الغلظ في هذه الجناية من جهة الفعل لا متعلقه.. (5)
6 ـ أن لا اختيار للإمام في تقدير العقوبة في سائر الحدود، فكذا الأمر في الحرابة بجامع كونها حداً من الحدود.
استدل أصحاب الرأي الثاني :
__________
(1) الذخيرة:12/127، الحاوي الكبير:13/354، أحكام القرآن لابن العربي:2/98.
(2) الذخيرة:12/127.
(3) الحاوي الكبير:13/353.
(4) شرح فتح القدير:5/424 , بدائع الصنائع: 7/93.
(5) شرح فتح القدير:5/424.(6/41)
ـ بقوله تعالى: { إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (1)
وجه الدلالة: أن( أو ) في الآية للتخيير وبالتخيير يسقط الترتيب، والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي و الأرجل وإن شاء نفى أي واحد من هذه الأقسام شاء. (2)
المناقشة
* مناقشة أدلة أصحاب الرأي الأول:
ـ أن الحديث عام و الآية خاصة فيقدم الخاص على العام. (3)
ـ أنه لم يتعلق بالسبب الواحد عقوبتين , بل صفة كل محارب إلى عقوبة واحدة, والحرابة من حيث هي حرابة لها عقوبة واحدة , وهي الضرب والنفي كالزنا.
نوقش دليلهم الثاني من السنة بما يلي:
ـ قال الزركشي(:"هذا الحديث في ثبوته نظر , فإنه قد ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهم - وغيره أن الآية نزلت في غير هذا، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي أن قضية أبي هريرة - رضي الله عنهم - رواها أبو داود ( فقد قال هو
في المغني قيل رواها أبو داود". (4)
ونوقش دليلهم من المعقول بما يلي:
أن المستند في الترتيب أن يذكر بصيغة (أن) والتخيير بصيغة (أو)لكونه أشد وأضعف , وقد وجد أو ها هنا فتكون للتخيير, وإنما بدأها هنا بالأشد إشارة إلى عظم رتبة الحرابة في الجنايات. (5)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:
__________
(1) المائدة آية 33.
(2) تفسير الرازي:11/168،أضواء البيان:1/394.
(3) الذخيرة: 12/128, شرح الزركشي: 6/367.
(4) شرح الزركشي: 6/366.
(5) الذخيرة: 12/128.(6/42)
ـ لا نمانع أنه يمكن حمل (أو) على حقيقتها , ويعمل بظاهر التخيير بين الأجزية الثلاثة , لكن في محارب خاص , وهو الذي أخذ المال , وقتل , فكان العمل بظاهر التخيير على هذا الوجه أقرب من ظاهر الآية ; لأن الله - تبارك وتعالى - جمع بين القتل , وقطع الطريق في الذكر بقوله - سبحانه وتعالى - { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } فالمحاربة هي القتل , والفساد في الأرض هو قطع الطريق فأوجب - سبحانه وتعالى - أحد الأجزية من الفعلين بما ذكر , وفيه عمل بحقيقة حرف التخيير , وعمل بحقيقة ما أضيف إليه الجزاء. وهو ما ذكر سبحانه - وتعالى - من المحاربة , والسعي في الأرض بالفساد , فكان أقرب إلى ظاهر الآية , إلى هذا التأويل. (1)
نوقش دليلهم الثاني بما يلي:
قوله تعالى: { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } (2) ، فإن (أو) في الآية ليست للتخيير بل للجمع، فالمعنى ولا تطع منهم آثما وكفورا،وتقول العرب: جالس الحسن أو ابن سيرين (أي جالس الحسن وابن سيرين), وكُلْ خبزا ًأو تمراً. (3)
وقد أجيب عن هذا:أن قول الله تعالى { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } (4) فهو على ظاهره , وهو - صلى الله عليه وسلم - منهي أن يطيع الآثم - وإن لم يكن كفورا - وكل كفور آثم , وليس كل آثم كفورا - فصح أن ذكره تعالى للكفور تأكيد أبدا , و إلا فالكفور داخل في الآثم.
وأما قول العرب: جالس الحسن , أو ابن سيرين - وكل خبزا , أو تمرا , فنحن لا نمنع خروج اللفظ عن موضوعه في اللغة بدليل , وإنما نمنع من إخراجه بالظنون والدعوى الكاذبة. وإنما صرنا إلى أن قول القائل: جالس الحسن , أو ابن سيرين: إباحة لمجالستهما معا , ولكل واحد منهما بانفراده.
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/94.
(2) الإنسان: من الآية 24.
(3) المحلى: 12/298.
(4) الإنسان: من الآية 24.(6/43)
وكذلك قولهم: كل خبزا , أو تمرا أيضا , ولا فرق - بدليل أوجب ذلك من حال المخاطب , ولولا ذلك الدليل لما جاز إخراج " أو " عن موضوعها في اللغة - أصلا وموضوعها , إنما هو التخيير أو الشك - والله تعالى لا يشك , فلم يبق إلا التخيير فقط. (1)
الرأي الر اجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها يظهر أن الرأي الراجح منها هو رأي جمهور الفقهاء القائل :بأن العقوبة في الحرابة على الترتيب ،وذلك للأسباب الآتية:
أ ـ أن إقامة الحد بالتخيير اعتبار للحد بصفة الفاعل لا بصفة الفعل، وهذا ضد ما وضعت له الحدود،(2) ثم إن إعطاء الإمام حق التخيير يقتضي أنه قد يقتل من لم يقتل ، مع مخالفة هذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله ألا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة."))." (3)
ب ـ أن الشريعة تضع العقاب على قدر الفعل بلا زيادة.
ج ـ أن الحرابة حد من حدود الله - سبحانه وتعالى - لا حق للإمام ولا لغيره في الزيادة فيها إلا بنص، وقد جاء النص القرآني فيحمل على الترتيب لا التخيير.
د ـ أن القول بالتخيير المطلق ـ كما ذهب إلى ذلك الظاهرية ـ يفضي إلى أنه يعاقب من قلّ جرمه بأغلظ العقوبات،ومن كثر جرمه بأخف العقوبات والترتيب يمنع من هذا التناقض؛ لأنه يعاقب من قل جرمه بأخف العقوبات، وفي كثرة الجرم بأغلظها فكان أولى.
__________
(1) المحلى:12/298، 299.
(2) الحاوي الكبير:13/354.
(3) صحيح: سبق تخريجه ص93.(6/44)
هـ ـ أنه بالنظر إلى رأي المالكية يلاحظ اقترابه من رأي الجمهور؛ حيث إنهم اختلفوا هل التخيير في المحارب أو كل محارب تتعين له عقوبة، قال الإمام القرافي (:(1) "واختلف قول مالك ( في العقوبات الأربع هل هي على التخيير في المحارب الواحد، أو كل محارب تتعين له عقوبة ويجتهد الإمام في ذلك إلا إذا عظم فساده وأخذ المال، وقال أشهب (: إن أخذ بالحضرة ولم يأخذ مالاً يخير فيه بين القتل والقطع والنفي، وكذلك إذا عظم أمره وأخذ المال، فإن قتل تعين القتل؛ لقوله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ0 } (2) لذا كان هذا الرأي هو الراجح.
صفة الصلب.
هذا وقد اختلف الفقهاء أيضاً في صفة الصلب في المحارب على أقوال: فيرى الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأشهب من المالكية والحنابلة ( (3) أنه يضرب عنقه بالسيف ثم يصلب مقتولاً (يقتل ثم يصلب)بينما يرى المالكية في الرواية الراجحة(4)أنه يصلب على خشبة ثم يقتل مصلوباً.
ويرى أبو يوسف ((5)أنه يصلب حياً ثم يطعن بالحربة حتى يموت.
والظاهرية(6)يرون أنه يصلب حياً ويترك حتى يموت وييبس كله ويجف، فإذا يبس وجف أنزل وغسل وكفن وصلي عليه ودفن؛ وذلك لأن الله- سبحانه وتعالى - أمرنا بالقتل عقوبة وخزياً للمحارب في الدنيا فإذ ذلك كذلك فالعقوبة والخزي لا يقعان على ميت، وإنما خزي الميت في الآخرة لا في الدنيا، فلما كان ذلك كذلك بطل أن يصلب بعد قتله ردعاً لغيره. (7)
__________
(1) الذخيرة:12/131،132.
(2) المائدة من الآية 40.
(3) المبسوط:9/198، الذخيرة:12/130، المبدع:9/145.
(4) حاشية الدسوقي:6/361، الذخيرة:12/130، وفي رواية أخرى أنه يصلب مدة ثم ينزل فيقتل بعد نزوله. تقريرات العلامة عليش على حاشية الدسوقي:6/361.
(5) المبسوط:9/198.
(6) المحلى:12/293.
(7) المحلى:12/294.(6/45)
تمهيد
تعريف الخمر لغة: (1)
الخمر معرفة تذكر وتؤنث , فيقال: هو الخمر , وهي الخمر , وأنكر الأصمعي التذكير. فقال :الخمر أنثى , وهي مشتقة من خامر الشيء قاربه وخالطه, ورجل َخِمر: أي خالطه داء , والتخمير: التغطية , يقال: خََمّر وجهه , وخمر إناءك , والمخامرة: المخالطة , والخمر: ما أسكر من عصير العنب.
وأطلق الفيروز آبادي لفظ الخمر على ما أسكر من عصير العنب, والعموم أصح ؛ لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب.
سميت الخمر خمراً؛ لأنها تخمر العقل و تستره أو لأنها تركت فاختمرت , واختمارها تغير ريحها.
الخمر في اصطلاح الفقهاء:
اختلف الفقهاء في حقيقة الخمر الشرعية بناء على اختلافهم في حقيقتها اللغوية إلى ما يلي: ـ
عرفها الحنفية (2) : بأنها اسم للنيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد , وبعبارة أشمل: هي اسم للنيئ من ماء العنب إذا صار مسكراً , وبهذا قال بعض الشافعية (3)
ويدخل تحتها كذلك:
أ ـ نقيع الزبيب إذا ترك من غير طبخ حتى خرجت حلاوته إلى الماء , ثم يشتد ويغلى ويقذف بالزبد عند أبي حنيفة ( , أو لا يقذف بالزبد عند الصاحبين (.
ب ـ نبيذ الزبيب وهو النيئ من ماء الزبيب إذا طبخ وغلا واشتد.
أما عند الجمهور: (4)
__________
(1) لسان العرب: 4/254, القاموس المحيط: 1/547, مختار الصحاح: 1/196, المصباح المنير: 1/181, تبيين الحقائق:6/44, نيل الأوطار 8/176.
(2) شرح فتح القدير:10/90،البحر الرائق: 8/247،مجمع الأنهر: 2/569, تبيين الحقائق: 6/44, العناية على الهداية: 10/90, أحكام القرآن للجصاص: 1/444.شرح معاني الآثار:4/212.
(3) البيان: 12/520, مغني المحتاج: 4/186.
(4) المنتقى شرح الموطأ: 3/147, الذخيرة: 12/200, حاشية الخرشي: 8/342, الأم: 8/372, مغني المحتاج: 5/515, الأحكام السلطانية:ص 284, المغني والشرح الكبير:10/156, الفروع: 6/99, الإنصاف: 10/228, المحلى: 6176.(7/1)
فيطلق لفظ الخمر على المسكر من كل شراب , سواء أكان من عصير العنب ،أو غيره كالبلح والزبيب والقمح والشعير والأرز , وسواء أسكر قليله أو أسكر كثيره.
أثر هذا الخلاف .
ـ و هذا الخلاف له أثر كبير وخطير , فالحنفية (فرقوا بين الخمر والمسكر , فالخمر يحد بشرب القدر المسكر منها وغير المسكر , وما عداها من الأشربة يحد بشرب القدر المسكر منها.
فحد الشرب عندهم: يطلق على شرب الخمر , وحد السكر يطلق على القدر المسكر من سائر الأشربة إلا الخمر.
ـ أما الجمهور فلم يذهبوا إلى هذه التفرقة ، فما أسكر كثيره ، فالقليل منه حرام وبه يحد.
والحق مع الجمهور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل للخمر حدا ًبه تعرف , فعن ابن عمر- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"((كل مسكر خمر , وكل خمرحرام ")) (1)فهذا الحد يتناول كل فرد من أفراد المسكر.
أدلة تحريم الخمر.
حرمت الخمر في السنة الثانية من الهجرة بعد أحد(2) الدليل على تحريمها: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب:
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 2/1587 رقم 2003.
(2) مغني المحتاج: 5/511.(7/2)
فقد جاء تحريم الخمر في القرآن الكريم متدرجاً في ثلاث مراحل , وكان الناس يشربونها حين هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فكثر سؤال الناس عن حكمها فأنزل الله- سبحانه وتعالى - قوله تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } (1) ثم جاءت المرحلة الثانية فحرم شربها عن الدخول في الصلاة وذلك تدرجاً مع الناس الذين ألفوها وعدوها جزءاً من حياتهم فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } (2) ثم جاءت المرحلة الثالثة والقاطعة وفيها نزل حكم الله - سبحانه وتعالى - بتحريم الخمر نهائياً فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (3)
والمتأمل في هذه الآيات يرى أنها أشارت في إيجاز محكم إلى المفاسد الرئيسية للخمر.
ـ فآية النساء منعت من اقتراب الصلاة في حالة السكر ،وبينت علة المنع وهي ليعلم المصلي ما يقول , وفي هذا إشارة إلى أن الخمر تخرج الإنسان عن وعيه , وتفقده إدراكه حتى يبلغ مرتبة الهذيان , وفي هذا امتهان للعقل الذي كرم الله به الإنسان وفضله به على سائر المخلوقات.
ـ كما أوضحت آية المائدة التي جاءت فيها التحريم النهائي للخمر سبب هذا التحريم , وهو أن الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان , فضلاً عن أنها توقع العداوة والبغضاء بين المسلمين وتصرفهم عن ذكر الله وعن الصلاة , أي أنها مفسدة خلقية واجتماعية ودينية.
أما من السنة:
فقد وردت أحاديث كثيرة تبين حرمة الخمر وعقابها وعظيم ضررها منها:
__________
(1) البقرة من الآية 219.
(2) النساء من الآية 43.
(3) المائدة آية 90.(7/3)
قوله - صلى الله عليه وسلم - "((من شرب الخمر فاجلدوه، فان شرب الخمر فاجلدوه،فان شرب الخمر فاجلدوه،ثم إن شرب فاقتلوه ")) (1)
وكذا ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي قال: "((كل مسكر خمر،وكل خمر حرام ")) (2)
ـ قول ابن عباس - رضي الله عنه -:"((حرمت الخمر بعينها قليلها و كثيرها ، والسكر من كل شراب.")) (3)
ـ أما الإجماع:
__________
(1) حديث صحيح:سنن الترمذي:كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن شرب الخمر،رقم 1444، ج4 /50، النسائي الكبرى، كتاب الحد في الخمر،باب الحكم فيمن يتتابع في شرب الخمر، رقم 5299،ج 3/256، سنن أبي داود: كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، رقم 4485،ج4/164 عن قبيصة بن ذؤيب ,مسند الإمام أحمد: ج 2/241 عن ابن عمر - رضي الله عنه - , ابن ماجه2/859 رقم2573,الدارمي 2/156 رقم 2105، مصنف عبد الرزاق: باب حد الخمر، رقم 13550، ج7/380، المستدرك علي الصحيحين: كتاب الحدود،4/413 رقم8114 عن ابن عمر - رضي الله عنه - وقال الحاكم هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(2) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، 2/1587 رقم 2003.
(3) ضعيف موقوف: النسائي الكبرى:كتاب الأشربة،باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب المسكر،3/233 رقم 5194، البيهقي:كتاب الأشربة، باب ما يحتج به من رخص في المسكر إذا لم يشرب منه ما يسكره،8/297 رقم 17181،النسائي (المجتبى): كتاب الأشربة،باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب المسكر،8/320 رقم 5683،مصنف عبد الرزاق: باب في الخمر وما جاء فيها،5/97 رقم 24067، قال فيه الصنعاني (: أخرجه النسائي ورجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه.(7/4)
فقد أجمعت الأمة من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا على تحريمها , وبذلك استقرت الحرمة حكما للخمر , وصارت حرمتها معلوماً من الدين بالضرورة , فمن استحلها وأنكر حرمتها يكون خارجاً عن دائرة الإسلام. قال ابن هبيرة ( في الإفصاح (1) " واتفقوا على أن الخمر قليلها وكثيرها حرام وفيها الحد , وكذا اتفقوا على أنها نجسة , وأجمعوا على أن من استحلها حكم بكفره." وقال العثماني في رحمة الأمة " (2) أجمع الأئمة على تحريم الخمر ونجاستها , وأن شرب كثيرها وقليلها موجب للحد. "
حكمة مشروعية حد الخمر.
لا شك أن سعادة الإنسان مرتبطة بعقله , والعقل من الإنسان كالروح من الجسد , لذا احترمه الإسلام وكرمه حيث فضل الإنسان على سائر الخلائق , فأناط التكليف به ودعا إلى حفظه وصيانته ضمن الكليات الخمس (حفظ الدين ـ حفظ النفس ـ حفظ العقل ـ حفظ النسل ـ حفظ المال)فأي سبيل يفسد تلك النعمة، أو يضعفها فحرام تناوله،من أجل ذلك حرم الخمر تحريماً قاطعاً؛لأنها ام الخبائث إذ انها تؤثر على العقل وتوقف عمله، وهذا يعد جريمة في نظر الإسلام؛ إذ انه اعتداء الإنسان على بعض نفسه دون أن يجرم هذا العقل في حق صاحبه شيئاً، وعلى هذا يستحق هذا المعتدي أن يعاقب تأديبا له على إجرامه في الدنيا والآخرة.
__________
(1) الإفصاح: 2/219.
(2) رحمة الأمة: ص 518.(7/5)
أما في الدنيا: فقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - حرمتها ولعن بتعاطيها كل من له صلة بها، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه.")) (1)
بل إنه - صلى الله عليه وسلم - نفى الإيمان عن شاربها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.")) (2)
__________
(1) صحيح : أبو داود: كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر،3/326 رقم 3674،البيهقي: كتاب البيوع، باب كراهية بيع العصير ممن يعصر الخمر والسيف،5/327 رقم 10559،مصنف عبد الرزاق:كتاب الأشربة، باب ما يقال في الشراب، 9/238 رقم 17067 موقوفا على ابن عمر- رضي الله عنه -، مسند الإمام أحمد:2/71 وفيه: " قال ابن عمر فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدية قال وما عرفت المدية إلا يومئذ فأمر بالزقاق فشقت ثم قال..الحديث "(وزاد فيه "وآكل ثمنها)،تلخيص الحبير:4/73، نصب الراية:4/263.
(2) صحيح: أخرجه أخرجه مسلم : كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي،1/76 رقم 57.(7/6)
أما في الآخرة:ففوق ما ارتكبه شاربها من إثم إن لم يتب ، فهو محروم من شربها ـ إن دخل الجنة في الآخرة ـ؛ لأنه استعجل شيئاً قبل أوانه، فعوقب بحرمانه، قال - صلى الله عليه وسلم -:"((من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة.")) (1) فالإسلام عندما قرر حرمة الخمر وعقوبة شاربها لم ينظر إلى أنها سائل يشرب، وإنما نظر إلى الأثر الذي تحدثه في شاربها من زوال العقل الذي يفسد عليه إنسانيته، ويسلبه مكانة التكريم التي منحه الله إياها، ويوقع العداوة بين أفراد المجتمع المسلم، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2) قال الجصاص (: (3) " قوله تعالى (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) إنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدي ذلك إلى العداوة والبغضاء وكذلك القمار يؤدي إلى ذلك."
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الخمر.
__________
(1) صحيح: أخرجه أخرجه البخاري: كتاب الأشربة،5/2119 رقم 5253،أخرجه أخرجه مسلم :كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر،3/1587 رقم 2003 واللفظ للبخاري، وفي رواية أخرجه أخرجه مسلم "وهو يدمنها ".
(2) المائدة آية 90.
(3) أحكام القرآن للجصاص:4/128.(7/7)
أولاً: اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن الخمر حرام نجسة , إلا قولا لداود ( قال : بحرمتها دون نجاسته(1)لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (2)
ثانياً: اتفقوا على أن عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد فهو خمر.. (3)
ورد في المغني "المجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده، وما عداه من الأشربة المسكرة فهو حرام.. (4)
ثالثا ً:اتفقوا كذلك على أنه يشترط لإقامة حد الشرب، العقل والبلوغ ، فلا حد على مجنون ولا صبي، وذلك لرفع التكليف عنهم؛لكونهم غير مخاطبين(5)لقوله - صلى الله عليه وسلم - "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ." (6)
رابعاً:اتفقوا كذلك على أن الذكورة ليست شرطا في إقامة الحد، فيقام ً الحدعلى الرجال وعلى النساء بلا تفريق بينهما. (7)
__________
(1) المبسوط:24/2، الفواكه الدواني:2/287، تحفة المحاج:4/156، المغني والشرح الكبير:10/155، الكافي:4/156، شرح الزركشي:6/327، المحلى:1/188، 12/367.
(2) المائدة آية 90.
(3) البيان:12/ 514، المغني والشرح الكبير:10/156،، رحمة الأمة:ص 518، الإفصاح لابن هبيرة: 2/219، الميزان الكبرى:2/234.
(4) المغني والشرح الكبير:10/156.
(5) بدائع الصنائع:7/39، المبسوط:24/21، الذخيرة:12/200، حاشية الخرشي:8/342، البيان:12/518، حاشية قليوبي وعميرة:4/308،مغني المحتاج:5/517، الكافي:4/157، الإنصاف:10/173، العدة:2/288، مراتب الإجماع:1/129.
(6) صحيح:سبق تخريجه ص 23.
(7) بدائع الصنائع:7/40، الذخيرة:12/204، حاشية الخرشي:8/343، جواهر الإكليل:2/441، الروض المربع:ص492.(7/8)
خامساً:واتفقوا على أن الحرية ليست بشرط في إقامة الحد،فيقام الحد على العبد إلا أن حده يكون على النصف من حد الحر. (1)
سادساً:واتفقوا على أن حد الخمر يثبت بالإقرار أو بشهادة شاهدين. (2)
سابعاً:واتفقوا على أن المكره لا يقام عليه الحد، وكذا الجاهل لا حد عليه إلا إذا علم بالتحريم. (3)
__________
(1) بدائع الصنائع:7/40، الذخيرة:12/204، جواهر الإكليل:2/441،البيان:12/522، حاشيتا قليوبي وعميرة:4/ 310، مغني المحتاج:5/519، الكافي:4/158، الروض المربع:ص492، نيل المآرب:2/288، المحلى:12/68 ، الإقناع في حل مسائل الإجماع :2/247.
(2) الهداية:2/399، بدائع الصنائع:5/112، الذخيرة:12/202، حاشية الخرشي:8/344، جواهر الإكليل:2/441، البيان:12/528، مغني المحتاج:5/520، الكافي:4/158، الإقناع في حل مسائل الإجماع :2/246 .
(3) الهداية:2/399، تبيين الحقائق:3/196، حاشية الدسوقي:6/367،368، مغني المحتاج:5/517،المغني والشرح الكبير:10/157، الكافي:4/157، العدة:2/828، المحلى:12/376.(7/9)
ثامناً: واتفقوا على أن المضطر إلى شرب الخمر لا حد عليه لقوله تعالى: { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } (1) وقوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (2)فالمضطر لا يحرم عليه شئ مما اضطر إليه من طعام أو شراب، وفي وجه عند ا لشافعية يباح شربها للتداوي دون العطش.(3)
تاسعاً: واتفقوا على أن شارب الخمر يحد بشرب القليل والكثير منها(4) ورد في الإفصاح: (5)"واتفقوا على أن الخمر حرام قليلها وكثيرها وفيها الحد، وكذلك اتفقوا على أنها نجسة."
ورد في رحمة الأمة:(6)أجمع الأئمة على تحريمها ونجاستها وأن شرب كثيرها وقليلها موجب للحد، وأن من استحلها حكم بكفره.
………
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الخمر.
يندرج تحت هذا المبحث مسائل:ـ
المسألة الأولى:تكرر شرب الخمر.
__________
(1) الأنعام آية 119.
(2) البقرة من الآية 173.
(3) الهداية:2/399، بدائع الصنائع:5/113، تبيين الحقائق:3/196، حاشية الدسوقي:6/368، الحاوي الكبير:13/408، روضة الطالبين:10/169، مغني المحتاج:5/517، المغني والشرح الكبير:10/157،العدة:2/828، نيل المآرب:2/288، الروض المربع:ص 492، الكافي:4/157.
(4) المبسوط:24/2، بدائع الصنائع:5/112، 113، البيان:12/518، مغني المحتاج:5/515،العدة:2/828، الإنصاف:10/172، المغني والشرح الكبير:10/164، الكافي 4/156، الإقناع في مسائل الإجماع :2/245 .
(5) الإفصاح لابن هبيرة: 2/219
(6) رحمة الأمة ص 518.(7/10)
اتفق الفقهاء على أن من تكرر منه الشرب قبل الحد أقيم عليه حد واحد(1)واختلفوا فيما لو تكرر منه الشرب بعد الرابعة هل يقتل أو لا؟
الرأي الأول: وهو للحنفية(2)المالكية(3)الشافعية(4)الحنابلة. (5)
ويرون أن من تكرر منه شرب الخمر أقيم عليه الحد ثلاث مرات،فإن شرب في الرابعة لا يقتل ولكن يقام عليه الحد.
الرأي الثاني:وهو للظاهرية.(6)
ويرون أن من أقيم عليه الحد ثلاث مرات ثم شرب في الرابعة فإنه يقتل حداً.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بما رواه جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال:"((من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه "(7) قال: فثبت الحد ودرئ القتل، وفي لفظ "فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع."
__________
(1) الإقناع في مسائل الإجماع :2/245 .
(2) شرح فتح القدير:5/302، تبيين الحقائق:3/196، البحر الرائق:5/208.
(3) المنتقى شرح الموطأ:3/145، وجاء فيه إذا تكرر من الرجل شرب الخمر لزمه حد واحد، فإن شربه بعد ذلك لزمه حد آخر.
(4) البيان:12/518، الحاوي الكبير: 13/386، مغني المحتاج:5/519.
(5) كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية في الفقه:34/217.
(6) المحلى:12/373، 374.
(7) صحيح: سبق تخريجه ص 330.(7/11)
ما جاء عن قبيصة بن ذؤيب (1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"((من شرب الخمر فاجلدوه ـ إلى أن قال: ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه، قال فأتى برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به قد شرب فجلده، ثم أتي به قد شرب فجلده، ثم أتي به في الرابعة قد شرب فجلدهفرفع القتل عن الناس وكانت رخصة. ." (2)
قال الشافعي:القتل منسوخ بهذا الحديث وغيره، وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته. (3)
ـ ما جاء عن عمر الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمه عبد الله ـ كان يلقب حماراً ـ وكان يضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم، اللهم ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تلعنوه فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله.
قال ابن حجر (:وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر( أنه أتى به أكثر من خمسين مرة. (4)
__________
(1) قبيصة بن ذؤيب: هو ابن حلحلة الخزاعي، أبو سعيد ويقال: أبو اسحاق المدني، ولد عام الفتح، روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعن بلال وعن عثمان بن عفان وجماعة - رضي الله عنهم -، ذهبت عينه يوم الحرة، مات سنة 86 هـ وقيل غير ذلك. تهذيب التهذيب:8/311، قال فيه ابن حجر (:" وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة وولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه. فتح الباري:12/81
(2) حسن بشواهده : أبو داود: كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر،4/165 رقم 4485سنن البيهقي : كتاب الأشربة ، باب من وجد ريح شراب أو لقي سكران رقم 17282 ،،نصب الراية 3/347،سبل السلام:4/32.
(3) الأم:6/155.
(4) فتح الباري:12/80.(7/12)
ـ وقوله - صلى الله عليه وسلم - "((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة. (1)
وجه الدلالة :أن هذا الحديث عام في شارب الخمر وغيره فقد حصر الحديث القتل في هؤلاء الثلاثة.
قال الشافعي ( وهذا حديث لا يشك أهل العلم بالحديث في ثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2)
ـ أن حديث الأمر بقتل الشارب في الرابعة منسوخ بالإجماع. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني بما يلي :
ـ ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"((من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه ثم إذا شرب فاقتلوه. (4)
وجه الدلالة :هذه الأحاديث نص في قتل شارب الخمر في الرابعة.
ـ أن الواجب ضم أوامر الله - سبحانه وتعالى - , وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - كلها بعضها إلى بعض , والانقياد إلى جميعها , والأخذ بها , وأن لا يقال في شيء منها: هذا منسوخ إلا بيقين. برهان ذلك: قول الله تعالى:{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ 00 }(5) . فصح أن كل ما أمر الله تعالى به , أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - ففرض علينا الأخذ به , والطاعة له , ومن ادعى في شيء من ذلك نسخا , فقوله مطروح. (6)
ـ دعوى أن الإجماع صح على أن القتل منسوخ على شارب الخمر في الرابعة دعوى كاذبة؛لأن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - يقولان بقتله، ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان. (7)
ـ أن دعوى النسخ بحديث " لا يحل دم امرئ مسلم" لا يصح؛ لأنه عام وحديث القتل خاص.
وقد نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول:
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه ص 97.
(2) الأم:8/643.
(3) مغني المحتاج:5/519.
(4) سبق تخريجه:330.
(5) سورة المائدة آية 92
(6) المحلى:12/373.
(7) الإحكام:2/530، 560 وما بعدها.(7/13)
ـ أن حديث جابر - رضي الله عنه - في نسخ الثابت من الأمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، لا يصح؛ لأنه لم يروه عن ابن المنكدر - رضي الله عنه - أحد متصلاً إلا شريك القاضي وزياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن اسحاق عن ابن المنكدر - رضي الله عنهم - وهما ضعيفان. (1)
ـ أن حديث قبيصة بن ذؤيب منقطع ولا حجة في منقطع. (2)
وقد أجيب عن هذا من جهتين :
1 ـ أن قبيصة بن ذؤيب - رضي الله عنه - من أولاد الصحابة، وولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه...والظاهر أن الذي بلغّ قبيصة ذلك صحابي فيكون الحديث على شرط الصحيح؛ لأن إبهام الصحابي لا يضر. (3)
2 ـ أن الحديث المروي عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - لا حجة فيه؛ لأنه ليس فيه أن ذلك كان بعد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتل، ويكون حجة لو بين فيه انه أتى به أربع مرات بعد أمره - صلى الله عليه وسلم - يقتله في الرابعة. (4)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:
ـ أن الأحاديث التي ذكرها أصحاب الرأي الثاني منسوخة بفعله - صلى الله عليه وسلم - حيث آتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به قد شرب الخمر فجلده، ثم أتي به في الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة.(5)
ـ أن ما جاء عن الحسن ( منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، كما جزم به ابن المديني وغيره، فلا حجة فيه وإذا لم يصح هذا عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - لم يبق رد الإجماع على ترك القتل متمسك،حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - لكان عذره انه لم يبلغه النسخ. (6)
الرأي الراجح
__________
(1) المحلى:12/372.
(2) المرجع السابق:12/372.
(3) فتح الباري:12/81 باختصار.
(4) المحلى:12/372.
(5) سبق تخريجه ص 335 .
(6) فتح الباري:12/82.(7/14)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن قتل الشارب في الرابعة، منسوخ لثبوت النص بذلك وكذا للإجماع عليه.
ـ ولأن القتل في الرابعة يصح حمله على ما إذا كان مستحلاً لها، أو أن هذا للإمام إذا رأى فيه مصلحة و إلا تركه.
المسألة الثانية: الخليطان
تحرير محل النزاع.
لا خلاف بين الفقهاء في أن نبيذ التمر والبسر والرطب والزبيب والزهو(1)إذا نبذ كل واحد منهما على حدة فهو حلال شربه ما لم يسكر، ولا خلاف بينهم كذلك في أن ما عداهما من الأنبذة ـ إذا نبذ مع غيره ـ فهو حلال شربه كذلك ما لم يسكر، واختلفوا فيما لو نبيذ أحد هذه الأصناف المذكورة مع الآخر، أو مع غيره وكان يفضي أحدهما إلى الإسكار هل يحرم أو لا.؟
سبب النهي عن الخليطين.
قال النووي ذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه قال ومذهب الجمهور أن النهي في ذلك للتنزيه وإنما يحرم إذا صار مسكرا ولا تخفى علامته. (2)
الرأي الأول: وهو للحنفية. (3)
ويرون أنه لا بأس بشرب الخليطين، إذ حكمهما عند الاجتماع كحكمهما عند الانفراد.
واستدلوا بالسنة والمعقول :
أما السنة :
__________
(1) الزهو: الملون من البسر.
(2) نيل الأوطار:8/187 ،فتح الباري :10/68 .
(3) تبيين الحقائق:6/46، البحر الرائق:8/248، بدائع الصنائع:5/117، مجمع الأنهر:2/571، المبسوط:24/5، العناية على الهداية:10/100(7/15)
فما جاء عن السيدة عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: "((كنا ننبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقاء لو وكي أعلاه وله عزلاء(1)، ننبذه غدوة فيشربه عشاءً،وننبذه عشاء فيشربه غدوة.")) (2)
أما المعقول :أنه لما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد منهما بانفراد جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر. (3)
ـ أن النهي الوارد عن الجمع بينهما كان ذلك في ابتداء الإسلام، حين كان بالمسلمين شدة وضيق من أمر الطعام، يعني إنما نهي عن الجمع بين النعمتين، ثم لما وسع الله - سبحانه وتعالى - على عباده النعمة أباح الجمع بين النعمتين، والدليل على ذلك "كلوا من الطيبات " من غير فصل بين الجمع والإفراد. (4)
الرأي الثاني: وهو لجمهور الفقهاء من المالكية(5)والشافعية(6) والحنابلة. (7)
ويرون بأنه يكره شرب الخليطين، وقال المالكية منهي عنه.
واستدلوا بالسنة والمعقول :
__________
(1) عزلاء :مصب الماء من القربة.
(2) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا:3 /1590 رقم 2005.
(3) المبسوط:24/5.
(4) المبسوط:24/5، تبيين الحقائق:6/46، مجمع الأنهر:2/571.
(5) التاج والإكليل:4/358، الفواكه الدواني:2/287، حاشية الدسوقي:2/117، المنتقى شرح الموطأ:10/149.
(6) الأم: 6/193، المجموع:2/584.
(7) وعند الحنابلة روايات، رواية بالحرمة، ورواية بالكراهة، ورواية عدم الكراهة، ومجمل هذه الروايات كما يلي:فرواية الحرمة تحمل على ما إذا أسكر، أو مضى عليه ثلاثة أيام ما لم يغل، والكراهة على ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه للإسكار، وعدم الكراهة إذا كان في المدة اليسيرة. المغني والشرح الكبير:10/165، الإنصاف:10/233، الفروع:6/103.(7/16)
أما السنة : فما روى جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعاً، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعاً." (1)
ـ وما جاء عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:"((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخلط بسراً بتمر أو زبيباً بتمر، أو زبيباً ببسر، وقال: من شربه منكم فليشربه زبيباً فرداً أو تمراً فرداً أو بسراً فرداً."))." (2)
ـ وما جاء عن قتادة - رضي الله عنه - عن أبيه قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا تنبذوا الزهو والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والتمر جميعاً، وانبذوا كل واحد منهما على حدته.")) (3)
ـ وما جاء عن أنس - رضي الله عنه - قال:نهى رسول الله - رضي الله عنه - "((أن نجمع بين شيئين فينبذا يبغي أحدهما على صاحبه، قال: وسألته عن الفضيخ(4) فنهاني، قال: كان يكره المذنّب من البسر مخافة أن يكون شيئين فكنا نقطعه.")) (5)
وجه الدلالة:في هذه الأحاديث دلالة على ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من الانقياد إلى الدين والإسراع إلى طاعة الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أن نبيذ البسر ونبيذ التمر خمر إذا أسكر(6) فوجب أن يكون سائر ما ينبذ ويعصر كذلك.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الأشربة، باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين:3/1574 رقم 1986.
(2) صحيح: أخرجه مسلم :كتاب الأشربة باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين:3/1574 رقم 1987.
(3) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الأشربة باب كراهة انتباذ التمر والزبيب مخلوطين 3/1574 رقم 1988.
(4) الفضيخ:هو عصير العنب وهو أيضا شراب يتخذ من البسر المفضوخ وحده من غير أن تمسه النار وهو المشدوخ. لسان العرب: 3/45.
(5) صحيح الإسناد : النسائي: كتاب الأشربة ذكر العلة التي من أجلها نهى عن الخليطين 3/207 رقم 5072.
(6) الاستذكار:8/32.(7/17)
أما المعقول : أن هذا شراب لم تحدث فيه شدة مطربة، فلم يحرم بها، أصل ذلك إذا أفرد أحدهما بالانتباذ، وخلطهما يسرع بشدتهما.
ـ أن الإسكار يسرع إلى هذه الأشربة بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس مسكراً و هو مسكر. (1)
الرأي الثالث: وهو للظاهرية. (2)
ويرون أن المحرم هو نبيذ التمر أو الرطب أو الزهو أو البسر أو الزبيب، إذا خلط كل واحد منهما بالآخر أو بغيره أسكر أو لم يسكر، وكل واحد منهما على انفراده حلال، وإن خلط بنبيذ غير هذه الأصناف الخمسة فهو حلال.
استدلوا على تحريم الخليطين من هذه الأنواع الخمسة بما استدل به جمهور الفقهاء، واستدلوا على حل غيرها من الأنبذة إذا خلطت بما يلي:
ـ ما جاء عن ابن جريج( قال:"((قال لي عمرو بن دينار(: سمعت جابر بن عبد الله- رضي الله عنه - أو أخبرني عنه من أصدق ألا يجمع بين الرطب والبسر والزبيب والتمر،قلت: لعمرو وهل غير ذلك؟ قال: لا قلت: لعمرو أو ليس إنما نهي عن أن يجمع بينهما في النبيذ وأن ينبذا جميعا؟ قال: بلى، قلت:فغير ذلك مما في النخلة، قال: لا أدري.")) (3)
وجه الدلالة :قال ابن حجر (:" جرى ابن حزم على عادته في الجمود ، فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي :التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب في أحدها ،أو في غيرها ،فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع كاللبن والعسل مثلا. (4)
المناقشة
نوقشت أدلة الحنفية بما يلي: ـ
ـ نوقش الحديث المروي عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنهاـ بأنه محمول على ما إذا لم يتغير بدليل أنه يشربه في الصباح أو المساء.
__________
(1) المجموع:2/584.
(2) المحلى:1/189، 6/215، 12/374.
(3) مصنف عبد الرزاق: كتاب الأشربة، باب الجمع بين النبيذ،9/214 رقم 16974.
(4) فتح الباري:10/69.(7/18)
ـ وقد ناقش ابن حزم ( قولهم :بأنه إنما نهي عنه لضيق العيش، بأنه ما كان رطل تمر ورطل زبيب سرفاً أو رطل زهو ورطل بسر سرفاً وهم بالمدينة ،والطائف قريب وهما بلاد التمر والزبيب , ثم كيف يكون رطل تمر ورطل زبيب , أو رطل زهو ورطل رطب يجمعان سرفاً , ولا يكون أكلهما معاً سرفاً؟ كذلك التمر والزبيب في الأكل معاً. (1)
ـ هذا وقد استدل ابن حزم ( للحنفية بأدلة أخرى وناقشها , فضربت عنها صفحاً إذ لم أقف عليها في كتبهم التي بين يدي .
ـ أنه قد ثبتت النهي بالأحاديث الصحيحة الصريحة، فان لم يكن حراما كان مكروها. (2)
ـ أن قياسهم قياس مع الفارق مع ما فيه من مخالفة للنص , ثم هو منتقض بجواز كل واحد من الأختين منفردة , وتحريمها مجتمعين. (3)
قال ابن حجر (:" وشذ من قال : لا بأس به؛ لأن كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا، قال :وهذه مخالفة للنص ،وقياس مع وجود الفارق فهو فاسد من وجهين ،ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الاختين منفردة، وتحريمهما مجتمعتين ،قال :وأعجب من ذلك تأويل من قال منهم :إن النهي إنما هو من باب السرف، قال :وهذا تبديل لا تأويل ويشهد ببطلانه الآحاديث الصحيحة. (4)
مناقشة أدلة الرأي الثاني
ناقش ابن حزم ( أدلة الجمهور بما يلي: ـ
__________
(1) المرجع السابق: 6/218، وهذا الجواب بالتأمل أرى أنه من باب القياس الذي وقع فيه ابن حزم ( !!.
(2) شرح النووي على أخرجه أخرجه مسلم :12/155.
(3) فتح الباري:10/69،نيل الأوطار: 8/186.
(4) فتح الباري 10/69.(7/19)
أولاً: ناقش خبر أنس - رضي الله عنه - بأنه من طريق وقاء بن إياس وهو ضعيف ،ضعفه ابن معين وغيره... ولا يعقل و لا يجوز أن يضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -البتة ; لأنه لا يدري أحد ما معنى يبغي أحدهما على صاحبه في النبيذ. فإن قالوا: معناه يعجل أحدهما غليان الآخر؟ قلنا: هذا الكذب العلانية وما يغلي تمر وزبيب جمعا في النبيذ إلا في المدة التي يغلي فيها الزبيب وحده ; أو التمر وحده. (1)
قال الحافظ في التقريب: وقاء بكسر أوله وقاف بن إياس الأسري أبو يزيد الكوفي لين من السادسة. (2)
ـ وناقش ابن حزم قياسهم غير المنصوص عليه بأن القياس باطل, ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنكم لستم بأولى أن تقيسوا التين , والعسل على ما ذكر من آخر, أراد أن يقيس على ذلك اللبن والسكر مجموعين , أو الخل , والعسل في السكنجبين مجموعين , أو الزبيب , والخل مجموعين , ولا سبيل إلى فرق. فإن قالوا: لا نتعدى النبيذ. قلنا لهم: بل قيسوا على الجمع في النبيذ الجمع في غير النبيذ , أو لا تتعدوا ما ورد به النص لا في نبيذ , ولا غيره , ولا سبيل إلى فرق أصلا (3)
وقد أجيب عن هذا:
أنه شرط في الخليطين أن يفضي كل واحد منهما إلى الإسكار. (4)
نوقشت أدلة الرأي الثالث بما يلي:
__________
(1) المحلى: 6/221.
(2) تقريب التهذيب :2/337 ..
(3) المحلى: 6/223.
(4) المنتقي شرح الموطأ: 3/150.(7/20)
قول ابن حجر (:" جرى ابن حزم على عادته في الجمود،فخص النهي عن الخليطين بخلط واحد من خمسة أشياء وهي:التمر،والرطب،والزهو،والبسر،والزبيب، في أحدها أو في غيرها، فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها لم يمتنع؛كاللبن والعسل مثلا ويرد عليه ما أخرجه أحمد في الأشربة من طريق المختار بن فلفل عن أنس قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن يجمع بين شيئين نبيذا مما يبغي أحدهما على صاحبه،وقال القرطبي النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم. (1)
……………الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه ابن حزم ( من الاقتصار على تحريم الأنبذة المذكورة لما يلي: ـ
ـ أن النصوص تعضد هذا القول .
ـ أن النص الذي استدل به الجمهور فيه وقاء بن إياس , وقال فيه ابن حجر ( :هو لين الحديث.
ـ أن العلة في تحريم هذه الأنبذة غير منصوص عليها فلا يصح قياس غيرها عليها.
……
المسألة الثالثة: الحد الذي يحرم به الشراب.
اختلف الفقهاء في الحد الذي يكون به الشراب محرماً وينتقل به من التحليل إلى التحريم إلى ما يلي:
الرأي الأول: وهو الحنفية(2)
و قد اختلفوا فيما بينهم: فالإمام أبو حنيفة ( جعل الحد الذي يكون به الشراب محرماً أن يغلي العصير ويشتد ويقذف بالزبد, فجعل فيه ثلاثة شروط لابد من اجتماعها , فإن اشتد ولم يغلي ولم يقذف بالزبد فلا بأس بشربه , فإذا غلى وقذف بالزبد فهو خمر , وهذا في عصير العنب و نقيع الزبيب والتمر؛ وذلك لأن الغليان بداية الشدة , وكماله بقذفه بالزبد؛ لأنه يتميز به الصافي عن الكدر , وأحكام الشرع قطعية , فتناط بالنهاية كالحد و إكفار المستحل.
__________
(1) فتح الباري:10/69.
(2) المبسوط: 24/13, تبيين الحقائق: 6/44, شرح فتح القدير: 10/94, مجمع الأنهر: 2/569, العناية على الهداية:10/94, بدائع الصنائع: 5/117.(7/21)
ـ أما أبو يوسف ومحمد ( فذهبا إلى أن الحد الذي يكون به الشراب محرماً أن يغلي ويشتد ،سواء قذف بالزبد أم لم يقذف؛ لأن صفة الخمرية فيه لكونه مسكراً مخامراً للعقل , وذلك باعتبار صفة الشدة فيه؛ لأن اللذة المطربة والقوة المسكرة تحصل به وهو المؤثر في إيقاع العداوة والصد عن الصلاة , أما القذف بالزبد فوصف لا تأثير له في إحداث صفة السكر , وقيل يؤخذ في حرمة الشراب بمجرد الاشتداد , وفي وجوب الحد على الشارب بقذف الزبد هذا في العنب ونقيع الزبيب والتمر والشعير والحنطة , فقال: محمد ( ـ في رواية عنه ـ أنه حرام إذا أسكر , وقال أبو يوسف ( ما كان منها يبقى بعد عشرة أيام و لا يفسد فإني أكرهه , وكذا قال :محمد ( في الرواية الثانية. ثم إن أبا يوسف ( رجع عن قوله إلى قول أبي حنيفة (.
وقد ناقش ابن حزم ( قول الصاحبين ( بأنه في غاية الفساد , ولا يعضده قرآن , ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قياس , ولا رأي سديد , ولا قول أحد نعلمه قبلهما. (1)
ـ وناقش قول الإمام أبي حنيفة ( بأنه لا دليل عليه. (2)
وقد أجيب عن هذا:
بأنه قال به ابن عباس - رضي الله عنه - وعمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، ورد في نصب الراية " فقوله وعن ابن عباس - رضي الله عنه - ما كان من الأشربة يبقى بعد عشرة أيام ولا يفسد , فهو حرام ; قلت: غريب ; وروى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع عن علي بن مالك عن الضحاك عن ابن عباس- رضي الله عنه - , قال: النبيذ الذي بلغ فسد , وأما ما ازداد على طول الترك جودة فلا خير فيه. وأخرج نحوه عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -. (3)
__________
(1) المحلى: 6/213.هذا وقد نسب ابن حزم ( إلى أبي يوسف ( بأنه ليس بالعصير بأس حتى يزبد , والعبرة عند أبي يوسف ( بشدة العصير أزبد أو لم يزبد. المحلى: 6/213.
(2) المرجع السابق: 6/215.
(3) نصب الراية:4/299.(7/22)
الرأي الثاني: وهو للمالكية. (1)
ويرون أنه يحرم في الخمر شرب القليل والكثير ، وما عداها من الأشربة فيحل الشرب منها ما لم تسكر , فإذا أسكرت فهي خمر , ويحرم شرب القليل والكثير منها , ولا يشترط الغليان.ورد في المدونة الكبرى:" فالعصير وجميع الأنبذة سواء ، ليس تحرم بغليانها إنما تحرم إذا كان يسكر؛ لأن العصير حلال عند مالك ( حتى يسكر , والنبيذ حلال عند مالك( حتى يسكر , فإذا أسكرا كانا حراما , وهما قبل أن يسكرا سبيلهما واحد لا يحرمان بالغليان , وإنما يحرمان إذا خرجا إلى ما يسكر." (2)
الرأي الثالث: وهو للشافعية.(3)
ويرون الحد الذي يكون به الشراب حراماً إذا اشتد وقذف بالزبد، وورد أنه المسكر من الأنبذة وإن لم يقذف بالزبد.
الرأي الرابع: وهو للحنابلة(4)
يكون الشراب محرماً إذا أتى عليه ثلاثة أيام , أو إذا وجد منه غليان , ولو طبخ قبل غليانه وقبل إتيانه ثلاثة أيام بلياليهن عليه حل , وإن ذهب بطبخه ثلثاه فأكثر. (5)
وقد استدلوا بالسنة والمعقول :
أما السنة :فبما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:"((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد, وبعد الغد إلى مساء الثالثة , فإذا أمسى يأمر به أن يهراق أو يسقى.")) (6)
__________
(1) المدونة الكبرى: 4/411, المنتقى شرح الموطأ: 3/153.
(2) المدونة الكبرى: 4/411.
(3) أسنى المطالب: 4/158, مغني المحتاج: 5/512, نهاية المحتاج:8/12.
(4) المغني والشرح الكبير:10/164, كشاف القناع:6/119, شرح منتهى الإرادات: 3/363.
(5) وقيل الاعتبار في حله عدم الإسكار سواء ذهب بطبخه ثلثاه أو أقل أو أ كثر؛ لأن العلة مظنة الإسكار وحيث انتفى فالأصل الحل. كشاف القناع: 6/119.
(6) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا،3/1589 رقم 2004.(7/23)
وجه الدلالة: في هذا الحديث دلالة على جواز الانتباذ ،وجواز شرب النبيذ ما دام حلوا لم يتغير ولم يغل وهذا جائز بإجماع الأمة. (1)
أما المعقول : أن الشدة تحصل في ثلاث ليال , وهي خفية تحتاج إلى ضابط , والثلاث تصلح لذلك. (2)
أما التحريم بالغليان: ـ
ـ فلأن علة التحريم الشدة الحادثة فيه وهي توجد بوجود الغليان. (3)
الاستدلال على حله بالطبخ حتى يذهب ثلثاه:ـ
ـ أن العصير إنما يغلي لما فيه من الرطوبة، فإذا غلا على النار حتى ذهب ثلثاه فقد ذهب أكثر رطوبته فلا يكاد يغلى، وإذا لم يغل لم تحصل فيه الشدة. (4)
وقد ناقش ابن حزم ( هذا القول بما يلي:
ـ بأن هذا على قدر البلاد والآنية فتجد بلادا باردة لا يستحيل فيها ماء الزبيب إلى ابتداء الحلاوة إلا بعد جمعة أو أكثر , وآنية غير ضارية كذلك , وتجد بلادا حارة وآنية ضارية يتم فيها النبيذ من يومه , والحكم في ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"..انبذ في سقائك وأوكه واشربه حلوا طيبا.. (5)
الرأي الخامس: وهو للظاهرية. (6)
__________
(1) عون المعبود:10 /125.
(2) كشاف القناع: 6/119.
(3) مطالب أولي النهى: 6/214.
(4) مطالب أولي النهى:6/214، كشاف القناع: 6/119.
(5) صحيح:سنن النسائي الكبرى:كتاب الأشربة، الإذن في الانتباذ التي خصتها بعض الروايات،3/224 رقم 5156،ابن حبان: الأشربة، ذكر العلة التي من أجلها زجر عن الشرب في الحناتم،12/221رقم 5401،مسند الإمام أحمد:2/491، شرح معاني الآثار:4/226.
(6) المحلى:6/212 وما بعدها بتصرف يسير.(7/24)
ويرون أن حد الإسكار الذي يحرم به الشراب وينتقل به من التحليل إلى التحريم ،هو أن يبدأ فيه الغليان ولو بحبابة واحدة فأكثر , ويتولد من شربه والإكثار منه على المرء في الأغلب أن يدخل الفساد في تمييزه , ويخلط في كلامه بما يعقل وبما لا يعقل , ولا يجري كلامه على نظام كلام التمييز , فإذا بلغ المرء من الناس من الإكثار من الشراب إلى هذه الحال فذلك الشراب مسكر حرام , سكر منه كل من شربه سواء أسكر أو لم يسكر , طبخ أو لم يطبخ , ذهب بالطبخ أكثره أو لم يذهب , وذلك المرء سكران , وإذا بطلت هذه الصفة من الشراب بعد أن كانت فيه موجودة فصار لا يسكر أحد من الناس من الإكثار منه , فهو حلال , خل لا خمر.
وقد استدلوا على ذلك بما يلي:
ـ قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ 00 } (1) فسمى الله تعالى من لا يدري ما يقول سكران , وإن كان قد يفهم بعض الأمر. ألا ترى أنه قد يقوم إلى الصلاة في تلك الحال فنهاه الله تعالى عن ذلك والمجنون مثله سواء سواء، فقد يفهم المجنون في حال تخليطه كثيرا ولا يخرجه ذلك عن أن يسمى مجنونا في اللغة وأحكام الشريعة.
ـ ما جاء عن محمد بن سيرين ( عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - “ انتبذ في سقائك وأوكه واشربه حلوا طيبا. " (2)
قال أبو محمد: وهذا قولنا ; لأنه إذا بدأ يغلي حدث في طعمه تغيير عن الحلاوة , وهو قول جماعة من السلف، كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا إسماعيل بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ليس بشرب العصير وبيعه بأس حتى يغلي.
الرأي الراجح
__________
(1) النساء من الآية 43.
(2) صحيح :سنن النسائي : باب الإذن في الانتباذ ،3/224 رقم 5156 ، مسند الإمام أحمد :2/491.(7/25)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم، فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه الظاهرية من أن حد الإسكار الذي يحرم به الشراب وينتقل به من التحليل إلى التحريم ،هو أن يبدأ فيه الغليان ولو بحبابة واحدة فأكثر , ، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن في القول به جمع بين الأقوال؛ حيث ذكر الغليان وهو قرينة، وذكر الإسكار وهو العلة، وبالاقتصار على تحريم الشراب بالغليان فقط قصور؛ إذ ربما يغلي ولا يسكر ففي تحريمه حينئذٍ مخالفة للنصوص الواردة بربط الحرمة بالسكر.
ـ أنه ربط الحكم بعلة ظاهرة وهي الإسكار، ولم يشترط الطبخ، وبالغليان يبدأ العصير في التغير والشدة.
ـ أن النصوص الواردة بالغليان فقط تحمل على بداية اشتداد الشراب وبلوغه درجة السكر، وما أوصل إلى الحرام فهو حرام.
ـ أن في القول به تعليق الحكم بعلة ظاهرة منضبطة.
ـ أما قول المالكية والشافعية ( فقول معتبر وله وجاهته، ولكن يطرأ عليه سؤال، كيف يعلم أن هذا الشراب أسكر أو لم يسكر؟ لا يعلم هذا إلا بالشرب منه، فاحتاج الأمر إلى قرينة ظاهرة يتحقق معها السكر وهي الغليان.
المسألة الرابعة:إقامة الحد على السكران.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على آراء:
الرأي الأول:وهو للحنفية(1)المالكية (2)،الشافعية (3)،الحنابلة. (4)
ويرون أنه لا يقام الحد على السكران حتى يصحو.
استدلوا بما يلي:
__________
(1) تبيين الحقائق:3/196،حاشية رد المحتار:6/71، المبسوط:24/11.
(2) المدونة الكبرى 4/423،منح الجليل:9/351،الذخيرة:12/191،التاج والإكليل:8/433.
(3) روضة الطالبين:10/173،كفاية الأخيار:ص 633،مغني المحتاج:5/521.
(4) المغني والشرح الكبير:10/161،الإنصاف 10/159،كشاف القناع:6/83.(7/26)
ـ ما جاء أن الإمام علي - رضي الله عنه - أتي بالنجاشي سكران من الخمر في رمضان، فتركه حتى صحا ثم ضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن من الغد فضربه عشرين، فقال ثمانين للخمر، وعشرين لجرأتك على الله- سبحانه وتعالى - في رمضان. (1)
ـ وما جاء عن جرير عن مغيرة بن إبراهيم قال:"إذا سكر الإنسان ترك حتى يفيق ثم جلد. (2)
الرأي الثاني: وهو للظاهرية. (3)
ويرون أنه يقام الحد على السكران حين يؤخذ، إلا أن يكون لا يحس أصلا ولا يفهم شيئاً فيؤخر حتى يحس.
و استدلوا بما يلي :
ـ ما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "((أتي بالشارب فأقر فضربه ولم ينتظر أن يصحو."
وجه الدلالة: استدل به على جواز إقامة الحد على السكران في حال سكره. (4)
وقد نوقش هذا الرأي بما يلي:
ـ أن المقصود الزجر والتنكيل وحصوله بإقامة الحد عليه في صحوه أتم فينبغي أن يؤخر إليه. (5)
ـ بأن المراد ذكر سبب الضرب وأن ذلك الوصف استمر في حال ضربه وأيدوا ذلك بالمعنى وهو أن المقصود بالضرب في الحد الإيلام ليحصل به الردع. (6)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم فما تطمئن النفس إلى القول به هم ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم إقامة الحد على السكران حتى يصحو ، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن الهدف من إقامة الحد الزجر والتنكيل، ولا يحصل ذلك بجلده حال سكره.
ـ أنه ربما يكون للسكران شبهة تدرأعنه الحد، كأن يكون أكره على الشرب فينتظر حتى يصحو.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة: ما جاء في السكران متى يضرب إذا صحا أو في حال سكره،5/524 رقم28624.
(2) مصنف ابن أبي شيبة: ما جاء في السكران متى يضرب إذا صحا أو في حال سكره،5/524 رقم28626.
(3) المحلى:12/375.
(4) فتح الباري:12/65.
(5) المغني والشرح الكبير:10/161.
(6) فتح الباري:12/65.(7/27)
ـ أنه لا أثر لهذا الخلاف فقد قيد ابن حزم ( جلد السكران بكونه يحس، فإن كان لا يحس ولا يفهم شيئاً فقد التقى مع الجمهور في أن الحد هدفه الزجر والتنكيل ولا يقام على فاقد الوعي مسلوب الإحساس.
المسألة الخامسة:هل يحد الذميّ في شربه الخمر.
اختلف الفقهاء في حكم حد الذمي في الخمر على آراء:
الرأي الأول: وهو للحنفية (1)والمالكية(2)والحنابلة في رواية(3):
لا حد على الذمي في شربه الخمر، وقيد المالكية ذلك بكونهم لم يظهروا ذلك في ديار المسلمين؛ إذ لم يدخلوا عليهم الضرر.
و استدلوا بما يلي:
أن الذمي يعتقد حله بفعله؛ كنكاح المجوس ذوات محارمهم. (4)
ـ أننا صالحناهم على ألا نتعرض لهم فيما لا ضرر علينا فيه، وأنهم لا يلتزمون حرمة الشرب (5)
الرأي الثاني: وهو للظاهرية (6)والرواية الثانية عند الحنابلة (7)
ويرون حد الذمي بشربه الخمر.
و استدلوا على ذلك بما يلي :
بأن الذمي بشربه مسكرا عالما به مختار ا فأشبه شارب النبيذ إذا اعتقد حله .(8)
أنه مكلف فجرى عليه الحد كالمسلم، ولأن السكر في كل ملة حرام. (9)
وقد نوقش هذا :
__________
(1) بدائع الصنائع:5/113، حاشية رد المحتار:6/71، المبسوط:24/31، وحكى عبد المحسن بن زياد أنه لا حد عليه إلا أن يسكر، وورد في بدائع الصنائع 5/113: " ولا حد على أهل الذمة، وإن سكر من الخمر؛ لأنها حلال عندهم، وعن الحسن بن زياد أنهم يحدون إذ سكروا؛ لأن السكر حرام في الأديان كلها ".
(2) التمهيد:14/392
(3) روضة الطالبين: 10/169، ومعني المحتاج: 5/517، حاشيتا قليوبي وعميرة:4/309
(4) الشرح الكبير:10/342، كشاف القناع:3/126
(5) حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/309.
(6) المحلى: 12/377.
(7) المحرر في الفقه: 2/163، الشرح الكبير: 10/342، شرح الزركشي: 6/383.
(8) المحرر في الفقه: 2/163، الشرح الكبير: 10/342.
(9) شرح الزركشي: 6/383.(7/28)
بأن الخمر لم تكن محرمة في صدر الإسلام ، وقد كان الصحابة يشربونها وربما سكروا منها .(1)
واعترض على دعوى اتفاق الشرائع على حرمة الخمر بأن الخمر كانت مباحة في الشرائع المتقدمة ، وفي صدر الإسلام .(2)
وقد اعترض على هذا : بما ذكره الشوكاني ((3)"بأن المباح في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ إلى حد السكر المزيل للعقل ، فإنه محرم في كل ملة كذا قال الغزالي وحكاه ابن القشيري عن القفال ثم نازعه فقال :تواتر الخبر أنها كانت مباحة على الإطلاق ، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل ، وكذا قال :النووي ( في شرح مسلم (4) ولفظه "وأما ما يقوله من لا تحصيل عنده أن المسكر لم يزل محرما فباطل لا اصل له انتهى قلت وقد تأملت التوراة والإنجيل فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا من غير تقييد بعدم السكر بل فيهما التصريح بما يتعقب الخمر من السكر وإباحة ذلك فلم يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم .
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم، فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وبخاصة المالكية من تقييد عدم إقامة الحد عليهم بكونهم لم يجلبوا للمسلمين بشربهم ضررا، ولم يظهروا ذلك في بلاد المسلمين.
المبحث الثالث
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة، وخالفوا البعض في حد الخمر.
يندرج تحت هذا المبحث مسائل :
المسألة الأولى: حد شارب الخمر.
تحرير محل النزاع:
اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن شارب الخمر يقام عليه الحد، واختلفوا في مقدار الحد .
ويرجع سبب الخلاف إلى اختلافهم في دلالة النصوص الواردة في حده، وتكييفهما - خاصة وأن القرآن الكريم لم يحدد العقوبة، وأن الروايات لا تقطع بإجماع الصحابة على رأي في حد الخمر.
__________
(1) حاشية رد المختار :4/37 .
(2) إرشاد الفحول :1/366 .
(3) إرشاد الفحول :1/366 ، 367 .
(4) شرح صحيح مسلم :13/144 .(7/29)
الرأي الأول:وهو للحنفية(1) والمالكية(2) والحنابلة في رواية (3)
ويرون حد شارب الخمر ثمانون جلدة.
الرأي الثاني: وهو للشافعية(4) والحنابلة في رواية ثانية(5)والظاهرية (6)
ويرون أن حد شارب الحمر أربعون جلدة ..
استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي :
ـ ما جاء أن سيدنا عمر - رضي الله عنهم - استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم - " اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر - رضي الله عنه - ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة - رضي الله عنهم - بالشام. (7)
ـ ما روي أن سيدنا عليا - رضي الله عنهم - قال في المشورة " إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فحده حد المفتري" (8)
__________
(1) الهداية: 2/399، تبيين الحقائق: 3/198، شرح فتح القدير: 5/310.
(2) المدونة: 4/410، الذخيرة: 12/204، مواهب الجليل: 6/317.
(3) المغني: 10/157، المحرر في الفقه: 2/163، نيل المآرب: 2/288، العدة شرح العمدة: 2/829، شرح الزركشي: 6/379، الروض المربع: 492.
(4) كفاية الأخيار: 632، البيان: 12/522، الحاوي: 13/412، حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/325، مغني المحتاج: 5/519ويرون بأن ما زاد على الأربعين تعزيز يجوز للإمام فعله.
(5) المغني والشرح الكبير:10/157، الكافي: 4/158، المحرر في الفقه: 2/163، شرح الزركشي: 6/379، العدة: 2/829.
(6) المحلى: 12/367
(7) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الحدود، باب حد الخمر:3/1303، رقم 1706.
(8) ضعيف: المستدرك: 4/417، رقم 8131، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، سنن الدارقطني: 3/157، رقم 223، سنن البيهقي: 8/320، رقم 17321،قال فيه ابن حجر (: وهذا معضل وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن بن عباس مطولا. فتح الباري:12/69،وكذا الألباني ( ضعفه لوجود ابن دبرة فيه وقال لم أجد من وثقه. الإرواء:8/46 رقم 2378.(7/30)
وجه الدلالة:أن الإمام علي - رضي الله عنه - لما سئل عن ذلك،ذكر أمثال الحدود كيف هي ثم استخرج منها حداً برأيه فجعله كحد المفتري، ولو كان عنده في ذلك شيء مؤقت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأغناه عن ذلك ولو كان عند أصحابه - رضي الله عنهم - في ذلك أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء إذا لأنكروا عليه أخذ ذلك من جهة الاستنباط وضرب الأمثال ، فدل هذا على أنه لم يكن عندهم في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء. (1)
ـ وماجاء عن السائب بن يزيد قال: كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإمرة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى إذا كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا، أو فسقوا جلد ثمانين. (2)
وما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن نجعله ثمانين كأخف الحدود، قال: فجلد عمر ثمانين. (3)
وجه الدلالة من هذه الأحاديث:
__________
(1) شرح معاني الآثار:3/153.
(2) صحيح:أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال: 6/2488، رقم 6397.
(3) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الحدود، باب حد الخمر 3/1330، رقم 1706.(7/31)
- الأحاديث تفيد أن حد الخمر لم يكن مقدرا في زمنه - صلى الله عليه وسلم - بعدد معين،ثم قدره أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - بأربعين، ثم اتفقوا على ثمانين، وإنما جاز لهم أن يجمعوا على تعينه، والحكم المعلوم منه - صلى الله عليه وسلم - عدم تعينه؛ لعلمهم بأنه عليه السلام انتهى إلى هذه الغاية في ذلك الرجل لزيادة فساد فيه، ثم رأوا أهل الزمان تغيروا إلى نحوه أو أكثر، فكلما تأخر الزمان كان فساد أهله أكثر، فكان ما أجمعوا عليه هو ما كان حكمه عليه السلام في أمثالهم. (1)
- أن فعل سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - إنما هو توضيح لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالنعلين، فلما كان زمان عمر - رضي الله عنهم - جعل مكان كل نعل سوطا. (2)
- أن الأربعين حد للعبد، فلا يكون حدا للحر كالخمسين. (3)
- أنه حد يجب على الحر، فلم يتعذر بالأربعين، كالقذف وحد القذف أخف، وحد الشرب أغلظ لما في النفوس من الداعي إليه، وغلبة الشهوة عليه، فكان إن لم يزد عليه، فأولى أن لا ينقص منه. (4)
- أن الزائد على الأربعين يجوز ؛ كالمائة فيكون حداً، و إلا لم يجب كالزيادة على المائة في الزنا، والثمانين في القذف. (5)
ـ أن الزيادة على الأربعين لو كانت تعزيرا لم يجز أن تبلغ أربعين؛ لأن التعزير لا يجوز أن يكون مساويا للحد. (6)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والمعقول :
__________
(1) شرح فتح القدير: 5/310.
(2) إسناده ضعيف:مسند الإمام أحمد: 3/67، مصنف ابن أبي شيبة: باب في حد الخمر كم هو وكم يضرب شاربه، 5/503، رقم 28411.
(3) الذخيرة: 12/204.
(4) الحاوي: 13/413.
(5) الذخيرة:12/204.
(6) الحاوي الكبير:13/413.(7/32)
أما السنة :- بما جاء عن أنس - رضي الله عنهم - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين،قال:وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر. (1)
ـ وجه الدلالة:دل هذا الحديث على أنه وان لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك. (2)
ـ ما جاء عن حضين بن المنذر أبو ساسان قال:"((شهدت عثمان بن عفان- رضي الله عنه - ،أتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين،ثم قال: أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان:إنه لم يتقيأ حتى شربها،فقال: يا علي قم فاجلده، فقال: علي - رضي الله عنه - قم يا حسن فاجلده فقال الحسن- رضي الله عنه - :ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال:يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين،فقال:أمسك ثم قال جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي.")) (3)
وجه الدلالة: قال الطحاوي ((4):" فذهب قوم إلى أن الحد الذي يجب على شارب الخمر هذا أربعون
أما المعقول:أنه سبب يوجب الحد، فوجب أن يختص بعدد يشاركه غيره كالزنا والقذف.
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
- تناقش الأحاديث أنه لو كان في حد الخمر نص ما اجتهد الصحابة- رضي الله عنهم - و لعملوا فيه بالنص. (5)
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الحدود، باب حد الخمر،3/1330 رقم 1706.
(2) فتح الباري:12/70.
(3) صحيح: أخرجه مسلم كتاب الحدود، باب حد الخمر،3/1331 رقم 1707،سنن أبي داود: كتاب الحدود، باب الحد في الخمر 4/163، رقم 4480، البيهقي: 8/316، رقم 17275، الدارقطني: 3/206، رقم 367. واللفظ لأخرجه مسلم
(4) شرح معاني الآثار:3/152.
(5) الحاوي: 12:414.(7/33)
ـ أن دعوى إجماع الصحابة غير مسلمة؛ فإن اختلافهم في ذلك قبل إمارة عمر- رضي الله عنه - وبعدها، وردت به الروايات الصحيحة، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاقتصار على مقدار معين بل جلد تارة بالجريد، وتارة بالنعال وتارة بهما فقط، وتارة بهما مع الثياب، وتارة بالأيدي والنعال، والمنقول من المقادير في ذلك إنما هو بطريق التخمين؛ولهذا قال أنس نحو أربعين.
فالأولى الاقتصار على ما ورد عن الشارع من الأفعال، وتكون جميعها جائزة فأيها وقع فقد حصل به الجلد المشروع الذي أرشدنا إليه - صلى الله عليه وسلم - بالفعل والقول ما في حديث من شرب الخمر فاجلدوه،فالجلد المأمور به هو الجلد الذي وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة بين يديه،ولا دليل يقتضي تحتم مقدار معين لا يجوز غيره.(1)
ـ القول بأن حد القذف أضعف من حد الخمر غير مسلم؛ إذ أن حد القذف أغلظ من جهتين:
الأولى: أن القذف من حقوق العباد، وحد الشرب من حقوق الله تعالى، وما تعلق بالعباد أغلظ.
الثانية: أن القذف متعد، والشرب غير متعد. (2)
- يقال لأبي حنيفة( ألست تقول: إن أكثر التعزير تسعة وثلاثون، ولا يجوز أن يبلغ الأربعين؛ لأنه لا يساوي أقل الحدود؟ فلذلك وجب أن تكون الأربعين حدا.
وقد أجيب عن هذا:
بان الثمانين حد واحد، ولا يدخل فيها تعزير، فلا تناقض.
وقد نوقشت أدلة الرأي الثاني:
- بأن الثمانين حد، والزيادة على الأربعين إلى الثمانين حد؛ لأن التعزير لا يكون إلا على جناية مخففة، ولا ينبغي أن ينحصر في ثمانين، وتجوز الزيادة عليها، لكن هذه الزيادة غير جائزة بالاتفاق. (3)
ـ أن القول بالثمانين عليه إجماع الصحابة، وما جاء في الضرب أربعين محمول على لأن الضرب كان بجريدتين، فيكون كل ضربة بضربتين. (4)
__________
(1) تحفة الأحوذي:4 /599.
(2) المرجع السابق: نفس الصفحة
(3) روضة الطالبين: 10/172، حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/311.
(4) تبيين الحقائق: 3/158.(7/34)
وقد أجيب عن هذا:
بأن الخبر يحتمل أيضا أنه ضرب بجريدة أخرى، وليس حمله على ما قلتم بأولى من حملنا، وبالاحتمال يسقط الاستدلال.
الرأي الراجح (1)
الناظر في الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضوع جلد شارب الخمر، يجد أنه أمام أحاديث متنوعة، فهناك أحاديث تدل على شارب الخمر يجلد أربعين، كما أخرج أ مسلم( عن حصين بن المنذر في جلد الوليد أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - قال: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة(2)وهناك أحاديث لم تعين الأربعين تحديدا،بل قالت نحوا من أربعين، فيجوز أن تكون أكثر من أربعين، ويجوز أن تكون أقل.
غير أن أحاديث التحديد بالأربعين قد منعت أن تكون أقل من أربعين؛ لأنها نصت على الأربعين، ويبقى احتمال أن تكون أكثر من أربعين؛ لأن اقتران قوله - أربعين - بقوله نحوا من أربعين، ينفي النقصان عن الأربعين، وبذلك تكون هذه الأحاديث مؤيدة القول بأن الحد أربعون، ولكنها تعطي معنى آخر، وهو جواز الزيادة على الأربعين.
وهناك أحاديث لم تبين عدداً معيناً للحد، بل جاءت تقول إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بضرب شارب الخمر ولم تبين مقدار ما يضرب، كما جاء عن أنس - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين (3)وأخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت في الخمر حدا(4)وهذه الأحاديث لم تذكر حدا معينا تعارض الحد بأربعين.
__________
(1) نظام العقوبات: 25، وما بعده بتصرف يسير.
(2) صحيح: سبق تخريجه ص 353 .
(3) سبق تخريجه ص 325.
(4) صحيح الإسناد: سنن البيهقي: 8/314، رقم 17286،المستدرك:4/415، رقم 8142، وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(7/35)
والجواب: أن الأحاديث التي لم تذكر عددا معينا تعتبر من قبيل المطلق، والأحاديث المحددة بالأربعين من قبيل المقيد، وإذا ورد نص مطلق من قيد أو عدد أو صفة، ورد نص مقيد بعدد أو صفة، فإنه يحمل المطلق على المقيد، ويسري القيد على الجميع، ثم إن الأحاديث التي تنص على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحد حدا معينا في الخمر، فهي نفي، وليس إثبات، فتحمل على أنه حسب علمهم لم يعرفوا أنه قد حد حدا معينا، بدليل أن غيرهم قد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حد حدا معينا معينا، فيكون من نفي تحديد الحد، نفي بحسب علمه، فلا يعارض الحديث الصحيح الذي أثبت العدد؛ لأن هذه الأحاديث نفي، وأحاديث الأربعين إثبات، وإذا تعارض النفي والإثبات، قدم الإثبات على النفي، فتقدم الأحاديث التي تثبت حدا معينا، وعلى الأحاديث التي تنفي وجود حد معين، وذلك إعمالا للدليلين، وهو أولى.
- هذا واختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - ليس في الأربعين، وإنما فيما زاد على الأربعين، وهذه الزيادة هي الزيادة هي التي استشار فيها سيدنا عمر - رضي الله عنهم - الصحابة - رضي الله عنهم - فاجتهدوا وأوصلوها إلى ثمانين، فيكون الجلد أربعين ثابت بالسنة، وما زاد على الأربعين إلى الثمانين ثابت باجتهاد الصحابة - - رضي الله عنهم - ولا شيء غير ذلك.
- وعلى هذا فالرأي الراجح هو ما قال به الشافعية: من أن حد شارب الخمر أربعون جلدة، وهي ثابتة بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجوز للإمام أن يزيد عليها إلى ثمانين، وتكون هذه الزيادة ثابتة باجتهاد الصحابة - رضي الله عنهم - وليست من أصل الحد، بل هي تعزير تبعا لما يراه الإمام من المصلحة.
المسألة الثانية: ما يتناوله اسم الخمر من الأشربة.(7/36)
اتفق الفقهاء على تحريم الخمر قليلها وكثيرها، وهي اسم للنيء من ماء العنب إذا غلي واشتد، واختلفوا في غيرها من الأشربة المسكرة، هل يطلق عليه خمر أو لا؟ وهل يحد بالقدر المسكر منها أو أقل منه؟
فذهب الحنفية(1) : إلى أن اسم الخمر يختص بالنيئ من ماء العنب إذا غلي واشتد، وقذف بالزبد عن أبي حنيفة، وعن الصاحبين قذف بالزبد أم لم يقذف، وغيره من الأشربة المنصوص عليها إذا غلي واشتد، فيحرم شرب قليلها وكثيرها، ولا يحد بالقدر المسكر منها، أما إذا أقل طبخ، فيحل شربه، ولا يحرم إلا المسكر منها، وهذا عند رأي أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعند محمد روايتان (2)
أما إذا أسكر بدون غليان، وهو المعتق فيحل شربه للتداوى، واستمراء الطعام، والتقوي على الطاعة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف (،وعند محمد ( لا يحل.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص: 1/444، المبسوط: 24/13، بدائع الصنائع: 5/112، 114، وورد فيه " أما السكر الفضيخ.ونقيع الزبيب فيحرم شرب قليلها وكثيرها..
(2) بدائع الصنائع: 5/116.(7/37)
واتفق الجميع على أنه لا يحل شربه للهو والطرب أسكر أو لم يسكر (1)، أما غير الأشربة المنصوص عليها، كالمرز (2)، والجعة(3)، والبتع (4)، وما يتخذ من السكر والتين، ونحو ذلك، فيحل شربه عند أبي حنيفة ( قليلا كان أو كثيرا، مطبوخا كان أو نيئا، ولا يحد شاربه، وإن سكر، وروي عن محمد ( أنه حرام بناء على أصله، وهو أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، كالمثلث (5)، وقال أبو يوسف ( ما كان من هذه الأشربة يبقى بعدما يبلغ عشرة أيام، ولا يفسد فغني أكرهه، وكذا روي عن محمد - ( ثم رجع أبو يوسف ( عن ذلك إلى قول أبي حنيفة (
وجه قول أبو يوسف الأول: أن بقاؤه، وعدم فسادة بعد هذه المدة دليل شدته، وشدته دليل حرمته، ووجه أبي حنيفة ( أن الحرمة متعلقة بالخمرية، ولا يثبت إلا بشدة، والشدة لا توجد في هذه الأشربة، فلا تثبت الحرمة (6)
- وقال الجمهور: كل ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خمر، ويعامل معاملة الخمر في أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ويحد شاربه بالقليل.
__________
(1) المبسوط: 4/13، بدائع الصنائع: 5/116، ورد فيه " أما المعتق المسكر فيحل شربه للتداوي، واستمراء الطعام، والتقوي على الطاعة، عند أبي حنيفة، وأبي يوسف (،وروي محمد ( أنه لا يحل، وهو قول الشافعي ( وأجمعوا على أنه لا يحل شربه للهو والطرب، هكذا روى أبو يوسف- رحمه الله - في الأماني، وقال: لو أراد أن يشرب المسكر، و قليله وكثيره حرام، وكذلك المشي إليه حرام. المبسوط: 24/17.
(2) المرز: بكسر الميم، نبيذ الذرة. طلبه الطلبة لعمر بن محمد النسفي، المكتبة العامرية: 159.
(3) الجعة: هو نبيذ الحنطة والشعير.المرجع السابق: نفس الصفحة.
(4) البتع: بكسر الباء، وفتح التاء نبيذ العسل. المرجع السابق. نفس الصفحة.
(5) بدائع الصنائع:5/117.
(6) بدائع الصنائع: 5/117.(7/38)
ورد في الإفصاح (1): " واتفقوا على أن كل شراب يسكر كثيرة فقليله وكثيره حرام، ويسمى خمرا، وفيه الحد سواء أكان من عصير العنب، أو مما عمل من التمر والزبيب والحنطة والشعير والذرة والأرز والعسل والجزر ونحوها، مطبوخا كان أو نيئا، إلا أبا حنيفة فإنه قال: " نقيع التمر والزبيب إذا اشتد كان حراما، قليله وكثيره، ولا يسمى خمرا بل نقيعا، وفي شربه الحد إذا أسكر
يرجع سبب الخلاف:
هل المعتبر في تحريم الخمر كونها خمرا، أو كونها مسكرة؟
فمن قال :بكون المحرم هو عين الخمر بنص الآية حرم القليل منها والكثير،، وأوجب بالقليل منها الحد ، وما عداها من الأشربة فالحد فيه بالقدر المسكر، ولا يجب بأقل منه، وإثبات الحد في أقل منه إثبات للحد بالرأي، وهذا لا يصح؛ لأن طريق معرفته النص، ومن قال: بكونها مسكرة جعل الإسكار هو العلة التي حرمت لأجلها الخمر، وقاس عليها غيرها من الأشربة إذا اجتمعت العلة، وهي الإسكار.
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية (2)
__________
(1) الإفصاح: 2/219.
(2) ذهب أبو جعفر الطحاوي من الحنفية إلى أن " الخمر هي عصير العنب فقط،فيحرم قليله وكثيرة، إلا إذا طبخ وخرج من حد العصير على السكر يحرم منه القدر المسكر، أما غير الخمر من الأشربة فيحرم منه القدر المسكر، وما سواه مباح " شرح معاني الاثار: 4/214، 215 للاستزادة والتفصيل.انظر أحكام القرآن للجصاص: 1/444، وما بعدها، بدائع الصنائع: 5/112، 114، 116، المبسوط: 24/13، تبيين الحقائق: 3/198، رد المحتار: 6/55، الهداية: 2/399، شرح فتح القدير: 10/65، الميزان الكبرى: 2/235، رحمة الأمة: 519.(7/39)
ويرون أنه يجب الحد على من شرب ولو بقطرة من الخمر بلا اشتراط للسكر، أما عصير العنب إذا فسد وطبخ نُظر فإن ذهب ثلثاه فهو حلال، ولا حد حتى يسكر، وإن ذهب أقل من الثلثين فهو حرام - أي شربه - ولا حد حتى يسكر، وما عمل من التمر والزبيب إذا مسه طبخ و هو النبيذ، فهو مباح، ولا حد حتى يسكر، وإن لم يمسه طبخ فهو حرام، ولا حد يسكر، وما عداه من الأشربة المتخذة من غير النخل والكرم، كالعسل والشعير والحنطة والذرة فكله مباح، ولا حد فيه، أسكر أو لم يسكر؛ لأن الحرمة متعلقة بالخمرية ولا تثبت الحرمة (1)، وروى عن محمد - رحمه الله - أنه حرام إذا أسكر.
ورد في بدائع الصنائع (2): " وأما المرز والجعة والحجة والبتع، وما يتخذ من السكر والتين، ونحو ذلك، فيحل شربه عند أبي حنيفة قليلا كان أو كثيرا، مطبوخا كان أو نيئا، ولا يحد شاربه، وإن سكر "
ورد في الجامع الصغير (3): " الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر، وهو النيئ من ماء التمر، ونقيع الزبيب، إذا اشتد حرام مكروه، والطلاء هو الذي ذهب أقل من ثلثيه من ماء العنب، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به"
ورد في تحفة الفقهاء (4):"...ثم ما سوى هذه الأشربة مما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والسكر والفانيد والعسل والتين فهي مباحة، وإن سكر منها ، ولا حد على من سكر منها هذا هو الصحيح من الرواية؛ لأن هذه من جملة الأطعمة ولا عبرة بالسكر "
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/117.
(2) المرجع السابق: 5/117.
(3) الجامع الصغير: 485.
(4) تحفة الفقهاء:3/328، ينظر المبسوط: 24/13.(7/40)
الرأي الثاني: وهو للمالكية (1) والشافعية (2) والحنابلة (3) والظاهرية(4) ورواية عن محمد بن الحسن (5).
ويرون أن كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام، ويطلق عليه خمر، ويحد شاربه سكر أو لم يسكر، وهو كالخمر ، سواء أكان من تمر أو عنب أو زبيب أو حنطة أو شعير أو ذرة أو غيرها نقيعه ومطبوخه سواء، وتحريم الخمر بالنص ، وما عداها بالقياس، إذ هي معللة بالسكر،هذا عند الجمهور، وعند ابن حزم (التحريم بالنص فقط، ولا قياس.
……………الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالسنة والآثار والمعقول.
__________
(1) المعونة:1/468، المدونة: 4/410، بداية المجتهد: 1/345طبعة دار الفكر.
(2) البيان: 12/519، روضة الطالبين: 10/168، كفاية الأخيار: 632، مغني المحتاج: 5/516، حاشيتا قليوبي وعميره: 4/308
(3) المغني والشرح الكبير: 10/156، الروض المربع: 492، نيل المآرب: 2/288، المحرر في الفقه: 2/2163، شرح الزركشي: 6/385.
(4) المحلى 6/176، 12/374.
(5) بدائع الصنائع: 5/117.(7/41)
أما السنة: فما جاء عن عبد الملك بن نافع قال: قال ابن عمر:"((رأيت رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفع إليه قدحاً فيه نبيذ فوجده شديداً، فرده عليه،فقال رجل من القوم:أحرام هو يا رسول الله، فعاد فأخذ منه القدح، ثم دعا بما فصبه عليه ثم رفعه إلى فيه، فقطب ثم دعا بماء آخر فصبه عليه، ثم قال: إذا اغتلمت عليكم هذه الأوعية فاكسروا متونها بالماء. (1)
__________
(1) ضعيف: السنن الكبرى كتاب الأشربة، ذكر الأخبار التي اعتل بها من أباح شراب المسكر:3/235 رقم 5204،شرح معاني الآثار:4/219، قال فيه ابن حجر(: قال النسائي: عبد الملك بن نافع ليس بالمشهور، والمعروف عن ابن عمر - رضي الله عنه - خلافه،ثم أخرج عنه من طريق تحريم المسكر من غير وجه، وقال أبو حاتم:عبد الملك بن نافع رجل مجهول، وقال البيهقي:قيل فيه عبد الملك بن نافع،وقيل عبد الملك بن القعقاع،وقيل:ابن أبي القعقاع:وقيل:مالك بن قعقاع."، الدراية:2/251، وقال فيه الزيلعي (:" قال النسائي وعبد الملك بن نافع غير مشهور ولا يحتج بحديثه والمشهور عن بن عمر خلاف هذا ثم أخرج عن بن عمر حديث تحريم المسكر من غير وجه قال وهؤلاء أهل البيت والعدالة المشهورون بصحة النقل وعبد الملك لا يقوم مقام واحد منهم وقال البخاري لا =يتابع عليه وقال أبو حاتم هذا حديث منكر وعبد الملك بن نافع شيخ مجهول وقال البيهقي هذا حديث يعرف بعبد الملك بن نافع وهو رجل مجهول اختلفوا في اسمه واسم أبيه فقيل هكذا وقيل عبد الملك بن القعقاع وقيل مالك بن القعقاع نصب الراية:4/308."(7/42)
ـ ما جاء عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:لا أشرب نبيذ الجر بعد إذ أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بنشوان،فقال:يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شربت خمرا، لكني شربت نبيذ زبيب في دباء، فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال، ونهى عن الزبيب والتمر وعن الدباء. (1)
أما الآثار :
فما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - "((حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها , والسكر من كل شراب.")) (2)
وجه الدلالة من جهتين: ـ
الأولى : أن اسم الخمر لا يتناول سائر الأشربة حقيقة ; لأن عطف الشيء على نفسه لا يليق بحكمة الحكيم , وإن سميت الخمر خمرا لمعنى مخامرة العقل بطريق المجاز , والمجاز لا يعارض الحقيقة. (3)
الثانية: إن مراده - صلى الله عليه وسلم - تشبيه المسكر بالخمر في حكم خاص , وهو الحد , فقد بعث مبينا للأحكام دون الأسامي , ونحن نقول: إن المسكر , وهو القدح الأخير مشبه للخمر في أنه يجب الحد بشربه. (4)
ـ وما جاء عن سيدنا عمر- رضي الله عنه - أنه كان في سفر , فأتي بنبيذ , فشرب منه فقطب , ثم قال: " إن نبيذ الطائف له غرام " فذكر شدة لا أحفظها , ثم دعا بماء فصب عليه , ثم شرب. (5)
__________
(1) صحيح الإسناد:المستدرك: كتاب الحدود:4/416 رقم8129،البيهقي: كتاب الأشربة، باب ما جاء في إقامة الحد في حال السكر أو حتى يذهب سكره،8/317 رقم17301،شرح معاني الآثار:3/156.
(2) سبق تخريجه ص 331.
(3) تحفة الأحوذي:5/502، عون المعبود:10/101، الاستذكار:8/22.
(4) المرجع السابق: 24/16.
(5) صحيح:شرح معاني الآثار:4/218.(7/43)
ـ وما جاء عن عمرو بن ميمون- رضي الله عنه - قال: شهدت عمر - رضي الله عنه - حين طعن , فجاءه الطبيب فقال: " أي الشراب أحب إليك " قال: النبيذ , فأتي بنبيذ فشرب منه فخرج من إحدى طعناته. (1)
ـ ما جاء عن عمرو بن ميمون - رضي الله عنه - " قال:كان عمر- رضي الله عنه - , يقول " إنا نشرب من هذا النبيذ شرابا يقطع لحوم الإبل في بطونها من أن يؤذينا , قال , وشربت من نبيذه فكان أشد النبيذ. (2)
ـ ما جاء عن خالد الحذاء الخزاعي- رضي الله عنه - , عن المعدل- رضي الله عنه - , عن ابن عمر- رضي الله عنه - , أن عمر- رضي الله عنه - , انتبذ له في مزادة فيها خمسة عشر , أو ستة عشر , فأتاه فذاقه , فوجده حلوا , فقال: كأنكم أقللتم عكره. (3)
وجه الدلالة من هذه الآثار:
ـ أنه قد ثبت عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - إباحة قليل النبيذ الشديد , وقد سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "((كل مسكر حرام ")) (4)
__________
(1) البيهقي الكبرى: باب الصلاة بإمامين أحدهما بعد الآخر،3/112،رقم5039، شرح معاني الآثار:4/ 218، مصنف ابن أبي شيبة: في الرخصة في النبيذ ومن شربه،5/80 رقم 23882.
(2) البيهقي الكبرى: شرح معاني الآثار:4/ 218.
(3) شرح معاني الآثار:4/218.
(4) حسن: الترمذي: 4/293 رقم 1866, وقال فيه حسن صحيح , الدارقطني: 4/255 رقم 48,صحيح ابن حبان: 12/203 رقم 5383 , أبو داود: 3/329 رقم 3687.(7/44)
فكان ما فعله في هذا دليلا أن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -بقوله ذلك ، أن المقصود عنده من النبيذ الشديد , هو السكر منه لا غير ، لأنه إما أن يكون سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا , أو رآه رأيا. فإن ما يكون منه في ذلك يكون رآه رأيا , فرأيه في ذلك عندنا حجة , ولا سيما إذ كان فعله المذكور في الآثار التي رويناها عنه بحضرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فلم ينكره عليه منهم منكر , فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه. (1)
ـ قول ابن عمر - رضي الله عنه -: لقد حرمت الخمر يوم حرمت , وما بالمدينة يومئذ منها شيء.
وجه الدلالة: أن ابن عمر- رضي الله عنه - رجل من أهل اللغة , ومعلوم أنه قد كان بالمدينة السكر وسائر الأنبذة المتخذة من التمر ; لأن تلك كانت أشربتهم ; ". فلما نفى ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة التي كانت بالمدينة , دل ذلك على أن الخمر عنده كانت شراب العنب النيئ المشتد. (2)
ـ ما جاء عن يحيى بن معين - رضي الله عنه - أنه قال: ثلاث أحاديث لا تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -"((كل مسكر حرام ")) (3) "((و لا نكاح إلا بولي "))(4) و"((ومن مس ذكره فليتوضأ")) (5)
أما المعقول فمن وجوه :
__________
(1) شرح معاني الآثار:4/219.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 1/446.
(3) صحيح :سبق تخريجه.
(4) صحيح: الترمذي 3/407 رقم 1101, ابن ماجة 1/605 رقم 1880, الدارقطني 3/225 رقم 23, المستدرك:2/184 رقم 2711.
(5) حسن: سنن أبي داود: 1/95رقم 181, مسند الإمام أحمد: 6/406 , صحيح ابن حبان: 3/400 رقم 1116.(7/45)
ـ أن الأشياء قد تقدم تحليلها جملة , ثم حدث تحريم في بعضها , فلم يخرج شيء مما قد أجمع على تحليله , إلا بإجماع يأتي على تحريمه. ونحن نشهد على الله عز وجل , أنه حرم عصير العنب إذا حدثت فيه صفات الخمر. (1) وبمعنى آخر: أن جميع الأشربة قد كانت حلالاً , وتحريمها نسخ , والنسخ لا يثبت إلا بالنص , والنص مختص بالخمر دون النبيذ فدل على تحريم الخمر وإباحة النبيذ. (2)
ـ أ ن الخمر موعود للمؤمنين في الآخرة قال الله تعالى { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } (3)]فينبغي أن يكون من جنسه في الدنيا مباحا يعمل عمله ليعلم بالإصابة منه تلك اللذة , فيتم الترغيب فيه , وما هو مباح في الدنيا يصير كالأنموذج لما هو موعود في دار الآخرة. (4)
ـ أن التعليل بالإسكار ينافي حرمة عينها ; لأن قليلها ليس بمسكر فيلزم أن لا يكون قليلها حراما على مقتضى التعليل بالإسكار. (5)
ـ أن الشرع حرم الخمر , ولا شك أن هذه الحرمة لمعنى الابتلاء , وإنما يتحقق معنى الابتلاء بعد العلم بتلك اللذة ليكون في الامتناع منه عملا بخلاف هوى النفس , وتعاطيها للأمر , وحقيقة تلك اللذة لا تصير معلومة بالوصف بل بالذوق , والإصابة , فلا بد من أن يكون من جنس ذلك ما هو حلال لتصير تلك اللذة به معلومة بالتجربة , فيتحقق معنى الابتلاء في تحريم الخمر يعتبر هذا بسائر المحرمات كالزنا , وغيره إلا أن في الخمر القليل والكثير منه حرام ; لأن قليله يدعو إلى كثيره , فأما هذه الأشربة , ففيها من الغلظ , والكثافة ما لا يدعو قليلها إلى كثيرها , فكان القليل منها مباحا مع وصف الشدة , والمسكر منها حرام. (6)
__________
(1) شرح معاني الآثار:4/214, 215.
(2) الحاوي الكبير: 13/390.
(3) محمد من الآية 15.
(4) المبسوط: 24/16, الحاوي الكبير: 13/391.
(5) شرح فتح القدير: 10/90.
(6) المبسوط: 24/16.(7/46)
ـ حرمة القليل ثبت بالشرع المحض(1)وحرمة غيرها ثبتت بالقدر المسكر منه.
ـ أن الحد إنما يجب بشرب القليل من الخمر ولم يوجد بالسكر لأن حرمة السكر من كل شراب كحرمة الخمر ؛لثبوتها بدليل قطعي , وهو نص الكتاب العزيز قال الله تعالى جل شأنه في الآية الكريمة { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } (2) وهذه المعاني تحصل بالسكر من كل شراب فكانت حرمة السكر من كل شراب ثابتة بنص الكتاب العزيز كحرمة الخمر. (3)
ـ أن اسم الخمر للنيء من ماء العنب إذا صار مسكرا حقيقة , ولسائر الأشربة مجاز ; لأن معنى الإسكار والمخامرة فيه كامل , وفي غيره من الأشربة ناقص فكان حقيقة له مجازا لغيره , وهذا لأنه لو كان حقيقة لغيره لكان الأمر لا يخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون اسما مشتركا , وإما أن يكون اسما عاما ،ولا سبيل إلى الأول ; لأن شرط الاشتراك اختلاف المعنى , فالاسم المشترك ما يقع على مسميات مختلفة الحدود والحقائق , كاسم العين ونحوها , وههنا ما اختلف , ولا سبيل إلى الثاني ; لأن من شرط العموم: أن تكون أفراد العموم متساوية في قبول المعنى الذي وضع له اللفظ لا متفاوتة , ولم يوجد التساوي ههنا , وإذا لم يكن بطريق الحقيقة تعين أنه بطريق المجاز فلا يتناولها مطلق اسم الخمر.(4)
وقد استدل أصحاب الرأي الثاني: بالسنة والآثار والمعقول.
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/113.
(2) المائدة آية 91.
(3) بدائع الصنائع: 5/115.
(4) المرجع السابق: 5/117.(7/47)
أما السنة: أن الأحاديث قد استفاضت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كل مسكر حرام , كما جاء عن النعمان ابن بشير - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "((إن من الحنطة خمراً , ومن الشعير خمراً ومن الزبيب خمراً , ومن التمر خمراً ومن العسل خمراً.")) (1)
ـ وما جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كل مسكر حرام , وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام.")) (2)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح تحريم المسكر , وأن الكثير إذا أسكر فالقليل منه حرام.
ـ ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام." (3)
ـ ما جاء عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:"سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البتع (وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه) فقال: كل شراب أسكر فهو حرام. (4)
__________
(1) صحيح الإسناد: الترمذي: 4/297 رقم 1872, وقال فيه غريب , سنن ابن ماجة: 2/1121رقم 3379, الدارقطني: 4/253 رقم 41, المستدرك: 4/164 رقم 7239. صحيح الإسناد.
(2) حسن: الترمذي: 4/293 رقم 1866, وقال فيه حسن صحيح , الدارقطني: 4/255 رقم 48,صحيح ابن حبان: 12/203 رقم 5383 , أبو داود: 3/329 رقم 3687.
(3) صحيح:سبق تخريجه ص 331.
(4) حسن صحيح:الترمذي:4/291 رقم 1836، وقال فيه هذا حديث حسن صحيح، مسند الإمام أحمد:6/190 رقم 25613.(7/48)
ـ ما جاء عن جابر - رضي الله عنه - "((أن رجلا قدم من جيشان وجيشان من اليمن، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال: النبي - رضي الله عنه - أو مسكر هو؟ قال: نعم قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل مسكر حرام، إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار.")) (1)
وجه الدلالة:هذه الأحاديث وغيرها دلالتها أكيدة على أن الخمر ليست محصورة في نوع بعينه، بل كل ما أسكر يطلق عليه خمر، ثم إن هذه الأحاديث غاية ما يثبت بها أن المسكر على عمومه يقال:له خمر ويحكم بتحريمه، وهذه حقيقة شرعية لا لغوية، وقد صرح الخطابي بمثل هذا، وقال: إن مسمى الخمر كان مجهولاً من المخاطبين حتى بنية الشارع بأنه ما أسكر فصار كلفظ الصلاة والزكاة وغيرها من الحقائق الشرعية. (2)
أما الآثار: ـ فما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. (3)
وجه الدلالة:
أن ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان بمحضر من الصحابة، ولم يخالف أحد منهم.
__________
(1) صحيح:أخرجه مسلم : كتاب الأشربة ، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام ، 3/1587 رقم 2002.
(2) نيل الأوطار:7/140.
(3) صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الأشربة ، باب الخمر من العنب ، 5/2120رقم 5259.(7/49)
ـ ما جاء عن السائب بن يزيد- رضي الله عنه - قال:شهدت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى على جنازة , ثم أقبل علينا فقال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب وإني سألته عنها؟ فزعم أنها الطلاء، وإني سائل عن الشراب الذي شرب؟ فإن كان مسكرا جلدته؟ قال: فشهدته بعد ذلك يجلده. (1)
قال ابن حزم:( فهذه أصح طريق في الدنيا عن عمر- رضي الله عنه - أنه رأى الحد واجباً على من شرب شرابا يسكر كثيره لأن عبيد الله لم يكن سكر مما شرب؛ لأنه سأله فراجعه ولم ير عليه سكرا؟ وإنما حده على شربه , مما يسكر فقط. (2)
أما المعقول فمن وجوه :
الأول:أن علة تحريم الخمر كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه العلة موجودة في جميع المسكرات، فوجب طرد الحكم في الجميع. (3)
الثاني :أنه إنما سمي الخمر خمراً لكونه مخامراً للعقل ومعنى المخامرة يوجد في سائر الأشربة المسكرة. (4)
الثالث :أن سلافة العنب(5)إذا شربت عند اعتصارها وهي حلوة ولم تسكر، فهي حلال بالإجماع , وإن اشتدت وأسكرت حرمت بالإجماع , فإن تخللت من غير تخليل آدمي حلت فنظرنا إلى تبدل هذه الأحكام وتجددها عند تجدد صفة وتبدلها فأشعرنا ذلك بارتباط هذه الأحكام بهذه الصفة وقام ذلك مقام التصريح بالنطق فوجب جعل الجميع سواء في الحكم وأن الإسكار هو علة الحكم في التحريم. (6)
الرابع :أن الخمر سمي خمراً لأحد وجهين: ـ
__________
(1) مصنف عبد الرزاق:باب الريح:9/228 رقم17028.فتح الباري:10/65.
(2) المحلى: 6/28.
(3) طرح التثريب:8/46.
(4) المعونة:1/461.
(5) سلاف الخمر:سلافتها أَوَّل ما يُعْصَر منها وقيل:هو ما سال من غير عصر،وقيل هو أَوَّلُ ما ينزل منها وقيل السُلافةُ أَوَّلُ كل شيء. لسان العرب 9/159، مختار الصحاح:1/130.
(6) طرح التثريب:8/46.(7/50)
إما لأنه خامر العقل أي غطاه وهو قول عمر - رضي الله عنه - , أو لأنه يخمر أي يغطي , ومن أيهما اشتق فهو من النبيذ كوجوده في الخمر فوجب أن يشترك في الاسم , ولذلك قالوا لمن بقيت منه نشوة السكر مخموراً اشتقاقاً من اسم الخمر , سواء أكان سكره من نبيذ أو خمر من غير فرق. (1)
الخامس :أنه لما كان قليل الخمر مثل كثيره، وجب أن يكون قليل النبيذ مثل كثيره؛ لأنهما قد اجتمعا في حكم الكثير ،فوجب أن يستويا في حكم القليل؛ إذ أنه شراب مسكراً فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره كالخمر. (2)
السادس : أن دواعي الحرام يتعلق بها حكم التحريم؛ لأن تحريم المسبب يوجب تحريم السبب , وشرب المسكر يدعو إلى تحريم السكر , وشرب القليل يدعو إلى شرب الكثير فوجب أن يحرم المسكر لتحريم السكر ويحرم القليل لتحريم الكثير. (3)
السابع :أن الإمام أبا حنيفة ( علق على طبخ الأشربة حكمين متضادين فجعله محلا للحرام ،ومحلا للحلال؛ لأنه يقول إذا طبخ الخمر حل , وإذا طبخ النبيذ حرم , وهذا فاسد من وجهين: ـ
أحدهما: أنه علق عليه حكمين متضادين. الثاني: أنه جعل له تأثير في التحليل والتحريم , ومعلوم أن ما حل من لحم الجمل لم يحرم بالطبخ , وما حرم من لحم الخنزير لم يحل بالطبخ , فوجب إسقاط تأثيره , وقد ثبت أن في الخمر حرام فكذلك مطبوخه , وأن مطبوخ النبيذ حرام فكذلك بيئه. (4)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الأول بما يلي: ـ
ـ ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - من قوله :"حرمت الخمر لعينها..
قد ناقشه صاحب الحاوي الكبير: من أوجه: (5)
ـ أن راويه عبد الله بن شداد ولم يلق ابن عباس - رضي الله عنه - فكان منقطعاً لا يلزم العمل به.
__________
(1) الحاوي الكبير: 13/398.
(2) المرجع السابق: 13/399.
(3) الحاوي الكبير: 13/399.
(4) الحاوي الكبير:: 13/399.
(5) الحاوي الكبير: 13/402.(7/51)
ـ أنه رواه موقوفا عن ابن عباس - رضي الله عنه -، غير مسند للرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن فيه حجة.
ـ أنه لو كانت الرواية (السكر) لكان المراد به المسكر؛ لأن السكر ليس من فعل الشارب فينهى عنه، وإنما شرب المسكر فعله فصار النهي متوجهاً إليه.
ـ أنه يجوز على ابن عباس مع علمه وفضله أن يكون قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب تحريم النبيذ الشديد ثم يقول :حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب فيعلم الناس أن قليل الشراب من غير الخمر وإن كان كثيره يسكر حلال هذا غير جائز عليه. (1)
ـ أن تحريم السكر في هذا الخبر لا يمنع من تحريم المسكر، فيحرم السكر والمسكر جميعاً، وتكون أخبارنا أولى من جهتين:
أحدهما: أنه أعم حكماً؛ لأن تحريم المسكر يوجب تحريم السكر، وتحريم السكر لا يوجب المسكر.
الثاني: أن السكر محرم بالعقل لاستقباحه فيه، والمسكر محرم بالشرع لزيادته على مقتضى العقل.
ـ أما احتجاجهم في وجه الدلالة بأن المقصود بالسكر القدح الأخير، وقد أشبه الخمر في أنه يجب الحد بشربه قد كفانا ابن حزم ( مؤنة الجواب فقال "000 وهذا في غاية الفساد من وجوه :
__________
(1) شرح معاني الآثار:4/221.(7/52)
أحدها: أنه دعوى كاذبة بلا دليل ،وافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالباطل , وتقويل له ما لم يقله عن نفسه , ولا أخبر به عن مراده , وهذا يوجب النار لفاعله. (1)
وثانيها: أنهم لا يقولون بذلك في شراب العسل , والحنطة , والشعير , والتفاح , والإجاص والكمثرى , والقراسيا , والرمان , والدخن , وسائر الأشربة , إنما يقولونه في مطبوخ التمر , والزبيب , والعصير فقط , فلاح خلافهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - جهارا. (2)
ـ أنه يقال لهم: هل المحرم عندكم؟ الكأس الآخرة أم الجرعة الآخرة , أم آخر نقطة تلج حلقه؟ فإن قالوا: الكأس الآخرة؟ قلنا لهم: قد يكون من أوقية , وقد يكون من أربعة أرطال , وأكثر , فما بين ذلك , وقد لا يكون هنالك كأس , بل يضع الشريب فاه في الكوز فلا يقلعه عن فمه حتى يسكر.فظهر بطلان قولهم في الكأس.
فإن قالوا: الجرعة الآخرة؟ قلنا: والجرعة تتفاضل فتكون منها الصغيرة جدا , وتكون منها ملء الحلق , فأي ذلك هو الحرام , وأيه هو الحلال؟ فظهر فساد قولهم في الجرعة أيضا.
__________
(1) تعليق:يحسب لابن حزم ( غيرته الشديدة على دين الله - سبحانه وتعالى -، وهذا أمر محمود له، ولكن غير المحمود أن تجره تلك الغيرة إلى أن يكون يصبح لسانه سليطاً على العلماء (، فكان ينبغي له أن يجادل بالتي هي أحسن، فالجدال الحسن أُمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا صحابته - رضي الله عنهم -، وكل من يتصدى للدعوة أو للدفاع عن دين الله من العلماء، إلا أن ابن حزم ( قد نسي هذا الأمر في بعض مواقفه مع معارضيه ـ خاصة الحنفية منهم ـ، فهم لم يقولوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - كذباً ولا يظن بسائر العلماء إلا خيراً، فكلهم لطلب الحق يرجوا و لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلتمس، وقد اجتهدوا في فهم دلالة النص والمجتهد مأجور أبداً أخطأ أم أصاب.
(2) المحلى:6/205.(7/53)
فإن قالوا: آخر نقطة؟ قلنا: النقط تتفاضل فمنها كبير , ومنها صغير.
ثالثها: أن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"((كل شراب أسكر حرام ")) (1) إشارة إلى عين الشراب قبل أن يشرب لا إلى آخر شيء منه.
رابعها: أن الكأس الأخير المسكرة عندهم، ليست هي التي أسكرت الشارب بالضرورة يدرى هذا , بل هي وكل ما شرب قبلها...
ثم متى صارت حراما مسكرة؟ أقبل شربه لها , أم بعد شربه لها , أم في حال شربه لها؟ ولا سبيل إلى قسم رابع:فإن قالوا: بعد أن شربها؟ قلنا: هذا باطل لأنها إذا لم تحرم إلا بعد شربه لها فقد كانت حلالا حين شربه لها وقبل شربه لها , ومن الباطل المحال... أن يكون شيء حلالا شربه , فإذا صار في بطنه صار حراما شربه.
فإن قالوا: بل صارت حراما حين شربه لها؟ قلنا: إنها لا حظ لها في إسكاره إلا بعد شربه لها , وأما في حين شربه لها فليست مسكرة إلا بمعنى أنها ستسكره , وهذا المعنى موجود فيها وهي في دنِّها فلا فرق بينها في حين شربه لها وبينها قبل ذلك أصلا. فإن قالوا: بل قبل أن يشربها؟ قلنا: فقولوا بتحريم الإناء الذي كانت فيه ,وبتنجيسه , وبتحريم كل ما كان فيه من الشرب , وبتنجيسه؛ لأنه قد خالطه حرام نجس عندكم وهم لا يقولون بهذا. فظهر فساد قولهم من كل وجه " (2)
وقد أجيب عن هذا:
بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - "كل مسكر " عبارة عن الجنس، كقولك: كل خبز مشبع ، فإنه عبارة عن الجنس لا عن اللقمة التي يقع الشبع عقيبها، فالجنس كله حرام وهو إذا شرب القدح المسكر فالكل أسكره، لا أنه سكر من هذا القدح وحده ألا ترى انه لو شربه وحده لم يسكر. (3)
__________
(1) صحيح:أخرجه البخاري كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسك:1/96 رقم 239.
(2) المحلى:6/205 وما بعدها بتصرف يسير.
(3) الخلاف للطوسي:5/480.(7/54)
و نوقش ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب فأدناه إلى فيه فقطب فرده......لا حجة فيه لأنه من طريق عبد الملك بن نافع وعبد الملك ابن أخي القعقاع كلاهما عن ابن عمر مسندا , وكلاهما مجهول وضعيف سواء كانا اثنين أو كانا إنسانا واحدا , ثم هو عنهما من طريق أسباط بن محمد القرشي , وليث بن أبي سليم , وقرة العجلي , والعوام ; وكلهم ضعيف. (1)
ـ إن اغتلامها هو تغيرها إما إلى حموضة أو قوة , وليس في واحد منهما , سكر ولذلك سكرت بالماء لتزول حموضتها أوقوتها. (2)
ونوقش ما جاء عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - من ثلاثة أوجه: ـ
أحدهما:أنه حديث ضعيف لا يعرف اسناده , ولا يحفظ لفظه فلم يثبت به حكم.
الثاني: أنه لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه جواب من إباحة ولا حظر.
الثالث: أن الامساك منه لا يمنع من استعمال قوله - صلى الله عليه وسلم - "((كل مسكر حرام ")) (3)
ونوقشت الآثار بما يلي:
ـ ما جاء عن عمر - رضي الله عنه - أنه شرب النبيذ، فليس فيه أن النبيذ كان مسكراً، ولا أنه كان قد اشتد، وإنما فيه إخبار سيدنا عمر - رضي الله عنه - أن نبيذ الطائف له عرام وشدة (4)
ـ أن ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - من قوله لقد حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة يومئذ منها شيء , فلا ينفي التحريم عن سائر الأشربة المسكرة إذ صح عنه أن كل مسكر حرام.
ـ ونوقش ما جاء عن يحيى بن معين ( بما يلي:
أ ـ أن الإمام أحمد بن حنبل ( أثبت وأعلم بطريق الحديث وصحته من يحيى بن معين (، وقد أثبت هذا الحديث ورواه في الأشربة.
ب ـ أنه لا يقبل منه إنكار هذا الحديث إذا رواه الثقة حتى يبين وجه فساده.
__________
(1) المحلى: 6/181, الحاوي الكبير: 11/403.
(2) الحاوي الكبير: 13/404.
(3) الحاوي الكبير: 13/404.
(4) المحلى: 6/187.(7/55)
ج ـ أن الأخذ به والعمل عليه قد سبق يحيى، فلم يكن حدوث قدحه مؤثراً. (1)
مناقشة دعوى الإجماع: الاستدلال بأن الأصل الإباحة في هذه الأشربة وإنما تركت الخمر لدليل وبقي الدليل على أصلها، هذا ليس بصحيح؛لأنه قد ورد أيضاً أن باقي المسكرات محرم فيجب أن يترك الأصل وينقل إليه. (2)
ـ وكذلك الاستدلال بان ما ثبت تحليله نسخ والنسخ لا يصح إلا بالنص المستفيض المتواتر.
ـ نوقش هذا من ثلاثة أوجه: ـ
أحدهما: أن تحريم النبيذ ابتداء شرع وليس بنسخ؛ لأنهم كانوا في صدر الإسلام مستدرجين لاستباحتها من قبل فجاء الشرع بتحريمها، وما هذه سبيله يجوز إثبات حكمه بأخبار الآحاد.
الثاني: أنه لو كان نسخاً لكان مأخوذاً من تحريم الخمر في القرآن وهو نص مستفيض.
الثالث: أنه لا يمتنع أن ينسخ بما يستفيض بيانه وإن لم يستفيض نقله، كما حولت القبلة إلى الكعبة وأهل قباء في الصلاة على بيت المقدس فأتاهم من أخبرهم بنسخها وتحويلها إلى الكعبة، فاستداروا إليها، وعملوا بقوله وهو واحد. (3)
وقد نوقش الاستدلال بأن الله - سبحانه وتعالى - لم يحرم شيئاً إلا و أغنى عنه بمباح من جنسه، من جهتين:
ـ أنه لما حرم السكر وإن لم يغن عنه بمباح من جنسه جاز أن يحرم المسكر، وإن لم يغن عنه بمباح من جنسه.
2 ـ أن الله - سبحانه وتعالى - قد أباح من جنسه ما لا يسكر، فأغنى عن المسكر. (4)
و نوقش الاستدلال بكونها موعود المؤمنين في الجنة من جهتين:
أحدهما: أنهم قد عرفوا لذتها قبل التحريم فاستغنوا بها عن المعرفة بعد التحريم.
الثاني:أن خمر الجنة غير مسكر؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قد وصفها بأن لا غول فيها ولا تأثيم، أي لا تغتال عقولهم بالسكر، ولا يأثمون بارتكاب الحظر. (5)
__________
(1) الحاوي الكبير: 13/391.
(2) الخلاف للطوسي:5/483.
(3) الحاوي الكبير: 13/406.
(4) المرجع السابق:13/407.
(5) المرجع السابق.(7/56)
و نوقش قولهم بأن المحرم هو القليل من الخمر والمسكر من كل شراب، بما يلي:
ـ أن علة تحريم الخمر كونها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، و هذه العلة موجودة في جميع المسكرات فوجب طرد الحكم في الجميع، فالمجمع عليه تحريم عصير العنب وإن لم يسكر، وقد علل الله - سبحانه وتعالى - تحريمه بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن كان ما سواه في معناه وجب طرد الحكم في الجميع ويكون التحريم للجنس المسكر. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته، وقبل بيان الرأي الراجح، لابد من ذكر أمر ربما يلتبس على البعض , وبه يفهم الخلاف الواقع بين الحنفية والجمهور , وهو أن حرمة الشيء لا توجب إقامة الحد بتناوله , فعند الحنفية (: الأصل عندهم قوله - صلى الله عليه وسلم - "((الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة ")) (2) وخصوا اسم الخمر بالنيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد على خلافهم في قذفه بالزبد أم لا.
واتفقوا جميعاً والجمهور معهم على أن القليل والكثير من الخمر يحرم شربه ،ويحد منه بتناول القليل حتى ولو لم يسكر , وما عداه من الأشربة المتخذة من نقيع الزبيب والبسر والرطب فيحرم إذا غلا واشتد، على الاختلاف السابق في قذفه بالزبد أم لا،فيحرم شرب القليل منها والكثير , ولا يحد إلا بشرب القدر المسكر منها.
أما لو طبخت هذه الأشياء: فعصير العنب إذا طبخ أدنى طبخ فيحرم شربه قليله وكثيره ولا يحد إلا بالقدر المسكر منه.
وما عداه من نقيع الزبيب والبسر والتمر إذا طبخ فيحل شربه ولا يحرم إلا القدر المسكر منه هذا عند أبي حنيفة و أبي يوسف( وعن محمد ( روايتان: الأولى كما قالا , والثنية لا يحل شربه ولكن لا يحد إلا بالقدر المسكر.
__________
(1) طرح التثريب: 8/46.
(2) صحيح:أخرجه مسلم : كتاب الأشربة ، اب بيان أن جميع ما ينبذ مما يتخذ من النخل والعنب يسمى خمرا 3/1574 رقم 1985(7/57)
وما عدا هذا من الأشربة أي المسكر من غير الشجرتين ـ النخل والعنب ـ كالمتخذ من الحنطة والشعير والتين ونحو ذلك فيحل شربه عند أبي حنيفة وأبي يوسف ( قليلا كان أو كثيراً نيئاً كان أو مطبوخاً ولا يحد شاربه وإن سكر , وعند محمد ( أنه يحرم , ورواية عن أبي يوسف ( ـ رجع عنها ـ أن ما يبقى من هذه الأشربة بعد ما يبلغ عشرة أيام ولا يفسد فمكروه , وكذا روي عن محمد ( كل هذا إن كان لغير لهو وطرب فإن كان للهو وطرب فيحرم.
ـ وخالف أبو جعفر الطحاوي ( جمهور الحنفية ( فقال بأن ما عدا عصير العنب من الأشربة المسكرة مباح شربه دون درجة الإسكار ويحرم القدر المسكر منه وبه يحد. (1) أما الجمهور فكل ما أسكر أطلق عليه خمراً ويحرم شرب القليل والكثير ويحد بشربه القليل ولو قطرة سكر أو لم يسكر.
وبعد هذا التقدمة : فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ، ويطلق عليه خمراً ويحد شاربه أسكر أم لم يسكر، وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم وسلامتها من المناقشة.
ـ استفاضة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن كل مسكر خمر وهو حرام، ولا وجه لتفريق الحنفية ( بين كونه من خمر العنب والتمر،وبين غيرها من الأشربة طالما كانت علة السكر مشتركة.
__________
(1) هذا وما ذكره صاحب الحاوي الكبير من جعل ما عمل من التمر والزبيب والعسل والحنطة فجميعه حلال طبخ أو لم يطبخ أسكر أو لم يسكر ولا حد فيه حتى يسكر , ونسبه إلى جمهور الحنفية ( فهذا القول بمجموعه لم يقل به إلا أبو جعفر الطحاوي , أما باقي الحنفية ( فقد مضى تفصيل رأيهم.ينظر بدائع الصنائع: 5/112وما بعدها , شرح معاني الآثار: 4/214وما بعدها , الحاوي الكبير: 13/387.(7/58)
ـ أن المفسدة التي حرم الله - سبحانه وتعالى - الخمر لأجلها هي أنها تصد عن ذكر الله- سبحانه وتعالى -،وعن الصلاة وتوقع في العداوة والبغضاء , وهذا أمر مشترك فيه جميع المسكرات لا فرق في ذلك بين مسكر ومسكر , والله - سبحانه وتعالى - حرم القليل لأنه يدعو إلى الكثير وهذا موجود في جميع المسكرات. (1)
ـ أنه على فرض أن الخبر المروي عن ابن عباس - رضي الله عنه -مسنداً وصحيحاً لكان قوله "((حرمت الخمر بعينها "))(2)لا دلالة فيه؛ لأنهم يقولون بدليل الخطاب , ومن قال به: لا يقول إذا علق الحكم بالاسم كان ما عداه بخلافه , وفي هذا الأثر تعلق الحكم بالاسم , وقوله "((والسكر من كل شراب "))فمعناه المسكر من كل شراب, وقد روي في بعض الألفاظ ذلك ولو لم يكن مروياً لكان معلوماً؛ لأن السكر لا يصح النهي عنه؛ لأنه من فعل الله - سبحانه وتعالى - فينا كالمجنون , ووصفه بالتحريم لا يجوز , فثبت أنه أراد المسكر , فإن قيل: فما الفائدة في الخبر، والتفرقة بين السكر والخمر إذا كان الكل واحداً: قلنا له فائدتان:
إحداهما: أن الله - سبحانه وتعالى - حرم الخمر بنص الكتاب , وحرم النبي - صلى الله عليه وسلم -ما عداها من المسكرات فكان معناها حرمت الخمر بنفسها بالقرآن والمسكر بالسنة.
الثانية: أراد به تغليظ النهي في المسكرات فذكرها جملة ثم أفرادها بالذكر فقوله الخمركناية عن المسكرات كلها ثم أفردها بالذكر تأكيداً للنهي(3)كقوله تعالى: { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ
والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } (4)
__________
(1) مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية: 34/122.
(2) سبق تخريجه ص 331 .
(3) الخلاف للطوسي:5/485.
(4) البقرة آية 238.(7/59)
ـ أن اطلاق اسم الخمر على المسكرات من باب الحقيقة الشرعية لا اللغوية , وقد صرح بمثل هذا الخطابي (فقال: إن مسمى الخمر كان مجهولا من المخاطبين حتى بينه الشارع بأنه ما أسكر فصار كلفظ الصلاة والزكاة وغيرها من الحقائق الشرعية (1) فيجوز أخذ الأشياء شرعاً إذا تعلقت عليها الأحكام.
ـ أن الأحاديث المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم كل ما أسكر , وعذر من خالفها من أهل العلم أنها لم تبلغهم، وسمعوا أن من الصحابة - رضي الله عنهم -من شرب النبيذ ،وبلغتهم في ذلك آثاراً،فظنوا أن الذي شربوه كان مسكراً , وإنما كان الذي تنازع فيه الصحابة - رضي الله عنهم - هو ما نبذ في الأوعية الصلبة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الإنتباذ في الدباء ـ وهو القرع ـ وفي الحنتم ـ وهو ما يصنع من التراب من الفخار ـ ونهى عن النقير ـ وهو الخشب الذي ينقر ـ ونهى عن المزفت ـ وهو الظرف المزفت ـ وأمرهم أن ينتبذوا في الظروف المدكاة , وهو أن ينقع التمر أو الزبيب في الماء حتى يحلو , فيشرب حلواً قبل أن يشتد فهذا حلال باتفاق المسلمين..... والنهي عن نبيذ الأوعية القوية فيه أحاديث كثيرة مستفيضة ثم روي عنه أحاديث إباحة في ذلك..... فلما سمع طائفة من علماء الكوفة أ ن من السلف من شرب النبيذ ظنوا أنهم شربوا المسكر فقالت طائفة منهم الشافعي (2) والنخعي وأبي حنيفة وشريك وابن أبي ليلى وغيرهم. يحل ذلك لما تقدم ,وهم في ذلك مجتهدون قاصدون للحق..... , وأما سائر العلماء فقالوا بتلك الأحاديث الصحيحة وهذا هو الثبت عن الصحابة- رضي الله عنهم -وعليه دل القياس الجلي. (3)
__________
(1) نيل الأوطار: 7/140.
(2) لم أجد قولا للشافعي بهذا المعنى بل ما أسكر كثيره فقليله حرام ولعل هذا سهواً من شيخ الإسلام أو خطأ من الناسخ أو المحقق.
(3) مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية: 34/121, 122باختصار.(7/60)
ـ أن الخبر الذي استدل به الحنفية ( من قصر الخمر على الشجرتين (العنب والنخل) لا يمنع أن تكون الخمر من غيرها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -لم يقل ليس الخمر إلا من هاتين الشجرتين وإنما قال الخمر من هاتين الشجرتين. (1)
ـ أن النبيذ نوع من الخمر واسم الخمر أ عم ودخل في الاسم الأعم وهو الخمر عموماً , وانفرد باسم النبيذ خصوصاً فبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن خفي عليه. (2)
المسألة الثالثة:الانتباذ في الأوعية.
سبب الخلاف :
يرجع السبب إلى ورود نص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن الانتباذ فيها، ونص آخر يرفع هذا النهي، فمنهم من بلغه النهي ولم تبلغه الإباحة فأبقى العمل بالنص الأول، ومنهم من بلغه النص بالإباحة فنسخ عنده الحكم الأول. لذا فقد اختلف الفقهاء في حكم الانتباذ في الأوعية؛ كالدباء(3)،المزفت(4)الحنتم(5)النقير(6)لما يلي :
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية،(7) والشافعية(8) والحنابلة في المذهب(9) والظاهرية. (10)
__________
(1) المحلى: 6/199.
(2) الحاوي الكبير: 13/392.
(3) الدباء:الوعاء من القرع.
(4) المزفت: الإناء المطلي بالزفت وهو القار.
(5) الحنتم: قيل إنها جرار خضر، وقيل إنها جرار يؤتى بها من مصر مقعرة الأجواف، وقيل إنها جرار خمر كان يحمل فيها الخمر، وقيل إنها جرار كانت تعمل من طين ودم وشعير.
(6) النقير:النخلة تنسح نسحاً، وتنقر نقراً،وتنسح: أي تقشر. طرح التثريب:8/41، كشاف القناع:6/120، البحر الرائق:8/249، تلخيص الحبير:4/139.
(7) المبسوط:30/167، البحر الرائق:8/249، تلخيص الحبير:4/139.
(8) المجموع:20/583.
(9) المغني والشرح الكبير:10/164، الإنصاف:10/236، كشاف القناع:6/120.
(10) المحلى:6/223 ووافق الظاهرية الجمهور في استعمال الأواني المحرقة؛ لإباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، إلا الذهب والفضة وإناء أهل الكتاب.(7/61)
ويرون أنه يجوز الانتباذ في كل الأواني: كالدباء، والحنتم، والمزفت، والنقير.
وقد استدلوا بالسنة والمعقول :
أما السنة : فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف،ألا فاشربوا في كل وعاء غير أنكم لا تشربوا مسكراً.")) (1)
وجه الدلالة:أن النهي عن الانتباذ منسوخ بإباحة الانتباذ فيها، ولا حكم للمنسوخ. (2)
أما المعقول : أن الظرف لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً. (3)
ـ أن هذه الظروف كانت مختصة بالخمر ،فلما حرمت الخمر حرم استعمال هذه الظروف تشديدا في تحريم الخمر ليتركه الناس فلما مضت الأيام أبيح استعمالها لاستقرار الأمر بالتمام. (4)
ـ أن العهد بإباحة الخمر كان قريباً، فلما مضت الأيام أبيح لهم الانتباذ في كل وعاء بشرط ترك شرب المسكر. (5)
الرأي الثاني: وهو للمالكية(6)
ويرون أن المنهي عنه هو الانتباذ في الدباء والمزفت.
__________
(1) صحيح: أخرجه مسلم : كتاب الجنائز، باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل في زيارة قبر أمه 3/1584 رقم 977.
(2) المغني والشرح الكبير:10/165، المحلى:6/223.
(3) البحر الرائق:8/249.
(4) مجمع الأنهر:2/573.
(5) نيل الأوطار:8/185.
(6) المدونة الكبرى:4/411، المعونة:1/472، المنتقى شرح الموطأ:3/149.رواية عند الحنابلةلة. المغني والشرح الكبير: 10/164، الإنصاف 10/237.(7/62)
ورد في المدونة (1) " قلت: أرأيت الظروف , هل كان مالك يكره أن ينبذ في شيء منها؟ قال: سألت مالكا عنها فقال: الذي ثبت عندنا والذي آخذ به , أن الدباء والمزفت لا يصلح النبيذ فيهما ولا ينبذ فيهما. قلت: فهل كان مالك يكره من الفخار شيئا غير المزفت؟ قال: لا , إنما كان يكره الدباء والمزفت. قلت: وكان مالك يكره مزفت الدباء وغير مزفته؟ قال: نعم , يكره المزفت من كل شيء , الزقاق المزفتة والفخار المزفت وكل ظرف زفت كان يكرهه. قلت: أي شيء الزفت؟ قال: الناس يعرفونه , الذين يزفتون به قلالهم وظروفهم , قلت: فهل كان مالك يكره شيئا من الظروف سوى ما ذكرت لي؟ قال: لا، إنما كان يكره الدباء والمزفت."
واستدلوا بما يلي:
ـ ما جاء عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((نهى عن الدباء والمزفت أن ينبذ فيه)). (2)
وجه الدلالة :أن هذا معنى يعجل بشدة النبيذ ويغيره فوجب أن يكون ممنوعاً كالخليطين (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من القول: بإباحة الإنتباذ في هذه الأوعية ، للأسباب الآتية :
ـ أن الإباحة جاءت بعد نهي مسبق فرفعت الحظر السابق.
ـ أن ما استدل به المالكية فهو منسوخ بأدلة الإباحة التي وردت عند الجمهور.
وما قاله ابن حزم ( من أن رأي المالكية قول بلا برهان ولا نعلم أحداً قال قبله هذا التقسيم، (4) فاعتراض غير مسلم؛ إذ البرهان عليه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - المنسوخ، وقال بمثله سيدنا عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -. (5)
__________
(1) المدونة:4/411.
(2) صحيح: أخرجه مسلم كتاب الأشربة، باب النهي عن الانتباذ في المزفت والدباء والحنتم والنقير:3/1577 رقم 1992.
(3) المنتقى شرح الموطأ:3/148.
(4) المحلى:6/225.
(5) المنتقى شرح الموطأ:3/149.(7/63)
تمهيد
تعريف البغاة لغة (1):
البغاة جمع باغٍ، والبغي في اللغة: الطلب، بغيت كذا أي طلبته، وهو الظلم والتعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق، وبغى على الناس بغياً ظلم واعتدى فهو باغ ٍ والجمع بغاة، ومنه الفرقة الباغية؛ لأنها عدلت عن القصد، وأصله من بغى الجرح إذا ترامى على الفساد، وبغت المرأة تبغي بغاء (بالكسر والمد) فجرت فهي بغي والجمع بغايا، وسمي البغاة بذلك؛ لأنهم يعدلون عن الحق إلى الجور والظلم.
البغي في اصطلاح الفقهاء :
اختلفت وجهات نظر الفقهاء في تعريف البغي ، وإن كان أكثرهم اكتفى بتعريف البغاة وقلة منهم تعرض لتعريف البغي، والأمر فيه سعة؛ لأن البغي: هو الفعل الصادر من البغاة ووصف ثابت لهم بسبب فعلهم، فتعريفهم يستلزم معرفة البغي.
فالبغاة عند الحنفية: هم الخارجون على الإمام الحق بغير حق. (2)فإن كان خروجهم لحق فليسوا بغاة(3)ويعرفون البغي بأنه: الخروج عن طاعة الإمام الحق بغير حق.
وعند المالكية: البغاة فرقة من المسلمين خالفت الإمام لشيئين: إما لمنع حق وجب عليها من زكاة، أو حكم من أحكام الشريعة،أو لدخول، أو خالفته لخلعه.(4)
وعرفه ابن عرفة بأنه: الامتناع عن طاعة من ثبتت إمامته في غير معصية، بمغالبة ولو تأولاًً.(5)
__________
(1) المصباح المنير: ص40شرح فتح القدير: 6/99، مغني المحتاج: 5 /399، حاشية الدسوقي: 6/276.
(2) بدائع الصنائع: 7/140،شرح فتح القدير:6/99، حاشية رد المحتار 6/411.
(3) حاشية رد المحتار: 6/411.
(4) مواهب الجليل: 6/ 278 ، حاشية الدسوقي:6/ 276 .
(5) مواهب الجليل:6/278.(8/1)
وعند الشافعية:(1) البغاة : هم مخالفو الإمام (2) بخروج عليه وترك الانقياد له, ومنع حق توجه عليهم بشرط شوكة لهم وتأويل.
وعند الحنابلة:(3)البغاة: هم الخارجون علي الإمام يريدون إزالته عن منصبه , أو هم قوم لهم شوكة ومنعة خرجوا علي الإمام بتأويل سائغ.
أما الظاهرية: وإن لم ينصوا على تعريف للبغاة محدد،إلا أنه يفهم من كلام ابن حزم ( أثناء تقسيمه للبغاة، أن تعريفهم عنده: أنهم فرقة خرجت على الإمام بتأويل مخطئ في الدين , أو أنهم خرجوا لطلب دنيا. (4)
وقفة مع هذه التعريفات(5)
من خلال العرض السابق نرى أن الفقهاء اختلفوا في الشروط التي يجب توافرها في الباغي، وإن كان الفقهاء متفقين تماماً في الأركان، وعلى الرغم من اختلاف عبارات الفقهاء في تحديد معنى البغي، فيستخلص من تعريفاتهم ما يلي:
أولا: أن البغاة قوم مسلمون ، سواء من خرج منهم وكان من أهل الحق والعدل، أو كان من أهل البدع والأهواء.
__________
(1) مغني المحتاج:5/399, حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/260.
(2) في كفاية الأخيار قيد الإمام بكونه عدلا ً , فالباغي هو المخالف للإمام العدل الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء ما وجب عليه أو غيره. كفاية الأخيار: ص645.
(3) العدة شرح العمدة: 2/845, الروض المربع: ص 498, نيل المآرب: 2/303, المحرر في الفقه: 2/166.
(4) المحلى: 11/334.
(5) جريمة الخروج على السلطة السياسية في الفقه الإسلامي ، رسالة دكتوراه، للباحث مصطفى الدسوقي لبشتين، شريعةأسيوط 1990،ص 230 وما بعدها بتصرف يسير.(8/2)
ثانياً: أنهم اختلفوا فيمن يعد باغياً، فالحنفية و الحنابلة(1)يرون أن البغاة: هم أهل الحق الذين خرجوا على الإمام الحق بتأويل، أما أهل البدع و الأهواء فلهم حكم البغاة عندهم، وإن كان البعض من الحنابلة(2)وبعض أصحاب الحديث يكفرونهم،أما عند المالكية (3)و الشافعية(4)فالكل بغاة، لا فرق بين أهل الحق والأهواء والبدع،لكنهم اختلفوا في اشتراط الخروج بتأويل: فذهب الشافعية إلى اشتراطه، أما عند الظاهرية فالبغاة :هم الخارجون على الإمام بغير حق، أما إن كان الخروج بحق: كأمر بمعروف، ونهي عن منكر وغيره، فليس باغياً بل الباغي من خالفه.
ثالثاً:أن التعريفات كلها تشترك في كون المبغي عليه هو الإمام الذي ثبتت إمامته، كما أنها تكاد تشترك في تحديد الغرض من الخروج ،وهو الامتناع عن الانقياد بمنع حق لله،أو حق لأدمي توجه عليهم،أو لإرادة خلعه وهذا يظهر في كل التعريفات،وفي تعريف الحنفية هو مستفاد من تقييدهم الخروج بكونه بغير حق.
ـ وبناء على هذا فقد ذكر البعض تعريفاً مشتركا للبغي فقال: البغي هو خروج طائفة مسلحة لهم إمام وشوكة، على الحاكم الشرعي للبلاد بغية عزله، أو منع حق توجه عليهم بتأويل سائغ ولو بعيد الأخذ.(5)وهذا هو الراجح؛ لأنه جمع شروط البغي و أركانه.
الأصل في حد البغي الكتاب والسنة والإجماع.
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/140، شرح فتح القدير:6/99، الروض المربع: 498.
(2) المغني والشرح الكبير: 10/5.
(3) مواهب الجليل:6/278.
(4) مغني المحتاج: 5/399.
(5) جريمة الخروج على السلطة السياسية في الفقه الإسلامي، رسالة دكتوراه، ص 232.(8/3)
أما الكتاب:فقوله - سبحانه وتعالى - { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1)
قال الماوردي (: "هذه الآية هي أصل ما ورد في قتال أهل البغي ". (2)
وقال ابن قدامة (: "هذه الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقاً عليه ". (3)
أما السنة:
ـ فما ورد عن عرفجة - رضي الله عنه -(4) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "((من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه.")) (5)
ـ وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: "((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في المنشط والمكره ،وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق،حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.")) (6)
__________
(1) سورة الحجرات آية 9.
(2) الحاوي الكبير: 13/99.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/4.
(4) عرفجة الأشجعي: هو عرفجة بن شريح أو شراحيل أو شريك، وقيل ضريح الكندي ويقال الأشجعي، ويقال عرفجة الأسلمي نزل الكوفة وروى له مسلم. تقريب التهذيب: 2/22، الإصابة: 2/163.
(5) صحيح: رواه مسلم كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع (: 3/1480 رقم 1852.
(6) صحيح:رواه البخاري: كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس 6/2633 رقم 6774.(8/4)
ـ وما ورد عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة - رضي الله عنه - قال:"((دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ،ومنا من ينتضل(1)ومنا من هو في جشره(2)إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فقال :إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ،وينذرهم شر ما يعلمه لهم ،وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها ،وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها ،وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضا ،وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ،ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول: المؤمن هذه هذه ،فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ،فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ،وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر ،فدنوت منه، فقلت له :أنشدك الله آنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه ،وقال :سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له :هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } قال:فسكت ساعة ثم
__________
(1) خرج القوم يَنْتضِلون إِذا اسْتَبَقوا في رَمْي الأَغْراض وفي الحديث أَنه مَرَّ بقومٍ يَنْتَضِلون أَي يَرْتَمُون بالسِّهام يقال انْتَضَل القوم وتَناضَلوا أَي رَمَوْا للسَّبْق. لسان العرب:11/665.
(2) الجَشَرُ :القومُ يخرجون بدوابهم إِلى المرعى ويبيتون مكانهم ولا يأْوون إِلى البيوت. لسان العرب:4/137.(8/5)
قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله "))(1)
فهذه النصوص السابقة يستند إليها الفقهاء في جواز محاربة البغاة، وكلها تلتقي على تحريم البغي، ووجوب طاعة الإمام.
أما الإجماع:(2)
فقد أجمعت الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال البغاة،جاء في المغني (3) " و أجمعت الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال البغاة، فإن أبا بكر - رضي الله عنه - قاتل مانعي الزكاة،و علي - رضي الله عنه - قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان "
قال الشربيني(4): والإجماع منعقد على قتالهم ".
شروط تحقق جريمة البغي.
حد البغاة كأي حد من الحدود لابد فيه من توافر شروط معينة، حتى تتحقق جريمة البغي، ويطلق على صاحبها لفظ باغِ وهذه الشروط هي:
1 ـ أن يكون للخارجين منعة.
2 ـ أن يكون الخروج مغالبة.
3ـ أن يكون للبغاة إمام.
وبعض هذه الشروط متفق عليه بين الفقهاء وبعضها مختلف فيه، وسنوجز الحديث عن كل شرط من هذه الشروط،،وذلك فيما يلي:
الشرط الأول: الخروج على الإمام بتأويل.
ومعناه الخروج عن طاعة الإمام وعدم تنفيذ أوامره فيما لا معصية فيه لله - سبحانه وتعالى -،بحيث يعلن الخارجون حالة العصيان وعدم الانقياد لأحكام الشريعة مع تأويل سائغ يظهره.
والخارجون عن طاعة الإمام أصناف أربعة: ـ
أحدها: قوم امتنعوا من طاعته , وخرجوا عن قبضته بغير تأويل , فهؤلاء قطاع طريق , ساعون في الأرض بالفساد.
__________
(1) صحيح: رواه مسلم:كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول:ج 2/1472 رقم 1844.
(2) قد يعترض على الإجماع بخروج الحسين - رضي الله عنه - على يزيد بن معاوية، وابن الزبير - رضي الله عنه - على عبد الملك بن مروان , ومع كل منهما خلق كثير من السلف، فيقال: إن الإجماع قد انعقد بعد ذلك. مغني المحتاج:5 /399.
(3) المغني الشرح الكبير:10/4.
(4) مغني المحتاج:5 /399.(8/6)
الثاني: قوم لهم تأويل , إلا أنهم نفر يسير , لا منعة لهم , كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم , فهؤلاء قطاع طريق.
الثالث:الخوارج الذين يكفرون بالذنب , ويكفرون عثمان وعليا و طلحة والزبير , وكثيرا من الصحابة - رضي الله عنهم - , ويستحلون دماء المسلمين , وأموالهم , إلا من خرج معهم. وهؤلاء فيهم خلاف بين الفقهاء.
الرابع: قوم من أهل الحق , يخرجون عن قبضة الإمام , ويرومون خلعه لتأويل سائغ , وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش , فهؤلاء البغاة.(1)
__________
(1) المغني والشرح الكبير: 10/4 باختصار.(8/7)
ويقصد بالتأويل ادعاء سبب للخروج ،والتدليل عليه، ويستوي أن يكون التأويل صحيحاً أو فاسداً لا يقطع بفساده، ويعتبر التأويل فاسداً إذا أولوا الدليل على خلاف ظاهره، ولو كانت الأدلة على التأويل ضعيفة: كادعاء أهل الشام في عهد سيدنا علي - رضي الله عنه - بأنه يعرف قتلة سيدنا عثمان - رضي الله عنه - ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لموطأته إياهم، مع أن هذا الادعاء صادر ممن لا يعتد بقولهم وشهادتهم. و بتأويل بعض مانعي الزكاة في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - أنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن كانت صلاته سكناً لقوله تعالى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1) و كادعاء الخوارج الذين خرجوا من عسكر الإمام علي - رضي الله عنه - بعد صفين، أنه كفر ومن معه من الصحابة - رضي الله عنهم -؛حيث حكم الرجال في أمر الحرب الواقعة بينهم وبين معاوية - رضي الله عنه -، (2) وعلى هذا لم يكن للخارجين تأويل قط، أو كان تأويلاً مقطوعاً بفساد،فلا يعتبر الخروج بغيا، وهذا عند جمهور الفقهاء،أما عند المالكية فالبغي يتحقق بالخروج على الإمام وترك طاعته ى ولو لم يكن الخارج متأولاً. (3)
الشرط الثاني: أن يكون للخارجين منعة.
المقصود بالمنعة هي الكثرة والقوة، وقد اشترط مثل هذا الشرط بعض الحنابلة، فقد جاء في المغني (4) " قوم لهم تأويل , إلا أنهم نفر يسير ,لا منعة لهم , كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم , فهؤلاء قطاع طريق , في قول أكثر أصحابنا." ويرى بعض الحنابلة (5) أنهم بغاة , تنطبق عليهم أحكام أهل البغي.
__________
(1) التوبة من الآية103
(2) التشريع الجنائي: 2/680،البغي وأحكامه في الشريعة الإسلامية: 1028.
(3) التاج والإكليل:8/369.
(4) المغني والشرح الكبير: 10/4.
(5) المرجع السابق.(8/8)
بينما يرى الحنفية (1):أنهم لا يعدون بغاة بل حكمهم حكم قطاع الطريق، وإن خرجوا بتأويل، فالخارجين بلا تأويل والخارجين بتأويل ولا منعة لهم حكمهم أنهم قطاع طريق.
أما الشافعية (2)فيرون أن حكمهم كحكم أهل العدل فيما يرتكبون من جرائم ,أما الإمام مالك ( (3) والظاهرية(4)فلا يشترطون المنعة والشوكة حتى يكون الخروج بغياً , فالواحد أو العدد يعد بغياً ولا فرق.
الشرط الثالث: أن يكون الخروج مغالبة.
ويقصد بالمغالبة استعمال القوة والسلاح , فإن كان الخروج غير مصحوب باستعمال القوة كرفض مبايعة الإمام , أو الدعوة إلى عزله فلا يعتبر بغياً. فقد ورد في مواهب الجليل (5) " كون الخروج مغالبة ولا بد منه قال ابن عبد السلام ولفظة مغالبة كالفصل أو كالخاصة ; لأن من عصى الإمام لا على سبيل المغالبة لا يكون من البغاة."
وعلى هذا فنقد الإمام ورميه بالفسق والتشهير به ليس بغياً إذ لم يكن مصحوباً باستعمال السلاح , يدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقب المنافقين الذين كانوا معه في المدينة على الرغم من ظهور نفاقهم , فكان عدم التعرض للخارجين الذين لم يستعملوا السلاح من باب أولى.
الشرط الرابع: أن يكون للبغاة إمام منهم.(6)
وهذا الشرط للشافعية ولم يذهب إليه غيرهم , وهو في الحقيقة شرط غير معتبر وليس بلازم حتى يكون الخارجون بغاة , دليل ذلك أن الإمام علياً - رضي الله عنه - قاتل أهل الجمل ولا إمام لهم. (7)"
وسائل دفع أهل البغي
__________
(1) بدائع الصنائع:7/140.
(2) الأم:8/368.
(3) حاشية الدسوقي: 6/276.
(4) المحلى: 11/ 336.
(5) مواهب الجليل: 6/278.
(6) حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/171.
(7) نهاية المحتاج: 7/403.(8/9)
لم يذكر الفقهاء وسيلة واحدة لدفع أهل البغي , بل ذكروا وسائل متعددة؛ وذلك لأن الهدف ليس قتالهم بل ردهم إلى الطاعة أولا ً ـ بقدر الاستطاعة ـ ثم إذا فشلت تلك الوسائل فيأتي القتال , كما يقال آخر الدواء الكي. وهذه الوسائل بالترتيب كما يلي:
1ـ الوعظ ودفع الشبهات.
وينبغي للإمام قبل أن يعلن عليهم القتال أن يكشف عن شبهاتهم ويدعوهم إلى التوبة و الفيئة؛ لأن المقصود ردهم لقوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1) و قد بيَّن ذلك صاحب المبسوط (بقوله " وينبغي لأهل العدل إذا لقوا أهل البغي أن يدعوهم إلى العدل، هكذا روي عن علي - رضي الله عنه -أنه بعث ابن عباس - رضي الله عنهم -إلى أهل حروراء حتى ناظرهم , ودعاهم إلى التوبة ؛ولأن المقصود ربما يحصل من غير قتال بالوعظ والإنذار، فالأحسن أن يقدم ذلك على القتال ; لأن الكي آخر الدواء. (2) وكذا ورد في منح الجليل " لا ينبغي للإمام والمسلمين أن يدعوا للخروج عليهم حتى يردوهم إلى الحق , وحكم الإسلام.(3)
2 ـ الإنذار.
__________
(1) سورة الحجرات آية 9.
(2) المبسوط: 10/128.
(3) منح الجليل:9/199.(8/10)
والإنذار يكون من الإمام ليعلمهم بخطورة موقفهم حتى يفيئوا و يرجعوا، وذلك إذا لم يتحيزوا بدار، وكانوا فرادى متفرقين تنالهم القوة، قال الماوردي ( " وإذا بغت طائفة من المسلمين وخالفوا رأي الجماعة وانفردوا بمذهب ابتدعوه , فإن لم يخرجوا به عن المظاهر بطاعة الإمام ولا تحيزوا بدار اعتزلوا فيها وكانوا أفرادا متفرقين تنالهم القدرة وتمتد إليهم اليد تركوا ولم يحاربوا ،وأجريت عليهم أحكام العدل فيما يجب لهم وعليهم من الحقوق والحدود , وقد عرض قوم من الخوارج لعلي بن أبي طالب ـ رضوان الله عليه ـ لمخالفة رأيه. وقال: أحدهم وهو يخطب على منبره لا حكم إلا لله ،فقال: علي - رضي الله عنه - كلمة حق أريد بها باطل , لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله , ولا نبدؤكم بقتال , ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا , فإن تظاهروا باعتقادهم وهم على اختلاطهم بأهل العدل , أوضح لهم الإمام فساد ما اعتقدوا ،وبطلان ما ابتدعوا ليرجعوا عنه إلى اعتقاد الحق وموافقة الجماعة , وجاز للإمام أن يعزر منهم من تظاهر بالفساد أدبا وزجرا ولم يتجاوزه إلى قتل ولا حد ". (1)وجاء في الموسوعة الفقهية " البغاة: هم الخارجون على الإمام الحق بتأويل , ولهم منعة. وقد اتفق المالكية والشافعية والحنابلة على أنه لا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم الإمام أمينا فطنا ناصحا يسألهم ما ينقمون , فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها , فإن أصروا بعد الإعذار نصحهم , بأن يعظهم ويأمرهم بالعودة إلى طاعته , فإن استمهلوه اجتهد في الإمهال , وفعل ما رآه صوابا. وهذا كله ما لم يعاجلوا بالقتال , فإن عاجلوا قوتلوا. وقال الحنفية: إن دعوتهم إلى طاعة الإمام وكشف شبهتهم أمر مستحب وليس واجبا , ولو قاتلهم بلا دعوة جاز. (2)
3ـ الإخافة بالقتال.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي: 73،74.
(2) الموسوعة الفقهية: 5/238.(8/11)
فإن لم يستجب أهل البغي ويعودوا إلى طريق الصواب،آذنهم الإمام بالقتال لعلهم يرتدعوا ويرتجعوا.
4 ـ القتال.
ثم بعد أن يخيفهم بالقتال، إذا لم يرتدعوا فقد فعل الإمام معهم ما بوسعه،وليس ثمة إلا القتال.، وذكر ذلك الجصاص ( بقوله: " إن رجعت إحداهما إلى الحق وأرادت الصلاح وأقامت الأخرى على بغيها وامتنعت من الرجوع فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر - تعالى - بالدعاء إلى الحق قبل القتال , ثم إن أبت الرجوع قوتلت." (1) وأما عن كيفية قتالهم، فالأصل أن قتالهم إنما يكون درء لتفريق كلمتهم، مع عدم التأثم؛لأنهم متأولون،ولذا كان قتالهم يختلف عن قتال المشركين.
الفرق بين البغاة والخوارج.
المتأمل في كتب الفقه يجد أنه قد يطلق لفظ الخوارج على البغاة، والبغاة على الخوارج، فهل هي ألفاظ مترادفة بمعني واحد، أو بينها فرق؟ وهل فرقت الشريعة بينها في الأحكام الجارية عليهما أو لا؟
وقد أجاب على هذا السؤال الذي تخبط فيه الكثيرون شيخ الإسلام ابن تيمة ( فقال: " أ ما قول القائل: إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم. فدعوى باطلة , ومدعيها مجازف , فإن نفي الفرق إنما هو قول :طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد ( وغيرهم , مثل كثير من المصنفين في قتال أهل البغي فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر - رضي الله عنه -لمانعي الزكاة , وقتال علي- رضي الله عنه -الخوارج , وقتاله لأهل الجمل وصفين إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام، من باب قتال أهل البغي.
__________
(1) أحكام القران للجصاص:3/598.(8/12)
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة والزبير ونحوهما من الصحابة - رضي الله عنهم - من أهل العدالة ; لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق ; بل مجتهدون: إما مصيبون , وإما مخطئون. وذنوبهم مغفورة لهم. ويطلقون القول :بأن البغاة ليسوا فساقا. فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة [سواء] ; ولهذا قال طائفة: بفسق البغاة , ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة - رضي الله عنهم -. وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين " الخوارج المارقين " وبين " أهل الجمل وصفين " وغير أهل الجمل وصفين. ممن يعد من البغاة المتأولين. وهذا هو المعروف عن الصحابة - رضي الله عنهم -, وعليه عامة أهل الحديث , والفقهاء , والمتكلمين وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم: من أصحاب مالك , وأحمد , والشافعي ( , وغيرهم. وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "((تمرق مارقة عند فُُْرقَة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق))"(1) وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة , ويبين أن المارقين نوع ثالث ليسوا من جنس أولئك ; فإن طائفة علي أولى بالحق من طائفة معاوية - رضي الله عنه -. وقال في حق الخوارج المارقين:" ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم , وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم , يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم , يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية , أينما لقيتموهم فاقتلوهم ; فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة))(2)" وفي لفظ: "((لو يعلم الذين يقاتلونهم مالهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل))" ". وقد روى مسلم (
__________
(1) صحيح : مسلم : كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ، 2/746 رقم 1065 .
(2) صحيح : البخاري : كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، 3/1321 رقم3415، مسلم: كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج ،ج2/746 رقم 1066.(8/13)
أحاديثهم في الصحيح من عشرة أوجه وروى هذا البخاري ( من غير وجه , ورواه أهل السنن والمسانيد (; وهي مستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متلقاة بالقبول , أجمع عليها علماء الأمة من الصحابة ومن اتبعهم , واتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على قتال هؤلاء الخوارج. وأما " أهل الجمل , وصفين " فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ولا من هذا الجانب .
واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك القتال في الفتنة , وبينوا أن هذا قتال فتنة. وكان علي - رضي الله عنه - مسرورا لقتال الخوارج , ويروي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بقتالهم ; وأما قتال " صفين " فذكر أنه ليس معه فيه نص ; وإنما هو رأي رآه , وكان أحيانا يحمد من لم ير القتال. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الحسن - رضي الله عنه -: "((إن ابني هذا سيد , وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) " فقد مدح الحسن - رضي الله عنه - وأثنى عليه بإصلاح الله به بين الطائفتين: أصحاب علي وأصحاب معاوية - رضي الله عنهم -, وهذا يبين أن ترك القتال كان أحسن , وأنه لم يكن القتال واجبا ولا مستحبا. " وقتال الخوارج " قد ثبت عنه أنه أمر به , وحض عليه , فكيف يسوي بين ما أمر به وحض عليه , وبين ما مدح تاركه وأثنى عليه؟ , ,. فمن سوى بين قتال الصحابة - رضي الله عنهم - الذين اقتتلوا بالجمل وصفين , وبين قتال ذي الخويصرة التميمي وأمثاله من الخوارج المارقين , والحرورية المعتدين، كان قولهم من جنس أقوال أهل الجهل والظلم المبين ، ولزم صاحب هذا القول أن يصير من جنس الرافضة والمعتزلة الذين يكفرون أو يفسقون المتقاتلين بالجمل وصفين , كما يقال: مثل ذلك في الخوارج المارقين ; فقد اختلف السلف والأئمة في كفرهم على قولين مشهورين , مع اتفاقهم على(8/14)
الثناء على الصحابة المقتتلين بالجمل وصفين , والإمساك عما شجر بينهم. فكيف نشبه هذا بهذا؟ , وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتال الخوارج قبل أن يقاتلوا. وأما " أهل البغي " فإن الله تعالى قال فيهم: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1) فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء. فالاقتتال ابتداء ليس مأمورا به ; ولكن إذا اقتتلوا أمر بالإصلاح بينهم ; ثم إن بغت الواحدة قوتلت ; ولهذا قال من قال من الفقهاء: إن البغاة لا يبتدئون بقتالهم حتى يقاتلوا. وأما الخوارج فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم: "((.. أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة)) (2) وقال: "((لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)) " (3). وكذلك مانعوا الزكاة ; فإن الصديق والصحابة - رضي الله عنهم - ابتدءوا قتالهم , قال الصديق - رضي الله عنه -: " والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لقاتلتهم علي منعها ".(4)
__________
(1) سورة الحجرات آية 9.
(2) صحيح: البخاري:كتاب المناقب،باب باب علامات النبوة في الإسلام ،ج 3/1321 رقم3415.، مسلم: كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج ،ج2/746 رقم 1066.
(3) صحيح: البخاري:كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى) تعرج الملائكة والروح إليه،ج 6/2702 رقم6995،مسلم:كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم،2/741 رقم 1604.
(4) صحيح : البخاري : كتاب الزكاة ، باب وجوب الزكاة ، 2/507 ، رقم 1335.(8/15)
وهم يقاتلون إذا امتنعوا من أداء الواجبات وإن أقروا بالوجوب. ثم تنازع الفقهاء في كفر من منعها وقاتل الإمام عليها مع إقراره بالوجوب؟ على قولين : هما روايتان عن أحمد ( , كالروايتين عنه في تكفير الخوارج وأما أهل البغي المجرد فلا يكفرون باتفاق أئمة الدين ; فإن القرآن قد نص على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي " ا. هـ. (1)
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد البغي.
وافق الظاهرية الأئمة الأربعة في أمور منها.
أولا ً: أن الخارجين على الإمام ـ إذا خرجوا يسألون عن خروجهم، فإن ذكروا مظلمة ظلموها، أنصفوا، و إلا دعوا إلى الفيئة، فإن فاءوا فلا شيء عليهم،وإن أبوا قوتلوا؛ لأن المقصود بقتالهم ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم ــ كدفع الصائل ـ دون قتلهم، لقوله تعالى { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (2) ، وذلك لأن الأمر بالإصلاح أولا ً ،وبالقتال أخيرا.(3)
وقد بين هذا صاحب المغني(4)فقال : "لا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم , ويكشف لهم الصواب , إلا أن يخاف كلبهم ; فلا يمكن ذلك في حقهم. فأما إن أمكن تعريفهم , عرفهم ذلك , وأزال ما يذكرونه من المظالم , وأزال حججهم , فإن لجوا , قاتلهم حينئذ ; لأن الله تعالى بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال."
__________
(1) الفتاوى الكبرى: 3/443 وما بعدها.
(2) الحجرات آية 9.
(3) مجمع الأنهر:1/699، الذخيرة:12/7، مغني المحتاج: 5/404، الحاوي الكبير:13/ 102، 103، المغني والشرح الكبير: 10/7، الكافي:4/101، المحرر في الفقه:2/116، المحلى:11/366.
(4) المغني والشرح الكبير:10/7.(8/16)
ثانيا ً: اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة على أن أموال البغاة ملكٌ لهم، ترد إليهم بعد انتهاء الحرب وليست فيئا؛ لأنهم مسلمون ومال المسلم لا يحل بغير حق،(1) وإن أدوات الحرب كالسلاح و الكراع وغيرها لا يستعان بها عليهم إلا إذا اضطررنا لذلك، فيجوز للإمام أن يستعين بها عليهم؛ لاضطراره لدفع الظلم عن نفسه وعن غيره بما أمكنه من سلاح.
وقول أبي يوسف ( بتخميس كراعهم وسلاحهم لا دليل عليه، إلا مارواه محمد بن الحنفية ( أن عليا - رضي الله عنه - قسم يوم الجمل بين أصحابه ما قوتلوا به من الكراع والسلاح.
وقد ناقش ابن حزم (هذا الخبر بأنه فاسد؛ لأن فطراً ضعيف. (2)
ثالثاً: واتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة أنه لو كان في الباغين غلام أو امرأة فقاتلا دوفعا ولو بالقتل , حتى ولو أدى ذلك إلى قتلهما في حالة المقاتلة , وإن لم يقاتلا إلا بالتحريض فلا يقتلا. (3)
__________
(1) مراتب الإجماع : 127 ،الإقناع في مسائل الإجماع :1/358 .
(2) بدائع الصنائع: 7/141, شرح فتح القدير: 6/104, مجمع الأنهر: 1/700, الذخيرة: 12/11, حاشية الدسوقي: 6/178, مغني المحتاج: 5/406, البيان: 12/28, المغني والشرح الكبير: 10/14 , 15,المحلى: 11/340, 341, الإفصاح: 2/190, الميزان الكبرى: 2/214.
(3) المبسوط: 10/130,الذخيرة: 12/9, حاشية الدسوقي: 6/280, البيان: 12/24, الحاوي الكبير: 13/120, المغني والشرح الكبير: 10/10, المبدع: 7/471, المحلى: 11/359.(8/17)
رابعاً: واتفقوا كذلك على أن أهل البغي لو سألوا الإمام أن ينظرهم مدة لينظروا في أمورهم , أنظرهم ما لم يكن في الأمر مكيدة , ولو طلبوا مدة معينة أنظرهم تلك المدة , أما ابن حزم ( فلم يقل بتحديد مدة وتعليله على ذلك؛ أنه لا دليل على تحديد مدة في قرآن و لا سنة وهو لا يقول بالقياس , أما القائلون بتحديد مدة فقد قاسوها على خيار المخدوع في البيع ثلاثاً. (1)
خامساً: واتفقوا كذلك على أن الإمام لا يقاتلهم بنار تحرق من فيه من غير أهل البغي , ولا بتغريق يغرقهم , ولا بقطع الميرة عنهم لقوله تعالى { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (2)
__________
(1) المبسوط: 10/129, الذخيرة: 12/12, البيان: 12/20, الحاوي الكبير: 13/123, المغني والشرح الكبير: 10/8, المبدع: 7/471, المحلى: 11/359, الإجماع: 1/126.
(2) الأنعام: من الآية 164.(8/18)
أما عن رميهم بالمنجنيق فقد أجازه الحنفية, المالكية , الظاهرية (1) بشرط ألا يؤدي إلى قتل غير البغاة؛ لأن من لم يقاتل لا يحل قتله , ومنعه الشافعية والحنابلة(2)إلا لضرورة فقد ورد في المغني " ولا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه , كالنار , والمنجنيق , والتغريق , من غير ضرورة ; لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل , وما يعم إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل. فإن دعت إلى ذلك ضرورة , مثل أن يحتاط بهم البغاة , ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم إتلافه , جاز ذلك. وهذا قول الشافعي (. وقال أبو حنيفة (: إذا تحصن الخوارج , فاحتاج الإمام إلى رميهم بالمنجنيق , فعل ذلك بهم ما كان لهم عسكر , وما لم ينهزموا , وإن رماهم البغاة بالمنجنيق والنار , جاز رميهم بمثله." (3)
سادساً:واتفقوا كذلك على أنه إذا وادع الإمام أهل البغي وتعاطوا الرهان، فلا يجوز ذلك إلا مع ضعف أهل العدل عن المقاتلة , فإن قتل أهل البغي رَهْنَ أهل العدل فلا يحل لأهل العدل قتل رهنهم؛ لأن التعدي من غيرهم , ولأنهم مسلمون غير مقاتلين ولم يقتلوا لنا أحداً. (4)
ورد في الإفصاح(5) " واتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي، لاضمان فيه، واختلفوا فيما يتلفه أهل البغي على أهل العدل في حال القتال من مال أو نفس، فقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين: لا يضمن، وقال الشافعي في القديم: يضمنون، وعن أحمد مثله."
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد البغي
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/141, حاشية الدسوقي: 6/278, المحلى: 11/360.
(2) الحاوي الكبير: 13/131, روضة الطالبين: 10/59, المغني والشرح الكبير: 10/10, المبدع: 7/471.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/10
(4) المبسوط: 10/129, حاشية رد المحتار: 6/417, الذخيرة: 12/12, الحاوي الكبير: 13/124, المغني والشرح الكبير: 10/8, المحلى: 11/361 , 362
(5) الإفصاح: 2/190.(8/19)
ويندرج تحت هذا المبحث مسائل:
المسألة الأولى: ما أصابه الباغي من دم أو مال.
تحرير محل النزاع.
اتفق الفقهاء على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي لا ضمان فيه، واختلفوا فيما يتلفه أهل البغي على أهل العدل في حال القتال،ورد في الإفصاح (1)" واتفقوا على أن ما يتلفه أهل العدل على أهل البغي لا ضمان فيه، واختلفوا فيما يتلفه أهل البغي على أهل العدل في حال القتال من مال أو نفس:فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد (في إحدى الروايتين عنه :لا يضمن،وقال الشافعي في القديم:يضمنون، وعن أحمد مثله."
آراء الفقهاء.
الرأي الأول: و هو لجمهور الفقهاء من الحنفية(2)والمالكية(3)والشافعية في الراجح(4)الحنابلة في الأصح(5)وبعض الظاهرية (6).
ويرون عدم تضمين الباغي ما أتلفه حال القتال .
الرأي الثاني: وهو للشافعي في القديم(7)والحنابلة في رواية(8)
ويرون تضمين الباغي ما أتلفه حال القتال .
__________
(1) الإفصاح: /190.
(2) الهداية: 2/466، تبيين الحقائق:3/296، مجمع الأنهر: 1/701.
(3) حاشية الدسوقي: 6/279، جواهر الإكليل: 2/413، حاشية الخرشي: 8/249، الذخيرة: 12/10.
(4) روضة الطالبين: 10/55، مغني المحتاج: 5/403، حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/262.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/13، الكافي:4/103،الإنصاف:10/316، المحرر في الفقه: 2/166 وجاء فيه " وفي تضمين ما أتلفوه على أهل العدل روايتان 000" وجاء في نيل المآرب: 2/306 "ولا يضمن البغاة ما أتلفوه على أهل العدل حال الحرب على الأصح.
(6) المحلى:11/3444.
(7) روضة الطالبين: 10/55، مغني المحتاج: 5/403، الحاوي الكبير: 13/106، حاشيتا قليوبي و عميرة: 4/262
(8) المبدع: 7/473، الإنصاف: 10/317.(8/20)
جاء في البيان(1)"وإن أتلف أهل البغي على أهل العدل ففيه قولان: أحدها: قال في القديم: يجب عليهم ضمان ذلك، وبه قال مالك ((2) ؛لقوله تعالى: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ً } (3) والباغي ظالم فوجب أن يكون عليه السلطان "
الرأي الثالث:وهو لجمهور الظاهرية .(4)
ويرون أنه إن كان لهؤلاء تأويل سائغ يخفى على كثير من أهل العلم، ولم تقم عليهم الحجة في ذلك، ففي القتل الدية من بيت المال، ويضمن المال كل من أتلفه وإن لم يكن لهم تأويل، وإن كان لطلب دنيا فعليه القود في النفس فما دونها، والحد فيما أصاب بوطء حرام، ويضمن ما أتلف من مال.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب و الآثار والمعقول.
من الكتاب:
قوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا } (5)
وجه الدلالة:أن الإذن بالقتال يسقط الضمان، ومن العدل في صلحهم ألا يطالبوا بما جرى بينهم من دم ولا مال، فإنه تلف على تأويل، وفي طلبهم تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي ،وهذا أصل في المصلحة. (6)
أما الآثار:
__________
(1) البيان للعمراني: 12/29، 30.
(2) في ثبوت هذا عن المالكية شك ، إنما مذهبهم عدم التضمين، ويدل على الشك في هذا ما ذكره الماوردي ( في الحاوي 13/106 بقوله:"ويشبه أن يكون مذهب مالك ( "
(3) الإسراء من الآية:33.
(4) المحلى: 11/346.
(5) الحجرات الآية: 9.
(6) القرطبي:16/319.(8/21)
فما جاء عن سعيد بن المسيب ( أنه قال:" إذا التقت الفئتان فما كان بينهما من دم أو جراحة فهو هدر، ألا تسمع إلى قوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1)، قال فكل واحدة من الطائفتين ترى الأخرى باغية." (2)
ــ وما جاء عن الزهري ( قال: " هاجت ريح الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن، إلا مال يوجد بعينه. (3)
وجه الدلالة:أن ما جاء عن سعيد بن المسيب والزهري ( لا يكون إلا عن توقف؛ إذ مثل هذه الأحكام لا تكون بالرأي.
ـ قول أبي بكر- رضي الله عنه -لمن تاب من أهل الردة تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم , فقال له عمر - رضي الله عنه -: لا نأخذ لقتلانا دية؛ لأنهم عملوا لله، وأجورهم على الله، فسكت أبو بكر - رضي الله عنه - سكوت راجع لقوله. (4)
وجه الدلالة: أن رجوع أبي بكر - رضي الله عنه - إقرار منه بعدم التضمين، ولم ينقل أنه غرم أحداً شيئاً. (5)
أما المعقول فمن جهات.
1ـ أن في إسقاط الضمان ترغيبا ً لهم في الرجوع إلى الحق، وفي تضمينهم تنفيراً لهم عن هذا الرجوع.(6)
__________
(1) الحجرات الآية: 9.
(2) مصنف عبد الرزاق: باب قتال الحروراء:ج 10/122،رقم 18587.
(3) مصنف ابن أبي شيبة:كتاب الديات، باب فيما يصاب في الفتن من الدماء 5/459 رقم 27963.
(4) الحاوي الكبير:13/106، تلخيص الحبير :4/50.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/13.
(6) جواهر الإكليل: 2/413، الحاوي الكبير: 13/106، المغني والشرح الكبير: 10/13.(8/22)
2ـ أن الدماء التي كانت في حروب الصحابة قد أهدرت . (1)
3 ـ أن الصحابة - رضي الله عنهم - في خروجهم لم يتبعوا مدبراً، ولا ذففوا على جريح، ولا قتلوا أسيراً، ولا ضمنوا نفساً ولا مالا ً،وهم القدوة، والله أعلم بما في خروجهم من الحكمة. (2)
4 ـ أنها فئة امتنعت وأتلفت بتأويل فلم يلزمها ضمان: كأهل الحرب إذا أتلفوا مالا ً على المسلمين. (3)
استدل أصحاب الرأي الثاني:بالمعقول من جهات:
الأولى : أن الباغي مبطل دفع بشبهة تأويله. (4)
الثانية :أنهما فرقتان من المسلمين محقة ومبطلة،فلا يستويان في سقوط الغرم كقطاع الطريق بشبهة. (5)
الثالثة :أن الضمان يجب على آحاد أهل البغي، فوجب أن يكون على جماعتهم.
الرابعة : أنه لما كان القتال محظورا ً عليهم كان ما حدث عنه مضمونا كالجنايات، كما أن القتال لما وجب على أهل العدل كان ما حدث عنه غير مضمون كالحدود؛ لفرق ما بين الواجب والمحظور. (6)
الخامسة : أنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالتي تلفت في غير حال الحرب. (7)
أدلة أصحاب الرأي الثالث.
أ ـ استدلوا على سقوط القود والحد.
بقوله تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (8)
وجه الدلالة:في هذا دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. (9)
ب ـ واستدلوا على وجوب الدية.
__________
(1) المعونة: 2/298، جواهر الإكليل: 2/413.
(2) أحكام القرآن لإبن العربي:4/130.
(3) المعونة:2/298، المغني والشرح الكبير:10/13.
(4) حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/262.
(5) مغني المحتاج: 5/403.
(6) الحاوي الكبير: 13/106.
(7) المغني والشرح الكبير: 10/13.
(8) سورة الأنعام من الآية 19.
(9) تفسير البيضاوي:2/399.(8/23)
ـ بقوله - صلى الله عليه وسلم - "((00إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل ،وإني عاقله ،فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين :إما أن يقتلوا ،أو يأخذوا العقل."))(1) قال ابن حزم (:وهم إنما قتلوه يوم الفتح متأولين. (2)
ـ عن حميد بن هلال العدوى عن أبي الأحوص قال: لما كان يوم النهر وان كنا مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دون النهر فجاءت الحرورية حتى نزلوا من ورائه قال علي - رضي الله عنه -لا تحركوهم حتى يحدثوا حدثا فانطلقوا إلى عبد الله بن خباب - رضي الله عنه - فقالوا حدثنا حديثا حدثك به أبوك سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال حدثني أبي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قال: تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الساعي فقدموه إلى النهر فذبحوه كما تذبح الشاة فأتى علي - رضي الله عنه - فأخبر فقال الله أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب - رضي الله عنه - فقالوا: كلنا قتله ثلاث مرات فقال علي - رضي الله عنه - لأصحابه دونكم القوم فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه. (3)
وجه الدلالة: قال أبو محمد (: هذا أثر أصح من أثر الزهري ( , أو مثله , بأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - رأى القود على الخوارج فيمن قتلوه بتأويل القرآن , بخلاف ما ذكر الزهري ( من إجماعهم. (4)
__________
(1) حسن صحيح :سنن الترمذي: كتاب الديات، باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعف 4/22 رقم 1406، وفيه قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح ، أبو داود:كتاب الديات، باب ولي العمد يرضى بالدية 4/372 رقم 4504 ، الدار قطني:3/ 95.
(2) المحلى: 11/347.
(3) الدارقطني:3/132 رقم 157، المعجم الكبير للطبراني:4/60 رقم 3629، 3630 وهذا الحديث له شاهد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4) المحلى: 11/345، 346 .(8/24)
ـ أما من لم يكن متأولا ً وقامت عليه الحجة وليس عنده إلا العناد والتعلق: إما بتقليد مجرد , أو برأي مفرد أو بقياس , فليس معذورا و عليه القود أو الدية , وضمان ما أتلف , والحد في الفرج ; لقول الله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } (1)وهؤلاء معتدون بلا شك فعليهم مثل ما اعتدوا به. (2)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
ـ نوقش ما جاء عن الزهري (؛بأنه منقطع؛لأن الزهري (لم يدرك تلك الفتنة ولا ولد إلا بعدها ببضع عشرة سنة و لو صح - كما قال - لما كان هذا إلا رأيا من بعض الصحابة - رضي الله عنهم -لا نصا ولا إجماعا منهم , ولا حجة في رأي بعضهم دون بعض , وإنما افترض الله تعالى علينا أهل الإسلام إتباع القرآن , وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -, أو ما أجمعت عليه الأمة , ولم يأمر الله تعالى قط بإتباع ما أجمع عليه بعض أولي الأمر منا , وإذا وقعت تلك الفتنة فبلا شك أن الماضين بالموت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا أكثر من الباقين , ولقد كان أصحاب بدر - رضي الله عنهم - ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا , وعدوا , إذ مات عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -فما وجد منهم في الحياة إلا نحو مائة واحدة فقط , فبطل التعلق بما رواه الزهري ( ـ لو صح ـ , فكيف وهو لا يصح أصلا؟ (3)
وقد أجيب عن هذا:
__________
(1) البقرة من الآية 194 .
(2) المحلى:11/348.
(3) المحلى:11/345.(8/25)
ـ بأن الصحابة - رضي الله عنهم - رأيهم معتبر، خاصة وأنه لم ينقل عن أحد منهم خلاف هذا الأمر، ثم إن الإجماع يكون بأهل كل عصر، والقول بأن إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - يكون بمجموعهم قول فيه تكلف شديد من ابن حزم (، وإنما المقصود إجماع الصحابة الذين عاصروا الفتنة، ثم إن هذا وإن لم يكن إجماعا ً فلا أقل من أنه لم ينقل فيه خلاف، قال صاحب سبل السلام (:"قلت وهذا إن لم يكن إجماعا فإنه مقوٍٍ للبراءة الأصلية؛إذ الأصل أن أموال المسلمين ودماءهم معصومة." (1)
ـ نوقش ما جاء عن سعيد بن المسيب ( بأنه ليس بشيء ; لأن الله تعالى لم يكلنا إلى رأي الطائفتين , لكنه أمر من صح عنده بغي إحداهما بقتال الباغية , ولو كان ما قاله سعيد ( لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى , ولبطلت الآية وهذا لا يجوز. (2)
وقد أجيب عن هذا:
بأن هذا الكلام يستقيم فيما لو كانت الفئتان بدون إمام عدل مولى،أما وهناك إمام لأهل العدل فمقاليد الأمور بيده في هذه الحالة.
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
ـ أن قياس البغاة على قطاع الطريق في الضمان، قياس مع الفارق؛ إذ البغاة متأولون للحق ـ في ظنهم ـ يطلبونه، أما قطاع الطريق فعرابيد مستهترون، بأمن المسلمين يعبثون.
ـ القول بأن الجماعة من أهل البغي تقاس على الواحد منهم في الضمان قياس غير مسلم؛ إذ الواحد لا شوكة له، ولا منعة، أما الجماعة فلهم شوكة ومنعة.
مناقشة أدلة الرأي الثالث:
نوقش خبر بني خزاعة: بأنهم لا تأويل لهم في قتله وهم إنما قتلوه بقتيل لهم في الجاهلية , وهذا القتيل إنما كان مشركاً والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دفع الدية حقناً للدماء بين القبيلتين. (3)
__________
(1) سبل السلام: 3/361.
(2) المحلى:11/345.
(3) فتح الباري: 12/206, تحفة الأحوذي: 4/550.(8/26)
ـ ثم إن ما ذكره الإمام أحمد ابن حزم (في غير محل النزاع؛ لأن البغي لا يكون إلا بخروج طائفة مسلمة علي الإمام أو علي طائفة أخرى , والقتيل هنا إنما كان مشركاً كما ذكر الإمام أحمد (.(1)
ـ أما الخبر المروي في أن الإمام علياً - رضي الله عنه -رأى القود علي الخوارج في غير محل النزاع؛ إذ أن الخوارج إنما قتلوا عبد الله بن خباب - رضي الله عنه -في غير قتال ولا حرب , وأقروا بقتلهم له , فقاتلهم الإمام علي - رضي الله عنه -لإقرارهم هذا , أما المختلف فيه فهو قتلهم في حال الحرب ،لا ما حدث قبلها ولا بعدها.
فقد ورد في مطالب أولي النهى " ويضمنان أي أهل العدل والبغاة ما أتلفاه في غير حرب أي يضمن كل ُُ ما أتلف من نفس ٍ أو مال ٍ في غير الحرب؛ لإتلافه معصوماً بلا حق ٍ ولا ضرورة دفع. (2)
الرأي الراجح
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته يظهر ما يلي:
ـ أن الفقهاء اتفقوا على أن الباغي إن لم يكن متأولا ً فإنه يضمن ما أتلفه، جاء في شرح فتح القدير (3) " الحاصل أن نفي الضمان منوط بالمنعة مع التأويل , فلو تجردت المنعة عن التأويل كقوم غلبوا على أهل بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليهم أخذوا بجميع ذلك."
أما إن كان متأولا فقد وقع الخلاف بينهم، وما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو مذهب القائلين :بعدم الضمان للأسباب الآتية:
ـ أن في ذلك ترغيبا ً لهم في الرجوع.
ـ أن حد الحرابة يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم، وهم لا تأويل لهم؛ فلأن يسقط الضمان عن المتأول من باب أولى.
ـ أن ضمان الأموال هو الأصل وكون الصحابة - رضي الله عنهم - رغبوا عن ذلك فصدور مثل هذا الفعل منهم لا يكون إلا عن توقف.
__________
(1) مسند الإمام أحمد: 4/32.
(2) مطالب أولي النهى: 6/271.
(3) شرح فتح القدير:6/106.(8/27)
جاء في الذخيرة (1): والأصل في الإتلاف إيجاب الضمان واستثني من ذلك صورتان: البغاة ترغيبا ً عن الرجوع إلى الحق، والحكام لئلا يزهد الناس في الولايات فتضيع الحقوق.
المسألة الثانية: حكم قتل العادل لذي رحمه الباغي.
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة علي أراء: ـ
الرأي الأول:وهو للحنفية (2)والمالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة في الأصح(5)
ويرون أنه يكره للعادل قتل أبيه أو ذي رحمه من أهل البغي ابتداءً, وله أن يدفعه عن نفسه ما استطاع , والكراهة في حق الأبوين أشد , فإن ألجأ إلي ذلك ولم يمكنه قتال أهل البغي إلا بذلك، فله أن يتسبب في قتله ولا يباشر ذلك قدر الاستطاعة.
الرأي الثاني:وهو للحنابلة في رواية(6)والظاهرية(7).
ويرون أنه لا يكره للعادل قتل ذي رحمه الباغي , والأفضل ألا يعمد المرء إلي أبيه أو جده خاصة ما دام يجد غيرهما.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول: بالكتاب والسنة والمعقول.
من الكتاب: قوله تعالي: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } (8)
وجه الدلالة: أن الإحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما ،وألا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر وأن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما.. (9)
أما السنة:
__________
(1) الذخيرة: 12/13.
(2) شرح فتح القدير: 6/109,بدائع الصنائع:7/141, المبسوط: 10/132, مجمع الأنهر: 1/700
(3) حاشية الدسوقي: 6/279, حاشية الخرشى: 8/249, الذخيرة: 12/7, جواهر الإكليل: 2/413.
(4) البيان:12/24.
(5) المبدع: 7/472, المغني والشرح الكبير: 10/18.
(6) المبدع: 7/472, المغني والشرح الكبير: 10/18.
(7) المحلي: 11/349.
(8) لقمان: من الآية 15.
(9) تفسير الرازي:10/77.(8/28)
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "((كف أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة عن قتل أبيه, وكف أبا بكر - رضي الله عنه - عن قتل ابنه ") (1)
ـ و ما جاء عن هشام بن عروة عن أبيه قال استأذن حنظلة بن أبي عامر وعبد الله بن أبي بن سلول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبويهما فنهاهما عن ذلك. (2)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى حنظلة وعبد الله - رضي الله عنهم - عن قتل أبويهما , فلأن يكون في حق الباغي أولى , خاصة وأن بغيه لا يخرجه عن الإسلام.
أما المعقول:
ـ أن الإسلام عاصم ,لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ((... عصموا مني دماءهم وأموالهم ")) والباغي مسلم إلا أنه أبيح قتل غير ذي الرحم المحرم من أهل البغي , وقفاً لشرهم لا لشوكتهم , ودفع الشر يحصل بالدفع والتسبب ليقتله غيره.(3)
ـ أنه بالنسبة لذي الرحم فالقتل فيه قطيعة رحم أمر الله بوصلها , لقوله تعالي { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (4) فالقتل يعتبر قطعا ً لهم،وقد نهى اله عن قطعها ولعن من قطعها، فقال جل شأنه: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } (5).
استدل أصحاب الرأي الثاني: بالكتاب والسنة.
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى: باب ما يكره لأهل العدل من أن يعمد قتل ذي رحمة من أهل البغي،8/186.
(2) إسناده حسن:الإصابة: 2/137.
(3) بدائع الصنائع: 7/141.
(4) النساء من الآية 1
(5) محمد آية 22.(8/29)
أما الكتاب: فقوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1)
وجه الدلالة: في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام،أو على أحد من المسلمين. (2)ولم يخص ابناً من أجنبي.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((انصر أخاك ظالما أو مظلوما 00")) (3)
ـ وقوله - صلى الله عليه وسلم - "((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه 00")) (4)
وجه الدلالة: أن الباغي ظالم يجوز قتله إذا لم يمتنع، والأحاديث عامة لم تفرق.
ـ قال ابن حزم ( " هذا أمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن لا يسلم المرء أخاه المسلم لظلم ظالم , وأن يأخذ فوق يد كل ظالم , وأن ينصر كل مظلوم , فإذا رأى المسلم أباه الباغي , أو ذا رحمه - كذلك - يريد ظلم مسلم , أو ذمي , ففرض عليه منعه من ذلك , بكل ما لا يقدر على منعه إلا به من قتال أو قتل , فما دون ذلك على عموم هذه الأحاديث وإنما افترض الله تعالى الإحسان إلى الأبوين , وأن لا ينهرا , وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة , فيما ليس فيه معصية الله تعالى فقط. (5)
ـ إن ذلك قتل بحق فأشبه إقامة الحد عليه. (6)
المناقشة
__________
(1) الحجرات آية 9.
(2) تفسير القرطبي:16/317.
(3) صحيح: البخاري كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوم 2/863 رقم 2312.
(4) صحيح: كاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوم البخاري 2/863 رقم 2310، مسلم:كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم الظلم ج 4 /1997 رقم 2580.
(5) المحلى:11/350.
(6) المغني والشرح الكبير:10/18، المبدع: 7/472.(8/30)
وقد ناقش ابن حزم ( أدلة الرأي الأول فقال "أن بر الوالدين وصلة الحم إنما أمر الله بهما ما لم يكن في ذلك معصية له تعالى و إلا فلا، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "((لاطاعة في معصية الله تعالى ")) (1) وقد أمر اله تعالى بقتال الفئة الباغية ولم يخص ذلك ابنا من أجنبي، وأمر بإقامة الحدود كذلك. (2)
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته، فالرأي الراجح هو رأي القائلين :بالكراهة في قتل الأب، للأسباب الآتية:
ـ أن القول بالكراهة فيه جمع بين الأدلة والجمع أولى من الإلغاء ما أمكن، حاصة وأن أدلة القائلين بالجواز عامة قيدتها أدلة المنع المحمولة على الكراهة.
ـ أن القائلين :بالجواز كرهوا قتل الأب والجد ،وهذا مما يقول به: أصحاب الرأي الأول؛ لذا كان القول بالكراهة أولى.
المسألة الثالثة: قضاء قاضي أهل البغي.
إذا عين البغاة قاضياً منهم فهل ينفذ حكمه ويكون صحيحاً أو لا؟ خلاف بين الفقهاء علي أراء:
الرأي الأول:وهو للحنفية (3)
ويرون أنه لا ينفذ قضاء قاضي أهل البغي إذا كان منهم , أما لو كان من أهل العدل فيمضي حكمه كما يمضي قضاء أهل العدل.
قال الجصاص (:(4) " لو أن الخوارج ولُّوا قاضيا منهم فحكم، ثم رفع إلى حاكم أهل العدل ،لم يمضه إلا أن يوافق رأيه فيستأنف القضاء فيه 00ولو ولوا قاضيا من أهل العدل فقضى بقضية أنفذها من رفعت إليه كما يمضي قضاء أهل العدل 0"
الرأي الثاني: وهو للمالكية. (5)
__________
(1) مسند الإمام أحمد:4/426 رقم 19837.
(2) المحلى:11/349.
(3) بدائع الصنائع: 7/142, المبسوط: 10/130, البحر الرائق: 5/0154.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 3/600.
(5) حاشية الدسوقي: 6/279، حاشية الخرشي:8/249، الشرح الصغير: 4/430، جواهر الإكليل:2/412.(8/31)
ويرون نفاذ قضاء قاضي أهل البغي وارتفاع الخلاف به، وذلك للضرورة مع شبهة التأويل، وفي رواية عن ابن القاسم ((1)أنه يرد حكم قاضيهم لعدم صحة الولاية.
الرأي الثالث: وهو للشافعية(2) والحنابلة (3)
ويرون أنه ينفذ من أحكام قاضي أهل البغي ، ما ينفذ من أحكام أهل العدل ويرد منه ما يرد، بشرط ألا يكون مستحلا ً لدماء أهل العدل وأموالهم، فإن كتب قاضي أهل البغي لقاضي أهل العدل بحكم فالمستحب له أن لا يقبل كتابه استهانة بهم وكسراً لقلوبهم، وإن قبله جاز ذلك.
الرأي الرابع: وهو للظاهرية. (4)
__________
(1) مواهب الجليل:6/279، الذخيرة:12/9.
(2) روضة الطالبين: 10/53، مغني المحتاج: 5/402، الحاوي الكبير:13/ 134، البيان:12/31.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/20، الكافي 4/104، العدة: 2/848، المحرر في الفقه: 2/166.
(4) المحلى:11/352.(8/32)
وهؤلاء ذهبوا إلى التفصيل، فقالوا: إن كان للمسلمين إمام معين ممكن فلا ينفذ شئ من قضاياهم، قال ابن حزم ( قد صح أن لا يحل أن يكون حاكما إلا من ولاه الإمام الحكم , ولا أن يكون آخذا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك , ولا أن يكون مصدقا إلا من ولاه الإمام أخذها , فإن ذلك كذلك فكل من أقام حدا , أو أخذ صدقة , أو قضى قضية , وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام , فلم يحكم كما أمره الله تعالى , ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى , ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالى ; فإذ لم يفعل ذلك كما أمر , فلم يفعل شيئا من ذلك بحق , وإذا لم يفعل ذلك بحق , فإنما فعله بباطل , وإذ فعله بباطل فقد تعدى ; وقال تعالى { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } (1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ))(2) فإذ هو ظلم , فالظلم لا حكم له إلا رده ونقضه 000، وأما إن لم يكن للناس إمام ممكن فقد قلنا: إن كل من قام بالحق حينئذ فهو نافذ , فالبغاة - إن كانوا مسلمين - فكل ما فعلوه في ذلك فهو نافذ. (3)
الأدلة
أدلة الرأي الأول.
أ ـ استدلوا على عدم قبول قضاء القاضي من أهل البغي بما يلي :
ـ أن أهل البغي فسقة، وكما لا تقبل شهادة الفاسق فكذلك كتاب الفاسق، ثم إن الفسق ينافي القضاء.(4)
أنهم يستحلون دماءنا وأموالنا، فربما حكم قاضي أهل البغي بناء على هذا الاستحلال من غير حجة. (5)
ب ـ استدلوا على قبول قضاء القاضي إذا كان من أهل العدل.
__________
(1) الطلاق من الآية1.
(2) صحيح: البخاري باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ، 2/753،مسلم :كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 3/1343 رقم 1718.
(3) المحلى: 11/353،354.
(4) المبسوط:10/130.
(5) بدائع الصنائع: 7/142،المبسوط:10/130.(8/33)
لأن الذي يُحتاج إليه في صحة نفاذ القضاء، هو أن يكون القاضي عدلا ً في نفسه ويمكنه تنفيذ قضائه، وحمل الناس عليه بيد قوية، سواء أكان المولي له عدلا أو باغيا. (1)
استدل أصحاب الرأي الثالث بما يلي :
ـ أن الإمام علياً - رضي الله عنه - لما غلب أهل البغي وقد كانوا حكموا مدة طويلة بأحكام، لم يرد منها شيئا. (2)
ـ أن لهم تأويلا فلم يفسقوا به ولم يرد قضاء قاضيهم،كقاضي أهل العدل. (3)
ـ أن خلاف أهل البغي اختلاف في الفرو ع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء. (4)
ـ أن العدالة شرط في القضاء، والمستبيح لدماء أهل العدل وأموالهم ليس بعدل. (5)
استدل أصحاب الرأي الرابع بما يلي :
ـ ما رواه الإمام مسلم ( عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: ((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم.")) (6)
ـ وما ورد عن عرفجة - رضي الله عنه -قال: سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول: "((إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان. ")) (7)
وجه الدلالة فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهى عن ذلك فإن لم ينته قوتل وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقتل. (8)
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:3/601.
(2) البيان:12/34.
(3) المرجع السابق.
(4) المغني والشرح الكبير: 10/20، العدة: 2/848، نيل المآرب: 2/357.
(5) الحاوي الكبير: 13/134، الكافي: 4/104.
(6) صحيح: مسلم كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهله 3/1470 رقم 1709.
(7) صحيح: مسلم كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع 3/1479 رقم 1852.
(8) شرح النووي:12/241.(8/34)
ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لهذا الأمر أهلا لا يحل لأحد أن ينازعهم إياه , وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل، فصح أن المنازعين في الملك والرياسة يريدون تفريق جماعة هذه الأمة , وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم , فهم عصاة بكل ذلك. فصح أن أهل البغي عصاة في منازعتهم الإمام الواجب الطاعة , وإذ هم فيه عصاة , فكل حكم حكموه مما هو إلى إمام , وكل زكاة قبضوها مما قبضها إلى الإمام , وكل حد أقاموه مما إقامته إلى الإمام - فكل ذلك منهم ظلم وعدوان. (1)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول.
ـ ناقش الماوردي ( ما قاله الحنفية :من عدم قبول قضاء قاضي أهل البغي، بأنه فاسد من جهتين: أحدهما: أنه ـ أي الباغي ـ متأول بشبهة خرج بها عن الفسق.
الثاني: أنه لما صح من الباغي أن يقلد القضاء ،صح منه أن ينفذ القضاء ،وصار في الحكم كالعادل، كما كان في التقليد كالعادل. (2)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
وقد ناقش ابن حزم ( هذا القول بقوله " قد صح أن لا يحل أن يكون حاكما إلا من ولاه الإمام الحكم , ولا أن يكون آخذا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك , ولا أن يكون مصدقا إلا من ولاه الإمام أخذها ,فإن ذلك كذلك فكل من أقام حدا ,أو أخذ صدقة ,أو قضى قضية , وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام , فلم يحكم كما أمره الله تعالى. (3)
مناقشة أدلة الرأي الرابع:
نوقش الرأي الرابع بأنه لا خلاف في أن أهل البغي عصاة ببغيهم، وأما إبطال أحكام قاضيهم التي وافق فيها الحق ففيه مشقة على الناس وضرر، فأجيزت أحكامهم ـ التي وافقوا فيها أهل الحق ـ لأجل هذا، خاصة وأن لهم تأويلاً.
__________
(1) المحلى: 11/354.
(2) الحاوي الكبير: 13/135.
(3) المحلى:11/353.(8/35)
ـ ثم إن ابن حزم ( قد تناقض قوله في ذلك، فيرى أنهم إن أصابوا الحق تمضي أحكامهم، فقال: في مكان آخر، فصح من هذا أن كل من أخذ منهم صدقة فعليه ردها؛ لأنه أخذها بغير حق فهو متعد ٍ فعليه ضمان ما أخذ إلا أنه يوصله إلى الأصناف المذكورة في القرآن، فإذا أوصلها إليهم فقد تأدت الزكاة إلي أهلها. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته يظهر ما يلي:
ـ أنه بالتأمل في هذه الأقوال نجد أنها متقاربة، بل لا يوجد أثر ملحوظ للخلاف، فالحنفية في قولهم نظروا إلى القاضي نفسه في كونه باغيا ً أو عادلا، فأبطلوا قضاء القاضي الباغي وذلك؛ لأن البغي لا يليق بمنصب القضاء، فإن قضي بما يوافق الحق أجاز رأيه قاضي أهل العدل بعد النظر فيه، وهم بهذا وافقوا المالكية والشافعية والحنابلة.
ـ أن المالكية والشافعية والحنابلة نظروا إلى خطورة منصب القضاء واشتراط العدالة فيه، فإن كان القاضي عدلا في قضائه ـ حتى ولو كان من أهل البغي ـ فيمضي قضاؤه لوجود شروط القضاء، دون نظر إلى المولي لهذا المنصب.
ـ أما الظاهرية فقد وافقوا الجمهور في حالة ما إذا لم يكن للمسلمين إمام ممكن، والواقع أنه باستيلاء أهل البغي على مكان وفرضهم السيطرة عليه فكأنهم انفردوا به عن باقي البلاد الأخري، فليس ثمة إمام لهذا المكان، فالخلاف إذن لفظي.
ـ من أجل هذا فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، من نفاذ قضاء القاضي إذا حكم بحكم وافق فيه الحق، وذلك؛لأن القول بخلاف ذلك يعطل الأحكام ويترتب عليه ضرر عظيم وفساد كبير.
__________
(1) المرجع السابق.(8/36)
ـ هذا ومما خالف فيه الظاهرية أيضا الأئمة الأربعة، قولهم أنه قد يطلق لفظ البغي على الإمام أو السلطان، وهذا ما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة؛ لأن البغي عندهم: هو خروج على الإمام،أما عند الظاهرية فالبغي عام يطلق على كل من بغى على أخيه المسلم حتى ولو كان سلطانا ً،قال ابن حزم (" 00فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره , بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى." (1)
المبحث الثالث
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية بعض الأئمة في حد البغي.
ويندرج تحت هذا المبحث مسائل: ـ
المسألة الأولى: حكم الأسير والجريح والمدبر من أهل البغي.
تحرير محل النزاع:
جريمة البغي تستمر طالما كان البغاة مستمرين في القتال، فإذا ألقوا السلاح وكفُّوا عن القتال استسلاماً حرم قتالهم لفيئهم، وعلى هذا فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يقتل الأسير والجريح، ولا يتبع المدبر إذا لجأ لغير فئة، أما إن لجأ إلى فئة متحصنة فاختلفوا في حكمه إلى ما يلي. (2)
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية (3)والمالكية(4) وقول عند الشافعية(5)
ويرون أنه إذا كان للبغاة فئة يلجئون إليها ويتحصنون بها فيجهز على جريحهم ويتبع موليهم و إلا فلا.
__________
(1) المحلى:11/336.
(2) تبيين الحقائق: 3/295، 1/700، حاشية الدسوقي: 6/279، الذخيرة: 12/7، الأم:4/231، البيان:12/23، المغني والشرح الكبير:10/14، الإفصاح: 2/190، الميزان الكبرى:2/214.
(3) العناية علي الهداية: 6/103, تبيين الحقائق: 3/295.
(4) حاشية الدسوقي: 6/279، الذخيرة: 12/7.
(5) ، البيان:12/23، أسنى المطالب: 4/114, الأحكام السلطانية ص76, ويفرق الشافعية بين كون الفئة قريبة أو بعيدة , ففي القريبة يقاتل , وفي البعيدة لا. مغني المحتاج: 5/405.(8/37)
ـ أما الأسير فالحنفية (1) يرون أن الإمام فيه بالخيار إن شاء قتله، وإن شاء حبسه ـ هذا إذا كانت له فئة. الرأي الثاني:وهو للشافعي في الأظهر(2) والحنابلة(3) والظاهرية. (4)
ويرون أنه يحرم قتل الأسير والجريح؛(5) والمدبر من البغاة مطلقاًً إذا تركوا القتال.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول على قتل الجريح والمدبر بما يلي:
1ـ أن المقصود من قتالهم دفع شرهم , وهو لا يتأتى إذا كان لهم فئة؛ لأنهم يرجعون إلي جماعتهم فيعودون حرباً علينا, وبقتالهم لا يحصل رجوعهم. (6)
2ـ أن الجريح يحتمل أن يبرأ فيعود إلي القتال وكذا من ولي منهم. (7)
3ـ أنهم إذا لم يتبعوا لم يؤمن أن يعودوا علي أهل البغي فيقاتلوهم ويظفروا بهم. (8)
و استدلوا علي قتل الأسير بما يلي :
ـ أن الإمام علياً - رضي الله عنه - قتل ابن يثربي وقد أتي به أسيراً. (9)
ـ القياس علي المحارب في أنه إذا قدر عليه وهو علي حرابته يقام عليه الحد, فكذلك الباغي حين يؤسر فقد قدر عليه وهو علي بغيه.
ـ أن قتله ـ بلا خلاف ـ مباحٌ قبل الأسر , فهو علي هذا بعد الأسر حتى يمنع منه نص أو إجماع. (10)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والسنة والآثار والمعقول.
من الكتاب : قوله تعالي { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا .. } (11)
__________
(1) نصب الراية: 4/361.
(2) الأم 4/231, البيان: 12/23, الحاوي الكبير: 13/115.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/14, العدة: 2/847, المحرر في الفقه: 2/166, شرح الزركشي: 6/225.
(4) المحلي: 11/337.
(5) ويقصد بالجريح: المقدور عليه , أما إذا لم يقدر عليه وكان ممتنعاً فهو باغٍ كسائر أصحابه.
(6) تبيين الحقائق:: 3/295, العناية علي الهداية: 6/103.
(7) مجمع الأنهر: 1/700.
(8) البيان: 12/23.
(9) المحلي: 11/337.
(10) المرجع السابق: 11/338.
(11) الحجرات آية 9.(8/38)
وجه الدلالة: أنه إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها قاتلهم الإمام بالمسلمين كافة أو بمن فيه كفاية ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة فإن أبوا من الرجوع والصلح قوتلوا ،ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ،ولا تسبى ذراريهم ولا أموالهم. (1)
من السنة : قوله - صلى الله عليه وسلم - :"((لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة.")) (2)
وجه الدلالة :أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح دم هؤلاء، وأباح الله تعالى دم المحاربين بالآية، وكل من لم يبح دمه الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حرام الدم. (3)
أما الآثار : فما ورد عن الإمام علي - رضي الله عنه - أنه أمر مناديه فنادى يوم البصرة، لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح، ولا يقتل أسير، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ولم يأخذ من متاعهم شيئاً. (4)
ـ ما ورد عن أبي فاختة قال:"((أخبرني جار لي قال: أتيت علياً- رضي الله عنه - بأسير يوم صفين فقال :لن أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين."))(5)قال الشافعي (: والحرب يومئذٍ قائمة ومعاوية - رضي الله عنه - يقاتل جادا في أيامه كلها مستعليا ً أو منتصفا ً. (6)
__________
(1) تفسير القرطبي:16/267.
(2) صحيح: سبق تخريجه ص 97 .
(3) المحلى:11/337.
(4) سنن البيهقي الكبرى: كتاب قتال البغاة، باب أهل البغي إذا فاءوا 8/181 رقم 16524، مصنف ابن أبي شيبة: باب في الإجازة على الجرحى واتباع المدبر 6/498 ، الدراية :2/139 .
(5) مصنف ابن أبي شيبة: باب في الإجازة على الجرحى واتباع المدبر 6/498 رقم 33270.
(6) الحاوي الكبير: 13/116.(8/39)
ـ وما جاء عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: شهدت صفين وكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا ً ولا يسلبون قتيلا ً. (1)
أما المعقول فمن جهتين :
ـ أن المقصود دفعهم وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل (2)
ـ أن الإمام مأمور بالقتال لا بالقتل، والمولي غير مقاتل فلم يجز أن يقتل.
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
ـ ناقش ابن حزم ( خبر قتل الإمام علي - رضي الله عنه - لابن يثربي ـ وكان أسيراً ـ بما يلي :
1 ـ أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- أنه لا يصح مسندا إلى علي - رضي الله عنه -.
3 - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ; لأن ذلك الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك , فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي قاتل عليا وهند الجمل
ثم ابن صوحان على دين علي
فأسر , فأتي به الإمام علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - , فقال له: استبقني؟ فقال له الإمام علي - رضي الله عنه -: أبعد إقرارك بقتل ثلاثة من المسلمين: علياً,وهنداً,وابن صوحان - وأمر بضرب عنقه - فإنما قتله الإمام علي - رضي الله عنه - قوداً بنص كلامه - وهم لا يرون القود في مثل هذا؟ فعاد احتجاجهم به حجة عليهم , ولاح أنهم مخالفون لقول علي - رضي الله عنه - في ذلك ولفعله
4 - أنه قد صح عن علي - رضي الله عنه - النهي عن قتل الأسرى في الجمل وصفين فبطل تعلقهم بفعل علي في ذلك. (3)
نوقش قياسهم قتل الأسير على حاله قبل الأسر:
__________
(1) صحيح الإسناد: المستدرك:2/167 رقم 2660، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد وله شاهد صحيح ، سنن البيهقي الكبرى:8/182 رقم 16530، مصنف ابن أبي شيبة في الإجازة على الجرحى واتباع المدبر،6/498 رقم 33287.
(2) المغني والشرح الكبير: 10/15، العدة: 2/847، البيان:12/23، كفاية الأخيار:646.
(3) المحلى:11/337 ،338(8/40)
بأنه لا يصح فالأسير ما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا , لكن حل قتله ما دام باغياً مدافعاً , فإذا لم يكن باغياً مدافعا، حرم قتله - وهو إذا أسر فليس حينئذ باغياً , ولا مدافعاً، فدمه حرام. (1)
ـ ونوقش قياسهم على المحارب في أنه إذا قدر عليه وهو على حرابته، يقام عليه الحد فكذلك الباغي حين يؤسر فقد قدر عليه وهو على بغيه، بأنه قياس مع الفارق؛ إذ الحكم يختلف فالمحارب المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه في كلا الأمرين سواء، وليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب. (2)
وقد نوقشت أدلة الرأي الثاني :بأنها محمولة على إذا لم يكن لهم فئة.
وما جاء عن الإمام علي - رضي الله عنه - في أنه ودي من قتل مدبرا، فهو محمول على الهارب في القتال الذي ليست له فئة يرجع إليها ويتقوى بها، والاتفاق قائم على أنه لا يجوز قتله. (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الذي تطمئن النفس إلى الأخذ به في المدبر والجريح أنه إذا كانت له فئة يتحصن بها،فإنه يتبع المدبر ويجهز على الجريح ، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن حديث ابن أم عبد ضعيف، ففيه كوثر بن حكيم، قال فيه ابن حزم (: ساقط البتة، متروك الحديث. (4)،وقال الزيلعي (: حديث كوثر سكت عنه الحاكم (، وأعله البزار ( بكوثر بن حكيم وقال أنه متروك، وكذا قال الذهبي ( في مختصره متعقبا على الحاكم. (5)
ـ أن الغرض من قتال البغاة دفع شرهم وردعهم فإذا تركوا وكانت لهم فئة فلا يتحقق المقصود من قمعهم وأمن غائلتهم؛ لهذا كان إتباع مدبرهم إذا كانت له فئة محققا ً لحكمة مشروعية قتال البغاة. (6)
__________
(1) المرجع السابق .
(2) المحلى:11/338.
(3) البغي وأحكامه في الشريعة الإسلامية:ص 1059
(4) المحلى: 11/340.
(5) نصب الراية:4/ 361 ، 362، سبل السلام:2/376.
(6) البغي وأحكامه في الشريعة الإسلامية:ص 1059(8/41)
ـ وأما في الأسير فالراجح ،هو رأي القائلين : بعدم قتله مطلقا سواء أكانت له فئة أم لا، لما يلي:
ـ أن الله تعالى أمر بقتال البغاة حتى يفيئوا،فإذا فاؤا حرم قتالهم، والأسير قد تحقق منه الفئ وهو الكف،حتى وإن كان قهراً عنه.
أن المقصود من قتال البغاة ردعهم عما هم عليه، وقد تحقق ذلك في الأسير فلا حاجة إلى قتله إذن.
المسألة الثانية: حكم قتيل أهل البغي.
اختلف الفقهاء فيمن قتله أهل البغي من أهل العدل حال الحرب إلى ما يلي:
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية.(1)
ويرون أن من قتله أهل البغي من أهل العدل فهو شهيد لا يغسل ويصلى عليه، ومن قتله أهل العدل منهم، لا يغسل ولا يصلى عليه ولكن يدفن، وذلك استهانة به.
الرأي الثاني:وهو للمالكية(2)والشافعية في قول(3)والحنابلة في رواية(4)
ويرون أن من قتله أهل البغي فهو شهيد، يفعل به كما يفعل بالشهيد، ومن قتل من أهل البغي يغسل ويصلى عليه ويدفن، كذا عند الشافعية والحنابلة(5)
__________
(1) بدائع الصنائع:7/142، المبسوط: 10/131، حاشية رد المحتار: 6/418.
(2) الذخيرة:12/12، المعونة: 2/298، عيون المجالس:1/454،455.
(3) الحاوي الكبير: 13/137.
(4) المغني والشرح الكبير:10/13،شرح الزركشي:6/225.
(5) الأم: 4/235، الحاوي الكبير:13/137، وجاء فيه قال الشافعي ( " فإن قتل باغ في المعترك غسل وصلي عليه ودفن، وإن كان من أهل العدل ففيه قولان: أحدهما: أنه كالشهيد والآخر أنه كالموتى. الحاوي:13/137 العدة 2/847.(8/42)
أما عند المالكية فروايتان: أحدهما: رواية سحنون ( أنه يصلي عليه غير الإمام وعند غيره أنهم يتركون، إن صلى عليهم منهم أحد و إلا دفنوا بغير صلاة، ورد في الذخيرة (1) " قتلانا في القتال كالشهداء وقتلاهم يتركون إن صلى عليهم منهم أحد و إلا دفنوا بغير صلاة، والأخرى يغسلون ويصلى عليهم.وجاء في عيون المجالس " والبغاة من المسلمين إذا قتلوا في المعترك غسلوا وصلي عليهم، وبه قال الشافعي (، وقال أبو حنيفة ( لا يغسلون ولا يصلى عليهم. (2)
الرأي الثالث:وهو للظاهرية(3) والشافعية في قول(4) والحنابلة في رواية ثانية (5)
ويرون أن من قتله أهل البغي فهو شهيد إلا أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
الأدلة
أدلة أصحاب الرأي الأول.
أ ـ في قتيل أهل العدل.
ـ أن هذا فعل الإمام علي - رضي الله عنه - بمن قتل من أصحابه , وبه أوصى عمار بن ياسر , وحجر بن عدي , وزيد بن صوحان - رضي الله عنهم -حين استشهدوا. (6)
ب ـ في قتيل أهل البغي.
ـ أن غسلهم والصلاة عليهم نوع موالاة لهم، والعادل ممنوع من ذلك. (7)
أدلة أصحاب الرأي الثاني.
أ ـ استدلوا على الصلاة على أهل البغي ودفنهم.
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((صلوا على من قال لا إله إلا الله ")) (8)
ـ أن المقتول مسلم، وهو مقتول بحق فلم يمنع قتله من غسله والصلاة عليه كالزاني والمقتص منه، بل هذا أحق بالصلاة منهما؛ لأن الزاني فاسق وهذا متردد الحال بين فسق وعدالة. (9)
ـ أن بغيه لا يخرجه عن أحكام أهل الملة كالعدل. (10)
__________
(1) الذخيرة:12/12.
(2) عيون المجالس:1/454 ،455 .
(3) المحلى:11/348.
(4) الحاوي الكبير: 13/138.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/13، مطالب أولي النهى:6/269.
(6) المبسوط:10/131.
(7) المرجع السابق.
(8) تلخيص الحبير:2/125، المعجم الكبير: 12/447 رقم 13623 .
(9) الحاوي الكبير:13/137.
(10) المعونة:2/298.(8/43)
ـ أنهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيصلى عليهم ويغسلون، كما لولم يكن لهم فئة. (1)
ـ ومن قتله أهل البغي فهو شهيد لأنه مقتول في المعركة على حق كالقتيل في معركة المشركين. (2)
ـ أدلة أصحاب الرأي الثالث.
ـ استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - "(0من قتل دون ماله فهو شهيد. (3)
ـ أن من قتله البغاة فإنما قتل على أحد هذه الوجوه، ويصح إطلاق لفظ الشهيد عليه وليس كل شهيد يدفن بلا غسل ولا صلاة، فالمبطون والمطعون والغريق شهداء، وهم مع هذا يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم. (4)
ـ أن الشهيد في معركة الكفار أجره أعظم وفضله أكثر، فقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهله، وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه. (5)
ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله، واستثنى قتيل الكفار في المعركة،ففيما عداه يبقى علي الأصل. (6)
ـ أن سيدنا عمر بن الخطاب وسيدنا عثمان بن عفان وسيدنا علياً بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ،قتلوا شهداء ، فغسلوا وصلي عليهم. (7)
ــ أن الأصل في كل مسلم أن يغسل ويكفن ويصلى عليه , إلا من خصه نص أو إجماع , ولا نص , ولا إجماع , إلا فيمن قتله الكفار في المعترك ومات في مصرعه - فهؤلاء هم الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أن يزملوا بدمائهم في ثيابهم ويدفنوا كما هم دون غسل ولا تكفين - ولا يجب فرضا عليهم صلاة , فبقي سائر الشهداء , والموتى , على حكم الإسلام في الغسل , والتكفين والصلاة - (8)
__________
(1) العدة:2/847.
(2) الحاوي الكبير: 13/137، المغني والشرح الكبير: 10/13.
(3) صحيح: البخاري :كتاب المظالم ، باب من قاتل دون ماله 2/877 رقم 2348، مسلم:كتاب الإيمان ، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق 1/1125 رقم 141.
(4) المحلى:11/348.
(5) المغني والشرح الكبير:10/13.
(6) المرجع السابق.
(7) الحاوي الكبير: 13/138.
(8) المحلي: 11/349.(8/44)
ـ أنه مسلم قتله مسلم , فلم يمنع قتله من الصلاة عليه كالمقتول في غير المعركة. (1)
المناقشة
نوقش ما قال به الحنفية بما يلي:
ـ ليس كل شهيد يدفن بلا غسل ولا صلاة، فالمبطون والمطعون والغريق شهداء، وهم مع هذا يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم. (2)
ـ ونوقش ما قالوه في من قتل من أهل البغي بأنه يغسل ويصلى عليه؛ لأنه بغيه لا يخرجه عن أحكام الملة كالعدل. (3)
ـ أما استدلالهم بفعل الإمام علي - رضي الله عنه - فيحمل علي صلاة الإمام فقط دون غيره.
ـ وأما ما قالوه :من الاستهانة بهم فهذا لا يصح؛ لأنه لا يجوز أن يستهان بمخلوقٍ في إضاعة حقوق الخالق , ثم إن هذا الأمر عقوبة , والعقوبة تسقط بالموت كالحدود. (4)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم فما تميل النفس إلي ترجيحه هو ما قال به أصحاب الرأي الثالث من أن قتيل أهل البغي شهيد إلا أنه يغسل ويكفن ويصلى عليه وذلك للأسباب الآتية:
ـ قوة أدلتهم باستدلالهم من السنة.
ـ أن الخلفاء الراشدين الثلاثة (عمر وعثمان وعلياً - رضي الله عنهم -) كلهم ماتوا شهداء , ومع هذا غسلوا وكفنوا وصلى عليهم.
ـ أن قتيل المعركة في الحرب مع الكفار اختص بكونه لا يغسل ولا يكفن , أما ما عداه فيبقى علي العموم.
المسألة الثالثة
حكم استعانة أهل العدل بأهل الذمة على أهل البغي.
اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة على ثلاثة آراء:
الرأي الأول:وهو للحنفية.(5)
ويرون أنه لا بأس بأن يستعين الإمام على أهل البغي بأهل الحرب، و بأهل الذمة ،وأمثالهم من أهل البغي، إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر، أما إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر فلا.
__________
(1) الحاوي الكبير: 13/138.
(2) المحلى:11/348.
(3) المعونة: 2/298.
(4) الحاوي الكبير: 13/137.
(5) المبسوط:10/134.(8/45)
الرأي الثاني:وهو للمالكية(1) والشافعية(2) والحنابلة(3).
ويرون لا يستعان على أهل البغي بأهل الذمة والعهد، ولا بمن يرى قتالهم من المسلمين مقبلين ومدبرين إلا في حالة الضرورة عند الشافعي (، وذلك بشروط ثلاثة ذكرها الماوردي ( فقال ":فإذا دعته الضرورة إلى الاستعانة بهم لعجز أهل العدل عند مقاومتهم، جاز أن يستعين بهم على ثلاثة شروط: أحدهما: أنه لا يجد عونا غيرهم، فإن وجد لم يجز.
الثاني: أن يقدر على ردهم إن خالفوا فإن لم يقدر على ردهم لم يجز،
الثالث:أن يثق بما شرطه عليهم ألا يتبعوا مدبر ا ولا يجهزوا على جريح فإن لم يثق بوفائهم لم يجز. (4)
الرأي الثالث:وهو للظاهرية (5)
ويرون أنه إذا كان أهل العدل فيهم قوة ومنعة فلا يستعان بأهل الحرب،وأهل الذمة، ويجوز الاستعانة عليهم بأهل بغي مثلهم، أما إذا كان أهل العدل في ضعف وأشرفوا على الهلكة فيجوز لهم الاستعانة بأهل الحرب وأهل الذمة بشرط التيقن من أنهم في استنصارهم لا يؤذون مسلما ولا ذميا في مال ولا حرمة.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالمعقول من جهات :
الجهة الأولى : أنهم يقاتلون لإعزاز الدين. (6)
ـ أن الاستعانة عليهم بقوم منهم أو من أهل الذمة كالاستعانة عليهم بالكلاب. (7)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالكتاب والمعقول .
أما الكتاب :
فقوله تعالى: { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } (8)
__________
(1) الشرح الصغير 4/429 "ويرون ألا يستعان على قتالهم بمشرك وليس هناك نص في الذمي وأهل البغي.
(2) البيان:12/27، الحاوي الكبير: 13/129،روضة الطالبين: 10/60،مغني المحتاج: 5/407.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/11، المبدع: 7/471.
(4) الحاوي الكبير: 13/129،130 ، تحفة المحتاج:4/101
(5) المحلى:11/355.
(6) المبسوط:10/134
(7) المرجع السابق.
(8) النساء من الآية 141.(8/46)
وجه الدلالة: أن في الاستعانة بأهل الذمة وغيرهم من المشركين علواً للمشركين على المسلمي،ن وهذا لا يجوز؛ لأن البغاة لا يخرجهم بغيهم عن ملة الإسلام.
أما المعقول :
ـ أنهم غير مؤمنين على أنفسهم وحريمهم لما يعتقدونه دينا من إباحة دمائهم وأموالهم التي أوجب الله حظرها وأمر بالمنع منها. (1)
ـ أن وجه عدم الاستعانة بمن يرى قتالهم من المسلمين مدبرين ومقبلين، لما يلزم من الكف عنهم إذا انهزموا؛ لأن القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم. (2)
استدل أصحاب الرأي الثالث بما يلي :
قوله تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } (3)
وجه الدلالة:أن هذا عموم لكل من اضطر إلى شيء إلا ما منع منه نص أو إجماع. (4)
ـ أما اشتراطهم عدم إيذاء المسلم أو الذمي فيما لا يحل؛ فلأنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما ً عن نفسه بظلم يوصله إلى غيره، هذا مما لا خلاف فيه.
ورد في المحلى: فإن علم المسلم - واحدا كان أو جماعة - أن من استنصر به من أهل الحرب , أو الذمة يؤذون مسلما , أو ذميا فيما لا يحل , فحرام عليه أن يستعين بهما , وإن هلك , لكن يصبر لأمر الله تعالى - وإن تلفت نفسه وأهله وماله - أو يقاتل حتى يموت شهيدا كريما , فالموت لا بد منه , ولا يتعدى أحدا أجله. (5)
المناقشة
__________
(1) الحاوي الكبير: 13/129.
(2) المغني والشرح الكبير: 10/11/، المبدع:7/471.
(3) الأنعام من الآية 119]
(4) المحلى:11/355.
(5) المحلى:11/355.(8/47)
نوقش قول الحنفية بأنه إذا كان في أهل العدل قوة ومنعة فلا يستعان بمشرك، لقوله - صلى الله عليه وسلم - "((إني لا أستعين بمشرك.)) (1) فقوله - صلى الله عليه وسلم - عموم مانع من الاستعانة بهم في ولاية أو قتال أو شيء من هذه الأشياء، إلا أشياء صح الإجماع على جواز الاستعانة بهم كخدمة الدابة أو الاستئجار أو قضاء الحاجة وغيرها من الأشياء التي لا يخرجون فيها عن الصغار. (2)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة ما أمكن مناقشته يظهر ما يلي:
ـ أن الفقهاء متفقون على أنه في حالة الضرورة يجوز الاستعانة بالمشركين ،وأهل الذمة إذا استطاع الإمام التغلب عليهم.
ـ أن الخلاف بين الظاهرية وغيرهم من المالكية والشافعية والحنابلة لا أجد له أثراً، إذ كل منهم يقول: بعدم جواز استعانة أهل العدل في حال قوتهم بأهل الحرب، وأهل الذمة في حربهم على أهل البغي.
ـ أن الظاهرية أجازوا الاستعانة علي أهل البغي بأهل بغي مثلهم؛ وذلك لأن أهل البغي مسلمون، فيجوز استنصار أهل العدل بهم، لذا فالرأي الراجح هو ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة.
المسألة الرابعة: حكم الخروج على الإمام الجائر.
لا خلاف بين الفقهاء في عدم جواز الخروج علي الإمام العادل , واختلفوا في الخروج على الإمام إذا كان جائرا على آراء :
الرأي الأول: وهو للمالكية(3) والشافعية(4) والحنابلة (5)
__________
(1) صحيح: مسلم : كتاب الجهاد ، باب كراهة الإستعانة في الغزو بكافر 3/1449 رقم 1817.
(2) المحلى:11/355.
(3) حاشية الدسوقي: 6/277, التاج والإكليل: 6/277, التشريع الجنائي: 2/678.
(4) البيان: 12/18, مغني المحتاج: 2/425, حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/260.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/4 , الكافي : 4/100, الإنصاف: 10/311, شرح الزركشي: 6/216.(8/48)
ويرون أنه لا يجوز الخروج علي الإمام وإن كان جائراً , وفرق قوم(1) بين كونه إماماً منتخباً من فبل المسلمين فلا يجوز الخروج عليه , وبين كونه تغلب علي الإمامة فيجوز الخروج عليه إن جار وبغى.
استدلوا بما يلي:
قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } (2)
ـ أن المقصود من نصبه اتحاد الكلمة ،ولا يحصل ذلك إلا بوجوب الطاعة. (3)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((.. اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف."))(4)
الرأي الثاني: وهو للحنفية (5) والظاهرية (6).
ويرون حرمة الخروج علي الإمام إلا أن يكون جائراً.
ورد في مجمع الأنهر " إذا خرج قوم مسلمون عن طاعة الإمام ـ أي الخليفة العدل ـ لاعن أمير ظلم بهم , فلو خرجوا عليه لظلم ظلمهم فليسوا ببغاة. (7)
واستدلوا بما يلي: قوله تعالى { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (8)
وجه الدلالة:في هذه الآية لم يفرق الله تعالى في قتال الفئة الباغية الأخرى بين سلطان وغيره , بل أمر بقتال من بغى علي أخيه المسلم عموماً حتى يفيء إلي أمر الله تعالى. (9)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - " ((من قتل دون دمه فهو شهيد ")) (10)
__________
(1) مغني المحتاج: 5/399
(2) النساء من الآية 59.
(3) مغني المحتاج: 5/425.
(4) ابن ماجه : كتاب الجهاد ، باب لا طاعة في معصية الله 2/955 رقم2861 ،الترمذي :كتاب الجهاد ، باب ما جاء في طاعة الإمام ،4/209 رقم1706 .
(5) مجمع الأنهر: 1/699.
(6) المحلي: 11/336.
(7) مجمع الأنهر: 1/699.
(8) الحجرات من الآية 9.
(9) المحلي: 11/336.
(10) صحيح :سبق تخريجه ص 408 .(8/49)
وجه الدلالة: هذا الحديث عام لم يخص منه سلطاناً من غيره , ولا فرق في قرآنٍ ولا حديث ٍ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ بين من أريد ماله، أو أريد دمه، أو أريد فرج امراته، أو أريد ذلك من جميع المسلمين. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أراء الفقهاء وأدلتهم فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من عدم الخروج علي الإمام ولو كان جائراً ، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن المقصود من نصبه اتحاد الكلمة , ولا يحصل ذلك إلا بوجوب الطاعة وهذا ما جاءت به الأحاديث من ذلك ما رواه الإمام البخاري ( عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية. (2) وما رواه الحاكم ( عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "((000000سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي و لا يستنون بسنتي و سيقوم رجال قلوبهم قلوب رجال في جثمان إنسان فقلت: كيف أصنع إن أدركني ذلك؟ قال: تسمع للأمير الأعظم و إن ضرب ظهرك و أخذ مالك. (3).
__________
(1) المحلى :11/336.
(2) صحيح: البخاري كتاب الفتن ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم ( سترون بعدي أمورا تنكرونها : 6/2588 رقم 6646.
(3) صحيح الإسناد: المستدرك:4/547 رقم 8533 ، وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه.(8/50)
تمهيد
تعريف الردة لغة (1):
الردة بكسر الراء مصدر ردّ , ومعناه: منعه وصرفه , يقال: رده إليه أعاده , ورده على عقبه دفعه. ورد عليه قوله: راجعه فيه , وارتد: أي رجع , يقال: ارتد على أثره , وارتد إليه , وارتد عن طريقه , وارتد عن دينه، إذا كفر بعد إسلامه , والردة: اسم من الارتداد وهي الرجوع عن الشيء إلى غيره.
الردة في اصطلاح الفقهاء:
اختلف الفقهاء في تعريفها كالتالي:
فعرفها الحنفية بأنها:الرجوع عن (دين الإسلام) أو الإيمان. (2)
وعرفها المالكية بأنها:كفر مسلم متقرر إسلامه بالنطق بالشهادتين مختاراً، بصريح القول , أو قول يقتضي الكفر أو فعل يستلزمه.(3) أو هي: " كفر المسلم بصريح قولِ, أو لفظٍ يقتضيه،أو فعل يتضمنه. (4)
وعرفها الشافعية بأنها: قطع استمرار الإسلام بنية كفر, ودوامه بنية الكفر.(5) أو هي: الرجوع عن الإسلام إلى الكفر. (6)
وعرفها الحنابلة بأنها:الكفر بعد الإسلام نطقاً أو اعتقاداً، أو شكاً أو فعلاً ولو متميزاً. (7)
أو هي الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر. (8)
أما الظاهرية: فلم يذكوا تعريفاً للردة ، بل عرفوا المرتد بقولهم: كل من صح عنه أنه كان مسلماً متبرئا من كل دين - حاش دين الإسلام ـ ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام , وخرج إلى دين كتابي , أو غير كتابي , أو إلى غير دين. (9)
وقفة مع هذه التعريفات
__________
(1) لسان العرب: 3/173, القاموس المحيط: 1/413, المعجم الوسيط: 1/350, مختار الصحاح: 1/101, الحاوي الكبير: 13/149.
(2) بدائع الصنائع: 7/134, شرح فتح القدير: 6/94.
(3) الشرح الصغير: 4/431, 432.
(4) مواهب الجليل: 6/279.
(5) مغني المحتاج: 5/427, روضة الطالبين: 10/64.
(6) الحاوي الكبير: 13/149.
(7) كشاف القناع:6/168.
(8) المغني والشرح الكبير:10/24.
(9) المحلى:12/108.(9/1)
بالتأمل في تعريفات الفقهاء يظهر أن بعضها مطلق كتعريف الحنفية، حيث عرفوا الردة دون ذكر شروط أو ضوابط، ويظهر هذا جلياً في تعريف الشافعية ، وكذا الظاهرية.
ـ أما تعريف المالكية والحنابلة ففيه قصور حيث اقتصر على بعض الشروط، وشرط التعريف كونه جامعاً مانعاً.
لذا فالتعريف الراجح للردة "هي رجوع المسلم،البالغ،العاقل الفطن اليقظ،الذي تقرر إسلامه بنطق الشهادتين، والقيام بأوامر الإسلام و نواهيه شارحاً بذلك صدراً رجوعاً مطلقاً.(1) وذلك لأنه جمع الشروط في ثناياه.
أدلة تحريم الردة.
من الكتاب: قوله تعالى: { 00ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (2)
ـ وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } (3)
ـ وقوله تعالى: { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ } (4)
ـ وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } (5)
__________
(1) حرية الاعتقاد وعقوبة الردة في الإسلام : بحث مستل من حولية كلية الشريعة والقانون بدمنهور، العدد الرابع عشر، الجزء الأول 1999، لأستاذنا الدكتور عبد الحسيب رضوان (، ص 119
(2) البقرة من الآية217.
(3) المائدة من الآية 54.
(4) المائدة من الآية 21.
(5) النساء آية 137.(9/2)
من السنة:ما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة." (1)
ـ وما رواه ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - "((من بدل دينه فاقتلوه))." (2)
الحكمة من تشريع حد الردة.
العقيدة هي أغلى شيء لدى الإنسان الذي ميزه الله - سبحانه وتعالى - بالعقل والفكر والتدبر، فالعقيدة يتوقف عليها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة؛ إذ الدين هو المقصد الأول من مقاصد الشريعة، وبدونه ينفرط عقد الأمة ويختل أمرها وتصبح شيعاً وأحزاباً، لا تلتقي على رأى واحد ولا يجمع بينها جامع.
من أجل هذا كان نهج الإسلام في حماية الدين محكماً، فحرم كل ما من شأنه أن يمس هذا الدين وعلى وجه خاص الخروج منه إلى الكفر، فوضع الإسلام عقوبة مشددة لهذه الجريمة وهي قتل المرتد مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من بدل دينه فاقتلوه." (3)
فالردة اعتداء على النظام الاجتماعي للجماعة(4)ومن واجب المسلمين أن يدافعوا عن دينهم بالوسائل المشروعة، وأن يتمسكوا بإقامة الحدود؛لأن الصحة العقلية في إقامتها. (5)
حكم المرتد.
للمرتد أحكام منها:
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه ص 97.
(2) صحيح: البخاري: كتاب الديات، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم،6/2537 رقم 6524.
(3) صحيح:سبق تخريجه ص418.
(4) التشريع الجنائي:1/618، الجنايات في الشريعة الإسلامية:ص 401.
(5) حرية الاعتقاد وجريمة الردة:ص 123.(9/3)
أ ـ حبوط عمله في الدنيا والآخرة : ـ إن مات على ذلك ـ، فإن عاد إلى الإسلام عاد إليه ثواب عمله، لقوله تعالى: { 0ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (1)
ب ـ وجوب قتله،
وقد دلت على ذلك السنة،والإجماع
السنة: لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإحدى ثلاث، النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة.))" (2)
الإجماع: وقد أجمع الفقهاء على قتل المرتد وحكاه غير واحد. (3)
ورد في الإفصاح:(4) " واتفقوا على أن المرتد عن الإسلام يجب عليه القتل."
المبحث الأول
الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الردة.
__________
(1) البقرة من الآية217.
(2) متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الديات، باب قول الله تعالى) أن النفس بالنفس والعين بالعين،6/2521 رقم 6484، أخرجه مسلم:كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم،3/1302 رقم 1676.
(3) بدائع الصنائع:7/135،تبيين الحقائق :3/283،مواهب الجليل:6/281،كشاف القناع:6/168،الإنصاف:10/328،.
(4) الإفصاح لابن هبيرة: 2/187.(9/4)
أولا:اتفق الظاهرية مع الأئمة الأربعة في أن الردة لا تكون إلا من عاقل، فلا تصح من مجنون؛ وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - " رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ."(1)وذلك لعدم تكليفهم، فلا اعتداد بقوله واعتقاده. (2) قال ابن المنذر (:"وأجمعوا على أن المجنون إذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان قبل ذلك." (3)
ثانيا ً:اتفقوا على أن الرجل والمرأة والعبد والأمة سواء في الردة والقتل،إلا أبا حنيفة ( فقال:بعدم قتل المرأة. (4)
ورد في الإفصاح:(5) " واتفقوا على أن المرتد عن الإسلام يجب عليه القتل."
ثالثاً: اتفقوا على أن المكره على الكفر، أو أكره على فعل ما يكفر لا يعد مرتداً. (6)
المبحث الثاني
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الردة.
وقد خالف الظاهرية الأئمة الأربعة في مسائل منها:
المسألة الأولي: استتابة(7) المرتد ومدتها.
__________
(1) صحيح: سبق تخريجه.
(2) البحر الرائق:5/129،بدائع الصنائع:7/134، مجمع الأنهر:1/680، الذخيرة:12/15، تحفة المحتاج:4/112، مغني المحتاج، :5/432أسنى المطالب:4/120،:المغني والشرح الكبير:10/ 25 ،53 الشرح الكبير: 10/4، كشاف القناع:6/174.
(3) الإجماع لابن المنذر:ص 122.
(4) شرح فتح القدير: 6/69، بداية المجتهد: 6/198، الحاوي الكبير: 13/155، الأم:6/171، التهذيب:7/288، الإفصاح:2/187، المغني والشرح الكبير:10/30، الميزان الكبرى الشعرانية:2/212.
(5) الإفصاح لابن هبيرة: 2/187.
(6) بدائع الصنائع: 7/134، الذخيرة:12/14، منح الجليل:9/220، البيان:12/40، تحفة المحتاج:4/112، مغني المحتاج:5/432،المغني والشرح الكبير:10/49، كشاف القناع:6/174، المحلى:8/194.
(7) الاستابة لغة:طلب التوبة، والتوبة هي الرجوع عن إلى الذنب، وشرعاً:الرجوع عن الطريق المعوج إلى الطريق المستقيم.(9/5)
تحرير محل النزاع. (1)
اتفق الفقهاء(على استتابة المرتد، (2) واختلفوا في حكم استتابته.
سبب الخلاف.ويرجع سبب اختلاف الفقهاء إلى أن بعض النصوص الآمرة بقتل المرتد جاءت خالية من ذكر الاستتابة، وبعضها ذكرت الأمر بالاستتابة، فمن نظر إلى النصوص الآمر بالاستتابة قال: بوجوبها، ومن نظر إليها وإلى النصوص الأخرى، قال:بالاستحباب،أو قال: بأن الاستتابة غير ممنوعة، ومن نظر إلى النصوص التي لم تذكر الاستتابة قال: بمنعها. (3)
أقوال الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية(4) والشافعية في قول(5) ورواية عند الحنابلة(6)
ويرون أن استتابة المرتد مستحبة و كيفيتها أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام.
الرأي الثاني:وهو للمالكية،(7) والشافعية في الأصح،(8) والحنابلة في المذهب(9)
__________
(1) ، المبسوط:10/98،شرح معاني الآثار:3/210،أحكام القرآن للجصاص:2/403،،المنتقى شرح الموطأ:5/284،أحكام القرآن لابن العربي:2/93، الأم:1/294، مغني المحتاج:5/436، الفروع:6/169،الإنصاف:10/328،كشاف القناع:6/171، المحلى:12/108.
(2) إلا قولا لأبي يوسف (، ذكره الطحاوي ( في شرح معاني الآثار: 3/210.
(3) حرية الاعتقاد وعقوبة الردة، للأستاذ الدكتور / عبد الحسيب رضوان (،بحث مستل من مجلة كلية الشريعة والقانون بدمنهور، العدد 14، الجزء الأول،1419 هـ /1999 م: ص 134.
(4) شرح فتح القدير: 6/68، العناية على الهداية:6/680، المبسوط:10/79، بدائع الصنائع: 7/134، أحكام القرآن للجصاص:2/403.
(5) الأم:8/367، تحفة المحتاج:4/115، حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/270، التهذيب:7/288.
(6) المغني والشرح الكبير:10/126، الإنصاف:10/329، الفروع:6/170.
(7) مواهب الجليل:6/281، الذخيرة:12/39، المنتقى شرح الموطأ:5/382.
(8) الأم:1/294، مغني المحتاج:5/436، حاشيتا قليوبي وعميرة:4/270.
(9) المغني والشرح الكبير:10/26، الشرح الكبير:10/4، الإنصاف:10/328.(9/6)
ويرون أن استتابة المرتد واجبة.
الرأي الثالث:وهو للظاهرية. (1)
ويرون أن الاستتابة ليست واجبة ولا ممنوعة.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والآثار والمعقول.
أما السنة: فقوله - صلى الله عليه وسلم -:"من بدل دينه فاقتلوه." (2).
قال ابن قدامة:"الحديث نص على وجوب قتل المرتد، وليس فيه أمر باستتابة، ولو كانت الاستتابة واجبة لأمر بها النبي- صلى الله عليه وسلم -، وحيث لم تكن واجبة فهي مستحبة.". (3)
أما الآثار:
ـ ما ورد أن معاذاً - رضي الله عنه - قدم على أبي موسى- رضي الله عنه - فوجد عنده رجلا ً موثقاً فقال: ما هذا؟ قال:رجل كان يهودياً فأسلم ـ وعند الإمام مسلم ( ثم راجع دينه دين السوء ـ قال:لا أجلس حتى يقتل،قضاء الله ورسوله، قال:اجلس، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات، فأمر به فقتل. (4)
وجه الدلالة:لو كانت الاستتابة واجبة لما حل قتل هذا المرتد حتى تعرض عليه التوبة، فلما لم يكن الأمر كذلك،دل هذا على أن الاستتابة مستحبة.
أما المعقول:
ـ أن وجه الاستحباب هو احتمال أن يسلم، فإن طمع في توبته أجله و إلا قتله من ساعته. (5)
ـ أنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن، ولو كان قتله حراماً قبلها ضمن، فدل هذا على عدم وجوب استتابته. (6)
ـ أنه من الجائز أنه عرضت له شبهة حملته على الردة فيؤجل. (7)
ـ أن الدعوة قد بلغته وعرض الإسلام عليه، ودعوة من بلغته الدعوة غير واجبة بل مستحبة. (8)
__________
(1) المحلى:12/115.
(2) صحيح: سبق تخريجه.
(3) المغني والشرح الكبير:10/26.
(4) صحيح: البخاري: كتاب استتابة المرتدين، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم 6/2537 رقم 6525، مسلم:كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها:2/1456 رقم 1733.
(5) بدائع الصنائع:7/134.
(6) المغني والشرح الكبير:10/26.
(7) بدائع الصنائع:7/135.
(8) شرح فتح القدير:6/68، تبيين الحقائق:3/286.(9/7)
استدل أصحاب الرأي الثاني:بالكتاب والسنة والآثار والمعقول.
أما الكتاب:
ـ فقوله تعالى: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } (1)
وجه الدلالة:أن الله- سبحانه وتعالى - أمر رسوله- صلى الله عليه وسلم - أن يخبر جميع الذين كفروا أنهم إن انتهوا غفر لهم ما سلف و هذا معنى الاستتابة و المرتد من الذين كفروا و الأمر للوجوب فعلم أن استتابة المرتد واجبة،فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد. (2)
أما السنة:
ـ فما روي عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت:"((ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت))." (3)
ـ وما جاء عن جابر - رضي الله عنه - أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض عليها الإسلام، فإن تابت و إلا قتلت." (4)
وجه الدلالة:في هذين الحديثين دلالة على وجوب استتابة المرتد؛ لأنها لو لم تكن واجبة لما آمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها.
__________
(1) الأنفال آية 38.
(2) الصارم المسلول على شاتم الرسول:لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ت 728، تحقيق: محمد عبد الله عمر الحلواني , محمد كبير أحمد شودري،ج3/601،طبعة دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى، 1417 هـ، تفسير القرطبي:6/150.
(3) ضعيف: سنن الدار قطني: كتاب الحدود والديات وغيره 3/118 رقم 121، نصب الراية:3/455، وقال:لأن فيه محمد بن عبد الملك، وقال فيه أحمد وغيره يضع الحديث.
(4) ضعيف: سنن البيهقي الكبرى: كتاب المرتد، باب قتل من ارتد عن الإسلام إذا ثبت عليه رجلا كان أو امرأة 8 /203 رقم 16643، تلخيص الحبير:4/49، وقال فيه: اسناده ضعيف،نصب الراية:3/455.(9/8)
أما الآثار:فما روي أن رجلاً قدم على سيدنا عمر - رضي الله عنه - فقال: هل من مغربة خبر(1)فقال: نعم رجل كفر بعد إيمانه، فقال: ماذا صنعتم به؟، قال:قدمناه فضربنا عنقه، فقال: هلا طينتم عليه الباب ثلاثة أيام، ورميتم إليه كل يوم برغيف، فلعله أن يتوب ويراجع الحق، ثم رفع يديه وقال: اللهم إني لم أشهد ولم أرض إذ بلغني. (2)
وجه الدلالة: و هذا يدل على أن الاستتابة واجبة و إلا لم يقل عمر - رضي الله عنه - لم أرض إذ بلغني وما تبرأ من فعلهم حين قتلوا من ارتد قبل استتابته. (3)
أما المعقول:انه أمكن استصلاحه (أي المرتد)فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس. (4)
المناقشة
مناقشة أدلة الرأي الأول:
أن حديث ((" من بدل دينه فاقتلوه "))(5)المراد منه قتل المرتد بعد استتابته؛ لأن الخبر لا يمنع من الاستتابة فتحمل على ما إذا كان بعد الاستتابة.
__________
(1) مغربة خبر: أي هل من خبر جديد من بلاد بعيدة أو خبر غريب عنا. البيان:12/46.
(2) سنن البيهقي: كتاب المرتد، باب من قال يحبس ثلاثة أيام 8/206 رقم 16664، نصب الراية:3/456، تلخيص الحبير:4/50.
(3) الصارم المسلول:1/328.
(4) المغني والشرح الكبير: 10/26.
(5) صحيح:سبق تخريجه ص 417(9/9)
ـ أن خبر سيدنا معاذ - رضي الله عنه - يناقش بأنه قد جاء في بعض الروايات أن أبا موسى - رضي الله عنه - قد استتابه شهرين قبل مجيء معاذ - رضي الله عنه - , وذلك كما جاء في مصنف عبد الرزاق ( بسنده عن أبي بريدة - رضي الله عنه - قال:" قدم عليّ أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - ومعاذ بن جبل - رضي الله عنه - باليمن , فإذا رجل عنده. قال: ما هذا؟ قال رجل كلن يهودياً فأسلم ثم تهود , ونحن نريده عن الإسلام منذ ـ أحسبه قال شهرين ـ فقال معاذ - رضي الله عنه - والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه , فضربت عنقه , ثم قال: معاذ - رضي الله عنه - قضى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أن من رجع عن دينه فاقتلوه , أو قال: من بدل دينه فاقتلوه." (1)
ـ أن بالنسبة إلى عدم ضمان المرتد قبل استتابته فمردود عليه بأنه لا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب , وحبيباتهم وشيوخهم فإنه يحرم قتلهم , ولو قتلهم أحد لا يضمن. (2)
مناقشة أدلة الرأي الثاني:
نوقش الحديث المروي عن السيدة عائشة - رضي الله عنه - بأنه ضعيف؛ لأن فيه محمد بن عبد الملك , وقال فيه الإمام أحمد( وغيره: بأنه يضع الحديث. (3)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو ما ذهب إليه القائلون :بوجوب استتابة المرتد وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن في القول به إمهال للمرتد حتى يراجع نفسه ويعود إلى رشده.
ـ أن فيه إزالة الشبهة التي أدت إلى الردة؛ فلعله يرجع إلى الإسلام راضياً.
ـ أن فيه قطع للعذر أمام المعتذرين , ثم إن فيه صيانة للدماء عن الإراقة ما أمكن.
ـ أن هذا فعل الصحابة الأخيار.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق: 10/168 رقم 18705, وذكر البيهقي في السنن 8/206رقم 16659 أنه قد استتب قبل ذلك. فتح الباري:9/17.
(2) البيان: 12/47, المغني والشرح الكبير: 10/27.
(3) التحقيق في أحاديث الخلاف: 2/338.(9/10)
مدة الاستتابة.
هذا وقد اختلف القائلون: بالاستتابة في مدتها قبل قتله على أراء: ـ
الرأي الأول:وهو للحنفية (1) ومالك(2) و الشافعي في قول له(3) وأحمد في رواية.(4)
ويرون أن المرتد يستتاب ثلاثة أيام.
واستدلوا بالكتاب والسنة والمعقول .
من الكتاب : قوله تعالى: { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } (5)
وجه الدلالة: أن الله - سبحانه وتعالى - أمهل قوم صالح ثلاثة أيام فكذا المرتد ينظر ثلاثة أيام.
من السنة :
ما ورد أن رجلا ً قدم على عمر - رضي الله عنه - فقال: هل من مغربة خبر؟ فقال: نعم , رجل كفر بعد إيمانه , فقال: ما صنعتم به؟ قالوا قدمناه فضربنا عنقه , فقال: هلا طينتم عليه الباب ثلاثة أيام ورميتم إليه كل يوم برغيف فلعله أن يتوب ويراجع الحق , ثم رفع يديه. وقال اللهم إني لم أشهد ولم أرض إذ بلغني. (6)
وجه الدلالة: في هذا دلالة على أنه ينبغي أن يستتاب المرتد ثلاثة أيام قبل قتله.
أما من المعقول :
ـ أنه دخل عليه شبهة فيجب علينا إزالة تلك الشبهة بإمهاله. (7)
__________
(1) الهداية: 2/458,تبيين الحقائق:3/284 المبسوط: 10/98, وقيد الحنفية ذلك بكونه طلب التأجيل , فإن لم يطلب التأجيل قتل من ساعته , وفي النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف ( أنه يستحب للإمام أن ينظره ثلاثاً طلب أو لم يطلب. الهداية: 2/458, المبسوط:10/99.
(2) مواهب الجليل:6/281, المنتقى شرح الموطأ: 5/282,الذخيرة: 12/36, جواهر الإكليل: 2/415. وري عن أبي القاسم أنها ثلاث مرات ولو في يوم جواهر الإكليل: 2/415..
(3) التهذيب: 7/288, الحاوي الكبير:13/159, مغني المحتاج: 5/436, البيان: 12/47, روضة الطالبين: 10/76.
(4) المغني والشرح الكبير:10/27, الشرح الكبير: 10/5, كشاف القناع: 6/177.
(5) هود من الآية 65.
(6) سبق تخريجه ص 423.
(7) شرح فتح القدير: 6/69.(9/11)
ـ أن الردة إنما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب أن ينظر مدة يرتيء فيها , وأولى كل ذلك ثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة. (1)
الرأي الثاني: وهو رواية عن مالك(2)والأظهر عند الشافعية.(3)
ويرون أن الرتد يستتاب في الحال فإن تاب و إلا قتل.
استدلوا بما يلي:
ـ ما روي عن جابر - رضي الله عنه -أنه قال: "((أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام يوم أحد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تستتاب فإن تابت و إلا قتلت.")) (4)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر باستتابة هذه المرأة المرتدة دون أن يحدد مدة لاستتابتها , فدل هذا على أنها تكون في الحال.
ـ ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -أنه أخذ قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق فكتب فيهم إلى عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - فرد عليه عمر - رضي الله عنه - أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة ألا إله إلا اله , فإن قبلوها فخل عنهم , وإن لم يقبلوها فاقتلهم فقبلها بعضهم فتركه , ولم يقبلها البعض فقتلهم. (5)
وجه الدلالة: أن سيدنا عثمان - رضي الله عنه - أمر سيدنا عبد الله ابن مسعود - رضي الله عنه - باستتابة هؤلاء الناس ولم يذكر مدة لاستتابتهم , فدل ذلك على أن الاستتابة تكون في الحال وليست لها مدة.
……………المناقشة
وقد ناقش ابن حزم (القائلين: باستتابة المرتد أكثر من مرة بأنه قول بلا دليل, وليس قول من قال يستتاب مرتين بأولى من قول من قال ثلاثة , ولا من قال أربعاً أو خمساً أو أكثر. (6)
وقد أجيب عن هذا:
__________
(1) الحاوي الكبير:13/160, المغني والشرح الكبير:10/27, الشرح الكبير: 10/5.
(2) المنتقى شرح الموطأ: 5/282.
(3) التهذيب: 7/288, مغني المحتاج:5 /436,البيان: 12/47, روضة الطالبين: 10/76, حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/270.
(4) ضعيف: سبق تخريجه ص 423.
(5) مصنف عبد الرزاق:كتاب اللقطة، باب في الكفر بعد الإيمان 10/168 رقم 18707.
(6) المحلى: 12/114.(9/12)
بأن الادعاء بأنه قول بلا دليل قول غير مسلم؛ إذ أنه يمشى مع روح الشريعة الإسلامية في الإمهال والإنظار لعله أن تكون له شبهة , ثم إن هذا قد ورد عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - أنه تمنى إمهال المرتد ثلاثة أيام , ثم إن هناك فرقاً بين المرتد و بين غيره من الحربيين , إذ الحربيون قد أعلنوا الحرب على المسلمين فوجب قتلهم لقوله تعالى: { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حتى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } (1) أما المرتد فالواجب دعاءه للحق ورفع الشبهة عنه , وهويفارق الحربي بأنه لم يعلن الحرب على المسلمين.
ـ و ناقش قول القائلين:بوجوب الاستتابة مرة .
أ ن من أسلم ثم ارتد قد تقدم دعاؤه إلى الإسلام حين أسلم بلا شك , إن كان دخيلا في الإسلام , أو حين بلغ , وعلم شرائع الدين و التكرار لا يلزم , فالواجب إقامة الحد عليه , إن لم يراجع الإسلام , فالاشتغال عن ذلك وتأخيره باستتابة , ودعاء: لا يلزمان ترك الإقامة عليه - وهذا لا يجوز؟ (2)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو رأي القائلين :بإمهاله واستتابته ثلاثاً ، للأسباب الآتية:
ـ أن القول بالاستتابة جاءت به آثار كثيرة وهذا لا يكون إلا بطريق الإمهال.
ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهل الرجل الذي يخدع في البيوع ثلاثاً ,والبيوع أهون من الدماء فتكون أولى بالإمهال.
ـ أن الإمهال لا يعرض إقامة الحد إذا لم يكن منه بد.
ـ ثم إنه لا تعارض بين الإمهال أكثر من مرة وبين حديث أم مروان ـ مع ضعفه ـ لأن العرض كما يكون بالمرة الواحدة يكون بأكثر منها.
ـ أن ارتداد المسلم يكون عن شبهة ظاهرة , فلا بد من مدة يمكن فيها التأمل والنظر , والثلاثة أيام كافية لذلك. (3)
__________
(1) محمد من الآية 4.
(2) المحلى: 12/115.
(3) حرية الاعتقاد وعقوبة الردة في الإسلام: ص 137.(9/13)
المسألة الثانية: ميراث المرتد.
تحرير محل النزاع وسبب الخلاف:
اتفق الفقهاء على أن المرتد لا يرث أحداً , واختلفوا في ماله إذا مات أو قتل هل يورث أو لا؟ ولعل سبب الخلاف يرجع إلى هل الكفر كله ملة واحدة أو أنه ملل متعددة؟ فمن ذهب إلى كونه ملة واحدة قال :بجريان التوارث , ومن ذهب إلى أنه أكثر من ملة قال : بامتناعه.
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو للحنفية(1) ورواية عند الحنابلة.(2)
ويرون أن مال المرتد لورثته المسلمين,واتفق الحنفية على أن مال المرتد الذي اكتسبه حال الإسلام يرثه ورثته المسلمون إذا مات أو قتل على ردته .
أما المال الذي اكتسبه في حال ردته،فقال أبو حنيفة ( :هو فيء إلا أن تكون امرأة فيكون جميع ما اكتسبته لورثتها المسلمين.(3)وقال أبو يوسف ومحمد( : ما اكتسبه بعد ردته فهو لورثته المسلون أيضاً.واختلفت الروايات عن أبي حنيفة ( فيمن يرثه. فرواية يرثه من كان وارثاً له وقت ردته وبقي كذلك إلى موت المرتد , وفي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ( المعتبر هو وجود الوارث وقت الردة , وفي رواية محمد عن أبي حنيفة ( يعتبر من كان وارثاً له حين مات (4) وعند الصاحبين ( يعتبر أهلية الوارث وقت الموت. (5)
__________
(1) شرح فتح القدير: 6/75, المبسوط: 10/100, بدائع الصنائع: 7/138, شرح معاني الآثار:3/268, أحكام القرآن للجصاص: 2/147.
(2) الفروع: 5/51, الإنصاف: 7/352, المغني والشرح الكبير: 6/30 ط دار البصائر , 10/30.
(3) المبسوط: 10/101, مجمع الأنهر: 1/685.
(4) المبسوط: 10/101, بدائع الصنائع: 7/,138, شرح فتح القدير: 5/76.
(5) بدائع الصنائع: 7/138.(9/14)
الرأي الثاني: وهو للشافعية(1) والمالكية(2) و الحنابلة في المذهب.(3)
ويرون أن المسلم إذا ارتد وترك مالا ً لا يرثه ورثته المسلمون بل هو لبيت المال. ورد في الأم ".... ويوقف ماله , وإذا مات فماله بعد قضاء دينه وجنايته ونفقة من تلزمه نفقته فيء , لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم , كما أنه لا يرث مسلماً ، كذا لا يرثه مسلم." (4)
الرأي الثالث:وهو للحنابلة في رواية (5)والظاهرية.(6)
ويرون أن مال المرتد الذي لم يُظفر به، لأهل دينه الذي اختاره ،وإن كان فيه من يرثه إذا قتل أو مات مرتداً,وما ظفر به من مال منذ ارتد فهو فيء , رجع إلى الإسلام أو مات مرتداً , فإن رجع إلى الإسلام فما بقي فهو له ،و إلا فلورثته من المسلمين.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والآثار والمعقول.
من الكتاب:قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ً } (7)
وجه الدلالة: الآية الكريمة تقتضي توريث المسلم من المرتد إذ لم تفرق بين المورث المسلم والمرتد. (8)
أما الآثار:
__________
(1) الأم: 4/88, مغني المحتاج: 4/44, البيان: 12/56, الحاوي الكبير: 13/164.
(2) حاشية الخرشي: 8/259, حاشية الدسوقي:6/287, جواهر الإكليل: 2/416. وذكر صاحب الذخيرة التفريق بين حاليين إن كان مستتراً فماله لورثته , وإن كان مظهراً فللمسلمين. الذخيرة: 12/20.
(3) المغني والشرح الكبير:6/300. ط دار البصائر , 10/30, الإنصاف: 7/352, الفروع: 5/51.
(4) الأم: 8/367.
(5) المغني والشرح الكبير:6/301. ط دار البصائر, الإنصاف: 7/352, الحاوي الكبير: 13/165.
(6) المحلى: 8/337, 12/122.
(7) النساء من الآية 11.
(8) أحكام القرآن للجصاص: 2/147.(9/15)
ـ ما جاء أن الإمام علي - رضي الله عنه - قتل المستورد العجلي بالردة وقسم ماله بين ورثته من المسلمين(1)وكان ذلك بمحضر الصحابة , ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فكان إجماعاً (2)
ـ ما جاء عن ابن مسعود- رضي الله عنه - قال: ميراثه لورثته من المسلمين. (3)
ـ ما جاء عن قتادة ( أن الحسن قال: ميراثه لورثته من المسلمين إذا ارتد عن الإسلام. (4)
أما المعقول فمن جهات :
الأولى : المرتد قبل ردته ,محظور دمه وماله , ثم إذا ارتد صار دمه مباحاً, وماله محظورا في حالة الردة , بالحظر المقدم. وقد رأينا الحربيين حكم دمائهم وحكم أموالهم سواء , قتلوا أو لم يقتلوا. فلم يكن الذي يحل به أموالهم هو القتل , بل كان الكفر , وكان المرتد لا يحل ماله بكفره , فلما ثبت أن ماله لا يحل بكفره , ثبت أنه لا يحل بقتله. وقد رأينا أموال الحربيين تحل بالغنائم , فتملك بها , ورأينا ما وقع من أموالهم في دارنا , ملكناه عليهم وغنمناه بالدار , وإن لم نقتلهم، فلما كان مال المرتد غير مغنوم بردته , كان في النظر أيضا , غير مغنوم بسفك دمه. فلما ثبت أن ماله لا يدخل في حكم الغنائم , لم يخل من أحد وجهين , إما أن يرثه ورثته الذين يرثونه لو مات على الإسلام , أو يصير للمسلمين. فإن يخل من أحد وجهين :إما أن يرثه ورثته الذين يرثونه لو مات على الإسلام ،أو يصير للمسلمين ، فإن صار لورثته من المسلمين ,فهو كما قلنا, وإن صار لجميع المسلمين , فقد ورث المسلمون مرتدا. فلما كان المرتد في حال من يرثه من المسلمين , ولم يخرج بردته من ذلك,كان الذين يرثونه,هم ورثته الذين كانوا يرثونه لو مات في الإسلام لا غيرهم. (5)
__________
(1) التمهيد:9/165.
(2) بدائع الصنائع: /138.
(3) شرح معاني الآثار:3/266.
(4) المرجع السابق:3/267.
(5) شرح معاني الآثار:3/267،268.(9/16)
الثانية :أن ملك المرتد يزول بالردة، فإذا قتل أو مات انتقل إلى الوارث؛لأنه لا يجوز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام، وإذا كان ذلك كذلك فلا يرث مسلم من كافر؛ لأن ملكه زال عنه، وإنما يرث المسلم ممن كان مسلماً،(1) وهذا بناء على أصل أبي حنيفة (، وبناء على أصل الصاحبين ( فالردة وإن كانت لا توجب زوال الملك فيمكن احتمال العودة إلى الإسلام. (2)
الثالثة : أنه مال مستحق بالإسلام فأشبه مال المسلم الميت لما كان مستحقاً بالإسلام، كان من اجتمع له الإسلام وقرب النسب أولى من جماعة المسلمين. (3)
يستدل لأبي حنيفة (:
بأن المال الذي اكتسبه المرتد حال ردته فهو فئ ؛لأنه بمنزله مال الحربي ،ولا يملكه ملكاً صحيحاً، ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته، أو قبله فإنما يصير ذلك غنيمة كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها، وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس مستحق لبيت المال لأجل الإسلام. (4)
يستدل للصاحبين (:
ـ أن كسبه يوقف على أن يسلم له بالإسلام فيخلفه وارثه فيه بعد موته ؛ككسب الإسلام، وليس في الردة أكثر من أنه صار به مشرفاً على الهلاك فيكون كالمريض، والمكتسب في مرض الموت كالمكتسب في الصحة في حكم الإرث. (5)
ـ أنه المعروف عن الصحابة - رضي الله عنهم - كالإمام علي - رضي الله عنه - وابن مسعود - رضي الله عنه -. (6)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والمعقول .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:2/148.
(2) المبسوط:10/138.
(3) حكام القرآن للجصاص:2/148، المبسوط:10/101.
(4) أحكام القرآن للجصاص:2/149.
(5) المبسوط:10/101.
(6) الفروع لابن مفلح:5/51.(9/17)
أما السنة:فما جاء عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.")) (1)
وجه الدلالة:في هذا الحديث دلالة على أن المرتد كافر والميراث منتف بين المسلم وغيره.
أما المعقول فمن وجوه :
الأول :الميراث نوع ولاية و الله - سبحانه وتعالى - قطع الولاية بين المسلمين والمشركين. (2)
الثاني : أن المرتد لا يرث أحداً فلا يرثه أحد كالرقيق. (3)
الثالث : أن الموافقة في الملة سبب التوريث والمخالفة في الملة سبب الحرمان، فلما لم يرثه من يوافقه في الملة ،مع وجود سبب التوريث، فلأن لا يرثه من يخالفه في الملة أولى. (4)
الرابع :أنه كافر فلا يرثه المسلم كالكافر الأصلي؛ ولأن ماله مال مرتد فأشبه الذي كسبه في ردته. (5)
استدل أصحاب الرأي الثالث القائلين بتوريث الكفار فيما لم يظفر به من ماله بما يلي:
ـ قوله تعالى: { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } (6)
وجه الدلالة:أن آيات المواريث للمسلمين والكفار ،فلا يخرج عن حكمهما إلا ما أخرجه نص سنة صحيح. (7)
ـ أن الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه لا يرث المسلم الكافر." (8) فكان مانعاً من توريث ولد المرتد، وهذا عموم منه - صلى الله عليه وسلم - لم يخص منه مرتداً من غيره، ولو أراد الله - سبحانه وتعالى - أن يخص المرتد ما أغفله ولا أهمله. (9)
__________
(1) متفق عليه: البخاري: كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم:6/2448 رقم 6383، مسلم:كتاب الفرائض:3/1233 رقم 1614.
(2) الأم:4/88.
(3) المبسوط:10/100.
(4) المرجع السابق:10/100.
(5) 5/51.
(6) الأنفال آية 73.
(7) المحلى:8/341.
(8) صحيح: سبق تخريجه ص 431.
(9) المحلى:12/123.(9/18)
ـ أنه كافر فورثه أهل دينه كالحربي وسائر الكفار. (1)
ـ أنه لا يحرم مال الكافر إلا بالذمة وهذا لا ذمة له. (2)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي:
ـ أنه إن قيل: أنهم لا يرثون من المسلمين ،فكذلك لا يرث المسلمون منهم.
وقد أجيب عن هذا: أن هناك من يُمْنَعْ الميراث بفعل منه، ولا يَمْنَع ذلك الفعل أن يُورث، فالمقتول يرث ممن قتله، ولا يرث القاتل من قتل؛لأن القاتل عوقب بقتله فمنع الميراث ممن قتله، ولم يمنع المقتول من الميراث، ومن جرحه الجراحة التي قتلته إذ كان لم يفعل شيئاً ن فكذلك المرتد منع من ميراث غيره عقوبة لما أتاه ولم يمنع غيره من الميراث منه إذ لم يكن منه ما يعاقب عليه. (3)
ونوقشت الآية بأنها مخصصة بحديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - " لا يرث المسلم الكافر ".
وقد أجيب عن هذا:
__________
(1) المغني:6/301 ط دار البصائر.
(2) المحلى:8/341.
(3) شرح معاني الآثار:3/266، المبسوط:10/101.(9/19)
بأنه جاء في بعض ألفاظ الحديث "لا يتوارث أهل ملتين، لا يرث المسلم الكافر." فالمراد إسقاط التوارث بين أهل ملتين ن وليست الردة بملة قائمة؛ لأنه وأن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فغير مقر عليها، فليس هو محكوماً له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها فثبت أن الردة ليست بملة،وحديث أسامة - رضي الله عنه - مقصور ف في منع التوارث بين أهل ملتين , كما رواه الزهري ( قال: حدثنا علي ابن الحسين - رضي الله عنه - عن عمرو بن عثمان - رضي الله عنه - عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -:"((لا يتوارث أهل الملتين شئ، ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.")) (1) فدل ذلك على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك منع التوارث بين أهل ملتين. (2)
وقد نوقش قولهم :بتوريثه ،بأنه يرثه وهو حي.
أجيب عن هذا:بأنه ليس هناك مانع في توريث الحي فقد قال تعالى: { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } (3) وكانوا أحياءً، ثم إن نقل المال إلى الورثة يكون بعد الموت وليس فيه توريث الحي.
ثم إنكم قد جعلتم ماله لبيت المال وفي هذا توريث لجماعة من المسلمين وهو كافر، وورثْتَهم منه وهو حي إذا لحق بدار الحرب مرتداً.
__________
(1) صحيح الإسناد: المستدرك:2/262 رقم 2944،وقال فيه الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، المعجم الكبير:1/363 رقم 391، شرح معاني الآثار:3/266رقم 4898.
(2) أحكام القرآن للجصاص:2/148.
(3) الأحزاب آية 27.(9/20)
أيضاً إذا كان المسلمون يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام ،فوجب أن يكونوا هم أولى بماله؛ لاجتماع السببين له وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر، فأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقاً للمسلمين كان ما اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أولى ممن بعد نسبه منه وإن كان له إسلام. (1)
ناقش ابن حزم ( قول أبي حنيفة ( بما يلي:
أنه قد فرق بين المرتد وسائر الكفار. بتوريثه ورثته على حكم المواريث وهو حي بعد،و قضاؤه له ـ إن رجع ـ بما وجد ,لا بما استهلكوا، ولا يخلو من أن يكون وجب للورثة ما قضوا لهم به , أو لم يجب لهم , ولا سبيل إلى ثالث. فإن كان وجب لهم فلأي شيء ينتزعه من أيديهم، وهذا ظلم وباطل وجور.
وإن كان لم يجب لهم، فلأي شيء استحلوا أن يقضوا لهم به حتى أكلوه , وورث عنهم , وتحكموا فيه , ولئن كان رجع إلى المراجع إلى الإسلام، فما الذي خص برجوعه إليه ما وجد دون ما لم يجد؟ وإن كان لم يرجع إليه , فبأي شيء قضوا له به؟ (2)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:
نوقش حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنه - "لا يرث المسلم الكافر "(3) بأن الكافر الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين لنا فيه أي كافر هو، فقد يكون هو الكافر الذي له ملة، ويجوز أن يكون هو الكافر أي كفر كان ، ملة أو غير ملة، فلما احتمل ذلك لم يجز أن يصرف إلى أحد المعنيين دون الآخر إلا بدليل يدل على ذلك. (4)
مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثالث:
نوقش قولهم :بأنه كافر فورثته هم أهل ملته بما يلي:
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص:2/148 باختصار وتصرف يسير، المبسوط:10/101.
(2) المحلى:8/340.
(3) سبق تخريجه.
(4) شرح معاني الآثار:3/265.(9/21)
أنه لا يمكن جعله لأهل دينه ; لأنه لا يرثهم , فلا يرثونه , كغيرهم من أهل الأديان؛ ولأنه يخالفهم في حكمهم ; فإنه لا يقر على ما انتقل إليه , ولا تؤكل له ذبيحة , ولا يحل نكاحه إن كان امرأة , فأشبه الحربي مع الذمي. (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه القائلون :بأن مال المرتد لورثته المسلمين ،وذلك للأسباب الآتية:
ـ أنهم أولى من بيت مال المسلمين؛ لأن استحقاق بيت المال لهذا المال إنما كان بسبب الإسلام، وورثة المرتد المسلمين يتساوون مع المنتفعين من بيت المال، ويزيدون على ذلك القرابة من المرتد.
ـ أن الردة ينتقل بها ماله , فوجب أن ينتقل إلى ورثته المسلمين , كما لو انتقل بالموت. (2)
ـ أن في هذا المال جبراً لبعض ما أصاب الورثة من آلام نفسية؛ بسبب ارتداد مورثهم وتعويضاً لهم عن مصدر الزرق الذي انقطع بسبب ارتداده غالباً. (3)
ـ أن الفرق بين مذهب أبي حنيفة (والمذاهب الأخرى يرجع إلى الخلاف في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - :"لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر " (4)فالمذاهب الأخرى لا تجعل مال المرتد لورثته ؛ لأنه كافر وهم مسلمون ، والحنفية يتأولون فيقولون إن مال المرتد ، مال مسلم ؛ لأن الردة كالموت في إزالة سبب الملك .
فإذا ارتد شخص فإن الردة تعتبر بالنسبة لماله موتاً ، فهو مسلم قد مات فيرثه ورثته المسلمون .(5)
ـ أن هذا هو المعروف عن الصحابة - رضي الله عنهم -. (6)
__________
(1) المغني:6/301 ط دار البصائر.
(2) المرجع السابق:6/301.
(3) جريمة الردة:ص 677.
(4) سبق تخريجه ص 430 .
(5) الجناية على الدين ، وأحكام المرتدين : د/ إيناس عباس إبراهيم ص 198 ، بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية ـ بجامعة الكويت ، السنة الخامسة ، العدد العاشر ، شعبان 1408 هـ / أبريل 1988 م .
(6) الفروع: 5/51.(9/22)
المسألة الثالثة: وصية المرتد.
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أراء: ـ
الرأي الأول: وهو للحنفية(1)
فقد اتفقوا على أن وصايا المرتدة صحيحة؛ وذلك لأنها لا تقتل, واختلفوا في المرتد: فعند أبي حنيفة ( وصاياه موقوفة , وعند الصاحبين( حكم وصاياه حكم من انتقل إليهم , فما صح منهم صح منه , ووجه الفرق أن المرتدة تبقى على الردة بخلاف المرتد؛ لأنه يقتل أو يسلم فصارت كالذمية. (2)
وقد نوقش هذا: أن الذمية تقر على اعتقادها أما المرتدة فلا تقر على ذلك. (3)
الرأي الثاني: وهو للمالكية. (4)
ويرون أن المرتد تبطل وصاياه، سواء أرجع إلى الإسلام أم قتل على ردته.
واستدلوا بما يلي :
ـ أن الرجل إنما تجوز وصاياه في ماله، وهذا المال ليس للمرتد إنما هو لجماعة المسلمين. (5)
الرأي الثالث: وهو للشافعية(6) والحنابلة. (7)
ويرون أن وصية المرتد موقوفة، إن رجع للإسلام نفذت، وإن مات على ردته بطلت.
الرأي الرابع: وهو للظاهرية. (8)
ويرون أن وصايا المرتد إن كانت توافق البر ودين الإسلام تنفذ في ماله الذي لم يقدر عليه، وإذا قدر عليه فهو للمسلمين.
__________
(1) شرح فتح القدير: 6/79, مجمع الأنهر: 2/682, 718 , العناية: 10/495, تبيين الحقائق:6/205.
(2) تبين الحقائق: 6/205.
(3) شرح فتح القدير: 10/495, العناية: 10/495.
(4) حاشية الدسوقي:6/291، حاشية الخرشي:8/265، التاج والإكليل:8/520، مواهب الجليل:6/284.
(5) حاشية الخرشي:8/265.
(6) التهذيب:7/291،مغني المحتاج:4/67، تحفة المحتاج:4/117.
(7) المغني والشرح الكبير:10/31، الإنصاف:10/340.
(8) المحلى:12/123.(9/23)
جاء في المحلى:" قال أبو محمد(: "كل وصية أوصى بها قبل ردته , أو في حين ردته , بما يوافق البر ودين الإسلام , فكل ذلك نافذ في ماله الذي لم يقدر عليه حتى قتل , لأنه ماله وحكمه نافذ - فإذا قتل أو مات , فقد وجبت فيه وصاياه بموته قبل أن يقدر على ذلك المال. وأما إذا قدرنا عليه قبل موته من عبد , وذمي , أو مال , فهو للمسلمين كله , لا تنفذ فيه وصية , لأنه إذا وجبت الوصية بموته لم يكن ذلك المال له بعد , ولا تنفذ وصية أحد فيما لا يملكه 00" (1)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو مذهب القائلين: بأن وصايا المرتد موقوفة؛إذ إن ماله لا يباح إلا بعد موته ـ على الراجح من القول ـ فكذا وصاياه، إن رجع إلى الإسلام نفذت وصاياه؛لأنه مسلم تجري عليه أحكام المسلمين، وإن مات على ردته بطلت وصاياه لأنه غير أهل لها.
…………
المبحث الثالث
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية بعض الأئمة في حد الردة
ويندرج تحت هذا المبحث مسائل :
المسألة الأولى:ردة الصبي
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على صحة ردة البالغ، وعدم صحة ردة الصبي غير المميز، واختلفوا في الصبي المميز، هل تصح ردته لو ارتد أو لا؟(2)
ورد في الإفصاح: " واختلفوا هل تصح ردة الصبي إذا كان مميزا؟ فقال أبو حنيفة( ومالك ( في الظاهر من مذهبه، وأحمد (، وقال الشافعي (:لا تصح وعن أحمد مثله.": (3)
الرأي الأول: وهو لأبي حنيفة ومحمد((4)والمالكية (5) وأحمد في ظاهر مذهبه. (6)
ويرون أن ردة الصبي العاقل تصح، إلا أنه لا يقتل حتى يبلغ.
__________
(1) المحلى:12/123.
(2) الإقناع :1/357.
(3) الإفصاح لابن هبيرة:2/188.
(4) المبسوط:10/122، بدائع الصنائع:7/134، تبيين الحقائق:3/292.
(5) الذخيرة:12/15، التاج والإكليل:3/70، حاشية الخرشي:8/252.
(6) الإنصاف:10/329، كشاف القناع:6/174.(9/24)
الرأي الثاني: وبه قال أبو يوسف من الحنفية(1)والشافعية(2) ورواية عند الحنابلة(3) والظاهرية.(4) ويرون أنه لا تصح ردة الصبي.
الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأولي بالسنة والقياس.والمعقول
أما السنة :…
فما جاء عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا
أعرب عنه لسانه فإما شاكراً وإما كفوراً.")) (5)
أما المعقول فمن وجوه:
1ـ أن الصبي أتى بحقيقة الإسلام وهو التصديق بالجنان والإقرار باللسان، وكذا أتى بحقيقة الكفر وهو الجحود والإنكار ولا مرد للحقائق. (6)
2ـ أن أول الصبيان دخولاً في الإسلام علي - رضي الله عنه - وهو ابن ثمان، وكذلك الزبير - رضي الله عنه -،وإذا صح إسلامه فكذلك ردته؛ لأنهما معنيان يتقرران في القلب كالبالغ. (7)
3ـ أن الصبي من أهل المعرفة، و من ضرورة اعتبار معرفته والحكم بإسلامه اعتبار ردته أيضا ; لأنه جهل منه بخالقه ,وجهله في سائر الأشياء معتبر حتى لا يجعل عارفا إذا علم جهله به، فكذلك جهله بربه. (8)
4 ـ أن من ضرورة كونه أهلا للعقد أن يكون أهلا لرفعه، (9) فإذا صح منه الإسلام صحت منه الردة.
__________
(1) شرح فتح القدير:6/94، تبيين الحقائق:3/392.
(2) مغني المحتاج:5/432، تحفة المحتاج:4/113، حاشيتا قليوبي وعميرة:4/296.
(3) الإنصاف:10/330، كشاف القناع:6/174.
(4) المحلى:10/216.
(5) ضعيف الإسناد:مسند الإمام أحمد:3/353، مصنف عبد الرزاق:كتاب الجهاد، باب البيات ج:5 /202 رقم 9386 وفيه (حتى يعرب عنه لسانه) مجمع الزوائد:لعلي بن أبي بكر الهيثمي ت 807، ج 7/218،طبعة دار الريان للتراث، 1407 هـ، وقال فيه: رواه أحمد وفيه أبو جعفر الرازي و هو ثقة وفيه خلاف وبقية رجاله ثقات.
(6) تبيين الحقائق:3/292.
(7) الذخيرة:12/15.
(8) المبسوط:10/122.
(9) المبسوط:10/122.(9/25)
5 ـ قياس صحة الردة ،على صحة الصلاة والحج إذا وقعت من الصبي. (1)
استدل أصحاب الرأي الثاني بالسنة والمعقول.
أما السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ 00" (2)
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :برفع القلم عن الصبي، ورفع القلم معناه عدم المخاطبة؛ وذلك لعدم التكليف، فالحديث يقتضي أن لا يكتب ذنب عليه، ولو صحت ردته لكتبت عليه، أما الإسلام فيكتب له وليس عليه.
أما المعقول فمن جهات :
1ـ أن الردة من التصرفات الضارة ضرراً محضاَ بخلاف الإسلام؛ لأن الإسلام تعلق به أعلى المنافع , ودفع أعظم المضار؛ لأن المنفعة المحضة من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي. (3)
2ـ أن عقل الصبي في التصرفات الضارة المحضة ملحقة بالعدم؛ ولهذا لم يصح طلاقه وعتاقه وتبرعاته
,والردة مضرة محضة , أما الإيمان فيصح منه؛ لأنه نفع محض , لذلك يصح إيمانه ولا تصح ردته. (4)
3ـ أنه لا يصح إقراره ولا طلاقه ولا عقوده فلا تصح ردته وإسلامه كالمجنون.
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الثاني بما يلي:
ـ أن حديث " رفع القلم " معناه رفع للإثم ونحن لا نأثمه حينئذ , بل المعتبر شيئاً ً يظهر أمره بعد البلوغ. (5)
ـ نوقش قولهم :بأنه لا يصح طلاقه ولا عقوده:
بأن الطلاق والعقود مبنية على فوات مصالح الأعراض والمعوضات ، فاشترط فيها رضاه المطابق للمصلحة غالباً,وذلك إنما يكون بعد البلوغ , وكمال العقل مدار لذلك,فلم يعتبر قبل البلوغ , والكفر والإيمان حق الله تعالى ،فلم يكن رضاه المعتبر معه فيها إذ الحق لغيره كالجنايات بالإتلاف وغيره. (6)
الرأي الراجح
__________
(1) الذخيرة:12/15.
(2) صحيح: سبق تخريجه 23.
(3) شرح فتح القدير: 6/96, تبيين الحقائق: 3/293.
(4) بدائع الصنائع: 7/134.
(5) الذخيرة: 12/16.
(6) المرجع السابق: 12/17.(9/26)
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها فالرأي الراجح منها هو القائل: بعدم صحة ردة الصبي؛ لأنه لا تكليف قبل البلوغ , والبلوغ شرط في إقامة الحدود ومنها الردة , ثم إن الفقهاء اتفقوا على أنه ينظر بالصبي فلا يقام عليه القتل كحد للردة حتى يبلغ ، فلا فائدة إذن من القول بصحة الردة.
المسألة الثانية: ردة السكران.
اختلف الفقهاء في ردة السكران على رأيين: ـ
الرأي الأول: وهو للحنفية(1) والمالكية(2) والشافعية في قول(3)والحنابلة في رواية (4) و الظاهرية (5).
ويرون أن ردة السكران غير صحيحة , وذكر الحنفية بأنها لا تصح استحساناً(6)وقيد المالكية والشافعية والحنابلة ذلك بكونه غير متعد بسكره.
الرأي الثاني: وهو للشافعية في الأصح(7) و الحنابلة في أظهر الروايتين.(8)
ويرون أن ردة السكران تقع صحيحة إن تعدى بسكره.
……………الأدلة
استدل أصحاب الرأي الأول بالكتاب والسنة و المعقول.
من الكتاب: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } (9)
__________
(1) شرح فتح القدير:6/98,العناية على الهداية: 5/315, مجمع الأنهر: 1/3:6 بدائع الصنائع: 7/134.
(2) الشرح الصغير: 4/439, الذخيرة: 12/23.
(3) التهذيب: 7/294, البيان: 12/39, تحفة المحتاج: 4/213, مغني المحتاج: 5/433, حاشيتا قليوبي وعميرة: 4/269.
(4) المغني والشرح الكبير:10/51, الإنصاف: 10/331, كشاف القناع:6/174.
(5) المحلى: 8/195, 10/216.
(6) بدائع الصنائع: 7/134.
(7) التهذيب: 7/294تحفة المحتاج: 4/213, مغني المحتاج: 5/433,الأم: 8/367, الحاوي الكبير: 13/175.
(8) المغني والشرح الكبير:10/51, الإنصاف: 10/331, كشاف القناع:6/174.
(9) النساء من الآية 43.(9/27)
وجه الدلالة: أن هذه الآية الكريمة نفت العلم عن السكران,ومن لا يعلم ما يقول لا يطالب بالأحكام؛ لأنه ليس في حالة تكليف ،حتى يتوجه إليه الخطاب,ولهذا لا يحكم بردة السكران حال سكره , كما لا يحكم بردته حال جنونه. (1)
أما السنة:فقوله - صلى الله عليه وسلم - "((إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى.")) (2)
وجه الدلالة:أن السكران لا نية له فلا يصح منه عمل.
ـ وما روي أ ن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - صنع طعاماً فدعا بعض الصحابة - صلى الله عليه وسلم - فأكلوا وسقاهم خمراً , وكان ذلك قبل تحريمها , فأمهم في صلاة المغرب عبد الرحمن - رضي الله عنه - وقرأ سورة الكافرون يطرح اللاءات مع أن اعتقادها كفر , ولم يكن ذلك كفراً من ذلك القارىء, فعلم أن السكران لا يكلف بما جرى على لسانه من لفظ الكفر. (3)
ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - "((رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ , وعن المجنون حتى يفيق , والنائم حتى يستيقظ.")) (4)
وجه الدلالة: أن العلة التي نفى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - التكليف عن هؤلاء هي غياب العقل , وغياب العقل موجود في السكران فيرفع الحكم كذلك.
أما المعقول فمن جهات :
1 ـ أن ردة السكران تتعلق بالاعتقاد والقصد , والسكران لا يصح عقده ولا قصده فأشبه المعتوه. (5)
2 ـ أنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم.
3 ـ أن العقل شرط في التكليف والسكران معدوم العقل , فلم تصح ردته , كما لم تصح استتابته. (6)
__________
(1) المبسوط: 10/122.
(2) صحيح: البخاري:كتاب بدء الوحي: 1/3 رقم 1.
(3) العناية على الهداية: 5/315.
(4) صحيح: سبق تخريجه 23.
(5) المغني والشرح الكبير: 10/51..
(6) المرجع السابق:(9/28)
4 ـ أن وجه الاستحسان عند الحنفية أن أحكام الكفر مبنية على الكفر , كما أن أحكام الإيمان مبنية على الإيمان , والإيمان والكفر يرجعان إلى التصديق والتكذيب , والإقرار دليل عليهما , وإقرار السكران الذاهب العقل لا يصح دلالة على التكذيب فلا يصح إقراره. (1)
أدلة أصحاب الرأي الثاني:
استدلوا بما يلي:
ـ أنه يصح طلاقه و عتاقه، فصحت ردته كالصاحي. (2)
ـ أنه لا يزول عقله بالكلية ,فيفرح بما يسره ،ويساء بما يضره , ويزول سكره عن قرب من الزمان فأشبه الناعس بخلاف النائم والمجنون. (3)
ـ أن السكران مؤاخذ بالقذف , وهذا دليل على اعتبار أقواله. (4)
المناقشة
نوقشت أدلة أصحاب الرأي الأول بما يلي :
ـ القول بأن ردة السكران لا تصح هذا غير مسلم؛ لأنه يجري في أحكام التكليف مجرى من له اعتقاد وتمييز , ولذا يصح طلاقه وظهاره. (5)
ـ القول بأن السكران معدوم العقل ممنوع ، فالصلاة واجبة عليه , وكذا سائر أركان الإسلام , ويأثم بفعل المحرمات وهذا معنى التكليف. (6)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومنا قشة ما أمكن مناقشته منها، فما تطمئن النفس إلي ترجيحه هو الرأي القائل :بصحة ردة السكران إذا تعدى بسكره، وذلك للأسباب الآتية:
ـ أن القول بعدم الصحة مخالف لمقاصد الشريعة الإسلامية؛ لأن المرء إذا عمل عملاً واحداً محرماً لزمه حكمه , فإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل جرماً آخر سقط عنه الحكم مما لزم عنه , أن من فعل أكثر يصبح أحسن حالاً ممن فعل جرماً واحداً وهذا مخالف لقصد الشارع الحكيم. (7)
ـ أن من تناول المسكر باختياره قد تناول محرما اجري عليه الأحكام عقاباً له.
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/134.
(2) المغني والشرح الكبير: 10/52, كشاف القناع:9/176.
(3) المغني والشرح الكبير: 10/52.
(4) اسنى المطالب: 4/120, تحفة المحتاج:4/113.
(5) الحاوي الكبير: 13/176.
(6) المغني والشرح الكبير: 10/52.
(7) جريمة الردة: ص 618.(9/29)
ـ أنه لما أ دخل السكر على نفسه كان كالقاصد لرفع الأحكام التكليفة ، فعومل بنقيض مقصوده(1).
المسألة الثالثة: حكم من ارتد من كفر إلى كفر.
اختلف الفقهاء في حكم من خرج من كفر إلى كفر ،كمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ،أو العكس ،أو إلى غير دين.
الرأي الأول: وهو للحنفية(2) و المالكية (3) و الشافعية في قول (4)و الحنابلة في رواية (5)
ويرون أن الخارج من كفر إلى كفر ،لا يستتاب ولا يقتل،ويقر على ذلك.
جاء في الأم:"ولو ارتد نصراني إلى مجوسية أو مجوسي إلى نصرانية لم نستتبه ولم نقتله؛ لأنه خرج من كفر إلى كفر (6)
الرأي الثاني:وهو للشافعية في قول ثانٍ(7)والحنابلة في المذهب.(8)
ويرون أن المنتقل من كفر إلى كفر؛ كيهودية إلى نصرانية ينبذ إليه عهده ويخرج إلى دار الحرب , ومتى قدر عليه قتل , وإن رجع إلى دينه قبل ذلك منه.
ورد في الأم:" قال الربيع :والذي أحفظ من قول الشافعي أنه قال: إذا كان نصرانيا فخرج إلى دين اليهودية أنه يقال له ليس لك أن تحدث دينا لم تكن عليه قبل نزول القرآن فإن أسلمت أو رجعت إلى دينك الذي كنا نأخذ منك عليه الجزية ،تركناك و إلا أخرجناك من بلاد الإسلام ،ونبذنا إليك،ومتى قدرنا عليك قتلناك، وهذا القول أحب إلى الربيع." (9)
__________
(1) الفروق: 2/50.
(2) تبيين الحقائق: 3/285, شرح فتح القدير: 6/98.
(3) مواهب الجليل:6/279, منح الجليل: 9/226, الذخيرة: 12/18, 29, المنتقى شرح الموطأ:5/282, حاشية الخرشي: 8/266, حاشية الدسوقي: 6/292. وفي رواية عن ابن الماجشون يقتل. مواهب الجليل: 6/279, منح الجليل:9/226, الذخيرة: 12/18, 29.
(4) الأم: 2/256, مغني المحتاج: 4/317.
(5) الإنصاف: 4/249.
(6) الأم: 2/256.
(7) الأم: 5/9, تحفة المحتاج: 4/106.
(8) الإنصاف: 10/249.
(9) الأم: 5/9.(9/30)
الرأي الثالث: وهو للشافعية في الأظهر. (1)والحنابلة في رواية(2)والظاهرية. (3)
المنتقل من كفر إلى كفر لا يترك بل لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف. وفي رواية لو أبى الإسلام هدد وضرب وحبس ولم يقتل , وإن خرج من دين كتابي إلى دين كتابي آخر. (4)
الرأي الرابع: وهو للحنابلة في المذهب(5)
ويرون أنه إن تهود نصراني أو تنصر يهودي، لم يقر على ذلك، ولم يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه،فإن أبى الإسلام أو ما كان عليه هدد وضرب وحبس.
الأدلة
استدل أصحاب الأول بالكتاب والسنة والمعقول.
أما الكتاب:
فقوله تعالى: { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } (6)
من السنة:
قوله - صلى الله عليه وسلم - "((من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه.")) (7)
وجه الدلالة: أن هذا الحديث مخصص لحديث من بدل دينه إذ أنه صرح بكون الملة ملة الإسلام، فالكفر ملة واحدة فإذا انتقل الكافر من ملة كفرية إلى أخرى مثلها لم يخرج عن دين الكفر. (8)
من المعقول من وجوه :
1 ـ أنه لم يغير دينه الذي شرع له , والنص إنما ورد فيمن غير دينه. (9)
2 ـ أنه إنما يقاتل الناس ليدخلوا في الإسلام من الشرك , فأما أن يقاتلوا الكفار ليدخلوا من الكفر إلى الكفر , و يسفكوا دماءهم في ذلك فهذا مما لا ينبغي , ولا ينبغي لمسلم أن يسفك دمه على هذا. (10)
__________
(1) أسنى المطالب: 3/193, مغني المحتاج:4/317.
(2) الإنصاف: 4/249, المغني والشرح الكبير:7/779. ط دار البصائر.
(3) المحلى: 12/113, 117.
(4) كشاف القناع: 3/142.
(5) الإنصاف: 10/249, كشاف القناع: 3/142.
(6) الأنفال من الآية 73.
(7) ضعيف: رواه الطبراني وفيه الحكم بن أبان ضعيف. مجمع الزوائد: 6/402 رقم 10582.
(8) نيل الأوطار: 7/193.
(9) المنتقى شرح الموطأ: 5/284.
(10) المدونة الكبرى: 1/518.(9/31)
3 ـ أن في إجباره على الرجوع إلى ما كان عليه من الكفر ،كفرٌ فلا يجوز. (1)
4 ـ أن حديث من بدل دينه فاقتلوه محمول على دين يقر عليه وهو الإسلام , وهو الدين المعتبر شرعاً. (2)
5 ـ أنه انتقل إلى ما لو كان عليه من الابتداء لأقر عليه.
استدل أصحاب الرأي الثالث بالكتاب والمعقول.
أما الكتاب: فقوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } (3)
أما المعقول:
ـ أنه بخروجه من دين كتابي إلى دين آخر ـ غير الإسلام ـ فقد نقض الذمة ،ولا يقر على ذلك. (4)
ـ أنه قد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار إلى أن مات عليه السلام حتى أسلم من أسلم. (5)
ـ أن دليل الحنابلة في عدم قتله لو انتقل إلى دين كتابي آخر؛لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب ،هو مختلف فيه فلا يقتل للشبهة. (6)
المناقشة
ناقش ابن حزم ( آية " { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } (7) بأنه لا حجة فيها؛ لأنه ليس فيها إلا أنهم كلهم أولياء بعضهم لبعض , وليس في الآية حكم إقرارهم , ولا حكم قتلهم , ولا حكم ما يفعل بهم في شيء من أمورهم.أصلاً. (8)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء و أدلتهم، ومناقشة ما أمكن مناقشته فالرأي الراجح منها هو ما ذهب إليه القائلون :بأنه لا يقتل ولا يستتاب؛ لأن الكفر كله ملة واحدة ،والمنتقل من ملة كفرية إلى أخرى لم يخرج عن دين الكفر.
ـ أن النص إنما ورد في الذي غير دينه، ومثل هذا لم يغير دينه.
المسألة الرابعة:عقوبة المرتد.
__________
(1) تبيين الحقائق:3/285, شرح فتح القدير:6/98.
(2) حاشية الخرشي: 8/266.
(3) أل عمران آية 85.
(4) المحلى: 6/147.
(5) المحلى: 12/120.
(6) مطالب أولي النهى: 2/620, شرح منتهى الإرادات: 1/669.
(7) الأنفال آية 73.
(8) المحلى: 12/118.(9/32)
تحرير محل النزاع:
اتفق الفقهاء على أن عقوبة المرتد الرجل إذا لم يتب هي القتل، قال ابن المنذر: " وأجمع أهل العلم بأن العبد إذا ارتد فاستتيب فلم يتب قتل ولا أحفظ فيه خلافا، وأجمعوا على أن من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - له القتل" (1)، يقول ابن رشد(: " واتفقوا على أن الرجل يقتل الرجل لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من بدل دينه فاقتلوه "، واختلفوا في قتل المرأة " (2)
ويرجع سبب الخلاف إلى أن القائلين :بقتل المرتدة أخذوا بعموم النصوص ،حيث لم تفرق بين ذكر وأنثى، والحنفية تمسكوا بتخصيص هذا العموم ، بحديث النهي عن قتل النساء، وقياسها على المرأة الكافرة، وقال الجمهور :بأن المقصود بالنهي عن قتل النساء هي الكافرة الأصلية. (3)
آراء الفقهاء
الرأي الأول: وهو الحنفية (4).
ويرون عدم قتل المرتدة، ولكنها تحبس وتجبر على الإسلام.
الرأي الثاني: وهوقول آخر عند الحنفية (5)
ويرون أن المرأة إذا ارتدت ولحقت بدار الحرب تسترق ولا تقتل، وفي النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله تسترق ولو كانت في دار الإسلام.
الرأي الثالث: وهو للمالكية (6)والشافعية(7) والحنابلة (8)والظاهرية (9):
ويرون أن المرأة المرتدة تقتل سواء أكانت حرة أم أمة، فإن كانت حاملا أخرت حتى تضع حملها.
الأدلة:
استدل أصحاب الرأي الأول بالسنة والمعقول
__________
(1) الإجماع لابن المنذر: ص 121.
(2) بداية المجتهد: 6/198.
(3) نيل الأوطار: 7/193
(4) بدائع الصنائع: 7/137، المبسوط: 10/108، شرح فتح القدير 6/71، العناية على الهداية: 6/71.
(5) بدائع الصنائع: 7/137، مجمع الأنهر: 1/685، المبسوط: 10/111، تبيين الحقائق: 3/285، شرح فتح القدير: 6/71.
(6) التمهيد :1/413 .
(7) الأم: 1/294، مغني المحتاج: 5/436.
(8) المغني والشرح الكبير:10/24، الشرح الكبير: 10/3، الإنصاف: 10/328، كشاف القناع: 6/174.
(9) المحلى :5/350(9/33)
أما السنة:فما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " رأى امرأة مقتولة، فقال :من قتل هذه؟ قال رجل: أنا يا رسول الله ،أردفتها خلفي فأهوت إلى سيفي لتقتلني، فقتلتها، فقال: ما شأن قتل النساء وارها ولا تعد " (1)
وجه الدلالة: في الحديث دلالة على أن المرأة لا تقتل في الكفر الأصلي،فلا تقتل في الطارىء ولا في المنتقل لأن الكفر ملة واحدة. (2)
أما المعقول:
أ – أن الكافرة الأصلية لا تقتل، فكذا المرتدة. (3)
ب – أن الأصل في الأجزية أن تتأخر إلى دار الجزاء وهي الدار الآخرة، فإنها الموضوعة للأجزية على الأعمال الموضوعة هذه الدار لها، فهذه دار أعمال وتلك دار جزاء، وكل جزاء شرع في هذه الدار ما هو إلا لمصالح تعود إلينا في هذه الدار كالقصاص، وحد الشرب والقذف والزنا، فشرعت لحفظ النفوس والأعراض والعقول والأنساب والأموال، فكذا يجب في القتل بالردة أن يكون لدفع شر حرابة، لا جزاء على فعل كفر؛ لأن جزاءه أعظم من ذلك عند الله، فيختص بمن يتأتي منه الحراب وهو الرجل. (4)
أدلة الرأي الثاني:
- ما جاء أن أبا بكر - رضي الله عنه - استرق نساء بني حنيفة لما ارتدوا ، وأصاب علي - رضي الله عنه - جارية من ذلك السبي، فولدت له محمد بن الحنفية، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر أحد فكان إجماعا. (5)
- أنها كالحربية والاسترقاق مشروع في الحربيات .
ولأبي حنيفة (في النوادر: أنه لما جعل المرتد بمنزلة حربي مقهور لا أمان له، كذلك المرتدة بمنزلة حربية مقهورة لا أمان لها فتسترق وإن كانت في دارنا. (6)
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة: 6/483، رقم 33125.
(2) فيض القدير شرح الجامع الصغير:عبد الرؤوف المناوي ج 5/95،المكتبة التجارية الكبرى - الطبعة الأولى، 1356 هـ .
(3) المبسوط: 10/110، شرح فتح القدير: 6/72.
(4) شرح فتح القدير: 6/72، العناية على الهداية: 6/72.
(5) المبسوط:10/111.
(6) المبسوط: 10/111.(9/34)
- أنه لا يجوز إبقاء الكافر على الكفر إلا مع الجزية أو مع الرق، ولا جزية على النساء، فكان إبقاؤها على الكفر مع الرق أنفع للمسلمين من إبقائها من غير شيء. (1)
استدل أصحاب الرأي الثالث بالآثار والمعقول:
أما السنة:فقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس. (2)
وجه الدلالة: أن الكفر بعد الإيمان وهو الردة سبب في قتل من صدر منه، دون تفريق بين رجل أو امرأة إذ اللفظ عام.
- قوله - صلى الله عليه وسلم - " من بدل دينه فاقتلوه " (3)
وجه الدلالة: هذا الحديث نص في قتل كل من بدل دينه، وهو عموم يشمل كل من بدل دينه رجلا كان أو امرأة، إذ اللفظ جاء بمن، وهي من ألفاظ العموم، وقال في الإمام الشوكاني ( ".... هذا عام يخص من بدله في الباطل ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر؛ فإنه تجري عليه أحكام الظاهر ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر ولكن مع الإكراه ". (4)
- وما جاء عن جابر - رضي الله عنه - أن امرأة يقال لها: أم مروان ارتدت عن الاسلام فبلغ أمرها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" (5)
- أما الآثار:
- فما روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - قتل أم فرقة الفزارية قتل مُثله، شد رجليها بفرسين ثم صاح بهما فشقاها.
أما المعقول من وجوه:
أ – أن المرأة قد اعتقدت دينا باطلا بعدما اعترفت ببطلانه ،فتقتل كالرجل؛ وهذا لأن القتل جزاء على الردة. (6)
ب – أن جناية الرجل مبيحة للقتل من حيث أنها جناية متغلظة، وهي جناية الكفر، وجناية المرأة تشاركه فيها، فتشاركه في موجبها. (7)
__________
(1) بدائع الصنائع: 7/136.
(2) صحيح: سبق تخريجه.
(3) صحيح: سبق تخريجه.
(4) نيل الأوطار: 7/193.
(5) ضعيف: سبق تخريجه.
(6) المبسوط: 10/109.
(7) شرح فتح القدير: 6/71.(9/35)
جـ - أن الكفر الأصلي يخالف الكفر الطارئ – الردة – بدليل أن الرجل يقر عليه ولا يقتل الشيوخ ولا المكافيف، ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس بخلاف الطارئ. (1)
د – أن القتل جزاء على الردة؛ لأن الرجوع عن الإقرار بالحق من أعظم الجرائد، ولهذا كان قتل المرتد من خالص حق الله تعالى، وما يكون من خالص حق الله فهو جزاء، وفي أجزية الجرائم الرجال والنساء سواء، كحد الزنا والسرقة وشرب الخمر، وبهذا يتبين أن الجناية بالردة أغلظ من الجناية بالكفر الأصلي. (2)
المناقشة
نوقشت أدلة الرأي الأول بما يلي:
- أن الأحاديث التي تدل على النهي عن قتل النساء، فالمراد به المرأة الكافرة الأصلية.
- أن قياس المرأة المرتدة، على المرأة الكافرة الأصلية قياس مع الفارق، إذ الكافرة الأصلية تقر على ذلك ولا تجبر على الدخول في الإسلام بخلاف المرتدة، وكذلك بالأعمى والزمن لا يقتلون بالكفر الأصلي ويقتلون بالردة. (3)
- القول بأن الأجزية المشروعة في هذه الدار ما هي إلا لمصالح تعود إلينا، وقتل الرجل يكون لدفع شر حرابة، لا جزاء على كفره، وليس كذلك المرأة لأنها لا تسطيع المحاربة ،هذا القول غير مسلم؛ لأنه ليس المقصود منقتل الرجل دفع شر حرابة، بل المقصود بقتله غاية أسمى وهي صيانة الدين عن الانتهاك والتلاعب، وهذا يتأتى من المرأة كالرجل فوجب أن يكون حكمهما واحد.
نوقشت أدلة الرأي الثاني بما يلي:
- ما روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - من أنه استرق نساء بني حنيفة، لم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام، ولم يكن بنو حنيفة قد أسلموا كلهم، وإنما أسلم بعضهم.
والظاهر أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على إسلامه مثل ثمامة بن أثال - رضي الله عنه -، ومنهم من ارتد مثل الدجال الحنفي. (4)
__________
(1) الشرح الكبير: 10/4، المغني: 10/25.
(2) المبسوط: 10/109.
(3) الحاوي الكبير:13/157.
(4) المغني والشرح الكبير:10/25.(9/36)
نوقشت أدلة الرأي الثالث بما يلي:-
بالنسبة لحديث من بدل دينه فاقتلوه فهو لحقه خصوص، وهو النهي من قتل النساء، فيخص ويحمل على الرجال. (1)
وقد أجيب عن هذا: بأن النهي إنما جاء في الكافرات الأصليات لا المرتدات.
- وما جاء عن الصديق - رضي الله عنه - فهو محمول على وجهين:
أ - أنه يحتمل أنه كان ذلك من الصديق - رضي الله عنه - بطريقة المصلحة والسياسة، كما أمر بقطع أيدي النساء اللاتي ضربن من الدف لموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإظهار الشماتة. (2)
ب – أو أن هذه المرأة كانت مقاتلة وتحرض على القتال، وأم فرقة هذه كان لها ثلاثون ابناً، وكانت تحرضهم على قتال المسلمين ، ففي قتلها كسر لشوكتهم. (3)
- ونوقش ما جاء عن السيدة عائشة رضى الله عنها من أن امرأة ارتدت يوم أحد، بأنه حديث ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن عبد الملك وهو متهم بوضع الحديث. (4)
الرأي الراجح
بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم ومناقشة الأدلة، فما تطمئن النفس إلى ترجيحه هو رأي القائلي:ن بأنه لا فرق بين الرجل والمرأة في القتل بالردة ،وذلك للأسباب الآتية:
- أن المرأة كالرجل في سائر الحدود فكذا في الردة.
- أنه لا دليل على تعين القتل في الرجل دون المرأة.
- أن الأدلة الواردة بحرمة الردة وعقابها أدلة عامة لم تخصص فيعمل بها على عمومها.
__________
(1) المبسوط:10/110.
(2) المرجع السابق: 10/110.
(3) المبسوط: 10/110.
(4) نصب الراية: 3/455.(9/37)
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
أولا :كتب التفسير وعلوم القرآن
ـ أحكام القرآن:
لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ت 543هـ. ط دار الفكر العربي.
ـ أحكام القرآن:
للإمام أبى أحمد بن على الرازى الجصاص الحنفى، ت370هـ - ط دار الفكر،الطبعة الأولى 1421هـ /2001.
ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:
محمد الأمين الشنقيطي. ط مكتبة ابن تيمية 1992.
ـ إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم:
لمحمد بن محمد العمادي أبو السعود ت 951 هـ.ط دار إحياء التراث العربي – بيروت.
ـ تفسير القرآن العظيم:
إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي أبو الفداء ت 774هـ. ط دار الفكر 1401 هـ.
ـ الجامع لأحكام القرآن:
لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي أبو عبد الله. ط دار الشعب. وأخري ط دار الحديث، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي 2002
ـ روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن:
محمد على الصابوني.ط دار السلام الطبعة الأولى 1995.
ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني:
لأبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي أبو الفضل البغدادي، تصحيح:محمد حسين العرب . ط دار الفكر 1997.
ـ مفاتيح الغيب:
للإمام فخر الدين الرازي ت 604هـ. ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولي 1421.وأخرى: ط دار الغد العربي. الطبعة الأولى 1992.
ـ الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز، وما فيه من الفرائض والسنن:
لأبي عبيد الله القاسم بن سلام الهروي،ت 224 هـ، تحقيق:محمد بن صالح المديفر.ط مكتبة الرشد، الطبعة الثانية 1997.
ثانياً: كتب الحديث وعلومه.
إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل:
محمد ناصر الدين الألباني.ط المكتب الإسلامي - بيروت، الطبعة الثانية 1405 - 1985.
تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير:
لأحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني ت 852 هـ. طدار المعرفة ـ بيروت.
حاشية ابن القيم:(10/1)
لمحمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي أبو عبد الله ت 751هـ.ط دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1415 هـ /1995
الدراية في تخريج أحاديث الهداية:
لأحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني ت 852 هـ. ط دار المعرفة ـ بيروت.
السلسلة الضعيفة:
للعلامة محمد ناصر الدين الألباني. ط مكتبة المعارف ـ الرياض.
سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام:
للإمام محمد بن إسماعيل الكحلاني الصنعاني ت 1182 هـ. ط دار الفكر.
سنن ابن ماجه:
محمد بن يزيد أبو عبدالله القزويني ت275 هـ ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. ط دار الفكر .
سنن أبي داود:
سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي ت 275 هـ، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.ط دار الفكر.
سنن البيهقي الكبرى:
للإمام أبى بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقى، ت 458 هـ. ط مكتبة دار ابن باز - مكة المكرمة 1414 هـ 1994.
سنن الترمذي:
محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي السلمي ت279 هـ،تحقيق: أحمد محمد شاكر.ط دار إحياء التراث العربي - بيروت.
سنن الدار قطنى:
للإمام أبى الحسن على بن محمد بن عمر الدارقطنى البغدادى، ت 385 هـ. ط دار المعرفة – بيروت 1386 هـ 1966 م.
سنن الدارمي:
عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد الدارمي، تحقيق: فواز أحمد زمرلي , خالد السبع العلمي ،ط دار الكتاب العربي - بيروت. الطبعة الأولى 1407هـ.
سنن النسائي:
أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق:د/ عبد الغفار البنداري. ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411 هـ /1991.
شرح الزرقاني على موطأ مالك:
لسيدي محمد الزرقاني .ط دار المعرفة 1981.
شرح السنة :
لأبي محمد الحسين بن مسعود البغوي ت 516 . ط دار الفكر 1414 هـ /1994
شرح معاني الآثار:
لأحمد بن محمد بن سلامة بن عبدالملك بن سلمة أبو جعفر الطحاوي ت321 هـ،تحقيق: محمد زهري النجار. ط دار الكتب العلمية - بيروت،الطبعة الثانية 1987.
شعب الإيمان:(10/2)
لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، تحقيق: محمد السعيد زغلول. ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1410هـ.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان:
محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي البستي ت 354 هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.ط مؤسسة الرسالة - بيروت، الطبعة الثانية، 1414 - 1993.
صحيح ابن خزيمة:
محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري ت 311هـ، تحقيق: د. محمد مصطفى الأعظمي. ط المكتب الإسلامي - بيروت، 1390 - 1970.
صحيح البخاري:
محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ت 256 هـ، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. ط دار ابن كثير - بيروت، الطبعة الثالثة، 1407 - 1987.
صحيح مسلم:
مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري ت261 هـ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. ط دار إحياء التراث العربي - بيروت.
طرح التثريب:
لعبد الرحيم بن الحسين العراقي.ط دار إحياء الكتب العربية.
عمدة القاري:
لبدر الدين محمود بن أحمد العيني ،ت855هـ . ط دار إحياء التراث ـ بيروت .
عون المعبود شرح سنن أبي داود:
محمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب.ط دار الكتب العلمية.الطبعة الثانية 1415هـ .
فيض القدير شرح الجامع الصغير:
عبد الرؤوف المناوي.ط المكتبة التجارية الكبرى - مصر،الطبعة الأولى، 1356
اللؤلؤ المرجان فيما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم:
لمحمد فؤاد عبد الباقي , طبعة دار الحديث , د ت.
مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:
للإمام نور الدين على بن أبى بكر الهيثمى، المتوفى سنة 807 هـ. ط دارالفكر 1412 هـ.
المستدرك على الصحيحين:
للإمام أبى عبد الله محمد بن عبد الله، المعروف بالحاكم النيسابورى، المتوفى سنة 405هـ. ط دار الكتب العلمية – بيروت – ط الأولى 1411 هـ 1990 م.
مسند الإمام أحمد بن حنبل:
أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني. ط مؤسسة قرطبة - القاهرة.
مسند الشافعي:
محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي. طبعة دار الكتب العلمية.(10/3)
مصنف ابن أبي شيبة :
أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: كمال يوسف الحوت.ط مكتبة الرشد - الرياض،الطبعة الأولى، 1409.
مصنف ابن أبي شيبة :
أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: كمال يوسف الحوت.ط مكتبة الرشد - الرياض،الطبعة الأولى، 1409.
مصنف عبد الرزاق:
لأبي بكر عبد الرزاق بن نعمان الصنعاني ت 211هـ، تحقيق:حبيب الرحمن الأعظمي،.طبعة المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1403 هـ.
المعجم الكبير:
سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي. ط مكتبة العلوم والحكم - الموصل،الطبعة الثانية، 1404 -1983.
المنتقى شرح الموطأ:
للقاضى أبى الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب الباجى الأندلسى ت 494 هـ. ط دار الكتاب الإسلامى، الطبعة الثانية.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج:
أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري النووي.ط دار إحياء التراث العربي - بيروت.الطبعة الثانية 1392 هـ.
نصب الراية الراية لأحاديث الهداية:
للعلامة جمال الدين أبي محمد عبدالله بن يوسف الحنفي الزيلعي ت 762 هـ.ط دار الحديث
النهاية في غريب الحديث والأثر:
أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي. ط المكتبة العلمية - بيروت، 1399هـ - 1979م
نيل الأوطار:
لمحمد بن على الشوكاني: طبعة دار التراث.
ثالثاً:كتب الفقه.
أولاً: كتب الفقه الحنفي:
الاختيار لتعليل المختار:
لعبد الله بن محمود الموصلي. ط دار المعرفة،الطبعة الثالثة1975.
البحر الرائق شرح كنز الدقائق:
لزين الدين بن نجيم الحنفي. ط دار المعرفة، الطبعة الثالثة 1993.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع:
للإمام علاء الدين أبى بكر بن مسعود الكاسانى، ت 587 هـ. دار الكتب العلمية– بيروت – ط الثانية 1986 م.
ـ تحفة الفقهاء:
محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي،ت539 هـ .ط دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى 1405هـ.(10/4)
حاشية رد المحتار على الدر المختار:
محمد أمين بن عابدين. ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1994
الدر المختار شرح تنوير الأبصار:
محمد علاء الدين بن علي بن محمد المعروف بالحصكفي، ط دار الكتب العلمية، ط الأولى 1994.
شرح العناية علي الهداية:
لأكمل الدين محمد بن محمود البابرتي ت 786 هـ. ط دار الفكر، الطبعة الثانية، 1397هـ مطبوع مع شرح فتح القدير.
شرح فتح القدير:
كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي ت 681، ط دار الفكر. الطبعة الثانية، 1397هـ
الفتاوى الهندية:
لجنة علماء برئاسة نظام الدين البلخي.ط دار الفكر.
مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر:
للفقيه المحقق عبد الله بن الشيخ محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي. ط دار إحياء التراث العربي
الهداية شرح بداية المبتدي:
أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل المرغيناني ت 593 هـ، ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1990.
ثانياً: كتب الفقه المالكي:
الاستذكار:
للإمام أبى عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمرى الأندلسى، ت463هـ. ط دار الكتب العلمية 1421هـ/ 2000 م .
أسهل المدارك شرح إرشاد السالك:
جمع أبو بكر حسن الكشناوي. ط دار الكتب العلمية ـ بيروت 1995.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
للقاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي ت 595 هـ، تحقيق: الشيخ علي معوض. ط دار الكتب العلمية. الطبعة الأولى 1998
التاج والإكليل :
لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري ت 897 هـ . ط دار الفكر .
تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام:
للقاضي برهان الدين إبراهيم بن على بن أبي القاسم ابن محمد بن فرحون المالكي.ط مكتبة الكليات الأزهرية , الطبعة الأولى 1986
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد:(10/5)
لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البرالنمري، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي , محمد عبد الكبير البكري. ط وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية 1387 هـ.
جواهر الإكليل شرح مختصر العلامة الشيخ خليل:
للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري. ضبط محمد عبد الغعزيز الخالدي. ط دار الكتب العلمية , الطبعة الأولى 1997م.
حاشية الخرشي:
للإمام محمد بن عبد الله بن على الخرشي المالكي ت 1101هـ علي مختصر سيدي خليل ت 767هـ. ط دار الكتب العلمية الطبعة الأولي 1997
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير:
للعلامة محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي ت1230 هـ. ط دار الكتب العلمية.
الذخيرة:
لشهاب الدين أحمد بن محمد بن إدريس القرافي،ت 684هـ تحقيق محمد بوخبزة , دار الغرب الإسلامي , الطبعة الأولى 1994م.
الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك:
لأبي البركات أحمد بن محمد بن أحمد الدردير , دار المعارف المصرية 1974.
ـ شرح حدود ابن عرفة:
لمحمد بن قاسم الرصاع.ط المكتبة العلمية
عيون المجالس.
للقاضى عبد الوهاب بن على بن نصر البغدادى ت 422هـ، تحقيق:امباي بن كييا كاه. ط مكتبة الرشد – الرياض – الطبعة الأولى 1421هـ 2000 م.
فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبدالبر على موطأ الإمام مالك:
ترتيب وتحقيق مصطفى صميدة، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418هـ./1998م.
الكافي (في فقه أهل المدينة المالكي):
للعلامة الحافظ أبي عمر يوسف بن عبدالله بن عبد البر النمري القرطبي ت 463 هـ، ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1407هـ
الكواكب الدرية في فقه المالكية:
لمحمد جمعه عبد الله:ط المكتبة الأزهرية , ط الخامسة 1990.
المدونة الكبرى:
رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن قاسم . ط دار الفكر. وأخرى ط دار صادر.
المعونة على مذهب الإمام مالك عالم المدينة:(10/6)
لأبي محمد عبد الوهاب على بن نصر المالكي ت 422 هـ: تحقيق: محمد حسن إسماعيل. دارالكتب العلمية, الطبعة الأولى 1998.
منح الجليل شرح مختصر خليل:
للشيخ محمد عليش. ط دار الفكر – بيروت – الطبعة الأولى 1404 هـ 1984 م.
مواهب الجليل شرح مختصر خليل:
لأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغربي المعروف بالحطاب ت 954 هـ. ط دار الفكر بيروت
ثالثاً:كتب الفقه الشافعي:
أسنى المطالب شرح روض الطالب
للإمام القاضى شيخ الإسلام أبى يحيى زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصارى ت 926 هـ. ط دار الكتاب الإسلامى.
إعانة الطالبين:
للشيخ أبى بكر السيد البكرى بن السيد محمد شطا الدمياطى. ط دار الفكر – بيروت.
الأم:
للإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ت 204 هـ.ط دار المعرفة بيروت الطبعة الثانية 1393 هـ.
البيان في مذهب الإمام الشافعي:
لأبي الحسين يحيي بن أبي الخير سالم العمراني الشافعي , ت 558هـ دار المنهاج للطباعة والنشر.
تحفة المحتاج بشرح المنهاج:
لشيخ الإسلام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن حجر الهيثمي ت 974 هـ، ضبط وتصحيح:عيد محمود محمد عمر. ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2001.
تكملة المجموع شرح المهذب:
محمد نحيب المطيعي. ط مكتبة الإرشاد جدة.
التهذيب فى فقه الإمام الشافعى:
للإمام أبى محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوى ت516 هـ،تحقيق:علي معوض،عادل أحمد عبد الموجود. ط دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 1418هـ 1997 م.
حاشية العلامة إبراهيم البرماوي على شرح الغاية لابن القاسم الغزي:
طبعة محمد أفندي مصطفى 1314هـ.
حاشية العلامة إبراهيم البيجوري:
دار الطباعة الكبرى المصرية , الطبعة الثانية 1280هـ.
الحاوي الكبير:
لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي ، ت 450 هـ ،تحقيق الشيخ علي معوض،الشيخ عادل عبد الموجود. ط دار الكتب العلمية،الطبعة الأولي 1994.(10/7)
ـ حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء :
محمد بن أحمد الشاشي القفال ت 507 هـ، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم درادكة. ط مؤسسة الرسالة , دار الأرقم ـ بيروت , الطبعة الأولى1400 هـ،وأخرى. ط مكتبة الرسالة الحديثة، الطبعة الأولى 1998
روضة الطالبين وعمدة المفتين :
للإمام النووي . ط المكتب الإسلامي
المجموع شرح المهذب:
للإمام أبى زكريا محى الدين يحيى بن شرف النووى، المتوفى سنة 676 هـ. ط المنيرية.
مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى:
لمصطفى السيوطي الرحيباني، طبع على نفقة على بن عبد الله آل ثاني، حاكم قطر، منشورات المكتب الإسلامي.
مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج:
لشمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشربيني،تحقيق:علي معوض، عادل عبد الموجود.ط دار الكتب العلمية.
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج:
للإمام شمس الدين محمد بن أبى العباس بن أحمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملى المصرى، المتوفى سنة 1004 هـ.ط دار الفكر.
الوسيط:
لحجة الإسلام الإمام محمد بن محمد الغزالى ت 505 هـ، تحقيق: أحمد محمود إبراهيم، محمد محمد تامر. ط دار السلام – القاهرة - الطبعة الأولى 1417 هـ/ 1997 م.
رابعا ً: كتب الفقه الحنبلي :
ـ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف:
لعلى بن سليمان المروادي ت 885 هـ .ط دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى1998.
ـ الروض المربع بشرح زاد المستقنع:
للإمام منصور بن يونس البهوتى، ت 1051 هـ، تحقيق: أحمد محمد شاكر . ط دار الحديث.
ـ الشرح الكبير:
للإمام شمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد قدامة المقدسي , ت 682 دار الغد العربي 1995.
ـ الكافي (في فقه أحمد بن حنبل)) :
لموفق الدين أبي محمد عبدالله بن أحمد بن قدامة المقدسي ،تحقيق:إبراهيم أحمد عبد الحميد. ط عيسى البابي الحلبي.
ـ كشاف القناع عن متن الإقناع:
منصور بن يونس البهوتي، طبعة عالم الكتب 1983.وأخرى، طبعة دار الفكر 1402
ـ كشاف القناع عن متن الإقناع:(10/8)
للشيخ العلامة فقيه الحنابلة منصور بن يونس بن إدريس البهوتي راجعه وعلق عليه الشيخ هلال مصيلحي مصطفى هلال. ط عالم الكتب
ـ المبدع شرح المقنع:
لابن المفلح الحنبلي. ط دار الكتب العلمية. الطبعة الأولى 1997.
ـ المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل:
للإمام مجد الدين أبي البركات ت 652 هـ. ط مكتبة المعارف، الطبعة الثانية 1984.
ـ المغني و الشرح الكبير:
لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ت 620 هـ. ط دار الغد العربي 1995.وأخرى:المغني: ط دار البصائر .
نيل المآرب شرح دليل الطالب:
للإمام عبد القادر بن عمر التغلبي الشيباني، ط عيسي الحلبي.
خامساً: كتب الفقه الظاهري:
المحلى بالآثار:
لأبي محمد على بن أحمد الأندلسي، ت 456 هـ: تحقيق د/عبد الغفار البنداري.ط دار الكتب العلمية 1998.
سادساً: كتب الفقه المقارن:
ـ الإجماع :
لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر ت 318هـ ،تحقيق / فؤاد عبد المنعم أحمد ،ط دار الدعوة الإسكندرية ، الطبعة الثالثة 1402هـ .
ـ الإفصاح عن معاني الصحاح في الفقه على المذاهب الأربعة:
للوزير عون الدين يحيي بن محمد بن هبيرة. ط دار الكتب العلمية بيروت،الطبعة الأولى 1996.
ـ الإقناع في مسائل الإجماع :
للإمام الحافظ أبي الحسن القطان ت 628 هـ ، تحقيق :حسن فوزي الصعيدي . ط دار الفاروق الحديثة .الطبعة الأولى 1424 هـ/2004 م.
ـ رحمة الأمة في اختلاف الأئمة:
لأبي عبدالله محمد بن عبدالرحمن العثماني الدمشقي ت 780 هـ، تحقيق:علي الشربجي ، قاسم النوري. ط مؤسسة الرسالة ، الطبعة الأولى.
ـ مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات:
علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد ت 456 هـ . ط دار الكتب العلمية. 1404
ـ الميزان الكبرى الشعرانية:
لأبي المواهب عبد الوهاب بن أحمد بن علي بن أحمد الشافعي المصري المعروف بالشعراني، ت 973 هـ، ط دار الكتب العلمية،الطبعة الأولى 1998م.(10/9)
رابعاً: كتب أصول الفقه والفقه العام.
ـ الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي:
علي بن عبد الكافي السبكي،ت 756 هـ .ط دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى.
ـ الإحكام في أصول الأحكام:
لسيف الدِّين علي بن أبي علي الآمدي ت 631 هـ، تحقيق:د/ سيد الجميلي.ط دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ
ـ إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول:
محمد بن علي بن محمد الشوكاني ت 1250هـ ، ط دار الفكر، الطبعة: الأولى1412 - 1992
ـ الأشباه والنظائر على مذهب الإمام أبو حنيفة:
لزين الدين بن إبراهيم بن نجيم الحنفي، تحقيق عبد الكريم الفضيلي.ط المكتبة العصرية الطبعة الأولى 1998.
ـ الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية:
لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت 911هـ: طبعة دار الكتب العلمية , الطبعة الأولى 1983
ـ أصول السرخسي:
لمحمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أبو بكر ت 490 هـ، تحقيق: أبو الوفا الأفغاني.ط دار المعرفة 1372
ـ إعلام الموقعين عن رب العالمين:
لإبن قيم الجوزية،تحقيق:عصام الدين الصبابطي. ط دار الحديث، الطبعة الأولى 1993.
ـ البرهان في أصول الفقه:
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي، ت 478 هـ تحقيق:عبد العظيم الديب. ط الوفاء المنصورة.
ـ حاشية تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية:
لمحمد على بن حسين المكي المالكي. مطبوع بهامش كتاب الفروق.
ـ حجة الله البالغة:
لولي الله بن عبد الرحيم المحدث الدهلوي .ط دار التراث.
الفروق:
لشهاب الدين أبوالعباس أحمد القرافي، بهامشه «إدرار الشروق» لابن الشّاط،.ط عالم الكتب بيروت.د.ت
الروضة الندية شرح الدررالبهية:
لأبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري، تعليق:محمد صبحي حسن خلاق. ط مكتبة الكوثر للنشر والتوزيع، الطبعة الخامسة 1418 هـ /1997.
الزواجر عن اقتراف الكبائر:(10/10)
لأحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي. ط دار الفكر.
ـ الموافقات في أصول الشريعة:
لأبي إسحاق ٍ الشاطبي. ط دار المعرفة ـ بيروت الطبعة الأولى 1994.
خامساً:كتب العقيدة.
ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل:
لابن حزم الأندلسي ت 456 هـ. ط مكتبة الخانجي، القاهرة.
سادساً: كتب اللغة..
ـ التعريفات:
لعلي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني ت 816 هـ، تحقيق: محمد باسل. ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000.
ـ القاموس المحيط:
محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي، طبعة دار إحياء التراث العربي. بيروت، الطبعة الأولى 1997.
ـ لسان العرب:
للإمام أبى الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور. ط دار صادر. الطبعة الأولى.
ـ مختار الصحاح:
محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ت 721 هـ، تحقيق: محمود خاطر.ط:مكتبة لبنان – بيروت 1415 /1995.وأخرى ط دار الحديث.
ـ المصباح المنير فى غريب الرافعى الكبير:
للإمام أحمد بن محمد بن على الفيومى المقرئ. ط دار الحديث – القاهرة – الطبعة الأولى 2000 م
ـ المعجم الوسيط:
مجمع اللغة العربية. الطبعة الثالثة، د.ت
ـ معجم لغة الفقهاء :
محمد رواس قلعجي، حامد صادق قنيبي . ط دار النفائس ، الطبعة الثانية 1408هـ/1988
ـ معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع:
عبد الله بن عبد العزيز البكري الأندلسي أبو عبيد ت 487 هـ، تحقيق: مصطفى السقا.ط دار الكتب، الطبعة الثالثة1403 هـ.
سابعاً: كتب التاريخ والتراجم.
ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب:
للعلاّمة الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبدالبر النميري القرطبي ت463 هـ.ط دار الجيل، الطبعة الأولى 1412هـ /1992.
ـ الإصابة فى تمييز الصحابة:
للإمام أحمد بن على ببن حجر العسقلانى ت 852 هـ. ط دار الجيل، الطبعة الأولى 1412هـ / 1992.
ـ البداية والنهاية:
اسماعيل بن عمر بن كثير ت 774 هـ:12/91، ط مكتبة المعارف.
ـ تقريب التهذيب:(10/11)
لأحمد على الشهير بابن حجر العسقلاني , تحقيق خليل مأمون شيحة , دار المعرفة بيروت الطبعة الثانية 1997
ـ تهذيب التهذيب:
للإمام ابن حجر العسقلانى ت 852 هـ. ط دار الفكر، الطبعة الأولى 1404 هـ /1994
ـ الثقات:
لمحمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم التميمي السبتي. تحقيق السيد شرف الدين.ط دار الفكر , الطبعة الأولي 1395/1975.
ـ سير أعلام النبلاء:
محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ت 748هـ، ط مؤسسة الرسالة،الطبعة التاسعة.
ـ طبقات الفقهاء:
لإبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ت 476 هـ.ط دار القلم ـ بيروت.
ـ طبقات الحفاظ:
لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت 911هـ:1/435، ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1403،.
ـ طبقات الشافعية:
لأبي بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبه. ط عالم الكتب، الطبعة الأولى 1407 هـ.
ـ فهارس المحلى لابن حزم:
إعداد أشرف بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، طبعة مكتبة السنة، الطبعة الأولى 1414 هـ /1994.
ـ الفهرست:
لمحمد بن إسحاق أبو الفرج بن النديم ت 385هـ.ط دار المعرفة.
ـ الكامل في ضعفاء الرجال:
لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، ت 365 هـ،دار الفكر، الطبعة الثالثة 1409هـ/ 1988.
ـ لسان الميزان:
أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني،الناشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت،الطبعة الثالثة، 1406 - 1986.
ـ المعجب:
لعبد الواحد المراكشي، تحقيق محمد سعيد العريان، ط مطبعة الاستقامة، الطبعة الأولى 1368 .
ـ مرآة الجنان:
عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي ت 768هـ:3/79، ط دار الكتاب الإسلامي.
ـ معجم الأدباء:
لأبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي.ط دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411
ـ معجم فقه ابن حزم:
لمحمد المنتصر الكتائي، منشورات مكتبة السنة بالقاهرة، الطبعة الأولى 1414 هـ.
ـ مقدمة المحلى:
تحقيق الشيخ أحمد شاكر، طبعة دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى 1997(10/12)
ـ نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب:
لأحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق إحسان عباس. ط دار صادر 1388
ـ الوافي بالوفيات:
صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، تحقيق أحمد الارناؤط، ط دار إحياء التراث.
ـ وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان:
لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلٍّكان ت 681 هـ،تحقيق إحسان عباس، طبعة دار الثقافة.
ثامناًً: الكتب الحديثة والمعارف العامة.
ـ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني ، شيخ الإسلام، ت728 هـ ،الصارم المسلول على شاتم الرسول، تحقيق: محمد عبد الله عمر الحلواني , محمد كبير أحمد شودري،،طبعة دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأولى.
ـ أحمد عبد المنعم البهي ، دكتور، من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون، ط دار الفكر العربي، الطبعة الأولى 1965,.
ـ أحمد فتحي بهنسي ، دكتور، نظرية الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي، ط دار الشروق، الطبعة الخامسة 1989.
ـ السيد صادق المهدي ، العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي.ط الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولى 1987.
ـ إبراهيم بن محمد الفائر، الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي, الطبعة الثانية 1983 المكتب الإسلامي.
ـ جبر محمود الفضيلات دكتور، سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي، طبعة دار عمار 1987.
ـ خالد محمد مكي الخويلدي ، ولا تقربوا الزنا، طبعة دار البيان العربي 1993
ـ عبد القادر عودة ،التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي ،ط مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة عشر 1994.
ـ كمال بن السيد سالم أبو مالك، صحيح فقه السنة وأدلته، ط دار الكتب التوفيقية.
ـ محمد إبراهيم محمد ، القاضي، مسقطات العقوبة الحدية، ط دار الأصالة للصحافة والنشر، الطبعة الأولى 1989.
ـ محمد أبو حسان .محامي ، أحكام الجريمة والعقوبة في الشريعة الإسلامية: . ط مكتبة المنار. الطبعة الأولى 1997م.(10/13)
ـ محمد أبو زهرة، دكتور، تاريخ المذاهب الإسلامية، ط دار الفكر العربي.
ـ محمد أبو زهرة، دكتور، ابن حزم حياته وعصره، ط دار الفكر العربي
ـ محمد إسماعيل أبو الريش ، دكتور ،جريمة قطع الطريق و أثرها في تشديد العقوبة . ط مطبعة الأمانة ، الطبعة الأولى 1411 ـ1990.
ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، حقائق الإسلام في مواجهة المشككين، طبعة القاهرة
تاسعاً: الرسائل العلمية.
ـ الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الجمهور في العبادات والمعاملات:
محمد منصور، رسالة دكتوراه، جامعة الأزهر،كلية الشريعة والقانون بطنطا 2004 هـ
ـ جريمة السرقة وعقوبتها في الشريعة الإسلامية:
أحمد حامد سبع، رسالة دكتوراه، إشراف د/محمد أنيس عبادة، شريعة القاهرة، 1398 هـ / 1978.
ـ جريمة الخروج على السلطة السياسية في الفقه الإسلامي :
رسالة دكتوراه، للباحث مصطفى الدسوقي لبشتين، شريعةأسيوط 1990
ــ الشبهات وأثرها في العقوبة الجنائية في الفقه الإسلامي:
منصور محمد الحفناوي، رسالة دكتوراه، جامعة القاهرة، كلية دار العلوم.1980
عاشراً: المجلات والأبحاث.
ـ إيناس عباس إبراهيم ،دكتور، الجناية على الدين ، وأحكام المرتدين ،بحث منشور في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية ـ بجامعة الكويت ، السنة الخامسة ، العدد العاشر ، شعبان 1408 هـ / أبريل 1988
ـ سعد محمد حسن أبو عبده، دكتور، جريمة القذف وعقوبتها في الفقه الإسلامي، كلية الشريعة والقانون بأسيوط ، 1993/1994.
ـ سهير فؤاد إسماعيل ،دكتور ، البغي وأحكامه في الشريعة الإسلامية، بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والقانون بطنطا، العدد السادس عشر، الجزء الثاني، عام 2003 م.
ـ عبد الحسيب رضوان(. دكتور، حرية الاعتقاد وعقوبة الردة في الإسلام الردة، بحث مستل من حولية كلية الشريعة والقانون بدمنهور، العدد الرابع عشر، الجزء الأول 1999،(10/14)
ـ عبد الفتاح أبو العينين ، دكتور ، السرقة الموجبة للقطع في الفقه الإسلامي،طالأمانة ، 1403/01983
ـ عبد الفتاح محمد فايد ،دكتور، الحرابة في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة: بحث منشور في المجلة العلمية لكلية الشريعة والقانون بطنطا، العدد التاسع، الجزء الثاني، 1418 هـ/ 1998.
ـ محمد حسين قنديل ، دكتور ،إثبات الزنا بين الشريعة والقانون ،بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والقانون بدمنهور ، العدد الثامن عشر . الجزء الأول ، عام 1424هـ / 2003 م
ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت الموسوعة الفقهية.(10/15)
فهرس المحتويات
الموضوع رقم الصفحة
الفصل التمهيدي..................................................................................................................... 1
المبحث الأول: المذهب الظاهري ................................................................................................2
المطلب الأول: التعريف بالمذهب الظاهري..............................................................................3
المطلب الثاني: نبذة موجزة عن مؤسس المذهب داود الظاهري..............................................3
المطلب الثالث: نبذة موجزة عن ناشر المذهب ابن حزم الأندلسي.........................................5
المبحث الثاني: مدخل للحدود ..............................................................................................13
المطلب الأول: تعريف الحد لغة واصطلاحاً........................................................................13
المطلب الثاني: حكمة مشروعية الحدود..........................................................................15
الفصل الأول
حد الزنا
التمهيد............................................................................................................................20 -21
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية المذاهب الأربعة في حد الزنا.................22
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية المذاهب الأربعة في حد الزنا.............24
المسألة الأولى: درء الحدود بالشبهات..................................................................................24
المسألة الثانية : تكرر فعل الزنا .......................................................................................31(11/1)
المسألة الثالثة: إقامة الحدود في المساجد.........................................................................35
المسألة الرابعة: الوطء في نكاح مختلف فيه..................................................................38
المسألة:الخامسة: حد الحر والحرة المحصنين.................................................................40
المسألة السادسة : حد المملوك (العبد و الأمة). ..............................................................47
المسألة السابعة:جلد المريض في الحدود......................................................................54
المسألة الثامنة:صفة الضرب في الحدود وبأي شيء يكون........................................60
المسألة التاسعة: الرجوع عن الإقرار بما يوجب الحد...................................................63
المسألة العاشرة: إقرار العبد بما يوجب الحد................................................................67
المسألة الحادية عشرة: شهادة النساء لإثبات الزنا.........................................................69
المسألة الثانية عشر ة: شهادة أقل من أربعة في الزنا................................................. 72
المسألة الثالثة عشرة: شهادة أربعة بالزنا على امرأة أحدهم زوجها.............................79
المبحث الثالث: الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض المذاهب الأربعة ....................83
المسألة الأولى: أثر التوبة في حد الزنا............................................................................83
المسألة الثانية:الوطء في الدبر........................................................................................90(11/2)
المسألة الثالثة: وطء المحارم.............................................................................................96
المسألة الرابعة: الوطء في النكاح الباطل....................................................................101
المسألة الخامسة: الوطء بالإكراه................................................................................104
المسألة السادسة: وطء البهيمة........................................................................................107
المسألة السابعة: الاستئجار على الزنا..............................................................................112
المسألة الثامنة: حد الحر والحرة غير المحصنين..............................................................115
المسألة التاسعة: بكم مرة من الإقرار يثبت حد الزنا....................................................123
المسألة العاشرة:شهد أربعة بالزنا على امرأة، وشهد أربع نسوة أنها عذراء.....................129
المسألة الحادية عشرة:أي الأعضاء تضرب في الحدود...................................................131
المسألة الثانية عشرة:كيفية الضرب في الحدود.........................................................134
المسألة الثالثة عشر:كم الطائفة التي تحضر جلد الزاني أو رجمه.............................136
الفصل الثاني
حد القذف
تمهيد في تعريف القذف...............................................................................................138
المبحث الأول: الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة..................................140
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة................................143(11/3)
المسألة الأولى: النفي عن النسب........................................................................................143
المسألة الثانية:قذف الكافر للمسلم والعكس..............................................................148
المسألة الثالثة: قذف الصغير والمجنون والمكره...............................................................151
المسألة الرابعة: قذف العبيد والإماء...................................................................................156
المسألة الخامسة:قذف الأب ابنه أو أم أبيه........................................................................161
المسألة السادسة: القذف باستخدام الترخيم....................................................................164
المسألة السابعة: صفة حد القذف.....................................................................................167
المسألة الثامنة: العفة عن الزنا............................................................................................172
المبحث الثالث:أحكام وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة ...............................................175
المسألة الأولى: التعريض بالقذف.....................................................................................175
المسألة الثانية: القذف باللواط..........................................................................................182
المسألة الثالثة: قذف جماعة بكلمة واحدة.................................................................184
المسألة الرابعة: قذف جماعة كل شخص على حدة.....................................................187
المسألة الخامسة: عفو المقذوف عن القاذف.......................................................................190(11/4)
المسألة السادسة:توبة المحدود في القذف..........................................................................194
الفصل الثالث
حد السرقة
تمهيد في تعريف السرقة...............................................................................................203 -206
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة....................................207
المبحث الثاني: الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة...............................209
المسألة الأولى: اشتراط الحرز...........................................................................................209
المسألة الثانية:مقدار ما يجب فيه القطع (النصاب).......................................................216
المسألة الثالثة: سرقة الأصول من الفروع.......................................................................225
المسألة الرابعة: سرقة أحد الزوجين من الآخر..............................................................231
المسألة الخامسة: سرقة الصبي.........................................................................................235
المسألة السادسة: النباش...................................................................................................239
المسألة السابعة: السرقة من بيت المال أو من الغنيمة......................................................246
المسألة الثامنة: سرقة المصاحف.......................................................................................250
المسألة التاسعة: سرقة الطير والصيد..............................................................................253(11/5)
المسألة العاشرة: السرقة من الحمام.................................................................................256
المسألة الحادية عشر: سرقة ما يتسارع إليه الفساد......................................................280
المسألة الثانية عشرة: جحد العارية..............................................................................262
المسألة الثالثة عشر: العود في السرقة............................................................................270
المبحث الثالث: الأحكام التي وافق الظاهرية فيها بعض الأئمة.....................................276
المسألة الأولى: سرقة الصليب والصنم.............................................................................276
المسألة الثانية: سرقة الخمر والخنزير............................................................................278
المسألة الثالثة:ضمان العين المسروقة............................................................................283
الفصل الرابع
حد الحرابة
تمهيد في تعريف الحرابة،............................................................................................289 - 293
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في الحرابة.........294
المبحث الثاني: الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة..........................298
المسألة الأولى:التزام أحكام الإسلام في المحارب....................................................................298
المسألة الثانية:ضمان الصبي والمجنون في حد الحرابة.............................................................301
المسألة الثالثة: هل يستوفى حق الآدمي بعد استيفاء حق الله - سبحانه وتعالى -...........................................304(11/6)
المسألة الرابعة:العقوبة في الحرابة هل هي على الترتيب أو على التخيير.؟............................307
المبحث الثالث: الأحكام التي وافق الظاهرية فيها بعض الأئمة ..........................................313
المسألة الأولى: الحكم إن كان في قطَّاع الطريق صبي أو مجنون أو ذي رحم........................313
المسألة الثانية: قطع الطريق في المصر....................................................................................316
المسألة الثالثة: اشتراط القوة والمنعة......................................................................................319
المسألة الرابعة:اشتراط السلاح...............................................................................................321
المسألة الخامسة:اشتراط الذكورة.....................................................................................323
المسألة السادسة: انعدام المكافأة بين المحارب وغيره...........................................................325
الفصل الخامس
حد الخمر
تمهيد في تعريف الخمر ......................................................................................................327 - 332
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في الخمر........................331
المبحث الثاني: الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد الخمر.............333
المسألة الأولى:تكرر شرب الخمر................................................................................333
المسألة الثانية: الخليطان................................................................................................337(11/7)
المسألة الثالثة: الحد الذي يحرم به الشرب.....................................................................341
المسألة الرابعة:إقامة الحد على السكران...................................................................345
المسألة الخامسة:هل يحد الذميّ في شربه الخمر؟........................................................347
المبحث الثالث:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية بعض الأئمة ...................................349
المسألة الأولى: حد شارب الخمر.......................................................................................349
المسألة الثانية: ما يتناوله اسم الخمر من الأشربة............................................................354
المسألة الثالثة:الانتباذ في الأوعية....................................................................................369
الفصل السادس
حد البغي
تمهيد في تعريف البغي................................................................................................372 - 381
المبحث الأول:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد البغي.....................382
المبحث الثاني:الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة الأربعة في حد البغي...................385
المسألة الأولى:ما أصابه الباغي من دم أو مال......................................................................385
المسألة الثانية: حكم قتل العادل لذي رحمه الباغي.......................................................392
المسألة الثالثة: قضاء قاضي أهل البغي................................................................................395
المبحث الثالث:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة ..................................................400(11/8)
المسألة الأولى: حكم الأسير والجريح والمدبر من أهل البغي.............................................400
المسألة الثانية: حكم قتيل أهل البغي...............................................................................405
المسألة الثالثة: حكم استعانة أهل العدل بأهل الذمة على أهل البغي.........................409
المسألة الرابعة: حكم الخروج على الإمام الجائر...............................................................412
الفصل السابع
حد الردة
تمهيد في تعريف الردة، ................................................................................................415 - 417
المبحث الأول : الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة ..........................................418
الأحكام التي خالف فيها الظاهرية الأئمة ........................................................................419
المسألة الأولي: استتابة المرتد ومدتها.................................................................................419
المسألة الثانية: ميراث المرتد................................................................................................426
المسألة الثالثة: وصية المرتد...............................................................................................433
المبحث الثالث:الأحكام التي وافق فيها الظاهرية بعض الأئمة .........................................435
المسألة الأولى:ردة الصبي.......................................................................................................435
المسألة الثانية: ردة السكران.............................................................................................438(11/9)
المسألة الثالثة: حكم من ارتد من كفر إلى كفر...........................................................441
المسألة الرابعة:عقوبة المرتد...............................................................................................444
الخاتمة و أهم نتائج البحث. .................................................................................................449
قائمة الفهارس......................................................................................................................454
قائمة المصادر والمراجع........................................................................................................467
فهرس المحتويات..................................................................................................................486(11/10)
فهرس الآيات
م ... طرف الآية ... رقم الآية ... رقم الصفحة
2- سورة البقرة
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا...} ... 29 ... 2
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا...} ... 104 ... 177
{ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ } ... 125 ... 36
{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ... 173 ... 332
{ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ...} ... 194 ... 388
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ...} ... 194 ... 193
{ 00ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ.} ... 217 ... 416 ،417
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ...} ... 219 ... 328
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا...} ... 229 ... 26 ،145
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء...} ... 235 ... 176
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (...} ... 238 ... 368
{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ...} ... 282 ... 69
{ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} ... 282 ... 69 ،70
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ... 286 ... 55
3-سورة آل عمران
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا} ... 85 ... 443
4- سورة النساء
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن ً ... 11 ... 427
{ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ...} ... 15 ... 43
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ...} ... 15 ... 69 ،79
{ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } ... 16 ... 85
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ } ... 17 ... 86(12/1)
{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء ...} ... 22 ... 99
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ً } ... 24 ... 113 ،114
{ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ... 24 ... 97 ،101
{ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } ... 25 ... 47 ،48 ،49 ،114 ،117 .
{ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ } ... 25 ... 114
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّه ... 34 ... 233
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ...} ... 36 ... 227
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ...} ... 43 ... 328،343 ،438
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.. } ... 59 ... 239
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ ...} ... 135 ... 162
5- سورة المائدة
{ ُأحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ } ... 1 ... 111
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ... 33 ... 17 291،294،299 ،305،309
{جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ... 38 ... 286 ،293
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا ... 38 ... 17 ،32 ،84 ،204 ،205،207 ،208،212،216 ،217،226،229 ،236،240،247 ،248،254،271 ،273 ،274 ،286 ،293
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ...} ... 45 ... 16 ،311
{فاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ َ} ... 48 ... 142
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ...} ... 90 ... 328،330 ،331(12/2)
6- سورة الأنعام
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ...} ... 119 ... 332 ،410
{.. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ...} ... 119 ... 332 ،412
{.. وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ..} ... 151 ... 16 ،94
{ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ ...} ... 164 ... 67 ،383
7- سورة الأعراف
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } ... 158 ... 279
8-سورة الأنفال
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ... 13 ... 292
{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ } ... 38 ... 421
{وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ... 429 ،443
9- سورة التوبة
{ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ } ... 66 ... 135
11-سورة هود
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ... 65 ... 423
15- سورة الحجر
{إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} ... 18 ... 203
16- سورة النحل
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى } ... 90 ... 227
17- سورة الإسراء
{..ُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ... 23 ... 161
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ...} ... 23 ... 225
18- سورة الكهف
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ ... 46 ... 17
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.. (46)} ... 46 ... 17 ،205(12/3)
19- سورة مريم
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ ...} ... 28 ... 178
23- سورة المؤمنون
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ....} ... 6 ... 23 ،107
24- سورة النور
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ... 2 ... 16 ،17 ،32 ،42 ،49 ،59 ،61 ،84 ،87 ،115 ،116
{ ِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ... 2 ... 136
{ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ... 4 ... 194 ،195
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء ...} ... 4 ... 17 ،73 ،74 ،80 ،81 ،140 ،143 ،148،155 ،187،188
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أزواجهثمَّ...} ... 6 ... 80 ،81 ،82 ،
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً. } ... 21 ... 201
{ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ...} ... 61 ... 228
31-سورة لقمان
{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَ صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ... 15 ... 392
33-سورة الأحزاب
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } ... 27 ... 430
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ... 57 ... 292
34-سورة سبأ
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ... 48 ... 138
38- سورة ص
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ...} ... 44 ... 58
47- سورة محمد
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حتى إذا أَثْخَنتُمُوهُمْ ...} ... 4 ... 424
{ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } ... 15 ... 358(12/4)
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ } ... 22 ... 393
48- سورة الفتح
{ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ...} ... 29 ... 162
49- سورة الحجرات
{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ...} ... 9 ... 136 ،374 ،378 ،381 ،382 ،386 ،393 ،412
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ 00} ... 10 ... 135
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى...} ... 13 ... 158
53- سورة النجم
{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ } ... 23 ... 120
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ.} ... 28 ... 120
58 -سورة المجادلة
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.} ... 5 ... 292
59- سورة الحشر
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } ... 7 ... 38
{ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} ... 14 ... 153
65-سورة الطلاق
{ ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ... 1 ... 396
66- سورة التحريم
{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ... 4 ... 272
76-سورة الإنسان
{ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } ... 24 ... 310
77- سورة المرسلات
{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً} ... 25 ... 241
89- سورة الفجر
{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} ... 20 ... 205(12/5)
فهرس الأحاديث والآثار
أتي بالشارب فأقر فضربه ولم ينتظر أن يصحو.…345
أتى رجل رسول الله وهو في المسجد فناداه…122
أتي عليً برجل سرق من المغنم فقال له فيه نصيب ،وهو خائن ،فلم يقطعه وكان قد سرق مغفراً.…248
أخبرني جار لي قال أتيت علياً بأسير يوم صفين فقال لن أقتلك صبراً.…402
أخذ نباش في زمان معاوية زمان كان مروان على المدينة…243
أخرجاه من المسجد ثم اضرباه.…36
إذا أتي الرجل الرجل فهما زانيان…23
إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان.…92
إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم.…285
إذا بلغ في الحدود لعل وعسى فالحد معطل.…145
إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد …61
إذا زنت الأمة فاجلدوها ثم إذا زنت فاجلدوها…51
إذا سرق السارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله.…274
إذا لم يخرج بالمتاع لم يقطع؟ فقالت عائشة لو لم أجد إلا سكينا لقطعته .…213
أقيموا الحدود علي ما ملكت أيمانكم…48
أمر أن يقتل من نكح زوجة أبيه…96
أمرت أن أقاتل المشركين.…283
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.…283
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله.…282
إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه.…227
إن أميراً من الأمراء سأل ابن عمر عن رجل قذف أم ولد لرجل، فقال يضرب الحد صاغراً.…158
إن ابني هذا سيد , وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين…380
أن الأسلمي أتى رسول الله فاعترف بالزنى…125
إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا…207
إن الله حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه.…280
إن الله كتب علي ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة…23
أن امرأة أصابها جوع فأتت راعيا فسألته الطعام فأبى عليها حتى تعطيه نفسها.…113
أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي بقطع يدها.…265
أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام يوم أحد.…424(13/1)
إن دماءكم وأموالكم قال محمد و أحسبه قال وأعراضكم عليكم حرام..…26
إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا من شهر كم هذا.…75
أن رجلا أتى النبي فأقر عنده أنه زنا بامرأة سماها له…117
أن رجلا أتى النبي فقال يا رسول الله ولد لي غلام أسود فقال هل لك من إبل؟ قال نعم، قال ما ألوانها؟ قال حمر، قال هل فيها من أورق؟ قال نعم، قال فأنى ذلك، قال…176
أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى , فدعا رسول بسوط ,…60
أن رجلا جاء إلى علي فساره فقال: يا قنبر أخرجه من المسجد…36
أن رجلا قال لرجل يا بن شامة الوذر…178
أن رجلا قال لرجل يا لوطي فرفع إلى عمر بن عبد العزيز …182
أن رجلا قدم من جيشان وجيشان من اليمن، …360
أن رجلا من مزينة أتى رسول الله فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل…211
أن رسول الله جلد رجلاً أن دعا آخر يا ابن المجنون.…144
أن رسول الله ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب.…116
أن عبد من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع ذلك إلى النبي …264
إن من الحنطة خمراً , ومن الشعير خمراً ومن الزبيب خمراً.…360
أن ناسا من عكل وعرينة قدموا المدينة على النبي وتكلموا بالإسلام…292
أن نجمع بين شيئين فينبذا يبغي أحدهما على صاحبه…337
أنت ومالك لأبيك.…229
إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل ،وإني عاقله…388
إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرئ ما نوى.…438
إنه ستكون هنات وهنات.…397
أنه ضرب شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة…43
أنهما سئلا عن السارق يسرق فيطرح السرقة , ويوجد في البيت الذي سرق منه …213
إني زنيت فأقم فَّيَّ كتاب الله فأعرض عنه حتى جاء أربع مرات…86
إني لا أستعين بمشرك.…411
أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم .…168, 191
أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة…381
اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف.…412(13/2)
اجتنبوا السبع الموبقات…140
ادرؤا الحدود بالشبهات.…105
ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم…25، 174
ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي أن تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت…421
اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما دون ذلك…254
انصر أخاك ظالما أو مظلوما…393
بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره…374 ،397
بينا أنا أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء.…97, 98
البينة أو حد في ظهرك…75
البينة وإلا حد في ظهرك.…80, 131
التائب من الذنب كمن لا ذنب له.…195
تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب.…169
تمرق مارقة عند فُُْرقَة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق…380
جلد قذفة عائشة ثمانين ثمانين.…185
حرمت الخمر بعينها قليلها و كثيرها ، والسكر من كل شراب.…329، 357 ،367
الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة…366
دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة…374
رأيت رجلا جاء إلى النبي فدفع إليه قدحاً فيه نبيذ فوجده شديداً…356
رفع إلى الحجاج رجل قد اغتصب أخته على نفسها.…98
رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ , و عن المجنون حتى يفيق....…153
رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ , وعن المجنون حتى يفيق…439
رفع القلم عن ثلاث.عن النائم حتى يستيقظ, و عن الصبي حتى يبلغ , وعن المجنون حتى يفيق ,.…314
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.…106
سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إذا زنت فاجلدوها…48
شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل.…70
شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنى ونكل زياد فحد عمر الثلاثة…196
صلوا على من قال لا إله إلا الله…406
عصموا مني دماءهم وأموالهم…393
على اليد ما أخذت حتى تؤديه.…286
فإذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.…280
فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم و أبشاركم عليكم حرام.…158, 192(13/3)
قال لآخر يا لوطي؟ قال عكرمة ليس عليه الحد.…183
قال لي رسول الله يا أبا ذر قلت لبيك يا رسول الله وسعديك…241
قد جعل الله لهن سبيلا.…120
قضاء الله ورسوله أن لا تقبل شهادة ثلاثة , ولا اثنين , ولا واحد…74
قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه…117
قطع رسول الله رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم.…220
قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم.…255
كان رسول الله ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد,…342
كان عبد الله بن الزبير يلي صدقة الزبير…213
كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله في الشيء التافه…219
كف أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة عن قتل أبيه, وكف أبا بكر عن قتل ابنه…393
كل شراب أسكر حرام…363
كل مسكر حرام…358, 364
كل مسكر خمر , وكل خمرحرام…328
كل مسكر خمر،وكل خمر حرام…329
كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه.…436
كنا ننبذ لرسول الله في سقاء لو وكي أعلاه وله عزلاء.…336
كنت فيمن رجم الرجل إنا لما خرجنا به فرجمناه…64
كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف.…369
لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد…381
لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ومجلودة ولا ذي غمر لأخيه…196
لا تقام الحدود في المساجد…35
لا تقطع اليد إلا في ربع دينار.…275
لا تقطع يد السارق إلا في حجفة، وقومت يومئذٍ على عهد رسول الله ديناراً أو عشرة دراهم.…220
لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا.…217, 218
لا تنبذوا الزهو والرطب جميعاً، ولا تنبذوا الزبيب والتمر جميعاً.…337
لا حد إلا في اثنتين قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه.…144
لا عفو عن الحدود و لا عن شيء منها بعد أن يبلغ الإمام فإن إقامتها من السنة.…162
لا قطع على المختفي.…242
لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا أواه المراح…210، 262
لا قطع في ثمر ولا كثر.…259
لا نكاح إلا بولي…358
لا يتوارث أهل الملتين شئ، ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.…430(13/4)
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني…334
لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله …416
لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله …417
لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث…108
لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله ألا الله، وأني رسول الله…293, 308
لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله…401
لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله…92
لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.…428
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن…330
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين سرق وهو مؤمن.…205
لا يقاد الوالد بالولد.…161
لا يقاد والد بولده.…163
لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة…23
لاطاعة في معصية الله تعالى…394
لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه.…330
لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده..…217
لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده،ويسرق الحبل فتقطع يده.…204
لم يكن يقطع على عهد رسول الله في الشيء التافه.…275
لم يكن يقطع على عهد رسول الله في التافه.…217
لما نزل عذري قام النبي على المنبر فذكر ذاك…169
لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه..…176
لو يعلم الذين يقاتلونهم مالهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل…380
ليس على الذي يأتي البهيمة حد…108
ليس على المنتهب قطع.…211
ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع.…264
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه …393
المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في فرية.…196
من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه.…374
من أشرك بالله فليس بمحصن.…148(13/5)
من أصاب منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله…90
من حمل علينا السلاح فليس منا.…321
من خالف دينه دين الكفر…442
من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه ثم إن عاد فاجلدوه…333
من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه ثم…334
من شرب الخمر فاجلدوه، فان شرب الخمر فاجلدوه…329
من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة.…330
من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد …396
من قتل دون دمه فهو شهيد…413
من مس ذكره فليتوضأ…358
من نبش قطعناه.…241
من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به،.…108
نهى رسول الله أن يخلط بسراً بتمر أو زبيباً بتمر…337
نهي رسول الله أن يستقادفي المسجد , وأن تنشد فيه الأشعار , وأن تقام فيه الحدود.…35
نهى عن الدباء والمزفت أن ينبذ فيه…370
وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.…104
الولد للفراش وللعاهر الحجر…39
ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له…87
يا نبطي قال كلنا نبطي ليس في هذا حد…145
يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيراً لك…72
يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم , وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم …380
يقول من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال.…157(13/6)